الخبر و «فِي شُغُلٍ» يتعلق به وأن يكون حالاً، وقرأ الكوفيون وابنُ عامر «شُغُل» بضمتين الباقون بضم سكون وما لغتان للحاجزيين قاله الفراء، ومجاهدٌ وأبو السَّمَّال بفتحتين ويزيد النحويّ وابنُ هُبَيْرَة بفتح وسكون وهما (لغتان) أيضاً والعامة على رفع «فاكهون» على ما تقدم والأعمشُ وطلحةُ «فاكهينَ» نصباً على الحال والجار الخبر. والعامة أيضاً وأبو حَيْوَة وأبو رجاء وشيبة وقتادة ومجاهد «فكهون» بغير ألف بمعنى طربون فرحون من الفُكَاهِةِ بالضم. وقيل: الفاكِهُ والفكه بمعنى المتلذذ والمتنعم لأن كلاًّ من الفاكهة والفكاهة مما يُتَلَذَّذُ بِهِ ويتنعم كحاذر وحذر وقرئ «فَكِهِينَ» بالقصر والياء على ما تقدم وفَكهُونَ بالقصر وضم الكاف، يقال: رجل فَكِه وفكُه كرجل ندِس وندُس وحَذِر وحذُر.
فصل
اختفوا في الشغل فقال ابن عباس: في افتضاض الأبكار، وقال وكيع بن الجراح: في السماع وقال الكلبي: في شغل عن أهل النار وما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم. وقال ابن كيسان في زيارة بعضهم بعضاً.(16/244)
وقيل: في ضيافةِ الله فاكوهون. وقيل: في شغل عن هَوْلِ اليوم بأخذ ما آتاهم الله من الثواب فما عندهم خير من عذاب ولا حساب وقوله «فَاكِهُونَ» متمّمٌ لبيان سلامتهم فإنه لو قال: في شُغُل جاز أن هم في شغل أعظم من التذكر في اليوم وأهواله فإن من يصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره أو يخبر بخُسْران وقع في ماله يقول أنا مشغول عن هذا بأهمَّ منه فقال: فاكهونَ أي شغلوا عنه باللّذة والسُّرُور لا بالوَيْلِ والثُّبُور. وقال ابن عباس: فاكهون فَرِحُونَ.
قوله: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} يجوز في «هم» أن يكون تأكيداً للضمير المستكنِّ في: «فَاكِهُونَ» و «أَزْوَاجُهُمْ» عطف على المستكن، ويجوز أن يكون تأكيداً للضمير المستكنِّ في «شُغُل» إذا جعلناه خبراً و «أزواجهم» عطف عليه (مستكن ويجوز أن أيضاً) كذا ذكره أبو حيان وفيه نظر من حيثُ الفصلُ بين المؤكد والمؤكد بخير «أن» ، ونظيره في قولك: «في الدار» ، وعلى هذين الوجهين يكون قوله: «مُتَّكِئُونَ» خبراً آخر ل «إنّ» و «فِي ظِلاَلِ» متعلق به أو حال، و «عَلَى الأَرَائِكِ» متعلق به، ويجوز أن يكون «هم» مبتدأ ومتكئون خبره والجاران على ما تقدم وجوز أبو البقاء أن يكون «فِي ظِلاَلٍ» هو الخبر قال «وعلى الأرائك» مستأنف وهي عبارة موهمة غير الصواب ويرد بذلك أن «مُتَّكِئُونَ» خبر مبتدأ مضمر و «على الأرائك» متعلق به، فهذا وجه استئنافه لا أنه خبر مقدم و «متكئون» مبتدأ مؤخر إذا لا معنى له وقرأ عبد الله «مُتَّكِئِينَ» نصباً على الحال وقرأ الأخوان «في ظُلَلٍ» بضم الظاء والقصر وهو جمع ظُلَّة نحو غُرْفَةٍ وغُرَفٍ، وحُلَّةٍ وحُلَلِ.
وهي عبارة عن الفرش والستور والباقون(16/245)
بكسر الظاء والألف جمع ظُلَّةٍ أيضاً كحلَّةٍ وحِلاَل وبُرْمة وَبِرام أو جمع «فِعْلَةٍ» بالكسر إذ يقال: ظُلَّةٌ وظِلَّةٌ بالضمر والكسر، كلُقْحَةٍ ولِقَاحِ إلاَّ أن فِعَالاً لا ينقاس فيها أو جمع «فِعْل» نحو: ذِئْب وذِئَاب ورِيح ورِيَاحٍ.
فصل
الأَرَائِكُ هي السرر في الحِجال واحدها أًريكة. قال ثعلب: لا تكون أريكة (جمع) حتى يكون عَلَيْها حجْلة. «متكئون» ذَوْ (و) اتّكَاء وهو إشارةإلى الفراغ. وقوله «هُمْ وأَزْوَاجُهُمْ» إشارة إلى عدم الوحشة {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وقوله: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} إشارة إلى أن لا جوع هناك لأن التفكه لا يكون لدفع ألم الجوع.
قوله: {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} في «ما» هذه ثلاثة أوجه: موصولة اسمية (أو) نكرة موصوفة والعائد على هذين محذوف (أو) مصدرية و «يَدَّعُونَ» مضارع ادَّعى افْتَعَلَ من دَعَا يَدْعُو؛ وأُشْربَ التمني قال أبو عبيدة: العرب تقول: «ادَّع عليَّ ما شِئْتَ» أي تَمَنَّ، و «فُلاَنٌ في خَيْر مَا يَدَّعِي» أي ما يتمنى وقال الزجاج: هو من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم من: دَعوتُ غلاميَ. فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال لمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحل. وقيل: افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه كقولهم: ارْتَمَوْا وَتَرَاموا، و «ما» مبتدأ وفي خبرها وجهان:(16/246)
أظهرهما: أنه الجار قبلها.
والثاني: أنه «سَلاَم» أي مسلم خالص أو ذو سَلاَمةٍ.
قوله: «سَلاَمٌ» العامة على رفعه وفيه أوجه:
أحدها: ما تقدم من كونه خبر «مَا يَدَّعُونَ»
الثاني: أنه بدل منها قاله الزمخشري قال أبو حيان: وإذا كان بدلاً كان «مَا يَدَّعُونَ» خصوصاً والظاهر أنه عموم في كل ما يدعونه وإذا كان عموماً لم يكن بدلاً منه.
الثالث: أنه صفةٍ «لِمَا» وهذا إذا جعلتها نكرة موصوفة. أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخلفهما تعريفاً وتنكيراً.
الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمير أي هو سلام.
الخامس: أنه مبتدأ خبره الناصب لِ (قوله) «قَوْلاً» أي سَلامَ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلاً.
وقيل: تقديره سَلاَمٌ عليكم.
السادس: أنه مبتدأ وخبره «مِنْ ربّ» و «قَوْلاً» مصدر مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر وقرأ أبيّ وعبدُ الله وعيسى سَلاَماً بالنصب وفيه وجهان:
أحدهما: أنه حال، قال الزمخشري: أي لهم مرادهم خالصاً.
والثاني: أنه مصدر (أي) يُسَلمُونَ سَلاَماً إما من التحية وإما من السلامة.(16/247)
و «قَوْلاً» إما مصدر مؤكد وإما منصوب على الاختصاص قال الزمخشري: وهو الأوجه و «منْ رَبِّ» إما صفة ل «قَوْلاً» وإما خبر «سلام» كما تقدم. وقرأ القُرَظِيُّ «سِلْمٌ» بالكسر السكون، وتقدم الفرق بينهما في البقرة.
فصل
إذا قيل: بأن سلام بدل مِنْ «مَا يَدَّعُونَ» فكأنه تعالى قال لهم ما يدعون نبَّه ببدله فقال: لهم سلام فيكون مبتدأ وخبره الجار والمجررو كا يقال: «فِي الدَّارِ رَجُلٌ ولِزَيْدٍ مَالٌ» وإن كان في النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة م المعرفة جائز، فتكون «ما» بمعنى الذي معرفة، وسلام نكرة. ويحتمل على هذا أن يقال: «ما» في قوله تعالى: {مَّا يَدَّعُونَ} لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شَيْءٌ يَدَّعُونَ، ثم بين بذكر البدل فقال: «سَلاَم» والأول أصحّ. وإن قيل: سلام خبر «ما» و «لهم» لبيان الجهة فتقديره ما يدعون سلام لهم أي خالص لهم. والسَّلاَمُ بمعنى السالم والسليم، يقال: عَبْدٌ سَلاَم أي سليمٌ من العيوب كما يقال: لِزَيْدٍ الشَّرَفُ متوفر فالجَارّ والمجرور يكون لبيان من له ذلك، «والشرف» هو المبتدأ «ومتوفر» خبره، وإن قيل: «سلام» منقطع عما قبله وهو مبتدأ وخبره محذوف فتقديره: سَلاَمٌ عَلَيْهِمْ ويكون ذلك إخباراً من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال: إنَّ أصحاب الجنة في شغل، ثُمَّ لمَّا بين كمال حالهم قال: سلام عليهم كقوله تعالى: {سَلاَمٌ على نُوحٍ} [الصافات: 79] و {وَسَلاَمٌ على المرسلين} [الصافات: 81] فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين. أو يقال تقديره: سلام عليكم ويكون التفاتاً حيث قال لهم كذا وكذا، ثم قال: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54](16/248)
فصل
إذا قيلَ: إنَّ «قَوْلاً» منصوب على المصدر فتقديره على قولنا إن المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سَلاَم يَقُولُهُ اللَّهُ قَوْلاً. أو تقول الملائكة قَوْلاً، وعلى قولنا ما يدعون سلام لهم فتقديره قال الله ذلك قولاً ووعدهم أن لهم ما يدعون سلامٌ وعداً، وعلى قولنا: سلام عليهم فتقديره أقُولُهُ قَوْلاً، وقوله {مِنْ رَبِّ رَحِيم} يكون لبيان (أن) السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله قولاً، ويحتمل أن يقال على هذا بأنه تمييز؛ لأن السلام قد يكون قولاً وقد يكون فِعلاً فإن من يدخل على الملك يطأطئُ رأسه يقال: سلمت على الملك فهو حينئذ كقول القائل: موجودة حُكْماً لا حِسًّا.
فصل
روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «بَيْنَا أَهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُؤوسَهُمْ فَإذَا الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوقهِمْ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَلاَ يَلْتَفِتُونَ إلى شَيْءٍ من النَّعِيم مَا دَامُوا يَنْظُرُون إليْهِ حَتَّى يَحْتَجب عَنْهُمْ فَيَبْقَى نُورُهُ وبَرَكَتَهُ عَلَيْهِمْ في دِيارهمْ» وقيل: تسلم عليهم الملائكة من ربهم كقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23 - 24] أي يقولون سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم، وقيل: يعطيهم السلامة.
قوله: {وامتازوا} عى إضار قول مقابل لما قيل للمؤمنين أي ويقال للمجرمين امتازوا أي انعزلوا من مَازَهُ يَمِيزُهُ.
قال المفسرون: إن المجرم يرى منزلة المؤمن ورفعته (ويرى ذَلَة نفسه)(16/249)
فيتحسر فيقال: امتازوا اليوم. وقيل: المعنى ادخلوا مساكنكم من النار، وقال أبو العالية تميزوا، وقال السدي: كونوا على حِدَة وقال الزجاج: انفردوا عن المؤمنين والمجرم هو الذي يأتي بالجريمة. وقيل إن قوله وامتازوا أمر تكوين فحين يقول فيميزون بسيماهم ويظهر على جباههم أو في وجوههم سواد كما قال تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] .(16/250)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
قوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} العامة على فتح الهمزة على الأصل في حرف المضارعة، وطلحة والهُذَيْل بن شرحيبي الكوفي بكسرها وتقدم أن ذلك لغة في حروف المضارعة بشروط ذُكِرَتْ في الفاتحة، وقرأ ابن وثاب «أَحَّدْ» بحَاءٍ مشدَّدة قال الزمخشري: وهي لغة تميم ومنه: «دَحَّا مَحَّا» أي دَعْهَا مَعَهَا فقلبت الهاء حاء ثم العين حَاءً حين أريدَ الإدغام، والأحسن أن يقال: إن العين أبدلت حاء وهي لغة هذيل فلما أدغم قلب الثاني للأول وهو عكس باب الإدغام. وقد مضى تحقيقه آخر آل عمران، وقال ابن خالويه وابن وثاب والهذيل: «ألم اعْهَدْ» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء وروي عن ابن وثاب «أَعْهِدْ» بكسر الهاء(16/250)
يقال: عَهِدَ وَعَهَدَ، انتهى يعني بكسر الميم والهمزة أن الأصل في هذه القراءة أن يكون كسر حرف المضارعة ثم نقل حركته إلى الميم فكسرت لا أن الكسر موجود في الميم وفي الهمزة لفظاً إذ يلزم من ذلك قطع همزة الوصل وتحريك الميم من غير سبب، وأما كسر الهاء فلما ذكر من أنه سمع في الماضي «عَهَدَ» فتحها قوله: «سوى الياء» - وكذا قال الزمخشري - هو المشهور، وقد نقل عن بَعْضِ كَلْبٍ أنهم يكسرون الياء فيقولون: يعْلَمُ وقال الزمخشري فيه: وقد جوز الزجاج أن يكون من باب: نَعِمَ يَنْعَمُ وضَرَبَ يَضْرِبُ يعني أن تخريجه على أحد وجهين إما بالشذوذ فيما اتّحد فيه فَعِلَ يَفْعِلُ بالكسر فيهما كَنِعَم يَنْعِمُ وحَسِبَ يَحْسبُ، ويَئِسَ يَيْئسُ. وهي ألفاظ معدودة في البقرة وإما (أنه) سمع في ماضيه الفتح كضرب كما حكاه ابن خالويه وحكى الزمخشري أنه قرئ «أَحْهَدْ» بإبدَال العين حاء. وقد تقدم أنها لغة هذيل. وهذه تقوي أن أصل أحد أحهد فأدغم كما تقدم. قوله: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ} و {وَأَنِ اعبدوني} يجوز في «أن» أن تكون مفسرة فسرت العهد بنهي وأمر وأن تكون مصدرية (أي) ألم أعْهَدْ إليكم في عدم عبادة الشيطان وفي عبادتي.(16/251)
فصل
في معنى هذا العهد وجوه: أقواها ألم أوصِ إليكم، واختلفوا في هذا العهد فقيل: هو العهد الذي كان مع آدم في قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ} [طه: 115] وقيل: هو الذي كان مع ذرية آدم حين أخرجهم وقال: ألَسْتُ بربِّكُمْ قَالُوا بَلَى، وقيل: مع كل قوم على لسان رسولهم. وهو الأظهر، وقوله {لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} أي لا تطيعوا الشيطان والطاعة قد تطلق على العبادة ثم قال: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي ظاهر العداوة ووجه عادوته أنه لما أكرم الله آدم - عليه (الصلاة و) السلام - عاداه إبليس.
فإن قيل: إذا كان الشيطان عدواً للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزِّنا والشّرب ويكره ما يسخطُه من المجاهدة والعبادة؟
فالجواب: استعانة الشيطان بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله فيستعين بشهوته التي خلقها الله فيه لمصلاح بقائه وبقاء نوعه ويعلها سبباً لفساد حاله ويدعوه بها إلى مالك المهالك وكذلك يستعين بغضبه الذي خلقه الله فيه لدفع المفاسد عنه ويجعلها سبباً لوباله وفساد أحواله وميل الإنسان إلى المعاصي كميْل المريض إلى (المصادر) ، وذلك حيث ينحرف المِزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يزيد من مرضه ومن معدته فاسدة لا يهضم القليل من الغذاء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه.
قوله: {وَأَنِ اعبدوني} أطيعوني ووحِّدوني {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ما منع من عبادة الشيطان بقوله {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} أي خَلْقاً كثيراً.
قوله: «جبلاًّ» قرأ نافع وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وأبو عمرو وابن عامر بضمة وسكون والباقون بضمتين واللام مخففة في كِلْتَيْهِمَا وابنُ أبي(16/252)
إسْحَاقَ والزّهريّ وابنُ هُرْمُز بضمتين وتشديد اللام والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام والأشهب العُقَيْلي واليمانيّ وحماد بن سلمة بكسرة وسكون وهذه لغات في هذه اللفظة وتقدم معناها آخر الشعراء وقرئ جِبَلاً بكسر الجيم وفتح الباء جمع جِبْلَةٍ، كفِطَرٍ جمع فِطرَة وقرأ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب بالياء من أسفل (ثنتان) وهي واضحة.
قال ابن الخطيب: الجيم والباء لا تخلو عن معنى الاجتماع (و) الجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعةَ اللبن الكثير، ولا يقال: البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبيئ عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنَّا نقول: هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات فإن البلجة بمعنى. والبَلَدُ سمي بَلَداً للاجتماع، لا لتفرق الجمع (العظيم)
حتى قيل: ن دون العشر آلاف لا يكون بلداً وإن لم يكن صحيحاً قوله: {أَفَلَمْ تَكُونُواْ} قرأ العامة بالخطاب لبني آدم. وطلحةُ وعيسى بياء الغيبة والضمير للجبل، ومن حقهما أن يقرءا: التي كانوا يوعدون لولا أن يَعْتَذِرُوا بالالْتِفَاتِ.
فصل
في كيفية هذا الإضلال وجهان:(16/253)
الأول: تولّية عن المقصد وخديعته فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو تولية فإن لم يقدر يحيد بأمر غير ذلك من رياسة وجاه وغيرهما وهو يفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية. ثم قال: «أفلم تكونوا تعقلون» ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس. ويقال لهم لما دَنَوْا من النار: {هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} بها في الدنيا «اصْلَوْهَا الْيَوْم» أي ادخلوها اليوم «بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه:
أحدها: قوله تعالى: {اصلوها اليوم} أمر تنكيل وإهانة كقوله:
{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] .
الثاني: قوله: «اليوم» يعني العذاب حاضر ولذاتك قد مضت وبقي اليوم العذاب.
الثالث: قوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} فَإن الكفر والكفاران ينبئ عن نعمة كانت فكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشدّ الآلام كما قيل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ لِذَي همَّة حَيَاء المُسِيءِ مِنَ الْمُحْسِنِ.
قوله: {اليوم نَخْتِمُ} اليوم ظرف لما بعده وفرئ يُخْتِمُ مبنياً للمفعول. والجار بعده قائم مَقَام فاعله وقرئ: «وَتتكَلَّم» بتاءين من فوق. وقرئ ولتَتَكَلَّمْ ولتشهدْ بلام الأمر. وقرأ طلحة ولِتُكَلِّمَنَا ولتَشْهَدَ بلام كي ناصبة للفعل ومتعلقها محذوف أي للتكلم وللشهادة خَتَمْنَا «وبِمَا كَانُوا» أي بالذي كانوا أو بكونهم كاسبين.(16/254)
فصل
في الترتيب وجهان:
الأول: أنهم حين يسمعون قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُم تَكْفُرُونَ} يريدون ينكرون كفرهم كا قال عنه: «مَا أَشْرَكْنَا» «وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ» فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار ويُنْطِقُ الله جوارحهم غير لسانهم فيعترفون بذنوبهم.
الثاني: لما أن قال الله تعالى لهم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا تكلمت أعضاؤهم غير اللسان. وفي الختم على الأفواه وجوه أقواها: أن اللهتعالى يسكت ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهدون عليهم وأه في قدرة الله يسير (و) أما الإسكانُ فلا خفاء فيه وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة كما جاز تحرك غيره بمثلها والله قادر على كل الممكنات. والوجه الآخر: أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرُّؤُوس لا يجدون عُذْراً فيَعْتَذِرُونَ ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهرو الأمور بحيث لا يمع مع الإنكار كقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن والصحيح الأول لما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً قال: فيمختم على فيه، فيقلا لأركانه انطقي قال: فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل وقال عليه (الصلاة و) السلام: «أول ما يسأل من أحدكم فخذه ولفه» .
فإن قيل: ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال «نختم» وأسند الكلام والشهادة إلى الأرجل والأيدي؟
فالجواب: أنه لو قال: نختم على أفواههم وتنطق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً منه وقهراً والإقرار والإجبار غير مقبول فقال: تكلمنا أيديهم وتشده أرجلهم أي باختيارها يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
فإن قيل: ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي وجعل الشهادة للأرجل؟(16/255)
فالجواب: لأن الأفعال تنسد إلى الأيدي قال تعالى: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] أيما عملوه وقال {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] أي لا تلقوا بأنفسكم، فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل نبيغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهم.
فإن قيل: إن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً وغير الصدِّيقين من لكفار والفساق لا تقبل شهادتهم والأيدي والأرجل صدرت الذنوب (منها) فهي فاسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها.
فالجواب: أن الأيْدي والأرجلَ ليسوا من أهل التكليف ولا ينسب إلهيا عدالة ولا فسقٌ، إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه، ولا يقالك إن العين تزني إن الفَرْج يزني وأيضاً فإنا نقلو: في در شهادتها (قبول شهادتها) لأنها إن كَذَبَتْ في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لا بدّ أن يكون مذنباً في الدينا وإن صَدَقَتْ في مثل ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا وهذا كن قال لِفَاسِق: «إن كذبت في نهار هذا اليوم فعَبْدي حُرٌّ» فقال الفاسق: كَذَبْتُ في نهار هذا اليوم عُتِقَ العَبْدُ؛ لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار ذلك اليوم فوجد االشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في لايوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتْق عبدك على كذا فيه.
قوله: {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} أي أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شِقٌّ وهو معنى الطَّمْس، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] يقول: إذا أعمينا قلوبهم لو شئنا أغمينا أبصارهم الظاهرة.
قوله: {فاستبقوا} عطف على «لَطَمَسْنَا» وهذا على سبيل الفَرْض والتقدير وقرأ عيسى فَاسْتَبِقُوا أمراً وهو على إضمار القول أي فيُقَالُ لَهُمْ اسْتَبقُوا والصِّراط ظرف مكان مختص عند الجمهور فلذلك تأولوا وصول الفعل إليه إما بأنه مفعول (به)(16/256)
مجازاً جعله مستبقاً لا مُسْتَبَقاً إليه ويضمن استبقوا معنى بادروا وإما على حذف الجار أي إلى الصراط وقال الزمخشري: منصوب على الظرف وهو ماش على قول ابن الطرواوة فإن الصراطَ والطريق ونحوهما ليست عنده مختصة إلا أن سيبويه على أن قوله:
4184 - لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
ضرورة لنصبه الطريق.
وقرأ أبو بكر مَكَانَاتِهِمْ جمعاً، وتقدم في الأنعام. والعامة على «مُضِيًّا» بضم الميم وهو مصدر على فُعُولٍ أصله مُضُويٌ فأدغم وكُسِرَ ما قبل الياء ليصبح نحو «لُقِيًّا» وقرأ أبو حيوة ورُويَتْ عن الكِسائيِّ مِضِيًّا (أي) بكسر الميم إتباعاً لحركة العين نحو {عِتِيّاً} و {صِلِيّاً} [مريم: 69 - 70] وقرئ بفتحها وهو من المصارد التي وردت على فعِيلٍ كالرِّسيم والزَّمِيلِ.(16/257)
فصل
المعنى كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة فاستبقوا الصراط فتبادروا إلى الطريق «فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» كيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم يعني لو نشاء لأضللناهم عن الهُدَى وتركناهم عُمْياً يترددون فكيف يبصرون الطريق حنيئذ؟ هذا قول الحسن، وقتادة، والسدي. وقال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة: معناه لو نشاء لَفَقَأنَا أعين ضلالتهم فأعميناهم من غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى بصرون ولم أفعل لك بهم «ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم» أي مكانهم أي لو نشاء جعلناهم قِرَدَةً وخنازيرَ في منازلهم لا أزواد لهم «فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلاَ يَرْجِعُونَ» إلى ما كانوا عليه وقيل: لا يقدرون على ذهاب ولا رُجُوع.
قوله: {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} قرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة من نَكَّسَهُ مبالغة والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف خفيفة من نَكَسَهُ. وهي محتملة للمبالغة وعدمها وقَدْ تقدم في الأنعام أن نافعاً وابْنَ ذكوان قرءا «تعقلون» زالباقون بالغَيْبَة.
فصل
معنى ننكسه نَرُدُّ إلى أرْذَلِ العمر شبْهَ الصَّبِيِّ في ألو الخلق، وقلي: ننكسه في الخلق أي ضعف جوارحه بعد قوتها ونقصانها بد زيادتها «أفلا يعقلون» فيعتبرون ويعلمون أن الذي قَدرَ على تَصْريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت.(16/258)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} قال الكلبي: إن كفار مكة قالوا: إن محمداً شاعر، وما يقوله شِعر فأنزل الله تكذيباً لهم وما علمناه الشعر وما ينبغي له أي ما يتسهل له ذلك وما كان يتّزن له بيتُ شِعْرٍ حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه(16/258)
منكسراً. روى الحسن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يتمثل بهذا البيت:
كَفَى بالإسْلاَمِ وَالشَّيْبُ لِلْمَرْسِ نَاهِياً ... فقال أبو بكر: يا نبي الله إنما قال الشاعر: كَفَى الشَّيْبُ وَالإسْلاَمُ للْمَرْءِ ناهياً. فقال عمر: اشهد أنك رسول بقول الله - عزّ وجلّ -: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} وعن أبي شريح قال: قلت لعائشةَ: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتمثل من الشعر قالت: كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت: وربما قال:
4185 - وَيَأتِيْكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَود ... وفي رواية (قالت) : كان الشعر أبغضَ الحديث إليه، قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلى ببيت أخي بني قيس طرفة:
4186 - سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً ... وَيَأِيكَ بالأَخْبَار مِنْ لَمْ تُزَوّدِ
فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار. فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فقال: إني لست بشاعر ولا ينبغي لي وقيل: معناه ما كان يتأتى له قال ابن الخطيب وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن والشارع يكون اللفظ منه تبعاً للمعنى والشاعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن والشارع يكون اللفظ منه تبعاً للمعنى والشاعر يكون المعنى منه تبعاً للفظ لأنه يقصد لفظاً به يصح وزن الشعر (أ) وقافيته فيحتاج إلى التخيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ. وعلى هذا فنقول: الشعر هُو الكلام الموزون الذي قصد إلى وزنه قصداً أولياً وأما من يقصد المعنى فيصدر موزوناً لا يكون شاعراً ألا ترى أن قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ليس بشعر والشاعر إذا صدر منه هذا الكلام فيه متحركات وساكنات بعدد ما في الآية تقطعيه بفعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن يكون شعراً لأنه قصد الإتيان بألفاظٍ حروفها متحركة وساكنة كذلك. والمعنى تبعه والحكيم قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ وعلى هذا يحصل(16/259)
الجواب عن قول من يقول: إنَّ ذكر بيتَ شعرٍ وهو قوله:
4187 - أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِب ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِب
أو بيتين لأنا نقول: ذلك ليس بشعر لعدم قصده إلى الوزن والقافية وعلى هذا لو صدر من النبي - عليه (الصلاة و) السلام - كلام كثيرٌ موزونٌ مُقَفًّى لا يكون شعراً لعدم قصده اللفظ قصداً أوليّاً، ويؤيد ما ذكرنا أنك إذا تتبعت كلام الناس في الأسواق تجد فيه ما يكون موزوناً واقعاً في بحر من بحور الشعر ولا يسمى المتكلم به شاعراً ولا الكلام شعراً لفقد القصد إلى اللفظ أولاً.
فصل
وجه الترتيب ما تقدم من أنه تعالى في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة وهي الوحدانية والرسالة والحشر ذكر الأصل الثالث منها وههنا ذكر أصلين الوحدانية والحشر. أما الوحدانية ففي قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} [يس: 60] وفي قوله: {وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 61] وأما الحشر ففي قوله تعالى: {اصلوها اليوم} [يس: 64] وبقوله: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ (عَلَى أَفْوَاهِهِمْ) » إلى غير ذلك فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} .
فقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر} إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يُعَلِّمْه ما لم يُرِدْ.
فإن قيل: لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا نيسبون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشياء من جملتها السحر، والكهانة ولم يقل: وما علمناه السِّحْرَ وما علمناه الكَهَانَةَ؟
فالجواب: أما الكهانة فكانوا ينسبون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إليها عندما كان خبر عن الغيوب ويكون كما يقول. وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغَيْر كشقِّ القَمَر، وتكلم الحَجَر، والجِذْع وغير ذلك، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلُون القرآن عليهم لكنه - عليه (الصلاة و) السلام - ما كان يُتَحَدَّى إلى بالقرآن كما قال تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] إلى غير ذلك ولم يقل: إن كنتم في شك من رسالتي فاقطعوا الجذوع أو أَشْبِعُوا الخلق العظيم أو أخبروا الغيوب فلما كان تحديه عليه (الصلاة و) السلام بالكلام وكانوا(16/260)
ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفس التعليم.
قوله: {إنْ هُوَ} أي (إن) القرآن، دل عليه السياق أو إن المُعَلّم «إلاَّ ذِكْرٌ» يدل عليه: «وَمَا عَلَّمْنَاهُ» والضمير في قوله «له» للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: للقرآن.
قوله: {إِلاَّ ذِكْرٌ} موعظة {وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} فيه الفرائض والحدود والأحكام.
قوله: {لِّيُنذِرَ} قرأ نافع وابن عامر هنا وفي الأحقاف {لُتْنِذرَ} خطاباً والباقون بالغيبة بخلاف عن البّزِّي في الأحقاف، والغيبة يحتمل أن يكون الضمير فيما للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأن يكون للقرآن وقرأ الجَحْدَرِيُّ واليَمَانِيُّ «لتُنْذَرَ» مبنياً للمفعول وأبو السَّمَّال واليمانيّ أيضاً - ليَنْذَرَ - بفتح الياء والذّال من نَذِرَ بكسر الذال أي علم فتكون «مَنْ فَاعِلاً.
فصل
المعنى لتنذِرَ القرآنَ مَنْ كَانَ حياً يعني مؤمناً حي القلب لأن الكافر كالميتِ في أنه لا يتدبر ولا يتفكر قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس} [الأنعام: 122] وقيل: من كان حياً أي عاقلاً وذكر الزمخشري في» رَبِيع الأَبْرَارِ «» وَيحِقَّ الْقَوْلُ «ويجب العذاب على الكافر.(16/261)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
ثم إنه تعالى أعاد الوحدانية والدلائل عليها فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} أي من جملة ما عملت أيدينا أي ما عملناهُ من غير معين ولا ظهير بل عملناه نقدرتنا وإرادتنا {أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ضابطون قاهرون أي لم يخلق الأنعام وحشيةً نافرةً من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل هي مسخرة لهم كقوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} «سَخَّرْنَاها لهم» . «فمِنْهَا رَكُوبُهُمْ» أي ما يركبون وهي الإبل «وَمِنْهَا يَأكُلُونَ» من لحمانِها.
قوله: {رَكُوبُهُمْ} أي مركوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المفعول وهو لا ينقاس وقرأ أبيّ وعائشةٌ «رَكُوبَتُهمْ» بالتاء وقد عد بعضهم دخول التاء على هذه الزِّنة شاذاً وجعلها الزمخشري في قول بعضهم جمعاً يعني اسم جمع وإلا فلمْ يرد في أبنية التكسير هذه الزنة. وقد عد ابن مالك أيضاً أبنية أسماء الجموع فلم يذكر فيها فَعُولَةً، وقرأ الحسنُ وأبو البَرَهسم والأعمش رُكُوبهم بضم الراء ولا بدّ من حذف مضاف إما من الأول أي فمن منافعها ركوبهم وإما من الثاني أي ذو ركوبهم. قال ابن خالويه العرب تقول: نَاقَةٌ حَلُوبٌ رَكُوبٌ وَركُوبةٌ حَلُوبَةٌ ورَكْبَاةٌ وَرَكَبُوتٌ حلَبُوتٌ وَرَكَبَى حَلَبَى وَرَكَبُوتَا (حَلَبوتَا) وَركبَانَةٌ حَلْبَانَةٌ وأنشد:
4188 - رَكْبَانَةٌ حَلْبَانَةٌ زَفُوفْ ... تَخْلِطُ بَيْنَ وَبَرٍ وَصًوفْ(16/262)
فصل
لما بين الركوب والأكل ذكر غير ذلك فقال: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} فالمراد بالمافع أصوافها وأوبارها وأشعراها ونسلها وبالمشارب ألبانها، والمَشَارِب جمع مَشْرب بالفتح مصدراً ومكاناً ثم قال: {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} ربِّ هذه النعم {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً} إشارة إلى باين زياة ضلالهم لأنه كان الواجب عليهم عبادة الله شكراً لأنْعُمِهِ فتركوها، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي لمنعهم من عذاب الله ولا يكون ذلك والضمير في قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} إما للآلهة وإما لعابديها وكذلك الضمائر بعده قال ابن عباس: لا تَقْدر الأصنام على نصرهم ومَنْعِهم من العذاب {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} أي الكفار جند للأصنام فيغضبون لها وحضرونها في الدنيا وهي لاس تسوق لهم خيراً ولا تستطيع لهم نصراً، وقيل: هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه أبتاعه الذين عبدوه كأنه جند (هـ) يحضرون في النار. وهذا إشارة إلى الحَشْر بعد تقرير التوحيد. وهذا كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] وقوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} [الصافات: 22 - 23] .
قوله: {فَلاَ يَحْزُنكَ} قد تقدم قراءة «يَحْزُن» و «يُحْزِن» «قَوْلُهُمْ» يعني قول الكفار في تكذيبك وهذا إشارة إلى الرسالة لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ما يسرون في ضمائرهم وما يعلنون من عبادة الأصنام أو ما يعلنون بألسنتهم من الأذى.(16/263)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} لما ذكر دليلاً من الآفاق على وجوب عبادته بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً} [يس: 71] ذكر دليلاً من الأنفس فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} قيل: المراد بالإنسان أبيّ بن خلف الجُمَحِيّ «خَاصَمَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في إنكار البعث وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده وقال: أترى يُحْيِي اللُّهُ هذا العظمَ بعدما رَمَّ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نعم ويَبْعَثُكَ ويُدْخِلُك النار» . فأنزل الله هذه الآيات قال ابن الخطيب: وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ألا ترى قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] نزلت في واحدة وأراد الحكم في الكل فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر هذه الآية ردّ عليه وقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} أي جَدِلٌ بالباطل «مبين» بيّن الخصومة. وفي (هذه) الآية لطيفة وهي أن اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء النطفة آية ظاهرة ومع ذلك فهناك ما هو أظهر، وهو نُطْقُهُ وفَهْمُهُ لأن لانطفة جسم فهبْ أن جاهلاً يقول إنه استحال جسماً آخر لكن القوة الناطقة، والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو (إلى) إدراك القوة والاختيار منه أقرب فقوله: «خَصِيمٌ» أي ناطق، وإنما ذكر الخصيم مكان الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصماً لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه.
قوله (تعالى) : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} قرأ زيد بن علي: «ونَسِيَ خَالِقَهُ» بزنة اسم الفاعل.
فصل
المعنى: «ونَسِيَ خلقه» أي بَدْءَ أمره {قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} قيل:(16/264)
فَعِيلٌ بمعنى فاعلٍ، وقيل: مفعول فعلى الأول عدم التاء غير مقس وقال الزمخشري: الرَّميم اسم لما بَلِيَ من العظام غير صفة كالرّمَة والرفات فلا يقال: لم لم يؤنث وقد وقع خبراً لمؤنث ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول وقال البغوي ولم يقل: رميمة لأنه معدول من فاعله فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن يقل: رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه كقوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم: 28] أسقط الهاء لأنها مصروفة عن «باغية» .
فصل
هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر، واعلم أن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثر كقولهم:
{وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنين: 82] {قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} على طريق الاستعباد، فأبطل استبعادهم بقوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة (الأجزاء) ثم جعلنا لهم من النَّواصِيَ إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصّورة، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذي (ن) بهما استحوقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن مَحَلاًّ للحياة أصلاً ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه. واخْتَارُوا العَظْم بالذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البِلَى والتّفَتّت. والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} أي جعل قدرتنا كقدرتهم «ونسيَ خَلْقَهُ» العجيب وبدأه الغري. ومنهم من ذكر شبهة وإن في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين:
الأول: أنه بعد العدم لن يبقى شيء فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود؟!(16/265)
فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله تعالى: {الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكرواً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئياً مذكوراً.
الثاني: أن من تَفَرَّقت أجزاؤه في مشارق الأرض ومغاربها وصار بعضه في أبْدانِ السِّباع، وبعضه في حواصل الطيوب وبعض في جُدْرَان الرباع كيف يجمتع؟ وأبعد من هذا: لو أكل الإنسان إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل (فإن أعيدت أجزاء الآكل) فلا يبقى للمأكول أجزاء تتخلق منها أعضاء وإما أن تُعَاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء. فأبطل الله تعالى هذه الشبهة بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ووجهه: أن في الأكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك فإذا أكل إنسانً إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فاللَّه بكل خلق عليم يعلم الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحاً وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البِقَاع المتبددة بحكمته وقدرته.
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال نكارهم فقال: {الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً} هذه قراءة العامة، وقرئ الخَضْرَا اعتباراً بالمعنى، وقد تقدم أنه يجوز تذكر اسم الجنس وتأنيثه قال تعالى: {نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وتقدم أن بني تميم ونَجْد يذكِّرونه، والحجاز يؤنثونه إلا ألفاظاً اسْتُثْنِيَتْ.(16/266)
فصل
قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما المرخ وللأخرى العفار فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خَصْراوان يقطران الماء فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى.
وتقول العرب: فِي كُلّ شَجَرٍ نَارٌ واستمجد المَرْخُ العَفَار. وقالت الحكماء: في كل شجرنا إلا العنّاب.
قوله: {فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} أي تَقْدحُون وتُوقدون النار من ذلك الشجر، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} هذه قراءة العامة ودخلت الباء زائدة على اسم الفاعل، والجَحْدَرِيّ وابن أبي إسحاق والأعرج «يَقْدر» فعلاً مضارعاً والضمير لتضمنهم مَنْ يعقل ثم قال: «بلى» (أي قل بلى) هو قادر على ذلك {وَهُوَ الخلاق العليم} (يخلق خلقاً بعد خلق) العليم بجميع ما خلق و «بَلَى» جواب «للَيْسَ» وإن دخل عليها الاستفهام لتصيرها إيجاباً والعامة على «الخَلاَّقُ» صيغة مبالغة، والجَحْدَريّ والحَسَن ومالكُ بن دينَارٍ «الخَالِقُ» اسم فاعل.(16/267)
قوله: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} تقدم الخلاف في «فيكون» نصباً ورفعاً وتوجيه ذلك في البقرة.
قوله: {فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} قرأ طلحةُ والأعمش مَلَكَةُ بزنة شَجَرَةٍ. وقرئ مَمْلَكَة بزنة مَفْعَلَةٍ وقرئ مُلْكُ والملكوت أبلغ الجميع، والعامة على «تُرْجَعُونَ» مبنياً للمفعول، وزيدُ بن عليِّ مبنيًّا للفاعل وتقدم الكلام على قوله «سُبْحَانَ» والتسبيحُ التنزيه، والمكوتُ مبالغة في المُلْك كالرَّحَمُوت والرَّهَبُوت، وهو فَعَلُول أو فَعلَلُوت فيه كلام، قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» وقال عليه (الصلاة و) السلام: «لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبٌ، وإنَّ قَلْبَ القُرآنِ سُورَةُ يس وَمنْ قَرَأ يس كَتَب اللَّهُ لَهُ بقراءَتِهَا قِرَاءَةَ القُرْآنِ عَشْرَ مَرَّات» وعن عائشة قالت: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إنَّ فِي القرآن سُورَةً تَشْفَعُ لقَارِئها ويُغْفَر لمُسْتَمِعِها أَلاَ وِهِيَ سُورَة يس» وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يس تُدْعَى المُعِمَّة قيل: يا رسول الله: وما المُعمَّة؟ قال: تَعُمّ صاحبها خَيْرَ الدُّنْيَا والآخِرَة وتُدْعَى(16/268)
الدافِعَة القَاضِيَة تَدْفَعُ عَنه كُلَّ سُوءٍ وتَقْضِي له كُلَّ حَاجَةٍ، وَمَنْ قَرَأهَا عَدَلَتْ لَهُ عِشْرينَ حَجّةً ومَنْ سَمِعَهَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِينَارٍ في سَبِيل اللَّهُ وَمَنْ كَتَبَهَا وَشَربَهَا أدْخَلَتْ جَوْفَه ألفَ دَواء وألْفَ يَقين وألفَ رَأْفَةٍ ونُزعَ منه كُلُّ دَاءٍ وغِلّ، وعن أبي أُمامَةَ عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ قَرَأ يس يُريدُ بها وَجْهَ - عَزَّ وَجَلَ - غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وأعْطِيَ منَ الأَجْر كَأَنَّما قَرَأ القُرْآنَ اثْنَتَي عَشْرَةَ مَرَّةً، وأَيُّمَا مَرِيض قُرئَ عنءدَه سورةُ يٍ نَزَلَ عَلَيْهِ بِقَدْر كُلِّ حَرْف عَشْرَة أمْلاك، يَقُومُون بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفاً فيصَلُّون عَلَيْهِ ويَسْتَغْفِرون علَيه ويَشْهَدونَ قَبْضَهُ وغُسْلَهُ وَيتّبِعُونَ جَنَازَتُه ويُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَشْهَدُون دَفْنَهُ وأَيُّما مَريض قَرَأ سُورَةَ يس وَهُو فِي سَكَرَاتِ المَوْتِ لَمْ يَقْبضْ مَلَكُ الموتِ رُوحَه حَتَّى يَجِيئَهُ رَضْوَانُ خَازنُ الجِنَانِ بشَرْبةٍ مِن الجَنَّة فَيَشْرَبُها وهُوَ عَلَى فِرَاشِه فَيموتُ وَهُو رَيَّانُ ويُبْعَثُ وَهُوَ رَيَّانُ، وَيُحَاسَبُ وَهُو رَيَّانُ وَلاَ يَحْتَاج إلَى حَوْضٍ مِنْ حياض الأنْبِيَاء، حَتَّة يَدْخُلَ الجَنَّةَ وَهُوَ رَيَّان»
وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ دَخَلَ المَقَابِرَ فَقَرأ سُورة يس خَفَّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ وعن يحيى بن أبي كثير قال: بَلَغَنا» مَنْ قَرَآَ يس حِين يُصْبحُ لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحٍ حَتَّى يُمْسِي وَمَنْ قَرَأها حِينَ يُمْسِي لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحِ حَتَّى يُصْبح «.(16/269)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
قوله تعالى: {والصافات صَفَّا} قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء من «الصَّافَّاتِ» و «الزَّاجرَاتِ» و «التَّاليَاتِ» في صاد «صفاً» وزاي «زجراً» وذال «ذكراً» وكذلك فعلا في {والذاريات ذَرْواً} [الذاريات: 1] وفي {فالملقيات ذِكْراً} [المرسلات: 5] ، وفي {والعاديات ضَبْحاً} [العاديات: 1] بخلافٍ عن خَلاَّدٍ في الأخيرين وأبو عمرو جار على أصله في إدغام المتقاربين كما هو المعروف من أصله وحمزة خارج عن أصله والفرق بين مذهبيهما أن أبا عمرو يجيز الروم وحمزة لا يجيزه وهذا كما اتفقا في إدْغَام {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ} [النساء: 81] وإن كان ليس من أصل حمزة إدغام مثله وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك.
قال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن مقاربة الحرفين، ألا ترى أنهما من(16/270)
طَرَف اللسان وأصول الثنايا يسمعان في الهمس والمدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصّفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتاً في الأنقص.
وأيضاً إدغام التاء في الزاي في قوله: {فالزاجرات زَجْراً} حسن لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد وأيضاً حَسُنَ إدغام التاء في الذال في قوله: {فالتاليات ذِكْراً} لاتفاقهما في أنهما من طَرَفِ اللسان وأصول الثنايا. وأما من قرأ بالإظهار فلاختلاف المَخَارج ومفعول «الصَّافَّاتِ» «والزَّاجِرَاتِ» غير مراد إذ المعنى الفاعلات لذلك وأعرب أبو البقاء «صَفًّا» مفعولاً به على أنه قد يقع على المصفوف وهذا ضعيف وقيل: وهو مراد والمعنى والصافات أنفسها وهم الملائكة، أو المجاهدون أو المصلون أو الصفات أجنحتها وهي الطير، كقوله: {والطير صَآفَّاتٍ} [النور: 41] والزاجرات: السحاب أو العصاة إن أريد بهم العلماء، والزجر الدفع بقوة وهو قوة التصويت وأنشد:
4189 - زَجْر أبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا ... أشْفَق أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم
وَزَجرت الإبلَ والغَنَمَ إذَا فَزِغَتْ مِنْ صَوْتِكَ وأما «والتَّالِيَاتِ» فيجوز أن يكون «ذكراً» مفعوله، والمراد بالذكر القرآن وغيره من تسبيح وتحميدٍ، ويجوز أن يكون «ذكراً» مصدراً أيضاً من معنى التَّالِيَاتِ، وهذا أوفق لما قبله قال الزمخشري: الفاء في «فالزاجرات» (وفي) فالتاليات إما أن تدل على ترتيب معانيهما في الوجود كقوله:(16/271)
4190 - يَا لَهْفَ زيَّابَة لِلْحَارِث الصْ ... صَابِحِ فَالغَانِم فَالآيِب
أي الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) : «رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ فَالمُقَصِّرِينَ» فأما هنا فإن وجدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، فإذا كان الموحد الملائكة فيكون الفضل للصف ثم للزجر، ثم للتلاوة وعلى العكس وإن ثَلَّثْتَ الموصوف فترتب في الفضل، فيكون «الصافات» ذوات فضل والزجرات أفضل (والتاليات أبهر فضلاً أو على العكس يعني بالعكس فيال موضعين أنك ترتقي من أفضل) إلى فاضل إلى مفضول أو تبدأ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل.
والواو في هذه للقسم، والجواب قوله: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} .
وقد ذكر الكلام في الواو (و) الثانية والثالثة هي للقسم أو للعطف.
فصل
قال ابن عباس والحسن وقتادة: والصَّافَّات صفًّا هم الملائكة في السماء يصفون كصوفوف الخلق في الدنيا للصلاة وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «أَلاَ تَصُفُّونَ تَصُفُّ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ» ؟ قُلْنَا: وَكَيْفَ تصفُّ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ: يُتمُّونَ الصُّفُوفَ المُقَدَّمة وَيَتَرَاصُّون في الصَّفِّ «وقيل: هم الملائكة تصُفُّ أجْنِحَتَهَا في الهواء واقفة(16/272)
حتى يأمر (ها) الله بما يريد، وقيل: هي الطير لقوله تعالى» والطّير صَافَّاتِ «» فالزاجرات زجراً «يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه، وقال قتادة: هي زواجر القرآن تنهي وتزجر عن القبيح» فالتاليات ذكراً «هم الملائكة يتلون ذكر الله وقيل: هم جماعة قُرَّاء القرآن، وهذا كله قسم، وقيل: فيه إضمار، أي ورَبَّ الصّافّاتِ والزاجرات والتاليات.
فصل
قال أبو مسلم الأصفهاني لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مُشْعِرَةٌ بالتأنيث والملائكة مبرأون عن هذه الصفة، وأجيب بوجهين:
الأول: أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة، ثم يجمع على صافات.
والثاني: أنهم مبرأون عن التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة.
فصل
اختلف الناس ههنا في المقسم به على قولين:
أحدهما: أن المقسم به خالق هذه الأشياء لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الحلف بغير الله تعالى ولأن الحلف في مثل هذا الموضع تعظيم للمحلوف به، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى ومما يؤكِّد هذا أنه تعالى صرح به في قوله: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 5 - 7]
الثاني: أن المقسم به هو هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلافُ الدليل وأما قوله تعالى: {وَمَا بَنَاهَا} فإنه علق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباء في السماء ولو كان لامراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التَّكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز وأيضاً لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذَوَاتِهَا.(16/273)
فإن قيل: ذكر الحَلِف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه:
الأول: أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو عند الكافر. والأول باطل لأن المؤمن مُقرٌّ به من غير حلق.
والثاني: باطل لأن الكافر لا يقر به سواء حصل الحلق أو لم يحصل فهذا الحلق عديم الفائدة على كلّ تقدير.
الثالث: أنه تعالى أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق فقال: {والذاريات ذَرْواً} [الذاريات: 1] إلى قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 5، 6] وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لايليق بالعقلاء.
فالجواب: من وجوه:
الأول: أنه قَرَّر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيداً لم تقدم لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلق واليمين طريقة مألوفة عند العرب.
الثاني: أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى: «إن إلهكم لواحد» ذكر عقيبه ما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحداً وهو قوله تعالى: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق} وذلك لأنه تعالى بين في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الانبياء: 22] أنَّ انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحدٌ فههنا لما قال: «إنَّ إلهكم لواحد» أردفه: «رَبِّ السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق» كأنه قيل: بيَّنَّا أن النظر في انتظام هذه العالم يدل على كون الإله واحداً فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.
الثالث: أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم: بأنها آلهة فكأنه قيل: إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والرَّكَاكَة إلى حيث يكفي في إبطاله مثلُ هذه الحُجَّة.
قوله: {رَّبُّ السماوات} يجوز، يكون خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من «لَوَاحِدٌ» وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وجمع المشارق والمغارب باعتبار جميع(16/274)
السنة فإن للشمس ثلثمائةٍ وستين مشرقاً وثلثمائة وستين مغرباً، وأما قوله: «المَشْرِقَيْنِ والمَغْرِبَيْنِ» فباعتبار الصَّيْفِ والشِّتَاءِ، وقيل: المراد بالمشارق مشارق الكواكب، لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً، (وقيلك كل موضع شرقت عليه الشمس فو مشرق ولك موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب كأنه أراد رب جميع ما شرقت عليه الشمسُ وغربت)
فإن قيل: لم اكتفى بذكر المشارق؟ .
فالجواب: من وجهين:
الأول: أراد المشارق والمغارب كما قلا في موضع آخر {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب} [المعارج: 40] وأنه اكتفى بذكر المشارق كقوله: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] .
والثاني: أن الشروق قوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً من الغروب فذكر المشرق بيهما على كثرة إحسان الله تعالى على عباده. ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - بالمشرق فقال: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق} [البقرة: 258] .
فصل
دَلّ قوله تعالى: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد، لأن أَعْمَالَ العباد موجودة فيما بين السموات والأرض وهذه الأية دلت على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فاللَّه ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله.
فإن قيل: الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حَيِّزٍ وجهةٍ والأعراض ليست كذلك.
قلنا: إنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حالصة بين السموات والأرض.(16/275)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} قرأ عاصم براية أبي بكر: «بِزينَةٍ» منونة ونصب «الكواكب» وفيه وجهان:(16/275)
أحدهما: أن تكون الزنية مصدراً وفاعله محذوف بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئةً حسنةً في أنفسها.
والثاني: أن الزينة اسم لما يزان به كاللِّيقَةِ اسم لما يُلاَقُ به الدَّوَاة فتكون الكواكب على هذا منصوبة بإضمار أعني أو يكون بدلاً من (ال) سَّمَاء الدُّنْيَا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل «بزينَةٍ» وحَمْزةُ وحفصٌ كذلك إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به، والكواكب بدل أو بيان للزينة وهي قراءة مسروق بن الأجدع قال الفراء: وهو رد معرفة على نكرة كقوله: «بالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ» فرد نكرة على معرفة وقال الزجاج: الكواكب بدل من الزينة لأنها هي كقولك: «مَرَرْتُ بأَبِي عَبْد اللَّه زَيْدٍ» والباقون بإضالة زينَة إلى الكواكب وهي تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو: ثَوْبُ خَزَّ.
الثاني: أنها مصدر مضاف لفاعله أي بأن زَيَّنَتِ الكَوَاكِبُ السَّمَاءَ بضَوْئِهَا.
والثالث: أنه مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضئية في نفسها وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها وبرفع الكواكب فإن جَعَلْتَهَا مصدراً(16/276)
ارتفع الكواكب به، وإن جعلتها اسماً لما يزان به فعلى هذا ترفتع «الكواكب» بإضمار مبتدأ أي هي الكواكب. وهي في قوة البدل ومنع الفراء إعمال المصدر المنون ورغم أنه لم يُسْمعْ وهو غلط لقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] كما سيأتي إن شَاءَ اللَّهُ. قوله: «وَحِفْظاً» منصوب على المصدر، بإضمار فعل أي حَفِظْنَاهَا حِفظاً، وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو والعامل فيه زَيَّنَّا أو على أن يكون العامل مقدراً أي لحِفْظِهَا زَيَّنَّا أو على الحمل على المعنى المتقدم أي: إنا خلقنا السماء الدينا زينةً وحفظاً، و «مِنْ كُلّ» ويجوز أن يكون صفةً «لِحفْظاً» قال المبرد: إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصرد فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله كقولك: أفْعَلُ وكَرَامَةً لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف فكان المعنى أفْعَل ذَاكَ واُكْرِمُكَ كَرَامَةً.
فصل
قال ابن عباس «زينا السماء الدينا» بضوء الكواكب «وحفظناها من كل شيطان مارد» متمرد يرمون بها، وتقدم الكلام على المارد عن قوله: {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} [التوبة: 101] واعمل أنه تعالى بين أنه زين السماء لمنفعتين:
إحداهما: تحصل الزينة.
والثانية: الحفظ من الشيطان المارد.
فإن قيل: ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات السِّتَّةِ المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب؟ .(16/277)
فالجواب: أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدو (نَ) هَا مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} وأيضاً فكون هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن لم يتم دليل الفلاسفة عليه.
فن قيل: هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله المساء بها أم لا؟ والأول باطل لأن هذه الشهب تَبْطُل وتَضْمَحِّل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقة لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير ألبتة وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض وإن كانت هذه الشهب جنساً آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضاً مُشْكِل لأنه تعالى قال في سورة الملك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] فالضمير في قوله: «وَجَعَلْنَاهَا» عائد إلى المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعينها.
فالجواب: أن الشهبَ غير تلك الكواكب الثاتبة وأما قوله تعالى: «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين» فنقو (ل) كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الأرض آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبهذا يزول الإشكال.
فإن قيل: كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة وهل يمكن أن يصدر (مثل) هذا الفعل عن عاقل فكيف من الشياطين الذين لهم مَزِيَّة في معرفة الحِيل الدقيقة؟ .
فالجواب: أن حصول هذه الحال ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز ان يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنهم لا تصيبهم الشهب فيما كما يجوز فيمن سَلَك البَحْرَ أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه يغلب على ظنه حصول النجاة. هذا ما ذكره أبو عَلِيٍّ الجُبَّائي في الجواب عن ((16/278)
هذا) السؤال في تفسيره وفي هذا الجواب نظر فإن السموات ليس فيها موضع خال من الملائكة لقوله - عليه (الصلاة و) السلام -: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلاَّ وَفيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ سَاجِدٌ»
قال ابن الخطيب ولقائل أن يقول: إنهم إذا صعدوا إما أن يَصِلوا إلى مواضع (الملائكة) وإلى غير (تلك) المواضع فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصود أصلاً وعلى كلا التقديرين فالمقصود غير حاصل. وإذا كان الفوز بالمقصود محالاً وجب أن يمتنعوا عن هذا الفعل وألا يقدموا عليه أصلاً بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود وأما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الإحراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة وإذا لم يصل إلى ذلك الموضع لم يفز بالمقصود فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة والأقرب في الجواب أن يقال هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب نُدْرَتِهَا فيما بين الشياطين. والله أعلم فإن قيل: دلتنا التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ولذلك) فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امتنع حمله على مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أجاب القاضي بأن الأقرب أنَّ هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكنها كثرت في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصارت بسبب الكثرة معجزةً.
فإن قيل: الشيطان مخلوق من النار كما حكي عن قول إبليس {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} [الأعراف: 12] وقال: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟ .
فالجواب: يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النِّيران إلا أنَّها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم ولا جَرَمَ صار الأقوى للأضعف مبطلاً، ألا ترى أن السراج(16/279)
الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ فكذلك ههنان.
قوله: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ} قرأ الأخوان وَحفصٌ بتشديد السين (فالميم) والصل يَسْتَمِعُونَ فأدغم، والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عُبَيْدٍ الأولى وقال: لو كان مخففاً لم يتعد بإِلى. وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ، وقال مكي: لأنه رجى مجرى مُطَاوِعِهِ وهو يسّمعون فكما كان يسمع يتعدى «بإلى» تعدى سَمِع بإلى، وفَعِلْتُ وافْتَعَلْتُ في التعيدي سواء فتسع مطاوع سمع واستع أيضاً مطاوع سمع فتعدى سمع تعدّي مطاوعه وهذه الجملة منقطعة عما قلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير التقدير: مِنْ شَيْطَانٍ مَارِدٍ غير سامع أو مستمع وهو فاسد، ولا يجوز أن يكون جواباً لسؤال سائل: لم تحفظ من الشياطين؟ إذ يفسد معنى ذلك وقال بعضهم: وأصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت «اللام وأن» فارتفع الفعل وفيه تعسف وقَدْ وَهِمَ أبو البقاء فيجوَز أن تكون صفة وأن تكون حالاً وأن تكون مستأنفة فالأولان ظاهِرَا الفساد والثَّالث إنْ غني به الاستنئاف البياني فهو فاسد أيضاً.
وإن أراد الانقطاع على ما تقدم فهو صحيح.
فصل
واحتجوا لقراءة التخفيف بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] وروى مجاهد عن ابن عباس: أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولوا التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع بدلالة هذه الآية بل هذا أقوى في رَدْع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع بأن يكون ممنوعاً(16/280)
عن السمع أولى واعلم أن الفرق بين قوله: سَمِعْتُ حَدِيثَ فُلاَن وبين قولك: سمِعْتُ إلى حَدِيثه أنّ قولك: سِمِعْتُ حديثَه يفيد الإدراك وسمعت إلى حديثه يفيد الإصفاء مع الإدراك وفي قوله: «لا يسمعون إلى الملأ الأعلى» قولان أشهرهما: أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا، فلما حذف الناصب صار كقوله: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] وقوله: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] قال الزمخشري: حذف اللام وإن كل واحد منهما جائز بانفراده وأما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها، قال الزمخشري: إنه كلام منقطع عما قبله وهو حكاية المُسْتَرِقِينَ السمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن المقصود. والملأ الأعلى هم الملائكة الكتبة سكان السموات ومعنى يُقْذَفُونَ يُرْمَوْنَ من كل جانب من آفاق السماء.
قوله: {دُحُوراً} العامة على ضم الدال وفي نصبه أوجه:
أحدهما: المفعول له أي لأجل الطرد.
الثاني: مصدر ليقذفون أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً أو يُقْذَفُون قذفاً فالتجوز إما في الأول وإما في الثاني.
الثالث: أنه مصدر لمقدر أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً.
الرابع: أنه في موضع الحال أي ذَوِي دُحُورٍ أو مَدْحُورِينَ وقيل: هو جمع دَاحِر قَاعِد وقُعُودٍ فيكون حالاً بنفس من غير تأويل قال مجاهد: دحوراً مطرودين. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ ويَقْذِقُونَ مبنياً للفاعل وقرأ علِيُّ والسُّلَمِّي وابنُ أَبِي عَبْلَةَ دَحْوراً بفتح الدال وفيها وجهان:(16/281)
أحدهما: أنه صفة لمصدر مقدر أي قَذْفاً دَحُوراً. وهو كالصَّبُور والشَّكُورِ.
والثاني: أنه مصدر كالقبُول والوَلُوع وقد تقدم أنه محصور في ألفظ، والدُّحُور قال المبرد: أشد الصغار والذل. وقال ابن قتيبة: دَحَرْتُهُ دُحُوراً ودَحْراً أي دَفَعْتُهُ وطَرَدْتُهُ وتقدم في الأعراف عند قوله: {مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} [الأعراف: 18] .
قوله: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} قال مقاتل: دائم إلى النفخة الأولى وتقدم في سورة النحل في قوله: {وَلَهُ الدين وَاصِباً} [النحل: 52] .
قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير «لا يَسَّمَّعُونَ» وهو أحسن لأنه غير موجب.
والثاني: أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى: أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف قال شهاب الدين: ويجوز أن يكون «من» شرطية وجوابها: «فَأَتْبَعَهُ» أو موصولة وخبرها «فَأَتْبَعَهُ» وهو استثناء منقطع وقد نصوا على أن مثل هذه الجملة تكون استثناء منقطعاً كقوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} [الغاشية: 22، 23] والخَطْفَةُ مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية، وقرأ العامة خَطِفَ بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة، وقتادةُ والحسنُ بكسرهما وتشديد الطاء وهي لغة تميم بن مُرة وبكرة بن وائل وعنهما أيضاً وعن عيسى: بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة وعن الحسن (أيضاً) خطف كالعامة وأصل القراءتين اختطف(16/282)
فلما أريد الإدغام سكنت التاء وقبلها الخاء ساكنة فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين ثم كسرت الطاء إتبعاً لحركة الخاء وهو مفقود وقد وجه على التَّوَهُّم وذلك أنهم لما أرادوا الإدغام نقوا حركة التاء إلى الخاء ففتحت وهم يتوهمون أنهم مكسورة لالتقاء الساكنين - كما تقدم تقريره - فاتبعوا الطاء لحركة الخاء المتوهمة، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في مقتضيات الإعراب فلأن يَفْعَلُوه في غيره أولى. وبالجملة فهو تعليل شذوذ وقرا ابنُ عَبَّاسٍ خِطِفَ بكسر الخاء والطاء خفيفةً وهو إتباع كقولهم: نِعِمْ بكسر النون والعين وقرئ فاتَّبعه بالتشديد.
فصل
ومعنى الخطف أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقةً «فأتبعه» أي لحقه شهاب ثاقب كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقلته أو يحرقه قيل: سمي ثاقباً لأنه يَثْقُبُ بنوره سَبْع سمواتٍ. وقال عطاء: سمي النجم الذي يرمي به الشياطين ثاقباً لأنه يَثْقُبُهُمْ وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البَحْر.
قوله: {فاستفتهم} يعني كفار مكة أي سَلْهُمْ «أهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا» يعني السموات والأرض والجبال. وهو استفهام بمعنى التقرير أي هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] وقوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا} [النازعات: 27] (وقيل: معنى) أَمَّنْ خَلَقْنَا (يعني) : من الأمم الخالية لأن مَن تذكر لمن يعقل والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكَم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم في ذنوبهم فما الذين يُؤمِّنُ هؤلاء من العذاب.
قوله: {أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} العامة على تشديد الميم الأصل أَمْ مَنْ وهي «أَمْ» المتصلة(16/283)
عطفت «من» على «هم» وقرأ الأعمش بتخفيفها وهو استفهام ثانٍ فالهمزة للاستفهام أيضاً و «مَنْ» مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد، فهما جملتان مستلقتان وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى «بمن» قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} أي جيّد حر لاصق يعْلِقُ باليد. واللازبُ والازمُ بمعنى وقد قرئ: لاَزمٌ لأنه يلزم اليد، وقيل: اللازِبُ اللَّزج.
وقال مجاهد والضحاك: مُنْتِن، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم.
فصل
وجه النظم: أنه قد تقرر أن المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيّات والمَعَاد والنُّبُوة وإثبات القَضَاء والقدر فافتتح تعالى هذه السورة بإثبات ما يدل على وُجُود الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته وهو خالق السموات والأرض وما بينهما وَربّ المشارق، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن نم قدر على ما هو أصعب وأشق وجب أن يقدر على ما هو دونه وهو قوله: {فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} فمن قدر على ما هو أشد وأصعب فبِأن يكونَ قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى. وأيضاً فقوله: «إنا خلقناهم من طين لازب» يعني أن هذه الأجساد قابلة للحياة إذ لو تكن قابلةً للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والمراد بقوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} يعني أصلهم وهو آدم - عليه (الصلاة و) السلام - رُوِيَ أنَّ القوم قالوا: كيف يعقل تولد الإنسان لا من أبوين ولا من نطفة؟ فكأنه تعالى قال لهم: إنكم لما أقررتم بحُدوثِ العَالَم واعترفتم بأن السموات والأرض وما(16/284)
بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فلا بد وأن يعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين فإن اعْتَرَفْتُمْ به فقد سقط قولكم: إن الإنسان كيف يحث من غير نطفة ومن غير الأبوين؟ وأيضاً فقد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من طين لازب ومن قدر على خلق الحياة من الطين اللازب كيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات ويمكن أن يكون المراد بقوله: «إنا خلقناهم من طين لازب» أي كل الناس ووجهه أن الحيوان إنما يتولد من المَنِي ودَم الطَّمْثِ والمني إنما يتولد من الدَّم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغِذَاء، والغذاء إما حيوانيّ وإما نباتيّ، وأما تولد الحيوان الذي صرا غذاءً فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما تولد من امتزاد الأرض بالماء وهو الطين اللازب فظهر أن كل الخلق (منه) مُتَوَلِّدُونَ من الطِّينِ اللازب وهو قابل للحياة والله تعالى قادر عليها. وهه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصفة في كل الأوقات، وهذه بيانات ظاهرة.(16/285)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} قرأ الأَخَوَانِ بضم التاء والباقون بفتحها فالفتحُ ظاهر وهو ضمير الرسول أو كل من يصح منه ذلك وأما الضم فعلى صرفه للمخاطب أي قُلْ يا محمد بل عَجِبْتُ أنا، أو على إسناده للباري تعالى على ما يليق به وقد تقدم هذا في البقرة وما ورج منه في الكتابِ والسنة. وعن شُرَيْحٍ أنه أنركها وقال: اللَّهُ لا يَعجَبُ فبلغت إبْرَهِيمَ النَّخَعِيِّ فقال: إنَّ شريحاً كان مُعْجَباً برأيه قرأها مَنْ هو أعلم (منه) ؛(16/285)
يعني عبد اللَّهِ بن مسعود وابن عباس والعَجَبُ من الله ليس كالتَّعَجُّب من الآدميين كما قال: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} [التوبة: 79] وقال: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه والعُجْب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذَّمِّ وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث: «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» وقوله: «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِن إِلِّكُمْ وقُنُوطِكِمْ وسُرْعَةِ إجَابتِهِ إيَّاكُمْ» وسُئِلَ جُنَيْدٌ من هذه الآية فقال: إن الله لا يعجب من شيءولكن اللَّهَ وافق رسولَه لمَّا عِجِبَ رسولُهُ وقال: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} أي هو كما تقوله.
قوله: {وَيَسْخُرُونَ} يجوز أن يكون استئنافاً وهو الأظهر وأن يكون حالاً والمعنى أي عجبت من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك، وقالد قتادة: عَجِبَ نَبِيُّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن فسخروا منه ولم يؤمنوا عجب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ذلك فقال الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} وَإِذَاَ ذُكِّرُوا لاَ يّذْكُرُونَ «أي إذا وَعِظُوا بالقرآن لا يَتَّعِظُونَ.
وقرأ (جَنَاحُ) بن حبيش» ذُكِرُوا «مخففاً» وإذا رأوا آية «قال ابن عباس ومقاتل: يعني انْشِقَاقَ القمر» يَسْتَسْخِرُون «يسخرون ويستهزئون، وقيل: يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية وقرئ» يستستخرون «بالحاء المهملة» وَقَالُوا إنْ هَذَا(16/286)
إلاَّ سِحْر مُبينٌ « (أي سحر بَيِّن) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر.
فصل
قال ابن الخطيب: والذي عندي في هذا الباب أن يقال: القوم كانوا يَسْتَبْعِدثون الحَشْر والقيامة وبقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه؟ وبقوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يخسرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستباد إَلاَّ من وجهين:
أحدهما: أن يذكر لهم الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم: هل تعلمون أن القادر عل الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل.
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن (ذكر) أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني: أن يثبت الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رسالته بالمعجزات ثم يقول: لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}
قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وهذا بيان للسَّبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط (بتراب) الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم. فهذا الإنسان كيف يعقل عَوْدُه بعينه حيًّا ثانياً؟! ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال: قُلْ (لَهُمْ) يا محمد «نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُون» أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون، والدخور أشد الصغار وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه (أمر) ممكن وإذا ثبت الجواب القطعي فلا سبيل(16/287)
إلى القطع بالوقوع إلا بأخبار المخبر الصادق فلما قامت المعجزات على صدق محمد - عليه (الصلاة و) السلام - كان واجب الصدق فكان مجرد قوله: «نَعَمْ» دليلاً قاطعاً على الوقوع.
قوله: {أَوَ آبَآؤُنَا} قرأ ابنُ عَامر وقالون: بسكون الواو على أنها «أَوْ» العاطفة المقتضية للشك والباقون بفتحها على أنها همزة استفهام دخلت على واو العطف، وهذا الخلاف جار أيضاً في «الواقعة» وتقدم مثل هذا في الأعراق في قوله: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} [الأعراف: 98] فمن فتح الواو أجاز في: «آبَاؤُنَا» وجهين:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على محل إن واسمها.
والثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير المستتر في: «لَمَبْعُوثُونَ» واستغني بالفصل بهمزة الاستفهام، ومن سكنها تعين فيما الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل، وقد أَوْضَحَ هذا الزمخشريُّ حيث قال: «أو آباؤنا» معطوف على محل إنَّ واسمها أو على الضمير في: «لَمَبْعُوثُونَ» والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام قال أبو حيان: أما قوله معطوف على محل «إنّ» واسمها فمذهب سيبويه خلافه فإن قولك: «إنَّ زَيْداً قَائِمٌ وعمرو» وعمرو فيه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، وأما قوله: أو على الضمير في لمبعوثون (الخ ...
. . فلا يجوز أيضاً؛ لأن همزة(16/288)
الاستفهام لا تدخل إلى على الجمل لا على المفرد؛ لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بواسطة حرف العطف وهمزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها، فقوله: {أَوَ آَبَاؤُنَا} مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا قلت: أما الرد الأول: فلا يلزم لأنه لا يُلْتَزَمُ مذهب سيبويه وأما الثاني: فإن الهمزة مؤكدة للأولى فهي داخلة في الحقيقة على الجملة إلا أنه فصل بين الهمزتين بإنّ واسْمِهَا وخبرها. ويدل على هذا ما قاله هو في سورة الواقعة فإنه قال: دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف، فإن قلت: كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون) من غير تأكيد بنحن؟ قلت: حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] لفصل (لا) المؤكدة للنفي لأن لا مؤكدة للنفي المتقدم بما إلا أن هذا مشكلٌ بأن الحرف إذا كرر للتأكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلا بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميره. وقد مضى القول فيه وتحصل في رفع «آباؤنا» ثلاثة أوجه: العطف على الابتداء والخبر مضمر والعامل في «إذا» محذوف أي: أَنُبْعَثُ إذَا مِتْنَا هذا غذا جعلتها ظرفاً غير متضمن لمعنى الشرط، فإن جعلتها شرطية كان جوباها عاملاً فيها أي إذا متنا بُعِثْنَا أوْ حُشِرْنَا.
وقرئ «إذَا» دون استفام وقد مضى القول فيه في الرعد.(16/289)
قوله: {وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} جملة حالية العامل فيها الجملة القائمة مقامها «نعَمْ» أي تبعثون وأنتم صاغرون أذلاَّء قال أبو حيان: وقرأ ابن وَثّاب «نِعِمْ» بكسر العين تقدم أن الكسائي قرأها كذلك حيث وقَعتْ وكلامه هنا موهم أن ابن وثاب منفردٌ بها.(16/290)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ} قال الزمخشري: «فَإنَّما هِيَ» جواب شرط مقدر تقديره إذا كان كذلك فما هي إلا زجره واحدة قال أبو حيان: وكثيراً ما تضمَّن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ تقديره ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب للأمر والنهي وما ذكر معهما، أمَّا اتبداءً فلا يجوز حذفه.
فصل
«هي» ضمير البعثة المدلول عليها بالسِّياق لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً، قال الزَّمَخْشَرِيُّ «هي» مبهمة يوضحها خبرها، قال أبو حيان: وكثيراً ما يقول هو ابن مالك: إن الضمير يفسره خبره ووقف أبو حاتم على «يَا وَيْلَنا» وجعل(16/290)
مع ما بعده من قوله الباري تعالى، وبعضهم جعل «هَذَا يَوْمُ الدِّينِ» من كلام الكفار الكفرة فيقف عليه، وقوله: {هذا يَوْمُ الفصل} من قول الباري تعالى: وقيل: الجمع من كلامهم وعلى هذا فيكون قوله: {تُكَذَّبُونَ} إما التفاتاً من التكلم إلى الخطاب وإما مخاطبة بعضهم لبعض.
فصل
لما بين في الآية المتقدمة ما يدل على إنكار البعث والقيامة وأرْدَفَهُ بما يدل على وقوع القيامة ذكر في هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة فمنها قوله: «فإنما هي زجرة واحدة» أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث فإذا هم ينظرون أي إحياء ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل: ينتظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به والزجرة هي الصيحة التي زجرها كالزجرة بالنَّعَمِ والإبل عند الحثّ، ثُمَّ كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة، قال ابن الخطيب: ولا يبعد أن يقال تلك الصحية إذا سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور إلى الحضور في موقف القيامة.
فإن قيل: فما الفائدة في هذه الصحية للأموات وهذه النفخة جاية مَجْرَى السبب ليحاتهم فتكون مقدمة على حياتهم فلزم أن هذه الصيحة إنما تكون حالاً لكونهم أمواتاً فتكون الصيحة عديمة الفائدة فهي عَبَثٌ والعبث لا يجوز في فِعل الله؟
فالجواب: على قول أهل السنة يفعل الله ما يشاء وأما المعتزلة فقال القاضي: فيه وجهان:
الأول: أن يعتبر بها الملائكة.
والثاني: أن تكون فائدتها التخويف والإرهاب (انتهى) وهذه الصيحة لا تأثير لها في الحياة بدليل أن الصيحة الأولى استعقبها الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هوا لله (وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها «كما قال: {الذي خَلَقَ الموت والحياة}
[الملك: 2] روي أن الله تعالى يأمرنا سراً قيل فينادى أَيَّتَّها العِظَامُ النَّخِرَة، والجُلُودُ البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى. الحالة الثانية من تفاصيل أحوال القيامة قولهم بعد القيام من القبور: «يا ويلنا هذا يوم الدين» أي يوم الحساب ويوم الجزاء. قال الزجاج: الويل كلمة(16/291)
يقولها القائل وقت الهَلَكَةِ ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: «هذا يوم الدين» أي يوم الحساب القيمة المذكرو في قوله: {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] أي لا مالك في ذلك اليوم إلا الله تعالى وأما قوله: {هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} تَقَدَّم الكلام على قائله هل هو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة أو من كلام المؤمنين أو من كلام الكفار.
قوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ} هذا من كلام الملائكة والمراد اجْمَعُوا الذين أشركوا إلى الموقف للحساب والجزاء.
فإن قيل: ما معنى احشروا مع أنهم قد حشروا من قبل وحَضَروا مَحْفِل القيامة وقالوا: هذا يوم الدين وقالت الملائكة لهم: بل هذا يوم الفصل؟
أجاب القاضي عنه وقال: المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار، ولذلك قال بعده: «فَاهْدُهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم» أي دُلُّوهُمْ على ذلك الطريق، ثم سأل نفسه وقال: كيف يصح ذلك وقد قال بعده: «وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسؤُلُونَ» ومعلوم أن (مَ) حْشَرَهُمْ إلى الجحيم إنما يكون بعد المسألة وأجاب بأنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب ولا يمتنع أن يقال احْشُرُوهُمْ وقِفُوهم مع أما بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر. قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال: إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يَبْعُدْ أن يقفوا هناك لحيرَةٍ تَلْحَقُهُمْ لمعاينتهم أهوالَ القيامة، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة: احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم، أي سُوقُوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك ويحصل السؤال هناك ثُمّ (مِنْ) هنا (ك) يساقون إلى النار.
قوله: {وَأَزْوَاجَهُمْ} العامة على نصب وفيه وجهان:
أحدهما: العطف على الموصول.
والثاني: أنه مفعول معه قال أبو البقاء: وهو في المعنى أقوى، وإنما قال في المعنى لأنه في الصناعة ضعيف لأنه أمكن العطف لا يُعْدَلُ عنه، وقرأ عيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الحِجَازيّ بالرفع عطفاً على ضمير «ظَلموا» وهو ضعيف لعدم(16/292)
العامل، وقوله: {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} لا يجوز فيه هذا لأنه لا ينسب إليهم ظلم إن لم يرد بهم الشياطين وإن أريد بهم ذلك جاز فيه الرفع أيضاً على ما تقدم.
قوله: {إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} العامة على الكسر على الاستئناف المفيد للعلة، وقرئ بفتحها على حذف لام العلة أي قِفُوهُمْ لأجْل سُؤَال الله إيَّاهم.
فصل
المراد بالأزواج أشباههم وأمثالهم وأتباعهم. قال قتادة والكلبي: كل من نعمل مثل عملهم فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا واليهوديّ مع اليهوديّ والنَّصْرَانيّ مع النصراني لقوله تعالى:
{وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} [الواقعة: 7] أي أشكالاً وأشباهاً، وتقول «عندي من هذا أزواج» أي أمثال، وتقول: زَوْجَان من الخُفِّ لأن كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة يُسَمَّيَانِ زَوْجَيْنِ متشابهين، وكذلك العدد الزوج، وقال الضحاك ومقاتل قرناؤهم من السوء الشياطين كل كافر مع شيطانه في سلسلة وقال الحسن: أزواجهم: المشركات، وما كانوا يعبدون من دون الله في الدنيا يعني الأوثان والطواغيت. وقال مقاتل: يعني إبليسَ وجنودَه لقوله: «ألاَّ تَعْبُجُوا الشَّيْطَانَ» «فاهْدُوهم إٍلى صراط الجحيم» ، قال ابن عباس: دلوهم إلى طريق النَّارِ. وقال ابن كيسان والأَصَمّ قدموهم والعرب تسمي السابق هادياً. وقال الواحدي: وهذا وهم لأنه يقال هَدَى إذا تقدم ومنه الهَادِيَةُ والهَوَادِي، وهَادِيَاتُ الوحش، ولا يقال هَدَى بمعنى قدم. «وَقِفُوهُمْ» يقال وَقَفْتُ الدَّابَة أَقِفُها وَقْفاً فوَقَفَتْ هي وُقُوفاً قال المفسرون: لما سِيقُوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال عند الصراط فقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} قال ابن عباس: عن أقوالهم وأفعالهم.(16/293)
وقيل: تسألهم الخزنة: «ألم يأتكم نذير رسل منكم» ، (رسل) بالبينات قولوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. ويجوز أن يكون هذا السؤال هو قوله بعد ذلك: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} (أي لا تسألون) (توبيخاً لهم فيقال) : ما لكمن لا يتناصرون قال ابن عباس: لا ينصر بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدنيا وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحْن جميعٌ منتصر فقيل لهم يوم القيامة: ما لكم لا تَنَاصَرُون، وقيل: يقال للكفار: ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب.
قوله: {مَا لَكُمْ} يجوز أن يكون منقطعاً عما قبله والمسؤول عنه غير مذكور ولذلك قدره بعضهم عن أعمالهم ويجوز أن يكون هو المسؤول عنه في المعنى فيكون معلقاً للسؤال و «لاَ تَنَاصَرُونَ» جملة حالية العامل فيها الاستقرار في «لكم» وقيل: بل هي على حذف حَرْفِ الجرِّ وأن الناصبة فلما حذفت «أن» ارتفع الفعل. والأصل في أن لا وتقدمت قراءة البَزِّي لا تناصرون بتشديد التاء وقرئ تَتَنَاصَرُونَ على الأصل.
قوله (تعالى) : {بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} قال ابن عباس: خاضعون. وقال الحسن منقادون، يقال اسْتسْلَمَ للشيء إذا انقاد له وخضع والمعنى هم اليوم أذلاّء منقادون لا حِيلَة لهم في دفع تلك المضارّ.(16/294)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} قيل: الأتباع والرؤساء يتساءلون متخاصمون. وقيل: هم والشياطين يقولولن إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين أي من قبل الدين فتضلوننا عنه. قاله الضحاك، وقال مجاهد: من الصراط الحق واليمين عبارة عن الدِّين والحق كما أخبر الله عن إبليس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} [الأعراف: 17] فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فليس عليه الحق، واليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات لأن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر إجماعاً، ولا تباشر الأعمال الشريفة إلا باليمين ويتفاءلون بالجانب الأيمن ويسمونه البَارِح وكان - عليه (الصلاة و) السلام - يحب التيامن في شأنه كله وكاتب الحسنات من الملائكة على اليمين ووعد الله المحسن أن يعطيه الكتاب باليمين. وقيل: إن الرؤساء كانوا يحلفون للمستضعفين أن ما يدعونهم إليه هوا لحق فوثقوا بأيمانهم، وقيل: عن اليمين أي عن القوة والقدرة كقوله: {لأََخَذْنَا مِنْهُ باليمين} [الحاقة: 45] .
قوله: {عَنِ اليمين} حال من فاعل: «تَأتُوتَنَا» واليمين إما الجارحة عبّر بها عن القوة وإما الحلف لأن المتعاقدين بالحلف يمسح كل منهما يمين الآخر فالتقدير على الأول وتأتوننا أقوياء وعلى الثاني مُقْسِمينَ حَالِفينَ.
قوله: {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} وهذا جواب الرؤساء للأتباع أي ما كنتم موصوفين بالإيمان حتى يقال: إنا أَزَلْنَاكم عنه وإنما الكفر من قبلكم {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} من قوة وقُدْرة حتى نقهركم ونجْبِرَكم «بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ» ضالين «فَحَقَّ عَلَيْنَا» وجب علينا جمعياً «قَوْلُ رَبَّنَا» يعني كلمة العذاب وهو قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] .
قوله: «إنَّا لَذَائِقُوا الْعَذَابِ» الظاهر أنه من إخبار الكفرة المتبوعين أو الجن بأنهم ذائقون العذاب. ولا عدول في هذا الكلام وقال الزمخشري ولزمنا قول ربنا إنا لذائقون يعني وعيد الله بأنا لذائقون لعذابه لا محالة ولو حكى الوعيد كما هو لقال إنكم(16/295)
لذائقون ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ونحوه قول القائل:
4191 - لَقَدْ عَلِمَتْ هَوَزِانُ قَلَّ مَالِي..... ... ... ... ... ... ... .
ولو حكمى قولها لقال: قَلَّ مَالُكَ، ومنه قول المحلف للحالف احلف (لأخْرُجَنَّ) ولَتَخْرُجَنَّ، الهمزة لحكاية الحالف، والتاء لإقبال المحالف على المحلف.
قوله: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي إنما أقدمنا إغوائكم لأنا كنا موصفين في أنفسنا بالغِوَايَةِ. وفيه دقيقة أخرى كأنهم قالوا: إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاوٍ آخر لزم التسلسل. وذلك محال فعلمنا أن حصول الغواية والرشاد ليس من قِبَلِنَا بل من قِبَل غيرنا. وذلك الغير هو الذي فيما قبل وهو قوله: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ} ثم قال تعالى بعده: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} يعني الرؤساء والأتباع يومئذ يُسْأَلُو (نَ) ويُرَاجِعُو (نَ) الكلام فيما بينهم ثم قال: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} أي الكفار.
قال ابن عباس: الذين جعلوا لله شركاء ثم وصفهم بأنهم «إذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ» يتكبرون عن كلمة التوحيد ويمتنعون منها {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقرأ ابن كثير أينا لتاركوا برهمزة وياء بعدها خفيفة وألف ساكنة بلا مدة وقرأ نافع في رواية قالون وأبو عمرو كذلك، ويمدان والباقون بهمزتين بلا مد، ثم إنه تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله: {بَلْ جَآءَ بالحق} أي جاء بالدين الحق.
قوله: {وَصَدَّقَ المرسلين} أي صدقهم محمد - عليه (الصلاة و) السلام - يعني(16/296)
صدقهم فقي مجيئهم بالتوحيد، وقرأ عبد الله صَدَقَ خفيف الدال «الْمُرْسَلُونَ» فاعلاً به أي دصقوا فيما جاءوا به ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال: {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} [الصافات: 38] .(16/297)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
قوله: {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} العامة على حذف النون والجر. وقرأ بعضهم بإثباتها والنصب هو الأصل وقرأ أبان بن تَغْلِب - عن عاصم وأبو السِّمِّال في رواية - بحذف النون والنصب أَجْرَى النون مُجْرَى التنوين في حذفها لالتقاء الساكنين كقوله: {أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] (و) .
4192 - وَلاَ ذَاكِر اللَّه إلاَّ قَلِيلاً ... وقال أبو البقاء: قرئ شاذا بالنصب وهو سهو من قارئه لأن اسم الفاعل يحذف منه النون وينصب إذا كان فيه الألف واللام، قال شهاب الدين: وليس بسهو لما تقدم، وقرأ أبو السمال أيضاً لذائق بالإفراد والتنوين الْعَذَابَ نصباً وتخريجه.(16/297)
على حذف اسم جمع هذه صفته أي إنكم لفريقٌ أو لجمعٌ ذائقٌ ليتطابق الاسم والخبر في الجَمْعِيَّة ثم كأنه قيل: فكيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده؟ فأجاب بقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي «إلا جزاء ما كنتم تعملون» .
قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله} استثناء منقعطع أي لكن عباد الله المخلصين الموحدين، وقوله: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ} بيان لحالهم، وقد تقدم في فتح اللام وكسرها من المْخْلَصِينَ قراءتان فمن قرأ بالفتح فالمعنى أن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله. والكسر هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى والرزق المعلوم قيل: بُكْرَةً وعَشِيًّا لقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غَدْوَةٍ أو عَشْوَة وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية. وقيل: ذلك الرزق معلوم الصفة أي مخصوصاً بصفات من يطب طعم ولذة وحسن منظر. وقيل معناه أنهم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وقد (بين أنه) تعالى يعطيهم غير ذلك تَفَضُّلاً.
قوله: {فَوَاكِهُ} يجوز أن يكون بدلاً من «رزقٍ» وأن يكون خبراً ابتداء مضمر أي ذلك الرزق فَوَاكِهُ وفي الْفَوَاكِهِ قَوْلاَنِ:
أحدهما: أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحّة بالأقوات فإن أجسامهم محكومة ومخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ.
والثاني: أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان المأكول للغذاء أولى بالحضور.(16/298)
قوله: {وَهُم مُّكْرَمُونَ} قرأ العامة مُكْرَمُونَ خفيفة الراء و (ابن) مِقْسِم بتشديدها والمعنى وهم مُكَرَّمُونَ بثواب الله في جنات النعيم لما ذكر مأكولهم ذكر مسكنهم وقوله «فِي جَنَّاتِ» يجوز أن يتعلق «بمُكْرَمُونَ» وأن يكون خيراً ثانياً وأن يكون حالاً.
قوله: {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} العامة على ضم الراء. وأبو السَّمَّال بفتحها وهي لغة بعض كَلْبٍ، وتميم يفتحون عين «فُعُلٍ» جمعاً إذا كان اسماً مضاعفاً. وأما الصفة نحو: ذُلُل ففيها خلاف.
والصحيح أنه لا يجوز لأنَّ السماع ورد في الجوامد دون الصفات. و «عَلَى سُرُور مُتَقَابيلن» حال، ويجوز أن يتعلق «عَلَى سُرُر» بمتقابلين و «يُطَافُ» صفة «لمكرون» أو حال من الضمير في: «متقابلين» أو من الضمير في أحد الجَارِّيْن إذا جعلناه حالاً.
ومعنى متقابلين لا يرى بعضُهم قَقَا بعض، ولما ذكر المأكل والمسكن ذكره بعده صفة المشرب فقال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} والكأس من الزجاج ما دام فيها شراب وإلا فهو قَدَح. وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو مجاز سائغٌ وأنشد:
4193 - وَكَأس شَرِبْتُ عَلَى لذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
و «مِنْ مَعين» صفة «لكأسٍ» والمعين معناه الخَمر الجارية في الأنهار، أي ظاهرة تراها العيون وتقدم الكلام في مَعِين وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي(16/299)
الخَمْر وقوله: {مِنْ مَعِين} أي من شراب مَعِينٍ أو من نَهْرٍ مَعِينٍ. المَعِينُ مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي (م) عِيناً لظهوره، يقال: عَانَ الماءُ إذا ظهر جارياً، (قاله ثعلب) فهو مَفْعُول من العَيْن نحو: مَبِيع ومَكِيلٍ، وقيل: سمي معيناً لأنه يجري ظاهر العين كا تقدم. ويجوز أن يكون فعيلاً من المعين وهو الماء الشديد الجري، ومنه أمْعَنَ في الجَرْيِ إذا اشتد فيه.
قوله: {بَيْضَاءَ} صفة لكأس وقال أبو حيان: صفة «لكاس» أو «للخمر» قال شهاب الدين: لم يذكر الخمر اللهم إلا أن يعني بالمعين الخمر. وهو بعيد جداً ويمكن أن يجاب بأن الكاس إنما، سميت كأساً إذا كان فيها الخمر.
وقرأ عبد الله: صَفْرَاءَ وهي مخالفة للسواد، إلا أنه جاء وصفها بهذا اللون وأنشد لبعض المولدين:
4194 - صَفْرَاء لاَتَنْزِلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا ... لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ
و «لذة» صفة أيضاً وصفت بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال: فُلاَنٌ جُودٌ وكَرَمٌ إذا أرادوا المبالغة.
وقال الزجاج: أو على حذف المضاف أي ذات لذَّة، أو على تأنيث «لَذَّ» بمعنى لذيذ فيكون وصفاً على «فَعْلِ» كصَعْب يقال: لَذَّ الشَّيءُ يَلَذُّ لَذًّ فهو لَذَيدُ وَلَذٌّ وأنشد:
4195 - بِحَدِيثَها اللَّذِّ الَّذِي لَوْ كَلَّمْتْ ... أُسْدَ الْفَلاَةِ بِهِ أَتَيْنَ سِرَاعَا(16/300)
وقال آخر:
4196 - لَذٌّ كَطَعْم الصَّرخَدِيِّ تَرَكْتُهُ ... بأَرْضِ العِدَا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثَانِ
واللذيد كل شيء مستطابٌ. وأنشد:
4197 - يَلذُّ لِطَعْمِهِ وَتَخَالُ فِيهِ ... إذَا نَبَّهْتَهَا بَعءدَ الْمَنَامِ
و «للشَّارِبينَ» صفة «لِلَذّةِ» وقال اللَّيْث: اللَّذَّة واللَّذِيذَة يجريان مَجْرَى واحداً في النعت يقال: شَرَابٌ لَذَّ ولذيدٌ قال تعالى: {بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} وقال تعالى: {مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] وعلى هذا «لَذَّة» بمعنى لذيذ.
قوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} صفة أيضاً وبطل عمل لا وتكررت لتقدم خبرها، وتقدم أول البقرة فائدة تقيم مثل هذا الخبر، والبحثُ مع أبي حيان فيه.
قال الفراء: العرب تقول ليس فيها غِيلَةٌ وغائلةٌ وغُول (وغَوْل) سواء وقال عبيدة: الغَوْلُ أن غتال عقولهم وأنشد قول مطيع بن إياس:(16/301)
4198 - وَمَا زَالَتِ الْكَأسُ تَغْتَالُهُمْ ... وَتَذْهَبُ بالأَوَّل فَالأّوَّلِ
وقال الليث: الغول الصداع والمعنى لي فيها صدع كما في خمر الدنيا، وقال الواحدي: الغَوْل حقيقته الإهلاك، يقال: غَالَهُ غَوْلاً واغْتَالَهُ أهْلَكَهُ، والغَوْل والغَائلُ المهلك وسُمِّي (وَطْءُ) المرضع غَوْلاً لأنه يؤدي إلى الهلاك، والغوب كلُّ ما اغتالك أي أهلَكك، ومنه الغُولُ بالضم شيء تَوَهَّمَتْهُ العرب ولها فيه أشعار كالعَنْقَاء يقال: غَالِني كذا ومنه الغِيلَة في العقل والرضاع قال:
4199 - مَضَى أَوَّلُونَا نَاعِمِينَ بِعَيْشِهِمْ ... جَمِعياً وَغَالتُنِي بِمَكَّةَ غُولُ
فالغول اسم لجميع الأذى. وقال الكلبي: لا فيها إثمٌ وقال قتادة: وَجَعُ البطن وقال أهل المعاني: الغول فساد يلحق أمره في خفية، وخمر الدنيا يحصل فيها أنواع من الفساد منها السُّكْرُ وذَهَابُ العقل ووجع البطن والصُّدَاع والقيءُ والبَوْل ولا يوجد شيء من ذلك من خمر الجنة.
قوله: {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} قرأ الأخوان «ينزقون» هنا، وفي الواقعة، بضم الياء وكسر الزاي. وافقهما عاصمٌ على ما في الوقعة فقط. والباقون بضم الياء وفتح الزاي وابن إسحاق بالفتح والكسر وطلحة بالفتح والضم فالقراءة الأولى من أَنْزَفَ الرَّجُلُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ من السكر فهو نَزِيفٌ وَمنزُوفٌ، وكان قياسه مُنِزْفٌ كمُكْرِم، ونَزَفَ الرجلُ الخمْرةَ فَأنْزَفَ هو ثُلاَثيُّهُ متعددٌ ورباعية بالهمزة قاصر وهو نحو: كَبَيْتُهُ فأَكَبَّ وقَشعَت الريحُ السَّحابَ فَأَقْشَعَ أي دخلا في الكَبِّ والقَشْعِ وقال الأسود:(16/302)
4200 - لَعْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُم أَوْ صَحَوْتُمُ ... لَبْئِسَ النَّدَامَى أَنْتُمْ آلَ أَبْجَرَا
ويقال: أنزف أيضاً أي نَفِذَ شَرَبُهُ. وأما الثانية فمن نزف أيضاً بالمعنى المتقدم وقيل هو من قولهم: نَزَفتِ الرَّكِيَّةُ أي نَزَحَتْ ماءها. والمعنى أنهم لا تذهب خمورهم بل هي باقية أبداً، وضمن يَنْزِفُونَ معنى يصدون عنها بسبب النَّزِيفِ.
وأما القراءاتان الأخيرتان فيقال: نَزِف الرجلُ ونَزُفَ بالكسر والضم بمعنى ذهب عقله بالسّكر، ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم فقال: «وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ» «قاصرات الطرف» يجوز أن يكون من باب الصّفة المشبهة أي قاصراتٌ أطرافُهن كمُنْطَلِقُ اللّسانِ، وأن يكون من باب إطلاق اسم الفاعل على أصله فعلى الأول المضاف إليه مرفوع المحل وعلى الثاني منصوبه أي قَصَرْنَ أطْرَافَهُنَّ على أزواجهن. وهو مدح عظيم قال امرؤ القيس:
4201 - مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَو دَبّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذِّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأَثّرَا
ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى: {مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} [الرحمن: 72] والمعنى أنهن يَحْبسْنَ نظرهُنَّ ولا ينظرن إلى غير أزواجهن، والعِينُ جمع عَيْنَاءَ وهي الواسعة العينين والذَّكَرُ أعْيَنُ قال الزجاج كِبَارُ الأعْين حِسَانُها يقال رَجُلٌ أَعَيْنُ، وامرأة عَيْنَاهُ، ورجالٌ ونِسَاءٌ عِينٌ.
قوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} والبيضُ جمع بَيْضَة وهو معروف والمراد به هنا بيض(16/303)
النَّعَامِ، والمكنون المصون المستور من كَنَنْتُهُ أي جعلته في كِنّ والعرب تشبه المرأة بها في لونها وهو بياض مشوبٌ ببعض صُفرة والعرب تحبه.
قال امرؤ القيس:
4202 - وَبَيْضَةِ خِذْ (رٍ) لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَا ... تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ معجلِ
كَبِكْرِ مُقَانَاةِ البَيَاضِ بصُفْرَةٍ ... غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ المُحَلَّلِ
وقال ذو الرمة:
4203 - بَيْضَاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي غَنَجٍ ... كَأَنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّها ذَهَبُ
وقال بعضهم: إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى. وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء حيث قال:
4204 - تَنَاسَبَت الأَعْضَاءُ فِيهَا فَلاَ تَرَى ... بِهِنّ اخْتِلاَفاً بَلْ أَتَيْنَ عَلَى قَدْرِ
ويجمع البيض على بُيُوض قال:
4205 - بِتَيْهَاءِ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأّنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
قال الحسن: شب (هـ) هن ببيض النّعام تكنُّها بالرِّيش عن الريح والغبار فلونها أبيض في صفرة.(16/304)
يقال: هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة بيضاء مُشْرَبةً صفرةً (وإنما ذكر المكنون والبيض جمع مؤنث لأنه رده إلى اللفظ) .(16/305)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} وهذا على عطف قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} [الصافات: 45] والمعنى يشربو فيتحادثون على الشراب قال:
4206 - وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّات إلاَّ ... مُحَادَثَةُ الكِرَامِ علَى المُدَام
وأتى بقوله «فَأَقْبَلَ» ماضياً لتحقق وقوعه، كقوله {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة} [الأعراف: 50] وقوله: {يَتَسَاءَلُونَ} حال من فاعل «أقْبَلَ» والمعنى: أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن حاله في الدنيا.
قوله: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي في الدنيا ينكر البعث. و {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي كان يوبِّخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجباً: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} أي لمحاسبون ومُجَازوْنَ، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار. واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشرب ويتحدثون كانت من جملة كَلِمَاتهم أنهم يتذكرون ما كان قد حصل لهم في الدنيا مما يوج الوقوع في عذاب الله ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية. قال مجاهد: كان ذلك القرين شيطاناً، وقيل: كان من الإنس، وقال مقاتل: كانا أخَوَيْنِ وقيل: كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار(16/305)
فَتَقَاسَمَاها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه وقال كيف ترى حسنها؟ (فقال: مَا أَحْسَنَهَا) ، ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال: اللهم إنَّ صاحبي قد اتباع هذه الدار بألف دينار فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحُورِ العِينِ ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار، ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلب في الجنة.
وقيل: كان أحدهما كافراً اسمه نُطْرُوس والآخر مؤمن اسمه يَهُودَا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة الكهف: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} [الكهف: 32] .
قوله: {لَمِنَ المصدقين} العامة على التخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدِّقِين بلقاء الله. وقرئ بتشديدها من الصَّدَقَة واختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة وهي قوله: {أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً} {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير مهموسة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. (ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين وابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام) والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وحمزة وعاصم بهمزتين.
فصل
ثم إن الرجل يقول لجالسائه يدعوهم إلى كَمَال السُّرُور بالاطِّلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته {قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} إلى النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به منا «فاطّلع أنت» قال ابن عباس: إنَّ في الجنة كُوًى ينظر أهلها منها إلى النار.
قوله: {مُطَّلِعُونَ} قرا العامة بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطَّلَعَ ماضياً مبنياً للفاعل افتعل من الطلوع. وقرأ ابن عباس في آخرين - ويروى عن أبي عمرو - بسكون الطاء وفتح النون «فأُطْلِعَ» بقطع (ال) همزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً(16/306)
للمفعول، ومطلعون على هذه القراءة يحتمل أن يكون قاصراً أي مقبلون من قولك: اطلع علينا فلان أي أقبل، وأن يكون متعدياً ومفعوله محذوف أي أصْحَابَكُمْ وقرأ أبو البَرَهسم وحماد بن أبي عمار: مُطْلِعُونَ خفيفة الطاء مكسورة النون فأُطْلِعَ مبنياً للمفعول، ورد أبو حاتم وغيرُه هذه القراءة من حيث الجمع بين النون وضمير المتكلم إذْ كَانَ قياسها مُطْلِعِيَّ، والأصل مُطْلِعُوي فأبدل فأدغم نحو: جاء مُسْلِمِيَّ القَاطِنُونَ وقوله عليه - (الصلاة و) السلام - «أَوَ مُخْرِجيَّ هُمْ» وقد وجهها ابن جني على أنها أجري فيها اسم الفاعل مُجْرى المضارع يعني في إثبات النون مع الضمير وأنشد الطبري على ذلك:
4207 - وَمَا أَدْرِي وَظَنِّي ... كُلَّ ظَنِّي أَمْسْلِمُنِي إلى قَوْمِي شَرَاحِ
وإليه نحا الزمخشري قال: أوشبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخِ بينهما (كأنه) قال يُطْلِعُونَ وهو ضعيف لا يقع إلا في شعر وذكر فيه فيه تَوْجيهاً آخَر فقال: أراد مُطْلعُونِ إياي فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله:(16/307)
4208 - هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ..... ... ... ... ... ... ... ... .
ورده أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه لا يجوز: «هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّاهَا» ولا «زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّايَ» قال شهاب الدين: وإنما لم يجز ما ذكر لأنه إذا قدر على المتصل لم يُعْدَل إلى المنفصل ولِقَائلٍ أن يقول: لا أسلم أنه يقدر على المتصل حالة ثبوت النون أو التنوين قبل الضمير بل يصير الموضع موضع الضمير المنفصل فيَصحّ ما قال (هـ) الزمخشري، وللنحاة في اسم الفاعل المنوّن قبل ياء المتكلم نحو البيت المتقدم وقول الآخر:
4209 - فَهَلْ فَتًى مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ يَحْمِلُنِي ... وَلَيْسَ حَامِلُنِي إلاَّ ابْنُ حَمَّالِ
وقول الآخر:
4210 - وَلَيْسَ بمُعْيِيني وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ ... صَدِيقٌ وَقَدْ أَعْيَى عَلَيَّ صَدِيقُ
قولان:
أحدهما: أنه تنوين وأنشد شذ ثبوته مع الضمير. وإن قلنا: إن الضمير بعده في محل نصب.(16/308)
والثاني: أنه ليس تنويناً وإنما هو نون وقاية.
واستدل ابن مالك على هذا بقوله: وليس بمعييني، وبقوله أيضاً:
4211 - وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي (وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ ... صَدِيقٌ إذَا أعْيَا عَلَيَّ صديق)
ووجه الدلالة من الأول أنه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذف الياء قله لأنه منقوص منون، والمنقوص المنون تحذف ياءؤه رفعاً وجراً لالتقاء الساكنين، ووجهها من الثاني أن الألف واللام لا تجماع التنوين. والذي يرجح لاقول الأول ثبوت لانون في قوله: {وَالآمِرُونَهُ} وفي قول الآخر:
4212 - وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ ... جَمِيعاً وَأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُه
فإن النون قائمة مقام التنوين تثنية وجمعاً على حدها، وقال أبو البقاء «وتقرأ بكسر النون» وهو بعيد جداً؛ لأن النون إنْ كانت للوقاية فلا تحلق الأسماء وإن كانت نون الجمع لا تثبت في الإضافة وهذا الترديد صحيح لولا ما تقدم من الجواب عنه مع تكلف فيه وخروج عن القواعد.
(وقُرِئَ مُطّلعون بالتشديد كالعامة فأَطْلُعَ مضارعاً «منصوباً (بإضمار» أَنْ «على(16/309)
جواب الاستفهام) . وقرئ مُطْلِعُونَ بالتخفيف فأطْلِعَ فَأطْلِعَ مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً على ما تقدم يُقالُ: طَلَع عَلَيْنَا فلانٌ وأَطْلَعَ كأَكْرَمَ واطَّلَعَ بالتشديد بمعنى واحد وأما قراءة من بني الفعل للمفعول ففي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه مصدر الفعل أي اطَّلَعَ الاطِّلاَع.
الثَّانِي: الجار المقدر.
الثَّالِثُ: - وهو الصحيح - أنه ضمير القائل لأصحابه ما قاله لأنه يقال: طَلَعَ زَيْدٌ وأَطْلَعَهُ غَيْرَهُ فالهمزة فيه للتعدية، وأما الوجهان الأولان فذهب إليهما أبو الفضل الرازي في لَوَامِحِهِ فقال: طلع واطّلع إذا بدا وظهر واطّلع اطّلاعاً إذا جاء وأقبل. ومعنى ذلك: هل أنت مقبلون فأُقْبِل، وإنما أقيم المصدر فيه مُقَامَ الفاعل بتقدير فاطلع الاطلاع، أو بتقدير حرف الجر المحذوف أي أُطْلِعَ بِهِ لأن أَطْلََ لازم كما أن أقبل كذلك ورد عليه أبو حيان هذين الوجهين فقال قد ذكرنا أن» أطْلَعَ «بالهمزة معدًّى بها من طلع اللازم. وأما قوله أو حرف الجر المحذوف أي اطلع به فهذا لا يجوز لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه لأنه نائب عنه فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله، فكذلك هذا لو قلت:» زَيْدٌ مَمْرُورٌ أو مغْضُوبٌ «تريد» بِهِ «أو» عَلَيْهِ «لم يجز.
قال شهاب الدين: أبو الفضل لا يَدَّعي أن النائب عن الفاعل محذوف وإنما قال: بتقدير حرف الجر المحذوف. (ومعنى ذلك) أنه لما حذف حرف الجر اتَّسَاعاً انقلب الضمير مرفوعاً فاستتر في الفعل كما يدعى ذلك في حذف عائد الموصول المجرور عند عدم شروط الحذف ويُسَمَّى الحذف على التدريج.(16/310)
قوله: {فَرَآهُ} عطف على» فَاطَّلَعَ «و» سَوَاءُ الجَحِيم «وسطها وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس سمي بذلك لاستواء المسافة منه إلى الجوانب وعن عيسى بن عُمَر أنه قال لأبي عُبَيْدَةَ: كنت أكتب حتى ينقطع سوائي.
قوله: {تالله} قسم فيه تعجب، و» إنْ «مخففة أو نافية واللام في» لَتُرْدِين «فارقة أو بمعنى إلا. وعلى التقديرين فهي جواب القسم أعني إن وما في خبرها.
فصل
قال المفسرون: إنه ذهب إلى أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار فَرَآهُ فِي سَوَاء الجَحِيم أي وسط الجحيم فقال له توبيخاً: {تالله إنْ كدت لتردين} أي والله لقد كِدتَ أن تهلكني.
وقال مقاتل: والله لقد كدتَ أن تُغْويَنِي ومن أغوى إنساناً فقد أهلكه، والرَّدَى الهلاك أي لتهلكني بدعائك إيَّاي إلى إنكار البعث والقيامة {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي} أي رحمة ربي وإنعامه عليّ بالإسلام {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} معك في النار ولما تمم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة وقال: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} قال بعضهم: إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كَبْشٍ أمْلَحَ وذُبحَ يقول أهل الجنة للملائكة: «أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ» ؟ فتقول الملائكة: لا فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون. وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت وقيل: إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجُّبُهُ بها يقول ذلك. والمعنى أهذا لي على جهة الحديث بنعمة الله عليه وقيلي: يقوله المؤمن لقرينِهِ توبيخاً له بما كان ينكره.
قوله: {بِمَيِّتِينَ} قرأ زيدٌ بنُ علي بمَائِتين وهما مثل ضَيِّق، وضاَئِق كما(16/311)
تقدم، وقوله «أَفَمَا» فيه الخلاف المشهور، فقدَّره الزمخشري أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فما نحن بميتين وغيره يجعل الهمزة متقدمة على الفاء.
قوله: {إِلاَّ مَوْتَتَنَا} منصوب على المصدر، والعامل فيه الوصف قبله، ويكون استثناء مُفرّغاً وقيل: هوا ستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] وفيها هناك بحث حسن.
قوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} وهذا قول أهل الجنة عند فراغهم من (هذه) المحادثات. وقوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} قيل: إنه من بقية كلامهم، وقيل: إنه ابتداء كلام من الله تعالى اي لمثل هذا النعيم الذي ذكرناه.(16/312)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
قوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً} أي أذلك الذي ذكره لأهل الجنة خيرٌ نزلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّوم. (فنزلاً) تمييز «لِخَيْرِ» والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره والزقوم شجرة مسموة يخرج لها لبن متى مَسَّ جِسْمَ أحد تورم فمات. والتزقم البلع بشدة وجهد للأشياء الكريهة، وقول أبي جهل وهو العرب: لا نعرف الزقوم إلا بالتمر والزبد من العناد والكذب البحث.(16/312)
فصل
لما ذكر ثواب أهل الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال: «لِمثْلِ هذا فليعمل العاملون أتبعَهُ بقوله:» قُلْ «يا محمد أذلك خيرٌ أم شجرة الزقوم ليصير ذلك زاجراً لهم عن الكفر. وذكر مآكل أهل النار ومشاربهم. والنُّزُل الفضلُ الواسع في الطعام؛ يقال: طعام كثيرُ النُّزُلِ، و (استعير) للحاضر من الشيء؛ ويقال: أرسل الأميرُ إلى فلان نُزُلاً وهو الشيء الذي يحصل حال من نزل بسببه. وإذا عرف هذا فحاصل الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغمُّ. ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الجزائيَّة إلا أنه جاء هذا الكلام إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم العظيم والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخاً لهم على اختيارهم.
قال الكلبي: لما نزلت هذه الآية ابن الزَّبَعْرَى: أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون التّمر والزُّبْدَ بالزقوم فقال أبو جهل لجاريته: زَقِّمِينَا فأتته بزُبْد وتَمْرِ وقال تَزَقَّمُوا قال الواحدي: ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم ههنا التمر والزُبْد قال ابن دُرَيْدٍ لم يكن للزقُّوم اشتقاق من الزّقْم وهو الإفراط في أكل الشيء حتى يكره ذلك، يقال: بَاتَ فُلانٌ يَتَزقمُ وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم منتنة الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات رديَّة وأنه تعالى يكره أهل النار على أكلها.
قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} أي الكافرين وذلك أن الكفار لما سمعوا هذه الآية قولوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟ فأجيبوا: بأن خالق النار قادر على أنْ يمنع النار من إحراق الشجر؛ لأنه إذا جاز أن تكونَ في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فَلِمَ لا يجوز مثله في هذه الشجرة؟
فمعنى كون شجرةِ الزقوم فتنةً للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وبقيت تلك الشبهةُ في قلوبهم وصارت سبباً لتماديهم في الكفر فهو المراد من كونها فتنةً لهم. أو بكون المراد صيرورةَ هَذِهِ الشجرة فتنةً لهم من النار لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك(16/313)
عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنةً في حقِّهم.
أو يكون المراد من الفتنة الامتحان والاختبار فإن هذا شيء بعيد عن العُرْف والعادة. وإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزِّنْدِيقِ توسل به إلى الطَّعن في القرآن والنبوة. ثم إنه تعالى وصف هذه الشجرة بصفاتس الأولى قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} قال الحسن: أصلها في قَعْر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دَرَكَاتِهَا.
الصفة الثانية قوله: «طَلْعُها» أي ثمرها سمي طَلْعاً لطُلُوعه قال الزمخشري: الطَّلْعُ للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية، قال ابن قتيبة: سمي طلْعاً لطُلُوعِهِ كُلَّ سنة فلذلك قيل: طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره.
قوله: {رُءُوسُ الشياطين} فيه وجهان:
أحدهما: أنه حقيقة، وأن رؤوس الشياطين شجرةٌ معينة بناحية اليمن تسمى الأستن قال النابغة:
4213 - تَحِيدُ عَنْ أسْتن سُودٍ أَسَافِلُهَا ... مِثْل الإمَاءِ الغَوَادِي تَحْمِلُ الحُزَمَا
وهو شجر منكر الصورة سَمَّتْهُ العرب بذلك تشبيهاً برُؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به. وقيل: الشياطين صنف من الحيات ولهن أعراف قال:
4214 - عُجَيْزٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ ... كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحَمَاطِ أَعْرَفُ
وقي: شجر يقال له: الصوم ومنه قول ساعدة بْن جُؤَيَّةَ:
4215 - مُوَكّلٌ بشُدُوفِ الصَّوْمِ يرْقُبُهَا ... مِنَ الْمَعَازِبِ مَخْطُوفُ الحَشَا زَرِمُ(16/314)
فعلى هذا قد خوطبت العرب بما تعرفه، وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة، والثاني أنه من باب التخيل والتمثيل وذلك أنه كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره والشياطين وإن كانوا موجودين غَيْرَ مَرئيِّين للعرب إلا أنه خاطبهم بما أَلِفُوهُ من الاستعارات التخييليه كقول امرئ القيس: [البسيط]
4216 - أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرِفيُّ مُضَاجِعِي ... ومَسْنُونَةٌ رُزْقٌ رُزْقٌ كَأَنْيَابِ أَعْوَالِ
ولم ير أنيابها؛ بل ليست موجودة ألبتة، قال ابن الخطيب: وهذا هو الصحيح؛ وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسير فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النساء: {إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] فكذلك حَسُنَ التشبيه برؤوس الشياطين بالقبح وتشيوه الخلقة، ويؤكد هذا أن العقلاء إذَا رأوا شيئاً (شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا: إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً) حَسَناً قالوا: إنه ملكٌ من الملائكة قال ابن عباس: هم الشياطين بأعيانهم شبه بها لقُبْحِهِ.
قوله: {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} والمِلْءُ حَشْوُ الوِعَاء بما لا يحتمل الزِّيادة عليه.
فإن قيل: كيف يأكلونها مع نهاية خُشُونتها ونَتَنَيها ومرارة طعمها؟
فالجواب: أن المضطر ربما استروح من الضِّرَر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم(16/315)
الله الجُوعَ الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء. أو يقال: إن الزبانية يُكْرهُونَهم على الأَكل من تلك الشجرة تكميلاً لعذابهم.
قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} قرأ العامة بفتح الشين وهو مصدر على أصله.
وقيل: يُراد به اسم المفعول ويدل لَه قراءة شَيْبَانَ النَّحْوي لَشُوباً - بالضم - قال الزجاج: المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض وعطف «بثُمَّ» لأحد معينين إما لأنه يؤخر ما يظنونه يُرْوِيهمْ من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى «بِثُمَّ» المقتضية للتراخي، وإما لأن العادة تقضي بتَرَاخِي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المِنْوال وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء.
قال الزجاج: الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره، والشًّوْب الخلْط والمزج، ومنه شَابَ اللبنَ يَشوبُهُ أي خَلَطَهُ وَمَزَجَهُ والحميم: الماء الحار والمتناهي في الحرارة. و «مِنْ حَميم» صفة «لشوباً» واعلم أن الله تعالى وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها: {وَغَسَّاقاً} [النبأ: 25] ومنها: {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد: 15] ومنها المذكور في هذه الآية ولما ذكر الطعام بتلك الشناعة والكراهة وصف الشراب بما هو أشنع منه وسماه شِوْباً أي خَلْطاً ومَزْجاً من حميم من ماءٍ حار، فإذا أكلوا الزَّقُّومَ وشَرِبُوا عليه الحَمِيمَ فيشرب الحميم في بطونهم فيصير شوباً له.
قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} قال مقاتل: أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون(16/316)
الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يُورَدُونَ الحميم لأجل الشرب كما تُوردَ الإبلُ إلى الماء ثم يَرِدُونَ إلى الجحيم؛ ويدل عليه قوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] وقرأ ابن مسعود: «ثُمَّ إنَّ مَقِيلَهُمْ لإلَى الجَحِيم» «إنَّهُمْ أَلْفَوْا» وجدوا {فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} قال الفراء: الإهراء الإسراع يقال: هَرَعَ وأَهْرَعَ إذا استحث والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم. وقال الكلبي: يعملون مثل عملهم، ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم فقال: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} من الأمم الخالية.(16/317)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} فبين تعالى أن إرساله الرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف فوجب أن يكون له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسوةٌ بهم حتى يصبرَ كما صبروا ويستمر على الدعاء إلى الله وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ ثم قال: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} الكافرين أي كان عاقبتهم العذابُ وهذا الخطاب وإن كان ظاهره مع الرسول - عليه (الصلاة و) السلام - إلا أن المقصودَ منه خطابُ الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرة على قوم نوح وعادٍ وثمودَ وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظنّ وخوف يحتمل أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم.
قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله} استثناء من قوله: «المنذرين» استثناء منقطعاً لأنه وعيد وهم لم يدخلوا (في) هذا الوعيد وقيل: استثناء من قوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين}(16/317)
والمراد بالمُخْلَصِينَ: الموحدين نجوا من العذاب وتقدم الكلام على هذا الإخلاص في سورة الحِجْر عند قوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40] .(16/318)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} الآية. لما قال: ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين وقال: «فانظر كيف كان عاقبة المنذرين» أبتعه بشرح وقائع الأنبياءَ - عليهم (الصلاة و) السلام - فقال: «وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ» أي نادى ربه أن ينجيه مَعَ من نَجْا من الغَرق، وقيل: نادى ربه أي اسْتَنْصَرهُ على كفار قومه، فأجاب الله دعاءه.
قوله: {فَلَنِعْمَ المجيبون} جواب لقسم مقدر أي فوالله ومثله:
4217 - لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وُجدتُمَا..... ... ... ... ... ... ... . .
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره أي نَحْنُ أجَبْنَا دُعَاءه وأهلكنا قومه {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} واعلم أن هذه الإجابة كانت من النعم العظيمة وذلك من وجوه:
أحدهما: أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم.
وثانيها: أنه أعاد صيغة الجمع في قوله: فلنعم المجيبون (من ذلك أيضاً يدل على تعظيم تلك النعمة لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمة الإجابة.
وثالثها: أن الفاء في قوله: {فَلَنِعْمَ المجيبون} يدل على أن محصول هذه الإجابة(16/318)
مرتب على ذلك النداء والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معلّلاً به وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة ثم إنه تعالى لما بين أنه نعم المجيب بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة بقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} والكرب: هو الخوف الحاصل من الغَرَقِ والكَرْب الحاصل من أذى قومه {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} وذلك يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فَنَوْا، قال ابن عباس: ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء وإلا ولدَه ونسَاءَهُمْ.
قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} أي أبقينا له ثناءً حَسَناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
قوله: {سَلاَمٌ على نُوحٍ} مبتدأ وخبر، وفيه أوجه:
أحدهما: أنه مفسر «لِتَرَكْنَا» .
والثاني: أنه مفسر لمفعوله، أي تركنا عليه ثناءً وهو هذا الكلام وقيل: ثَمَّ قول مقدر أي فَقُلْنَا سلامٌ.
وقيل: ضمن تركنا معنى قلنا، وقيل: سلط «تركنا» على ما بعده قال الزمخشري: وتركنا عليه في الآخرين «هذه الكلمة» وهي «سَلاَمٌ عَلَى نَوح» يعني يسلمون عليه تسليماً ويَدْعُونَ لَهُ، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك: «قَرَأتُ سورة أَنْزَلْنَاهَا» .(16/319)
وهذا الذي قاله قولُ الكوفيين جعلوا الجملة في محل نَصْب مفعولاً بتركنا لا أنه ضمن معنى القول بل وعلى معناه بخلاف الوجه قبله. وهذا أيضاً من أقوالهم وقرأ عبد الله «سلاماً» وهو مفعول به «بتَرَكْنَا» و «كَذَلِكَ» نعت مصدر أو حال من ضمير كما تقدم تحريره.
فصل
المعنى: سلامٌ عليه في العالمين، وقيل: تركنا عليه في الآخرين أن يُصَلَّى عليه إلى يوم الدين {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي إنما خصَّصْنا نوحاً - عليه (الصلاة و) السلام - بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن تبقية ذِكْرِهِ الحَسَنِ في ألسنة العالمين لأجل كونه محسناً، ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً.(16/320)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
القصة الثانية: قصة إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - قوله تعالى: {وَإِنَّ مِن(16/320)
شِيعَتِهِ} أي من أهل دينه وسنته وفي الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه يعود على «نوح» أي ممن كان يشايعه أي يتبعه على دينه والتصلب في أمر الله.
الثاني: أنه يعود على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو قول الكلبي والشيعة قد تطلق على المتقدم كقوله:
4218 - وَمَا لِي إلاَّ آلَ أَحْمد شِيعَةٌ ... وَمَا لِي إلاَّ مِشْعَبَ الْحَقِّ مِشْعَبُ
فجعل (آل) أحمد وهم متقدمون عليه وهو تابع لهم شيعة له، قال الفراء والمعروف أن الشيعة تكون في المتأخر. قالوا كان بين نوحٍ وإبراهيم (نبيان هود وصالح، وروى الزمخشري أنه كان بين نوحٍ وإبراهيمَ) ألفان وستمائة وأربعون سنةً.
قوله: {إذْ جَاءَ} في العامل فيه وجهان:
أحدهما: اذْكر مقدراً. وهو المتعارف.
والثاني: قال الزمخشري: ما في الشيعة من معنى المشايعة يعني وإن مِمَّنْ شَايَعَهُ على دينه وتقواه حين جاء رَبَّهُ، قال أبو حيان: (لا يجوز لأن فيه) الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو «لإبْرَاهِيمَ» ؛ (لأنه أجنبي مِنْ «شِعَتِهِ» ومن «إذْ» وزاد المنع أن قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم) ؛ (لأنه قدر ممن شايعه فجعل العامل قبله صلة لموصول، وفصل بينه «إذْ» بأجنبي وهو «لإبْرَاهِيمَ» ) ، وأيضاً فلام الابتداء تمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها لو قلت: إنَّ ضَارِباً لَقَادِمٌ عَلَيْنَا زَيْداً تقديره: أن ضَارباً زيداً قَادِمٌ علينا لم يجز.(16/321)
فصل
قال مقاتلٌ والكَلْبِيُّ: المعنى أنه سليم من الشِّرك؛ لأنه أنكر على قومه الشِّرْكَ لقوله: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} وقال الأصليون: معناه أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل معصية.
قوله: {إذْ قَالَ} بدل من «إذْ» الأُولَى، أو ظرف لسَلِيم أي سلم عليه في وقت قوله كَيْتَ وكَيْتَ، أو ظرف لجَاءَ، ذكره أبو البقاء وقوله: {مَاذَا تعْبُدُونَ} استفهام توبيخ وتهجين لتلك الطريقة وتقبيحها.
قوله: {أَإِفْكاً} فيه أوجه:
أحدهما: أنه مفعول من أجله، أي أتريدون آلهةً دون الله إفكاً، فآلهة مفعول به، ودون ظرف «لتُريدُونَ» وقدمت معمولات الفعل اهتماماً بها، وحَسَّنَهُ كون العامل رأس فاصلة، وقدم المفعول من أجله على المفعول به اهتماماً به لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري.
الثاني: أن يكون مفعولاً وتكون «آلهة» بدلاً منه جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها عنه وفسره بها ولم يذكر ابنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ.
الثالث: أنه حال من فاعل «تُرِيدُونَ» أي تريدون آلهة أَفِكِينَ أو ذَوِي إفْكٍ، وإليه نحا الزمخشري.
قال أبو حيان: وجعل المصدر حالاً لا يطرد إلى مع أَمَّا نحو: أَمَّا علماً فَعَالم، والإفك أسوأ الكَذِب.
قوله: {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين} أي أتظنون بِرَبِّ العالَمِين أنه جوز جعل هذه الجمادات مشاركة في المعبودية، أو تظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى(16/322)
جعلتموها مساوية له في المعبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء. أو فما ظنكم برب العالمين إذا لَقِيتُمُوه وقد عبدتم غيره أنه يصنع بكم؟
قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} قال ابن عباس: كان قومه يتعاطون على النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فَيْقِدرَ على كسرها.
فإن قيل: النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أخبرهم بخلاف حاله؟
فالجواب: من وجوه.
الأول: أن نظره في النجوم أي في أوقات الليل والنهار، وكانت تأتيه الحُمَّى في بعض ساعات الليل والنها فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال: إني سقيم فجعله عذارً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال، لأن السُّقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
الثاني: أنهم كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على أمورهم فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علم النجوم كما تقول: «نَظَرَ فُلانٌ في الفِقْه» أي في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في علمهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال: إني سقيم سَكَنُوا إلى قوله، وأما قوله: إنِّي سقيم فمعناه سأسقم كقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ (وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ) } [الزمر: 30] أي ستموت.
الثالث: أن نظره في النجوم هو قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ (الليل) رَأَى كَوْكَباً} [الأنعام: 76] إلى آخر الآيات فكان نظره لتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي قديمة أو محدثة؟ وقوله: «إنِّي سِقِيمٌ أي سقيم القلب أي غير عارف بربِّي، وكان ذلك قبل البلوغ.
الرابع: قال ابن زيد: كان له نجم مخصوص طلع على صفة مخصوصة مَرِضَ إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال: إني سقيم أي هذا السَّقم واقع لا محالة.
الخامس: أن قوله: إن سقيم أي مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} [الكهف: 6] .
السادس: أنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخَاصِّية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم لأن قوله: إني سقيم على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا يَنْفَكُّ في أكثر حاله عن حصول حالة(16/323)
مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سَقَم.
السابع: قال ابن الخطيب: قال بعضم ذلك القول عن إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - كذباً وأوردوا فيه حديثاً عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «مَا كَذَبَ غبْرَاهِيمُ إلاَّ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ» .
قلتُ: لبعضهم: هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل لأن فيه نسبه الكذب (إلى إبراهيم فقال ذلك الرجل فكيف نحكم بكذب الرَّاوِي العدل؟) فقلت: لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل عليه (الصلاة و) السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى. ثم نقول: لِمَ لاَ يجوز أن يكون المراد من قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم} أي في نجوم كلامهم ومتفرَّقات أقوالهم، فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال: إنها مُنَجَّمة أي متفرقة. ومنه نَجَمْتُ الكِتَابَةَ، والمعنى: أنه لما جمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يسخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم، فلم يد عذراً أحسن من قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} ؛ (والمراد: أنه لا بدّ من أن أصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر: إنك مسافر، ولما قال: إني سقيم) تَوَلَّوا عنهم مدبرين وتركوه، وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.
قوله: {فَرَاغَ} أي مال في خفية، وأصله من رَوَغَانِ الثعلب، وهو تردده وعدم ثبوته بمكان، ولا يقال: رَاغَ حتى يكون صاحبه مخفياً لذهابه ومجيئه، فقال استهزاء بها: {أَلا تَأْكُلُونَ} يعين الطعام الذي كان بين أيديهم {مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} قاله أيضاً استهزاء، فراغ عليهم مال عليهم مستخفياً.
قوله: {ضَرْباً} مصدر وقاع موقع الحال أي فراغ عليهم ضارباً، أو مصدر لفعل ذلك الفعل حال تقديره فراغ يَضْرِبُ ضَرْباً أو ضمن راغ معنى «يضرب» وهو بعيد،(16/324)
و «باليَمِينِ» متعلق «بضَرْباً» إن لم تجعله مؤكداً وإلا فلعامله واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر وأن يراد بها القوة، فالباء على هذا للحال أي ملبساً بالقوة، وأن يراد بها الحَلِف وفاءً، بقوله: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] والباء على هذا للسبب وعدي «راغ» الثاني «بعلى» لما كان مع الضرب المستولي عليهم من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم، وأتى بضمير العقلاء في قوله: «عَلَيْهِمْ» جرياً على ظن عبدتها أنها كالعُقَلاَءِ.
قوله (تعالى) : {يَزِفُّونَ} حال من فاعل «أقْبَلُوا» و «إلَيْهِ» يجوز تعلقه بما قبله أو بما بعده، وقرأ حمزة يُزِقُّونَ بضم الياء من أَزَفَّ وله معنيان:
أحدهما: أنه من أزف يُزِفّ أي دخل في الزفيف وهو الإسراع، أو زِفاف العَرُوس، وهو المشى على هَيْئَةٍ؛ لأن القوم كانوا في طمأنينة من أمرهم، كذا قيل.
وهذا الثاني ليست للتعدية.
والثاني: أنه من أزَفَّ غَيْرَهُ أي حمله على الزفيف وهو الإسراع، أو على الزِّفَاف، وقد تقدم ما فيه، وباقي السبعة بفتح الياء من زفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي عَدَا بسُرعة وأصل الزفيف للنعام وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة: يَزِفُونَ من وَزَفَ يَزِفُ أي أسرع إلا أنَّ الكِسائيِّ والفراءَ قالا لا نعرفها بمعنى زَفَّ وقد عرفها غيرهما، قالم جاهد - وهو بعض من قرأ بها -: الوزيفُ(16/325)
النسلان، وقرئ: يُزَقُّونَ مبنياً للمفعول ويَزْفُونَ كَيرمُونَ من زَفَاهُ بمعنى حداه كأن بعضهم يَزْفُو بعضاً لتسارعهم إليه، وبين قوله: {فَأَقْبَلَوا} وقوله {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} جمل محذوفة يدل عليها الفَحْوى أي فبلغهم الخبر، فرجعوا من عيدهم ونحو هذا.
قال ابن عرفة: من قرأ بالنصب فهو من زَفّ يَزِفُّ (ومن قرأ بالضم فهو من: أَزَفَّ يزف) قال الزجاج: يَزِفُون بسرعون، وأصله من زفيف النعامة وهو من أشدّ عَدْوِهَا.
قوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} لما عابتوا إبراهيمَ على كسر الأصنام ذكر لهم الدليل الدال على فساد عباتها فقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ووجه الاستدلال: أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبوداً البتة فإذا نحته وشكله على الوحه المخصوص لم يحدث فيه الآثار تصرفه فلو صار معبوداً عند ذلك لكان معناه أن الشيء الذي لم يكن معبوداً إذا حصلت آثارُ تَصَرُّفَاتِهِ فيه صار معبوداً (إلى (ذلك)) وفساد ذلك معلوم ببديهة العقل.
قولهك {وَمَا تَعْمَلُون} في «ما» هذه أربعة أوجه:
أجودها: أنها بمعنى الذي أي وخلق الذي تصنعونه، فالعمل هنا التصوير والنحت نحو: عمل الصانع السِّوار الذي صَاغَه. ويرجح كونها بمعنى الذي تقدم «ما» قبلها فإنها بمعنى الذي أي أتعبدون الذي تنحتون والله خلقكم الذي تعملون (هـ) بالنحت.(16/326)
والثاني: أنها مصدرية أي خلقكم وأعمالكم، وجعلها الأشعريَّة دليلاً على خلق أفعال العباد لله تعالى وهو الحق، إلا أن دليل من هنا غير قوي لما قتدم من ظهور كونها بمعنى الذي، قال مكي: يجب أن تكون ما والفعل مصدراً جيء به ليفيد أن الله خالقُ الأشياء كلها. وقال أيضاً: وهذا أليق لقوله: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] أجمع القراء على الإضافة فدل على أنه خالق الشر وقد فَارَقَ عمرو بنُ عُبَيد الناس فقرأ مِنْ شَرِّ بالتنوين ليثبت مع الله خالقين، وشنع الزمخشري على القائل هنا بكونها مصدريةً.
والثالث: أنها استفهامية وهو استفهام توبيخ، أي: (و) أيُّ شَيْءٍ تَعْمَلُونَ؟
الرابع: أنها نافية، أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم (لا) تعملون شيئاً، والجملة من قوله: {والله خَلَقَكُمْ} حال ومعناها حسن أي أتبعدون الأصنام على حالة تُنَافِي ذلك وهي أن الله خالقكم وخالقهم جميعها، ويجوز أن تكون مستأنفة.
فصل
دلت الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ (ما) مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} معناه وعملكم، وعلى هذا فيصير معنى الآية: والله خلقكم وخلق عملكم.
فإن قيل: هذه الآية حجة عليكم من وجوه:
الأول: أنه تعالى قال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة(16/327)
الفِعل إلى الفاعل ولو كان ذلك دافعاً بتخليق الله لاستحال كونه فعلاً (للعبد) .
الثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخاً لهم على عبادة الأصنام؛ لأنه تعالى لما ذكر هذه الآية بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، فلما تركوا عبادته - سبحانه وتعالى - وهو خالقهم وعبدوا الأصنام لا جَرَمَ أنه سبحانه وبَّخَهُمْ على هذا الخطأ العظيم فقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ولو لم يكونوا فاعلين لأعمالهم لما جاز توبيخهم عليها سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم ولكن لا نسلم أنها حجة لكم فقولكم: لفظ ما مع ما بعدها في تقدير المصدر قلنا: ممنوع لأن سيبويه والأخفش اختلفا هل يجوز أن يقال: أعْجَبَنِي مَا قُمْتَ أي قيامُكَ، فجوزه سيبويه ومنعه الأخفش، وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي وذلك يدل على أن ما مع ما بعده في تقدير المفعول عند الأخفش سَلَّمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر لكنه أيضاً قد يكون بمعنى المفعول. ويدل عليه وجوه:
الأول: قوله: {} والمراد بقوله: «ما تنحتون» المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت فوجب أن يكون المراد بقوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} المعمول لا العمل حتى يكون كُلُّ واحدٍ من هذين اللفظين على وَفْقِ الآخر.
الثاني: أنه تعالى قال: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117] وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العُصيِّ والحبَال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا ههنا.
الثالث: إن العرب تسمي محلّ العمل عملاً، يقال في الباب والخاتم: هذا عملُ فُلانٍ والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه أن لفظ (ما) مع ما بعده كما يجيء بمعنى المصدر قد يجيء أيضاً بمعنى المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى؛ لأن المقصود في الآية تزييفُ مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم(16/328)
لأن الذي جرى ذكره من أول الآية إلى هذا الموضع فهو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال قال ابن الخطيب: و (اعلم أن) هذه (ال) سُّؤَالاَتِ قوية فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية.
قوله: {قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً} لما أورد عليهم الحدة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء (فقالوا: ابْنُوا (لَهُ) بُنْيَاناً) قال ابن عباس: بنوا حائِطاً من حجر طلوه في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرونَ ذارعاً وملأوه ناراً وطرحوه فيها وذلك هو قوله: {فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} وهي النار العظيم قال الزجاج: كل نار بعضها فوق فهي جحيم، والألف والَلام في الجحيم يدل على النهاية (والمعنى في جحيمه أي في جحيم ذلك البنيان ثم قال تعالى: {فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين} ) والمعنى أن في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعندما ألقوه من النار صرف الله عنه ضَرَرَ النار فصار هو الغالب عليهم «وأرادوا كَيْداً» أي شواءً وهو أن يَحْرِقُوه {فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين} المقهورين من حيث سلم الله إبراهيم ورد كيدهم، ولمَّا انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم: «إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ» ونظير هذه الآية قوله تعالى:
{وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} [العنكبوت: 26] والمعنى أهجر دار الكفر أي أذهب إلى موضع دين ربي، وقوله: {سَيَهْدِينِ} أي إلى حيث أمرني بالمصير إليه وهو الشام، وهذا يدل على أن الهداية لا تحصل إلاَّ من الله تعالى. ولا يمكن حمله على وضع الأدلَة وإزاحة الأعذار لن ذلك كان حاصلاً في الزمان الماضي، قال مقاتل: فلما قَدِمض الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالحِين» أي هب لي ولداً صالحاً، لأن لفظ الهِبَةِ غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} [مريم: 53] .(16/329)
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} في كِبَرِهِ ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سنَّ يُوسُفَ(16/329)
بالحِلْم، وأيّ حلم أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح فقال {ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} ؟! .
قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ} (مَعَهُ «متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قلائلاً قال: مَعَ (مَنْ) بلغ السعي؟ فقيل: مع أبيه ولا يجوز تعلقه» ببَلَغَ «؛ لأنه يقتضي بلوغهما معاً حدّ السعي؛ ولا يجوز تعلقه بالسعي لأنه صلة المصدر لا تتقدم عليه، فتعين ما تقدم. قال معناه الزمخشري ومن يتسع في الظرف يجوز تعلقه بالسَّعِي.
فصل
قال ابن عباس وقتادة: معنى بلغ السعي أي المشي معه إلى الجبل، قال مجاهد عن ابن عباس: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم والمعنى أن ينصرف معه ويعينه في علمه قال الكلبي: يعني العمل لله. وهو قول الحسن؛ ومقاتل وابن حبان وابن زيد قالوا: هو العبادة واختلفوا في سنه، فقيل: كان ابنَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سنةً، وقيل: كان ابنَ سَبْعِ سِنينَ.
قوله: {إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} قال المفسرون: لما بُشِّر إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - بالولد قبل أن يولدَ له فقال: هو إذن لله ذبيح، فقيل لإبراهيم: قد نذرَت نذراً فأوف بنذرك فلما أصبح قال يا بُنَيَّ: إنّ أَرَى فِي المَنَام أَنِّي أَذْبَحَكُ، وقيل: رأى في ليلة التروية في منامه كأن قائلاً يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح تروى في لك من الصباح إلى الرَّوَاح، أمِنَ الله أو من الشيطان؟ فلذا سمي يومَ التروية، فلما رأى ذلك أيضاً عرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عَرَفَةَ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمَّ بالنحر فسمي يوم النَحْر. وهو قول أكثر المفسرين. وهذا يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقضة، وعلى هذا فتقدير اللفظ رأى في المنام ما يُوجب أَنِّي أذْبَحُكَ.
فصل
اختلفوا في الذبيح، فقيل: إِسْحَاق. وهو قول عمر، وعليِّ، وابن مسعود،(16/330)
والعباد بن عبد المطلب، وكعب الأحبار، وقتادة، وسعيد بن جبير، ومسروق، وعكرمة والزهري، والسدي، ومقاتل، وهي رواية عكرمة، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس. وقالوا: وكانت هذه القصة بالشام وقيل: إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن، والشعبي، ومجاهد، والكلبي، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح ويُوسف بن (مِهْرَانَ) عن ابن عباس، وكذا القولين رُويا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واحتجَّ القائلون بأنه إسماعيل بقوله عليه (الصلاة و) والسلام:» «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْن» وقال له أعرابي: با ابْنَ الذَّبِيحَيْن فتبسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسئل عن ذلك فقال: «إنّ عبد المطلب لما حَفَر بئْر زَمْزَم نَذّرَ إنْ سهل الله أمرها ليذبحن أحَدَ وَلَده، فخرج السَّهم على عبدِ الله فمنعه أخواله وقالوا له: افْد ابنك بمائةٍ من الإبل» . والذبيح الثاني إسماعيل «
ونقل الأصمعيُّ أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال يا أصمعي: أني عَقْلُكَ؟ ومتى كان إسحاقُ بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكةَ وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحرُ بمكة وقد وصف الله إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين} [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضاً بصدق الوعد فقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح، ووصفه أيضاً بصدق الوعد فقال: «سَتَجِدُونِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» وقال قتادة: «فَبَشَّرْنَاهاَ بإِسْحَاق ومَنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ» فكيف تقع البشارة المتقدمة؟! وقال الإمام أحمد: الصحيح أن الذبيح هو إسماعيل وعليه جمهور العلماء من السَّلف والخلق، قال ابن عباس: وذهبت اليهود أنه إسحاق وكَذَبَت اليهودُ، وروى ابن عباس أنه هبط عليه الكبش من بشير فذبح وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل مه فذبحه بمنى وقيل بالمَقَام، وروي: أنه كان وعلاً. وقيل: كان تَيْساً من الأروى، قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش في البيت حتى أُحْرِقَ فاحْتَرَقَا. وروى ابن عباس: أن الكبش لم يزل معلقاً عند مِيزَاب الكعبة حتى وحش وأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عثمان بن طلحة فقالت امرأة عثمان لم دعاك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قال: إن كنت رأيت قَرْنَي الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن أريك أين نحرها فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل الصلي، وهذا يدل على أن الذبيح كان إسماعيل لأنه الذي كان مقيماً بمكة، وإسحاق لا يعمل أنه(16/331)
كان قدمها في صغره وهذا ظاهر القرآن لأنه ذكر قصة الذبيح، ثم قال بعده: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} [الصافات: 112] قال ابن كثير: من قال: إنه إسحاق فإنما أخذه - والله أعلم - من كعب الأحبار أو من صحف أهل الكتاب وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى ينزل لأجله ظاهر الكتاب العزيزُ.
قوله: {مَاذَا ترى} يجوز أن تكون «ماذا» مركبة مُغَلَّباً فيها الاستفهام فتكون منصوبة وهي وما بعدها في محل نصب «بانظر» لأنها معلّقة له، وأن تكون «ما» استفهامية و «ذا» موصولة فتكون مبتدأ وخبراً. والجملة معلقة أيضاً وأن تكون ماذا بمعنى الذي فيكون معمولاً لانْظُرْ. وقرأ الأخوان تُرِي بالضم والكسر، والمعُولانِ محذوفانِ أي تُرِينِ إيَّاهُ من صبْرك واحتمالِك وباقي السبعة تَرَى - بفتحتين - من الرَّأي.
وقرأ الأعمش والضحاك تُرضى بالضّمِّ والفتح، بمعنى ما يُخَيَّل إليك ويسنح لخاطرك.
قوله: {مَا تُؤمَرُ} يجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي، والعائد مقدر، أي تُؤمَرهُ والأصل: تُؤْمَرُ به، ولكن حذف الجار مطرد فلم يحذف الجر مطرد فلم يحذف العائد إلا وهو منصوب المحل، فليس حذفه هنا كحذفه (في) قولك: جاء الذي مَرَرْتُ وأن تكون مصدرية، قال الزمخشري: أو أمرك على إضافة المصدر للمفعول وتسمية المأمور به أمراً يعني بقوله المفعول أي الذي لم يُسَمَّ فاعله، إلاّ أن في تقدير المصدرية (بفعل) بمني للمفعلول خلافاً مشهوراً.(16/332)
قوله: {ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} لما تؤمر. إنما علق المشيئة لله تعالى على سبيل التبرك والتيمن فإنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قولة على طاعة الله إلاَّ بتَوْفِيقِ اللَّهِ.
فصل
اختلف الناس في أنَّ - عليه (الصلاة و) السلام - كان مأموراً بهذا وهذا الاختلاف يتفرع عليه مسألة أصولية وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور وقت الامْتِثَال، فقال بعضهم: إنه يجوز، وقالت المعتزلة وبعض الشافعية والحنفية: إنه لا يجوز فعلى الأول أنّ الله تعالى أمره بالذبح، ثم إن الله تعالى فسخ هذا التكليف قبل حضور وقته، وعلى الثاني أن الله تعالى ما أمره بذبح ولده بل إنما أمر بمقدّمات الذبح وهي إضجاعه، ووضع السكني على حلقه، والعزم الصحيح في الإتيان بذلك الفعل، ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به لقوله: {ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} فدل على أنه تعالى إنما أمره بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح. وايضاً فإن الذبح عبارة عن قطع الحلقوم، فلعل إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - قطع الحُلْقُومَ إلا أنه كلما قطع جزءاً أعاد الله تأليفه ولهذا السبب لم يحصل الموت. وأيضاً فإنه تعالى لو أمر شخصاً معيناً بإيقاع فعلٍ معين في وقت معين فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن فلو حصل النهي في عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين إما أن يكون عالماً بحال ذلك الفعل فيلزم أن يقال: إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن، وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله (تعالى) وأنه محال، والجواب عن الأول أنه تعالى إنما أمره بالذَّبح لظاهر الآية واما قولهم كلما قطع إبراهيم عليه (الصلاة و) السلام جزءاً أعاد الله تأليفه فهذا باطل لأن إبراهيم عليه (الصلاة و) السلام لو أتى بكل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بكل ما أمر به، وأما قولهم: يلزم إما الأمر بالقبيح وإما الجهل فنقول: هذا بناء على أن الله لا يَأمر إلا بما يكون حسناً في ذاته ولا يَنْهَى إلا عما يكون قبيحاً في ذاته فذلك مبني على تحسين العقل وتقبيحه.
وهو باطل فإن سَلَّمْنَا ذلك فَلِمَ (ى) يجوز أن يكون الأمر بالشيء تارةً حسناً لكون المأمور به حسناً في ذلك الوقت لمصلحةٍ من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسناً كما إذا أراد السيد اختبار طاعة العبد فيقول له: افعل الفعل الفُلاَنِيّ في يوم الجُمْعَة ويكون ذلك الفعل شاقّاً ويكون مقصود السيد ليس أن يأيت العبد بذلك الفعل بل أن يُوَطن العبد نفسه على الانقياد(16/333)
والطاعة ثم إن السيد علم منه توطين نفسه على الطاعة فقد يزيد (الألم عنه) بذلك التكليف فكذا ههنا.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه، لأنه تعالى لو أراد وقوعه لوقع الذبح لا محالة.
فصل في الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقضة
وذلك من وجوه:
الأول: أن هذا التكليف في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح فورد أولاً في النوم حتى يصير ذلك كالمفيد لورُود هذا التكليف الشاقّ، ثم يتأكد ذلك بأحوال اليقضة لكيلا يهجم هذا التكليف الشاق على النفس دفعة واحد بل على التدريج.
الثاني: أن الله تعالى جَعَلَ رؤيا الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام - حقاً، قال تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق} [الفتح: 27] وقال عن يوسف: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وقول إبراهيم: «إنِّي أَرَى فِي المَنَام أَنِّي أَذْبَحُكَ» . والمقصود من هذا تقوية الدلالة على كونهم صادقين فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق دل ذلك نهاية كونهم محقين في كل الأحوال.
فصل
والحكمة في مشاورة الابن في هذا الأمر ليظهر له صبره في طاعة الله فيكون فيه قوة عَيْن لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحكمة إلى هذا الحدِّ العظيم في الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ويحصل للابن الثوابُ العظيمُ في الآخرة والثناء الحَسَن في الدُّنْيَا.
قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} في جوابها ثلاثة أوجه:
أظهرهما: أنه محذوف أي ذَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ أو ظَهَرَ صَبْرُهُمَا، أو أجزلنا لهما أجرهما وقدره بعضهم: بعد الرؤيا؛ أي كان ما كان مما يَنْطِقُ به الحال والوصف مما لا يدرك كُنْهُهُ ونقل ابن عطية: أن التقدير فَلَما أسْلَمَا أسْلَمَا وَتَلَّهُ كقوله:(16/334)
4219 - فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى ... بِنَا بَطْنُ خبْتٍ ذِي قِفَافِ عَقَنْقَل
أي فلما أجزنا أجزنا وانتحى ويُعْزَى هذا لسيبويه وشيخه الخلِيلِ وفيه نظَر من حيث اتخاذ الفعلين الجَاريَيْنِ مَجْرَى الشَّرْط والجواب، إلا أنْ يُقَال: جعل التغاير في الآية بالعطف على الفعل وفي البيت بعمل الثاني في «ساحة» وبالعطف عليه أيضاً، والظاهر أن مثل هذا لا يكفي في التغاير.
الثاني: أنه «وَتَلَّهُ لِلْجَبِين» والواو زائدة وهو قول الكوفيين والأخفش.
والثالث: أنه «وَنَادَيْنَاهُ» والواو زائدة أيضاً كقوله: {وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} [يوسف: 15] فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْت الرؤيا. تَمَّ الكلام هنا. ثم ابتدأ: إنَّ كَذَلِكَ (نَجْزِي المُحْسِنِينَ) وقرأ عَلِيُّ وعبدُ الله وابنُ عباس سلّما وقرئ: اسْتَسْلَمَا «وتله» أي صرعه وأضْجَعَهُ على شِقِّه، وقيل: هو الرمي بقوة وأصله من رمى به على التلِّ وهو المكان المرتفع أو من التَّليل وهو العُنُق، أي رماه على عُنُقِهِ، ثم قيل لكُلّ إسقاط وإن لم يكن على تَلِّ ولا عنق والتَّلُّ الرِّيح الذي يُتَلُّ به،(16/335)
و «الجَبِينُ» ما انكشف من الجبهة من هنا ومن هنا، وشذ جمعه على أجْبُن، وقياسه في القلة أَجْبِنَه كَأرْغفَةِ وفي الكثرة جُبُن وجُبْنَان كرَغِيفٍ ورُغُفٍ وَرُغْفَان.
فصل
والمعنى سلم لأمره الله، وأَسْلَم واسْتَسْلَمَ بمعنًى واحد أي انقاد وخضع. والمعنى أخلص نفسه لله وجعلها سالمة خالصة وكذلك استسلم استخلص نفسه لله، وعن قتادة في سلما: أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه، وقوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي صرعه على شِقِّه فوقع أحد جبينيه للأرض وللوجه جَبِينَانِ والجبهة بينهما. قال ابن الأعرابي: التَّلِيلُ والمَتْلُون المَصْرُوع والمُتلُّ الذي يُتَلُّ به أي يُصْرَعُ والمعنى أنه صرعه على جبينه وقال مقاتل: كبه على جبهته وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} .
فإن قيل: لِمَ قَالَ: صَدَّقْت الرؤيا وكان قد رأى الذبح لم يُذْبَحْ؟ قيل: جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب إسلامها لأمر الله وقد فَعَلاَ. وقيل: قد كان رأى في النوم مصالحة ولم ير إراقَهَ دَم وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم ولذلك قال: قد صدقت الرؤيا، قال المحققون: السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله فلما كلَّفه هذا التكليف الشاقّ الشديد وظهر منه كمالُ الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} وقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ابتداء إخبار من الله تعالى والمعنى إنما كما عَفوْنا عن ذبح ولده كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} الاختبار البَيِّنُ الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنةَ أصعبُ منها، وقال مقاتل: البلاء ههنا النِّعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش، وقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الدِّبْحُ مصدر ذَبَحْتُ والذِّبح أيضاً ما يذبح وهو المراد في هذه الآية وسمي عظيماً لِسمنِهِ وعِظَمِهِ، وقال سعيد بن جبير: حق(16/336)
له أن يكون عظيماً لِعِظَمِ قَدْرِهِ حيث قبله الله فداء ولد إبراهيم وتقدم الكلام على نظير بقيَّة القصة.(16/337)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} «نبياً» نصب على الحال. وهي حال مقدرة قال أبو البقاء: إنْ كَانَ الذَّبيح إسحاقَ فيظهر كونها مقدرة وإن كان إسماعيل هو الذبيح وكانت هذه البشارةُ بشارة بولادة إسحاق فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال قال: فإن قلت: فرق بين هذا وبين قوله: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] وذلك أن الدخول موجود مَعَ وجودِ الدُّخُول والخلود (غير) موجود معهما فقدرت الخلود فكان مستقيماً وليس كذلك المبشر به فإنه معدوم وقت وجود البشارة وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لأن الحال حِلْية لا يقوم إلا في المحلى. وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوة أيضاً بوجوده بل تراخت عنه مدة طويلة فكيف نجعل «نبياً» حالاً مقدرة والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به؟! فالخلود وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة فنقدرها صفتهم لأن المعنى مقدرين الخلود وليس كذلك النبوة فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدرة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق قلتُ: هذا سؤالٌ دقيق المسلك والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف وذلك قوله: وَبشَّرْنَاهُ بوجود إسحاق نبياً أي بأن يوجد مقدّرة نبوتُهُ، والعالم في الحال الوجود لا فعل البشارة، وذلك يرجع نظير قوله تعالى: {فادخلوها خَالِدِين} [الزمر: 73] انتهى. وهو كلام حَسَنٌ.
قوله: {مِّنَ الصالحين} يجوز أن يكون صفة «لِنَبِيًّا» وأن يكون حالاً من الضمير في «نَبِيًّا» فتكون حالاً متداخلة، ويجوز أن تكون حالاً ثانية، قال الزمخشري: وَوُرُودثا على سبيل الثَّناء والتَّقْرِيظِ لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصَّالِحينَ.
قوله: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} يعني على إبراهيمَ في أولاده «وَعَلَى إسْحَاقَ» بأن أَخْرج جميع بَنِي إِسرائيلَ من صُلْبِهِ.(16/337)
وقيل: هو الثناء الحسن على إبراهيم وإسْحَاق إلى يوم القيامة. «وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ» مؤمن «وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ» أي كافر «مُبِينٌ» ظاهر وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأَب فضيلة الابن لئلا تصير هذه الشبهة سبباً لمفاخرة اليهود، ودخل تحت قوله: {مُحْسِنٌ} الأنبياء والمؤمنونَ، وتحت قوله: {وَظَالِمٌ} الكافر والفاسق.(16/338)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ} أنعمنا عليهما بالنبوة {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم} الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم.
(قوله: «وَنَصَرْنَاهُمْ» قيل: الضمير يعود على «موسى وهارون قومهما» ، وقيل: عائد على الاثنين بلفظ الجمع تعظيماً كقوله:
4220 - فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سوَاكُمُ..... ... ... ... ... ... ... . .
{يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] .
قوله: {فَكَانُواْ هُمُ} يجوز في «هم» أن تكون تأكيداً، وأن تكون بدلاً، وأن تكون فصلاً، وهو الأظهر.
فصل
المعنى: فكانوا هم الغلبين على القِبطِ في كُلِّ الأَحْوَال، أما في أول الأمر فظهور الحجة، وما في آخر الأمر فبالدولة والرفعة {وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين} المتنير المشتمل على جميع العلوم المحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا كما قال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] {وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم} دللناهما(16/338)
على طريق الحق عقلاً وسمعاً {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين} تقدم الكلام عليه في آخر القصة.(16/339)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
قوله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين} قرأ العامة إلياس بهمزة مكسورة همزة قطع، وابن ذكوان بوصلها، ولم ينقلها عنه أبو حيان بل نقلها عن جماعةٍ غيره، ووجه القراءتين أنه اسم أعجمي تلاعبت به العرب فقطعت همزته تارة وصلتها أخرى، وقالوا فيه إلياسين كجبرائين، وقيلك تحتمل قراءة الوصل أن يكون اسمه ياسين ثم دخلت عليه «أل» المعرفة كما دخلت على «يَسَعَ» ؛ وقد تقدم وإلياسُ هذا قيلك ابن (إِل) ياسين المذكرو بعد ولد هارون أخي موسى، وقال ابن عباس هو ابن عم اليَسَعَ وقال ابن إسْحَاقَ: هو الياس بن بشير بن فِنْحَاص بن العيران بن هارون بن عمران، ووري عن عبد الله بن مسعود قال: إلياس هو إدريس وفي مصحفه «وَإنَّ إِدْريس لَمِنَ المُرْسَلِينَ» وبها قرأ عبد الله والأعمش وابن وثاب، وهذا قول عكرمة، وقرئ إدْرَاسِ (يل) وإبراهيم وإبراهام، وفي مصحف أبي قراءته وإن أَيلِيسَ بهمزة مكسورة ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت ثم لام مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت ساكنة، ثم سين مفتوحة مهملة.
قوله: {إذ قال} ظرف لقوله «لَمِنَ المُرْسَلِينَ» والتقدير: اذكر يا محمد لقومك إذ قال(16/339)
لقومه: أَلاَ تَتَّقُونَ أي لا تخافون الله ولما خوفهم على سبيل الاحتمال ذكر ما هو السبب لذلك التخويف فقال: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} .
قوله: {بَعْلاً} القراء على تنوينه منصوباً وهو الربّ بلغة اليمن سمع ابن عباس رجلاً منهم يُنْشِد ضَالَّةً فقال آخر: أنا بَعْلُها، فقال: الله أكبر وتلا الآية ويقال: مَنْ بَغْلُ هذه الدار؟ أي مَنْ رَبُّها؟ وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى، قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] ، وقال: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] فعلى هذا التقدير: المعنى أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله تعالى وقيل: هو علم لصنَم بعينه، وقيل: هو علم لامرأة بعينها أتتهم بضلالٍ فاتبعوها ويؤده قراءة من قرأ: «بَعْلاَء» بزنة حمراء.
قوله: {وَتَذَرُونَ} يجوز أن يكون حالاً، على إضمار مبتدأ، وأن يكون عطفاً على «تَدْعُونَ» فيكون داخلاً في حيِّز الإنكار.
قوله: {الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ} قرأ الأخَوَانِ بنصب الثلاثة من ثلاثة أوجه: النصب على المدح أو البدل أو البيان إن قلنا: إنَّ إضافة «أفعل» إضافة محضة، والباقون بالرفع إمَّا على أنه خبر ابتداء مضمر أي هو الله، أو على أن الجلالة مبتدأ وما بعده الخبر روي عن حمزة أنه كان إذا وصل نصب، وإذا وقَفَ رفع. وهو حَسَنٌ جداً وفيه جمع بين الرِّوَايَتَيْنِ.(16/340)
فصل
قال المفسرون: لما قَبَضَ الله حِزْقِيلَ عليه (الصلاة و) السلام - عَظُمَت الأحداثُ في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشك وعبدوا الأوثان من دون الله - عَزَّ وَجَلَّ - فبعث الله إليهم إلياس نبيُّا، وكانت الأنبياء من بني إسرائيلن يبعثون من بعد موسى بتجديد ما نَسُوا من التوراة وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام، وسبب ذلك أن يُوشَع بْن نُون لما فتح الشام بوّأها بني إسرائيل وقسمها بينهم فأحل سبطاً منهم ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان من هم إلياس فبعثه الله إليهم نبياً وعليهم يومئذ ملك يقال له أحب قد أضلّ قومه وأجبرهم على عبادة الأصنام وأن يعبد هو وقومه صنماً يقال له بَعْل وكان طوله عشرينَ ذارعاً وله أربعةُ أوجه فجعل إلياس يدعوهم إلى الله - عَزَّ وَجَلَ - وهم لا يسمعون إلى ما كان من الملك فإنه صدقه وآمن به ثم ذكروا قصة طويلة وذكروا في آخرها ان إلياس رفع إلى السماء وكساه الله الرِّيش وقطع عنه لِذَّة المطعم والمشرب فكان إنسيًّا ملكياً أرضياً سمائياً، قال ابن أبي دُؤَادَ: إنَّ الخضر وإلياسَ يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم في كل عام.
وقيل: إنَّ إلياس وكَل بالفيفي الخَضْرَ وكّل بالعمار. ثُمَّ قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي لمحضرون النار غداً {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} من قومه الذين أوتوا بالتوحيد الخالص فإنّهم محضرون {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} .
قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناء من فاعل «فكذبوه» وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه فلذلك استثنوا ولا يجوز أن يكونوا مُسْتَثْنِيْنَ من ضمير «لَمحْضَرُونَ» ؛ لأنه يلزم أن يكونوا مُنْدَرِجِينَ فيمن كذب لكنهم لم يحضروا لكونهم عباد الله المخلصين. وهو بين الفساد (و) لا يقال: هو مُسْتَثْنًى منه استثناء منقطعاً؛ لأنه يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير هؤلاء لم يحضرُوا. ولا حاجة إلى هذا بوجه إذ به يَفْسُد نَظْمُ الكَلاَمِ.
قوله تعالى: «على إلياسين» قرأن نافع وابن عامر «آلِ يَاسِينَ» بإضافة «آل» - بمعنى الأهل - إلى ياسين والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بيَاسِين؛ كأنه جمع(16/341)
إلياس جمع سَلاَمَةٍ، فأما الأولى فإنه أراد بالآل إلياسَ ولدَ يَاسِين كما تقدم وأصحابَه، وقيل: المراد بياسين هذا إلياس المتقدم فيكون له اسمان مثل إسماعيل وإسماعين وميكائل وميكائين، وآلُهُ: رَهْطُه وقومه المؤمنون، وقيل: المرد بياسين، محمد بن عبد الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: المراد بياسين اسم القرآن كأنه قيل سلام على من آمن بكتاب الله الذي هو يَاسِينُ.
وأما القراءة الثانية، فقيل: هي جمع إلْيَاس المتقدم وجمع باعتبار أصحابه (ك) المَهَالِبَةِ والأشَاعِثَةِ في المُهَلَّبِ وَبِنِيهِ والأَشْعَث وقَوْمِهِ. وهو في الأصل جمع المنسوب إلى إلياس والأصل إلياسي كَأَشْعرِي، ثم استثقل تضعيفها فحذفت إحدى يائي النسب، فلما جمع جمع سلامة التقى ساكنان إحدى اليائين (و) ياء الجمع فحذفت أولاهما لالتقاء الساكين فصار الياسين كما ترى ومثله الأَشْعَرُونَ والخُبَيْبُونَ، قال:
4221 - قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِ (ي)
.. ... ... ... ... .
وقد تقدم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند قوله: {الأعجمين} [الشعراء: 198] إلاَّ أنَّ الزمخشري قد رد هذا بأنه لو كان على ما ذكر لوجب تعريفه بأل، فكان يقال على الإِلْياسِين.(16/342)
قال شهاب الدين: لأنه متى جمع العلم جمع سلامة أو ثنى لزمته الألف واللام لأنه تزول علميته فيقال: الزَّيْدَان، والزَّيْدُون، والزَّينْبَاتُ، ولا يلتفت إلى قولهم: جمَاديَان وعمايتان عَلَمَيْ شَهْرَيْنِ، وَجَبَلَيْنِ لندورهما وقرأ الحسنُ وأبو رجاء على الياسِينَ بوصول الهمزة لأنه يجمع الياسين وقومه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحة لوجود «ال» المعرفة كالزَّيْدِينَ. وقرأ عبد الله على إدْراسين لأنه قرأ في الأول: وإن إدريس، وقرأ أبي علي إيليسين لأنه قرأ في الأول وإن إيليسَ كما تقدم عنه، وهاتان القراءتان تدلاّن على أنّ «الياسين» جمع إلياس.(16/343)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
قوله تعالى: {وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين} تقدم الكلام على نظيره، وقوله: {مُّصْبِحِينَ} حال، وهو من أصْبَحَ التامة أي داخلين في الصَّبَاح، ومنه:
4222 - إذَا سَمِعْتَ بِسُرَى القَيْ ... نِ فَاعْلَمْ بأَنَّه مُصْبِح
أي مقيم في الصباح، وتقدم ذلك في سورة الروم، و «بِاللَّيْلِ» عطف على الجارِّ قَبْلَها، أي ملتبسين بالليل، والمعنى أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام، والمسافر في أكثر الأمر إنما يَمْشِي في الليل أو في النهار فلهذا السبب عبر تعالى عن هذهين الوقتين ثم قال: {وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ليس فِيكُمْ عقول تَعْتَبُون بها قوله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} قرئ بضم النون وكسرها، قال الزمخشري، قال ابن الخطيب: وإنَّما صارت هذه القصة آخر القصص لأنه لم يصبر على أذى قومه، قال(16/343)
المفسرون: بَعَثَ الله تعالى يُونسَ عليه (الصلاة و) السلام إلى أرض نينَوى من أرض الموصل فدعاهم إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فكذبوه وتمادوا عليه على كفرهم فلما طال ذلك عليه خرج من بين اظهرهم وواعدهم حلول العذاب بعد ثلاث كما سياتي.
قوله: {إِذْ أَبَقَ} (ظرف للمُرْسَلِين، أي هو من المرسلين، حتى في هذه الحالة و «أَبَقَ» هرب يقال: أَبَقَ العَبْدُ يأبق إِبَاقاً فهو آبِقٌ و) الجمع إباق كضِرَاب، وفيه لغة ثانية أَبِقَ بالكسر يَأْبَقُ بالفتح وتَأَبَّقَ الرجلُ تشبه به في الاستتار، وقول الشاعر:
4223 - ... ... ... ... .
(وَ) أَحْكَمَتْ حَكَمَاتِ القِدِّ وَالأَبَقَا
قيل: هو القِتب. (قوله) «فَسَاهَمَ» أي فغالبهم في المساهمة وهي الاقْتراع، وأصله (أن) يخرج السهم على من غلب «فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ» أي المغلوبين، يقال أدْحَضَ الله حُجَّتَهُ فَدَحِضَتْ أي أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدَّحْضِ وهو الزّلق يقال: دَحِضَتْ رِجْلُ البعير إذا زَلِقَتْ.
فصل
قال ابن عباس ووهب: كان يونُس وعد قومه العذاب فلما تأخر عنهم خرج كالمتشرِّد منهم فقصد البحر فركب السفينة فاحتبست السفينة فقال الملاحون: ههنا عبد أَبَق من سيده فاقترعوا فوقعة القرعة على يونس فاقترعوا ثلاثاً فوقعت على يونس فقال يونس: أنا الآبق وزَجَّ نَفْسَهَ في الماء.
قوله: {فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ} المليم الذي أتى بما يلام عليه قال:(16/344)
4224 - وَكَمْ مِنْ مُليمٍ لَمْ يُصَبْ بمَلاَمَةٍ ... ومُشْبَعٍ بالذَّنْبِ لَيْسَ لَهُ ذنْبُ
يقال: ألاَمَ فلانٌ أي فعل ما يلام عليه، وقوله {وَهُو مُلِيمٌ} حال. وقرئ «مَلِيمٌ» بفتح الميم من لاَمَ يَلُومُ وهي شاذة جداً، إذا كان قياسها «مَلُومٌ» ؛ لأنها من ذوات الواو كَمقُولٍ ومَصُوبٍ. قيل: ولكن أخذت من ليم على كذا مبنياً للمفعول ومثله في ذلك: شِيب الشيءُ فهوم مَشيبٌ ودُعِيَ فهو مُدْعِيٌّ والقياس مَشُوبٌ وَمدعوٌّ لأنهما من يَشوب ويَدْعُو.
فصل
روى ابن عباس أن يونس - عليه (الصلاة و) السلام - كان يسكن مع قومه فِلَسْطِينَ فَغَزَاهُمْ ملكٌ وسَبَى منهم تسعة أسباط ونصف وبقي سبطان ونصف وكان قد أوحي إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوّكم (أ) وأصابتكم مصبة فادعوني أستجب لكم فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبيٍّ من أنبيائهم أنْ اذْهَبْ ألى ملك هؤلاء الأقوام وقل لهم يبعث إلى بني إسرائيل نبياً اختار يُونُسَ - عليه (الصلاة و) السلام - لقوته وأمانته، قال يونس: الله أمرك بهذا؟ قال: لا ولكن امرت أن أبْعَثُ قوياً أميناً وأنت كذلك فقال يونس: وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعه؟ فألح الملك عليه فغضب يونُس منه وخرج حتى أتى بَحْر الروم فوجد سفينةً مشحونةً فحملوه فيها، فلما أشرف على لُدَّة البحر أشرفوا عل الغرق. فقال الملاحون إن فيكم عاصايً وإلاّ لم يحصل في السفية ما نراه وقال خيرٌ من غَرَقِ الكل فخرج من بينهم يونس فقال يا هؤلاء: أنا العاصي وتلفّف في كساء ورمى بنفسه فالتقمه الحُوتُ وأوحى الله إلى الحوت: لا تكسر منه عظماً ولا تقطَعْ له وصلاً ثم إن السمكة خرجت(16/345)
من نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى (بَحْرٍ) البطائح، ثم دجلة فصعدت به ورمته في أرض نَصِيبِينَ بالعَرَاء، وهوكالفَرْخ المَنتُوفِ لا شَعْرٌ ولا لَحْمٌ فأنبت الله عليه شجرةً من يَقْطين فكان يتسظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد. ثم إنَّ الأَرَضَ (ةَ) أكلتها فحَزِنَ يونُس لِذَلِكَ حُزْناً فقال يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والرِّيح وأَمُصُّ من ثمرها وقد سقطت فقيل (له) : يا يونس تحزن (على شجرة) أَنْبَتَت في ساعة واقْتُلِعَتْ في ساعة ولا تحزن على مائة ألفٍ أو يزيدون تركتهم فانطلقُ إليهم.
قوله: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} من الذاكرين الله قبل ذلك وكان كَثير الذِّكْر، قال ابن عباس: من المصلين وقال وهب: من العابدين. وقال الحسن: ما كنت له صلاة في بطن الحوت ولكن قَدَّمَ عَملاً صالحاً. وقال سعيد بن جبير هو قوله في بطن الحوت: «لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كمنت من الظالمين» .
قوله: {فِي بَطْنِهِ} الظاهر أنه متعلق «بلَبِثَ» وقيل: حال أي مستقر وكان بَطْنه قبراً له إلَى يَوْمِ القيامة، قال الحسن: لم يلبث إلا قليلاً ثم أُخْرِجَ من بطن الحوت. وقال بعضهم: التقمة بكرة ولَفظَهُ عشيا وقال مقاتل بن حَيَّانَ ثلاثة أيام، وعن عطاء: سبعة أيام، وعن الضحاك، عشرون يوماً. وقيل: شهر، وقيل: أربعين يوماً.
قال ابن الخطيب: ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير وروى أبو بردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن قال: سَبَّحَ يُونُسُ في بطن الحوت فسَمِعَت الملائكةُ تسبيحه فقالوا ربنا إنا نسمع صوتاً بأرض غريبة فقال ذاك عبدي يونس عَصَانِي فحَبَسْتُهُ في بطن الحُوتِ في البَحْر، قالوا: العبدُ الصالح الذي كان يصيعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال: نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل.
وروي أن يونس لما ابتلعه الحوت ابتلغ الحوتَ حوتٌ آخرُ أكبرُ منه فلما استقر في جَوْف الحُوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هي حَيٌّ فَخرَّ ساجداً وقال: يار رب اتخذت لك مسجداً لم يعبدك أحد في مثله.
قوله: {فَنَبَذْنَاهُ} أضاف النبذ إلى نفسه مع أن ذلك النبذ إنما حصل بفعل الحوت وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وقوله: {بالعرآء} أي في العراء نحو: زَيْدٌ بِمَكَّةَ.(16/346)
والعراء: الأرض الواسعة التي لا نباتَ بها ومَعْلَم اشتقاقاً من العُري وهو عدم السُّترة وسميت الأرض الجرداء بذلك لعدم استتهارها بشيء والعَرَى بالقصر الناحية ومنه اعْتَرَاهُ أي قصد عَرَاهُ. وأما الممدود فهو كما تقدم الأرضُ الفَيْحَاءُ قال:
4225 - وَرَفَعْتُ رِجْلاً لاَ أَخَافْ عِثَارَهَا ... ونَبَذْتُ بالمَتْنِ العَرَاءِ ثِيَابِي
قوله: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ} أي له، وقيل: عنده {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} اليقطين (يَ) فْعِيلٌ من قَطَنَ بالمكان إذا أقام فيه لا يَبْرَحُ قال المبرد والزجاج: اليقطينُ كل ما لم يكن له ساقٌ من عُود كالقِثَّاءِ والقَرْع والبَطِّيخِ والحَنْظَلِ وهو قوله الحسن و (قتادة) ، ومقاتل.
قال البغوي: المراد هنا القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين «.
واعلم أن في قوله:» شجرة «ما يرد قول بعضهم أن الشجرة في كلامهم ما كان لها ساق من عود بل الصحيحُ أنها أعم، ولذلك بُيِّنَتْ بقوله:» مِنْ يَقْطين «، وأما قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] فلا دليل فيه لأنه استعمال اللفز العام في أحد مدلولاته.
وقيل: بل أنبت الله اليقطين الخاص على ساق معجزةً له، فجاء على أصله قال الواحدي: الآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون:(16/347)
أحدهما: أن هذا اليقطين لم يكن فأنبته الله لأجله، والآخر: أن اليقطين مغروس ليحصل له ظل، ولو كان منبسطاً على الأرض لم يكن أن يستظل به وقال مقاتل بن حَيًّان: كان يونس يستظلّ بالشجرة وكانت وَعْلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بُكْرةً وعشيًّا حتى اشتد لحمه ونَبَتَ شَعْرُهُ.
وقال ههنا:» فنبذناه بالعَرَاءِ «وقال في موضع آخر: {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بالعرآء وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49] ولكنه تداركه النعمة فنَبَذَهُ وهو غير مذموم.
فصل
قال شهاب الدين: ولو بنيت من الوعد مثل يقطين لقلت: يَوْعِيدٌ، لا يقال بحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة كيَعِيدُ مضارع» وَعَدَ «لأن شرط تلك الياء أن تكون للمضارعة، وهذه مما يمتحن بها أهل التريف بعضُهْم بعضاً.
قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} يحتمل أن يكون المراد: «وَأرْسَلْنَاهُ قبل مُلْتَقَمِهِ» ؛ وعلى هذا فالإرسال وإن ذكر بعد الالتقام فالمراد به التقديم. والواو معناها الجمع ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد الالتقام قال ابن عباس: كان إرسال يونسَ بعدما نبذة الحوت وعلى هذا التقدير يجوز أنه أرسل إلى قوم آخرينَ سوى القوم الأُوَل ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين بشريعة فآمنوا بها.
قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} في «أو» هذه سبعة أوجه تحقيقها أول البقرة عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} [البقرة: 19] فالشك بالنسبة إلى المخاطبين أي أن الرَّائِي يشك عند رؤيتهم، والإبهام بالنسبة إلى الله تعالى أبهم أمرهم والإباحة أي أن الناظر إليهم يباح له أن يحذرهم بهذا القدر وكذا التخيير أي هو مخير بين أن يحذرهم كذا أو كذا، والإضراب ومعنى الواو واضحان.(16/348)
قوله: {فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} قال قتادة أرسل إلى أهل نِينَوَى من أرض الموصل قبل الالتقام كما تقدم، وقيل: بعده، وقيل: إلى قوم آخرين. وتقدم الكلام على «أو» قال ابن عباس: إنها بمعنى الواو، وقال مقاتل والكلبي: بمعنى بل، وقال الزجاج: على الأصل بالنسبة للمخاطبين واختلفوا في مبلغ الزيادة، قال ابن عباس ومقاتل: كانوا عِشْرين ألفاً. ورواه أبي بن كعب عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال الحسن: بضعاً وثلاثينَ ألفاً، وقال سعيد بن جبير: تسعين ألفاً فآمنوا يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينَة العذاب فآمنوا فمتعناهم إلى حين انقضاء آجالهم.
قوله
: {فاستفتهم(16/349)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
} قال الزمخشري: معطوف على مثله في أول السورة وإن تباعدت قال أبو حيان: وإذا كان قد عدوا الفَصْلَ بنحو: كُلْ لَحْماً، واضْرِبْ زيداً وخبزاً من أبقح التَّر (ا) كيب فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة؟ قال شهاب الدين: ولِقَائل أن يقول: إن الفصل وإن كَثر بين الجمل المتعاطفة مغتفر، وأما الأول أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام - عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها ومن جملة أقوالهم الباطلبة أنهم أثبتوا الأولاد لله تعالى ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال «فاسْتَفْتِهِمْ» باستفتاء قريش عن وجه الإنكار للبعث أولاً ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض إلى أن أمرهم بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولهم البنين؟
ونقل الوَاحِدِيُّ عن المفسرين أنهم قالوا: إنَّ قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح، قالوا الملائكة بنات الله وهذا الكلام يشتل على أمرين:(16/349)
أحدهما: إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق؟
والثاني: إثبات أن الملائكة إناثٌ، وهذا أيضاً باطل لأن طريق العلم إما الحِسُّ وإما الخبر وإما النظر أما الحِسُّ فمفقود لأنهم لم يشاهدوا كيف خلق الله الملائكة وهو المراد من قوله: {أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} وأما الخبر فمفقود أيضاً لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدر على صدقهم دليل وهذا هو المراد من قولهم: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وأما النظر فمفقود من وجهين:
الأول: أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء البنات على البنين بمعنى إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأَخَسّ إلى الأفضل فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً.
الثاني: أن يتركوا بترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا دليلاً ظهر بطلان مذهبهم، وهذا هوالمراد بقوله: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فقوله: {فاستفتهم} فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ {أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} وهذه جملة حالية من الملائكة، والرابط الواو، وهي هنا واجبة عدم رابط غيره قاله شهاب الدين؛ ويحتمل أن يكون جملة حالية من السؤالين.
قوله: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} العامة على «ولد» فعلاً ماضياً مسنداً للجلالة، أي أتى بالولد؛ تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وقرئ: وَلَدُ الله بإضافة الولد إليه أي يقولون الملائكة ولده، فحذف المبتدأ للعلم به، وأبقى خبره، والوَلَدُ فَعَلٌ بمعنى مفَعُولٌ كالقَبَض فلذلك يقع خبراً عن المفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً، (تقول: هَذِهِ) وَلَدِي وهُمْ وَلَدِي.
قوله: {أَصْطَفَى} العامة على فتح الهمزة على أنها همزة استفهام بمعنى الإنكار والتقريع، وقد حذف معها همزة الوصل استغناءً عنها. وقرأ نافعٌ في رواية وأبو جَعْفَر(16/350)
وشيبةُ والأعمشُ بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجاً وفيه وجهان:
أحدهما: أنه على نية الاستفهام، وإنما حذف للعمل به ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
4226 - قَالُوا: تُجِبُّهَا قُلْتُ: بَهْراً ... عَدَدَ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
أي أتحبها.
والثاني: أن هذه الجملة بدل من الجملة المحكية بالقول وهي: «وَلَد اللَّهِ» أي تقولون كذا وتقولون اصْطَفَى هذا الجنس على هذا الجِنْس.
(قال الزمخشري: وقد قرأ بها حمزة والأعمشُ. وهذا القراءة وإن كان هذا محلها فهي ضعيفة والذي أضعفها) أن هذه الجملة قد اكتنَفَها الإنْكَارُ من جانبيها وذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ... . مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين نسبتين؛ لن لها مناسبةً طاهرةً مع قولهم: «ولد الله» وأما قولهم: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فهي جملة اعتراض بين مقالة الكفرة جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم، ونقل أبو البقاء أنه قرئ «آصْطَفَى» بالمد قال: وهو بعيد جداً.
قوله: {مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} جملتان استفهاميتان ليس إحداهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهم أولاً عما استقر لهم وثبت استفهام إنكار، وثانياً استفهام تعجب من حكمهم بهذا الحكم الجائر وهو أنهم نسبوا أحسن الجنسين إليهم والمعنى: ما لكم كيف تحكمون لله بالبنات ولكم بالبنين؟ «أفَلاَ تَذَكَّرُونَ» تتعظون «أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبينٌ» برهان بين على أن الله ولد {فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ} الذي لكم فيه حجة {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم.(16/351)
قوله: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} قال مجاهد وقتادة: أراد بالجنة الملائكة سموا جنة لاجتِنَنِهم عن الأبْصار.
وقال ابن عباس: جنس من الملائكة يقال لهم الجن منهم إبليس، وقيل: إنهم خُزَّان الجنة، قال ابن الخطيب: وهذا القول عندي مُشْكِلٌ؛ لأنه تعالى أبطل قولهم: الملائكة بناتُ الله، ثم عطف عليه قوله: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} ولاعطف يقتضي كون المعطوف مقابلاً بمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد من الآية غير ما تقدم.
وقال مجاهد: قالت كفار قريش الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سَرَوَاتُ الجِنَّ وهذا أيضاً بعد لن المصاهرة لا تسمّى نسباً.
قال ابن الخطيب: وقد روينا في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن}
[الأنعام: 100] أن قوماً من الزَّنَادِقَة يقولون: إن الله وإبليس أخوان فالله هو الحرّ الكريم إبليس هو الأخر الشديد، فقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} المراد منه هذا المذهب وهذا القول عندي هو أقرب الأقاويل. وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن، ثم قال: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي علمت الجنة أنّ الذين قالوا هذا القول محضرون النار ومعذبون. وقيل: المراد ولقد علمت الجنة أنّ الجنة أنهم سيحضرون في العذاب. فعلى (القول) الأول: الضمير عائد إلى قائل هذا القول وعلى (القَوْلِ) الثَّانِي عَائِدٌ إلى نفس الجنة، ثم إنه تعالى نزَّه نفسه عما قالوا من الكذب فقال {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} في هذا الاستثناء وجوه:
أحدهما: أنه مستثنى منقطع والمستثنى منه إما فاعل «جَعَلُوا» أي جعلوا بينه وبين الجنة نسباً إلى عباد الله؟ .
الثاني: أنه فاعل «يَصِفُونَ» أي لكن عباد الله يصفونه بما يليق به تعالى.
الثالث: أنه ضمير «محضرون» أي لكن عباد الله ناجُون. وعلى هذا فتكون(16/352)
جملة التسبيح معترضةً وظاهر كلام أبي البقاء أنه يجوز أن يكون استثناءً متصلاً لأنه قال: مستثنى من «جَعَلُوا» أو «مُحْضَرُونَ» ويجوز أن يكون منفصلاً وظاهر هذه العبارة أن الوجهين الأولين هو فيهما متصل لا منفصل وليس ببعيد كأنه قيل: وجَعَلَ الناسَ، ثم استثنى منهم هؤلاء وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة نسباً فهو عند الله مُخْلَصٌ من الشِّرك.(16/353)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
قوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} في المعطوف وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على اسم «إنَّ» «وما» نافية و «أَنْتُمْ» اسمها أو مبتدأ و «أنتم» فيهِ تغليب المخاطب على الغائب إذ الأصلُ فإنَّكُمْ ومَعْبُودكُمْ ما أنتم وَهُو؛ فغلب الخطاب (و) «عَلَيْهِ» متعلق بقوله «بفَاتِنِينَ» والضمير عائد على «مَا تَعْبُدُونَ» بتقدير حذف مضاف وضمن «فاتنين» معنى حاملين على عبادته إلا الذي سبق في علمه أنَّه من أهل صَلْي الجَحِيم و «من» مفعول بفَاتِنينَ والاستثناء مفرغ.
الثاني: أنه مفعول معه وعلى هذا فيحسن السكوت على تعبدون كما يحسن في قولك: إنَّ كُلَّ رَجُل وَضَيْعَتَهُ (وحكى الكسائي: إنَّ كُلَّ ثُوْبٍ وثمَنَهُ، والمعنى إنكم مع معبودكم مقرنون) كما تقدر ذلك في كل رجل وضعيته مقترنان وقوله: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} مستأنف أي ما أنتم على ماتعبدون بفاتنين أو بحاملين على الفِتنة، «إلاَّ مَنْ هُوَ ضَالّ» مثلكم، قاله الزمخشري، إلا أن أبا البقاء ضعف الثاني وتابعه أبو(16/353)
حيان في تضعيفه لعدم تبارده (إلى) الفهم قال شهاب الدين: الظاهر أنه معطوف واستئناف «ما أنتم عليه فاتنين» غير واضح والحق أحق أن يتبغ وجوز الزمخشري أن يعود الضمير في «عليه» على الله قال: فإن قلت: كيف يفتونهم على الله؟ .
قلت: يفسدونهم عليه بإغوائهِمْ من قولك: فَتَنَ فلانٌ على امرأته كما تقول: أَفْسَدَها عليه وخيبها عليه و «مَنْ هُوَ» يجوز أن تكون موصولةً أو مصوفةً وقرأ العامة صَالِ الجَحِيم بكسر اللا م لأنه منقوص مضاف حذفت لامه لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ «مَنْ» فأُفْرِدَ «هو» .
وقرأ الحسن وابنُ عبلة بضم اللام مع واو بعدهما فيما نقله الهُذَلِيّ عنهما، (ابن عطية) عن الحسن فقط فيما نقله الزمخشري، وأبو الفضل فأما مع الواو فإنه جمع سلامة بالواو والنون ويكون قد حُمِلَ على لفظ «من» أولاً فأفرد في قوله: «هُوَ» وعلى معناها ثانياً فجمع في قوله: «صَالُو» وحذفت النون للإضافة ومما حمل فيه على اللفظ والمعنى في جملة واحدة وهي صلة الموصول قوله تعالى: {إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] فأفرد في «كَانَ» وجمع في «هُوداً» ومثله قوله:
4227 - وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَاماً ...(16/354)
وأما مع عدم الواو فيحتمل أن يكون جمعاً (أيضاً) وإنما حذفت الواو خطًّا كما حذفت لفظاً وكثيراً ما يفعلون هذا يُسْقِطُونَ في الخطِّ ما يَسْقُطُ في اللفظ، ومنه {يَقُصُّ الحق} [الأنعام: 57] في قراءة من قرأ بالضد المعجمية ورسم بغير ياء، وكذلك:
{واخشون اليوم} [المائدة: 3] ويحتمل أن يكون مفرداً وحقه على هذا كسر اللام فقط لأنه عين منقوص وعين المنقوص مكسورة أبداً وحذفت اللام - وهي الياء لالتقاء الساكنين نحو: هَذَا قَاضِ الْبَلَدِ، وقد ذكروا فيه توجيهين:
أحدهما: أنه مقلوب إذ الأصل صَالِي ثم قدّموا اللام إلى موضع العين، فقوع الإعراب على العَيْنِ ثم حذفت لام الكملة بعد القلب فصار اللفظ كما ترى ووزنه على هذا فَاعٍ، فيقال على هذا: جَاءَ صَالٌ ورَأَيْتُ صالاً، ومَرَرْتُ بِصَالٍ فيصير في اللفظ كقولك: هَذَا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررت ببابٍ ونظيره في مجرد القلب، شاكٍ ولاثٍ في شَائِكٍ ولائثٍ، ولكن شائك ولائث قبل القلب صحيحان فصارا به متعلين مقنوصين بخلاف صَالِي فإنه قبل القلب كان متعلاً منقوصاً فصار به صحيحاً.
والثاني: أن اللام حذفت استثقالاً من غير قلب، وهذا عندي أسهل مما قبله وقدر رأيناهم يَتَنَاسَوْنَ اللام المحذوفة ويجعلون الإعراب على العين، وقد قرئ: {وَلَهُ الجوار} [الرحمن: 24] برفع الراء «وَجَنى الْجَنَّتَيْنِ دَانٌ» برفع النون تشبيهاً بجَناحٍ وجَانٍّ، وقالوا: ما بَالَيْتُ بِهِ بَالَةً، والأصل بَالِيَةً، كعافيةٍ وقد تقدم طَرَفٌ من هذا عند قوله: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] فيمن قرأه برفع الشين.(16/355)
فصل
قال المفسرون: المعنى «فإنكم» تقولون لأهل مكة «وما تعبدون» من الأصنام «ما أنتم عليه» ما تعبدون «بفاتنين» بمُضِلِّينَ أحداً إلا من هو صال الجحيم أي من قدَّر الله أنه سيدخل النار، ومن سبق له في علم الله الشقاوة، واعمل أنه لما ذكر الدلائل على فساد مذاهب الكفار أتبعه بما ينبه على أن هؤلاء الكفار لا يقدِرون على إضلال أحد إلا إذا كان قد سبق حكم الله في حقه بالعذاب والوقوع في النار. وقد احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا تأثير لإيحاء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر قضاءُ الله وقدَرُهُ.
قوله: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} فيه وجهان:
أحدهما: أن «منا» صفة لموصوف محذوف فهو مبتدأ والخبر الجملة من قوله: {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} تقديره: ما أحدٌ مِنَّا إلاَّ له مقام، وحَذْفُ المبتدأ مع «مِنْ جَيِّدٌ فصيحٌ.
والثاني: أن المبتدأ محذوف أيضاً و» إلاَّ لَهُ مَقَامٌ «صفة حذف موصوفها والخبر على هذا هو الجار المتقدم والتقدير:» وما منَّا أحدٌ إلاَّ لَهُ مَقَامٌ «قال الزمخشري: حذف الموصوف وأقام الصِّفَةَ مُقَامَهُ كقوله:
4228 - أَنَا ابْنُ جَلاَ وَطَلاَّعُ الثَّنَايَا..... ... ... ... ... ... ... .
وقوله:
4229 - يَرْمِي بِكَفّي كَانَ مِنْ أرْمى البَشَر ... ورده أبو حيان فقال:» ليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مُقَامَهُ، لأن(16/356)
المحذوف مبتدأ و «إلاَّ لَهُ مَقَامٌ» خبره ولأنه خبره ولأنه لا ينعقد كَلاَمٌ من قوله: «وَمَا مِنَّا أَحَدٌ» ، وقوله: «إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ» محط الفائدة وإن تخيل أن «له مقام معلوم» في موضع الصفة فقد نَصُّوا على أنَّ «إلاَّ» لا تكون صفته إذا حذف موصوفها وأنها فارقت «غَيْراً» إذا كانت صفة في ذلك لِتَمَكُّنِ «غَيْرٍ» في الوصف وعدم تمكن «إلاَّ» فيه؛ وجعل ذلك كقوله: «أَنَابْنُ جَلاَ» أي أنا ابن رَجُلٍ جَلا، و «بكفى كان» أي رَجُلٍ كان فقد عده النَّحويُّونَ من أقبح الضرائر، حيث حذف الموصوف والصفة جملة لم تيقدمها مِنْ بِخلاف قوله:
4230 - «مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ» ... يريدون: منَّا فريقٌ ظعَنَ، ومنا فريق أقام، وقد تقدم نحوٌ من هذا في النِّسَاء عند قوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159] .
وهذا الكلام وما بعده ظاهره أنه من كلام الملائكة، وقيل: من كلام الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فصل
قال المفسرون: يقول جبريل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «وَمَا مِنَّا مَعْشَرَ الْمَلاَئِكَةِ إلاَّ له مقام معلوم» أي ما منا ملك إلا له مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه قال ابن عباس: «ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يُسَبِّح» وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فيهَا مَوْضِعُ أرْبَعَةِ أَصَابعَ إلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ وَاضِعٌ جَبَهَتَهُ سَاجِدٌ لله» وقال السُّدِّيُّ: إلاَّ له مقام معلوم في القُرْبَة والمشاهدة.
قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} مفعول «الصافاون والمسبحون» يجوز أن يكون مراداً أي الصافون أقْدَامنَا وأجْنِحَتَنَا، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى، وأن لا يُرادَ البتة أي نحن من أهل هذا الفعل.(16/357)
فعلى الأول يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العُبُودِية لا غيرهم وذلك يدل على أنَّ طاعات البشر بالنسبة إلى طاعات الملائكة كالعَدَم حتى يَصِحَّ هذا الحصر.
قال ابن الخطيب: وكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال: البشر أقربُ درجةً من الملك فضلاً عن أن يقال: هم أفضل منه أم لا؟! .
قال قتادة: قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} هم الملائكة صَفُّوا أقْدَامَهُمْ، وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض. {وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} أي المصلون المنزهون الله عن السوء بخير جبريل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين كا زعمت الكفار، ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال: {وَإِن كَانُواْ} أي وقد كانوا: يعني أهل ملكة «ليَقولُونَ» لام التأكيد {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين} أي كتاباً من كتب الأولين {لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} أي لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيِّد الأذكار وهو القرآن، {فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم.(16/358)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} وهي قوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] لما هدد الكفار بقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3] أردفه بما يقوي قلب الرسول فقال {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} والنُّصْرَةُ والغلبة قد تكون بالحُجَّة وقد تكون بالدولة والاستيلاء وقد تكون بالدوام والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأوقات بسبب ضَعْفِ أحوال الدنيا فهو الغالب ولا يلزم على هذه الآية أن يقال قد قتل الأنبياء وهزم كثيرةٌ من المؤمنين.
قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} تفسير للكلمة فيجوز أن لايكون هلا محلٌّ من(16/358)
الإعراب، ويجوز أن تكون خبر مبتداً مضمر ومنصوبة بإضمار فعل أي هي أنهم لهم المنصورون أو أعني بالكلمة هذا اللفظ ويكون ذلك على سبيل الحكاية لأنك لو صحرت بالفعل قبلها حاكياً للجملة بعده كان صحيحاً كأنك قلت: عنيت هذا اللفظ كما تقول: كَتَبْتُ زَيدٌ قَائِمٌ، وإنَّ زَيْداً لَقَائِمٌ وقرأ الضحاك: «كَلِمَاتُنَا» جمعاً.
قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أعرضْ عنهم «حَتًّى حِين» قال ابن عباس: يعني الموت، وقال مجاهد: يوم بدر، وقال السدي: حتى يأمرك الله بالقتال، وقيل: إلى أن يأتيهم عذابُ الله، وقيل: إلَى فتحِ مكة.
قال مقاتل بن حيان: نسختها آية القتال «وَأَبْصِرْهُمْ» إذا نزل بهم العذاب عن القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» ذلك من النصرة والتأييد في الدناي والثواب العظيم في الآخرة فقالوا: متى هذا العذاب؟ فقال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} أي إن ذلك الاستجعال جهل لأن لكُلّ شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيَّناً لا يتقدم ولا يتأخر.
قوله: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} العامة على نَزَل مبنياً للفاعل، وعبدُ اللَّهِ مبنياً للمفعول، والجارّ قائم مَقَام فاعله.
والساحة الفناء الخالِي من الأبنية وجمعها سُوحق فألفها عن واوٍ فيُصغَّر على سُوَيْحَةٍ قال الشاعر:
4231 - فَكَانَ سِيَّانِ أَنْ لاَ يَسْرَحُوا نَعَماً ... أَوْ يَسْرَحُوهُ بِهَا وَاغْبَرَّتِ السُّوحُ
وبهذا يتبين ضعف قول الراغب: إنها من ذَواتِ اليَاء حيث عدها في مادة سيح، ثم قال: الساحة المكان الواسع ومنه: ساحة الدر. والسائح الماء الجري في الساحة،(16/359)
وسَاحَ فلانٌ في الأرْض مَرَّ مَرَّ السائح. ورجل سَائِحٌ وَسيَّاح انتهى. ويحتمل أنْ يَكثون لها مادَّتَانِ لكن كان ينبغي أن يذكر ما هي الأشهر أو يذكرهما معاً.
قوله تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} يعني العذاب بساحَتِهِمْ، قال مقاتل: بحَضْرَتِهِمْ وقيل: بعِتابهم.
قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم {فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} فبئس صَبَاح الكَافرين الذين أُنْذِرُوا بالعذاب. لما خرج - عليه (الصَّلاَةُ و) السلام - إلى خَبيْبَرَ أتاها ليلاً، وكان إذا جَاء قوماً بلَيْلٍ لم يَغْزُ حتى يُصْبحَ فلما أصبح خرجت يهودُ (خَيْبَرَ) بمَسَاحِيها ومَكَاتِلِهَا، فلما رأوه قالوا: مُحَمَّد واللَّهِ مُحَمَّد والخميس فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«اللَّهُ
أكبرُ خَرِبَتُ خَيْبَر إنَّا إذا نَزَلْنَا بسَاحَةِ قوْمِ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» .
قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}
قيل: المراد من هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا وفي هذه الكلمة أحوال القيامة وعلى التقديرين فالتكرير زائل، وقيل: المراد من التكرير المبالغة في التَّهديد والتَّهْويلِ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله أولاً: «وَأَبْصِرهُمْ» وههنا قال: «وَأَبْصِرْ» بغير ضمير؟
فالجواب أنه حذف مفعول «أبصر» الثاني إمَّا اختصراً لدلالة الأولى عليه وما اقتصار تقنُّناً في البلاغة ثمَّ إنَّهُ تعالى ختم السورة بتنزيه نفسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهيّة فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة} أي الغلبة والقوة، أضاف الربَّ إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل: ذُو العِزَّة، كما تقول: صاحب صدق لاختصاصه به. وقيل: المراد بالعزة المخلوقة الكائنة بيْن خلقه.
ويترتب على القولين مسألة اليمين.
فصل
قوله: {رَبِّكَ رَبِّ العزة} الربوبية إشارة إلى كمال الحكمة والرحكمة والعزة إشارة إلى كمال القدرة، فقوله: «رب العزة» يدل على أنه القادر على جميع الحوادث، لأن الألف(16/360)
واللام في قوله: «العزة» يفيد الاستغراق وإذا كان الكل ملكاً له لم يبق لغيره شيء فثبت أن قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات «وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ» ، الذين بلغوا عن الله التوحيد بالشرائع «وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبَّ العَالَمِينَ» على هلك الأعداد ونصر الأنبياء - عليه (الصلاة و) السلام -.
رُوي عن عليِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال «مَنْ أَحَبَّ أنْ يَكْتَالَ بِالمِكْيَالِ الأَوْفَى مِنَ الأَجْرِ فَلْيَكُنْ آخِرَ كَلاَمِهِ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وسَلامٌ على المُرْسَلينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ورَوَى أبو أمامة عن أبيِّ بن كعب قال:» قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قرأ سورة «والصافات» أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلِّ جنِّيِّ وَشَيْطَانِ وَتَبَاعَدَتْ مِنْهُ مَرَدَةُ الشياطين وَبِرئَ مِنَ الشِّرْكِ وشَهِدَ لَهُ حَافِظَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أنَّه كَانَ مُؤْمِناً «.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(16/361)
سورة ص(16/362)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
مكية وهي خمس وثمانون آية وسبعمائة واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {ص} قرأ العامة بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور وقد مر ما فيه.
وقرأ أبيٌّ والحسنُ وابن أبي إسحاق وابن أبي عَبْلَة وأبو السّمَال بكسر الدال من غير تنوين وفيه وجهان:
أحدهما: أنه كسر لالتقاء الساكنين وهذا أقرب.
والثاني: أنه (أمر) من المصاداة وهي المعارضة ومنه صوت الصَّدَى لمعارضته لصوتك، وذلك في الأماكن الصُّلبة الخالية.
والمعنى عارض القرآن بعملك فاعل بأوامره (وانته عن نواهيه قاله الحسن. وعنه أيضاً أنه من صَادَيْتُ أي حَادَثْتُ) والمعنى حَادِث النَّاسَ بالقرآن، وقرأ ابنُ(16/362)
أبي إسْحَاقَ كذلك إلاَّ أنه نونه وذلك على أنه مجرور بحرف قسم مقدر حذف وبقي عمله كقولهم: اللَّهِ لاَفْعَلَنَّ بالجر إلا أن الجر يقل في غير الجلالة، وإنما صرفه ذهاباً به إلى معنى الكتاب أو التنزيل وعن الحسن أيضاً وابن السميقع وهَارونَ الأَعْورض صادُ ومنع من الصرف للعملية والتأنيث وكذلك قرأ ابن السَّمَيْقَع وهارُون قافُ ونونُ بالضم على ما تقدم وقرأ عيسى وأبو عمرو - في رواية محبوب - صَادَ بالفتح من غير تنوين وهي تحتمل ثلاثة أوجه: البناء على الفتح تخفيفاً كأينَ وكَيْفَ، والجر بحرف القسم المقدر وإنما منع من الصرف للعملية والتأنيث كما تقدم. والنصب بإضمار فعل أو على حذف حرف القسم نحو قوله:
4232 - فَذَالكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ ... وامتنعت من الصرف لما تقدم. وكذلك قرأ قاف ونون بالفتح فيهما وهما كما تقدم ولم يحفظ التنوين مع الفتح والضم.
فصل
قيل: هذا قسم، وقيل: اسم للسورة كما ذكر في الحروف المقطعة في أوئل(16/363)
السور قال محمد بن كعب القُرَظِيّ: (ص) اسم الصّمد وصادق الوعد وقال الضحاك: معناه صدق الله وروي عن ابن عباس صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها وسلتم قادرين على معارضته.
فإن قيل: قوله {والقرآن ذِي الذكر} قسم فأين المقسم عليه؟ .
فالجواب من وجوه:
أحدهما: قال الزجاج والكوفيون غير الفراء: هو قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} [ص: 64] قال الفراء: لا نجده مستقيماً لتأخيره جداً عن قوله {والقرآن} وقال ثعلب والفراء هو قوله: «كَمْ أَهْلَكْنَا» والأصل: «لكم أهلكنا» فحذف اللام كما حذفها في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] بعد قوله: {وَالشَّمْسِ} ، لما طال الكلام.
الثالث: قال الأخفش هو قوله: «إنْ كُلُّ لَمَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ» كقوله: {تالله إِن كُنَّا} [الشعراء: 97] وقوله: {والسمآء والطارق} {إِن كُلُّ} [الطارق: 1و 4]
الرابع: قوله: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا} [ص: 54] .
الخامس: هو قوله: « (ص) » لأن المعنى والقرآن لقد صدق محمد قاله الفراء وثعلب أيضاً؛ وهذا بناء منهما على جواز تقديم جواب القسم وأن هذه الحرف مقتطع من جملة دالّ هو عليها وكلاهما ضعيف.
السادس: أنه محذوف واختلفوا في تقديره فقال الحَوْفيُّ تقديره: «لَقَدْ جَاءَكُم الحَقُّ» ونحوه وقدره ابن عطية: ما الأمر كما تزعمون. ودل على هذا المحذوف(16/364)
قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ} والزمخشري: أنه لمعجز، وأبو حيان: إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ. قال: لأنه نظير: {يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 1 - 3] .
وللزمخشري هنا عبارة بشعة جداً قال: فإن قلت: قوله: «ص. والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق» كلام ظاهر متناف غير منتظم فما وجه انتظامه؟ .
قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحديث والتنبيه على الإعجاز كما مر في أول الكتاب ثم أتبعه القسم محذوف الجواب بدلالة التَّحدِّي عليه كأنه قال: والقرآن ذِي الذِّكْر إنه لكلام معجز.
والثاني: أن يكون (صاد) خبر مبتدأ محذوف على أنها اسم للسورة كأنه قال: هذه «ص» يعني هذه السورة التي أعجزت العرب وَالقُرآنِ ذي الذكر كما تقول: «هذا حَاتمٌ واللَّهِ» تريد هو المشهور بالسخاء واللَّهِ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمتُ بصاد والقرآنِ ذي الذكر إنه لمعجز. ثم قال: بلِ الذَّينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف (بالحق) وشِقَانِ لله ورسوله (و) جعلتها مقسماً بها وعطفت عليها «والقرآن ذي الذكر» جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله، وأن تريد السورة بعينها ومعناه: أُقْسِمُ بالسُّورةِ الشًّرِيفة والقرآنِ ذِي الذِّكر كما تقول: مَرَرْتُ بالرَّجُلِ الكَرِيم وبالنِّسْبَة المُبَارَكَةِ، ولا تريد بالنّسبة غيرَ الرجل. وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره بل الذين كفروا في عِزَّةٍ وشقاق والقرآنِ ذي الذكر.
(والمراد بكون القرآن ذي الذكر) أي ذي الشرف، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وقال: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] كما تقول: «لِفُلاَنٍ ذٍكْرٌ فِي النَّاسِ» ويحتمل أن يكون معناه ذو النبأ أي فيه أخبرا الأولين والآخرين وبيان العلوم الأصلية والفرعية.(16/365)
قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ} إضراب انتقال من قصةٍ إلى أخرى. وقرأ الكسائي - في رواية سَوْرَةَ - وحماد بن الزِّبرقَان وأبو جعفر وَالجَحْدَريّ: في غَرَّة بالغين المعجمة والراء وقد نقل أن حَمَّاداً الراوية قرأها كذلك تصحيفاً فلما رُدّت عليه قال: ما ظننت أن الكافرين في عِزّةٍ. وهو وَهَمٌ منه، لأن العزة المشار إليها حمية الجاهلية. والتنكير في (عزة وشقاق) دلالة على شدّتهما وتفاقمهما.
فصل
قالت المعتزلة دل قوله: (ذِي الذّكْر) على أنه مُحْدَث، ويؤيده قوله: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} [الأنبياء: 50] {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} [يس: 69] والجواب: أنا نصرف دليلكم إلى ما نقرأه نحن به.
فصل
قال القُتَيْبيُّ: بل لتدارك كلام ونفي آخر، ومجاز الآية أن الله أقسم بصاد والقرآن ذي الذكر أن الذين كفروا من أهل مكة في عزة وحَمِيَّة جاهلية وتَكَبُّر عن الحق وشِقَاق خلاف وعداوة لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال مجاهد: في عزة وتغابن.
قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} (كم) مفعول «أَهْلَكْنَا» و «مِنْ قَرْنٍ» تَمْييزٌ، و «مِنْ قَبْلِهِمْ» لابتداء الغاية والمعنى كم أهلكنا من قبلهم من قرن يعني من الأمم الخالية فنادوا استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النِّقْمَة. وقيل: نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب.
قوله: {وَّلاَتَ حِينَ} هذه الجملة في محل نصب على الحل من فاعل «نَادَوْا» أي استغاثوا والحال أنه مَهْرَبَ ولا مَنْجِى.(16/366)
وقرأ العامة «لاَتَ» بفتح التاء وحينَ منصوبة وفيها أوجه:
أحدها وهو مذهب سيبويه: أن لا نافية بمعنى ليس والتاء مزيدة فيها كزيادتها في رُبَّ وثُمّ، كقولهم: رُبَّت وثُمَّت وأصلها «ها» وُصِلَتْ بلا فقالوا «لاَه» كما قالوا ثُمّهْ «ولا يعمل إلا في الزمان خاصة نحو: لات حين، ولات أوان كقوله:
4233 - طَلَبُوا صُلْحَنَا ولاَتَ أَوَانٍ ... فَأجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاء
وقوله الآخر:
4234 - نَدِمَ البُغَاةُ لاَتَ سَاعَةَ مَنْدَم ... والبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيهِ وَخِيمُ
والأكثر حينئذ حذف مرفوعها تقديره: وَلاَتَ الحِينُ حِينَ مَنَاصٍ. وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع وقد قرأ هنا بذلك بعضهم لقوله:
4235 - مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا ... فَأَنَا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَرَاحُ
أي لا براح لي. ولا تعمل في غير الأحيان على المشهور، وقد تمسك بإعمالها في غير الأحيان في قوله:
4236 - حَنًّتْ نَوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّت ... وَبدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أَجَنَّتِ
فإن» هنّا «من ظروف الأمكنة، وفيه شذوذ من ثلاثة أوجه:(16/367)
أحدهما: عملها في اسم الإشارة وهو معرفة ولا تعمل إلا في النكرات.
والثاني: كونه لا ينصرف.
الثالث: كونه غير زمان. وقد رد بعضهم هذا بأن» هنا «قد خرجت عن المكانية واستعملت في الزمان كقوله تعالى: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] وقوله:
4237 - (وَإِذَا الأُمُورُ تَعَاظَمتْ وَتَشَاكَلَتْ)
فَهُنضاك يَعْتَرِفُون أَيْنَ المَفْزَعُ
كما تقدم في سورة الأحزاب.
إلا أن الشذوذين الأخيرين باقيان. وتأول بعضهم البيت أيضاً بتأويل آخر وهو أن» لات «هنا مُجْمَلَةٌ لا عمل لها، و» هنا «ظرف خبر مقدم و» حنت «مبتدأ بتأويل حذف» أن «المصدرية تقديره» أَنْ حَنَّت «نحو:» تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّي خَيْرٌ مِنْ أنْ ترَاهُ «وفي هذا تكلف وبعد ألى أن فيه الاستراحة من الشذوذات المذكورة أو الشذوذين وفي الوقف عليها مذهبان: أشهرهما عند [علماء] العربية وجماهير القراء السبعة بالتاء المجبورة اتباعاً لمرسوم الخط، والكسائي وحْدَهُ من السبعة بالهاء.
والأول: مذهب الخليل وسِيبوَيْهِ والزَّجَّاج والفراءِ وابْنِ كَيْسَانَ.
والثاني: مذهب المبرد.
وَأَغْرَبَ أبو عبيدة فقال: الوقف على» لا «والتاء متصلة بحين فيقولون: قمت تحين قمت وتحين كان كذا فعل كذا، وقال: رأيتها في الإمام كذا» وَلاَ تَحِينَ «متصلةً، وأنشد على هذا أيضاً قول أبي وَجْزَة السَّعديِّ:
4238 - العَاطِفونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ ... وَالمُطْعِمونَ زَمَانَ لاَ مِنْ مُطْعِمِ(16/368)
ومنه حديث ابن عمر وسأله رجل من عثمان فذرك مناقبهُ ثم قال: «اذْهَبْ تَلاَنَ إلَى أَصْحَابِكَ» يريد «الآن» والمصاحف إنما هي لات حين. وحمل العامة ما رآه على أنه مما شذ عن قياس الخط كنَظَائِرَ له مرت. فأما البيت فقيل فيه: إنه شاذ لا يلتفت إليه وقيل: إنه إذا حذف الحين المضاف إلى الجملة التي فيها «لات حين» جاز أن يحذف (لا) وحدها ويستغنَى عنها بالتاء، والأصل: العاطفُونَ حِينَ لاَتَ حِينَ لاَ من عاطف، فحذف الأول ولا وحدها كما أنه قد صرح بإضافة حين إليها في قوله الآخر: _ _
4239 - وَذَلِكَ حِينَ لاَتَ أَوَانِ حِلْمٍ..... ... ... ... ... ... ... ... ...
ذكر هذا الوجه ابن مالك؛ وهو متعسف جداً وقد يقدر إضافة «حين» إليها من غير حذف لها كقوله:
4240 - تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لاَتَ حِينَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
أي حين لات حين. وأيضاً فكيف يصنع أبو عبيدة بقوله: «وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ، ولات أوانِ» فإِنه قد وجدت التاء من «لا» دُونَ حِينَ؟!
الوجه الثاني من الأوجه السابقة: أنها عالمة عمل «أن» يعني أها نافية للجِنْس فيكون «حِينَ مَنَاصٍ» اسمها، وخبرها مقدر تقديره ولات حِينَ مَنَاصٍ لَهُمْ، كقولك: لاَ غُلاَمَ سَفَرٍ لَكَ. واسمُها معربٌ لكونه مضافاً.(16/369)
الثالث: أنّ بعدها فعلاً مقدّراً ناصباً حلين مناص بعدها أي لات أرى حينَ مناص لهم بمعنى لَسْتُ أرى ذلك، ومثله: «لاَ مَرْحَباً بِهِمْ ولا أهْلاً ولا سَهْلاً» أي لا أتوا مرحباً ولا وَطِئُوا سهلاً ولا لَقُوا أهلاً.
وهذا الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان وليس إضمار الفعل هنا نظير إضماره في قوله:
4241 - ألاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
لضرورة أن اسمها المفرد النكرة مبني على الفتح فلما رأينا هنا معرباً قدرنا له فعلاً خلافاً للزجَّاج فإنه يجوز تنوينه في الضرورة ويدعي أن فتحته للإِعراب، وإنما حذف التنوين لتخفيف ويَسْتَدِلُّ بالبيت المذكور وقد تقدم تحقيق هذا.
الرابع: أن لات هذه ليست هي ليس فأبدلت السين تاء، وقد أبدل تمنها في مواضع قالواك النَّاتُ يريدون الناسَ ومنه سُتٌّ وأصله سُدْسٌ، وقال:
4242 - يَا قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي السَّعْلاَتِ ... عَمْرٌو بْنُ يَرْبُوع شِرار النَّاتِ
لَيْسُوا بأخْيَارٍ وَلاَ أَليَاتِ ... وقرئ شاذاً: «قل أعوذُ بربِّ النّاتِ» إلى آخرها [الناس: 1 - 6] يريد شِرار(16/370)
الناسِ ولا أكياس فأبدل، ولما أبدل السين تاءً خاف من التباسها بحرف التمني فقلب الياء ألفاً فبقيت تاء «لات» وهو من الاكتفاء بحرف العلة، لأن حرف العلة لا يبدل ألفاً إلاّ بشرطٍ منها أن يتحركَ، وأن ينفتحَ ما قبله فيكون «حين مناص» خبرها والاسم محذوف على ما تقدم والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيَّةِ.
وقرأ عيسى بن عمر: ولاتِ حينِ مناص بكسر التاء وجر حين. وهي قارءة مشكلةٌ جداً، زعم الفراء أن لات يجر بها وأنشد:
4243 - وَلَتَنْدمُنَّ وَلاَتَ سَاعَةِ مَنْدَمِ ... وأنشد غيره:
4244 - طَلَبُوا صُلحَنَا وَلاَتَ أوان ... وقال الزمخشري: ومثله قول أبي زَبيد الطَّائِي:
4245 - طَلَبُوا صُلْحَنَا ... ... ... ... . ... البيت قال: فإن قلت: ما وجه الجر في أوانٍ «؟ .
قلت: شُبّه بإذْ في قَولِهِ:
4246 - وَأَنْتَ إِذْ صَحِيح ... في أنه زمان قطع عنه المضاف إليه وعوض منه التنوين لأن الأصل: وَلاَت أوانَ صلح. فإن قلت: فما تقول في» حِينَ مَنَاص «والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف إليه من» مناص «لأن أصله حين مناصهم منزلة قطعه من» حين «لاتّحاد(16/371)
المضاف والمضاف إليه وجعل تنوينه عوضاً عن المضاف المحذوف، ثم بين الجهة لكونه مضافاً إلى غير متمكن انتهى.
وخرجها أبو حيان على إضمار» من «والأصل ولات مِنْ حين ماص فحذفت» مِنْ «وبقي عملها نحو قولهم:» عَلَى كَمْ جذع بنيتَ بَيْتكَ «أي مِنْ جذعٍ في أصحِّ القولين وفيه قول آخر: بالإضافة مثل قوله:
4247 - ألاَ رَجُلٍ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً ... أنشده بجرّ رجلٍ أي ألا مِن رجلٍ.
4248 - ... ... ... ... ... ... ... ... وقال أَلاَ لاَ مِنْ سَبِيل إلى هِنْدِ
قال: ويكون موضع (من حين مناص) رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقول: لَيْسَ مِنْ رَجُلِ قائماً والخبر محذوف، وهذا على قول سيبويه، (و) على أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول الأخفش» ولات أوان «على حذف مضاف يعني أن (هـ) حذف المضاف وبقي المضاف إليه مجرواً على ما كان والأصل ولات حين أوان.
وقدر هذا الوجه مكي بأنه كان ينبغي أن يقوم المضاف إليه مُقَامه في الإِعراب فيرفع.(16/372)
قال شهاب الدين: قد جاء بقاءُ المضاف إليه على جرِّه وهو قسمان قليلٌ وكثيرٌ: فالكثير أن يكون في اللفظ مثل المضاف نحو قوله:
4249 - أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ امْرَءًا ... وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَا
أي وكل نار، والقليل أن لا يكون كقراءة من قرأ:» وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةِ «بجر الآخرة فليكن هذا منه. على أن المبرد رواه بالرفع على إقامته مُقَام المضاف، وقال الزجاج: الأصل ولات أواننا، فحذف المضاف إليه فوجب أن لا يعرف وكَسَرَهُ لالتقاء الساكني.
وقال أبو حيان: وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري أخذه من أبي إسحاق يعني الوجه الأول وهو قوله ولات أوان صلح. هذا ما يتعلق بجر» حين «وأما كسرة لاَتِ فعلى أصل التقاء الساكينن كحِين إلا أنه لا يعرف تاء تأنيث إلاّ مفتوحةً وقرأ عيس أيضاً بكسر التاء فقط ونصب حين كالعامة.
وقرأ ايضاً ولات حينُ بالرفع. مناص بالفتح وهذه قراءة مشكلة جداً لا تبعد عن الغلط من راويها عن عيسى فإنه بمكان من العِلم المانع له من مثل هذه القراءة. وقد خرجها أبو الضل الرازي في لوامحه على التقديم والتأخير وأن «حين» أُجْرِيَ مُجْرَى «قَبْلُ وبَعْدُ» في بنائه على الضم عند قطعه عن الإضافة بجامع ما بينه وبينها من الظرفية الزمانية و «مناص» اسمها مبين على الفتح فصل بينه وبينها بحين المقطوع عن الإضافة والأصل: ولات مَنَاصَ حينُ كذا، ثم حذفت المضاف إليه حين وبني على الضم وقدم فاصلاً بين لات واسمها قال: وقد(16/373)
يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه وقد ريو في تار لات الفَتْحُ والكسرُ والضمُّ.
(قوله) : {فَنَادَواْ} لا مفعول له لأن الأصل فَعَلُوا النداء من غير قصد منادًى وقال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطربوا نادى بعضهم لبعض مناص أي عليكم بالفراء فلما أتاهم العذاب قالوا مناص فقال الله لهم: وَلاَت حِينَ مناص قال القشيري فعلى هذا يكون التقدير نفادوا فحذف لدلالة ما بعده (عليه) .
قال شهاب الدين: فيكون قد حذف المنادى وهو بعضاً وما ينادون به وهو «مناص» أي نادوا بعضهم بهذا اللفظ وقال الجُرْجَانيّ: أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا مَنْجَى ولا فَوْتَ، فلما قدم «لا» وأخر «حين» اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداءً وخبراً مثل ما تقول: جَاءَ زَيْدٌ راكباً، ثم نقول: جاء وهُوَ رَاكبٌ، «فحين» طفرف لقوله: {فَنَادَواْ} (وقال أبو حيان: وكون أصْل هذه الجملة فنادوا حين لا مناص وأن حين ظرف لقوله) : فنادوا دعوى أعجمية في نظم القرآن والمعنى على نظمه في غاية الوضوح قال شهاب الدين: الجُرْجَانيّ لا يعني أن «حين» ظرف «لِنَادَوْا» في التركيب الذي عليه القرآن الآن إنما يعني بذلك في أصل المعنى والتركيب كما شبه ذلك بقوله: «جَاءَ زَيْدٌ راكباً، ثم جَاءَ زَيْدٌ وَهُو راكبٌ» «فراكباً» في التركيب الأول(16/374)
حال وفي الثاني خبراً مبتدأ حين كان (في الأصل) ظرف للنداء، ثم صار خبر «لات» أو اسمها على حَسبِ الخلاف المتقدم.
و «المَنَاص» مَفْعَلٌ من نَاصَ يَنُوصُ أي هرَبَ فهو مصدر يقال نَاصَهُ يَنُوصُهُ إذا فَاَهُ فهو متعدٍّ، ونَاصَ يَنُوصُ أي تأخر، ومنه نَاصَ عن قِرْنِهِ أي تأخر عنه جبناً. قاله الفراء وأنشد قَوْلَ امْرئِ القيسل: [من الطويل]
4250 - أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى إِنْ نأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتَقْصُرَ عَنْهَا حِقْبَةً وتَنُوصُ
قال أبو جعفر النحاس: نَاصَ يَنُوصُ إذا تقدم فيكون من الأضْدَاد، واسْتَنَاص طلب المَنَاصَ، قال حارثة بن بدر:
4251 - غَمْرُ الجِرَاءِ إِذَا قَصَرْتُ عِنَانَهُ ... بِيدي اسْتَنَاصَ وَرَامَ جَرْيَ المِسْحَلِ
ويقال: نَاصَ إلى كَذَا يَنُوصُ نَوْصاً إذَا التَجأ إليه. قال بعضهم المناص المَنْجَى والغَوْثُ، يقال نَاصَهُ ينُوصُهُ إذا أغاثه قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطربوا في الحب قال بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخُذُوا حذْرَكم، فلما نزل بهم العذاب ببدر، وقالوا مناص فانزل الله تعالى: ولات حين مناص أي ليس حين هذا القول.(16/375)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
قوله: {وعجبوا أَن جَآءَهُم} أي مِنْ أَنْ، ففيها الخلاف المشهور. «وقَالَ الكَافِرُونَ» من باب وضع الظاهر موضع المضر شهادةً عليهم بهذا الوصف القبيح.
فصل
لما حكى عن الكفار في كونهم في غزّة وشقاقٍ أتبعه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال: {وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ} وفي قوله: «منهم» وجهان:
الأول: أنهم قالوا: إن محمداً مساوٍ لنا في الخِلْقَة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة فكيف يعقل أن يُخْتَصَّ من بيننا بهذا المنصب العالي؟ {.
والثاني: أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهلهم (لأنهم جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا ثم إن هذا الرجل) من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيداً عن الكذب والتهمة وكان ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إنهم لحماقتهم يتعجبون له من قوله. ونظيره قوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون: 69] {وَقَالَ الكافرون هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} مبالغة في «عجب» كقولهم: رَجُلٌ طُوَال وأمْر سُرَاعٌ، هما أبلغ من طَوِيل وسَرِيع، وقرأ عليٌّ والسُّلَمي وعيسى وابن مِقْسم: عُجَّاب بتشديد الجيم. وهي أبلغ مما قبلها فهي مثل رجل كريم وكُرَّام.(16/376)
قال مقاتل: وعجاب - يعني بالتخفيف - لغة أَزْدِ شَنُوءَةَ، وهذه القراءة أعني بالتشديد كقوله: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} [نوح: 22] وهو أبلغ من كُبَارٍ وكُبَارٌ أبلغ من كَبِير، وقوله: «أَجَعَلَ» أي أصَيَّرها إلَهاً واحداً في قوله وزعمه.
قوله: {وانطلق الملأ مِنْهُمْ} الملأ: هم القوم الذين إذا حضروا امتلأت العيونُ والقلوبُ من مهابتهم، وقوله «مِنْهُمْ» أي من قريش انطلقوا عن مجلس أبي طالب بعد ما بكَّتهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالجواب العنيد قائلين بعضهم لبعض: «أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا على آلِهَتِكُمْ» ، وذلك «أن عُمَرَ بْنَ الخطاب أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسةً وعشرينَ رجلاً أكبرهم سنًّا الوليد بن المغيرة قال لهم: امشوا إلى أبي طالب فأتَوْا أبا طالب وقالوا له: انت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا قد أتينَاك لتقضيَ بيننا وبين ابن أخيك، فأرسل أبو طالب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فدعا به فقال يا ابن أخي: هؤلاء قومك يسألونَك السَّوَاءَ فلا تَمِلْ كُلَّ الميل على قلومك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» مَاذَا تسألون؟ «فقالوا: ارْفُضْ ذكرَ آلهتنا ونَدَعُكَ وآلهتَك فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أعطوني كلمةً واحدة تملكون بها العرب وتدين لكمن بها العجز فقال أبو جهل لله أبوك لنُعْطِيكَها وعشراً أمثالها فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً كيف يسع الخلق كلهم إله واحد؟} {هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي عجيب» .
قوله: {أَنِ امشوا} يجوز أن تكون «أن» مصدرية أي انطلقوا بقولهم أَنِ امْشُوا، وأن تكون مفسِّرَة إما «لانْطَلَقَ» لأنه ضمن معنى القول، قول الزمخشري: لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم أن يتكلموا ويتعارضوا فيما جرى لهم انتهى.
وقيل: بل هي مفسرة لجملة محذوفة في محل حال تقديره وانْطَلَقُوا يتحاورون أَن امْشوا.
ويجوز أن تكون مصدرية معمولة لهذا المقدر وقيل: الانطلاق هنا الاندفاع في(16/377)
القول والقول والكلام نحو: انْطَلَقَ لسانُه فان مفسرة له من غير تضمين ولا حذف. والمشيُ الظاهرُ أنَّه هو المتعارف. وقيل: (بل) هو دعاء بكثرة الماشية. وهذا فاسد لفظاً بالألف؛ أي صار ذا ماشية فكان ينبغي على أن يقرأ أَمْشُوا بقطع الهمزة مفتوحة. وأما المعنى فليس مراداً البتة وأي معنى على ذلك، إلا أن الزمخشري ذكر وجهاً صحيحاً من حيث الصناعة وأقرب معنًى ممَّا تقدم (فقال) : ويجوز أنهم قالوا امشوا أي اكثروا واجتمعوا من: مَشَت المرأة إذا كثرتْ ولاَدَتُها، ومنه: الماشية للتفاؤل انتهى وإذا وقف على «أن» وابتدئ بما بعدها فليبتدأ بكسر الهمزة لا بضمِّها، لأن الثالث مكسرو تقديراً إذ الأصل: امْشِيُوا، ثم أُعِلّ بالحذف، وهذا كما يبتدأ بضم الهمزة في قولك: أُغْزِي يا امرأة، وإن كانت الزاي مكسورة لأنها مضمومة، إذا الأصل اعْزُوِي كاخْرُجِي فأعلّ بالحذف.
فصل
لما أسلم عمر وحصل للمسلمين قوة لمكانه قال المشركون: إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لشيء يراد بنا، وقيل: يراد بأهل الأرض، وقيل: يراد بمحمد (أن) يملك علينا، وقيل: إن دينكم لشيءٌ يُرَادُ أي يطلب ليؤخذ عنكم.
قوله: {مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة} أي ما سمعنا بهذا الذي يقول (هـ) محمد من التوحيد في الملة الآخرة، قال ابن عباس والكلبي ومقاتل: يعنون في النصرانية لأنها آخر المِلَلِ وهُمْ لا يوحدون بل يقولون: ثالثُ ثلاثةٍ، وقال مجاهد وقتادة: يعنون ملَّة قريشٍ دينهم الذي هم عليه.(16/378)
قوله: {فِى الملة} وفيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق «بسَمِعْنَا» أي (لم نسمع في الملة الآخرة بهذا الذي جئت به.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من هذا أي ما سمعنا بهذا كائناً في الملة الآخرة) أي لم نسمع من الكُهَّان ولا من أهل الكتب أنه يحدث توحيد الله في الملة الآخرة. وهذا من فَرْطِ كَذِبِهم.
قوله: {إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق} أي افتعال وكذب.
(قوله) : أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ (مِنْ بَيْنِنَا) ، قد تقدم حكم هاتين الهمزتين في أوائل آل عمران، وأن الوارد منه في القرآن ثلاثى أماكن، والإضرابات في هذه الآية واضحة و «أم» منقطعة.
فصل
المعنى أأنزل عليه الذكر أي القرآن من بيننا وليس بأكبرنا ولا أشرفنا، وهذا استفهام على سبيل الإنكار فأجابهم الله تعالى بقوله: {بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} (أي وحيي وما أنزلتُ) ، (قويل: بل هم في شك من ذكري) أي من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ» ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول، وقيل: معنى «بل هم في شك من ذكري» هو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يخوفهم من عذاب الله لو أصروا على الكفر. ثم إنهم أصروا على الكفر ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سبباً لشكهم في صدقه و {قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال: 32] (مِنَ السَّمَاءِ) .
قوله: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} يعني مفاتيح نعمة ربك وهي النبوة يعطونها(16/379)
من شاءوا، ونظيره: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] أي نبوة ربك العزيز في ملكه الكامل القدر الوهاب أي وهاب النبوة لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قوله: {أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا} لما قال: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} فخزائن الله تعالى غير متناهية كما قال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] ومن جملة تلك الخزائن السموات والأرض، فلما ذكر الخزائن أولاً على العموم أردفها بذكر السموات والرض وما بينهما يعني أن هذه الأشياء أحد أنواع خزائن الله فإذا كانوا عاجزين عن هذا القسم فبأن يكونوا عاجزين عن كل خزائن الله أولى.
قوله: {فَلْيَرْتَقُواْ} قال أبو البقاء: هذا كلام محمول على المعنى أي إِن زعموا ذلك فليرتقوا، فجعَلَهَا جواباً لشرط مقدر.
وكثيراً ما يفعل الزمخشري ذلك، ومعنى الكلام إن ادَّعَوْا شيئاً من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون.
قال مجاهد: أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه، وهذا أمر توبيخ وتعجيز واستدل حكماء الإسلام بقوله: {فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب} على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات أسباباً، وذلك يدل على ما ذكَرْنَا.
قوله: {جُندٌ} يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم جند و «ما» فيها وجهان:
أحدهما: أنها مزيدة.
والثاني: أنها صفة لجند على سبيل التعظيم للهزء بهم أو للتحقير ومثله قوله امرئ القيس:
4252 - ... ... ... ... ... ... ... . ...(16/380)
وَحَدِيثٍ مَا عَلَى قَصْرِهِ
وقد تقدم هذا في أوائل البقرة و «هنالك» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن يكون خبر الجند و «ما» مزيدة، ومهزوم نعت لجند. ذكره مكي.
الثاني: أن يكون صفة لجند.
الثالث: أن يكون منصوباً «بمهزوم» ومهزوم يجوز فيه أيضاً وجهان:
أحدهما: أنه خبر ثانٍ لذلك المبتدأ المقدر.
والثاني: أنه صفة لجند إلا أن الأحسن على هذا الوجه أن لا يجعل «هنالك» صفة بل متعلقاً به لئلا يلزم تقدم الوصف غير الصريح على الصرح.
و «هنالك» مشار به إلى موضع التقاول والمحاورة بالكلمات السابقة وهو مكة أي سيهزمون بمكة، وهو إخبار بالغيب. وقيل: مشار به نُصْرَة الأصنام، وقيل: إلى حَفْر الخَنْدق يعني إلى مكان ذلك.
الثاني من الوجهين الأولين: أن يكون «جند» مبتدأ و «ما» مزيدة، و «هنالك» نعت ومهزوم خبره، قاله أبو البقاء قال أبو حيان: وفيه بعد لتفلته عن الكلام الذي قبله قال شهاب الدين وهذا الوجه المنقول عن أبي البقاء يبقه إليه مكي.
قوله: {مِّن الأحزاب} يجوز أن يكون لجند وأن يكون صفة «لمهزوم» وجوز أبو البقاء أن يكون متعلقاً به وفيه بعد لأن المراد بالأحزاب هم المهزومون.(16/381)
فصل
المعنى أن الذين يقولون هذا القول جند هنالِك و «ما» صلة مهزومة مغلوب من الأحزاب أي من جملة الأجناد، عين قريشاً، قال قتادة: أخبر الله تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو بمكة أنه سيزم جندَ المشركين فقال: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] فجاء تأويلها يوم بدر، وهنالك إشارة إلى (يوم) بدر ومصارعهم، وقيل: يوم الخندق. وقال ابن الخطيب: والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة لأن المعنى أنهم جند سيصيرون منهزمين في الموضع الذي ذكروا فيه الكلمات وذلك الموضع هو مكة فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون منهزمين في مكة وما ذاك إلا يوم الفتح.
وقوله: «من الأحزاب» أي من جملة الأحزاب أي هم من القرون الماضية الذين تَحَزَّبوا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا وأهلكوا.(16/382)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
ثم قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معزياً له: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد} قال ابن عباس ومحمد بن كعب: ذو البِناء المحكم، وقيل: أراد ذو الملك الشديد الثابت، وقال القتيبيّ: تقول العرب: هم في عِزٍّ ثابت الأوتاد بريدون أنه دائم شديد، وقال الضحاك: ذو القوة البطش، وقال عطية: ذو الجنود والجموع الكثيرة، وسميت الأجناد أوتاداً لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم وهي رواية عطية العوفي عن ابن عباس يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون ملكه كما يثبت إلا بالأوتاد والأطْنَاب كما قال الأفوه الأودي:
4253 - والْبَيْتُ لاَ يُبْتَنَى إلاَّ عَلَى عُمُدٍ ... وَلاَ عِمَادَ إذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادُ(16/382)
فاستعير لثبات العز والملك واستقرار الأمر كقول الأسود بن يعفر:
4254 - وَلَقَدْ غَنُوا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشةٍ ... فِي ظِلّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ
والأوتاد جمع وتد فيه لغات: وَتِدٌ بفتح الواو وكسر التاء وهي الفصحى، ووتَدَ بفتحتين، وَوَدٌّ بإدغام التاء في الدال قال:
4255 - تُخْرِجُ الْوَدَّ إذَا ما أَشْجذَتْ ... وَتُوَارِيه إذَا تَشْتَكِرْ
ووت بإبدال (الدال) تاء، ثم إدغام التاء فيها، وهذا شاذ؛ لأن الأصل إبدال الأول للثاني لا العكس، وقد تقدم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قوله: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة} [آل عمران: 185] .
ويقال: وَتِدٌ (وَاتِد) أي قويّ ثابتٌ وهو مثلُ مجازِ قولهم: شُغل شاغِل.
أنشد الأصمعي:
4256 - لاَقَتْ (عَلَى) الْمَاءِ جُذَيْلاَ واتدا ... وَلَمْ يَكُنْ يُخْلِفُهَا الْمَوَاعِدَا
وقيل: الأوتاد هنا حقيقة لا استعارة، (و) قال الكبي ومقاتل: الأوتاد جمع الوَتدِ وكان له أوتاد يعذب الناس عليها فكان إذا غضب على أَحَد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد تشدّ كل يد ولك رجل منه إلى سارية ويتركه كذلك في(16/383)
الهواء بين السماء والأرض حتى يموت. وقال مجاهد ومقاتل بن حيَّان كان يمد الرجل مستلقياً على الأرض ثم يسد يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد. وقال السدي: كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقاربَ والحيَّاتِ. وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه، ثم قال: {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} تقدم الخلاف في الأيكة في سورة الشعراء.
قوله: {أولئك الأحزاب} يجوز أن تكون مستأنفةً لا محل لها (من الإعراب) وأن تكون خبراً، والمبتدأ قال أبو البقاء (من) قوله: «وعاد» وأن يكون من «ثمود» وأن يكون من قوله «وقوم لوط» .
قال شهاب الدين: الظاهر عطف (عاد) وما بعدها على «قوم نوح» واستئناف الجملة بعده، وكان يسوغ على ما قاله أبو البقاء أن يكون المبتدأ وحده {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} .
فصل
المعنى أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم وكذلك قومك هم من جنس الأحزاب المتقدمين.
وقيل: المعنى أولئك الأحزاب مع كمال قوّتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء (المساكين) ؟
قوله: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} إن نافية ولا عمل لها هنا البتة ولو على لغة من قال:(16/384)
4257 - إنْ هُوَ مُسْتوْلِياً عَلَى أَحَدٍ..... ... ... ... ... ... ... .
وعلى قراءة: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ} [الأعراف: 194] لانتقاض النفي ب «إلاّ» فإن انتقاضه مع الأصل وهي «ما» مبطل فكيف بفرغها؟ وقد تقدم أنه يجوز أن تكون جواباً للقسم.
فصل
المعنى كل هذه الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان ذلك بعد حين، والمقصود منه زجر السامعين. ثم بين تعالى أن هؤلاء المذكبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم {وَمَا يَنظُرُ هؤلاءآء} أي وما نتظر هؤلاء يعني كفار مكة {إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً} وهي نفخة الصور الأولى كقوله: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 49 - 50] والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا ينتظر الشيء فهو ماد الطَّرْف إليه يقطع كل ساعة في حضوره. وقيل: المراد بالصيحة عذاب يفجأهُمْ ويجيئهم دَفْعةً واحدة كما يقال: صَاحَ الزمانُ بهم إذَا هَلَكُوا (قال) :
4658 - صَاحَ الزَّمَانُ بآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً ... خَرُّوا لِشدَّتِهَا عَلَى الأّذْقَانِ
ونطيره قوله تعالى: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} [يونس: 102] .
قوله: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} يجوز أن يكون «لها» رافعاً «لِمنْ فَوَاقٍ» بالفاعلية؛ لاعتماده(16/385)
على النفي، وأن يكون جملة من مبتدأ وخبر وعلى التقديرين فالجملة المنفية في محل نصب صفة «لصَيْحَة» و «من» مزيدة وقرأ الأخوان: «فُوَاق» بضم الفاء، والباقون بفَتْحها، قال الكسائيُّ والفراءُ وأبو عبيدة: هما لغتان وهما الزمان الذي بين حَلْبَتَي الحَالِبِ، ورَضْعَتَي الرَّاضع، والمعنى ما لها من توقف قدر فواق ناقة.
وفي الحديث: «العِيادَةُ قَدْر فَوَاق نَاقَةٍ» وهذا في المعنى كقوله: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} [الأعراف: 34] .
وقال ابن عباس: ما لها من رُجُوع من أفاقَ المريضُ إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع اللبن إلى ضرعها يقال: أَفَاقَتِ النَّاقَةُ تُفِيقُ إفاقة رجَعَت الفِيقَةُ في ضَرعها، والفِيقةُ اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، ويجمع على أفواق وأما أفاويق فجمع الجمع، ويقال: ناقة مُفِيقٌ ومُفِيقَةٌ.
وقال الفراء وأبو عُبَيْدَة ومؤرّج السّدوسيّ: الفواق بالفتح الإفاقة والاسْتِراحة كالجواب من الإجابة وهو قول ابن زيدٍ والسُّدِّيِّ.
وأما المضموم فاسم لا مصدر أي اسم لما بين الحَلْبَتَيْن، والمشهور أنهما بمعنى واحد كقَصَاصٍ الشّعر وقُصاصِهِ وجَمَام المَكُور وجُمَامِهِ، فالفتح لغة قريش،(16/386)
والضم لغة تميم قال الواحدي: الفَوَاق والفُواق اسمان من الإفاقة والإفاقة معناها الرجوع والسكون كما في إفاقة المريض إلا أن الفَوَاق بالفتح يجوز أن يُقَام المصدر، والفُواق بالضم اسم لذلك الزمان، الذي يعوج فيه اللبن، وروي الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال في هذه الآية: يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ نفخة الفزع قال: فَيمدّها ويطولها وهي التي يقول ما لها من فواق، ثم قال الواحدي: وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: ما لها من سكون.
الثاني: ما لها من رجوع والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون ويقال لكل من بقي على حالة واحدة بأنه لايُفيقُ منه ولاَ يَسْتَفيقُ.
قوله: {قِطَّنَا} أن نَصِيبَنَا وحَظَّنَا، وأصله من قَطَّ الشيءَ أي قَطَعَهُ، ومنه قَطّ القلم والمعنى قطعه مما وعدتنا به ولهذا يطلق على الصحيفة والصك قِطّ، لأنهما قطعتان يقطعان، ويقال للجائزة أيضاً قِطّ لأنها قطعة من العطية، قال الأعشى:
4259 - وَلاَ الْمَلِكُ النُّعْمَان يَوْمَ لَفِيتُهُ ... بِغِبْطِتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ وَيَأفِقُ
وأكثري استعماله في الكتاب، قال أمية بن أبي الصّلت:
4260 - قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ أَرْضِ العِرَاقِ وَمَا ... يَجْبِى إَليْهِمْ بِهَا وَالقِطُّ وَالْقَلَم(16/387)
ويجمع على قُطُوط كما تقدم، وعلى قِطَطَةٍ نحو: قِرْد وقِرَدَةٍ وقُرُود، وفي القلة على أَقِطَّةٍ وأَقْطَاطٍ كقِدْح وأَقْدِحَةٍ وأَقْدَاحٍ، إلا أن أفْعِلَةً في فِعْلٍ شاذ.
فصل
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس عين كتابنا. والقِطّ: الصحيفة أحصت كل شيء، قال الكلبي: لما نزل قوله في الحاقة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 19 - 25] قالوا استهزاء: عجل لنا كتابنا في الدنيا قل يوم الحساب، وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول. وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: عين عقوبتنا ونصيبنا من العذاب قال عطاء: قاله النَّضْر بن الحَرث وهو قوله: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] وعن مجاهد قطنا: حسابنا يقال للكتاب قط.
قال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتابة بالجوائز واعلم أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة، أولها: من أمر النبوات وإثباتها فقال: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ «.
وثانيها: تعجبهم من الإليهات فقالوا: أَجَعَلَ الآلهةَ إلهاً وَاحِداً.
وثالثها: تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا: {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} قالوا ذلك استهزاء فأمره الله تعالى بالصبر على سسفاهتهم فقال: {اصبر على مَا يَقُولُونَ} .
فإن قيل: أي تعلق بين قوله: {اصبر على مَا يَقُولُونَ} وبين قوله {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ} ؟
فالجواب: هذا التعلق من وجوه:
الأول: كأنه قيل: إن كنت شاهدت من هؤلاء الجُهّال جَرَاءتَهم على الله وإنكارَهم الحَشْرَ والنشرَ فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن يوم الحشر فإن بقَدْرِ ما يَزْدَادُ أحدُ الضِّدين شرفاً يزاد (الضّدّ) الآخ نقصاناً.
الثاني: كأنه قيل لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لا) تضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك فإنهم وإن خالفوك فالأكابر من الأنبياء وافقوك.(16/388)
الثالث: أن للناس في قصة داود قولان: منهم من قال: إنها تدل على دِينه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنّ حزنك ليس إلا لأن الكفار كذبوك، وأما حزن داود فكان بسبب وقوع ذلك الذنب، ولا شك أن حزنه أشد فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن. ومن قال بالثاني قال الخَصْمَان اللذان دخلا على دَاوُدَ كَانَا من البشي وإنما دخلا عليه لقصد قتله، فخاف منهما داودُ ومع ذلك فلم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسُوء بل اسْتَغْفَر لم على (ما سيجيء تقرير هذه الطريقة) ، فلا جَرَمَ أمر الله تعالى محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأن يقتدي به في حسن الخلق.
الرابع: أن قريشاً إنما كذبوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واستخفوا به لقولهم: إنه يتيم فقير، ثم إنه تعالى قصَّ على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما كان في مَمْلَكَةِ داود، ثم بين بعد ذلك أنه ما سلم من الأحكان والغموم ليَعْلم أن الخَلاص من الحزن لاسبيل إليه في الدنيا.
الخامس: قوله تعالى {اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ} ولم يقتصر على قصة داود بل ذكر عقيبَ قصة داود قصص أنبياء كثيرة فكأنه تعالى قال: فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليُعْلِمَهُ أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهَمٍّ خاص وحزن خاص فيعلم حنيئذ أن لا انفكاك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجة العالية عند الله لا تحصل إلى بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.
قال ابن الخطيب: وههنا وجه آخر قويٌّ وأحسن من كل هذه الوجوه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} الآية [ص: 29] .
قوله: {دَاوُودَ} بدل أو عطف بيان، أو منصوب بإضمار أعْنِي و «ذَا الأَيْدِ» نعت له والأيد القوة، قال ابن عباس: أي القوة في العبادة، وقيل: القوة في المِلك، واعلم أن قوله: {عَبْدَنَا دَاوُودَ} فوصفه بكونه عبداً له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة المعراج، قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وأيضاً فإن وصف الأنبياء بالعبودية مُشْعِرٌ بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة والمراد بالأيد القوة في الطاعة والاحتراز عن المعاصي لأن مدحه بالقوة يوجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح العظيم وليست إلا القوة على فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى(16/389)
عنه، والأيد المذكورة ههنا كالقوة المذكروة في قوله:
{يايحيى
خُذِ
الكتاب بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وقوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145] أي باجتهاد وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف، والأيد (و) القوة سواء ومنه قوله: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 62] وقوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} [البقرة: 87] (وقوله) : {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] وقال عليه (الصلاة و) السلام: «أحَبُّ الصِّيَام إلَى الله صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ (الصَّلاَة و) السَّلام وأَحَبُّ الصَّلاَة إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلاَةُ دَاوُدَ كَان يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ» .
قوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجاع إلى الله عزّ وجلّ بالتوبة عل كل ما يكره، والأَوَّابُ فعَّالٌ من آبَ يَؤُوبُ إذا رَجَعَ قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] وهذا بناء مبالغة كما يقال: قَتّال وضَرَّاب وهو أبلغ من قَاتِل وضارب، وقال ابن عباس: مطيع، وقال سعيد من جبير: مسبِّح بلغة الحبشة.(16/390)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
قوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} فقوله: «يسبحن» جملة حالية من «الجبال» وأتى بها هنا فعلاً مضارعاً دون اسم الفاعل فلم يقل مسبِّحات، دلالة على(16/390)
التجدد والحدوث شيئاً بعد شيء كقول الأعشى:
4261 - لَعَمْرِي لَقَدْ لاَحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ ... إلَى ضَوْءٍ نَارٍ فِي بِقَاعِ تَحَرَّقُ
أي تحرق شيئاً فشيئاً، ولو قال: مُحْرِقة لم يدل على هذا المعنى.
فصل
المعنى يسبحن بتسبيحه (و) في كيفية تسبيح الجبال وجوه:
الأول: أن الله تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلاٌ وقُدرة ونُطقاً، فحينئذ يصير الجبل مسبحاً لله تعالى.
الثاني: قال القفال: إن داود - عليه (الصلاة و) السلام - أوتي من شدة الصوت وحسنة ما كان له في الجبال دويٌّ حسن وما يصغي الطير (إليه) لحسنه فيكون دويّ الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه تسبيحاً، وروى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل صوت داود حتى إنه كان إذا قرأ الزبور دنَتْ منه الوحوش حتى تؤخَذَ بأعْنَاقِهَا.
الثالث: أن الله تعالى سخر الجبال حتى إنّها كانت تسير إلى حيث يريده داود فجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه يدل على كمال قدة الله وحكمته.
قوله: {بالعشي والإشراق} قال الكلبي غَدْوةً وعَشِيًّا والإشراق هو أن تشرق الشمسُ ويتناهى ضوؤها قال الزجاج: يقال شَرقَت الشمس (إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت، وقيل: هما بمعنًى. والأول أكثر تقول العرب شرقت الشمس) والماء يُشرق، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى «قال ابن عباس كنت أمر به الآية لا أدري ما هي حتى حدثَتْنِي أمّ هانِئ بنت أبي طالب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل عليها فدعا بوَضُوء فتوضأ ثمّ صلّى وقال يا أم هانئ: هذه صلاة الإشراق» وروى(16/391)
طاوس عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكرَ صلاةِ الضحى في القرآن؟ قالوا: لا؛ فقرأ: «إنا سَخَّرْنَا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق» قال: وكانت صلاة يصليها داود علي السلام وقال لم يزل في نفس شيء من صلاة الضحى حتى طلبتها فوجدتها في قوله تعالى: {يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق} .
قوله: {والطير مَحْشُورَةً} العامة على نصبها عَطَفَ مفعولاً على مفعول، وحالاً على حال كقولك: ضربت زيداً مكتوفاً وعمراً مطلقاً وأتى بالحال اسماً لأنه لم يقصد أن الفعل وقع شيئاً فشيئاً لأن حشرها دفعة واحدة وأدلُّ على القدرة والحاشر الله تعالى.
وقرأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ والجَحْدري برفعهما جعلاها مستقلة من مبتدأ وخبر.
والمعنى وسخرنا الطير محشورةً، قال ابن عباس: كان داود إذا سبح جاءته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله تعالى.
فإن قيل: كيف يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها؟
فالجواب: أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى لها عقولاً حتى تعرف الله فتسبحه حنيئذ ويكون ذلك معجزة لداودَ قال الزمخشري قوله: {مَحْشُورَةً} في مقابلة: «يسبحن» إلا أنه ليس في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئاً بعد شيء فلا جَرَمَ أتى به اسماً لا فعلاً، وذلك أنه لو قيل: وسخرنا الطير (محشورة) (يحشرن) على تقدير أن الحشر يوجد من حاشرها شيئاً بعد شيء والحاشر هو الله عزّ وجلّ خلفاً لأنه تعالى حشرهم جملةً واحدة.
قوله: {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} أي كل من الجبال والطير لداود أي لأجل تسبيحه، فوضع أواب موضع مسبَح. وقيل: (إنَّ) الضمير في: «لَهُ» للباري تعالى والمراد كل من داود والجبال والطير مسبح ورجاع لله تعالى.
قوله: {وَشَدَدْنَا} العامة على تخفيف شددنا أي قَوَّيْنَا كقوله: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] وابنُ أبي عَبْلَةَ والحسن «شَدَّدْنَا» بالتشديد وهي مبالغة(16/392)
كقراءة العامة، ومعنى الكلام قويناه بالحرس والجنود.
قال ابن عباس: كان اشد ملوك الأرض سُلطاناً كان يحرس محرابه كل ليلة ستةٌ وثلاثون ألفَ رجلٍ.
قوله: {وَآتَيْنَاهُ الحكمة وَفَصْلَ الخطاب} فهي النبوة، وقيل: العلم والخير؛ قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] وأما فصل الخطاب فقال بعض المفسرين: إن داود أول من قال في كلامه: أما بعد وقيل: المراد منه: معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين.
قال ابن الخطيب: وهذا بعيد لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادراً على التعبير على كل ما يخطر بالبال ويحضُر في الخيال بحيث لا يخلِط شيئاً بشي وبحيث يفصل كُلّ مقام عن ما يخالفه. هذا معنى عامّ يتناول فصل الخصومات ويتناول الدعوة إلى الدين الحق ويتناول جميع الأقسام والله أعلم.
وروى ابن عباس أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجلٍ من عظمائهم عند داود أن هذا غَصَبني بقراً فسَألَهُ (داود) فجَحَد فقال للآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود: قوما حتى ينظر في أمركما فأوحى الله إلى داود من منامه أن يقتل الذي استعدى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت فأوحى الله إليه ثانيةً فلم يفعل فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة، فأرسل داود إليه فقال إن الله أوحى إليَّ أن أقتلك؛ فقال: تقتلني بغير بينة، فقال داود نعم والله لأنفذنَّ أمر الله فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله قال لا تعجل حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكن اغتلت والد هذا فقتلته ولذلك أخذت فأمر به داود فقتل فاشتد هيبة داود عند ذلك في قلوب بني إسرائيل، واشتد به مُلْكه فذلك قوله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} {وَآتَيْنَاهُ الحكمة} يعني النبوة والإصابة في الأمور و «فَضْلَ الْخِطَابِ» قال ابن عباس: بيان الكلام وقال ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل: على الحكم بالقضاء، وقال علي بن أبي طالب: هو أن البينة على المدَّعِي واليمين على ما أنكر؛ لأن كلام الخصوم ينقطع وينقصل به، ويروى ذلك(16/393)
عن أبي بن كعب قال: فصل الخطاب الشهود والأيْمَان.
وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن الشعبي: فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر.
قوله (تعالى) : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم} قد تقدم أن الخصم في الأصل مصدر فلذلك يصلح للمفرد والمذكر وضِدَّيْهِما، وقد يطاَبق، ومنه {لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ} [ص: 22] والمراد بالخصم هنا جمعٌ بدليل قوله: {إِذْ تَسَوَّرُواْ} وقوله: {إِذْ دَخَلُواْ} قال الزمخشري: وهو يقع للواحد والجمع كالضَّيْفِ، قال تعالى: {أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الذاريات: 24] لأنه مصدر في أصله، يقال خَصَمَهُ يَخْصِمَهُ كما تقول: ضَافَهُ ضَيْفاً. فإن قلت: هذا جمع وقوله: خَصْمَان تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت: معنى خصمان فريقان خصمان، والدلي قراءة من قرأ: «بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» ونحوه قوله تعالى: {هذان خَصْمَانِ اختصموا} [الحج: 19] فإن قلت: فما تَصْنَعُ بقوله: {إِنَّ هَذَآ أَخِي} وهو دليل على الاثنين؟ قلت: معناه أنّ التحاكم بين ملكين ولا يمنع أن يصحبهاما آخرون، فإن قلت: كيف سماهم جميعاً خَصْماً في قوله: «نَبَأُ الخَصْمِ وخَصْمَان» ؟ قلت: لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخسم صحت التسمية به.
قوله: {إِذْ تَسَوَّرُواْ} في العامل في «إذْ» أَوْجُهٌ:
أحدهما: أنه معمول للنبأ إذا لم يرد به القصة. وإليه ذهب ابنُ عطية وأبو البقاء ومكِّيٌّ أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تَسَوُّرهم المحراب، وقد ردّ بعضهم هذا بأن النبأ الواقع في ذلك الوقت لا يصح إتيانه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإن أريد بالنبأ القصة لم يكن ناصباً. قاله أبو حَيَّانَ.
الثاني: أن العامل فيه «أَتَاكَ» وُردَّ بما رُدَّ به الأول وقد صرح الزَّمَخْشَريُّ(16/394)
بالرد على هذين الوجهين: فقال: «فإن قلت: بم انتصب إذ؟ قلت: لا يخلوا إما أن ينتصب» بأتَاكَ «أو» بالنَّبَأ «أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأَتَاك لأن إتيان النبأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يقع إلا في عهده لا في عهد داودَ فلا يصح إتيانه رسولَ الله - صلى اله عليه وسلم - وإن أرادت بالنبأ القصة في نفسها لم يكن نصاباً، فبقي أن يكون منصوباً بمحذوف تقديره: وهَلْ أَيَاكَ نَبَأُ تَحَاكُمِ الخَصْمِ إذْ» فاختار أن يكون معمولاً لمحذوف.
الرابع: أن ينتصب بالخصم؛ لما فيه من معنى الفِعْل.
قوله: «إذْ دَخَلُوا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من «إذ» الأُولَى.
الثاني: أنه منصوب بتَسَوَّرُوا.
ومعنى تسوروا عَلَوْ أَعْلَى السّور، وهو الحائط غير مهموز كقولك: تَسَنَّم البَغِيرَ أي بَلَغَ سَنَامَهُ. والضمير في «تَسَوَّرُوا» و «دَخَلُوا» راجع على الخصم، أنه جمع في المعنى على ما تقدم، (أو على أنه مثنًّى والمثنى جمع في المعنى وتقدم) تحقيقه.
قوله: {خَصْمَانِ} خبر مبتدأ مضمر أي نَحْنُ خَصْمَانِ ولذلك جاء بقوله: {بَعْضُنَا} ، ومن قرأ «بعضهم» بالغيبة يجوز أن يقدره كذلك ويكون قد راعى لقظ: خَصْمَان، ويجوز أن يقدرهم خَصْمَان ليتطابق وروي عن الكسائي خِصْمَانِ بكسر الخَاء وقد تقدم أنه قرأها كذلك في الحَجِّ.
قوله: {بغى بَعْضُنَا} جملة يجوز أن تكون مفسِّرة لحالهم، وأن تكون خبراً ثانياً.
فإن قيل: كيف قالا: بغى بعضنا على بعض وهما مَلَكَان - على قول بعضهم -(16/395)
والملكان لا يبغيان؟ قيل: معناه أرأيت خَصْمَيْن بَغَى أحَدُهُما على الآخر، وهذا من مَعَارِيضِ الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما.
قوله: {فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ} العامة على ضم التاء وسكون الشين، وضم الطاء الأولى من (أ) شْطَطَ يُشْطِطُ إشْطَطاً إذا تجاوز الحق قال أبو عبيدة: شَطَطْتُ في الحكم وأَشْطَطْتُ إذا جُرْت؛ فهو مما اتفق فيه فَعَلَ وأَفْعَلَ، وإنما فكَّهُ على أحد الجائزين كقوله: {مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ} [البقرة: 217] وقد تقدم تحقيقه. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن أبي عبلة تَشطُطْ بفتح التاء وضم الطاء من «شَطّ» بمعنى «أَشَطَّ» كما تقدم.
وقرأ قتادة: تُشِطّ من «أَشَطَّ رباعياً إلا أنه أدغم وهو أحد الجائزين كقراءة من قرأ» مَنْ يَرْتَدَّ منْكُمْ «وعنه أيضاً تُشَطِّطْ» بفتح الشين وكسر الطاء مشددة من شَطَّط يشطِّطُ. شَطَّتِ الدَّارُ وأَطَّتْ إذا بَعُدَتْ وَاهْدِنَا إلَى سَوَاء الصِّرَاطِ «أَرْشِدْنَا إلى طريق الصواب فقال لهما داود: تَكَلَّمَا فقال أحدهما:» إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً «يعني امرأة» وَلِيَ نعْجَةٌ وَاحِدَةٌ «أي امرأة واحدة.(16/396)
قوله: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} العامة على كسر التاء وهي اللغة الفاشية، وزيد بن عليّ والحسنُ بفتحها وهي لُغَيَّةٌ لبعض تميم، وكثر في كلامهم الكناية بها عن المرأة قال ابن عَوْن:
4262 - أَنَا أَبُوهُنَّ ثَلاَثٌ هُنَّةْ رَابِعَةٌ فِي الْبَيْتِ صُغْرَاهُنَّهْ ... وَنَعْجَتِي خَمْساً تُوَفِّيهُنَّهْ
وقال آخر:
4263 - هُمَا نَعْجَتَانِ مِنْ نِعَاجِ تِبَالَةَ ... لَدَى جُؤْذُرَيْنِ أَوْ كَبَعْضِ دُمَة هَكِرْ
قال الحسين: بن الفضل: هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي كقولهم: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً، أو اشْتَرَى بَكْرٌ دَاراً. ولا ضَرْب هناك ولا شِرَاء.
قال الزمخشري:» أخِي «بدل من» هذا «وقر عبد الله:» تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَة أُنْثَى «وهذا تأكيد كقوله:
{وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51] وقال الليث: النَّعْجَةُ الأنثى من الضأن والبقر الوحشي والشاة والجمع النِّعَاجُ.
قوله: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} قال ابن عباس أعْطِنِيها، وقال مجاهد: انزل لي عنها. وحقيقة ضُمَّها إلَيَّ واجْعَلْنِي كافلا، وهو الذي يعولُها ويُنْفق عليها، والمعنى: طلقها لأتزوج إياها.(16/397)
قوله: {وَعَزَّنِي} أي غَلَبَنِي، قال:
4264 - قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَاكٌ فَبَاتَتْ ... تُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ
يقال: عَزَّهُ يَعُزُّهُ بضم العين. وتقدم تحقيقه في يس عند قوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] .
وقرأ طلحةُ وأبو حيوةَ: «وَعَزَنِي» بالتخفيف قال ابن جنِّي: حذف الزاي الواحد تخفيفاً كما قال الشاعر:
4265 - ... ... ... ... ... ..... أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ
يريد أحْسَسْنَ فحذف. وتروى هذه قراءةً عن عاصم. وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك وَعَازَّنِي بألف مع تشديد الزاي أي غَالَبَنِي.
قوله: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} مصدر مضاف لمفعوله. والفاعل محذوف أي بأَنْ سَأَلَكَ نَعْجَتَكَ، وضمّن السؤال معنى الإضافة والانضمام أي بإضافة نعجتك على سبل السؤال ولذلك عدي (بإلى) .
فصل
قال ابن الخطيب: للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذه القصة دلت على صدور الكبيرة عنه.
وثانيها: دلالتها على الصغيرة.
وثالثها: لا تدل على كبيرة ولا على صغيرة، فأما القول الأول فقالوا: إن داودَ(16/398)
أحبًَّ امرأة «أُوريَا» فاحتال في قتل زوجها ثم تزوج بها ثم أرسل الله (تعالى) ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة تشبه واقعته (وعرضا تلك الواقعة عليه) فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ثم تنبيه لذك فاشتغل بالتوبة. وقال ابن الخطب: والذي أدين به وأذهبُ إليه أنّ ذلك باطلٌ لوجوهٍ:
الأول: أن هذه الحكاية لا تناسب داودَ لأنها لو نُسبت إلى أفْسَقِ النَّاس وأشدهم فجوراً لانتفى منها، والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل العمل لبالغ في تنزيه نفسه وروعاً ولعن من نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إليه؟ {.
الثاني: أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي وقتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول فأمر منكر؛ قال - عليه (الصلاة و) السلام: «مَنْ سَعَى فِي دَمِ مُسْلِمٍ ولَوْ بشَرِّ كَلمَةٍ جَاءَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أيسٌ مِن رَحمةِ اللَّهِ» وأما الثاني فمنكر عظيم، قال - عليه (صلاة و) السلام -: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» وإن «أوريا» لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه.
الثالث: أن الله تعالى وصل داودَ بصفات تنافي كونه - عليه (الصلاة و) السلام - موصوفاً بهذا الفعل المنكر فالصفة الأول أنه تعالى أمر محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (في) أن يقتدي بداود في المصابرة مع المكاره فلو قيل إنَّ داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحد الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله؟} .
وأما الصفة الثانية فإنه وصفه بكونه عبداً له، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصف كاملاً في وصف العبودية أما في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحضورات، فلو قلنا: إن داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملاً إلاَّ في طعة الهوى والشهوة. وأما الصفة الثالثة وهي قوله: {ذَا الأيد} [ص: 17] أي ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحضورات، وأي قولة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم؟ {الصفة الرابعة: كونه أوَّاباً كثيرَ الرجوع إلى الله تعالى فكيف يليق هذا بمن قلبه مشغوفٌ بالقتل والفجور؟} الصفة الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذوا سبيله(16/399)
إلى القتل والفجور؟ {الصفة السادسة: قوله تعالى: {والطير مَحْشُورَةً} قيل: إنه كان محرَّماً عليه صيد شيءْ من الطير فكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا يجوز أمن الرجل المسلم على زوجته ومنكوحه الصفة السابعة: قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ومحال أن يكون المراد أنه تعالى: شد ملكه بأسباب الدنيا بل المراد بأنا ملكناه تقوى الدين وأسباب سعادة الآخرة، أو المراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لايملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك؟} الصفة الثامنة: قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحكمة وَفَصْلَ الخطاب} (والحكمة اسم جامع لك ما ينبغي علماً وعملاً فكيف يجوز أن يقال: إِنَّا آتَيْنَاهُ) الحكمة وفصل الخطاب مع إصراره على ما يستنكف عنه الشيطان من مُزاَحَمَة أخصِّ أصحابه في الروح والمنكوح؟! فهذه الصات التي وصف بها قبل شحر القصَّة.
وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فأولها قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ} وهذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة (على قوته في طاعة الله أما لو كانت القصة المتقدمة) دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ} لائقاً.
وثانيها: قوله تعالى: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه: الأول: أن الملك الكبير إذا حُكِي عن عبده أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فعند فراغه من شرح قصته على الناس يقبح منه أن يقول عقيبة أيها العبد إنّي فوضت إليك خلافتي ونبوتي لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر فأما جعله نائباً وخليفة لنفسه فذلك مما (لا) يليق البتة.
الثاني: أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذل الوصف فلما حكمى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة، ثم قال بعده: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} أشعر هذا (الوصف) بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعل المنكرة. ومعلوم أن هذا فاسد أما لوك ذكرنا أن تلك(16/400)
القصة كانت على وجه يدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدّة مصابرته في طاعة الله تعالى فحينئذ يناسب أن يذكر عقيبه: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} فثبت أن الذي نختاره أولى.
الثالث: أنه لما كان مقدمة الآية دالة على محد داود - عليه (الصلاة و) السلام - وتعظيمه ومؤخرتها أيضاً دالة على ذلك فلو كانت الواسطة دالة على المقابح والمعايب لجرى مَجْرى أن يقال: فلان عظيم الدردة عالي المرتبة في طاعة الله تعالى يقتل ويزني ويسرق وقد جعله اللخ خليفة له في أرضه وصوب أحكامه فكما أن هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب.
ورابعها: أن بعض القائلين ذكر في هذه الآية أن داود - عليه (الصلاة و) السلام - تمنى أن يحصل له في الدين كلا حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثلَ ما حصل للخيل من الإلقاء في النار، وحل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوبَ من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى الله إليه إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه (الصلاة و) السلام الابتلاء فأوحى الله إليه إنك مبتلي في يوم كذا فبالغ في الاحتراز، ثم وَقَعَت الواقعة فنقول: إن حكايتهم تدلّ على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه، فالسعي في قتل النفس (بغير الحق) والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة بحيث إن الحكاية التي ذكروها يناقص أولُها آخرَها.
وخامسها: أن داود عليه (الصلاة و) السلام (تمنَّى أن يحصل له في الدين كما بحل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية) قال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغيا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} استثنى الذين آمنوا من البغي. فلو قلنا: إنه كان موصوفاً بالبغي لزم أن يقال: إنه حكم بعدم الإيمان على نفسه وذلك باطل.
وسادسها: حضرت في مجلس وفيه بعض أكابر المسلمين وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة لسبب اقتضى ذلك فقلت له: لا شك أن داود عليه (الصلاة و) السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل وقال الله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ومن مدحه الله (تعالى بمثل) هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في المطعن فيه وأيضاً فتبقدير أنه ما كان من الأنبياء فلا شك أنه كان مسلماً؛ وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(16/401)
«لاَ تَذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ إِلاَّ بِخَيْر» ثم على تقدير أنَّا لا نلتفت إلى شيء من هده الدلائل إلاَّ أَنَّا نقول: إنَّ من المعلوم بالضرورة أن بتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها في حقه صحيحةً فإن روياتها وذكرها لا يوجب شيئاً مِنَ الثواب، لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من ألاَّ توجب الثواب. وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة فإن ذكرها مستحق به أعظم العقاب، والواقعة التي هذا شأنها وصفتها فإنَّ صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه، وأن شرح تلك القصة محرم محظور، فلما سمع ذلك الملك الشديد هذا الكلام سكت ولم يذكر شيئاً.
السابع: أن ذكر هذه القصة وذكر قصة يوسف - عليه (الصلاة و) السلام - يقتضي إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
الثامن: لو سعى داودُ في قتل ذلك الرجل دخل تحت قوله: «مَنْ سَعَى فِي دَمِ المرىءٍ مُسْلِم وَلَوْ بِشَكْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» . وأيضاً لو فعل ذلك لكان ظالماً وكان يدخل تحت قوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] .
التاسع: عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب قال: مَنْ حَدَّثَكُمْ بحَدِيث دَاودَ عَلَى مَاتَرْويه القُصَّاصُ فاجلدوه مائةً وسينَ (جَلْدةً) وهو حّد الفِرية على الأنبياء، وما يقوي هذا انَّهُمْ لما قالوا: إن المغيرة بنَ شعبة زنى وشهد ثلاثةٌ من عدول الصحابة وأما الرابع فإنه لم يقل: إني رأيت ذلك بعيني فإن عمر بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا، فإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك فكيف الحال مع داود عليه (الصلاة و) السلام؟ {مع أنه كان من كابر الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام -.
العاشر: رُوي أن بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله، ثم قال: فما بنبغي أن يزاد عليها وإن كنت الواقعة على ما ذكرت ثم إنه تعالى لم يذكرها لسَتْر تلك الواقعة على داود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ستر ستره الله ألف سنة أو أقل أو أكثر فقال عمر: سماعي هذا الكلام أحب إلي ما طلعت عليه الشمسُ.(16/402)
فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها باطلة فاسدة فإن قال قائل: إن كثيراً من أكابر المحدثين المفسرين ذكروا هذه القصة فكيف الحال فيها؟}
فالجواب الحقيقي: أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر (كل) واحد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة أولى.
وأيضاً فالأصل براءة الذمة، وأيضاً فلما تعارض ذكر التَّحرُّم والتحليل كان جانب التحريم أولى، وأيضاً طريقة الاحتياط توجب ترجيحَ قولِنَا، وأيضاً فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير (وقوع) هذا الواقعة لا يقول لنا الله يوم القيامة لِمَ لَمْ تَسعَوْا في تشهير هذه الواقعة أما بتقدير كونها باطلة فإنه يوجب أن لا تجوزَ الشهادة بها، وأيضاً كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول، بل الأكثرون والمحققون يردونه ويحكمون عليه بالكذب، وإذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدِّثين تساقطت وبَقِيَ الرجوع فيه إلا الدلائل التي ذكرناها.
الاحتمال الثاني أن نحمل هذه القصة على حُصُول الصغيرة لا على حصول الكبيرة وذلك من وجوه:
الأول: أن هذه المرأة خطبها «أوريا» فأجابوه، ثم خطبها داود فآثره أهلها فكان ذنبه أن خَطبَ على خطبته أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.
الثاني: قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب ألْبَتَّةَ، أما وقوع بصره عليها من غير قصد بذنب، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضاً ذنباً، لأن الميل ليس في وسعه فلا يكون مكلفاً به بل لما اتفق أنه قتل زوجها لأجل أنه طمع في أن يتزوج بتلك المرأة فَحَصَلت بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل.
والثالث: أنه كان أهل زمان داود عليه (الصلاة و) السلام يسأل بعضهم بعضاَ أن يطلق زوجته حتى تزوجها وكانت عادتها مألوفة مفهومة في هذا المعنى فاتفق أن عين داود (عليه السلام) وقعت على تلك المرأة فأحبها فسألوه النزول فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك فإنَّ حسناتِ الأبرار سيئات المقربين. فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حَقِّ داود عليه (الصلاة و) السلام إلا ترك الأفضل، والأولى.
الاحتمال الثالث: أن تحمل هذه القصة على وجه لا يلزم منه إيجاب كبيرة ولا(16/403)
صغيرة لداود عليه (الصلاة و) السلام بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أنه نقول: روي أنَّ جماعة من الأعداء طمعواأن يقتلوا داود - عليه (الصلاة و) السلام - وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوَّرُوا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً يمنعهم منه فخافوا ووضعوا كذباً يحتج به في إلحاق الذنب بداود عليه (الصلاة و) السلام إلا ألفاظ أربعة:
أحدهما: قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}
وثانيها: قوله: {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً} .
وثالثها: {وَأَنَابَ} .
ورابعها: قوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} ثم نقول: هذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه من وجه:
الأول: أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذه الطريق وعلم داود عليه السلام دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم أي أنه مال إلى الصَّفْح والتجاوز عنهم طلباً لمرضاة الله تعالى فكانت هي الفتنة لأنها جاريةٌ مَجْرَى الابتلاء والامتحان ثم إنَّه استغفر به مما هَمَّ به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهمِّ وَأَنَابَ فغفر له ذلك القدر من الهمِّ والعزم.
الثاني: أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه إلا أنه ندم على ذلك الظن وقال: لَمَّا لَمْ تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك فَلَبِئْسَ ما عَمِلْتُ حيث ظننت فيهم هذا الظن الرديء فكان هذا هو المراد من قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ثم إنه استغفر ربه وأناب منه فغفر الله له ذلك.
الثالث: دخولهم عليه كان فتنة لداود - عليه (الصلاة و) السلام - إلا أنه عليه (الصلاة و) السلام استغفر لذلك العازم على قتلهم كقوله في حق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19] فداود (عليه السلام) استغفر لهم، وأناب أي رجع إلى الله تعالى في طلب المغفرة لذلك الرجل الداخل القاصد القتل، وقوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أي فَغَفَرْنَا ذلك الذنب لأجل احترام داود وتعظيمه كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] إن معناه: إن الله يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذَنْب أمّتك.(16/404)
الرابع: أنه عاتب داود عليه السلام عن زلَّة صدرت منه لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة ولِم لا يجوز أن يقال: إن تلك الزلة إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني لأنه لما قال: «لقد ظلمت بسؤال نعجتك» حكم عليه بكونه ظالماً بمجرد دعوة الخصم بلا بينة فيكون هذا الحكم مخالفاً للصواب. فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة إلا أن هذا من باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إِذَا حَمَلْنَا هذه الآيات على هذا الوجه فإنه لا يلزم إسناد شيءٍ من الذنوب إلى دَاودَ - عليه (الصلاة و) السلام - بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطَّاعَاتِ إليه. ثم نقول: وحمل الآية عليه أولى لوجوه:
الأول: أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل.
الثاني: أنه أحوط.
الثالث: أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) : «اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ» فإن قوم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أظهروا السفاهة حيث قالوا: إنه ساحرٌ كذاب، واستهزأوا به حيث قالوا: ربَّنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب، فقال تعالى في أول الآية: اصبر على ما يقولون يا محمد وعلى سفاهتهم وتحمل ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على أذاهم وتحمل سفاهتهم وحَلِمَ ولم يظهر الطيش والغضب وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه.
أما إذا حملنا الآية على ما ذكروه صار الكلام متناقضاً.
الرابع: أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا: إن الخَصْمَيْن كانا ملكين وإذا كانا ملكين ولم يكن بينهما مخاصمة ولم يبغ أحدُهما على الآخر كان قولهما: «خَصْمَان بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» كذب فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين.
أحدهما: إسناد الكذب إلى الملائكة.
والثاني: إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء، فكان قولنا أولى.(16/405)
فصل
قال المفسرون قوله: وَعَزَّني (في الخِطَاب) اي قهرني وغلبني «في الخطاب» أي في القول. قال الضحاك يقول: إن تكلم كان أفصحَ مني، وإن حارب كان أبطشَ مني وحقيقة المعنى أن الغلبة كانت له فضعفي في يده وإن كان الحق معي فقال داود: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ» أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه.
فإن قيل: كيف قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك ولم يكن سمع قوله صاحبه؟! .
فالجواب: قيل: إن معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك، قال ابن إسحاق: لما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر داود إلى الخصم الذي لم يتكلم وقال: «لَئِنْ صَدَقَ لَقَدْ ظَلَمَهُ» .
وقال ابن الأنباري: لما ادعى أحد الخَصْمَيْن) اعترف الثاني فحكم داود عليه ولم يذكر الله ذلك الاعتراف لدلالة الكلام عليه وقيل التقدير: إن الخَصْمَ الذي هذا شأنه قد ظلمك ثم قال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغيا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} .
قال الليث: خَلِيطُ الرَّجُلِ مُخَالِطُهُ، وقال الزجاج: الخلطاء: الشركاء.
فإن قيل: لم خص الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء يفعلون ذلك؟
فالجواب: أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة لأنها إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على أحوال الآخر فكل ما يملكه من الأشياء النفسية إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه فيُفْضِي ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة فلهذا خص داود - عليه (الصلاو ة) السلام الخلطاء بزيادة البغير والعُدْوَان ثم استثنى عن هذا الحكم الذين آمنوا وعملوا الصلحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون لأجل الدين. وهذا استثناء متصل من قوله: {بَعْضهم} .
قوله: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} خبر مقدم و «ما» مزيدة للتعظيم و «هم» مبتدأ.(16/406)
قال الزمخشري: و «ما» في قوله: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} للإبهام وفيه تعجب من قتلهم قال: فإن أرادت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرئ القيس:
4266 - وَحَدِيثٍ مَا عَلَى قَصْرِهِ ... وانظر هل بقي لها معنى قط؟ «وَظَنَّ داوُد أَنَّمَا فَتَنَّاهُ» أي امتحناه، قرأ العامة فتَنَّاهُ بالتخفيف وإسناده إلى الضمير المتكلم المعظِّم نفسه، وعمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء فَتَّنَاه بتشديد التاء. وهي مبالغة وقرأ الضحاك: أَفْتَنَّاهُ يقال: فَتَنَهُ وأَفْتَنَهُ أي حَمَلَهُ على الفِتْنَةِ ومنه:
4267 - لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهيَ بِالأَمْسِ أَفْتَنَتْ..... ... ... ... ... ... ... ...
وقرأ قتادة وأبو عمرو - في رواية فَتَنَّاهُ بالتخفيف وَفتَّنَّاه بالتشديد، والألف ضمير الخصمين، و «راكعاً» حال مقدرة، قال أبو البقاء، وفيه نظر لظهور المُقَارنةِ.
فصل
قال المفسرون: إن الظن ههنا بمعنى العلم؛ لأن داودَ عليه (الصلاة و) السلام لما قضى بينهما نظر أحَدُهُمَا إلى صاحبه فضحك، ثم صَعَد إلى السماء قبل وجهه فعل داود أنَّ الله ابْتَلاَهُ بذلك فثبت أن داود علم بذلك. وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم، لأن العلم الاستدلاليّ يشبه الظنّ مشابهةً عظيمةم والمشهابهة علة لجواز المجاز قال ابن(16/407)
الخطيب: هذا الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين إما إذا لم يُقَلْ ذلك لا يلزمنا حمل الظن على العمل بل لقائل أن يقول: إنه لمَّا غَلَب على ظنه حصول الابتلاء من الله تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة.
قوله: {فاستغفر رَبَّهُ} أي سأل الغفران من ربه، ثم ههنا وجهان إن قلنا: إنه صدرت منه زَلَّة حمل هذا الاستغفار عليها وإن لم يُقَلء به قلنا فيه وجوه:
الأول: أن القوم لما دخولا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطاناً شديدَ القهر عظيمَ القوة مع القدرة الشديدة على الانتقام ومع محصول الفزغ في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئاً قَرُب الأمر من أن يدخل قبله شي من العُجْب فاستغر ربَّه من تلك الحالة وأناب إلى الله، واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق الله فغفر له وتجاوز عنه بسبب طَرَيَانِ ذلك الخاطر.
الثاني: لعله هَمَّ بإيذاء القوم، ثم قال: إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ثم استغفر من ذلك الهم.
الثالث: لعل القوم تابوا إلى الله تعالى وطَلَبُوا منه أن يستغفر الله (لهم) ولأجل أن يَقْبَلَ توبتهم فاستغفر وتضرع إلى الله فغفر له توبتهم بسبب شفاعته ودعائه. وهه كلها وجوهٌ محتلمة ظاهرةٌ، والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه، وإذا كان الفظ محتملاً لما ذكرناه ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام ما ذكروه من المنكرات فما الذي دل عليه التزامه والقول به؟ ويؤد ما ذكرنا أنه تعالى ختم هذه القصة بقوله: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ} ومثل هذه الخاتمة إنما يحصل في حقّ من صدر عن امتثال الأوامر في الخدمة والطاعة وتحمل أنواعاً من الشدائد في الموافقة والانقياد.
قوله: {ذَلِكَ} الظاهر أنه مفعول «غَفَرْنا» وجوز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي الأمرُ ذلِك ولا حاجة إلى هذا والمشهور أَنَّ الاستغفار إنما كان بسبب قصة النَّعْجَة، والنِّعاج، وقيل: بسبب أنه حَكَمَ لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الثاني، وذلك غير جائز.
قوله: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} أي تدبر أمور العباد بأمرنا، واعلم أنه لما تمم الكلام في شرح الفقصة أردفها ببيان أن الله تعالى فوض إلى داودَ خلافةَ الأرض(16/408)
وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول المشهور في القصة لأن من البعيد جداً أن يوصف الرجل بكونه ساعياً في سفك دماء المسلمين رغبة ف انتزاع أزواجهم منهم، ثم يذكر عقيبه أن الله فوَّضَ خلافة الأرض إليه. ثم في تفسير كونه خليفة وجهان:
الأول: جلعناك تَخْلُفُ من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفُه وذلك إنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة، وذلك على الله محال.
الثاني: إنا جعلناك ممكناً في الناس نافذ الحكم فيهم. فبهذا التأويل يسمى خليفة، ومنه يقال خليفة الله في الرض وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذَ الحكم في رَعيته، وحيقية الخلافة ممتنعة في حق الله تعالى فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة (مفيدةً) للزوم نفاذ لك الحكم في تلك الحقيقة.
قوله: {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} أي بالعدل لأن الأحكام إذا كانت مطابقةً للشريعة الحقيقة الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات، وإذا كانت الأحكام على وَفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أقضى إلى تخريب العالم ووقوع الهَرَج والمَرَج في الخلق وذلك يُفْضي إلى هلاك ذلك الحاكم ولهذا قال: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} ، لأن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب.
قوله: {فَيُضِلَّكَ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب في جواب النهي.
الثاني: أنه عطف على «لاَ تَتَّبعْ» فهو مجزومٌ وإنما فتحت اللام لالتقاء الساكنين. وهو ونهي عن كل واحدة على حدته والأول فيه النهي عن الجمع بينهما وقد يترجح الثاني لهذا المعنى، وقد تقدم تقرير ذلك في البقرة في قوله {وَتَكْتُمُواْ الحق} [البقرة: 42] .(16/409)
وفاعل «فيضلك» يجوز أن يكون الهَوَى، ويجوز أن يكون ضميرَ المصدر المفهوم من الفعل أي فيضلك إتِّبَاعُ الهوى.
قوله: {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ} قرأ العامة بتفح ياء يضلون. وقرأ ابن عباس والحَسَنُ وأبو حيوةَ بضمها أي يُضِلونَ الناس وهي مستلزمة للقراءة الأولى فإنه لا يُضل غيره إلا ضَالٌّ بخلاف العكس.
قوله: {بِمَا نَسُواْ} ما مصدرية والجار يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه «لهم» و «لَهُمْ عَذَابٌ» يجوز أن يكون جملة خبراً ل «إنَّ» ويجوز أن يكون الخبر وحده الجار، و «عَذَابٌ» فاعل به وهو الأحس لقربه من المفرد.
فصل
قيل: معناه بما تركوا الإيمان بيوم الحساب. وقال الزجاج: بتركهم العمل ذلك اليوم، وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير تقديره لهم عذاب شديد يَوْم الحساب بما نسوا أي تركوا القضاء بالعدل.(16/410)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} قال ابن عباس: أي لا لثواب ولا لعقاب، احْتَجَّ الجُبَّائِيّ بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقاً لأعمال العِبَادِ قال: لأنه مشتملة على الكفر والفِسْق وكلها أباطيل فلما بين تعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً دل هذا على أنه لم يخلق أعمال العباد.
(وأيضاً قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} وعند المُجْبِرة أنه خلق الكافر لأجل أن يكفر والكفر باطل، فقد خلق الباطل، ثم أكد تعالى(16/410)
ذلك بأن قال: {ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي كل من قال بهذا القول فهو كافر فهذا تصريح بأن مذهب المُجْبَرَةِ من الكفر. واحتج أهل السنة بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى خلق أعمال العباد لأن الآية دَلَّت على أنه تعالى خلق ما بين السماء والأرض وأعمال العباد مما بين السماء والأرض فوجب أن يكون تعالى خالقاً لها.
فصل
دلت الآية على صحة القَوْل بالحَشْر لأنه تعالى لما خلق الخلق في هذا العالم فإما أن يكون خلقهم للإضرار أو الانتفاع، أو لا لشيء، والأول باطلن لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم، والثالث أيضاً باطل؛ لأن هذه الحالة حاصلةٌ حين كانوا معدومين، فلم يبق إلا أن يقال: خلقهم للانتفاع فذلك الانتفاع إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة، والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارَّها كثيرة وتحمل الضرر الكثير لوجدان المنفعة القليلة لا يليق بالحكمة، ولما بطل هذا القول ثبت القول بوجود حياة أخرى بعد هذه الحياة، وذلك هو القول بالحشر والنَّشْرِ والقِيَامَة.
قوله: {بَاطِلاً} يجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضمير أي خلقاً باطلاً، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «خَلقنا» أي مُبْطِلِنَ، أو ذَوِي باطِلٍ، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي لِلْبَاطِل وهو العَبَثُ.
قوله: {ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني أهل مكة هم الذين ظنوا أنهم خلقوا لغير شيءٍ وأنه لا بعثَ ولا حِسَاب {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} .
قوله: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض} أم في الموضعين منقطعة وقد تقدم ما فيها. قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنَا نُعْطَى في الآرخة من لاخير ما تُعْطَوْنَ فنزلت هذه الآية: {أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} أي المؤمنين كالكفار، قيل: أراد بالمتقين أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ} يجوز أن يكون «كتاب» خبر مبتدأ مضمر، أي هذا كتاب(16/411)
و «أَنْزَلْنَاهُ» و «مبارك» خبر مبتدأ مضمر أو خبر ثاني ولا يجوز أن يكون نعتاً ثانياً لأنه لا يقتدم عند الجمهور غير الصريح على الصَّريحِ، ومن يرى ذلك استدل بظاهرها وقد تقدم تحرير هذا في المائِدَةِ.
قوله: {ليدبروا} متعلق «بأَنْزَلْنَاه» وقرئ: مباركاً على الحال اللاَّزمة، لأن البركة لا تفارقه وقرأ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ليَتَدبَّرُوا، وهي أصل قراءة العامة، فأدغمت التاء في الدال، وأصلها لتتدبروا بتاءين فحذفَت إحداهما، وفيها الخلاف المشهور هل هي الأولى أو الثانية، قال الحسن: تدبروا آياته (أتباعه) «وليتذكَّر» ليتعظ أولو الألباب أي العقول.(16/412)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
(قوله) : {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العبد} المخصوص بالمدح محذوف أي نعم العبد سليمانُ، وقيل: داود؛ لأنه وصفه بهذا المعنى وقد تقدم حيث قال: {ذَا الأيد إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] والأول أظهر لأنه هو المسوق للحديث عنه، وقرئ: بكسر العين وهي الأصل كقوله:
4268 - ... ... ... ... ... ... ...(16/412)
نِعْمَ السَّاعُونَ فِي القَوْمِ في القوم الشُّطُر
فصل
قوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} يدل على أنه كان نعم العبد لأنه كان أواباً؛ أي كثير الرجوع إلى الله في أكثر أوقاته ومهماته.
قوله: {إِذْ عُرِضَ} في ناصبه أوجهٌ:
أحدها: «نِعْمَ» : وهو أضعفها؛ لأنه لا يتقيد مدحه بوَقْتٍ، (و) لِعدم تصرف «نِعْمَ» قال ابن الخطيب: التقدير نعم العبد إذْ كَانَ من أعماله أنَّه فَعَلَ كَذَا.
الثاني: «أواب» وفيه تقييد وصفه بذلك بهذا الوقت.
والثالث: اذكر مقدّراً، وهو أسلمها.
والعَشِيُّ من العصر إلى آخر النهار. والصَّافِنَاتُ جمع صَافن، وفيه خلاف بين أهل اللغة فقال الزجاج: هو الذي يقف على إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه قال وعي علامة الفراهة وأنشد:
4269 - أَلِفَ الصُّفُونَ فَلاَ يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمّا يَقُومُ عَلَى الثُّلاثِ كَسِيرا(16/413)
وقيل: هو الذي يجمع بين يديه ويسويهما، وأما الذي يقف على سنبكه فاسمه المُخِيم، قاله أبو عبيدة.
وقيل: هو القائم مطلقاً أي سواء كان من الخيل، أو من غيرها، قاله القُتَبِيّ واستدل (بحديث) وبقوله عليه (الصلاة و) السلام «مَنْ سَرَّهُ أنْ يَقُومَ النَّاسُ لَهُ صُفُوناً فَلْيَتَبوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النَّار» أي يديمون له القيام. وحكاه قطرب أيضاً وجاء في الحديث «قُمْنَا صُفُوناً» أي صافِّين أقدامَنا، وقيل: هو القيام مطلقاً سواء وقفت على طرف سنبك أم لا، قال الفراء: على هذا رأيت أشعارَ العرب، وقال النابغة:
4270 - لَنَا قُبًّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفنَائِهَا ... عِتَاقُ المَهَارَى والجِيَادُ الصَّوَافِنُ
والجياد إما من الجَوْدَة، يقال: جَادَا الفرسُ يَجودُ جَوْدَةً وجُودَةً بالفتح والضم فهو جَوَاد، للذكر والأنثى. والجمع جِيَادٌ وأجْوَادٌ، وأَجاوِيدُ، وقيل: جمع لِجَوْد بالفتح كثَوْبٍ وثِيَاب. وقيل: جمع جَيِّد. وإِما م الجِيدِ وهو العُنُق، والمعنى: طويلة الأعناق الأجياد. وهو دال على فراهَتِها.
قوله: {حُبَّ الخير} فيه أوجه:
أحدها: هو مفعول أحببت لأنه بمعنى آثرت، و «عن» على هذا بمعنى «عَلَى» أي على ذكر ربِّي، لأنه روي أن عرض الخيل حتى شغلته عن صلاة العصر أول الوقت حتى غَربت الشَّمْسُ.
وقال أبو حيان - وكأنه منقول عن الفراء - إنّه ضمن «أَحْبَبْتُ» معنى آثرتُ، حيث نصب «حب الخير» مفعولاً (به) وفيه نظر؛ لأنه متعد بنفسه وإنما يحتاج إلى التضمين وإن لم يكن مُتَعَدِّياً.(16/414)
الثاني: أن «حب» مصدر على حذف الزوائدة ولاناصب له «أَحْبَبْتُ» .
الثالث: أنه مصدر تشبيهي أي حُبًّا مِثْلَ حُبِّ الخَيْر.
الرابع: أنه قيل: ضمن معنى أنبت فلذلك تعدى بعَنْ.
الخامس: أن أحببت بمعنى لَزمْتُ.
قال ابن الخطيب: إن الإنسان قد يحب (شيئاً ولكنه يجب أن) لا يحبه كالمريض الذي يشتهي في مرضه فأما من أحب شيئاً وأحب أن يحبه فذلك غاية المحبة، فقوله: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} أي أحببت حبير للخير.
السادس: أن أحببت من أَحَبَّ البعيرُ إذا سقط وَبَرَكَ من الإعياء، والمعنى قعدت عن ذكر ربي فيكون «حب الخير» على هذا مفعولاً من أجله، والمراد بقوله: {عَن ذِكْرِ رَبِّي} قيل: عن صلاة العصر، وقيل: عن كتاب ربي وهو التوراة، لأن إرتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوحٌ فكذلك في التوراة ممدوح وقوله {ذِكْرِ رَبِّي} يجوز أن يكون مضافاً للمفعول أي عن أن أذكر ربي، وأن يكون مضافاً للفاعل أي عن ذكر بي ربي والمراد بالخير: الخيل والعرب تعاقبت بين الراء واللام (تقول) : خَتَلْتُ الرجلَ وختَرْتُه أي خَدَعْتُه، وسميت الخيلُ (خيراً) لأنه معقود بواصيها الخَيْر الأجرُ والمَغْنم.
قوله: {حتى تَوَارَتْ} في الفاعل وجهان:
أحدهما: هو: «الصّافنات» ، والمعنى: حتى دخلت إصْطَبْلاَتِها فتوارتْ وغابت.
والثاني: أنه: «الشمس» أضمرت لدلالة السياق عليها، وقيل: لدلالة «العَشِيِّ»(16/415)
عليها فإنها تشعر بها، وقيل: يدل عليها الإشراق في قصة داودَ وما أبْعَدَهُ.
قوله: {رُدُّوهَا} هذا الضمير للصّافنات، وقيل: للشمس وهو غريب جدًّا قال ابن الخطيب: وهذا بعيد لوجوه:
منها: أن الصَّافِنَات مذكورة بالتصريح، والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدَّر، ومنها: أنه لو اشتغل بالخيل حتى غربت الشمس وفاتت صلاة العصر كان ذلك ذنباً عظيماً ومن كان هذا حاله فطريقهُ التّضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة فإما أن يقول على سبيل العَظَمَة لربِّ العالمين مثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقيب ذلك الجُرْم العظيم (فهذا) لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير فكيف يجوز إسناده للرسول المطهر المكرم ومنها أن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول رُدَّها عليَّ، ولا يقول: ردوها عليَّ لأن هذا اللفظ مشعر بأعظم أنواع الاستعلاء فيكف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم؟ ومنها: أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لصار ذلم مشاهداً لأهل الدنيا ولو كان كذلك لوفرت الدواعي على نقهل وحيث لم ينقل علِمْنَا فَسَادَهُ.
قوله: {فَطَفِقَ مَسْحاً} نصب «مسحاً» بفعل مقدر، هو خبر طفق أي (ف) طفق يَمْسَحُ مَسْحاً، لأن خبر هذه الأفعال لا يكون إلا مضارعاً في الأمر العام وقال أبو البقاء - وبه بدأ -: مصدر في موضع الحال وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن «طَفِقَ» لا بدّ لها من خَبَرٍ.
وقرأ زيد بن علي: مِسَاحاً بزنة قِتَال، والباء في «بالسوق» مزيدة مثلها في قوله: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وحكى سيبويه: مَسَحْتُ رَأْسَهُ وبرأسِهِ بمعنى واحدٍ.
ويجوز أن تكون للإلصاق كما تقدم، وتقدم همز السوق وعدمه في النمل.(16/416)
وجعل الفارسيُّ الهمز ضعيفاً وليس كما قال لما تقدم من الأدلة. وقرأ زيد بن عليّ (أيضاً) «بالسَّاقِ» مُفْرَداً اكتفاءً بالواحد لعدم اللَّبْسِ كقوله:
4271 - ... ... ... ... ... . ... وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
وقوله:
4272 - ... ... ... ... ... ... ... كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكم تَعفُّوا
وقوله:
4273 - ... ... ... ... ... ... . ... فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجِينَا
قال الزمخشري: فإن قلت: بِمَ اتَّصل قوله «ردوها علي» ؟
قلت: بمحذوف تقديره قال ردوها فأضمر وأضمر ما هو جواب له كأنّ قائلاً قال: فماذا قال سليمان؟ لنه موضع متقض للسؤال اقتضاءاً ظاهراً.
قال أبو حيان: وهذا لا يحتاج إليه لأن هذه الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو: «فَقَال: إنِّي أَحْبَبْتُ» .(16/417)
فصل
قال المفسرون: إنه - عليه (الصلاة و) السلام - لما فاتته صلاة العصر لاشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقرباً إلَى الله تعالى، وبقي منها مائة، فالخيل التي في أيدي الناس اليوم، من نسل تلك المائة، قال الحسن: فلما عقر الخيل، أبدله الله - عزّ وجلّ - خيرايً منها وأوسع وهي الريح تجري بأمره كيفْ شاء. قال ابن الخطيب: وهذا عندي بعيد لوجوه:
الأول: أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعا لكان معنى فامسحوا برؤوسكم أي اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل، بل لو قيل: مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العُنُق، أما إذا لم يُذْكَر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح.
الثاني: أن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان - عليه (الصلاة و) السلام - أنواعاً من الأفعال المذمومة.
فأولها: ترك الصلاة.
وثانيها: أنه استولي عليه الاشتغل بحُبِّ الدنيا حيث نَسِيّ الصلاة وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: « (حُبُّ) الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطيئَةٍ» .
وثالثها: أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة.
ورابعها: أنه خاطب رب العالمين بقوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} وهذه كلمة لا يقولها الرجل الحَصِيف إلا مع الخادم الخسيس.
وخامسها: أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل من سوقها وأعناقها وقد «نَهَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ _ عن ذبح الحيوان إلا لمأكله» ، وهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان - عليه (الصلاة و) السلام - مع أن لفظ القرآن لم يدلّ على شيء منها. وخلاصتها: أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} [ص: 16] وأن الكفار لما لبلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله عزّ وجلّ لمحمد - عليه (الصلاة و) السلام -: يا محمد اصبر على سفاهتهم، واذكر عبدنا داود، ثم ذكر عقيبه قصّةَ سليمان فكان التقدير أنه تعالى قال لمحمد - عليه (الصلاة و) السلام -: يا محمد اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان.
وهذا الكلام إنما يليق إذا قلنا: إن سليمان عليه ((16/418)
الصلاة و) السلام - أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله تعالى وأعرض عن الشهوات واللذات، فلو كان المقصود من قصة سليمان في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً. والصواب أن نقوله: إن رِبَاط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو في دين محمد عليه (الصلاة و) السلام؛ ثم إنَّ سليمانَ - عليه (الصلاة و) السلام - احتاج إلى الغزو فجلس وأمَرَ بإحْضَارِ الخَيْل وأمر بإجرائها، وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما حبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله: {عَن ذِكْرِ رَبِّي} ثم إنه - عليه السلام - أمر بإجرائها وسيَّرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره، ثم إنه أمر الرابضين بأن يردوها فردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَها وأعناقها والغرض من ذلك أمور:
الأول: تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يَتَّضِعُ إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
الثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل ومراميها وعيوبها فكان يمسحها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض فهذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزم منه نسبة شيء من تلك المنكرات إلى سليمان عليه - (الصلاة و) السلام - والعَجَبُ منهم كيف قَبِلُوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة؟
فإن قيل: فالجمهور فسروا الآية بتلك الوجوه.
فالجواب: أن نقول لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها لما ذكرنا، وأيضاً فإن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام - ولم يدل على صحة هذه الحكايات دليل قاطع، ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات عن أقوام لا نلتفت إلى أقوالهم؟ والذي ذهبنا إليه قولُ الزهري وابن كيسان.
قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} قال بعض المفسرين: إن سليمان - عليه (الصلاة و) السلام بلغهُ خبرُ مدينة في البحر يقال لها: صيد، فخرج إليها بجنوده فأخذها وقتل ملكها وأخذ بنتاً له اسمها: «جرادة» من أحسن الناس وجهاً فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبَّها فكانت تبكي على أبيها، فأمر سليمان الشيطان فمثل هلا صورة أبيها فكستها مثل(16/419)
كسوته وكانت تذهب إلى تلك الصورة بُكْرةً وعَشِيًّا مع جواريها يَسْجُدُ (و) نَ لها فأخبر «آصف» سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة وخرج وحده إلى فلاة ففرش الرّماد وجلس عليه تائباً لله تعالى، وكانت له أم ولد يُقال لها: الأمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمة عندها وكان ملكه فيه موضعه عندها يوماً فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة «سليمان» وقال لها يا أمينة: خاتمي فناولته الخاتم فَتَختَّم به وجلس على كرسي سليمان فعكفت عليه الطير والجن والإنس وتغيرت هيئة سليمان فأتى الأمينة لطلب الخاتم فأنكرته فعل أن الخطيبئة قد أدرتكته فكان يدور على البيوت يتكفف، وإذا قال: أنا سليمان حَثَوا عليه التراب وسَبُّوه، وأخذ ينقل السمك للسَّماكين فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوماً عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقُلْن: ما يدع امرأة (منا) في دمها ولا تغتسل من جنابة، وقيل: (بل) نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة، ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجداً لله تعالى ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك الشيطان فحبسه في صخرة ألقاها في البحر.
وقيل: إن تلك المرأة لما أقدمت على عبادة تلك الصوةر افتتن سليمان فكان يسقط الخاتم من يده ولا يتماسك فيها فقال له آصف إنك لمفتون بذنبك فتُبْ إلى الله تعالى.
وقيل: إن سليمان قال لبعض الشياطين: كيف تفتنون الناس: فقال: أرني خاتَمَكَ أُخْبِرْك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر، وذهب ملكه وقعد هذا الشيطان على كرسيه ثم ذكر الحكاية إلى آخرها فقالوا: المراد من قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} أن الله تعالة ابتلاه، وقوله: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً} عقوبة له. قال ابن الخطيب: واستبعد أهل التحقيق هذا الكلام من وجوه:
الأول: أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه في الصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من ذلك فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس على صورة محمد وعيسى(16/420)
وموسى - عليهم (الصلاة و) السلام) - ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال وذلك يبطل الدين بالكلية.
الثاني: أن الشيطان لو قدر أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ يجب أن يقلتهم ويمزق تَصَانِيفَهُمْ، ويُخَرِّب دِيَارَهُم، ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل في حق أكابر الأنبياء أولَى.
الثالث: كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان؟ (ولا شك أنه قبيح.
الرابع: لو قلنا: إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادت (ها) تلك الصورة فهذا كفر منه) وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر منه؟
وأما أهل التحقيق فذكروا وجوهاً:
الأول: أن فتنة سليمان أنه وُلِدَ له ابنٌ فقال الشيطان إن عاش صار ملكاً مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو يشتغل بمهماته إذ لقي ذلك (الولد) ميتاً على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يَثِقْ ويتوكلْ على الله فاستغفر ربه وتاب.
الثاني: روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «قَالَ سُلَيْمَانُ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأةً كُلُّ امْرَأةٍ تَأتِي بِفَارسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَم يَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَطَافَ عَلَيْهنّ فَلَمْ تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رَدل والذي نفسي بِيَدِهِ لو قال إن شاء الله تعالى لَجَاهَدوا في سبيل الله فُرْسَاناً أجْمَعِينَ» فذَلك قولهُ تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً} وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الضعيف: «إنه لَحْمٌ على وَضَم وجسمٌ بلاَ رُوح» «ثُمَّ أَنَاب» أي رَجَعَ إلى حال الصحة. فاللفظ يحتمل لهذه الوجوه ولا حاجة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة.
الثالث: لا يبعد أيضاً أن يقال: إنه ابْتَلاه الله تعالى بتسليط خوفٍ أو وقوع بلاء تَوَقَّعه من بعض الجهات حتى صار بسبب قوة ذلك الخوف كالجَسَدِ الضعيف الخفي على ذلك الكرسي. ثم إن الله تعالة أزال عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب.(16/421)
قوله: {جَسَداً} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول به لأَلْقَيْنَا.
والثاني: أنه حال، وصاحبها إما سُلَيْمَانُ لأنه يروى أنه مَرِضَ حتى صار كالجَسَد الذي لا رُوحَ فيه، وإما ولده، قالهما أبو البقاء ولكن «جَسَدٌ» جامد فلا بدّ من تأويله بمشتق أي ضعيفاً أو فارغاً.
قوله: {قَالَ رَبِّ اغفر لِي} تمسك به من حَمَلَ الكلام المتقدم على صدور الزَّلَّة لأنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ويمكن أن يجاب: بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسان الأبرار سيئات المقربين ولأنه أبداً في مقام هَضْم النفس وإظهار الذِّلَّة والخضوع كما قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» مع انه غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي} دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مُهِمّ الدين على مُهِمّ الدينا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم طلب المملكة بعده، ثم دلت الآية أيضاً على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لافتتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً، ثم توسل به إلى طلب المملكة ونوح - عليه (الصلاة و) السلام - قال:
{فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح10 - 12] وقال لمحمد عليه (الصلاة و) السلام: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى} [طه: 132] .
فإن قيل: قول سليمان - عليه (الصلاة و) السلام -: «هَبْ لِي مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي» مشعر بالحسد.
فالجواب: أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معناه هو: أن يعطيه الله ملكاً لا يقدر الشيطان على أن يقوم فيه مقامه ألبتة، وأما المنكرون فأجوابوا بوجوه:
الأول: أن المُلْكَ هو القدرة فكان المراد أقدرنِي على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نُبُوتي ورسالتي ويدل على صحة هذا(16/422)
قوله تعالى عقيبه: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} فكون الريح جارية بأمره قدرة عجيبة وملك دال على صحة نبوته لا يقدر أحد على معارضته.
الثاني: أنه - عليه (الصلاة و) السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى التغيرات فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل عنّي إلى غيري.
الثالث: أنَّ الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حالَ عَدَمِ القدرة فكأنه قال: يا إلهي أعطني مملكةً فائقةً على ممالك البشر بالكلية حتى أحْتَرِزَ عنها مع القدرة عليها ليصير (ثوابي) أكمل وأفضلَ.
الرابع: سأل ذلك ليكون علماً على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد عليه مُلْكَهُ وزاده فيه.
قوله: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً} لَيّنة أي رخوة لَيّنة، وهي من الرخاوة والريحُ إذا كانت لينة لا تزعزع (ولا تمتنع عليه إذا كانت طيبة) .
فإن قيل: قد قال في آية أخرى: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} [الأنبياء: 81] .
فالجواب: من وجهين:
الأول: لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرِّيح العاصفة إلا أنها لما أمرت بأمره كانت لذيذة طيبة وكانت رُخَاء.
الثاني: أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى فلا منافاة بين الآيتين.
قوله: {حَيْثُ أَصَابَ} ظرف ل «تَجْرِي» أو لسَخَّرْنَا «و» أَصَابَ «أراد بلغة حِمْيَرَ.
وقيل: بلغة هَجَر وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون: أصاب الصواب فأخطأ الجواب.(16/423)
وروي أن رجلين خرجا يقصدان» رُؤْبَةَ «ليسألاه عن هذا الحرف فقال لهما: أين تصيبان فعرفاها وقالا هذه بغيتنا، وأنشد الثعلبيُّ على ذلك:
4274 - أَصَابَ الْجَوَابَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ... فَأَخْطَا الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصَلِ
أي أراد الجواب ويقال:» أصَابَ اللَّهُ بكَ خَيْراً «أي أراد بك وقيل: الهمزة في أصاب للتعدية من (أَ) صَابَ يَصُوبُ أي نزل، قال:
4275 - ... ... ... ... ... ..... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
والمفعول محذوف أي أصاب جنوده أي حيث وَجَّهَهُمْ وَجَعَلهُمْ يَصُوبُونَ صَوْبَ المطر، و «الشياطين» نسقٌ على «الريح» و «كل بناء» بدل من «الشياطين» كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية.
روي أن سليمان - عليه (الصلاة و) السلام - أمر الجانَّ فبنت له إصْطَخْرَ، فكانت فيها قرار مملكة النزل قيدماً، وبنت هل الجان أيضاً «تَدْمُر» وبين المقدس وباب جبرون وباب البريد الذين بدمشق على أحد الأقوال، وبنوا له ثلاثة قصور باليمن غدان وشالخين ويبنون ومدينة صنعاء. قوله: «وغواص» نسق على «بناء» أي يغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ. وألا بصيغة المبالغة لأنه في معرض الامتنان.
قوله: {وَآخَرِينَ} عطف على «كُلَّ» فهو داخل في حكم البدل وتقدم شرح «مُقَرَّنِينَ في الأصْفَادِ» آخِرَ سورة إبراهيم.(16/424)
فصل
قال ابن الخطيب: دلت هذه الآية على أن الشياطين لها قولة عظيمة قدروا بها على بناء تلك الأبنية العطيمة التي لا يقدر عليها البَشَر، وقدروا على الغوص في البحار واستخراد الآلئ وقيدهم سليمان - عليه (الصلاة و) السلام -. ولقائل أن يوقل: هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهُم كثيفةً أو لطيفةً؛ فإن كانت كثيفة وجب أن يراهم من كان شديد الحاسّة؛ إذْ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجْسادهم فليَجُزْ أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها وذلك وذلك دخول في السَّفْسَطَةِ وإن كانت أجسادهم لطيفةً فمثل ها يمتنع أن يكون موصوفاً بالقوة الشديدة، ويلزم أيضاً أن تتفرق أجسادُهُمْ وأن تَتَمزَّق بالرِّياح العاصفة القوية وأن يموتوا (في الحال) وذلك يمنع وصفهم بالقوة وأيضاً فالجِنّ والشياطين وإن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة فِلَمَ لا يقتلون العُلَمَاء والزُّهَّاد في زماننا هذا ولِمَ لا يُخَرِّبُون ديار الناس مع أن المسلمين يبالغون في إظهار لعنتهم وعدواتهم وحيث لم يحس بشَيْءٍ مِنْ ذلكَ عَلِمْنَا أن القولَ بإثبات الجنِّ ضعيفٌ.
قال ابن الخطيب: واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسادهم كثيفة مع أنا لا نراهم وأيضاً لا يبعد أن تكون أجسادهم لطيفة بمعنى عدم الكون ولكنها صُلبة بمعنى أنها لا تقل التفرق. وأما الجُبَّائيّ فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونَهُمْ في زمن سُلَيْمَان - عليه (الصلاة و) السلام - ثم إنه لما توفي سليمان - عليه (الصلاة و) السلام - أمات الله أولئك الجنَّ والشياطين وخلق أنواعاً أخر من الجن والشياطين تكون أجسادهم في غاية الرّقَّة، ولا يكون لهم شيء من القوة، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس - والله أعلم -.
قوله
: {هذا
عَطَآؤُنَا} أي قلنا له: هذَا عَطاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ، قال ابن عباس: أعطِ من شئت وامنع من شئت.
قوله: «بغير حساب» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق «بعَطَاؤُنَا» أي أعطيناك بغَيْر حساب ولا تقدير. وهو دلالة على كثرة الإعطاء.(16/425)
الثاني: أنه حال من «عَطَاؤُنَا» أي في حال كونه غَيْر مُحَاسَبٍ عليه لأن جَمٌّ كثيرٌ يعسر عَلى الحُسَّابَ ضَبطُهُ.
الثالث: أنه متعلق «بامْنُنْ» أو «أَمْسِكْ» ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعلهما أي غير محاسَبٍ عليه.
فصل
قال المفسرون: معناه لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما (أَ) مْسَكْتَ، قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان، فإنه (إنْ) أعْطى أجر إن لم يعط لم يكن عليه تبعة. وقال مقاتل: هذا في أمر الشياطين عين خل من شئت منهم وأمْسِكْ من شئت (منهم) في وثَاقِك لا تبعة عليك فيما تتعطاه.
قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ} نسقاً على اسم «إنَّ» هو «لَزُلْفَى» وقرأ الحسنُ وابنُ أبي عَبْلَةَ برفعه على الابتداء، وخبره مضمر، لدلالة ما تقدم عليه، ويقفان على (لَزُلْفَى) ويَبْتدَئانِ ب «حُسْنَ مَآب» ؛ أي وحسن مآب له أيضاً.(16/426)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
قوله: (تعالى) : {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} كقول « (وَاذكر) عَبدنا دَاوُدَ» وفيه الثلاثة الأوجه، و «إذْ نَادَى» بدل منه بدل اشتمال أي بأني، وقوله: {أَنِّي} جاء به على حكاية كلامه الذي ناداه بسببه ولو لم يحكه لقال: «إنَّه مَسَّهُ» لأن غائب(16/426)
وقرأ العامة بفتح الهمزة على أنه هو المُنَادِي بهذا اللفظ. وعيسى بن عُمَر بكسرها على إضمار القول أو على إجراء النداء مُجْرَاهُ.
قوله: {بِنُصْبٍ} قرأ العامة بالضم والسكون، فقيل: هو جمع نَصَب بفتحتين، نحو: (وثَن) وَوُثْنٍ وأَسد وأُسْدٍ وقيل: هو لغة في النَّصَب نحو: رَشَدٍ ورُشْد وحَزَنٍ وحُزْنٍ وعَدَم وعُدْمٍ. وأبو جعفر وشَيْبَةُ وحَفْصٌ ونافعٌ - في رواية - بضمتين - وهو تثقيل نُصْبٍ بضمةً وسكون، قاله الزمخشري. وفيه بعد لما تقرر أن مقُتْضَى اللغة تخفيف فُعُل كعُنُق لا تثقيل فُعْل كقُفُل. وفيه خلاف وقد تقدم في هذا العُسْر واليُسْر في البَقَرَة.
وقرأ أبو حيوة ويعقوب وحفصٌ - في رواية - بفتح وسكون وكلها بمعنى واحد وهو التّعب والشمقة.
فصل
النُّصُب المشقة والضر. قال قتادة ومقاتل: النصب في الجسد والعذاب في المال واعلم أن داود سُلَيْمَانَ - عليهما (الصلاة و) السلام - كانا ممن أفاض الله عليهما أصناف الآلاء والنَّعْمَاء، وأيوب كان ممن خصَّه الله تعالى بأنواع البلاء. والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار كأن الله تعالى قال: يا محمد اصْرِرْ على سفاهة قومِكَ فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمةً ومالاً وجاهاً أكثر من داودَ وسليمانَ، وما كان أكثر بلاءً ولا محنة من أيوب. فتأمل في أحوالِ هؤلاء لتعرف أنَّ أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره.(16/427)
فصل
قال بعض الحكماء: الآلام والأسقام الحاصلة في جسمه إنما حصلت بفعل الشيطان، وقيل: إنما حصلت بفعل الله تعالى. والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة أما تقرير القول الأول فهو ما روي أنَّ إبليسَ سأل فيه ربه فقال: هل في عبيدك منْ لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله تعالى: نعم عبدي أيوب فجعل يأتيه بوَسَاوِسِهِ وهو يرى إبليس عياناً ولا يلتفت إليه فقال: رب إنه قد امتنع عليّ فسلِّطْني على ماله فكان يجيئه ويقول له: هَلَكَ من مالك كذا وكذا فيقول: الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله تعالى فقال: يا رب إنّ أيوبَ لا يُبَالي بماله فسلّطني على ولده فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال: يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلّطني على جسده فأذِن فيه فنفخ في جلد أيوب فحدث أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه فمكث في ذلك البلاء سنينَ حتى اسْتَقَدَرَهُ أهلُ بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يَقْرُبُ منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته، وقال: إنَّ زوجك إن استغاث إلَيَّ خَلَّصْتُهُ من هذه البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها فحَلف بالله لئن عافاه الله ليَجلِدُها مائةَ جلده وعند هذه الواقعة قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فأجاب الله دعاءَهُ وأوحى إليه أن: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» وأظهر الله تعالى من تحت رجله عيناً بَاردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه، ورد عليه أهله وماله.
وأما القول الثاني أن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ويدل عليه وجوه:
الأول: أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان ولعل ما عندما من الخيرات والسعادات قد حصل بفعل الشيطان وحينئذ لاسبيل (لنا) إلى معرفة معطي الحياة والموت والصحة والسقم هو الله تعالى أم الشيطان.
الثاني: أن الشيطان لو قدر على ذلك فِلمَ لا يَسْعَى في قتل الأنبياء والأولياء، ولم (لا) يخرب دورهم ولم يقتل أولادهم.
الثالث: أن الله حكى عن الشيطان أنه قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] فصرح بأنه لا قدرة له في حقّ البشر، إلا إلقاء الوَسَاوِ والخواطر الفاسدة فدل ذلك على فساد القول بأن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض.(16/428)
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يقال: إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله لكن على وَفْق التماس الشيطان؟
قلنا: فإذا كان لا بدّ من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى فأيّ فائدةٍ في جعل الشيطان واسطة في لك بل الحق أن المراد في قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} أنه سبب إلقاء الوساوس الفاسدة كأن يلقيه في أنواع العذاب، والقائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا وجوهاً:
الأول: أن علته كانت شديدة الألم ثم طالت تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته ولم يبق له مال ألبتة وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل قدرَ القوت، ثم بلغت نُفْرةُ الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن خدمتهم والشيطان كان يذكر (هُ) النِّعم التي كانت، والآفات التي حصلت وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله تعالى وقال: {مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} لأنه كلما كثرت تلك الخواطر كان تألم قلبه منها أشد.
الثاني: أنه لما طالت مدة المرض جاء الشيطان فكان يقنطه مدة ويَزْلزِلُه أن يجزع فخاف من خاطر القنوط في قلبه وتضرع إلى الله تعالى وقال: إنِّي مسني الشيطان.
الثالث: روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «بَقِيَ أَيُّوبُ فِي البلاء ثمانِ عَشْرَةَ سنةً حتى رَفَضَه القريُ والبَعِيدُ إلاَّ رَجُلَيْن، ثم قال أحدهما لصاحبه: لقد أذنب أيوبُ فقال: لاَ أدْرِي ما تقولان غير أنني كنت أَمُر عَلَى الرجلين يتنازعان فيذكر أن الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأنفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالة إلا في حق» .
الرابع: قيل: إنّ امرأته كانت تخدم الناس وتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب فاتَّفق أنهم ما استخدموها ألبتة وطلب بعض الناس منها قطع إحدى ذُؤَابَتَيْهَا على أن تُعْطيها قدر القوت ففعلت، ثم في اليوم الثاني مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة وكان أيوب - عليه (الصلاة و) السلام - إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذُّؤَابة فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر الرديئة في قلبه، فعند ذلك قال: {مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} .
الخامس: روي أنه - عليه (الصلاة و) السلام - قال في بعض الأيام: يا رب لقد علمتَ أني ما اجتمع عليَّ أمران إلا آثرت طاعتك، ولما أعطيتني المالَ كنت للأرامل(16/429)
قيماً، ولابن السبيل معيناً ولليتامى أباً فنودي: يا أيوب ممِّن كان ذلك التوفيق؟ فأخذ أيوب التراب ووضعه على رأسه وقال: منك يا رب ثم خاف من الخاطر الأول فقال: مَسَّنِي الشيطان بنُصْبٍ وعذاب وذكر احوالاً أُخَرَ. والله أعلم.
قوله: {اركض بِرِجْلِكَ} معناه أنه لما اشتكى مَسَّ الشَّيْطَان فكأنه سأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية فأجابه الله بأن قال: {اركض بِرِجْلِكَ} والرَّكْضُ هو الدفع القويُّ بالرجل. ومنه ركضَ الفَرَسُن والتقدير قُلْنَا له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ قيل: إنه ضرب برجله تلك الأرض فنبعت عين، فقيل: هذا مغتسل باردٌ وشراب أي هذا ما تَغْتَسِلُ به فيبرأ ظاهرك وتشرب منه فيبرأ باطنك. وظاهر (هذا) اللفظ يدل على أنه نَبَعَت له عين واحدة من الماء فاغتسل منه، وشرب منه، والمفسرون قالوا: نَبَعَت له عَيْنَانٍ فاغتسل من إحْدَاهُما وشرب من الأُخْرَى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله تعالى. وقيل: ضرب بِرجْلِهِ اليمين فنبعت عين حارّة فاغتسل منها ثم بالسرى فنبعت عينٌ باردة فشرب منها.
قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} قيل: هم عين أهله وديراه «ومثلهم» قيل: غيرهم مثلهم، والأول أولى؛ لأنه الظاهر فلا يجوز العُدُولُ عنه من غير ضرورة ثم اختلفوا فقيل: أزلنا عنهم السَّقَم فأعيدوا أَصِحَّاء، وقيل: بل حضروا عنده بعد أن غابوا عنه واجتمعوا عبد أن تفرقوا، وقيل: بل تمكن منهم وتمكنوا منه كما يفعل بالعِشْرَة والخِدْمَة.
قوله: {وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} الأقرب أنه تعالى (متَّعه) بصِحَّتِهِ وماله وقواه حتى كثر نسله وصاروا أهله ضعف ما كانوا وأضعاف ذلك. وقال الحسن: المراد بِهبة الأهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هَلَكُوا.(16/430)
قوله: «رَحْمَةً وَذِكْرى» مفعول من أجله وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه وليَتَذَكَّرَ بحاله أولو الألباب يعني سلطنا عليه البلاء أولاً فصبر، ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلنا إليه الآلاء والنَّعْمَاءَ تنبيهاً لأولي الألباب عن أن من صبر ظفر. وهو تسلية لمحمد - عليه (الصلاة و) السلام - كما تقدم. قالت المعتزلة: وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض والمقاصد لقوله: {رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب} .
قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} (ضغثاً) معطوف على «اركُضْ» والضَّغْثُ الحِزْمة الصَّغيرة من الحَشِيش والقُضْبَان، وقيل: الحزمة الكبيرة من القضبان وفي المثل: «ضِغْثٌ عَلَى إبَّالة» والإبَّالَةُ الحزمة من الحَطَب، قال الشاعر:
4276 - وَأَسْفَلَ مِنِّي نَهْدَةٌ قَدْ رَبَطتُهاَ ... وَأَلْقَيْتُ ضِغْثاً مِنْ خَلًى مُتَطَيبِ
وأصل المادة يدل على جمع المختلطات، وقد تقدم هذا في يُوسُفَ في قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} [يوسف: 44] .
قوله: {ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} الحِنْثُ الإثم ويطلق على فعل ما حُلف على تَرْكه أو تَرك ما حلف على فعله لأنهما سببان فيه غالباً.
فصل
هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه، وقد روي أنه حلق على أهله، وختلفوا في سبب حلفه عليها، ويبعد ما قيل: إنها رغبة في طاعة الشيطان ويبعد أيضاً ما رُوِيَ أنها قطعت ذَوَائِبَها لأن المضطر يباح له ذلك، بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليَضرِبنَّهَا مائةً إذا برئ،(16/431)
ولما كانت حسنة الخدمة لا جَرَمَ حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة باقية، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتى برجل ضَعيفٍ زَنَا بأمةٍ فقال: «خُذُوا (عِثْكَالاً فيه) مائة شِمراخ فاضربوه بها ضربةً واحدةً» .
قوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} فإن قيل: كيف وجده صابراً وقد شكا إليه؟
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه شكى مَسَّ الشيطان إليه وما شكى إلى أحدٍ.
والثاني: أن الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئاً فلما عظمت الوَسَاوِسُ خاف على القلب والدين (ف) تَضَرَّع.
الثالث: أن الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر.
قوله: {نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} يدل على أن التشريف بقوله: {نِّعْمَ العبد} إنما حصل لكونه أواباً.
روي أنه لما نزل قوله تعالى: {نِّعْمَ العبد} في حق سليمان تَارةً وفي حق أيوبَ أخرى عظم في قلوب أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقالوا: إن قوله: نعم العبد تشريفٌ عظيم فإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله: {فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الحج: 78] والمراد أنك إن لم تكن نعما لعبد فأنا نعم المولى فإن كان منك الفضل فمني الفضل وإن كان منك التقصير فمني الرحمةُ والتَّيْسِيرُ.(16/432)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
قوله: {واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} قرأ ابن كثير: عَبْدَنا بالتوحيد. والباقون عِبَادَنَا بالجمع والرسم يحلتملهما، فأما قراءة ابن كثير فإبراهيم بدل، أو بيان،(16/432)
أو بإضمار أعني، وما بعده عطف على نفس «عبدنا» لا على: «إبراهيم» ؛ إذ يلزم إبدالُ جمعٍ من مفرد.
ولقائل أن يقول: لما كان المراد بِعَبْدِنَا الجنس جاز إبدال الجمع منع كقراءة ابن عباس: «وإلهِ أبيك إبراهيم» في البقرة [133] في أحد القولين. وقد تقدم. وأما قراءة الجماعة، فواضحة لأنها موافقة للأول في الجمع.
قال ابن الخطيب: لأن غير إبراهيم من الأنبياء قد أجري عليه هذا الوصف فجاء في حق عيسى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] وفي أيوب: {نِّعْمَ العبد} [ص: 44] وفي نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3] والمعنى اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر صبر أيوب على البلاء واذكر صبر إبراهيم حينَ أُلْقِيَ في النار وصبر إسحاق حين عرض على الذّبح وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بَصَرُهُ.
قوله: {أُوْلِي الأيدي} العامة على ثبوت الياء وهو جمع «يَد» وهي إما الجارحة وكني بذلك عن الأعمال لأن أكثر الأعمال إنما تُزَاوَلُ باليد، وقيل: المراد بالأيدي - جمع يد - المراد بها النّعمة. وقرأ عبدُ الله والأعمش والحسنُ وعيسى: الأيدِ بغير ياء، فقيل: هي الأولى. وإنما حُذِفَت الياء اجتزاء عنها بالكسرة ولأن «أَلْ» تعاقبت التنوين والياء تحذف مع التنوين فأُجْرِيتْ مع «أل» إجراؤها معه. وهذا ضعيفٌ جدّاً وقيل: الأيد القوة، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَري قال: وتفسيره بالأيد من التأييد قَلِقٌ غير متمكن انتهى.
وكأنه إنما قلق عنده لعطف «الأَبْصار» عليه فهو مناسب للأيدي لا لِلأَيْدِ من(16/433)
التأييد. وقد يقال: إنه لا يراد حقيقة الجوارحن إذ كُلّ أحدٍ كذلك إنما المراد الكناية عن العمل الصالح والتفكير ببصيرته، فلم يقلق حينئذ إذ لم يرد حقيقة الأبصار وكأنه قيل أولي القوة والتفكر بالبصيرة، وقد نَحَا الزمخشري إلى شيء من هذا قبل ذلك، قال ابن عباس: أولي القوة في طاعة الله والأبصار في المعرفة بالله أي البصائر في الدين، وقال قتادة ومجاهد أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين.
أحدها: أن يكون إضافة خالصة إلى «ذكرى» ، للبيان لأن الخَالصةَ تكون ذكرى وغيرَ ذكرى كما في قوله: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7] لأن الشهاب يكون قبساً وغيره.
الثاني: أن «خالصة» مصدر بمعنى إخلاص فيكون مصدراً مضافاً لمفعوله والفاعل محذوف أي بأنْ أَخْلَصُوا ذكرى الدار واتناسوا عندها ذكر (ى) الدنيا، وقد جاء المصدر على فاعله كالعَافِيَةِ، أو يكون المعنى بأن أَخْلَصْنَا نَحْنُ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ.
الثالث: أنها مصدر أيضاً بمعنى الخُلُوص فتكون مضافة لفاعلها أي بأن خَلستْ لهم ذِكْرى الدار وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة وفيها أوجه:
أحدها: أنها مصدر بمعنى الإخلاص فتكون: «ذِكْرَى» منصوباً به، وأن يكون بمعنى الخُلُوص فيكون «ذكرى» مرفوعاً به كما تقدم.
والمصدر يعمل منوناً كما يعمل مضافاً. أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه، «وذكرى» بدل أو بيان لها أو منصوب بإضمار أعني، أو مرفوع على إضمار مبتدأ و «الدار» يجوز أن يكون مفعولاً به «بذكرَى» وأن يكون ظرفاً إما على الاتِّساع، وإما على إسقاط الخافض. ذكرهما أبو البقاء و «خالصة» إذا كانت صفة فهي صفة لمحذوف أي بسبب خَصْلَةٍ خالصة.(16/434)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
فصل
من قرأ بالإضافة فمعناه أخلصناهم بذكرى الدار الآخرة إن لم يعملوا لها، والذّكرى بمعنى الذكر. قال مالك بن دينار: نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها، وقال قتادة: كانوا يَدعُون إلى الآخرة وإلى الله عزّ وجلّ. وقال السدي: أخلصوا الخوْف للآخرة، وقيل: أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة، قال ابن زيد. ومن قرأ بالتنوين فمعناه بخُلّةٍ خالصةٍ وهي ذكرى الدار فتكون «ذكرى الدار» بدلاً عن الخاصلة أو جعلناهم مخلصين بما اخترنا من ذكر الآخرة والمراد بِذكرى الدار: الذكر الجميل الرفيع لهم في الآخرة.
وقيل: (إنهم) أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا، وقيل: هو دعاؤهم {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84] .
قوله: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} أي المختارين من أبناء جنسيهم، والأخيار: جمع خَيْر أو خَيِّر - بالتثقيل والتخفيف - كأموات في جميع مَيِّتٍ أومَيْتٍ. واحتج العملاء بهذه الآية على إثبات عصمة الأنبياء لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق وهذا يعم حصلو الخيرية في جميع الأفعال ولاصفات بدليل صحة الاستثناء منه.
قوله تعالى: {واذكر إِسْمَاعِيلَ واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار} وهم (قوم) آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله، وقد تقدم شرح أصحاب هذه الأسماء في سورة «الأنعام» .
قوله
: {هذا
ذِكْرٌ} جملة جيء بها إيذاناً بأنَّ القصَّة قد تَمَّتْ وأَخَذَ في أخرى وهذا كما فعل الجاحظ في كتبه يقول فهذا باب ثم يشرع في آخر ويدل على ذلك أنه لما(16/435)
أراد أن يعقب بذكر أهل النار ذكر أهل الجنة ثم قال: «هَذَا وإنَّ لِلطَّاغِين» وقيل: المراد هذا شرف وذكر جميل لهؤلاء الأنبياء يذكرون أبداً والصحيح الأول.
قوله: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} المآب المرجعُ، لما حكى سَفَاهَة قُرَيْش على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقولهم: «سَاحِر كَذَّاب» وقولهم له استهزاء: «عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا» ثم أمره بالصبر على سَفَاهَتهم واقتدائه بالأنبياء المذكورين في صبرهم على الشدائد والمكاره بين ههنا أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا وكل من خالفه كان له من العقاب كذا وكذا. وذلك يوجب الصبر على تكاليف الله تعالى. وهذا نظم حسن، وترتيب لطيف.
قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} العامة على نصب «جنات» بدلاً من «حسن مآب» سواء كانت «جنات عدن» معرفة أم نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس، ويجوز أن تكون عطف بيان إن كانت نكرة ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفةً.
(وقد جوز الزمخشري ذلك بعد حكمه) واستدلاله على أنها معرفة، وهذا كما تقدم له في مواضع يجيز عطف البيان وإن تخلفا تعريفاً وتنكيراً. وقد تقدم هذه في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] ويجوز أن ينتصب «جَنَّاتِ عَدْنٍ» بإضمار فعل، و «مُخَتَّحَةً» حال من «جَنَّات عَدْنٍ» أو نعت لها إن كانت نكرة.
وقال الزمخشري: حال، والعامل فيها ما في «المُتَّقِينَ» من معنى الفعل. انتهى.
وقد علل أبو البقاء بعلة في «مُتَّكِئِينَ» تقتضي مع «مفتحةً» أن تكونَ حالاً وإن كانت العلة غير صحيحة فقال: ولا يجوز أن تكون - يعني متكئين - حالاً من «للمتقين» ؛ لأنه قد أخبر عنهم قبل الحال وهذه العلة موجودة في جعل «مُفَتَّحةً حالاً من للمتقين كما ذكره الزمخشري إلاّ أنّ هذه العلة ليست صحيحة. وهو نظير قولك:» إنَّ لهندٍ لاً قائمةً «وأيضاً في عبارته تجوز فإن» للمتقين «لم يخبر(16/436)
عنهم صناعة إنما أخبر عنهم معنى وإلا فقد أخبر عن» حُسْنَ مَآبٍ «بأنه لهم، وجعل الحوفي العامل مقدراً أي يَدْخُلُونَها مفتحةً.
قوله: {الأبواب} في ارتفاعها وجهان:
أشهرهما عند الناس: أنها مرتفعة باسم المفعول كقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] واعترض على هذا بأن» مُفَتَّحَةً «إما حال، وما نعت» لجَنَّات «.
وعلى التقديرين فلا رابطَ. وأجيب بوجهين:
أحدهما: قول البصريين وهو أن ثَمَّ خبراً مقدراً تقديره الأبوابُ منها.
والثاني: أن ( «أل» ) قامت مقام الضمير، إذ الأصل أبوابها، وهو قول الكوفيين وتقد تحقيق هذا. والوجهان جريان في قوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] .
الثاني: أنها مرتفعة على البدل من الضمير في متفحة العائد على جنات. وهو قول الفارسي لما رأى خلوّها من الرابط لفظاً ادّعى ذلك. واعترض على هذا بأن هذا من بدل البعض أو الاشتمال وكلاهما لا بدّ فيهما من ضمير فيضطر إلى تقديره كما تقدم. ورجح بعضهم الأول بأن فيه إضماراً واحداً وفي هذا إضماران وتبعه الزمخشري فقال «والأبواب» بدل من الضمير في «مفتحة» أي مفتحة هي الأبواب كقولك: «ضُرِبَ زَيْدٌ الْيَدُ والرِّجْلُ» وهو من بدل الاشْتِمال.
فقوله: «بدل الاشتمال» إنما يعني به الأبواب لأن الأبواب قد يقال: إنها ليست بعض الجنات، وأما ضرب زيد اليد والرجل فهو بعض من كل ليس إلا.
وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة جنات عدن مفتحة برفعها إما على أنها جملة من(16/437)
مبتدأ وخبر، وإما على كل واحدة خبر مبتدأ مضمر أي هِيَ جناتٌ هِيَ مفتحةٌ.
قوله: {مُتَّكِئِينَ} حال من «لهم» العامل فيها مفتحة، وقيل: العامل «يَدْعُونَ» (و) تأخر عنها. وقد تقدم منع أبي البقاء أنها حال من «للمتقين» وما فيه، و «يَدْعُونَ» يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً إما من ضمير «متكئين» وإما حالاً ثانيةً.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف أحوال أهل الجنة في هذه الآية بأشياء:
أولها: أحوال مساكنهم جنات عدن وذلك يدل على أمرين:
أحدهما: كونها بساتينَ.
والثاني: كونها دائمةً ليست منقضيةً، وقوله: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} قيل: المراد أن الملائكة يفتحو (ن) لهم أبواب الجنة يُحَيُّونهم بالسلام كما قال تعالى: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] وقيل: الحق أنهم كلما أرادوا انفتاح الأبواب انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم، وقيل: المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن بالسِّعة وقُرَّة العيون فيها، وقوله: {مُتَّكِئِينَ} قد ذكر في آيات أخر كيفية ذلك الاتّكاء فقال في آيةٍ {عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ} [يس: 56] وق في آخرى: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76] «يَدْعُونَ فِيهَا» فِي الجنات بألوان الفاكهة وألوان الشراب والتقدير بفاكهة كثيرة وشارب كثير، ولما بين المسكن والمأكول والمشروب ذكر ألأمر المنكوح فقال {أَتْرَابٌ} أي من غيرهم وقوله «أَتْرَابٌ» أي على سنِّ واحد، وقيل: بنات ثلاث وستين سنة واحدها تِرْب. وعند مجاهد: متواخِيات لا يَتَبَاغَضْنَ ولا(16/438)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
يَتَغَايَرن، وقيل: أتراب للأزواج، وقال القفال: والسبب في اعتبار هذه الصفة أنهن لما تَشَابَهْنَ في الصِّفة والسن والجِبِلّة كان الميل إليهن على السَّوِيَّة وذلك يقتضي عدم الغيرة.
قوله
: {هذا
مَا تُوعَدُونَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «هذا ما يُوعَدُونَ» بياء الغيبة وفي (ق) (و) ابن كثير وحده. والباقون بالخطاب فيهما وجه الغيبة هنا وفي (ق) تقدم ذكر المتقين ووجه الخطاب الالتفات إليهم والإقابل عليهم؛ أي قُلْ لِلْمُتَّقِين هذا ما توعدون ليوم الحساب أي في يوم الحساب «إنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ» أي فناء وانقطاع، وهذا إخبار عن دوام هذا الثواب.
قوله: «من نفاد» إما مبتدأ وإما فاعل و «من» مزيدة، والجملة في محل نصب الحال من رزْقُنَا أي غير فانٍ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً.
قوله
: {هذا
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} يجوز أن يكون «هذا» مبتدأ، والخبر مقدر، فقدره الزمخشري: «هذا كما ذكر» وقدره أبو علي للمؤمنين، ويجوز أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي الأمرُ هذا.
فصل
لما وصف ثواب المؤمنين وصف بعده عقاب الظالمين ليكون الوعيد مذكوراً عقيبَ الوعد والترهيب عقيب الترغيب فقال: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} أي مرجع، وهذا في(16/439)
مقابلة قوله: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} والمراد «بالطاغين» : الكفار، وقال الجبائي: هم أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أم لا، واحتج الأولون بقوله: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} ؛ ولأن هذا ذمّ مطلق فلا يحمل إلا على الكامل في الطغيان وهو الكافر، واحتج الجبائي بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق 6 - 7] فدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل لصاحب الكبيرة، لأن كل من تجاوز حدّ تكاليف الله وتعداها فقد طغى.
قوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد} يجوز أن يكون بدلاً من «شَرَّ مَآبِ» أو منصوبة بإضمار أعني فعل، وقياس قول الزمخشري في: «جَنَّاتِ عَدْنٍ» أي يكون عطف بيان وأن يكون جهنم منصوبة بفغل يتقدمه على الاشتغل أي يَصْلَوْنَ جَهْنَّمَ يَصْلَوْنَها، والمخصوص بالذم محذوف أي «هِيَ» .
قوله: {فَبِئْسَ المهاد} هو معنى قوله: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] شبَّه الله تعالى ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرشه النائمُ.
قوله: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ} في هذا أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ وخبره: «حميمٌ وغَسَّاقٌ» وقد تقدم أن اسم الإشارة يكتفي بواحدة في المثنى كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] أو يكون المعنى: هذا جامع بين الوصفين ويكون قوله: {فَلْيَذُوقُوهُ} جملة اعتراضية.
الثاني: أن يكون «هذا» منصوباً بمقدر على الاشتغال أي لِيَذُوقُوا هذا، وشبهه الزمخشري بقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] يعني على الاشتغال والكلام على مثل هذه الفاء قد تقدم و «حمِيمٌ» على هذا خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ وخبره مضمر أي مِنْهُ حميمٌ ومنهُ غسَّاقٌ كقوله:(16/440)
4277 - حَتَّى إذَا مَا أَضَاءَ الْبَرْقُ فِي غَلَسٍ ... وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُودُ
أي منه ملويٌّ ومنه محصود.
الثالث: أن يكون «هذا» مبتدأ والخبر محذوف أي هذا كَمَا ذُكِرَ أو هذا للطاغين.
الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمر أي الأمر هذا ثم استأنف أمراً فقال «فَلْيَذُوقُوهُ» .
الخامس: أن يكون مبتدأ خبره فليذوقوا وهو رأي الأخفش ومنه:
4278 - وَقَائِلَةٍ خَوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... وتقدم تحقيق هذا عند قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا} [المائدة: 38] وقرأ الأَخَوانِ وحفصٌ غَسَّاق بتشديد السين هنا وفي {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} [النبأ: 1] وخَفَّفَهُ الباقون فيها فأما المثقل فهو صفة كالجّبَّار والضَّرَاب مثال مبالغةٍ وذلك أن «فَعَّالاً» في الصفات أغلب منه في الاسم ومِنْ وُرُودِهِ في الأسماء الكلاَّء والحَبَّان والفَيًَّاد لذَكَر البوم والعَقَّار والخَطَّار وأما المخفف فهو اسم لا صفة لأن فَعَالاً بالتخفيف في الأسماء كالعَذَاب والنَّكَال أغلب منه في الصفات على أنَّ منْهُمْ من جعلَهُ صفةً بمعنى «ذو كذا» أي ذِي غَسَق، وقال أبو البقاء أو يكون «فَعَّال» بمعنى(16/441)
فَاعِلٍ.
قال شهاب الدين: وهذا غير معروفٍ.
فصل
قيل: هذا على التقديم والتأخير والتقدير: هذا حميمٌ وغَسَّاق (فَليَذُوقُوهُ، وقيل: التقدير: جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ثم يبتدئ فيقوله: حَمِيمٌ وغَسَّاق أي منه حميم وغساق) والغَسَقُ السَّيَلاَنُ، يقال: غَسَقَتْ عَيْنهُ أي سَالَتْ، قال المفسرون: إنه ما يسيل من صديدهم، وقيل: غسق أي امتلأ، ومه غسبقت عينه أي امتلأت بالدمع ومنه الغَاسِق للقمر لامتلائه وكماله. وقيل: الغَسَّاق ما قَتَلَ ببردِهِ، ومنه قيل: لليل: غاسِقٌ، لأنه أبرد من النهار، (و) قال ابن عباس: هو الزَّمْهَريرُ يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرِّها. وقال مجاهد وقتادة: هوا لذي انتهى برده، وقيل: الغسق شدة الظلمة ومنه قيل للَيل غاسق، ويقال للقمر غاسق إذا كسف لا سُوِدَادِهِ، والْقَولان منقوللان في تفسير قوله تعالى: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] وقيل: الغساق: المنتن بلغة الترك وحكى الزاج: «لو قَطَرَتْ منه قطرة بالمغرب لأَنْبَنَتْ أهل المشرق» وقال ابن عُمَر: هوا لقيح الذي يسيل منهم يجتمع فيُسْقَوْنَهُ، قال قتادة: هو ما يَغْسِقُ أي يسيل من القيح والصَّديد من جلودها أهل النار ولحومهم وفروج الزناة من قولهم: غَسَقَتْ عَيْنُهُ إذا انْصَبَّتْ والغَسَقَانُ الانْصَابُ، قال كعب: الغَسّاق عينٌ في جهنم يسيل إليهم كل ذوات حية وعقرب.
قوله: {وَآخَرُ} قرأ أبو عمرو بضم الهمزة على أنه جمع وارتفاعه من أوجهٍ:
أحدها: أنه مبتدأ و «مِنْ شكْلِهِ» خبره، و «أَزْوَاجٌ» فاعل به.
الثاني: أن يكون مبتدأ أيضاً و «مِنْ شَكْلِهِ» خبر مقدم، و «أزواج» مبتدأ. والجملة خبره، وعلى هذين القولين فيقال: كيف يصحُّ من غير ضمير يعود على «آخر» فإن(16/442)
الضمير في «شكله» يعود على ما تقدم أي من شكل المذوق؟ والجواب أن الضمير عائد على المبتدأ وإنما أفرد وذكر لأن المعنى من شكل ما ذكرنا. ذكر هذا التأويل أبُو البَقَاء. قود منعَ مَكِّيٌّ ذلك لأجل الخُلُوِّ من الضمير وجوابه ما ذكرنا.
الثالث: أن يكون «مِنْ شَكْلِهِ» نعتاً «لآخر» و «أزواج» خبر المبتدأ أي «آخر من شكله المذوق أزواج» .
الرابع: أن يكون «مِنْ شَكْلِهِ» نعتاً أيضاً، و «أزواج» فاعل به والضمير عائد على «آخر» بالتأويل المتقدم وعلى هذا فيرتفع «آخر» على الابتداء، والخبر مقدر أي ولهم أنواع أخرُ استقر من شكلها أزواج.
الخامس: أن يكون الخبر مقدراً كما تقدم أي ولهم آخر و «مِنْ شَكْلِهِ» و «أزواج» صفتان لآخر، وقرأ العامة «من شَكْله» بفتح الشين، وقرأ مجاهد بكسرها وهما لغتان بمعنى المثل والضرب. تقوله: هذَا عَلَى شَكْلِهِ أي مثله وضربه وأما الشِّكْل بمعنى الغنج فبالكسر لا غير. قاله الزمخشري وقرأ البَاقُونَ وآخر بفتح الهمزة عليه من غير تأويل لأنه مفرد إلا أن في أحد الأوجه يلزم الإخبار عن المفرد بالجمع أو وصف المفرد بالجمع لأن من جملة الأوجه المتقدمة أن يكون «أزواج» خبراً عن «آخر» أو نعت له كما تقدم. وعنه جوابان:
أحدهما: أن التقدير وعذاب آخر أوم ذوق آخر، وهو ضروب ودرجات فكان في قوة الجمع أو يجعل كل جزء من ذلك الآخر مثل الكل وسماه باسمه وهو شائع كثير نحو غَلِيظ الحَوَاجب وشابت مفارقه.(16/443)
على أن لقائل أن يقول: إن «أزواجاً» صفة للثلاثة الأشياء أعني الحميم والغساقَ وآخرَ من شكله فيلغي السؤال.
قوله: {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} مفعول «مقتحم» محذوف أي مُقْتَحِمٌ النار، والاقتحام الدخول في الشيء بشدة والقُحْمةُ الشدة. وقال الراغب: الاقتحام توسط شدة مخيفة ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي توغل به ما يخاف منه، والمقاحيم الذين يقتحمون في الأمر الذي يتجنب.
قوله: {مَعَكُمْ} يجوز أن يكون نعتاً ثانياً «لِفَوْجٍ» وأن يكون حالاً من الضمير المستتر في «مُقْتَحِمٌ» قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون طرفاً لفساد المعنى، قال شهاب الدين: ولَمْ أدرِ من أي وجه يفسد والحالية والصفة في المعنى كالظرفية، وقوله: «هَذَا فَوْجٌ» إلى «النار» يجوز أن يكون من كلام الرؤساء بعضهم لبعض بدليل قول الأتباع «لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوه لَنَا» وأن يكون من كلام الخَزَنَة، ويجوز أن يكون «هَذَا فَوجٌ» من كلام الملائكة والباقي من كلام الرؤساء. وكان القياس على هذا أن يقال: بَلْ هُمْ لا مرحباً بهم لا يقولون للملائكة ذلك إلا أنهم عدلوا عن خطاب الملائكة إلى خطاب أعدائهم تشفياً منهم. والمعنى هنا جمع كثيف وقد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال، والفَوْجُ القطيعُ من النَّاسِ وجمعه أفواجٌ.
(قوله) : {} في «مرحباً» وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول بفعل مقدر أي لا أتيتم مرحباً (أولا سعتم مرحباً.
والثاني: أنه منصوب على المصدر قاله أبو البقاء أي لا رَجُبَتكُمْ دارُكُمْ مَرْحَباً) بل ضِيقاً، ثم في الجملة المنفية وجهان:(16/444)
أحدهما: أنها مستأنفة سِيقَتْ للدعاء عليهم، وقوله: «بِهِمْ» بيان للمدعُوِّ عليهم.
والثاني: أنها حالية، وقد يعترض عليه بأنه دعاء والدعاء طلب (والطلب) لا يقع حالاً والجواب أنه على إضمار القول أي مقولاً لهم لا مرحباً قال المفسرون قوله تعالى: {لاَ مَرْحَباً} دعاء منهم على أتباعهم يقول الرجل لمن يدعو له: مرحباً أي أتيت رَحْباً من البلاد لا ضيقاً أو رَحُبَتْ بلاَدُكَ رَحْباً، ثم تدخل عليه كلمة «لا» في دعاء النفي.
قوله: {إِنَّهُمْ صَالُو النار} تعليل لاستجابة الدعاء عليهم ونظير هذه الآية قوله: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] «قالوا» أي الأتباع {بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به وعللوا ذلك بقوهم: «أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا» والضمير للعذاب أو للضَّلال.
فإن قيل: ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟
فالجواب: الذي أوجب التقديم عو عمل السوء كقوله تعالى: {يقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 9، 10] إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل: أنتم قدمتموه لنا، وقوله: «فبئس القرار» أي بئس المستقرّ والمستكنّ جهنم.
قوله: {مَن قَدَّمَ} يجوز أن تكون «مَنْ شرطية و (» ف (زِدُهُ «جوابها، وأن تكون استفهامية وقدّم خبرها أي (أن) أي شخص قم لنا هذا؟ ثم استأنفوا دعاءً، بقوله:» فَزِدْهُ «وأن تكون موصولة بمعنى الذي وحينئذ يجوز فيها وجهان: الرفع بالابتداء والخبر» فَزِدْهُ «والفاء زائدة تشبيهاً له بالشرط، والثاني: أنها منصوبة بفعل مقدر على الاشتغال والكلام في مثل هذه الفاء (قَدْ) تقدم.
وهذا الوجه يجوز عند بعضهم حال كونهم شرطية أو استفهامية أعين الاشتغال إلا أنه لا يقدر الفعل إلا بعدها لأن لها صدر الكلام و» ضِعْفاً «نعت لعذاب أي مضاعفاً.(16/445)
قوله: {فِي النار} يجوز أن تكون ظرفاً» لِزدْهُ «أو نعتاً» لعَذَابٍ «أو حالاً منه لتخصيصه أو حالاً من مفعول» زِدْهُ «.
قوله: {قَالُوا} يعني الأتباع» رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا «أي شرعَهُ وسنَّهُ لنا فزده عذاباً ضعفاً أي مضاعفاً» فِي النًَّارِ «ونظيره قوله تعالى: {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً (ضِعْفاً) مِّنَ النار} [الأعراف: 38] وقولهم {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: 67 - 68] .
فإن قيل: كل مِقْدَارٍ يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً وإن كان زائداً عليه كان ظلماً وإنه لا يجوز.
فالجواب: المراد منه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وزْرُها ووِزْرُ من عَمِلَ بِهَا إلى يَوم الْقِيَامَةِ «والمعنى أنه يكون أحد القِسمين عذاب الضَّلاَلِ، والثَّانِي عذاب الإضْلاَلِ، والله أعلم.
وهذا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحباباً لهم في الدنيا، وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا اعاء لهم في الدنيا فهو قوله: {وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار} أي أن صناديد قريش قالوا، وهم في النار: {وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار} في الدنيا يعنون فقراء المؤمنين عماراً وخباباً وصهيباً وبلالاً وسلمان وسموهم أشراراً إما بمعنى الأرذال الذين لاَ خير فيهم ولا جدوى أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشْراراً.
قوله: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} قرا الأخوان وأبو عمرو بوصل الهمزة، وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون خبراً محضاً وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية «لرجالاً» كما وقع «كُنَّا نَعُدُّهُمْ» صفة وأن يكون المراد الاستفهام وحذفت أداته لدلالة «أَمْ» عليها كقوله:(16/446)
4279 - تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِر ... وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِر
«فأم» متصلة على هذا، وعلى الأول منقطعة، بمعنى «بل» والهمزة لأنها لم يتقدمها همزة استفهام ولا تسوية، والباقون بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل، والظاهر أنه لا محل للجملة حينئذ لأنه طلبية، وجوز بعضهم أن تكون صفة لكن على إضمار القول أي رجالاً مقولاً فيهم أتخذناهم كقوله:
4280 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... جَاؤُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطّ
إلا أن الصفة في الحقيقة ذلك القول المضمر، وقد تقدم الخلاف في «سُخْرِيًّا» في «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» والمشهور من الهُزْء كقوله:
4281 - إنّي أَتَانِي لِسَانٌ لاَ أُسَرُّ بَِهَا ... مِنْ عَلْوِ لاَ كَذِبٌ فِيهَا ولا سُخْرُ
وتقدم معنى لحاق الياء المشددة في ذلك، و «أم» مع الخبر منقطعة فقط كما تقدم ومع الاستفهام يجوز أن تكون متصلةً، وأن تكون منقطعةً كقولك: (أ) زَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عِنْدَكَ عَمْرو، ويجوز أن يكون «أَمْ زَاغَتْ» متصلاً بقوله: {مَا لَنَا} ؛ لأنه استفهام إلا أنه يتعين انقطاعها لعدم الهمزة ويكون ما بينهما معترضاً على قراءة «أَتَّخَذْنَاهُمْ» بالاستفهام إن لم(16/447)
تجعله صفةً على إضمار القول كما تقدم. قال أَهْلُ المعاني: قراءة الأخوين أولى لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخرياً لقوله تعالى: {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون: 110] فلا يستقيم الاستفهام. وتكون «أم» على هذه القراءة بمعنى «بل» وأجاب الفراء عن هذا بأَن قال: هذا من الاستفهام الذي معاه التعجب والتوبيخ. ومثلُ هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم ومن فتح الألف قال هو على اللفظ لا على المعنى ليعادِل «أمْ» في قوله «أَمْ زَاغتْ» .
فإن قيل: فما الجملة المعادلة بقوله: «أم زاغت» على القراءة الأولى؟
فالجواب: أنها محذوفة، والتقدير: أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ وقرأ نافعٌ سُخْريًّا - بضم السِّين - والباقون بكسرها فقيل: هما بمعنى، وقيل: الكسر بمعنى الهُزْء، وبالضم التذليل والتسخير وأما نظم الآية على قراءة الإخبار فالتقدير: مَا لَنَا نَرَاهُمْ حَاضِرينَ لأجْلِ أنَّهُمْ لحَقَارَتِهمْ تُركوا لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار، ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم: «أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْريًّا» وأما على قراءة الاستفهام فالتقدير لأجل أنّا قد اتخذناهم سخرياً وما كانوا كذلك فلم يدخلوا لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار.
فصل
معنى الآية: ومَا لَنَا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخرياً لم يدخلوا معنا النَّار أم دخلو (ها) فزاغت أي فمالت عنهم أبصارنا فَلَمْ نَرَهُمْ حتى دخلوا.
وقيلي: (أم) هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا، وقال ابن كيسان أم كانوا خيراً منا ونحن لا نعلم فكان أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدُهُّمْ شيئاً.(16/448)
قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} أي الذي ذكرت لحق أي لا بدّ وأن يتكلموا به، ثم بين ذلك الذي حكاه عنهم فقال: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} العامة على رفع «تخاصم» مضافاً «لأهل» وفيه أَوْجُهٌ:
أحدها: أنه بدل من «لَحَقّ» .
الثاني: أنه عطفُ بيان.
الثالث: أنه بدل من «ذَلِكَ» على الموضع حكاه مكي وهذا يوافق قولَ بعضِ الكوفيين.
الرابع: أنه خبر ثانٍ ل «إنَّ» .
الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هُو تَخَاصُمُ.
السادس: أنه مرفوع بقوله: «لحَقّ» إلا أن أبا البقاء قال: ولو قيل: هو مرفوع «بحق» لكان بعيداً لأنه يصير جملة ولا ضمير فيها يعود على اسم «إنّ» ، وهذا رد صحيح. وقد يجاب عنه بأن الضمير مقدر أن لحقٌّ تَخَاصُم أهل النار فِيهِ، كقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] أي مِنْهُ، وقرأ ابن مُحَيْصِن بتنوين «تَخَاصُمٌ» ورفع «أَهْلُ» فرفع «تخاصم» على ما تقدم، وأما رفع «أهل» فعلى الفاعلية بالمصدر المنون كقولك: «يعجبني تَخَاصُمٌ الزيدونَ» أي «أَنْ» تَخَاصَمُا «وهذا قولُ البَصْرِيِّينَ، وبعض الكوفيين خَلاَ الفراءَ وقرأ ابنُ أبي عبلة تَخَاصُمَ بالنصب مضافاً» لأهل «وفيه أوجه:(16/449)
أحدها: أنه صفة» لذلك «على اللفظ، قال الزمخشري: لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس وهذا فيه نظر لأنهم نصوا على أن أسماء الإشارة لا توصف إلا بما فيه أل نحوه: (مَرَرْتُ) بهَذَا الرجل ولا يجوز:» مَرَرْتُ «بهذا غلامِ الرجلِ، فهذا أبعد، ولأن الصحيح أن الواقع بعد اسم الإشارة المقارن» لأل «إن كان مشتقاً كان صفة وإلا كان بدلاً، و» تخاصم «ليس مشتقاً.
الثاني: أنه بدل من» ذَلِكَ «الثالث: أنه عطف بيان.
الرابع: على إضمار أَعْنِي، وقال أَبُو الفَضْلِ: ولو نصب» تَخَاصُم «على أنه بدل من» ذلك «لجاز انتهى. كأنه لم يطلع عليها قراءة. وقرأ ابن السَّمَيْقَع» تَخَاصَمَ «فعلاً ماضياً» أَهْلُ «فاعل به وهي جملة استئنافية، وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول الرؤساء:» لا مرحباً بهم «وقول الأتباع» بل أنتم لا مرحباً بكُم «من باب الخُصُومَة.(16/450)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)
قوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ} لما شرح الله نعيمَ أهلِ الثَّوَابِ وعقابَ أهلِ العقاب عاد إلى تقرير التوحيد والنبوة والبعث المذكورين أول السورة فقال: قُلْ يا محمد إنما أَنا مُنْذِرٌ مخوف ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار فكونه واحداً يدل على عدم التشريك وكونه قهاراً مشعر بالترهيب والتخويف ولما ذكر ذلك أردفهبما يدل على الرجاء والترغيب فقال: {رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا العزيز الغفار} فكونه ربًّا يشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه غفاراً يشعر بأن العبد لو أقدر على المعاصي والذنوب فإنه يغفر برحمته. وهذا الموصوف هو الذي (يجب عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويُرْجَى ثوابه ويجوز أن يكون) «رب السموات» خبر مبتدأ مضمر، وفيه معنى المدح.
قوله {هُوَ نَبَأٌ} (هو) يعود على القرآن وما فيه من القصص والأخبار، وقيل: على(16/450)
تخاصم أهل النار وقيل: على ما تقدم من إخباره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأنه نذير مبين وبأن الله إله واحدٌ متصف بتِلْكَ الصفات الحُسْنَى و {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} صفة «لنبأ» ، أو مستأنفة، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: المراد بالنبأ العظيم القرآن، وقيل: القيامة لقوله: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1 2] .
قال ابن الخطيب: هذا النبأ العظيم يحتمل وجوهاً: فيمكن أن يكون المراد به القول بأن «الإله» واحد، وأن يكون المراد القول بإثبات الحشر والقيامة نبأ عظيم ويمكن أن يكون المراد (كون) القرآن معجزاً لتقدم ذكره في قوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ} [ص: 29] وهؤلاء الأقوام أعراضوا عنه قوله: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى} [ص: 69] يعني الملائكة فقوله: {بالملإ الأعلى} [ص: 69] متعلق بقوله: {مِنْ عِلْمٍ} [ص: 69] وضمن معنى الإحاطة فلذلك تعدي بالباء و (قد) تقدم تحقيقه.(16/451)
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
قوله: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: هو منصوب بالمصدر أيضاً.
والثاني: بمضاف مقدر أي بكَلاَم الملأ الأعلى إذْ؛ قال الزمخشري والضمير(16/451)
في «يَخْتَصِمُونَ» للملأ الأعلى هذا هو الظاهر، وقيل: لقُرَيْش أي يختصمون في الملأ الأعلى فبعضهم يقول: بنات الله، وبعضهم يقول غير ذلك فالتقدير إذْ يختصمون فيهم؛ (يعني) في شأنِ آدم، قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا} [البقرة: 30] .
فإن قيل: الملائكة لا يجوز أن يقال: إنهم اختصموا بسبب قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، والمخاصمة مع الله كفر.
فالجواب: لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة لجواز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه، ولما أمر الله تعالى محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول: {إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} يعني أنا ما عرفت هذها لمخاصمة إلا بالوحي.
قوله: {إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ} العامة على فتح همزة «أنَّما» وفيها وجهان:
أحدهما: أنها مع ما في خبرها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل أي ما يوحى إلَيَّ (إلا) الإنذار أو إلا كوني نذيراً مبيناً.
والثاني: أنها في محل نصب أو جر بعْدَ إسقاط لام العلة والقائمة مقام الفاعل على هذا الجار والمجرور أيْ ما يوحى إليّ إلاّ للإنذار، أو لكوني نذيراً، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل على هذا ضميراً يدل عليه السياق أي ما يوحى إليّ ذَلِكَ الشيءُ إلا للإنذار. وقرأ أبو جعفر الكسر؛ لأن الوحي قول، قاله البغوي. وهي القائمة مقام الفاعل على سبيل الحكاية كأنه قيل: ما يُوحَى إلَيَّ إلا هذه(16/452)
الجملة المتضمنة لهذا الإخْبار، وقال الزمخشري: (على) الحكاية أي إلا هذا القول وهو أنْ أولَ لكم إنَّمَا أَنَا نذيرٌ مبينٌ ولا أَدَّعِي شيئاً آخَرَ. قال أبو حيان: وفي تخريجه تعارض لأنه قال إلا هذا فظاهره الجملة التي هي «إنِما أنَا نذيرٌ مبين» ثم قال: وهو أن أقول لكم إني نذير، فالقائم مقام الفاعل هو أن أقوال لكم وإنِّي وما بعده في موضع نصب. وعلى قوله: «إلاّ هذا القول» يكون في موضع رفع فتَعَارَضَا.
قال شهاب الدين: ولا تعارض البتة لأنه تفسير معنى في التقدير الثاني وفي الأول تفسير إعراب فلا تعارض.
قوله: {إِذْ قَالَ} يجوز أن يكون بدلاً من «إذْ» الأولى وأن يكون منصوباً باذْكُرْ مقدراً قال الأول الزمخشري وأطلق، (و) أبو البقاء الثاني وأطلق وفصل أبو حيان فقال بدل من «إِذْ يضخْتَصِمُونَ» هذا إذا كانت الخصومة في شأن مَنْ يستخلف في الرض وعلى غيره من الأقوال يكون منصوباً «باذْكُرْ» انتهى قال شهاب الدين: وتِلْكَ الأقوال أن التَّخَاصُمَ إما بين الملأ الأعلى أو بين قريش وفي ما (إ) ذا كان المخاصمة خلاف.
قوله: {مِّن طِينٍ} يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة «لِبَشَراً» وأن يتعلق بنفس «خَالِق» .
فصل
اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحَسَد والكِبْر؛ لأن إبليس وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر والكفار إنما نازعُوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بسبب الحَسَد والكبر فذكر الله تعالى هذه القصة ههنا ليصير سماعُها زادراً لهم عن هاتين الخَصْلَتَيْن(16/453)
المذمومتين، والمراد بالبشر ههنا: آدم عليه (الصلاة و) السلام -.
قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أتمت خلقه {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} فأضاف الروح إلى نفسه وذلك يدل على أنه جوهر شريف علويّ قدسيّن والفاء في قوله: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} يدل على أنه كما تم (نفخ) الروح في الجَسَد توجه أمر الله عليهم بالسجود. وقد تقدم الكلام في الملائكة المأمورين بالسجود (و) هل هم ملائكة الأرض أو يدخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل وميكائيل والروح الأعظم المذكور في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38] وقال بعض الصوفية: الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم هم القوى النَّباتيّة والحيوانية والحسيّة والحركيّة فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة، وإبليس الذي لم يسجد هو القوى الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل.
قوله: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} تأكيدان. وقال الزمخشري «كل» للإحَاطَةِ و «أجْمَعُونَ» للاجْتماع، فأفادا معاً أنهم سدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إى سجد وأنهم سدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرّقين.
وقد تقدم الكلام معه في ذلك في سورة الحِجرِ.
قوله: {أَن تَسْجُدَ} قد يستدل به من رى أن «لا» في «أنْ لا تَسْجُدَ» في السورة الأخرى زائدة، حيث سقطت هنا والقصة واحدة. وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ} قد يستدل به من يرى جواز وقوع «ما» على العاقل؛ لأن المراد به آدم، وقيل: لا دليل فيه لأنه كان فَخَّاراً غير جسم حسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحالة. وهذا ليس بشيء؛ لأن هذا الخطاب إنما كان بعد نَفْخ الرُّوح فيه لقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن(16/454)
رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] فلما امتنع من السجود قال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقيل: ما مصدرية غير مارد فيكون واقعاً موقع المفعول به أي لمخْلُوقي. وقرأ الجّحْدريّ «لَمَّا» بتشديد الميم وفتح اللام وهي «لَمَّا» الظرفية عند الفارسيِّ، وحرف وجوب لوجوب عند سيبَويْهِ، والمسجود له على هذا غير مذكور؛ أي ما منعك من السجود لَمَّا خلقتُ أي حين خلقتُ لمن مرتك بالسجود له.
قرئ: «بِيدَيِّ» بكسر الياء كقراءة حمزة: {بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم: 22] وتقدم ما فيها وقرى: بِيَدِي بالإفراد.
قوله: {أَسْتَكْبَرْتَ} قرأ العامة بهمزة الاستفهام، وهو استفهام توبيخ وإنكار، و «أم» متصلة هنا، وهذا قول جمهور النَّحْويِّينَ ونقله ابنُ عطيةَ عن بعض النحويين أنا لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين وإنما تكون معادلة إذا دخلتا على فعل واحد كقولك: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو، وأزيدٌ قَامَ أمْ عمرٌو، وإذا اختلفت الفعلان كهذه الآية فليست معادلةً وهذا الذي حكاه عن بعض النحاة مذهب فاسد بل جمهور النحاة على خلافه. قال سيبويه: وتقول: أَضَرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَهُ، فالبداءَةُ هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحَدِهما لا تدري أيُّهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت: أيّ ذلك كان انتهى، فعادل بها الألف مع اختلاف الفعلين، وقرأ جماعة منهم ابنُ كَثيرٍ - وليست مشهورةً عنه - اسْتكْبَرْتَ بألف الوصل؛ فاحتملت وجهين:(16/455)
أحدهما: أن يكون الاستفهام مراداً يدل عليه «أم» كقوله:
4282 - ... ... ... ... ... ..... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمانِ
وقوله:
4283 - تَرَوَّحُ مِنَ الحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرُ..... ... ... ... ... ...
فتتفق القراءتان في المعنى، واحتمل أن يكون خبراً محضاً، وعلى هذا «فأم» منقطعة لعدم شرطها.
فصل
المعنى استكبرت الآن أم كنت من المتكبرين أبداً أي من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم فأجاب إبليس بقوله: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فبين كونه خيراً منه بأن أصله من النار، وأصل آدم من الطين، والنار أشرق من الطين، والدليل على أن النَّارَ أفضلُ من الطين أن الأجرام الفَلَكِيَّة أفضلُ من الأجرام العُنْصُريَّة، والنار أقرب العاصر من الفَلَك والأرض أبعدها عنه، فوجب كونُ النار أفضلَ من الأرض وأيضاً فالنار خليفة الشمس والقمر في إضاءة العالم عند غيبتهما، والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض وأيضاً فالكيفية الفاعلة الأصلية غما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحَرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت، وأيضاً فالنار لطيفة، والأرض كثيفة، واللطافة أشرف من الكثافة وأيضاً فالنار مشرقة والأرض مظلمة، والنور خير من الظلمة، وأيضاً فالنار خفيفة تشبه الروح، والأرض كثيفة تشبه الجسد، والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض، وذهب آخرون إلى تفضيل الأرض على النار، وقالوا: إن الأرض(16/456)
أمينٌ مُصلح فإذا أوْدَعْتَهُ حبَّةً ردَّها إليك شجرةً مثمرةً، والنار خائنٌ مفسد كُلَّ ما سلمته إليه وأيضاً فالنار بمنزلة الخادم لِمَا في الأرض إن احتيج إليها استُدْعِيَتْ استدعَاء الخادم وإن استغني عنها طردت وأيضاً والأرض مستولية على النار فإنها تطفئ النار وأيضا فإن استدلال إبليس بكون أصله خيراً من أصله فهو استدلال فاسدلأن أصل الرماد وأصل البساتين المزهرة والأشجار المثمرة هو الطين، ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد وأيضاً (هب) أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفَضيلة إلا ان هذا يمكن أن يعارَض بجهةٍ أخرى فوجب الرُّجْحَانُ مثل إنسان نَسِيب عارٍ عن كل الفضائل فإنّ نَسَبَهُ يوجب رُجْحَانَهُ إلا أن من لا يكون نسيباً قد يكونُ كثيرَ العلم والزهد فيكون أفضل من النّسيب بدرجات لا حدّ لها فكذبت مقدمة إبليس.
فإن قيل: هب أن إبليس أخطأ في هذا القياس لكنه كيف لزمخ الكفر في تلك المخالفة؟ وتقرير هذا السؤال من وجوه:
الأول: أن قوله: «اسْجُدُوا» أمرٌ والأمر لا يقتضي الوجوب بل النَّدْبَ، ومخالفة الندب لا تقضي العصْيَانَ فضلاً عن الكفر، (وأيضاً فالذين يقولون: إن الأمر للوجوب فهم لا ينكورن كونه محتملاً للندب احتمالاً ظاهراً ومع قيام الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلاً عن الكفر؟ {) .
الثاني: هب أنها للوجوب إلاّ أنَّ إبليس ما كان من الملائكة فالأمر (بالسدود) لآدم لا يدخل فيه إبليس.
الثالث: هب أنه تناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فجاز أن يخصص نفسه من عموم ذلك الأمر بالقياس.
الرابع: هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأموراً به إلا أن هذا القدر يوجب العِصْيَانَ ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر؟} .
فالجواب: هب أن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القراءن ما يدل على الوجوب وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} ، فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد ودل ذلك على أنه إنما ذكر القياس(16/457)
ليتوسل به إلى القَدْح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر. وإذا عرفتَ هذا فنقول: إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى: {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} وقد ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف، وههنا الحكم بكونه رجمياً ورد عيبَ ما حكمى عنه أنه خصص النص بالقياس فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم.
قوله: «مِنْهَا» أي من الجنة أو من الخِلْقَة لأنه كان حَسَناً فرَجَعَ قبيحاً؛ وكان نُورَانِيًّا فعاد مُظْلِماً. وقيل: من السَّمَوَاتِ وقال هنا لَعْنَتِي وفي غيرها اللَّعنة، وهما وإن كانا في اللفظ عامًّا وخاصًّا إلا أنهما من حيث المعنى عامًّان بطريق اللازم لأن من كانت عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل أحدٍ لا مَحَالَةَ، وقال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] وباقي الجملة تقدم نظيرُها؟
قوله: «الرَّجِيم» المرجوم والرَّجم ههنا عبارة عن الطَّرْد؛ لأن الظاهر أن من طُرِدَ فقد يرمى بالحجارة وهو الرجم فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد.
فإن قيل: الطرد هو اللَّعن، فلو جملنا قوله: «رَجيمٌ» (على الطرد) لكان قوله بعد ذلك: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتيا} تَكْرَاراً.
فالجواب: من وجهين:
الأول: أنّا نحمل الرجم على الطرد من الجنة من السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله.
الثاني: أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين} على أنه الطرد إلى يوم القيامة فيكون على هذا فيه فائدة زائدة ولا يكون تكراراً، وقيل: المراد بالرجم كون الشياطين مرجومين بالشهب.
فإن قيل: كلمة «إلى» لانتهاء الغاية فقوله: {إلى يَوْمِ الدين} يقتضي(16/458)
انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين وأجاب الزمخشري بأن اللغنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم القيامة حصل مع اللعنة أنواع من العذاب فتصير اللعنة مع حصرها منفية واعمل أنَّ إبليس لما صار مغلوباً قال: «فَانْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» ، قيل: إنما طلب الإنظار إلى يوم القيامة لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا أُنظر إلى يوم البعث لم يَمُت قبل يوم البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت فقال تعالى: {فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} أي إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه فقال إبليس: «فَبِعِزَّتِكَ» وهو قسم بعزة الله وسلطانه لأُغْوِيَنَّهُم أَجْمَعِينَط فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه على مذهب القَدَرِيَّة، وقال مرة أخرى: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي فأضاف الإغواء إلى الله على ما هو مذهبُ الجَبْرية. ثم قال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} قيل: إن غرض إبلس من هذا الاستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء او أدعى أنه يغوي الكل لظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله المخلصين وعند هذا يقال: إن الكذب شيء يستنكفُ منه إبليس فكيف يليق بالمسلم (الإقدام عليه) ؟ وهذا يدل على أن إبليس لا يُغْوي عباد الله المخلصين، وقد قال الله تعالى في صفة يُوسُفَ عليه (الصلاة و) السلام -: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] فتحصل من مجموع الآيتين أن إبليس ما أغوى يوسفَ عليه السلام فدل على كذب المَانَوِيَّة فيما نسبوه إلى يوسف - عليه (الصلا و) السلام - من القبائح.
قوله: {فالحق والحق} قرأهما العامة منصوبيين، وفي نصب الأول أوجه:
أحدها: أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كقوله:
4284 - فَذَاكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ ... وقوله: لأَمْلأَن (جَهَنَّمَ) جواب القسم، قال أبو البقاء: إِلاَّ أَنَّ سِيبَوَيْهِ يدفعه(16/459)
لأنه لا يجوز حذف حرف القسم إِلاَّ مع اسم الله ويلكون قوله: {والحق أَقُولُ} معترضاً بين القسم وجوابه قال الزمخشري: كأنه قيل: ولا أقولُ إلاَّ الحَقَّ يعني أن تقديم المفعول أفاد الحصر.
والمراد بالحق إما الباري تعالى كقوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 25] وإمّا نقيض الباطل.
والثاني: أنه منصوب على الإغراء أي الزّمُوا الحَقَّ.
والثالث: أنه مصدر مؤكد لمضْمُونِ قَوْلِهِ: «لأَمْلأَنَّ» قال الفَّرَاء: هو على معنى قولك: حَقًّا لآتَينَّكَ، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء (أي لأملأن جهنم حقاً) انتهى. وهذا لا يتمشّى مع قول البصريين، فإن شرط نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة أن يكون بعد جملة ابتدائية جزءاها معرفتان جَامِدان وجوز ابن العِلْجِ أن يكون الخبر نكرة، وأيضاً فإن المصدر المؤكد لا يجوز تقديمه على الجملة المؤكدة هو لمضمونها؛ وهذا قد تقدم.
وأما الثاني فمنصوب «بأَقُولُ» بعده، والجملة معترضة كما تقدم، وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً على التكرير بمعنى (أنَّ) الأولَ والثانيَ كليهما منصوبان بأقُولُ وسيأتي إيضاح ذلِك في عبارته وقرأ عاصمٌ وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، فرفع الأول من أوجه:(16/460)
أحدهما: أنه مبتدأ وخبره مضمر تقديره فالحق مِنِّي أو فالحَقُّ أَنَا.
والثاني: أنه مبتدأ خيره «لأَمْلأَنَّ» ، قاله ابن عطية، قال: لأن المعنى إني أمْلأُ. قال أبو حيان: وهذا ليس بشيء؛ لأن «لأَمْلأَنَّ» جوابُ قسم ويجب أن يكون جملة فلا تَتَقَدَّرُ بمفرد، وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدريّ والفعل حتى ينحل إليهما وَلِكنَّهُ لما صحَّ إِسناد ما قدر إلى المبتدأ حكم أنَّه خبرٌ عنه.
قال شهاب الدين: وتأويل ابن عطية صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيثُ الصناعةُ.
الثالث: أنه مبتدأ خبره مضمر تقديره فالحَقُّ قَسَمِي و «لأَمْلأَنَّ» جواب القسم، كقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ولكن حذف الخبر هنا ليس بواجب لأنه ليس نصاً في اليمين، بخلاف «لعمرك» ومثله قول امرئ القيس:
4285 - فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ... وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي
وأما نصب الثاني فبالفعل بعده، أي وأنا أقولُ الحقَّ وقرأ ابنُ عَبَّاس ومجاهدٌ والأعمشُ برفعهما، فرفع الأول على ما تقدم، ورفع الثاني بالابتداء وخبره الجملة بعده، والعائدُ محذوفٌ كقوله تعالى في قراءة ابن عارم: «وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى» وقوله أبي النَّحْمِ:
4286 - قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ
ويجوز أن يرتفع على التكرير عند الزمخشري وسيأتي، وقرأ الحسن وعيسى بجرِّهما وتخريجهما على أن الأول مجرور بواو القسم مقدرة فَوَالحَقِّ و «الحَقّ»(16/461)
عطف عليه كقولك: وَاللَّهِ وَاللَّهِ لأَقُومَنّ «، و» أَقُولُ «اعتراضٌ بين القسم وجوابه ويجوز أن يكون مجرواً على الحكاية وهو منصوب المحلّ» بأقولُ «قال الزمخشريّ: ومجرورين - أي وَقُرِئَا مَجْرُورَيْنِ - على أن الأول مقسم به قد أضمِر حرف قسمه كقولك:» (و) اللَّهِ لأَفْعَلَنّ والحَقِّ أقولُ «أي ولا أقولُ إلاّ الحقَّ على حكاية لفظ المقسم به ومعناه التوكيد والتشديد، وهذا الوجه جائز في المرفوع والمنصوب أيضاً وهو جهٌ دقيقٌ حسنٌ انتهى.
يعني أنه أعمل القول في قوله: «وَالحَقّ» على سبيل الحكاية فيكون منصوباً بأقول سواء نُصب أو رُفِعَ أو جر كأنه قيل: وأقول هذا اللفظ المتقدم مقيداً بما لفظ به أولاً.
فصل
معنى لأملأن جهنم منك أي من جنْسِكَ وهم الشياطين وممَّن تبعك منهم من ذرية آدم.
قوله: {أَجْمَعِينَ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه توكيد للضمير في «منك» ولمن عطف عليه في قوله «ومَّنْ تَبِعَكَ» والمعنى لأملأن جهنم من (المَتْبُوعينَ والتابعين لا أترك منهم أحداً، وجيء بأجمعين دون كلن وقد تقدم أن الأكثر خلافُهُ وجوز الزمخشري أن يكون تأكيداً للضمير في «مِنْهُمْ» خاصة، فقدر: لأملأن جهنَّم من) الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناسٍ وناسٍ.(16/462)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
قوله: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على تبليغ الرسالة «من أجر» جعل فقوله: «عليه» متعلق «بأَسْأَلَكُمْ» لاَ «بالأَجر» لأنه مصدر، ويجوز أن يكون حالاً منه والضمير إما للقرآن وإما للوَحْي وإما للدعاء إلى الله.(16/462)
قوله: {وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} المتقولين القرآن من تلقاء نفسي، وكل من قال شيئاً من تلقاء نفسه فقد تكلف له وقيل: معناه أن هذا الدين الذين أدعوكم إليه ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التَّكْلِيفَات الكثيرة بل هو دين يشهد صريح القعل بصحته.
قوله: {إِنْ هُوَ} ما هو يعني القرآن «إِلاَّ ذِكْرٌ» موعظة «للعالمين» أي للخلق أجمعين «لَتَعْلَمُنَّ» جواب قسم مقدر ومعناه لَتَعْرْفُنَّ «نَبَأهُ» أنتم يا كفار (مكة) خبر صدقه «بَعْدَ حِينٍ» قال ابن عباس وقتادة: بعد الموت، وقال عكرمة: يعني يوم القيامة، وقال الكلبي: من بقي علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا من مات عَلِمَهُ بعد الموت. قال الحسن: ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
روى الثعلبي في تفسيره أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ» ص «أُعْطيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلّ جَبَل سَخَّره اللَّهُ لِدَاوُدَ - عليه السلام - عشرَ حَسَناتٍ وعُصِمَ أن يصرًَّ على ذنب صغير أو كبير» وقال أبو أُمامة عصمة الله من كل ذنب صغير أو كبيرٍ، وأعلم (وهو الرحيم الغفور، وإليه ترجع الأمور) .(16/463)
سورة الزمر(16/464)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
مكية إلا قوله: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} وهي خمس وسبعون آية وألف ومائة واثنتان وتسعون كلمة وأربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} في «تنزيل وجهان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا تنزيل وقال أبو حيان: وأقول: إنه خبر والمبتدأ» هو «ليعود على قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104] كأنه قيل: وهذا الذكر ما هو؟ فقيل: هو تنزيلُ الكِتَابِ.
الثاني: أنه مبتدأ، والجار بعده خبره أي تَنْزِيلُ الكتاب كَائِنٌ من الله، وإليه ذهب الزَّجَّاج والفراء.
قال بعضهم: وهذا أولى من الأول؛ لأن الإضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا(16/464)
لضرورةٍ، وأيضاً فإنًّا إذا قلنا: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} جملة تامة من المبتدأ والخبر أفاد فائدةً شريفة وهي تنزيل الكتاب يكون من الله لا من يره، وهذا الحصر معنى مُعْتَبَرٌ، وإذا أضمرنا المبتدأ لم تَحْصُلُ هذه الفائدة، وأيضاً فإنا إذا أَضْمَرْنَا المبتدأ صار التقدير: هذا تنزيلُ الكتاب، وحينئذ يلزم مجاز آخر لأن هذا إشارة إلى السورة وهي ليست نفس التنزيل بل السورة منزلة فيحنئذ يحتاج إلى أن يقول: المراد منه المفعول وهو مجاز تحملناه لا لضرورة.
قوله: {مِنَ الله} يجوز فيه أوجه:
أحدها: أنه مرفوع المحل خبر التنزيل كما تقدم.
الثاني: أنه خبر بعد خبر إذا جعلنا تَنْزِيل خبر مبتدأ مضمر، كقولك: هَذَا زَيْدٌ مِنْ أهْلِ العِرَاقِ.
الثالث: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هَذَا تنزيل هذا من الله.
الرابع: أنه متعلق بنفس» تنْزِيلٍ «إذا جعلناه خبر مبتد مضمر.
الخامس: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من» تَنْزِيلٍ «عَمِلَ فيه اسم الإشارة المقدرة قاله الزمخشري.
قال أبو حيان: ولا يجوز أن يكون حالاً عمل فيها معنى الإشارة؛ لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفاً، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزدق:
4287 - ... ... ... ... ... ... ... ....... ... ... . . وَإِذْ مَا مِثْلَهُمْ بَشَرُ(16/465)
أنّ» مِثْلَهُمْ «منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر وإذ ما في الوجود في حال مماثلتهم بشراً.
السادس: أنه حال من» الكتاب «قاله أبو البقاء، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه لكونه مفعولاً للمضاف، فإن المضاف مضاف لمفعوله.
فصل
احتج القائلون بخَلْق القرآن بأن الله تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً. وهذا الوصف لا يليق إلا بالمُحْدَثِ المخلوق، قال ابن الخطيب: والجواب أنّا نحمل هذه اللفظة على الصِّيغ والحُرُوف.
قوله: {العزيز الحكيم} والعزيز هو القادر الذي لايُغْلَبُ، والحكيم هو الذي يفعل (لداعية) الحكمة وهذا إنما يتم إذا كان عالماً بجيمع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات.
قوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق} اعلم أن لفظ» تنزيل «يُشْعِرُ بأنه تعالى أنزله نجماً على سبيل التدريج، ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله دفعة واحدة، وطريق الجمع أن يقال: إنا حكماً كلياً بأن نوصل إليك هذا الكتاب وهذا الإنزال ثم أوصلنا إليك نَجْماً نجماً على وَفْق المصالح.
(وهذا هو التنزيل) .
قوله: {بالحق} أي بِسَبِبِ الحق وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب أي ملتبسين بالحق أو ملتبساً بالحَقّ والصِّدْق والصواب، والمعنى كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمَعَاد وأنواع التكاليف فهو حق يجب العمل به وفي قوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} تكرير(16/466)
تعظيم بسبب إبرازه في جملة أخرى مضافاً إنزاله إلى المعظم نفسه.
قوله: {فاعبد الله مُخْلِصاً} لما بين أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق وأردفه ببيان بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله على سبيل الإخلاص فقال: فَاعْبُد اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، فقوله: «مُخْلِصاً لَهُ» حال من فاعل «فاعبدْ» و «الدينَ» منصوب باسم الفاعل، والفاء في «فاعبدْ» للربط، كقولك: «أحْسَنَ إِليكَ فلانٌ فاشْكُرْهُ» والعامة على نصب «الدين» وقرأ ابن أبي عبلة برِفعِهِ وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية رافعهُ «مخلصاً» وعلى ها فلا بد من تجوز وإضمار، أما التجوز فإسناد الإخلاص للدين وهو لصاحبه في الحقيقة ونظيره قولهم: شِعْرُ شَاعِرٍ، وأما الإضمار فهو إضمارٌ عائد على ذِي الحال، أي مخلصاً له الدين منك، هذا رأي البصريين في مثل هذا، وأما الكوفيون فيجوز أن يكون عندهم «أل» عوضاً عن الضمير أي مُخْلِصاً دينُك.
قال الزمخشري: وحقّ لمن رفعه أن يقرأ مُخْلَصاً - بفتح اللام - لقوله تعالى: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} [النساء: 146] حتى يطابق قوله: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} والخالِصُ والمُخْلصَ واحد إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي كقولهم: «شِعْرُ شَاعِرٍ» .
الثاني: أنْ يتم الكلام على «مُخْلِصاً» وهو حال من فالع «فَاعْبُدْ» و «لَهُ الدِّين» مبتدأ وخبر، وهو قول الفراء وقدر ردَّه الزمخشري وقال: فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لِلّه الدين ألا الله الدين الخالص قال شهاب الدين وهذا الذي ذكره الزمخشري لا يظهر فيه ردٌّ على هذا الإعراب.(16/467)
المراد بإخلاص الدين الطاعة، {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} قال قتادة: شهادة أن لا إله إلا الله واعلم أنّ العبادة فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول يؤتى به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب الانقياد له وأما الإخلاص فهو أن أن يكون الداعي إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد الانقياد والامتثال، واحتج قَتَادَهُ بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
«لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ حِصْنِي، وَمَنْ دَخَلَ حَصْنِي أَمِنَ عَذَابِي وهذا قول من يقول لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا ينتفع بالطاعة مع الكفر» وقال الأكثرون الآية متناولة لكل ما يخلق الله به من الأوامر والنواهي لأن قوله تعالى «فاعبد الله» عام.
ورُوِيَ أن امرأة الفَرَزْدَق لما قَرُبَتْ وقاتها أوصلت أن يصلي الحسن البصري عليها، فما دفنت قال الحسن للفرزدق: أبا فِرَاس ما الذي أعددت لهذا الأمر؟ قال شهادة أن لا إله إلاّ الله. قال الحسن: هذا العمود فأي الطُّنُب؟ فبين هذا اللفظ الوجيز أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة. قال القاضي: فأما ما يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لمعاذ وأبي الدرداء: وإنْ زَنَا وإنْ سَرقَ على رغم أنف أبي الدرداء فإن صح فإنه يجب أن يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة وإلا لم يَجُز قبول هذا الخبر لأنه مخالف للقرآن، ولأنه يوجب أن يكون الإنسان مزجوراً عن الزّنا والسَّرقة ويكون إغراء له لفعل القبيح، وذلك ينافي حكمة الله، وهذا يدل على أن اعتقاد فعل القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين، هذا تمام قول القاضي.
قال ابن الخطيب: فقال له: أمّا قولك: إن القول بالمغفرة مخالفٌ للقرآن فليس كذلك بل القرآن يدل عليه قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] كما يقال: رأيت الأمير على أكله وشربه أي حين كونه آكلاً وشارباً. وقال: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 53] وأما قوله: إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح فيقال له: إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح غفرانه عقلاً. وهذا(16/468)
مذهب البَغْدَاديّ من المعتزلة، وأنت لا تقول به لأن مذهب البصريين غفرانُ الذنب جائز عقلاً، وأيضاً فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة لأنه إذا علم أنه أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر، وأما الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضر (هـ) ذلك الذنب البتة. ثم نقول: مَذْهَبُنَا أنّا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملة إلا أنه تعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في حق من يشَاء وإذا كان الأمر كذلك كان الخوف حاصلاً والله أعلم.
قوله: {1649;لَّذِينَ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} يجوز فيه أوجه:
أحدهما: أن يكون «الذين» مبتدأ، وخبره قول مضمر حذف وبقي معموله وهو قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ} والتقدير: يَقُولُون مَا نَعْبُدُهُمْ.
الثاني: أن يكون الخبر قوله: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ويكون ذلك القول المضمر (في محل نصب على الحال أي والَّذين اتخذوا قَائِلينَ كذا إِنًّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُم.
الثالث: أن يكون القول المضمر) بدلاً من الصلة التي هي «اتخذوا» والتقدير: والذين اتخذوا قالوا ما نعبدهم والخبر أيضاً: إنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ و «الَّذِينَ» في هذه الأقوال عِبَارَةٌ عن المشركين المتخذين غيرهم أولياء.
الرابع: أن يكون «الَّذين» عبارة عن الملائكة وما عبدوا من دون الله كعُزَيْرٍ، واللاَّتِ والعُزَّى ويكون فاعل «اتَّخَذَ» عائداً على المشركين ومفعول الاتّخاذ الأول محذوف هو عائد الموصول، والمفعول الثاني هو: «أَوْليَاء» والتقدير: والذين اتخذهم المشركون أولياء. ثم لك في خبر المبتدأ وجهان:(16/469)
أحدهما: القول المضمر والتقدير والَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ المشرِكُونَ أولياء يقول فيهم المشركون ما نعبدهم إلا.
الثاني: أن الخبر هي الجملة من قوله: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} وقرئ: «ما نُعْبُدُهُمْ» بضم النون إتباعاً للباء، ولا يعتدُّ بالساكن.
قوله: {زلفى} مصدر مؤكد على غير المصدر ولكنه مُلاَقٍ لعامله في المعنى، والتقدير (والمعنى) ليزْلِفُونا ولِيُقَرِّبُونَا قُرْبَى وجوز أبو البقاء أن يكون حالاً مؤكدة.
فصل
والذين اتخذوا من دونه أي من دون الله أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله. وهذا الضمير عائد إلى الأشياء التي عبدت، وهذا الكلام إنما يليق بالعقلاء لأن الضمير في «نَعْبُدُهُمْ» ضمير العقلاء فيحمل على المسح وعُزَيْر والملائكة لكي يشفعوا لهم عند الله. ويمكن أن يُحْمَل على الأصنام أيضاً لأن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجرٌ، وإنما يعبد ربه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية أو تماثيل الملائكة أو تماثيل الصالحين الذين مضوا ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى أصحاب تلك الصور.
ولما حكمى الله تعالى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه:
الأول: أنه اقتصر في الجواب على مجرد القول فقال: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
واعلم أن المبطل إذا ذكر مذهباً باطلاً وأصرّ عليه فعلاجه أن يحتال بحِيلةٍ توجب زَوَالَ والإصرار عن قلبه، فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يذكر له الدلي الدالَّ على(16/470)
بُطْلاَنِهِ فيكون هذا الطريق أفضى إلى المقصود كما يقول الأطباء: لا بد من تقديم (المُنْضج) على سقي المُسهل، فإن تناول المنضج يصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال، فإذا سقي المُسهل بعد ذلك حصل النقَاء التامّ فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولاً يجري مَجْرَى سَقْي المنضج أولاً، وإسماع الدليل ثَانِياً يجْرِي مَجْرَى المُنْضج المسهل ثانياً. فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد.
ثم قال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أي من أصر على الكذب والكفر بقي (مَح) رُوماً من الهداية. والمراد بهذا الكذب وصفهم للأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة، ويحتمل أن يكون المراد بالكفر كفران النعمة لأن العبادة نهاية التعظيم وذلك لا يليق إلا ممن يصدر عنه غاية الإنعام وهو الله تعالى، والأوثان لا مدخل لها في الإنعام فعبادتها توجب كفران نعمة المنعم الحق.
قوله: {كَاذِبٌ كَفَّارٌ} قرأ الحسنُ والأَعْرَجُ - وتُرْوَى عن أنس - كَذَّاب كفار، وزيدُ بنُ عَليٍّ كَذُوبٌ كفورٌ.(16/471)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
قوله: {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى} لاختار {مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} يعني الملائكة كما قال: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} [الأنبياء: 17] ثم نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَهُ} تنزيهاً له عن ذلك وعما لا يليق بطهارته {هُوَ الله الواحد القهار} والمراد من هذا الكلام إقامة الدلائل القاهرة على كونه منزهاً عن الولد.
قوله: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} لما بين في الآية المتقدمة كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً قهاراً أي كامل القدرة ذكر عقيبها ما يدل على الاستغناء. وأيضاً لما أبطل إلهيَّة الأصنام ذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية، وقد تقدم أن الدَّلائل التي يذكرها الله تعالى في إثبات الإلهية إمّا أن تكون فلكية أو أرضيَّة أما الفلكية فأقسام:
أحدها: خلق السموات والأرض. وقد تقدم شرحها في تفسير قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} [الأنعام: 1] .
وثانيها: اختلاف أحوال الليل والنهار، وهو المراد ههنا من قوله: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار} وفي هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها مستأنفة، أخبر تعالى بذلك.
والثاني: أنها حال، قاله أبو البقاء، وفيه ضعفٌ من حيث أن تكوير أحدهما على الآخر إنما كان بعد خلق السموات والأرض إلا أن يقال: هي حالٌ مقدرة، وهُو خلاف الأصل.
والتكوير: اللَّفُ واللَّيُّ يقال: كَارَ العَمَامَةَ على رأسه وكَوَّرهَا، ومعنى تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل على هذا المعنى أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا وإذا غشي مكانه فكأنه لف عليه وألبسه كما يلق اللباس على(16/472)
اللابس أو أن كل واحد منهما يغيِّب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار أو إن هذا يَكر على هذا كُرُوراً متتابعاً فشبه ذلك بتتابع إكرار العِمَامَة بعضها على بعض قاله الزمخشري. وهذا أوفق لإشتقاق من أشياء قد ذكرت وقال الراغب: كَوْرُ الشيء إدارته وضمّ بعضه إلى بعض كَكَوْر العِمَامَة، وقوله: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار} إشارة إلى جرَيَان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما. وكوَّره إذا ألقاه مجتمعاً. واكْتَار الفرس إذا رد ذَنَبَهُ في عَدُوِهِ، وكَوارَةُ النَّحْل معروفة، والكُور الرَّحْلُ. وقيل لكل مِصر كُورةٌ وهي البقعة التي يجتمع فيها قرًى ومحال قال ابن الخطيب: إن النور والظلمة عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا، وذلك يدل على أن كل واحد منهما يكون مغلوباً مقهوراً، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهوة وهو الله تعالى، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر، والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث:
«نَعُوذُ باللَّهِ من الحَوْر بَعْدَ الكَوْرٍ» أي من النقصان بعد الزيادة، وقيل: من الإدبار عبد الإقبال.
قوله: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} فإن الشمس سلطانُ النهار، والقمرَ سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطةٌ بها كل يجري لأجل مسمى إلى يوم القيامة لا يزالان يَجْريَانِ إلى هذا اليوم، فإذا كان يوم القيامة ذهبا، والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كَدَوَرَانِ المنْجَنُون على حدٍّ واحدٍ.
ثم قال: {أَلا هُوَ العزيز الغفار} ومعناه أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإنْ دلّ على كونه عزيزاً أي كامل القدرة إلا أنه غفارٌ عظيم الرحمة والفضل والإحسان، فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكوْنُهُ غفاراً كثير الرحمة يوجب الرجاء والرغبة.
ثم إنه تعالى لما ذكر الدلائل الفلكية أبتعها بذكر الدلائل السفلية فبدأ بذكر الإنسان فقال: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم.(16/473)
قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا} في «ثم» هذه أوجه:
أحدهما: أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك أنه يروى أنه تعالى أخرجنا من ظهر آدم كالذَّرِّ، ثم خلق حواء بعد ذلك بزمانٍ.
الثاني: أنها على بابها أيضاً ولكن لمَجْرَكٍ آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله «وَاحِدَةٍ» إذا التقدير من نفس وحِّدَتْ أي انفردت ثم جعل منها زوجها.
(الرابع: أنها للترتيب في الأحوال والرُّتَب، قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: ما وجه قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وما تعْطيه من التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالاً على وحدانيته وقدرته بتشعيب هذا الخلق الثابت للحصر من نفس آدم عليه (الصلاة و) السلام وخلق حواء من قُصَيْرَاه إلا أنّ إحديهما جعلها الله عادة مستمرةً والأخرى لم تجر بها العادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قُصَيْرَى رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجْلَبَ لعَجَب السامع فعطفها «بِثُمَّ» على الآية الأولى للدلالة على مُبايَنَتِهَا فضلاً ومزيًّة وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهي مِنَ التراخي في الحال والمنزلة لا من التراخي في الوجود.
قال ابن الخطيب: إن كلمة «ثمَّط كما تجيء لبيان تأخر أحد المكانين عن الآخر كقول القائل: بَلَغَنِي مَا صَنَعْتَ اليَوْمَ ثم ما صَنَعْتَ أَمْسِ أعْجَبُ، وأَعْطَيْتُكَ اليَوْمَ شَيْئاً ثُمَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ أَمْس أَكْثر.
قوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} عطف على» خَلَقَكُمْ «والإنزال يَحْتَمِلُ الحقيقةَ، يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها وَيحْتَمِلُ المجاز وله وجهان:(16/474)
أحدهما: أنها لما لم تعش إلا بالنبات والماء والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزل عليها وهو في الحقيقة مطلق على سبب السبب كقوله:
4288 - أَسْنِمَةُ الآبضالِ فِي رَبَابِهِ ... وقوله:
4289 - صَارَ الثَّرِيدُ في رُؤُوسِ العِيدَانِ ... وقوله:
4290 - إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِاَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وإِنْ كَانُوا غِضَابَا
والثاني: أن قضاياه وأحكامه منزلةً من السماء من حيث كتبها في الوح المحفوظ، وهو أيضاً سبب في إيجادها وقال البغوي: معنى الإنزل ههنا الإحداث والإنشاء كقوله: {أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} [الأعراف: 26] ، وقيل: معناه: أنزل لكم من الأنعام جعلها نزلاً لكم ورزقاً ومعنى ثمانية أزواج أي ثمانية أصناف، وهي الإبل والبَقَر والضَّأن والمَعِز، وتقدَّم تفسيرها في سورة الأنْعَام.
قوله: {يَخْلُقُكُمْ} هذه الجملة استئنافية، ولا حاجة إِلى جَعلهَا خبر مبتدأ مضمر بل استؤنفت للإخبار بجملة فعلية، وقد تقدم خلاف القراء في كسر الهمزة في «اُمَّهَاتِكُمْ» .(16/475)
قوله: «خَلْقاً» مصدر «خَلَقَ» وقوله: {مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} صفة له فهو لبيان النوع من حيث إنه لما وصف زاد معناه على معنى عامله، ويجوز أن يتعلق «مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» بالفعل قبله، فيكون خلقاً لمجرد التوكيد.
قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ} متعلق «بخَلْقٍ» الذي قبله، ولا يجوز تعلقه «بخَلْقاً» المنصوب، لأنه مصدر مؤكد، وإن كان أبو البقاء جوزه ثم منعه بما ذكرت فإنه قال: و «في» يَتَعَلَّق به، أي «بخَلْقاً» أو «بخَلْق» الثاني، لأن الأول مؤكد فلا يعمل، ولا يجوز تعلقه بالفعل قبله لأنه قد تعلق به حرف مثله، ولا يتعلق حرفان متحدان لفظاً ومعنى إلا بالبَدَلِيَّةِ أو العطف، فإن جعلت «في ظلمات» بدلاً من {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} بدل اشمتال لأن البطون مشتملة عليها وتكون بدلاً بإعادة العامل جاز ذلك أعني تَعَلُّقَ الجَارَّين ب «يخْلُقكم» ولا يضر الفَصْلُ بين البَدَل والمبدل منه بالمصرد لأنه من تَتِمَّة العامل فليس بأجنبيِّ.
فصل
هذه الحالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات، وقوله: «خلقاً من بعد خلق» معناه ما ذكر الله تعالى في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} الآيات [المؤمنون: 12 - 14] .
وقوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} قال ابن عباس: ظلمة البطن، وظلمة الرَّحِم، وظلمة المشيمة، وقيل: الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الآيات مذكور في قوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} [آل عمران: 6] .
قوله: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} يجوز أن يكون «الله» خبراً «لِذَلِكُمْ» و «ربُّكُمْ» نعت لِلَّه أو بيان له أو بدل منه ويجوز أن يكونَ «الله» بدلاً من «ذلكم» و «ربكم» خبره، والمعنى: ذَلِكُمُ اللَّهُ الذي خلق هذه الأشياء رَبُّكُمْ.
قوله: {لَهُ الملك} يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون خبراً بعد(16/476)
خبر وأن يكون «الله» بدلاً من «ذلكم» و «ربكم» نعت لله أو بدل منه، والخبر الجملة من «له الملك» ويجوز أن يكون الخبر نفس الجار والمجرور وحده، و «المُلْكُ» فاعل به فهو من باب الإخبار بالمفرد.
قوله
: {لا
إله
إِلاَّ هُوَ} يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون خبراً بعد خبر.
فصل
قوله: «له الملك» يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره، ولما ثبت أنه لا مُلْكَ إلا له وجب القول بأن لا إله إلا هو.
ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته وحكمته ورحمته زَيَّف طريقة المشركين وقال: {فأنى تُصْرَفُونَ} عن طريق الحق بعد هذا البيان، وهذا يدل على أنهم لم يصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفهم عنها غيرُهم وما ذلك الغير إلا الله وأيضاً فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل أحد يريد تحصيل الحق والصواب فلمَّا لم يحصل ذلك فإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه. واستدلت المعتزلة بهذه الآيات أيضاً لأن قوله تعالى: {فأنى تُصْرَفُونَ} تعجب من هذا الانصراف ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله لم يبق لهذا التعجب معنى قوله: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ} أي إنه تعالى ما كلف المكلفين ليجرّ إلى نفسه منفعةً أو ليَدْفَع عن نفسه مضرَّة لأنه تعالى غني على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة، لأنه واجب الوجود لذاته وواجب الودود لذاته في جميع صفاته يكون غنياَ على الإطلاق وأيضاً فالقادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسيّ والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ممتنع أن ينتفع بصلاة «زَيْدٍ» وصيامِ «عَمْرٍو» وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذلك.
ثم قال: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} أي وإن كَان لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم، إلا أنه لا يرضى بالكفر. قال ابن عباس والسدي: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم(16/477)
الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى كقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] يريد بعض العباد، وقال قتادة: لا يرضى لأحد من عباده الكفر أي لا يرضى لعباده أن يكفروا به. وهو قول السَّلَفِ قالوا: كُفر الكافر غير مرضي لله وإن كان بإرادته.
واحتج الجنائيّ بهذه الآية من وجهين:
الأول: أن المُجبرة يقولون: إن الله تعالى خلق العباد وأفعالهم وأقوالهم وكل ما خلقه حقّ وصواب، وإذا كان كذلك كان قد رَضِي بالكفر من التوجه الذي خلقه وذلك ضد الآية.
الثاني: لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله واجب وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الهو ليس أيضاً برضا الله تعالى وأجيب بوجوه:
أحدها: إن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين كما قدماه عن ابْنِ عَبَاسٍ.
وثانيها: قول السلف المتقدم وأنشد ابنُ دُرَيْدٍ:
4291 - رَضِيتُ قَسْراً أو عَلَى القَسْرِ رِضا ... مَنْ كَانَ ذَا سُخْطٍ علَى صَرْفِ القضا
أثبت الرضا مع القَسْر.
وثالثها: هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} عام فيتخصص بالآيات الدالة على أنه تعالى لا يريد الكفر لقوله تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الإنسان: 30] .
قوله: {وَإِن تَشْكُرُواْ} أي تؤمنوا بربكم وتُطِيعُوه «يَرْضَهُ لَكُمْ» فَيثيبكم عليه. قرأ ابن كثير والكسائي وابن ذكوان يَرْضَهُو بالصلة. وهي الأصل من غير خلاف وهي قراءة واضحةٌ. قال الواحدي: من أشبع الهاء (حتى ألحق فيها واواً لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه، وقرأ «يَرْضَهُ» بضم الهاء) من غير صلة بلا خلاف نافعٌ وعاصمٌ(16/478)
وحمزة وقرأ «يَرْضَهُ» بإسكانها وصلاً من غير خلاف السُّوسِيُّ عن أبي عمرون، وقرأ بالوجهين أعني الإسكان والصلة الدّورِيّ عن أبي عمرٍو. وقرأ بالإسكان والتحريك من غير صلة هشام عن ابن عامر فهذه خمس مراتب للقراءة وقد تقدم توجيه الإسكان والقصر والإشباع أول الكتاب وما أنشد عليه، ولا يلتفت إلى أبي حاتم في تَغْليطه رَاوِي السكون؛ فإنها لغة ثابتةٌ عن بني عقيل وبني كَلاَبٍ.
قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} قال الجبائي: هذا يدل على أنه لا يجوز أن يقال: غنه تعالى يأخذ الأولاد بذنوب الآباء واحتج به أيضاً من أنكر وجوب ضربالدية على العَاقِلَة. ثم قال: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} وهذا يدل على إثبات البعث والقيامة {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا يدل على تهديد العاصي وبشارة المطيع وقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} كالعلة لما سبق أي إنه إنما ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَلاَ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأَعْمَالِكُمْ» .
قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّه} لما بين فساد القول بالشِّركِ وبين أنه هو الذي يجب أن يعبد بين ههنا أن طريقة الكفار متاقضة لأنهم إذا مسهم الضر طلبوا دفعه من الله، وإذا أزال ذلك الضر عنهم رَجَعُوا إلى عبادة غيره فكان الواجب علهيم أن يتعرفوا بالله تعالى في جميع الأحوال لأنه القادر على إيصال الخير ودفع الشر فظهر تناقض طريقهم. والمراد بالإنسان الكافر، وقيل المراد: أقوام معينين كعُتْبَةَ بْنِ ريبعة وغيره. والمراد بالضر جميع المكاره سواء كان في جسمه أو ماله أو في أهله وولده، لأن اللفظ مطلق فلا معنى لتقييده.(16/479)
قوله: {مُنِيباً} حال من فاعل «دَعَا» و «إلَيْهِ» متعلق «بمُنِيباً» أي راجعاً إليه في إزالة ذلك الضر، ولأن الإنابة الرجوع.
قوله: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} أعطاه «نعمة منهُ» أي أعاطها إياه ابتداء من غير مقتضٍ. ولا يتسعمل في الجزاء بل في باتداء العطيَّة، قال زهير:
4292 - هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْوَلُوا المَالَ يُخْولوا..... ... ... ... ... ... ... .
ويروى: يُسْتَخْبَلُوا الماَ يُخْبِلوا، وقال أبو النجم:
4293 - أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِ ... كُومَ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوِّلِ
وحقيقة خول من أحد معنيين إما من قولهم: هو خائلُ مال إذا كان متعهِّداً له حسن القيام عليه، وإما من خَالَ يَخُول إذا اخْتَالَ وافْتَخَر، ومنه قول العرب: إن الغَنِيَّ طَويلُ الذَّيْلِ مَيَّاسُ الخَيْلِ، وقد تقدم اشتقاق هذه المادة مُسْتَوْفًى في الأنْعَام.
قوله: «منه» يجوز أن يكون متعلقاً «بِخَوَّلَ» وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة: «لِنِعْمَةٍ» .
قوله: {نَسِيَ} أي تَركَ «مَا كاَن يَدْعُو إلَيْهِ» يجوز في «ما» هذه أربعة أوجه:(16/480)
أحدها: أن تكون موصولة بمعنى الذي مراداً بها الضُّرّ أي نَسِيَ الشَّرَّ الذي يدعو إلى كَشفه أي ترك دعاءه كأنه (لم) يتضرع إلى ربه.
الثاني: أنها بمعنى الذي مراداً الباري تعالى أي نسي الله الذي كان يتضرع إليه. وهذا عند من يجيز وقوع «ما» على أولي العلم، وقال ابن الخطيب: وما بمعنى «مَنْ» كقوله: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] .
الثالث: أن تكون «ما» مصدرية أي نَسِيَ كَوْنَهُ داعياَ.
الرابع: أن تكون (ما) نافية وعلى هذا فالكلام تام على قوله: ( «نَسِيَ» ) ثم استأنف إخبراً بجملة منفية، والتقدير: نسي ما كان فيه لم يكن دعاء هذا الكافر خالصاً الله (تعالى) وقوله: {مِن قَبْلُ} أي من قبل الضر على القول الأخير، وأما على الأقوال قبله فالتقدير من قبل تحويل النَّعْمة.
قوله: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} يعني الأوثان «لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لِيَضِلَّ» بفتح الياء أي ليفعل الضلالَ بنفسه، والباقون بضمها فمعوله محذوف، وله نظائر تقدمتْ، واللام يجوز أن تكون للعلة، وأن تكون لام العاقبة كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] .
ثم قال: قُلْ يَا مُحَمد لهذا الكافر «تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قِلِيلاً» في الدنيا أي إلى انقضاء أجلك، وليس المراد منه الأمر بل المراد منه الزجرُ وأن يعرفه قلة تَمَتُّعِهِ في الدنيا ثم مصيره إلى النار، قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة، وقال مقاتل: نزلت في حُذَيْفَةَ بنِ المغيرة المَخْزُومِيّ، وقيل: عامٌّ في كل كافر.
قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} لما شرح الله تعالى صفات المشركين وتمسكهم بغير(16/481)
الله أردفه بشرح أحوال المحقين قرأ الحَرَمِيَّان نافعٌ وابنُ كثير تخفيف الميم والباقون بتشديدها فأما الأولى ففيها وجهان:
أحدهما: أنها همزة الاستفهام دخلت على «مَنْ» بمعنى الذي، والاستفهام للتقرير، ومقابله محذوف تقديره: أَمَّنْ هُوَ قَانتٌ كَمْن جَعَل لِلَّهِ أنْدَاداً؟ أو: أمَّنْ هُوَ قانت كغيره؟ أو التقدير: أَهَذا القَانِتُ خيرٌ أم الكافر المخاطب بقوله: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} ؟ ويدل عليه قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} محذوف خبر المبتدأ وما يعادل المتسفهم عنه والتقدير أن الأوَّلان أولى لقلة الحذف ومِنْ حذف المعادل للدلالة قول الشاعر:
4294 - دَعَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهَا ... سَمِيعق فَمَا أَدْرِي أَرشْدٌ طِلاَبُهَا
يريد: أم غي.
الثاني: أن تكون الهمزة للنداء و «مَنْ» مُنَادَى ويكون المنادَى هو النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو المأمور بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} كأنه قال: يا مَنْ هُوَ قانت قُلْ كَيْتَ وكَيْتَ كقول الآخر:
4295 - أَزَيْدٌ أَخَا وَرْقَاء إنْ كُنْتَ ثائِراً..... ... ... ... ... ... ... ... .(16/482)
وفيه بعد، ولم يقع في القرىن نداء بغير يا حتى يحمل هذا عليه. وضعف أبو حيان هذا الوجه بأنه أجنبي مما قبله ومما بعده، قال شهاب الدين: وقد تقدم أنه ليس أجنبياً مما بعده إذ المنادى هو المأمور بالقول. وضعفه الفارسي ايضاً بقريب من هذا وتجرأ على قارئِ هذهِ القراءةِ أبو حَاتم والأخفش، وأما القراءة الثانية فهي «أم» داخلة على من الموصولة أيضاً فأدغمت الميمُ في المِيم. وفي «أم» حينئذ قولان:
أحدهما: أنها متصلة ومعادلها محذوف تقديره: الكافر خيرٌ أم الذي هو قانتٌ، وهذا معنى قول الأخفش.
قال أبو حيان: ويحتاج حذف المعادل إذا كان أَوَّلَ إلى سماع وقيل: تقديره أمّن يعصي أمن هو مطيع يستويان وحذف الخبر لدلالة قوله {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} .
والثاني: أنها منقطعة فتتقدّر ببل والهمزة أي بل أمَّنْ هو قانت كغيره أو كالكافر المقولِ له تمتع بكفرك.
وقال أبو جعفر: هي بمعنى «بَلْ» و «مَنْ» بمعنى الذي تقديره بل لاذي هو قانت أفضل مما ذكر قبله.
وانتقد عليه هذا التقدير من حيث إن من تقدم ليس له فضيلة البتّة حتى يكون هذا أفضل منه والذي ينبغي أن يقدر: بَلِ الّذِي هُوَ قانتٌ من أصحاب الجنة لدلالة ما لِقَسِيمِهِ عليه من قوله: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} وقال البغوي من شدَّدَ فله وجهان:(16/483)
أحدهما: أن تكون الميم في «أم» صلة ويكون معنى الكلام استفهاماً وجوابه محذوف مجازه: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ كمن هو غير قانت كقوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الزمر: 22] يعني كمن لم يشرح صَدْرَهُ.
والثاني: أنه عطف على الاستفهام مجازه: الذي جعل لِلَّهِ أندَاداً.
فصل
القانت: هو القائم بما يجب عليه من الطاعة، ومنه قوله عليه (الصلاة و) السلام: «أَفْضَلُ الصَّلاَةِ صَلاَةُ القُنُوت» وهو القائم فيها ومنه القُنُوت لأنه يدعوا قائماً، وعن ابن عمر أنه قال: لاَ أعْلَمُ القنوتَ إلا قَرَاءَةَ القُرْآنِ وطولَ القيام وتلا: «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ» وعن ابن عباس: القنوت الطاعة كقوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] أي مطيعون.
قوله: {آنَآءَ الليل} آناءَ منصوب على الظرف وتقدم اشتقاقه، والكلام في مفرده، والمعنى ساعات الليل. وفي هذه الآية دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار، قال ابن عابس - في رواية عَطَاءٍ -: نَزَلَتْ في (أبي بكر الصدِّيقِ، وقال الضحاك: نزلت في أبي بكر وعمر، وعن ابن عمر: أنها نزلت في عثمانَ وعن الكلبي: أنها نزلت في) ابْن مَسْعودٍ، وعَمَّارٍ وسَلْمَانَ.
قوله: {سَاجِداً} حال و «قائماً» حال أيضاً وفي صاحبها وجهان:
أظهرهما: أن الضمير المستتر (في) «وقانت» .
والثاني: أنه الضمير المرفوع بِيَحْذَرُ «قدماً على عاملهما، والعامة على نصبهما.(16/484)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
وقرأ الضحاك برفعهما على أحد وجهين، إما النعت» لِقَانِتٍ «وإما أنها خبرٌ عبد خبرٍ.
قوله: {يَحْذَرُ الآخرة} يجوز أن يكون حالاً من الضمير في» قَانِت «وأن يكون حالاً من الضمير في» ساجداً «و» قائماً «وأن يكون مستأنفاً جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: ما شأنه يقنت آناء الليل ويتعب نفسه ويكدّها؟ فقيل: يحذر الآخرة ويرجُو رحمه ربهن أي عذاب الآخرة. وفي الكلام حذف، والتقدير كمن لا يفعل شيئاً من ذلك، وإنمَّا حَسَّنَ هذا الحذف دلالةُ ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} والتقدير: هل يستوي الذين يعملون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل ساجداً وقائماً والذين لا يعملون وهم الذين صفتهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغ يشركون، وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون لأنه تعالى وإن آتاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم فلذها جعلهم الله كأنهم ليسوا أُولِي الأَلْبَابِ من حيث إنّهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم.
قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} قيل: الذين يعلمون» عمار «والذين لا يعملون أبو حُذَيْفَة المَخْزُوميّ، وهذا الكلام تنبيه على فضيلةِ العلم قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون العلم أفضل من المال (ثم نرى العلماء عند أبواب الملوك) ولا نرى الملكوك عند أبواب العلماء فأجاب بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنفعة فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما للعلم من المنافع فلا جَرَمَ تركوه.
(قوله) : {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب} قرئ: إنَّمَا يذكر بإدغام التاء في الذال.
قوله
: {قُلْ
ياعباد
الذين آمَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ} أي بطاعته، واجتناب معاصيه. قال(16/485)
القاضي أمرهم بالتقوى لكي لا يحبطوا إيمانهم بأعمالهم لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط.
فيقال: (له) : هذا بأن يدل على ضد قولك أولى لأنه أمر المؤمنين بالتقوى فدل ذلك على أنه يبقى مؤمناً مع عدم التقوى وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان.
واعلم أنه تعالى لما أمرَ المؤمنين بالاتِّقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} .
قوله: {فِي هذه الدنيا} يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، وحذفت صفة «حَسَنَة» إذ المعنى حَسَنَةٌ عظيمة لأنه لا يوعد من عمل حسنة في الدناي حسنة مطلقاً بل مقيدة بالعِظَم، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «حَسَنَة» كانت صفة لها فلما تقدمت بَقِيَتْ حَالاً.
فصل
قوله: {فِي هذه الدنيا} يحتمل أن يكون صلة لقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} أي آمنوا وأَحْسَنُوا العمل في الدنيا حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة، والتنكير في «حسنة» للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها، قاله مقاتل. ويحتمل أن يكون صلة لقوله: «حَسَنَة» وعلى هذا قال السدي: معناه في هذه الدنيا حسنة يريد الصحة. قال ابن الخطيب: الأولى أن يحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ثَلاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايةٌ الأَمْنُ والصِّحَّةُ والكِفَايَةُ» وقال بعضهم: الأول أولى لوجوه:
أحدها: أن التنكير يفيد النهاية في التعظيم والرفعة، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا لأنها خَسيسةٌ منقطعة وإنما يليق بأحوال الآخرة.
وثانيها: أن الثوابَ للتوحيد والأعمال الصالحة إنما يَحصل في الآخرة، وأما الأمن والصحة والكفاية فحاصل للكافر أكثر من حصولها للمؤمنين كما قال - عليه (الصلاة و) السلام: - «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» .(16/486)
وقال تعالى: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] .
وثالثها: قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} يفيد الحصر، ومعناه أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا وهذا باطل. أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحَصْرُ فكان حمله على حسنة الآخرة أولى.
قوله: {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} قال ابن عباس: يعين ارتحلوا من مكة، وفيه حَثٌّ على الهجرة من البلد الَّذِي يظهر فيه المعاصي، ونظيره قوله تعالى: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} [النساء: 97] .
وقيل: نزلت في مهاجري الحبشة، وقال سعيد بن جبير: من أمر بالمعاصي فليهربْ، وقال أبو مسلم: لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة؛ لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة، ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة كقوله تعالى:
{نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 74] وقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] قال ابن الخطيب: والأول عندي أولى لأن قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يليق إلا بالأول.
قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى، وقيل: نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير نهاية؛ لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناهٍ فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً الصابرين فإنه يُحْثَى لهم حثياً، يروى: أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزانٌ ولا ينشر لهم دوانٌ ويُصَبّ عليهم الأجر صَبًّا قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ما ذهب به أَهل البلاء من الفضل.(16/487)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
قوله: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً (لَّهُ الدين «أي مخلصاً له} التوحيد لا أشْرِك به شيئاً، وهذا هو النوع الثامن من البيانات التي أمر الله رسوله أن يذكرها.
قوله: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ} في هذه اللام وجهان:
أحدهما: أنها للتعليل تقديره وأمرت بما أُمِرْتُ به لأن أكون قال الزمخشري: فإن قلتَ: كيف عطف» أُمِرْتُ «على» أمرت «وهما واحد؟ قلتُك ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما؛ وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحُوزَ به قَصَبَ السبق في الدِّين شيءٌ آخر، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين.
الثاني: أن تكونَ اللام مزيدةً في» أَنْ «قال الزمخشري: وذلك أن تجعل اللامَ مزيدةً مثلها في قولك: أَرَدْتُ لأَنْ أَفْعَلَ. ولا تزاد إلاَّ مع» أنْ «خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلَى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في» أسْطَاع «عوضاً من تكر الأصل إلَى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في» أسْطَاع «عوضاً من ترك الأصل الذي هو» أَطْوَعَ «والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72 والنمل: 91] (و) {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} [يونس: 104] (و) {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] انتهى.
قوله:» ولا تزاد إلا مع أن «فيه أن نظر من حيث إنها تزاد باطّراد إذا كان المعمول متقدماً(16/488)
أو كان العامل فرعاً وبغير اطراد من غير الموضعين. ولم يذكر أحد من النحويين هذا التفصيل. وقوله. كما عوض السين في» أسطاع «هذا على أحد القولين، والقول الآخر أنه اسْتَطَاع، فحذف تاء الاستفعال، وقوله: والدليل عليه مجيئه بغير لام قد يقال: إن أصله باللام، وإنما حذفت لأن حرف الجر يطرد حذفه مع» أَنْ «و» أَنَّ «ويكون المأمور به محذوفاً تقديره: أن أعبد لأَنْ أَكُونَ.
فصل
المراد من الكلام: أن يكون أول ن تمسك بالعبادات التي أرسلت بها. واعلم أن العبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح وهو الإسلام فقال: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} أي من هذه الأمة.
قوله: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} وعبدت غيره {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهذا حين دعا إلى دين آبائه، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير من المعاصي. ودلت هذه الآية على أن الأمر للوجوب لقوله في أول الآية: {إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} ثم قال بعده: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} فيكون معنى هذا العِصْيان ترك الأمر الذي تقوم ذكره، ودلت الآية أيضاً على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب.
قوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ} قدمت الجلالة عند قوم لإفادة الاختصاص. قال الزمخشري: ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة هنا وأخره في الأول فالكلام أولاً وقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانياً فيمن يفعل الفعل من أجله فلذلك رتب عليه قوله: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} قال ابن الخطيب: فإن قيل: ما معنى التكرير في قوله: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} وقوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي} ؟ قلنا: هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان بالعبادة والثاني إخبار بأنّه أُمرَ أن لا يعبد أحداً غير الله، وذلك لأن قوله: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} لا يفيد الحصر ووقوله تعالى: {قُلِ الله أَعْبُدُ} يفدي الحصر أي اللهَ أعبدُ ولا أعبدُ أحداً سواهُ، ويدل عليه أنه لما قال: {قُلِ الله أَعْبُدُ} قال بعده: {فاعبدوا مَا(16/489)
شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} وهذا أمر توبيخ وتهديد. والمراد منه الزجر كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] . ثم بين كمال الزجر بقوله: {قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ} أوقعوها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه وخسروا أهاليهم أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده البتة. وقيل خُسْرَان النفس بدخول النار وخُسْرَان الأهل أن يفرق بينه وبين أهله.
ولما شرح الله تعالى خسرانهم وصف ذلك الخُسْرَانَ (المبينَ بالفظاعة فقال: أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ) المُبِينُ «، وهذا يدل على غاية المبالغة من وجه:
أحدها: أنه وصفهم بالخُسْرَانِ، ثم أعاد ذلك بقوله:» ألا ذلك هو الخسران المبين «وهذا التكرير لأجل التأكيد.
وثانيها: ذكره حرف» أَلاَ «وهو للتَّنْبِيهِ، وذكر التنبيه يدل على التعظيم كأنه قيل: بلغ في العِظَم إلى حيث لا تصل عقولكم إليه فتنبهوا لَهُ.
وثالثها: قوله: {هُوَ الخسران} ولفظ» هو «يفيد الحصر كأنه قيل: كل خسران يصير في مقابلته كلا خسران.
ورابعها: وصفه بكونه خسراناً مبيناً وذلك يدل على التهْويل.
قوله: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} يجوز أن يكون الخبر أحد الجَارين المتقدمين وإنْ كان الظاهر جَعْلَ الأول هو الخبر، ويكون» مِنْ فَوْقِهِمْ «إما حالاً من» ظُلَلٍ «فيتعلق بمحذوف، وإما متعلقاً بما تعلق به الخبر و» مِنَ النَّار «صفة لظُلَلٍ، وقوله: {وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} كما تقدم.
وسماها ظللاً بالنسبة لمن تحتهم، ونظيره قوله: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] . وقوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] والمعنى أن النارَ محيطة بهم من جميع الجوانِبِ.
فإن قيل: الظلة ما علا الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلة؟
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه من باب إطلاق اسم أحد الضِّدِّيْن على الآخر، كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] .
الثاني: أن الذي تحته يكون ظلة لغيره لأن النار درجات كما أن الجنة دَرَجَاتٌ.(16/490)
الثالث: أن الظلة التحتانية وإن كانت مشابهة للظلة الفوْقَانيّة في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة.
قوله: {ذَلِكَ} مبتدأ وقوله: «الَّذِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ» خبر، والتقدير ذلك العذاب المعدّ للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين، لأن لفظ العباد في القرآن يختص بأهل الإيمان، وقيل: تخويف للكفار والضلال والأول أقرب لقوله بعده: {ياعباد فاتقون} والظاهر أن المراد منه المؤمنون.
قوله: {والذين اجتنبوا الطاغوت} الذين مبتدأ، والجملة من «لَهُمُ الْبُشْرَى» الخبر، وقيل: «لَهُمْ» هو الخبر نفسه، و «الْبُشْرَى» فاعل به.
وهذا أولى لأنه من باب الإخبار بالمفردات والطّاغوت قال الزمخشري: فَعَلُوتٌ من الطُّغْيَان كالمَلَكُوتِ والرَّهَبُوت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العبين لما ذكر وعيد عبدةِ الأصنام ذكر وَعْدَ من اجْتَنَبَ عبادتها واحْتَرَزَ عن أهل الشرك ليكون الوعد مقروناً بالوعيد أبداً فيحصل كمالُ الترغيب والترهيبِ.
قيل: المراد بالطاغوت هنا: الشيطان.
فإن قيل: إنما عبدوا الصنم.
فالجواب: أن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان الشيطان هو الداعي كانت عبادة للشيطان، وقيل: المراد بالطاغوت: الصنم وسميت طَوَاغِيتَ على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها، (والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان بسبب عبادتها والقرب منها وُصِفت بذلك) إطلاقاً لاسم السبب على المسِّبب بحَسَبِ الظاهر.
وقيل: الطاغوت كل من يُعْبَدُ ويطاع دون الله. نقل (ذلك) في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم (كانوا) مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نورٌ عظيم وأن الملائكة أنواع مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صورها على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون(16/491)
تلك التماثيل عل اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة.
قوله: {أَن يَعْبُدُوهَا} الضمير يعود على الطَّاغوت لأنها تؤنث، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في البقرة و «أَنْ يَعْبُدُوها» في محل نصب على البدل من «الطّاغوت» بدل اشتمال كأنه قيلك اجْتَنَبُوا عبادَة الطاغوت.
قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} من إيقاع الظاهر موقع المضمر أي فبشِّرْهُم أي أولئك المجتبين، وإنما فعل ذلك تصريحاً بالوصف المذكور.
فصل
الذين اجتنبوا الطاغوت أي أعرضوا عن عبادة ما سوى الله وأنابوا أي رَجَعُوا بالكلية إلى الله وأقبلوا بالكلية على عبادة الله. ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء:
أحدها: قوله: {لَهُمُ البشرى} وهذه البشرى تحصل عن القرب من الموت وعند الوضع في القبر، وعند الخروج من القبر، وعند الوقوف في عَرْصَة القيامة وعند ما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير، ففي كل موضع من هذه المواضع تحصل البشارة بنوع من الخير، وهذا المُبَشَّر يحتمل أن يكون هم الملائكة عند الموت لقوله:
{الذين
تَتَوَفَّاهُمُ
الملائكة
طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] أو بعد دخول الجنة لقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 23 - 24] ويحتمل أن يكون هو الله تعالى كما قال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} [الأحزاب: 44] ، ثم قال {فَبَشِّرْ عِبَادِ} وهم الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم. وهذه الآية تدل على وجوب النظر والاستدلال لأنه مدح الإنسان الذي إذا سمع أشياء كثيرة يختار منها ما هو الأحسن الصوب وتمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يتأتى بالمساع وإنما يحجة العقل. واختلفوا في المراد باتِّباع الأحْسَنِ، فقيل: هو مثل أن(16/492)
يسمع القصاص والعفو فيعفو، لأن العفو مندوب إليه لقوله: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] وقيل: يسمع العزائم والرخص فيتبع الأحسن وهو العزائم، وقيل: يستمعون القرآن وغير القرآن فيتعبون القرآن وروى عطاء عن ابن عباس: آمن أبو بكر بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فجاءه عثمان وعبدُ الرحمن بن عوف وطلحةُ والزبيرُ وسَعْدُ بنُ أبي وقاص وسِعِيدُ بن زيدٍ فسألوه فأخبرهم بإيمانه فأمنوا فنزل فيهم: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وقال ابن الخطيب: إنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشهبات وتزييفها نَعْرض تلك المذاهب وأضدادها على عقلونا فكل ما حكم به أو العقل بأنه أفضل وأكمل كان أولى بالقبول، مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن (إله العالم حي علام قادر حيكم رحيم أولى من إنكار ذلك فكان ذلك لامذهب ألوى والإقرار) بأن الله لا يجري في سلطان الله على خلاف إرادته، والإقرار بأن الله تعالى فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعِّضاً، مؤلفاً، وأيضاً القول باستغنائه عن المكان والزمان أولى من القول بأنه لايستغني عنه ألبتة، فكل هذه الأبواب داخلة تحت قوله: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} فهذا في أبواب الاعتقادات وأما أبواب التكاليف فهي قسمان: عبادات ومعاملات، أما العبادات فكقولنا: الصلاةُ التي يذكر في تحريمها: الله أكبرُ وهي بِنيّة ويقرا فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة وتيُتَشَهَّد فيها ويخرج منها بالسلام فلا شَكّ أنها أحسن من تلك التي لا يُراعى فيها شيء من هذه الأحوال، فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها، وكذا القول في جميع أبواب العبادات.
وأما المعاملات فكما تقدم في القَصَاص والعفو عنه، وروي عن ابن عباس: أن المراد منه أن الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسنُ ومساوئُ فيحدِّث بأحسنِ ما سمع وَيتركُ ما سواه.
قوله: {الذين يَسْتَمِعُونَ} الظاهر أنه نعت «لعبادي» ، أو بدل منه، أو بيان له،(16/493)
وقيل: يجوز أن يكون مبتدأً، وقوله: {أولئك الذين} إلى آخره خبره، وعلى هذا فالوقف على قوله: «عِبَادِي» والابتداء بما بعده.
قوله
: {أولئك
الذين هَدَاهُمُ الله وأولئك هُمْ أُوْلُو الألباب} قال ابن زيد: نزلت: «والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ... » الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهية يقولون: لا إله إلا الله زيدُ بنُ عمرو وأبو ذر الغِفَاري وسلْمان الفارسيّ، والأحسن قول لا إله إلا الله وفي هذه الآية لطيفة وهي أن حصولَ الهداية في العقل والروح حادث فلا بدّ له من فاعل وقاتل أما الفاعل فهو الله تعالى وهو المراد من قوله {أولئك الذين هَدَاهُمُ الله} وأما القائل فإليه الإشارة بقوله: {وأولئك هُمْ أُوْلُو الألباب} فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف والحقيقة في قلبه.(16/494)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ} في «من» هذه وجهان:
أظهرهما: أنها موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف فقدره أبو البقاء: «كَمَنْ نَجَا» وقدره الزمخشري: «فَأَنْتَ تُخَلِّصُهُ» قال: حذف لدلالة: «أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ» عليه وقدره غيره: تَتَأسَّفُ عليه، وقدره آخرون: تَتَخَلَّص منه، أي من العذاب.
وقدر الزمخشري على عادته جملة بين الهمزة والفاء تقديره، أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهمْ فَمَن حَقّ عليه كملة العذاب.
وأما غيره فيدعي أن ألصل تقديم الفاء، وإنما آخّرت لما تستحقه الهمزة في التصدير وقد تقدم تحقيق هذين القولين.
الثاني: أن تكون «مَنْ» شرطية وجوبها: «أَفَأَنْتَ» فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار. وأوقع الظاهر وهو «مَنْ فِي النَّار»(16/494)
موقع المضمر إذ كان الأصل أفأنت تنقذه وإنما وقع موقعه شهادةً عليه بذلك، وإلى هذا نَحَا الحَوْفِيُّ والزمخشريُّ، قال الحوفي: وجيء بألف الاستفهام لمّا طال الكلام توكيداً ولولا طولُه لم يجز الإتيان بها لأنه لا يصلح في العربية أن يؤتى بألف الاستفهام في الاسم، وألف أخرى في الجزاء ومعنى الكلام أفَأنْت تُنْقِذُهُ.
وعلى القول بكونها شرطية يترتّب على قول الزمخشري وقول الجمهور مسألة وهو أنه على قول الجمهور يكون قد اجتمع شرط واستفهام. وفيه حينئذ خلافٌ بين سِيبويِه ويُونُسَ هل الجملة الأخيرة في جواب الاستفهام وهو قول يونس أو جواب الشرط وهو قول سيبويه.
وأما على قول الزمخشري فلم يجتمع شَرْطٌ (و) استفهام؛ إذا أداةُ الاستفهام عنده داخلةٌ على جملةٍ مَحْذُوفةٍ عطفت عليها جملة الشرط ولو لم يدخل على جملة الشرط. وقوله: {أَفَأَنتَ تُنقِذُ} استفهام توقيف، وقدم فيها الضميرُ إشعاراً بأنك لستَ قادراً على إنقاذه إنما القَادِرُ عليه اللَّهُ وَحْدَهُ.
فصل
قال ابن عباس: عنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار. وقيل كلمة العذاب قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] وقيل: هي قوله: «هَؤُلاَءِ فِي النَّارِ وَلاَ أُبالي» .
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال بقوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة وإلاّ لزم (انقلاب) خبر الله الصدق كذباً وانقلاب علمه جهلاً، وهو محالٌ، وأيضاً فإنه تعالى(16/495)
حكم بأن حقية كلمة العذاب (توجب الاستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة منه لو كان ذلك ممكناً ولم تكن حقية كلمة العذاب) مانعه منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنًى.
فصل
احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يشفع لأهل الكبائر لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جاريةً مجرى إنقاذهم من النار وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والاستبعاد، وأجيب: بأنا لا نسلم أن أهل الكابئر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق عليهم العذاب مع أن الله تعالى قال:
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116] وقال: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 53] .
قوله: {لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ} استدراك بين شيئين نقيضين، أو (بين) ضدين، وهما المؤمنون والكافرون وقوله: {لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار: «لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل» والمعنى لهم منازل في الجنة رفعية، وفوقها منازل أرفع منها.
فإن قيل: ما معنى قوله «مبينة» ؟
فجوابه: أن المَنْزِل إذا بُني على مَنْزِلٍ آخر كان الفَوْقَاني أضعف بناءً من التَّحْتَانِيّ، فقوله «مبينةٌ» معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساوٍ المنزل الأسفل، ثم قال: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وذلك معلوم.
قوله: {وَعْدَ الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بواجب الإضمار لأن قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى وَعَدَهُم اللَّهُ ذلك، وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد يصرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد البتة مثل هذا التأكيد والتقوية، وذلك يدل أنّ جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف قول المعتزلة إنه قال في جانب الوعيد {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] وأجيبوا بأن قوله: «ما يبدل القول لدي» ليس تصريحاً بجانب الوعيد بل هو عام يتناول القِسْمَيْن الوعد والوعيد فثبت أن الترجيح الذي ذكرنا حق. والله أعلم.(16/496)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} (الآية) لما وصف الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيم فيها وصف الدنيا بصفة توجب (اشتداد) النفرة عنها، وذلك أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء، ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} أي يعوناً ومسالك وَركَايَا في الأرض ومجاري كالعروق في الأجساد {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} من خُضْرَة وحُمْرة، وصُفرة وبَيَاض وغير ذلك مختلفاً أصنافه من بُرِّ وشَعير وسِمْسِم «ثُمَّ يَهِيجُ» أي يَبْيَسُ «فَتَراهُ مُصْفَرًّا» لأنه إذا تم جفافه جازَ (له) أن ينفصل عن منابته وإن لم تَتَفَرَّق أجزاؤه فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم تصير حُطَاماً فُتَاتاً متكّسراً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب} يعني من شاهد هذه الأحوال في النبات يصير مُصْفَرَّ اللون متحطم الأعضاءِ والأجزاء ثم يكون عاقبته الموت، فإذا كانت مشاهدة فحينئذ تعظم نُفْرتُهُ عن الدنيا ولذاتها.
قوله: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ} العامة على رفع الفعل نَسَقاً على ما قبله، وقرأ أبو بشر ثم يَجْعَلَهُ منصوباً.(16/497)
قال أبو حيان: قال صاحب الكامل - يعني الهُذَلِي -: وهو ضعيف ولم يبين هو ولا صاحبُ الكامل وجهَ ضعفه ولا تخريجه فأما ضعفه فواضحٌ حيث لم يتقدم ما يقتضي نصبه في الظاهر، وأما تخريجُهُ فذكر أبو الباقء فيه وجهين:
أحدهما: أن ينتصب بإضمار «أَنْ» ويكون معطوفاً على قوله: {أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} في أول الآية والتقدير: ألم تر إنزالَ اللَّه ثم جَعْلَهُ.
والثاني: أن يكون منصوباً بتقدير: ترى أي ثم ترى جَعْلَه حُطَاماً يعني أنه ينصب «بأَن» مضمرةً وتكون أن وما في حيِّزها مفعولاً به بفعل مقدر وهو «ترى» لدلالة: «أَلَمْ تَرَ» عَلَيْهِ.
قوله (تَعَالَى) {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} الآية، لما بين الدلائل الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله ووجوب الإعراض عن الدنيا وذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا تكمل إلا إذا شُرحَ الصدر ونُوِّر القلب، والكلام في قوله (تعالى) : {أَفَمَن شَرَحَ} وقوله: «أَفَمَنْ يتقي» كالكلام في «أَفَمَنْ حَقَّ» والتقدير: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لْلإسْلاَم كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ، أو كالقَاسِي المُعْرِضِ لدلالة: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} عليه وكذا التقدير في: «أَفَمَنْ يتقي» أي كمن أمن العذاب، وهو تقدير الزمشخري، أو: كالمُنعمِينَ في الجنة وهو تقدير ابن عطيَّةَ.
فصل
معنى شرح الله صدره للإسلام أيْ وسعه لقبول الحق {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} كمن أقسى الله قلبه {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} قال مالك بن دينار: ما ضرب عبدٌ بعقوبة أعظمَ من قسوةِ وَمَا غضب الله على قوم إلا نَزَعَ منهم الرحمة.
فإن قيل: إن ذكر الله - عزّ جلّ - سبب لحُصُول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] فكيف جعله في هذه الآية مبيناً لحصول القسوة في القلب؟ .(16/498)
فالجواب: أن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العُنْصر بعيدةً عن مناسبة الرُّوحَانِيَّات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمة والأخلاق الذَّميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوةً وكُدُورةً مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس تسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقِد الملح وقد نرى إنساناً (واحداً) يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره، وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس، ولما نزل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] وعمر بن الخطاب حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] قال كل (واحد) منهما: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اكتب فكذا نزلت فازْدَادَ عمرُ إيماناً على إيمان، وازداد ذلك الإنسان (كفراً على كُفْرٍ) وإذا عرف هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله - عزّ وجلّ - يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانيَّة ويوجب القَسْوَة والبعد عن الحقّ في النفوس الخبيثة الشَّيْطَانِيَّة.(16/499)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
قوله: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه:
الأول: أنه تعالى وصفه بكونه: «حديثاً» في هذه الآية وفي قوله: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} [الطور: 34] وفي قوله: {أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} [الواقعة: 81] والحديث لا بدّ وأن يكون حادثاً بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه (لا) يصح أن يقال:(16/499)
هذا حديث وليس بِعَتيقٍ، وهذا عَتِيقٌ وليس بحَدِيثٍ، ولا يصح أن يقال: هذا عتبيقٌ وليس بحادِثٍ فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحدوث. وسمي الحَدِيثُ حديثاً لأنه مؤلَّفٌ من الحروف والكلمات وتلك الحروف والكلمات تَحْدثُ حالاً فحالاً وساعةً فساعةً.
الثاني: قالوا بأنَّه تعالى وصفه بأنه أنْزَلَه والمُنْزَلُ يكون في مَحَلِّ تصرف الغير وما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ وحَادِثٌ.
الثالث: قالوا: إن قوله: {أَحْسَنَ الحديث} يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أنّ قوله: «زَيد أفضل الإخوة» (يقتضي أن يكونُ زيدٌ مشاركاً لأولئك الأقوام في صفة الأُخُوَّة) ويكون من جنسهم، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث، ولما كان سائر الأحاديث حادثةً وجب أيضاً أن يكون القرآن حادثاً.
الرابع: قالوا: إنه تعالى وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الكَتِيبَة وهي الاجْتِمَاعُ، وهذا يدل على كونه حادثاً.
قال ابن الخطيب: والجوابُ أن نَحْمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والألفاظ والعبارات، وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق.
فصل
كَوْنُ القرآنِ أحسنَ الحديث إما أن يكون بحسب اللفظ وذلك من وجهين:
الأول: أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجَزَالَة.
الثاني: أن يكون بحسب النظم في الأسلوب وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر ولا من جنس الخُطَب ولا من جنس الرِّسالة بل هو نوعٌ يخالفُ الكلَّ مع أن كل (ذِي) طبعٍ سليمٍ يَسْتَلِذُّهُ ويَسْتَطِيبُهُ، وإما أن يكون أحْسَن الْحَدِيث لأجل المعنى. وهو من وجوه:
الأول: أنه كتاب منزه عن التناقض قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المُعْجِزَات.
الثاني: اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمُسْتقبل.(16/500)
الثالث: أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جداً وقد شرح ابن الخطيب منها أقساماً كثيرة.
قوله: {كِتَاباً} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه بدل من: «أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» .
والثاني: أنَّه حال منه، قال أبو حيانَ، لمّا نقله عن الزمخشري: وكأنه بناه على أن «أحْسَنَ الْحَدِيثِ» مَعْرفة لإضافته إلى معرفة، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلافٌ، فقيل: إضافتُهُ مَحْضَةٌ وقيل: غيرُ محضة.
قال شهاب الدين: وعلى تقدير كونه نكرةً يحسن أيضاً أيضاً أن يكون حالاً؛ لأن النكرة متى أضيفتْ سَاغَ مجيءُ الحال منها بلا خلاف، والصحيح أن إضافة «أفْعَل» محضةٌ وقوله: «مُتَشَابِهاً» نعت «لكِتَابٍ» وهو المسوِّغ لمجيء الجامد حالاً، أو لأنه في قُوّة «مَكْتُوبٍ» ، أو تمييزاً منقولاً من الفاعلية أي متشابهاً مَثَانِيه، وإلى هذا ذهب الزمخشريُّ.
قوله: {مَّثَانِيَ} قرأ العامة مَثَانِيَ - بفتح الياء - صفة ثانية، أو حالاً أخرى وقرأ هشامٌ عن ابن عامر وأبو بِشر بسكونها وفيها وجهان:
أحدهما: أنه تسكين حرف العلة استثقالاً للحركة عليه كقراءة: {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] (و) (قوله) :
4296 - كَأَنَّ أَيْدِيهِنَّ ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(16/501)
ونحوهما.
والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي هُوَ مَثَانِي. كذا ذكره أبو حيان، وفيه نظر من حيث إنه كان ينبغي أن ينون تحذف ياؤه لالتقاء السَّاكِنَيْنِ، فيقال: مثانٍ كما تقول: هَؤُلاَءِ جَوَارٍ، وقد يقال: إنه وقف عليه ثم أجْري الوصل مُجْرَى الوقف لكن يعترض عليه بأن الوقف على المنقوص المنون بحذف الياء نحو: هذَا قَاض وإثباتها لغةً قَلِيلُ، ويمكن الجواب عنه بأنه قد قرئ بذلك في المتواتر نحو: {مِن وَالٍ} [الرعد: 11] و {بَاقٍ} [النحل: 96] و {هَادٍ} [الرعد: 7] في قراءة ابن كَثِيرٍ.
فصل
تقدم تفسير الكتاب عند قوله: «ذَلِكَ الْكِتَابُ» وقوله: «مُتَشَابِهاً» أي يشبه بعضهُ بعضاً (في الحُسْن ويُصَدّق بعضهُ بعضاً) ليس فيه تناقضٌ ولا اختلاف، قاله ابن عباس، وقوله: {مَّثَانِيَ} جمع «مَثْنَى» أي يُثَنَّى فيه ذكرُ الوَعْدِ، والوعيد، والأمر، والنهي، والأخبار والأحكام، أو جمع «مَثْنَى مفعل من التَّثْنِية بمعنى التَّكرير، وإنما وصف كتاب وهو مفرد» بمَثَانِي «وهو جمع لأن الكتاب مُشْتَمِلٌ على سُوَةٍ وآياتٍ، وهو من باب: بُرْمَةٌ أعْشَارٌ، وثَوْبٌ أخْلاَقٌ. قاله الزمخشري وقيل: ثَمَّ موصوف محذوف أي فصولاً مَثَانِيَ، حذف للدلالة عليه، وقال ابن الخطيب: إن أكثر الأشياء المذكورة زَوْجَيْن زَوْجَيْن مثل الأمر، والنهي، والعام، والخاص، والمجمل، والمفصل، وأحوال(16/502)
السموات والأرض والجنة والنار، والضوء والظلمة، واللوح، والقلم، والملائكة، والشياطين، والعرض، والكرسيّ، والوعد، والوعيدن والرجاء والخوف والمقصود منه أن بيانَ كلِّ ما سَوى الحق زوج يدل على أن كل شيء ممثل بضدِّه ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو اللَّهُ تَعَالَى.
قوله: {تَقْشَعِرُّ} هذه الجملة يجوز أن تكون صفة» لكتاب «وأن تكون حالاً منه لاختاصه بالصفة، وأن تكون مستأنفة، واقشعر جلده إذا تَقَبَّض وتجمَّع من الخوف وقفَّ شعره، والمصدر الاقْشِعْرَارُ والقُشَعْرِيرةُ أيضاً ووزن اقْشَعرَّ افْعَلَلَّ، ووزن القُشَعْرِيرَة فُعَلِّيلَة.
فصل
قال المفسرون: تقشعر تضطرب وتشمئز {مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوَجَل والخوف، وقيل: المراد من الجولد القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله} (أي لذكر الله) قيل: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال الله:
{أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] وحقيقة المعنى أن قلوبهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء قال عليه (الصلاة و) السلام: «إذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ منْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنَه ذُنُوبُهُ كَما يَتَحَاتُّ عَنش الشَّجَرَةِ اليَابِسَةِ وَرَقُهَا» وقال: «إذا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهث عَلَى النَّارِ» قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأنهم تقشعرُّ جلودهم وتطمئن قلوبُهم ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغَشَيَان عليهم إنما ذلك في أهل البِدَع وهو(16/503)
من الشيطان وعن عروةَ بن الزّبير قال: قلت لجدّتي أسماءَ بنتِ أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يفعلون إذَا قرئ عليهم القرآن؟ (قالت: كانُوا كَمَا نعتّهم الله عزّ وجلّ تَدْمَع أعينهُمْ وتَقْشَعرُّ جلودُهُمْ، قال: فقلتُ لها: إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن) خَرَّ أحدهُم معشيًّاً عليه فقالت: أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم. وعن ابن عمر أنه مرّ برجل من أهل العراق ساقطٍ فقال: ما بالُ هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآنُ أو سَمع ذكرَ الله سَقَطَ فقال ابن عمر: إنّا لنخشى الله (- عزّ وجلّ) - وما نَسْقُط.
وقال ابن عمر: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ماكان هذا صنيع أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فصل
قال الزمخشري: تركيب لفظ القُشَعْرِيرَة من حروف التَّقَشُّع وهو الأديمُ وضموا إليه حرفاً رابعاً وهو الراء ليكون رباعياً دالاً على معى زائد، يقال: اقشعرَّ جلده من الخوف (إذا) وقف شعره وهو مثل في شدة الخوف فإن قيل: كيف قال: «تَلِينُ إلى ذكر الله» فعداه بحرف «إلى» ؟
فالجواب: التقدير: تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس الإدراك.
فإن قيل: كيف قال: إلى ذكر الله ولم يقل: إلى ذكر رحمة الله؟
فالجواب: أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئاً غيره، وأما من أحبَّ الله لا لشيء سواه فهو المحب وفي الدرجة العالية فلهذا لم يقل: تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله وإنما قال: إلى ذكر الله وقد بين الله تعالى هذا بقوله: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] .
فإن قيل: لم ذكر في جانب الخوف قُشَعْرِيرة الجولد فقط، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب؟
فالجواب: لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات، والشر مطلوب بالعَرَض ومحل المكاشفات هي القلوب والأرواح والله أعلم.(16/504)
ثم إنه تعالى: لما وصف القرآن بهذه الصفات قال: {ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ} فقوله «ذَلِكَ» إشارة إلى الكتاب وهو هُدَى الله وهو الذي شَرَحَ الله صدره (أولاً) لقبول الهداية ومن يضلل الله أي يجعل قلبه قاسياً مظلماً «فَما لَهُ مِنْ هَادٍ» .
واعلم أن سؤالات المعتزلة وجوابها عن مثل هذه الآية قد تقدم في قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125] ونظائرها.
قوله: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب} الآية لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال التام حكم عليه في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب الشديد فقال: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة} وتقريره أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه لأن محل الصباحة وصومعه الحواس (والسعادة والشقاوة) لا تظهر إلا فيه، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 38 - 42] ويقال لمقدم القوم: يَا وَجْهَ الْعَرَبِ، ويقال الطريق الدال على حال الشيء: إن وجه كذا هو كذا. فثَبَتَ بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه وإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه، وإذا عرف هذا فنقول: إذا كان القادر على الاتّقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداءً للوجه لا جَرَمَ حسن جعل الاتّقاء بالوجه كناية (عن العجز) عن الاتقاء ونظيره قوله النابغة:
4297 - وَلاَ عَيْبَ فِيهمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنّ فلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكتَائِبِ
أي لا عيبَ فيهم إلا هذا، وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذَنْ بوجْهٍ من الوجوه فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء يوجه من الوجوه إلا بالوجه، وهذا لي باتقاء، فلا قدرة لهم على الاتقاء البتّة، وقيل: إنه يُلْقَى في النار مغلولة يده إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، وتقدم الكلام على الإعراب. و «سوء العذاب» أشده، وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار، وقال عطاء: يرمى به في النار منكوساً، فأول شيء يمس النار منه وجهه.(16/505)
قوله: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} أي تقول الخزنة للظالمين: {ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي وباله.
ولما بين كيفية عقاب القاسية قلوبهم في الآخرة وبين كيفية وقوعهم في العذاب قال: {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل {فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} يعني وهم آمنون غافلون عن العذاب أي من الجهة التي لا يخشون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منا، {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي فِي الحياة الدنيا} وهو الذل والصغار والهوان ثم قال: {وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يعني أنَّ أولئك وإن نزل بهم العذاب والخزي في الدنيا فالعذاب المدخر لهم يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع بهم في الدنيا.(16/506)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
ولما ذكر الله تعالى هذه الفوائد الكثيرة في هذه المطالب بين أن هذه البيانات بلغت حدّ الكمال والتمام فقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون، قالت المعتزلة: دلت الآية على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة، ودلت أيضاً على أنه تعالى يريد الإيمان والمعرفة من الكلّ؛ لأن قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ} مشعِر بالتعليل، وقوله في آخر الآية: {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} مشعر بالتعليل أيضاً ومشعر بأن المراد من ضرب هذه الأمثال حصولُ التذكرة والعلم.
قوله: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: (أن يكون منصوباً على المدح؛ لأنه لما كان نكرةً امتنع إتباعه للقرآن.
الثاني: أن ينتصب ب «يتذكرون» أي) يتذكرون قرآناً.
الثالث: أن ينتصب على الحال من «القرآن» على أنها حال مؤكدة وتسمى حالاً موطّئة؛ لأن الحال في الحقيقة «عربياً» و «قُرْآناً» توطئه له، نحو: جاء زيد رجالاً(16/506)
صالحاً، وقوله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} نعت «لقُرْآناً» ، أو حال أُخْرَى.
قال الزمخشري: فإن قلت: فهلا قيل مستقيماً أو غير مُعْوَجٍّ؟ قلتُ: فيه فائدتان:
إحداهما: نفي أن يكون فيه عِوَجٌ قط كما قال: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] .
والثانية: أن العِوَج يختص بالمعاني دون الأعيان وقيل: المراد بالعِوَج الشك واللَّبْس وأنْشَدَ:
4298 - وَقَدْ أتَاكَ يقينٌ غَيْرُ ذِي عِوَجٍ ... مِنَ الإلهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ
فصل
اعلم أنه تعالى وصف القرآن بصفات ثلاثة:
أولها: كونه قرآناً، والمراد كونه مَتْلُوَّا في المحاريب إلى قيام الساعة.
وثانيها: كونه عربياً أي أنه أعجز الفصحاءَ والبلغاءَ عن معارضته كما قال: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] .
وثالثها: كونه غيرَ ذي عِوجَ، والمراد براءته من التناقض، قال ابن عباس: غير مختلف، وقال مجاهد: غير ذي لَبْس وقال السدي: غير مخلوق، ويروى ذك عن مالكل بن أَنَسٍ، وحكى سفيان بن عينه عن سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالقٍ ولا مخلوق.
قوله: {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الكفر والتكذيب به. وتمسك المعتزلة به في تعليل أحكام الله تعالى، وقوله في الآية الأولى: {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، وههنا: «لعلهم يتقون» لأن التذكر يتقدم على الاتّقاء والاحتراز. والله أعلم.
قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً} قال الكسائي: نصب «رجلاً» لأنه تفسير للمَثَل.
واعلم أنه تَعَالَى لما شرح وعيد الكفار مَثَّلَ بما يدل على فساد مذهبهم وقُبْحِ طريقتهم، فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً} .(16/507)
قوله: {فِيهِ شُرَكَآءُ} يجوز أن يكون هذا جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة «لِرَجُلٍ» ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده، و «شُرَكَاءُ» فاعل به، وهو أولى لقربه من المُفْرد، و «مُتَشَاكِسُونَ» صفة «لشُركَاءُ» والتَّشاكُسُ) والتَّشَاكُسُ) والتَّشَاخُسُ - بالخاء - موضع الكاف، وقد تقدم الكلام على نصب المَثَل وما بعده الواقعين بعد ضَرَبَ.
وقال الكسائي: انتصب «رجلاً» على إسقاط الجار، أي لِرَجُلِ أو في رَجُل، والمُتَشَاكِسون المختلفون العَسِرُون، يقال: شَكُسَ يَشْكُسُ شُكُوساً وشَكْساً إذا عسرن وهو رجلٌ شَكِس أي عِسِر وشَاكَس إذا تَعَاسَر قال الليث: التَّشَاكُسُ التضاد والاختلاف ويقال: الليل والنهار يَتَشاكسان أي يتضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر وقوله «فيه» صلة «لشركاء» كما تقول اشتركوا فيه أي في رِقِّةِ، (قال شهاب الين: وقال أَبُوا البقاء كلاماً لايشبه أن يصدر من مثله بل ولا أقل منه قال: «وَفِيهِ شُرَكَاءُ» ) الجملة صفة «لِرَجُل» و «فيه» متعلق بمُتَشَاكِسُونَ، وفيه دلالة على جواز تقديم خبر المبتدأ عليه انتهى أما هذا فلا أشك أنه سهو لأنه من حيث جعله جملة كيف يقول بعد ذلك: إن «فيه» يتعلق «بمُتَشَاكِسُونَ» . وقد يقال: أراد من حيث المعنى وهو بعدي جداً، ثم قوله: «وفيه دلالة» إلى آخره يناقضه أيضاً معمول الخبر على المبتدأ بناءً منه على أن «فِيهِ» يتعلق بمُتَشَاكِسُونَ، ولكنه فاسد، والفاسدُ لا يُرام صَلاَحُهُ.(16/508)
قوله: {سَلَماً لِّرَجُلٍ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو سَالِماً بالألف وكسر اللام، والباقون سَلَماً بفتح السين واللام وابن جبير بكسر السين وسكون اللام، (قال ابن الخطيب: ويقال أيضاً: بفتح السين وسكون اللام) ، فالقراءة الأولى اسم فاعل من سلم له كذا فهو سالم والقراءتان الأخيرتان سِلْماً فهما مصدران وصف بهما على سبل المبالغة أو على حذف مضاف، أوعلى وقوعهما موقع اسم الفاعل فيعود كالقراءة الأولى وقرئ: «وَرَجُلٌ سَالِمٌ» برفعهما وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره وهناك رجلٌ لرجلٍٍ، كذا قدره الزمخشيريُّ.
الثاني: أنه مبتدأ، و «سالم» خبره، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع تفصيل كقول أمرئ القيس:
4299 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
وقولهم: «النَّاسُ رَجُلاَنِ رَجُلٌ أَكْرَمْتُ وَرَجُلٌ أَهَنْتُ» .
قوله: {مَثَلاً} منصوب على التمييز المنقول من الفاعلية إذ الأصل: هل يستوي مِثْلُهُمَا، وأفرد التمييزُ لأنه مقتصر عليه أولاً في قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} وقرئ «مَثَلَيْنِ» فطابق حَالَ الرجلين. وقال الزمخشري فيمن قرأ مَثَلَيْنِ: إنّ الضمير في «يَسْتَوِيَانِ» «للمثلين» لأن التقدير: مَثَلَ رَجُلٍ ومَثَلَ رَجُلٍ، والمعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصيفة كما تقول: كَفَى بِهِما رَجُلَيْن قال أبو حيان: والظاهر أنه يَعُودُ(16/509)
الضمير في «يستويان» على «رجلين» ، وأما إذا جعلته عائداً إلى المثلين اللّذين ذَكَر أن التقدير: مثل رجل ومثل رجل، فإن التمييز يكون إذْ ذَاكَ قد فهم من المميز الذي هو الضمير إذ يصير التقدير: هل يستوي المثلان مثلين في الوصفية، فالمثلان الأولان معهودان الثانيان جنْسَانِ مُبْهَمَانِ كما تقول: كَفَى بِهِمَا رَجُلَيْن، فإن الضمير في بهما عائد على ما يراد بالرَّجُلَيْن فلا فرق بين المسألتين فما كان جواباً عن: «كفى بهما رجلين» يكون جواباً له.
فصل
تقدم الكلام: اضْربْ لقومك مثلاً وقل ما تقولون في رجلٍ مَمْلُوكٍ لشركاء بينهم اختلافٌ وتنازعٌ فيه وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحيِّر في أمره وكلما أرضى أحدّهم غضب الباقونَ، وإذا احتاج إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فيبقى متحيّراً لا يعرف أيّهم أولى أن يطلب رضاه؟ وأيهم يُعِينه في حاجاته؟ فهو بهذا السبب في عذابٍ دائم، وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه في مهاماته فأي هذا (من) العبدين أحسنُ حالاً؟ والمراد أن من أثبت آلهةً أخرى فإن الآلهة تكون متنازعة متغالبة كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقال: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً لا يدري أَيَّ هؤلاء الآلهة يعبدُ؟ وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ فهمه مشَاع وقلبه أوْزَاع أما من لم يُثبت إلا إلهاً واحداً فهو قائم بما كلفه عارف بما يرضيه ويسخطه فكان حالُ هذا أقرب إلى الصلاح من حالِ الأول، وهذا المثال في غاية الحسن في تقبيح الشّرك وتحسين التّوحيد.
فإن قيل: هذا المثال لا ينطبقُ على عبادة الأصنام لأنها جَمَادَاتٌ فليس بينهما منازعة ولا تشاكس.
فالجواب: أن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل(16/510)
الكواكب السبعة وهم يثبتون بينهما منازعة ومشاكسة، ألا ترى أنهم يقولون: زُحَلُ هو النحس الأعضم، (والمشتري: هو السَّعد الأعظم) ومنهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الأرواح السماوية وحنيئذ (يحصل) بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة وحنيئذ يكون المثال مطابقاً، ومنهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزَّهاد (الذين) مَضَوْا فهم يعبدون فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزُّهَّاد شفعاءَ لم عند الله. والقائلون بهذا القول يزعم كل طائفة منهم أن المحقّ هو الذي الرجل الذي هو على دينه، وأنّ من سواه مبطل وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال.
قوله: «قُل الْحَمْدُ لِلَّهِ» يعني أنه لما أبطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا الواحدُ الأحدُ المحقُّ ثبت أن الحمد له لا لغيره، ثم قال «بل أكثرهم لا يعلمون» أن الحمد له لا لغيره، وأنّ المستحق العبادة هو الله. وقيل: لا يعلمون ما يصيرون إليه، وقيلي: المراد أنه لما سيقت عنده الدلائل الظاهرة قال: {الحمد للَّهِ} على حصول هذه البيانات، وظهور هذه البيِّنات وإن كان (أكثر) الخلق لا يعرفونها قال البغوي: والمراد بالأكثر الكُلّ.(16/511)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي سَتَمُوتُ «وإنهم مَيِّتُون» أي سيموتون. قال الفراء والكسائي: المَيِّتُ - بالتشديد - من لم يَمُتْ وسَيَمُوت والمَيْتُ - بالتخفيف - مَنْ فَارٌقَهُ(16/511)
الروحُ ولذلك لم يخفف ههنا. والعامة على مَيّت وميّتون، وقراءة ابن مُحَيْصِنٍ وابن أبي عبلة واليماني: مَائِتٌ ومَائِتُونَ، وهي صفة مشعرة بحدوثها دون مَيّت، وقد تقدم أَنه لا خلاف بين القراء في تَثْقِيل مثْلِ هذا.
فصل
والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة لأجل الحسد فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضاً يموتون «ثُمَّ إنَّكُمْ» تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى والعادل الحق بينكم فيوصل إلى كل أحد حقه وحينئذ يتميز المحق من المبطل.
ثم إنه تعالى بين نوعاً آخر من قابئح أفعالهم وهم أنهم يكذبون ويضمون إليه أنهم يذكبون القائل المحق أما كذبهم فهو أنهم أثبتوا لله ولداً وشركاء، وأما تكذيبهم الصادق فلأنهم يكذبون (القائل المحق) محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد قيام الدلائل القاطعة على كونه صادقاً في ادِّعاء النُّبُوة، ثم أردفه بالوعيد فقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} أي منزل ومقام للكافرين، وهذا استفهام بمعنى التقرير.
ولما ذكر (الله) من افترى على الله الكذب أو كذب بالحق ذكر مقابلهُ وهو الذي جاء بالصِّدْق وصدَّق به، وقوله: {والذي جَآءَ بالصدق} لفظ مفرد، ومعناه جَمْع لأنه أريد به الجنسُ، وقيل: لأنه قصد به الجزاء وما كان كذلك كثر فيه وقوع: «الذي موقع» الذين «ولذلك رُوعِيَ معناه فجمع في قوله: {أولئك هُمُ المتقون} كما روعي معنى» مَنْ «في قوله: {لِّلْكَافِرِينَ} فإن» الكافرين «ظاهرةٌ واقعٌ مَوْقع المضمر؛ إذ الأصل مَثْوّى لَهُمْ وقيل: بل الأصل: والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفاً كقوله: {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] وهذا وَهَم؛ إذٍ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال: والِّذِي جَاءُوا، كقوله: {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنًّى كقوله:(16/512)
4300 - أَبَنِي كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا ... قَتَلاَ الْمُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلاَلاَ
ولَجَاء كقوله:
4301 -[و] إنَّ الِّذِي حَانَتْ بِفلْجٍ دَمَاؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ
وقرأ عبد الله:» والَّذِي جَاءُوا بالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ «وقد تقدم تحقيق نظير الآية في أوائل البقرة وغيرها: وقيل:» الذي «صفة لموصوف محذوف بمعنى الجمع تقديره والفريق أو الفوج، ولذلك قال: {أولئك هُمُ المتقون} وقيل: المراد لذي واحد بعينه وهو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكن لما كان المراد هو وأتباعه ذلك فجمع واحد فقال: {أولئك هُمُ} كقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}
[المؤمنون: 49] قاله الزمخشري، وعبارته: هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرد به إياهُ وَمَنْ تَبِعَهُ كما أراد بموسى إياهُ وَقَوْمَهُ، وناقشه أبو حيان في إيقاعِ الضمير المنفصل موقع المتصل، قال: وإصلاحه أن يقول: وأراده به كما أرادهُ بموسى وقومه، قال شهاب الدين: ولا مناقشة لأنه مع تقديم «به» و «بموسى» لغرض من الأغراض استحال اتِّصال الضمير، وهذا كالبحث في قَوِلِهِ تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] وقوله:(16/513)
{يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] وهو أن بعض الناس زعم أنه يجوز الانفصال مع القدرة على الاتصال. وتقدم الجواب بقريب مما ذكرنا هَهنا، وتقدم بيان حكمة التقديم ثمة. وقول الزمخشري إن الضمير في «لعلهُمْ يَهْتَدُونَ» لموسى وقومه فيه نظر بل الظاهر خصوص الضمير بقومه دونه لأنهم هم المطلوب منهم الهداية، وأما موسى - عليه (الصلاة و) السلام - فمهتدٍ ثابتٌ على الهداية وقال الزمخشري أيضاً: ويجوز أن يريد: والفوج أو الفريقَ الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصاحبته الذين صدقوا به قال أبو حيان: وفيه توزيع للصّلة، والفوجُ هو الموصول فهو كقولك: «جَاءَ الفَريقُ الَّذي شَرف وشرف» والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على الصلة صلة لمن له الصلة الأولى.
وقرأ أبو صَالِح وعكرمةُ بنُ سُلَيْمَانَ ومحمد بن جَحَادَةَ مخففاً بمعنى صدق فيه ولم يغيره بل أداه من غير تحريف، وقُرِئَ: «وَصُدِّقَ بِهِ» مشدِّداً مبنياً للمفعول.
فصل
المعنى فمن أظلم ممن كذب على الله فزعم أن له ولداً وشريكاً وكذَّب بالصِّدْق بالقرآن، أو بمحمد إذْ جَاءَهُ، ثم قال {والذي جَآءَ بالصدق} قال ابن عباس: والَّذِي جاء بالصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وصَدَّق به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تلقّاه بالقبول، وقال أبو العالية والكلبي: والذي جاء بالصدق: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وصدق به: أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال قتادة: والذي جاء بالصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وصدق به: هم المؤمنون لقوله: {أولائك هُمُ المؤمنون} [الأنفال: 4] وقال عطاء والذي جاء بالصدق: الأنبياء وصدق به: الأتباع وحنيئذ يكون «الَّذي» بمعنى «الَّذِينَ» كقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ(16/514)
أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] وقال الحسن: هم المؤمنون صدقوا به في الدينا وجاءوا به في الآخرة، {أولئك هُمُ المتقون} وهذا لايفيد العبدية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الإخلاص، كقوله: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] .
ثم قال: {جَزَآءُ المحسنين} قالت المعتزلة: وهذا يدل على أن الأجر مستحق لهم على إحسانهم في العبادة.
قوله: {لِيُكَفِّرَ الله} في تعلق الجار وجهان:
أحدهما: أنها متعلقة بمحذوف أي يَسَّرَ لهم ذلك ليُكَفَّر.
والثاني: أن تتعلق بنفس الْمُحْسِنِينَ كأنه قيل: الذين أحسنوا ليُكَفّر أي لأجل التكفير.
قوله: {أَسْوَأَ الذي} الظاهر أنه أفعل تفضيل، وبه قرأ العامة وقيل: ليست للتفضيل بل بمعنى سيءَ الذي عملوا كقولهم: «الأشَجُّ والنَّاقِصُ أَعدلاَ بَنِي مَرْوانَ» أي عَادِلاَهُمْ ويدل عليه قراءة ابن كثير - في رواية -: أَسْوَاءَ بألف بين الواو والهَمْزَة بزنة أعماله جمع سُوءٍ، وكذا قرأ في: «حم» السَّجْدَةِ.
فصل
قوله: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه، وقوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ} يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ومعنى تكفيرها أي يسترها عليهم بالمغفرة ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا(16/515)
يعملون وقال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمَسَاوِئِ، قال ابن الخطيب: واعلم أن مقاتلاً كان شيخ المُرْجِئَة وهم الذين يقولون: لا يضرّ شيءٌ من المعاصي مع الإيمان كما لا ينفع شيءٌ من الطاعات مع الكفر. واحتج بهذه الآية فقال: إنها تدلُّ على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ولا يجوز حمل هذا الأسوأ على الكفر السابق لأن ظاهر الآية أن التكليِيف إنما حصل في حال وصفهم بالتَّقْوَى، (وهو التقوى) من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر التي أيتي بها بعد الإيمان فتكون هذه الآية تَنْصِيصاً على أنه تعالى يكفر عنهم بعد إيمانهم (أَسْوأَ) ما يأتون به وذلك هو الكبائر.
قوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} العامة على توحيد «عَبْده» ، والأَخَوَانِ عِبَادَهُ جمعاً، وهم الأنبياء وأتباعهم، وقرئ «بِكَافِي عِبَادِهِ» بالإضافة ويُكَافِي مضارع كافي عِبَادَهُ نُصب على المفعول به.
ثم المفاعلة هنا تحتمل أن تكون معنى «فَعَلَ» نحو: يُجَازِي بمعنى يَجْزِي وبني على لفظ المفاعلة لما تقدم من أن بناء المفاعلة يشعر بالمبالغة لأنه للمغالبة، ويحتمل أن يكون أصله يُكافيءُ بالهمز من المكافأة بمعنى يَجْزِيهم فخففت الهمزة وهذا استفهام تقرير.
قوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ} يجوز أن يكون حالاً؛ إذ المعنى أليس (اللَّهُ) كَافِيكَ حالَ تخويفهم إياك بكَذَا كأَنَّ المعنى أنه كافِيهِ في كل حال حتى في هذِهِ الحال، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً.
فصل
من قرأ بكافٍ عَبْدَهُ يعني محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومن قرأ عباده يعني الأنبياء عليهم (الصلاة و) السلام قَصَدَهُمْ قومُهُمْ بالسوء كما قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ(16/516)
لِيَأْخُذُوهُ} [غافر: 5] وكفاهم اللَّهُ شَرَّ من عاداهم. وقيل: المراد أن الله تعالى كفى نوحاً - عليه (الصلاة و) السلام - وإبراهيم النار ويونس ما دفع فهو سبحانه وتعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك.
وقوله تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} وذلك أن قريشاً خوفوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُعَادَاةَ الأوثانِ وقالوا: لَتَكُفَّنَّ عن شتم آلهتنا أو ليُصِبَّنَّكَ منهم خَبَلٌ أو جنونٌ، فأنزل الله هذه الآية.
ولما شرح الوعد والوعيد والترغيب ختم الكلام بخاتمة هي المفصل الحق فقال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ} أي هذه الدلائل والبينات لا تنفع إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق، ثم قال: {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام} وهذا تهديدٌ للكُفَّار.
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية على مسألة خلق الأعمال لأن قوله: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ} صريح في ذلك، وتمسك المعتزلة بقوله أليس الله بعزيز ذِي انتقام ولو كان الخَالق للفكر فيهم هو الله تعالى لكان الانتقام والتهديد غير لائق. والله أعلم.(16/517)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} ... . الآية لما بين وعيد المشركين ووعد الموحدين عاد إلى إقامة الدلي على تَزْيِيفِ طريق عبدة الأوثان وهذا التَّزْييف مبني على أصلين:
الأصل الأوّل: أن هؤلاء المشركون مقرون بوجود الإله القادر على العالم والحكيم وهو المراد من قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} قال بعض العلماء العلم بوجود الإله القادر الحكيم علمٌ متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه وفطرة العقل شاهدةً بصحة هذا العلم فإن من تأمل في عجائب بدن(16/517)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
الإنسان وما فيه من أنواع الحِكَم الغربية والمصالح العجيبة عِلمَ أنه لا بدّ من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم.
والأصل الثاني: أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخبر والشر وهو المراد من قوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} فثبت أنه لا بدّ من الإقرار بوجود (الله) الإله القادر الحكيم الرحيم، وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وإذا كان الأمر كذلك اكنت عبادة الله كافيةً والاعتمادُ عليه كافياً وهو المراد من قوله: {قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} .
قوله: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ} هي المتعدية لاثنين أولهما: «ما تدعون» ، وثانيهما: الجملة الاستفهامية والعائد على المفعول منها قوله «هُنَّ» وإنما أَنَّثَهُ تَحْقِيراً لما يدعون من دونه ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث اللاتِ ومناةَ والعُزَّى وتقدم تحقيق هذا.
قوله: {هَلْ هُنَّ كَاشِفَات} قرأ أبو عمرو كاشفاتٌ وممسكاتٌ - بالتنوين - ونصب «ضُرَّهُ ورَحْمَتَهُ» وهو الصل في اسم الفاعل والباقون بالإضافة هو تخفيفٌ.
فصل
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك فسكتوا فقال الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ثِقَتي باللَّه واعتمادي {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} يثق الواثقون.
قوله
: {قُلْ
ياقوم
اعملوا
على
مَكَانَتِكُمْ
} وهذا أمر تهديد أي أنكم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإني عامل في(16/518)
تقرير ديني فسوف تعلمون أن العذاب والخزى يصيبني أو يصيبكم.(16/519)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ بالحق} الآية ... اعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يعظُم عليه إصراهم على الكفر كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} [الكهف: 6] وقال: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] فلما بين الله تعالى في هذه الآيات فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل البينات وتارة بضرب الأمثال وتارةً بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل ذلك الخوف العظيم عن قلب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: إنا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ الكامل الشريف لنفع الناس وهداهم وجعلنا إنزاله مقروناً بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله فمن اهتدى فنفعه يعود إليه ومن ضل فضير ضلاله يعود إليه {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القَبُول، وعدم القبول مفوض إليهم وذلك تسلية للرسول - عليه (الصلاة و) السلام - ثم بين تعالى الهداية لا تحصل إلا بتوفيق الله تعالى، وكما أن الموت والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى، كذلك الضلال لا يحصل إلا بأمر الله تعالى، ومن عرق هذه الدقيقة فقد عرف على هذه الدقيقة سبباً لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول - صلى الله عليه وسمل - فهذا وجه النظم، وفيه وجه آخر وهو أن الله تعالى ذكر حجة أخرى في إثبات أنه إلهٌ عالم ليلد على أنه بالعبادة أحقُّ من هذه الأصنام.(16/519)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} أي الأرواح حين موتها فيقبضها عند انقضاء أجلها، وقوله: {حِينَ مِوْتِهَا} يريد موت أجسادها {والتي لَمْ تَمُتْ} يريد يتوفى الأنفس(16/519)
التي لم تمت في مامها فالتي تتوفى عند النوم هي النفس التي بها العقل والتمييز ولكل إنسان نَفْسَان إحادهما نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت وتزول بزوالها النفس والأخرى هي النقس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم تنفس {فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت} فلا يردها إلى الجسد {وَيُرْسِلُ الأخرى} أي يردها إلى الجسد وهي التي لم يقض عليها الموت {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو وقت موته.
قوله: {والتي لَمْ تَمُتْ} أي يتوفى الأنفس حين تموت وتتوفى أيضاً الأنفسَ التي لم تمت في منامها ف «في منامها» ظرف «ليَتَوَفَّى» وقرأ الأخَوَانش: «قُضِيَ» مبنياً للمغفول الْمَوْتُ رفعاً لقيامه مقام الفاعل.
فصل
قيل: إنَّا للإنسان نَفْساً وروحاً، فعند النوم يخرج النَّفْسُ وتبقى الروح، وعن عليِ قال: تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجَسَد، فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى حسده بأسرعَ من لحظة ويقال: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتَتَعَارف ما شاء الله فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك اله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأجساد حتى ترجع إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها {فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لدلالات على قدرته حيث لم يغلط في إمساك ما مسك من الأرواح وإرسال ما يرسل منها.
وقال مقاتل: لعَلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث يعني أن تَوفِّي نفسٍ النائم وإرسالَها بعد التَّوفِّي دليلٌ على البعث.
فإن قيل: قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس} يدل على أن المتَوفِّي هو الله تعالى فقط، ويؤكده قوله تعالى: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وقوله: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وقال في آية أخرى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] (وقال في آية ثالثة: {إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ) رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] فكيف الجمع؟
فالجواب: أن المتوفِّي في الحقيقة هو الله تعالى إلا أنه تعالى فوض كل نوع إلى ملك من الملائكة ففوض قبضَ الأرواح إلى ملك الموت وهو الرئيس وتحته أتباع وخَدَمٌ(16/520)
فأضيف التوفِّي في آية الله تعالى وهي الإضافة الحقيقة، وفي آيةٍ إلى ملك الموت لأن الرئيس في هذا العمل وفي آية إلى أتباعه والله أعلم.
قوله: {أَمِ اتخذوا} أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة.
واعلم أن الكافر أوْرَدُوا على هذا الكلام سؤالاً قالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقادِ أنها تضر وتنفع وإنما نعدبها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عنده من المقربين فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء فأجاب الله تعالى بأن قال {أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ} .
قوله: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا} تقدم الكلام على نحو «أَوَلَوْ» وكيف هذا التركيب، والمعنى قُلْ يا مُحَمَّدُ أوَ لَوْ كانوا أي وإن كانوا يعني الآلهة {لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً} من الشفاعة أنكم تعبدونهم، وجواب هذا محذوف تقديره وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم.
قوله: {قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً} قال مجاهد: لا يشفع أحدٌ إلا بإذنه {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت} نفرت، قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: أي انْقَبَضَتْ عن التَّوحيد وقال قتادة استكبرتْ، وأصل الاشمئزاز النُّفور والاسْتِكبَار {قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} وهذا نوع آخر من أعمال المشركين القبيحة {وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ} يعني الأصنام {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يعني يفرحون. قال مجاهد ومقاتل: وذلك حيث قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سورة والنجم فألقى الشيطانُ في أُمْنِيَّةِ «تلك الغَرَانيق العُلاَ» ففرح به الكفار.
قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ الذين} قال الزمخشري: فإن قلتك ما العامل في: «إذَا ذُكِرَ» ؟(16/521)
قلت: العامل فيه «إذا» الفجائية تقديره وقت ذِكْرِ الَّذِينَ من دونه فَاجَأوا وَقْتَ الاستبشار.
قال أبو حيان: أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو وهو أن الظرفين مَعْمولاَن «لِفَاجَأُوا» ثُمَّ «إذا» الأول تنصب على الظرفية والثانية على المفعولية وقال الحَوْفي: «إذَا هُمْ يَسْتبشرُونَ» «إذَا» مضافة إلى الابتداء والخبر، و «إذا» مكررة للتوكيد، وحذف ما يضاف إليهن والتقدير: إذا كان ذلك هم يَسْتَبْشِرونَ، فيكون (هم يستبشرون) هو العامل في «إذا» المعنى: إذا كان كذلك استبشروا.
قال أبو حيان: هذا يبعد جداً عن الصواب إذا جعل «إذَا» مضافة إلى الابتداء والخبر، ثم قال و «إذا» مكررة للتوكيد وحذف ما يضاف إليه إلى آخره كلامه (فإذا كانت إذا حذف ما يضاف إليه) فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هو «هم يستبشرون» ! وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحذف فيه، انتهى.
قال شهاب الدين: وفي هذه العبارة تحامل على أهل العلم المرجوع إليهم فيهم واختار ابو حيان أن يكون العامل في «إذا» الشرطية الفعل بعدها لا جوابها وأنها ليست مضافة لما بعدها سواء كانت زماناً أم مكاناًأما إذا قيل: إنها حرف فلا يحتاج إلى عامل وهي رابطة لجملة الجزاء بالشرط كالفاء.
والاشْمِئزَازُ النفور والتَقَبض وقال أبو زيد: هو الذعر، اشمأزَّ فُلاَنٌ أي ذعر ووزنه افْعَلَلَّ كاقْشَعَرَّ، قال الشاعر:
-(16/522)
إذَا عَضَّ الثِّقَافُ بِهَا اشْمَأَزَّتْ ... ووَلَّتهُ عَشَوْزَنَه زَبُونَا
خشري: ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما في بابه لأن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى يظهر ذلك السرور في أَسِرَّة وجهه ويتهلَّل، والاشمئزاز أن يعظم «غَمُّه) وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية.(16/523)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
ولما حَكَى هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بذكر الدعاء العظيم فقال: {قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض عَالِمَ الغيب والشهادة أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} روى أبو سلمة قال سألت عائشة بم كان يفتتح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلاته بالليل؟ قالت: كان يقول: «اللَّهُمَّ رَبِّ جبريلَ وميكائلَ وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عابدك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنِي لم اختلف فيه الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم» .(16/523)
ولَمَّا حكى عنهم هذا المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء:
أولها: أن هؤلاء الكفار لو ملكوا كل ما في الأرض من الأمور وملكوا مثله معه جعلوا الكل فِدْية لأنفسهم من العذاب الشديد.
وثانيها: قوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} أي ظهرت لهم أنواع من العذاب لم يكن في حسابهم، وهذا كقوله - عليه (الصلاة و) السلام - في صفة الثواب في الجنة: «فِيهَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر» فكذلك حصل في العقاب مثله وهو قوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} وقال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتبسوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. وقال السدي: ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا.
وثالثها: قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي مساوئ أعمالهم من الشرط وظلم أولياء الله «وَحَاق بهِمْ» أي أحاظ بهم من جميع الجوانب {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فنبه تعالى بهذه الوجوه على عظم عقابهم.
قوله: {لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} يجوز أن يكون «ما» مصدرية أي سيئات كَسْبِهم أو بمعنى الذي أي سيئات أعمالهم التي اكتسبوها.
قوله: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ... } الآية. وهذه حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة وهي أنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفَقْر والمَرَضُ يفزعون إلى الله تعالى ويرون أن دفع ذلك البلاء لا يكون إلا منه، ثم إنه تعالى إذا خَوَّله أعطاه نعمة يقول: إنما أوتيته على علم أي علم من الله أني أهل له.
وقيل: إنْ كان ذلك سعادة في الحال أو عافية في النفس يقول إنما حصل له ذلك بجدِّه واجتهاده، وإن كان مالاً يقول: إنما أوتيته بكسبي وإن كان صحة قال: إنما حصل بسبب العلاج الفلاني، وهذا تناقض عظيم، لأنه لما كان عاجزاً محتاجاً أضاف الكل إلى الله وفي حال السلام والصحة قطعه من الله وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح.(16/524)
قوله: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ} يجوز أن تكون (ما) مهيئة زائدة على نحو: إنما قام زيدٌ، وأن تكون موصولة، والضمير عائد عليها من «أوتيته» أي إن الذي أوتيته على علم مني، أو على علم من الله في أني أستحق ذلك.
قوله: «بَلْ هِيَ» الضمير للنعمة ذكرها أولاً في قوله: «إنما أوتيته» لأنها بمعنى الإنعام، وقيل: تقديره «شيئاً» وأنَّث هنا اعتبار بلفظها، وقيل: بل الحالة أو الإتيانة، وإنما عظمت هذه الجملة وهي قوله: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان} بالفاء والتي في أول السورة بالواو لأن هذه مسببة عن قوله: «وَإذَا ذُكِرَ» أي يشمئزون من ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم فإذا مس أحدهم بخلاف الأولى حيث لا تسبب فيها، فجيء بالواو التي لمطلق العطف وعلى هذا فما بين السبب والمسبب جمل اعتراضية. قال معناه الزمخشري واستبعده أبو حيان من حيث إن أبا عليّ يمنع الاعتراض بجملتين فيكف بهذه الجمل الكثيرة؟ .
ثم قال: «والذي يظهر في الربْط أنه لما قال: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} الآية كان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب وأنه يظهر لهم القيامة من العذاب أتبع ذلك بما يدل على ظلمة وبغيه إذ كان إذا مسه ضر دعا الله فإذا أحسن إليه لم ينسب ذلك إليه» وقال ابن الخطيب: إن السبب في عطف هذه الآية بالفاء أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الاية أنهم يَشمَئِزُّون من سماع التوحيد، ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء، ثم ذكر «بفاء» التعقيب أنهم إذا وَقَعُوا في الضرر والبلاء التَجأُوا إلى الله وحده، فكان الفعل الأول مناقضاً للفعل الثاني، فذكر بفاء التَّعْقِيب ليدل به على أنهم واقعون في المناقضة الصحريحة في الحال وأنه ليس بين الأول والثاني: فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني، فهذا فائدةُ ذكرِ فاء التعقيب ههنا وأما الآية الأولى فليس المقصودُ منها بيانَ وقوعهم في التناقض في الحال فلا جرم ذكره تعالى بحرف الواو لا بحرف الفاء.(16/525)
ومعنى قوله: {فِتْنَةٌ} استدراجٌ من الله تعالى وامتحان.
قوله: {قَدْ قَالَهَا} أي قال القولة المذكورة وهي قوله: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} لأنها كلمة أو جملة من القول وقرئ: قَدْ قَالَهُ أي هذا القول أو الكلام. والمراد بالذين من قبلهم قارون وقومه، حيث قال: {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا} [القصص: 78] وقومه راضُون به فكأنهم قالوها، ويجوز أن يكون في الأمم الماضية قائلون مثلها.
قوله: {فَمَآ أغنى} يجوز أن يكون «ما» هذه نافية أو استفهامية مؤولة بالنفي وإذا احتجنا إلى تأويلها بالنفي فلنجعلها نافيةً استراحةً من المجاز. ومعنى الآية ما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئاً.
قوله: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي جزاؤها يعني العذاب، ثم أوعد كفار مكة فقال: {والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} ثم قال: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
قوله: {أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} يعني أو لم يعلموا أن الله هو الذي يبسط الرزق تارة ويقبض أخرى، ويدل على ذلك أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلا بد لذلك من سبب وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السّعة وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكريم والسّلْطَان القاهر قد ولد فيها أيضاً عالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ويولد أيضاً في تلك الساعة عَالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ويولد أيضاً في تلك الساعة عَالم من النبات، فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان (العقلي) القاطع صحة قوله تعالى: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} وقال الشاعر:
4303 - فَلاَ السَّعْدُ يَقْضِي بِهِ المُشْتَري ... وَلاَ النَّحْسُ يَقْضِي عَلَيْنَا زُحَلْ
وَلَكِنَّهُ حُكْمُ رَبِّ السَّمَا ... وَقَاضِي القُضَاةِ تَعَالى وَجَلْ(16/526)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
قوله (تعالى) : {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ ... .} الآية لما ذكرالوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله، قيل: في هذه الآية أنواع من المعاني والبينات حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إلى الله إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الخطاب، في قوله: {مِن رَّحْمَةِ الله} ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى، ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله: «إنَّ الله، ومنها: إبراز الجملة من قوله» إنَّه هُو الغَفُور الرحيم «مؤدكة ب» إنّ «، وبالفصل، وبإعادة الصِّفَيَتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة.
فصل
روى سعيدُ بْنُ جُبَيْر عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقالوا: إن الذين تدعو إليه لحسن إنْ كان لما عَمِلْنَا كفارة فنزلت هذه الآية، وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس أنها نزلت في وَحْشِيّ قاتِل حمزة حين بعث إليه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى يدنك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زَنَا {يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة} [الفرقان: 68، 69] وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان: 70](16/527)
وَحْشيّ: هذا شرط شديد لَعَلِّي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116] فقال وحشي: أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} قال وحشي: نعَمْ هذا فجاء وأسلم فقال المسلمون: هذا له خاصة أم للمسلمين عامة» قال: بل للمسلمين عامة.
وروي عن ابن عمر قال: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي رَبيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافْتَتَنُو وكمنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عَدْلاً أبداً (قوم) قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب فيه، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيه ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عبياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فصل
دلت هذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر لأن عرف القرآن جارٍ بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] وقال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله}
[الإنسان: 6] وإذا كان لفظ العبد مذكوراً في معرض التعظيم وجب أن لا يقع إلا على المؤمنين وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله: {ياعبادي} مختص بالمؤمنين، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله وأما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد الللات وعبد العُزى (وعبد المسيح) وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} عام في جميع المسرفين، ثم قال: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين وهو المَطْلُوبُ.
فإن قيل: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا لَزِمَ القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به فسقط الاستدلال، وأيضاً فإنه تعالى قل عقيب هذه الآية {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب} الآية، ولو كان المراد من الآية أنه تعالى يغفر الذنوب قطعاً لما أم عقيبه بالتوبة، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون وأيضاً قال: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} الآية؛ وأيضاً لو كان المراد منا دل عليه ظاهر الآية لكان ذلك إغراءً بالمعاصي(16/528)
وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى. وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن (العاصي) أن لا مخلصَ له من العذاب البتة فإن اعتقد ذلك فهو قانطٌ جميعاً أي بالتوبة والإنابة.
فالجواب: (قوله) إن الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به قلنا: بَلَى نحن نقول به لأن صيغة «يَغْفر» للمضارع وهي الاستقبال وعنْدَنا أن الله يُخْرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلى هذا التقدير فصاحب الكبير مغفورة له قطعاً إما قبل دخول النار وإما بعد دخولها فثبت أن دلالة ظاهر الآية عينُ مذهبنا وأما قوله: لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة.
فالجواب: أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم فإذن لا يُقْطَع بإزالة العقاب بالكلية بل نقول لعله يعفو مطلقاً ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك وبهذا يخرج لاجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم.
وروى مقاتل بن حيَّان عن نافع عن ابْن عُمَر قال: كنا معْشَر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نرى أن نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 10] فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش وكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها (قلنا: قد هلك فأنزل الله هذه الآية فَكَفْفنَا عن القول في ذلك، فكنما إذا رأينا أحداً أَصاب) منها شيئاً خِفْنا عليه وإن لم يُصب منها شيئاً رجوْنا له، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر (وروي) عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاصٌّ (يقُصُّ) وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال: يا مُذكِّرُ لِمَ تُقَنِّطُ النا؟ ثُمَّ قرأ: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُو مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» وعن أَسْمَاءَ بنتِ يزيد قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول:
«يَا عِبَادِي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله (إنا الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي) » وروى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «قَال رَجُلٌ لم يعمل خيراً قط لأهله: إذا مات فَحَرِّقُوه ثم ذَرُّوا نِصْفَهُ في البَرّ ونصفَه في البحر(16/529)
فواللِّه لئن قَدَرَ الله عليه ليعدبَنَّه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فَأَمَرَ الله البحرَ فجمع ما فيه وأمر البَرَّ فجمع ما فيه، ثم قال له: لِمَ فَعَلْتَ هذا قال: مِنَ خشيتك يا رب وأنتَ أعلمُ فَغَفَر لَهُ» . وعن ضَمْضَم بن حَوْشَ (ب) قال: دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال: يا يمانيّ تَعضالَ وما أعرفه فقال: لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الجنة قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة قال فقلت إن هذه الكملة يقولها أحدُنا لبعض أهله إذا غضب أو زوجه أو لخادمه قال: فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: «إنَّ رَجُلَيْن كَانَا فِي بني إسرائيل مُتَحَابِّيْنِ أحدهما مجتهدٌ في العبادة والآخرة كأنه يقول: مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال: فيقول خلّني وربي قال: حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيباً فقال: والله لا يغفر لك الله أبداً ولا يدخلك الجنة أبداً قال: فبعث الله إليهما ملكاً فقبض أرواحها فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب فقال: اذهبوا به إلى النار» قال أبو هريرة: والَّذِي نفسي بيده ل (قد) تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} .
قوله: {ياعبادي} قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم يا عبادي بفتح الياء، والباقون وعاصم - في بعض الروايات - بغير فتح، وكلهم يقفون عليها بإثبات الياء؛ لأنها ثابتة في المصحف إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء.
قوله: {لاَ تَقْنَطُواْ} قرأ أبو عمرو والكِسائي بكسرالنون، والباقون بفتحها، وهما لُغَتَان، قال الزمخشري: وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود «يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمنْ يَشَاءُ» .
قوله: {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ} قال الزمخشري أي تُوبُوا إليه «وأسْلِمُوا لَهُ» أي وأخلصوا(16/530)
له العمل مِن قَبْلِ أن يأتيكم العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.
{واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} يعني القرآن، والقرآن كله حسن، ومعنى الآية ما قال الحسن: الزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن (في) القرآن ذكرَ القبيح ليجتنبه وذكر الأدْوَن لئلا نرغب فيه، وذكر الأحسن لنُؤْثِره، وقيل: الأحسن الناسخ دون المنسوخ، لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] .
ثم قال: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} وهذا تهديد وتخويف والمعنى يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه.
واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بين أنهم بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون؟ فحكم تعالى عليهم بثلاثة أنواع من الكلام:
فالأول: (قوله: أَنْ تَقُولَ «) مفعول من أجله فقدره الزمخشري: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولَ، (وابن عطية: أنيبوا من أجل أن تقول، وأبو البقاء والحَوْفيّ أَنْذَرْنَاكُمْ مَخَافَةَ أن تقول) ولا حاجة إلى إضمار هذا العامل مع وجود» أَنِيبُوا «وإنما نَكَّر نفساً لأنه أراد التكثير كقول الأعشى:
4304 - وَرُوبَّ بَقيعٍ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّهِ ... أَتَّانِي كَرِيمٌ يَنْغضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا
يريد أتاني (كرام كثيرون لا كريم فَذٌّ لمنافاته المعنى المقصود، ويجوز أن يريد نفساً متميزة عن الأنفس) باللجاج الشديد في الكفر والعذاب العظيم.
قوله: {ياحسرتا} العامة على الألف بدلاً من ياء الإضافة، وعن ابن كثير: يَا(16/531)
حَسْرَتَاه بهاء السكت وَقْفاً وأبو جعفر يَا حَسْرَتي على الأصل وعنه أيضاً: يَا حَسْرَايَ بالألف والياء وفيها وجهان:
أحدهما: لاجمع بين العِوَض والمُعَوَّضِ مِنْهُ.
والثاني: أنه تثنية» حَسْرَة «مضافة لياء المتكلم، واعترض على هذا بأنه كان ينبغي أن يقال: يَا حَسْرَتَيَّ - بإدغام ياء النصب في ياء الإضافة - وأُجِيبَ: بأنه يجوز أن يكون راعى لغة الحَرْثِ بن كَعْب وغيرهم نحو: رَأَيْتُ الزَّيْدَانِ، وقيل: الألف بدل من الياء والياء (بعدها) مزيدة.
وقيل: الألف مزيدة بين المتضايفين وكلاهما ضعيف.
قوله:» عَلَى مَا فَرَّطت «ما مصدرية أي على تَفْريطي، وثمَّ مضاف أي في جنب طاعة الله، وقيل: في جنب الله المراد به الأمر والجِهَةُ يقال: هُوَ في جَنْبِ فُلاَنٍ وَجانِبِهِ أي جِهَتِهِ ونَاحِيَتِهِ قال:
4305 - النَّاسُ جَنْبٌ وَالأَمِيرُ جَنْبُ ... وقال آخر:
4306 - أفِي جَنْبِ بَكْرٍ قَطَّعَتْنِي مَلاَمةً ... سُلَيْمَى لَقَدْ كَانَتْ مَلاَمَتُهَا ثِنَى(16/532)
ثم اتسع فيه فقيل: فَرّط في جَنْبِهِ أي في حَقِّه، قَالَ:
4307 - أَمَا تَتَّقِينَ اللًَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ ... لَهُ كَبْدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تَقَطّعُ
(فصل)
المعنى: أن تقول نفس يا حسرتي يعني لأن تقول: نفس كقوله: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] و [لقمان: 10] أي لئَلاَّ تَمِيدَ بكم، قال المبرد: أي بَادِرُوا وَاحذَرُوا أنْ تَقُولَ نفس، قال الزجاج: خوفَ أن تصيروا إلى حال تقولون يا حسرتنا يا ندامتا والتحسر الاغْتمَام على ما فات، وأراد: يا حَسرتي على الإضافة لكن العرب تحول ياء الكناية ألفاً في الاستغاثة فتقول: ياَ وَيْلَتَا، ويَا نَدَامَتَا، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألق ليدل على الإضافة كقراءة أبي جعفر المتقدمة، وقيل: معنى قوله: {ياحسرتا} أي يا أيَّتُهَا الحَسْرَةُ هذا وَقْتُكِ قال الحسن: قَصَّرْتُ في طاعة الله، وقال مجاهد: في أمر الله، وقال سعيد بن جبير في حق الله، وقيل: قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله، والعرب تمي الجنب جانباً؟ ز
ثم قال: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} المستهزئون بدين الله، قال قتادة ولم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل السخر بأهل طاعته، ومحل» وَإنْ كُنْتُ «النصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخْرَتِي.
النوع الثاني من الكلمات لاتي حكاها الله تعالى (عنهم) بعد نزول العذاب عليهم قوله: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين} .
النوع الثالث: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب} عياناً {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} رجعه إلى الدنيا {فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} الموحدين.
فتحسروا أولاً: على التفريط في طاعة الله، وثانياً: عللوا بفقد الهداية، وثالثاً: تَمَنوا الرَّجْعَة.(16/533)
قوله: {فَأَكُونَ} في نصبه وجهان:
أحدهما: عطفه على «كَرَّةً» فإنها مصدر، فعطف مصدراً مؤولاً على مصدر مصرَّح به كقولها:
4308 - لَلْبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عيننِي ... أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْس الشُّفُوف
وقول الآخر:
4309 - فما لك منها غير ذكرى وحسرة ... وتسال عن ركبانها أين يمموا
والثاني: أنه منصوب على جواب التمني المفهوم من قوله: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} والفرق بين الوجهين أن الأول يكون فيه الكون مُتَمنَّى ويجوز أن تضمر «أن» وأن تُظْهرَ والثاني يكون فيه الكون مترتباً على حصول المتمني لا متمنِّي ويجب أن تضمر «أن» .
قوله: {بَلَى} حرف جواب وفيما وقعت جواباً له وجهان:
أحدهما: هو نفي مقدر، قال ابن عطية: وحق «بلى» أن تجيء بعد نفي عليه تقرير، كأن النفس قال: لم يتسع لي النظر أو لم يبين لي الأمر قال أبو حيان: ليس حقها النفي المقدر بل حقها النفي ثم حمل التقرير عليه ولذلك أجاب بعض العرب النفي المقدر بنعم دون بلى، وكذا وقع في عبارة سيبويه نفسه.(16/534)
والثاني: أن التمني المذكور وجوابه متضَمِّنان لنفي الهداية كأنه قال: لم أهتدِ فرد الله عليه ذلك.
قال الزجاج: «بلى» جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي لأنه قوله: «لو أن الله هداني» أنه ما هداني فلا جرم حسن ذكر «بلى» بعده.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قرن الجواب بينهما بما هو جواب له وهو قوله: لو أن اله هداني ولم يفصل بينهما قلت: لأنه لا يخلوا إمّا أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن يؤخر القرينة الوسطى فلم يحسن الأول لما فيه من تغير النظم بالجمع بين القراءتين، وأما الثاني فلِما فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريق في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمنِّي الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب.
قوله: {جَآءَتْكَ} قرأ العامة بفتح الكاف «فَكَذَّبْتَ وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ» بفتح التاء خطاباً للكافرين دون النفس. وقرأ الجَحْدَريُّ وأبو حَيْوَة وابنُ يَعْمُرَ والشافعيُّ عن ابن كثير وروتها أم سملة عنه - عليه (الصلاة و) السلام - بها قرأ أبُو بكر وابنتُه عائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بكسر الكاف والتاء؛ خطاباً للنفس والحَسَنُ والأعرجُ والأعمشُ «جَأتْكَ» بوزن «جَعَتْكَ» بهمزة دون ألف؛ فيحتمل أن يكون قصراً كقراءة قُنْبُل {أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 7] وأن يكون في الكلمة قلبٌ بأن قُدّمتِ اللام على العين فالتقى ساكنان، فحذفت الألف لالتقائهما نحو: رُمْتُ وغُزْت، ومعنى الآية يقال لهذا القائل: بَلَى قَدْ جَاءتُكَ آيَاتِي يعني القرآن «فكذبت» وقلت ليست من الله واستكبرت أي تكبرت عن الإيمان بها وكنت من الكافرين.(16/535)
قوله: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} العامة على رفع {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} وهي جملة من مبتدأ وخبر، وفي محلها وجهان:
أحدهما: النصب على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية، وكذا أعربها الزمخشري ومنْ مذهبه أنه لا يجوز إسقاط الواو من مثلها إلا شاذاً تابعاً في ذلك الفراء، فهذا رجوع منع عن ذلك.
والثاني: أنها في محل نصب مفعولاً ثانياً، لأن الرؤية قلبية وهي بعيد لأن تعلق الرؤية البصرية بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما، وقرئ: «وُجُوهَُمْ مُسْوَدَّةً» بنصبهما على أن «وجوهم» بدل بعض من «كل» ، و «مسودة» على ما تقدم من النصب على الحال أو على المفعول الثاني.
وقال أبو البقاء: ولو قرئ وجوهم بالنصب لكان على بدل الاشتمال، قال شهاب الدين: قد قرئ به والحمد لله ولكن ليس كما قال: على بدل الاشتمال بل على بدل البعض، وكأنه سبقُ لسانٍ أو طُغْيَانُ قَلَم. وقرأ أبيّ أُجُوهُهُمْ بقلب الواو همزةً وهو فصيح نحو: {أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] وبابه، وقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} عن الإيمان.
قوله: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} قرأ الأَخوان وأبو بكر بمَفازَتهم جمعاً لمَّا اختفت أنواع المصدر جُمْعَ كقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] ، ولأن لكل متق نوعاً آخر من المفازة، والباقون بالإفراد على الأصل.(16/536)
وقيل: ثم مضاف محذوف أي بدَوَاعِي مفازتهم أو بأسبابها. والمفازَةُ المنجاة، وقيل: لا حاجة إلى ذلك، وإذ المراد بالمفازة الفلاح. قال البغوي: لأن المفَازَةَ بمعنى الفَوْز أي يُنَجِّيهم بفوزهم من النار بأعمالهم الحسنة. وقال المبرد: المَفَازَةُ مَفْعَلَةٌ من الفَوْز والجمع حَسَنٌ كالسَّعَادَة والسَّعَادَاتِ.
قوله: {لاَ يَمَسُّهُمُ السواء} يجوز أن تكون هذه الجملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: «لا يمسهم السوء» فلا محل لهان ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من «الَّذِينَ اتَّقوا» .
ومعنى الكلام لا يصيبهم مكروهٌ ولا هم يحزنون.(16/537)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
قوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية تقدم الكلام على هذه الآية في الأنعام وأنها تدل على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى، وقال الكعبي هنا: إن الله تعالى مدح نفسه بقوله: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح احتجاج المخالف به، وأيضاً فلفظة «كل» قد لا توجب العمم لقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] يريد كل شيء يحتاج الملك إليه أيضاً لو كانت أعمال العباد من خلق اله لما أضافها إليهم بقوله: {كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] ولما صح قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 78] وقال الجبائي الله خالق كل شيء سوى أفعال خلقه لله لما جاز ذلك فيها الأمر والنهي، واستحقوا بها الثواب والعقاب ولو كانت أفعالهم خلقاً التي صح فيها الأمر والنهي، واستحقوا بها الثواب والعقاب ولو كانت أفعالهم خلقاً لله لما جاز ذلك فيها كما لا يجوز في ألوانهم وصورهم، وقال أبو مسلم: الخلق هو التقدير لا الإيجاد، فإذا أخبر الله أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل فصح أن يقال: إنه تعالى خلقه وإن لم يكن موجود له، والجواب عن هذه الوجوه تقدم في سورة الأنعام، وأما قوله: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك، وهذا أيضاً يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن فعل(16/537)
العبد لو وقع بخلق العبد لكان الفعل غير موكول إلى الله تعالى فلم يكن الله وكيلاً عليه ينافي عموم الآية.
قوله: {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض} «له مقاليد» جملة مستأنفة، والمقاليد جمع مِقْلاَد أو مقْليد، ولا واحد له من لفظه كأساطير وإخوته، ويقال أيضاً إقليد وهي المفاتيح، والكلمة فارسية معربة. وفي هذا الكلام استعارة بديعة نحو قولك: بيد فلان مفتاح هذا الأمر، وليس ثم مفتاح، وإنما هو عبارة عن شدة تمكنه من ذلك الشيء.
قال الزمخشري: قيل سأل عثمانُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن تفسير قوله: «له مقاليد السموات والأرض» فقال: يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك تفسيرها لا إله إلا الله، والله أكبر وسبحان الله وبحمده (و) أستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وقال قتادة ومقاتل: مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة، وقال الكلبي خزائن المطر والنبات.
قوله: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله أولئك هُمُ الخاسرون} وهذا يقتضي أنه لا خاسر إلا الكافر وأن من لم يكن كافراً فإنه لا بد وأن يحصل له حظ من رحمة الله قال الزمخشري: فإن قلت: بِمَ اتصل قوله «والذين كفروا بآيات الله» بقوله «له مقاليد السموات والأرض» ؟ قلت: إنه اتصل بقوله:
{وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا} [الزمر: 16] أي ينجي الله المتقين بمفازتهم، والذين كفروا هم الخَاسِرون واعترض ما بينهما أنه خالق الأشياء كلها وأنه له مقاليد السموات والأرض.
قال ابن الخطيب: وهذا عندي ضعيف من وجهين:
الأول: أن قوع الفصل الكثير بين المعطوف عليه بعيد.
الثاني: أن قوله: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا} [الزمر: 61] وقوله: {والذين كَفَرُواْ(16/538)
بِآيَاتِ الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز.
قال شهاب الدين: وهذا الاعتراض معترض إذ لا مانع من ذلك.
ثم قال ابن الخطيب: بل الأقرب عند أن يقال: إنه لما وصف الله تعالى بصفات الإليهة والجلالة وهو كونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض بأسرها قال بعده: «والذين كفروا بآيات الله» الظاهرة الباهرة هم الخاسرون.
قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أن «غير» منصوب «بأعبد» و «أعبد» معمول «لتأمروني» على إضمار «أنْ» المصدرية، فلما حذفت بطل عملها وهو أحد الوجهين والأصل أفَتَأمُرُونِي بأن أعْبُدَ غير الله ثم قدم مفعول «أعبد» على «تأمروني» العامل في عامله، وقد ضعف بعضهم هذا بأنه يلزم منه تقديم معمول الصلة على الموصول، وذلك أن «غير» منصوب «بأعبد» و «أعبد» صلة «لأن» وهذا لايجوز.
وهذا الرد ليس بشيء لأن الموصول لما حذف لم يراع حكمه فيما ذكر بل إنما يراعى معناه لتصحيح الكلام.
قال أبو البقاء: لو حكمناه بذلك لأفضى إلى حذف الموصول وإبقاء صلته وذلك لا يجوز إلاَّ في ضروة شعر.
وهذا الذي ذكر فيه نَظَرٌ من حيث إنَّ هذا مختصٌّ «بأَنْ» دون سائر الموصولات وهو أنها تحذف ويبقى صلتها وهو منقاس عند البصريين في مواضع تحذف ويبقى علمها وفي غيرها إذا حذفت لا يبقى علمها إلى في ضرورة أو قليل، وينشد بالوجهين (قوله) :
4310 - أَلاَ أَيُّهَذَا الزَّاجِري أَحْضُرُ الوَعَى ... وأَنْ أَشْهَدَ اللذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي(16/539)
ويدل على إرادة «أن» في الأصل قراءة بعضهم: «أَعْبُدَ» بنصب الفعل اعتداداً بأن.
الثاني: أن «غَيْر» منصوب «بتَأْمُرُونيِّ» و «أَعْبُد» بدل منه بدل اشتمال، و «أَنْ» مضمرة معه أيضاً.
والتقدير: أفغَيْر اللَّه تأمرونِّي في عبادته، والمعنى: أفتأمرون بعبادة غير الله.
الثالث: أنها منصوبة بفعل مقدر (تقديره) فتُلْزِمُوني غير الله أي عبادة غير الله، وقدره الزمخشري تعبدون (ي) وتقولون لي أعبده، والأصل: تأمُرُونَيي أن أعبد (فحذفت) أن، ورفع الفعل، ألا ترى أنك تقول: أفغير الله تَقُولُون لي أعْبُدُهُ، وأفغير الله تقولون لي أعبد، فكذلك، أفغير الله تقولون لي أن أعبُدَهُ، وأفغير الله تَأمُرُونِّي أَنْ أَعْبُدَ.
والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ «أَعْبُدَ» بالنصب، وأما «أعبد» ففيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه مع «أن» المضمرة في محصل نصب على البدل من «إير، وقد تقدم.
الثاني: أنه في محل نصب على الحال.
الثالث: أنه لا محل له ألتة.
قوله: {تأمرونيا} قرأ الجمهور» تَأمُرونِّي «بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وفتح الياءَ ابن كثير، وأرسلها الباقون، وقرأ نافع» تأمُرُونِيَ «بنون خفيفة وفتح الياء وابنُ عامر تأمرونَنِي بالفك وسكون الياء، وقد تقدم في سورة الأنعام، والحِجْر،(16/540)
وغيرهما أنه متى اجتمع نون الرفع مع نون الوقاية جاز ذلك أوجه وتقدم تحقيق الخلاف في أيتهما المحذوفة.
قال مقاتل: وذلك حين قاله له المشركون: دَعْ دينك واتبع دين آبائك ونؤمن بإلَهك، ونظير هذه الآية: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام: 14] وتقدم في تلك الآية وجه الحكمة في تقدم المفعول ووصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقاً للأشياء كلها وبكونه له مقاليد السموات والأرض وكون هذه الأصنام جمادات لا تَضُرُّ ولا تنفع فمن أعْرَض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات المقدسة الشريقة واشتغل بعبادة الأصنام الخَسيسَة فقد بلغ في الجهل مبلغاً لا مزيدة عليه، فلهذا قال: {أَيُّهَا الجاهلون} .
قوله: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الذي عملت قبل الشرك، واعلم أن الظاهر (أن) قوله» لَئِنْ أَشْرَكْتَ «هذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل لأنها هي الموحاة وأصول البصريين تأبى ذلك، ويقدرون أن القائم مقامه ضمير المصدرلأن الجملة لا تكون فاعلاً عندهم والقائم هنا مقام الفاعل الجار والمجرور وهو» إليكَ «وقرئ ليُحْبِطنَّ - بضم الياء وكسر الباء - أي الله ولنُحْبطَنًَّ بنون العظمة (وليُحْبَطَنّ) على البناء للمفعول و» عملك «مفعول به على القراءتين الأوليين ومرفوع على الثالثة لقيامه مقام الفاعل.
قال ابن الخطيب: واللام الأولى موطئة للقسم المحذوف والثانية لام الجواب.
فإن قيل: كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين؟ .
فالجواب: تقرير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أي أوحي (إليك) وإلى كل أحد منهم لئن أشركت كما تقول: كَسَانَا حُلّة: أي كل واحد منا.
فإن قيل: كيف صَحَّ هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم.(16/541)
فالجواب: أن قوله:» لَئن أشركت ليحبطن عملك «قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم (من) صدقها صدق جزئيها ألا ترى قولك: لَوْ كَانت الخَمْسة زوجاً لكانت منقسمة بمتساويين قضية صادقة مع أن كل واحد مِنْ جزئيتها غير صادق.
قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . ولم ييلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا، قال المفسرون: هذا خطاب مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمراد منه غيره، وقيل: هذا أدب من الله لنبيه وتهديده لغيره، لأن الله تعالى - عَزَّ وَجَلَّ - عصمه من الشركن وقوله: {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} قال ابن الخطيب: كما أن طاعات الأنبياء والرسل أفضل من طاعات غيرهم فكذلك القبائح التي تصدر عنهم فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح لقوله تعالى: {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} [الإسراء: 75] فكان المعنى أن الشرك الحاصل منه بتقدير حصوله منه يكون تأثيره في غضب الله تعالى أقوى وأعظم.
قوله: {بَلِ الله فاعبد} الجلالة منصوبة ب «اعْبُدْ» وتقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة، وجعله الزمخشري جواب شرط مقدر أي إن كنت عاقلاً فاعْبُدٍ اللَّهِ، فحذف الشرط، وجعل تقديم المفعول عوضاً لجمع بين العِوَض والمُعَوَّض عنه وقرأ عيسى بَل اللَّهُ - رفعاً - على الابتداء، والعائد محذوف أي فَاعْبُدْهُ.
فصل
لما قال الله تعالى: «قل أفغير الله تأمروني أعبد» يفيد أنهم أمروه بعبادة غيرالله فقال الله تعالى له لا تعبد إلا الله، فإن قوله «بَل اللَّهَ فَاعْبُدْ) يفيد الحصر» وَكُنْ مِن الشَّاكِرِينَ «لإنعامه عليك بالهِدَايَةِ.(16/542)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
قوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} قرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى قَدَّرُوا بتشديد الدال حَقَّ قَدْرِهِ بفتح الدال، وافقهم الأعمش على فتح الدال من «قَدَرِهِ» والمعنى وما عظمه حق عظمته حين أشركوا به غيره.
قوله: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي ما عظموه حق تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة، كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] أي (كيف) تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا و «جميعاً» حال وهي دالة على أن المراد بالأرض الأرضون فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع قال ابن الخطيب: ونظيره قوله تعالى: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] وقوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ} [النور: 31] وقوله: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] ولأن الموضع موضع تفخيم ولعطف الجمع عليها (والعامل) في هذه الحال ما دل عليه «قَبْضَتُهُ» ، (ولا يجوز أن يعمل فيها «قَبْضَتُهُ» ) سواء جعلته مصدراً؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله أم مراداً به(16/543)
المقدار قال الزمخشري: ومع القصد إلى الجمع «يعني في الأرض» فإنه أريدَ به الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكده قبل مجيء الخبر ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ولكن عن الأرض كلها.
وقال أبو البقاء: و «جَمِيعاً» حال من الأرض، والتقدير: إذا كانت مجتمعةً قَبْضتُهُ أي مقبوضةً، فالعامل في «إذا» المصدر، لأنه بمعنى المفعول، وقال أبو علي في الحدة: التقدير: «ذَاتُ قَبْضَتِهِ» وقد رد عليه ذلك بأن المضاف إلَيْه لا يعْمَلُ فيما قبله، وهذا لا يصحُّ لن الآن غير مضاف إليه، وبعد حذف المضاف لا يبقى حكمه انتهى وهو كلام فيه إشكال؛ إذ لا حاجة إلى تقدير العامل في «إِذ» التي لم يلفظ بها.
وقوله: {قَبْضَتُهُ} إنْ قَدَّرْنَا مضافاً - كما قال الفارسيُّ أي ذاتُ قبضته - لم يكن فيه وقوع المصدر موقع «مفعول» وإن لم يُقَدَّر ذلك احتمل أن يكون المصدر واقعاً موقعه، وحينئذ يقال: كيف أنّث المصدر الواقع موقع مفعول وهو غير جائز؟! لا يقال: حُلّة نَسْجَةُ اليَمَن بل نَسْجُ اليَمن أي مَنْسُوجُه.
والجواب: أن الممتنع دخول التاء الدال على التحديد وهذه المجرد التأنيث. كذا أجيب. وليس بذاك فإن المعنى على التحديد لأنه أبلغ في القدرة، واحتمل أن يكون أريد بالمصدر مقدار (ذلك) (التحديد) .
والقَبْضَةُ - بالفتح - المَرَّة، وبالضم اسم المقبوض كالغُرْفَة والغَرْفَة، قال تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} [طه: 96] .
والعامة على رفع «قبضته» والحسن ينصبها وخرَّجها ابن خالويه(16/544)
وجماعة على النصب على الظرفية أي « (في) قَبْضَتِهِ» .
ورد هذا بأنه ظرف مختص فلا بد من وجود «في» وهذا هو رأي البصريين، وأما الكوفيون فهو جائز عندهم إذ يجيزون: زَيْدٌ دَارَك - بالنصب - أي في دَارك، وقال الزمخشري: جعلها ظرفاً تشبيهاً للمؤقت بالمبهم، فوافق الكوفيِّين.
قوله: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ} العامة على رفع «مَطْوِيَّات» خبراً، و «بِيَميِنِهِ» فيه أوجه:
أحدهما: أنه متعلق «بمطويات» .
الثاني: أنه حال من الضمير في «مَطْوِيَّاتٍ» .
الثالث: أنه خبر ثان، وعيسى والجحْدري نصباها حالاً واستدل بها الأخفش على جواز تقديم الحال إذا كان العامل فيها حرف جر نحو: زَيْدٌ قائِمٌ في الدار وهذه لا حجة فيها لإمكان تخريجها على وجهين:
أظهرهما: أن يكون «السموات» نسقاً على الأرض ويكون قد أخبر عن الأرضين والسموات بأن الجميع قبضته ويكون «مطويات» حالاً من السموات، كما كان جميعاً حالاً من الأرض و «بيمينه» متعلق «بمِطْوِيَاتٍ» .
والثاني: أن يكون «مطويات» منصوباً بفعل مقدر و «بِيَمِيِنِهِ» الخبر، و «مَطْوِيَّات» وعالمه جملة معترضة وهو ضعيف.
(فصل
لما حكمى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد سواه بين أنهم لو عرفوا الله حق(16/545)
معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية فقال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموا الله حقَّ عظمته فقال: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وروى البخاري أن حَبْراً من الأحْبَار أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبح والماء والثرى على أصبح وسائر الخالق على أصبع، ويقول: أنا الملك فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى بدت نَوَاجِذُهُ تصديقاً لقوله الحَبْر ثم قرأ: «وَمَا قَدَرُوا اله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة» وروى مسلم قال: والجبالُ والشجرُ على إصبح وقال: ثم يهزّهُنَّ فيقول: أنا المَلِكُ أنَا الله وروى شبيةُ عن ابن أبي شَيْبَىَ بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «يَطْوِي الله السَّمَوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنَى ثم يقال: أَنَا المَلِكُ أيْنَ الجَبَّارُونَ أيْنَ المُتَكَبِّرُون» ولما بين سبحانه وتعالى عظمته قال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
فصل
قال ابن الخطيب: وههنا سؤالات:
الأول: أن العرض أعظم من السموات السبع، والأرضين السبع، ثم إنه تعالى قال في صفة العرش: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}
[الحاقة: 17] فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين للعرش العظيم فيكف يجوز تقرير عظمته الله عَزَّ وَجَلَّ بكونه حاملاً للسموات والأرض؟!
السؤال الثاني: قوله تعالى: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} شرح حالاً لا يحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم مقرون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم وإن كان الخطاب مع المكذبين في النبوة فهم ينكرون قوله: «والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة» فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟ .
السؤال الثالث: حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدر الله تعالى فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة؟ .
والجواب عن الأول: أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادراً على حفظ هذه الأجسام العظيمة كما أن حفضَها وإمساكها يوم القيامة عظيم، ثم بعده تقرير عظمته بكون قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.(16/546)
والجواب: عن الثاني: أن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السموات والأَرَضِين من وجوه العِمَارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإبقائها يوم القيامة وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق فإنه يدل على أنه حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض صغيرة، وذلك يدل على كمال الاستغناء.
والجواب: عن الثالث: أنه إنما خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا والله أعلم.
قوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} العامة على سكون الواو، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمع «صُورَة» وهذه ترد قول ابن عطية أن الصور هنا يتعين أن يكون القرن، ولا يجوز أن يكون جمع صورة وقرئ: فصعق - مبنياً للمفعول - وهو مأخوذ من قوله: «صَعَقَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، يال: صَعَقَةُ الله فَصُعِقَ.
قوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ الله} (استثناء) متصل، والمستثنى إما جبريل وميكائيل وإسرافيل: وإما رِضْوَان والحور والزبانية، وإما البارئ تعالى، قاله الحسن وفيه نظر من حيث قوله {مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} فإنه لا يتحيز فعلى هذا يتعين أن يكون منقطعاً.
قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى} يجوز أن يكون» أخرى «هي القائمة مقام الفاعل وهي في الأصل صفة لمصدر محذوف أي نفخ فيه نفخة أخرى ويؤيده التصريح بذلك في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] فصرح بإقامة المصدر ويجوزُ أن يكون القائم مقامه الجارّ، و» أُخْرَى «منصوبة على ما تقدم.(16/547)
قوله: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} العامة على رفع» قيام «خبراً، وزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ نصبه حالاً، وفيه حنيئذ أوجه:
أحدهما: أن الخبر» ينظرون «وهو العامل في هذه الحال أي فإذا هُمْ يَنْظُرُونَ قِيَاماً.
والثاني: أن العامل في الحال ما عمل في «إذا» الفجائية إذا كانت ظرفاً. فإن كانت مكانية - كما قال سيبويه - فالتقدير فبِالحَضْرة هُمْ قياماً، وإن كان زمانية كقول الرّمَّانِي فتقديره: فَفِي ذلكَ الزمان هُمْ قياماً أي وجودهم، وإنما احتيجَ إلى تقدير مضاف في هذا الوجه لأنه لا يخبر بالزمان عن الجُثث.
الثالث: أن الخبر محذوف هو العامل في الحال أي فإذا هم مبعوثُون أو مجموعون قياماً، وإذا جعلنا الفجائية حرفاً كقول بعضهم فالعامل في الحال إما «ينظرون» ، وإمّا الخبر المقدر كما تقدم تحقيقهما.
فصل
لما ذكر كمال قدرته وعظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريق آخر يدل أيضاً على كمال عظمته وهو شرح مقدمات يوم القيامة، لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم، فقال: {وَنُفِخَ فِي الصور} الآية.
اختلفوا في الصعقة فقيل: إنها غير الموت لقوله تعالى في موسى - عليه (الصلاة و) السلام) -: {وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143] وهو لم يمت فهذه النفخة تورث الفزغ الشديد وعلى هذا فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ الفزع واحد وهو المذكور في سورة النمل في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن(16/548)
شَآءَ الله} [النمل: 87] وعلى هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين. وقيل: الصعقة عبارة عن الموت، والقائلون بهذا قالوا: المراد بالفزع أي كادوا يموتون من الفزع وشدة الصوت، وعلى هذا التقدري فالنخة الصعق، والثالثة نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة، وقوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ الله} قال ابن عباس: نفخة الصعق يموت من في السموات ومن في الأرض إلا جبريل وميكائيل وإسرافيل: وَيبْقَى جبريل وملك الموت، ثم يموت عزرائيل ثم يموت ملك الموت، وقيل: المستثنى هم الشهداء لقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وروى أبو هريرة عن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «هُمُ الشَّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أسْيَافَهُمْ حَوْلَ العَرْشِ» وقال جابر: هو موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنه صُعِقَ، ولا يصعق.
وقيل: هم الحور العين وسكان العرش والكرسي، وقال قتادة: الله أعلم بهم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم.
ثم قال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} وهذا يدل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولة لأن لفظة «ثم» للتراخي. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْن أربعون» ، قالوا: أرْبَعون يَوْماً قال: أبَيْتُ قالوا: أربعون شهراً قال: أبيت قالوا أربعون سنةً، قال: أبيت قال: ثم ينزل الله من السماء ماءً فتَنْبتُونَ كما ينبت البَقْلُ ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلاّ عظمٌ واحد وهو عَجبُ الذَّنَب، وفيه يركب الخلق يوم القيامة «.
وقوله: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} يعني أن قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله: «فإذا هم» يدلّ على التعقيب، وقوله «يَنْظُرون» أي يقبلون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم، وقيل: ينظرون ماذا يفعل بهم، ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لأجل استيلاء الحَيْرة والدهشة عليهم.
قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرض} العامة على بنائه للفاعل، وابن عباس وأبو الجَوْزاء.(16/549)
وعُبَيدُ بنُ عُمَير، عل بنائه للمفعول وهو منقول بالهمزة من شَرقَتْ إذا طلعت، وليس من أشْرقَتْ بمعنى أضاءت لأن ذلك لازمٌ وجعله ابن عطيّة مثل رَجَعَ ورجَعْتُهُ، وَوَقَفَ وَوَقَفْتُهُ فيكون أشرق لازماً ومتعدياً.
فصل
هذه الأرض عَرْصة القيامة وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] وقوله: {بِنُورِ رَبِّهَا} أي خالقها يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه، وقال الحسن والسدي: بنور ربها أي بعدل ربها قال عليه (الصلاة و) السلام: «إنَّكُمْ سَتَروْنَ رَبَّكُمْ» وقال: «كما لا تُضَارُّونَ فِي الشَّمْس في اليَوْم الصَّحْو» وقوله: {وَوُضِعَ الكتاب} أي كتاب الأعمال لقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء: 13] وقوله: {مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
وقوله: {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء} قال ابن عباس: يعين الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة، وهم أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال عطاء ومقاتل: يعني الحَفَظَة لقوله تعالى: {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] وقي: أراد بالشهداء: المستشهدون في سبيل الله.
ثم قال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق} أي بالعدل {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي يُزادون في سيئاتهم ولا يُنْقَصُ من حسناتهم «ووفِّيت كُلّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» أن ثُوَابَ مَا عَمِلْتْ: واعلم أنه تعالى لما بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات:
أولها: قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق} .
وثانيها: قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
وثالثها: قوله تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} .
واربعها: قوله تعالى: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} يعني أنه (إن) لم يكن عالماً بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي (إلا) بالحق لأجل عدم العلم أما إذا كان عالماً(16/550)
بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ عليه، والمقصود من الآية المبالغة في تَقْرير أن كل مؤمن فإنه يصل إلى حقه، قال عطاء يريد أنّي عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا شاهد.
قوله: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً} لما شرح أحوال أهل القيامة على سبل الإجمال وقال: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} بين بعده كيفية أحوال العقاب ثم كيفية أحوال الثواب، فأما شرحُ أحوال العقاب فهو هذه الآية وهذا السَّوْق يكون بالعُنُق والدفع بدليل قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] أي يدفعون دفعاص، وقوله: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 86] .
قوله: {زُمَراً} و «زُمَرٌ» جمع «زُمْرة» وهي الجماعات في تفرقة بعضها في إثر بعض، و «تَزَمَّرُوا» تجمعوا قال:
4311 - حَتَّى احْزَأَلَّتْ زمُرٌ بَعْدَ زُمَرْ ... هذا قول أبي عبيد (ة) والأخفش، وقال الراغب: الزُّمْرة الجماعة القليلة، ومنه شاة زمرة أي قليلة الشعر، ورجل زَمِرٌ أي قليل المروءة، وزَمَرَت النَّعَامَةُ تَزْمُر زَمَاراً ومنه اشتق الزّمر. والزَّمَّارة كناية عن الفاجرة.
قوله: {حتى إِذَا} تقدم الكلام في «حتى» الداخلة على «إذا» مِرَاراً، وجواب «إذا»(16/551)
قوله: فتحت. وتقدم خلاف القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام.
قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ} قرأ ابن هُرْمز أَلَمْ تَأْتِكُمْ بتاء التأنيث لتأنيث الجمع، و «مِنْكُمْ» صفة «الرسل» أو متعلق بالإتْيان و «يَتْلُونَ» صفة أُخْرى، و «خَالِدينَ» في الموضعين حال مقدرة.
فصل
بين تعالى أنهم يُسَاقُون إلى جهنم فإذا جاءوها فتحت أبوابُها، وهذا يدل على أن أبواب جهنم تكون مغلقة قبل ذلك وإنما تفتح عند وصول الكفار إليها فإذا دخلوا جهنم قال لهم خزنةُ جهنم: ألم يأتكم رسل منكم أي من جنسكم يتلون عليكم آياتِ ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا.
فإن قيل: لِمَ أضيفَ اليوم إليهم؟ .
فالجواب: أراد لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة واستعمال لفظ اليوم (إليهم) والأيام في أقوات الشدة مستفيض فعند هذا تقول الكفار «بَلَى» أتونا وتَلَوْا علينا «وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرينَ» أي وجبت كلمة العذاب على الكافرين وهي قوله عزو وجل: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] وهذا صريح في أن السعيد (لا ينقلب) شقياً والشقي لا ينقلب سعيداً، ودلت الآية على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا أنهم ما بقي لهم عُذرٌ ولا علة بعد مجيء الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام -، (ولو) لم يكن مجيء الأنبياء شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدةٌ.
ثم إنَّ إذا سَمِعُوا منهم هذا الكلام قالوا: لهم ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّم خَالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبرينَ.
(قال المعتزلة: لو كان دخولهم النار لأجل أنهم حقت عليهم كلمة العذاب لم(16/552)
يبق لقول الملائكة: {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} فائدة، وأجيبوا بأن (هذا) الكلام إنما يبقى مفيداً إذا قلنا: إنهم إنما دخلوا النار لأنهم تكبروا على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم ولم يلتفتوا إلى دلائلهم، وذلك يدل على صحة قولنا.
والله أعلمْ.
قوله: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً} .
فإن قِيلَ: السَّوْقُ في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يُسَاقُوا إليه، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأيُّ حادة فيه إلى السَّوْق؟! .
فالجواب: من وجوه:
الأول: أن لامحبة ولاصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] فإذا قيل لواحد منهم: اذهب إلى الجنة فيقول: لا أدخلها إلا مع أحبَّائِي وأصدقائي فيتأخرونَ لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السَّوق إلى الجنة.
والثاني: أن المتقين قد عبدوا الله لا للجنة ولا للنار فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال مانِعاً لهم من الرغبة في الجنة فلا جَرَمَ يحتاجون إلى أن يُسَاقُوا إلى الجنة.
والثالث: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «أكثر أهل الجنة البُلْهُ» فلهذا السبب يساقون إلى الجنة.
الرابع: أن أهل النار وأهلا لجنة يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهَوَان والشدّة كما يفعل بالأسير الذي يساق إلى الحبس والقتل، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يُذْهب بهم إلا رَاكِبينَ، والمراد بذلك لاسوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرّضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين إلى الملوك فشتان ما بين السَّوْقَتْينِ.
قوله: «حتى إذا جاءوها وَفُتِحَتْ» في جواب «إذا» ثلاثة أوجه:
أحدهما: قوله: {وَفُتِحَتْ} والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش(16/553)
وإنّما جيء هنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجن تكون مغلقةً إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فيفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتحت انتظاراً لمن يدخلها فعلى ذلك أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدماً على دخولهم إليها كما قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} [ص: 50] فلذلك جيء بالواو فكأنه قيل: حتى إذا جاؤوها وقود فتحت أبوابها.
والثاني: أن الجواب قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} على زيادة الواو أيضاً أي حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها.
والثالث: أن الجواب محذوف قال الزمخشري: وحقه أن يقدر بعدك «خَالِدين» انتهى يعين لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط وما عطف عليه، والتقدير: اطْمَأَنُوا وقدره المبرد: سُعِدُوا، وعلى هذين الوجهين فتكون الجملة من قوله: «وَفُتِحَتْ» في محل نصب على الحال. وق البغوي: قال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف تقديره: حَتَّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادْخُلُوها خالدين «دخلوها» .
فحذف «دَخَلُوهَا» لدلالة لاكلام عليه، وسمى بعضهم الواو في قوله «وفتحت» واو الثمانية قال: لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وقيل: تقديره: حتى إذا جاءوها (جاءوها) فوتحت أبوابها يعني أن الجواب بلفظ الشرط، ولكنه بزيادة تقييده بالحال فلذلك صَحَّ.(16/554)
قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها} يريد أن خزنة الجنة يسلمون عليم ويقولون: طبتم قال ابن عباس: طاب لكم المقام. وقال قتادة: إنهم إذا قطعوا النار حُبسُوا على قَنْطَرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعد حتى إذا هذبوا وطيبوا أُدْخِلُوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه: سَلاَمٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين.
وروي عن علي قال: سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرةً يخرج من تحت ساقها عَيْنَانِ فيغتسل المؤمن من إِحْدَايْهِما فيطهر ظاهره ويشرب منه الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون: «سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ» فعند ذلك يقول المتقون: الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض أي أرض الجنة وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105] .
قوله: «نَتَبَوَّأُ» جملة حالية و «حَيْثُ» مفعلو به، ويجوز أن تكون ظرفاً على بابها، وهو الظاهر، قال ابن الخطيب: إنما عبر عن أرض الجنة بالأرض لوجوه:
الأول: أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم - عليه (الصلاة و) السلام - لأنه تعالى قال: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً للإرث.
الثاني: أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل: هذا الذي أورث كذا وهذا العمل أورث كذا. فلما كانت طاعاتهم قد أفادتهم الجنة لا جَرَمَ قالوا: وأورثنا الأرض، والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أَوْبَثتِ الجَنَّةَ.
الثالث: أن الوارث يتصرف فيما يرثه كيف يشاء من غير منازع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة حين شاءوا وأرادوا.
فإن قيل: هل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ .
فالجواب: يكون الكل واحد منهم جنة لا يحتاج معها إلى جنة غيره.
ثم قال تعالى: {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي ثواب المطيعين، قال مقاتل: هذا ليس من كلام أهل الجنة بل الله تعالى لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده: {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} .
قوله: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} حَافّين جمع حَافِّ: وهو المحدق(16/555)
بالشيء من حَفَتْتُ بالشيء إذا أحَطْتَ به، قال:
4312 - يَحُفُّهُ جَانِبَا نيقٍ وَيُتْبِعُهُ ... مِثْلَ الزّجَاجَةِ لَمْ تَكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ
وهو مأخوذ من الحِفَاف وهو الجانب قال:
4313 - لَهُ لَحَظَاتٌ عَنْ جَفَافَيْ سَرِيرِهِ ... إِذَا كَرَّهَا فِيهَا عِقَابٌ وَنَائِلُ
وقال الفراء - وبتعه الزمخشري - ولا واحِدَ لحافّين وكأنهما رأيا أن الواحد لا يكون «حَافًّا» إذ الحفوف هوا لإحداق بالشيء والإحاطة به وهذا لا يتحقق إلا في جمع.
فصل
لما ذكر صفة (الثواب) البشر ذكر عقيبه ثواب الملائكة فكما دارُ ثواب المتقين هو الجنة فكذلك دارُ ثواب الملائكة جوانب العرش فقال: {حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} أي محدقين محيطين بالعرش بحافيه أي جوانبه، قال الليث حَفَّ القَوْمُ بسَيِّدِهِمْ يَحُفُّونَ حَفًّا إِذَا طافوا به.
قوله: {مِنْ حَوْلِ} في «من» وجهان:
أحدهما: وهو قول الأخفش: أنها مزيدة.
والثاني: أنها للابتداء.(16/556)
وقوله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} «يسبحون» حال من الضمير في «حافين» ، قيل هذا تسبيح لتذذ لا تسبيح تعبد، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم وهذا يشعر بأن ثوابهم هو عَين ذلك التسبيح.
قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق} هذا الضمير إما للملائكة، وإما للعباد (ة) وَقِيلَ: قضى بين أهل الجنة والنار بالعدل {وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} وقيل: إن الملائكة لما قضى بينهم (بالحق) قالوا: الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق.
روى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (وشرف كرم وبجل ومجد وعظم) : «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الزُّمَر لَمْ يَقْطَعِ اللَّهُ رَجَاءَهُ وَأعْطَاهُ ثَوَابَ الخَائِفينَ» وعن عاشئة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت: «كان رسول اله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقْرَأُ كُلَّ ليلة بني إِسْرَائِيلَ والزُّمَر» . رواهما الثعلبي في تفسيره. والله (تعالى) أعلم.(16/557)
(رب يسر برحمتك يا كريم وأغن يا رحيم) بسم الله الرحمن الرحيم
سورة غافر(17/3)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
مكية وتسمى سورة الطول، وسورة المؤمن، وهي خمس وثمانون آية، وألف ومائة وتسع وتسعون كلمة وأربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {حم} كقوله الَمَ وبابه، وقرأ الأخوان وأبو بكر وابن ذكوان بإمالة (حا) في السور السبع إمالة محضة، وورش، وأبو عمرو بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح، والعامة على سكون الميم كسائر الحروف المقطعة. وقرأ الزهري برفع الميم على أنه خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ والخبر ما بعدها، وابن إسحاق وعيسى بفتحها وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها منصوبة بفعل مقدر أي اقرأ حم، وإنما منع من الصرف للعملية والتأنيث، أو العلمية وشبه العجمة وذلك أنه لس في الأوزان العربية وزن «فاعيل» بخلاف الأعجمية نحو قابيل وهابيل.(17/3)
والثاني: أنها حركة بناء تخفيفاً كَأَيْنَ وكَيْفَ. وفي احتمال هذه الوجهين ولن الكميت:
4314 - وَجَدْنَا لَكُمْ في آلِ حَامِيم آيَةً ... تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ ومُعْرِبُ
وقول شُرَيح بن أوفى:
4315 - يُذَكِّرُنِي حَامِيم والرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
وقرأ أبو السَّمَّالِ بكسرها، وهل يجوز أن يجمع (حم) على «حواميم» ونقل ابن الجوزي عن شيخه الجواليقي أنه خطأ وليس بصواب بل الصواب أن تقول قرأت أل حم، وفي الحديث عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إذَا وَقَعْتُ فِي آلِ حمَ وَقَعْتُ في رَوْضَاتٍ أَتأَنَّقُ فيهن» وقال سعيد بن إبراهيم: كلّ آل حم يسمين العرائس، قال الكُمَيْتُ:
4316 - وحدنا لكم في آل حاميم ... ... ... ... ....... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(17/4)
ومنهم من جوزه، وروي في ذلك أحاديث منها قوله عليه (الصلاة و) السلام: «الحَوَامِيمُ دِيبَاجُ القرآن» ، وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الحواميمُ سبعُ وأبوابٌ جهنَّمَ سبعُ: جهنمُ والحُطَمَةٌ ولَظَى والسعيرُ وسَقَرُ والهاويةُ والجحيمُ فتجيء كل جسم منهم يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فتقول لا يدخل النار من كان يؤمن بي ويقرأني» وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لكل شيء ثمرةٌ وثمرةُ القرآن ذواتُ حم هن روضات حسان مخصبات متجاورات فمن أجب أن يَرْتَعَ في رِيَاضِ الجنة فليقرأ الحواميم» ، وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الحواميم في القرآن كمثل الحِبَرَاتِ في الثياب» وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما لكل شيء لُباب ولُباب القرآن الحواميمُ.
فإن صحت هذه الأحاديث فهي الفصل في ذلك.
قوله «تَنْزِيلُ» إما خبرٌ ل «حمَ» إن كانت مبتدأ، وإما خبر لمبتدأ مضمر، أو مبتدأ وخبره الجار بعده. قال ابن الخطيب: قال «تنزيل» والمراد منه المنزل.
فصل
روي السُّدي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: حم اسم الله الأعظم، وروى عكرمة عنه قال: الم وحم ون حروف الرحمن مقطعة، وقاله سعيد بن جبير: (وقال) عطاء الخراساني: الحاء افتتاح أسمائه حكيم حميد حي حليم حنان، والميم افتتاح اسمائه ملك مجيد.
قال الضحاك والكسائيّ معناه قضى ما هو كائن كأنهما أشارا إلى أن معناه: حُمَّ، بضم الحاء وتشديد الميم.
قوله «مِنَ اللهِ» لما ذكر أن حم تنزيل الكتاب وجب بيان أن المنزل من هو؟ فقال: من الله، ثم بين أن الله تعالى موصوف بصفات الجلالة فقال «العَزِيزِ العَلِيمِ» .
فبين أنه بقدرته وعلمه نزل القرآن الذي يتضمن المصالح والإعجاز، ولولا كونه عزيزاً عالماً لما صح ذَلك.
قوله تعالى: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب} في هذه الأوصاف ثلاثة أوجه:(17/5)
أحدها: أنها كلها صفات الجلالة ك العزيز، والعليم. وإنما جاز وصف المعرفة بهذه وإن كانت إضافتها لفظية لأنه يجوز أن تجعل إضافتها (معنوية) فيتعرَّف بالإضافة نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن يجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة، ولم يستثن غيره شيئاً وهم الكوفيون يقولون في مثل «حَسَن الوَجْهِ» بأنه يجوز أن تصير إضافته محضة. وعلى هذا فقوله: «شَدِيدِ العِقَابِ» من باب الصفة المشبهة فكيف أجزت جعله صفة للمعرفة وهو لا يتعرف إلا بالإضافة؟
والجواب: إمّا بالتزام مذهب الكوفيين وهو أن الصفة المشبهة يجوز أن تتمخض إضافتها أيضاً فتكون معرفة وإما بأن «شديد» بمعنى مشدد كأَذِين بمعنى «مؤذن» فتتمحض إضافته.
والثاني: أن يكون الكلِ أبْدالاً لأن إضافتها غير محضة قاله الزمخشري، إلا أن هذا الإبدال بالمشتق قليل جداً إلا أن يهجر فيها جانب الوصفية.
الثالث: أن يكون «غَافِرِ» و «قَابِلِ» نعتَيْنِ و «شَدِيدِ» بدلاً لِمَا تقدم من أن الصفة المشبهة لا تتعرف بالإضافة قاله الزجاج إلا أن الزمخشري قال: جعل الزجاج «شديد العقاب» وحده بدلاً للصفات فيه نُبُوٌّ ظاهر. والوجه أن يقال: لما صُودِفَ بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة فقد آذنت بأنها كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على «مُسْتَفْعِلُن» فهي محكوم عليها بأنها من الرجز، فإن وقع فيها جزءٌ واحد على «مُتَفَاعِلُن» كانت من الكامل. وناقشه أبو حيان فقال: ولا نُبُوَّ في ذلك؛ لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت وهو الأصل. وقوله «فقد آذنت بأن كلها أبدال» تركيب غير عربي لأنه جعل فقد آذنت جواب لما، وليس من كلامهم: لَمَّا قَامَ زَيْدٌ فَقَدْ قَام عَمْرو. وقوله بأنّ كلها أبدال فيه تكرير للأبدال إمّا بدل البَدَاء عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال، وإما بدل كل من كل وبدل بعض من كل(17/6)
وبدل اشتمال، فلا نص على أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر وذلك في قول الشاعر:
4317 - فَإلَى ابْنِ أُمِّ أُنَاسَ أَرْحَلُ نَاقَتِي ... عَمْرٍو فَتُبْلِغُ حَاجَتِي أو تُزْحِفُ
مَلِكٍ إذَا نَزَلَ الوُفُودُ ببَابِهِ ... عَرَفُوا مَوَارِدَ مُزْبِدٍ لاَ يُنْزِفُ
قال: «فملك» بدل من «عمرو» بدل نكرة من معرفة، قال: فإن قلتَ: ألا يكون بدلاً من «أبن أم أناس» قلتُ: لأنه قد أبدل منه «عمراً» فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى لأنه قد طرح انتهى.
قال أبو حيان: فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ويتحد المبدل منه، ودل على أن البدل من البدل جَائز. قال شهاب الدين: وهذا البحث قد تقدم في قوله {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] فلْيُلْتَفَتْ إليه.
قال: وقوله تفاعيلها هو جمع تِفْعال أو تُفْعُول أو تَفْعِيل وليس شيء منها معدوداً من أجزاء العروض، فإن أجزاءه مُنْحَصِرَة ليس فيها شيء من هذه الأوزان فصوابه أن يقول: جاءت أجزاؤها كلها مُسْتَفعِلُن.
وقال الزمخشري أيضاً: ولقائل أن يقول هي صفات وإنما حذفت الألف واللام من «شديد» لِيُزَاوجَ ماقبله وما بعده لفظاً فقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل الإزاج، قالوا: ما يعرف سَحَادَلَيْهِ من عُنَادَلَيْهِ، فَثنَّوا ما هو «وَتر» لأجل ما هو «(17/7)
شَفْعٌ» . على أن الخليل قال في قولهم: ما يَحْسُنُ بالرجل (مِثْلِكَ أنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وما يَحْسُنُ بالرجل) خير منك أنه على نية الألف واللام كما كان الجَمَّاء الغفير على نية طرح الألف واللام، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف. قال أبو حيان: ولا ضرورة إلى حذف «آل» من «شديد العقاب» وتشبيهه بنادر مغير وهو تثنية الوَتْر لأجل الشفع فيتنزه كتاب الله عن ذلك.
قال شهاب الدين: أما الازدواج وهو المشاكلة من حيث هو فإنه واقع في القرآن وقد مضى منه مواضع.
وقال الزمخشري أيضاً: ويجوز أن يقال: قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشِّدَّةِ على ما لا شيء أدْهَى منه وَأَمرّ لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال: هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريق الإبدال انتهى.
وقال مكي: يجوز في «غافر وقابل» البدل على أنهما نكرتان لا ستقبالهما والوصف على أنهما معرفتان لمُضِيِهِمَا. وقال ابن الخطيب لا نزال في جعل «غافر» صفة، وإنما كانا كذلك لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك (شديد العقاب) يفيد ذلك لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد فمعناه كونه بحيث شديد عقابه، وهذا المعنى حاصل أبداً لا يصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن قال أبو حيان: وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ولا نظر فيه ويلزمه أن يكون «حَكيٍمٌ عَلِيمٌ» و «مَلِيكٌ مُقْتَدِرٌ» معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد، ولأنها صفاتٌ لم تَحْدُثْ لم تحصل بعد أن لم تكن ويكون تعريف صفاته بأل وتنكيرها سواء، وهذا لا يقوله مبتدىءٌ في علم النحو(17/8)
بَلْه أن يًصَنّفَ فيه ويقدم على تفسير كتاب الله تعالى.
وقد سُرِدَتْ هذه الصفات كلياً من غير عاطف إلا «قابل التوت» قال بعضهم: وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر وقطع «شديد» عنهما فلم يعطف لانفراده.
قال أبو حيان: وفيه نزعة اعتزالية، ومذهب أهل السنة جواز الغفران للعاصي وإن لم يتب إلا الشرك. قال شهاب الدين: وما أبعده عن نزعة الاعتزالية. ثم أقول: التلازم لازم من جهة أنه تعالى متى قَبِلَ التوبة فقد غفر الذنبل وهو كَافٍ في التَّلاَزُم.
قال الزمخشري فإن قلتَ: ما بال الواو في قوله: «وَقَابِلِ التَّوْبِ» ؟ قلتُ: فيها نكتة جليلة وهي إفادة الجمع المذنب والتائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيقبلها فيكتبها له طاعة من الطاعات وإن لم يجعلها مَحَّاءَةً للذنبوب كمن لم يذنب كأنه قال: جامعُ المغفرة والقبول أنتهى.
وبعد هذا الكلام الأنيق وإبراز هذه المعاني الحسنة قال أبو حيان: وما أكثر تَهَجُّحَ هذا الرجل وشَقْشَقَتَه، والذي أفاد: أن الواو للجمع وهذا معروف من ظاهر علم النحو. قال شهاب الدين: وقد أنشدني بعضهم رَحِمَهُ اللَّهُ:
4318 - وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً ... وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
(وآخر) :
4319 - قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ ... وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ
والتَّوْبُ (يحتمل) أن يكون اسماً مفرداً مراداً به الجِنس كالذَّنْب، وأن يكون(17/9)
جمعاً لتَوْبَةٍ كتَمْرٍ وتَمْرَةٍ و «ذِي الطَّوْلِ» نعت أو بدل كما تقدم، والطَّوْلُ سَعَةُ الفَضْل، و «لاَ إله إلاَّ هُوَ» يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً وحي حالٌ لازمةٌ، وقال أبو البقاء يجوز أن يكون صفة، وهذا على ظا هره فاسد؛ لأن الجُمَل لا تكون صفة للمعارف، ويمكن أن يريد أنه صفة لشديد العقاب، لأنه لم يتعرف بالإضافة.
والقول في «إلَيْهِ المَصِيرُ» كالقول في الجملة قبله ويجوز أن يكون حالاً من الجُمْلَةِ قبله.
فصل
قال المفسرون: غافر الذنب ساتر الذنب وقابل التوب أي التوبة، مصدر تَابَ يَتُوبُ تَوْباً، وقيل: التوب جمع توبة مثل: دَوْمَة ودَوْم، وعَوْمة وعَوْم، وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: غافر لمن قال لا إله إلا الله، وقال التوب لمن قال لا إله إلا الله، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله، «ذي الطول» ذي الغِنَى عمن لا يقول لا إله إلا الله.
قال مجاهد: ذي الطول ذي السَّعَةِ، والغِنَى، وقال الحسن: ذي الفضل، وقال قتادة: ذو النعم، وقيل: ذو القدرة، وأصل الطَّوْل الإنعام الذي تطولُ مُدَّتُهُ على صابحه، لا إله إلا هو إليه المصير. والمعنى أنه لما وصف نفسه بصفاتِ الرحمة والفضل فلو حصل معه إله آخر يشاركه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملين حاصلين بسبب هذا التوحيد. وقوله «إلَيثْهِ المَصِيرُ» مما يقوِّي الرغبة في الإقرار بالعبودية.
قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} لما قرر أن القرآن كتابه أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أقوال من يجادل لغرض إبطاله فقال {ما يجادل في آيات الله} أي في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار إلا الذين كفروا.
واعلم أن الجدالَ نوعان، جدالٌ في تقرير الحق، وجدالٌ في تقرير الباطل، أما الجدال في تقرير الحق فهو حِرْفة الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال تعالى لمحمد(17/10)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وحكى عن قوم نوح قولهم: {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 23] . وأما الجدال في يتقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ جِدَالاً في القُرْآنِ كُفْرٌ» وروى عمرو بنُ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جده قال: «سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قوماً يَتَمارَوْنَ فقال: إنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلضكُمْ بهذا ضربوا كتابَ الله عزّ وجلّ بعضَه ببعض، وإنما نزمل كتاب الله يُصَدِّق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضَه ببعض فما علمتم منه فقُولُوه، وما جَهْلتم فكِلُوهُ إلى عالمه» ، وقال تعال: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] وقال: {وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [غافر: 5] .
قوله «فَلاَ يَغْرُرْكَ» قرأ العامة بالفك وهي لغة الحِجَاز، وزيدُ بنُ عليّ وعُبَيْدُ بن عُمَيْرٍ فلا يَغُرَّكَ بالإدغام مفتوح الراء وهي لغة تَمِيمٍ.
فصل
جدالهم في آيات الله هو قولهم مخرة سحرٌ، ومرة هو شعرٌ، ومرة إنه قول الكهنة، ومرة إنه أساطير الأولين، ومرة إنه يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وقولهم: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [يس: 15] أَأنْزِلَ عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ، وأشباه هذا.
ثم قال: {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد} أي لا تغترَّ بأني أمْهَلْتُهُمْ وتركتهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون فيها للتجارات وطلب المعاش فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم كما فعلت بالأمم الماضية.
ثم كشف عن هذا المعنى فقال {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ} وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} ، وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ليقتلوه ويُهلكوه وقيل: ليأسِرُوه.
وقرأ عبد الله بِرَسُولِها، أعاد الضمير على لفظ «الله» والجمهور على معناها، وفي قوله «(17/11)
ليأخذوه» عبارة عن المُسَبَّبِ بالسَّبَبِ وذلك أن القتل مسبب عن الأخذ ومنه قيل لِلأسير: أخِيذٌ قال:
4320 - فَإمَّا تأْخُذُونِي تَقْتُلُونِي ... فكَمْ مِنْ واحدٍ يَهْوَى خُلُودِي
{وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} ليُبْتطِلُوا به الحق الذي جاءت به الرسلُ، {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} اجتزاءٌ بالكسرة عن ياء المتكلم وصلاً ووقفاً؛ لأنها رأ س فاصلة، والمعنى فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا فيكف كان عقابي إيَّاهُم؟ أليس كان مستأصلاً؟ فأنا أفعل بقومك ما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله.
قوله تعالى (تعالى) «وَكَذَلِكَ حَقَّتْ» يحتمل الكاف أن تكون مرفوعة المحل على خبر مبتدأ مضمر، أي والأمر كذلك: ثم أخبر بأنه حقت كلمة الله عليهم بالعذاب، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة، والمعنى كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت أيضاً على الذين كفروا من قومك.
قوله {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار} يجوز أن يكون على حذف حرف الجِرّ أي لأَنَّهُم (فحذف) فيجري في محلها القولان (قال الأخفش لأَنَّهُمْ أو بأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار) ، ويجوز أن يكون في محل رفع بدلاً من «كلمةٍ» . وقد تقدم خلافهم في أفراد «كَلِمَة» وجمعها، وأن نافعاً وابن عامر قرأ «كلمات» على الجمع والباقون بالإفراد.(17/12)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
قوله: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ» مبتدأ و «يًسَبحُونَ» خبره، والعامة على فتح عين العَرش وابن عباس في آخرينَ بضَمَّها. فقيل: يحتمل أن يكون جمعاً لعَرْش كسُقُفٍ في سَقْفٍ وقوله «مِنْ حَوْلِهِ» يحتمل أن يكون مرفوع المحل عطفاً على «الذين يحملون العرش» أخبر عن الفريقين بأنهم يسبحون، وهذا هو الظاهر، وأن يكون منصوب المحل عطفاً على «العَرْشِِ» يعني أنهم يحملون أيضاً الملائكة الحافين بالعرش، وليس بظاهر.
فصل
لما بين أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين بين أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافّون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين، فكأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تلفت إليهم ولا تُقِمْ لهم وزناً فإن حملة العرش معك، والحافّون من حول العرش ينصرونك وهم الكُرُبِيُّونَ، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمِائةِ عام، وروى جعفرُ بْنُ محمد عن أبيه عن جده أنهن قال: بين القائمةِ من قوائم العرش والقائمة الثانية خَفَقان الطير المسرع ثلاثين ألف عامٍ. وقال مجاهد: بينَ السماءِ الثانية وبين العرش سبعونُ ألف حجاب: حجاب من نور، وحجاب من ظلمة، وقال وهب بن منبه: إن حول العرشِ سبعونَ ألف صفٍّ من الملائكة، صفّ خلف صفّ يطوفون بالعرش.
قوله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} قال شهر بن حوشب: حملةُ العرش ثمانيةٌ، فأربعةٌ منهم يَقُولُون: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الحَمْدُ عَلَى حِلْمك بعد عِلْمك، وأربعةٌ منهم يقولون: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ لك الحمدُ على عَفْوِك بعْدَ قدْرَتِكَ؛ قال: وكأنهم يرون ذنوب بني آدَمَ.(17/13)
وقوله: «ويُؤمِنُونَ بِهِ» فيه سؤال وهو أن يقال: ما الفائدة في قوله «ويؤمنون به» مع أن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا بعد سبق الإيمان بالله؟
وأجاب الزمخشري: بأن المقصودَ منه التنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضراً لكان حملة العرش والحافون بالعرش يشاهدونه ويعاينونه، ولو كان كذلك لما كان إيمانهم بوجود الله موجباً للمدْجِ والثناء لأن الإقرارَ بوُجُود شيءٍ مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء، ألا ترى أن الإقرار بوجود المشس وبكونها مضيئةً لا يوجب المدح والثناء؟ فلما ذكر الله سبحانه وتعالى إيمانهم بالله على سبيل المدح والثناء والتعظيم دل على أنهم إنما آمنوا به مع أنهم ما شاهدوه حاضراً جالساً هُنَاكَ.
قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} اعلم أن كمال السعادة بأمرين:
أحدِهِمَا: التعظيم لأمر الله.
والثاني: الشفقة على خلق الله، ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدماً على الشفقة على خلق الله، فقوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} مشعر بالتعظيم لأمر الله، وقوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} مشعرٌ بالشفقة على خلق الله، واحتج كثير من العلماء بهذه الآية على أن المَلَكَ أفضلُ من البشر؛ لأنها دلت على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله تعالى بالثناء والتقدير اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون وهذا يدل على أنهم مستغنون بأنفسهم؛ إذ لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لاستغفروا لأنفسهم أولاً، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
«ابدأ بنفسك» ولقوله تعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 11] ٍ وقال عن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [نوح: 28] وهذا يدل على أن من كان محتاجاً إلى الاستغفار (فإنه يقدم الاستغفار لنفسه على الاستغفار لغيره والملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار) لاستغفروا لأنفسهم أولاً ثم استغفروا لغيرهم، ولما لم يذكر الله تعالى استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم لم يكونوا محتاجين إلى الاستغفار، وأما الأنبياء عليهم الصلاة واسلام فهم كانوا محتاجين إلى الاستغفار لقوله تعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» فظهر أن لملك أفضل من البشر والله أعلم.
قوله «رَبَّنَا» معمول لقول مضمر تقديره يقولون ربنا، والقول المضمر في محل(17/14)
نصب على الحال من فاعل «يستغفرون» أو خبرٌ بعد خبر، و «رَحْمَةً وعِلْماً» تمييز منقول من الفاعلية أي وسع كل شيء رَحْمَتُكَ وعِلْمُكَ. واعلم أن الدعاء في أكثر الأمر مذكور بلفظ «الرب» ؛ لأن الملائكة قالوا في هذه الآية «ربنا» ، وقال آدمُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] وقال نوحٌ: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح: 5] وقال {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 27] وقال إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] وقال: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] وقال يوسفُ {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك} [يوسف: 101] وقال مُوسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] وقال: { (رَبِّ) إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 16] وحكى عن داود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه استغفر ربه وخر راكعاً وقوله سلمانُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} [ص: 35] ، وحكى عن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه {نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} [مريم: 3] وقال عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} [المائدة: 114] وقال تعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} [المؤمنون: 97] وحكى عن المؤمنين أنهم قالوا: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ... .} [آل عمران: 191] .
فإن قيل: لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم خص لفظ الربِّ بالدعاء؟
فالجواب: بأن العبد يقول: كنتُ في العدم المحض والنفي الصِّرْفِ فأخرجتَنِي إلى الوجود وربَّيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك في أن لا تُخَلِّينِي طرفة عين عن تربيتك وإحسانك (وفضلك) ، لإجابة دعائي.
فإن قيل: قوله ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فيه سؤال، لأن العلم وسعَ كل شيء وأما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء؛ لأن المضرورَ حال وقوعه في الضرر لا يكون ذلك في حقه رحمة وهذا السؤال أيضاً مذكور في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] .
فالجواب: كل موجود فقد نال من رحمة الله نصيباً؛ لأن الوجود إما واجب وإما ممكن أما الواجب فليس إلا الله (سبحانه) وتعالى. وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده وذلك رحمة فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد حصل له نصيب من الرحمة(17/15)
فلهذا قال: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} هذه الآية دلت على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات.
قوله: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} دينك {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} .
فإن قيل: لا معنى للغُفْران إلا إسقاط العذاب وعلى هذا فلا فرق بين قوله «فاغْفِرْ لَهُمْ» وبين قوله {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} .
فالجواب: قولهم: فاغفر فيه رمز وإشارة لإسقاط العذاب، فلهذا أردفوه بذكره على سبيل التصريح تأكيداً ومبالغة.
واعلم أنهم لما طلوا من الله إزالة العذاب (عنهم) أردفوه بطلب إيصال الثواب إليهم فقالوا: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} .
فإن قيل: أنتم زعمتم أن الشفاعة إنما جعلت للمذنبين وهو الآية تُبْطِلُ ذَلِك، لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم جنات عَدْن.
فالجواب: (لا نسلم أنه) ما وَعَدَهُمْ بذلك، لأن الدلائل الكثيرة دلت على أنه لا يخلد أهل «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» في النار، وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعد من الله بأن يدخلهم جنات عدن إما من غير دخول النار، وإما بعد أن يدخلهم النار.
قوله: «وَمَنْ صَلَحَ» في محل نصب إما عطفاً على مفعول «أَدْخِلْهُمْ» وإما على مفعول «وَعَدتَهُمْ» وقال الفراءُ والزجاج نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في «أَدْخِلْهُمْ: وإن شئت على الضمير في» وَعَدتَهُمْ «. والعامة على فتح لام» صَلَحَ «يقال: صَلَحَ فهو صَالِحٌ، وابنُ أبي عبلة بضمها، يقال: صَلُحَ فَهُو صَلِيحٌ. والعامة على» ذرِّيّاتهم «جمعاً، وعيسى» ذُرِّيَّتهم «إفراداً. والمراد بقوله ومن صلح من أهل الإيمان.
ثم قالوا {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} . وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين، لأنه لو لم يكن عزيزاً بل كان بحيث يغلب ويمنع لما صح وقوع المطلوب منه ولو لم يكن(17/16)
حكيماً لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة.
ثم قالوا: بعد ذَلِكَ «وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ» (قال بعضُ المفسرين المراد منه عذاب السيئات.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير لا فرق بين قوله: «وقهم السيئات» ) وبين قوله {وقهم عذاب الجحيم} وحينئذ يلزم التكرار الخالي من الفائدة وهو لا يجوز!
فالجواب: أنّ التفاوت حاصلٌ من وجهين:
الأول: أن يكون قوله {وقهم عذاب الجحيم} ، دعاء مذكوراً (للأصُولِ وقوله «وقهم السيئات» دعاء مذكوراً) للفروع وهم الآباء والأزواج والذريات.
الثاني: أن يكون قوله {وقهم عذاب الجحيم} مقصوراً على إزالة عذاب الجحيم، وقوله «وقهم السَّيِّئَات» يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف القيامة والحساب والسؤال.
وقال بعض المفسرين: المراد: «وَقِهِم السيئات» هو أن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار بقولهم: «عذاب الجحيم» وطلبوا إيصال الثواب (إليهم) بقولهم: {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} ثم طلبوا بعده ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة بقولهم: «وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ» ثم قالوا {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} يعني من تقِ السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة، ثم قالوا {وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيماً لا ينقطع وبأفعالٍ حقيرة مُلْكاً لا تصل العقول إلى كُنْهِ جلالته والله أعلم.
قوله: «يَوْمَئِذٍ» التنوين عوض من جملة محذوفة، ولكن ليس في الكلام جملمة مصرحٌ بها عوض من هذه التنوين بخلاف قوله: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 84] أي حين إذْ بَلَغَتْ الحلقومَ لِتَقَدُّمِهَا في اللفظ فلا بدّ من تقدير جملة يكمون هذا عوضاً منهاتقديهر: يَوْمَ إذْ يُؤَاخَذُ بِهَا.
فَصْلٌ
قال مُطرفٌ: أنصحُ عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغشُّ الخلقِ للمؤمنين هم(17/17)
الشياطين، قال سعيد بن جبير في تفسير قوله {من صلح من آبائهم} يدخل المؤمن الجنة فيقول: ابن أبي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي؟ فيقال لهم: إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول: إن كنت أعمل لي ولهم فيقال: أدخولهم الجنة.(17/18)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ} أي يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفهسم حين عرض عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم: {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ} أي لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم عند دُخُول العذاب قال البغوي.
واعلم أن الله تعالى عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله، وهم المذكورون في قوله {مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} [غافر: 4] وبين أنهم في القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط مِنْهُمْ.
قوله «إذْ تُدْعَوْنَ» منصوب بمقدر يدل عليه (هذا الظاهر، تقديره مقتكم إذ تدعون، وقدّره بعضهم: اذكروا إذ تدعون) . وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً بالمقت الأول. ورد عليه أبو حيان بأنه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي وهو الخبر، وقال: هذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تَخْفَى على المُبْتَدِىءِ، فضلاً عن من يَدَّعِي من العجم أنه شيخ العرب والعجم، قال شهاب الدين: وَمِثْلُ هذها لا يفخى على أبع القاسم، وإنما أراد أنه دال على ناصبه، (و) على تقدير ذلك(17/18)
فهو مذهب كوفي ق به. أو لأن الظَّرْفَ يُتَّسَحُ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيره، وأيُّ غموض في هذا محتى يُنْحي عليه هذا الإنحاء؟ ولله درّ القائل:
4321 - حَسَدُوا الفَتَى إذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ ... فالقَوْمُ أعْتدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ
كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا ... كَذِباً وَزُوراً إنَّهُ لَذَمِيمُ
وهذا الرد سبقه إليه أبو البقاء فقال: ولا يجوز أن يعمل فيه مقت الله؛ لأنه مصدر أخبر عنه وهو قوله «أَكْبَرُ» فمن ثم أخذه أبو حيان، ولا يجوز أن ينتصب بالمقت الثاني لأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت دعائهم إلى الإيمان إنما مَقتُوهَا يَوْمَ القيامة. والظاهر أن «مقت الله» واقع في الدنيا كما تقدم في تفسير الآية. وجوز الحسن أن يكون في الآخرة وضعفه أبو حيان بأنه يبقى «إذْ تُدْعَوْنَ» مفلّتاً من الكلام لكونه ليس له عامل مقدم فلا يفسر قائلاً فإذا كان المقت في الدنيا أمكن أن يضمر له عامل تقديره (مقتكم) . قال شهاب الدين: وهذا التجري على مثل الحسن يهون عليك تَجَرِّيه على الزمخشري ونحوه.
واللام في «لَمَقْتُ» لام اتبداء، أو قسم، ومفعوله محذوف أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم فهو مصدر مضاف لفاعله كالثاني. ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع في «أنفسكم» بين المقتين؛ لئلا يلزم الفصل بالخبر بين المقت الأول ومعموله على تقدير إعماله.
لكن قد اختلف النحاة في مسألة وهي التنازع في فِعْلَي التعجب فمن منع اعتل بما ذكرته لأنه لا يُفْصَلُ بين فعل التعجب ومعموله، ومن جوز فقال: يلتزم (إعمال) الثاني حتى لا يلزم الفصل فليكن هذا منه، والحق عدم الجواز فإنَّه على خلاف قاعدة التنازع.(17/19)
فصل
ذكروا في تفسير مقتهم أنفسهم وجوهاً:
الأول: أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا.
الثاني: أن الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دَعَوْهُم إلى الكفر في الدنيا، والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم كقوله تعالى: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ، والمراد قتل بعضهم بعضاً.
الثالث: قال محمد بن كعب (القُرَظِيّ) : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} إلى قوله: {ولوموا أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم، وأما الذين ينادُون الكفار بهذا الكلام فهم خزنةُ جَهَنَّمَ.
فصل
المقت: أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال، فالمراد منه الإنكار والزجر، قال الفراء قوله {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله} معناه ينادون أن مقت الله، يقال: ناديت إن زيداً قائمٌ، وناديت لَزَيْدٌ قائم.
ثم إنه تعالى بين أن الكفار إذا خوطبوا بهذا الخطابُ قالوا: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ... . .} الآية: «اثنتين» نعت مصدر محذوف تقديره إمَاتَتَيْنِ اثْنَتَيْن. قال عباس وقتادة والضحاك: كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للعبث يوم القيامة فهما موتان وحياتان، وهو كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] . وقال السديّ: أميتُوا في الدنيا ثم أُحْيُوا في قبورهم للسؤال ثم أميتُوا في قبورهم، ثم أُحْيُوا في الآخرة. وقوله {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} أي من خروج من النار إلى الدنيا فنصلح ِأعمالنا ونعمل بطاعتك، وَمَّر نظيرُ: {هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 44] والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليشتغلوا بالأعمال الصالحة.
فإن قيل: الفاء في قوله: «فاعْتَرَفْنَا» يقتضي أن تكون الإماتةُ مرتين (والإحياءُ مرتين) سبباً لهذا الاعتراض فما وجه هذه السَّبَبِيَّةِ؟ .(17/20)
فالجواب: لأنهم كانوا منكرين البعث فلما شاهدوا هذا الأحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن تلك الإماتة والإحياء.
واعلم أنهم لما قالوا فهل إلى خروج من سبيل فالجواب الصريح عنه أن يقال: لا أن نعم وهو تعالى لم يَقُلْ ذلك بل قال كلاماً يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج وهو قوله {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب والخلود من النار وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط إنما وقع بسبب كفرهم بتوحيد الله، أي إذا قيل لا إله إلا الله كفرتم وقلتمْ
{أَجَعَلَ
الآلهة
إلها
وَاحِداً} [ص: 5] {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ} أي تصدقوا ذلك الشرك.
قوله «وَحْدَهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال، وجاز كونه معرفة لفظاً لكونة في قوة النكرة، كأنه قيل: منفرداً.
والثاني وهو قول يُونُسَ: أنه منصوب على الظرف والتقدير: دُعِيَ عَلَى حِيَالِهِ. وهو مصدر محذوف الزوائد، والأصل أوْحَدتُهُ إيحاداً.
قوله «فَالحُكْمُ للهِ» حيث حكم عليكم بالعذاب السَّرْمَدِ. وقوله: «العَلِيِّ الكِبِيرِ» يدل على الكبرياء والعظمة الذي لا أعلى منه ولا أكبر.(17/21)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
قوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} ليدل على كمال قدرته وحكمته وأنه لا يجوز(17/21)
جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصور شركاء لله تعالى في المعبودية، ثم قال {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً} يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرٍ «ينزل» خفيفة والباقون بالتشديد.
واعلم أن أهم المُهّمات رعايةُ مصالح الأديان ومصالح الأبدان، فالله تالى يراعي مصالح أديان العباد بإظهار البَيِّنات والآيات وراعى مصالح العباد بأبدانهم بإنزال الرزق من السماء فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان وعند حصولها يحصل الإنعام الكامل.
ثم قال: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} أي ما يتعظ بهذه الآيات إلا من يرجع إلى الله في جميع أموره فيعرض عن غير الله ويقبل الكليّة على الله تعالى ولهذا قال {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} عن الشرك وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ.
قوله تعالى: «رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ» فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مبتدأ والخبر «ذو العرش» و «يُلْقِي الروح» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً، ويجوز أن يكونَ الثلاثة أخباراً لمبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون الثلاثة أخباراً لقوله {هُوَ الذي يُرِيكُمْ} قال الزمخشري: ثلاثة أخبار يجوز أن تكون مترتبة على قوله {هو الذي يريكم} أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً، قال شهاب الدِّين: أما الأول ففيه طول الفصل وتعدد الأخبار، وليست في معنى خبر واحد، (وأما الثاني ففيه تعدد الأخبار وليس في معنى واحد) وهي مسألة خلاف ولا يجوز أن كيون «ذُو العَرْشِ» صفة «لِرَفيعِ الدرجات» إن جعلناه صفة مشهبة، أما إذا جعلناه مثال مبالغة أي يرفع درجات المؤمنين فيجوز ذلك على أن يجعل إضافته محضة، وكذلك عند من يُجَوِّزُ تَمَحُّضَ إضافة الصفة المشبهة أيضاً. وقد تقدم، وقرىء «رَفِيعَ» بالنصب على المدح.
فصل
لما ذرك من صفات كبريائه كونه مظهراً للآيات منزلاً للأرزاق ذكر في هذه الآية(17/22)
ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله رفيع الدرجات وهذا يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع، فإن حملناهُ على الأول ففيه وجوه:
الأول: أن الله يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة.
والثاني: يرفع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة فجعل لكل أحد من الملائكة درجةً معيّنة كما قال: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} الصافات: 164] ، وجعل لكل أحد من العلماء درجة معينة فقال تعالى: {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وعين لكل جسم درجةً معينة فجعل بعضها سُفْليّة كدرة، وبعضها فلكية كوكبية، وبعضها من جواهر العرش والكرسي، وأيضاً جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخَلْقِ والخُلُقِ والرزق والأجل فقال:
{وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة وفي الآخرة تظهر تلك الآثار. وإن جعلنا «الرفيع» على «المرتفع» فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال. وقوله «ذُو العرْشِ» أي خالقه ومالكه ومدبره، و «يُلْقِي الرُّوح» أي ينزل الوحي من السماء روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح وقوله «مِنْ أَمْرِهِ» متعلق ب «يُلْقِي» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حَالٌ من «الروح» .
فصل
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما معنى من أمره أي من قضائه، وقيل: من قوله. وقال مقاتل بأمره على من يشاء من عباده. وقلوه: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} العامة على بنائه للفاعل، ونصب اليوم والفاعل هو الله تعالى أو الروح أو «مَنْ يَشَاءُ: أو الرسول، ونصب» اليوم «إما على الظرفية والمُنْذَرُ به محذوف تقديره لينذر العذابُ يوم التلاقي، وإما المفعول به اتساعاً في الظرف وقرأ ابيّ وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازاً أي لينذر الناس العذاب يوم التلاق. وقرأ الحسن واليمانيّ» لتنذر «بالتاء من فوق وفيه وجهان:
أحدهما: أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(17/23)
والثاني: أن الفاعل ضمير الروح فِإنها مؤنثة على رأيٍ.
وقرأ اليماني أيضاً» لينذر «مبنياً للمفعول» يوم «بالرفع وهي تؤيد نصبه في قراءة الجمهور على المفعول به اتساعاً. وأثبت ياء» التلاق «وصلاً ووقفاً ابن كثير، وأثبتها في الوقف دون الوصل من غيلا خلاف ورشٌ، وحذفهنا الباقون وصلاً ووقفاً إلا قَالُونُ، فإنه روي عنه وجهان، وجهٌ كورشٍ، ووجه كالباقين، وكذلك هذا الخلاف بعينه جارٍ في» يَوْم التَّنَادِ «. وقد تقدم توجيه هنذه الوجيهن في الرَّعْد في قوله: {الكبير المتعال} [الرعد: 9] .
قوله» {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} في «يوم» أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه بدل من «يوم التلاق» بدل كل من كل.
الثاني: أن ينتصب بالتلاق أي يقع التلاق في يوم بُرُوزِهمْ.
الثالث: أن ينتصب بقوله لا يَخْفَى عَلَى اللهِ (مِنْهُمْ شَيْءٌ) ذكره ابن عطية. وهذا على أحد الأقوال الثللاثة في «لا» هل يعمل ما بعدها فيما قبلها؟ ثالثها التفصيل بين أن تقع جواب قسم فيمتنع أو لا فيجوز هذا على قولين من هذه الأقوال.
الرابع: أن ينتصب بإضمار «اذكر» و «يوم» ظرف مستقبل «كإذا» .
وسيبويه لا يرى إضافة الظرف المستقبل إلى الجمل الاسمية والأخفش يراه ولذلك قدر سيبويه في قوله {إِذَا السمآء انشقت} [الإنشقاق: 1] ونحوه فعلاً قبل الاسم، والأخفش لم يقدرْه، وعلى هذا فظاهر الآية مع الأخفش. ويجاب عن سيبويه بأن «هُمْ» ليس مبتدأ بل مرفوعاً بفعل محذوف(17/24)
يفسره اسمُ الفاعل، أي يوم برزوا ويكون «بارزون» خبرَ مبتدأ مضمر، فلما حذف الفعل انفصل الضمير فَبَقِيَ كما ترى، وهذا كما قالوا في قوله (رَحِمَهُ اللهُ) :
4322 - لَوْ بغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بِالمَاءِ اعْتِصَارِي
في أَنَّ «حَلْقِي» مرفوعٌ بفعل يفسره «شَرِقٌ» ؛ لأنَّ «لَوْ» لا يليها إلا الأفعال، وكذا قوله (شعرا)
4323 - ... ... ... ... ... ... ... . ... إليَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِيعُها
لأنَّ «هَلاَّ» لا يليها إلا الأفعال، فالمفسَّر في هذه المواضع ِأسماء مشتقة وهو نظير: أنا زَيْداً أضَارِبُهُ من حين التفسير، وحركة «يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ» حركة إعراب على المشهور، ومنهم من جوز بناء الظرف وإن أضيف إلى فعلٍ مضارع أو جملة اسمية هعي وهم الكوفيون، وقد وَهَمَ بعضُهم فَحَتَّم بناء الظرف المضاف للجمل الاسمية وقد تقدم أنه لا يبنى عند البصريين إلا ما أضيف إلى (فعل) ما نُصضَّ كقوله:
4324 - عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ ... ... ....... ... ... ... ... ... ... ... ... .(17/25)
وتقدم هذا مُسْتَوْفًى في آخر المائدة.
وكتبوا «يَوْمَ» هنا وفي الذاريات منفصلاً، وهو الأصل.
قوله: {لاَ يخفى عَلَى الله} يجوز أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً من ضمير «بَارِزُونَ» ، وأن تكومن خبراً ثانياً.
فصل
قال بعض المفسرين: يوم التلاق هو يوم يلتقي أهلُ السماء وأهل الأرض. وقال قتادة ومقاتل: يلتقي الخلق والخالق. وقال بن زيد: يتلاقى العباد. وقال مَيْمُونُ بْنُ مَهْرَانَ: يلتقي الظالم والمظلوم، وقيل: يلتقي العابد والمعبود، وقيل: يلتقي فيه المرء مع عمله، وقيل: يلتقي الأرواح مع الأجساد، بعد مفارقتها إياها يوم هم بارزون، كناية عن ظهور أعمالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى: {يَوْمَ تبلى السرآئر} [الطارق: 9] .
{لا يخفى على الله منهم} أي من أحوالهم شيء ويقول الله سبحانه بعد فناء الخلق «لمن الملك اليوم» فلا يجيبه أحد فيتجيب نفسه فيقول {لِلَّهِ الواحد القهار} الذي قهر الخلق بالموت.
فإن قيل: الله تعالى لا يخفى عليه شيء منهم في جميع الأيام فما معنى تقييد هذا العلم بذلك اليوم؟ .
فالجواب: أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحِيطَان والحُجُب أن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حالة لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه في الدنيا، كما قال تعالى: {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ}
[فصلت: 22] ، وقال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] وهو معنى قوله: {وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] .
فصل
قال المفسرون: إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى: لِمن الملك اليوم؟ يعني يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فهو تعالى يجيب نفسه فيقول: لله الواحد القهار، قال ابن الخطيب: قال أهل الأصول هذا القول ضعيف من وجوه:(17/26)
الأول: أنه تعالى بين أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق يوم هم بارزون، ويوم تجزى كل نفس ما كسبت، والناس في ذلك الوقت أحياء فبطل قولهم إنما ينادى هذا النداء حين يَهْلِكُ كُلُّ من في السموات ومن في الأرض.
الثاني: أن الكلام لا بد فيه من فائدة؛ لأن الكلام إما أن يذكر حالَ حُضُور الغير أو حالَ ما لا يَحْضُرُ الغير، والأول باطل ههنا؛ لأن القوم قالوا: إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل. والثاني أيضاً باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأن يحفظ به شيئاً كتكريره على الدرس وذلك على الله تعالى محال أو لأجل أن يعدي الله بذلك الذكر وهذا ايضاً على الله تعالى محال فثبت (أن) قولهم: إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل، وقال بعض المفسرين: إنه في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى منادٍ: لمن الملك اليوم؟ فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة: لله الواحد القهار، فالمؤمنون يقولونه تلذذاً بهذا اللكلام حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة، والكفار يقولونه تحسراً وصَغَاراً وندامةً على تفويتهم هذا الذكر في الدنيا، وقال القائلون بهذا القول الأول عن ابن عباس وغير إن هذا النداء بعد هلاك البشر لم يمنع أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء ويجيبون بقولهم: لله الواحد القهار. وقال ابن الخطيب: أيضاً على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى، ولا يعبد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمع آخرون وليس على التعهيين دليل.
قوله: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} يجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته {لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} .(17/27)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة ... } والمقصود بها وصف يوم القيامة، ويوم الآزفة يجوز أن يكون مفعولاً به اتساعاً، وأن يكون ظرفاً، والمفعول محذوف، والآزفة فاعلة من أَزِفَ الأمْرُ إذا دنا وحضر، كقوله في صفة القيامة {أَزِفَتِ الآزفة} [(17/27)
النجم: 57] . أي قربت، قال النابغة الشاعر (رحمة الله عليه) :
4325 - أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنا ... لَمَّا تَزَلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
وقال كعب بن زهير:
4326 - بانَ الشَّبَابُ وهذا الشَّيْبُ قَدْ أَزِفَا ... وَلاَ أَرَى لِشَبَابٍ بَائِنٍ خَلَفَا
وقال الراغب: وأَزِفَ، وأَفِدَ يَتَعَاقَبَانِ، ولكن أَزِفَ يقال اعتباراً بضيق وقتها، ويقال أزف الشخوص، والأَزْفُ ضيقُ الوقت. قال شهاب الدين، فجعل بينهما فَرْقاً، ويروى بيت النابغة أَفِدَ والآزفة صفة لموصوف محذوف، فيجوز أن يكون التقدير الساعة الآزفة، أو الظلمة الآزفة، وقوله: «إذِ القُلُوبُ» بدل من «يوم الآزفة» أو من «هُمْ» في «أَنْذِرْهُمْ» بدل اشتمال.
فصل
المقصود من الآية التنبيه على أن يوم القيامة قريب، ونظيره قوله تعالى: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] قال الزجاج: إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها وما هو كائنٌ فهو قريب.
واعلم أن الآزفة نعت لمحذوف مؤنث فقيل: يوم القيامة الآزفة، أو يوم المجازاة الآزفة، قال القفال: وأسماء القيامة تجري على التأنيث كالطامة والحاقة ونحوها، كأنها يرجع معناها على الداهية.
وقيل: المراد بيوم الآزفة مُشَارَفَتُهُمْ دخول النار، فإن عند ذلك ترتفع قلوبهم(17/28)
عن مقارِّها من شدة الخوف، وقال أبو مسلم: يوم الآزفة يوم حضور الأجل لأنه تعالى وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق ويوم هم بارزون، ثم قال بعنده: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة} فوجب أن يكن ذلك اليوم غير ذلك اليوم وأيضاً فهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات بيوم الموت قال تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} [الواقعة: 83] ، وقال {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي} [القيامة: 26] وأيضاً فوصف يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب، وأيضاً فالصفات المذكمورة بعد قوله: «يوم الآزفة» لائقة بيوم حضور المنية؛ لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب يَعْظُمُ خَوْفُهُ، فكأنّ قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف وبَقُوا كَاظِمِينَ ساكتين عن ذكر ما في قلوبهم من شدة الخوف، ولايكون لهم من حميم ولا شفيع يطاع ويدفع ما به من أنواع الخوف والقلق.
قوله: «كَاظِمينَ» نَصْبٌ على الحال، واختلفوا في صاحبها والعامل فيها، فقال «كاظمين» وهو أن يكون لما أسند إليهم ما يسند للعقلاء جمعت جمعه كقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] و {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] ويُعَضِّدُهُ قراءة من قرأ: «كَاظِمُونَ» .
الثاني: أنها حال من «القلوب» وفيه السؤال والجواب المتقدمانِ، والمعنى أن القلوب كاظمة عن كَرْبٍ وغَمٍّ مع بلوغها الحناجر.
والثالث: أنه حال من أصحاب القلوب قال الزمخشري: هو حال من أصحاب القلوب على المعنى؛ إذ المعنى إذ قلوبهم لدى الحناجر كاظمينَ عليها. اقل شهابُ الدين: فكأنه في قوة أن جعل «أل» عوضاً من الضمير في حناجرهم.
الرابع: أن يكون حالاص من «هم» في «انذرهم» ويكون حالاً مقدرة لأنهم وقت(17/29)
الإنذار غير كاظمين، وقال ابن عطية: كاظمين حال مما أبدل منه «إذ القُلُوب» أو مما يضاف إليه القلوب؛ إذ المراد إذ قُلُوب الناس لدى حناجرهم، وهذا كقوله {تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار مُهْطِعِينَ} [إبراهيم: 42، 43] أراد تشخيص فيه أباصرهم قال شهاب الدين: ظاهر قوله أنه حال مما أبدل منه قوله: «إذ القلوب» مشكل؛ لأنه أبدل من قوله: «يَوْم الآزفة» وهذا لا يصح البتَّة، وإنما يريد على الوجه الثاني وهو أن يكون بدلاً من «هُمْ» في أَنْذِرْهُمْ بدل اشتمال وحينئذ يصح، وقد تقدم الكلام على الكظم والحناجر في آل عمران والأحزاب.
فصل
قيل: المراد بقوله {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ} شدة الخوف والفزع ونظيره قوله {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10] وقال: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 83 و84] . وقال الحسن: القلوب تنتزع من الصدور لشدة الخوف وبلغت القلوب الحناجر فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواقعها فيتنفّسوا ويَتَرَّوَحُوا، وقوله: (كاظمين) أي مكروبين، والكاظم الساكت حال امتلائه غماً وغيضاً والمعنى أنهم لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الخوف والحزن وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب.
قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} قريب ينفعهم {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} فيشفع لهم. وقوله «يُطَاعُ» يجوز أن يحكم على موضعه بالجر نعتاً على اللفظ، وبالرَّفع نعتاً على المحل لأنه معطوف على المجرور بمن المزيدة، وقوله {ولا شفيع يطاع} من باب:
4327 - عَلَى لاَ حِبٍ لا يُهْتَدَى بمَنَارِهِ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(17/30)
أي لا شفيع فلا طاعة، أو ثم شفيع ولكن لا يطاع.
فصل
احتجت المتعزلة بهذه الآية في نفي الشفاعة عن المذنبين فقالوا نفى حصول شفيع لهم يطاع فوجب أن لا يحصل لهم هذا الشفيع وأجيبوا بوجوه:
الأول: أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع وهذا لا يدل على نفي الشفيع، كقولك: ما عندي كتاب يباع فيقتضي نفي كتاب يباع ولا يقتضي نفي الكتاب، قال الشاعر:
4328 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أو لفظ الطاعة بمعنى حصول المرتبة فهذا يدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله، لأن ليس في الوجود أحد أعلى حالاً من الله سبحانه وتعالى حتى يقال: إن الله تعالى يطيعه.
والثاني: أن المراد بالظالمين ههنا: الكفار، لأن هذه الآية وردت في زجر الكفار وقال تعالى:
{إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
الثالث: أن لفظ الظالمين إما أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد الاستغراق فإن كان المراد من الظالمين مجموعهم فيدخل في هذا المجموع هم الكفار وليس لهم شفيعٌ فحنيئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع، وإن لم يفد الاستغراقَ كان المراد من الظالمين بعضَ الموصوفين بهذه الصفة وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيعٌ وهم الكفار.
وأجاب (بعض] المعتزلة عن الأول فقالوا: يجب حمل كلام الله تعالى على محملٍ مفيد وكل أحد يعلم أنه ليس في الوجود شيء يطيعه الله لأن المطيع أدون حالاً من المطاع وليس في الوجود أعلى درجة من الله حتى يقال: إن الله يطيعه، وإذا كان هذا المعنى معلوماً بالضرورة كان حمل الآية عليه إخراجاً لها عن الفائدة، فوجب حمل الطاعة على الإجابة ويدل على أن لفظ الطاعة بمعنى الإجابة قولُ الشاعر:
4329 - رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ ... قَدْ تَمَنَّى لِيَ موتاً لَمْ يُطَعْ(17/31)
وعن الثاني: بأن لفظ «الظالمين» صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم، أَقْصَى ما في الباب أن هذه الآية وردت لذم الكافر، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعن الثالث أن قوله: {ما للظالمين من حميم} يفيد أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع يطاع.
وأجيبوا عن الأول بأن القوم كانوا يقولون في الأصنام: إنها شفعاؤهم عند الله، وكانوا يقولون: إنها تشفع لهم عند الله من غير حاجة إلى إذن فلهذا السبب رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] فهذا يدل على أن القوم اعتقدوا أنه يجب على الله تعالى إجابة تلك الأصنام في الشفاعة وهذا نوع طاعة فالله تعالى نفى تلك الطاعة بقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} . وعن الثاني بأن قالوا: الأصل في حرف التعريف أن ينصرف إلى المعهود السابق فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع وكان هناك معهود سابق انصرف إليه، وقد حصل في هذه الآية معهود سابق وهم الكفار الذين يجادلون في آيات الله فوجب أن ينصرف إليهم. وعن الثالث بأن قالوا قوله: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} يحتمل عموم السلب، ويحتمل سلب العموم، أما الأول: فعلى تقدير أن يكون المعنى أنّ كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم، ولا شفيع. وأما الثاني: فعلى تقدير أن يكون مجموع الظالمين ليس لهم حميم ولا شفيع، ولا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كل واحد من آحاد ذلك المجموع، ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
[البقرة: 6] وقوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96] فإن حملناه على أن كل واحد منهم محكوم عليه بأنه لايؤمن لزم وقوع الخُلْفِ في كلام الله تعالى؛ لأن كثيراً ممن كفر قد آمن بعد ذلك، أما لو حملناه على أنّ مجموع الذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن صدق وتخلص عن الخُلف، فلا جَرَمَ حلمنا هذه الآية على سلب العموم لا على عموم السلب وحينئذ يسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية.
قوله «يَعْلَمُ» فيه أربعة أوجه:
أظهرها: أنه خبر آخر عن «هو» في قوله {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [غافر: 13] ، قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: بم اتصل قوله {يعلم خائنة الأعين} قلتُ: هو خبر من أخبار «(17/32)
هو» في قوله {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [غافر: 13] مثل «يُلْقِي الرُّوْحطَ» ولكن «يلقي الروح» قد علل بقوله «لِيُنْذِرَ» ثم استطرد لذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله «ولا شفيع يطاع» فبعد لذلك عن أخواته.
الثاني: أنه متصل بقوله «وأنْذِرْهُمْ» لما أمر بإنذاره يوم الآزمة وما يعرض فيه من شدة الغمِّ والكَرْبِ وأن الظالم لا يجد من يحميه ولا شفيع له، ذكر اطِّلاعَهُ على جميع ما يصدر من الخلق سِرًّا وجهراً إذ المعنى أنه تعالى عالم لا يخفى عليه مثقالُ ذرة في السموات والأرض، والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد كان خوف المذنب شديداً جداً وعلى هذا فهذه الجملة لا محل لها لأنها في قوة التعليل للأمر بالإنذار.
الثالث: ِأنها متصلة بقوله: «سَرِيع الحِسَابِ» .
الرابع: أنها متصلة بقوله: {لاَ يخفى عَلَى الله} [غافر: 16] وعلى هذين الوجهين فيحتمل أن تكون جارية مجرى العلة، وأن تكون في محل نصب على الحال.
و «خَائِنَة الأَعْيُنِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة (والعافية) أي يعلم خيانة الأعين أي استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب.
والثاني: أنها صفة على بابها وهو من باب إضافة الصفة للموصوف والأصل الأعينُ الخائنة كقوله:
4330 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وإنْ سَقَيْتِ كِرَامَ النَّاسِ فاسْقِِينَا
وقد رده الزمخشري وقال: لا يحسن أن يراد الخائنةَ من الأعين لأن قوله: {وَمَا تُخْفِي الصدور} لا يساعد عليه يعنهي أنه لا يناسب أن يقابل المعنى إلا بالمعنى.(17/33)
وفيه نظر؛ أذ لقائل أن يقول لا نسلم أن «ما» في قوله {وما تخفي الصدور} مصدرية حتى يلزم ما ذكره، بل يجوز أن يكون بمعنى الذي وهو عبارة عن نفس ذلك الشيء المخفي فيكون قد قابل الاسم غير المصدر بمثله، والمراد بقوله: {وما تخفي الصدور} أي تضمر القلوب.
واعلم أن الأفعال قسمان: أفعال الجوارح، وأفعال القلوب، وأما أفعال الجوارح فأخفاها خائنة الأعين والله بهات فكيف الحال في سائر الأعمال، وأما أفعال القلوب فهي معلومة لله تعالى لقوله {وَمَا تُخْفِي الصدور} فدل هذا على كونه عالماً بجميع أفعالهم.
قوله {والله يَقْضِي بالحق} وهذا أيضاً يوجب عظم الخوف لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوال وثبت أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل كان خوف المذنب منه في الغاية القُصْوَى.
قوله: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ» ، قرأ نافعٌ وهشامٌ تَدْعَونَ بالخطاب للمُشْرِكِين والباقون بالغيبة، إخباراً عنهم بذلك.
واعلم أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام فبين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة، فقال: {الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} ثم قال: {إِنَّ الله هُوَ السميع البصير} أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام، ولا يسمع ثناءهم على الله ويبصر خضوعهم وسجودهم، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله.(17/34)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
ولما بالغ في تخويفهم بأحوال أهل الآخرة أردفه بيان تخويفهم بأحوال أهل الدنيا فقال {أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ} والمعنى أن العال من اعتبر بغيره، فإن الذين مَضَوْا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار، وأقوى آثاراً في الأرض أي حصونهم وقصورهم وعساكرهمخ، فملا كذبوا رسلهم أهلكهم الله عاجلاً حتى إن هؤلاء الجاحدين من الكفار شاهدوا تلك الآثار(17/34)
فحذرهم الله من مثل ذلك وقال {وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} [الرعد: 34] أي لما نزل العذاب بهم لم يجدوا مُعِيناً يخلصهم.
قوله «فَيَنْظُرُوا» يجوز أن يكون منصوباً في جواب الاستفهام، وأن يكون مجزوماً نَسَقاً على ماقبله كقوله:
4331 - أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الرُّسُومُ..... ... ... ... ... ... ... ...
رواه بعضهم بالجزم، والنصب.
قوله «مِنْهُمْ» قُوَّةً «قرأ ابن عامر» مِنْكُمْ «على سبيل الالتفات، وكذلك هو في مصاحفهم، والباقون» منهم «بمضير الغيبة جرياً على ما سبق من الضمائر الغائبة.
قوله:» وَآثاراً «عطف على» قوة «وهو في قوة قوله» وَتَنْحتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ «. وجعله الزمخشري منصوباً بمقدر، قال: أو أراد أكثر آثاراً كقوله:» مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً « (يعني وَمُعْتَقِلاً رُمْحاً) ؟ ولا حاجة إلى هذا مع الاستغناء عنه.
قوله» ذَلِكَ «أي ذلك العذاب الذي نزل بهم {بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} وهو مبالغة في التخويف والتحذير.(17/35)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا ... } الآيات. لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم سلاه أيضاً بذكر قصة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأنه مع قوته ومعجزته بعثه إلى فِرْعَوْنَ وهامانَ وقارونَ فكذبوه، وقالوا: ساحر كذاب، فلما جاءهم بالحق من عندنا أي بتلك الآيات الباهرة والسلطان المبين وهو المعجزات القاهرة قالوا يعني فرعون وقومه اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه، قال قتادة: هذا غير القتل الأول؛ لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الوِلْدَانِ فلما بعث موسى دعا بالقتل عليهم لئلا ينشأوا على دين موسى فيقوَى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات فلهذا أمر بقتل الأبناء واسْتَحْيُوا نِساءهم ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى ومظاهرته ثم قال: {وَمَا كَيْدُ الكافرين} أي وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم إلا في ضلال.
قوله {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى} أي وقال فرعون لِمَلئِهِ {ذروني أَقْتُلْ موسى} فتح ابن كثير ياء «ذروني» وسكنها الباقون. وإنما قال فرعون ذلك؛ لأنه كان في خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتل موسى وفي منعهم من قتله احتمالان:
الأول: أنهم منعوه من قتله لوجوه:
الأول: لعله كان فيه من يعتقد بقلبه كون موسى صادقاً فيتحيل في منع فرعون من قتله.
وثانيهما: قال الحسن: إن أصحابه قالوا له: لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا(17/36)
يمكن أن يغلب سَحَرَتَنَا وإن قَتَلْتَهُ أدخلتَ الشبهةَ على الناس ويقولوا: إنه كان محقاً وعجزا عن جوابه فقتلوه.
وثالثها: أنهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام؛ لأن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكِهِم بخصمٍ خارجي حتى يصيروا آمنين من قلب ذلك الملك.
الاحتمال الثاني: أن أحداً ما منع فرع من قتل موسى وأنه كان يريد قتله، إلا إنه كان خائفاً من أنه لو حاول قتله لظهرت معجزات قاهرات تمنعه من قتله فيفتضح إلا أنه ق ذروني أقتل موسى وغرضه منه إخفاء خوفه.
قوله: «ولْيَدْعُ رَبَّهُ» أي وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله فيمنعه منا؛ ذكر ذلك استهزاءًا.
قوله {إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد} قرأ الكوفيون ويعقوبُ (أو أن) بأو التي للإبهام ومعناه أنه لابد من وقوع أحد الأمرين والباقون بواو النسق على تسلط الخوف من التبديل وظهور الفاسد معاً. وفتح نافع وابن كثير وابو عمرو الياء من «إِنِّي أخاف» ؛ وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص «يُظْهر» بضم الياء وكسر الهاء من أظهر، وفاعله ضمير موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «الفَسَادَ» نصباً على المفعول به والباقون بفتح الياء والهاء من ظَهَرَ الفسادُ، «الفَسَادُ» رفعاً، وزيد بن علي يُظْهَرُ مبنياً للمفعول الفَسَاد مرفوع لقيامه مقام الفاعل ومجاهد «يَظَّهَّر» بتشديد الظاء والهاء، وأصلها يَتَظَهَّر من تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء، «الفسادُ» رفع على الفاعلية.
فصل
ذكر فرعونُ النسبَ الموجبَ لقتل موسى وهو أن المُوجِبَ لقتله إما فساد الدين أو فساد الدنيا، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو دينهم الذي كانوا عليه، فلما كان موسى ساعياً في إفساده اعتقدوا أنه ساع في إفساد الدين الحق، وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سبباً لوقوع الخصومات وإثارة الفتن، ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبّهم لأمالهم لا جَرَمَ بدأ فرعونُ بذكر الدين فقال: {إني أخاف أن يبدل(17/37)
دينكم} ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال أو أن يظهر في الأرض الفاسد.
قوله: {وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ} قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة واكسائي عُدتّ بإدغام الذال، والباقون بالإظهار. وقوله «لاَ يُؤْمِنُ» صفة «لِمُتَكَبِّرٍ» .
فصل
لما توعد فرعونُ موسى بالقتل لم يأت في دفع شره إلا بأن استعاذ بالله واعتمد على فضل الله فلا جَرَمَ صانه الله وحفظه منه. واعلم أن الموجب للإقدام على أيذاء الناء أمران:
أحدهما: كون الإنسان متكبراً قاسِيَ القلب.
والثاني: كونه منكراً للعبث والقيامة.
لأن المتكبر القاسي القلب قد يحمله طبعه على إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقرّاً بالبعث والحساب صار خوفه من الحساب مانعاً له من الجري على موجب تكبّره فإذا لم يحصل له الإيمان بالبعث والقيامة كان طبعه داعياً له إلى الإيذاء، لأن المانع وهو الخوف من السؤال والحساب زائلٌ فلا جَرَمَ تعظيم القَسْوةُ والإيذاء.
وقوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} اختلفوا في هذا المؤمن، قال مقاتل والسدي: كان قبطياً. (وقيل) ابن فرعون، وهو الذي حكى الله عنه {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} [القصص: 20] وقيل: كان إسرائيلياً، روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: الصديقون حبيب النجار مؤمن آل ياسين ومؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم، وعن جعفر بن محمد أنه قال: كان أبو بكر خيرا من مؤمن آل فرعون، لأنه كان يكتم إيمانه، وقال أبو بكر جهاراً أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وكان ذلك سراً، وهذا جهراً. روى عروةُ بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنعهُ المشركون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «بَيْنَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عبقةُ بن أبي مُعَيْط فأخذ يمنكب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً وأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟» .
قال بان عباس وأكثر العلماء كان اسم الجرل خزييل. وقال ابن إسحاق جبريل، وقيل حبيب.(17/38)
قوله: «رَجُلٌ مُؤْمِنٌ» الأكثرون قرأُوا بضم الجيم، وقرىء رَجِلَ بكسر الجيم كما يقال: عَضِدٌ في عَضُدٍ. وقرأ الأعمش وعبد الوارث بتسكينها وهي لغة تميمٍ ونجد والأولى هي الفصحى.
قوله «من آل» يحتمل أن يكون متعلقاً «بيكْتُمُ» بعده أي يكتم إيمانه من آل فرعون.
قيل: هذا الاحتمال غير جائز؛ لأنه لا يقال: كتمتُ من فلانٍ كذا، إنما يقال: كتمته كذا، قال تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] بل الظاهر تعلقه بمحذوف صفةً لرجل.
قال ابن الخطيب: يجوز أن يكون متعلقاً بقوله: «مؤمن» وإن كان ذلك المؤمن شخصاً من آل فرعون.
قال شهاب الدين: وجاء هنا على أحسن ترتيب حيث قدم المفرد ثم ما يقرب منه وهو حرف الجر ثم الجملة وقد تقدم أيضاً هذه المسألة في المائدة وغيرها ويترتب على الوجهين هل كان هذا الرجل من قرابة فرعون فعلى الأولى لا دليل فيه، وقد رد بعضهم الأول بما تقدم، وأنه لا يقال: ك تمت من فلان كذا إنما يقال: كتمت فلاناً كذا فيتعدى لاثنين بنفسه، قال تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] وقال الشاعر:
4332 - كَتَمْتُكَ هَمًّا بالجَمُومَيْنِ سَاهِراً ... وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنّاً وَظَاهِرَا
أَحَادِيثَ نَفْسٍ تَشْتَكِي مَا يَرِيبُها ... وَوِرْدَ هُمُومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصَادِرَا
أي كتمتك أحاديث نفس وهمين، فقدم المعطوف على المعطوف عليه ومحلّه الشعر.(17/39)
قوله {أَن يَقُولَ رَبِّيَ} أي كراهة أن يقول، أو لأن يقول. قال الزمخشري: ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً أي وقت أن يقول والمعنى أتقتلونه ساعة سمتعم منه هذا القول من غير روية ولا فكر (في أمره) وهذا الذي أجازه رده أبو حيان بأن تقدير هذا الوقت لا يجوز إلا مع المصدر المصرّح به، تقول: صِيَاحَ الدِّيكِ أي وقت صياحه، ولو قلت: أجيئك أَنْ صَاحَ الديك أو أَنْ يَصِيحَ لم يصح نص عليه النحويون
قوله: «وقد جاءكم» جملة حالية، يجوز أن تكون من المفعول.
فإن قيل: هو نكرة.
فالجواب: أنه في حيِّز الاستفهام وكل ما سوغ الابتداء بالنكرة سوغ انتصاب الحال عنها، ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل.
فصل
لما حكى الله تعالى عن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله بين أنه تعالى قَيَّضَ له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه وبالغ في تسكين تلك الفتنة فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله} وهذا استفهام على سبيل الإنكار، وذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الإنكار، وذلك لأنه ما زاد على أن قال: ربي الله وجاء بالبينات، وذلك لا يوجب القتل البتةَ فقوله: {وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ} يحتمل وجهين:
الأول: أن قوله «ربي الله» إشارة إلى تعزيز النبوة بإظهار المعجزة.
الثاني: أن قوله «رَبِّي اللهُ» إشار إلى التوحيد.
وقوله: {وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ} إشارة إلى الدلائل الدالة على التوحيد، ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية على أن الإقدام على قتلِهِ غير جائز، وهي حجة مذكورة على طريق التقسيم فقال: إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً عليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم فعلى كلا التقديرين الأولى إبقاؤه حيًّا.
فإن قيل: الإشكال على هذا الدليل من وجهين:(17/40)
الأول: أن قوله {يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} معناه أن (ضرر) كذبه مقصور عليه ولا يتعداه، وهذا كلام فاسد لوجوه:
أولها: أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذباً يكون ضرر كذبه مقصوراً عليه لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل ويغتر به جماعة ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد السيّىء ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصوماتُ الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذباً لم يكن ضرر كذبه مقصوراً عليه بل يكون متعدياً إلى الكل، ولهذا أجمع العلماء علىأن الزِّنْدِيقَ الذي يدعو الناس إلى زَنْدَقَتِهِ يجب قتله.
وثانيها: أنه إن كان هذا الكلام حجة فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة فيمكن جميع الزنادقة والمُبْطِلَة من أديانهم الباطلة.
وثالثها: أن الكفار الذين انكروا موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يجب أن لا يجوز الإنكار عليهم لأنه يقال إن كان ذلك المنكر كاذباً في ذلك الإنكار فعليه كذبه وإن يك صادقاً فما انتفعتم بصدقه، فثبت أن هذه الطريق صَوَّبَتْ صدقه وما أفضى ثُبُوتُه إلى عدم صدقه كان فاسداً.
الوجه الثاني: كان من الواجب أن يقال: وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ كُلُّ الَّذِي يَعِدُكُمْ؛ لأن الذي يصيب من بعض الذي يَعِدُ دون البعض هو الكفار والمنجمون. أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقاً في كل ما يقول فكان قوله: {يصيبكم بعض الذي يعدكم} غير لائق بهذا المقام.
والجواب عن الأسئلة الثلاثة بأن تقدير الكلام (أنه) لا حاجة لكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه من إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه وإن كان صادقاً فما انتفعتم به.
والمقصود من ذلك التقسيم أنه لا حاجة بكم إلى قتله بل يكفيكم أن تُعْرِضُوا عنه وأن تمنعوه من إظهار دينه. وأما الجواب عن الوجه الثاني: وهو قوله كان الأولى أن يقال: «يصيبكم كل الذي يعدكم» فهو من وجوه:
الأول: أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللَّجَاجِ؛ لأَنَّ المقصود منه وإن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه وِإن كان صادقاً فلا أقلَّ من أن يصيبكُم بعض ما يعدكم وإن كان المقصود من الكلام هذا صح، ونظيره قوله {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبا: 24] .(17/41)
والثاني: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يتوعّدهم بهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصبهم بعض الذي وعدهم به.
الثالث: قال الزمخشري: «بعض» على بابها وإنما قال ذلك ليهضم موسى بعضَ حَقِّهِ في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً فضلاً عن أن يتعصب له. وهذا أحسن من قول أبي عبيدة وغيره أن بعض بمعنى كل، وأَنْشَدَ قَوْلَ لَبيدٍ:
4333 - تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حِمَامُها
وأنشد أيضاً قول عمرو بن شُيَيْمٍ:
4334 - قَدْ يُدْرِكُ المُتأنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مع المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
وقول الآخر:
4335 - إنَّ الأُمُورَ إذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرهَا ... دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ
قال شهاب الدين: ولا أدري كيف فهموا «الكل» من البيتين الأخيرين، وأما الأول ففيه بعض دليل لأن الموت يأتي على الكل. قال ابن الخطيب: والجمهور على أن هذا القول خطأ قالوا: وأراد لبيدٌ ببعض النفوس نفسه، ومعنى البيت أنه وصف نفسه(17/42)
أنه نَزَّالُ أمكنةٍ أي كثيرُ المنزول في أماكن لا يرضاها إلا أن يربط نفسه الحِمام وهو الموت، وقال اللَّيْثُ: بعض ههنا صلة يُريد يصبكم الذي يعدكم. لما حكى الزمخشري قول أبي عبيدة أن «بعض» بمعنى «الكل» وأنشد عنه بيت لبيد قال: إن صحت الرواية عنه فقد حق فيه قولُ المَازِنِيِّ في مسألة العَلْقَى: كان أجْفَى من أن يفقه ما أقول له. قال شهاب الدين: ومسألة المازني معه: هي أن أبا عبيدة قال للمازني: ما أكذب النحويين يقولون هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث، فإن الألف في عَلْقَى ملحقة، قال: فقلت له وما أنكرت من ذلك؟ فقال: سمعت رؤبة يُنْشِدُ:
4336 - يَنْحَطُّ فِي عَلْقَى ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
فمل ينونهنا، فقلت: ما واحد علقى؟ قال: عَلْقَاة، قال المازني: فأَسِفْتُ ولم أفسر له لأنه كان أغلظمن أن يفهم مثل هذا. قال شهاب الدين: وإنما استغلظه المازني؛ لأن الألف التي للإلحاق قد تدخل عليها تاء التأنيث (دالة على الوحدة فيقال: أَرْطَى، وأَرْطَامة، وإنما الممتنع دخولها على ألف التأنيث) نحو: دَعْوَى، وصَرْعَى.
وأما عدم تنوين «علقى» فلأنه سمَّى بها شيئاً بعينه، وألف الإلحاق المقصورة حال العلمية تجري مجرى تاء التأنيث فيمتنع الاسم الذي هو فيه كما يمتنع فاطمةُ وينصرفُ قَائِمة.
قوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وفيه احتمالان:
الأول: أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والمعنى أن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة، ومن هداه إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذَّاباً فدل على أن موسى لي من الكذابينَ.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد أن فرعون مسرفٌ في عزمه على قتل موسى كذابٌ في ادعائه الإلَهيَّة وةالله لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يُبْطِلُهُ ويَهْدِمُ ِأمره.(17/43)
قوله: {يا قوم لَكُمُ الملك اليوم} اعلم أن مؤمن آل فرعون لما استدل على أنه لا يجوز قتل موسى خوف فرعون وقومه ذلك العقاب الذي توعّدهم به فيوقوله {يصبكم بعض الذي يعدكم} فقال: يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض. أي أرض مصر يعني قد علوتم الناس وقَهَرْتُمُوهُمْ فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله إن حلَّ بكم، وإنما قال «يَنْصُرُنَا وَجَاءَنَا» ؛ لأنه كان يظهر أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه.
قوله «ظَاهِرينَ» حال من الضمير «لكم» والعامل فيها وفي اليوم ما تعلق به «لكم» .
ولما قال المؤمن هذا الكلام قال فرعون: {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى} هي من رؤية الاعتقاد فيتعدى لمفعولين ثانيهما: «إلاَّ مَا أرَى» أي إلا ما أرى لنفسي. وقال الضحاك: ما أعلمكم إلا ما أعلم. قوله {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} العامة على تخفيف الشين، مصدر رَشَدَ يَرْشُدُ. وقرِأ معاذ بن جبل بتشديدها، وخرجها أبو الفتح وغيره على أنها صفة مبالغة، نحو ضَرَبَ فهو ضَرَّاب، وقال النحاس: هو لحن، وتوهمه من الرباعي يعني أرشد، ورد على النحاس قوله: بأنه يحتمل أن يكون من «رشد» الثلاثي، وهو الظاهر، وقد جاء فعال أيضاً من أفعل وإن كان لا ينقاس، قالوا: أدْرَكَ فَهُوَ دَرَّاك وأجْبَرَ فهو جَبَّار، وأَقْصَرَ فهو قَصَّار، وأَسْأرَ فهو سَئَّار. ويدل على أنه صفة مبالغة أن معاذاً كان يفسرها بسبيل الله.
قال ابن عطية: ويبعد عندي على معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وهل كان فرعون يدعي إلا الإلَهيَّةَ؟ ويعلق بناء اللفظ على هذا التركيب. قال شهاب الدين يعني ابن عطية أنهن(17/44)
كيف يقول فرعون ذلك فيقر بأنَّ ثمَّ من يهدي إلى الرشاد غيره مع أنه يدعي أنه إله.
وهذا الذي عزاه ابن عطية والزمخشري وابن جبارة صاحب الكامل إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس هو في «الرَّشَادِ» الذي هو في كلام فرعون كما توهموا، وإنما هو في «الرَّشَادِ» الثاني الذي هو من قول المؤمن بعد ذلك. ويدل على ذلك ما روى أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح: وقرأ معاذ بن جبل سبيل الرشاد الحرف الثاني بالتشديد وكذلك الحسن وهو سبيل الله تعالى أوضحه لعباده كذلك فسره معاذ (بن جبل) وهو منقول من مُرْشِد كدَرَّاك من مدرك، وجبار من مجبر، وقصَّار من مقصِر عن الأمر، ولها نظائر معدودة فأما قصّار الثوب فهو من قصرت الثوب قِصَارَةً. مفعلى هخذا يزول إشكال ابن عطية المتقدم ويتضح القراءة والتفسير. وقال أبو البقاء وهو الذي يكثر منه الإرشاد أو الرشد يعني أنه يحتمل أن يكون من «أَرْشَدَ» الرباعي، أو «رَشَدَ» الثلاثي، والأولى أن يكون من الثلاثي لما عرفت أنه ينقاس دون دو الأول.
قوله: {ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب} اعلم أنه تعالى (لما) حكى عن ذلك المؤمن أنه (كان) يكتم إيمانه والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون فلهذا السبب حصل ههنا قولان:
الأول: أن فرعون لما قال ذروني أقْتُلْ موسى لم يصرِّح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى بل أوهم أنه على دين فرعنون إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي إبقاء موسى؛ لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة، وهذا لا يوجب القتل، فالإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بقبح الكلمات بل الأولى تأخير قتله ومنعه من إظهار دينه لأنه إن كان كاذباً فَوَبَالُ كَذِبِهِ عليه، وإن كان صادقاً حصل الانتفاع به من بعض الوجوه. ثم أكد ذلك بقوله {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} يعنى أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب،(17/45)
فأوهم بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أنه يريد موسى، وإنما كان يقصد به فرعون؛ لأن المسرف الكذاب هو فرعون.
والقول الثاني: أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولاً فلما قال فرعون ذروني أقتل موسى أزال الكتمان وأظهر أنه على دين موسى وشَاقَّ فرعون بالحق وقال: يا قوم إنِّي أخاف عليكم مثلَ يوم الأحزاب أي مثل أيام الأحزاب إلا أنه لما أضاف اليومَ إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، وكان لكل حزب يوم في العذاب اقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس.
قوله: «مِثْلَ دأبِ» يجوز أن يكون «مثل» بدلاً، وأن يكون عطف بيان والمعنى مثل دأبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي دائماً لا يفترون عنه.
ولا بدّ من حذف مضاف يريد م ثل جزاء دأبهم. والحاصل أنه خوفهم الهلاك في الدنيا ثم خوفهم هلاك الآخرة {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ} أي لا يُهْلِكُهُمْ قبل إقامة الحجة عليهم، والمقصود التنبيه على عذاب الآخرة يعنى أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً بأنهم استوجبوه بتكذيبهم الأنبياء، وتلك العلة قائمة هنا فوجب حصول الحكم هنا.
قالت المعتزلة: وما الله يريد ظلماً للعباد يدل على أنه لا يريد أن يظلم العباد، ولا يريد الظلم من أحد العباد التبة، ولو خلق الكفر فيهم ثم عذبهم على ذلك الكفر لكان ظالماً، وإذا ثبت أنه لا يريد الظلم ألبتة ثبت أنه غير خالق لأفعال العباد، لأنه لو خلقها لأرادها، وثبت أيضاً أنه قادر على الظلم إذ لو لم يقدر عليه لما حصل التمدح بترك الظلم، وهذا الاستدلا ل قد تقدم مراراً مع الجواب.
قوله (تعالى) : {وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} التناد تفاعل من النداء يقال: تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضاً، والأصل: الياء، وقد تقدم الخلاف في يائه كيف تحذف والأصل تَنَادُياً بضم الدال ولكنهم كسروها؛ لِتَصحذَ الياءُ. وقرأت طائفة بسكون الدال إجراء للوصل مجرى الوقف، وتنادى القوم أي نادى بعضهُم بَعْضاً، قال (الشَّاعِرُ رَحِمَهُ الله) :(17/46)
4337 - تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِساً ... فَقُلْنَا عُبَيْدَ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي
وقال آخر:
4338 - تَنَادَوْا بَالرَّحِيلِ غَداً ... وَفِي تَرْحَالِهِمْ نَفْسِ
وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني في آخرين بتشديدها مصدر تَنَادَّ من: نَدَّ البَعِيرُ إذَا هَرَبَ ونَفَرَ، وهو في معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34] الآيات ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى بعد ذلك: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} . قال أبو علي: التَّنادي مخففاً من التناد من قولهم نَدَّ فلانٌ إذا هرب. وفي الحديث: «جَوْلَةً يَنِدُّونَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ مَهْرَباً» وقال أميةُ بنُ أبي الصَّلْتِ:
4339 - وَبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحَاهَا ... فَهُمْ سُكَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي
قوله: «يَوْمَ تُوَلُّونَ» يجوز أن يكون بدلاً من «يوم التناد» وأن يكون منصوباً بإضمار «أعني» . ولا يجوز أن يكون عطف بيان، لأنه نكرة وما قبله معرفة، وقد تقدم في قوله {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] أن الزمخشري جعله بياناً مع تخالفهما(17/47)
تعريفاً وتنكيراً وهو عكس هذا، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرة، والأول معرفة.
قوله {مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} يجوز في «من عاصم» أن يكون فاعلا بالجار، لاعتماده على النفي، وأن يكون مبتدأ أو من مزيدة على كلا التقديرين، ومن الله متعلق بعَاصِمٍ.
فصل
أجمع المفسرون على أن يوم التنادي (هو) يوم القيامة وفي تسميته بهذا الاسم وجوه:
قيل: لأن أهل النار ينادون أصحابَ الجنة، وأصحاب الجنة ينادون أصحابَ النار كما حكى الله عنهم.
وقال الزجاج: هو قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] .
وقيل: ينادي بعضُ الظالمينَ بعضاً بالويْل والثُّبُور، فيقولون: يَا وَيْلَنَا. وقيل: يُنَادَوْنَ إلى المحشر وقيل ينادي المؤمن: هَاؤُم اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ، والكافر: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وقيل: ينادى باللَّعَنةِ على الظالمين، وقيل: يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، وقيل: ينادى بالسعادة والشقاوة ألا إنَّ فلان بان فلان سِعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وفلان بان فلان شقي شقاوة فلا يسعد بعدها أبداً.
وقوله: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} . قال الضحاك: إذا سمعوا زفيرَ النار نَدُّوا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون إلى مكانهم فذلك قوله: {والملك على أَرْجَآئِهَآ} [الحاقة: 17] وقوله: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33] . قال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: فارِّينَ عن النار غير معجزين، ثم أكد التهديد فقال: {مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} يعصمكم من عذابه، ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .(17/48)
قَوْلُهُ (تَعَالَى) : {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} يعني يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالبينات، ونقل الزمخشري أنه قبل يوسف بن إبراهيمخ بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نيفاً وعشرين سنة وقيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بَقِيَ حيًّا إلى زمانه، وقيل: هو فرعون آخر. والمقصود من الكل شيء واحد هو أن يوسف حاء قومه بالبينات هي قوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39] والأولى أن يُراد بها المعجزات.
واعلم أن مؤمن آل فرعنونه لما قال لهم: ومن يضلل الله فما له من هاد ذكر هذا المثال وهو أن يوسف جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على التكذيب ولم ينتفعوا بتلك الدلائل، وهذا يدل على (أن) من أضله الله فما له من هاد، ثم قال: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) : من عبادة الله وحده لا شريك له، فلم ينتفعوا ألبتة بتلك البينات.
قوله «حَتَّى إذَا» غاية لقوله {فما زلتم في شك} ، فَلَمَا هَلَك {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} أي أقمتم على كفركم، وظننتم أن الله تعالى لا يجدد عليكم الحجة، وقرىء ألن يبعث الله بإدخال همزة التقرير يقرّر بعضهم بعضاً.
قوله: «كَذَلِكَ» أي الأمر كذلك، أو مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف كذاب في عصيانه مرتاب في دينه، فقوله «يضل الله» مستأنف، أو نعت مصدر أي مثل إضلال الله إياكم حين لم تقبلوا من يوسف يضل الله من هو مسرف.
ثم بين تعالى ما لأجله بقُوا في ذلك الشك والإسراف فقال: {الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أي بغير حجة إما بناء على التقليد، وأما بناء على شبهات خسيسة.
قوله: «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ» يجوز فيه عشرة أوجه:
أحدها: أنه بدل من قوله «من هو مسرف» وإنما جمع اعتباراً بمعنى «من» .(17/49)
الثاني: أن يكون بياناً له.
الثالث: أن يكون صفة له وإنما جمع على معنى «من» أيضاً.
الرابع: أن ينتصب بإضمار أعني.
الخامس: أن يرتفع خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين.
السادس: أن يرتفع مبتدأ خبره «يَطْبَعُ اللهُ» ، و «كذلك» خبر مبتدأ مضمر أيضاً أي الأمر كذلك، والعائد من الجملة وهي يطبع على المبتدأ محذوف أي على كل متكبر منهم.
السابع: أن يكون مبتدأ، والخبر «كَبُرَ مَقْتاً» ولكن لا بُدّ من حذف مضاف ليعود الضمير من «كبر» عليه والتقدير: قال الذين يجادلون كَبُرَ مقتاً، ويكون «مَقْتاً» تمييزاً، وهو منقول من الفاعلية؛ إذ التقدير كبر مَقْتُ حالهم أي جادل المجادلين.
الثامن: أن يكون «الَّذِينَ» مبتدأ أيضاً، ولكن لا يقدر حذف مضاف، ويكون فاعل كبر ضميراً عائداً على ما تقدم أي كبر مقت جدالهم.
التاسع: أن يكون «الذين» مبتدأ أيضاً، والخبر {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} قاله الزمخشري. ورده أبو حيان بأن فيه تفكيك الكلام بضعه من بعض؛ لأن الظاهر تعلق «بغَيْرِ سُلْطَانٍ» «بِيُجَادِلُونَ» ولا يتعلق جعله خبراً «للذين» لأنه جار ومجرور فيصير التقدير: الذي يجادلون كائنونَ أو مستقرونَ بغير سلطان أي في غير سلطان؛ لأن الباء إذْ ذَاكَ ظرفية خبرٌ عن الجثث.
العاشر: أنه مبتدأ وخبره محذوف أي معاندون ونحوه قاله ِأبو البقاء.
قوله: «كَبُرَ مَقْتاً» يحتمل أن يراد به التعجب والاستفهام، وأن يراد به الذم «كبئس» وذلك أنه يجوز أن يبنى (فَعُلَ) بضم العين مما يجوز فيه التعجب منه، ويَجْرِي مَجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ في جميع الأحكام، وفي فاعله ستة أوجه:(17/50)
الأول: أنه ضمير عائد على حال المضاف إلى الذين، كما تقدم تقريره.
الثاني: أنه ضمير يعود على جدالهم المفهوم من «يُجَادِلُونَ» كما تقدم تقريره أيضاً.
الثالث: أنه الكاف في «كَذَلِكَ» . قال الزمخشري: وفاعل «كَبُرَ» قوله: كذلك، أي كَبُرَ مقْتاً مِثْل ذَلِكَ الجِدال، و «يَطْبَعُ اللهُ» كلام مستأنف.
ورده أبو حيان: بأ، فيه تفكيكاً للكلام وارتكابَ مذهب ليس بصحيح، أما التفكيك فلأن ما جاء في القرآن من «كَذَلِكَ يطبع أو تطبع» إنما جاء مربوطاً بعضه ببعض، وكذلك هذا وأما ارتكاب مذهب غير صحيح فِإنه جعل الكاف اسماً، ولا يكون اسماً إلا في ضرورة خلافاً للأخفش.
الرابع: أن الفاعل محذوف نقله الزمخشري، قال: ومن قال كبر مقتاً عند الله جِدَالهُم فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصح حذفه. قال شهاب الدين: القائل بذلك هو الحَوْفِيُّ لكنه لا يريد بذلك تفسير الإعراب إنما يريد به تفسير المعنى، وهو معنى ما تقدم من أنّ الفاعل ضمير يعود على جدالهم المفهوم من فعله، فصرح به الحوفي بالأصل، وهو الاسم الظاهر، ومراده ضمير يعود عليه.
الخامس: أن الفاعل ضمير يعود على ما بعده، وهو التمييز، نحو: نعم رجلاً زيد، وبئس غلاماً عَمْرو.
السادس: أنه ضمير يعود على من في قوله: «من هو مسرف» وأعاد الضمير من كبر مقتاً اعتباراً بلفظها وحينئذ يكون قد راعى لفظ من أولاً في قوله كبر مقتاً.
وهذا كله إذا أعربت «الذين» تابعاً ل {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} نعتاً أو بياناً، أو بدلا. وقد تقدم أن الجملة من قوله «كبر مقتاً» فيها وجهان:
أحدهما: الرفع، إذا جعلناها خبر المبتدأ.
والثاني: أنها لا محل لها، إذا لم نجعلها خبراً، بل هي جملة استئنافية.
وقوله: «عِنْدَ الله» متعلق «بكَبُرَ» ، فكذلك قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً وأن يكون فاعلاً وهم ضعيفان.
والثالث وهو الصحيح: أنه معمول ل «يَطْبَعُ» أي مثل ذلك الطبع يطبع الله، و «يطبع الله» فيه وجهان:(17/51)
أظهرهها: أنه مستأنف.
والثاني: أنه خبر للموصول كما تقدم.
قوله: «قَلْبِ متكبّر» قرأ أبو عمرو، وابن ذَكْوَانَ بتنوين «قَلْبٍ» ، وصف القلب بالتكبر والجبروت لأنهما ناشئان منه، وإن كان المراد الجملة، كما وصف بالإثم في قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وفي قوله: {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} [غافر: 56] قال بان الخطيب: «وأيضاً قال قوم: الإنسان الحقيقي هو القلب» والباقون بإضافة «قلب» إلى ما بعده، أي كُلِّ قَلْبِ شخصٍ متكبرٍ. قال أبو عبيد: الاختيار الإضافة، لوجوه:
الأول: أن عبد الله قرأ: «على قلب كمل متكبر» وهو شاهد لهذه القراءة.
الثاني: أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما. وقد قدر الزمخشري مضافاً في القراءة الأولى، أي على كُلّ ذِي قلبٍ متكبر، فجعل الصفة لصاحبِ القلب. قال أبو حيان: «ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد الحذف» . قال شهاب الدين: بل ثَمَّ ضرورة إلى ذلك، وهو توافقُ القراءتين واحداً وهو صاحب القلب بخلاف عدم التقدير، فإنه يصير الموصوف في إحداهما القلب وفي الأخرى صاحبه.
فصل
قال الزَّجَّاجُ: قوله: «الذين» تفسير ل «المسرف المرتاب» ، يعني هم الذين يجادلون في آيات الله أي في إبطالها بالتكذيب «بغير سلطان» حجة، «أتاهم» ، «كبر مقتاً» أي كبر ذلك الجدال مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا. ودلت الآية على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد مقت بعض عباده، إلا أنها صفة التأويل في حق الله، كالغضب، والحياء، والعجب.
ثم بين أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك حصل عند الذين آمنوا، قال القاضي: مقت الله إياهم يدل على أن كل فعل ليس بخلق لا أنّ كونه فاعلاً للفعل، وما قاله محال.(17/52)
فصل
قد تقدم الكلام في الطبع، والرَّيْنِ، والقَسوة، قال أهل السنة: قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} يدل على أن الكل مِنْ عند الله. وقالت المعتزلة: الآية تدل على أن هذا الطبع إنما حصل، لأنه كان في نفسه متكبراً جباراً. قال ابن الخطيب: وعند هذا تصيِرُ الآية حجة لكل واحد من الفريقين من وجه، وعليه من وجه آخر، والقول الثاني يخرج عليه رُجْحَانُ مذهبنا، وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعو إلى الطاعة، والانقياد لأمر الله، فيكون القول بالقضاء والقدر حقاً، فيكون تعليل القلب بكونه متكبراً متجبراً باقياً، فثبت أن القول بالقضاء والقدر هو ما ينطبق عليه لفظ القرآن من أوله لي آخره.
فصل
قال مقاتل: الفرق بين المتكبر، والجبار، أن المتكبر عن قبول التوحيد، والجبار في غير حق. قال ابن الخطيب: كما السعادة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل المتكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله، والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله.(17/53)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
قوله: {وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً} ... الآية. قال المفسرون: إن فرعون قال لوزيره هامان: ابْنِ لي صرحاً، والصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر، وإن بعُدَ. وأصله من التَّصريح، وهو الإظهار {لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات} طُرُقها.
فإن قيل: ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل: لَعَلِّي أبلغ أسباب السموات كان كافياً؟
فاجاب الزمخشري عنه فقال: «إنه إذا أبهم الشيء، ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه، فلما أراد تفخيم السموات أبهمها ثم أوضْحَهَا» .(17/53)
فصل
اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السموات أم لا؟
قال ابن الخطيب: أما الظَّاهِرِيُّونَ من المفسرين فقد قطعوا بذلك، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء الصرح. والذي عندي أن هذا بعيدٌ، والدليل عليه أن فرعون لا يخلو إما أن يقال: إنه كان مجنوناً أو عاقلاً، فإن كان مجنوناً لم يجز من الله عزّ وجلّ أن يذكر حكاية كلامه في القرآن، وإن كان عاقلاً فنقول: إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالِي ويعلم أيضاَ ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر من حال السماء بين أن ينظر إليها من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليها من أعلى الجبال، وإذا كان هذان العلمان بديهيَّان امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء، وإذا كان فاسداً معلوماً بالضرورة امتنع إسْنَادُهُ إلَى فِرْعَوْنَ. والذي عندي في تفسير هذه الآية، أنَّ فِرْعَونَ كان من الدهرية، وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال: إنّا لا نرى شيئاً نحكم عليه أنه إله العالم، فإنه لو كان موجوداً لكان في السماء، ونحن لا سبيلَ لنا إلى صعود السموات فكيف يمكننا أن نراه، ثم إنه لأجل المبالغة لبيان أنه لا يمكن الصعود إلى السماء قال: {ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب} والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحِسِّ ممتنعاً. ونظيره قوله تعالى: {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: 35] وليس المراد منه أن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ طلبَ نفقاً في الأرض، أو وضع سُلَّماً إلى السماء بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيلَ لك إلى تحصيل ذلك المقصود، كذا ههنا غرض فرعون من قوله: {يا هامان ابن لي صرحاً} يعني أن الاطلاع إلى إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق، وكان هذا الطريق ممتنعاً، فحينئذ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى.
واعلم أن هذه الشبهة فاسدةٌ؛ لأن طرق العلم ثلاثة: الحِسّ، والخَبَر، النَّظَر، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحِسَّ انتفاء المطلوب؛ وذلك لأن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قد بين لفرعون أن الطريقَ في معرفة الله تعالى إنما هو الحُجَّة، والدليل كما قال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26] {رَبُّ المشرق والمغرب} [(17/54)
المزمل: 9] إلا أن فرعونَ بِخُبْثِهِ ومَكْرهِ تغافل عن ذلك الدليل، وألقى إلى الجُهّال أنه لما كان لا طريق إلى الإحساس بهذه الإله وجب نفيه.
قوله: «أسْبَابَ السَّمَواتِ» ، فيه وجهان:
أحدهما: أنه تابع «للأسباب» قبله، بدلاً أو عطف بيان.
والثاني: أنه منصوب بإضمار أعني. والأول أولى؛ إذ الأصْلُ عدمُ الإضمار.
قوله: «فَأَطَّلِعَ» العامة عنلى رفعه عطفاً على أبلغ فهو داخل في حيز الترجي؛ وقرأ حفص في آخرين بنصبه وفيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه جواب الأمر في قوله «ابن لي» فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله:
4340 - يا نَاقُ سِيرِي عَنَقاً فَسِيحا ... إلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا
وهو أوفق لمذهب البصريين
الثاني: أنه منصوب، قال أبو حيان: عطفاً على التوهم؛ لأن خبر «لعل» جاء مقروناً «بأن» كثيراً في النظم، وقليلاً في النثر، فمن نصب توهم أن الفعل المضارع الواقع خبراً منصوب «بأن» والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس.
الثالث: أن ينتصب على جواب الترجي في لعل، وهو مذهب كوفي استهشد أصحابه بهذه القراءة وبقراءة نافع {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى} [عبس: 34] بنصب «فتنفعه» جواباً ل «لعله» . وإلى هذا نحا الزمخشري، قال: «تشبيهاً للترجي بالتمني» . والبصريون يأبون ذلك ويخرجون القراءتين على ما تقدم.
وفي سورة عبس يجوز أن يكون جواباً للاستفهام في قوله: «وَمَا يُدْرِيكَ» فإنه(17/55)
مترتبٌ عليه معنًى. وقال ابن عطية وابن جبارة الهذلي على جواب التمني، وفيه نظر؛ إذ ليس في اللفظ تمن، إنما فيه ترجٍّ، وقد فرق الناس بين التَّمنِّي والتَّرجِّي، بأن الترجي لا يكون إلا في الممكن عكس التمني فإنه يكون فيه وفي المستحيل كقوله:
4341 - لَيْتَ الشَّبابَ هُوَ الرَّجِيعُ عَلَى الفَتَى ... والشَّيْبُ كَانَ هَوَ البَدِيءَ الأَوَّلُ
قوله: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ} ، قرىء: «زَيَّنَ» مبنياً للفاعل، وهو الشيطان، وتقدم الخلاف في «صد عن السبيل» في الرعد، فمن بناه للفاعل حذف المفعول أي صد قومه عن السبيل، (وهو الإيمان) . قالوا: ومِنْ صَدِّه قوله: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} [طه: 71] ، ويدل على ذلك قوله تعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله}
[محمد: 1] وقوله: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتنح: 25] وابن وثاب: «وصِدَّ» بكسر الصاد، كأنه نقل حركة الدال الأولى إلى فاء الكلمة بنعد توهم سلب حركتها، وقد تقدم ذلك في نحو: ردَّ، وأنه يجوز فيه ثلاث لغات الجائزة في قِيلَ وبِيعَ، وابن إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة: وَصَدٌّ بفتح الصاد، ورفع الدال منونة جعله مصدراً منسوقاً على «سُوءُ عَمَلِهِ» ، أي زين له الشيطان سُوءَ العَمَلِ والصَّدَّ، {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} أي وما كيده في إبطال ما جاء به موسى إلا في خسارة وَلاَكٍ. والتَّبَابُ الخِسَارة، وعقد تقدم في قَوْلِهِ «غَيْرَ تَتْبِيبٍ» .(17/56)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
قوله تعالى: {وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد} أي طريق الهدى {ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ} أي متعةٌ تنتفعون بهنا مرة ثم تنقطع {وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار} التي لا تزول، ثم قال: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} تقدم الخلاف في قوله: «يدخلون الجنة» في سورة النساء. وقال مقاتل: لا تبعة عليهم فيما يُعْطَوْنَ في الجنة من الخيرات.
واختلفوا في تفسير قوله: «بِغَيْرِ حِسَابٍ» فقيل: لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل: بغير حساب، وقيل: لأنه تعالى معطيهم ثواب آبائِهِمْ، ويضم إلى ذلك الثواب من التفضيل ما يخرج من الحساب واقع في مقابلة: «إلاّ مثلها» يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وغير حساب، وهذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجحٌ على جانب العقاب، فإذا عارضنا عُمُومَاتِ الوَعِيدِ بعُمُومَاتِ الوَعْد وجب أن يكون الترجيحُ لجانبِ عُمُومَاتِ الوعد، وذلك يهدم قواعد المعتزلة.
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية، فقالوا: قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً} نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فجَرَى مَجْرَى أن يقال: «من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا» فإنه يدخل فيه أنّ من آمن بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة فكذلك ها هنا(17/57)
وجب أن يقال: كُلُّ من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة، ويُرْزَقُ فيها بغير حساب، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتنزيه والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الطاعات، وبأحسن الطاعات، فوجب أن يدخل الجنة، والخصم يقول: إنه يَخْلُدُ في النار أَبَدَ الآباد، وذلك مخالف لهذا النص الصريح. قالت المعتزلة: إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمناً، ومرتكب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن، فلا يدخل في هذا الوعد والجواب ما تقدم في قوله: «يُؤْمِنُون بالغَيْبِ» فإن صاحب الكبيرة مؤمن فَسَقَطَ كلامُهُمْ.
فصل
دلت هذه الآية على اعتبار المماثلة في الشريعة، وأن الزائد على المِثْلِ غير مشروع، وليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرةٌ في أي الأمور، فلو حملناها على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عامةً خاصة. وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال والتخصيص كان الأول أولى، فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا ما خَصّهُ الدليل وإذا ثبت ذلك بني عليه أحكامٌ كثيرة من الجنايات على النفوس والأعظاء والأموال؛ لأنه تعالى بين أنَّ جزاءَ السيئة مقصورٌ على المِثْلِ، وبين أن جزاء الحسنة ليس مقصوراً على المِثْلِ بل هو خارج عن الحساب.
قوله
تعالى
: {وياقوم
مَا
لي
أَدْعُوكُمْ
إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار} . قوله تعالى: {وياقوم} قال الزمخشري: فَإن قُلْتَ: لِمَ جاء بالواو في الناداء الثالث دون الثاني؟
قلت: لأن الثانيَ داخل على كلام هو بيان للمجمل، وتفسير له، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو. وأما الثالث فداخلٌ على كلام ليس بتلك المَثَابَةِ، أي كلام مباين للأول والثاني، فَحَسُنَ إيرادُ الواو العاطفة فيه. وكرر النداء لأن فيه زيادةَ تنبيه له وإيقاضاً من سنة الغفلة، وأظهر أن له بهذا مزيدَ اهتمامٍ، وعلى أُولئك الأقوام فرط شفقة.
قوله: {وتدعونني إِلَى النار} هذه الجلة مستأنفة، أخبر عنهم بذلك بعد استفهام عن دعاء نفسه ويجوز أن يكون التقدير: وما لكم تدعونني إلى النار، وهو الظاهر، ويضعف أن تكون الجملة حالاً، أي مالكم أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلَى النار.(17/58)
قوله: «تَدْعُونني» هذه الجملة بدل من «تَدْعُونَنِي» الأولى على جهة البيان لها. وأتى في قوله «تَدْعُونَنِي» بجلمة فعلية؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وفي قوله: «وَأَنَا أَدْعُوكُمْ» بجلمة إسميَّة؛ ليلد على ثُبُوتِ دعوته وتَقْوِيَتِهَا.
فصل
معنى قوله: «مَالَكُمْ» كقولك: ما لي أراك حزنياً، أي مالك، يقول: أخبروني عنك، كيف هَذِهِ الحال؟ أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله، وتدعونني إلى النار بالشرك الذي يُوجِبُ النار، ثم فصر فقال {تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} . والمراد بنفي العلم نفي الإلهة كأنه قال: وَأُشْرك به ما ليس لي بإله، وما ليس إله كيف يُعْقَلُ جَعْلُهُ شريكاً للإله؟
ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بيَّنَ أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغَفَّارِ، «العزيز» في انتقامه ممن كفر، «الغفار» لذنوب أهل التوحيد. فقوله: «العَزِيزِ» إشارة إلى كونه كامل القدرة، وأما فرعون فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلهاً؟ وأما الأصنام فهي حجارة منحوتة فيكف يعقل كونها آلهة؟ قوله: «الغَفَّار» إشارة إلى أنهم يجب أن لا يَيْأَسُوا من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مُدّةً مَدِيدَة فَإنَّ إله العَالَم، وإن كان عَزِيزاً لا يُغْلبُ، قادراً لا يعارض، لكنه غافار يغفر كفر سبيعنَ سنة بإيمان ساعةٍ واحدةٍ.
قوله: «لاَ جَرَمَ» تقدم الخلاف في «لاَ جَرَمَ» في سورة هود في قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: 22] ، وقال الزمخشري هنا: «ورُوِيَ عن بعض العرب: لا جُرْمَ أنه يفعل كذا بضم الجيم وسكون الراء بمعنى: لا بُدَّ. وَفَعَلٌ وَفُعْلٌ أخوان كَرَشَدٍ، وَرُشْدٍ، وعَدَمٍ، وَعُدْمٍ» .
وشأنه على مذهب البصريين أن يجعل رداً على دعاه إليه قَوْمُهُ.
و «جَرَمَ» فَعَلٌ بمعنى حَق، و «أَنَّ» مع ما في حيّزها فاعله، أي وَجَبَ بُطْلانُ دَعْوَتِهِ، أو بمعنى كَسَبَ من قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ} [المائدة: 2] أي بسبب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته.(17/59)
ويجوز أن يقال إنّ «لاَ جَرَمَ» نظير «لاَ بُدَّ» فَعَلَ من الجَرْم وهو القطع كما أن «بُدًّا» فعل من التبديد وهو التفريق، وكما أن معنى: لاَ بُدَّ أنكَ تَفْعَلُ كذا بمعنى لاَ بُدَّ لك من فِعْلِهِ، فكذلك {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] أي لاَ قَطْعَ لذلك بمعنى أنهم أبداً يستحقون (العقاب) النار لا انقطاع لاسْتِحْقَاقِهِمْ، ولا قطع لبُطْلاَن دعوة الأصنام أي لا تزال باطلةً لا ينقطع ذلك فينقلب حقًّا.
فصل
قال البغوي: «لاَ جَرَمَ» حقاً {أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ} أي للدين دعوة في الآخرة قال السدي (رَحِمَهُ اللَّهُ) لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة يعني ليست له استجابة دعوة، فسمى استجابة الدعوة دعوة، إطلاقًاً لاسم أحد المضافين على الآخر، كقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها. وقيل: ليستْ له دعوة أي عبادة في الدنيا؛ لأن الأوثانَ لا تَدَّعِي الربوبية، ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها.
ثم قال: «وأَنَّ مَرَدَّنَا» أي مرجعنا «إلَى اللهِ» فيجازي كُلاًّ بما يَسْتَحِقُّهُ، «وَأَنَّ المُسْرِفِينَ» المشركين {هُمْ أَصْحَابُ النار} . قاله قتادة. وقال مجاهد: السفاكين الدماء.
ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذا البيان ختم كلامه بخاتِمَةٍ لطيفة فقال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ} وهذا كلام مبهم يوجب التخويف، وهذا يحتمل أن يكون المراد منه أن هذا الذكر يحصل في الدنيا أي عند الموت، وأن يكون في القيامة عند مشاهدة العذاب حين لا ينفعكم الذكر.
قوله: «وَأُفَوِّضُ» هذه مستأنفة. وجواز أبو البقاء أن تكون حالاً من فعال «أقولُ» .
وفَتَحَ نافعٌ وأبُوا عَمْروا الياء من: أمري، والباقون بالإسكان.
فصل
لما خوفهم بقوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ} توعدوه وخوفوه فعول في دفع(17/60)
تخويفهم وكيدهم ومكرهم على الله بقوله: {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله} وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين خوّفة فرعون بالقتل فرجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله تعالى فقال: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} [غافر: 27] . ثم قال: {إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} . أي عالم بأحوالهم يعلم المحقَّ من المُبطل.
قوله: {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} . قال مقاتال: لما قال هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه، فلم يهتدوا عليه. وقيل: المراد بقوله: فوقاه الله سيئات ما مكروا أنه قصدوا إدخاله في الكفر، وصرفه عن الإسلام، فوقاه الله من ذلك. والأول أولى، لأن قوله بعد ذلك: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب} لا يليق إلا بالوجْهِ الأول.
وقرأ حمزة وَحِيقَ بكسر الحاء وكذلك في كل القرآن والباقون بفالتح.
قال قتادة: نجا مع مُوسَى، وكان قِبْطِيًّا. «وَحَاقَ» نزل «بآل فرعون سواء العذاب» الغرق في الدنيا، والنار في الآخرة.
قوله: «النَّارُ» الجمهور على رفعها، وفيه ثلاثةُ أوجهُ:
أحدهما: أنه بدل من: «سوء العذاب» قاله الزجاج.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي سُوء العذابِ النارُ، لأنه جواب لسؤال مقدر؛ و «يُعْرَضَونَ» على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالاً من «النار» ، ويجوز أن يكون حالاً من «آل فرعون» .
الثالث: أنه مبتدأ، وخره: «يُعْرََضُونَ» .
وقُرِىءَ النَّارَ منصوباً، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب بفعل مضمر يفسره يعرضون من حيث المعنى أي يصلونَ النارَ يُعْرَضُونَ عليها كقوله: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ} [الإنسان: 32] .(17/61)
الثاني: أن ينتصب على الاختصاص، قال الزمخشري: فعلى الأول لا محل «لِيُعْرَضُونَ» ؛ لكنه مفسراً، وعلى الثاني هو حال كما تقدم.
فصل
دلت هذه الآية على إثبات عذاب القبر؛ لأن الآية تقتضي عرض النار عليهم غُدُوًّا وعَشِيًّا، وليس المراد منه يوم القيامة، لقوله بعده {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} ، وليس المراد منه أيضاً الدنيا؛ لأن عرض النار عليهم غدوًّا وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت، وقبل القيامة. وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء، وإذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم لأنه لا قائل بالفَرْقِ.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض القبائح عليهم في الدنيا لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب، وخوّفهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار. ثم في الآية ما يمنع حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع. وقوله: {عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} يقتضي أن لا يحصُلَ ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر.
الثاني: أن الغدوةَ والعشيةَ إنما يحصلان في الدنيا، أما في القيامة فلا وجود لهما، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر.
والجواب على الأول: أن في الدنيا عرض عليهم الكلمات التي تذكرهم أمر النار، ولم يعرض عليهم نفس الناس، وهذا الظاهر الآية، وارتكاب المجاز، وأما قولهم: الآية تدل على حصول العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز فالجواب لِمَ لا يجوز أن يكتفى في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين، ثم عند قيام يُلْقَى في النار، فيدوم عذاب حينئذٍ، واأيضاً لا يمتنع أن يكون ذكر الغَدْوَةِ والعشية كناية عن الدوام، كقوله تعالى:
{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] وأما قولهم: إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية قلنا: لِمَ لا يجوز أن يقال: إن (عند) حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب.(17/62)
فصل
قال ابنُ مَسعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أرواح آل فرعون في أجْوَاف طيرٍ سُودٍ يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار، يقال: يا آل فرعونن هذه منازلكم. وقال قتادة، والسدي والكلبي: تعرض روح كل كافر على النار بُكْرَةً وعَشِيًّا ما دامتْ الدنيا.
وروى ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: إن أحَدَكُم إذَا مَاتَ عُرِضَ عليه مَقْعَدُهُ بالغَدَامةِ والْعَشِيِّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّار؟ ِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فيقال: هذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامةَ» .
قوله: «وَيَوْمَ تَقُومُ» فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أنه معمول لقول مضمر، وذلك القوم المضمر محكي به الجملة الأمرية من قوله: «أَدْخِلُوا، والتقدير: يقال لهم يوم تقوم الساعة: أَدْخِلُوا.
الثاني: أنه منصوب» بأدْخِلُوا «أي أدخلوا يوم تقوم، وعلى هذه الوجهين، فَالْوقَفُ تامٌّ على قوله:» وَعَشِيًّا «.
الثالث: أنه معطوف على الظرفين قبله، فيكون معمولاً ليُعْرَضَونَ، والوقف على هذا قوله:» الساعة «. و» ادخلوا «معمول لقول مضمر، أي يقال لهم كذا. وقرأ الكسائيُّ وحمزةٌ ونافعٌ وحفصٌ أدْخِلُوا بقط الهمزة وكسر الخاء، أي يقال للملائكة أدخلوا، أَمْراً من» أَدْخَلَ «» فآل فرعون «مفعولٌ أول، و» أشد العذاب «مفعول ثانٍ، والباقون بهمزة وصل، من دَخَلَ يَدْخُلُ، فآل فِرْعونَ منادَى حذف حرف الناء منه و» أَشَدّ «منصوب به، إما ظرفاً، وإما مفعولاً به. أي ادخلوا يا آل فِرْعَون في أشد العذاب. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يريد ألوان العذاب، غير العذاب الذي كانوا يعذبون به منذ غرقوا.(17/63)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
قوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ} في العامل في «إذْ» ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه معطوف على «غُدُوًّا» فيكون معمولاً ليُعْرَضُونَ أي يعرضون على النار في هذه الأوقات كلها قاله أبو البقاء.
الثاني: أنه معطوف على قوله «إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ» قاله الطبري. وفيه نظر؛ لبُعْد مابينهما، ولأن الظاهر عودُ الضمير من «يَتَحَاجُّونَ» إلى آل فرعون.
الثالث: أنه منصوب بإضمار اذكر.
قوله: «تبعاً» فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه اسم جَمْع لِتَابع، ونحوه: خَادِم وخَدَمٌ، وغَائبٌ وغَيَبٌ وآدمٌ وأَدَمٌ.
قال البغوي: والتَّبَعُ يكون واحداً وجَمعاً في قولن أهل البَصْرة، واحده تابع. وقال الكوفيون: هو جمع لا واحد له وجمعه أتباع.
والثاني: أنه مصدر واقع موقع اسم الفاعل أي تابعين.
والثالث: أنه مصدر أيضاً ولكن على حذف مضاف أي ذَوِي تَبَعٍ.
قوله: «نَصِيباً» فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدهما: أن ينتصب بفعل مقدر به عليه قوله: «مُغْنُونَ» تقديره: هل أنتم دَافِعُونَ عَنَّا.
الثاني: أن يُضَمَّن مُغْنُونَ معنى حَامِلينَ.
الثالث: أن ينتصب على المصدر، قال أبو البقاء: كَما كَانَ «شَيءٌ» كذلك، ألا ترى إلى قوله: {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً} [آل عمران: 10] «فَشَيْئاً» في موضع «غِنًى» فكذلك «نصيباً» و «من النار» صفة ل «نصيباً» .(17/64)
قوله: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ} العامة على رفع «كُلٌّ» ورفعه على الابتداء و «فِيهَا» خبره والجملة خبر «إنَّ» ، وهذا كقوله في آل عمران: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} [آل عمران: 154] ، في قراءة أبي عمرو. وقرأ ابن السّميْقَع وعيسى بْنُ عُمَرَ بالنصب، وفيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن يكون تأكيداً لاسم إن، قال الزمخشري: توكيد لاسم إن، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد: إنا كًُلَّنَا فيها انتهى، يعني فيكون «فيها» هو الخبر، وإلى كونه توكيداً ذهب ابْنُ عطيةَ أيضاً.
ورد ابن مالك هذا المذهب فقال في تَسْهِيلِهِ: «ولا يستغني بنية إضافته خلافاً للزمخشري» .
قال شهاب الدين: «وليس هذا مذهباً للزمخشري وحده بل هو منقول عن الكوفيين أيضاً» .
والثاني: أن تكون منصوبة على الحال، قال ابن مالك: والقول المَرْضِيُّ عندي أنّ «كُلاًّ» في القراءة المذكورة منصوبة على الحال من الضمير المرفوع في «فِيهَا» و «فيها» هو العامل؛ وقد قدمت عليه مع عدم تصرفه، كما قدمت في قراءة مَنْ قَرَأَ: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ} [الزمر: 67] .
وفي قول النَّابِغَةِ:
4342 - رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبِي أدْرَاعِهِمْ ... فِيهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَة بْنِ حُذَارِ
وقال بعض الطائيين:
4343 - دَعَا فَأَجَبْنَا وَهْوَ بَادِيَ ذِلَّة ... لَدَيْكُمْ وَكَانَ النَّصْرُ غَيْرَ بَعِيدِ(17/65)
يعني بنصب «بادي» . وهذا هو مذهب الأخفش، إلا أن الزمخشري منع من ذلك، قال رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإن قُلْتَ: هل يجوز أن يكون «كلاًّ» حالاً، قد عمل فيهِ «فيها» ؟ قُلْتُ: لا؛ لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمةً كما يعمل في الظرف متقدماً، تقول: كُلَّ يَوْمٍ لَكَ ثَوْبٌ، ولا تقول: قائماً في الدَّارِ زَيْدٌ، قال أبو حيان: وهذا الذي منعه أجازه الأخفش، إذا توسعت الحال، نحو: زيدٌ قائماً في الدار، وزيد قائماً عندك.
والمثال الذي ذكره ليس مطابقاً لما في الآية؛ لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم وهو اسم إن، وتوسطت الحال إذا قلنا: إنها حال، وتأخر العامل فيها. وأما تمثيله بقوله: «ولا تقول قائماً في الدَّارِ زيْد» فقد تأخر فيه المسند والمسند إليه، وقد ذكر بعضهم: أن المنع في ذلك إجماع من النحاة.
قال شهاب الدين: الزمخشري منعه صحيح؛ لأنه ماشٍ على مذهب الجمهور وأما تمثيله بما ذكر فلا يضره؛ لأنه في محل المنع، فعدم تجويزه صحيح.
الثالث: أن «كُلاًّ» بدل من «نَا» في «إنَّا» ؛ لأن «كُلاًّ» قد وَليَت العَوامِلَ فكأنه قيل: إنّ كُلاًّ فيها وإذا كانوا قد تأولوا قوله:
4344 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... . حَوْلاً أَكْتَعَا
و «حَوْلاً أجْمَعَا» على البدل مع تصرف أكْتَعَ وأجْمَعَ؛ فلأن ذلك في «كّلّ» أولى وأجدى. وأيضاً فإن المشهور تعريف «كُلّ» حال قطعها، حكي في الكثير الفَاشِي: مررت بكُلِّ قائماً وبِبَعْضٍ جالساً، وعزاه بعضهم لسيبويه.
وتنكير «كل» ونصبها حالاً في غاية الشذوذ، نحو: «مَرَرْتُ بِهِمْ كُلاًّ» أي جميعاً.
فإن قيل: فيه بدل الكل من الكل في ضمير الحاضر وهو لا يجوز.(17/66)
أجيبَ بوجهين:
أحدهما: أن الكوفيين والأخفش يرون ذلك وأنشدوا قوله:
4345 - أَنَا سَيْفُ العِشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي ... حميداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السِّنَامَا
«فحميداً» بدل من ياء «فاعرفوني» . وقد تأوله البصريون على نصبه على الاختصاص.
والثاني: أن هذا الذي نحن فيه ليس محل الخلاف «؛ لأن دال على الإحاطة والشمول، وقد قالوا: إنه متى كان البدل دالاً على ذلك جاز، وأنشدوا:
4346 - فَمَا بَرِحَتْ أَقْدَامُنَا فِي مَكَانِنَا ... ثَلاَثتِنَا حَتَّى أُزِيرُوا المَنَائِيَا
ومثله قوله تعالى: {لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] قالو:» ثلاثتنا «بدل من» ن «في» مكاننا «؛ لدلالتها على الإحاطة، وكذلك» لأولنا وآخرنا «بدل من» ن «ف» لنا «، فلأن يجوز ذلك في كل التي هي أصل في الشمول والإحاطة بطريق الأولى، هذا كلام أبي حيان في الوجه الثالث.
وفيه نظر لأن المبرد ومكِيًّا نصا على أن البدل في هذه الآية لا يجوز فكيف يدعى أنه لا خلاف في البدل والحالة هذه؟ لا يقال: إن في الآية قولاً رابعاً، وهو أن «كُلاًّ» نعت لاسم إنَّ، وقد صرح الكسائيُّ والفراء بذلك فقالا: هو نعت لاسم إن؛ لأن الكوفيين يطلقون اسم النعت على التأكيد، ولا يريدون حقيقة النعت.
وممن نص على هذه التأويل مكي رَحِمَهُ اللَّهُ؛ ولأن الكسائي إنما جوز نعت ضمير الغائب فقط دون المتكلم والمخاطب.(17/67)
فصل
معنى الآية واذكر يا محمد القومكم إذ يَتَحاجُّون أي يُحَاجُّ بعضُهم بعضاً. ثم شرح خصومتهم وهي أن الضعفاء يقولون للرؤساء: إنا كنا لكم تبعاً في الدنيا فهل أنتم مغنون عنا نصباً من النار أي فهل تقدرون على أن تدفعوا عنا أيها الرُّؤسَاء نصيباً من العذاب؟
ومقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تعجيز أولئك الرؤساءَ وإيلام قلوبهم؛ لأنهم يعلمون أن أولئك الرؤساء لا قدرةَ لهم على ذلك التخفيف فعند ذلك يقول الرؤساء إنا كل فيها أي إنا كُلُّنَا واقعون في هذا العذاب، فلو قدرنا على إزالة العذاب لدفعناه عن أنفسنا. ثم يقولون: {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد} يعنى فَأَوْصَلَ إلى شكل أحد حقه من النعيم أو من العذاب، فعند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين، فيرجعون إلى خَزَنَةِ جهنم ويقولون لهم: {ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب} .
فإن قيل: لم لم يقل: وقال الذين في النار لخزنتها؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن يكون المقصود من ذكر جهنم التهويل والتفظيع.
والثاني: أن تكون جهنم اسماً لموضع من أشد المواضع بعيدِ القرار من قولهم: بِئْرٌ جِهِنَّامٌ أي بعيدة القَعْر وفيها أعظم أقسام كفار عقوبة، وخزنة ذلك الموضع تكون أعظم خزنة جهنم عند الله درجة، فإذْ عرف الكافر أن الأمر كذلك استغاثوا بهم فيقولون لهم: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات} ؟ .
قوله: {يَوْماً مِّنَ العذاب} في يومايً وَجْهَانِ:
أحدهما: أنه ظرف لِيُخَفِّفْ، ومفعول «يخفف» محذوف، أي يخفف عنا شيئاً من العذاب في يوم. ويجوز على رأي الأخفش أن تكون «مِنْ» مزيدة فيكون العذاب هو المفعول، أي يخفف عنا في يوم العذابَ.
الثاني: أن يكون مفعولاً به، واليوم لا يخفف، وإنما يخفف مظروفه، والتقدير يخفف عذاب يوم، وهو قلق لقوله: «مِنَ العَذَابِ» والقول بأنه صفة كالحال أقلق منه.
والظاهر أن «مِنَ العََذَابِ» هو المفعول ليخفف، ومِنْ تَبْعِيضِيَّة، و «يَوْماً» ظرف، سألوا أن يخفف عنهم بعض العذاب لا كله في يوم ما، لا في كل يوم ولا في يوم معين.(17/68)
فصل
لما أجابوهم الخزنة بقولهم: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات} ؟ قالوا: بلى والمعنى أن لولا إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا ما جاءنا من نذير. وهذه الآية تدل على أن الجواب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشَّرْعِ. ثم إن أولئك الملائكة يقولون لهم: ادْعُوا أنتم فإنا لا نَتَجَرأ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين:
أحدهما: أن يكون المشفع له مؤمناً.
والثاني: حصول الإذن في الشفاعة، ولم يوجد شيء من هذين الشرطين لكن ادعوا أنتم.
وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة، ولكن لِلدلالة على الخيبة، وأن المَلكَ المقرب إذا لم يسمعْ دعاؤه فيكف يسمع دعاء الكافر؟ ثم صرحوا لهم بأنه لا أثر لدعائهم فقالوا: {دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} أي يبطل ويَضِلّ ولا ينفعهم.
فإن قيل: إنه تعالى يمتنع عليه أن يتأذى من المجرمين يسبب جُرْأَتِهِمْ، وإذا كان التَّأَذِّي محالاً كانت شهوة الانتقام ممتنعةً في حقه، وإذا ثبت هذا فنقول إيصال هذه المضارّ العظيمة إلى أولئك الكفار إضرار خالٍ عن جميع جهات المنفعة فكيف يليق بالرحيم الكريم أن يعذب بترك الآلام أبَدَ الآبادِ ودَهْرَ الدَّاهرِينَ من غير أن يَرْحم حاجتهم، ومن غير أن يسمع دعاءهم، ومن غير أن يلتفت إلى تضرعهم وانكسارهم، ولو أن أقسى الناس قلباً فعل مثل هذا التعذيب ببعض عَبِيدِهِ لأداء كَرَمُهُ ورحمته إلى العفو عنه مع أن هذا السيِّد في محل الحاجة والنفع والضرر فأكرم الأكرمين كيف يليق به هذا الإضرار؟
فالجواب: أن أفعال الله لا تُعَلَّل، ولا يُسْأَلُ عما يَفْعَلُ وهم يُسْأَلُونَ فلما جاء الحكم الحق به في الكتاب الحق وجب الإقرار به والله أعلم.
قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ... .} الآية. في كيفية النظم وجوه:
الأول: أنه تعالى لما ذكر وقاية الله موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وذلك المؤمن من مكر فرعون مَنَّ في هذه الآية بأنه ينصر رسله والذين آمنوا معه.
الثاني: لما بين من قبل تَخَاصُم أهلِ النار، وأنهم عند الفزع إلى خزنة جهنم يقولون: ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات أتبع ذلك الرسل وأنه ينصرهم في الدنيا والآخرة.(17/69)
الثالث: قال ابن الخطيب: وهو الأقرب عندي أن الكلام في أول السورة إنما وقع من قوله: إنما يُجَادِلُ في آيَات اللهِ الذين كفروا فلا يغرنك تقلّبهم في البلاد. وأصل الكلام في الرد على أولئك المجادلين وعلى أن المحقين أبداً مشغولين بدفع كيد المبطلين، وكل ذلك إنما ذكره الله تعالى تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتصبيراً له على تحمل الأذى من قومه.
ولما بلغ الكلام في تقرير هذا المطلوب إلى الغاية القصوى وعد تعالى بأن ينصر رسوله على أعدائه تعالى فقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا} . قال ابنُ عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: بالغلبة والقهر، وقال الضَّحَّاحُ: بالحُجَّة، وفي الآخرة بالانتقام من الأعداء وبإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب، وكل ذلك قد كان للأنبياء والمؤمنين، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم، وأهلك أعداءهم بعد أن قتلوا بالانتقام من أعدائهم، كما نصر يحيى بن زكريا لما قُتِلَ فقَتَلَ به سبعين ألفاً.
قوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} قرأ الجمهور يَقُوم بالياء من أسفلَ، وأبو عمرو في رواية المنقريّ عنه وابن هُرْمز وإسماعيل بالتاء من فوق لتأنيث الجماعة.
والأشهاد يجوز أن يكون جمع «شَهيدٍ» كشَرِيفٍ وأشْرَافٍ، وهو مطابق لقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] وأن يكون جمع «شاهد» كصَاحِب، وأصْحاب، وطَائر، وأطيار، قال المبرد وهو مطابق لقوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} [الأحزاب: 45] .
واعلم أن قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} فيه دقيقة لطيفة، وهي أن السلطان العظيم إذا آثر بعض خواصه بالإكرام العظيم عند حضور الجمع من أهل المشرق والمغرب كان ذلك أتمّ وأبهج. وعنى بالأشهاد كل من شهد بأعمال العباد يوم القيامة(17/70)
من ملك ونبي ومؤمن. أما الملائكة فهو الكرام الكاتبون يشهدون على الرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب. وأما الأنبياء فقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] وأما المؤمنون فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143]
قوله «يَوْمَ» بدل من «يوم» قبله، أو بيان له، أو نصب بإضمار أَعْنِي.
وتقدم الخلاف في قوله ِ «يَنْفَع الظَّالِمِينَ» بالياء والتاء آخر الروم. والمعنى لا ينفع الظالمين معذرتهم إن اعتذروا «ولهم اللعنة» البعد من الرحمة، وهذا يفيد الحصر يعني أن اللعنة مقصورة عليهم، وهي الإهانة والإذلال {وَلَهُمْ سواء الدار} يعني جهنم.
فإن قيل: قوله: {لا ينفع الظالمين معذرتهم} يدل على أنهم يذكرون الأعذار، ولكن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا وبين قوله: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] ؟
فالجواب: قوله {لا ينفع الظالمين معذرتهم} لا يدل على أنهم ذكروا الأعذار بل ليس فيه إلا أنه ليس عندهم عذر مقبول، وهذا لا يدل على أنهم ذكروه أم لا وأيضاً فيوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يتعذرون في وقت آخر.(17/71)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب ... } الآية لما بين أنه تعالى ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعاً من أنواع تلك النصرة في الدنيا فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى} .
قال مقاتل: هُدًى من الضلالة، يعني التوراة، ويجوز أن يكون المراد الدلائل القاهرة التي أوردها على فرْعَون وأتباعهِ وكادهم بها، ويجوز أن يكون المراد بالهدى النبوة التي هي أعظم المناصب الإنسانية {وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب} وهو التوراة {هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب} يعنى أنه تعالى لمنا أنزل التوراة على موسى بقي ذلك العِلْمُ فيهم وتَوارَثُوهُ خَلَفاًس عن سَلَفٍ.
وقيل: المراد سائر الكتب أنزلها الله عليهم، وهي كتب أنبياء بني إسرائيل كالتوراة والإنجيل والزَّبُور.(17/71)
قوله: «هُدًى وَذِكْرَى» فيهما وجهان:
أحدهما: أنهما مفعول من أجْلِهِمَا أي لأجل الهُدَى والذكر.
والثاني: أنهما مصدران في موضع الحال.
والفرق بين الهدى والذكرى، أن الهدى ما يكون دليلاً على الشيء وليس من شرطه أن يذكر شيئاً آخر كان معلوماً ثم صار مَنْسِيًّا، وأما الذكرى فهو الذي يكون كذلك، فكتب أنبياء الله تعالى مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المقتدمة.
ولما بين تعالى أنه ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال مُوسى خاطب بعد ذلك محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي فاصبر يا محمد على أذَاهُمْ، إن وعد الله حق في إظهار دينك وهلاك أعدائك. وقال الكلبي: نسخت آية القتل آية الصَّبْر.
قوله: {واستغفر لِذَنبِكَ} قيل: المصدر مضاف للمفعول أي لذنب أمتك في حقك. والظاهر أن الله تعالى يقول ما أراد وإن لم يجز لنا نحن أن نضيف إليه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ذنباً، قال المفسرون: هذا تعبد من الله تعالى ليزيده به درحة، وليصير سنة لمن بعده.
قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} صَلِّ شكراً لربك بالعَشِيِّ والإبْكَارِ، قال الحسن: يعني صلاة العصر وصلاة الفجر، وقال ابن عباس: الصلوات الخمس.(17/72)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
قوله (تعالى) : {إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ... } الآية لما ابتدأ بالرد على الذين يُجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على الترتيب المقتدم إلى هنا نبه تعالى على الداعية التي تحمل أولئك الكفار على تلك المجادلة، فقال: {إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} أي ما يحملهم على هذا العمل الباطل إلا الكبر الذي في صدروهم. قال ابن عباس: والمراد ما في قلوبهم، والصدر موضع القلب فكني به عن القلب لمجاورته.
قوله: {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} قال مجاهد: ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر؛ لأن الله عزّ(17/72)
وجلّ مذلّهم. قال ابن قتيبة: «إن في صدورهم إلا تكبر على محمد، وطمع أن يغلبوه، وما هم ببالغي ذلك» .
وقوله {فاستعذ بالله} قال المفسرون: نزلت في اليهودِ، وذلك أنهم قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنا صاحبنا المسيحُ بنُ داود يعنون الدّجّال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد المُلْكَ إلينا، قال الله تعالى: فاستعذ بالله من فتنة الدجال إنه هو السميع البصير. وقال ابن الخطيب: يعنى بقوله {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} يعنى أنهم يريدون أذاك، ولايصلون إلى هذا المراد بل لا بد وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك. ثم قال تعالى: {فاستعذ بالله} أي فالتجىء إليه من كيد من يجادلك إنه هو السَّمِيعُ بما يقولون أو تقول «البَصِيرُ» بما يعملون وتعمل فهو يجعلك نَافِذَ الحكم عليهم ويصونك عن مكرهم وكيدهم.(17/73)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
قوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} المصدران مضافان لمفعولهما، والفاعل محذوف، وهو الله تعالى.
ويجوز أن يكون الثاني مضافاً للفاعل أي أكبر مما يخلقه الناسُ، أي يصنعونه.
ويجوز أن يكون المصدران واقعين موقع المخلوق، أي مخلوقهما أكبر من مخولقهم، أي جرمهما أ: بر من جرمهم.
فصل
اعلم أنه تعالى لما وصف جدالهم في الآيات بأن بغير سلطان ولا حجة، ذكر لهذا مثلاً، فقال: لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس والقادر على الأكبر قادر على الأقلّ لا محالة. وتقرير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقال: لما قدر على الأضعف، وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد.
(وثانيها: أن يُقَال: لما قدر على الشيء قدر على مِثْلِهِ، فهذا استدلال صحيح لما ثبت في الأصول: أن حكم الشيء حكم مثله) .(17/73)
وثالثها: أن يُقَالَ: لما قدر على الأقوى الأكمل (فَبِأَنْ) يقدر على الأقل الأرذل كان أولى. وهذا استدلال في غاية الصحة والقوة، ولا يرتاب فيه عاقل البتةَ. ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السمواتِ والأرضِ هو الله سبحانه وتعالى ويعملون بالضرورة أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وكان من حقهمخ أن يقروا بأن القادر على خلق السموات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه اولاً فهذا برهان كلي في إفادة هذا المطلوب.
ثم إن هذا البرهان على قوته صار بحيث لا يعرفه أكثر الناس، والمراد منه الذين ينكرون الحشر والنشر. فظهر بهذا المثال أنَّ هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا حجة بل بمجرد الحَسَدِ والكِبْر والغَضَب.
ثم لما بين الله تعالى أن الجِدَال المقرونَ بالكِبر والحسد، والجَهْل كيف يكون؟ وأن الجدال بالحجة والبرهان كيف يكون؟ نبه تعالى على الفرق بين البيانين فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} يعني: وما يستي المستدل والجاهل فالمقلد، ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} فالمراد بالأول: التفاوت بين العالم والجاهل والمراد بالثاني: التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال السيئة الباطلة، ثم قال: {قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} يعني أنهم وإن كانوا (يعلمون) أن العلمَ خير من الجهل، وأن العمل الصالح خيرٌ من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما يتذكرون. فبين في النوع الأول المعنى من الاعتقاد أنه علم أو جهل، وفي النوع الثاني المعنى من العمل أنه عملٌ صالح أو فاسدٌ.
فصل
قوله: (وَالْبَصير) اعلم أن التقابلَ يجيء على ثَلاَثِ طُرُقٍ:
أحدهما: أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية.
والثانية: أن يتأخر المتقالابن كقوله تعالى: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} [هود: 24] .
والثالثة: أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} [فاطر: 1920] . وكل ذلك تفنن في البلاغة.
وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} .(17/74)
قوله: {وَلاَ المسيء} لاَ زائدة للتوكيد؛ لأنه لما طال الكلام بالصلة بعد تقسيم المؤمنين، فأعاد معه «لا» توكيداً، وإنما قدم المؤمنين لمجاورتهم.
قوله: «تتذكرون» قرأ الكوفيون بتاء الخطاب، والباقون بياء الغيبة، والخطاب على الالتفات للمذكورين بعد الإخبار عنهم. والغيبة نظراً لقوله: «إنَّ الَّذِين يُجَادِلُونَ» وهم الذين التفت إليهم في قراءة الخطاب.(17/75)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
قوله: {إِنَّ الساعة} يعني القيامة {لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة لما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة أردفه بالإخبار عن وقوعها.(17/75)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ ... } الآية لما بين أن القولَ بالقيامة حق وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى أو التضرع عليه لا جَرَمَ كان الاشتغال بالطاعة من أهم المُهِمّات، ولما كان أشرفَ أنواع الطاعات الدعاءُ والتضررعُ لا جَرَمَ أمر الله تعالى به فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
واختلفوا في المراد بقوله «ادعوني» فقيل: المراد منه الأمر بالدعاء، وقيل: الأمر بالعبادة بدليل قوله بعده: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ، وأيضاً الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} [النساء: 117] . وأجاب الأوّلونَ بأن هذا ترك للظاهر فلا يُصَار إلا بدليل.
فإن قيل: كيف قال: «ادعوني أستجب لكم» ، وقد يُدْعَى كثيراً فلا يستجاب؟
وأجاب الكَعْبِيُّ بأن الدعاء إنما يصح بشرط، ومن دعا كذلك يستجيب له، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة.
ثم سأل نفسه فقال: إن الله تعالى يفعل ما هو الأصلح بغير دعاء فما الفائدة في الدعاء؟
وأجاب عنه بوجهين:(17/75)
الأول: أن فيه الفزعَ والانقطاعَ إلى الله تعالى.
الثاني: أن هذا أيضاً وارد على الكل لأنه إن علم أنه يفعله فلا بدّ وأن يفعله، فلا فائدة في الدعاء وإن علم أنه لا يفعله فإنه البتة لا يفعله، فلا فائدة في الدعاء أيضاً، فكل ما يقولونه ههنا فهو جوابنا.
قال ابن الخطيب: وعندي وجه آخر وهو أنه قال: ادعوني أستجيب لكم، وكل من دعا الله وفي قلبه ذَرّة من الاعتماد على ماله وجاهه وأصدقائه واجتهاده فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان وأما القلب فإنه يعول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، فهذا اللسان ما دعا ربه، أما إذا في وقت لا يكون القلبُ فيه متلفتاً إلى غير الله فالظاهر أن يستجاب له.
قوله: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وهذا إحسانٌ عظيمٌ من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء. وروى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ لَمْ يَدْعُ اللهَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ» .
فإن قيل: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال حكاية عن ربه عزّ وجلّ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أعْطِي السَّائِلينَ» .
فهذا يقتضي أن ترك الدعاء أفضل، وهذه الآية تدل على أن ترك الدعاء يوجب الوعيد الشديد فكيف الجمع بينهما؟
فالجواب: لا شك أن العقلَ إذا كان مستغرقاً في الثناء كان ذلك أفضلَ في الدعاء لأن الدعاء طلب الجنة، والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الجنة، أما إذا لم يحصل الاستغراق كان الاشتغال بالدُّعَاء أولى؛ لأن الدعاء يشتمل على معرفة الربوبية وذُلّ العبودية.
قوله: «سَيَدْخُلُونَ» قرأ ابن كثير وأبو جعفر «سَيُدْخَلُونَ» بضم الياء وفتح الخاء، والآخرون بفتح الياء وضم الخاء «دَاخِرِينَ» صاغرين ذَلِيلِينَ.(17/76)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
قوله تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} اعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين:
الأول: كأنه تعالى قال: إني أنعمت عليك قبل طلبك هذه النعم العظيمة، ومن أنعم عليك قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال؟! .
والثاني: أنه تعالى لماأمر بالدعاء فكأنه قيل: الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القدر؟ فذكر تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته، وقد تقدم ذِكْرُ الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وهي إما فلكيّة، وإما عُنْصُرِيَّة وأن الفلكيات أقسامٌ كثيرة، أحدُها الليلًُ والنهارُ، وأن أكثرَ مصالح العالم مربوطةٌ بهما فذكرهما الله تعالى ههنا، وبين أن الحكمة في خلق الليل حصولُ الراحة بالنوم والسكون، والحكمة في خلق النهار إبصار الأشياء؛ لِيُمْكِنَ التصرفُ فيها على الوجه الأنفع.
فإن قيل: هلاَّ قِيلَ بحسب رِعاية النظم هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو يقال: جعل لكم الليلَ ساكناً والنهار مبصراً ولكنه لم يقل ذلك، فما الفائدة؟ وما الحكمة في تقدم ذكر الليل؟ .
فالجواب عن الأول: هو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عَدَمِيَّة فهو غير مقصود بالذات، وأما اليقظة فأمور وجودية، وهي مقصودة بالذات. وقد بيّن الشيخ عَبْدُ القَاهِر النَّحوِيُّ في دلائل الإعْجَازِ أن دلالة صيغة الاسم على الكمال والتمام أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في الفَرْق.
وأما الجواب عن الثاني: فهو أن الظلمة طَبِيعَةٌ عدمِيَّة، والنورُ طبيعةٌ وجودية، والعدم في المُحْدَثَاتِ مقدَّمٌ على الوجود؛ فلهذا السبب قال في أول سورة الأنعام: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] .
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} والمعنى أن فضل الله تعالى على الخلق كثيرٌ جداً، ولكنه لا يشكرونه.(17/77)
واعلم أن ترك الشكر لوجوه:
الأول: أن يَعْتَقِدَ الرجل أنّ هذه النعم ليست من الله، مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها، واجبة الدوران (لذواتها) فيعتقد أن هذه النعم منها.
الثاني: أن يَعْتَقِدَ أن كلَّ هذا العالم إنما حصل بتخليق الله وتكوينه إلا أن نعمةَ تَعَاقُبِ الليل والنهار لما دامت واستمرت نَسِيها الإنسان، فإذا ابْتُلِيَ الإنسان بفِقْدانِ شيء منها عرف قدرها مثل أن يحبس في بئر عميق مظلمةٍ مًُدَّةً مديدةً، فحينئذ يعرف ذلك الإنسان قَدْرَ نعمةِ الهواء الصافي وقَدْر نعمة الضوء، وقد كان بعض الملوك يعذب بعض خدمه بأن يأمر أقواماً يمنعونه من النوم وعن الاستناد إلى الجدار.
والثالث: أن الإنسان وإن كان عارفاً بهذه النعم إلا أنه يكون حريصاً على الدنيا، محبًّا المالَ والجاهَ، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كُفْران هذه النعم العظيمة، ولما كان أكثر الخلق واقعون في أحد هذه الأودية الثلاثة لا جرم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} .
ونظيره قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] وقول إبليس: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الاعراف: 17] .
ولما بين الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر قال: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} . قال الزمخشري: ذَلِكُمُ المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو اللهُ رَبُّكُمْ، خالق كمل شيء «لا إله إلا هو» أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثانيَ له. {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي فأنى تُصْرَفُونَ أي ولِمَ تَعْدِلُونَ عن هذه الدلائل وتكذبون بها؟ .
قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} العام على الرفع، وزيْدُ بْنُ عليِّ بالنصب. قال الزَّمخشريُّ: «على الاختصاص» . وقرأ طلحة يُؤْفَكُونَ بياء الغيبة. وقوله: «وكذلك يُؤْفَكُ» أي مثل ذلك الإفك بمعنى كما أَفِكْتُمْ عن الحق مع قيام الأدلة {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} يعنى كلّ من جحد بآيات الله ولم يَتَأَملْهَا ولم يكن فيه عزمُ طَلَبِ الحقِّ وخَوْفِ العاقبة أفِكَ كما أَفِكُوا.(17/78)
قوله تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً ... } لما تقدم أن دلائل وجود الله تعالى وقدرته إما أن يكون من دلائل الآفاق وهي غير الإنسان وهي أقسام، وذكر منها أحوالَ الليل والنهار كما تقدم، وذكر منها أيضاً ههنا الأرض والسماء فقال: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً} قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قراراً أي منزلاً في حال الحرارة وبعد المَمَات والسماء بناء أي قائماً ثابتاً وإلا وَقَعَتْ علينا. وقيل: سَقْفاً كالقُبَّة، ثم ذكر دلائل الأنفس، وهي دلالة أحوال بَدَن الإنسان على وجود الصانع القادر الحكيم، وهو قوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} . قوله: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} قرأ أبو رَزِين والأعْمَشُ صِوَركُمْ بكسر الصاد فراراً من الضمة قبل الواو. وقرأت فِرْقَةٌ بضم الصاد وسكون الواو، وجعلوه اسم جنس لصُورَةٍ، كبُسْر وبُسْرَةٍ.
فصل
قال مقاتل: خلقكم فأحسن خَلْقكم. قال ابن عباس رَضِي اللهُ عَنْهُمَا خُلِقَ ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده، وغَيْرُ بن آدم يتناول بفيه. {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات} ، قيل: من غير رقز الدوابِّ. ثم قال: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} ، ومعنى تبارك إمّا الدوام والتبيان وإماكثرة الخيرات. ثم قال: «هُوَ الحَيُّ» وهذا يفيد الحَصْر؛ ولأن لا حيَّ إلا هو. ثم نبّه على الوحدانية فقال: لا إله إلا هو ثم أمر العباد بالإخلاص في الدعاء فقال: {فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} . ثم قال: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} .
والمراد أنه لما كان موصوفاً بصفات الجَلال والعِزة استحق لذاته أن يقال له: الحمد لله رب العالمين وقال الفراء هو خبر، وفيه إضمار الأمر ومجازه فادعوه واحْمدُوهُ. وروى مجاهد عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما من قال: لا إله إلا الله فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين، فذلك قوله: فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين.(17/79)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} لما أورد على المشركين تلك الأدلة الدالة على إثبات إله العالم أمره بهذا القول؛ ليصرفهم عن عبادة الأوثان، وبين وجه النهي ف يذلك وهو ما جاءه من البينات، وهو ما تقدم من الدلائل على أن إله العالم قد ثَبَتَ كونُهُ موصوفاً بصفات الجَلاَل والعظمة على ماتقدم وصريحُ العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به، والأحجار المنحوتة والأخشاب المُصوَّرة لا تصلح أن تكون شريكاً له فقال: وأمرت أَنْ أُسْلِمَ لرب العالمين، وذلك حين دُعِيَ إلى الكفر.
قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ... } لما استدل على إثبات الإليهة بدليل الآفاق وذكر منها الليل والنهنار والأرض والسماء، ثم ذكر الدليل على إثبات الإله القادر بخلق الأنفس وهو نوعان: أحدهما: حسن العودة ورزق الطيّبات؛ ذكر النوع الثاني وهو: تكوين البدن من ابتداء كونه نُطفةً وجَنيناً إلى آخر الشَّيْخُوخَة والموت فقال: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} ، قيل: المراد آدم. قال ابن الخطيب: وعندي لا حاجة إلى ذلك لأن كل غنسان فهو مخلوق من المَنِي ومن دَم الطَّمْثِ والمَنِي مخلوق من دم فالإنسان مخلوق من الدّم، والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما حيواينة وإما نباتية، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكوين الإنسان فكانت الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكموين الإنسان فكانت الإذية كلها منتهية إلى النبات ولانبات إنما يكون من التراب والماء فثبت أن كل إنسان مُتَكَوِّن من التراب، ثم إن ذلك التراب يصير نطفةً ثم علقةً، ثم بعد كونه علقة مراتب إلى أن ينفصل من بطن ألأم. وا لله تعالى ترك ذكرها ههنا لأنه ذكرها في آيات أُخَر، قال: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي أطفالاً {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} . (قال الزمخشري: قوله: لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) متعلق بفعل محذوف، تقديره ثم يبعثُكم لِتبلغُوا أَشُدَّكُمْ، {ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ} أي: أن يصير شَيْخاً، أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سَقْطاً ثم قال: {ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى} أي ولتبغلوا جميعاً {أَجَلاً مُّسَمًّى} وقتاً محدوداً لا تُجَاوِزُونَه وهو وقت الموت. وقيل: يوم القيامة، {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته وتستدلوا بهذه الأحوال العجيبة على وحدانية الله تعالى.(17/80)
ثم قال: {هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ} والمعنى أنه تعالى لما ذكر انتقال الأجسام من كونها تراباً إلى أن بلغت الشيخوخة، واستدل بهذه التغييرات على وجود الإله القادر قال بعده: {هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي كما أن الانتقال من الحياةِ إلى الموت وبالعكس، يدل على الإله القادر.
(و) قوله: {فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ} فيه وجوه:
الأول: معناه أنه لم ينقل هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى بآلةٍ تعينه إنما يقول له كن فيكون.
الثاني: أنه عبر عن الإحياء والإماتة بقوله: {كُن فيَكُونُ} فكأنه قيل: الانتقال من كونه تراباً إلى كونه نطفةً إلى كونه علقةً انتقالاتٌ تَحْصُل على التدريج قليلاً. وأما صَيْرُورَتُهُ حَيَّا فهي إنما تحصل بتعليق جَوْهَر الرُّوح، وذلك يحدث دفعة واحدة فلهذا عبر عنه بقوله: «كن فيكون» .
الثالث: أنَّ من الناس من يقول: إن الإنسان إنما يتكون من المَنِي والدَّم في الرحم في مدة معينة بحسب الانتقالات من حال إلى حال، فكأنه قيل: إنه يمتنع أن يكون كل إنسان عن إنسان آخرَ؛ لأن التسلسل محالٌ، ووقوع الحادث في الأزل محال فلا بد من الاعتراف بإنسان هو الناس وحينئذ يكون حدوث ذلك الإنسان لا بواسطة المَنِي والدم بل بإيجاد الله تعالى، ابتداءً، فعبر الله تعالى عن هذه المعنى بقوله: {كُن فيَكُونُ} .(17/81)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله} الآيات. اعلم أنه تعالى عادَ إلى ذَمِّ الذين يجادلون في آيات الله، أي في إنكار آيات الله ودفعها والتكذيب بها، فعَجَّبَ تعالى منهم بقوله: {أنى يُصْرَفُونَ} ؟ كيف صُرِفُوا عن دين الحق وهذا كما(17/81)
يقول الرجل لمن لا يسمع نصحه: إلى أين يُذْهَبُ بك؟! تعجباً من غفلته.
قوله: «الذين كذبوا» ، يجوز فيه أوجه، أن يكون بدلاً من الموصول قبله، أو بياناً له أو نعتاً أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوباً على الذم، وعلى هذه الأوجه، فقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} جملة مستأنفة، سيقت للتهديد.
ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر الجملة من قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ودخول الفاء فيه واضح.
فصل
المعنى هم الذي كذبوا بالكتاب أي بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا من سائر الكتب؛ قيل: هم المشركون. وعن محمد بن سِيرِين وجماعة: أنها نزلت في القَدَرِيَّة.
قوله: {إِذِ الأغلال} فيه سؤال، هو أن «سوفَ» للاستقبال، و «إِذْ» للماضي، فقوله: {فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم} مثل قولك: سَوْفَ أَصُمُ أَمْسِ، والجواب: جوزوا في «إذ» هذه أن تكمون بمعنى «إذا» ؛ لأن العامل فيها محقق الاستقابل وهو فسوف يعلمون.
قالوا: وكما تقع «إذَا» موضع إِذْ في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] كذلك تقع إِذْ مَوْقِعَهَا.
وقد مضى نَحْوٌ من هذا في البقرة عند قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب} [البقرة: 165] قالوا: والذي حسن هذا تيقن وقوع الفعل، فأخرج في صورة الماضي.
قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى إخْراج «إِذْ: عن موضوعها؛ بل هي باقية على دَلاَلتِهَا على المعنى، وهي منصوبة بقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} نصب المفعول به، أي فسوف يعلمون يوم القيامة وقت الأغلال في أعناقهم أيْ وقتَ سببِ الأغلال، وهي المعاصي التي كانوا يفعلونها في الدنيا، كأنه قيل: سيعرفون وقت معاصيهم التي تَجْعَلُ الأغلال في أعناقهم وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرفُ في إذ يجعلها. وهو وجه واضح غاية في ما فيه التصرف في إذ يجعلها مفعولاً بها. ولا يضر ذلك، فإن المعربين(17/82)
غالب أوقاتهم يقولون: منصوب» باذْكُرْ «مقُقَدَّراً، أو لا يكون حينئذ إلا مفعولاً به لاستحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي.
وجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ مقدراً، أي اذكر لهم وَقْتَ الإِغلال؛ ليخالفوا ويَنْزَجِرُوا، فهذه ثلاثة أوجه خيرها أوسطها.
قوله:» والسَّلاَسِلُ «العامة على رفعها، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه معطوف على الأغْلاَلِ. وأخبر عن النوعين بالجار، فالجال في نية التأخير والتقدير: إذ الأَغْلاَلُ والسَّلاَسِلُ في أعنقاهم.
الثاني: أنه مبتدأ، والخبر محذوف لدلالة خبر الأول عليه.
الثالث: أنه مبتدأ أيضاً، وخبره الجملة من قوله: «يُسْحَبُونَ» ولا بُدَّ مِن ذكر ضمير يعود عليه منها، والتقدير: والسلاسل يُسْحَبُونَ بِهَا، حذف لِقُوَّة الدَّلالةِ عليه.
«فَيُسْحَبُونَ» مرفوع المحل على هذا الوجه. وأما الوجهيه المقتدمين فيجوز فيه النصب على الحال من الضمير المنويّ في الجار، ويجوز أن يكون مستأنفاً.
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مسعُودٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وابْنُ وَثَّابٍ، والحسن في اختياره «والسَّلاَسِلَ» نصباً يَسْحَبُونَ بفتح الياء، مبنياً للفاعل، فيكون السلاسل مفعولاً مقدماً، ويكون قد عطف جملة فعلية على جملة اسمية.
قال ابن عباس في معنى هذه القراءة: إذا كانوا يَجُرُّونَهَا فهو أشد عليهم يكلفون ذلك ولا يطيقونه.
وقرأ ابن عباس وجماعة «والسَّلاَسِل» بالجر يُسْحَبُونَ مبنياً للمفعول وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ:
أحدها: الحمل على المعنى وتقديره إِذْ أَعْنَاقُهُم في الأغلالِ والسلاسلٍ فلما كان(17/83)
معنى الكلام على ذلك حمل عليه في العطف.
قال الزمخري: ووجه إنه لو قيل: «إِذْ أَعْنَاقُهُمْ في الأغلال مكان قوله: إِذ الأَغْلاَلُ في أعناقهم» لكان صحيحاً مستقيماً، فلما كانتا عبارتين مُعْتَقِبَتَيْنِ، حمل قوله: «والسلاسل» (عليه) على العبارة الأخرى. ونظيره:
4347 - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
كأنه قيل: بمصليحن.
وقرىء: بالسَّلاَسلِ. وقال ابن عطية: تقديره: إذا أعناقهم في الأغعلال والسلاسلِ فعطف على المراد من لكلام لا على ترتيب اللفظ؛ إذ ترتيبه فيه قل، وهو على حد قول العرب: أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي.
وفي مصحف أًُبيِّ: وفي السلاسِل يَسْحَبُونها. قال أبو حيان بعد قول ابن عطية والزمخشري المتقدم: ويمسى هذا العطف على التوهم، إلا أن قولهم: إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها، ونظير ذلك قوله:
4348 - أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بثُعَيْلبَاتٍ ... وَلاَ بَيْدَاءَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدارِكٍ واللَّيْلُ طِفْلٌ ... بِبعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُصًُولاً
التقدير: لَسْتَ براءٍ ولا بمتداركٍ.(17/84)
وهذا الذي قالاه سبقهما إليه الفَرَّاءُ فإِنه قال: «من جر السلاسل حمله على المعنى» ، إذ المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل.
الوجه الثاني: أنه عطف على «الحميم» ، فقدم على المعطوف عليه وسيأتي تقرير ذلك.
الثالث: أن الجر على تقدير إضمار الخافض ويؤيده قراءة أُبَيٍّ: «وفِي السَّلاَسِلِ» وقرأ غيره: وبالسَّلاَسِلِ وإلى هذا نحا الزجاج، إلاَّ أنَّ الأنباريِّ ردَّه وقال: لو قلت: «زيد في الدار» لم يحسن أن تضمر «في» فتقول: زيد (في) الدار ثم ذكر تأويل الفراء وخرج القراءة عليه. ثم قال: كما تقول: «خَاصَمَ عَبْد اللهِ زَيْداً العَاقِليْنِ» ، بنصب «العاقلين» ورفعه؛ لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصمه الآخر.
وهذه المسألة ليست جارية على أصول البصريين، ونصّوا على منعها وإنما قال بها من الكوفيين ابْنُ (سَ) عْدَانَ.
وقال مَكيّ: وقد قرىء: والسَّلاَسلِ بالخفض على العطف على الأعناق، وهو غلط؛ لأنه يصير الأغلال في الأعناق وفي السلاسل ولا معنى للأغلال في السَّلاَسل؟
قال شهاب الدين: وقوله: على العطف على الأعناق ممنونع بل خفضه على ما تقدم. وقال أيضاً: وقيل: هو معطوف على «الحميم» وهو أيضاً لا يجوز؛ لأن المعطوف المخفوض، لا يتقدم على المعطوف عليه لو قلت: «مَرَرْتُ وَزَيْدٍ بِعَمْرو» لم يجز، وفي المرفوع يجوز، نحو: قَام وَزَيْدٌ عَمْرٌ، ويبعد في المنصوب لا يحسن رأيتُ وَزَيْداً عَمْراً، ولم يُجِزْهُ في المخفوض أحدٌ.
قال شهاب الدين: وظاهر كلامه أنهن يجوز في المرفوع منعه، وقد نصوا أنه لا يجوز إلا ضرورة بثلاثة شروط:(17/85)
أن لا يقع حرف العطف صدراً، وأن يكون العامل متصرفاً، وأن لا يكون المعطوف عليه مجروراً وأنشدوا:
4349 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ السَّلاَمُ
إلى غير ذلك من الشواهد مع تنصيصهم على أنه مختص بالضرورة. و «السَّلاَسِلُ» معروفة، قال الراغب: «وتَسَلْسَلَ الشيءُ اضطرب كأنه تُصُوِّر منه تسلسلٌ متردد فتردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه. وماء سلسل متردد في مقره» .
والسَّحْبُ: الجر بمعنف، والسَّحابُ من ذلك لأن الريح تَجُرُّوهُ، أو لأنه يجر الماء، وسجرت التَّنُّورَ أي ملأته ناراً وهيجتها، ومنه البحر المسجور، أي المملوء، وقيل: المضطرب ناراً، وقال الشاعر (رحمة الله عليه) :
4350 - إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورةً ... تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ والشَّوْحَطَا
فمعشنى قوله تعالى هنا: {ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} أي يوقد بهم، كقوله تعالى: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} [التحريم: 6] والسَّجِيرةُ: الخليلُ الذي يَسْجُرُ في مَوَدَّة خليله، كقولهم: فُلاَنٌ يَحْتَرِقُ فِي مَوَدَّةِ فُلاَنٍ.(17/86)
فصل
هذه كيفية عقابهم، والمعنى أنه يكون في أعناقهم أغلال وسلاسل ثم يسحبون بتلك السلاسل في الماء المُسَخَّنِ بنار جهنم، ثم تُوقَدُ بهم النار {قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله} يعني الأصنام {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} أي فقدناهم وغابوا عن عيوننا فلا نراهم، ثم قالوا: {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً} أنكروا، كقولهم في سورة الأنعام: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وقيل: معناه لم نكن ندعو من قبل شيئاً يضر وينفع. وقال الحسين بن الفضل: أي لم نكن نصنع من قبل شيئاً أي ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله: «ما كنت أعمل شَيْئاً» .
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} قال القاضي: معناه أنه يُضِلُّهم عن طريق الجنة، ولا يجوز أن يقال: بضلهم عن الحجة، وقد هداهم في الدنيا، وقال {يُضِلُّ الله الكافرين} مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى أنهم لو نطلبوا الآلهة، أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر.
قوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ} أي ذلكم العذابُ الذي نزل بكم {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ} تَبْطُرون وتَأشِرُنَ {فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} تفرحون وتختالون. وقيل: تفرحون من باب التجنيس المحرف، وهو أن يقع الفرق بين اللفظين بحرف.
قوله: {ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} أي السبعة المقسومة لكم {خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} المخصوص بالذم محذوف؛ أي جهنمُ أو مَثْوَاكُمْ، ولم يقل: فبئس مدخل؛ لأن الدخول لا يدوم وإنما يدوم الثّواء، فلذلك خصه بالذم، وإن كان أيضاً مذموماً.(17/87)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
قوله تعالى: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} لما زَيَّفَ طريقة المجادلين في آيات الله تعالى أمر في هذه الآية رسوله بأن يصبرَ على أذاهم بسبب جدالهم، ثم قال: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} . والمراد ما وعد الرسول نُصْرته، ومن إنزال العذاب على أعدائه.
قوله: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} قال الزمخشري: أصله: فَإِن نُرِكَ و «ما» مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل، ألا ترَاك تقول: «إنْ تُكرِمَنِّي أكْرِمْكَ، ولكن إِمَّا تُكْرِمَنِّي أُكْرِمْكَ» قال أبو حيان: «وما ذكره من تَلاَزُمِ النون، ما الزائدة، ليس مذهب سيبويه، إنما هو مذهب المبرد، والزجاج.
ونص سيبويه على التخيير، وقد تقدمت هذه القواعدُ مستوفاةً.
قوله: {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} ليس جواباً للشرط الأول، بل جواباً لما عطف عليه.
وجواب الأول محذوف. (قال الزمخشري:» فَإِلَيْنَا «متعلق بقوله» نَتَوفَّينَّكَ «وجواب نرينك محذوف) تقديره: فإن نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب والقتل يوم بدر، فذاك؛ وإنْ» نَتَوَفَّيَنَّكَ «قبل يوم بدر» فَإِلَيْنَا يُرجَعُونَ «فننتقم منهم أشدُّ الانتقام. وقد تقدم مثلُ هذا في سورة يونس. وبحثُ أبي حَيَّانَ مَعَهُ.
وقال أبو حيان هَهُنَا: وقال: جواب» إما نُرِيَنَّكَ «محذوف؛ لدلالة(17/88)
المعنى عليه أي فتقرّ عينك، ولا يصح أن يكون» فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ «جواباً للمعطوف عليه والمعطوف، لأن تركيبَ» فإما نُرينك بعض الذي نعدهم في حياتك فإلينا يرجعون «ليس بظاهر، وهو يصحُّ أن يكون جواب» أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ «أي فإِلينا يرجعون فننتقم منهم ونعذبهم، لكونهم يَتَّبِعُوكَ.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 41 و42] . إلا أنه هنا صرح بجواب الشرط، قال شهاب الدين: وَهَذَا بعَيْنِهِ هو قولن الزمخشري. وقرأ السُّلَمِيُّ ويَعْقُوبُ: يَرْجِعُونَ بفتح ياء الغيبة مبنياً للفاعل، وابْنُ مِصْرِفٍ ويعقوبُ أيضاً بفتح الخطاب.
قوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا} يجوز أن يكون» مِنْهُمْ «صفة» لِرُسُولاً «فيكون» مَنْ قَصَصْنَا «فاعلاً لاعتماده ويجوز أن يكون خبراً مقدماً، و» مَنْ «مبتدأ مؤخر.
ثم في الجملة وجهان:
أحدهما: الوصف» لِرُسُلاً «وهو الظاهر.
والثاني: الاستئناف.
فصل
معنى الآية قال لمحمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) ، أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس فيهم أحد أعطاه الله آياتٍ ومعجزاتٍ، إلا وقد جادله قومُه فيها وكَذَّبُوه فصبروا، وكانوا أبداً يقترحون على الأنبياء إظاهر المعجزات الزائدة علكى الحاجة عِناداً وعبثاً، {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} ، والله تعالى علم الصلاح في إظهار ما أظهروه، فلم يَقْدَحْ ذلك في نُبُوَّتِهِمْ، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً لا جَرَمَ ما أظهرناها.
ثم قال: {جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق} أي فإذا جاء قضاءُ الله بين الأنبياء والأمم قضي بالحق {وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} وهم المعاندون الذين يجادلون في آيات الله فيقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة تعنتاً وعبَثاً.
قوله تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام ... } الآية. لما ذكر الوعيدَ عاد إلى ذِكر(17/89)
ما يدل على وجود الإِلَهِ القَادِرِ الحَكِيمِ، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد.
قال الزجاج: «الأَنْعَامُ الإِبل (خاصة) َ» ، وقال القاضي: هي الأزواج الثمانية. وقوله: «مِنْهَا ... . وَمِنْهَا» .
«من» الأولى يجوز أن تكونَ لِلتَّبْعِيض، إذ ليس كُلُّها تُرْكَبُ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية إذ المرادُ بالأنعام شيءٌ خاصٌّ هي الإبل، قال الزجاج: لأنه لم يُعْهد المركوبُ غيرها «.
وأما الثانية فكالأولى. وقال ابن عطية: هي لبيان الجنس قال: لأن الخيل منها ولا تُؤْكَلُ.
فإن قيل: ما السَّبَبُ في إدخال لام العِوَض على قوله:» لِتَرْكَبُوا «وعلى قوله:» لِتَبْلُغُوا «ولم يدخل على البَوَاقِي؟ .
فالجواب: قال الزمخشري: الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجباً أو مندوباً، وأيضاً ركوبها لأجل حاجتهم، وهي الانتقال من بلدٍ إلى بلد آخر لطلب علم أو إقامة دين يكون إما واجباً أو مندوباً فهذان القسمان أغراض دينيةٍ، فلا جَرَمَ أدخل عليها حرف التعليل نظيره قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] فأدخل حرف التعليل على» الرُّكُوبِ «ولم يدخله على الزِّينَةِ.
قوله {لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا} أي بعضها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها {وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} لحمل أثقالكم من بلد إلى بلد. قوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أي على الإبل في البرِّ، وعلى السفن في البَحْرِ.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: في الفلك، كما قال: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] ؟ .
فالجواب: كلمة على للاستِعْلاَء، فالشيء يُوضَع على الفلك كما صح أن يقال: وضع فيه صح أن يقال: وضع عليه ولما صح الوجهان كانت لفظةُ» عَلَى «أولى حتى يتم المزاوجة في قوله: {وعليها وعلى الفلك تحملون} .(17/90)
وقال بعضهم: إن لفظة» فِي «هناك ألْيَقُ؛ لأن سفينة نُوحٍ على ما قيل كانت مُطْبِقَةً عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء، وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح، لان الناس على ظهرها.
قوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} دلائل قدرته، وقوله: {فَأَيَّ آيَاتِ الله} منصوب ب» تُنْكِرُونَ «وقدم وجوباً لأن له صدر الكلام. قال مكيّ: ولو كان مع الفعل هاءٌ لكان الاختيار الرفع في أي بخلافِ ألف الاستفهام تدخل على الاسم، وبعدها فعلٌ واقعٌ على ضمير الاسم فالاختيار النصب نحو قولك: أَزَيْداً ضَرَبْتَهُ، هذا مذهب سيبويه فرق بين الألف وبين» أي «يعني أنك إذا قُلْت: أَيّهُمْ ضَرَبْتَ؟ كان الاختيار الرفع؛ لأنه لا يُحْوجُ إلى إضمار مع أن الاستفهام موجود وفي» «أَزَيْداً ضَرَبْتَهُ» يختار النصب لأجل الاستفهام فكان مقتضاه اختيار النصب أيضاً فيما إذا كان الاستفهام بنفس الاسم، والفرقب عَسِرٌ.
وقال الزمخشري: «فأَيَّ آيَاتِ» جاءت على اللغة المسفيضة وقولك: فأيه آياتِ الله قليلةٌ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو: حِمَار، وحِمَارة غريب، وهو في أي أغرب (لإبهامه) قال أبو حيانَ (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ) : وِمن قلة تأنيث أيَّ قولُه:
4351 - بأيِّ كتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وتَحْسِبُ
وقوله: وهو في «أي» أغرب إن عَنَى «أيًّا» على الإطلاق فليس بصحيح؛ لأن المستفيضَ في النِّداء أن يؤنث في نداء المؤنث كقوله تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة} [الفجر: 27] ولا نعلم أحداً ذكر تذكيرها فيه فيقول: يأَيُّها المرأَةُ، إلا صاحب البَدِيع في النَّحْوِ. وإن(17/91)
عنَى غير المناداة فكلامه صحيح يقل تأنيثها في الاستفهام، وموصولة شرطية.
قال شهاب الدين: أما إذا وقعت صفةً لنكرة أو حالاً لمعرفة فالذي ينبغي أن يجُوزَ الوجهان كالموصولة ويكون التأنيث أقلّ نحو: مررتُ بامرأةٍ أَيَّةِ امرأة، وجَاءَتْ هِنْدٌ أَيَّةُ امْرَأَةٍ وكان ينبغي لأبي حَيَّانَ أن ينبه على هذين الفَرْعَيْنِ.
فصل
معنى قوله {فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ} أَيْ هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة ليس في شيء منها ما يمكن إنكاره.(17/92)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ... } معناه أن هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات الله وحصل الكِبْر العظيم في صدورهم، إنما كان السبب في ذلك طلب الرياسة والتقديم على الغير في المال والجاه ومن ترك الانقياد على الحق طلباً لهذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا وهذه طريقة فاسدة؛ لأن الدنيا ذاهبة واحتج بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض ... } يعني لو ساروا في أطراف الارض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين والمتمردين ليس إلا الهلاك والبَوَار مع أنهم كانوا أكثر عَدَداً وعِدَداً ومالاً من هؤلاء المتأخرين، فلما لم تُفِدْهُمْ تلك المُكْنَةُ العظيمة إلا الخَيْبَة والخَسَار فكيف حال هؤلاء الفقراء المساكين؟! .
قوله: {فما أغنى عنهم} يجوز في «ما» أن تكون نافية واستفهامية بمعنى النفي، ولا حاجة إليه وقوله «مَا كَانُوا» يجوز أن يكون «ما» مصدرية، ومحلها الرفع أي مَكْسُوبُهُمْ أو كَسْبُهُمْ ويجوز أن يكون بمعنى الذي فلا عائد على الأول وعلى الثاني هو محذوف أي يكسبونه وهي فاعل «بأَغْنَى» على التقديرين.(17/92)
قوله: {عِندَهُمْ مِّنَ العلم} فيه أوجه:
أحدهما: أنه تهكم بهم، والمعنى ليْسَ عندهم عِلْم.
الثاني: أن ذلك جاء على زَعْمِهِمْ أنَّ عندهم علماً ينتفعون به.
الثالث: أن «مِنْ» بمعنى بدل أي بما عندهم من الدنيا بدل العلم.
الرابع: أن يكون الضمير للرسل، أي فَرِحَ الرسل بما عندهم من العلم.
الخامس: أن الأول للكفار، وأما الثاني لِلرسل، ومعناه فرح الكفار فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بماعند الرسل من العلم؛ إذ لم يأخذوه بقبول ويمتثلوا أوامر الوحي ونواهيه. وقال الزمخشري: وَمِنْهَا أي من والوجوه أن يوضع قوله: {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة مع تهكم بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم وجهلهم.
قال أبو حيان: ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام، نحو: «شَرٌّ أهَرَّ ذا ناب» على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز. وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة.
فصل
قال المفسرون: الضمير في قوله: «فَرِحُوا» يحتمل أن يكون عائداً على الكفار وأن يكون عائداً إلى الرسل فإن عاد إلى الكفار، فذلك العلم الذي فرحوا به قيل: هو الأشياء التي كانوا يسمونها علماً، وهي الشبهات المحكيّة عنهم في القرآن، كقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] وقولهم: {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 184] وقولهم: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً}
[الكهف: 36] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء، كما قال {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] و [الروم: 32] وقيل: المراد علوم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغَّروا علوم الأنبياء عن علومهم كما روي عن سقراط أن سمع بمجيء أحد الأنبياء علهيم الصلاة والسلام فقيل له: لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا. وقيل: المراد علمهم(17/93)
بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم} [النجم: 30] فلما جاءت الرسل بعلوم الديانات ومعرفة الله تعالى، ومعرفة المعاد وتطهير النفس من الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزأوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفائدة من علمهم ففرحوا به.
وإن عاد الضمير إلى الأنبياء ففيه وجهان:
الأول: أن يفرح الرُّسُلُ إِذَا رَأوا من قومهم جهلاً كاملاً وإعراضاً عن الحقِّ وعلموا سوء غَفْلَتِهِمْ وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم يفرحوا بما أوتوا من العلم، ويشركوا الله عليه «وَحَاقَ» بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
الثاني: أن المراد أن الرسل فرحوا بما عندهم من العلم فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاء.
قوله: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أي عذابنا {قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله، البأسُ: شدة العذاب، ومنه قوله تعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] . قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} يجوز رفع «إيمانهم» اسماً لكان، و «ويَنْفَعُهُمْ» جملة خبراً مقدماً، ويجوز أن يرتفع بأنهن فاعل ينفعهم، وفي كان ضمير الشأن.
وقد تقدم هذا محققاً في قوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137] وأنه ليس من باب التنازع. ودخل حرف النفي على الكون لا على النفي؛ لأنه بمعنى لا يصح ولا ينبغي، كقوله تعالى: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] .
واعلم أن المراد بالوقت الذي لا ينفع الإيمان فيه هو وقت مُعَاينَة نزول ملائكة الرحمة وملائكة العذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لاَ يَنْفَعُ.
قوله: {سُنَّةَ الله} يجوز انتصابها على المصدر المؤكد لمضمون الجملة يعني إن الذي فعل الله بهم سنة سابقة من الله، ويجوز انتصابها على التحذير، أي احذَرُوا سنة الله في المكذبين {التي قد خلت في عباده} ، وتلك السنة أنهم إذا عاينوا العذاب آمنوا(17/94)
ولا ينفعهم إيمانهم {هُنَالِكَ الكافرون} «هُنَالِكَ» في الأصل مكان. قيل: واستعير هنا للزمان، ولا حاجة فالمكانيةُ فيه ظاهرة، أي وخسر هُنَالِكَ الكافرون بذهاب الدارين.
قال الزَّجَّاجُ: «الكافر خاسر في كل وقت، وإنما يُبَيِّنُ لهم خسرانهم إذا رأوا العَذَاب» .
فصل
قال بن سيرين: رأى رجل في المنام سَبْعَ جوارٍ حِسَانٍ في مكان واحد لم ير أحْسَنَ منْهُنَّ فقال لهُنَّ: لِمَنْ أنتُنَّ؟ فقُلْنَ: لِمَنْ قَرَأَ آلَ حمَ.
(اللَّهم وفِّقنا لكتابك) (والله سبحانه وتعالى أعلم) .(17/95)
سورة فصلت(17/96)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
مكية وهي أربع وخمسون آية، وسبعمائة وتسعة وتسعون كلمة، وثلاثة آلاف وثلثمائة وخمسون حرفا بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {حم تنزيل من الرحن الرحيم} يجو أن يكون «تنزيل» خبر «حم» على القول بانها اسم السورة،. ويجوز أن يكون تنزيل خبر ابتداء مضمر، أي هذا تنزيل.
وقال الأخفش: تنزيل رفعت بالابتداء و «كتاب» خبره.
قوله: «كتاب» قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً لِتَنْزِيلُ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من تنزيل، وأن يكون فاعلاً بالمصدر، وهو تنزيل أي نزل الكتاب، قاله أبو البقاء. و {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} صفة «لِكتَابٍ» .
قوله: «قرآناً» في نصبة ستةُ أوجه:
أحدها: هو حال بنفسه. و «عَرَبِيًّا» صفته، أو حال مُوطِّئَة، والحال في الحقيقة «(17/96)
عربياً» وهي حال غير متنقلة وصاحب الحال إما كتاب لوصفه بفصلت، وما «آياته» ، أو منصوب على المصدر، أي يقرأه قرآناً أو على الاختصاص والمدح، أو مفعول ثانٍ «لفصلت» ، أو منصوب بتقدير فعل، أي فصَّلْنَاهُ قُرْآناً.
قوله: «لِقَومٍ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق «بفصلت» أي فصلتُ لهؤلاءِ وبينتُ لهم؛ لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت مفصلة في نفسها لجميع الناس.
الثاني: أن يتعلق بتنزيل. وهذا إذا لم تجعل «مِنَ الرَّحْمنِ» صفة له؛ لأنك إن جعلت «من الرحمن» صفة له، فقد أعلمت المصدر الموصوف وإذا لم يكن «كتاب» خبراً عنه، ولا بدلاً منه؛ لئلا يلزم الإخبار عن الموصول أو المبدل منه قبل تمام صلته، ومن يتسع في الظرف وعديله لم يبال بشيءٍ.
وأما إذا جعلت «من الرحمن» متعلقاً به و «كتاب» فاعلاً به فلا يَضُرُّ ذلك؛ لأنه من تتماته وليس بأجنبي.
فصل
اعلم أنه تعالى حكم على هذه السورة بأشياء:
أولها: كونها تنزيلاً، والمراد المنزل، والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور، كقوله: هذا بناء الأمير أي مبنيّه، وهذا الدِّرهم ضربُ السُّلطان (أي مضروبه) ومعنى كونه منزلاً: أن الله كتبها في اللوح المحفوظ، وأمر جبريل، عليه (الصلاة) والسلام أن يحفظ الكلمات ثم ينزل بها على النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويُؤَدِّيها إليه، فلما حصل تفهيمُ هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل عليه (الصلاة) والسلام سمي بذلك تنزيلاً.
وثانيها: كون ذلك التنزيل من الرحن الرحيم، وذلك يدل على أن ذلك التنزيل نعمةٌ عظيمة من الله تعالى، لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسباً لتلك(17/97)
الصفة، فكونه تعالى رحمن رحيماً صفتان دالتان على كما الرحمة، فالتنزيلُ المضاف إلى هاتين الصفتين لا بدَّ وأن يكون دالاً على أعظم وجوه الرحمة والنعمة والأمر كذلك؛ لأن الخَلْقَ في هذا العالم كالمرضى والمُحتاجين، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأحصاء من الأغذية، فكان أعظم النعم من الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم.
وثالثها: كونه كتاباً، وتقدم أن هذا الاسم مشتق من الكَتْبِ وهو الجمع، فسمي كتاباً لأنه جمع فيه عِلْمَ الأولين والآخرين.
ورابعها: قوله فصلت آياته، أي ميزت وجعلت تفاصيل في معانٍ مختلفةٍ فبعضها وصف ذات الله، وصفاتِ التنزيه والتقديس وشرح كمال عمله وقدرته ورحمته وعجائب أصول خلقه من السموات والكواكب وتعاقب الليل والنهار، وعجائب أحوال النبات والحيوان وبعضها في المواعظ والنصائح، وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس، وبعضها في قَصَص الأنبياء وتواريخ الماضين، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمختلفة مثل ما في القرآن.
وخامسها: قوله: قرآناً وقد سبق توجيه هذا الاسم.
وسادسها: قوله عربياً أي إنما نزل بلغة العرب، ويؤكده قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 5] .
وسابعها: قوله «لقوم يعلمون» أي جعلناه قرآناً لأَجْلِ أنا أنزلناه على قوم عربٍ بلغتهم ليفهموا منه المراد.
وثامنها وتاسعها: قوله «بشيراً نذيرا» يجوز أن يكونا نعتين لقرآناً، وأن يكونا حالين؛ إما من كتاب وإما من آياته، وإما من الضمير المنوي في قرآناً. وقرأ زيد بن علي برفعهما على النعت لكتاب، أو على خبر ابتداء مضمر، أي هو بشير ونذير، ومعناه بشيراً للمطيعين بالثواب ونذيراً للمجرمين بالعقاب.
قال ابن الخطيب: والحق أن القرآن بشارة ونِذَارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملاً في هذه الصفة كما يقال: شعر شاعر وكلام قائل.(17/98)
عاشرها: كونهم معرضين عنه لا يسمعونه ولا يتلفتون إليه، فهذه الصفات العشرة التي وصف الله تعالى القرآن بها.
فصل
احتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه:
الأول: أنه وصف القرآن بكونه مُنَزَّلاً وتَنْزِيلاً، والمنزَّلُ والتنزيلُ مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكونَ مخلوقاً.
الثاني: أن التنزيل مصدر، والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين.
الثالث: أن المراد بالكتابة إما الكتابة، وهي المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول.
الرابع: أن قوله: «فصلت آياته» (بدل) على أن متصرفاً يتصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم.
الخامس: أنه إنما سمي قرآناً، لأنه قُرِنَ بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل.
السادس: وصفه بكونه «عربياً» ، وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب، واصطلاحاتهم، وما حصل بِجَعْلِ جاعل وفِعْلِ فاعل فلا بد وأن يكون مُحْدَثاً ومَخْلُوقاً.
والجواب
: أ
، كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة.
فصل
ذهب قومٌ إلى أن القرآن من سائر اللغات كالإستبرق والسِّجيل فإنهما فارسيان والمِشْكَاة فإنها حبشية، والقِسْطَاسِ، فإنه من لغة الروم، وهذا فاسد لقوله(17/99)
تعالى: «قرآناً عَرَبياً» ، وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 5] .
فصل
قالت المعتزلة: الإيمان والكفارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ألفاظ شرعية لا لغوية بمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مُسمَّياتها اللُّغويَّة الأصلية إلى مسميات أخرى. وهذا باطل، وليس للشرع تصرفٌ في هذه الألفاظ إلا من وجهٍ واحد، وهو أنه خَصَّص هذه الأسماء بنوعٍ معيَّنٍ من أنواع مسمَّيَاتها، كما أن الإيمان عبارةٌ عن التصديق والصلاة عبارة عن الدعاء، فخصَّصه الشرع بنوع معين من الدّعاء، وكذا القول في البواقي.
فصل
تمسك القائلون بأن أفعال الله تعالى معلَّلةٌ بالمصالح والحكمة بهذه الآية فقالوا: إنها تدل على أنه إنما جعله قرآناً عربياً لأجل أن يعلموا المراد منه، فدل على أنَّ تعليل أفعالِ الله وأحكامه جائز.
فصل
قال قوم: القرآن كله معلوم لقوله تعالى: قرآناً عربياً لقوم يعلمون يعني إنما جعلناه عربياً ليصير معلوماً والقول بأنه غير معلوم يقدح فيه.
قوله: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} لا يصغُّون تكبراً. وهذه الآية تدل على أنه لا مُهْتَدِي إلا من هَدَاه الله، ولا مُضِلَّ إلا من أضله الله. ولما وصف الله تعالى القرآن بأنهم أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه بين أنهمه صرحوا بهذه النفرة، وذكروا ثلاثة أشياء:
أحدها: قوله: «فِي أَكِنَّةٍ» ، قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل: وفي آذَانِنَا وقر ليكون الكلام على نمطٍ واحد؟ قلت: هو على نمط واحد؛ لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: قلوبنا في أكنة، وعلى قلوبنا أكنة، والدليل عليه قوله تعالى: (إنَّا) جعلنا على قُلُوبِهِم، ولو قيل: جعلنا قلوبهم في أكنةٍ لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منه لا يرون الطباق (والملاحظة) إلا في المعاني.
قال أبو حيان: و «في» هنا أبلغ من على، لأنهم قصدوا الإفراط في عدم القبول(17/100)
بحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف، فلا يمكن أن يصل إليها شيء كما تقول: المالُ في الكيسِ بخلاف قولك: المالُ على الكيس، فإنه لا يدل على الحَصر، وعدم الوصول دلالة الوعاء، وأما «وجعلنا» فهو من إخبار الله تعالى فلا يحتاج إلى مبالغة.
وتقدم تفسير الأكنة والوقر.
وقرأ طلحة بن مصرف وِقْر بكسر الواو وتقدَّم الفرق بينهما.
قوله: «مِمَّا تَدْعُونَا» من في «مِمَّا» وفي «ومِنْ بَيْننا» لابتداء الغاية والمعنى أن الحِجاب ابتداء منا وابتداء منك فالمسافة المتوسطة جهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها، فلو لم تأتٍ «مِنْ» لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين.
والمقصود المبالغة بالتبايُن المُفرِط، فلذلك جيء بِمِنْ قاله الزمخشري. وقال أبو البقاء: هو محصول على المعنى؛ لأن المعنى في أكنة محجوبةٍ عن سماع ما تدعُونا إليه. ولا يجوز أن يكون نعتاً لأَكنَّةٍ؛ لأن الأكنة الأغشية، وليس الأغشية مما تدعونا إليه.
فصل
وقالوا: يعنى المشركين قلوبنا في أكنة أغطية، والأكنة جمع كنان، كأغطية جمع غطاء، والكِنان هو الذي جعل فيه السهام، والمعنى لا نفقهُ ما تقول، وفي آذاننا وقر أي صممٌ فلا نسمعُ ما تقول، والمعنى: إنا في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع ومن بيننا وبينك حجاب، خِلاف في الدين، فلا نوافقك على ما تقول فاعمل أنت على دينك إنّا عاملون على ديننا.(17/101)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ} قرأ ابنُ وثابٍ والأعمش: «قَالَ» فعلاً ماضياً خبراً عن الرسول. والرسم يحتملهُما. وقد تقدم مثل هذا في الأنبياء وآخر المؤمنين. وقرأ الأعمشُ والنَّخعيُّ يوحي بكسر الحاء؟؛ أي الله تعالى، والمعنى إنَّما أنا بشر مثلكم أي كواحد منكم لولا الوحيُ ما دعوتكم {أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} قال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَلَّمَهُ الله التواضع.
قوله: {فاستقيموا إِلَيْهِ} عُدِّي بإلى؛ لتضمنه معنى توجَّهُوا والمعنى وجِّهُوا استقامتكم إليه بالطاعنة ولا تَمِيلوا عن سبيله «واستغفروه» من ذنوبكم.
قوله: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الذي لا يقولون لا إله إلا الله، وهي زكاة الأنفس. والمعنى لا يُطَهِّرون أنفسهم من الشِّرك بالتوحيد، وهو مأخوذ من قوله: «وَنَفٍْ ومَا زَكَّاهَا» . وقال الحسن وقتادة: لا يقرِّون بالزكاة ولا يرون إيتاءَها واجباً. وكان يقال: الزكاة قَنْطَرَةُ الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وقال الضحاك ومقاتل: لا يُنفِقُون في الطاعة ولا يتصدقون، وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} .
فصل
احتج من قال: إن الكفار مخاطبُون بفروع الإسلام بهذه الآية، فقالوا: إنه تعالى توعدهم بأمرين:
أحدهما: كونهم مشركين.
والثاني: لا يؤتون الزكاة، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين تأثير عظيم في حق وصول الوعيد، وذلك يدل على أن لعدم ايتاء الزكاة من المشرك تأثير عظيم في زيادة الوعيد وهو المطلوب.(17/102)
فصل
احتج بعضهم على أن مانع الزكاة كافر بهذه الآية فقال: إن الله تعالى لما ذكر هذه الصفة ذكر قبلها ما يوجب الكفر وهو قوله: «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» وذكر بعدها ما يوجب الكفر وهو قوله: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} فلو لم يكن منع الزكاة كفراً لكان ذكره فيما بين الصفتين الموجبتين للكفر قبيحاً؛ لأن الكلام إنما يكون فصيحاً إذا كانت المناسبة مرعيةً بين أجزائه، ثم أكدوا ذلك بأن أبا بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حكم بكفر مانعي الزكاة. قال ابن الخطيب: والجواب أنه ثبت بالدليل أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وهما حاصلان عند عدم إيتاء الزكاة، فلم يلزم حُصُول الكفر بسبب عدم إيتاء الزكاة والله أعلم.
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما غير مقطوع، من قولك: مننتُ الحبلَ أي قطعتُهُ، ومنه قولهم: «قَد مَنَّهُ السَّفرَ» أي قطعه وأنشدوا:
4352 - فَضْلَ الجَوَادِ على الخَيْلِ البِطَاءِ فَلاَ ... يُعْطِي بذلك مَمْنُوناً وَلاَ نَزِقَا
وقال مقاتل: غير منقوص، ومنه المنون لأنه ينقص منة الإنسان وقوته، وأنشدوا لذي الإصبع العُدواني:
4353 - إنِّي لَعَمْرُكَ مَا بَابِي بِذِي غَلَقٍ ... على الصَّدِيقِ ولا خَيرِي بِمَمْنُونِ
وقيل: غير ممنون به عليهم؛ لأن عطاء الله لا يُمَنُّ به إنما يَمُنُّ المخلوق. وقال مجاهد: غير محسوب وقال السُّدِّيّ: نزلت هذه الآية في المَرْضَى والزَّمنى والهَزْمَى إذا عجزوا عن الطاعة يكتبه لهم الأجرُ كأصح ما كانوا يعلمون فيه.
روي عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن العبد إذا(17/103)
كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مَرِضَ، قيل للملك الموكل به: اكتُبْ له مثل علمه إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إليَّ» .
قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} الآية قرأ ابنُ كثير أينكم لتكفرون بهمزة وبعدها ياء محققة ساكنة بلا مد والباقون ممدوداً مشدد النون. وهو استفهام بمعنى الإنكار، أي كيف تكفرون بالله، وكيف يجوز جعل هذه الأنداد الخسيسة أنداداً لله مع أنه تعالى خلق الأرض في يومين، وهما يوم الأحد ويوم الاثنين، وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين، فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة كيف يعقل الكفر به، وإنكار قدرته على الحَشْر والنَّشر؟
فإن قيل: مَن استدل بشيء على إثبات شيء فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلماً عند الخصم حتى يصح الاستدلال به، وكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض إنا يمكن إثباته بالسمع ووحي الأنبياء والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوة، فلا يعقل تقرير المقدمة عليهم، وإذا امتنع تقريرها عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم.
فالجواب: إثبات كون السموات والأرض مخلوقةً بالعقل مُمكنٌ، وإذا أمكن ذلك أمن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم. وحنيئذ يقال: الكافر كيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القادرة وبين الصَّنم الذي هوة جمادٌ لا يضرُّ ولا ينفع في المعبودية والإلهية؟ بقي أن يقال: فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أثر. قال ابن الخطيب: بل له أثر في هذا الباب، وذلك أن التورية مشتملة على هذا المعنى، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب فكفار مكة كانوا يتعقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم، والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني فاعتقدوا كونها حقاً، وإذا كان الأمر كذلك حَسن أن يقال لهم: إن الإله الموصوفَ بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة اللطيفة كيف يليق بالعقل جع الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكاً له في المعبودية والإليهة؟! فبهذا التقدير حسن الاستدلال.
قوله: «وَتَجْعَلُونَ لَهُ» عطف على «لَتَكْفُرُونَ» فهو داخل في حيز الاستفهام وقوله: {ذَلِكَ رَبُّ العالمين} أي ذلك الموجود الذي علمتَ من صفته وقدرته أن خلق الأرض(17/104)
في يومين (هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم فكيف أثبتهم له أنداداً من الخشب والحجر؟ ثمإنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقاً للأرض في يومين) ثم أخبر أنه أتى بثلاثة أنواعٍ من الصُّنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك، فالأول قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} وهذا مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول، للفصل بينهما بأجنبي، وهو قوله: «وَتَجْعَلُونَ» فإنه معطوف على قوله: «لتكفرون» كما تقدم.
والمراد بالرواسي الجبال.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله: «من فوقها» ولم يقتصر على قوله {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} كما اقتصر على قوله {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات: 27] وقوله {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ} [الأنبياء: 31] وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} [الرعد: 3] .
فالجواب: أ، هـ تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التَّحتانيَّة هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، ولكنه تعالى قال: خُلِقَتْ هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أنَّ الأرض والجبال أثقالٌ وكلها مفتقرة إلى مُمْسِكٍ وحافظٍ وما ذاك الحافظ المدبِّر إلا الله سبحانه وتعالى.
النوع الثاني: قوله «وَبَارَكَ فِيهَا» أي في الأرض بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد شقَّ الأنهار، وخلق الجبال خلق الأشجار والنار، وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار، وخلق أصناف الحيوانات، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات.
النوع الثالث: قوله {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} قيل: المعنى وقدر فيها أقوات أهلِها ومعايشهم ما يصلحهم وقال محمد بن كعب: قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان. وقال مجاهد: وقدر فيها أقواتها من المطر. وعلى هذا فالأقوات للأرض لا للسكان، والمعنى أن الله عزَّ وجلَّ قدر لكل أرض حظَّها من المطر. وقيل المراد من إضافة القُوت إلى الأرض كونها متولدة في تلك الأرض وحادثة فيها؛ لأن النحاة قالوا في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة، وإلى محله أخرى، فقوله «وقدر فيها أقواتها» أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة بمعنى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في ذلك البلد وبالعكس فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال.(17/105)
قوله: {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} تقديره: في تَمَام أَرْبَعَةِ أيام باليَوْمَيْنِ المقتدمين. قال الزجاج: في تتمَّة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. وقال الزمخشري: في أربعة أيام فلذلك المدة خلق الله الأرض وما فيها كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستويةً بلا زيادة ولا نُقصانٍ.
قال شهاب الدين: وهذا كقولك: بَنَيْتُ بيتي في يوم وأكملته في يومين أي بالأول. وقال أبو البقاء: أي في تمام أربعة أيام، ولولا هذا التقدير لكانت الأثام ثمانيةً يومان في الأول، وهو قوله: {خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} ويومانِ في الآخر وهو قوله {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وأربعةُ في الوَسَطِ وهو قوله {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} .
فإن قيل: إنه تعالى لما ذكر خلق الأرض في يومين، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعدَ عن الشُّبهة وعن الغلط فَلِمَ تَرَك التصريح وذكر الكلام المجمل؟
فالجواب: أن قوله «في أربعة أيام سواء» فيه فائدة زائدة على ما إذا قال: خلقت هذه الثلاثة في يومين؛ لأنه لو قال: خلقت هذه الأشياء في يومين لم يُفِدْ هذا الكلام كون اليومين مُستغرقين بتلك الأعمال؛ لأنه قد يقال: عملتُ هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل، أمَّا لما ذكر خلق الأرض، ونخلق هذه الأشياء ثم قال: في أربعة أيام سواء دلَّ على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقةً في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نُقصانٍ.
قوله: «سواء» العامة عل النصب، وفيه أوجه:
أحدها: أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر، أي استوت قاله مكي وأبو البقاء.
الثاني: أنه حال من «ها» في أقواتها، أو من «ها» في «فيها» العائدة على الأرض أو من الأرض قاله أبو البقاء وفيه نظر لأن المعنى إنما هو وصف الأيام بأنها سواء، لا وصف الأرض بذلك وعلى هذا جاء التفسير.
ويدل على ذلك قراءة سَواءٍ بالجر صفة للمضاف، أو المضاف إليه، وقال قتادةُ والسُّدي سواء معناها سواء لمن سِأل عن الأمر، واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال تعالى. إلا أن ابن زيد وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي(17/106)
ذكره أبو البقاء فإنهم قالوا معناه مستوٍ مهيَّأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر، فعبر بالسائلين عن الظالبين. وقرأ زيدُ بنُ علي والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وعيسى ويعقوبُ وعمرُو بن عُبيدٍ: سَواءٍ بالخفض على ما تقدم. وأبو جعفر بالرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنه على خبر ابتداء مضمر، أي هي سواء، لا يزيدُ ولا يَنقُصُ، وقال مكِّي: هو مرفوع بالابتداء وخبره للسائلين؛ وفيه نظر، من حيث الابتداء بنكرة من غير مُسوَّغ. ثم قال: بمعنى مستويات لمن سأل فقال: في كَمْ خلقت؟ وقيل: للسائلين لجميع السائلين لأنهم يسألون الرزق وغيره من عند الله تعالى.
قوله «للسائلين» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق بسَوَاء بمعنى مستويات للسائلين.
الثاني: أنه متعلق بقدَّر، أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين.
الثالث: أن يتعلق بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ .
قوله (تعالى) : {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} أي عمد إلى خلق السماء. وقال ابن الخطيب: من قولهم: استوى إلى مكان كذا إذا توجَّه إليه توجُّهاً لا يلتفتُ معه إلى عمل آخر وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج. ونظيره قولهم: استقام إليه وامتدَّ إليه، قال تعالى: {استقيموا إِلَيْهِ} [فصلت: 6] والمعنى: ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السموات بعد خلق الأرض ما فيها من صارفٍ يصرفُهُ عن(17/107)
ذلك. والدُّخان: هو ما ارتفع عن لهب النار. ويستعار لما يرى من بُخار الأرض عند جدبها وقياس جمعة في القلة أَدْخِنَةٌ وفي الكثرة دُخْيَان، نحو: غُرابٍ وأغربة وغِرْبَانٍ وشذوا في جمعه على: دَوَاخِن، قيل: هو جمع داخِنةٍ تقديراً على سبيل الإسناد المجازيّ، ومثله عثانٌ وعواثِن.
وقوله: و «هِيَ» دُخَان «من باب التشبيه الصُّوري؛ لأن صورتها صورة الدُّخانِ في رأي العين.
فصل
قال المفسريون: هذا الدخان بُخار الماء وذلك أن عرش الرحمن كان على الماء قبل خقل السموات والأرض، كما قال تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} [هود: 7] .
ثم إن الله تعالى أحدث في ذلك الماء اضطراباً فأزْبَدَ وارتفع، وخرج منه دُخانٌ فأما الزَّبدُ فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة وأحدثَ منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السَّموات.
فإن قيل: قوله تعالى {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} يُشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض، وقوله تعالى {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] يشعر بأن تخليص الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض!
فالجواب: المشهور أن يقال: إنه تعالى خلق الأرض أولاً، ثم خَلَقَ بعنده السماء، ثم بعد أن خَلَقَ السماء دحى الأرض، وبهذه الطريق يزول التناقض. قال ابن الخطيب: وهذا الجواب عندي مُشكِلٌ من وجوه:
الأول: أنه تعالى خَلَقَ الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود، إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة ثم إنه تعالى قال بعد ذلك: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} فهذا(17/108)
يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض، وبعد أن جعلها مدحُوَّةً وحينئذ يعود السؤال.
الثاني: أنه ورد أنَّ الدلائل الهندسية دلَّت على أن الأرض كرةٌ في أول حدوثها إن قلنا: إنها كرة، والآن بقيتْ كرة أيضاً فهي منذ خقلت كأنها مدحُوَّةٌ، وإن قلنا: إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال: إنها كانت مدحُوَّةً قبل ذلك، ثم أزيل عنها هذه الصفة وذلك باطل.
الثالث: أن الأرض جسمٌ في غاية العِظم والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوَّا، فالقول بأنها كانت غير مدحوةٍ ثم صارت مدحوة قولٌ باطل.
والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت من موضع الصّخرة ببيت المقدس فهو كلام مشكل لأنه إذا كان المراد أنها على عظمها خلقت من ذلك الموضع ثم خلق بقيةُ أجزائها، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء.
الرابع: أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين، وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام، فإذا حصل دَحْوُ الأرض بعد ذلك فقد حصل هذال الدحو في زمانٍ آخر بعد الأيام الستة فحينئذ يقع تخليق السموات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل.
الخامس: أنه لا نزاع في أن قوله تعالى بعد هذه الآية: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} كناية عن إيجاد السموات والأرض، فلو تقدم إيجاد السمات لكان قوله تعالى: {ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} يقتضي إيجاد الموجودات انه محال باطل. هذا تمام البحث عن هذا المبحث.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال: خلق السماء قبل الأرض، وتأول قوله: {ثمَّ استوى إلى السماء} ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دُخان قبل أن يخلق الأرض، فأضمر فيه كما قال تعالى: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] معناه إن يكن سرق، وقال تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] (والمعنى) فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي قال ابن الخطيب وهذا عندي ضعيف، لأن تقدير الكلام ثُمَّ كان قد استوى إلى السماء. هذا جمعين الضدين لأن كلمة «ثُمَّ» تقتضي التأخير، وكلمة «كان» تقتضي التقديم، والجمع بينهما يفيد التناقض، وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه. والمختار عندي إن يُقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض، وتأويل الآية أن(17/109)
يقال: الخلق ليس عبارةً عن التكموين والإيجاد، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فلو كان الخلق عبارةً عن الإيجاد والتكوين لصار تقدير الآية أوجدضهُ من تراب، ثم قال له كن فيكون وهذا محال فثبت أن الخلق ليس عبارةً عن الإيجاد والتكوين، بل هو عبارة عن التقدير، والتقدير في حق الله هو كلمته بأن سيُوجدُهُ. وإذال ثبت هذا فنقول قوله: خلق الأرض في يومين معناه أنه قضى بحدوثِهِ في يومين، وقضاء الله أنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فَقَضَاءُ الله بحُدُوثِ الأرض في يومين قد تقدم على إحداثِ السَّماء وحينئذ يزول السؤال.
قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} . وقرأ العامة «ائتيا» أمراً من الإتيان «قَالَتَا أَتَيْنَا» منه أيضاً. وقرأ ابن عباس وابن جبيرٍ ومجاهدٌ «آتِيا» قَالَتَا آتينا بالمد فيهما وفيه وجهان:
أحدهما: من المؤاتاة وهي المُوافقة، أي ليوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها.
وإليه ذهب الرازي والزَّمخشريُّ، فوزن «آتِيَا» فاعلا، كقاتِلا، و «آتيْنَا» وزنه فاعلنا كقاتلنا.
والثاني: أنه من الإيتاء بمعنى الإعطاء، فوزن «آتِيَا» أفْعِلاَ كأكرما، ووزن «آتينا» أَفْعَلْنَا كأَكْرَمْنَا. فعلى الأول يكون قد حذف مفعولاً، وعلى الثاني قد حذف معفولين؛ إذ التقدير أعطيا الطاعة من أنفسكما مَنْ أمركما، قالتا أَعطيناهُ الطاعة. وقد منع أبو الفضل الرازي الوجه الثاني فقال: آتينا بالمَدِّ على فاعلنا من المؤاتاة بمعنى سارعنا، على حذف المعفول به، ولا يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوليه.
قال شهاب الدين: وهذا هو الذي منع الزمخشري أن يجعله من الإتياء. قوله: {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} مصدران في موضع الحال، أي طائعتين أو مُكْرهتين.
وقرأ الأعمش «كُرْهاً» بالضم، وتقدم الكلام على ذلك في النساء. وقله: «(17/110)
قَالَتَا: أي قالت السماءُ والأرض، وقال ابن عطية: (رحمة الله عليه) أراد الفرقتين المذكورتين، جعل السموات سماءً والأرضين أرضاً كقوله:
4354 - أَلَمْ يحْزُنْكَ أَنَّ حِبَالَ قَوْمِي ... وَقَوْمِكَ قَدْ تَبَاينتا انقِطَاعاَ
عبر عنهما» بتَبَايَنَتَا «. قال أبو حيان وليس كما ذكر لأنه لم يتقدم إلا ذكر الأرض مفردة والسماء مفردة فلذلك حسن التعبير بالتثنية.
وأما البيت فكأنه قال: حَبْلَي قَوْمِي وَقَوْمِكَ، وأنث في تَبَايَنَتَا على المعنى؛ لأنه عنى بالحبال المودة. قوله:» طَائِعِينَ «في مجيئه مجيء جمع المذكورين العقلاء وجهان:
أحدهما: أن المراد يأتينا من فيهما من العقلاء وغيرهم، فلذلك غلَّب العقلاء على غيرهم، وهو رأي الكسائيِّ.
والثاني: أنه لما عاملهم معاملة العقلاء في الإخبار عنهما، والأمر لهما جمعهما كجمعهم، كقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وهل هذه المحاورة حقيقة أو مجازاً وإذا كانت مجازاً فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ؟ . خلاف.
فصل
ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإيمان فأطاعُوهُ وهذا ليس بمستبعد كما أن الله تعالى أنطقَ الجبالَ مع داود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير} [سبأ: 10] وأنطق الأيدي والأرجل، فقال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] وقوله: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] ٍ وإذا كان كذلك فكيف يستبعدُ أن يخلقَ الله تعالى في ذات السموات والأرض حياةً وعقلاً ثم يوجه التكليف عليهما؟ ويؤكد هذا وجوه:
الأول: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره، إلا إن منع منه مانع، فههنا لا مانع.(17/111)
الثاني: أنه تعالى جمعهما جمع العقلاء فقال: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} .
الثالث: قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72] وهذا يدل على كونها عارفة بالله، عالمة بتوجه تكليف الله تعالى.
وأجاب ابن الخطيب عن هذا القول: بأن المراد من قوله {1649;ئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} الإثبات الى الوجود والحدوث والحصول، فعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة، إذ لو كانت موجودةً فذلك لا يجوز، فثبت أن حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة، وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة، ولا عارفة للخطاب، فلم يَجُزْ توجُّه الأمر عليها.
فصل
روى مجاهدٌ وطاوس عن ابن عباس أنه قال: قال الله للسموات والأرض أخرجا ما فيكما من المنافع ومصالح العباد، أما أنتِ يا سماءُ فأطعلي شَمْسَكِ وقَمَركِ ونُجُومكِ، وأنت يا أرض فشقَّقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتكِ، وقال لهما: افعلا ما آمركما طوعاً، وإلا ألجأتكما إلى ذلك (حتى) تفعلا فنقول: فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله: أتينا طائعين حدوثهما في ذاتهما، بل يصيرُ المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعاً فيهما، وهذا باطل؛ لأنه تعالى قال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وذلك يدعل على حُدُوثَ السماء إنما حصل بعد قوله: {1649;ئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} .
فصل
اعلم أن المقصود من هذا الكلام إظهار كمال القدرة، والتقدير ائتيا ذلك أو أَبَيْتُما كما يقول الجبار لمن تحت يده: لتفعلن هذا شِئْتَ أو أبيتَ، ولَتَفْعَلُنَّهُ طَوْعاً أو كَرهاً.
وقيل: إنَّهُ تعالى ذكر السماء والأرض، ثم ذكر الطوع والكره فوجب أن ينصرف الطوعُ إلى السماء والكرهُ إلى الأرض، وتخصص السماء بالطوع لوجوه:
أحدهما: أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف تُشْبِهُ حيواناً مطعياً لله عزَّ وجلَّ بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال، تارة تكون ساكنةً، وتارة تضطربُ.
وثانيها: أن الموجود في السماء ليس إلا الطاعة، قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ(17/112)
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وأما أهل الأرض فليس كذلك.
وثالثها: أن السماء موصوفة بكمال الحال، وقيل: إنها أفضل الألوان وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير ومكانها أفضل الأمكنة، وهو العُلُوُّ، وسُكَّانُها أفضل الأجرام، وهي الكواكب المنيرة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة، واختلاف الأحوال وتغيير الذات والصفات فلا جرم عبَّر عن تكوين السماء بالطَّوْعِ وعن تكوين الأرض وبالكره.
قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ف ينصب «سَبْعَ» أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه مفعول ثانٍ «لقَضَاهُنَّ» ؛ لأنه ضمّن معنى صيَّرهُنَّ بقضائه سبع سموات.
الثاني: أنه منصوب على الحال من مفعول «فقضاهن» أي قضاهن معدودةً، وقضى بمعنى «صَنَعَ» كقول أبي ذؤيب:
4355 - وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
أي صنعها.
الثالث: أنه تمييز؛ قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسَّراً بسبع سمواتٍ على التمييز يعني بقوله «مبهماً» ، أنه لا يعود على السماء، لامن حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى بخلاف كونه حالاً أو مفعولاً ثانياً.
الرابع: أنه بدل من «هُنَّ» في «فَقََاهُنَّ» قاله مكي، وقال أيضاً: السماء، تذكَّر وتؤَنَّثُ، وعلى التأنيث جاء القرآن، ولو جاء على التذكير لقيل: سَبْعَةَ سمواتٍ. وقد تقدم تحقيق تذكيره وتأنيثه في أوائل البقرة.(17/113)
فصل
قال أهل الأثر: إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق سائر ما في الأرض يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعةٍ من يوم الجُمُعةِ فخلق بها آدم، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة.
فإن: قيل: اليوم عبادرة عن النهار والليل، وذلك إنما يحصل بطُلُوعِ الشَّمس وغروبها، وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصوم اليوم؟
فالجواب: معناه أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلكٌ وشمس لكان المقدار مُقدَّراً بيوم. وقضاء الشيء إتمامه والفرغ منه.
قوله: {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} . قال عطاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار، وجبال البرد، وما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقال قتادة والسُّدِّيُّ: يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها. وقال مقاتل: وأوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي، وذلك يوم الخميس والجمعة، قال السدي: ولله في كل سماء بيت يُحَجُّ إليه ويطوف به الملائكة، كل واحد منها مقابل للكعبة بحيث لو موقعت منه حصاةٌ لوقعت على الكعبة.
قوله: {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} وهي النيران التي خقلها في السموات، وخص كل واحد بضوء معين، وسرٍّ معين وطبيعة معينة لا يعرفها إلا الله تعالى.
قوله: «وَحِفْظاً» في نصبه وجهان:
الأول: أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر، أي: وحفظناها بالثواقب من الكواكب حفظاً.
والثاني: أنه مفعول من أجله على المعنى؛ فإن التقدير: خلقنا الكواكب زينةً وحِفظاً، قال أبو حيان «وهو تَكَلُّفٌ وعُدُولٌ عن السَّهْلِ البَيِّن» .(17/114)
فصل
المعنى وحفظاها من الشياطين الذي يسترقون السمع، ثم قال: «ذلِكَ» أي الذي ذكر من صُنْعَةِ «العَزِيزِ» في ملكه «العَلِيمِ» بخلقه فالعزيزُ إشارة إلى كمال القدرة، والعليمُ إشارة إلى كمال العلم.(17/115)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} هذا التفات من خطابهم بقوله: «قُلْ أَئِنَّكُمْ» إلى الغيبة لفعلهم الإعراض، أعرض عن خطابهم وهو تناسب حسنٌ، والمعنى أن الحجة قد تمت على أكمل الوجوه، فإن بقُوا مصرِّين على الجهل لم يبق حينئذ علاجٌ ف يحقهم إلا إنزال العذاب عليهم، فلهذا قال: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} ، أي هلاكاً مثلَ هلاكِهِمْ، والإنذار التخويف.
قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيءٍ كان. وقرأ الجمهور: صاعِقَةً مثل صََاعِقَةِ بالألف فيهما. وابنُ الزبير والنَّخعيُّ والسُّلميُّ وابن محيصنٍ: صعقةٌ مثل صعقةِ محذوف الألف وسكون العين. وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة. يقال: صعقته الصاعقة فصعق. وهذا مما جاء فيه فعلتُهُ بالفتح ففعل بالكسر. ومثله: جذَعتُهُ فجذعَ. قال الزمخشري: والصَّعقَةُ المرة من الصَّعق.
قوله: «إذْ جَاءَتْهُم» فيه أوجه:
أحدها: أنه ظرف «لأنْذَرْتُكُم» ، نحو: لقيتك إذ كان كذا.
الثاني: أنه منصوب بصاعقه، لأنها بمعنى العذاب، وأي أنذرتكم العذاب الواقع في وقت مجيء رُسُلهم.(17/115)
الثالث: أنه صفة لصاعقة الاولى.
الرابع: أنه حال من «صاعقة» الثانية، قالهما أبو البقاء. وفيه نظر إذ الظَّاهِرُ أنَّ الصَّاعِقَة جُثَّةٌ وهي قطعة نار تنزل من السماء فتحرق كما تقدم تفسيرها، ولا يقع الزمان صفة لها، ولا حالاً عنها، وتأويلها بمعنى العذاب إخراجٌ لها عن مدلولها من غير ضرورةٍ، وإنما جعلها وصفاً للأولى، لأنها نكرة، وحالاً من الثانية معرفة لإضافتها إلى علم، ولو جعلها حالاً من الأولى لأنها تخصصت بالإضافة لجاز. فتعودُ الأوجهُ خمسةً.
قوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الظاهر أن الضَّميرين عائدان على عاد وثمود. وقيل: الضمير في «خَلْفِهِمْ» يعودُ على الرسل واستُبعد هذا من حيث المعنى؛ إذ يصير التقدير: جاءتهم الرسل من خلق الرسل أي من خلف أنفسهم، وقد يجاب عنه بأنه من باب: دِرْهَمٌ ونصفُهُ، أي ومن خلف رسُلٍ أخرين.
قوله: {أَلاَّ تعبدوا} يجوز في «أن» ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن تكمون المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفٌ، الجملة النهيية بعدها خبر، كذا أعربه أبو حيان وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: أنَّ المخففة (من الثقيلة) لا يقع بعدها فعلٌ إلا من أفعال اليقين.
والثاني: أن الخبر في باب إنَّ وأخواتها لا يكون طلباً، فإن ورد منه شيء أوِّلَ، ولذلك تأَوَّلُوا:
4356 - إنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ ... لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
وقوله:
4357 - وَلَوْ أَصَابَتْ لَقَالَتْ وَهيَ صَادِقَةٌ ... إنَّ الرِّيَاضَةَ لاَ تُنْصِبْكَ لِلشِّيبِ(17/116)
على إضمار القول.
الثاني: أنها الناصبة للمضارع، والجملة النهيية بعدها صلتها وصلت بالنهي كما توصل بالأمر في كتبتُ إليه بأن قُم.
وقد مر في وصلها بالأمر إشكالٌ يأتي مثله في النهي.
الثالث: أن تكون مفسرة لمجيئهم؛ لأنه يتضمن قولاً، و «لا» في هذه الأوجه كلها ناهية، ويجوز أن تكون نافية على الوجه الثاني، ويكون الفعل منصوباً بأن بعد لا النافية، فإنَّ لا النافية لا تمنع العامل أن يعمل فيما بعدها، نحو: جئتُ بلا زيدٍ، ولم يذكر الحوفيُّ غيره.
قوله: «لَوْ شَاءَ» قدَّر الزمخشري مفعول شاء لو شاء إرسالَ الرُّسل لأنْزَلَش ملائكةً قال أبو حيان تتبعت القرآن وكلام العرب، فلم أجد حذف مفعول شاء الواقع بعد لو إلاَّ من جنس جوابها، نحو {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} [الأنعام: 35] أي لو شاء (الله) جمعهم على الهدى لجمعهم عليه. (و) {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة: 65] و {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70] و {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ} [يونس: 99] و {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] و {لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ} [النحل: 35] ، وقال الشاعر (رحمة الله عليه) :
4358 - فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتَ قَيْسَ بْنَ خَالِدٍ ... وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتَ عَمْروا بْنَ مَرْثَدِ
وقال الأخرة:
4359 - واللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكُنْت صَخْراً ... أَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشْمَخرًّا(17/117)
قال: فعلى ما تقدم لا يكمون المحذوف ما قدره الزمخشري، وإنما التقدير: لو شاء ربنا إنزال ملائكةٍ بالرسالة إلى الإنس لأَنزلهُم بها إلبيهم وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علَّقُوا ذلك بإنزال الملائكة وهو لم يشأ ذلك فكيف يشاءُ ذلك في البشر.
قال شاهب الدين: وتقدير أبي القاسم أوقع معنًى وأخلصُ من إيقاع الظاهر موقع المضمر؛ إذ يصير التقدير «لوشاء إنزال ملاكةٍ لأنزلَ ملائكة» .
قوله: {بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ} هذا خطاب لهودٍ وصالح وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغلب المخاطب على الغائب نحو: أَنتَ وَزَيْدٌ تقومانِ. و «ما» يجوز أن تكون موصولة بمعنى «الذي» ، وعائدها «به» ، وأن تكون مصدرية، أي بإرسالكم فعلى هذا يكون «به» يعود على ذلك المصدر المؤول، ويكون من باب التأكيد، كأنه قيل: كافرون بإِرسالكم به.
فصل
معنى جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم، أي إن الرسل المبعوثين إليهم أتوهُم من كل جانب، وأتوا بجميع وجوه الدلالات، فلم يروا منهم إلا العُتُوَّ والإعراض، كما حكى الله تعالى عن الشيطان: {لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17] أي من كل جهة. وقيل: المعنى أن الرسل جاءتهم من قبلهم أي أرسلوا إلى آبائهم، ومن خلفهم يعني الذين أرسلوا إليهم.
فإن قيل: كيف يمكن وصفهم بأنهم جاءوا؟! .
فالجواب: قد جاءهم هودٌ وصالح داعيين إلى الإيمان بهما، وبجميع الرسل، ويهذا التقدير: فكأن جميع الرسل قد جاءوهم وأمروهم بالتوحيد ونفي الشرك، فقالوا: {لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة} وجعلوا عدم إنزال الملائكة دليلاً على تكذيب الرسل، والمعنى أنه تعالى لو شاء إرسال الرسل إلى البشر لجعل رسله ملائكةً؛ لأن الملائكة أفضى إلى المقصود من بعثةِ البشر.
ثم قالوا إنا بما أُرْسلتُم به كافرون، وتقدم الجواب عن هذه الشُّبهة في سورة الأنعام.
واعلم أن قولهم: أرسلتم به، ليس إقراراً بأن أولئك الأنبياء رسلٌ وإنما ذكروه حكاية الكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء، كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] .(17/118)
فصل
روي أن أبا جهل لعنه الله مقال في ملأ من قريش: التبس علينا أمرُ محمد، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر ولاسحر والكهانةِ وكلَّمَهُ ثم أتانا من أمره، فقال عُيينةُ بْنُ حصن: والله لقد علمتُ الشعر والسحر والكهانة، وعلمُ من ذلك علماً ولا يخفى عليَّ، فأتاه، فقال يا محمدُ: أنت خيرٌ أم هاشم؟ أتت خير أم عبد المطلب؟ أ، ت خبر أم عبد الله؟ فَلِمَ تَشْتِمُ آلهتنا وتضلِّلُ آباءنا؟ فإ، كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواءَ فكنت رئيسنا، وإن أردت الباءة زوَّجناك أَعزَّ نسوة تختارُوهُنَّ من أيذِ بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك، ورسو الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ساكت، فملا فرغ، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَفرغت؟ قال: نعم. قال: فاسمع ثم إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تَعَوَّذَ ثم قرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم» حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً إلى أن بلغ قوله: فإن أَعْرَََضُوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عُيينةُ على فِيهِ وناشدهُ بالرحم إلا ما سكت، ثم رجع إلى أهله، فلم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عيينة إلا قد صَبَأ فانطلقوا إليه وقالوا: يا عيينة، ما حَبَسَكَ عنا، إلا أنك قد صبأت إلى محمد، وأعجبك طعامُه، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً، ثم قال: «واللهُ لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني قصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ماهو بشعرٍ ولا كهانةٍ ولا سحر، وقرأ السورة ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه، وناشدته بالرحم حتى سكت، لقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخِفت أن ينزل العذاب.
قوله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} قيل: هذا الاستكبار إظهار العُجِبِ والتِّه وعدم الالتفات إلى الغير. وقيل: الاستعلاء على الناس واستخدامهم. ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو قولهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} وكانوا ذوي أجسام طوال، وقوة شديدة.
ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنهم لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل فيجب عليهم الانقياد لله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه.
فإن قيل: صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما نسبة إلى الآخر لكن قدرة العبد متناهية، وقدرة الله لا نهاية لها والمتناهي لا نسبة لها إلى غير المتناهي فما معنى قوله: «أنَّ الله أَشَدَّ منْهُمْ قوة» ؟ .(17/119)
فالجواب: هذا ورد على قانون قولنا: الله أكبر، ثم قال: {وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} والمعنى أنهم يعرفون أنها حق ولكنهم يجحدونها كما يجحد المُودَعُ الوَدِيعةَ.
واعلم أنَّ نظم الكلام أن يقال: أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون، وأما قولهم: {مَنْ أشد من اقوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} اعتراض وقع في البين لتقرير الداعي إلى الاستكبار.(17/120)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} الصَّرصرُ: الريح الشديدة، فقيل: هي الباردة من الصَّرِّ وهو البرد، وقيل: هي الشدية السُّمُوم، وقيلأ: المُصوِّتةُ من صرَّ البابُ أي سُمِعَ صريرُهُ. والصَّرَّةٌ: الصَّيحة ومنه: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] قال ابن قتيبة «صَرْصَرٌ» يجوز أن يكون الصَّرِّ وهو البرد، وأن يكون من صرَّ البابُ، وأن يكون من الصََّرَّة ومنه: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] .
قوال الراغب: صَرْصرٌ لفظه من الصّر وذلك يرجع إلى الشد لما في البرودة من التعقيد.
قوله: في أيَّام نحساتٍ قرأ الكوفيون وابنُ عامر بكسر الحاء والباقون بسكونها.(17/120)
فأما الكسر فهو صفة على «فَعِلٍ» وفعلُهُ: «فَعِلَ» بكسر العين أيضاً كفِعْلِهِ؛ يقال: نَحِسَ فهو نَحِسٌ، كَفَرِحَ، فهُو فَرِحٌ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ، ومعناه نكدات مَشْئُوماتٌ ذاتُ نُحُوسٍ.
وأمال اللَّيثُ من الكسائيِّ ألفه لأجل الكسرة، ولكنه غير مشهور عنه حتى نسبه الدَّانيُّ للوهم وأما قراءة الإسكان فتحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون مخفف من «فَعِل» في القراءة المتقدمة وفيه توافق القراءتين.
الثاني: أنه مصدر وصف به كرجُلٍ عَدْلٍ، إلا أنَّ هذا يضعفه الجمعُ، فإن الفصيحَ في المصدر الموصوف (به) أن يوحَّد وكأنَّ المُسوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعه في الأصل.
الثالث: أنه صفة مستقلة على «فَعْل» بسكون العين ولكن أهل التصريف لم يذكروا في الصفة الجائية من «فَعِل» بكسر العين إلا أوزاناً محصورة ليس فيه «فَعْل» بالسكون فذركوا: فَرِحَ فهو فَرِحٌ وحوز فهو أحْوَرُ، وشَبع فهو شَبْعَانُ، وسَلِمَ فهو سَالِمٌ، وبلي فَهُو بالٍ. وفي معنى «نحسات» قولان:
أحدهما: أنها من الشّؤم، قال السدي أي مشائيم من النحس المعروف.
والثاني: أنها من شدة البرد وأنشدوا على الأول قولَ الشاعر:
4360 - يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْماً نَحْسَا ... نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ وَنَجْماً نَحْسَا(17/121)
وعلى المعنى الثاني:
4361 - كَأَنَّ سُلاَفَةً عُرِضَتْ لِنَحْسٍ ... يُحِيلُ شَفِيفُهَا المَاءَ الزًُّلاَلاَ
ومنه:
4362 - قَدْ أَغْتَدِي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ... للصَّيْدِ فِي يَوْمِ قَلِيلِ النَّحْسِ
وقيل: يريدُ به في هذا البيت الغبار، أي قليل الغبار. وقد قيل بذلك في الآية إنها ذات غبار. و «نَحِسَات» نعت لأيَّام، والجمع بالألف والتاء مُطَّرِدٌ في صفة ما لايعقل كأيَّام معدوداتٍ كما تقدم تحقيقه في البقرة (اللَّهُمَّ يَسِّرْ) .
فصل
الصَّرْصَر: العاصفة التي تُصَرْصِرُ في هُبُوبِهَا؟ . روي عن عبد الله بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: الرِّياح ثمانٍ، اربعٌ منها عذاب وهي العاصف، والصرصر، والعقيم، والعاصفة، واربع منها رحمة، وهي: الناشرات، والمُبَشِّرات، والمُرْسَلاَت، والذَّارياتت. وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خَاتَمِي. وقال الضحاك: أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، وتوالت الرياح عليهم من غير مَطَرٍ.
فصل
استدلَّ الأَحكَامِيُّون من المُنَجِّمِينَ بهذه الآية على أن بعض الأيام يكون نحساً وبعضها سعداً وأجاب المتكلمون بأن المراد بهذه الحسنات أي ذات غبار وتراب ثائر، لا يكاد يُبْصَرُ فيه ولا يُتَصَرَّف فيه، وقالوا أيضاً: معنى كون هذه الأيام نَحِسَاتٍ أن الله أهلكهم فيها. وأجاب الأحكاميون بأن الأحكام في وضع اللغة هي المشئومات لأن(17/122)
النحس مقابلة السعد، والهواء الكدر يقابله الصافي. وأيضاً فإنه تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات، فوجب أن كون تلك الأيام نَحِسَةً مغايارً لذلك الذاب الذي وقع فيها.
قوله: {لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا} أي عذاب الهوان والذل مقابل لذلك الاستكبار {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} أي لا يكون لهم ناصر يدعف عنهم ذلك الخزي.
قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ} الجمهور على رفعه، ممنوع الصرف. والأعمش وابن وثَّاب مصروفاً، وكذلك كل ما في القرآن إلا قوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة} [الإسراء: 59] ، قالوا لأن الرسم ثمود بغير ألف. وقرأ ابن عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش في روايةٍ ثموداً منصوباً مصروفاً. والحسنُ وابن هرمزٍ وعاصم أيضاً منصوباً غير منصرف.
فأما الصرف وعدمه فقد تقدم توجيههما في «هُودٍ» . وأما الرفع فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر، وهو متعيّن عند الجمهور لأن «أَمَّا» لا يليها إلا المبتدأ، فلا يجوز فيما بعدها الاشتغال إلا في قليل كهذه القراءة، وإذا قدرت الفعل الناصب فقدِّره بعد(17/123)
الاسم المنصوب أي وأما هديناهم فهديناهم. قالو: لأنها لا يليها الأفعال.
فصل
قال الزمخشري: وقرىء: بضم الثَّاء. قال مجاهد: هديناهم: دعوناهم. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بيَّنَّا لهم سبيل الهدى، وقيل: دللناهم على طريق الخير والشر، كقوله {هَدَيْنَاهُ السبيل} [الإنسان: 3] {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} أي فاختاروا الكفر على الإيمان.
وذكر الزمخشري في تفسير الهدى قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] : أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، وهذه الآية تبطل قوله لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل. (انتهى) .
فصل
قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أن الله تعالى ينصب الدلائل ويزيح الأعذار إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد، لأن قوله تعالى: «فَهَديْنَاهُمْ» يدل على أنه تعالى نصب لهم الدلائل، وقوله {فاستحبوا العمى على الهدى} يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى، وهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد.
والجواب من وجهين:
الأول: أنما صدر عنهم ذلك العمى لأنهم أحبوا تحصيله، فملا وقع في قلوبهم هذه المحبة دون محبة صده، فِإن حصل هذا الترجيح لا لمرجِّح فهو باطل وإن كان لمرجِّح فإن كان المرجِّح هو العبد عاد الطلب، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب.
الثاني: أنه تعالى قال: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمًى وجهلاً بل ما يظنُّ في ذلك العمى والجهل بكونه تبصرةً وعلماً مما يرغب فيه فإقدامه على اختياره على ذلك الجهل الثاني إن كان باختياره لزم التسلسل وهو محال، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى(17/124)
جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب.
قوله: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وصاعقة العذاب أي المهلكة والعذاب الهون أي ذي الهون، أي الهوان وهو الذي يهينهم {بما كانوا يكسبون} من شركهم وتكذيبهم صالحاً.
ثم قال: {وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ} يعني يتقون الأعمال التي كانوا يأتون بها عادٌ وثمودٌ.
فإن قيل: كيف يجوز للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينذر قومه مثل صاعقة عادٍ وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] وجاء في الحديث الصحيح أن الله رفع عن هذه الأمة أنواع العذاب؟! .
فالجواب: أنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعادٍ وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة وأن السبب الموجب للعذاب واحد ربما يكون العذاب النازل بهم من جنس ذلك وإن كان أقل درجة، وهذا القدر يكفي في التخويف.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار} الآية لما بين كيفية عقوبة أولئك لكفار في الدنيا أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة ليصحل تمام الاعتبار في الزجر والتحذير، فقال: «ويوم يحشر» . في العامل في هذا الظرف وجهان:
أحدهما: محذوف دل عليه ما بعده من قوله «فَهُمْ يوزَعُونَ» تقديره: يساقُ الناسُ يَوْمَ يُحْشَر وقدره أبو البقاء يمنعون يوم يحشر.
الثاني: أنه منصوب باذكر، أي اذكر يوم. وقرأ نافع «نَحْشُرُ» بنون العظمة وضم الشين «أَعْدَاءَ» نصباً أي نحشر نحن، والباقون بياء الغيبة مضمومة والشين مفتوحة على ما لم يسم فاعله و «أَعْدَاءُ» رفعاً لقيامه مقام الفاعل.
ووجه الأول أنه معطوف على «وَنَجَّيْنَا» فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ (يقويه) وقوله {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين} [مريم: 85] ، {وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف: 47] .
وحجة الثانية: أن قصة ثمود قد تمت وقوله: «وَيَوْمَ يُحْشَر» ابتداء كلام آخر وأيضاً(17/125)
الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ} [الصافات: 22] وهم الملائكة، وأيضاً موافمقة لقوله: «فَهُمْ يُوزَعُونَ» وأيضاً فتقدير القراءة الأولى، أن الله تعالى قال: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله} فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال: ويوم نَحْشُرُ أعداءنا إلى النار. وكسر الأعرج شين «يحشِر» . ثم قال: «فهم يُوزَعون» أي يساقون، ويدفعون إلى النار. وقال قتادة والسدي: يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا. أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم.(17/126)
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
قوله تعالى: {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا} «حتى» غاية ليُحْشَرُ والمعنى حتى إذا جاءوا النار فيكون «ما» صلة. وقيل: فيها فائدة زائدة وهي تأكيد وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} [يونس: 51] أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به.
فصل
في كيفية تلك الشهادة ثلاثة أقوال:
الأول: أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه.
والثاني: أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني.
الثالث: أن يظهر في تلك الأعضاء أحوال تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال: يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه.(17/126)
فصل
قال ابن الخطيب: والسبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر أن الحواسَّ الخمس وهي السمع والبصر، والشَّمُّ والذَّوْقُ واللمسُ، وآلة اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر هاهنا ثلاثة أنواع من الحواس وهي السمع والبصر واللم، وأهمل ذكر نوعين، وهما: الذوق والشم، فالذوق داخل في اللّمس من بعض الوجوه؛ لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسَّة لجرم (الطعام وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسةً لجرم) المشموم فكانا داخلين في جنس اللَّمس. وإذا عرف هذا فنقول: نقل عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج، وهذا من باب الكنايات، كما قال: {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة: 235] وأراد النكاح وقال: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط} [النساء: 43] والمراد قضاء الحاجة، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَوَّلَ مَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الآدميِّ فَخِذُهُ وكَفُّه» وعلى هذال التقدير فتكون هذه الآية وعيداً شديداً في إتيان الزنا؛ لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ. وقال مقاتل: تنطق جوارحهم بما كتمته الأنفس من عملهم.
قوله: «وَقَالُوا» يعني الكفار الذين يحشرون إلى النار {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هذا من جواب الجلود، ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال كونكم في الدينا ثم (على) خلقكم وأنطقاكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟!
قوله تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} أي تستخفون عند الإقدام على الأعمال القبيحة. وقال مجاهد تتقون، وقال قتادة: تظنون. قوله {أَن يَشْهَدَ} يجوز فيه أوجه:
أحدهما: من أن يشهد.
الثاني: خيفة أن يشهد.
الثالث: لأجل أن يشهد وكلاهما بمعنى المفعول له.(17/127)
الرابع: عن أن يشهد أي ما كنتم تمتنعون ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها.
الخامس: أنه ضمن معنى الظن وفيه بعد.
فصل
معنى الكلام أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة؛ لأن استتارهم ما كان لأجل قولهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة، وذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يخفونها. وريَ عن ابن مسعود رض يالله عنه قال: كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، مفقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا سمع إذا أخفينا. فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ ... } الآية. قيل: الثقفي عبد ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية.
قوله: «وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ» فيه أوجه:
أحدها: أن «ذلكم» رفع بالإبتداء و «ظنكم» خبره و «الَّذِي ظَنَنْتُمْ» نعته «وَأَرْداكُمْ» حال و «قد» معه مقدرة على رأي الجمهور خلافاً للأخفش، ومنع مكي الحالية للخلو من «قد: وهو ممنوع لما تقدم.(17/128)
والثاني: أن يكون» ظَنُّكُمْ «بدلاً، والموصول خبره، و» أَرْدَاكُمْ «حال أيضاً.
الثالث: أن يكون الموصول خبراً ثانياً.
الرابع: أن يكون» ظنكم «بدلاً أو بياناً، والموصول هو الخبر، و» أرْدَاكُمْ «خبر ثاني.
الخامس: أن يكون ظنكم والموصول والجملة من» أرْداكم «أخباراً إلا أن أبا حيان ردَّ على الزمخشري قوله:» وَظَنُّكُمْ وَأَرْدَاكُمْ «خبران قال: لأن قوله» وَذلِكُمْ «إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير: وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز وهذا نظير ما منعه النحاة من قولك: سَيِّد الجارية مالكها.
وقد منع ابن عطية كون» أَرْدَاكُمْ «حالاً، لعدم وجود» قد «. وتقدَّمم الخلاف في ذللك.
فصل
قال المفسرون: وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أي ظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون أرادكم أهلككم. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: طرحكم ف يالنار {فأصبحتم من الخاسرين} وهنذا نص صريح في أن من ظن أنه يخرج شيء من المعلومات عن علم الله فإنه يكون من الهالكين الخاسرين.
قال المحققون: الظن قسمان:
أحدهما: حسن، والآخر: فاسد. فالحسن أن يظن بالله عَزَّ وَجَلَّ الرحمة والفضل والإحسان، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حكايةً عن الله عَزَّ وَجَلَّ:» أنَا عِنْدَ ظَنِّّ عَبْدِي بي «وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» لاَ يمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلاَّ وهُوَ حَسَنُ الظَّنِّ بالله «.
والظن القبيح أن يظن أنه تعالى أنه يعرب عن علمه بعض الأحوال. وقال قتادة:(17/129)
والظن نوعان: مُنْجِي ومُرْدِي فالمنجي قوله: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 2] وقوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] والمردي هو قوله {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} .(17/130)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)
قوله تعالى: {فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي سكن لهم، يعني إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرجٍ يتنظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أيم مقاماً لهم.
قوله: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} العامة على فتح الياء من «يَسْتَعْتِبُوا» وكسر التاء الثانية مبنياً للفاعل {فما هم من المعتبين} بكسر التاء اسم الفاعل ومعناه وإن طلبوا العُتْبَى وهي الرضا فما هم ممن يعطاها. والمعتب الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل، يقال: أعتبني فلانٌ، أي أرضاني بعد إسخاطه إيَّاي، وا ستعتبته طلبتمنه أن يعتب أي يرضى. وقيل: المعنى وإن طلبوا زوال ما يعتبون فيه فماهم من المجابين إلى إزالة العتب. وأصل العتب المكان النَّائي بنازله، ومنه قيل لأسكفَّة الباب والمرقاة: عتبة، ويعبر بالعتب عن الغلظة التي يجدها الإنسان في صدره على صاحبه، وعتبت فلاناً أبرزت له الغلظة، وأعتبته أزلت عبتاه كأشكيته وقيل: حملته على العتب.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: وإن يُستعتبوا مبنياً للمفعول فما هم من المُعْتِبِينَ اسم فاعل بمعنى إن يطلب منهم أن يرضوا فما هم فاعلون ذلك، لأنهم فارقوا دار التكليف، وقيل: معناه أن يطلب ما لا يعتبون عليه فما هم ممَّن يريد العُتْبَى وقال أبو ذؤيب:
4363 - أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... والدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ(17/130)
قوله: «وَقَيَّضْنَا لَهُمْ» بعثنا لهم وولكنا، وقال مقاتل: هَيَّأْنَاهُ. وقال الزجاج: سينالهم وأصل التقييض التيسير والتهيئة، قضيته للداء هيأته له ويسّرته، وهذان ثوبان قيِّضان أي كل منهما مكافىء للآخرة في الثمن. والمقايضة المعارضة، وقوله {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} [الزخرف: 36] أي نسهل ونيسر ليستولي عليه استيلاء القَيْض على البَيْض.
والقيض في الأصل قشر البيض الأعلى. قال الجوهري: ويقال: قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيضان كما يقال: بيعان. وقيَّض الله فلاناً لفلان أي جاء به ومنه قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ} والمراد بالقرناء النظراء من الشياطين حتى أضلونهم {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الدنيا حتى أثروه على الآخر «وَمَا خَلْفَهُمْ» من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث.
وقال الزجاج: زينوا (لهم ماب ين أيديهم من أمر الآخرة أنَّه لا بعث ولا جنة ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا وأن الدنيا قديمة، ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك.
وقيل: مابين أيديهم أعمالهم التي يعملونها وما خلفهم ما يعزمون أن يعملوه.
وقال ابن زيد: مابين أيديهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة (وما بقي من أعمالهم الخسيسة)) .
فصل
دلت هذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر؛ لأنه تعالى قيَّض لهم قرناء(17/131)
فزينوا لهم الباطل، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر.
وأجاب الجُبَّائيُّ بأنقال: لو أراد المعاصي لكانوا يفعلها مطيعين؛ لأن الفاعل لما يريده منه غيره يجب أن يكون مطيعاً له. وأجاب ابن الخطيب: بأنهن لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعاً له لواجب أن يكون الله مطيعاً لعباده إذا فعل ما أرادوه فهذا إلزام الشيء على نفسه وإن أردت غيره فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه هلا يصح أم لا.
قوله: «فِي أُمَمٍ» نصب على الحال من الضمير في «عَلَيْهِمْ» والمعنى كائنين في جملة إُمَمٍ، وهذا كقوّله (شِعْراً) :
4364 - إنّْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَة مَأْ ... فُوكاً فَفِي آخَرِين قَدْ اَفِكُوا
أي في جملة قوم آخرين. وقيل: في بمعنى «مع» .
فصل
احتجّ أهل السنة بأنه تعالى أخبر أن هؤلاء حق عليهم القول فلو لم يكونوا كفاراً لا نقلب هذا الخبر الحق باطلاً، وهذا العلم جهلاً، وهذا الخبر الصدق كذباً، وكل ذلك محال، ومستلزم المحال فثبت أن صدور الإيمان وعدم صدور الكفر عنهم محال.
قوله (تعالى) : {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ ... } الآية اعلم أن الكلام ابتداء من قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] إلى قوله: {إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5] .
وأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة واتصل الكلام إلى هذا الموضع، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى فقال: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} العامة على فتح الغين وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون من «لَغِيَ» بالكسر يَلْغَى، وفيها معنيان:
أحدهما: من ألغى إذا تكلم باللغو وهو ما لا فائدة فيه.(17/132)
والثاني: أنه من لغى بكذا أي رمى به فتكمون «في» بمعنى الباء أي ارموا به وانبذوه.
والثاني: من الوجهين الأولين: أن يكون من «لَغَا» بالفتح أيضاً حكاه الأخفش، وكان قياسه الضم كغزا يغزو، ولكنه فتح لأجل حرف الحلق. وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السمال والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين، من لغا بالفتح يَلغُو كدَعَا يَدُعُوا، وفي الحديث: «فَقَدْ لَغَوْتَ» وهنذا موافق لقراءة غير الجمهور.
فصل
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يعني الغَطُوا فيه، كان بعضهم يوصي بعضاً: إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو.
قال مجاهد: والغوا في بالمكاء والصّفير. وقال الضحاك: أكثروا الكلام فختلط عليه ما يقول؛ وقال السّدي صيحوا في وجهه. «لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» على قراءته، وهذا جهل منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلين باللغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمداً بفضله ولما ذكر الله تعالى هددهم بالعذاب الشديد وقال {فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً} وهذا تهديد شديد؛ لأن لفظ الذوق إنما بذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب شديد، فِإن كان القليل منه عذاباً شديداً فكيف يكون حال الكثير منه؟! ثم قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال أكثر العلماء: المراد بالأسوأ أي أقبح أعمالهم لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت أعمالهم الحسنة، ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة فلا جرم لم يحصلوا إلا على السيئات.(17/133)
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)
قوله تعالى: «ذَلِكَ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتداً و «جزاء» خبره.
والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: الأمر ذلك {أَعْدَآءِ الله النار} جملة مستقلة مبنيةٌ للجملة قبلها.
(قوله) : «النار» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من «جزاء» وفيه نظر؛ إذ البدل يحل محلّ المبدل منه فيصير التقدير ذلك النار.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر.
الثالث: أنه مبتدأ و {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} الخبر، و «دَارُ» يجوز ارتفاعها بالفاعليَّة أو الابتداء.
وقوله: {فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} يقتضي أن يكون «دار الخلد» غير النار، وليس كذلك بل النار هي نفس دار الخلد. وأجيب عن ذلك: بأنه قد يجعل الشيء ظرفاً لنفسه باعتبار متعلَّقه على سبي المبالغة، لأن ذلك المتعلق صار مستقراً له، وهو أبلغ من نسبة المتعلق إليه على سبيل الإخبار به عنه. ومثله قول الآخر:
4365 - ... ... ... ... ... ... ... ... وَفيِ اللهِ إنْ لَمْ تُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ(17/134)
وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] والرسول هو نفس الأسوة. كذا أجابوا. وفيه نظر؛ إذ الظاهر وهو معنى صحيح منقول أن في النار داراً تسمى دار الخلد، والنار محيطة بها.
قوله: «جزاء» في نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب بفعل مقدر، وهو مصدر مؤكد، أي يجزون جزاءً.
الثاني: أن يكون بالمصدر الذي قبله، وهو جزاء أعداء الله. والمصدر ينصب بمثله كقوله {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً} [الإسراء: 63] .
الثالث: أن ينتصب على أنه مصدر واقع موقع الحال و «بِمَا» متعلق «بجزاء» الثاني إن لم يكن مؤكداً وبالأول إن كان (مؤكداً) و «بِآيَاتِنَا» متعلق بيجحدون.
فصل
لما قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [فصلت: 27] بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء الله هو النار، ثم قال: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} ، أي لهم في جملة النار دارٌ معينة، وهي دار العذاب الخلد، {جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون} أي يبلغون في القراءة، وسماه لآمنوا به فاستخرجوا (تلك) الطريقة الفاسدة وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً وأنهم جحدوا حسداً.
قال الزمخشري: «أي بما كانوا يلغون، فذكر الجحود؛ لأنه سبب اللَّغو» انتهى.
ثعني أنه من باب إقامة السبب قمام المسبَّب، وهو مجاز سائغٌ.
قوله: {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا ... .} الآية تقدم الخلاف في «أَرِنَا» وفي نون الَّذين وقال الخليل: إذا قلت: أرني ثوبك فمعناه بصِّرنيهِ، وبالسكون أعطنيه.(17/135)
فصل
لما بين أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السو بيَّن أن الكفار (عند الوقوع في العذاب الشديد) في النار يقولون: {رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس} ومعناه أن الشيطان على نوعين جنِّي وإنْسِيٍّ.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112] وقال: {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس مِنَ الجنة والناس} [الناس: 56] وقيل: هما إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه؛ لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل فهما سنة المعصية. {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} في النار {لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} قال مقاتل: يكونون أسفل منا في النار. وقال الزجاج: ليكونا في الدرك الأسفل. وقال بعض الحكماء: المراد باللَّذَيْنَ يُضِلاَّن الشهو والغضب والمراد بجعلهما تحت أقدامهم كونهما مسخَّرين للنفس مطيعين لها، وأن لا يكونا مستوليين عليها قاهرين لها.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} الآية. لما ذكر الوعيد أردفه بذكر الوعد كما هو الغالب. واعلم أن «ثُمَّ» لتراخي الرتبة في الفضيلة سئل أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئاً. وقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغَ رَوَغَات الثَّعْلَب. وقال عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أخلصوا العمل. وقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أدَّوا الفرائض. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه استقاموا على أداء الفرائض. وقال الحسن (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) استقاموا على أمر الله بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله. وقال قتادة: كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال: «اللَّهُمَّ فَارْزُقْنَا الاستقامة.
قوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) عند الموت. وقال مقاتل وقتادة: إذا قاموا من قبورهم. وقال وكيع بن الجرَّاح: البشرى(17/136)
تكون في ثلاثة مواظن، عند الموت وفي القبر وعند البعث.
قوله: {أَلاَّ تَخَافُواْ} يجوز في» أن «أن تكون المخففة، أو الفسِّرة، أو الناصبة و» لا «ناهية على الوجهين الأولين، ونافية على الثالث. وقد تقدم ما في ذلك من الإشكال. فالتقدير بأن لا تخافوا أي بانتفاء الخوف. وقال أبو البقاء: التقدير: بأن لا تخافوا، أو قائلين أن لا تخافوا فعلى الأول: هو حال، أي نزلوا بقولهم: لا تخافوا. وعلى الثاني: الحال محذوفة. قال شهاب الدين: يعني الباء المقدرة حالية، فالحال غير محذوفة وعلى الثاني الحال هو القول المقدر وفيه تسامح، وإلا فالحال محذوفة في الموضعين، وكما قام المقول مقام الحال كذلك قام الجار مقامها. وقرأ عبد الله» لا تخافوا «بإسقاط» أن «وذلك على إضمار القول، أي: يقولون لا تخافوا.
فصل
{أن لا تخافوا} من الموت. قال مجاهد: لا تخافون على ما تَقْدَمُونَ عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلَّفتم من أهل وولد، فإنا نخلفكم في ذلك كله.
وقال عطاء ابن أبي رباح: لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم.
قوله: {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} .
فإن قيل: البشارة عبارةٌ عن الخبر الأول بحصول المنافع، فأما إذا أخبر الرجل بحصول المنفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كان الإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارةً، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير، فإذا سمع المؤمن هذا الخبَر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة، فما السَّبب في تسمية هذا الخبر بشارة؟
فالجواب: أن المؤمن قد يسمع بشارات الخير، (فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة! قلنا: المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقِيًّا) كان له الجنة أما إذا لم (يسمع) ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا(17/137)
الكلام من الملائكة كان أخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الاول فكان ذلك بشارة.
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث (لا) يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد (بل يكون آمن الصدر لأن قوله: {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} يفيد نفي الخوف، والحزن على الإطلاق) .
قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ} [فصلت: 25] . قال السدي: تقول الملائكة نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا (ونحن أولياؤكم من الدينا) ونحن أولياؤكم في الآخرة أي لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ} من الكرامات واللذات {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي تتمنون.
فإن قيل: هلى هذا التفسير لا فرق بين قوله: {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} و {ولكم فيها ما تدعون} قال ابن الخطيب: والأقرب عندي أن قوله: {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} إشار إلى الجنة الرُّحانيَّة المذكورة في قوله {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم} [يونس: 10] الآية.(17/138)
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
قوله: «نُزُلاً» فيه أوجه:
أحدها: أنه منصوب على الحال من الموصول، أو من عائده، والمراد بالنزل الرزق المعدّ للنازل كأنه قيل ولكم فيهنا الذي تدعونه حال كونه معدًّا.
الثاني: أنه حال من فاعل «تَدَّعُونَ» أو من الضمير في «لَكُمْ» على أن يكون نزلاً جمع نازل كصَابِر وصُبُرٍ وشَارِفٍ وشُرُفٍ.(17/138)
والثالث: أنه مصدر مؤكد، وفيه نظر، لأن المصدر «نزل» النزول لا النزل. وقيل: هو مصدر أنزل.
قوله: {من غفور رحيم} يجوز أن يكون تعلقه بمحذوف على أنه صفة «لنزلاً» في «لكم» من الاستقرار أي استقر لكم من جهة غفور رحيم، وأن يتعلق بما تعلق به الظرف في «لكم» من الاستقرار أي استقر لكم من جهة غفورٍ رحيمٍ.
قال اأبو البقاء: فيكون حالاً من ما. قال شهاب الدين: وهذا البناء منه ليس بواضح بل هو متعلق بالاستقرار فَضلةً كسائر الفضلات، وليس حالاً من «ما» .
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله ... } الآية قال ابن سيرين والسُّدِّيُّ: هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وقال الحسن: هو المؤمن الذي أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه، وعمل صالحاً في إجابته وقال إنَّني من المسلمين. وقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها إن هذه الآية نزلت في المؤذِّنين. وقال عكرمة: هو المؤذن. وقال أبو أمامة الباهليّ: وعمل صالحاً: ركعتين بين الأذان والإقامة. وقال قيس بن أبي حازمٍ: هو الصلاة بين الأذان والإقامة.
قوله: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} العامة على إنيي بنونين. وابن أبي عبلة وابن نوحٍ بنون واحدة. قوله تعالى: «ولا السيئَةُ» في «لا» هذه وجهان:
أحدهما: أنها زائدة للتوكيد، كقوله: {وَلاَ الظل وَلاَ الحرور} [فاطر: 21] وكقوله: {وَلاَ المسياء} [غافر: 58] ، لأن استوى لا يكتفي بواحد.
والثاني: أنها مؤسسة غير مؤكِّدة؛ إذ المراد بالحسنة والسيئة الجنس، أي لا تستوي الحسنات في أنفسنا فإنها متفاوته، ولا تستوي السيئات أيضاً، فربَّ واحدةٍ أعظم من أخرى، وهو مأخوذ من كلام الزمخشري، وقال أبو حيان: «إن أخذت الحسنة والسيئة جنساً لم يكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا» . قال شهاب الدين: «فقد جعلها في المعنى الثاني زائدة، وفيه نظر لما تقدم» .(17/139)
فصل
قال المفسرون: المراد بالحسنة الصَّبر، وبالسيئة الغضب. وقيل: الحلم والجهل.
وقيل: العفو والإساء. قال بان الخطيب: لما حكى الله تعالى عنهم قولهم: «قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ» وإصرارهم الشديد على دينهم، وعد التأثّر بدلائل محمد صلى الله عليه سولم ثم أطنب في الجواب عن شبهاتهم ثم رغّب محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن لا يترك الدعوة إلى الله بقوله:
{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] فلهم الثواب العظيم، ثم تَرَقَّى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى، وهي أن الدعوة إلى الله تعالى أعظم الدرحات، ثم كأن سائلاً (سأل ف) قال: إن الدعوة إلى الله، وإن كانت طاعةً عظيمةً، إلا أنَّ الصبر على سفاهة الكفَّار شديدةً، فذكر الله تعالى ما يصلحُ لأ، يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال: {ولا تستوي الحنسة ولا السيئة} .
والمراد بالحسنة دعوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام وترك الالتفات إليهم؛ والمراد بالسيئة ما أظهروا من الجلافة في قولهم: «قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ» وقوله: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] فكأنه قال: يا محمد فعلُك حسنة، وفعلُهم سيئة، ولا تستوي الحسنة (ولا السيئة) أنت إذا أتيت بهذه الحسنة استوتجبت التعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وهم بالضِّدِّ من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة. ثم قال {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} يعني ادفع ستاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطُّرق. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أمر بالصبر عند الغضب، وبالحِلْم عند الجهل، وبالعفو عن الإساءة. والمعنى أنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرةً بعند أخرى ولم تقابل سفاهتهم بالغضب استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا أفعالهم القبيحة، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغضاء إلى المودَّة فقال: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ} يعني إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي كالصديق القريب، قال مقاتل بن حيَّان: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وذلك لأنه لان للمسلمين شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم أسلم فصار وليًّا بالإسلام وحميماً بالقرابة.
قوله: كأنه ولي «في هذه الجملة التَّشبيهيَّة وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب على الحال، والموصول متبدأ، و» إذا «التي(17/140)
للمفاجأة خبره والعامل في هذا الظرف من الاستقرار هو العامل في هذا الحال. ومحطُّ الفائدة في هذا الكلام (هي الحال والتقدير: فالبحضرة المعادي مشبهاً القريب الشفوق.
والثاني: أن الموصول مبتدأ) أيضاً، والجملة بعد خبره، و» إذَا «معمولة لمعنى التشبيه والظرف يتقدم على عامله المعنوي. هذا إن قيل: إنها ظرف.
فإن قيل: إنَّها حرف فلا عامل.
قوله:» وَمَا يُلَقَّاها: العامة على يُلَقَّاها من التَّلْقِيَة. وابن كثير في رواية وطلحة بن مصرف يُلاَقَاها من المُلاَقَاةِ، فالضمير للخصلة أو الكلمة، (أو الجنة أو شهادة التوحيد.
فصل
لما أرشد الله تعالى إلى الطريق النافع في الدين والدنيا) قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} (قَالَ الزَّجاج: «وَمَا يُلَقَّى هذه الفِعْلَةَ إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على تحمل المكاره وتجرح الشدائد وكظم الغيظ، وترك الانتقام. {يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} من الفضائل النفسانية. وقال قتادة الحظ العظيم الجنة، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.(17/141)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ ... } الآية. تقدم تفسيرها في آخر(17/141)
سورة الأعراف. قال الزمخشري: النَّزغُ والنَّسْغُ بمعنى واحد وهو شبه النَّخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينسخه يبعثه على ما لا ينبغي. والمعنى وإن صرفك الشيطان عما شرع لك من الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره «إنه هو السميع» لاستعاذتك وأقوالك «العليم» بأفعالك وأحوالك.
قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار ... } الآية لما بين تعالى في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى وهي عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته، ومن جملتها العالم بجميع أجزائه فبدأ هاهنا بذكر الفلكِّات وهي اللَّيل والنَّهار، والشمس والقمر، وقدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيهاً على أن الظلمة عدمٌ، والنور وجود، والعدم سابق على الوجود، وهذا كالتنبيه على وجود الصانع وتقدم شرحه مراراً. ولما بين أن الشمس والقمر يحدثان وهما دليلان على وجود الإله القادر قال {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} يعني أنهما عبدا دليلان على وجود الإله (القادر) والسجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات فقال: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} لأنهما عبدان مخلوقان، واسجدوا لله الخالق القادر الحكيم.
أحدهما: أنه يعود على «الليل والنهار والشمس والقمر» . وفي مجيء الضمير كضمير الإناث (كما قال الزمخشري هو أنَّ جمع ما لا يعقل حكمه حكم الأثنى أو الإناث) نحو: الأَقْلاَمُ بريتُهَا وبرَيْتُهُنَّ.
وناقشه أبو حيان: من حيث إنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك؛ لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معالمة الإناث، وفي جمع الكثرة أن يعامل معالمة الأنثى، فالأفصح أن يقال: الأجذاع كَسَرتهُنَّ، والجذوع كسرتُهَا، والذي تقدم في هذه الآية ليس بجمع قلة أعني بلفظ واحد ولكنه ذكر أربعة متعاطفة فتنزَّلَت منزلة الجمع المعبر به عنها بفلظ واحد. قال شهاب الدين: والزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح والأفصح بل في مقام كيفية مجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنث أو لَمَّا قال: «وَمِن آياتِهِ» كُنَّ في(17/142)
معنى الآيات فقيل: خَلَقَهُنَّ. ذكر الزمخشري أيضاً أنه يعود على لفظ الآيات وهذا هو الوجه الثاني.
الثالث: أنه يعود على الشمس والقمر؛ لأن الاثنين جمع، والجمع مؤنث لقولهم: «شُمُوسٌ وأَقْمَارٌ» .
وقال البغوي: إنما قال خلقُهُنَّ بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير، ولم يُجْر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث.
قوله: {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} قيل: كان ناسٌ يسجدون للشمس والقمر كالصَّابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنه يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فَنُهُوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه الأشياء.
قوله: {فَإِنِ استكبروا} أي عن السجود {فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} لا يَمَلُّونَ.
فإن قيل: إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقلّ وأذلّ من أن يحصُل لنا أهليَّةٌ لعبادة الله تعالى ولكنا عبيدٌ للشمس والقمر وهما عبدان لله تعالى، وإذا كان قولهم هكذا فكيف يليق بهم أنهم استكبروا عن السجود لله تعالى؟! .
فالجواب: ليس المراد من الاستكبار ههنا ما ذكرتم بل المراد استكبارهُم عن قول قولك يا محمد بالنهي عن السجود للشمس والقمر.
فصل
قال ابن الخطيب ليس المراد بهذه العِنديَّة قرب المكان، بل يقال: عند المَلِك من الجُند كذا وكذا، ويدل عليه قوله: «أنا عِنْدَ ظَنَّ عَبْدِي بِي» وأنا عِنْدَ المُنْكَسِرَة قُلُوبُهُم من أجلي في مقعدٍ صدقٍ عند ملكٍ مُقتدرٍ، ويقال: عند الشافعي: أنَّ المُسْلم لا يُقْتَلُ بالذِّمِّيِّ.
فصل
دلَّت هذه الآية على أن المَلِكَ أفضل من البشر؛ لأنه إنما يُسْتَدَلُّ بحال الأعلى على الأدنى فيقال: هؤلاء القوم إن استكبروا عن طاعة فلان، فالأكبر يخدمونه.(17/143)
فإن قيل: وصف الملائكة بأنهم يسبحون له بالليل والنهار لا يفترون، وهذا يدل على مواظبتهم على التسبح لا ينفكون عنه لحظةً وادة كما قال: {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] واشتغالهم بهذه العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال لكنهنم ينزلون على الأرض، كما قال تعالى {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193194] وقال {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر: 51] وقال {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6] وقال عن الذين قاتلوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدر {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] .
فالجواب: أن الذين ذكرهم الله ههنا بكونهم واظبين على التسبيح أقوام مُعيَّنُونَ من الملائكة.
فصل
اختلفوا في مكان السجدة فقال الشافعي رحمهُ الله هو عند قوله تعالى «إِيَّاهنُ تَعْبُدُونَ» وقال أبو حنيفة رضي الله: هو عند قوله تعالى «وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ» .
قوله: «وَمِنْ آيَاتِهِ» أي ومن دلائل قدرته أنك ترى الأرض خاشعةً أي يابسة غير الإنبات فيها {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ} ، أي تحركت بالنبات، وَرَبَت انْتَفَخَتْ؛ لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الأربعة الفكلية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي هذه الآية ثم قال: {إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى} يعنى أن القادر على إحياء الأرض بعند موتها هو القادرُ على أحياء هذه الأجساد بعد موتها. ثم قال: {إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذ هو الدليل الأصلي وتقدم تقريره مِرَاراً.(17/144)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا} الآية لما بين أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب، وأشرف المراتب، ثم بين أن الدعوة إنما تحصُلُ بذكر دلائل التوحيد العدل وصحة البعث والقيامة عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات، ويجادل بإبقاء الشُّبهات فيها فقال: إن الذين يُلحدون في آياتنا لا يخفون علينا، يقال: ألحدَ الحافِرُ(17/144)
وَلَحَدَ إذ مال عن الاستقامة فحفر في شقِّ فالمُلحِدُ، هو المُنْنحَرِفُ، ثم اختص في العرف بالمُنْحرِفِ عن الحق إلى الباطل قال مجاهد: يلحدون في آياتنا بالمُكَاءِ والتصدية واللغو واللَّغط. وقال قتادة: يكذبون في آياتنا. قوال السدي: يعاندون ويشاقون {لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} وهو كقول الملك المهيب: إنَّ الذين ينازعون في ملكي أعرفهم فإنت ذلك (لا) لا يكون تهديداً. ثم قال: {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة} وهذا استفهام بمعنى التقدير، والغرض منه التنبيه على أن المُلحِدِين في الآيات يُلْقَون في النار، وأن المؤمنين بالآيات يأتون آمنين يوم القيامة. قال المفسرون: المراد حمزة، وقيلأ: عثمان، وقيل: عمار بن ياسر. ثم قال: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} وهذا أمر تهديد ووعيد أيضاً، {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي عالم بأعمالكم فيجازيكم.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} في خبرها ستةُ أوجه:
أحدها: أنه مذكور، وهو قوله «أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ» وقد سئل بلال بنُ أبي بُرْدَة عن ذلك في مجسله فقال: لا أجد لها معاداً، فقال له أبو عمرو بن العلاء: إنه منك لقريب أولئك ينادون. وقد استبعد هذا من وجهين:
أحدهما: كثرة الفواصل.
والثاني: تقدم من يصح الإشارة إليه بقوله: «أُولَئِكَ» وهو قوله: «وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ» واسم الإشارة يعود على أقرب مذكور.
الثاني: أنه محذوف لفهم المعنى فقدر: مُعَذَّبُونَ، أو مُهْلَكُونَ، أو مُعَانِدُونَ. وقال الكسائي: سد مسده ما تقدم من الكلام قبل «إنَّ» وهو قوله {أَفَمَن(17/145)
يلقى فِي النار} . يعني في الدلالة عليه، والتقدير يُخلَّدُونَ في النار، وقال البغوي: يَجَازَوْنَ بكُفْرِهِمْ. وسأل عيسى بن عمر عَمْرَو بن عبيدٍ عن ذلك فقال معناه في التفسير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به، فقدر الخبر من جنس الصِّلة. وفيه نظر من حيث اتّحاد الخبر والمُخبر عنه في المعنى من غير زيادة فائدة، نحو: سيِّدُ الجارِية مَالِكُها.
الثالث: أن «إنَّ الَّذِينَ» الثانية بدل من «إِنَّ الَّذِين» الأولى المحكوم به على البدل محكوم به على المبدل منه فيلزم أن يكون الخبر {يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} وهو منتزع من كلام الزمخشري.
الرابع: أنَّ الخير قوله: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} والعائد محذوف تقديره لا يأتيه الباطل منهم، نحو: «السَّمْنُ منوان بِدرهَم» أي منوان منه أو يكون «أل» عوضاً من الضمير في رأي الكوفيين، تقديره: «إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالِّكْرِ لاَ يَأتِيهِ بَاطِلُهُمْ» .
الخامس: أن الخبر قوله تعالى: {مَّا يُقَالُ لَكَ} والعائد محذوف أيضاً تقديره: إنَّ الَّذِين كَفَرُوا بالذِّكْرِ مَا يقال لك في شأنهم إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلك. وهذان الوجهان ذهب إليهما أن أبو حيَّان.
والسادس: قال بعض الكوفيين: إنه قوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ} وهذا غير متعقَّلٍ.
قوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} جملة حالية، وقوله {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل} صفة «الكتاب» ، و «تَنْزِيلٌ» خبر مبتدأ محذوف، أو صفة لكتاب على أنَّ «لاَ يأْتِيهِ» معترف أو صفة كما تقدم على رأي من يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح، وتقدم تحقيقه(17/146)
في المائدة. و «مِنْ حَكِيم» صفة «لتنزيل» أو متعلق به و «الباطل» اسم فاعل، وقيل: مصدر كالعاصِفةِ والعاقِبةِ.
فصل
لما بلغ في تهديد المُلحدين في آيات القرآن أتبعه تعظيم القرآن فقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} قال الكلبي عن أبن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: أي كريم على الله. وقال قتادة: أعزة الله تعالى لا يجد الباطل إليه سبيلا. قال قتادة والسدي: الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره أو يزيل فيه أو ينقص منه. وقال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن يُنْقَصُ منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يُزَادُ فيه فيأتيه الباطل من خلفه، وعلى هذا فمعنى الباطل هو الزيادة والنقصان. وقال مقاتل: لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يأتي بعده كتاب فيُبطلُهُ (و) قال الزمخشري هذا تمثيل والمقصود أن الباطل لا يتطرطُ إليه ولا يجد إليثه سبيلاً من جهة من الجهات حين يصل إليه.
فصل
اعلم أنَّ لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه؛ لأن النسخ إبطال، فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وهذا خلاف الآية.
ثم قال: {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي حكيم في جميع أفعاله حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه.
قوله تعالى: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} ... . الآية لما هدَّ الملحدين في آيات الله ثم بين شرف آيات الله وعلو درجة كتاب الله تعالى رجع إلى أمر رسوله بأن يصبر على أذى قومه، وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة وهو قولهم: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] إلى قوله: {فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5] فقال: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} أي إنهم قالوا للأنبياء قبلك: ساحرٌ، وكذبوهم(17/147)
كما كُذِّبت. وقيل: المراد ما قال لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه أمرك وأمرهم بالصبر على سفاهة الأقوام.
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ} قيل: هو مفسر للمقول كأنه قيل: قيل للرسل إن ربك لذو مغفرة وقيل: هو مستأنف ومعناه لذو مغفرة لمن تاب وآمن بك، وذُو عِقَابٍ أليمٍ لمن أصر على التكذيب.(17/148)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ} أي جعلنا هذا الكتاب الذي يقرؤه على الناس قرآناه أعجميًّا بغير لغة العرب {لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أي هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها.
قوله: «أَأَعْجَمِيٌّ» قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيق الهمزة، وهشام بإسقاط الأولى، والباقون: بتسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ. وأما المدّ فقد عرف حكمه من قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] في أول الكتاب. فمن استفهم قال معناه أكتاب أعجمي ورسول عربي؟
وقيل: ومرسل إليه عربي؟ وقيل: معناه بعضه أعجمي وبعضه عربي؟ ومن لم يثبت همزة الاستفهام فيحتمل أنه حملها لفظاً وأرادها معنى، وفيه توافق القراءتين، إلا أن ذلك لاي يجوز عند الجمهور إلا إذا كان في الكلام «أم» نحو: بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ.(17/148)
فإن لم يكن «أم» لم يجز إلا عند الأخفش. وتقدم ما فيه.
ويحتمل أن يكون جعله خبراً محضاً ويكون معناه: هلا فُصِّلت آياتُهُ فكان بعضها أعجمياً يفهم العجم وبضعه عربياً يفهمه العرب. والأعجمي من لا يفصح، وإن كان من العرب وهو منسوب إلى صفته، كأحمريّ، ودوّاريّ؛ فالياء فيه للمبالغة في الوصف وليس فيه حقيقياً. وقال الرازي في لوامحه: فهو كياء كُرْسيّ وبختيّ.
وفرق أبو حيان بينهما فقال: ليست كياء كُرسيّ، فإنَّ ياء كرسيِّ وبختيّ بُنِيَت الكلمة عليها بخلاف ياء «أعْجَمِيٍّ» فإنهم يقولون: رجلٌ أعجم وأَعجميٌّ.
وقرأ عمرو بن ميمونٍ أعَجميّ بفتح العين وهو منسوب إلى العجم والياء فيه للنسب حقيقة، ويقال: رجلٌ عجميّ وإن كان فصحياً. وقد تقدم الفرق بينهما في سورة الشعراء. وفي رفع أعجمي ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره أعجمي وعربي يستويان.
والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي القرآن أعجمي والمرسل به عربيٌّ.
والثالث: أنه فاعل فعل مضمر، أي أيستوي عجميٌّ وعربيٌّ. إذ لا يحذف الفعلُ إلا في مواضع تقدم بيانها.
فصل
قال المفسرون: هذا استفهام على وجه الإنكار، لأنهم كانوا يقولون: المُنزَّلُ عليه عربي، والمُنَزَّلُ أعجمي وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يدخل على يسار غلام(17/149)
عامر بن الحضرمي وكان يهوديًّا أعجمياً يكنى أبا فكيهة، فقال المشركون: إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال: إنك تعلِّمُ محمداً فقال يسار: هو يعلّمني، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن الخطيب: نقلوا في نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت قالوا: هلا نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية. وعندي: أن أمثال هذه الكلمات فيها حذف عظيم على القرآن، لأن يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض، وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذه الطعن ادعاه كونه كتاباً منتظماً؟! فضلاً عن ادِّعاء كونه معجزاً؛ بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد على ما حكى الله عنهم من قولهم {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر} وهذا الكلام متعلق به أيضاً وجوب له والتقدير: إنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكانه لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب؟ ويصح لهم أن يقولوا: قلوبنا في أكنة من هذا الكلام، وفي آذاننا وقر منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه.
أما لمَّا نزل هذا الكتاب بلغة العرب وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة فيكف يُمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها وفي آذانكم وقر منها؟! فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جواباً عن ذلك الكلام بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيبٌ جدًّا.
قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ} أي قل يا محمد هو يعني القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء هدى من الضلالة وشفاء لما في القلوب. وقيل: شفاءٌ من الأوجاع. قال ابن الخطيب: هذا متعلق بقولهم: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} . . الآية [فصلت: 5] كأنه تعالى يقول: إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكمخ لا بلغة أجنبية عنكم فلا يمكنكم أن تقولوا قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا هذه اللغة فكل من أعطاه الله تعالى طبعاً مائلاً إلى الحق، وقلباً داعياً إلى الصدق وهمَّةً تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين فإن هذا القرآن يكون في حقه هُدًى وشفاء. أما كونه هدى فإنه فإنه أذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى، وذلك شفاء لهم من مرض الكفر والجهل، وأما من غرق في بحر الخِذْلان وشغف بمتابعة الشيطان فكأنَّ هذا القرآن عليهم عَمًى، كما قال: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] أولئك يُنادون من كان بعيدٍ بسبب ذلك الحجاب الحائل بينه وبين الانتفاع ببيان القرآن وكل من أنصف ولم يتعسف علم أن التفسير على هذا الوجه الذي ذكرناه أولى مما ذكروه؛ لأن السورة نتصير من(17/150)
أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً منسوقاً نحو غرض واحد.
قوله: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ و «في آذانِهِم» خبره و «وَقْرٌ» فاعل، أو «في آذَانِهِم» خبر مقدم و «وقر» مبتدأ مؤخر، فالجملة خبر الأول.
الثاني: أن «وقراً» خبر مبتدأ مضمر، والجملة خبر الأول، والتقدير والذين لا يؤمنون هو وقر في آذانهم. لما أخبر عنه بأنه هدى لأولئك أخبر عنه أنه وقر في آذان هؤلاء وعمًى عليهم، قال معناه الزمخشري. ولا حاجة إلى الإضمار مع تمام الكلام بدونه.
الثالث: أن يكون «الذين لا يؤمنون» عطفاً على «الذين آمنوا» و «وَقْرٌ» عطف على «هُدى» . وهذا باب العطف على معمولي عاملين وفيه مذاهب تقدم تحريرها.
قوله: «عَمًى» العامة على فتح الميم المنونة، وهو مصدر لعَمِي يَعْمَى عَمًى، نحو: صَدِيَ يَصْدَى صَدًى وهَوِيَ يَهْوَى هَوًى. وقرأ ابن عباس، وابن عمر، وابن الزُّبير وجماعةٌ عم بسكرهنا منونة اسماً منقوصاً، وصف بذلك مجازاً. وقرأ عمرو بن دينار، ورُبيت عن ابن عباس: «عَمِيَ» بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً. وفي الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه القرآن.
والثاني: أنه للوقر، والمعنى يأباه و «في آذانهم» إن تجعله خبراً تعلق بمحذوف على أنه حال منه لأنه صفة في الأصل، ولا يتعلق به لأنه مصدر، فلا يتقدم معموله عليه وقوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} كذلك في قراءة العامة وأما في القراءتين المتقدمتين فيتعلق «على» بما بعده إذ ليس بمصدر. قال أبو عبيد: والأولى هي الوجه، لقوله: {هُدًى وَشِفَآءٌ} وكذلك «عمى» وهو مصدر مثلهما ولو كان المذكور أنه هادٍ وشافٍ لكان الكسر في «عَمِيَ» أجود، فيكون نعتاً لهما.
فصل
قال قتادة: عَمُوا عن القرآن وصمُّوا عنه، فلا ينتفعون به. {أولئك ينادون من مكان(17/151)
بعيد} قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء.
وقيل: من دعي من كان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم فكذا حال هؤلاء، وهذا مثل لقلّة انتفاعِهِمْ بما يُوعظُونَ بِهِ.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ} وجه تعلقه بما قبله كأنه قيل: إنا لما آتينا موسى الكتاب فقبله بعضهم وردَّهُ آخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب، فقبله بعضهم وهم أصحابك، ورده آخرون وهم الذين يقولون: قلبونا في أكنة مما تدعوننا إليه. ثم قال: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} يعني في تأخير العذاب عنهم {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو يقوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع أي لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} من صدقك وكتابك «مُرِيبٍ» موقع لهم الريبة، فلا ينبغي أن يعظم استيحاشك من قولهم: {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} . ثم قال: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} يعنى خفف على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم وإن كفروا فضرر كفرهم يعود عليهم فالله سبحانه وتعالى يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} .
قوله: «فلنفسه» يجوز أن يتعلق بفعل مقدر أي فلنفسه عملهُ، وأن كيون خبر مبتدأ مضمر أي فالعامل الصالحُ لنفسه. وقوله «فَعَلَيْهَا» مثله.
ثم قال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} والكلام على نظيره قد تقدم في سورة آل عمران عند قوله: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182] .
قوله (تعالى) : {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة} لما هدد الكفار بقووله: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه يوم القيامة، فكأن سائلاً قال: ومتى يكون ذلك اليوم؟ فقال تعالى: إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة وقت ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال: إليه يرد علم الساعة وهذه الكلمة تفيد الحصر، أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله تعالى وكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين:
أحدهما: قوله: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا} .
والثاني: قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} .(17/152)
قوله: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ} ما هذه يجوز أن تكون نافية وهو الظاهر وأن تكون موصولة جوَّز ذلك أبو البقاء، ولم يبين وجهه، وبيانه أنها مجرورة المحمل عطف على الساعى أي (علم الساعة) وعلم التي تخرج، و «مِنْ ثَمَراتٍ» على هذا حال، أو تكون «مِن» للبيان، و «مِن» الثانية لابتداء الغاية. وأما الثانية فنافية فقط. قال أبو البقاء: لأنه عطف عليها «وَلاَ تَضَعُ» ثم نقض النفي بإلا ولو كانت مبعنى الذي معطوف على الساعة لم يَجُزْ ذلك.
وقرأ نافعٌ وابن عامر «ثَمَراتٍ» ويقويه أنها رُسِمَتْ بالتاء الممطوطة والباقون ثمرة بالإفراد، والمراد بها الجنس، فإن كانت «ما» نافية كانت «مِنْ» مزيدة في الفاعل، وإن كانت موصولة كانت للبيان كما تقدم. والأكمام جمع «كِمّ» بكسر الكاف؛ كذا ضبطه الزمخشري، وهو ما يغطي الثمرة كجُفِّ الطَّلع. وقال الراغب: الكُم ما يغطي اليد من القميس وما يغطي الثمرة وجمعه: أكمامٌ، وهذا يدل على أنه مضموم الكاف؛ إذ جعله مُشْتَرَكاً بين «كم» القميص، و «كم» الثمرة، ولا خلاف في «كُم» القميص بالضم فيجوز أن يكون في وعاء الثمرة لغتان، دون «كم» القميص جمعاً بين قوليهما. وأما أَكمَةٌ فواحدها «كِمامٌ» كأزمَّةٍ وزمامٍ.
قال أبو عبيدة: أكمامها أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمَّة. قال(17/153)
ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : يعنى الكُفُرَّى قبل أن تنشقَّ. {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} أي إليه يرد علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنِّتاج.
قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي} أي بحسب زعمكم واعتقادكم. (و) ابن كثير ياء شُركائي. {قالوا آذَنَّاكَ} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : أسمعناك، كقوله
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الإنشقاق: 2] ، يعني سمعت. وقال الكلبي: أعلمناك، قال بان الخطيب: وهذا بعيد؛ لأن أهل القيامة يعملون أن الله تعالى يعلم الأشياء علماً واجباً، فالإعلام في حقه محال.
قوله: {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} هذه الجملة المنفية معلقة «لآذناك» ؛ لأنهما يمعنى أعلمناكَ، قال:
4366 - آذَنَتْنَا ببَيْنها أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ مِنْهُ الثَّواءُ
وتقدم الخلاف في تعليق أعلم. و «مِنْ» للغاية. والصحيح وقوعه سماعاً من العرب. وجوَّز أبو حاتم أن يوقف على «آذنَّاكَ» وعلى «ظنوا» ويبتدأ بالنفي بعدهما على سبيل الاستئناف. و «مِنّا» خبر مقدم. و «مِنْ شَهِيدٍ» مبتدأ، ويجوز أن يكون «مِنْ شَهِيدٍ» فاعلاً بالجار قبله؛ لاعتماده على النفي.
فصل
في معنى الآية وجوه:
قيل: ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكاً لما عاينوا العذاب تبرأوا من الأصنام.(17/154)
وقيل: معناه ما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم فلا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل: هذا كلام الأصنام كأن الله يجيبها، ثم إنها تقول: «مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ» بصحة ما أضافه إلينا من الشركة، وعلى هذا التقدير فمعنى ضلالهم عنهم (أنهم لا ينفعونهم وهي معنى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُم) مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ} [فصلت: 48] .(17/155)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
قوله تعالى: {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} كقوله: «مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» ومعناه: أنهم أيقنوا أنهم لا محيص لهم عن النار أي مهرب، وهذا ابتداء كلام من الله تعالى.
قوله تعالى: {اَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير} ... الآية لما بين تعالى من حال هؤلاء الكفار (أنهم) بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرأُوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متغير الأحوال، فإن أحسَّ بخير وقدرة تعاظم، وإن أَحسَّ ببلاءٍ ومحنةٍ ذُلَّ. والمعنى أن الإنسان في حال الإقبال لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها، وفي مجال الإدبار والحِرمان يصير آيساً قناطاً. وفي قوله {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} مُبالغةٌ من وجيهن:
أحدهما: من طريق فعول.
والثاني: من طريق التكرار.
واليأس من صفة القلب، والقنوط أن يظهر آثار اليأس في الوجه والأحوال الظاهر.
ثم بين تعالى أن الذين صار آيساً قانطاً لو عاودَتْهُ النعمة والدَّولة وهو قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ(17/155)
رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} فِإنه يأتي بثلاثة أنواع من الأقوايل الفاسدة الموجبة للكفر والبعد عن الله.
فالأول: قوله {لَيَقُولَنَّ هذا لِي} وهو جواب القسم لسبقه الشرط، وجواب الشرط محذوف كما تقدم تقريره.
وقال أبو البقاء: ليقولن جواب الشرط والفاء محذوفة. قال شهاب الدين (رَحِمَهُ اللَّهُ) وهو لايجوز إلا في شعر كقوله:
4367 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا..... ... ... ... ... ... ... .
حتى إنَّ المبرد يمنعه في الشعر، ويروى البيت:
4368 - مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ ... فصل
معنى قوله: «هذَا لي» أي هذا حقي وصل إِليَّ؛ لأني استوجبته بعلمي وعملي، ولا يعلم المِسْكِنُ أن أحداً لا يستحق على الله شيئاً، لأنه إن كان عارياً من الفضائل، فلاكمه ظاهر الفساد، وإن كان موصوفاً بشيء من الفضائل والصفات الحميدة فهي إنما حصلت بفضل الله تعالى وإحسانه، فيثبتُ بهذا فساد قوله: إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي.
النوع الثاني من كلامه الفاسد: قوله: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً} ، والمعنى أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النُّفرة عن الآخرة فإذا آل الأمرُ إلى أحوال الدنيا يقول: إنها لي، وإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول: وَمَا أظُنُّّ السَّاعَةَ قَائِمَة.
النوع الثالث: من كلامه الفساد: قوله: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} أي أن هذا الكافر يقول: لست على يقين من البعث وإن كان الأمر على ذلك ورُدِدْتُ إلى ربي إن لي عنده الحسنى أي الجنة، كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة: ولما(17/156)
حكى الله عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ} قال ابن عباس رضي الله عهما: لنوقفنّهم على مساوىء أعمالهم {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهذا في مقابلة قوله: {إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} .
ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي أعرض عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله. {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي تعاظم، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع. ومعنى «عريض» كبير. والعرب تستعمل الطُّول والعَرْضَ في الكثرة، يقال: أَطَاللَ فلانٌ الكَلاَم والدعاءَ وأعْرَضَ أي أَكثَرَ.
قوله تعالى: (قلْ أرَأيْتُمْ) تقدم الكلام عليها، ومفعولها الأول هنا محذوف، تقديره أرأيتم أنْفُسَكُمْ والثاني هو الجملة الاستفهامية.
فصل
ومعنى الآية إنكم لما سمعتم هذا القول القرآن أعرضتم عنه، وما تأملتهم فيه وبالغتم في النُّفرةِ عنه حتى قلتم قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذننا وقر ومن المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلاً وليس العلم فساد القول بالتوحيد والنبوة علماً بديهيًّا فقيل: الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً، وأن يكون فساداً، فتبقدير أن يكون صحيحاً كان إصراركم على دفعة من أعظم موجبات العقاب فيجب عليكم أن تتركوا هذه النفرة، وأن ترجعوا إلى النظر والاستدلال فإن دَلَّ دليل على صحته قَبِلْتُموهُ، وإن دل دليل على فساده تركتموه، وقبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل.
فقوله: {مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} موضوع موضع بيان حالهم وصفتهم.
ولما ذكر هذه الوجوه الكثرة في تقرير التوحيد والنبوة آجاب عن شبهات المشركين فقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} الآفاق جمع أفق وهو الناحية. نقل النَّوَوِيُّ في التهذيب قال أهل اللغة: الآفاق النَّواحِي، الواحد أفُق بضم الهمزة والفاء، وأُفْق بإسكان الفاء قال الشاعر (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
4369 - لَوْ نَالَ حَيٌّ مِنَ الدُّنيا بِمَنْزِلَةٍ ... أُفْقَ السَّمَاءِ لَنَالَتْ كَفُّهُ الأْفُقَا(17/157)
وهو كأعناقٍ في عنق، أُبْدِلَتْ همزته ألفاً. ونقل الراغب أنه يقال: أَفَقٌ بفتح الهمزة والفاء فيكون كجبلٍ وأجبالٍ. وأفَقَ فلانٌ أي ذهب في الآفاق. والآفِقُ الذي بلغ نهاية الكرم تشبيهاً في ذلك بالذهاب في الآفاق. والنسبة إلى اأفق أَفَقيّ بفتحهما. ويحتمل أن نسب إلى المفتوح ثم استغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم، وله نظائر. قال النووي: قالوا: والنسبة إليه أُفُقيّ بضم الهمزة والفاء وبفتحهما لغتان مشهورتانِ.
فصل
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : معنى قوله سنريهنم آياتنا في الآفاق أي منازل الأمم الخالية وفي أنفسهم بالبلاء والأمراض. وقال قتادة: يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر. وقال مجاهد والحسن والسدي: ما يفتح الله من القُرى على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمين وفي أنفسهم: فتح مكة.
فإن قيل: حمل الآية على (هذا) الوجه بعيد؛ لأن أقصى ما في الباب أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استولى على البلاد المحيطة بمكة ثم استولى على مكة إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقاً فإنا نرى بعض الكفار قد يستولي على بلاد المسلمين وعلى مولكهم (وهذا يدل على كونهم) محقين.
فالجواب: أنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على تلك البلاد على كونه محقاً في ادعاء النبوة، بل يستدل به من حيث إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبر عن أنه سيستولي عليها ويقهر أهلها وهذا إخبار عن الغيب، وقند وقع مُخْبَره مطابقاً لخَبَرِهِ، فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب فيكون معجزاً فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا(17/158)
الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً. وقال عطاء وابن زيد: في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم، وآيات الليل والنهار، والأضواء، والظلال والظلمات والنبات والأشجار والأنهار، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحمكة، في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة، والتركيبات الغريبة، كقوله: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] يعني نريهم هذه الدلائل {حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} من عند الله يعني محمداً صلى لله عليه وسلم، وأنه مرسل من عند الله.
فإن قيل: هذا الوجه ضعيف، لأ، قوله تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد أطلعهم علهيا قبل ذلك فيعتذر حمل اللفظ على هذا الوجه.
فالجواب: أن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب (التي أَوْدَعَهَا الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها فهو تعالى يطعلهم على تلك العجائب زماناً فزماناً؛ لأن كل أحد رأى بنية الإنسان وشاهدها، إلا أن العجائب) إلى أبدعها الله تعالى في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها، والذي وقف على شيء منها كلَّما أزداد وقوفاً على تلك العجائب ازْدَاد يقينا وتعظيماً، وكذلك التركيبات (الفلكية أيضاً) .
والأولى أن يقال: إن كان المراد بقوله: {حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} وهو الرسول فقول مجاهد أولى وإن كان المراد به الدين والتوحيد فهذا أولى.
قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} فيه وجهان:
أحدهما: أن الباء مزيدة في الفاعل، وهذا هو الراجح، والمفعول محذوف، أي أَوَ لَمْ يكف ربُّك.
وفي قوله: {أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وجهان:
أحدهما: أنه بدل من «بربك» فيكون مرفوع المحل، مجرور اللفظ كمتبوعه.
والثاني: أن الأصل بأنه، تم حذف الجار فجرى الخلاف.
الثاني من الوجهين الأولين: أن يكون «بِرَبَّكَ» هو المفعول و «أنه» وما بعده هو(17/159)
الفاعل، أي أو لم يكف ربَّك شَهَادَته.
وقرىء: «إنَّه على كلِّ» «بالكسر» ، وهو على إضمار القول أو على الأستئناف.
فصل
اعلم أن قوله «بِرَبِّك» في موضع الرفع على أنه فاعل كما تقدم ومعناه: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد، أي شهيداً على الأشياء لأنه خلق الدلائل الدالة عليها.
وقال مقاتبل: أو لم يكفِ بربك شاهداً أن القرآن من الله عزَّ وجلَّ. قال الزجاج: معنى الكفاية ههنا أن الله عزَّ وجلَّ قد بين من الدلائل ما فيه كِفَاية.
قوله: {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ} أي في شك من البعث والقيامة. وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن في مُرْيَة بضم الميم وقد تقدم أنها لغة في المكسورة الميم.
ثم قال: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} أي عالم بكل المعلومات (التي لا نهاية لها فيعلم بواطن الكفر وظواهرهم ويجازي كل واحد على فعله) .
فإن قيل: الإحاطة مشعرة بالنهاية، وهذا يقتضي أن يكون معلومه مُتَنَاهِياً!
فالجواب: أن قوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} يقتضي أن يكون عمله بكل شيء محيطاً أي بكلّ واحد من الأشياء وهذا يقتضي أن يكون واحدٌ منها متناهياً لا كون مجموعها متناهياً والله أعلم.
روى الثعلبي في تفسيره أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من قرأ حم السجدة أعطاه الله من الأجر بكل حرف منها عَشرَ حَسَنَاتٍ» .(17/160)
سورة الشورى(17/161)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
مكية وهي ثلاث وخمسون آية، وثمانمائة وست وستون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: «حم عسق» تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح.
وسئل الحُسينُ بنُ الفضل: لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص فقال: لأنها سور أوائلها «حم» فجرت مجرى نظائرها. كأنَّ «حم» مبتدأ «عسق» خبره، ولأنهما عدا آيتين وأخواتها مثل: كهيعص، والمص والمر عدت آية واحدة. وقيل: لأن أهل(17/161)
التأويل لم يختلفوا في كهيعص، وأخواتها، لأنها حروف التهجي لا غير.
واختلفوا في «حم» فأخرجها بعضهم من حيِّز الحروف، وجعلها فعلاً. وقيل: معناه حُمَّ أي قضي ما هو كائن. روى عكرمة عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أنه قال: «ح» حلمه «م» مجده «ع» عمله، «س» سناؤه، «ق» قدرته أقسم الله بها. وقال شهرُ بن حوشب وعطاءُ بن أبي رباح: «ح» حرب يعِزُّ فيها الذليل ويذلُّ فيها العزيز من قريش «م» ملكُ يتحول مِنْ قوم إلى قوم «ع» عدوٌّ لقريش يقصدهم «س» سبيٌ يكون فيهم «ق» قُدرةُ الله النافذة في خلقه؛ ورُوِيَ عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أنه قال: ليس من نبي صاحب كمتاب إلا وقد أوحيت إليه حم عسق فلذلك قال: يُوحى إليك وإلى الَّذِين من قبلك وعلى هذا فقوله {الله العزيز الحكيم} تبيين للفاعل كأنه قال: من يوحي؟ فقيل: الله العزيزُ الحيكم كما سيأتي. وقرأ ابنُ عباس وابنُ مسعود حمَ سَق.
قوله: «كَذَلِكَ يُوحِي» القراء على يوحي بالياء من أسفل مبنيًّا للفاعل، وهو الله تعالى، والعزيز الحكيم نعتان، والكاف منصوبة المحل إما نعتاً لمصدر، أو حالاً من ضميره، أي يوحي إيحاءً مثل ذلك الإيحاء.
وقرأ ابن كثير وتُرْوَى عن أبي عمرو يُوحَى بفتح الحاء مبنياً للمجهول وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدها: ضمير مستتر يعود على كذلك، لأنه مبتدأ، والتقدير مثلُ ذلك الإيحاء يُوحَى هو إليك. «فمِثْلُ ذَلِك» مبتدأ، و «يُوحَى إِلَيْكَ» خبره.
الثاني: أن القائم مقام الفاعل «إليك» والكاف منصوبة المحل على الوجهين المقتدمين.
الثالث: أن القائم مقامه الجملة من قوله «اللهُ العزيزُ» أي يُوحى إليك هذا اللفظُ. وأصول البصريين لا تساعد عليه؛ لأن الجملة لا تكون فاعلةً ولا قائمةً(17/162)
مقامه. وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان نُوحي بالنون وهي موافقة العامة. ويحتمل أن تكون الجملة من قوله: {الله العزيز الحكيم} منصوبة المحل مفعولة بنُحي أي نُوحِي إليك هذا اللفظ، إلا أنَّ فيه حكاية الجملة بغير القول الصريح.
و «يُوحِي» على اختلاف قراءته يجوز أن يكون على بابه من الحال والاستقبال فيتعلق قوله: {وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} بمحذوف لتعذر ذلك تقديره: «وأُحِي إلى الذَّين من قَبْلِكَ» وأن يكون يكون بمعنى الماضي، وجيء به على صورة المضارع لغرضٍ وهو تصوير الحال.
قوله: «اللهُ العَزيزُ» يجوز أن يرتفع بالفاعلية في قراءة العامة، وأن يرتفع بفعل مضمر في قراءة ابن كثير كأنه قيل: من يوحيه؟ فقيل: اللهُ العزيزُ، كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36، 37] وقوله:
4370 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... وقد مرَّ. وأن يرتفع بالابتداء، وما بعده خبره، والجملة قائمة مقام الفاعل على ما مر، وأن يكون «العَزِيزُ الحَكِيمُ» خبرين، أو نعتين، والجملة من قوله: {لَهُ مَا فِي السماوات} خبر أول أو ثانٍ على حسب ما تقدم في «العَزِيزِ الحَكِيم» . وجوَّز أبو البقاء يكون «العَزِيزُ» مبتدأ، و «الحكيم» خبره، أو نعته و {لَهُ مَا فِي السماوات} خبره.
وفيه نظر؛ إذا الظاهر تبعيَّتُها للجلالة. وأنت إذا قلت: «جَاءَ زَيْدٌ العَاقِلُ الفَاضِلُ» لا تجعل العامل مرفوعاً على الابتداء.(17/163)
فصل
الكاف في «كَذَلِكَ» معناه المثل و «ذَا» للإشارة إلى شيء سبق ذكره فيكون المعنى مثل حم عسق يوحي إليك وإلى الذين من قبلك، وعند هذا حصل قولان:
أحدهما: ما نقل عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أنه قال: لا نبي صابح كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق كما تقدم.
قال ابن الخطيب: «وهذا عندي بعيد» .
والثاني: أن يكون مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحى إليك وإلى الذين من قبلك، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد، وتقبيح أحوال الدنيا، والترغيب في أمور الآخرة.
قال الزمخشري: لم يقل: أُوحِيَ إليك ولكن قال: يوحى إليك على لفظ المضارع ليدل على أن أيحاء مثله عادة وكونه عزيزاً بدل على كونه قادراً على ما لانهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجيات كما تقدم بيناه في أول سورة «حم» المؤمن.
وقوله: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يدل على كونه موصوفاً بالقدرة الكاملة النافذة في جميع أجواء السموات والأرض على عظمها وسعتها بالإيجاد والإعلام وأن ما في السموات وما في الأرض ملكه وملكه، وهو العَلِيّ أي المتعالي عن مُشابهةِ المُمْكِنَات العظيم بالقدرة والقهر والاستعلاء.
قوله تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ} تقدم الكلام فيه مُشْبعاً في مريم، وإلا أن الزمخشري زاد هنا وروى يونس عن أبي عمرو قراءةً غريبةً تتفطَّرن بتاءين مع النون.
ونظيرها حرف نادر، رُوِيَ في نوادر ابن الأعرابي: «الإِبل تتشمَّمْنَ» .(17/164)
قال أبو حيان: والظاهر أن هذا وهمٌ، لأن ابن خالويه قال في شاذِّ القرآن ما نصه «تَنْفَطِرْنَ» بالتاء والنون يُونسُ عن أبي عمرو.
قال ابن خالويه: وهذا حرف نادر؛ لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث لا يقال: النساء تقُمْنَ، ولكن يَقُمْنَ، والوالِدَاتُ يُرْضِعنَ ولا يقال: تُرضِعن. وقد كان أبو عمر الزَّاهِدُ روى في نوادر ابن الأعرابي: الإبل تتشمَّمْنَ فأنكرناه، فقد قواه الآن هذا.
قال أبو حيان: فإن كانت نسخُ الزمخشري متفقةً على قوله: بتاءين مع النون «فهو وهم، وإن كان في بعضها بتاء مع النو كان موافقاً لقول ابن خالويه وكان بتاءين تحريفاً من النساخ وكذلك كتبهم تتفطَّرن وتَتشمَّمْنَ بتاءين. انتهى.
قال شهاب الدين: كيف يستقيم أن يكو (ن) كتبهم تتشمَّمن بتاءين وهماً وذلك لأن ابن خالويه أورده في معرض الندرة والإنكار حتى يقوى عنده بهذه القراءة، وإنما يكون نادراً منكراً بتاءين، فإنه حينئذ يكون مضارعاً مسنداً لضمير الإبل، فكان من حقه أن يكون حرف مضارعته ياء منقوطة من أسفل، نحو: النِّساءُ يقُمن فكان ينبغي أن يقال: الإبل يتشمَّمن بالياء من تحت ثم بالتاء من فوق، فلما جاء بتاءين كلاهما من فوق ظهر نُدُوره وإنكاره، ولو كان على ما قال أبو حيان: إن كتبهم بتاءين وهماً بل كان ينبغي كتبه بتاء واحدة لما كان فيه شذوذ ولا إنكار، لأنه نظير: النِّسوة تدحرجْنَ فإنه ماض مسندٌ لضمير الإناث، وكذا لو كتبت بياء من تحت وتاء من فوق لم يكن فيه شذوذ، ولا إنكار.
وإنما يجيء الشذوذ والإنكار إذا كان بتاءن منقوطتين من فوق، ثم إنه سواء قُرِىء تتفطَّرن بتاءين أو بياء ونون، فإنه نادر لما ذكر ابن خالويه، وهذه القراءة لم يقرأ بها في نظيرتها في سورة مريم.
قوله:» مِنْ فَوْقِهِنَّ «في هذا الضمير ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه عائد على السموات، أي كل واحدة منها تتفطَّرُ فوق التي تليها من قول المشريكن: {اتخذ الله وَلَداً} [الكهف: 4] كما في سورة مريم، أي يبتدىء(17/165)
انفطارهُنَّ من هذه الجهة» فِمَنْ «لا بتداء الغاية متعلقة بما قبلها.
الثاني: أنه يعود على الأرضين؛ لتقدم ذكر الأرض.
الثالث: أنه يعود على فرق الكفار والجماعات الملحدين. قاله الأخفش الصغير. وأنكره مكي وقال لا يجوز ذلك في المذكور من بني آدم، وهذا لا يلزم الأخفش فإنه قال على الفرق والجماعات فراعى ذلك المعنى.
فصل
قال الزمخشري: كلمة الكفر إنَّما جاءت من الذين تحت السموات، وكان القياس أن يقال: ينفطِرن من تحتهن (أي) من الجهة التي (تحت) جاءت منها الكلمة، ولكن بُولغ في ذلك فجعلت مؤثرة مِنْ جهة الفوقِ، فكأنه قيل: يكون ينفطرن من الجهة التي فوقهنَّ، دع الجهة التي تحتهن.
ونظيره في المبالغة، قوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود} [الحج: 19، 20] . فجعل مؤثراً في أجزائهم الباطنة.
وقال ابن الخطيب: يعني من فوقهن أي من فوق الجهة التي حصلت هذه السموات فيها، وتلك الجهة هي فوق، فقولهن: من فوقهن أي من الجهة الفوقانيَّة التي هُنَّ فيها.
قوله: {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مُفيضاً لكُلِّ الخيرات.
قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} أي من المؤمنين كما حكى عنهم في سورة المؤمن فقال: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: 7] .
فإن قيل: (قوله) : ويستغفرون لمن في الأرض عام، فيدخل فيهم الكفار وقد لعنهم الله تعالى فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] فيكف (يكونون) لا عنين لهم ومستغفرين لهم؟! قال ابن الخطيب: والجواب من وجوه:(17/166)
الأول: أنه عام مخصوص بآية المؤمن كما تقدم.
الثاني: أن قوله {لِمَن فِي الأرض} لا يفيد العموم؛ لأنه (لا) يصح أن يقال: إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال: إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان صريحاً في العموم لما صحَّ ذلك.
الثالث: يجوم أن يكون المراد من الاستغفار أنه لا يُعاجلهم بالعقاب، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] إلى أن قال: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر: 41] .
الرابع: يجوز أن يقال: إنهم يستغفرون لكل من في الأرض، أما في حق الكفار فبطلب الإيمان لهم وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم فإنا نقول: اللهم أهدش الكفار، وزيِّن قلوبهم بنور الإيمان وأَزِل عن خواطرهم وحشة الكُفْرِ، وهذا استغفار لهم في الحقيقة.
فصل
قال ابن الخطيب: قوله: «ويستغفرون لمن في الأرض» يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ولو وجد منهم معصية لا ستغفروا لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض، فحيث لم يذكر الله عزَّ وجلَّ استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مُبرَّأُون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم ذنوب، والذين لا ذنب لهم ألبتة أفضل ممن له ذنب، وأيضاً فقثوله: «ويستغفرون لمن في الأرض» يدعل على أنهم يستغفرون للأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأنهم من جملة مَنْ في الأرض، وإذال كانوا مستغفرين للأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان الظاهر أنهم أفضل منهم. ثم قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} وهذا تنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر، إلا أن المغفرة المُطْلَقة لله تعالى وهذا يدل على أنه تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة.
قوله: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أي جعلوا له شركاء وأنداداً الله حفيظٌ عليهم أي رقيب عليهم ويحفظ أعمالهم، وأقوالهم ويُحصيها ليجازيهم بها، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم} يا محمد «بِوَكِيل» أي لم يوكلك بهم ولا أمرهمه إليك إنَّما أنت مُنذرٌ.
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} في قرآناً وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول أوحَيْنَا، والكاف للمصدر نعتاً أو حالاً.(17/167)
الثاني: أنه حال من الكاف، والكاف هي المفعول «لأَوْحَيْنَا» أي أوحينا مثل ذلك الإيحاء، وهو قرآن عربي وإليه عربي وإليه نحا الزمخشري. وكون الكاف اسماً في النثر مذهب الأخفش.
فصل
قال ابن الخطيب: قوله وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء سبق ذكره، وليس ههنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} يعني أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم وكذلك أوحينا إلريك قرآناً عربياً ليكون نذيراً لهم.
قوله: {أُمَّ القرى} أي أهلَ أُمِّ القرى؛ لأن البلد لا تعقِلُ.
قوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} عطف على أهل المقدر من قبل أم القرى والمفعول الثاني محذوف أي العذاب.
وقرىء: ليُنذر بالياء من تحت أي القرآن، أم القرى أصل القرى بمعنى مكة، وسمي بهذا الاسم إجلالاً؛ لأن فيها البيت ومقامَ إبراهيِم. والعرب تسمي أص لكلٍّ شيء أمةً، حتى يقال: هذه القصيدة من أُمَّهاتِ قصائد فلانٍ ومعنى «مَنْ حَوْلَها» أي قرى الأرض كلها من أهل البدو والحضر وأهل المَدَر والوَبَر. والإنذار: التخويف.
قوله: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} أي تنذرهم بيوم الجمع، وهو يوم القيامة، جمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرض. وقيل: المراد تجمع الأرواح بالأجساد.
وقيل: يجمع كبين العامل وعمله وقيل: يجمع بين الظالم والمظلوم.(17/168)
قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} إخبارٌ فهو مستأنف، ويجوز أن يكون حالاً من «يَوْمِ الجَمْعِ» وجعله الزَّمخشري اعتراضاً وهو غير ظاهر صناعة إذ لم يقع بين مُتلازمين.
قوله: «فَرِيقٌ» العامة على رفعه بأحد وجهين:
إمَّا الابتداء، وخبره الجار بعده، وساغ هذا في النكرة، لأنه مقام تفصيل كقوله:
4371 - ... ... ... ... ... ... ... ... فَثَوْبٌ نَسِيتُ وثَوْبٌ أَجُرٌّ
ويجوز أن يكون الخبر مقدراً تقديره منهم فريق. وساغ الابتداء بالنكرة لشيئين: تقديم خبرها جار ومجروراً ووصفها بالجار بعدها، والثاني: أنه خبر ابتداء مضمر إي هم أي المجموعون، دَلَّ على ذلك يوم الجمع.
وقرأ زيدٌ بن عليٍّ: فريقاً وفريقاً، نصباً على الحال من جملة محذوفة أي افتَرَقُوا أي المجموعون.
وقال مكي: وأجاز الكسائي والفراءُ النصب في الكلام في «فريقاً» على معنى: تُنذر فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير يوم الجمع وكأنه لم يطلع على أنها قراءة.
وظاهر نقله عن هذين الإِمامين أنهما لم يطلعا (عليها) وجعل «فريقاً» مفعولاً أول لتنذر، «ويوم الجمع» مفعولاً ثانياُ.
وفي ظاهره إشكالٌ وهو أنَّ الإنذار لا يقع للفريقين وهما في الجنة وفي السعير إنما يكون الإنذار قبل استقرارهما فيهما. ويمكن أن يُجَابَ عنه بأن المراد مَنْ هو من أهل الجنة ومن أهل السعير، وإن لم يكن حاصلاً فيهما وقت(17/169)
الإنذار، و «فِي الجَنَّةِ» صفة «فَرِيقاً» أو متعلق بذلك المحذوف.
فإن قيل: يوم الجمع يقتضي كون القوم مجتمعين، والجمع بين الصنفين محال! .
فالجواب: أنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال ابن عباس (رضي اللهُ عَنْهُمَا) على دين واحدٍ وقال مقاتل: على ملة الإسلام، كقوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} [الأنعام: 35] {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي في دين الإسلام «والظَّالِمُونَ» الكافرون {مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ} يرفع عنهم العذاب «وَلاَ نَصِير» يمنعهممن النار وهذا تقرير لقوله تعالى: {حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي أنت لا تقدر أن تحملهم على الإيمان فلو شاء الله لفعله؛ لأنه أقدر منك، ولكنه جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً.
قوله تعالى: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أم هذه (هي) أم المنقطعة فتقدر ببل التي للانتقال وبهمزة الإنكار، أو بالهمزة فقط. واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم يقال بعده لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: لَسْتَ عَلَيْهمْ بِوَكِيلٍ أي لا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان فإن الله لو شاء لفعله أعاد ذلك الكلام على سبيل الاستنكار. ثم قال: {فالله هُوَ الولي} ، قال ابن عباس (رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) : وليك يا محمد، وولي من اتبعك، والفاء جواب شرط مقدر كأنه قال: إنْ أَرَادُوا أولياء بحق فاللهُ هو الوليّ، لاَ وليَّ سواه؛ لأنه يحيي الموتى {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء قاله الزمخشري. وقيل: الفاء عاطفة ما بعدها على ما قبلها.
قوله تعالى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} وجه النظم أنه تعالى كما منع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحمل الكفار على الإيمان قهراً فكذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخُصُوماتِ والمنازعات فقال: {وَمَا اختلفتم فِيهِ} (من شيء) من أمر الدين فحكمه إلى الله يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يُزيل الرَّيب، وقيل:(17/170)
وما اختلفتُم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم ولا يُؤْثروا حكومة غيره على حكومته.
وقيل: ما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا يصل تكليفكم ولا ط ريق لكم إلى علمه، فقولوا الله أعلم كما قال تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] .
قوله: {فَحُكْمُهُ إِلَى الله} إما أن يكون المراد فحكمه مستفاد من نص الله عليه، أو المراد فحكمه مستفاد من القياس على مان نص الله عليه، والثاني باطل، لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثتبة بالقياس وأنه باطل فتعين الأول، فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالمعنى، وذلك ينفي العمل بالقياس.
فإن قيل: لايجوز أن يكون المراد فحكمه معروف من بيا الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو القياس؟ .
فالجواب: أن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نص الله تعالى.
قوله: {ذَلِكُمُ الله} أي الذي يحكم بين المختلفين {رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في رفع كيد الأعداء وفي طلب كُل خير {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجع إليه في كل المهمات، وهذا يفليد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه.(17/171)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
قوله تعالى: {فَاطِرُ السماوات والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} .(17/171)
قوله تعالى: «فاطر» العامة على رفعه خبراً «لذلكم» ، أو نعتاً «لربي» على محض إضافته و «عليه توكلت» معترض على هذا، أو مبتدأ خبره «جعل لكم» أو خبر مبتدأ مضمر أي هو.
وقرأ زيد بن على «فاطِر» بالجر، نعتاً للجلالة في قوله: «إلَى اللهِ» وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء في «عَلَيْهِ» أو «إلَيْهِ» .
وقال مكيُّ: وأجار الكسائي النصب على البدلِ، وقال غيره: على المدح ويجوز في الكلام الخفض على البدل من الهاء كأنه لم يطلع على أنها قراءة زيد بن علي.
قوله: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً} قيل: معناه: جعل لكم من أنفسكم أزواجاً أي مثل خلقكم، وأزواجاً أي حلائل، وقيل معنى من أنفسكم أي خلق حوّاء نم ضِلع آدم، {وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً} أي أصنافاً ذكوراً وإناثاً.
قوله: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يكثركم. وقوله: «فيه» يجوز أن تكون «في» عَلَى بَابها، والمعنى يكثركم في هذا التدبير، وهو أن يجعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد. والضمير في «يذرأكم» للمخاطبين والأنعام، إلا أنه غلب فيه العقلاء من وجهين:
أحدهما: أن غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء.
الثاني: أنه غلب جانب المخاطبين على الغائبين.
قال الزمخشري: وهي من الأحكام ذات العلَّتين. قال أبو حيان: وهو اصطلاح غريب يعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا. ثم قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى يذرأكم في هذا التدبير وهلا قيل: يذرأكم به؟ قلت: حعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير، ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] . وقيل: إنها للسببيّة كالباء أي(17/172)
يكثركم بسببه، والضمير يعود على الجعل أو للمخلوق.
وقيل: يذرأكم فيه أي يخلقكم في الرحم. وقيل: في البطن.
قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في هذه الآية أوجه:
أشهرها: أن الكاف زائدة في خبر ليس، و «شيء» اسمها، والتقدير: ليس شيءٌ مثله. قالوا: ولولا ادعاء زيادتها للزم أن يكون له مثل، وهو محال؛ إذ يصير التقدير على أصالة الكاف: ليبس (مِثْلَ) مثله شيء فنفى المماثلة عن مثله، فثبت أن له مثلاً لا مثل لذلك المثل، وهذا محال تعالى الله عن ذلك.
وقال أبو البقاء: لو لم تكن زائدة، لأفضى ذلك إلى المحال؛ إذ كان (يكون) المعنى أن له مثلاً وليس لمثله مثل، وفي ذلك تناقض؛ لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل وهو هو، مع أن إثبات المثل لله تعالى محال.
وهذه طريقة حسنة في تقرير زيادة الكاف، وفيها حسن صناعةٍ.
الثاني: أن «مثل» هي الزائدة كزيادتها في قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] قال الطبريُّ: كما زيدت الكاف في قوله:
4372 - وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفِينْ ...(17/173)
وفي قوله:
4373 - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُول ... وهذا ليس بجيد، لأن زيادة الأسماء ليست بجائزة، وأيضاً يصير التقدير: ليس كهو شيء. ودخول الكاف على الضمائر لا يجوز إلا في شعر.
الثالث: أن العرب تقول: «مِثْلُكَ لاَ يَفْعَلُ كَذَا» يعنون المخاطب نفسه؛ لأنهم يريدون المبالغة في نفي الوصف عن المخاطب فينفونها في اللفظ عن مثله، فثبت انتفاؤها عنه بدليلها ومنه قول الشاعر (رحمة الله عليه) :
4374 - عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ المَرْءُ نَفْسَهُ ... وَإِنْ بَاتَ مِنْ لَيْلَى عَلَى النَّاسِ طَاوِيَا
وقال أوس بن حجر:
4375 - ... ولَيْسَ كَمِثْلِ الفَتَى زُهَيْر
خَلْقٌ يُوَازِيهِ فِي الفَضَائِلِ ... وقال آخر:
4376 - وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلِ ... تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ(17/174)
وقال آخر:
4377 - سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ ... فَمَا كَمِثْلِهِم في النَّاس مِنْ أَحَدِ
قال ابن قتيبة: العرب تٌقِيمُ المِثْلَ مُقَامِ النَّفْس فتقول: «مِثْلِي لاَ يُقَالُ لَهُ هَذَا» أي أنا لا يقال لي. قيل: ونسبة المثل إلى من لا مثل له قولك: فلانٌ يده مبسوطةٌ، يريد: أنه جواد، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له كقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] .
الرابع: أن يراد بالمثل الصفة، وذلك أن المثل بمعنى المثل، والمثل الصفة كقوله {مَّثَلُ الجنة} [محمد: 15] ، فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من التي لغيره (وهو مَحْمِلٌ سَهْلٌ) .
فصل
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) معناه ليس له نظير «وهو السميع البصير» أي سامعاً للمسموعات بصيراً للمرئيات.
فإن قيل: قوله: {وهو السميع البصير} يفيد الحصر، فما معنى هذا الحصر مع العباد أيضاً موصوفون بكمونهم سميعين بصيرين؟! .
فالجواب: «السمعي البصير» لفظان مشرعان بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال والكمال في كل الصفات وليس إلا الله، فهذا هو المراد من هذا الحصر.
قوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض} أي مفاتيح الرزق في السموات والأرض، قال المفسرون: مفاتيح السموات: الأمطار. ومقاليد الأرض: النبات وتقدم الكلام على المقاليد في الرمز. {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} لأن مفاتحي الأرزاق بيده {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} من البسط والتقدير «عَلِيمٌ» .(17/175)
قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين ... } الآية لمَّا عظم وحيه إلى محمد عليه الصَّلاة والسَّلام بقوله: {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} أي بين لكم من الدين يا أصحاب محمد ما وصى به نوحاً وهو أول أنبياء الشريعة.
قال مجاهد: أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً {والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} من القرآن وشرائع الإسلام {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم كانوا أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة.
واختلوفا في الموصى به، فقال قتادة: تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم: تحريم الأمهات والبنات والأخوات. وقال مجاهد: لم يبعث الله تعالى نبياً إلى وهداه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإقرار لله بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم.
وقيل: هو التوحيد والبراءة من الشرك. وقيل: هو ما ذكر من بعد في قوله: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} بعث الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة.
فصل
قال ابن الخطيب: في لفظ الآية إشكالات:
أحدهما: قال في أول الآية: {مَا وصى بِهِ نُوحاً} وفي آخرها: {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ} وفي وسطها {والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} فما فائدة هذا التفاوت؟
وثانيها: ذكر نوحاً على سبيل الغيبة فقال: {مَا وصى بِهِ نُوحاً} وقال {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ} .
وثالثها: تقدير الآية شرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك؟ وهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد، وهو مشكل، وهذه مضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها بالجملة.
واعلم أن المقصود من الآية أن يقال: شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته، فيجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام؛ لأنها مختلفة متفاوتة، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] فوجب أن يكون المراد منه (الأمور) التي لا تخلتف باختلاف الشرائع، وهو الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، (وأصول الدين) .(17/176)
فصل
استدل بعضهم بقوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في أول الأمر متعبداً بشريعة نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، وأجيب: با، هـ عطف عليه سائر الأنبياء، فدل ذلك على أن المراد هو الأخذ بالشريع المتفق عليها بين الكل.
قوله: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين} يجوز فيها أوجه:
أحدها: أن تكون مصدرية في محل رفع على خبر مبتدأ مضمر، كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين المشروع توحيد الله.
الثاني: أنها في محل نصب بدلاً من الموصول، كأنه قيل: شرع لكم ما وصَّى به نوحاً توحيد الله.
الثالث: أنها في محل جر بدلاً من الدين.
الرابع: أنها في محل جر أيضاً. بدلاً من الهاء.
الخامس: أن تكون مفسِّرة؛ لأنه قد تقدمها ما هو بمعنى القول.
قوله: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من التوحيد، ورفض الأوثان.
قوله: «الله يَجْتَبِي» أي يصطفي {إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ} يهدي إليه من يشاء يصطفي لدينه من عباده من يشاء {ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} يقبل إلى طاعته. والاجتباء يدل على الضم ومنه: جبى الخَراجَ واجْتَبَى الماء في الحوض فقوله: «الله يجتبي» أي يضم إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة.
فصل
احتج نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: إنه تعالى أخبر بأن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحيث لا يفضي إلى الاختلاف والنزاع، والله تعالى ذكر في معرض المنَّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة، المعلوم أن فتح باب القياس يُفْضِي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة فإن الحسَّ شاهد بأن هؤلاء الذين(17/177)
بنوا دينهم على القياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى قيام القيامة، فوجب أن يكون ذلك محرماً.
فصل
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كان لقائل أن يقول: فلماذا نجدهم متفرقين؟ فِأجاب بقوله: {وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة، فحملتهم الحميَّة النَّفسانية الطبيعية، على أن ذهبت كل طائفة إلى مذهب، ودعوا الناس إليه، وقبحوا ما سواه طلباً للذكر والرياسة فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف.
ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل، إلا أنَّه تعالى أخَّر عنهم ذلك العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمًّى، أي وقتاً معلوماً وهذا معنى قوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} . والأجل المسمَّى قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة، فقال ابن عباس والأكثرون: هم اليهود والنصارى، لقوله تعالى في آل عمران: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] .
قوله في سورة «لم يكن» : {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة} [البينة: 4] . وقيل: هم العرب، وهذا باطل، لما تقدم، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد أنبيائهم. وقيل: من بعد الأمم الخالية {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} أي من كتابهم. وقيل من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ و «مُرِيبٍ» صفة الشك، أي لا يؤمنون به حق الإيمان.
قوله: «أُورِثُوا: قرأ زيد بن علي: وُرِّثُوا بالتشديد مبنياً للمفعول.
قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَآ أُمِرْتَ} في اللام وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى» إلى «أي فإلى ذلك الدين فادع واستقم، وهو الاتفاق(17/178)
على الملة الحنيفية،» واسْتَقِمْ «عليها (أي على الدين الذي أمَرَكَ به) كما أمرك الله {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} المختلفة الباطلة.
والثاني: أنها للعلة، أي لأجل التفرق والاختلاف ادع للدين القيم {آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ} أي بأيِّ كتابٍ صحَّ أن الله أنزله يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة.
قوله: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ} يجوز أن يكون التقدير: وأمرت بذلك لأعدل بينكم في الحكم، وقيل: أمِرْتُ أنْ أَعْدِلَ، فاللم مزيدة. وفيه نظر لأنك بعد زيادة اللام تحتاج إلى تقدير حرف أي بأن أعدل.
فصل
قال القفال: معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي أو أنفسكم بأن آمركم بما لا أعلمه أو أخالفكم إلى ما لا أنهاكم عنه، لكني أسوي بينكم وبين نفسي كذلك أسوي بين: أكابركم وأصاغركم في الحكم. وقيل معناه: لا أضيف عليكم بأكثر مما أفترض الله عليكم من الأحكام.
قوله: {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} يعني إلهنا واحد، وإن ختلفت أعمالنا، فكلُّ يُجازَى بعمله، «لا حجَّة» ، لا خصومة، «بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» . نسختها أية القتال، وإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة.
قال ابن الخطيب: ومعنى الآية أنه إله الكل واحد، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه فإن الله تعالى يجمع بين الكل يوم القيامة ويجازيه على عمله.
فإن قيل: كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟! فالجواب: هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق(17/179)
على صحته بين كل الأنبياء ودخل فيه التوحيد، وترك عبادة الأصنام والإقرار بنبوة الأنبياء وبصحة البعث والقيامة فلمَّا لم يقبلوا هذه الدين فات الشَّرط فيفوت المشروط.
واعلم أن قوله تعالى: {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} يجرى مجرى محاجَّتهم، بدليل أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجَّة، فلو كان المراد من هذه الآية تحريم المحاجة لزم كونها محرمةً لنفسها، وهو متناقض. وأيضاً لولا الأدلة لما توجه التكليف، وأيضاً: أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وإنما تركوا تصديقه عناداً فبين تعالى أنه حصل الاستغناء عن محاجَّتهم؛ لأنهم عرفوا صدقه، ولا حاجة معهم إلى المحاجَّة ألبتة.
ومما يقوي عدم تحريم المحاجة قوله: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقوله: {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 31] وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] .(17/180)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
قوله: {والذين يُحَآجُّونَ} (مبتدأ، و «حجتهم» ) مبتدأ ثانٍ و (داحضة) خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. وأعرب مكيٌّ: حجتهم بدلاً من الموصول بدل اشتمال والهاء في «لَهُ» تعود على الله تعالى، أو على الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام أي من بعد ما استجاب الناس لله أو من بعد ما استجاب الله لرسوله حين دعا على قومه. وقال ابن الخطيب: يعود على «الدين» أي من بعد ما استجاب النَّاس لذلك الدين.
فصل
المعنى والذين يخاصمون في دين الله نبيَّه. وقال قتادة: هم اليهود، قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم، فنحن خيرٌ منكم، فهذه خصومتهم من بعد ما استجاب له الناس، فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته «حجتهم داحِضةٌ» خصومتهم باطلة «عِنْدَ رَبِّهِمْ» قال ابن الخطيب: تلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا: ألستم تقولون إن الأخذ بالمتفق عليه أولى بالأخذ من المختلف فيه فنبوة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام وحقيقة التوراة معلومة بالاتفاق، ونبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليست متفقاً عليها فوجب الأخذ باليهودية، فبين تعالى فساد هذه الحجة، وذلك لأن اليهود أجمعوا على أنه إنما وةجب الإيمان بموسى عليه الصَّلاة والسَّلام لأجل ظهور المعجزات على قوله وهاهنا نظهرت المعجزات على وفق قول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واليهود شاهدوا تلك المعجزات، فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق فهاهنا يجب الاعتراف بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنوته بظهور المعجزات؛ لأنه يكون متناقضاً، ولما قرر (الله تعالى) هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة فقال: {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الآخرة.
قوله تعالى: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان} قال قتادة ومجاهد ومقاتل: سمي العدل ميزاناً؛ لأن الميزان آلة للإنصاف والتسوية. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أمر الله تعالى بالوفاء ونهى عن البخس.(17/181)
ومعنى الآية أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على الدلائل والبيِّناتم وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم وأنهم لا يعلمون أن القيامة حق يفاجئهم، ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في النظر والاستدلال، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد. ولما كان الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام يهددهم يوم القيامة ولم يروا لذلك أثراً قالوا على سبيل السخرية متى تقوم الساعة؟ وليتها قامت حتى يظهر لنا الحقّ أهو الذي نحن عليه أم الذي عليه محمد وأصحابه؟! .
قوله: {لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} إنما ذكر «قريب» وإن كان صفة لمؤنث لأن الساعة في معنى الوقت أو البعث أو على معنى النَّسب أي ذات قُرْبٍ، أوعلى حذفق مضاف، أي مجيء الساعة.
وقيل للفرق بينها وبين قاربة النسب. وقيل: لأن تأنيثها مجازي نقله مكي. وليس بشيء، إذ لا يجوز: الشمسُ طالعٌ، ولا القِدْرُ فائِرٌ، وجملة الترجي أو الإشفاق معلِّقة للدراية. وتقدم مثله آخر الأنبياء.
فصل
قال مقاتل: ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا مستهزءين: متى تكون الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} ظناً منهم أنهم غير آتية {والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ} خائفون {مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق} أي أنها آتية لا ريب فيها، ثم قال: {أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ} يخاصمون. وقيل: يدخلهم المرية والشك في «وُقُوع الساعة» لفي ضلالٍ بعيدٍ؛ لأن استيفاء حقِّ المظلوم من الظالم واجب في العدل فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا من أمحل المحالات، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالاً بعيداً.
قوله تعالى: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : حفيٌّ(17/182)
بهم. وقال عكرمة: بارٌّ بهم. وقال السديّ: رفيق بهم. وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم بدليل قوله: {بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} وكل من رزقه الله من مؤمن وكافرٍ وذي روحٍ فهو ممَّن يشاءُ الله أن يرزقه.
قال جعفر الصادق: اللطيف في الرزق من وجهين:
أحدهما: أنه جعل رزقك من الطيبات.
الثاني: أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة.
و «هو القوي» القادر على ما يشاء «العزيز» الذي لا يغالب.
فصل
إنما حسن ذكر هذا الكلام هاهنا؛ لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة، فكان ذلك من لطف الله (تعالى) بعباده، وأيضاً فالمتفرقون استوجبوا العذاب الشديد. ثم إنه تعالى آخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف الله تعالى، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم (و) دفع أعظم المضارِّ عنهم لا جرم حسن ذكره هاهنا.
قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ... } الآية الحرث في اللغة الكسب، أي من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في حرثه بالتضعييف بالواحد عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة. قال مقاتل. وقيل: معناه إنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه.
وقال الزمخشري: إنه تعالى سمَّى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز. واعلم أنه قد تقدم أن كون الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً مجزوماً لا يختص مجيئه بكان خلافاً لأبي الحكم مصنِّف كتاب الإعراب فإنه قال: لا يجوز ذلك إلا مع «كان» إلا في ضرورة شعر.
وأطلق النحويون جواز ذلك وأنشدوا بيت الفرزدق:(17/183)
4378 - دَسَّتْ رَسُولاً بِأَنَّ القَوْمَ إنْ قَدَرُوا ... عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتِ تَوْغِيرِ
وقوله أيضاً:
4379 - تَعَشَّ فَإِنْ عَاهَدْتَني لاَ تَخُونِنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ
وقرأ ابن مقسم والزَّعفرانيُّ ومحبوب: يزد ويؤته بالياء من تحت، أي الله تعالى.
وقرأ سلام يؤته بضم هاء الكناية وهو الأصل، وهو لغة الحجاز وتقدم خلاف القراء في ذلك.
فصل
قال قتادة: معنى قوله: ومن كان يريد (حَرْثَ) الدنيا أي يريد جملة حرث الدُّنيا نؤته منها أي نؤته بقدر ما قسم له كما قال: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ} [الإسراء: 18] وما له في الآخرة من نصيب؛ لأنه لم يعمل للآخرة قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «بَشِّرْ هَذِهِ الأمَّة بالسناء والرِّفْعَةِ والنَّصْرِ والتَّمْكِينِ في الأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ للدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ في الآخِرَةِ نَصِيبٌ» واعلم أنه تعالى قال في طلب الآخرة (إنه) يزيد له في حرثه ولم يذكر أنه يعطيه الدنيا أم لا بل سكت عنه نفياً وإثباتاً.
وأما الطالب الدنيا فبين أنه لا يعطيه شيئاً من نصيب الآخرة على التنصيص، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول: الآخرة أصلٌ والدنيا تبعٌ فواجد الأصل يكون واجداً للتَّبع بقدر الحاجة، إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيهاً على أن الدّنيا أحسن من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة. وأيضاً بين أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه وطالب الدنيا يعطى بعض(17/184)
مطلوبه ولا يحصل له في الآخرة من نصيب البتة فبين أن طالب الآخرة يكون حاله أبداً في التزايد، وأن طالب الدنيا يكون حاله في النقصان والبطلان في الآخرة، وذلك يدل على تفضيل طلب الآخرة.
وأيضاً فإنه تعالى بين أن منافع الآخرة ومنافع الدنيا ليست حاضرة ناجزةً، بل لا بدَّ فيهما من الحرث والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق (في البذر ثم التسقية والتنمية ثم الحصد ثم التنقية فلما سمى الله كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل) والمتاعب. ثم بين أنَّ مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وأن مصير الدنيا إلى النُّقصان والعناء، فكأنه قيل: إذا كان لا بد في القسمين من متاعب الحراثة من التبقية والتنمية والحصد والتَّنْقِية فصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد الباقي أولى من صرفها إلى ما يكون في التناقص والانقضاء.
فصل
قال ابن الخطيب: فإن قيل: ظاهر اللفظ يدل على أن من صلَّى لأجل طلب الثواب أو لأجل دفع العقاب فإنه تصح صلاته، وأجمعوا على أنها لا تصح.
فالجواب: أنه تعالى قال: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة} ، والحرث لا يَتَأَتَّى إلا بإلقاء البذر الصَّحيح في الأرض، والبذر الصحيح الجامع للخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله سبحانه وتعالى.
فصل
إذا توضأ بغير نية، لم يصح، لأنه لم يرد حرث الآخرة، وذلك لا يحصل بالوضوء العاري عن النية.
قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين ... } الآية. لما بين القانون الأعظم في أعمال الآخرة والدنيا أردفه بيان ماهو الأصل في باب الضَّلالة والسعادة فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ} ومعنى الهمزة في «أم» التقرير والتقريبع. والضمير في «شَرَعوا» يجوز أن يكون عائداً على «الشركاء» ، والضمير في «لهم» على الكفار، ويجوز العكس؛ لأنهم جعلوا لهم أنصباء، والمعنى شركاؤهم أي شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث، والعمل للدنيا. وقيل: شركاؤهم أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم؛ لأنهم هم الذي اتَّخذوها شركاء لله. ولما كانت سبباً لضلالتهم جعلت شارعة(17/185)
لدين ضلالتهم لهم كما قال إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} [إبراهيم: 36] .
قال المفسريون: يعني كفار مكة أأي لهم آلهة سنوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام.
قوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل} أي لولا القضاء السابق بتأخير الحزاء أو لولا الوعد بأن الفصل يكون بينهم يوم القيامة «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» أي بين الكافرين والمؤمنين، أو بين المشركين وشركائهم.
قوله: «وإنَّ الظَّالِمِينَ» العامة بكسر «إن» على الاستئناف ومسلم بن بجنوب والإعرج بفتحها عطفاً على كلمة الفصل. وفصل بين المتعاطفين بجواب «لولا» ، تقديره: ولولا كلمة واستقرار الظالمين في العذاب لَقَضِي بينهم في الدنيا. وهو نظير قوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} [طه: 129] . ثم إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب. أما الأول فهو قوله: {تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ} أي ترى المشركين يوم القيامة خائفين وجَِلِينَ «مِمَّا كَسَبُوا» من السيئات، {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي جزاء كسبهم واقع سواء أشفقوا أو لم يشفقوا.
وأم الثاني وهو أحوال أهل الثواب فهو قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات} قال أبو حيان: اللغة الكثيرة تسكين واو «رَوْضَات» ، ولغة هذيل فتح الواو إجراء لها مُجْرَى الصحيح نحو: جَفَنَات. ولم يقرأ أحد فيما علمناه بلغتهم. قال شهاب الدين: إن عنى لم يقرأ أحد بلغتهم في هذا الباب من حيث هو فليس كذلك؛ لما تقدم في سورة النور أن الأعمش قرأ: «ثَلاَثُ عَوَرَاتٍ» بفتح الواو وإن عَنَى أنه لم يقرأ في روضات بخصوصها فقريب، لكن ليس هو ظاهر عادته.(17/186)
فصل
اعلم أن روضة الجنة أطيب بقعةٍ فيها، وفيه تنبيه على أن الفسَّاق من أهل الصلاة كلهم من أهل الجنة؛ لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنَّات، وهي البقاع الشَّريفة كالبقاع التي دون تلك الروضات، لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كانوا دونن الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ثم قال: {لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} وهذا يدل على أن تلك الأشياء حاضرة عنده مهيَّأة. والعندية مجاز و «عِنْدَ رَبِّهِمْ» يجوز أن يكون ظرفاً «لِيَشَاءُونَ» . قاله الحوفي، أو للاستقرار العامل في «لهم» قال الزمخشري. ثم قال: {ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} وهذا يدل على أنَّ الجزاء المرتب على العمل إنما حصل بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الوجوب والاستحقاق.
قوله تعالى: {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ} كقوله: «كالَّذِي خَاضُوا» . وقد تقدم تحقيقه. وتقدمت القراءات في يُبَشِّرُ. وقرأ مجاهدٌ وحُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ: يُبْشِرُ بضم الياء وسكون الباء وكسر الشين من أَبْشَرَ منقولاً من بَشِرَ بالكسر لا من بَشَرَ بالفتح؛ لأنه متعدٍّ والتشديد في «بشر» للتكثير لا للتعدية، لأنه متعد بدونها.
ونقل أبو حيان قراءة يَبْشُرُ بفتح الياء وضم الشين عن حمزة والكسائي (أي) من السَّبعة، ولم يذكر غيرهما من السبعة، وقد وافقهما على ذلك ابن كثير وأبو عمرو. و «ذلك» مبتدأ، والموصول بعده خبره، وعائده محذوف على التدريج(17/187)
المذكور كقوله «كالَّذِي خَاضُوا» أي يُبَشِّرُ بِهِ، ثم يُبَشِّرُهُ على الاتساع. وأما على رأي يونُس فلا يحتاج إلى عائد؛ لأنها عنده مصدرية وهو قول الفراء أيضاً، أي ذلك تبشير الله عباده. وذلك إشارة إلى ما أعده الله تعالى لهم من الكرامة. وقال الزمخشري: أو ذلك التبشير الذي يبشِّره الله عباده. قال أبو حيان: وليس بظاهر؛ إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ولا ما يدل عليها من «بَشَّر» أو شبهه.
فصل
هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه:
الأول: أن الملك الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاءً، دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كُنْهَهُ إلاَّ الله تعالى.
الثاني: أن قوله تعالى: {لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ} يدخل في باب غير المتناهي؛ لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منها.
الثالث: أنه تعالى قال: {ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق يكون في غاية الكبر.
واعلم أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الكتاب الشريف، وأودع فيه أقسام الدلائل والتكاليف ورتبه على لطاعة والثواب وأمره بتبليغه إلى الأمة أمره بأن يقول إني لا أطلب منكم بسبب هذا التبليغ نفعاً حاضراً فقال: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} .
في الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه منقطع؛ إذ ليست المودة من جنس الأجر.(17/188)
والثاني: أنه متصل، أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا وهو أن تودُّوا أهل قرابتي ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة؛ لأن قرابتهم وكانت صلتهم لازمةً لهم في المودة. قاله الزمخشري.
وقال أيضاً: فإن قلت: هلا قيل: إلاَّ مودَّة القربى، أو إلا المودة للقربى؟!
قلت: جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها، كقولك: في آل فلان مودة وليست «في» صلة المودة، كاللام إذا قلت: إلا المودة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف فتعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس، وتقديره: إلا المودة ثابتةً في القربى ومتمكنةً فيها.
وقال أبو البقاء: وقيل: متصل، أي لا أسألكم شيئاً إلا المودة.
قال شهاب الدين: وفي تأويله متصلاً بما ذكر نظر؛ لمجيئه بشيء الذي هو عام، وما من استثناء منقطع إلا ويمكن تأويله بما ذكر، ألا ترى إلى قولك: ما جاءني أحدٌ إلا حمار، أنه يصح ما جاءني شيء إلا حماراً.
وقرأ زيد بن عليٍّ: «مودة» بدون ألفٍ ولامٍ.
فصل
في الآية ثلاثة أقوال:
الاول: قال الشَّعبيُّ: أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك، فكتب أبن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كاتن وسط النسب من قريش ليس بطنٌ من بطونهم إلا قد ولده، وكان له فيهم قرابةٌ، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} على ما أدعوكم إليه إلا أن تؤثروني لقرابتي أي تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق(17/189)
القربى وصلوا رحمي، ولا تؤذوني. وإلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وعكرمة ومقاتل والسدي والضَّحَّاك.
الثاني: روى الكلبي عن ابن عباس، قال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قدم المدينة كانت تَنُوبهُ نوائب وحقوق، وليس في يده سعةٌ لقالت (الأنصار) : إن هذا الرجل هداكم هو ابن أخيكم، وأجاركم من بلدكم، فاجمعةوا له طائفة من أموالكم، ففعلوا ثم أتوه بها، فردها عليهم ونزل قوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} أي على الإيمان (إلا) أن لا تؤذوا أقاربي وعشيرتي، وتحفظوني فيهم، قاله سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب.
الثالث: قال الحسن: معناه إلا أن تَوَدُّوا الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح، ورواه ابن أبي نُجَيْحٍ عن مجاهد.
فالقربى على القول الأول بالقرابة التي بمعنى الرَّحِم، وعلى الثاني بمعنى الأقارب، وعلى الثالث فُعْلَى من القُرْبِ والتَّقْرِيب.
فإن قيل: طلب الأجر على تبليغ الوحي لا يجوز لوجوه:
أحدها: أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء التصريح بنفي طلب الأجر، فقال في قصة نوح عليه الصَّلاة والسَّلام
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعرا: 109] . . الآية وكذا في قصة هود وصالح ولوط وشعيب عليه الصَّلاة والسَّلام ورسلونا أفضل الأنبياء فَبِأَنْ لا يطلب الأجر على النبوة والرسالة أولى.
وثانيها: أنه عليه الصَّلاة والسَّلام صرَّح بنفي طلب الأجر فقال: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} [ص: 86] وقال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] . . الآية وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء.
ورابعها: أن النبوة أفضل من الحممة، وقد قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] ووصف الدينا بأنها متاع قليل فقال: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} [النسا: 77] فكيف يحين بالعاقل مقابلة أشرف الأنبيثاء بأخس الأشيءا؟!(17/190)
وخامسها: أن طلب الأجر يوجب التهمة، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة. فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يطلب أجراً ألبتة على التبليغ والرسالة، وهاهنا قد ذكر ما يجري مَجْرَى طلب الأجر وهو المودة في القربى (هذا تقرير السؤال) .
فالجواب: أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ، وأما قوله: إلا المودة في القربى فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أنه هذا من باب قوله:
4380 - وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ
يعني أنا لا أطلب منكم إلا هذا. وهذا في الحقيقة ليس أجراً؛ لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب، قال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] ، وقال، عليه الصَّلاة والسَّلام: «المُؤْمِنُونَ كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً» والآيات الأخبار في هذا كثيرة. وإذا كان حصول المودة بين المسلمين واجب فحصولها في احق أششرف المسلمِين أولى، فقوله: {إلا المودة في القربى} تقديره والمودة ف يالقربى ليست أجراً، فرَجَعَ الحاصل إلى أنه لا أجر ألبتة.
الثاني: إن هذا استثناء منقطع، وتم الكلام عند قوله: {لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} ثم قال: {إِلاَّ المودة فِي القربى} أي أذكركم قرابتي منكم فكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر.
فصل
اختلفوا في قرابته، فقيل: هم فاطمة وعلى وأبناؤهما، وفيهم نزل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] .
وروى زيد بن أرقم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كتابَ اللهِ تَعَالَى وَأَهْلَ بَيْتِي وَأُذَكِّرُكُم الله في أَهْلِ بَيْتِي» قيل لزيد بن أرقم: فمن أهل بيته؟(17/191)
فقال: هم آلُ عليِّ وآل عَقِيل وآل جعفر، وآل عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وروى ابن عمر عن ابن بكر رضي الله تعالى عنه قال: أرقبوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أهل بيته.
وقيل: هم الذي تحرم عليه الصدقة من أقاربه ويقسم فيه الخًمسُ هم بنو هاشم، وبنوا المطلب الذين لم يتفرقوا بجاهلية ولا إسلام. وقيل: هذه الآية منسوخة، وإليه ذهب الضحاك بن مُزاحم والحسين بن الفضل. قال البغوي وهذا قول (غير) مرضٍ؛ لأن مودة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكف الأذى عنه ومودة أقاربه والتقرب إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح من فرائض الدين.
قوله تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} أي من يكتسب طاعة {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} العامة على «نَزد» بالنون، وزيد بن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمرو يَزِدْ بالياء من تحت، أي يزِد الله. والعامة «حُسْناً» بالتنوين مصدراً على «فُعْلٍ» نحو: شُكر وهو مفعول به، وعبد الوارث عن أبي عمرو حُسْنَى بألف التأنيث على وزن بُشْرَى، ورُجْعَى، وهنو مفعول به أيضاً. ويجوز أن يكون صفة كفُضْلَى، فيكون وصفاً لمحذوف أي خصْلَةً
حُسْنَى. قيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه والظاهر العموم في أي حسنة كانت، إلا أنها لما ذكرت عقيب المودة في القُرْبَى دل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودَّةِ.
ثُمَّ قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ} : للقليل (حتى يضاعفها) والشكر في حق الله تعالى مجاز، والمعنى أنه تعالى يُحْسِنُ للمطيعين في إيصال الثواب إليهم، وفي أن يزيدَ عليهم أنواعاً كثيرةً من التفضل.
قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً} اعلم أن الكلام ابتداء من أول هذه السورة في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بِوَحْي الله تعالى، قال تعالى: {كَذَلِكَ يوحي إلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} [الشورى: 3] واتصال الكلام في تقرير هذا المعنى وتعلق بعضه ببعض (حتى وصل) إلى هاهنا، ثم حكى هاهنا، شبهة القوم وهي قولهم: إن هذا ليس وحياً من الله تعالى فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً} . قال الزمخشري: «أم» منقطعة ومعنى الهمزة للتوبيخ والمعنى: أيقع في قلوبهم ويجري على ألسنتهم أن ينسبوا مثله على الافتراء على الله سبحانه وتعالى الذي هو أقبح الأنواع وأفحشها، ثم أجاب عنه بأن قال:(17/192)
{فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} قال مجاهد: يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشقَّ عليك أذاهم وقولهم: إنه مفتر كذابٌ، وقال قتادة: يعني يطبع على قبلك فينسيك القرآن وما آتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله كذباً لفعل به، وما أخبر في هذه الآية فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب إلاّ من كان في هذه الحالة والمقصود من هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد، ومثاله: أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول الأمين: لعل الله أعمى قَلْبي، وهو لا يريد إثبات الخِذلان ولا عَمَى القلب لنفسه وإنما يريد استبعاد صدق الله تعالى الخيانة عنه.
قوله تعالى: {وَيَمْحُ الله الباطل} هذا مستأنف غير داخل في جزاء الشرط؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً، وسقطت الواو منه لفظاً لالتقاء السكانين في الدَّرج، وخطَّا حملاً للخطِّ على اللفظ كما كتبوا: {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] عليه، ولكن ينبغي أن لا يجوز الوقف على هذه الآية لأنه إن وقف عليه بالأصل هو الواو خالفنا خط المصحف وإن وقف عليه بغيرها موافقاً للرسل خالفنا الأصل. وتقدَّم بحث مثل هذا.
وقد منع مكيٌّ الوقف على نحو: {وَمَن تَقِ السيئات} [غافر: 9] . وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير مجازه والله يمح الباطل فهو في محل رفع، ولكن حذفت منه الواو في المصحف حملاً على اللفظ كما حذفت من قوله: {وَيَدْعُ الإنسان} [الإسراء: 11] {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] .
فصل
أخبر تعالى أن ما يقولونه باطل يمحوه الله «ويُحِقُّ الحَقَّ» أي الإسلام بكلماته، أي بما أنزل الله تعالى من كتاب، وقد فعل الله ذلك فمحى باطلهم، وأعلى كلمة الإسلام «إنَّهُ عَلِيم» بما في صدرك وصدورهم، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لما نزلت {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا: يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده، فنزل جبريل فأخبره أنه اتهموه فأنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله: (ف) إنا نشهد أنك صادف فنزل: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} قال ابن عباس: يريد أولياءه وأهل طاعته. قال الزمخشري: يقال: قَبِلْتُ مِنْهُ الشيء وقَبِلْتُهُ عَنْهُ.(17/193)
فصل
قيل: التوبة بترك المعاصي نية وفعلاً، والإقبال على الطاعة نيَّةً وفعلاً. وقال سهل ابن عبد الله: التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال الممدوحة. وقيل: الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وكبَّر، فلما فرغ من صلاته قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه: يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبه الكذابين، فقال ياأمير المؤمنين (وما) التوبة؟ فقال: اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفريضة الإعادى ورد المظالم وإدامة النفس في الطاعهة كما ربتيها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل ضحك ضحكته.
قالت المعتزلة: يجب على الله قبول التوبة، وقال أهل السنة: لا يجب على الله تعالى، وكل ما يقبله فهو كرم وفضل، واحتجوا بهذه الآية فقالوا: إنه تعالى تمدح بقبول التوبة، ولو كان ذلك القبول واجباً لما حصل المدح العظيم، ألا ترى أنه من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلماً كان ذلك مدحاً.
قوله: {وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد التوبة، مأو المراد أن يعفو عن الصغائر أو المراد: إن يعفو عن الكبائر قبل التوبة.
والأول باطل وإلا صار قوله: {وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} عين قوله: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} والتكرار خلاف الأصل) .
والثاني أيضاً باطل؛ لأن ذلك واجبٌ، وأداء الواجب لا يمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة، وتارة يعفو ابتداء من غير توبة.
فصل
روى أنس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «للهُ أشَدُّ فَرَحاً(17/194)
بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بأرْضٍ فَلاَةٍ فانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهضا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرةً فاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنضا هُوَ كَذَلِكَ إذْ هُوَ بِهَا قَائِمةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخُطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ» أخطأ من شدَّة الفَرَحِ.
قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قرأ الأخوان وحَفْصٌ يَفْعَلُونَ بالياء من تحت؛ نظراً إلى قوله: «مِنْ عِبَادِهِ» وقال بعده: {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} والباقون بالخطاب إقبالاً على اناس عامةً، وهو خطاب للمشركين.
قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ} يجوز أن يكون الموصول فاعلاً أي يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله تعالى: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] واستجاب كأجاب، ومنه قوله الشاعر:
4381 - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُجِيبُ
ويجوز أن تكون السين للطلب على بابها بمعنى ويستدعي المؤمنون الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة. ويجوز أن يكون الموصول مفعولاً به والفاعل مضمر يعود على الله بمعنى: ويُجيبُ الذينَ آمنوا اي دُعَاءَهُمْ. وقيل: ثَمَّ لام مقدرة أي ويستجيبُ الله لِلذِينَ آمنوا، (فحذفها، للعلم بها، كقوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطففين: 3] قال عطاء عن ابن عباس معناه: ويُثِيبُ الذين آمنوا) وعلموا الصالحات {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} سِوَى ثواب أعمالهم تفضلاً منه، وروى أبو صالح عه: يشفعهم ويزيدهم من فضله. (ثُمَّ) قال في أخونان إخوانهم: {والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .
قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض} ، قال خَبَّاب بن الأرتِّ: فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قُرَيْظَة والنَّضير وبني قَينقاعَ وتمنيناها فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ} ، لطغوا في الأرض، قال ابن عباس ((17/195)
رضي الله عهنما) : بغيهم طَلَب (هم) منزلةً بعد منزلة، ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس، ولكن ينزل أرزاقهم قدر ما شاء نظراً منه لعباده.
(قرأ ابن كثير وأبو عمر يُنَّزِّلُ مشددة، والباقون مخففة) إنَّه بعباده خبيرٌ بصيرٌ. روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله علهي وسلم عن جبريل عن الله عَزَّ وَجَلَّ في حديث طويل وفيه يقول الله عزَّ وجلَّ: «ما تَرَدَّدْتُ في شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي في قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي المُؤْمِن يَكْرَهُ المَوْتَ وأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وإنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ يَسْأَلُنِي البَابَ عَنِ العِبَادَةِ فأَكُفُّهُ عَنْهُ (أّنْ) لاَ يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فيُفْسِدَهُ ذَلِكَ وَإنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ لاَ يُصْلِحُ إيمَانَهُ إلاَّ الغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي (المُؤمِنِينَ) لمَنْ لاَ يًصْلِحُ إيمَانهُ إلاَّ الفَقْرُ ولو أَعْنَيْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي (المُؤْمِنِينَ) لمَنْ لاَ يًصْلِحُ إيمانَهُ إلاَّ الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي (المُؤْمِنِينَ) لمَنء لاَ يُصْلِحُ إيمَانَهُ إلاَّ السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ وذّلِكَ أَنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ ِإنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .
فصل
وجه التعلق أنه تعالى لما قال في الآية الأولى إنه يجيب دعاء المؤمنين وَرَدَ عليه سؤالٌ وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبليَّةٍ وفَقْر ثم يدعو فلا يظهر أثر الإجابة فكيف الجمع بينه وبين قوله: ويستجيب الذين آمنوا؟ {فأجاب تعالى عنه بقوله: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض} ، ولأقدموا على المعاصي، فلذلك وجب أن لا يعطيهم ما طلبوه، ويؤيده الحديث المتقدم.
فصل
قال الجبائِيُّ: هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة من وجهين:(17/196)
الأول: أنه تعالى لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض غير مراد، فعلمنا أنه تعالى لا يريد البَغْيَ في الأرض، وذلك يوجب فساد قول المجبرة.
الثاني: أنه تعالى إنما لم يرد بسط الرزق؛ لأنه يفضي إلى المفسدة، فلما بين تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريداً للمفسدة كان أولى.
وأجيب: بأن الميل إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن، فلا بد لها من فاعل وفاعل هذه الأحوال إما البعد أو الله، والأول باطل؛ لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليه وعاد السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني؟ ويلزم التسلسل، وأيضاً فالميل الشديد إلى الظلم والقسوة عيوبٌ ونقصاناتٌ، والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه، ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى.
ثم أوده الجبائي على نفسه سؤالاً:
فإن قيل: أليس قد يبسط الرزق لبعض عباده مع أنه يبغي؟} .
فأجاب عنه: بأن الذي يبسط الرزق إذا بغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أُعْطِيَ ذلك الرزق أو لم يُعْطَ. قال ابن الخطيب: هذا الجواب فاسد، ويدل عليه القرآن والعقل أما القرآن فقوله تعالى:
{كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 67] حكم مطابق لكن حصول الغنى سبب لحصول الطغيان وأم العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلةً إلى الشر فمعحصول الغنى تميل إلى الشر أكثر، فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان.
فصل
في كون بسط الرزق موجباً للطغيان وجوه:
الأول: أن الله تعالى لو سوَّى في الرزق بين الكل لا متنع كون البعض محتاجاً إلى البعض، وذلك يوجب خراب العالم وتعطيل المصالح.
الثاني: أن هذه الأية مختصة بالعرب. فإنه كلما اتسع رزقهم، ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم، أقدموا على النهب والغارة.
الثالث: أن الإنسان متكبر بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبليَّة ومكروه انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة.(17/197)
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث} أي املطر {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} من بعد ما يئس الناسُ منه. وإنزال الغيب بعد القنوط أدعى إلى الشكر؛ لأن الفرح بحصول النعمة بعد البلية أتمُّ.
قال الزمخشري: قرىء قنطوا، بفتح النون وكسرها. (فأما فتح النون فهي قراءة العامة، وأما كسرها فهي قراءة يحيى بن وثَّاب، والأعمش وهي لغة وعليها قراءة: {يَقْنَطُ} [الحجر: 56] {لاَ تَقْنَطُواْ} [الزمر: 53] بفتح النون في المتواتر. ولم يقرأ في الكسر في الماضي إلا شاذاً و «ما» مصدرية أي من بعد قُنُوطِهِمْ) . قال مقاتل: حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حين قنطوا، ثم أنزل الله المطر فذكرهم الله نعمه.
قوله: {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} يبسط مطره، كما قال: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] وهو الولي الحميد. «الوَلِيُّ» : الذي يتولى عباده بإحاسنه «الحَميد» المحمود على ما يوصل إلى الخلق من الرحمة وقيل: «الولي» لأهل طاعته، «الحميد» عند خلقه.(17/198)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض ... } الآية قد تقدم الكلام على دلالة خلق السموات والأرض والحيوانات على وجود الإله الحيكم.
فإن قيل: كيف يجوز إطلاق لفظ الدابَّة على الملائكة؟! .
فالجواب: فيه وجوه:
الأول: أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة، وإن كان فاعله واحداً منهم كما يقال: «بَنُو فُلاَنٍ فَعَلُوا كََذَا» ، وإنما فعله واحدٌ م نهم ومنه قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] .
الثاني: أن الدابة عبارة عما فيه الروح والحركة، والملائكة لهم الروح والحركة.
الثالث: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون(17/198)
مشي الأناس على الأرض. وروى العبَّاس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «فوق السماء السابعة بحر (بين) أسفله وأعله كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعاٍ بين رُكَبِهِنَّّ وأَضلاَفِهِنَّ كما بين السَّمَاءِ والأرْضِ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِك العَرْش ... » الحديث.
قوله: «وَمَا بَثَّ» يجوز أن تكون مجرورة المحل عطفاً على «السموات» أو مرفوعته عطفاً على «خلق» ، على حذف مضاف أي وخلق ما بثَّ. قاله أبو حيان. وفيه نظر؛ لأنه يئول إلى جره بالإضافة «لِخَلق» المقدر فلا يعدل عنه.
قوله: «إذَا يَشَاءَ» «إذَا» منصوبة «بجَمْعِهِمْ» لا «بِقَدِيرٍ» ، قال أبو البقاء: لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير المعنى: وهو على جمعهم قدير إذا يشاء، فتتعلق القدرة بالمشيئة وهو محال. قال شهاب الدين: وَلاَ أدري ما وجه كونه محالاً على مذهب أهل السنة، فإن كان يقول المعتزلة، وهو القدرة تتعلق بما لم يشأ الله مشى كلامه، ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده. ونقول: يجوز تعلق الظرف به أيضاً. قال الزمخشري: «إذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ» ، والمقصود أنه تعالى خلقها لا لعجز ولا لمصلحة ولهذا قال: {والليل إِذَا يغشى} [الليل: 1] ٍ، يعنى الجمع والحشر والمحاسبة.
فصل
احتج الجبَّائيُّ بقوله: إذا يشاء قدير على أن مشيئة الله تعالى محدثةٌ، قال: لأن كلمة «إذا» ظرف لما (لم) يستقبل من الزمان ولكمة «يَشَاءُ» صيغة المستقبل فلو كانت مشيئته تعالى قديمة لم يكن لتخصيصها بذلك الوقت المستقبل فائدة، ولما دل قوله: «إذَا يَشَاءُ» على التخصيص علمنا أن مشيئته تعالى محدثة.
وأجيب: بأن هاتين الكلمتين كما دخلتا على المشيئة فقد دخلتا أيضاً على لفظ «القَدِير» فلزم على هذا أن تكون قدرته صفة محدثة، ولما كان هذا باطلاً فكذا القول في المشيئة.(17/199)
قوله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} قرأ نافع وابن عامر بما كسبت بغير فاء، الباقون بالفاء «فما» في القراءة الأولى الظاهر أنها موصولة بمعنى الذي، والخبر الجار من قوله «بما كسبت» .
وقال قوم منهم أبو البقاء: إنها شرطية حذفت منها الفاء، قال أبو البقاء: كقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]
وقول الآخر:
4382 - مَنْ يَفْعَل الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وهذا ليس مذهب الجمهور، إنما قال به الأخفش وبعض البغداديِّين، وأما قوله: «إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» فلي جواباً للشرط، إنما هو جواب لقسم مقدر حذفت لامه الموطِّئة قبل أداة الشرط.
وأما القراءة الثانية، فالظاهر أنها فيها شرطية. وقال أبو البقاء: إنَّه ضَعيفٌ ولا يلتفت إلى ذلك. ويجوز تكون موصولة، والفاء داخلة في الخير تشبيهاً للموصول بالشرط بشروط مذكورة في هذا الكتاب. وقد وافق نافع وابن عامر مصاحفهما، فإن الفاء ساطقة من مصاحف المدينة والشام، وكذلك الباقون، فإنها ثابتة في مصاحف مكَّة والعراق.
فصل
اختلفوا فيما يحصل في الدنيا من الآلام والأسقام، والقَحط، والغَرَق، والمصائب هي هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا؟ فمنهم من أنكر ذلك لوجوه:
الأول: قوله تعالى: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] بيّن تعالى أن ذلك إنما يحصل يوم القيامة وقال تعالى: {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] أي يوم الجزاء، وأجمعوا على أن المراد منه يوم القيامة.
الثاني: مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق، والصِّدِّيق، فيمتنع أن يكون عقوبة على(17/200)
الذنوب، بل حصول المصائب (للصالحين) والمتقين أكثر منه للمذنبين، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الأَمْثَل فالأَمْثَلِ» .
الثالث: أن الدنيا دار تكليف، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معاً وهو محالٌ. وقال آخرون: هذه المصائب قد تكون أَجزيةً على ذنوب متقدمة لهذه الآية، ولما روى الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ ولا عَثْرةِ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ» .
قال علي بن أبي طالب: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَفْضَلِ آيَةَ في كِتَابِ اللهِ حَدَّثَنا بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوعَنْ كَثِيرٍ « (قال) : وَسَأفسِّرُها لَكَ يَا عَلِيُّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ واللهُ عَزَّ وجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْكُمْ العُقُوبَةَ في الآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا، فَالله أَحْلَمُ مِنْ أنْ يَعُودَ بعد عَفْوِهِ. وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} » وذلك تصريح بأن ذلك الاهلاك بسبب كسبهم. وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الأمتحان في التكليف، لا من باب العقوبات، كما في حق الإنبياء والأولياء.
ويحمل قوله: {بما كسبت أيديكم} على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم.
فصل
هذه الآية تقتضي إضافة الكسب إلى اليد، والكسب لا يكون بل بالقدرة القائمة باليد فوجب أن يكون المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة، وإذا كان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن الأعضاء.
قوله: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي قد يترك الكثير بفضله ورحمته قال الواحدي بعد أن روى حديث عليٍّ المتنقدم: وهذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأن الله تعالى جعل ذنوب(17/201)
المؤمنين صنفين، صنف كفَّر عنهم بالمصائب، وصنفٌ عَفَا عنه في الدنيا، وهو كَرَمٌ لا يرجع في عفوه فهذه سنة الله مع المؤمنين. وأما الكافر، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي (رَبَّهُ) يوم القيامة.
ثم قال: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين «في الأرض» هرباً، أي لا تُعْجِزونَنِي حيث ما كنتم ولات َسْبِقُونِي {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} والمراد به من يعبد الأصنام، بين أنه لا فائدة فيها ألبتة بل النّصير هو الله تعالى، فلا جرم هو الذي يحْسُنُ عِبَادَتُهُ.(17/202)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام} قرا نافعٌ وأبو عمرو «الجواري» بيا في الوصل. وأما الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف، وهي السفن، وأحدثها جاريةٌ، وهي السائرة في البحر.
فإن قيل: الصفة متى لم تكن خاصةً بموصوفها امتنع حذف الموصوف، لا تقول: مررت بماشٍ؛ لأن المَشْيَ عامٌّ، وتقول: مررت بمهندس وكاتبٍ، والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك؟
فالجواب: أن قوله: «في البحر» قرينة دالة على الموصوف، ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح والأبرق، فوليت العوامل دون موصوفها. و «في البَحْرِ» متعلق «بالجواري» ، إذا لم يجر مجرى الجوامد، فإن جرى مجراه كان حالاً منه، وكذا قوله: «كالأَعْلاَمِ» وهي الجبال قالت الخَنْسَاءُ:
4383 - وَإِنَّ صَخْراً لتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نَارُ(17/202)
روي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استنشد (ب) قصيدتها هذه، فلما وصل (الراوي) (إلى) هذا البيت قال: قَاتَلَهَا اللهُ مَا رَضِيَتْ تَشْبِيهَهُ بالجَبَلِ حَتَّى جَعَلتْ في رَأْسِهِ نَاراً.
وقال مجاهد: الأعلام القصور، واحدها علم. وقال الخليل بن أحمد: كل شيءٍ مرتفع عند العرب فهو علم وسمع: هذه الجوار، وركبت الجوار، وفي الجوار، بالإعراب على الراء تناسياً للمحذوف، وتقدم هذا في قوله تعالى: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] .
فصل
اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أمران:
أحدهما: أن يستدل به على وجود الإله القادر الحكيم.
الثاني: أن يعرف ما فيه من النِّعم العظيمة لله تعالى على العباد، وأما وجه الأول فإن هذه السفن العظيمة التي كالجبال تجري على وجه البحر عد هبوب الريح على أسرع الوجوه وعنند سكون الرياح (تقف) وقد تقدم في سورة النحل أن مُحَرِّك الرياح ومُسَكِّنَها هو الله (سبحانه و) تعالى؛ إذْ لا يقدر أحد من البشر على تحريكها ولا على تسكينها، وذلك يدل وجود الإله القادر مع أن تلك السفينة في غاية الثقل ومع ثقلها بقيت على وجه الماء أيضاً. وأما دلالتها على النعم العظيمة، وهو مافيها من المنافع فإنه تعالى خص كل جانب من الأرض بنوع من الأمتعة، فإذا نقل متاع هذا الجانب إلى الجانب الآخر في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة بالتجارة، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفن.
قوله: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح} التي تجري بها {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} قرأ أبو عمرو والجمهور بهمزة: «إنْ يَشَأْ» لأن السكون علامة الجزم، وورشٌ عن نافع بلا همز وقرأ ناقع «يُسْكِنِ الرِّيَاحَ» على الجمع والباقون «الريحَ» على التوحيد.
وقوله: «فَيَظْللْنَ» العامة على فتح اللام التي هي عين الكملة وهو القياس؛ لأن(17/203)
الماضي بكسرها، تقول ظَلِلْتُ قائماً.
وقرأ قتادة بكسرها وهو شاذ، نحو: حسب يحسب وأخواته وقد تقدمت آخر البقرة.
وقال الزمخشري: قرىء بفتح اللام وكسرها من ظَلَّ يظل ويظل، نحو: ظَلّْ يَضَلَ ويَضِلُّ. قال أبو حيان: وليس كما ذكر؛ لأن يضَلُّ بفتح العين من ظَلِلْت بكسرها في الماضي ويَضِلّ بالكسر من ضَلَلْتُ بالفتح وكلاهما مقيس يعني أن كلاً منهما له أصلٌ يرجع إليه بخلاف «ظَلَّ» فإن ماضيه مكسور العين فقط.
والنون أسمها، و «رَوَالكِدَ» خبرها ويجوز: أن يكون «ظل» هنا بمعنى صار؛ لأن المعنى ليس على وقت الظلول، وهو النهار فقط وهو نظير: أين باتت يده، من هذه الحيثية. والرُّكود والثُّبُوتُ الاستقرارُ قال:
4384 - وَقَدْ رَكَدَتْ وَسْطَ السَّمَاءِ نُجُومُهَا ... رُكُوداً بِوَادِي الرَّبْرَب المُتَفَرِّقِ
والمعنى فيظللن رواكد أي ثوابت على ظهر البحر، لا تجري {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ} على بلا الله «شَكُورٍ» على نعمائه.
قوله: أوْ يُوبِقْهُنَّ «عطف على» يُسْكِنْ «قال الزمخشري: لأن المعنى: إن يَشَأْ يُسْكِنْ فَيَرْكُدْنَ، أو يَعْصِفْهَا فَيَغْرقْنَ بِعَصْفِهَا، قال أبو حيان: ولا يتعين أن يكون التقدير: أو يعصفها فيغرقن لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح، بل قد يهلكها بقلع لوح أو خسفٍ.
قال شهاب الدين: والزَّمخشريُّ لم يذكر أن ذلك متعين، وإنما ذكر شيئاً مناسباً؛ لأن قوله: يسكن الرياح يقابله» يعصفها «فهو في غاية الحسن والطِّباق.(17/204)
فصل
معنى» يُبِقْهُنَّ «يُهْلِكْهُنَّ ويغرقهن» بِمَا كَسَبُوا «أي بما كسبت ركابها من الذنوب {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} من ذنوبهم فلا يعاقب عليها. يقال: أوْبَقَهُ أي أهلكه، كما يقال للمجرم: أوْبَقَتْهُ ذنوبه أي أهلكته.
فإن قيل: ما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوماً مثله؟
فالجواب: معناه إن يشأ يهلك ناساً ينج ناساً على طريق العفو عنهم، وأما من قرأ» ويعفو «فقد استأنف الكلام؟ والعامة على الجزم عطفاً على جواب الشرط. واستشكله القشيريُّ، وقال: لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكداً ويهلكها بذنوب أهلها، فلا يحسن عطف:» وَيَعْفُ «على هذا لأن المعنى يصير: إن يشأ يعف، وليس المعنى على ذلك، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى. قال أبو حيان: وما قاله ليس يجيّد، إذ لم يفهم مدلول التركيب والمعنى إلا أنه تعالى إن يشأ أهلك ناساً وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم. وقرأ الأعمش: ويعفو بالواو. وهي تحتمل أن تكومن كالمجزوم، وثبتت الواو في الجزم كثبوت الياء في» مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ «.
ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً، أخبر الله تعالى أنه يعفو عن كثير من السَّيِّئات.
وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار «أنْ» بعد الواو كنصبه في قول النابعة: شعراً:
4385 - فَإنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ والبَلَدُ الحَرَامُ
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بذنابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ(17/205)
بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه، وهذا كما ترى بالأوجه الثلاثة بعد الفاء في قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 284] كما تقدم آخر البقرة ويكون قد عطف هذا المصدر المؤول من «أَنْ» المضمرة والفعل على مصدر متوهَّم من الفعل قبله تقديره: أو يقع إيباقٌ، وعفوٌ عن كثيرٍ. فقراءة النصب كقراءة الجزم في المعنى إلا أن في هذه عطف مصدر مؤول على مصدر متوهم وفي تيك عطفُ فعل على مثله.
قوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} قرأ نافع وابن عامر برفعه والباقون بنصبه. وقرىء: بجزمه أيضاً. فأما الرفع فواضح جداً، وهو يحتمل وجهين: الاستنئاف بجملة اسمية، فتقدر الفعل مبتدأ أي وهو يعلم الذين و «الذين» على الأول فاعل، وعلى الثاني مفعول. وأما قراءة النصب ففيها أوجه: «
أحدها: قال الزجاج: على الصرف قال: ومعنى الصرف صرف العطف عن اللفظ إلى العطف على المعنى قال: وذلك أنه لم يحسن عطف» ويعلم «مجزوماً على ما قبله؛ إذ يكون المعنى إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله، ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار» أن «ليكون من الفعل في تأويل اسم. وقال البغوي: قرىء بالنصب على الصَّرف والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب كقوله: {وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142] نقل من حال الجزم إلى النصب استخفافاً وكراهية توالي الجزم.
الثاني: قول الكوفيون: إنه منصوب بواو الصرف يعنون أن الواو نفسها هي الناصبة، لا بإضمار» أنْ «وتقدم معنى الصَّرف.(17/206)
الثالث: قال الفارسي ونقله الزمخشري عن الزجاج إن النصب على إضمار» إنْ «؛ لأن قبلها جزاءً تقول: ما تصنع أصنع، وأكرمك وإن شئت: وأكرمك على: وأنا أكرمك، وإن شئت: وأكرمك جزماً.
قال الزمخشري: وفيه نظر؛ لما أورده سيبويه في كتابه قال: واعلم أنَّ النَّصب بالواو والفاء في قوله: إن تَأْتِنِي آتِكَ، وأُعطِيكَ ضعيفٌ، وهو نحو من قوله:
4386 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَأَلْحَقَ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
فهذا (لا) يجوز، لأنه ليس بحَدِّ الكلام ولا وجه، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالا ستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه. قال الزمخشري: ولا يجوز أن تحصل القراءة المستفيضة على وجةٍ ليس بحدِّ الكلام ولا وجهه، ولو ك انت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه.
وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة.
الرابع: أن ينتصب عطفاً على تعليل محذوف تقديره: لينتقم منهم ويعلم الذين ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} [مريم: 21] {وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى} [الجاثية: 22] قاله الزمخشري. قال أبو حيان: ويبعد تقديره: لينتقم منهم لأنه مرتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن «لينتقم منهم» وأما الآتيان فيمكن أن تكونت اللام متعلقةً بفعل محذوف تقديره «وَلِنجْعَلَهُ آيَةً فَعَلنَ ذلك، ولتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ فَعَلْنَا ذَلِكَ» وهو كثيراً (ما) يقدر هذا الفعل مع هذه اللام إذا لم يكن فعل يتعلق به. وقال شهاب الدين: بل يحسن تقدير: لينتقم؛ لأنه يعود في المعنى على إهلاك قوم المترتب على الشرط.
وأما الجزم فقال الزمخشري:(17/207)
فإن قلت كيف يصح المعنى على جزم «وَيَعْلَمْ» ؟!
قلت: كأنه قيل: أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين. وإذا قرىء بالجزم فيكسر الميم لالتقاء الساكنين.
وقوله: {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} في محل نصب، بسدها مسدَّ مفعولي العلم.
فصل
المعنى وليعلم الذين يجادلون أي يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله عزّ وجلّ بعد البعث لا مهرب لهم من عذاب الله، كما أنه لا مخلص لهم إذا وُقصت السفن وإذا عصفت الرياح، ويكون ذلك سبباً لا عترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله.(17/208)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
قوله تعالى: {فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] الآية لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتنفير عن الدنيا وتحقير شأنها؛ لأن المانع من قبول الدليل هو الرغبة في الدنيا، فقال: «وَمَا أوتِيتُمْ» «ما» شرطية، وهي في محل نصب مفعولاً ثانياً «لأوتِيتُمْ» والأول هو ضمير المخاطبين قام مقام الفاعل، وإنما قدم الثاني؛ لأن له صدر الكلام، وقوله: «مِنْ شَيْءٍ» بيان لما الشرطية لما فيها من الإيهام. وقوله «فَمَتَاعُ» الفاء جواب الشرط و «متاع» خبر مبتدأ مضمر أي فهو متاع، وقوله «فَمَتَاعُ» الفاء جواب الشرط و «متاع» خبر خبرها، و «لِلَّذِينَ» يتعلق «بَأبْقَى» .(17/208)
فصل
المعنى: وما أوتيتم من شيء من رياش الدنيا فمتاع الحياة الدنيا ليس من زاد المعاد، وسماه متاعاً تنبيهاً على قلته وحقارته وجعله من متاع الدنيا تنبيهاً على انقراضه، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى والباقي خير من الخَسِيس الفاني.
ثم بين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات منها أن يكون من المؤمنين فقال {لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . وهذا يدل على من زعم أن الطاعةت توجب اثواب؛ لأنه متكل على عمل نفسه لا على الله فلا يدخل تحت الآية.
الصفة الثانية: قوله: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ» نسقٌ الى «الذين» الأولى. وقال أبو البقاء: «الذين يجتنبون» في موضع جر بدلاً من «الَّذِينَ آمَنُوا» ويجوز أن يكون في محل نصب بإضمار «أعْنِي» أو في موضع رفع على تقدير «هُمْ» وهذا وَهَمٌ منه في التلاوة كأنه اعتقد أن القرآن: وعلى ربهم يتوكلون الذين يجتنبون فبنى عليه الثَّلاثة الأوجه وهو بناء فاسد.
قوله: «كَبَائِرَ الإِثْمِ» قرأ الأخوان هنا وفي النجم: «كَبِيرَ الإِثْمِ: بالإفراد، والباقون كَبَائِرَ بالجمع في السورتين، والمفرد هنا في معنى الجمع والرسم الكريم يحتمل القراءتين.
فصل
تقدم معنى كبائر الإثم في سورة النساء. قال ابن الخطيب: نقل الزمخشري عن ابن عباس: أن كبير الإثم هو الشرك، وهو عندي ضعيف لأن شرط الإيمان مذكور وهو يغني عن عدم الشرك، وقيل: كبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات. وأما(17/209)
الفواحش فقال السدي: يعني الزنا. وقال مقاتل: ما يوجب الوحدَّ.
قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ} : إذا» منصوبة بيغفرون، و «يَغْفِرُونَ» خير لهم والجملة بأسرها عطف على الصلة وهي «يجتنبون» ، والتقدير: والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية.
ويجوز أن يكون «هم» توكيد للفاعل في قوله: «غضبوا» ، وعلى هذا فيغفرون جواب الشرط. وقال أبو البقاء: هم مبتدأ، ويغفرون الخبر، والجملة جواب إذا.
قال شهاب الدين: وهذا غير صحيح، لأنه لو كان جواباً لإذا لاقترن بالفاء، تقول: إذا جاء زيدٌ فعمرو منطلق، ولا يجوز: عمرو ينطلق. وقيل: (هم) مرفوع بفعل مقدر يفسره «يغفرون» بعده ولما حذف الفعل انفصل الضمير. ولم يستبعده أبو حيان، وقال: ينبغي أن يجوز ذلك في مذهب سيبويه، لأنه أجازه في الأداة الجازمة تقول: إنْ يَنْطَلِقْ زَيْدٌ ينطلق تقديره: ينطلق زيد ينطلق فينطلق واقع جواباً ومع ذلك فسَّر الفعل فكذلك هذا. وأيضاً فذلك جائز في فعل الشرط بعدها نحو: إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فليجز في جوابها أيضاً.
فصل
وإذا ما غضبوا هم يغفرون يَحْلِمُونَ ويَكْظِمُونَ الغيظ، وخص الغضب بلفظ الغفران؛ لأن الغضب على طبع النار واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة، فلهذا خصه الله تعالى بهذا اللفظ.
قوله (تعالى) : {والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ} أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته. وقال ابن الخطيب: المراد منه تمام الانقياد.
فإن قيل: أليس أنه لما حصل الإيمان فيه شرطاً فقد دخل في الإيمان إجابة الله؟ {
والجواب: أن يحصل هذا على الرضا بضاء الله من صميم القلب وأن لا يكون في(17/210)
قلبه منازعة. ثم قال: «وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ» أي الواجبة لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب.
قوله: {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} أي يتشاورون فيما يبدوا لهم ولا يجعلون. والشُّورَى مصدر كالفتيا بمعنى التَّشاور. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} .
قوله: {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي} أي الظلم والعدوان «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» أي ينتقمون من ظالمهم من غير أن يعتدوا. قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} وصنف ينتصرون نم ظالهم وهم المذكورون في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا. وقال عطاء: هم المؤمنون الذي أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم. وعن النَّخعيِّ أنه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء.
فإن قيل: هذه الآية مشكلة لوجهين:
الأول: أنه لما ذكر قبله: وإذا ما غضبوا هم يغفرون كيف يليق أن يذكر معه ما يَجْرِي مَجْرَى الضد له وهم الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون؟}
الثاني: أن جميع الآيات دالة على أن العفوا أحسن. قال تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] وقال: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] وقال {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}
[النحل: 126] ؟
فالجواب: أن العفو على قسمين:
أحدهما: أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عنه جنايته.
والثاني: أن يصير العفو سبباً لمزيد جرأة الجاني وقوة غيظه، فآيات العفو محمولة على القسم الأول، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني وحينئذ يزول التناقض.
«روي: أن زَيْنَبَ أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها فلم تنته فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» دونَكِ فَانْتَصِرِي «وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب في الانتصار، بل بين أنه مشروع فقط، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة فقال: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ(17/211)
مِّثْلُهَا} ثم بين أن العفو أولى بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} فزال السؤال.
قوله:» هُمْ يَنْتَصِرُونَ «إعرابه كإعراب: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} ففيه ما تقدم، إلا أنه يزيد هنا أنه يجوز أن يكون» هُمْ «توكيداً للضمير المنصوب في» أصَابَهُمْ «أكد بالضمير المرفوع وليس فيه إلا الفصل بين المؤكد والمؤكد، والظاهر أنه غير ممنوعٍ.
قوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ... } الآية لما قال: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} بين بعده أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل، فإن العدل هو المساواة، وسمي الجزاء سيئة وإن كان مشروط مأذوناً فيه قال الزمخشري: كلتا الفعلتين: الأولى: وجزاؤها سيئة؛ لأنها تسوء من تنزل به، قال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78] يريد: ما يسوءهم من المصائب والبلاء. وأجاب غيره بأ، هـ لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر أطلق اسم أحدهما على الآخر مجازاً والأول أظهر.
وقال آخرون: إنما سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئةً لتشابههما في الصُّورة.
فصل
قال مقاتل: يعني القصاص في الجراحاتن والدماء. وقال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله تقول: أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي. قال سفيان بين عيينة: قلت لسفيان الثوريِّ: ما قوله عَزَّ وَجَلَّ: وجزاء سيئة سيئة مثلها؟ قال: أن يشتمك رجلٌ فتشتمه أو يفعل بك فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً، فسألت هشام بن حجيرٍ عن هذه الآية فقال: الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك فتشتمه.
فصل
دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمِّيِّ وأن الحرَّ لا يقتل بالعبد؛ لأن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في المسألتين، وأيضاً فإن الحر إذا قتل العبد(17/212)
يكون قد أتلف على مالك البعد شيئاً (ف) يساوي عشرة دنانير مثلاً فوجب أن يلزمه أداء عشرة دنانير لهذه الآية وإذا وجب الضَّمان وجب أن لا يجب القصاص، لأنه لا قائل بالفرق، فوجب أن يجري القصاص بينهما. والدليل على أن المماثلة شرط لوجوب القصاص هذه الآية، وقوله:
{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} [غافر: 40] وقوله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وقوله تعالى: {والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] . والقصاص عبار عن المساواة والمماثلة فهذه النصوص تقتضي مقابلة الشيء بمثله. ودلت الآية أيضاً على أن الأيدي تقطع باليد الواحدة؛ لأن كل القطع أو بعضه صدر عن (كل) أولئك القاطعين أو عن بعضهم. فوجب أن يشوع في حق أولئك القاطعين مثله بهذه النصوص.
فإن قيل: فيلزم استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع! .
فالجواب: أنه لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجنيِّ عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى. ودلت الآية أيضاً على مشروعية القصاص في حق شريك الأب لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله. ودلت الآية أيضاَ على أن من حرق حرقناه، ومن غرَّق غرقناه، وعلى أن شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا: تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص؛ لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه فوجب أن يهدر دمهم. ودلت أيضاً على أن المكره يجب عليه القود، لأنه صدر منه القتل ظلماً فوجب مثله أما صدور القتل فالحسّ يدل عليه، وأما أنه قتل ظلماً فلإجماع المسلمين على أنه مكلف بأن لا يقتل فوجب أن يقابل بمثله ودلت أيضاً على أن منافع الغصب مضمونة، لأن الغاصب فوَّت على المالك منافع تقابل في العرف بدينار مثلاً فوجب أن يفوّت على الغاصب مثله من المال.
قوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} بالعفو بينه وبنين ظالمه «فأمره على الله» . قال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إذا كان يوم القيامة نادة منادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الله أجْرٌ فَلْيَقُمْ، فَلاَ يَقُومُ إلاَّ مَنْ عَفَا. ثم مقرأ هذه الآية {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} . قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : الذين يبدأون بالظلم، وفيه تنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له الزيادة والتعدي في الاستيفاء خصوصاً في حال الحرب والتهاب الحمية فربما صار المظلوم عند الاستيفاء ظالماً.(17/213)
وفيه دقيقة وهو أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم وأخبر أنه لا يحب الظالم وإذا كان لا يحبه وندب غيره إلى العفو عنه فالمؤمن الذي يحبه الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو الله عنه.
قوله: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ» هذه لام الابتداء، وجعلها الحوفي وابن عطية للقسم، وليس يجيد إذا جعلنا «مَنْ» شرطية كما سيأتي؛ لأنه كان ينبغي أن يُجاب السابق، وهنا لم يجب إلا الشرط. و «من» يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر، والفاء في «فَأُؤْلَئِكَ» جواب الشرط، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط. و «ظُلْمِهِ» مصدر مضاف للمفعول وأيدها الزمخشري بقراءة من قرأ: «بعدما ظُلِمَ» مبنياً للمفعول.
فصل
معنى الآية: ولمن انتصر بعد ظلم الظالم إياه فأولئك المنتصرين ما عليهم من سبيل لعقوبة ومؤاخذة، لأنهم ما فعلوا إلا ما أبيح لهم من الانتصار. واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مُهْدَرَةٌ لأنه فعل مأذون فيه مطلقاً فيدخل تحت هذه الآية.
قوله تعالى: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} أي يبدأون بالظلم {وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} يعملون فيها بالمعاصي {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .(17/214)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
قوله: {وَلَمَن صَبَرَ} الكلام في اللام كما تقدم: فإن جعلناها شريطة فإن جواب(17/214)
القسم المقدر، وحذف الشرط للدلالة عليه، وإن كانت موصولة، كان قوله: «إنَّ ذَلِكَ» هو الخبر. وجوز الحوفي وغيره أن تكون «مَنْ» شرطية و «إنَّ ذَلِكَ» جوابها على حذف الفاء على حدِّ حذفا في قوله:
4378 - مَنْ يَفْعَل الحَسَنَات ... ..... ... ... ... ... ... ... . .
وفي الرابط قولان:
أحدهما: هو اسم الإشارة، إذا أريد به المبتدأ، ويكون حينئذ على حذف مضاف تقديره: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} .
والثاني: أنه ضمير محذوف تقديره لمن عزم الأمور «منه أو له» . وقوله: {وَلَمَن صَبَرَ} عطف على قوله: «ولمن انْتَصَرَ» والجملة من قوله: «إنَّما السَّبِيلُ» اعتراض.
فصل
المعنى لمن صبر وغفر فلم يقتص وتجاوز، إن ذلك الصبر والتجاوز من عزم الأمور حقها وحزمها. قال مقاتل: من الأمور التي أمر الله بها. وقال الزجاج: الصابر يؤتى بصبره الثواب والرغبة في الثواب أتم عزماً.
قوله: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ} أي فليس له ناصر يتولاه من بعد إضلال الله إياه، وليس له من يمنعه من عذاب الله، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله وأن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله.
قال القاضي: المراد: ومن يضلل الله عن الجنة لجنايته فما له من ولي من بعده ينصره. وأجيب بأن تقييد الإضلال بهذه الصور المعينة خلاف الدليل، وأيضاً فالله تعالى ما أضله عن الجنة في قولكم بل هو أضل نفسه عن الجنة.
قوله: {وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} يوم القيامة {يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لعظم ما شاهدوا من العذاب.
ثم ذكر حالهم عند عرض النار. قوله: «يُعْرَضُونَ» حال، لأن الرؤية بصرية، و «خَاشِعِينَ» حال والضمير في «عَلَيْهَا» يعود على النار لدلالة العذاب عليها.(17/215)
وقرأ طلحة: من الذِّلِّ بكسر الذال وقد تقدم الفرق بين الذَّل والذِّل و «مِنْ الذُّلِّ» يتعلق بخاشعين ِأي من أجل. وقيل: هو متعلق بينظرون. وقوله: «مِنْ طَرَفٍ» يجوز في «مِنْ» أن تكون لاتبداء الغاية، وأن تكون تبعيضية وأن تكون بمعنى الباء، والظرف قيل: يراد به العضو وقيل: يراد به المصدر يقال: طرفت عينه تطرف طرفاً أي ينظرون نظراً خفيًّا.
فصل
اعلم أنه ذكر حالهم عند عرضهم على النار، فقال: خاشعين أي خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل يسارقون النظر إلى النر خوفاً منها وذلة في أنفسهم، كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها، وإذا كانت من بمعنى الباء أي بطرف خفي ضعيف من الذل.
فإن قيل: إنه قال في صفة الكفار: إنهم يحشرون عمياً فكيف قال هاهنا إنهم ينظرون من طرفٍ خفي؟! فالجواب: لعلهم يكونون في الابتداء هاهنا ثم يصيرون عمياً، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم آخرين. وقيل: معنى ينظرون من طرفٍ خفيٍّ أي ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عمياً والنظر بالقلب خفيّ.
ولما وصف الله تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال: {وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة} وقيل: خسروا أنفسهم بأن صاروا إلى النار وأهليهم بأن صاروا لغيرهم إلى الجنة. وهذا القول يحتمل أن يكون واقعاً في الدنيا، وإما أن يقولوه يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة، ثم قال: {أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} أي دائم. قال القاضي: هذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب: أنّ لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكافر قال تعالى: {والكافرون هُمُ الظالمون} [البقرة: 254] والذي يؤكد هذا قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله} والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة وهذا لا يليق إلا بالكافر.(17/216)
قوله: «يَنْصُرُونَهُمْ» صفة «لأولياء» ، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجرِّ اعتباراً بلفظ موصوفها وبالرفع اعتباراً بمحلة، فإنه اسم لكان. وقوله: «مِنْ سَبِيلٍ» إما فاعل وإما مبتدأ، والمعنى فما له من سبيل إلى الحق في الدنيا والجنة في العُقْبَى وقد أفسد عليهم طريق الخير.
قوله: {وَقَالَ الذين آمنوا} يجوز أن يكون ماضياً على حقيقته، ويكون «يَوْمَ القِيَامَةِ» معمولاً «لخَسِرُوا» ويجوز أن يكون بمعنى يقول فيكون يوم القيامة معمولاً له.
قله تعالى: {استجيبوا لِرَبِّكُمْ ... } الآيات. لما ذكر الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود، فقال: {استجيبوا لِرَبِّكُمْ} أي أجيبوا داعي (ربكم) يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} أي لا يقدر أحدٌ على دفعه.
قوله: «مِنَ اللهِ» يجوز تعلقه بيأتي أي يأتي من الله يومٌ لا مرد له، وأن يتعلق بمحذوف يدل عليه «لاَ مَرَدَّ لَهُ» أي لا يرد ذلك اليوم ما حكم الله به فيه.
وجوز الزمخشري أن يتعلق «بِلاَ مَرَدَّ» ، ورده أبو حيان: بأنه يكون معمولاً وكان ينبغي أن يعرب فينصب منوناً.
واختلفوا في المراد بذلك اليوم، فقيل: هو ورود الموت. وقيل: يوم القيامة، قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون معنى قوله: لا مرد له «أي لا يقبل التقديم ولا التأخير، وأن يكون معناه أنه لا مرد فيه إلى حال التكليف حتى يحصل فيه التلاقي.
ثم وصف اليوم فقال فيه: {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ} تلجأون إليه يقع به المخلص من العذاب {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} ينكر تغير ما بكم. ويجوز أن يكون المراد من النكير الإنكار، أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه من الأعمال.
قوله: «فَإنْ أَعْرَضُوا» عن الاستجابة ولم يقبلوا هذا الأمر {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} بأن تحفظ أعمالهم وتُحْصِيهَا {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} أي ما عليك إلا البلاغ، وذلك تسلية من الله تعالى له. ثم بين السبب في إصرارهم على الكفر فقال: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا(17/217)
الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يعني الغنى والصحة «فرح بها» .
واعلم أن نعم الله وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر، فلذلك سميت ذوقاً. فبين (الله) تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره، ووقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المنى، ووصل إلى أقصى السعادات، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة.
ثم إنه تعالى بين أنه متى أصابهم سيئة أي شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط وغيرها فإنه يظهر الكفر وهو (معنى) قوله: {فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ} ، والكفور: هو المبالغ في الكفران والمراد بقوله: كفور أي لما تقدم من نعمة الله عليه ينسى ويجحد باول شدة جميع ما سلف من النِّعم.
وقوله: فإنَّ الإنسان من وقوع الظاهر موقع المضمر أي فإنه كفور. وقدر أبو البقاء: ضميراً محذوفاً فقال فإن الإنسان (منهم) ولما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها اتبع ذلك بقوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} له التصرف فيهما بما يريد والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له القدر إنعاماً من الله عليه فيصير ذلك حاملاً له على مزيد من الطاعة.
ثم ذكر من أقسام تصرف الله تعالى في العالم أنه يخص البعض بالأولاد والإناث والبعض بالذكور والبعض بهما، والبعض بأن يجعله محروماً من الكل وهو المراد بقوله: {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} .
قوله: {ذُكْرَاناً وَإِنَاثا} حال وهي حال لازمة؟ وسوغ مجيئها كذلك أنها بعد ما يجوز أن يكون الأمر على خلافه، لأن معنى يزوجهم يقرنهم.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قدم الإناث على الذكور مع تقديمهم عليهن ثم رجع فقدمهم؟ {ولم عرف الذكور بعدما نكَّر الإناث؟} . قلت: لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنه، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد فقد الإناث؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤ(17/218)
الإنسان، فكان ذكر الإنثا اللاتي من جملة ما يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم، وليليَ الجنس التي كانت العرب تعده بلاء (ذكر) البلاء، وآخر الذكور، فلما أخرهم تدارك تأخيرهم وهم أحقَّاء بالتقديم وبالتَّعريف، لأن تعريفهم فيه تنويه وتشهير، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الاعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم.
ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتضى آخر فقال: «ذُكْرَاناً وإنَاثاً» (كَمَا قَالَ: إنَّا) {خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13] فجعل فيه {الزوجين الذكر والأنثى} .
فصل
قال ابن الخطيب: وفي الآية سؤالات:
الأول: أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولاً، ثم قدم الذكر على الإناث ثانياً فما السبب في هذا التقديم والتأخير؟
الثاني: أنه ينكّر الإناث وعرف الذكور وقال في الصِّنفين معاً {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} .
الثالث: لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأيّ حاجة في عدم حصوله إلى قوله: {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} .
الرابع: هل المراد بهذا الحكم جمع معيَّنون أو الحكم على الإنسان المطلق؟
والجواب على الأول: أن الكريم يسعى في أن يقع الحتم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولاً ثم أعطي الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح، وهذا غاية الكرم، أما إذا أعطي الذكر أولاً ثم أعطي الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولاً، ثم ثنَّى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم.
قيل: من يُمْنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر؛ لأن الله بدأ بالإناث وأما تقديم ذكر الذكور على الإناث ثانياً؛ لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى، والأفضل مقدم على المفضول.
وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف الذكور فهو أن المقصود منه التبيه على أن الذكور أفضل من الأنثى وأما قوله: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} وهو أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر، فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له: زوج والكناية في «يُزَوِّجُهُمْ»(17/219)
عائدة على الإناث والذكور والمعنى يجعل الذكور والإناث أزواجاً أي يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث.
وأما الجواب عن قوله «عقيماً» فالعقيم هو الذي لا يلد ولا يولد له يقال: رَجُلٌ عَقِيمٌ، وامْرَأَةٌ عَقِيمٌ، وأصل العقم القطع ومنه قيل: الملك عقيمٌ، لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق.
وأما الجواب عن الرابع فقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : يَهبُ لمن يشاء إناثاً، يريد لوطاً وشعيباً لم يكن لهما إلا البنات، و {وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور} يريد: إبراهيم لم يكن له إلا الذكور، {أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} يريد محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان له من البنين ثلاثة على الصحيح القاسم وعبد الله، وإبراهيم، ومن البنات إربع: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} يريد يحيى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام.
وقال أكثر المفسرين: هذا على وجه التمثيل، وإنما الحكم عام في كل الناس؛ لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأنبياء كيف شاء، فلا معنى للتخصيص.
ثم إنه تعالى خت الآية بقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} . قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : عليم بما خلق قدير ما يشاء أن يخلقه. والله أعلم.(17/220)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً ... } الآية لما بين حال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه. وقوله: «أَنْ يُكَلمَهُ» «أن» ومنصوبها اسم كان و «لِبَشَرٍ» خبرها. وقال أبو البقاء: «أن» والفعل في موضع رفع(17/220)
على الابتداء وما قبله الخبر، أو فاعل بالجار لاعتماده على حرف النفي، وكأنه وهم في التلاوة فزعم أن القرآن: وما لبشر أن يكلمه مع أنه يمكن الجواب عنه بتكلُّفٍ.
و {إِلاَّ وَحْياً} يجوز أن يكون مصدراً أي إلا كلام وحي. وقال أبو البقاء: استثناء منقطع؛ لأن الوحي ليس من جنس الكلام. وفيه نظر؛ لأن ظاهره أنه مفرغ، والمفرغ لا يوصف بذلك. ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال.
قوله: «أَوْ يُرْسِلَ» قرأ نافع: «أوْ يُرْسِلُ» بفرع اللام، وكذلك: فيوحي فسكنت ياؤه. والباقون بنصبهما. فاما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه رفع على إضمار مبتدأ أي: أو هو يرسل.
الثاني: أنه عطف على «وَحْياً» على أنه حال؛ لأن وحياً في تقدير الحال أيضاً فكأنه قال: إلا موحياً أو مرسلاً.
الثالث: أن يعطف على ما يتعلق به «مِنَ وَراءِ» ؛ إذ تقديره أو يُسْمِعُ من وراء حجاب و «وَحْياً» في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه «أوْ يُرْسِل» ، والتقدير: إلاَّ موحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ مُرْسِلاً.
وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} إذ تقديره: أو يُكَلِّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وهذا الفعل (المقدر) معطوف على «وَحْياً» ، والمعنى: إلا بوحي أو إسماعٍ من وراءِ حجابٍ أو إرسال رسولٍ.
ولا يجوز أن يعطف على «يُكَلِّمَهُ» لفساد المعنى؛ إذ يصير التقدير: ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُرْسِلَ اللهُ رَسُولاً، فيفسد لفظاً ومعنًى.
وقال مكي: لأنه يلزم منه نفي الرسل، ونفي المرسل إليهم.
الثاني: أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على «وَحْياً»(17/221)
و «وَحْياً» حال , فيكون هذا أيضاً حالاً، والتقدير: إلا موحياً أو مرسلاً.
وقال الزمخشري: «وَحْياً وأن يرسل» مصدران واقعان موقع الحال، لأن: أن يُرْسِلَ في معنى: إرسالاً و {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} ظرف واقع موقع الحال أيضاً كقوله: {وعلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] والتقدير: وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً.
ورد عليه أبو حيان بأن وقوع المصدر موقع الحال غير منقاس وإنما قاس منه المبرد ما كان نوعاً للفعل فيجيز أتيته ركضاً ويمنع: أتيته بكاءً أي باكياً.
وبأن: أن يرسل لا يقع حالاً لنص سيبويه: على أن «أَنْ» والفعل لا يقع حالاً وإن كان المصدر الصريح يقع حالاً تقول: جاء زيد ضحكاً، ولا يجوز أن يضحك.
الثالث: أنه عطف على معنى وحياً فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير: إلاَّ بأن يوحي إليه أو بأن يرسل. ذكره مكي وأبو البقاء.
قوله: {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} العامة على الإفراد. وابن أبي عبلة: حجبٍ جمعاً. وهذا الجار يتعلق بمحذوف تقديره: أو يكلمه من وراء حجاب. وقد تقدم أن هذا الفعل معطوف على معنى وحياً، أي إلاَّ أن يوحي أو يكلمه.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يتعلق من ب «يْكَلِّمهُ» (الموجودة في اللفظ لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعد إلا. ثم قال: وقيل: من مسبوقة بيُكَلِّمُهُ} لأنه ظرف والظرف يُتَّسَعُ فيه.(17/222)
فصل
ذكر المفسرون أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نيباً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال: لم ينظر موسى إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. فأنزل الله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام أو من وراء حجاب يسمعه كلامه ولا يراه كما كلم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام أو يرسل رسولاً ما جبريل أوة غيره من الملائكة فيوحي بإذنه ما يشاء أن يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله مايشاء.
وهذه الآية تدل على (أن) الحسن لا يحسن لوجه عائد إليه وأن القبح لا يقبح لوجه عائد إليه بل الله إنما يأمر بما يشاء من غير تخصيص وأنه ينهى عما يشاء من غير تخصيص، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله: «مَا يَشَاءُ» ، ثم قال: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي عليم بصفات المخلوقين حيكم تجري أفعاله على الحكمة فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام وأخرى بإسماع الكلام وثالثاً بواسطة الملاكئة الكرام. ولما بين الله كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} أي كما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك روحاً من أمرنا.
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) نبوة. وقال الحسن (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) : رحمة وقال السدي ومقاتل: وحياً. وقال الكلبي: كتاباً، وقال الربيع، جبريل. وقال مالك بن دينار: يعني القرآن.
قوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب} «ما» الأولى نافية والثانية استفهامية، والجملة الاستفهامية معلقة للدِّراية، فهي في محل نصب لسدها مفعولين، والجملة المنفية بأسرها في محل نصب على الحال من لكاف في «إلَيْكَ» .
فصل
المعنى: وما كنت تدري قبل الوحي ما الكتاب ولا الإيمان يعني شرائع الإيمان(17/223)
ومعالمه. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: الإيمان هنا الصلاة لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم. وقيل: هذا على حذف مضاف أي ما كنت تدري ما الكتب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد.
وقيل الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به وأنه قبل النبوة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل كان عارفاً بالله تعالى. وقال بعضهم: صفات الله تعالى على قسمين: منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقول ومنها مالا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم يكن معرفته حاصلاً قبل النبوة. واعلم أن أهل الأصول على أن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام كانوا مؤمنين من قبل الوحي، كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم ولم يتبين له شرائع دينه.
قوله: «جَعَلْنَاهُ» الضمير يعود إما لروحاً وإما للكتاب، وإما لهما، لأنهما مقصد واحد، فهو كقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] .
فصل
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يعني الإيمان: وقال السدي: يعني القرآن يهدي به من يشاء «نرشد به من نشاء» مِنْ عِبَادِنَا، و «نهدي» يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون مفعولاً مكرراً للفعل وأن يكون صفة لنوراً.
قوله: {وَإِنَّكَ لتهدي} قرأ (شهر) بن حوشب: لتهدي مبنياً للمفعول وابن السَّميقع: لتهدي بضم التاء وكمسر الدال من: أهدى والمراد بالصراط المستقيم الإسلام.
قوله: {صِرَاطِ الله} بدل من: «صِرَاطٍ» قبله بدل كل من كل معرفة من نكرة.(17/224)
فصل
نبه بهذه الآية على أن الذي يجوز عبادته يجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، ثم قال: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} أمور الخلائق كلها في الآخرة وهذا كالوعيد والزجر أي ترجع الأمور كلها إلى الله تعالى حيث لا يحاكم سواه فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأَ سُورَة حَمَ عَسَقَ كان ممَّن تصلِّي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحِمُون له» (والله أعلم) .(17/225)
سورة الزخرف(17/226)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
مكية وهي تسع وتسعون آية، وثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاث آلاف وأربعمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {حم والكتاب المبين} إن جعلت «حم» قسماً كانت الواو عاطفة، وإن لم تكن الواو للقسم.
وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} جواب القسم. وهذا عندهم من البلاغة، وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ واحدٍ، كقول أبي تمام:
4388 - ... ... ... ... ... ... . ... وَثَنَايَاك إنَّها إغْريضُ
إن أريد بالكتاب القرآن، وإن أُرِيدَ به جنس الكتب المنزلة غير القرآن لم يكن من ذلك. والضمير في «جَعَلْنَاهُ» على الأول يعود على الكتاب وعلى الثاني للقرآن وإن لم(17/226)
يصرح بذكره. والجَعْلُ في هذا تصيير، ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تَجْوِيزِه أن يكون بمعنى خلقانه.
فصل
ذكر المفسرون في هذه الآية وجهين:
الأول: أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون المقسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حم.
الثاني: أن يكون القسم واقعاً على قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} .
وفي المراد بالكتاب قولان:
أحدهما: أنه القرآن فيكون قد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً.
والثاني: المراد بالكتاب الكتابة والخط، أقسم بالكتاب لكثرة ما فيه من المنافع، ووصف الكتاب بأنه مبين أي أبان طريق الهدى من طريق الضلال، وأبان ما يحتاج إليه الأمة من الشريعة وتسميته مبيناً مجاز؛ لأن المبين هو الله تعالى وإنما سمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل البيان عنده.
وقوله: «جَعَلْنَاهُ» أي صَيَّرْنَا قراءة هذا الكتاب عربياً. بيّناه. وقيل سميناه وقيل وضعناه. يقال: جَعَلَ فُلاَنٌ زَيْداً عَالِماً، أي وصفه بهذا، كقوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] و {جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} [الحجر: 91] {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} [التوبة: 19] كلها مدفوع من وجهين:
الأول: أنه لو كان المراد من الجعل التسمية لزم أن سماه عجمياً أنه يصير عجمياً، وإن كان بلغة العرب، وهذا باطل.(17/227)
الثاني: (أنه) لو صرف الجَعْلُ إلى التسمية لزم كونُ التسمية مجعولة، والتسمية أيضاً كلام الله وذكل أنه جعل بعض كلامه، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل.
الثاني: أنه وصفه بكونه قرآناً، وهو إنما سمي قرآناً، لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض، وما كان ذلك مصنوعاً.
الثالث: وصفه بكونه عربياً، وإنما يكون عربياً، لأن العرب اختصت بضوع ألفاضه واصطلاحهم، وذلك يدل على أنه مجعول. والتقدير: حَم وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينِ.
ويؤكد هذا بقولهن عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «يَا رَبَّ طَه وَيس، ويَا ربِّ القُرْآنِ العَظِيم» .
وأجاب ابن الخطيب: بأن هذا الذي ذكرتموه حق؛ لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة مُحْدَثَةً، وذلك معلوم بالضرورة وَمَنِ الذي ينازعكم فيه.
قله: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كلمة «لَعَلَّ» للتمني والترجي، وهي لا تليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور، وكان المراد ههنا: إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيًِّا لأجل أن تُحِطُوا بمَعْنَاه.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب} متعلقان بما بعدهما، ولا تمنع اللام من ذلك. ويجوز أن يكونا حالين مما بعدهما؛ لأنهما كمانا وصفين له في الأصل فيتعلقان بمحذوف، ويجوز أن يكون «لدينا» متعلقاً بما تعلق به الجار قبله، إذا جعلناه حالاً من لَعَلِيّ، وأن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه. وكذا يجوز في الجار أن يتعلق بما تعلق به الظرف وأن يكون حالاً من ضميره عند من يجوز (تقديمها) على العامل المعنوي، ويجوز أن يكون الظرف بدلاً من الجار قبله، وأن يكونا حالين من «الكتاب» أو مِنْ «أُمِّ» .
ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء، وقال: «ولا يجوز أن يكون واحدٌ من الظرفين خبراً؛ لان الخبر لزم أن يكون» عَلِيًّا «من أجل اللام» . قال شهاب الدين: وهذا يمنع(17/228)
أن تقول: «إنَّْ زَيْداً كَاتِبٌ لَشَاعِرٌ؛ لأنه منع أن يكون غير المقترن بها خبراً» .
وقرأ حمزةُ والكِسَائِيُّ إم الكتاب بكسر الألف والباقون بالضم. والضمير في قوله «وَإنَّهُ» عائد إلى الكتاب المتقدم ذكره.
فصل
قيل: أم الكتاب هو اللوح المحفوظ. قال قتادة: أم الكتاب أصل الكتاب، وأُمُّ كُلِّ شيء أصْله.
قال ابن عباس: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) : أَوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ القَلَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أنْ يَخْلُقَ فالكتاب عنده ثم قرأ: وإنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا، فالكمتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 2122] .
وقوله: {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال قتادة: يخبر عن منزلته وشرفه، أي إن كَذَّبْتُمْ بالقرآن يا أهل مكة فَإنه عندنا «لَعَلِيٌّ» رفيع شريف «حَكِيمٌ» ِأي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة، أو ذو حكمة بالغةٍ. قيل: المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب} [آل عمران: 7] والمعنى أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.
فإن قيل: ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب فيستحيل عليه السهو والنسيان؟
فالجواب: أنه تعالى لما أثْبَتَ في ذلك أحكامَ حوادثِ المخلوقات، ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافَقَى ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه.
قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} في نصب «صفحاً» خمسةُ أوجه:
أحدهما: أنه مصدر في معنى يضرب؛ لأنه يقال: ضَرَبَ عَنْ كَذَا وأَضْرَبَ عَنْهُ بمعنى أعْرَضَ عنه وصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ قال:(17/229)
4389 - اضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا ... ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ
والتقدير: أفنصفح عنكم الذكر، أي أفَنُزِيلُ القرآن عنكم إزالةً، يُنْكِرُ عليهم ذلك.
الثاني: أنه منصوب على الحال من الفاعل أي صافحين.
الثالث: أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة، فيكون عامله محذوفاً، نحو: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] قاله ابن عطية.
الرابع: أن يكون مفعولاً من أجله.
الخامس: أن يكون منصوباً على الظرف.
قال الزمخشري: و «صَفْحاً» على وجهين: إما مصدر من صَفَحَ عنه إذَا أعرض عنه، منتصب على أنه مفعول له، على معنى أَفَنَعْزِلُ عَنْكُمْ إنْزَالَ القُرْآنِ وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم: نَظَرَ إلَيْهِ بصفح وجهه، وصفح وجهه بمعنى أفَنُنَحِّيهِ عَنْكُمْ جانباً؟ فينتصب على لاظرف، نحو: ضَعْهُ جانباً، وأمْش جنباً، وبعضده قراءة: صُفْحاً بالضم. يشير إلى قراءة حَسَّانِ بْنِ عبد الرحمن الضُّبَعيَّ وسُمَيْطِ بن عُمَر وشُبَيْل بن عَزرَةَ قرأوا: صُفْحاً بضم الصاد وفيه احتمالات:
أحدهما: ما ذكره من كونه لُغَةً في المفتوح، ويكون ظرفاً. وظاهر عبارة أبي البقاء أنه يجوز فيه ما جاز في المفتوح؛ لأنه جعله لغة فيه كالسَّدِّ والسُّدِّ.
والثاني: أنه جمع صَفُوحٍ، نحو: صَبُورٍ، وصُبْر، فينتصب حالاً من فاعل «يَضْرِبُ» وقدَّرَ الزمخشري على عادته فعلاً بين الهمزة والفاء، أي: أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ. وقد تقدم ما فيه.(17/230)
قوله: {أَن كُنتُمْ} قرأ نافع والأَخَوَانِ بالكسر، على أنها شرطيه. وَإسْرَافُهُمْ كان مُتَحَقِّقاً و «إنْ» إنما تدخل على غير المُتَحَقّق أو المتحقق المبهم الزمان.
وأجاب الزمخشري: أنه من الشرط الذي يصدر عن المُدْلِي بصحة الأمر والتحقيق لثبوته كقوله الأجير: «إنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ عَمَلاً فَوَفِّني حَقِّي» ، وهو عالم بذلك، ولكنه تخيل في كلامه أن تفريطَك في إيصال حقي فعل من له شك في استحقاقه إيَّاه تجهيلاً لهم.
وقيل: المعنى على المُجَازَاة، والمعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحاً متى أسْرَفْتُم، أي إنكم غير متروكمين من الإنذار متى كنتم قوماً مسرفين. وهذا أراد أبو البقاء بقوله: وقرىء: إن بكسرها على الشرط وما تقدم يدل على الجواب، والباقون بالفتح على العلة، أي لأَنْ كُنْتُمْ كقوله:
4390 - أَتَجْزَعُ أَنْ بَانَ الخَلِيطُ المُوَدِّعُ..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
ومثله قوله:
4391 - أَتَجْزَعُ أَن أُذْنَا قُتَيْبَةَ جُزَّتَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... .(17/231)
يروى بالكسر والفتح، وقد تقدم نحوٌ من هذا أول المائدة. وقرأ زيدُ بنُ عليّ: إذا بذالٍ عوضِ النون وفيها معنى العلة، كقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] .
فصل
قال الفارء والزجاج: يقال: ضَرَبْتُ عَنْهُ وأَضْرَبْتُ عَنْهُ. أي تَرَكْتُهُ ومَسَكْتُ عَنْهُ، وقوله: «صَفْحاً» أي إعراضاً، والأصل فيه: إنك تَوَلَّيْتَ بصَفْنحَةِ عُنُقِكَ. والمراد بالذكر عذابُ الله. وقيل: أفنرُدُّ عنكم النصائح والمراعظ والأعذار بسبب كونكم مسرفين، وقيل: أَفَنَرُدُّ عنكم القرآن، وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أفنترك عنكم الوحي، ونمسك عن إنزال القرآن، فلا نأمركم ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان؟ وهذا قول قتادةَ وجماعةٍ، قال قتادة: والله لو كان هذا القول رف ع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكموا، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنةً أو ما شاء الله.
وقيل: معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين مُعْرِضينَ. قال الكسائي: أفنطوي عنك الذّكْرَ طَيًّا، فلا تدعون ولا توعظون، وقال الكلبي: أَفَنَتْركُكُم سُدًى، لا نأمركم ولا نَنْهَاكُمْ. وقال مجاهد والسدي: أفَنُعْرِضُ عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم.(17/232)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
قوله: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا} «كم» خبرية مفعول قمدم، و {مِن نَّبِيٍّ} و {فِي الأولين} يتعلق بالإرسال أو بمحذوف على أنه صفة «لِنَبِيٍّ» والمعنى: أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء، فلا ينبغي أن يُتَأَذَّى بسبب تكذيبهم، وأستهزائهم، لأن المصيبة إذا عمت خفت.
ثم قال: {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أي إن أولئك المتقدمين الذين إرسل إليكم الرسل، كانوا أشدَّ بطشاً من قريب وأَكْثَرَ عَدداً وجلَداً.
قوله «بطشاً» فيه وجهان:
أحدهما: أ، هن تمييز «لأشد» والثاثن: أنه حال من الفاعل أي أهْلَكْنَاهُمْ بَاطِشينَ.
قوله: {ومضى مَثَلُ الأولين} والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فَلْيَحْذَرُوا أنْ يَنْزِلَ بهم الخِزْيُ مثْلَ أنزل بالأولين. أي صفتِهم وسنتهم وعقوبتهم، فعاقبة هؤلاء كذلك في الإهلاك.
قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض ... } الآية والمعنى: وَلَئِنْ سَأَلْتَ قَوْمَكَ من خَلَقَ السموات والأرض؟ وقيل: الضمير في «سألتهم» يحتمل رجوعه إلى الأنبياء. والأقرب الأول، أي منهم مع كفرهم مقرين بعزته، وعلمه، ثم عبدوا غيره، وأنكروا قدرته في البعث، لفَرْطِ جَهْلِهِمْ.
قوله: {خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} كرر الفعل للتوكيد؛ إذ لو جاء «العزيز» بغير «خلقهن» كلان كافياً، كقولك: مَنْ قَامَ؟ فيقال: زيدٌ. وفيها دليل على أن الجلالة الكريمة من قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] مرفوعة بالفاعلية، لا بالابتداء للتصريح بالفعل في نظيرتها.
وهذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى؛ إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال.
قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} اعلم أنه تقد تم الإخبارُ عنهم، ثم ابتدأ(17/233)
دالاً على نفسه بذكر مصنوعاته فقال: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} ولو كان هذا من جملة كلام الكفار لقالوا: الذي جعل لنا الأرض مِهَادً، إلا أن قوله في أثناء الكلام: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} لا يليق إلا بكلامه.
ونظيره من كلام الناس أن يسمع الرجل رجلاً يقول: الذي بنى هذا المسجدَ فلانٌ العَالِمُ فيقول السَّامع لهذا الكلام: الزاهدُ الكريمُ، كأن ذل السامع يقول: أنا أعرفه بصفات حميدةٍ فوق ما تعرفه فأَزِيدُ في وصفه، فيكون النعتان جميعاً من رجلين لرجل واحد.
ومعنى كون الأرض مهاداً واقعة ساكنة، فإنها لو كانت متحركة لما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية، وستر عيوب الأحياء والأموات، ولأن المهدَ موضعَ راحة الصبي. فكانت الأرض مهاداً لكثرة ما فيها من الراحات {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} وذلك أن انتفاع الناس بها إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض، فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليهاعلامات، ليصح بها الانتفاع.
ثم قال: {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى مَقَاصِدِكم في أسفاركم، أو لتهتدوا إلى الحق في الدِّينِ.
قوله تعالى: {والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ} أي بِقَدْرِ حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نُقْصَان، لا كما أنزل على قولم نوع بغير قدر حتى أَغْرَقَهُمْ.
قوله: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} قرأ العامة مُخَفَّفاً، وعِيسَى وأبو جَعْفَرٍ مُثَقَّلاً، وتقدم الكلام فيه في آل عمران. وتقدم في الأعراف الخلاف في تَخْرُجُونَ وتُخْرَجُونَ أي كما أحيينا هذه البلدة بالمطر، ومعنى الميتة الخالية من النبات، كذلك تخرجون من قبوركم أحياء. والمعنى أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته، فكذلك يدل على قدرته على المبعث والقيامة.
ووجه التشبيه أنه جعلهم أحياءَ بعد إماتةٍ كهذه الأرض لتي انْتَشَرَتْ بعدما كانت ميتةً.(17/234)
قيل: بل وجه التشبيه أنه يُعيدهم ويُخْرجهم من الأرض بماءٍ كالمني مكا تَبْبُتُ الأرضُ بماء المطر، وهذا ضعيف؛ لأن ظاهر لفظ الإنشار الإعادة فقط دون هذه الزيادة.
قوله تعالى: {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} ، قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) الأزواج الضروب والأنواع كالحُلو والحَامِض والأبيض والأسود والذكر والأنثى.
وقال بعض المحققين: كل ما سوى الله فهو زَوْج، كالفَوْق، والتَحْتِ، واليَمِين، واليَسَار، والقُدَّام والخَلْفِ، والمَاضِي، والمُسْتَقْبَلش، والذَّواتِ والصِّفاتِ، والصيفِ، والشِّتاء، والربيعِ والخريفِ. وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود في ذواتها محدثةً مسبوقةٌ بالعدم، فأما الحق تعالى فهو المفرد المنزه عن الضِّدِّ والنِّدِّ، والمقابل، والمعاضِد، فلهذا قال تعالى: {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} أي كل ما هو زوج فهو مخلوق، فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية.
قال ابن الخطيب: وأيضاً علماء الحساب بينوا أن المفرد أفضل من الزوج لوجوه:
الأول: أن الاثنين لا توجد إلا عند حصول وَحْدَتَيْنِ، فالزوج مُحْتَاجٌ إلى الفرد، والفرد هو الوحدة وهي غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج.
الثاني: أن الزوج يقبل القسمة بقسمين مُتَسَاوِيَيْنِ والفرد لا يقبل القسمة، وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة، فكان الفرد أفضل من الزوج.
(ثم ذكر وجوهاً أُخَرَ تدل على أن الفرد أفضل من الزوج) وإذا كان كذلك ثبت أن الأزواج ممكناتٌ ومحدَثاتٌ ومَخْلُوقَاتٌ وأن الفردَ هو القائم بذاته المستقلّ بنفسه، الغني عَمَّا سِوَاهُ.
قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} ما موصولة وعائدها محذوف، أي ما تَرْكَبُونَهُ، وركب بالنسبة (إلى الفلك) يتعدى بحرف الجر: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك} [العنكبوت: 65] وفي غيره بنفسه، قال: {لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] فغلب هنا المتعدي بنفسه على المتعدي بواسطة، فلذلك حذف العائد.(17/235)
فصل
السَّفَرُ إما أن يكون في البحر، وإما أن يكون في البرِّ، فأما سفر البحر فعلى السفينة، وأما سفر البر فعلى الأنعام.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل على ظهورها؟
فالجواب: من وجوه:
الأول: قال أبو عبيدة التذكير لقوله: «مَا تَرْكَبُوَ» والتقدير: ما تركبونه، فالضمير يعود على لفظ «ما» فلذلك أَفْرَدَهُ.
الثاني: قال الفراء: أضاف الظهر إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزلة الجنس، فلذلك ذَكَّرَهُ، وجمع الظهور باعتبار معناها.
الثالث: أن التأنيث فيها ليس حقيقاً، فجاز أن يختلف اللفظ فيه، كما يقال: عِنْدِي مِنَ النِّسَاء مَنْ يُوَافِقُكَ.
قوله: «لِتَسْتَوُوا» يجوز أن تكون هذه لام العلة، وهو الظاهر وأن تكون للصيرورة فتتعتلق في كليهما ب «جَعَل» . وجوز ابن عطية: أن تكون للأمر، وفيه بعد، لقلة دخولها على أمر المخاطب.
وقُرىءَ شاذاً: فَلْتَفْرَحُوا وفي الحديث: «لِتَأْخُذُوا مَصَافَّكُمْ» وقال:
4392 - لِتَقُمْ أَنْتَ يَا ابْنَ خَيْرِ قُرَيْشٍ ... فَتَقْضِي حَوَائِجَ المُسْلِمِينَا(17/236)
نص النحويون على قلتها عدا أَبَا القَاشِم الزَّجَّاجِيِّ، فإنه جعلها لغة جيدة.
قوله: {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} أي تذكرونها في قلوبكم، وذلك الذكر هو أن يَعْرِف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح، وخلق جُرْمَ السفينة على وجه يُمْكِنُ الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء، فإذا تذكر أن خلق البحر، وخلق الرياح، وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته، إنما هو من تدبير الحيكم العليم القدير، عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى، فيَحْمِلُهُ ذلك على الانقياد لطاعة الله تعالى، وعلى الاشتغال بالشكر، لنعم الله التي نهاية لها.
قوله: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} مطيقين وقيل: ضابطين.
واعلم أنه تعالى عين ذكراً لركوب السفينة والدابة، وهو قوله: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} وذكر دخول المنازل: {رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} [المؤمنون: 29] وتحقيقه أن الدابة المركوبة لا بدّ أن تكون أكثرَ قوة من الإنسان بكثير، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان، ولكنه تعالى خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر، وخلقها الباطن، فحصل منها هذا لانتفاع. أما خَلْقُها الظاهر، فلأنها تَمْشِي على أربَعٍ، وكان ظهرها يحسن لاستقرار الإنسان وأما خلقها الباطن فلأنها مع قوتها الشديدة قد صيّرها الله تعالى مُنْقَادةً للإنسان، ومسخّرة له، فَإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب عَظُمَ تعجبه من تلك القدرة، والحكمة التي لا نِهاية لها، فلا بدّ وأن يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.
قوله: « (لَهُ) مُقِرْنِينَ» ، «له» متعلق «بمقرنين» ، وقدم الفواصل. والمُقْرِنُ: المُطيقُ للشيء الضابط له من: أَقْرَنَهُ: أي أَطَاقَهُ. قال الواحدي: كأن اشتقاقه من قولك: صِرْتُ له قِرْناً، ومعنى قِرْن فُلاَنٍ، أي مثلُهُ في الشِّدة.
وقال أبو عبيدة: قِرْنٌ لفلانٍ أي ضابط له. والقَرْنُ الحَبْلُ، وقال ابن هَرْمَةَ:(17/237)
4393 - وَأقْرَنْتُ مَا حَمَّلِتْنِي وَلَقَلَّمَا ... يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدِّ يَا دَعْدُ والهَجْرُ
وقال عمرو بن معد يكرب:
4394 - لَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ ... لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا
وحقيقة أقْرَنَهُ: وجده قَرِينهُ؛ لأن القوي لا يكون قرينه الضعيف، قال (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
4395 - وابنُ اللَّبُون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ
وقرىء: مُقْتَرِنِينَ بالتاء قبل الراء.
فصل
ومعنى الآية ليس عندنا من القوة والطاعة أن نقرن هذه الدابة والفلك، وأن نضبطها فسُبْحانَ مَنْ سَخَّر لنا هذا بقدرته وحكمته، روى الزمخشريّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أنه كان إذا وضع رِجْلَهُ في الركاب، قال: بِسْم اللهِ، فإذا استوى على الدَّابَّةِ قال: الحَمْدُ لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ» .
وروى عن عليٍّ أيضاً مثله وزاد: ثم حمَّد ثلاثاً، وكبَّر ثلاثاً، ثم قال: لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: مما تضحك يا أمير المؤمنين؟ قال: «رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَعَلَ ما فعلتُ، فقلنا: ما يضحكك يا نبيَّ(17/238)
الله؟ قال: العبدُ إذا قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يفغر الذنوب إلا أنت بعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هُوَ» .
فصل
دلت هذه الآية على خلاف قول المُجَبِّرة من وجوه:
الأول: أنه تعالى قال: «لِتَسْتَوُوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتكم عليه» فذكره بلام «كَيْ» وهذا يدل على أنه أراد منا هذا الفعل وهذا يدل على بطلان قولهم: إنه تعالى أراد الكفر منه.
الثاني: قوله «لتستوو» يدل على أن فعله معلّل بالأغراض.
الثالث: أنه تعالى بين أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر عن العبد ولو كان فعل العبد فعلاً لله لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات على هذه الطبائع لأجل أن أَخْلُقَ سُبْحَانَ الله في لسان العبد. وهذا باطل؛ لأنه تعالى قادر على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوَسَائِطِ.
قال ابن الخطيب: «الكلام على هذه الوجوه معلوم مما تقدم فلا فائدة في الإعادة» .
قوله: {وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أي لمُصَيَّرُونَّ في المعاد. ووجه اتصال الكلام بما قبله أن راكب الفلك في خطر الهلاك وراكب الدابة كذلك أيضاً؛ لأن الدابة قد حصل لها ما يوجب هلاك الراكب، وكذا السفينة قد تنكسر، ففي ركوبهما تعريض النفس للهَلاَك فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت، ويقطع أنه هالك، وأنه منقلب إلى الله، وغير منقلب من قَضَائِهِ وقدره، فإذا اتفق له ذلك (المحذور) كان قد وطن نَفْسَهُ على الموت.(17/239)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
قوله: «جُزْءاً» قرأ عاصم في رواية أبِي بَكْرٍ جزءاً بضم الجيم والزَّاي، في كل القرآن، والباقون بإسكان الزاي في كُلِّ القرآن. وهما لغتان.
وأما حمزة فإذا وقف قال: جُزَا بفتح الزاي بلا همزٍ. و «جزءاً» مفعول أول للجعل والجعل تَصْيِيرٌ قولي. ويجوز أن يكون بمعنى سَمَّوْا واعْتَقَدُوا.
وأغربُ ما قيل هنا: أن الجزء الأنثى، وأنشدوا:
4396 - إنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَومْاً فَلاَ عَجَبٌ ... قَدْ تُجْزِىءُ الحُرَّةُ المِذْكَارُ أَحْيَانَا
وقال الآخر:
4397 - زَوَّجْتُهُ مِنْ بَنَاتِ الأَوْسِ مُجْزِئَةً ... لِلْعَوْسجِ اللَّدْنِ في أَبْيَاتِهَا زَجَلُ
قال الزمخشري: أثر الصنعة فيهما ظاهر.
وقال الزَّجَّاجُ والأَزْهَرِيُّ: هذه اللغة فاسدة، وهذه الآبيات مصنوعة.(17/240)
فصل
المشهور أن المراد من هذا الجعل أنهم أثبتوا لله وَلَداً بمعنى حكموا به، كما تقول: جَعَلْتُ زيداً أفضلَ الناس أي وصَفْتُهُ وحكمتم به، وذلك قولهم: المَلاَئكةُ بناتُ الله؛ لأن ولد الرجل جزء منه، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، «فَاطِمَةُ بضْعَةٌ منِّي» .
والمعقول من الولد أن ينفصل من الوالد جزء من أجزائه ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثلك ذلك الأصل، وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه.
وقيل: المراد بالجزء إثبات الشركاء لله، وذلك أنهم لما أثبتوا الشركاء فقد زعموا أن كل العباد ليست لله، بل بعضها لله، وبضعها لغير الله، فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم، بل جعلوا له من بعضهم جزءاً منهم. قالوا: وهذا القول أولى، لأنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله وحملنا الآية التي بعدها على إنكار الولد لله كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين، ثم قال: «إنَّ الإنسْسَانَ لَكَفُور» يعني الكافر لكفور جحود لنعم الله «مُبين» ظاهر الكفر.
قوله: {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} هذا استفهام توبيخ وإنكار، يقول اتخذ رَبُّكُمْ لِنَفْسِهِ البَنَاتِ و «أصْفَاكُمْ» أخلَصكم بالبَنين يقال: أصْفَيْتُ فُلاَناً أي آثَرْتُهُ به إيثَاراً حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون فيه مشارك، كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين} [الإسراء: 40] فقوله: «وأصْفَاكُمْ» يجوز أن يكون داخلاً في حيز الإنكار معطوفاً على «اتَّخَذَ» ، ويجوز أن يكون حالاً، أي أَمِ اتَّخَذَ ف يهذه الحالة. و «قد» مقدرة عن الجُمْهُورِ.
فصل
واعلم أن الله تعالى رَتَّبَ هذه المناظر على أحسن الوجوه، وذلك لأنه بين أن إثبات(17/241)
الولد لله محال، وبتقدير أن ثبت الولد فجعله بنْتاً محالٌ أيضاً.
أما بيان أن إثباتَ الولد لله محال؛ فلأن الوَلَدَ لا بدّ وأن يكون جُزْءاً من الوَالِدِ، ولَمَّا كان له جزء كان مركباً، وكل مركب ممكن وأيضاً ما كان كذلك، فإنه يقبل الاتِّصالَ والانْفِصَالَ والاجْتَمَاعَ والافْتِرَاقَ وما كان كذلك فهو مُحْدَث عبد، فلا يكون إلهاً قديماً أزليًّا.
وأما المقام الثاني وهو أن يكون لله ولد فإنه يمتنع أن يكون بنتاً، لأن الابن أفضلُ من البنت فلو اتخذ لنفسه النبات وأعطلى البنينَ لعباده لزم أن يكون حال العبد أفضل وأكمل من حال الله، وذلك مدفوع ببديهة العقل.
قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم} تقدم نظيره. قال الزمخشري: «وقرىء هنا: وزَجْهُهُ مُسْوَدٌّ مُسْوَادٌّ بالرفع على أنها جملة في موضع خبر» ظل «، واسم» ظل «ضمير الشأن» .
فصل
والمعنى بما ضرب للرحمن مثلاً، أي جعل لله شبهاً؛ لأنَّ كُلّ يُشْبِهُهُ، «ظَلَّ وَجْهُهُ» أي صار وجهه «مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» من الحز والغيظ. والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته؟ روي أن بعض العرب هجر بيته حين وضعت امرأته بِنْتاً فقالت المرأة:
4398 - مَا لأَبِي حَمْزَةَ لاَ يَأتِينَا ... يَظَلُّ فِي الَبْيتِ الَّذِي يَلِينَا
غَضْبَانَ أَن لا نَلِدَ البَنِينَا ... لَيْسَ لَنَا مِنْ القَضَاءِ مَا شِينَا
وَإِنَّمَا نَأخُذُ مَا أُعْطِينَا ...(17/242)
قوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية ... } يجوز في «مَنْ» وجهان:
أحدهما: أن تكمون في محل نصب مفعولاً بفعل مقدر، أي: أَوَ تَجْعَلُونَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ.
والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ جزءٌ أو وَلَدٌ، إذ جعلوا الله جُزْءاً.
وقال البغوي: يجوز مأن يكون في محل خفض ردًّا على قوله: مما يخلق، وقوله: «بِمَا ضَرَبَ» . وقرأ العامة يَنْشَأُ بفتح الياء وسكون النون من نشأ في كذا يَنْشأُ فِيهِ. والأَخَوَانِ وَحَفْصٌ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين مبنياً للمفعول أي يُرَبَّى وقرأ الجَحْدَرِيُّ كذلك، إلا أنه خفف الشين أخذه من أَنْشَأَهُ. والحسن: يُنَاشَأُ كيقاتل، مبنياً للمفعول. والمفاعلة تأتي بمعنى الإفعال، كالمُعَالاَةِ بمعنى الإعْلاَءِ.
فصل
المراد من هذا الكلام التنبيه على نُقْصَانِهَا والمعنى: أن الذي يتربى في الحِلية والزينة يكون ناقصَ الذات؛ لأنه لولا نُقْصَانُهام في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحِلْية، ثم بين نُقْصَانَ حالها بطريق آخرٍ وهو قوله: {وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} الجملة حال. و «في الخِصَامِ» يجوز أن يتعلق بمحذوف يدل عليه من بعده تقديره وهو لا يُبينُ في الخِصَام أي الحجة ويجوز أن يتعلق «بمُبِينٍ» وجاز للمضاف إليه أن يَعْمَلَ(17/243)
فيما قبل المضاف، لأنَّ غَيْر بمعنى «لا» كما تقدم تحقيقه آخر الفاتحة.
فصل
المعنى وهو في المخاصمة غير مبين الحجة من ضعفهن وسَقَمَهِنّ. قال قتادة في هذه الآية: كل ما تتكلم امرأة، فتريد أن تتكلم بحُجَّتِها إلا تكلمت بالحُجَّةِ عليها.
قوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} جعلوا أي حكموا به.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عام: «عِنْدَ الرَّحْمَن» ظرفاً ويؤيده قوله: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206] والباقون «عباد» جمع عَبْد والرسم يحتملها. وقرأ الأعمش كذلك، إلا أنه نصب «عباد» على إضمار فِعْل، أي الذين هم خُلِقُوا عِبَاداً ونحوه وقرأ عبد الله وكذلك هي في مصحفه الملائكة عبادَ الرحمن وأبي عبد الرحمن بالإفراد، وإناثاً هو المفعول الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقاد أو التصيير القولي. وقرأ زَيْدُ بْنُ عِليّ: أُنُثاً جمعُ الجَمْعِ.
قوله: «أَشَهِدُوا» قرأ نافع بهمزة مفتوحة، ثم بأخرى مضمومة مُسَهَّلةٍ بينها وبين الواو وسكون الشين على ما لم يسمّ فاعله أي أحَضَرُوا خَلْقَهُمْ حين خلقوا، كقوله: {أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات: 150] . وهذا استفهام على سبيل الإنكار. وقرأ قالون ذلك بالمد يعني بإدخَتال ألِفٍ بين الهمزتين، والقصر يعني بعندم الألف. الباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة. فنافع أدخل همزة للتوبيخ على «أَشَهِدُوا» فعلاً رباعياً مَبْنيًّا(17/244)
للمفعول فسهّل همزته الثانية وأدخل ألفاً بينهما كراهة لاجتماعهما، وتارة لم يدخلها اكتفاء بتسيهل الثانية وهي أَوْجَهُ. والباقون أدخلوا همزة الإنكار على «شَهِدُوا» ثلاثياً. ولم ينقل أبو حيان عن نافع تسهيلَ الثانية. بل نقله عن عليِّ بْنِ أبي ط البٍ.
وقرأ الزهري أُشْهِدُوا رباعياً مبنياً للمفعول وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون حذف الهمزة لدلالة القراءة الأخرى عليها، كما تقدم في قراءة أَعْجَميٌّ.
والثاني: أن تكون الجملة خبرية، وقعت صفة لإناثاً، أي أجَعَلُوهُمْ إنَاثاً مَشْهُوداً خَلْقَهُمْ كذلك.
قوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} قرأ العام ستُكْتَب بالتاء من فوق مبنياً للمفعول «شهادتهم» بالرفع لقيامه مقام الفاعل؟ وقرأ الحسن: شَهَادَاتُهُمْ بالجَمْع، والزُّهْريُّ: سَيَكْتُبُ بالياء من تحت وهو في الباقي كالعامة. وابن عباس وزيدُ بْنُ عليّ وأبو جعفر وأبو حَيْوَةَ سَنَكْتُبُ بنون العظمة شَهَادَتَهُمْ بالنصب مفعولاً به.
فصل
المعنى سنكتب شهادتهم على الملائكة أنهم بنات الله ويسألون عنها. قال الكلبي ومقاتل: لما قالوا هذا القول سألهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ما يُدْرِيكُمْ أنهم إناث؟ قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لَمْ يُكَذِّبُ افقال اله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} عنها في الآخرة وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر، وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم، والعقاب الشديد.(17/245)
قال المحققون: هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه:
أولها: إثبات الولد.
ثانيها: أن ذلك الولد بنت.
وثالثها: الحكم على هؤلاء الملائكة بالأنوية.
فصل
احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه القراءات، أما قراءة «عِنْدَ» بالنون، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ولفظة «هُمْ» يوجب الحصر والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم، فوجب كونهم أفضل من غيرهم، رعاية للفظ الدال على الحَصْرِ.
وأما قراءة عِبَاد جمع «العَبْد» فقد تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوصٌ بالمؤمنين، فقوله «عِبَاد الرَّحْمَنِ» يفيد حَصْرَ العُبُودِيَّة فيهم، فَإذَا كَانَ اللَّفظُ الدّالُ على العُبُوديَّة دالاً على حصر الفضل والقرب والشرب لهم وجب كونهم أفضل؛ والله أعلم.
قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ ... } الآية يعنى الملائكة قاله قتادة ومقاتل والكلبي. وقال مجاهد: يعني الأوثان. وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياهم، لرضاه منا بعبادتها وهذا نوع آخر من كفرهم وشبهاتهم.
فصل
قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على فساد القول بالجبر في أن كفر الكافر يقع بإرادة الله من وجهين:
الأول: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: لو شاء الرحمن ما عَبَدْنَاهُمْ وهذا تصريح بقول المجبرة. ثم إنه تعالى أبطله بقولهم: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} فثبت بطلان هذا المذهب ونظيره قوله تعالى في سورة الأنعام: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] إلى قوله: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] .
الثاني: أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنواع كفرهم، فِأولها: قوله (تعالى) : {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} وثانيها: قوله: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} : قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} .(17/246)
فلما حكى هذه الأقاويل بعضها على إثر بعض وثبت أن القولين الأولين كفر محض، فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفراً وأجاب الواحدي في البسيط بوجهين:
الأول: ما ذكره الزجاج وهو أن قوله تعالى: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} عائد إلى قولهم: الملائكةُ بناتُ الله.
والثاني: أنهم أرادوا بقولهم: لَوْ شَاءَ الرحمن ما عبدناهم أنه أمرنا بذلك ورضي بذلك فقررنا عليه فأنكر عليهم ذلك.
قال ابن الخطيب: وهذان الوجهان عندي ضعيفان، أما الأول، فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين، وبين وجه بُطْلاَنهما، ثم حكى بعده وجهاً ثالثاً في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين، ثم حكى البطلان، والوعيد، فصرف هذا الإبطال الذي ذكره عنه إلى كلام متقدم وأجنبي عنه في غاية البعد. وأما الوجه الثاني: فهو أيضاً ضعيف؛ لأن قوله: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} ليس فيه بيان متعلق خلاف تلك المشيئة والإجمال خلاف الدليل، فوجب أن يكون التقدير: لو شاء الله أن نعبدَهم ما عبدناهم. وكلمة «لو» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة لعدم معبادتهم، وهذا غير مذهب المجبرة. والإبطال والإفساد يرجع إلى فساد هذا المعنى.
ومن الناس من أجاب عن هذا الاستدلال بأن قال: إنهم لما ذكروا ذلك الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية، فلهذا السبب استوجبوا الظن والذم. وأجاب الزمخشري عنه من وجهين:
الأول: أنه ليس في اللفظ ما يدل على أنهم قالوه مستهزئين، وادعاء ما لا دليل عليه باطل.
الثاني: أنه تعالى حكى فيهم ثلاثة أشياء وهي أنهم جعلوا له من عباده جزءاً، وأنهم جعلوا الملائكة إناثاً، وأنهم قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو قلنا بأنه إنما جاء الذم على القول الثالث لأنهم قالوه على ظريق الهُزْء لا على سبيل الجدّ وجب أن يكون الحال(17/247)
في الحِكَاية للقولين كذلك فيلزم أنهم لو نطقوا بتلك الأشياء على سبيل الجد أن يكونوا محقين ومعلوم أنه كفر.
وأما القول بأن الظن في القولين الأولين إنما يوجد على بعض ذلك القول وبعض القول الثالث لا على نفسه، بل على إيراده على سبيل الاستهزاء فهذا يوجب تشويش النظم، وأنهم لا يجوز في كلام الله تعالى.
قال ابن الخطيب: والجواب الحق عندي عن هذا الحكم هو ما ذكرنا في سورة الأنعام وهو أن القوم لما ذكروا هذا الكلام، استدلوا بمشيئة الله تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان، فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما مُتَطَابِقيْنِ وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم لمجرد قولهم: إن الله يريد الكفر من الكافر، بل لأجل أنهم قالوا: لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان، فإذا صرفنا الذمَّ إلى هذا سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية. وتمام التقرير موجود في سورة الأنعام.
قوله: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} فيما يقولون {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} ما هم إلا كاذبون في قولهم: إن الله رَضِيَ عَنَّا بعبادتنا. وقيل: إنْ هُمْ إلا يخرصون في قولهم: الملائكة إناث وهم بنات الله.
قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ} أي من قبل القرآن، أو الرسول بأن يعبد غير الله {فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} يعني أن القول الباطل الذي حكاه الله عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل؟ أما إثباته بالعقل فهو أيضاً باطل، لقوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} والمعنى أنهم وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن، حتى جاز لهم أن يتمسكوا به؟ فذكر هذا في مَعْرِض الإنكار.
قوله: {بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} والمقصود أنه تعالى لما بين أنه لا دليل على صحة قولهم ألبتة لا من العقل ولا من النقل، بين أنه ليس لهم حاملٌ يحمِلُهُم عليه إلا التقليد المحض. ثم بين أن تمسك الجهال بالتقليد أمر كان حاصلاً من قديم الزمان فقال: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ(17/248)
مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} ، قوله: أمه العامة على ضم الهمزة بمعنى الطريقة والدين قال قَيْسُ بن الخَطيم:
4399 - كُنَّا عَلَى أُمَّةِ آبَائِنَا ... وَيَقْتَدِي بالأَوَّلِ الآخرُ
أي على طرقتهم، وقال آخر:
4400 - هل يَسْتَوِي ذُو أمَّةٍ وَكَفُور ... أي ذو دين. وقرأ مجاهدٌ وقتادةٌ وعمرُ بنُ العَزِيزِ بالسكر.
قال الجوهري: (هي الطريقة الحسنة لغة في أمُمَّةٍ بالضم قال الزمخشري) : كلتاهما من الأَمِّ وهو القصد، والأُمَّة الطريقة التي تؤم كالرحلة للمرحول إليه، والإمّة الحالة (التي) يكون عليها الآمّ وهو القاصد. وقرأ ابن عباص بالفتح وهي المرة من الأم، والمراد بها القصد والحال.
فصل
المراد بالمترفين الأغنياء والرؤساء. والمُتْرَفُ هو الذي آثر النعمة، فلا يحب إلا الشهوات والملاهي ويبغض المشاق في طلب الحق. وإذا عرف ذلك علمنا أن رأس جميع الآفات حب الدنيا واللذات الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب الله تعالى، والدار الآخرة، ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَة» .(17/249)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
قوله: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَآ ... } الآية. قرأ ابنُ عام وحفصٌ قَالَ ماضياً مكان «قُلْ» أمراً، أي قال النذير أو الرسول وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والإمر في «قل» يجوز أن يكون للنذير، أو الرسول وهو الظاهر. وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ: جِئْنَاكُمء بنون المتكلمين «بأَهْدَى» أي بدين أصْوَبَ {مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ} وإن جئتكم بأهدى منه فعند هذا حكى الله عنهم أنهم قالوا: إنا لا ننفك عن دين آبائنا وإن جئتنا بما هو أهدى {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} وإن كان أهدى مما كنا عليه فعند هذا لم يبق لهم عذر، لهذا قال تعالى: {فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} ةوهذا تهديد للكفار(17/250)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} لما بين في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار حجة إلا تقليد الآباء، ثم بين أنه طريق باطل، وإن الرجوع إلى الدليل أولى من التقليد أردفه بهذه الآية، وهو وجه آخر يدل على فساد التقليد من وجهين:
الأول: أنه تعالى حكى عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه تبرأ من دين آبائه بناء على الدليل وذلك أن تقليد الآباء في الأديان إما أن يكون محرماً أو جائزاً. فإن كان محرماً فقد بطل القول بالتقليد، وإن كان جائزاً فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأنهم لا يشرفو (ن) ولا يتخفرو (ن) إلا بكونهم من أولاده. وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء. وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول: إنه ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء، فوجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد.
الوجه الثاني: أنه تعالى بين أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما عدل عن طريقة(17/250)
أبيه إلى متابعة الدليل لا جَرَم جعل الله دينَ ومذهَبه باقياً في عَقِبِهِ إلى يوم القيامة، وأما أديان آبائه فقد اندرست وبَطُلَتْ. فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة، وأن التقليدَ ينقطع أثره.
قوله: «بَرَاءُ: العامة على فتح الباء، وألف وهمزة بعد الراء وهو مصدر في الأصل وقع موقع الصفة وهي بَريءٌ، وبها قرأ الأعمش. ولا يثنى» بَرَاءٌ «ولا يجمعُ، ولا يؤنثُ، كالمصادر في الغالب. قال الزمخشري والفراء والمبرد: لا يقولون البَرَاءَانِ، ولا البَرَاءُونَ؛ لأن المعنى ذَوَا البَرَاءَ (ةِ) وذَوُو البراءة. فإن قلت: منك ثنيت وجمعت.
وقرأ الزعفرانيُّ وابنُ المبارك عن نافع بضم الباء، بزنة طُوال وكُرام، يقال: طَوِيلٌ وطُوالٌ، وبَرِيءٌ، وبُرَاء. وقرأ الأعمش بنون واحدة.
قوله: {إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} فيه أربعةُ أوجهِ:
أحدها: أنه استثناء منقطع، لأنهم كانوا عَبَدَةَ أصنامٍ فقط.
الثاني: أنه متصل؛ لأنه روي أنهم كانوا يشركون مع الباري غيره.(17/251)
الثالث: أن يكون مجروراً بدلاً من» ما «الموصولة في قوله: {مِّمَّا تَعْبُدُونَ} قاله الزمخشري. ورده أبو حيان: بأنه لا يجوز إلا في نفي أو شبهه. قال:» وغَرَّهُ كونُ «بَرَاء» في معنى النفي، ولا ينفعه ذلك، لأنه موجب «. قال شهاب الدين: قد تأول النحاة ذلك في مواضع من القرآن كقوله: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] ، {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] . والاستثناء المفرغ لا يكون في إيجاب، ولكن لما كان» يَأْبى «بمعنى لا يفعل،» وَإنَّها لكَبِيرَةٌ «بمعنى لا تَسْهلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك فهذا مثله.
الرابع: أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن تكون «ما» نكرةة موصوفة. قاله الزمخشري. قال أبو حيان: وإنما أخْرَجَهَا في هذا الوجه عن كونها موصولة، لأنه يرى أن «إلاَّ» بمعنىغير لا يوصف بها إلا النكرة وفيها خلاف. فعلى هذا يجوز أن تكون «ما» موصولة «و» إلا «بمعنى غير صفة لها.
فصل
{إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} أي خلقني {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} يرشدني لدينه ويوفقني لطاعته.
قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} الضمير المرفوع لإبراهيم وهو الظاهر، أو الله والضمير المنصوب لكلمة التوحيد المفهومة من قوله:» إنَّنِي بَرَاءٌ «إلى آخره، أو لأنها بمنزلة الكلمة، فعاد الضمير على ذلك اللفظ لأجل المعنى به. وقر حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: كِلْمَةً بكسر الكاف وسكون اللام. وقرىء: فِي عَقْبِهِ بسكون القاف. وقرىء: فِي عَاقِبِهِ أي وَرَائِهِ، والمعنى أن هذه الكلمة كلمة باقيةٌ في عقبة أي في ذريته. قال قتادة: لا يزال في ذريته مَن يَعْبُدُ اللهَ ويُوَحِّدُهُ. قال القُرَظِيُّ: يعني وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه باقية في ذريته. وهو قوله تعالى عَزَّ وَجَلَّ: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة: 132] . قال ابن زيد: يعني قوله:» أَسْلَمْتُ لِرَبِ العَالَمِينَ «وقرأ: {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} [الحج: 78] {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم قال السدي: لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ.(17/252)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
قوله: «بَلْ مَتَّعتُ» قرأ الجمهور مَتَّعْتُ بتاء المتكلم وقتادة، والأعمش بفتحها للمخاطب خاطب إبراهيم أو محمد ربه بذلك. وبها قرأ نافع في رواية يَعْقُوبَ.
والأعمش أيضاً: بل مَتَّعْنَا بنون العظمة هَؤُلاَءِ وَآبَاءَهُمْ يعني أهل مكة وهم عَقِبُ إبراهيمَ يريد مشركي مكة، ولم أعاجلهم بالعقوبة على الكفر {حتى جَآءَهُمُ الحق} وهو القرآن. وقال الضحاك: يعني الإسلام «وَرَسُولٌ مُبِينٌ» برسالة واضحة يبين لهم الأحكام، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يُطيقوه وعصوا، وكذبوا به، وسموه ساحراً ووجه النظم أنه لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال، وإمتاع الله إياهم بنعيم الدنيا، فأعرضوا عن الحق. وقال الزمخشري:
فإن قيل: ما وَجْهُ من قرأ: مَتَّعْتَ، بفتح التاءِ؟ .
قُلْنَا: كأن الله سبحانه وتعالى اعترض على ذاته في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28] فقال: بل مَتَّعْتُهُمْ بما متعتهم به من طُول العمر والسِّعة في الرزق حتى مَنَعَهُمْ ذلك عن كلمة التوحيد وأراد بذلك المبالغة في تعييرهم، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك شيئاً في زيادة الشكر، والثبات على التوحيد، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً، فمثاله أن يشكو الرجل إساءةَ من أحْسٍَنَ إِليه، ثم يقبل على نفسه، فيقول: أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك إليه ويريد بهذا الكلام توبيخَ المسيء لا تقبيح فعل نفسه.(17/253)
قوله: {وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق} وهو القرآن {قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} هذا نوع آخر من كفر آبائهم، وهو أنهم قالوا: منصب الرسالة منصبٌ شريفٌ فلا يليق إلا برجل شريفٍ، وصدقوا في ذلك، إلا أنهم ضموا إليه مقدَّمة فاسدة، وهو أن الرجل الشريف عندهم هو الذي يكون كثيرَ المال والجاه، ومحمد ليس كذلك، فلا تليق رسالة الله به، وإنما يليق هذا المنصب برجلٍ عظيم الجاه، كثيرِ المال، يعنون الوليدَ بنَ المغيرة بمكة، وعُروَةَ بنَ مسعود الثَّقَفِيّ بالطائف. قاله قتادة. وقال مجاهد: عُتبْبَةُ بن ربيعة من مكة وعبدُ يَالِيل الثقفيّ من الطائف. وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) هو الوليدُ بن المُغيرة من مكة، ومن الطائف حَبيبُ بنُ عَمْرو بنُ عُمَيْر الثقفي وقيل: من إحدى القريتين. وقيل: المراد عروةٌ بن مسعود الثَّفَفِي كان بالطائف وكان يتردد بين القريتين فنسب إلى كليهما.
وقرىء: رَجْلٍ بسكون العين، وهي تَمِيميَّةٌ.
قوله: {يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} يعنى النبوة. والهمزة للإنكار. وهذا إبطال لشبهتهم وتقريره من وجوه:
الأول: أنا إذا أوقعنا التفاوت في مناصب الدنيا، ولم يقدِرْ أحد من الخلق على التفسير، فالتفاوت الذي أوقعناه في مناصب الدين والنبوة بأن لا يَقْدِرُوا على التَّصرف أولى.
الثاني: إن اختصاص ذلك المعنى ذلك الرجل إنما كان لأجل حكمنا وفضلنا وإحساننا فيكف يليق بالعقل أن يجعل إحْسَاناً إليه بكثرة المال حجة علينا في أن يحسن إليه بالنبوة؟ .
الثالث: أنا إنما أوقعنا التفاوت في الإحسان بمنافع الدنيا لا بسبب سابق فلم لا يجوز أيضاً أن يوقع التفاوت في الإحسان بمناصب الدين والنبوة لا لسبب سابق؟! .
ثم قال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا} فجلعنا هذا غَنِيًّا وهذا فقيراً،(17/254)
وهذا مالكاً، وهذا مملوكاً، كما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شِئْنا، كذلك اصطفينا بالرسالة من شِئْنَا {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} في القوة والضعف، والعلم، والجهل، والغِنَى، والفقر لأن لو سويناهم في كل هذه الأحوال، لم يخدم أحدٌ أحداً، ولم يصِرْ أحدٌ منهم مُسَخَّراً لغيره. وحينئذ يخرب العَالَمُ ويَفْسَدُ نظام الدنيا.
وقوله: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} أي ليستخدم بعضهم بعضاً، فيسخر الأغنياء بأموالهم الأُجَرَاءَ الفقراء بالعمل فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم. وقد مضى الكلام في سخرياً في المؤمنين. وقرأ بالكسر هنا عَمْرُو بنُ مَيْمُون، وابن مُحَيصِن، وأبوُ رَجاء وابنُ أبي ليلى، والوليدُ بنُ مُسْلِم، وخلائقُ بمعنى المشهورة وهو الاستخدام. وَيَبْعُدُ قولُ بعضهم: إنه استهزاء الغنيّ بالفقير. ثم قال: «وَرَحْمَةُ ربِّكَ» يعني الجنة «خَيْرٌ لِلْمُؤمِنِينَ» مما يجمع الكفار من الأموال.(17/255)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} اعلم أنه تعالى أجاب هَهُنَا بوجْهٍ ثالث عن شُبْهَتِهِمْ بتفضيل الغني على الفقير، وهو أنه تعالى بين أن منافع الدنيا وطيباتها حقير خسيسة عند الله تعالى وبين حقارتها بقوله: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة} والمعنى لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للنعم فأحدها: أني كون سقْفُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ. وثانيها: مَع: َارجَ عَلَيْهَا يَظْهِرُونَ أي يَعْلُون ويَرْتَقُونَ، يقال: ظَهَرْتُ عَلَى السَّطْحِ إذَا عَلَوْته.(17/255)
وثالثها: «أن يجعل لبيوتهم أبواباً وسرراً أيضاً من فضة عليها يتَّكِئُونَ» .
قوله: لِبُيُوتِهِمْ «بدل اشتمال، بأعادة العاملة، واللامان للاخْتِصَاص.
وقال ابن عطية: الأولى للمِلْكِ، والثانية للاختصاص. ورده أبو حيان: بأن الثاني بدل فيشترط أ، يكون (الحرف) متحد المعنى لا مختلفة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونا بمنزلة اللامين في قولك: وَهَبْتُ لَهُ ثَوْباً لِقَمِيصِهِ. قال أبو حيان: ولا أدري ما أراد بقوله. قال شهاب الدين: أراد بذلك أن اللامين للعلة، أي كانت الهبة لأجل لأجل قميصك، فلقميصك بدل اشتمال، بإعادة العامل بِعَيْنِهِ وقد نقل أن قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [الأنعام: 84] و [الأنبياء: 72] و [العنكبوت: 27] أنها للعلة.
قوله:» سُقُناً «قرأ ابنُ كَثيرٍ، وأبو عمرو بفتح السين، وسكون القاف بالإفراد، على إرادة الجنس والباقون بضمتين على الجمع (كرُهُن) في جمع رَهْنٍ. وفي رهن تأويل لا يمكن هنا، وهو أن يكون جمع رِهَان جمع رَهْن، لأنه لم يسمع سِقَاف جمع سَقْف.
وعن الفراء أنه جمع سَقِيفَةٍ فيكون كصَحِيفَةٍ، وصُحُفٍ. وقرىء: سَقَفاً بفتحتين لغة في سَقْفٍ، وسُقُوفاً بزنة فَلسٍ وفُلُوساً. وأبو رجاء بضمة وسكون.(17/256)
و» مِنْ فِضَّةٍ «يجوز أن يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف صفة» لسُقفٍ «.
قوله:» ومعارج «قرأ العامة مَعَارجَ جمع» مِعْرَج «وهو السلم وطلحة مَعَارِيح جمع مِعْرَاج وهو كمِفْتَاح لمِفْتَح، وَمَفَاتِيح لمِفْتَاحٍ.
قوله:» وَسُرُراً «جمع» سرير «والعامة على ضم الراء؟ وقرىء بفتحها، وهي لغة بعض تميم وكَلْبٍ وقد تقدم أن» فعيلاً «المضعف يفتح عينه، إذا كان اسماً، أو صفة نحو: ثَوْبٌ جَدِيدٌ، وثِيَابٌ جُدَدٌ. وفيه كلام للنحاة. وهل قوله:» مِنْ فِضّةٍ «شالم للمعارج والأثواب والسُّرُر؟ .
فقال الزمخشري: نعم، كأنه يرى تشريك المعطوف مع المعطوف عليه في قيوده. وَ:» عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ «و» عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ «صفتان لما قبلهما.
قوله:» وزُخْرُفاً «يجوز أن يكون منصوباً بجعل أي وجَعَلْنَا لَهُمْ زُخْرُفاً، وجوز الزمخشري أن ينصب عطفاً على محل» من فضة «، كأنه قيل: سُقُفاً من فضةٍ وذهب، فلما حذف الخافض انتصب أي بعضها كذا وبعضها كذا.
الزخرف قيل: هو الذَّهَبُ، لقوله: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} [الإسراء: 93] .
وقيل: الزخرف الزينة، لقوله تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت} [(17/257)
يونس: 24] فيكون المعنى نُعْطِيهم زينةً في كل بابٍ.
قوله: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} قرأ حمزة وعاصم لَمَّا بالتشديد على معنى: وما كُل ذلك إلاّ متاع الحياة الدنيا. فكان لما بمعنى إلا. حكى سيبويه: «أَنْشَدْتُكَ بِالله لَمَّا فَعَلْتَ» بمعنى إلا. ويؤيد هذه القراءة قراءةٌ مَنْ قرأ: وَمَا ذَلِكَ إلاَّ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وخففه الآخرون على معنى: وكل ذلك متاع الحياة الدنيا. فتكون اللام للابتداء، وما صلة يريد: أن هذا كله متاع الحياة الدنيا وسماع متاعاً، لأن الإنسان يستمتع به قليلاً، ثم يزول ويذهب. وتقدم الخلاف في لما تخفيفاً وتشديداً في سورة هُودٍ.
قال أبو الحسن: الوجه التخفيف، لأن لما بمعنى إلا لا يُعْرَفُ. وحكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل. وقرأ أبو رَجَاءٍ وأبو حَيْوَةَ: لِمَا بكسر اللام على أنها لام العلة ودخلت على ما الموصولة، وحذف عائدها، وإن لم تَطُّلِ الصّلة، والأصل: الذي هو متاع، كقوله: {تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] برفع النون.
و «إنْ» هي المخففة من الثقيلة، و «كل» مبتدأ، والجار بعده خبره، أي وإنَّ كُلَّ ما تقدم ذكره كائنٌ لِلَّذِي هُوَ متاع الحياة. وكان الوجه أن تدخل اللام الفارقة، لعدم إعمالها، إلا إنها لما دَلَّ الدليلُ على الإثبات جاز حَذْفها، كما حذفها الآخر في قوله (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
4401 - أَنَا ابْنُ أُبَامةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مَالِكٍ ... وَإنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامَ المَعَادِنِ(17/258)
قوله: {والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} خاصة، يعني الجنة للمتقين عن حب الدنيا.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَزِثُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوَضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِراً قَطْرَةَ مَاءٍ» .
وروى المُسْتَوْردُ بنُ شداد قال: «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على السحلة الميتة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتُرى هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا: مِنْ هَوانِها أَلقَوْهات، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» فالدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أهْلِهَا «.
فإن قيل: لما بين تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر، فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام؟! .
فالجواب: لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام، لطلب الدنيا، وهذا الإيمان إيمان المنافقين، فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين حتى أن كل من دخل الإسلام فإنما يدخل لمتابعة الدليل، ولِطَلَبِ رضوان الله تعالى، فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب.(17/259)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
قوله: {وَمَن يَعْشُ} العامة على ضم الشين من عَشَا يَعْشُو، أي يَتَعَامَى، ويَتَجَاهَلُ.
وعن ابن عباس وقتادة ويَحْيَى بْنِ سَلاَّم بفتح الشين بمعنى يَعْمَ، يقال: عَشِيَ يَعْشَى(17/259)
عَشاً إذَا عَمِيَ، فَهُوَ أَعْشَى، وامرأَةٌ عَشْوَاء. وزيد
بن علي يَعْشُو بإثبات الواو. وقال الزمخشري: على أن من موصولة، وحق هذا أن يقرأ نُقَّيِّضُ بالرفع. قال أبو حيان: ولا يتعين موصوليتُها، بل يخرج على وجهين، إما تقدير حذف حركة حرف العلة، وقد حكاها الأخفش لغةً، وتقدم منه في سورة يُوسُفَ شواهدُ.
وإما على أنه جُزِمَ بمَنْ المَوْصُولَة تشبيهاً لها بمَنْ الشَّرْطيَّة.
قال: وإذا كانوا قد جزموا بالذي وليس بشرط قَط فأولى بما استعمل شرطاً وغير شرط، وأنشد:
4402 - وَلاَ تَحْفِرَنْ بئْراً تُريدُ أَخاً بِهَا ... فَإنَّكَ فِيهَا أَنْتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ
كَذَلِكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا ... تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَواقِبُ مَا صَنَعْ
قال: وهو مذهب الكوفيين، وله وجه من القياس، وهو أنَّ «الذي» أشْبَهَتْ اسم الشرط في دخول الفاء في خبرها، واسم الشرط في الجزم أيضاً، إلا أن دخخول الفاء منقاسٌ بشرطه وهذا لا يَنْقَاسُ.(17/260)
ويقال: عَشَا يَعْشُوا، وَعشِيَ يَعْشَى، فبعضهم جعلهما بمعنًى. وبعضهم فرق بأن عَشِيَ يَعْشَى، إذا جعلت الآفة في بصره، وأصله الواو. وإنما قبلت ياء، لانكسار ما قبلها، كَرَضِيَ يَرْضَى. وعَشَا يَعْشُو أي تفاعل ذلك، ونَظَرَ نَظَرَ العُشْي، ولا آفة ببصره.
كما قال: عَرِجَ لمن به آفة العرج. وعَرَجَ لمن تعارج ومشى مِشْيَة العرْجَانِ. قال (رحمةُ اللهِ عليه) :
4403 - أَعْشُو إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ ... حَتَّى يُوارِي جَارَتِي الخِدْرُ
أي أنظر نظر العُشْي، وقال آخر:
4404 - مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ
أي ينظر نظر العُشي لضعف بصره من كثرة الوقُود. وفرّق بعضهم: بأن عشوت إلى النار إذَا استدللت عليها بنظر ضعيف. وقال الفَرَّاء عَشَا يَعْشُوا: يُعْرِضُ، وعَشِيَ يَعْشَى عَمِيَ، إلا أن ابن قتيبةَ قال: لم نَرَ أحداً حكى: عَشَوْتُ عَنِ الشيء، أعْرَضْتُ عنه، وإنما يقال: تَعَاشَيْتُ عن كَذَا، إذا تَغَافَلْت عنه وتَعَامَيْت.
قوله: «نُقَيِّضْ» قراءة العامة بنون العظمة وعَلِيّ بن أبي طالب، والأعمش ويعقوبُ، والسُّلَمِيّ، وأبو عَمْرو، وعاصمٌ في روايةٍ عنهما: يُقَيِّضْ بالياء من تحت. أي يُقَيِّض الرحمنُ. و «الشيطان» نصب في القراءتين وابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما)(17/261)
يُقيِّضَّ مبنياً للمفعول شَيْطَانٌ بالرفع قائم مقام الفاعل.
فصل
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن} أي يُعْرِض عن القرآن، وقيل: يُعرض عن الله، فلم يخفْ عقابه ولم يرجُ ثَوَابَه، يقال: عَشَوْت إلى النار، أَعْشُو عَشْواً، إذا قصدتها مُبْتَدِياً، وعَشَوْتُ عَنْهَا إذا أعرضت عنها، كما يقال: عدلت إلى فُلاَن، وعدلت عنه أي مِلْتُ إلَيْهِ، ومِلْتُ عَنْهُ.
قال القرطبي: تولية ظهره، كقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18، 171] وقال الخليل: أصل العَشْوِ النظر ببصرٍ ضعيف. وأما القراءة بالضم فمعناه: يَتَعَامَ عن ذكره أي يعرف أنه الحق ويتجاهل ويَتَعَامى، كقوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] .
{نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أي نضمه إليه، وتسلطه عليه {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} لا يفارقه، يزين له العَمَى ويخيل إليه أنه الهدى.
قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} .
«وإنهم» يعني الشياطين {ليصدونهم عن السبيل} أي يمنعونهم عن الهدى. وذكر الشياطين والإنسان بلفظ الجمع، لأن قوله {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً} يفيد الجمع وإن كان اللفظ على الواحد.
قال أبو حيان: الظاهر أن ضَمِيري النصب في {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} عائدان على «مَنْ» من حيث معناها راعى لفظها أولاً، فأفرد (في) «له» ثم راعى معناها فجمع في قوله: {وإنهم ليصدونهم} والضمير المرفوع على الشيطان لأن المراد به الجنس ولأن كل كافر معه قرين.
وقال ابن عطية: إن الضمير الأول للشياطين، والثاني للكفار والتقدير: وإن(17/262)
الشياطينَ ليصدون الكفار العاتين، ويحسبون أنهم مهتدون أي ويحسب كفارُ بني آدم أ، هنم على الهُدَى.
قوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءَنَا} قرأ أبو عمرو والأخوان وحفص «جاءنا» بإسناد الفعل إلى ضمير مفرد يعود على لفظ «من» وهو العاتِي، وحينئذ يكون هذا مما حمل فيه على اللفظ، ثم على المعنى ثم على اللفظ، فإنه حمل أولاً على لفظها في قوله: «نُقَيِّضْ لَهُ. . فَهُوَ لَهُ» ثم جمع على معناها في قوله: {وإنهم ليصونهم} ... ويحسبون أنهم ثم رجع إلى لفظها في قوله: «جَاءَنَا» والباقون: «جاءانا» مسنداً إلى ضمير تثنية، وهما العاتِي وقرينه جُعلا في سلسلة واحدة فحينئذ يقول الكافر لقرينه {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} أي بعد مابين المشرق والمغرب، فغُلِّبت إحدَاهُما على الآخر، كالقمرين والعمرين قال الفرزدق:
4405 - ... ... ... ... ... ... ... لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَلِعُ
ويقولن للكوفة والبصرة: البَصْرَتَان، والغَدَاةِ والعَصْر: العصران، ولأبي بكر، وعمر: العُمرَان وللماء والثمر: الأسْوَدَان وقيل: أرادن بالمشرقين: مَشْرِق الصيف ومشرق الشتاء والأول أصلح. وقيل: بُعْدُ المشْرِقَيْنِ مِن المَغْرِبَيْنِ. وقال ابن الخطيب: إن أهل النجوم يقولون: إن الحركة التي تكون من المشرق إلى المغرب هي حركة الفَلَك الأعظم، والحركة التي من المغرب إلى المشرق هي حركة الكواكب الثابتة والأفلاك المميلة والسيارات سوى القمر، وإذا كان كذلك المشرق والمغرب كل واجد منهما مشرِق بالنسبة إلى شيء ومغرب بالنسبة إلى شيء آخر. فثبت أن إطلاق لفظ المشرق على كل واحد من الجهتين حقيقة ثم ذكر وجهاً آخرَ، وهو أن الحِسَّ يدل على أن الحركة اليومية إنما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب، وأما من المغرب فإنه يظهر في أول الشهر في جانب المغرب، ثم لا يزال يتقدم إلى جانب المشرق وذلك يدل على أن حركة القمر من المغرب.
وإذا ثبت هذا بالجانب المسمى بالمَشْرِق، فإنه(17/263)
مشرق الشمس ولكنه مغرب القمر. وأما الجانب المسمَّى بالمغرب فإنه مشرق القمر ولكنه مغرب الشمس، وبهذا التدقير يصح تسمية المشرق والمغرب بالمشرقين. قال: «ولعل هذا الوجه أقرب إلى مطابقة اللفظ من سائر الوجوه» . وهذا ليس بشيء، فإن ظهور القمر من المغرب ما كان لكونه أشرق من الغرب إنما كان ظهورها لغيبوبة شُعَاع الشَّمْسِ عنه، وإنما كان إشراقه وظهوره من المشرق الحقيقي ولكنه كان مختفياً بشعاع الشمس.
قوه: {فَبِئْسَ القرين} والمخصوص بالذم محذوف أي أنت. قال أبو سعيد الخدري: «إذا بعض الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير بِهِ إلى النار» .
قوله: {وَلَن يَنفَعَكُمُ} في فاعله قولان:
أحدهما: أنه ملفوظ به وهو «أنَّكُمْ» وما في خبرها التقدير: ولن ينفعكم اشتراكُكُمْ في العذاب بالتأسِّي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصَاب بمِثْلِهِ.
ومنه قول الخنساء:
4406 - وَلَوْلا كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى مَوْتَاهُمُ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلكِنْ ... أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُمْ بِالتأَسِّي
والثاني: أنه مضمر، فقدره بعضهم ضمير التمني، المدلول عليه بقوله: «يَا لَيْتَ بَيْنِي» أي لن ينفعكم تمنيكم البُعْد.
وبعضهم: لن ينفعكم اجتماعكم. وبعضهم: ظلمكم، وجحدكم. وعبارة من عبّر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف؛ إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع، ليس هذا منها وعلى هذا الوجهه يكمون قوله: «أنكم» تعليل، أي لأنَّكُمْ،(17/264)
فحذف الخافض، فجرى في محلها الخلاف، أهو نصب أم جر؟ ويؤيد إضمار الفاعل لا أنه هو إنكم قراءة إنكم بالكسر فإنه استئناق مفيد للتعليل.
قوله: «إذْ ظَلَمْتُمْ» قد استشكل المعربون هذه الآية، ووجهه هو أن قوله (اليوم) ظرف حالي و «إذْ» ظرف ماض، و «ينفعكم» مستقبل، لاقترانه بلن، التي لنفي المستقبل، والظاهر أنه عامل في الظَّرْفَيْنِ، وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع بعد في ظرف حاضر أو ماض؟! هذا ما لا يجوز. وأجيب: عن إعماله في الظرف على سبيل قربه منه، لأنَّ الحال قريب من الاستقبال، فيجوز في ذلك، قال تعالى: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن} [الجن: 9] ، وقال الشاعر:
4407 - ... ... ... ... ... ... ... ... سَأسْعَى الآنَ إِذْ بَلَغَتْ إنَاهَا
وهو إقناعي، وإلا فالمستقبل يستحيل وقوعه في الحال عقلاً. وأما قوله: «إذْ» ففيها للناس أوجه كثيرة: قال ابن جني: راجعت أبا علي فيها مراراً، وآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان، وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه.
«فَإِذْ» بدل من «اليوم» حتى كأنه مستقبل، أو كأن اليوم ماض.(17/265)
وإلى هذا نحا الزمخشري، قال: «وإذْ بدل من اليوم» وحمله الزمخشري على معنى إذ تَبَيَّنَ وصح ظلمكم ولم يبق لأحدٍ لكم شُبْهَة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره:
4408 - إِذَا انتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لئيمةٌ..... ... ... ... ... ... ... .
أي شتبين أني ولد كريمة.
قال أبو حيان: ولا يجوز البدل ما دامت إذ على موضوعها من المُغَيَّا فإن جعلت لمطلق الزمان جاز.
قال شهاب الدين: «لم يُعْهد في إذ أنها تكون لمطلق الزمان بل هي موضوعة لزمان خاص بالمضي كَأَمْسِ.
الثاني: أن في الكلام حذفل مضاف تقديره:» بَعْدَ إِذْ ظَلَمْتُمْ «.
الثالث: أنها للتعليل، وحينئذ تكون حرفاً للتعليل كاللاّم.
الرابع: أن الفاعل في» إذ «هو ذلك الفاعل المقدر، لا ضميره، والتقدير: ولن يَنْفَعَكُمْ ظلمُكُم أو جُحُودكم إذْ ظَلَمْتُمْ.
الخامس: أن العامل في إذْ ما دل عليه المعنى كأنه قال: ولكن لن ينفعكم اجتماعُكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ. قاله الحَوْفيُّ. ثم قال: وفاعل ينفعكم الاشتراك انتهى.
وظاهر هذا متناقض، لأنه جعل الفاعل أولاً اجتماعكم ثم جعله أخِراً الاشتراك. ومنع أن يكون» إذْ «بدلاً من» اليوم «لِتَغَايُرِهما في الدَّلالة.
وفي كتاب أبي البقاء: وقيل: إذْ بمعنى» إنْ «أي إن ظلمتم. ولم يقيدها بكونها(17/266)
أَن بالفتح أو الكسر. ولكن قال أبو حيان:» وقيل: إذ للتعليل حرف بمعنى أَنْ، يعني بالفتح. وكأنه أراد ما ذكره أبو البقاء إلا أن تسميته «أَنْ» للتعليل مجازاً، فَإِنَّها على حذف حرف العلة أي لأَنْ، فلمصاحبتها لها والاستغناء بها عنها سمَّاها باسمها. ولا ينبغي أن يعتقد أنها في كتاب أبي البقاء بالكسر على الشرطية، لأن معناه بعيدٌ.
وفي كتاب مجاهِدٍ: أن ابن عامر قرأ: إنكم بالكسر، على الاستئناف المفيد للعلة وحينئذ يكون الفاعل مضمراً على أحد التقادير المذكورة.
فصل
المعنى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم} في الآخرة «إذْ ظَلَمْتُمْ» أشركتم في الدنيا {أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} أي لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم؛ لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحَظَّ الأوفر من العذاب. وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليومَ، فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب، كما كنتم في الدنيا تشتركون. واعلم أنه تعالى بين أن الشركة في العذاب لا تفيد التخفيف، كما كان يفيده في الدنيا، والسبب فيه وجوه:
الأول: أن ذلك العذاب الشديد عظيم، واشتغال كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر، فلا جَرَمَ لم تفد الشركة خفةً.
الثاني: إذا اشترك الأقوام في العذاب، أعان كل واحد منهم صاحبه بما مقدر عليه ليحصل بسببه بعض التخفيف. وهذا المعنى متبدّد في القيامة.
الثالث: أن جلوس الإنسان مع قرينه يُفيده أنواعاً كثيرة من السلوة. فبين تعالى أن الشيطان وإنْ كَانَ قريناً له، إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقوبة؟
قوله (تعالى) : {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي ... } لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم في هذه الآية بالصمَمِ والعَمَى. وما أحسن هذا الترتيب، وذلك أن الإنسان في أول اشتغاله يطلب الدنيا يكون كمن حصل بعينه رَمدٌ ضعيف، ثم لما كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثر كان مَيْلُهُ إلى الجُسمانيَّات أشد، وإعراضه عن الروحانيات أكمل؛(17/267)
لأن كثرة المواظبة على الشيء توجب حصول الملكة اللاَزمة لينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى، فإذا واظب على تلك الحال انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى.
روى أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، كان يجتهد في دعاء قومه، وهم لايزيدون إلا تصميماً على الكفر وعِناداً في الغي فقال الله تعالى: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي} بمعنى أنهم في النفرة عنك وعن دينك بحيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصُّمِّ، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمي.(17/268)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
قوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} قد تقدم الكلام عليه قريباً، والمعنى فَإِمَّا تَذْهَبَنَّ بك بأَنْ نُمِتَكَ قبل أن تعذبهم {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} بالقتل بعدك، {أَوْ نُرِيَنَّكَ} في حياتك {الذي وَعَدْنَاهُمْ} من العذاب، {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} قادرون متى نشاء عذبناهم وأراد به مشركي مكة، انتقم منهم يوم بدر هذا قول أكبر المفسرين. وقال الحسن وقتادة: عَنَى به أهل الإسلام من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد كان بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نقمة شديدة في أمته فأكرم الله تعالى نبيه وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي تَقَرُّ عينه، وأبقى النقمة بعده وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُرِيَ ما يصب أمَّتَهُ بعده فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله تعالى. وقرىء «نُرَِنْكَ» بالنون الخفيفة.
قوله تعالى: {فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ} العامة على أوحي منبياً للمفعول مفتوح الياء وبعض قراء الشام سكنها تخفيفا، والضحاك: مبنياً للفاعل وهو الله تعالى.
فصل
لما بين له ما يوجب التسلية أمره أن يتمسك بما أمره الله تعالى به فاستمسك بالذي أوحي إليك بأن تعتقد أنه حق، وبأن تعمل بموجبه، فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضالّ في الدين. ولما بين تأثير التمسك بهذا الدين في منافع الآخرة بين(17/268)
أيضاً تأثيره في منافع الدنيا فقال: {وإنه لذكر لك ولقومك} أي أنه يعني القرآن «لذكر لك» لشرف لك «ولقومك» من قريش نظيره: «لقد أنزلنا إليكم كِتَابَ فِيه ذِكْرُكُمْ» شرفكم وأنه يوجب الشرف العظيم لك ولقومك، حيث يقال: إن هذا الكتاب العظيم أنزله الله عَزَّ وَجَلَّ لقوم من هؤلاء.
وهذه الآية تدل على أن الإنسان لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن الذكر الجميل أمراً مرغوباً فيه لما مَنَّ اللهُ تعالى به على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {إنه لذكر لك ولقومك} وَلَم طلبه إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حيث قال: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84] ولأن الذكر الجميل قائمٌ مقامَ الحياة الشريفة، بل الذكر أفضل من الحياة؛ لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في مسكن ذلك الحي، وأما أثر الذكر الجميل فإن يحصل في كل زمان وكل مكان ثم قال تعالى: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} قال الكلبي: تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل. وقال مقاتل: يقال لمن كذب به: لِمَ كَذَّبْتَ؟ فيسأل سؤال توبيخ.
وقيل: تسألون هل علمتم بما دل عليه القرآن من التكاليف. وروى الضحاك عن أبي عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) ، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا سئل لمن هذا الأمر؟ لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك؟ قال لقُرَيْشٍ.
وروى ابن عُمَر (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لاَ يَزَالُ هذَا الأَمْرُ في قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ اثْنَانِ» وروى معاوية قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إن هذا الأمر في قرَيْش لا يعاديهم أحدٌ إلا كبّه الله عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ» وقال مجاهد: القوم هم العرب، فالقرآن لهم شرف، إذْ نَزَل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب ثم يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم.
وقيل: ذكر لك بما أعطاك من الحكمة، ولقومك من المؤمنين، بما هداهم الله به، وسوف تسألون عن القرآن، وعما يلزمكم من القيام بحقه.(17/269)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا} فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أن من موصولة، وهي مفعولة للسؤال، كأنه قيل: وأسْأَل الذي أرسلناهُ من قبلك عَمَّا اُرْسِلُوابه، فإنهم لم يرسلوا إلا بالتوحيد.
الثاني: أنه على حذف حرف الجر على أنه المسؤول عنه والمسؤول الذي هو المفعول الأول محذوف تقديره واسْأَلْنَا عَمَّنْ أَرْسَلْنَاهُ.
الثالث: أن من استفهامية، مرفوعة بالابتداء، و «أرسلنا» خبره والجملة معلقة للسؤال فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض.
وهذا ليس بظاهر بل الظاهر أن المعلق للسؤال إنما هو الجملة الاستفهامية من قوله: «أَجَعَلْنَا» .
فصل
اختلف في هؤلاء المسؤولين، فروى عطاء عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) قال: «لما أُسْرِيَ بالنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المسجد الأقصى بعث له آدم وولده من المرسلين فَأّذَّنَ جبْريلُ ثم أقام وقال: يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل: سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا ... الآية. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا أسأل قد اكتفيت، وليست شَاكاً فيه» وهذا قول الزهري، وسعيد بن جبير، وابن زيد؛ قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم، فلم يسأل ولم يشك.(17/270)
وقال أكثر المفسرين: سَلْ مُؤْمِني أهْلِ الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد، وهو قول ابن عباس في سائر الروايات ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن، ويدل عليه قراءة عبد الله وأبي: واسأل الذين أرسلنا إليهم قَبْلَك مِنْ رُسُلِنَا ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسوله بعبادة غير الله عَزَّ وَجَلَّ.
وقال عطاء سؤال الأنبياء الذين كانوا قبله ممتنع، فكأن المراد منه: انظر في هذه المسألة بعقلك وتدبرها بفهمك.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى} لما طعن كفار قريش في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكونه فقيراً، عديم المال والجاه بين الله تعالى أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعد أن أورد المعجزاتِ القاهرة التي لا يشك في صحتها عاقل، أورد عليه فرعونُ هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال: إنه غَنِيٌّ كثيرُ المالِ والجاهِ، ألا ترون أني حصل لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، وأما موسى فإنه فقير مهين، وليس له بيانٌ ولسان، والرجل الفقير كيف يكون رسولاً من عند الله الملك الكبير؟! .
فثبت أن هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش بمكة، وهي قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] قد أوْرَدَهَا بعينها فرعون على موسى «ثم انتقمنا منهم فأغرقناهم» : فيكو الأمر ف يحق أعدائك هكذا.
فثبت أنَّه (ليس) المقصود من أعادة هذه القصة عينها، بل المقصود تقرير الجواب عن الشبهة المذكورة.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} قال الزمخشري: فَإِن قلت: كيف جاز أن يجاب لَمَّا بإذا المفجأة؟! .
قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدر، وهو عامل النصب في محلها، كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فأجَأُوا وَقْتَ ضَحِكِهِمْ. قال أبو حيان: ولا نعلم نحوياً ذهب إلى ما ذهب إليه من أن «إذا» الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر، تقديره: فاجأ، بل المذاهب ثلاثة:(17/271)
إما حرف فلا يحتاج إلى عامل، أو ظرف مكان، أو ظرف زمان. فإن ذكر بعد الاسم الواقع بعدها خبر، كانت منصوبة على الظرف والعامل فيها ذلك الخبر. نحنو: خَرَجْتُ فَإذَا زَيْدٌ قَائِمٌ تقديره: خَرَجْتُ ففي المكان الذي خرجت فيه زيدٌ قائمٌ، أو ففي الوقت الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ.
وإن لم يذكر بعد الاسم خبر، أو ذكر اسم منصوب على الحال، فإن كان الاسم جُثَّة، وقلنا: إنها ظرف مكان، كان الأمر واضحاً، نحو: خَرَجْتُ فَإِذَا الأَسَدُ، أي فَبالحَضرَةِ الأَسَدُ، أوة فَإِذَا الأَسَدُ رابضاً. وإن قلنا: إنها زمان كان على حذف مضاف، لئلا يخبر بالزمان عن الجثة، نحو: خَرَجْتُ فَإذَا الأَسَدُ، أي ففي الزمان حُضُور الأَسَدِ، وإنْ كَان الاسم حَدَثاً جاز أن يكون مكاناً أو زماناً. ولا حاجة إلى تقدير مضاف نحو: خَرجْتُ فَإذَا القِتَالُ. إن شئت قدرت: فبالحَضْرَة القتالُ، أو ففي الزمانِ القتالُ.
قوله: {إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ} جملة واقعة صفة لقوله: «مِنْ آيَةٍ» فنحكم على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ، وبالنصب اعتباراً بالمحلِّ. وفي معنى قوله: «أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا» أوجه:
أحدها: قال ابن عطية: هم أنهم يستعظمون الآية التي تأتي لجدَّة أمرها وحدوثه، لأنهم أَنِسُوا بتلك الآية السابقة فيعظُم أمرُ الثانية ويكبرُ وهذا كقول الشاعر:
4409 - عَلَى أَنَّها تَعْفُو الكُلُومَ وَإِنَّمَا ... تُوَكَّلُ بالأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا بَمْضِي
الثاني: قيل: إن المعنى إلا هي أكبر من أختها السابقة، فحذف الصفة للعلم بها.(17/272)
الثالث: قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: هو كلام مناقض؛ لأن معناه ما من آية من التِّسْع إلا وَهِيَ أكبر من كل واحدة، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة.
قلْتُ: الغرض بهذا الكلام وصفين بالكِبَر، لا يَكَدنَ يَتَفَاوَتْنَ فيه وكذلك العادة في الأشياء التي تتقارب في الفضل التقارب اليسير تختلف آراء الناس في تفصيلها، فبعضهم يفضل هذا وبعضهم يُفَضِّل هذا، وربما اختلف آراء الواحد فيها، كقول الحماسي:
4410 - مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لآقَيْتَ سَيِّدَهُمْ ... مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يُهْدَى بِهَا السَّارِي
وقالت الأنبارية في الجملة من أبنائها: ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْتُ أعْلَمُ أَيُّهُمْ أَفْضَلُ، هُمْ كَالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لَ يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا.
انتهى كلامه.
وأوله فظيع جداً، كأن العبارات ضاقت عليه حتى قال ما قال، وإن كان جوابُهُ حسناً فسُؤاله فظيع.
فصل
ذكر أنه تعالى أرسل موسى بآياته، وهي المعجزات التي كانت من موسى إلى فرعون وملئه أي قومه فقال موسى: « {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين} . فَلَمَّا جَاءَهُ بتلك الآيات {إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} استهزاء قيل: إنه لما ألقى عصاه صار ثعباناً، ثم أخذه فصار عصاً كمما كان فضحكوا. ولما عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا.(17/273)
ثم قال: {وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها وَأَخَذْنَاهُمْ بالعَذَابِ أي بالسنين والطوفان، والجراد والقمل والضفادع والدم والطَّمس، فكانت هذه دَلالات لموسى وعذاباً، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن الكفر إلى الإيمان.
قالت المعتزلة: هذا يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فإنه إنما أظهر تلك المعجزات القاهرة لإرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان.
قوله: {وَقَالُواْ يا أيها الساحر} تقدم الكلام فيه في النور، والمعنى أنهم لما عاينوا العذاب قالوا لموسى أيها السَّاحرُ، أي يا أيها الكامل الحاذق، وإنما قالوا هذا توقيارً وتعظيماً؛ لأن السحر عندهم كان علماً عظيماً، وصفةً محمودةً.
وقيل: معناه» يا أيها الذين عَلَبَنَا بسحره «. وقال الزجاج: خاطبوه به لما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر.
فإن قيل: كيف سَمَّوهُ بالساحر مع قولهم: إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ؟! .
فالجواب من وجوه:
الاول: أنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً، لأنهم يستعظمون السحر وكما يقال في زماننا في العمل العجيب الكامل: إنه أتى بالسحر.
والثاني: أيُّهَا السَّاحِر في زعم الناس، ومتعارف قوم فرعون، كقوله: {وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه.
الثالث: أن قولهم: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} وقد كانتوا عازمين على خلافه، ألا ترى إلى قوله {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} فتسميتهم إياه بالساحر لا ينافي قوله: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} .
قوله: {ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بما أخبرنا عن عهده إليك إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله يكشف عنا إننا لمهتدون مؤمنون فدعا موسى فكشف عنهم، فلم يؤمنوا فلذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي نكثوا ذلك العهد، يعني يَنْقُضُونَ عَهدَهُمْ ويُصرون على كفرهم.
قوله تعالى: {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} لما ذكر معاملة قوم فرعون مع موسى ذلك أيضاً معاملة فرعون معه. فقال {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} أي أظهر هذا القول. {قَالَ يا(17/274)
قوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا} أي أنهار النيل ومعظمها نهر الملك، ونهر طُولون، ونهر دِمياط، ونهر تنيس. قيل: كانت تجري تحت قصره وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله، وقوة جاهه على فضيلة نفسه.
ثم قال: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} من تحت قصري. وقال قتادة: تجري من بين يدي في جناني وبستايني، وقال الحسن: بأمري أفلا تبصرون عظمتي وشدة ملكي. وقيل من ملك القِبْطَ يسمى فرعون، ومن ملك اليهود يسمى قبْطون والمعروف مالخ، ومن ملك الصابئة يسمى نُمرود، ومن ملك البربر يسمى جالوت، ومن ملك الهند يسمى بهمن، وقيل يعفور، ومن ملك فرغانة يسمى الإخشيد، ومن ملك العرب من قبل العجم يسمى النعمان.
قوله: {وهذه الأنهار تَجْرِي} يجوز في «وهذه» وجهان:
أحدهما: أن تكون مُبْتَدَأَةً، والواو للحال، و «الأنهار» صفة لاسم الإشارة، أو عطف بيان و «تَجْرِي» الخبر والجملة حال من ياء «لِي» .
والثاني: أن هذه معطوفة على «مُلْكِ مِصْرَ» و «تجري» على هذا حال أي أليس ملك مصر وهذه الأنهار جارية؟! أي الشيئان.
قوله: «تبصرون» العامة على الخطاب لمن ناداهم، وقرأ عيسى بكسر النون أي تُبًصِرُونِي وفي قراءة العامة المفعول محذوف أي تبصرون مُلْكِي وعَظَمَتِي.
وقرأ فَهْدُ بْنُ الصَّقْر: يُبْصِرُونَ بياء الغيبة، إما على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وإما رداً على قوم موسى.
قوله: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ} في أم هذه أقوال:
أحدها: أنها منقطعة، فتقدر ب «بَلْ» التي لإضراب الانتقال، وبالهمزة التي للإنكار.
والثاني: أنها بمعنى بل فقط، كقوله:(17/275)
4411 - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رُوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُورَتُهَا أَمْ أَنْتِ فِي العَيْنِ أَمْلَحُ
أي بل أنت.
الثالث: أنها منقطعة لفظاً متصلة معنى. قال أبو البقاء: «أم هنا منقطعة في اللفظ لوقوع الجملة بعدها في اللفظ، وهي في المعنى متصلة معادلة؛ إذ المعنى أنا خير منه أم لا؟ وأينا خير؟» وهذه عبارة غريبة أن تكون منقطعة لفظاً متصلة معنى وذلك أنهما مَعْنيَانِ مختلفان، فَإِنَّ الانقطاع يقتضي إضْراباً إما إبْطالاً، وإِما انتقالا.
الرابع: أنها متصلة، والمعادل محذوف، تقديره: أَمْ تُبْصِرُونَ؟ وهذا لا يجوز إلا إذا كانت «لا» بعد «أم» ، نحو: أتقوم أم لا؟ أي أم لا تقوم، وأزيد عندك أم لا؟ أي أم لا هو عندك أما حذفه دون معادل فلا يجوز. وقد جاء حذف «أم» مع المعادل، وهو قليل جداً، قال الشاعر:
4412 - دَعَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِني لأَمْرِهَا ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا؟
أي أم غيّ.
ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذه هي أم المعادلة، أي أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يُبْصَر عنده وهو أنه خير من موسى.
قال: وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال: أم هذه متصلة؛ لأن المعنى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أمْ تُبْصِرُونَ؟ إلا أنه وضع قوله: «أنا خير» موضع «تبصرون» لأنهم إذا قالوا: أنت خير(17/276)
فَهُمْ عنده بصراء، وهذا من إنزال السبب منزلة المُسَبَّب.
قال أبو حيان: وهذا متكلف جداً، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق فإن كان المعادل جملة فعلية، كان السابق جملة فعلية، أو جملة إسمية يتقدر منها جملة فعلية، كقوله: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] ؛ لأن معناه أو صمتُّم وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية لأن قَوْلَهُ: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ} ليسي مقابلاً لقوله: أفَلا تُبْصِرُونَ، وإن كان السابق اسماً كان المعادل اسماً أو جملة فعلية يتقدر منها اسم نحو قوله:
4413 - اَمُخْدَجُ اليَدَيْنِ أَمْ أَتَمَّتِ؟ ... «فأتمت» معادل للاسم والتقدير: أم مُتِمًّا؟ .
قال شهاب الدين: وهذا الذي رده على الزمخشري رده على سيبويه، لأنه هو السابق به وكذا قوله أيضاً: إنه لا يحذف المعادل بعد «أم» وبعدها «لا» فيه نظر في تجويز سيبويه حذف المعادل دون لا فهو رد على سيبويه أيضاً.
قوله: «ولا يكاد يبين» هذه الجملة يجووز أن تكون معطوفة على الصلة وأن تكمون مستأنفة وأن تكون حالاً. والعامة على يُبِينُ من أَبَانَ، والباقون: يَبِينشُ بفتح الياء من بَانَ أي ظَهَرَ.
فصل
قال أكثر المفسرين: «أم» هنا بمعنى «بل» وليس بحرف عطف. قال الفراء: الوقف على قوله أم وفيه إضمار مجارز (هـ) أفلا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ؟ لكنه اكتفى بلفظ «أم»(17/277)
كما تقول لغيرك: «أَتَأْكُلُ أَمْ» أي أَتَأْكُلُ أَمْ لاَ تَأْكُلُ؟ لكنك تقتصر على كلمة أم اقتصاراً.
قال أبو عُبَيْدَة: معناها بل أنا خير، وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله: أفلا تبصرون. ثم ابتدأ فقال: أم أنا خير، يعنى بل أنا خير. وقال الباقون أم هذه متصلة، لأن المعنى أفلا تُبْصرُونَ أَمْ تُبْصُرونَ؟ إلا أنه وضع قوله: «أنا خير» موضع: «تبصرون» ، لأنهم إذا قالوا له: أََنْتَ خَيْرٌ فَهُمْ عِنْدَهُ بُصَراءُ.
قوله: {مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ} أي ضعيف حقير يعني موسى {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} أَيْ يُفْصِحُ لسانُهُ لرُتّةٍ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ.
فإن قيل: أليس أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سئأل الله أن يُزيل الرُّتةَ عن لسانه بقوله: {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} [طه: 27، 28] فأعطاه الله ذلك بقوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36] فكيف عابه فرعون بتلك الرُّتةِ؟! .
فالجواب من وجهين:
الأول: أن فرعون أراد بقوله: «ولا يكاد يبين» حجته التي تدل على صدقه، ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام.
والثاني: أنه عابه بما كان عليه أولاً، وذلك أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مكث عند فرعون زماناً طويلاً، وكان في لسانه حبسة فنسبه فرعون إلى ما عهد عليه من الرُّتةِ؛ لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عَنْهُ.
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ} قرأ حفص أَسْوِرَةٌ كأَحْمِرةٍ. والباقون أَسَاوِرَة، فأسورة جمع «سِوَارٍ» كحِمَارٍ، وأَحْمِرَةٍ، وهو جمع قلة. وأَسَاوِرَةٌ جمع إِسْوَار بمعنى سُوار، يقال: سوارُ المرأةِ، وأَسْوَارُهَا. والأصل أَسَاوِير بالياء، فعوض من حرف المد تاء التأنيث، كبطريقِ وبَطَارِقَةٍ، وزِنْدِيقٍ وزَنَادِقَةٍ.(17/278)
وقيل: بل هي جمع أَسْوِرَة فهي جمع الجمع. وقر أبي والأعمش وتروى عن أبي عمرو أَسَاوِرُ دون تاء. وروي عن أبي أيضاً وعبد الله: أَسَاوِير. وقرأ الضحاك: أَلْقَى مبنياً للفاعل، أي الله تعالى وَأَسَاوِرَةً نصباً على المفعولية و «مِنْ ذَهَبٍ» صفة لأساورة. ويجوز أن تكون «من» الداخلة على التمييز.
فصل
ومعنى الكلام أن عادتهم جرت بأنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوّره بسوار من ذهب وطَوَّقُوه بطَوْق من ذهب، فطلب فرعون من موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مثل عادتهم، وحاصل الكلام أن فرعون كان يقول: أنا أكثر منه مالاً وجاهاً فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولاً من عند الله لأن منصب النوبة يقتضي المَخْدُوميَّةَ، والأخسَ لا يكون مخدوماً للأشرف ثم قال: {أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} متتابعين يعاون بعضهم بعضاً يشهدون له بصدقه ويُعِينُونَهُ على أمره ويجوز أن يكون المراد مقترنين به من قولك: قَرَنْتُهُ بِِهِ.
قوله تعالى: {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أي وجدهم جُهَّالاً فحملهم على الخفة والجهل، يقال: استخفه عن رأيه، إذا حمله على الجهل وأزاله عن الصوةاب «فَأَطَاعُوهُ» على تكذيب موسى، {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} حين أطاعوا ذلك الفاسق الجاهل.
قول: {فَلَمَّآ آسَفُونَا} أغضبونا حُكي أن ابن جُرَيْج غضب في شيء فقيل له: أتغضب يا أبا خالد؟ فقال فقد غضب الذين خلق الأحلام إن الله تعالى يقول: {فَلَمَّآ آسَفُونَا} أي أغضبونا {انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} واعلم أن ذرك لفظ الأسف في حق الله تعالى، وذكر لفظ الانتقام كل واجد منهما من المتشابهات التي يجب تأويلها فمعنى الغضب في حق الله تعالى إرادة الغضب ومعنى الانتقام أرادة العقاب بجُرم سابق.(17/279)
وآسَفُونَا منقول بهمزةِ التعديةِ من أَسِفَ بمعنى غضب، والمعنى: أغضبونا بمخالفتهم أمْرَنَا. وقال بعض المفسرين معناه: «أَحْزَنُوا أَوْلِيَاءَنَا» .
قوله: «فجعلناهم سلفاً» قرأ الأخوان سُلُفاً بضمتين، والباقون بفتحتين، فأما الأولى فتحتمل ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه جمع سَليفٍ، كرَغِيفٍ، ورُغُفٍ، وسمع القاسم بن معن من العرب معنى سَليف من الناس والسيلفُ من الناس كالغَرِيقِ منهم.
والثاني: أنها جمع ساَلِف، كَصَابرٍ، وصُبُرٍ.
الثالث: أنها جمع سَلَفٍ كَأَسَدٍ وأُسُدٍ.
والثانية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون جمعاً لسَالفٍ، كحَارِسٍ وحَرَسٍ، وخَادِمٍ وخَدَمٍ، وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير، إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فَعَلٍ.
والثاني: أنه مصدر يطلق على الجماعة، تقول: سَلُفُ الرَّجُلُ يَسْلُفُ سَلَفاً أي تقدم، والسلف: كُلُّ شَيْءٍ قَدَّمْتَهُ من عمل صالحٍ، أو قرضٍ فهو سَلَفٌ، وسَلَفُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ المتقدمون، والجمع أَسْلاَفٌ وسُلاَّفٌ قال طفيل:
4414 - مَضَوْا سَلَفاً قَصَدَ السَّبِيلُ عَلَيْهِم ... صُرُوفُ المَنَايَا بِالرِّجَالِ تَقَلَّبُ
وقرأ عليٌّ مُجَاهِدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما سُلَفاً بضم السين. وفيه وجهان:(17/280)
أشهرهما: أنه جمع سُلْفَةٍ كغُرْفَةٍ وغُرَفٍ. والسُّلْفَة الأُمَّةُ.
وقيل: الأصل سُلُفاً بضمتين، وإنَّما أبدل من الضمة فتحة.
وقوله: «مَثَلاً» إما مفعول ثان إن كانت بمعنى صير، وإلاَّ حالاً. قاق الفراءُ والزجاجُ: جعلناهم متفرقين ليتعظ بهم الآخرون، وهم كفار أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى ومثلاً للآخرِينَ أي عِظة لمن بقي بعدهم وعبرة.
قال أبو علي الفارسي: المَثَلُ واحد يراد به الجمع، ومن ثم عطف على سلف والدليل على وقوعه (على) أكثر من واحد قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} [النحل: 75] . فأدخل تحت المَثَل شَيْئَيْن وقيل: المعنى سلفاً لفكار هذه الأمة إلى النار، ومثلاً لمن يجيء بعدهم.(17/281)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا} اعلم أنه تعالى ذكر أنواعاً كثيرة من كفراناتهم، فأولها: قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] .
وثانيها: قوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] .
وثالثها: قوله: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] .
ورابعها: قوله: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .(17/281)
وخامسها: هذه الآية: وليس في لفظها ما يدل على أن ذلك المثللا أي شيء كان والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً:
أشهرها: قال ابن عباس وأكثر المفسرين: نزلت الآية في مجادلة عبد الله بن الزِّبَعْرى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شأن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما نزل قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] كما تقدم في سورة الأنبياء.
والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلاً، وجادل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعبادة النصارى إياه «إِذَا قَوْمُكَ» من قريش «مِنْهُ» أي من هذا المثل «يَصِدُّونَ» أي يرتفع لهم ضجيج فرحاً بسبب مارأوا من سكوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصْمَيْن إذا انقطع، أظهر الخصْمُ الثاني الفرحَ والضَّجيجَ.
وقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إِلَهاً لأنفسهم قالت كفار قريش: إن محمداً يريد أن يجعل نفسه لنا إلهاً كما جعل النصارى المسيح إِلَهاً لأنفسهم فعند هذا قالوا: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} فعند ذلك قالوا: إن محمداً يدعونا لعبادة نفسه وآباؤنا زعموا أنه يجبُ عبادة هذه الأصنام وإذا كان لا بد من عبادة أحد هذين فعبادة الأصنام أولى؛ لأن آبائنا وآسلافنا أجمعوا على ذلك، وأما محمد فإنه متهمٌ في أمرنا بعبادته. ثم إنه تعالى لم يقل: إن عبادة المسيح طريق حسن، بل هو كلام باطل، وأن عيسى ليس إلا عبداً أنْعَمْنَا عَلَيِْ فزالت شبهتهم في قولهم: إن محمداً يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه.
وقيل: إن الكفار لما رأوا النصارى يعبدون عيسى قالوا إذا عبد النصارى عيسى فآلهتنا خير من عيسى فعبدوال الملائكة.
قوله: «يَصُدُّونَ» قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويصدون بضم الصاد والباقون بكسرها، فقيل: هما بمعنى واحد. وهو الصحيح واللفظ، يقال: صَدَّ يَصُدذُ ويَصِدُّ كَعَكَفَ يَعْكُفُ ويَعْكِفُ وعَرَشَ يَعْرُشُ وَيَعْرِشُ.
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يضْجَرون. وقال سعيد بن المسيب:(17/282)
يصيحون. وقال الضحاك: يعِجُّون. وقال قتادة: يجْزَعون، وقال القُرَظِيُّ: يضجرون. وقيل: الضَّم من الصّدود وهو الإعراض وقد أنكر ابن عَبَّاس الضم، وقد روي له عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وهذا واللهُ أَعْلَمُ قبل بلوغه تواتره.
قوله تعالى: {وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ} قرأ أهل الكوفة بتحقيق الهمزة الثانية والباقون بتسهيلها بين بين. ولم يدخل أحدٌ من القراء الذين من قاعدتهم الفصل بين الهمزتين بألفٍ أَلِفاً كراهة لتوالي أربع مُتَشَابِهَاتٍ. وأبدل الجميع الهمزة الثانية ألفاً، ولا بد من زيادة بيان، وذلك أن آلهة جمع إله كعِمَادٍ، وأَعْمِدَةٍ، فالأصْل أَأْلهةٌ، بهمزتين الأولى زائدة، والثانية فاء الكلمة، وقعت الثانية ساكنةً بعد مفتوحة فوجب قلبُها ألفاً «كَآمَنَ وبابِهِ» ، ثم دخلت همزة الاستفهام على الكل فالتقى همزتان في اللفظ، الأول للاستفهام، والثانية همزة «أَفْعِلَةٍ» فالكوفيون لم يعتدوا باجتماعهما، فأبقوهما على ما لَهُما، وغيرهم استثقل فخفف الثانية بالتسهيل بين بين، والثالثة ألف محضة لم تغير البتَّةَ. وأكثر أهل العصر يقرأون هذا الحرف بهمزة واحدة بعدها ألف على لفظ الخبر ولم يقرأ به أحدٌ من السبعة فيما علمنا إلا أنه قد روي أن وَرْشاً قرأ كذلك في رواية أبي الأَزهَر وهي تحتمل الاستفهام كالعامة. وإنما حذف أداة الاستفهام لدلالة أم عليها، وهو كثير. ويحتمل أنه قرأة خبراً محضاً وحينئذ تكون أم منقطعة تقدر ببل والهمزة وأما الجماعة فهي عندهم متصلة. فقوله:: «اَمْ هُوَ» على قراءة العامة عطف على «آلهتنا خير» وهو من عطف المفردات، والتقدير: أَاَلهتنا أَمْ هُوَ خَيْرٌ؟ أي أيهما خير؟ وعلى قراءة ورش يكون هو(17/283)
مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: بل أهُوَ خَيْرٌ. وليست «أمْ» حنيئذ عاطفةً.
فصل
قال قتادة معنى قوله: «أمْ هُو» يعنون محمداً فنعبده ونترك آلهتنا. وقال السدي وابن زيد: أم هو يعني عيسى قالوا يزعم محد أن كل ما عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير، والملائكة في النار، قال الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ} يعني هذا المثل: «لَكَ إلاَّ جَدَلاً» أي خصومة بالباطل، فقد علموا أن المراد من قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] هؤلاء الأصنام {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} مبالغون في الخُصُومَة. روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «مَا ضَلَّ قوم بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْه إلاَّ أُوتُوا الجَدَل» ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} .
قوله: «جَدَلاً» مفعول من أجله، أي لأجل الجدل والمِرَاء، لا لإظهار الحق، وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي إلا مُجَادِلين. وقرأ ابن مقسِم: جِدَالاً والوجهان جاريان فيه. والظاهر أن الضمير في «هو» لعيسى كغيره من الضمائر. وقيل: هو للنبيّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وبكُلِّ قال به المفسرون كما تقدم.
فصل
تمسك القائلون بذم الجدل بهذه الآية، والآيات الكثيرة دالة على مدح الجدل فالتوفيق بينهما أن تًصْرَفَ الآيات الدالة على مدح الجدل إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق وتصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل.
قوله (تعالى) : {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ} أي ما هو يعني عيسى «إلاَّ عَبْدٌ» كسائر العبيد «اَنْعَمْنَا عَلَيْه» حيث جعلناه آية، بأن خلقناه من غير ذكَرٍ كما خلقنا آدم، وشرفناه بالنبوّة «وَجَعَلْنَاه مَثَلاً» أي آية وغيره «لِبَنِي إسْرَائِيلَ» يعرفون به قدرة الله على ما يشاء حيث خقله من غير أبٍ {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} أي لو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلاً منكم(17/284)
ملائكة {فِي الأرض يَخْلُفُونَ} أي يكونون خلفاً منكم يَعْمُرونَ الأرض، ويعبدونني ويطيعوني. وقيل: يخلف بعضُهم بعضاً.
قوله: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} في مِن هذه أقوال:
أحدها: أنها بمعنى بدل أي لجعلنا بَدَلَكُمْ كما تقدم في التفسير، ومنه أيضاً {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] أي بدلها. وأنشد (رَحْمَةُ اللهِ عليه) :
4415 - أَخَذُوا المَخَاضَ مِنَ الفَصِيلِ غُلُبَّةً ... ظُلْماً وَيُكْتَبُ للأَمِيرِ إفَالاً
وقال آخر:
4416 - جَارِيَةٌ لَمْ تَأكُل المُرَقَّقَا ... وَلَمْ تّذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا
والثاني: هو المشهور: أنها تبعيضية. وتأويل الآية لولدنا منكم يا رجالُ ملائكةً في الأرض يَخْلُفُونَكُمْ كما تخلفُكُمْ أولادكم، كما ولدْنا عيسى من أنثى دونَ ذكر. ذكره الزمخشري.
والثالث: أنها تبعيضية قال أبو البقاء وقيل: المعنى لَحَوَّلْنَا بعضَكُمْ ملآئكة.
قوله: «وَإِنَّه لعِلْمٌ» المشهور أن الضمير «لِعِسى يعني نزوله آخر الزمان، وقيل الضمير للقرآن، أي فيه علم الساعة وأهوالها، أو هوعلامة على قربها ومنه {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] {اقتربت الساعة} [القمر: 1] ومنه:» بُعثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ «والعامة على» عِلْم «مصدراً جعل علْماً مبالغة، لمَّا كان به يحصل العلم، أو(17/285)
لما كان شرطاً يعلم به ذلك أطلق عليه علم. وابنُ م عباس وأبُو هيريرة وأبو مَالِكٍ الغفاريّّ وزيد بن علي لَعَلَمٌ، بفتح العين والفاء أي لشرطٌ وعلامةٌ. وقرا أبو نَضْرَةَ وعِكْرمةُ كذلك إلا أنَّهما عرَّفا باللام فقرآ لَلْعِلْمُ أي للعَلاَمةُ المَعْرُوفَةُ.
فصل
معنى الآية أن نزول عيسى من أشراط الساعة يعلم بها قربها، قال عليه الصلاة ولاسلام:» لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَادِلاً يَكْسرُ الصَّلِيبَ ويَقْتُلُ الْخِنزِير، وَيَضَعُ الجِزْيَةَ، وتَهْلِكُ فِي زَمَانِهِ المِلَلُ كُلُّهَا إلاَّ الإسْلاَمَ «ويروى: أنه ينزل على ثنيّة بالأرض المقدسة يقال لها أَفِيق، وبيده حَرْبَةٌ، وعليه مُمَصَّرتَانِ، وشعر رَأسِهِ دَهِينٌ يقتل الدَّجَّالَ، ويأتي بيتَ المقدس والناس في صلاة العصر روري في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيتقدمه عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ويصلي خَلْفه على شريعة محمد صلى لله عليه وسلم ثم يقتُل الخَنَازِيرَ، ويكسرُ الصليبَ، ويخَرب البيعَ والكنائسَ ويقتل النَّصَارَى إلا من آمن به.
قوله: «فَلاَ تَمْتَرُونَّ» من المِرية وهي الشك أي لا تَشُكُّنَّ فيها. قال ابن عباس (رض يالله عنهما) لا تكذبوا بها «واتَّبِعُونِي» على التوحيد «هَذَا» الذي أنا عليه «صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ» .
«وَلاَ يَصُدُّنَّكُمْ» لا يصرفنكم «الشَّيْطَانُ» عن دين الله {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} قد بانت عداوته لكم لأجل أنه أخرج أبويكم من الجنة، ونزع عنهما لباس النور.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات} أي بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات {قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} وهي النبوة. وقيلأ: معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله(17/286)
{وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من أحكام التوراة.
قال قتادة: يعني اختلاف الفرق الذين تحزّبوا في أمر عيسى. قال الزجاج: الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.
وقيل: كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف، واتفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبين لهم الحقَّ في تلك المسائل الخلافية.
قال ابن الخطيب: وبالجملة فالحكمة معناها أصول الدين، وبعض الذي يختلفون فيه معناه فروع الدين.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ كُلَّ الذي يختلفون فيه؟
فالجواب: لأن الناس قد اختلفوا في أشياء لا حاجة لهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانُهَا. ولما بين لهم الأصول والفروع قال: «فَاتَّقُ االلهَ» من الكفر والإعراض عني دينه «وَأطِيعُوهُ» فيما أبلغه إليكم من التكاليف، {إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ، فاختلف الأحزاب} أي الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم الملكانيّة واليعقوبية والنسطورية، وقيل: اليهود والنصارى {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وهو وعيد يوم الأحزاب.
فإن قيل: الضمير في قوله «بَيْنَهُمْ» إلى من يرجع؟
فالجواب: إلى الذي خاطبهم عيسى في قوله: {قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} وهم قومه.(17/287)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ} أين أنها تأتيهم لا محالة، فكأنهم(17/287)
ينظرونها. فقوله: «أنْ تَأتِيَهُمْ» بدل من الساعة. والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. قوله: «بَغْتَة» فجأة.
فإن قيل: قوله بغتة يفيد ما يفيد قوله: «وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ» فما فائدته؟
فالجواب: يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب انَّهم يشاهدونه «.
قوله تعالى:» الأَخِلاّاءُ يَوْمَئِذٍ «مبتدأ وخبره» عَدُوٌّ «والتنوين في» يومئذ «عوض عن جملة، تقديره:» يَوْمَئِذ تأتِيهُمْ السَّاعَةُ. والعامل في يَوْمَئذٍ: تَأتِيهُمُ السَّاعَةُ والعامل في «يومئذ» لفظ «عدو» أي عَدَاوتهم في ذلك اليوم.
فصل
معنى الآية الأخلاء على المعصية في الدنيا يومَئِذٍ أي يوم القيامة {لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} يعني المتحابين في الله على طاعة الله وهم الموحدون الذين يخالٌّ بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة.
رويى أبو ثَوْرٍ عن مَعْمَر عن قتادة عن أبي إسحاقَ أنَّ عَلِياً (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: في الآية خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب إن فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخَيْر، وينهاني عن الشر، ويخبرني أني مُلاَقِيكَ يا رب، فلا تُضِلَّهُ بعدي، واهْدِهِ كما هديتني وأَكْرِمْهُ كما أكْرَمتنِي، فإذا مات خليله المؤمن جمع (الله) بينهما فيقول (الله تعالى) : ليُثْنِ أَحَدُكُمَا على صاحبه فيقول: (يا رب) نعم الأخ، ونعم الخليلُ، ونعم الصاحبُ. قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن ذاتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر، وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك فيقول: بئس الأخُ وبئس الخليلُ وبئس الصاحُب.(17/288)
قوله: يَا عِبَادي «قرأ أبو بكر عن عاصم:» يا عباديَ لاَ خَوْف «بفتح الياء. والأخوان وابن كثير وحفص بحذفها وصلاً ووقفاً. والباقون بإثباتها ساكنة. وقرأ العامة: لاَ خَوْفٌ بالرفع والتنوين إما مبتدأ وإما اسماً لها وهو قليل. وابن محَيْصِن دون تنوين على حذف مضاف وانتظاره أي لا خَوْفلَ شيءٍ. والحسنُ وابنُ أبِي إسْحَاقَ بالفتح على لا التبرئة، وهي عندهم أبلغ.
فصل
قد تقدم أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقن. وفيه أنواع كثيرة توجب الفرح:
أولها: أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطةٍ.
وثانيها: أنه تعالى وصفهم بالعبودية من غير واسطة، وهذا تشريف عظيم، بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة المعراج قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1] ٍ.
وثالثها: قوله: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فنفى عنهم الحزن بسبب فوت الدنيا الماضية.
قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا» يجوز أن يكون نعتاً لِعبَادِي، أو بدلاً منه، أو عطف بيان الله، أو مقطوعاً منصوباً بفعل أي أعْنِي الذين آمنوا.
أو مرفوعاً بالابتداء وخبره مضمر، تقديره يقال لهم: ادْخُلُوا.
فصل
قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة نداى مُنَادٍ: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم. فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رُؤوسم فيقال: {الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه ثم يقال لهم:(17/289)
{ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} تُسَرُّونَ وتُنعمُونَ والحبرةُ المبالغةُ في الإكرام على أحسن الوجوه وتقدم تفسيره في سورة الروم.
قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
قوله: «يُطَافُ عَلَيْهِمْ» قبله محذوف أي يَدْخُلُونَ (و) يُطَافُ. الصِّحَافُ جمع صَحْفَةٍ كجَفْنَةٍ وجِفَانٍ؛ قال الجوهريُّ: الصحْفَةُ كالقَصْعَةِ. وقال الكسائي: أعظلم القِصَا الجَفْنة، ثم القَصْعَة تشبعُ العشرة، ثم الصفحة تشبع الخمسة، ثم المَكِيلةَ تشبع الرجلين والثلاثة (ثم الصحيفة تشبع الرجل) . والصحيفة الكتاب والجمع صُحُفٌ وصَحَائِفُ. وأمال الكسائي في رواية بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ؟
«وأكواب» جمع كُوب، وهو إناء مستدير مدوَّر الرأس لا عُرى له. وقيل: هو كالإبريق إلا أنه عروة له. وقيل: إنه ما لا خرطوم له. وقيل: إنه لا خرطوم له ولا عروة معاً. قال الجواليقي: ليتمكن الشارب من أين شاء، فِإن العُرْوَةَ تمنع من ذلك، وقال عديّ:
4417 - مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أَبْوَابُه ... يَطُوفُ عَلَيْهِ العَبْدُ بالكُوبِ
والتقدير: وأكواب من ذهب. فقوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} إشارة إلى المطعوم، وقوله: «وَأَكْوَابٍ» إشارة إلى المشروب. ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيه الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} أي في الجنة.(17/290)
قوله: {مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} قرأ نافع وابن عامر وحفص تَشْتَهِيهِ بإثبات العائد على الموصول، كقوله: ك {الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان} [البقرة: 275] . والباقون بحذفه كقوله: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] . وهذه القراءة شبيهة بقوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] . وقد تقدم يسَ. وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها.
وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي شارح القصيدة وَهَم فسبق قلمه فكتب والهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام ثابتة في غيرهما أراد أن يكتب ثابتة في مصاحف المدينة والشام محذوفة من غيرهما فعكس. وفي مصحف عبد الله: تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّهُ الأعيُنُ بالهاء فيِهِمَا.
فصل
روي أن رجلاً قال يا رسول الله (هل) في الجنَّة خَيْلٌ؟ فإني أُحب الخيل فقال: إن يُدْخِلْكَ الله الجنة فلا تشاء أن يركبك فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فَعَلْتَ. فقال أعرابي يا رسول الله: أفي الجنة إبل؟ فإني أحب الإبل فقال يا أعرابي: إنْ أَدْخَلَك الله الجنَّة أَصَبْتَ فيها ما اشتهيت نفسك ولَذَّتْ عَيْنُك.
قوله (تعالى) {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} قد تقدم الكلام في معنى وراثة الجنة عند قوله: {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس} [المؤمنون: 1011] ولما ذكر الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} جاء في الحديث: «لاَ يَنْزعُ رَجُلٌ من الجَنَّةِ من ثَمَرةٍ إلاَّ نَبَتَتْ مكانَها مِثْلاَها» .
واعلم أنه تعالى لما بعث محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولاً إلى العرب ثم إلى العالمين، كانت العرب في ضيق شديد بسبب المأكول، والمشروب والفاكهة، فَلِهذا ذكر الله تعالى هذه المعاني(17/291)
مرة بعد أخرى تكميلاً لرغباتهم، وتقوية لدواعيهم. و «مِنْ» في قوله: «مِنْهَا تَأْكُلُونَ» تبعيضية، أو اتبدائية. وقدم الجار لأجل الفاصِلَة.(17/292)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
قوله تعالى: {إِنَّ المجرمين} أي المشركين {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} لما ذكر الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن. واحتج القاضي على القطع بوعيد الفساق بهذه الآية فقال: لفظ المجرم بتناول الكافر والفاسق، فوجب كون الكل في عذاب جهنم.
وقوله: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} و «خالدون» بدل على الخلود.
والجواب: إن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن المراد من لفظ المجرم ههنا الكافر.
فأما قبل الآية فقوله: يَا عِبَادِي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْم وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ. وهذا يدل على أن كل من آمن بآياتِ الله وكان مسلماً، فإنه يدخل تحت قَوله: «يَا عِبَادِي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْم» والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله وآياته وأسلم فوجب أن يدخل تحت ذلك الوعد، وأن يخرج من هذا الوعيد. لكن وأما بعد الآية فقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} والمراد بالحقّ ههنا إما الإسلام وإما القرآن، والرجل المسلم لا يكره الإسلام ولا القرآن. فثبت أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن المراد من المجرمين الكفار. والله أعلم.
قوله: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} جلمة حالية وكذلك {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} وقرأ عبد الله: «وَهُمْ فِيهَا» أي في النار لدلالة العذاب عليها. واعلم أنه قد تقدم أن الخلود عبارة عن طول المُكْث، ولا يفيد الدوام.
وقوله: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخفف فلا ينقص من قولهم: فَتَرَتْ عَنْهُ الحُمَّى إذا سكَنَتْ ونقص حَرُّهَا.(17/292)
وقوله: {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} والمُبْلِسُ هو اليائس الساكت سكوت يائس من فَرَجٍ.
عن الضحاك: يُعقل المجرم في تابوت من نار، ثم يُقْفَلُ عليه فيبقى خالداً لا يرى ولا يرى.
قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} العامة على الياء خبراً لكان، و «هم» إما فصل، وإمَّا توكيد، وقرأ عبد الله وأبو زَيْدٍ النحويات: الظَّالِمُونَ على أنه مبتدأ و «الظالمون» خبره والجملة خبر كان. وهي لغة تميم.
قال أبو زيد: سمعتهم يَقْرَأُونَ: {تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل: 20] بالرفع. وقال قيس بن ذُرَيْح (الشاعر)
4418 - تَحِنُّ إلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تَرَكْتَهَا ... وَكُنْتَ عَلَيْهَا بالمَلاَ أَنْتَ أَقْدَرُ
برفع «أقدر» و «أنت» فصل أو توكيد.
قال سيبويه: بلغنا أن رؤبة كان يقول: أَظُنُّ زَيْداً هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ يعني بالرفع.
فصل
احتج القاضي بقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} فقال: إن كان خلق(17/293)
فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفاهُ بقوله: {وَمَا ظَلمناهم (ولكن كانواهم الظالمين) «؟ وما الذي نسبه إلبيهم مما نفاه عنه نفسه؟ أو ليس لو أثبتناه لهم كان لا يزيد عما قوله القوم؟ فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عزّ وجلّ بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معاً فلم يكن ذلك ظلماً من الله تعالى: قلنا: عندكم القدرةُ على الظلم موجبة للظلم، وخالق تلك القدرة هو الله تعالى، وكأنه تعالى لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج من أن يكون ظلماً لهم، وذلك محال، لأن من يكون ظالماً في فعله إذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون ذلك أحق فيقال للقاضي: قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعيِّنة لأحد الطرفين؟ فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إنْ وقع لا لمرجّح، لزم نفي الصانع، وإن افتقر إلى مرجَّح عاد التقسيمُ الأول، وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله تعالى في العبد، وحينئذ يلزمك ما ألزمته علينا.
وأن كانت تلك القدرة متعينة لأحد الطرفين فحينئذ يلزمك أوردجته علينا. قال ابن الخطيب: وليس الرجل من يرى (وجه) الاستدلال فيذكره إنما الرجل مَنْ ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده، فإن رآه وارداً على مذهبه بعينه لم يَذْكره.
قوله تعالى: {وَنَادَوْاْ يامالك} العامة من غير ترخيم. وعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وعبدُ الله بن وثَّاب والأعمشُ يَا مَالِ «مرخَّماً» على لغة ينتظر المحذوف. قيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ «وَنَادَوْا يَا مَالِ» فقال: ما أشغلَ أهل النار بالترخيم، وأجيب عنه: بأنه إما حَسُنَ الترخيم لأنهم بلغوا من الضعف والنحافةِ إلى حيث لا يمكن أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها. وقرأ أبو السَّرار الغَنَوِيُّ: يَا مَالُ مَبْنِيًّا على الضم على لغة من لا ينوي.
فصل
روي ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أن أهل النار يدعون مالكاً خازن النار يقولون: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} لِيُمِتْنَا ربك فنستريح فيجيئهم مالك بعد ألف سنة «إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ» مقيمون في العذاب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يجيئهم بعد أربعين سنة وعن غيره مائة سنة.(17/294)
فصل
اختلفوا في أن قولهم: يا مالك ليقضي علينا ربك على أي الوجوه طلبوه؟ فقال بعضهم: على التمني. وقال آخرون: على وجه الاستغاثة، وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم من ذلك العقاب. وقيل: لا يبعد أن يقال: إنهم لشدة ما هم فيه نَسُوا تلك المسألة تذكرة على وجه الطلب. ثم إنه تعالى بين أن مالكاً يقول لهم: «إنكم ماكثون» وليس في القرآن متى أجابهم، هل أجابهم في الحال أو بعد ذلك بمدة؟ ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ماهو كالعلة لذلك الجواب فقال: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} والمراد نُفْرَتُهُمْ عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعن القرآن، وشدّة بغضهم لقبول الدين الحق.
فإن قيل: كيف قال: «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ» بَعْدَ مَا وَصَفُهمْ بالإبْلاَسِ؟
فالجواب: أنها أزمنةٌ متطاولة، وأحقابٌ ممتدة فتختلف بهم الأحوال فَيْسكُنُونَ أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم. روي أنه يُلْقَى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون: ادعوا مالكاً فيَدْعُونَ يا مالكُ لِيَقْضِي عَلَيْنَا رَبُّكَ.
ولما ذكر الله تعالى كيفيةَ عذابهم في الآخرة، ذكر بعده كيفية مكرهم، وفساد باطنهم في الدنيا فقال: {أَمْ أبرموا أَمْراً} أي أحكموا أمراً في المكر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعني مشركي مكة «فإنَّا مُبْرِمُونَ» محكمون أمراً في مجازاتهم أي مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون} [الطور: 42] . قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم في المكر في دار الندوة وقد تقدم في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ ... } [الأنفال: 30] الآية. قوله: «أمْ أَبْرَمُوا» أم منقطعة. والإبرام الإتقان وأصله في الفتل يقال: أَبْرَمَ الحَيْلَ، أي أتْقَنَ فَتْلَهُ وهو الفَتْلُ الثاني، والأول يقال له: سَجِيلٌ قال زهير:
4419 - لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وُجِدتُّمَا ... عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيلٍ ومُبْرَمِ
قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} السر ما حدث الرجل به(17/295)
نفسه أو غيره في مكان والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم «بَلى نسمع ذلك» و «نَعْلَمُ» رُسُلُنَا «أي الحفظة» لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ «أي يكتبون عليهم جميع أحوالهم.(17/296)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} . قوله {إِن كَانَ للرحمن} قيل شرطية على بابها، واختلف في تأويله، فقيل: إن ذلك فأنا أول من يعيده، لكنه لم يصح ألبتة بالدليل القاطع، وذلك أنه علق العبادة بكَيْنُونَة الولد، وهي محالٌ في نفسها، فكان المعلق بها محالاً مثلها. فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. ذكره الزمخشري.
وقيل: إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين أي الموحِّدِين لله، المكذبين لهذا القول.
واعلم أن هذا التأويل فيه نظر، سواء أثبتوا لله ولداً، أو لم يُثْبِتُوا له، فالرسول منكر لذلك الولد، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراص لذلك الولد، فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد. وهذا التأويل قاله الواحدي.
وقيل: العابدين بمعنى الأَنِفِين، من عَبِدَ يَعْبَدُ إذَا اشْتَدَّ أنفه فهو عَبدٌ وعَابِدٌ، ويؤيده قراءة السُّلَمِيَّ واليَمَانِيِّ: العَبِدِينَ دون ألف. وحكى الخليل قراءة غريبة وهي(17/296)
العَبْدين بسكون الباء وهي تخفيف قارءة السلمي، فأصلها بالكسر.
قال ابن عرفة: يقال: عَبِدَ بالكسر يَعْبَدُ بالفتح فهو عَبِدٌ. وقلَّ ما يقال: عابد والقرآن لا يجيء على القليل أو الشاذ يعني تخريج من قال: إن العابدين بمعنى الأَنِفِينَ لا يصح، ثم قال كقول مجاهد. وقال الفرزدق:
4420 - أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهمْ ... وَأَعْبَدُ أَنْ أَهْجُو كُلَيْباً بِدَارِم
وقال آخر:
4421 - مَتَ مَا يَشَأ ذُو الوُدِّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُ ... وَيَعْبَدْ عَلَيْهِ لاَ مَحَالَةَ ظَالِمَا
قال ابن الخطيب: وهذا التعليق أيضاً فاسد؛ لأن هذه الأنفة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل.
وقال أبو عبيدة: معناه الجاحدين، يقال: عَبَدَنِي حَقِّي، أي جَحَدَنِيهِ. وقال أبو حاتم: العَبِدُ يكسر الباء الشديدُ الغَضَب، وهو معنى حسن، أي إن كان له ولد على زعمكم فأنا أول من يغضب لذلك.
وقيل: «إنْ» نافية؛ أي ما كان ثم أخبر بقولهن: {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} أي الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له وتكون الفاء سببية. ومنع مكي أن تكون نافية. قال: «لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت، وهذا محال» . ورد عليه بأن «(17/297)
كَانَ» قد تدل على الدوام. كقوله: «وَكَانَ اللهُ غَفَوراً رَحِيماً» إلى ما لا يحصى.
والصحيح من مذاهب النحاة أنها لا تدل على الانقطاع والقائل بذلك يقول ما لم تكن قرينة كالآيات المذكورة.
وروي عن عبد الله بن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أن المعنى ما كان للرحمن ولدّ فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك، جعل «إنْ» بمعنى الجَحْد، وقال السدي معناه: ولو كان للرحمن ولد فأنا أو من عبده بذلك ولكن لا ولد له.
وتقدم الخلاف في قراءتي «وَلَد» و «ولد» في مَرْيَمَ. ثم إن تعالى نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي عما يقولون من الكذب وذلك أ، إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، وكلّ ما كان كذلك فهو لا يقبل التَّجْزِيءَ بوجه من الوجوه، والولد عبارة أن ينفصل عن الشيء جزءٌ فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله، وهذا إنما يعقل فيما تكون ذاته قابلة للتَّجْزِيء والتبعيض، وإذا كان ذلك مُحَالاً في حق إله العالم امتنع إثباتُ الولد.
ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} أي يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم {حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} يعنى يوم القيامة. والمقصود منه التهديد، يعني قد ذكرت الحجة على فساد ما ذكروا، فلم يلتفتوا إليها، لأجل استغراقهم في طلب المال والجاة، والرياسة، فاتركهم في ذلك الباطل، واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الموعود.
قوله: «يُلاَقُوا» قراءة العامة من المُلاَقَاةِ. وابنُ مُحَيْصِن ويروى عن ابن عمرو «يَلْقُوا» من «لَقِِيَ» . قوله (تعالى) : {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله} «في السماء» متعلق(17/298)
ب «إله» لأنه بمعنى معبود في السماء معبود في الأرض، وحينئذ فيقال: (إنَّ) الصلة لا تكون إلا جملة، أو ما في تقديرها وهو الظرف وعديله. ولا شيء منها هُنَا.
والجواب: أن المبتدأ حذف لدلالة المعنى عليه، ولأن المحذوف هو العائد، تقديره: وَهُوَ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ إلهُ، وَهُوَ فِي الأَرْضِ إلَهُ، وإنما حذف لطول الصلة بالمعممول، فإن الجار متعلق «بإلَهٍ» ومثله: مَا أَنَا بالَّذِي قَائِلٌ لَكَ سُوءاً وقال أبو حيان: وحسنه طوله بالعطف عليه كما حسن في قولهم: «قَائِلٌ لَكَ شَيْئاً» طولُه بالمعمول.
قال شهاب الدين: حصوله في الآية، وفيما حكاه سواء، فإن الصلة طالت بالمعمول في كليهما والعطف أمر زائدٌ على ذلك، فهو زيادة في تحسين الحذف. ولا يجوز أن يكون الجارُّ خبراً مقدماً و «إله» مبتدأ مؤخراً، لئلا تَعْرَى الجملةُ من رابطٍ؛ إذ يصير نظير «جَاءَ الَّذِي فِي الدَّارِ زَيْدٌ» فإن جعلت الجار صِلةً، وفيه ضمير عائد على الموصول وجلعت «إله» بدلاً منه، فقال أبو البقاء: «جاء على ضعفه؛ لأن الغرض الكلي إثبات الإلهية، لا كونه في السموات والأرض فكان يفسد أيضاً من وجه آخر، وهو قوله: {وَفِي الأرض إله} ؛ لأنه معطوف على ما قبله، وإذا لم يقدر ما ذكرنا صار منقطعاً عنه، وكان المعنى أنه في الإرض إله» .
انتهى.
وقال أبو علي: نظرت فيما يرتفع به «إله» فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هُوَ الَّذِي في السماء هُو إله. وقال أبو حيان: ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور، والمعنى أنه فيهما بإلهيَّته، ورُبُوبِيَّته؛ إذ يستحيل حمله على الاستقرار، وقرأ عُمَرُ، وعَلِيٌّ، وعبدُ الله في جماعةٍ وهو الذي في السماء اللهُ ضمَّن العلم أيضاً معنى المشتق فيتعلق به الجار ومثله: هُوَ حَاتِمٌ فِي طَيّىءٍ. أي الجواد فيهم. ومثله: فرعونُ العَذَابُ.(17/299)
فصل
قال ابن الخطيب: وهذه ألآية من أدل الدلائل على أنه تعالى غير مستقر في السماء لأنه تعالى بين في هذه الآية أن نسبته بإلهيته السماء كنسبته إلى الأرض، فلما كان إلهاً للأرض مع أنه غير مستقر فيها فكذلك وجب أن يكون إلهاً للسماء مع أنه لا يكون مستقراً فيها.
فإن قيل: أيُّ تعلق لهذا الكلام ينفي الولد عن الله عزّ وجلّ؟
فالجواب: تَعَلُّقُه به أنه تعالى خالق عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بمحض كُنْ فَيَكُون من غير واسطة النطفة والأب فكأنه قيل: إن كان هذا القدر لا يوجب كون عيسى ولداً للهِ عزّ وجلّ؛ لأن هذا المعنى حاصل في تخليق السموات والأرض مع انتفاء حصول الولد به هناك. ثم قال: {وَهُوَ الحكيم العليم} الحيكم في تدبير خلقه العليم بِمَصَالِحِهِمْ. وقد تقدم في سورة الأنعام أن كونه حكيماً عليماً ينافي حصول الولد له.
قوله: «تَبَاركَ» إما أن يكون مشتقاً من وجوب البقاء، وإما من كثرة الخير، وعلى التقديرين فكل واحد من الوجهين ينافي كون عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ واجبَ البقاء والدوام؛ لأنه حدث بعد أن لَمْ يَكُنْ ثم عند النصارى أنه قُتل ومَاتَ ومن كان كذلك لم يكن بنيه وبين الباقي الأزلي الدائم مجانسة ومشابهة فامتنع كونه ولداً له، وإن كانَ المرادُ بالبركة كثرةَ الخيرات مثل كونه خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فَعِيسى لم يكن خالقاً لهما مع أن اليهود عندهم أخذوه وقتلوه وصلبوه، والذي هذا صفته كيفل يكون ولداً لمن كان خالقاً للسَّمَوات وةالأرض وما بينهما؟ ثم قال: {وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة} والمقصود منه التنبيه على أن كل من كان كاملاً في الذات، والعلم، والقدرة على الوصف المشروح فإنه يمتنع أن يكون ولده في العجز وعد القدرة عن أحوال العالم بالحد الذي وصفته النصارى به.
قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قرا الأَخَوانِ، وأبنُ كثير بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق وهو في كلاهما مبني للمفعول. وقرىء بالخطاب مبنياً للفاعل.(17/300)
قوله: {وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ} قرأ العامة يدعون بياء الغيبة، والضمير للموصول.
والسُّلَمِيٌّ وابنُ وَثَّاب بتاء الخطاب. والأَسْودُ بنُ يَزِيدَ بتشديد الدال، ونقل عنه القراءة مع ذلك بالياء والتاء.
وقوله: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق} فيه قولان:
أحدهما: أنه متصل، والمعنى إلا من شَهِدَ بالحَقِّ، كعُزَيْزٍ، والملائكة فإنهم يملكون الشفاعة بتمليك الله إياهم لها وقيل: هو منقطع بمعنى أن هؤلاء لا يشفعون إلا فيمن شهد بالحق أي لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء كذا قدروه. وهذا التقدير يجوز فيه أن يكون الاستثناءُ متصلاً على حذف المفعول تقديره: ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ إلاَّ فِيمَنْ شَهِدَ.
فصل
ذكر المفسرون قولين في الآية:
أحدهما: أن الذي يدعون من دون الملائكة وعيسى، وعزير، لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق.
الثاني: رُوِيَ أن النضْرَ بْنَ الحَارِثِ ونفراً معه قالوا: إن كان ما يقوله محمدٌ حقاً فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من مُحَمَّدٍ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى لا يقدر هؤلاء أنْ يَشفعوا لأحد.
ثم استثنى فقال: إلاَّ من شهد بالحق أي الملائكة وعِيسَى وعُزير، فإنهم يشفعون. فعلى الأول: تكون «من» في محل جر، وعلى الثاني تكون «من» في محل رفع. والمراد بشهادة الحق قول: لا إله إلا الله كلمة التوحيد «وهم يَعْلَمُونَ» بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم.
قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ... } الآية ظن قوم أن هذه الآية(17/301)
وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرونَ إلى الاعتراف بوجود الإله قال الجبائي: وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا: لا إله (لهم) غيره. وقوم إبراهيم قالوا: إنَّ لَفِي شَكِّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ (مُرِيبٍ) .
وأجيب: بأنا لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله، بدليل قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] وقال موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ} [الإسراء: 102] على قراءة من فتح التاء من «عَلمتَ» وهذا يدل على أن فرعون كان عارفاً بالله. وأم اقول وقم إبْراهيم (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) : «وَإِنَّا لَفِي شَكِّ مِمَّا تَدْعُونا إلَيْهِ» فيهو مصورف إلى إثبات القيامة، وإثبات التكليف، وإثبات النبوة.
قوله: {فأنى يُؤْفَكُونَ} أي لم يكذبون على الله فيقولون: إنَّ الله أمرنا بعبادة الأصنام؟
قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} قراءة حمزة وعاصم بالجر، والبَاقُونَ بالنصب فأما الجر فعلى وجهين:
أحدهما: أنه عطف على «الساعة» أي عنده علم قِيلهِ، أي قول محمد، أو عِيسى والقَوْلُ والقَالُ والقِيلُ بمعنًى واحد. جاءت المصادر على هذه الأوزان.
والثاني: أن الواو للقسم، والجواب إما محذوف، تقديره: لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد وإما مذكور، وهو قوله: إنَّ هَؤلاَءِ لاَ يؤْمِنُونَ. ذكره الزمخشري. وأما قراءة النصب ففيها ثمانية أوجه:
أحدها: أنه منصوب على محل «الساعة» كأنه قيل: إنه يعلم الساعةَ ويعلم قِيلهُ كذا.(17/302)
الثاني: أنه معطوف على «سرهم ونَجْوَاهم» (أي لا يعلم سِرَّهُمْ) ولا يعلم قيله.
الثالث: عطف على مفعول «يَكْتُبُونَ» المحذوف، أي يكتبون ذلك، ويكتبون قِيلَهُ كذا أيضاً.
الرابع: أنه معطوف على معفول يعلمون المحذوف، أي يعلمون ذَلك (ويعلمون) قيله.
الخامس: أنه مصدر أي قَالَ قِيلهُ.
السادس: أن ينتصب بإضمار فعل، أي اللهُ يعلَمُ قيلَ رَسُولهِ. وهو محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
السابع: أن ينتصب على محلّ «بالحَقِّ» ، أي شَهِندَ بالحقِّ وبِقيلِه.
الثامن: أن ينتصب على حذف القسم، كقوله: «فَذَاكَ أَمَانَةَ الهِ والثَّرِيدُ» .
وقرأ الأعرج وأبو قِلابة، ومجاهد والحسن، بالرفع، وفيه أوجه: الرفع، عطفاً على «علم الساعة» ، بتقدير مضاف، أي وعنده علم قِيلِهِ، ثم حذف، وأقيم هذا مُقَامه.
الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والجملة من قوله:: يَا رَبِّ «إلى آخره هو الخبر.
الثالث: أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: وقيلهُ كَيْتَ وكَيْتَ مسموعٌ أو متقبلٌ.
الرابع: أنه مبتدأ أو صلة القسم، كقولهم: أيمُنُ اللهِ، ولَعَمْرُ اللهِ، فيكون خبره(17/303)
محذوفاً، والجواب كما تقدم. ذكره الزمخشري أيضاً. واختاره القراءة بالنصب جماعة. قال النحاس: القراءة البينة بالنصب من جهتين:
أحدهما: أن التفرقة بين المنصوب، وما عطف عليه مُغْتَفَرةٌ، بخلافها بين المخفوض وما عطف عليه.
والثانية: تفسير أهل التأويل بمعنى النصب. كأنه يريد ما قال أبو عبيدة قال: إنما هي في التفسير أم يحسبون أنا لا نسمع وسرهم ونجواهم ولا نسمع قيله يا رب.
ولم يرتض الزمخشري من الأوجه المتقدمة شيئاً. وإنما اختار أن يكون قَسَماً في القراءات الثلاث. وتقدم تحقيقها.
وقرأ أبو قِلاَبَةَ: يا ربِّ بفتح الباء، على قلب الياء ألفاً، ثم حذفهنا مجتزئاً عنها بالفتحة كقوله:
4433 - ... ... ... ... ... ... ... ..... بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ ... ... ... ... ... . .
والأخفش يَطْردُها.
قال ابن الخطيب بعد أن حكى قول الزمخشري: وأقول: الذي ذكره الزمخشري متكلفٌ أيضاً وها هنا إضمار، امتلاأ القرآن منه، وهو إضمار اذكر، والتقدير في قراءة النصب: واذكر قيله يا رب، وفي قراءة الجر: واذكر وَقْتَ قِيلِهِ يا رب، وإذا وَجَبَ التزامُ إضمار ما جرت العادة في القرآن بالتزامه، فالتزام إضماره أولى من غيره. وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أ، هـ قال في تفسير قوله:» وَقِيلِهِ يَا رَبِّ «المراد: وقيل يا ربِّ. الهاء زائدة.(17/304)
فصل
القيلُ مَصْدَرٌ، كالقَوْلِ، ومنه الحديث:» أنه نَهَى عن قِيلَ وقَالَ «وحكى اللَّيْثُ عن العرب تقولُ: كَثُر فيه القِيلُ والقَالُ. وروى شَمِرٌ عن أب زيد ياقل: ما أحسْنَ قِيلُكَ، وقَوْلُكَ، ومَقَالتُكَ، ومَقَالُكَ. والضمير في» وَقِيلِهِ «لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى يعلم قَوْلَ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاكياً إلى ربه، يا ربِّ إن هؤلاء قومٌ لا يؤمنون لما عرف إصرارهم، وهذا قريب مما حكى الله عن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه قال:
{رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} [نوح: 21] ثم قال: «فَاصْفَحُ عَنْهُمْ» أي أعْرِضْ عنهم، «وَقُلْ سَلاَمٌ» قال سيبويه: معناه المتاركة كقوله تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55] ثم قال: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» والمراد به التهديد.
قوله: «فَسَوْفَ يَعْلَمُون» قرأ نافعٌ وابن عامر بتاء الخطاب التفاتاً، والباقون بياء الغيبة نظراً لِمَا تَقَدَّم.
فصل
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قوله: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ} منسوخ (بآية) السَّيْفِ.
قال ابن الخطيب: وعندي التزام النسخ في مثل هذه المواضع مشكل؛ لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة فسقطت دلالة اللفظ، فَأَيُّ حاجة إلى التزا النسخ، وأيضاَ فاللفظ المطلق قد يقيَّد بحسب العُرْف، وإذا كان كذلك، فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ.
والله أعلم بالصواب.
روى أبو أمامةَ عن أُبَيِّ بنِ كعب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورة الزُّخْرُفِ كَانض مِمَّن كَانَ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ:» يَا عِبَادِي لاَ خَوفٌ عَلَيْكُمْ اليَوْمَ ولا أَنَتُمْ تحزنونَ «ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِغَيْر حِسَابٍ» (انتهى) .(17/305)
سورة الدخان(17/306)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
مكية وهي تسع وخمسون آية، وثلاثمائة وست وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {حموالكتاب المبين} فيه احتمالان:
الأول: أن يكون التقدير: هذه حمَ والكِتَابِ المُبِين، كقولك: هَذَا زَيْدٌ واللهِ.
والثاني: أن يكمون التقدير: (و) حمَ وَالكِتَابِ المبين إنَّا أَنْزَلْنَاهُ؛ فيكون في ذلك تقدير قسمين على شيء واحد.
قوله: إنَّا أَنْزَلْنَاهُ «يجوز أن يكون جواب القسم، وأن يكون اعتراضاً، والجواب قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} واختاره ابن عطية.(17/306)
وقيل: إنَّا كُنَّا (مُنْذِرِينَ) مستأنف، أو جواب ثانٍ من غير عاطف.
قوله:» يُفْرَقُ «يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون صفة الليلة وما بينهما اعتراض.
قال الزمخشري: فإن قلتَ: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} » فِيهَا يُفْرَقُ «ما موقع هاتين الجملتين؟ .
قلتُ: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان، فسر بهما جواب القسم الذي هو:» إنَّا أَنْزَلْنَاهُ «كأنه قيلأ: أنزلناه؛ لأن من شأننا الإنذارَ والتحذيرَ، وكأن إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً لأن إنزالَ القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم.
وقرأ الحسن، والأعرج والأعمش: يَفْرُقُ بفتح الياء، وضَمِّ الراء» كُلَّ «بالنصب، أي يَفْرُقُ اللهُ كُلَّ أمرٍ. وزيدُ بن علي: نَفْرِقُ بنون العظمة،» كُلَّ «بالنصب (كذا) نقله الزمشخري. ونل عن الأهوازي بفتح الياء وكسر الراء كُلّ بالنصب حَكِيمٌ بالرفع على أنه فاعل يَفْرِقُ. وعن الحسن والأعمش أيضاً يُفَرَّقُ كالعامة، إلا أنه بالتشديد.
فصل
استدلوا بهذه الآية على حدوث القرآن من وجوه:
الأول: أن قوله حم تقديره: هذه حم يعني هذا شيء مُؤَلَّف من هذه الحروف والمؤلف من لاحروف المتعاقبة مُحْدَثٌ.
الثاني: أنه ثبت أن الحَلِفَ لا يصح بهذه الأشياء، بل بإِله هذه الأشياء فيكون التقدير: وَرَبِّ حَمَ وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينَ، وكُلُّ ما كان مربوباً فهو مُحْدَثٌ.
الثالث: أنه وصفه بكون» كتاباً «، والكتاب مشتق من الكتبِ، وهو الجمع فمعناه أنه مجموع، والمجموع مَحَلُّ تصرفِ الغير. وما كان كذلك فهو مُحْدَث.(17/307)
الرابع: قوله: إنا أنزلناه» والمنزَل مَحَلّ تصرفِ الغير، وما كان كذلك فهو محدث. قال ابن الخطيب: وقد ذكرنا أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروب المتعاقبة، والأصواب المتوالية محدث والعلم بذلك ضروري بَديهِيّ لا نزال فيه، إنما القديم شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات؟
فصل
يجوز أن يكون المراد بالكتاب ههنا الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء، كما قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} [الحديد: 25] ويجوز أن يكون المراد به اللوحُ المحفوظ. قال الله تعالى: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39] وقال: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] ويجوز أن يكون المراد به القرآن، وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل في ليلية مباركة وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل (له) إليه حاجةً: «أسْتَشْفِعُ بِكَ إِلَيْكَ، وأُقْسِمُ بِحَقِّكَ عَلَيْكَ» .
وجاء في الحديث: «أَعوذُ بِرِضاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وبِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» .
قوله: «المُبين» هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فصوفه بكونهن مبيناً وإذا كانت حقيقة الإبانة لله تعالى، لأن الإبانةَ حَصَلَتْ به، كقوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ} [النمل: 76] وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] وقوله: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] فوصفه بالتكلم، إذ كان غاية في الإبانة، فكأنه ذُو لسانٍِ ينطق مبالغةً.
فصل
قال قتادة وابنُ زيد وأكثر المفسرين: المراد بقوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة هي ليلة القدر. وقال عكرمة وطائفة: إنها ليلة البَرَاءَة وهي ليلة النصفِ مِن شعبان. واحتج الأولون بوجوه:
الاول: قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] وقوله: ههنا: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} فوجب أن تكون هي تلك الليلة المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض.(17/308)
الثاني: قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] فقوله ههنا: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] فيجب أن تكون تلك الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر.
الثالث: قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] وقال ههنا: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وقال ههنا: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} وقال في ليلة القدر: {سَلاَمٌ هِيَ} [القدر: 5] ، وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى.
الرابع: نقل محمد بن جَرير الطَّبري في تفسيره عن قتادة أنه قال: نزلت صحفُ إبراهيم في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ليال منه والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه، والإنجيل لِثماني عشرة ليلةً مضت منه، والقرآن لأربعٍ وعشرينَ مضت منه، والليلة المباركة هي ليلة القدر.
الخامس: أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب نفس الزمان، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاتهخ فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمورٌ شريفة لها قدر عظيم، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا، وأعظم الأشياء وأشرفها منصباً في الدين هو القرآن؛ لأنه ثبت به نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته: «وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ: وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً، وأعْلَى ذكراً وأعظم منصباً، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة.
واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بأنها لها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصَكّ، وليلة الرحمة، ولأنها مختصة بخمسِ خصالٍ: الأولى: قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} والثانية: فضيلة العبادة فيها، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ صَلَّى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَرْسَلَ اللهُ تعالى إليه مائةَ مَلَكٍ، ثلاثونَ يبشرونَه بالجنةِ، وثلاثونَ يُؤَمِّنُونَهُ من عذاب النار، وثلاثونَ يدْفَعُونَ عنه آفاتِ الدنيا وعشرةٌ يدفعون عنه مكايدَ الشيطان» الثالثة: نزول الرحمة قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «إنَّ اللهَ يَرْحَمُ أُمَّتِي فِي هَذِنِ اللَّيلَةِ بعَدَدِ شَعْرِ أَغْنَام بَنِِي كَلْبٍ» الرابعة: حصول المغفرة قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ اللهَ يَغْفِرُ لِجَمِيعِ(17/309)
المُسْلمِينِ في تلك الليلة إلا الكاهنَ، والمشاحنَ ومُدْمِنَ الخمر وعاقَّ والديه والمصرَّ على الزنا» والخامسة: أنه تعالى أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه الليلة تمام الشّفاعة وذلك أنه سأل في الليلة الثالثةَ عَشَرَ الشفاعة في أمته فأعطي الثُّلُثَ منها ثم سأل الليلة الرابِعَةَ عَشَرَ فأعطِي الثُلْثَينِ ثم سأل ليلةَ الخامس عشرة فأعطي جميعَ الشفاعة إلا من شَرَدَ عن الله شِرَادَ البَعِيرِ، نقله الزمخشري.
فصل
رُوِيَ أن عطية الحَرُورِيَّ سأل ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) عن قوله: {إنَّا أنزلناه في ليلة مباركة} وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الأيام؟ .
فقال ابن عباس: يا ابن الأسود لو هكلتُ أنا ووقع في نفسك هذا، ولم تجد جوابه لهلكت، نزنل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالاً. قال قتادة وابن زيد: أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم انزل به جبريلُ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نجوماً في عشرينَ سنةً.
قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} يعني إن الحكمة في إنزال القرآن أن إنذارَ الخلق لا يتم إلا به.
قوله: «فِيهَا» أي في الليلة المباركة «يُفرقُ» يُفصَلُ {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} محكم ومعناه ذو الحكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل واحد بحالة معينة من الأجل والرزق والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله عَزَّ وَجَلَّ، فلما دلت تلك الأقضية على حكمة فاعلها، وصفت بكونها حكمة، وهذا إسناد مجازيّ لأن الحكيم صفة صابح الأمر على الحقيقة، ووصف الأمر به مجاز. قال ابن عباس: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير، والشر، الأرزاق، والآجال حتى الحُجَّاج يقال: يَحُجُّ فلانٌ ويَحُجُّ فلان.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة: يُبْرَمُ في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل، وعمل، وخلق، ورزق، وما يكون في تلك السنة. وقال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان يقوم فيها أمر السنة، وتنسخُ الأحياء من الأموات، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منه أحد. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تُقْطَع الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شَعْبَانَ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ ليَنْكِحُ، ويُولدُ لَهُ، وَلَقْدَ أُخْرِج اسْمُهُ في المَوْتَى» وعن ابن عباس ((17/310)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) إن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر وروي أن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ووقع الفراغ في ليلة القدر، وتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروف إلى جبريل، وكذلك الزَّلازِل، والصواعق، الخسف، ونَسخَة الأعمال إلى إسرافيل صابح سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
قوله: «أَمْراً» فيه اثْنَا عَشَرَ وَجْهَاً:
أحدهما: أن ينتصب حالاً من فاعل «أَنْزَلْنَاهُ» .
الثاني: (أنه) حال من مفعوله أي أنْزَلْنَاهُ آمرينَ، أو مَأمُوراً بِهِ.
الثالث: أن يكون مفعولاً له وناصبه إمَّا «أَنْزَلْنَاهُ» وإما «مُنْذِرِينَ» وإما «يُفْرَقُ» .
الرابع: أنه مصدر من معنى يفرق أي فَرْقاً.
الخامس: أنه مصدر «لأَمْرَنَا» محذوفاً.
السادس: أن يكون يُفْرَقُ بمعنى يأمر. والفرق بين هذا وما تقدم أنك رددت في هذا بالعامل إلى المصدر، وفميا تقدم بالعكس.
السابع: أنه حال من «كُلُّ» . حكى أبو علي الفارسي عن «أبي) الحسن أنه حمل قوله:» أمْراً «على الحال، وذُو الحال» كل أمر حكيم «.
الثامن: أنه حال من» أَمْرٍ «. وجاز ذلك؛ لأنه وصف؛ إلا أن فيه شيئين: مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المذكورة. والثاني: أنها مؤكدة.
التاسع: أنه مصدر لأَنْزَلَ، أي (إنَّا) أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالاً، قاله الأخفش.(17/311)
العاشر: أنه مصدر لكان بتأويل العامل فيه إلى معناه، أي أَمَرْنَا به أَمْراً بسبب الإنْزَال، كما قالوا ذلك في وجهي:» فِيهَا يُفْرَقُ «فرقاً، أو يَنْزِلُ إنزالاً.
الحادي عشر: أنه منصوب على الاختصاص، قاله الزمخشري. ولا يعني بذلك الاختصاص الاصطلاحي فإنه لا يكون نكرةً.
الثاني عشر: أن يكون حالاً من الضمير في» حَكِيمٍ «.
الثالث عشر: أن ينتصب مفعولاً به بمُنْذِرينَ، كقوله: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] ويكون المفعول الأول محذوفاً أي مُنْذِرينَ الناسَ أمراً، والحاصل أن انتصابه يرجع إلى أربعة أشياء: المفعول به والمفعول له، والمصدريةِ، والحاليةِ، وإنما التكثير بحسب المحالِّ.
وقرأ زيد بن علي: أَمْرٌ بالرفع. قال الزمخشري: وهي تُقَوِّي النصب على الاختصاص.
قوله: «مِنْ عِنْدنَا» يجوز أن يتعلق «بيُفْرَقُ» أي من جهتنا وهي لابتداء الغاية مجازاً.
ويجوز أن تكون صفة لأمراً.
قوله: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} جواب ثالث، أو مستأنف، أو بدل من قوله: إنا كمنا منذرين. قال ابن الخطيب: أي إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل أَنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، يعني الأنبياء.
قوله: «رَحْمَةً» فيها خمسة أوجه:
الأول: المفعول له والعامل فيه: إما «أنزلناه» ، وإما «أمراً» ، وإما «يفرق» ، وإما «منذرين» .
الثاني: مصدر بفعل مقدراً، أي رَحِمْنَا رحمة.(17/312)
الثالث: مفعول بمرسِلِينَ.
الرابع: حال من ضمير «مرسلين» ، أي ذَوِي رَحْمَةٍ.
الخامس: أنها بدل من «أَمْراً» فيجيء فيها ما تقدم، وتكثر الأوجه فيها حينئذ. و «مِنْ رَبِّكَ» يتعل برَحْمةٍ، أو بمحذوف على أنها صفة. وفي: «مِنْ رَبِّكَ» التفات من المتكلم إلى الغيبة ولو جرى على مِنْوَالِ ما تقدم لقال: رَحْمَةً مِنَّا.
فصل
قال ابن عباس (رَضِيَّ اللهُ عَنُهُمْ) : معنى رحمة من ربك أي رأفة مني بخلقي، ونعمةً عليهم بما بعثت إليهم من الرسل. وقال الزجاج: أنزلناه في ليلةٍ مباركة، «إنه هو السميع العليم» أي إن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة؛ لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجتهم بألسنتهم أول يذكروها فإن ذكروها فهو سميع، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالمٌ بها.
قوله تعالى: {السماوات والأرض} قرأ الكوفيون بخفض «رَبّ» والباقون برفعه. فالجر على البدل أو البيان، أو النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، أو على أنه مبتدأ خبره: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} .
فصل
المقصود من هذه الآية أن المنزِّل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المُنزَّل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة. ثم قال: {إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} قال أبو مسلم معناه: إن كنتم تطلبونه وتريدونه فاعرفوا أن الأمور كما قلنا؛ كقولهم: فُلاَنٌ مُنْجِدٌ مُنْهِمٌ، أي يريد نَجْداً وتِهَامَةً. وقال الزمخشري: كانوا يقرون بأن (رب)(17/313)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
السموات والأرض ربُّ خالقٌ فقيل لهم: إن إرسلنا الرسل وإِنْزَالَنَا الكتبَ رحمةً من الرّ ثم قال: إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به، ومعترفون بأنه رب السموات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم ويقين، كما تقول: هذا إنْعَامُ زَيْد الّذِي تَسَامَع الناسُ بكَرَمِهِ إن بَلَغَكَ حديثُه وسمعت بصِيتِهِ. والمعنى إن كنتم موقنين بقوله. {هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} ، وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن حد وحقيقة بل قول مخلوط بهُزْءِ ولَعِبٍ.
قوله تعالى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ} العامة على الرفع، بدلاً أو بياناً أو نعتاً لرب السموات فيمن رفعه أو على أنه مبتدأ، وةالخير: لا إله إلا هو.
أو خبر بعد خبر، لقوله: إنه هو السميع أو خبر مبتدأ مضمر عند الجميع، أعني قراء الجر والرفع، أو فاعل لقوله: «يُمِيتُ» . وفي «يُحْيِي» ضمير يرجع إلى ما قبله أي يُحْيِي هو أي رب السموات، ويُميت هو، فأوقع الظاهر موقع المضمر. ويجوز أن يكمون «يحيي ويميت» من التنازع يجوز أن ينسب الرفع إلى الأول أو الثاني، نحو: يَقُومُ وَيَقْعُدُ زَيْدٌ. وهذا عنى أبو البقاء بقوله: على شريطة التفسير. وقرأ ابن مُحَيْصِن وابنُ أبي إسحاقَ وأبو حَيْوَةَ والحَسَنُ بالجر، على البدل أو البيان أو النعت لرب السموات، وهذا يوجب أن يكونوا يقرأونه رب السموات بالجر. والأنطاطي بالنصب على المَدْح.
قوله
تعالى
: {فارتقب
يَوْمَ تَأْتِي السمآء} «يوم» منصوب بارتقب على الظرف، ومفعول الارتقاب محذوف لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله: هذا عذاب أليم، أي ارتقب(17/314)
وعيد الله في ذلك اليوم. ويجوز أن يكن «يوم» هو المفعول المرتقب.
فصل
اختلفوا في هذا الدخان، فروى الضحاك عن مسروق قال: بينما رجل يُحَدِّث في كِنْدَةَ فقال يجيء دُخَانٌ يوم القيامة فيِأخذ بأسماعهم وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ففزعنا فأتينا ابن مسعود، وكان متكئاً فعضب فجلس فقال: من علم فليقل ومن لم يعلم فيلقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، فإن الله تعالى قال لنبيه: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} [ص: 86] .
«وإن قريشاً لما اسْتَعْصَتْ عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: اللَّهم أعِنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى هَلَكُو فيها، وأكلوا الميتة، والعظامَ، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أبو سفيان فقال يا محمد: جئت كافراً بصلة الرحم، وإن قومك قَدْ هلكوا، فادعُ الله فقرأ: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} إلى قوله» عَابِدُونَ «» وهذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد واختيار الفراءِ والزجاجِ وهو قول ابن مسعود، وكان ينكر أن يكون الدخان إلا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظُّلْمَةِ على أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دُخَاناً. وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان في هذه الحالة وجهين:
الأول: أن في سَنَةِ القحط لعِظَم يُبْسِ الأرض بسبب انْقِطَاع المطر يرتفع الغبارُ الكثيرُ، ويُظْلم الهواء وذلك يشبه الدخان، ويقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان ولهذا يقال للسنة المُجْدِبة الغبراء.
الثاني: أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه، ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. وقيل: إنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب، وعن ابن عباس في المشهور عنه لما روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «أَوَّل الآيَاتِ الدُّخَانُ، ونزولُ عيِسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ونارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَن تَسُوق النَّاسَ إلى المَحْشَرِ. قال(17/315)
حذيفة: يا رسول الله، وما الدخانُ؟ فَتَلاَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الآية به وكان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه كالزُّكْمَةِ. وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه، وأذنيه، دبره. ويكون الأرض كلها كبيت أُوقد فيه النار قال عليه الصلاة السلام:» بَاكِرُوا بالأَعْمَالِ «
، وذَكَر منها طلوعَ الشمسِ من مَغْرِبَها، والدُّخَانَ والدابةَ، رواه الحسن.
واحتج الأولون بأن الله تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: ربنا اكشف عنّا العذاب إنا مؤمنون. فإذا حملناه على القحط الذي وقع في مكة استقام فإنه نقل أن الأمر لما اشتد على أهل مكة مَشَى إليه أبو سفيان فناشده الله والرَّحم وواعده إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البليّة أن يؤمنوا به، فلما أزاله الله عنهم رَجَعُوا إلى شركهم، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، ولم يصح أيضاً أن يقال لهم: {كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} .
فصل
ظاهر الحال أنه دخان يغشى الناس أَيْ يشملهم وهو في محل جر صفة ثانية أي بدُخَان مبينٍ غَاشٍ وقوله: {اذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} في محل نصل بالقول، وذلك القول حال أي قائلين ذلك. ويجوز أن لا يكون معمولاً لقول ألبتة، بل هو مجرد إخبار. قال الجُرْجَانِي صاحب النظم: هذا إشارة إليه، وإخبار عن دُنُوِّه واقترابه كما يقال: هذا العدنو فاستقبله، الغرض منه التنبيه على القرب.
قوله: {ربنا اكشف عنا العذاب} إن أضمرنا القول هناك (فالتقدير: يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنّا العذاب، وإن لم يضمر القول هناك) أضمرناه ههنا، و «العذاب» على القول الثاني الدخان المهلك «إنَّا مؤمنون» أي بمحمد وبالقرآن والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.
قوله: {أنى لَهُمُ الذكرى} يجوز أن يكون «إني: خبراً لذكرى، و» لهم «تبيين،(17/316)
ويجوز أن يكون» أنى «منصوباً على الظرف بالاستقرار في لَهُم، فإن» لهم «وقع خبراً لذكرى.
قوله:» وَقَدْ جَاءَهُمْ «حال من» لَهُمْ «والمعنى كيف يتعظون أي من أين لهم التذكرة والاتِّعاظُ وقد جاءهم ماهو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة، وهو» رسول مبين «ظاهر الصدق يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما ظهر عليه من المعجزات، {ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} أعرضوا عنه، ولم يتلفتوات إليه {وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} وذلك أن كفار مكة منهم من كان يقول: إن محمداً يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس، ولقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] وقوله: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] ومنهم من كان يقول: إنه مجنون، والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغُشْي. وقرأ زيد بن علي معلم بكسر اللام قوله:» إنا كاشفوا العذاب قليلاً «أي عذاب الجوع:» قليلاً «نعت لزمان، أو المصدر محذوف أي كشفوا قليلاً، أو زماناً قليلاً، يعني يسيراً» إنكم عائدون «أي كما نكشف العذاب عنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك.
قوله: «يَوْمَ نَبْطِشُ» قيل: هو بدل من «يوم تأتي» . وقيل: منصوب بإضمار اذكر. وقيل: ب «منتقمون» . وقيل: بما دل عليه: «مُنْتَقِمُونَ» وهو ينتقم. ورُدَّ هذَان بأن ما بعد «لا» لا يعمل فيما قبلها، ولأنه لا يفسر إلا ما يصحّ أن يعمل. وقرأ العامة بفتح نون «نَبْطِشُ» وكسر الطاء أي نبطش بهم. وقرأ الحَسَنُ ابو جَعْفَر بضم الطاء وهي لغة في مضارع «بَطَشَ» . والحسن أيضاً، وأبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر الطاء. وهو منقول من «أبطش» أي نُبِطْشُ بِهِمُ المَلاَئكِة والبطشة على هذا يجوز أن تكون منصوبة بنبطِشُ على حذف الزائد: نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] وأن تنتصب(17/317)
بفعل مقدر أي نبطِشُ بهم الملائكة، فَيَبْطِشُونَ البَطْشَة. والبطش الأخذ بالشدة وأكثر ما يكون يوقع الضرب المتتابع ثم صار بحيث يشتمل في اتصال الآلام المُتَتَابِعَةِ.
(فصل
في المراد بهذا اليوم قولا ن:
الأول: أنه يوم بدر، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وأبي العالية (وذلك) أن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى التكذيب، فانتقم الله منهم يوم بدر.
الثاني: أنهن يوم القيامة. قال ابن الخطيب: وهذا القول أصح؛ لأن يوم بدر، لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة، لقوله تعالى: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] .(17/318)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ... } لما بين أن كفار مكة يُصِرُّونَ على كفرهم بين أن كثيراً من المتقدمين أيضاً كانوا كذلك، وبين حصول هذه الصفة في أكثر قوم فرعون.
قوله: «وَلَقَدْ فَتَنَّا» بالتشديد على المبالغة، أو التكثير لكثرة متعلّقه. «وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ» يحتمل الاستئناف والحال.(17/318)
فصل
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : ابتلينام. وقال الزجاج: بلونا والمعنى: عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} أي موسى بن عمران.
قال الكلبي: كريم على ربه بمعنى أنه استحق على ربه أنواعاً كثيرة من الإكرام.
قوله تعالى: {أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله} يجوز أن تكون المفسرة، لتقدم ما هو بمعنى القول، وأن تكون المخففة، ومعناه: وجاءهم بأَنَّ الشأنَ والحَدِيثَ: أَدّوا إِلي عِبَادَ اللهِ، وأن تكون الناصبة للمضارع وهي توصل بالأمر وفي جعلها مخففة إشكال تقدم، وهو أن الخبر في هذا الباب لا يقع طلباً وعلى جعلها مصدرية تكون على حذف حرف الجر، أي جَاءَهُمْ بأَنْ أدَّوا و «عِباد الله» يحتمل أن يكون مفعولاً به وبذلك أنه طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل، بدليل قوله: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105] وأن يكون منادّى، والمفعول محذوف أي أعطوني الطاعة يا عباد الله. وعلل بأنه رسول أمين قد ائتمنه اله على وحيه ورسالته.
قوله: «وأَن لا تعلوا» عطلف على «أَنِ» الأولى، والمعنى لا تتكبّروا على الله بإهانة وحيه ورسولِهِ {إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة بينة يعرف بصحتها كُلُّ عاقل.
والعامة على كسر الهمزة من قوله «إنِّي آتِيكُمْ» على الاستئناف. وقرىء بالفتح على تقدير اللام أي وأَنْ لاَ تَعْلُوا لأنِّي آتيكم.
قوله: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} وقوله: «إنِّي عُذْتُ» مستأنف. وأدْغم الذال في التاء أبو عمرٍو والأَخَوَانِ. وقد مضى توجيهه في «طه» عند قوله: فَنَبَذْتُهَا «.
فصل
قيل: إنه لما قال: {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} توعدوه بالقتل، فقال: وإني(17/319)
عذت بربي وربكم أن ترجمون أي تقتلوني، وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن ترجموني بالقول وهم الشتم وتقولوا: هو ساحر. وقال قتادة:» تَرْجُمُونِي بالحِجَارة «.
وإن لم تؤمنوا لي أي تصدقوني ولم تؤمنوا بالله، لأجل ما آتيتكم به من الحجة، فاللام في» لِي «لام الأجل» فَاعْتَزِلُون «أي اتركوني، لا مَعِي، ولا عَلَيَّ. وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : فاعْتَزِلُوا أذايَ باليد واللسان.
قوه:» فَدَعَا رَبَّهُ «الفاء في» فدعا «تدل على أنه متصل بمحذوف قبله، وتأويله أنَّهُمْ كفروا ولم يؤمنوا فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ.
فإن قيل: الكفر أعظم حالاً من الجرم فما السبب في أن جعل الكفار مجرمنين حال ما أراد المبالغة في ذمهم؟ .
فالجواب: أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه (وقد يكون فاسقاً في دينه) والفاسق في دينه أَخسذُ الناس.
قوله: «أَنَّ هَؤلاَءِ» العامة على الفتح، بإضمار حرف الجر، أي دَعَاهُ بأنَّ هؤلاء.
وابن أبي أسحاق وعيسى، والحسن، بالكسر، على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء «دعى» مجرى القول عند الكوفيين.
قوله: «فَأَسْرِ بِعبَادِي» قد تقدم قراءتا الوَصْلِ والقَطْع. وقال الزمخشري فيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء. أي فقال: أَسْرِ بِعبَادِي، أو جواب شرط مقدر كأنه قال: إن الأمر كما تقول فَأَسْرِ بِعِبَادِي. قال أبو حيان: كثيراً ما يدعي حذف الشرط، ولا يجوز إلا الدليل واضح كأن يتقدمه الأمر وما أشْبَهَهُ.
فصل
يقال: سَرَى، وأَسْرَى لغتان، لما قال موسى: إنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أجاب الله(17/320)
تعالى دعاءه وأمره أن يسري فقال: «فَأسْرِ بِعِبَادِي» أي بني إسرائيل {لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} أي يتبعكم فرعون وقومه وذلك بسبب هلاكهم.
قوله: {واترك البحر رَهْواً} يجوز أن يكون «رهواً» مفعولاً ثانياً، على أن ترك بمعنى صَيَّر وأن يكون حالاً على أنها ليست بمعناها. والرهو: قيل: السكون، فالمعنى اتْرُكْهُ سَاكناً، يقال رَهَا، يَرْهُو، رَهْواً، ومنه: جَاءَت الخَيْلُ رَهْواً. قال النابغة:
4424 - وَالخَيْلُ تَمْرَحُ رَهْواً فِي أَعِنَّتِهَا ... كَالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشُؤْبُوبِ ذي البَرَدِ
وَرَهَا يَرْهُو في سَيْرهِ أي رَفَقَ، قال القطامِيُّ:
4425 - يَمْشِينَ رَهْواً فَلاَ الأَعْجَازُ خَازِلَةٌ ... وَلاَ الصُّدُورُ عَلَى الأَعْجَازِ تَتَّكِلُ
وعن أبي عبيدة: رهواً أي اتركه منفتحاً فُرَجاً على ما تركته.
روي أنه لما انفلق البحر لموسى، وطلع منه خاف أن يتبعه فرعون فأراد أن يضربه ليعود حتى لا يلحقوه، فأمر أن يتركه فرجاً. وأصله من قولهم: رَهَا الرَّجُلُ يَرْهُو رَهْواً فتح ما بين رجليه (قال مقاتل: اترك البحر رهواً أي راهياً يعني ساكناً. فأصل الرهو السكون، فسمي بالمصدر أي ذا رهو. وقال كعب: اترك طريقاً يابساً) . والرَّهْوُ والرَّهوَةُ المكان المرتفع أو المنخفض يجتمع فيه الماء فهو من الأضداد. والرهوة المرأة الواسعة الهن. والرهو طائر يقال له الكُرْكِيَّ.(17/321)
وقد تقدم الكلام في الشعراء على نظير: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ} .
قوله: «وَمَقَامٍ» العامة على فتح الميم، وهو اسم كان القيام. وابن هُرمُز، وقتادةُ، وابنُ السمقيع ونافع في رواية خارجة: بضمها اسم مكان الإقامة.
والنَّعْمَة بالفتح نَضَارة العَيْشِ ولَذَاذَتُهُ. (قال الزمخشري: النعمة بالفتح من التَّنعُّم، والنِّعمة بالكسر الإنعام. وقيل: النَّعمة بالفتح هي المال والزينة كهذه الآية، ومثله: {وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة} [المزمل: 11] . وقله {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي}
[فصلت: 50] أي مالاً بعد فَقْرٍ «. والجمهور على جرها. ونصبها أبو رجاء عطفاً على» كَمْ «أي تركوا كثيراً من كذا، وتركوا نَعْمَةً.
قوله:» فَاكِهِينَ «العامة على الألف أي طيّيبي الأنفُسِ، أو أصحاب فاكهة كَلاَبنٍ وتَامِرٍ وقيل: فاكهين: لاهِينَ. وقرأ الحسن وأبو رجاء: فَكِهينَ، أي مستخفين مستهزئين بنعمة الله.
قال الجوهري: يقال: فَكِهَ الرَّجُلُ بالكسر فَهُوَ فَكِهٌ، خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي الأمر كذلك. وإليه نحا الزجاج، ويجوز أن تكون منصوبة المحلّ، فقدرها الحَوْفِيُّ أهْلَكْنَا إهلاكاً، وانتقمنا انتقاماً كذلك.
وقال الكلبي: كذلك أفعَل بمن عصا. وقيل: تقديره: يَفْعَلُ فِعْلاً كَذَلِكَ.(17/322)
وقال أبو البقاء: تَرْكاً كذلك، فجعله نعتاً للتَّرْك المحذوف، وعلى هذه الأوجه كلها يوقف على» كذلك «، ويبتدأ:» وَأَوْرَثْنَاهَا « (قَوْماً آخَرِينَ) . (وقال الزمخشري: الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الأخراج أخرجناهم منها، وأورثنا قَوْماً آخرين) ، ليسوا منها يعني بني إسرائيل، فعلى هذا يكون:» وَأَوْرَثْنَاهَا «معطوفاً على تلك الجملة الناصبة للكاف فلا يجوز الوقف على» كَذَلِكَ «حِينئِذٍ.
قوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء} يجوز أن يكون استعارة، كقول الفرزدق:
4426 - وَالشَّمْسُ طَالِعةٌ لَيْسَتْ بكَاسِفَةٍ ... تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالقَمَرَا
وقال جرير:
4427 - لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُور المَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الخُشَّعُ
وقال النابغة:
4428 - بَكَى حَارِثُ الجَوْلاَنِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ ... وَحَوْرَان مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُِ
فصل
روى أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مَا مِنْ عَبْدٍ إلاَّ وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَانِ، بابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقَُه، وبَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ عَمَلُهُ. فَإذَا مَاتَ وَفَقَدَاهُ بَكَيَا عَلَيْهِ «، وتَلاَ هذه الآية، وذلك لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً فتبكي عليه، ولم يكن يصعد لهم إلى السماء كلامٌ طيب، ولا عمل صالح فتبكي عليهم. وقيل: التقدير: فما بكت عليهم أهْلُ السماء والأرض، فحذف المضاف والمعنى: فما بكت عليه الملائكة، ولا المؤمنون بل كانوا لهلاكهم مسرورين.(17/323)
وقيل: إن العادة جرت بأن يقولوا في هلاك الرجل العظيم الشأنِ إنه أظلمت له الدنيا، وكسفت الشمس والقمر لأجله، وبكت السماء والريح والأرض. يريدُونَ المبالغة في تعظيم تلك المصيبة لا نفس هذا الكتاب. وقال الزمخشري: ذكر هذا على سبيل السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض، ولم يكونوا بهذا الحَدِّ، بل كانوا دون ذلك، فذكر هذا تهكماً بهم.
وقال عطاء: بكاء السماء حُمْرَةُ أطرافِهَا. وقال السدي:: لما قتل الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بكت عليه السماء وبكاؤها حُمْرَتُها {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} أي لما جاء وقت هلاكِهِهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبةِ وتدارك تقصيرٍ.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين} وهو قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل. واعلم أن رفع الضرر مقدم على إيصال النفع، فبدأ تعالى ببيان رفع الضرر عنهم فقال: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين} .
قوله: «من فرعون» فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من «العذاب» ، إمَّا على حذف مضاف، أي من عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وإما على المبالغة جعل نفس العذاب، فأبدله منه.
والثاني: أنه حال من العذاب تقديره: صادراً مِنْ فِرْعَوْنَ. وقرأ عبد الله: مِنْ عَذَاب المُهِينِ، وهي من إضافة الموصوف لصفته، إذ الأصل: العذاب المهين كالقراءة المشهورة. وقرأ ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) مَنْ فِرْعَوْنُ؟ بفتح الميم «من» ورفع فرعون على الابتداء والخَبَر، وهو استفهام تحقير، كقولك: مَنْ أَنْتَ وَزَيْداً؟ ثم بين حالة بالجملة بعد قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} . والتقدير: هل تعرفون من هو في عُتُوه وشَيْطَنَته؟ ثم عرف حاله بقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين، ويجوز أن يكون المراد إنه كان عالياً كقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض} [القصص: 4] وكان أيضاً مسرفاً ومن إسرافه أنه كان على حقارته وخسته(17/324)
ادَّعى الإلهية. ولما بين الله تعالى (أنه) كيف دفع عن بني إسرائيل الضرر، بين أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} والمراد اخترنا مؤمني بني إسرائيل على عالَمِي زمانهم.
قوله: «على علم» متعلقة بمحذوف، لأ، ها حال من الفاعل في «اخترناهم» و «على العالمين» ، متعلقة باخترناهم. وفي عبارة أبي حيان: أنه لما اختلف مدلولهما جاز تعلقهما باخترنا، وأنشد على ذلك (الشاعر) (رحمقُ اللهِ عَلَيْهِ) :
4439 - وَيَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ ... عَلَيَّ وآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تُحَلَّلِ
ثم قال: ف «على علم» حال إما من الفاعل، أو من المفعول، و «على ظهر» حال من الفاعل في «تعذرت» والعامل في الحال هو العامل في صاحبها. (وفيه نظر، لأن قوله أولاً: ولذلك تعلقا بفعل واحد لما اختلف المدلول ينافي جعل الأولى حالاً، لأنها لم تتعلق به، وقوله: والعامل في الحال هو العامل في صاحبها) لا ينفع في ذلك.
فصل
قيل: هذه الآية تدل على كونهم أفضل من كل العَالَمِينَ. وأجيب: بأن المراد على عَالَمِي زَمَانِهِمْ وقيل: هذا عام دخله التخصيص. كقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] .
قوله: {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات} مثل فَلْق البحر، وتَظْلِيلِ الغمام وإنزال المَنِّ والسَّلوَى، والنِّعم التي أنعمها عليهم. وقال ابن زيد: ابتلاهم بالرخاء والشدة، وقرأ: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ؛ لأنه تعالى كما بلو بالمحنة فقد يبلو أيضاً بالنعمة، ليتميز به الصديق على الزِّنديق. وههنا آخر الكلام على قصة موسى عليه الصلا ة والسلام.(17/325)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
قوله: {إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ} يعني مشركي مكة، ليقولون: {هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثين بع موتنا. واعلم أنه رَجَعَ إلى ذكر كفار مكة؛ لأن الكلام كا فيهم حيث قال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان: 9] أي بل هم في شك من البعث والقيامة. ثم بين كيفية إصرارهم على كفرهم ثم بين أن قوم فرعون كانوا في الإصرار على الكفر مثلهم، وبين كيف أهلكهم وكيف أنعم على بني إسرائيل ثم رجع إلى كفار مكة وإنكارهم للبعث فقال: {هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} .
فإن قيل: القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية، فكان من حقهم أن يقولوا: إن هذي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين.
فالجواب: قال الزمخشري: إنه قيل لهم: إنكم تموتون موتةً يَعْقُبُهَا حياةٌ كما أنكم حال كونكم نطفاً كنتم أمواتاً وقد يعقبها حياة، كقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] فقالوا: {إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} يريدون: مال الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى خاصة، ولا فرق إذن بين هذا الكلام وبين قوله: «إن هِيَ إلاَّ حَيَاتُنا الأُولى» . قال ابن الخطيب: ويمكن وجه آخر وهو أن قوله: {إن هي إلا موتننا الأولى} ، يعنى أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى وهذا الكلام يدل على أنه لا يأتيهم الحاية الثانية ألبتةَ، ثم صرحوا بهذا المرموز فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} . ولا حاجة إلى التكليف الذي ذكره الزمخشري. ثم إنَّ الكفار احتجوا على نفي الحشر، والنشر بأن قالوا: إن كان البعث والنشر ممكناً معقولاً فعجَّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا إن كنتم صادقين في دعوى النبوة والبعث في القيامة.
قيل: طلبوا من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يَدْعُوا الله حتى ينشر قصَيَّ بْن كِلاَب، ليشاوروه في صحة نبوة محمد وفي صحة البعث. ولما حكى الله تعالى عنهم ذلك قال: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} وهذا استفهام على سبيل الإنكار قال أبو عبيدة: (ملوك اليمن) كل واحد منهم يسمى تُبَّعاً؛ لأن أهل المدينة(17/326)
كانوا يتبعونه، وموضع ( «تبع» ) في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظِمُ من ملوك العرب قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها كان تُبَّعٌ رَجُلاً صالحاً. وقال كَعْبٌ: ذَمَّ الله ولَمْ يَذُمَّه وقال الكلبي: هو أو كرب (أبو) أسعد. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ تَسُبُّوا تبَّعاً فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ» وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا أَدْرِي أَكَانَ تُبَّعٌ نَبِيًّا أَمْ غَيْرَ نَبِيٍّ»
واقل قتادة: هو تبَّعٌ الْحِمْيَريّ، وكان سار بالجيوش حتى حير الحيرة وبنى سمرقند، وكان من ملوك اليمن يسمى تُبَّعاً لكثرة أتباعه، كل واحد منهم يسمى تبعاً، لأن يتبع صاحبه، وكان هذا يعبد النار، فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام، وهم حِمْيَر. فكذبوه. (قال ابن إسحاق: وكان اسمه بيان أسعد أبو كرب وقصَّتُهُ مسرودة؛ لأ، هـ كان يعبد الأوثان، وأنه أسلم على يد حَبْرَيْنِ عالميْن، وأنه أتى البيت الحرام فطاف به، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيا ينحر بها للناس ويُطْعِمُ أهلها ويسقيهم العسل، وأُري في المنام أن يكْسُوَ البيت، فكساه الخَصَفَ، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافري، ثم أري يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملا والوصائل. وكان تبع أول من كسا البيت وأوصى به ولاته من خزاعة فأمرهم بتطهيره، وأن يقربوه دَماً ولا مِيتةَ، ولامِيلاَثاً، وهي المحايِضُ وجعل له باباً ومفتاحاً، وقصته مع الحَبْرَينِ مشْهُورة وأيضاً وأنه رَجَعَ إلى اليمن وتبع الحبرين على دينهما ولذك كان أصل دين الهيودية باليَمَنِ) .
فإن قيل: ما معنى قوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} مع أنه لا خير في الفريقين؟
فالجواب: أن معناه أهم خير في القوة والشوكة كقوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} [القمر: 43] بعد ذكر آلِ فِرْعَوْنَ.
قوله: {والذين مِن قَبْلِهِمْ} يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون معطوفاً على قوم «تُبَّع» .(17/327)
الثاني: أن يكون مبتدأ، وخبره ما بعده من: «أَهْلَكْنَاهُمْ» وأما على الأول: «فأَهْلَكْنَاهُمْ» إما مستأنفٌ وإما حال من الضمير المستكنِّ في الصلة.
الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مقدر يفسره «أَهْلَكْنَاهُمْ» ولا محلّ ل «أهلكناهم» حينئذ.
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} لما أنكر على كفار مكة قولهم ووبخهم بأنه أضعف ممن كان قبلهم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالعبث والقيامة، فقال: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} أي لو لم يحصل البعث لكان هذا الخلق لعباً وعبثاً وقد تقدم تقدير هذا الدليل في أول سورة يونس، وفي آخر سورة المؤمنين عند قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] وفي «ص» عند قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27] وتقدم أيضاً استدلال المعتزلة بنظير هذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر والشرك ولايريدهما وتَقَدّمَ جَوَابُهُمَا.
قوله: «لاَعِبِينَ» حال. وقرأ عَمْرُو بْنُ عُبَيْد: وَمَا بَيْنَهُنَّ، لأن السموات والأرض جمعٌ. والعامة: «بينهما» باعتبار النوعين.
قوله «إلاَّ بالْحَقِّ» حال إما من الفاعل وهو الظاهر وإما من المفعول أي إلاَّ مُحِقِّينَ أو ملتبسين بالحق ثم قال: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (يعني أهل مكة) .(17/328)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
قوله: {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ} العامة على رفع ميقاتهم خبراً ل «إنّ» . وقرىء بنصبه على أنه أسم إنَّ، و «يَوْم الفَصل» خبره. وأجمعوا على تأكيد الضَّمير المجرور.(17/328)
(فصل
لما ذكر الدليل على إثبات البَعْث والقيامة ذكر عَقِيبه يوم الفصل قال الحسن: سمي بذلك لأن الله تعالى يفصل فيه بين أهل الجنة، وأهل النار. وقيل: إن الله فيه بين وبين ما يريد. وقيل: يظهر ح ال كل أحد كما هو فلا يبقى إلاَّ الحقائقُ والبَيِّنات، ثم وصف ذلك اليوم فقال: «يَوْمَ لاَ يُغْني» يجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم الفَصْلِ» أو بياناً عند من لا يشترط المطابقة تعريفاً وتنكيراً. أو أن يكون منصوباً بإضمار أعني، وأن يكون صفة لميقاتهم ولكنه بني. قاله أبو البقاء. وهذا لا يتأتى عنه البصريين لإضافته إلى معرب، وقد تقدم آخر المائدة، وأن ينتصب بفعل يدل عليه «يوم الفصل» أيفصل بينهم يَوْمَ لا يُغْنِِي، ولا يجوز أن ينتصب ب «الفَصْل» نفسه لما يلزم من الفصل بينهما بأَجْنَبيِّ وهو «مِيقَاتُهُمْ» والفصل مصدر لا يجوز فيه ذلك.
وقال أبو البقاء: لأنه قد أخبر عنه، وفيه تَجَوز، فَإنَّ الإخبار عما أضيف إلى الفَصْل لا عن الفصل) .
قوله: {مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} لا ينفع قريبٌ قَرِيبَهُ، ولا يدفع عنه {هُمْ يُنصَرُونَ} أي ليس لهم ناصر يمنعهم من عذاب الله. واعلم أن القريب إما في الدين أو في النَّسب أو المعتق وكل هؤلاء يُسَمَّوْنَ بالمولى فلما تحصل النصرة لهم فبأن لا تحصل ممَّنْ سواهم أولى. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 123] إلى قوله {هُمْ يُنصَرُونَ} قال الواحدي: المراد بقوله: مولى عن مولى الكفار، لأنه ذكر بعده المؤمن فقال: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يريد المؤمن فإنه يشفع له الأنبياءُ والملائكةُ.(17/329)
قوله: «وَلاَ هُمْ» جمع الضمير عائداً به على «مَوْلى» ، وإن كان مفرداً؛ لأنه قصد معناه، فجمع وهو نكرة في سياق النفي تَعُمُّ.
قوله: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} يجوز فيه أرْبَعَة أوْجُهٍ:
أحدهما: وهو قول الكسائي أنه منقطع.
الثاني: أنه متصل تقديره: لا يُغْني قريبٌ عن قريبٍ، إلا المؤمنين فإنهم يُؤْذَنُ لهم في الشفاعة فيَشْفَعُونَ في بعضهم كما تقدم عن ابن عباس.
الثالث: أن يكون مرفوعاً على البديلة من «مَوْلًى» الأول، ويكون «يُغْنِي» بمعنى ينفع قاله الحوْفيُّ.
الرابع: أنه مرفوع المحل أيضاً على البدل من واوِ «يَنْصَرُونَ» أي لا يمنع من العذاب إلا من رَحِمَهُ اللَّهُ.(17/330)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} لما وصف اليوم ذكر بعده وعيد الكفار. قال الزمخشري في «شجرة» ثلاث لغات، كسر الشين، وضمها، وفتحها. وتقدم اشتقاق لفظ «الزَّقُّوم» في سورة الصَّافَّات، و «الأَثِيمُ» صفة مبالغة ويقال: الأَثُوم كالصَّبُورِ والشَّكُورِ. و «الأثيم» أي ذِي الإثْمِ.
قال المفسرون: هو أبو جهل. قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على حصول هذا الوعيد للأثيم، وهو الذي صدر عنه الإثم، فيكون حاصلاً للفسَّاقِ.(17/330)
والجواب: أن اللفظ المفرد الذي دخل تحته حرف التعريف الأصلُ فيه أن ينصرف إلى المذكور السابق، ولا يفيد العموم، والمذكور السابق هنا هو الكفار فنيصرف إليه.
فصل
مذهب أبي حنيفة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) أن قراءة القرآن بالمعنى جائز واحتج علهي بأنه نقل عن ابن مسعود (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) أنه يقرىء رجلاً هذه الآية فكان يقول: طَعَامُ اليَثيمِ فقال: طَعَامُ الفَاجِرِ. وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بُيِّنَ في الفِقْه.
قوله: «كَالْمُهْلِ» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هُوَ كَالْمُهْلِ. ولا يجوز أن يكون حالاً من: «طَعَام الأثيم» . قال أبو البقاء: لأنه لا عامل إذَنْ. وفيه نظر؛ لأنه يجوز أن يكون حَالاً والعامل في معنى التشبيه، كقولك: زَيْدٌ أَخُوكَ شُجَاعاً.
والمهل قيل: دُرْدِيّ الزيت. وقيل: عَكرُ القطران. وقيل: ما أُذِيبَ من ذهب أو فضةِ. وقيل: ما أذيب منهما ومن كل ما في معناهما من المُنْطَبعَاتِ كالحَديد والنُّحاس والرَّصَاص. والمَهَلُ بالفتح التُّؤَدَةُ والرِّفق، ومنه: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] . وقرأ الحسن: كَالْمَهْلِ بفتح الميم فقط وهي لغة في المُهْل بالضم. وتقدم تفسيره في الكهف.
قوله: «يَغْلِي» قرأ ابنُ كثير وحَفْصٌ بالياء من تحت الفاعل ضمير يعود على «طَعَام» . وجَوَّز أبُو البقاء أن يعود على الزقوم. وقيل: على المهل نفسه. و «يَغْلِي»(17/331)
حال من الضمير المستتر في الجار أي منهما المهل غالياً. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف، اي هُوَ يَغْلِي، أي الزقوم أو الطعام. والباقون تَغْلِي بالتاء من فوق، على أن الفاعل ضمير الشجرة، والجملة خبر ثانٍ أو حال على رأيٍ، أو خبر مبتدأ مضمر، أي هِيَ تَغْلِي (واختار أبو عبيد الياء؛ لأن الاسم المذكور الذي هو المهل هو الذي يلي الفعل نعتاً، والتذكير به أولى) . قوله: «كَغَلْي الْحَمِيم» نعت لمصدر محذوف ِأو حال من ضميره أي تَغْلِي عَلْياً مِثْلَ غَلْي الْحَمِيم أو تَغْليةً مُشْبِهاً غَلْيَ الحميم. قال ابن الخطيب: واعلم أنه لا يجوز أن يحمل الغَلْيُ على المُهْل؛ لأن المهل مشبَّه به، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل كغلي الحميم، وهو الماء إذا اشتدت حرارته.
قوله: «خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ» قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر بضم تاء اعتلوه والباقون بكسرها وهما لغتان في مضارع «عَتَلَهُ» أي ساقه بجَفَاءٍ، وغِلْظَة، كعَرَشَ، يَعْرِشُ، ويَعْرُشُ. والعُتُلُّ: الجَافِي الغَليِظُ قالت اللَّيْثُ: العَتْلُ أن تأخذ تَلْبِيب الرجل فتقتله، أي تَجُرُّه إليك، وتذهب به إلى حَبْسٍ أو محنةٍ. وأخذ فلان بزمام الناقة يَعْتِلُهَا، وذلك إذا قبض على أصل الزِّمَام عند الرأس، وقادها قوداً عنيفاً (وقال ان السِّكِّيت: عَتَلْتُهُ إلَى السِّجْنِ وأعْتَلْتُهُ إذا دفَعْتَهُ دَفْعاً عَنِيفاً) .
قوله: {إلى سَوَآءِ الجحيم} أي إلى وَسَطِ الجَحِيم، ومعنى الآية: أنه يقال للزبانية: خذوه أي الأثيم فاعتلوه، أي سوقوه بعنف إلى وَسَط الجحيم، {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} ، كقوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} [الحج: 19] إلا أنَّ هذه الاستعارة أكمل في المبالغة كأنه يقول: صبو عليه عذاب ذلك الحميم ونظيره قوله: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [الأعراف: 126] .(17/332)
قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ} قرأ الكسائيُّ بفتح همزة إنك، على معنى العلة، أي لأَنَّك. وقيل تقديره ذق عذاب الجحيم أنك أنت العزيز، والباقون بالكسر، على الاستنئاف المُفيد للعلة، فتتحدُ القراءتان معنى، وهذا الكلام على سبيل التهكم وهو أغيظ لِلْمُسْتَهْزَأ بِهِ.
ومثله قول جرير لشاعر يسمي نفسه زَهْرَةً اليَمَنِ:
4430 - أَلَمْ تَكُنْ فِي وُسُومٍ قَدْ وُسِمْتَ بِهَا ... مِنْ كُلِّ مَوْعِظَةٍ يَا زَهْرَةَ اليَمَنِ
وهذا الشاعر قد قال:
4431 - أَبْلِغْ كُلَيْباً وَأَبْلِغْ عَنْكَ شَاعِرَهَا ... أَنِّي الأَعَزُّ وَأَنِّي زَهْرَةُ اليَمَنِ
ومعنى الآية أنك بالضدِّ منه. روي أن أبا جهل قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَا بَيْنَ جبليْها أَعَزُّ ولا أكرمُ مِنِّي، فَوَالله لا تَسْتَطيعُ أَنْتَ وَلاَ رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلاَ بِي شَيْئاً. وروي أن خزنة جهنم تقولُ للكافر هذا الكلام إشْفَاقاً بهم وتوبيخاً.
قوله: {إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي تشكون فيه ولا تؤْمِنُون بِهِ.(17/333)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} لما ذكر وعيد الكفار أردفه بِآيَاتِ الوعْد فقال: «إنْ المُتَّقِينَ» قال أهل السنة: كل من اتقى الشرك صدق عليه أنه متق، فوجب أن(17/333)
يدخل الفساق هذا الوعد فقال: فِي مَقَام أَمِينٍ. وقرأ أهل المدينة والشام بضمِّ ميم «مُقَام» على المصدر، أي في إقامة وقرأ الباقون فتح الميم أي في مَجْلِس أمنين آمنوا فيه من الغير. قال الزمخشري (المقام) بفتح الميم هو موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي جُعل مستعملاً في المعنى العام وبالضم هو موضع الإقامة، والأمين من قولك: أَمِنَ الرَّجُلُ اَمَانَةً فَهُو أَمِينٌ وهو ضد الخائن. فوصف به المكان ستعارة؛ لأن المكان المخيف كأنه يَخُون صَاحِبَه.
قوله: «فِي جَنَّاتٍ» يجوز أن يكون بدلاً من قوله: «فِي مَقَام» بتكرير العامل، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً وقوله: «يَلْبَسُونَ» يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجارِّ، وأن يكون خبراً ل «إنّ» فيتعلَّق الجار به، وأن يكون مستأنفاً.
قوله: «مُتَقَابِلِينَ» حال من فاعل «يَلْبَسُونَ» . وتقدم تفسير السُّنْدُسِ والإسْتَبْرَقِ والمُقَام.
قوله: «كذلك» في هذه الكاف وجهان:
أحدهما: النصب نعتاً لمصدر، أي نفعل بالمتقين فعلاً كذلك أي مثْلَ ذلك الفِعل.
والثاني: الرفع على خبر ابتداء مضمر أي الأَمرُ كَذلِكَ.
وقدر أبو البقاء قبله جملةً فقال: «تقديره: فَعَلْنَا ذَلِكَ، والأَمْرُ كَذلِكَ» ، ولا حاجة إليه. والوقف على «كذلك» والابتداء بقوله: وَزَوَّجْنَاهُمْ.
قوله: «بِحُورٍ عِينٍ» العامة على تنوين «حُورٍ» موصوفاً «بِعِينٍ» . وعكرمة لم يُنَوِّنْ، أضافهن لأ، هن يَنْقَسِمْن إلى «عِينٍ» وغير «عِينٍ» . وتقدم تفسير الحُور العِينِ.
فإن قيل: المراد بجلوسهم متقابلين استئناس بعضهم ببعض، والجلوس على هذه الصّفة موحش لأنه يكون كل واحد منهم مطلعاً على ما يفعل الآخر، وأيضاً فالقيليل الثواب إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه ينغص عليه!
فالجواب: أن أحوال الآخرة بخلاف أحوالِ الدنيا.(17/334)
فصل
قال أبو عبيدة: معنى «وَزَوَّجْنَاهُمْ» أي جعلناهم أزواجاً، كما يزوج النَّعْلُ بالنَّعْلِ أي جَعَلْنَاهُمْ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. واختلفوا في هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزويج أم لا؟ فقال يونس: قوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ وليس من عقد التزويج، والعرب لا تقول: تَزَوَّجْتُ بِهَا، وإنَّما تقول: تَزَوَّجْتُهَا. وقال الواحديُّ: (رَحِمَهُ اللَّهُ) : والتنزيلم نزل على ما قال يونس، وذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ولو كان المراد تَزَوَّجْتُ بِهَا لقال: زَوَّجْنَاكَ بِهَا.
فصل
قال الواحدي: وأصل الحور البَيَاض، والتَّحْوير التبييض، وقد تقدم في تفسير الحَوَارِيِّينَ. وعين حوراء إذا اشتدَّ بَيَاضُ بَيَاضِهَا، واشْتَدَّ سَوَادُ سَوَادِهَا، ولا تسمى المرأة حَوْرَاءَ حتى يكون حَوَرُ عَيْنَيْهَا بَيْضَاء في لَوْن الجَسَد. وأما العِينشُ فجمع عَيْنَاءَ، وهي التي تكون عظيمةً العَيْنَيْنِ من النِّسَاء وَاسِعَتَهُمَا.
قوله: «يَدْعُونَ فِيهَا» حال من مفعول «زَوَّجْنَاهُمْ» ومفعوله محذوف، أي يدعون الخَدَمَ بكُلّ فَاكِهَةٍ وقوله: «آمِنِينَ» يجوز أن تكون حَالاً ثانيةً، وأن تكون حالاً من فالع «يَدْعُونَ» فتكون حالاً مُتَدَاخِلَةً ومعنى «آمنين» أي من نِفَارِهَا ومِنْ «مَ» ضَرَّتِهَا.
وقال قتادة: آمنين من الموت، والأوْصَاب، والشَّيْطَان.
قوله: «لاَ يَذُوقُونَ» يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «آمِنِينَ» وأن يكون حالاً ثالثةً أو ثانيةً من مفعول «وزَوَّجْنَاهُمْ» ، و «آمِنينَ» حال من فاعل «يَدْعُونَ» كما تقدم، أو صفة «لآمِنينَ» أو مستأنف. وقرأ عَمرُو بنُ عُبَيْد: لاَ يُذَاقُونَ مبنياً للمفعول.(17/335)
قوله: «إلاَّ المَوْتَة الأُوْلَى» فيه أوجه:
أحدها: أنه استثناء منقطع، أي لكن المَوْتَةَ الأُولى، قَدْ ذَاقُوهَا.
الثاني: أنه متصل، وتأولوه بأن المؤمن عند موته في الدنيا يُرَى منزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطَاه منها أولما يتيقنه من نعيمها.
الثالث: أن «إلاَّ» بمعنى سوى. نقله الطبري وضَعَّفَهُ.
قال ابن عطية: وليس تضعيفه بصحيح، بل هو كونها بمعنى سوى مستقيم منتسق.
الرابع: أن «إلاّ» بمعنى «بَعْدَ» ، واختاره الطبري. وأباهُ الجمهور، لأن إلاَّ بمعنى بَعْدَ لم يَثْبتُ.
وقال الزمخشري: فَإِن قلتَ: كيف استثنيت الموتةَ الأولى المَذُوقَةَ قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه منها؟
قُلْتُ: أريدَ أن يُقَالَ: لا يذقون فيها الموت البتة، فوضع قوله: {إِلاَّ الموتة الأولى} موضع «ذَلِكَ» ، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذَوْقُهَا في المستقبل؛ فإنهم يذُوقُونَها في الجنَّة.
قالال شهاب الدين: وهذا عند علماء البيان يسمى نَفي الشيء بدليله ومثله قولن النَّابغة:
4432 - وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتائِبِ
يعني إن كان أحد يعند فُلُول السيوف من قراع الكتائب عيباً، فهذا عيبهم لكن(17/336)
عَدّهُ من العيوب محال فانتفى عنه العيب بدليل تعليق الأمر على المُحَال.
وقال ابن عطية بعد ما حكاه عن الطبري: فتبين أنه فنى عنهم ذَوْقَ الموت، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا. يعني أنه كلامٌ محمول على مَعْنَاه.
وقال ابن الخطيب: إن من جرب شيئاً ووقف عليه وصح أن يقال: إنه ذَاَقَهُ، وإذا صح أن يسمى ذَلِكَ العلمُ بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضاً بالذوق.
فقوله: {يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} يعنى الذَّوْقَ الحاصِلَ بسبب تذكر الموتة الأولى.
فإن قيل: أليس أنَّ أهل النار لا يذوقون الموت فلم بَشَّرَ أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه؟
فالجواب: أن البشارةَ ما وقعت بدوام الحياة، (بل بدوام الحياة) مع سابقة حصول تلك الخيرات والساعات فافترقا.
قوله: «وَوَقَاهُمْ» الجمهور على التخفيف، وقرأ أَبو حَيْوَةَ وَوَقَّاهُمْ بالتشديد على المبالغة ولا تكون للتعدية فإنه متعدٍّ إلى اثنيْنِ.
قوله: «فَضْلاً» مفعول من أجله، وهو مراد مَكِّيٍّ بقوله: مصدر عَمِلَ فيه «يَدْعُونَ» . وقيل: العامل فيه: «وَوَقَاهُمْ» . وقيل: آمنين. فهذا إنما يظهر على كونه مفعولاً من أجله، على أن يجوز أن يكون مصدراً، لأن «يَدْعُونَ» وما بعده من باب التفضُّل، فهو مصدر ملاقٍ لعامله في المعنى. وجعله أبو البقاء منصوباً بمقدر أي تَفَضَّلْنَا بذلك فضلاً أي تَفَضُّلاً.
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الثواب يحصل من الله (تعالى) فضلاً(17/337)
وإحساناً وأن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص عن النار والفَوْزِ بالجَنَّة، فإنما يحصل بفضل الله تعالى، ثم قال: {ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} وهذا يدل على أن الفضل أعلى من درحات الثواب المستحق، لأنه وصفه بكمونه فَوْزاً عظيماً، وأيضاً فإن الملكَ العظيم إذا أعطى الأجير أجرته، ثم خلع على إنسان آخر، فإن تلك الخُلْعة أعلى حالاً من إعطاء تلك الأجرة. ولما بين الله تعالى الدلائل وشرح الوعد والوعيد قال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} أي سَهَّلْنَا القرآن، كناية عن غير مذكور «بِلِسَانِكَ» أي بلغتك. والباء للمصاحبة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يَتَّعظُونَ. قال القاضي: وهذا يدل علىأنه أراد من الكل الإيمان ولم يرد من أحَدٍ الكفر. وأُجِيبَ: بأن الضمير في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} عائد إلى أقوام مخصوصين فيحمل ذلك على المؤمنين.
قوله: «فَارْتَقِبْ» أي فانتظر ما يحِلُّ بهم {إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} لما يحِلُّ بِكَ. فمفعولا الارتقاب محذوفان أي فارتقب النصر من ربك إنهم مرتقبون بك ما يتمنونه من الدوائر والغوائل ولن يضرك ذلك.
روى أبو هريرة: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأَ حَم الدخان في لَيْلِهِ أصبح يستغفر له سَبُعون أَلْف مَلَك» رواه البغوي في تفسيره.
وروى الثَّعْلَبِيُّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة جمعةٍ أصبح مغفوراً له» «. وقال أبو أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم (يقول) :» من قرأ حم الدخان ليلة الجُمُعَةِ أو يوم الجمعة بَنَى الله له بيتاً في الجنة «.
(اللهم أسْعِدْنا بعظيم فضلك، وأرحمنا برحمتك) . (والله تعالى أعلمُ بالصواب وإليه المرجعُ والمَآب) .(17/338)
سورة الجاثية(17/339)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
مكية وهي سبع وثلاثون آية، وأربعمائة وثمانون كلمة، وألفان ومائة وإحدى وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {حمتَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} قد تقدم مثله أول غافرٍ. وقال أبو عبد الله الرازي: العزيز الحكيم إن كانا صفة لله كانا حقيقة، وإنْ كَانَا صفة للكتاب كانا مجازاً له.
ورد عليه أبو حيان جعله إياهما صفة للكتاب. قال: إذ لو كان كذلك لوليت الصِّفَةُ موصوفَها فكا يقال: تنزيل الكتاب العزيزِ الحكيمِ مِنَ اللهِ. قال: لأن «من الله» إن تعلق «بتنزيل» و «تنزيل» خبر ل «حم» أو لمبتدأ محذوف، لزم الفصل به بين الصفة والموصوف، ولا يجوز، كما لا يجوز: أعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ بٍسَوْط الفَاضِل، أو في موضع الخبر وتنزيل مبتدأ، فلا يجوز الفصل به أيضاً لا يجوز: ضَرْبُ زَيْدٍ شَدِيدٌ الفَاضِلُ.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} إن كان قوله «حم» قسماً «فتزيل الكتاب» نعت له، وجواب القسم: {إِنَّ فِي السماوات والأرض} واعلم أن(17/339)
حصول الآيات في السموات والأرض ظاهر دال على وجود الله تعالى، وقدرته مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها، وأيضاً الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار. وقد تقدم الكلام في كيفية دلالتها على وجود الإلهة القادر الفاعل المختار.
وقوله: «لآياتِ لِلْمؤمِنِينَ» يقتضي كون هذه مختصةً بالمؤمنين. وقالت المعتزلة: إنها آيات للمؤمن والكافر، إلا أنه لما انتفع بها المؤمن دون الكافر أضيف كونها آياتٍ للمؤمنين، ونظيره قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] فإنه هُدًى لكلّ الناس، كما قال تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185] إلاَّ أنهن لما نتفع به المؤمن خاصةً قيلَ: هدى للمتقين.
قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} فيه وجهان:
أظهرهما: أن قوله: «وَمَا يَبُثُّ» معطوف على «خَلْقِكُمْ» المجرور بفي والتقدير: وفيمَا يَبُثُّ.
الثاني: أنه معطوف على الضمير المخفوض بالخلق وذلك على مذهب من يرى العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار. واستقبحه الزمخشري وإن أُكِّدَ، نحو: مَرَرْتُ بِكَ أَنْتَ وَزَيْدٍ يشير بذلك إلى مذهب الجَرْميّ، فإنه يقول: إن أكّدَ جاز، وإِلاَّ فَلاَ. فقوله مذهب ثالث.
قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} و {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . وقرأ آيات بالكسر في الموضعين الأخوان والباقون برفعهما ولا خرف في كسر الأولى؛ لأنها اسم «إن» فأما آيات لقوم يوقنون بالكسر فيجوز فيها وجهان:
أحدهما: ِأنها معطوفة على اسم «إن» والخبر قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ} كأنه قيل: وإنَّ فِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَات.(17/340)
والثاني: أن تكون كررت توكيداً «لآيَات» الأُوْلَى، ويكون «في خلقكم» معطوفاً على «السَّموَات» كرر معه حرف الجر توكيداً. ونظيره أن تقول: إنَّ في بَيِْتِكَ زَيْداً وفي السّوقِ زَيْداً فزيد الثاني توكيد للأول كأنك قلت: إنَّ زَيْداً زَيْداً فِي بَيْتِكَ وفِي السُّوق.
وليس في هذا عطف على معمولي عاملين البتة وقد وهم أبو البقاء فجعلها من ذلك فقال: آيات لقوم يوقنون بكسر الثانية وفيه وجهان:
أحدهما: أن «إن» مضمرة حذفت لدلالة «إن» الأولى عليها، وليست «آيات» معطوفة على آيات الأولى، لما فيه من العطف على معمولي عاملين.
والثاني: أن تكمون كررت للتأكيد، لأنها من لفظ «آيات» الأولى، وإعرابها كإعرابها كقولك: إنَّ بِثَوْبِكَ دَماً وَبِثَوْبِ زَيْدٍ دماً، فَدَم الثاني مكرر، لأنك مستغنٍ عن ذكره انتهى.
فقوله: وليست معطوفة على «آيات» الأولى لما فيه من العطف على معمولي عاملين وهمٌ أين معمول العامل الآخر؟ وكأنه توهم أن «في» ساقطة من قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ} أو اختلطت عليه {آيات لقوم يعقلون} بهذه، لأن تِيكَ فيها ما يوهم العطف على عاملين. وقد ذكره هو أيضاً. وأما الرفع فمن وجهين أيضاً:
أحدهما: أن يكون «فِي خَلْقِكُمْ» خبراً مقدماً، و «آياتٌ» مبتدأ مؤخراً، وهي جملة معطوفة على جملة مؤكدة بإِن.
والثاني: أن تكون معطوفة على «آيات» الأولى اعتباراً بالمحل عند من يجيز ذلك، لا سيما عند من يقول: إنه يجوز ذلك بعد الخبر بإجماعل. وأما قوله: {واختلاف الليل والنهار} فقد تقدم أنَّ الأخوين يقرآن آياتٍ بالكسر وهي تحتاج إلى إيضاح، فإن الناس تكلموا فيها كثيراً وخرّجوها على أوجه مختلفة، وبها استدل على(17/341)
جواز العطف على عاملين قال شهاب الدين: والعطف على عاملين لا يختص بقراءة الأخوين، بل يجوز أن يستدل عليه أيضاً بقراءة الباقين كما سنقف عليه إنْ شَاءَ الله تعالى فأما قراءة الأخوين ففيها أَوْجهُ:
أحدها: أن يكون «اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ» مجروراً ب «في» مضمرةً، وإنما حذفت لتقدم ذكرها مرتين وحرف الجر إذا دلّ عليه دليل (جاز حذفه وأيضاً عمله وأنشد الإمام الأستاذ سيبويه:)
4433 - ألآن قَربَّتْ تهْجُونَا وتَشْتُمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
تقديره: وبالأَيامِ، لتقدم الباء في «بِكَ» . ولا يجوز عطفه على الكاف لأنه ليس من مذهبه العطف على الضمير المجرور، دون إعادة الجارّ، فالتقدير في هذه الآية: «وَفِي اخْتِلاَفِ آيَاتِ» ، فآيات على ما تقدم من الوجهين في آيات قبلها العطف أو التأكيد. قالوا: ويدلّ على ذلك قراءة عبد الله (وَفِي اخْتِلافِ) تصريحاً بفي. فهذان وجهان:
الثالث: أن يعطف «اخْتِلافِ» على المجرور بفي، وآيات على المنصوب بإن وبهذا هو العطف على عاملين، وتحقيقه على معمولي عاملين، وذلك أنك عطفت «اخْتِلاَفِ» على «خَلْقِ» وهو مجرور بفي فهو معمول عامل، وعطف «آياتِ» على اسم إنّ وهو معمول عامل آخر.
فقد عطفت بحرف واحد وهو الواو معمولين وهما «اخْتِلافِ» و «آياتٍ» على معمولين قبلهما وهما «خلق وآيات» .(17/342)
ويظاهرها استدل على من جوّز ذلك كالأخفش. وفي المسألة أربعة مذاهب، المنع مطلقاً، وهو مذهب سيبويه، وجمهور البصريين، قالوا: لأنه يؤدي إلى إقامة حرف العطف مقام عامليْن وهو لا يجوز؛ لأنه لو جاز في عاملين لجاز في ثلاثة، ولا قائل به، ولأن حرف العطف ضعيف، فلا يَقْوَى أن ينوب عن عاملين، ولأن القَائِلَ بجواز ذلك يستضعفه والأحسن عنده أن لا يجوز، مفملا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله، ولأنه بمنزلة التَّعْدِيَتَيْنِ بمُعَدِّ واحد، وهو غير جائز.
قال ابن السراج: العطف على عاملين خطأ في القياس غير مسموع من العرب، ثم حمل ما في هذه الآية على التكرار والتأكيد. قال الرماني: هو كقولك: إنَّ فِي الدَّارِ زَيْداً وَالبَيْتِ زَيْداً، فهو جائز بالإجماع، وهذا الوجه الذي ذكره ابن السراج حَسَنٌ جداً لا يجوز أن يحمل كمتاب الله إلا عليه وقد ثبتت القراءة بالكسر، ولا يعيب فيها في القرآن على وجه. والعطف على عاملين عيب عند من أجازه ومن لم يجزه فقد تَنَاهى في العقيب فلا يجوز حمل هذه الآية على ما ذكره ابن السراج دون ما ذهب إليه غيره. قال شهاب الدين: وهذا الحَصْر منْهُ غير مُسَلَّم، فإن في الآية تخريجاتٍ أُخَر على ما ذكره ابنُ السراج، يجوز الحمل عليها. وقال الزجاج ومثله في الشعر:
4434 - أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبينَ امْرَءاً ... وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارا(17/343)
وأنشد الفارسيّ للفرزدق:
4435 - وبَاشَرُوا رَعْيَها الصَّلا بِلَبَانِهِ ... وَجَنْبَيْهِ حَرَّ النَّارِ مَا يتَحَرَّفُ
وقول الآخر:
4436 - اَوْصَيْتَ مِنْ بَرَّةً قَلْباً حَرًّا ... بِالكَلْبِ خَيْراً وَالحَمَاةِ شَرًّا
فأما البيت الأول فظاهره أنه عطف «وَنَارٍ» على «امرىء» المخفوض «بكل» و «نَاراً» الثانية على «أمْرءاً» الثاني، والتقدير: أتَحْسَبِينَ كُلَّ نَاراً، فقد عطف على معمولي عاملين.
والبيت الثاني: عطف عليه «وجَنْبَيْهِ» على «بِلَبَانِهِ» عطف حرّ النار «على الصَّلا» والتقدير: وبَاشَرَ بجَنْبَيْه حَرَّ النَّارِ.
والبيت الثالث: عطف فيه «الحَمَاةِ» على «الكلبِ» و «شرًّا» على «خيراً» تقديره: وأوْصَيْتَ بالحَمَاةِ شَرًّا.
وسيبويه في جميع ذلك يرى الجر بخافض مقدر، لكنه عورض بأن إعمال حرف الجر مضمراً ضعيفٌ جداً، ألا ترى أنه لا يجوز: مَرَرْتُ زَيْدٍ بخفض «زَيْدٍ» إلاَّ في ضرورة كقوله:
4437 - إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ ... أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ
يريد: إلى كليب، وقول الآخر:
4438 - ... ... ... ... ... ... ... . ... تَبَذَّخَ فَارْتَقَى الأَعْلاَمِ(17/344)