تشديد السين - والتَّقاسم والتقسُّم كالتَّظاهر والتَّظَهُّر.
قوله: «بِاللَّهِ» إن جعلت «تَقَاسَمُوا» أمراً، تعلق به الجار قولاً واحداً، وإن جعلته ماضياً احتمل أن يتعلق به، ولا يكون داخلاً تحت القول، والمقول هو «لنُبَيِّتنَّهُ» (إلى آخره، واحتمل ان يتعلق بمحذوف هو فعل القسم، وجوابه: «لنُبَيِّتَنَّهُ» فعلى هذا يكون ما بعده داخلاً تحت المقول.
قوله: «لنُبيِّتَنَّهُ» ) قرأ الأخوان بتاء الخطاب المضمومة وضم التاء، والباقون بنون المتكلم وفتح التاء. «ثُمَّ لَنَقُولَنَّ» : قرأ الأخوان بتاء الخطاب المضمومة وضم اللام والباقون بنون المتكلم وفتح اللام، ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخوين. (إلا أنّه بياء الغيبة في الفعلين، وحميد بن قيس كهذه القراءة في الأول، وقراءة غير الأخوين) من السبعة في الثاني. فأمَّا قراءة الأخوين فإن جعلنا «تقاسموا» فعل أمرٍ، فالخطاب واضح، رجوعاً بآخر الكلام إلى أوله، وإن جعلناه ماضياً، أو أمراً فالأمر فيهما واضح وهو حكاية إخبارهم عن أنفسهم وأمّا قراءة الغيبة فيهما فظاهرةٌ على أن يكون «تَقَاسَمُوا» ماضياً رجوعاً بآخر الكلام إلى أوله في الغيبة، وإن جعلناه أمراً كان «لنُبَيَّتنهُ» جواباً لسؤال مقدر، كأنّه قيل: كيف تقاسموا؟ فقيل: لَنُبَيِّتَنَّه. وأما غيبة الأول والمتكلم في الثاني: فتعليله مأخوذ ممّا تقدّم في تعليل القراءتين، وقال الزمخشري: وقرىء «لتُبَيِّتنَّهُ» بالتاء والياء والنون، ف «تَقَاسَمُوا» مع التاء والنون يصح (فيه الوجهان، يعني يصح) في «تَقَاسَمُوا» أن يكون أمراً وأن يكون خبراً، قال: ومع الياء لا يصح إلاّ أن يكون خبراً.
قال شهاب الدين: وليس كذلك لما تقدّم من أنه يكون أمراً وتكون الغيبة(15/179)
فيما بعده جواباً لسؤال مقد. وقد تابع الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال: «تَقَاسَمُوا» فيه وجهان:
أحدهما: هو أمرٌ أي: أمر بعضهم بذلك بعضاً، فعلى هذا يجوز في «لنُبَيِّتَنَّهُ» النون بتقدير: قولوا لنُبَيِّتَنَّهُ، والتاء على خطاب الأمر المأمور، ولا يجوز التاء.
والثاني: هو فعل ماض، وعلى هذا يجوز الأوجه الثلاثة. يعني بالأوجه: النون والتاء والياء، قال: وهو على هذا تفسير، أي: وتقاسموا على كونه ماضياً مفسّراً لنفس «قَالُوا» وقد سبقهما إلى ذلك مكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتقدم توجيه ما منعوه ولله الحمد، وتنزيل هذه الأوجه بعضها على بعض مام يصعب استخراجه من كلام القوم، وتقدّم الكلام في «مَهْلِكَ أَهْلِهِ» في الكهف.
فصل
من جعله أمراً فموضع «تَقَاسَمُوا» جزم على الأمر، أي: احلفوا، ومن جعله فعلاً ماضياً فمحله نصب أي: تحالفوا وتوافقوا لنبيتّنه لنقتلنه، بياتاً أي: ليلاً، وأهله: أي: قومه الذين أسلموا معه، {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} : أي لولي دمه، «مَا شَهِدْنَا» ما حضرنا، «مَهْلِكَ أَهْلَهِ» إهلاكهم، ولا ندري من قتله، ومن فتح الميم فمعناه: هلاك أهله، «وَإِنَّا لَصَادِقُونَ» : في قولنا ما شهدنا ذلك.
قوله: «وَمَكَرُوا مَكْرً» غدروا غدراً حين قصدوا تبييت صالح والفتك به، «وَمَكَرْنَا مَكْراً» جازيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم، «وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ» فشبّه إهلاكهم من حيث لا يشعرون بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. وقيل: إنّ الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرز عنهم، فذلك مكر الله في حقهم.
قوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} : قرأ الكوفيون بفتح «أَنَّا» ، والباقون بالكسر، فالفتح من أوجه:(15/180)
أحدها: أن يكون على حذف الجر، لأنَّا دمّرناهم، و «كَانَ» تامّة، و «عَاقِبَةُ» فاعل بها، و «كَيْفَ» : حال.
الثاني: أن يكون بدلاً من «عَاقِبَةُ» ، أي: كيف كان تدميرنا إيّاهم، بمعنى كيف حدث.
الثالثك أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هي أنَّا دمَّرناهم، أي: العاقبة تدميرنا إياهم، ويجوز مع هذه الأوجه الثلاثة أن تكون كان ناقصة، ويجعل «كَيْفَ» خبرها، فتصير الأوجه ستة، ثلاثة مع تمام «كَانَ» وثلاثة مع نقصانها، ونزيد مع الناقصة وجهاً آخر، وهو ان يجعل «عَاقِبَة» اسمها، و «أَنَّا دَمَّرناهُم» خبرها، و «كَيْفَ» : حال، فهذه سبعة أوجه، والثامن: أن تكون «كان» زائدة، و «عاقبة» مبتدأ، وخبره «كَيْفَ» ، و «أَنَّا دَمَّرنَاهُم» بدل من «عاقبة» أو خبر مبتدأ مضمر، وفيه تعسُّف.
التاسع: أنها على حذف الجار أيضاً، إلا أنه الباء، أي: بأنَّا دمَّرناهم، ذكره أبو البقاء.
العاشر: أنها بدل من «كَيْفَ» ، وهذا وهم من قائله، لأن المبدل من اسم الاستفهام يلزم معه إعادة حرف الاستفهام، نحو: كم مالكم أعشرون أم ثلاثون؟ وقال مكي: ويجوز في الكلام نصب «عَاقِبَة» ويجعل «أَنَّا دَمَّرنَّاهُم» اسم كان. انتهى.
بل كان هذا هو الأرجح كما كان النصب في قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [العنكبوت: 24] ونحوه أرجح، لما تقدّم شبهه بالمضمر، لتأويله بالمصدر، وتقدّم تحقيق هذا. وقرأ أُبيّ: «أنْ دَمَّرْنَاهُمْ» وهي: أن المصدرية التي يجوز أن تنصب المضارع، والكلام فيها كالكلام فيها كالكلام على «أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ» وأمّا قراءة الباقين، فعلى(15/181)
الاستئناف، وهو تفسير للعاقبة، وكان يجوز فيها التمام والنقصان والزيادة، و «كَيْفَ» وما في حيّزها في محل نصب على إسقاط الخافض، لأنّه معلق للنظر، و «أَجْمَعِينَ» : تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه.
فصل
قال ابن عباس: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه، فأتى التسعة دار صارح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة، فقتلتهم. وقال مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضاً، ليأتوا دار صالح، فجثم عليه الجبل فأهلكهم وأهلك الله قومهم بالصيحة.
قوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} العامة على نصب «خَاوِيَةً» حالاً، والعامل فيها معنى اسم الإشارة، وقرأ عيسى: «خَاوِيَةٌ» بالرفع، إمّا على خبر «تلك» ، و «بُيُوتُهُمْ» بدل من «تِلْك» ، وإمّا خبر ثان، و «بُيُوتُهُم» خبر أول، وإمّا على خبر مبتدأ محذوفن أي: هي خاوية، وهذا إضمار مستغنًى عنه، و «بِمَا ظَلَمُوا» متعلق ب «خاوية» ، أي بسبب ظلمهم. و «خَاويَةً» أي: خالية «بِمَا ظَلَمُوا» بظلمهم وكفرهم، {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً} لَعِبْرَةً، «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» قدرتنا: {وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} قيل: كان الناجون منهم أربعة آلاف.(15/182)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} الآية، «ولُوطاً» إمّا منصوب عطفاً على «(15/182)
صالحاً» أي: وأرسلنا لوطاً، وإمّا عطفاً على «الَّذِينَ آمَنُوا» ، أي: وأنجينا لوطاً، وإمّا «باذْكُر» مضمرة، و «إذْ قَالَ» : بدل اشتمال من «لُوطاً» ، وتقدّم نظيره في مريم وغيرها.
«أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ» استفهام على وجه الإنكار، والتوبيخ بمثل هذا اللفظ أبلغ، و «الفَاحِشَةِ» : الفعلة القبيحة.
قوله: «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» جملة حالية من فاعل «تَأْتُونَ» أو من «الفَاحِشَةَ» ، والعائد محذوف، أي: وأنتم تبصرونها لستم عثمياً عنها جاهلين بها، وهو أشْنَعُ. وقيل: المعنى يرى بعضكم بعضاً، وكانوا لا يستترون، عنوّاً منهم. فإن قيل: إذا فسرت «تُبْصِرُونَ» بالعلم، وبعده: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فكيف يكون علماً جهلاً؟ فالجواب:
تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك، أو تجهلون العاقبة، أو أراد بالجهل: السفاهة والمجانة التي كانوا عليها.
قوله: «شَهْوَةً» : مفعول من أجله، أو في موضع الحال، وقد تقدّم.
قوله: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ: خبر مقدم، و {إِلاَّ أَن قالوا} في موضع الاسم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق برفعه اسماً، و {إِلاَّ أَن قالوا} خبر وهو ضعيف، لما تقدّم تقريره. وتقدّم قراءتا «قَدَّرْنَا» تشديداً وتخفيفاً، والمخصوص بالذم محذوف في قوله: {فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} أي: مَطَرُهُمْ.
فصل
لما بيَّن تعالى جهلهم، بيّن أنهم أجابوا بما لا يصلح أن يكون جواباً، فقال:(15/183)
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ، أي: يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش. وقيل: قالوا ذلك على وجه الهزء.
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا} قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا «مِنَ الغَابِرِينَ» ، أي: الباقين في العذاب، و {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً} ، وهو الحجارة {فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} .(15/184)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
قوله تعالى: {قُلِ الحمد لِلَّهِ} الآية، العامة على كسر لام قل، لالتقاء الساكنين، وأبو السمال بفتحها تخفيفاً، وكذا في قوله: {وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [النمل: 93] ، «وَسَلاَمٌ» : مبتدأ، سوَّغ الابتداء به كونه دعاء.
فصل
المعنى: «الحمد لله» على هلاكهم، وهذا خطاب لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية، و {وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى} بأن أرسلهم ونجّاهم. وقيل: هذا كلام مبتدأ، فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء - عليهم السلام - وكان محمد - عليه السلام - كالمخالف لمن قبله - في العذاب؛ لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه - أمره الله تعالى بأن يشكر ربّه على ما خصّه به من هذه النعم، وبأن يسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة.
قوله: {وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى} قال مقاتل: هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى: {وَسَلاَمٌ على المرسلين} [الصافات: 181] . وقال ابن عباس - في رواية أبي مالك - هم أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال الكلبي: هم أمة محمد وقيل: هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين.(15/184)
قوله: «أَمّا» أمْ هذه متصلة عاطفة، لاستكمال شروطها، والتقدير: أَيُّهُمَا خَيْرٌ، و «خَيْرٌ» إمَّا تفضيل - على زعم الكفار - وإلزام الخصم، أو صفةٌ لا تفضيل فيها. و «مَا» في «أَمْ مَا» بمعنى الذين، وقيل: مصدرية، وذلك على حذف مضاف من الأول، أي أتوحيد الله خير أم شرككم؟ وقرأ أبو عمرو وعاصم: «أَمَّا يُشْرِكُونَ» بالغيبة حملاً على ما قبله من قوله: «وَأَمْطَرنَا عَلَيْهِمْ» ، وما بعده من قوله: «بَلْ أَكْثَرَهُمْ» ، والباقون على الخطاب، وهو التفات للكفار، بعد خطاب نبيه - عليه السلام - وهذا تبكيت للمشركين بحالهم، لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى، ولا يؤثر عاقل شيئاًعلى شيء إلا لزيادة خير ومنفعة، فقيل لهم هذا الكلام تنبياً لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم، وروي أنّ رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم» .
قوله: «أَمَّن خَلَقَ» «أَمْ» هذه منقطعة، لعدم تقدّم همزة الاستفهام ولا تسوية، و «مَنْ خَلَقَ» مبتدأ وخبره محذوف، فقدَّره الزمخشري: خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، فقدر ما أثبت في الاستفهام الأوّل، وهو حَسَنٌ، وقَدَّرَهُ ابن عطية: يُكفَر بنعمته ويُشْرك به، ونحو هذا من المعنى. وقال أبو الفضل الرازي: لا بُدَّ من إضمار جملة معادلة، وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، وتقدير تلك الجملة: أم مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرْض كَمَنْ لَمْ يَخْلُقُ؟ وكذلك أخواتها، وقد أُظْهِرَ في غير هذا المواضع ما أُضْمِر فيها، كقوله:
{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] . وقال أبو حيان: وتسمية هذا المقدر جملة إن أراد أنّها جملة من جهة الألفاظ فصحيح، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو، فليس بصحيح، بل هو مضمر من قبيل المفرد. وقرأ الأعمش: «أَمَنْ» بتخفيف الميم جعلها (مَنْ) الموصولة داخلة عليها همزة الاستفهام، وفيها وجهان:(15/185)
أحدهما: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف وتقديره ما تقدم من الأوجه، قاله أبو حيان.
والثاني: أنها بدل من «الله» ، كأنه قيل: أمن خلق السموات والأرض خَيْر أمَّا يشركون، ولم يذكر الزمخشري غيره. ويكون قد فصل بين البَدَل والمُبْدَل منه بالخبر وبالمعطوف على المبدل منه، وهو نظير قولك: أَزيدٌ خَيْرٌ أَمْ عَمْرٌوا أأخوك، على أن يكون أأخوك بدلاً من: أزيد، وفي جواز مثل هذا نظر.
قوله: «فَأَنْبَتْنَا» هذا التفات من الغيبة إلى المتكلم، لتأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأنَّ إنْبات الحدائق المختلفة الألوان والطُّعوم - مع سقيها بماءٍ واحدٍ - لا يقدر عليه إلاّ هو وحده، ولذلك رشحه بقوله: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} . فإن الإنسان ربما يقول: أنا الذي ألقي البذر في الأرض وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها، وفاعل السبب فاعل المسبب، فإذن أنا المنبت للشجرة، فلمّا كان هذا الاحتمال قائماً، لا جرم أزال الله تعالى هذا الاحتمال، فرجع من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم، والحدائق: جمع حديقةٍ وهي البستان، وقيل القطعة من الأرض ذات الماء. قال الراغب: سُمِّيَتْ بذلك تشبيهاً بحَدقةِ العين في الهيئة وحصول الماء فيه. وقال غيره: سُمِّيت بذلك لإحداق الجدارن بها.
وليس بشيء، لأنها يطلق عليها ذلك م عدم الجدران ووقف القراء على «ذَات» من «ذَاتِ بَهْجَة» بتاء مجهورة، والكسائي بها، لأنها تاء تأنيث. وقيل: «(15/186)
ذات» ، لأنه بمعنى جماعة حدائق ذات بهجة كما تقول: النساء ذهبت، و «البهجة» : الحسن، لأن حسّ الناظر يبتهج به. وقرأ ابن أبي عبلة: «ذَوَاتِ بَهَجَةٍ» بالجمع، وفتح هاء «بَهَجَةٍ» . قوله: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ} ، «أَنْ تُنْبِتُوا» اسم كان و «لَكُمْ» خبر مقدم، والجملة المنفية يجوز أن تكون صفة ل «حدائق» ، وأن تكون حالاً، لتخصصها بالصفة.
قوله: {أإله مَّعَ الله} استفهام بمعنى الإنكار، هل معبود سواه أعانه على صنعه، بل ليس معه إله، وقرىء: أإلهاً مَعَ اللَّهِ، أي: تدعون أو تشركون، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} : يعني كفار مكة، يَعْدِلُون: يشركون، أي: يعدلون بالله سواه، وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ونظير هذه الآية أول سورة الأنعام.(15/187)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
قوله: {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً} ، قال الزمخشري: «أَمَّنْ» وما بعده بدل من «أَمَّنْ خَلَقَ» ، وحكمها حكمه. ومعنى قراراً: لا تميد بأهلها، فإنها لو كانت متحركة لما استقر أحد بالسكنى على الأرض. قوله: «خِلاَلَهَا» : يجوز أن يكون ظرفاً، ل «جعل» بمعنى خلق المتعدية لواحد، وأن يكون في محلّ المفعول الثاني على أنها بمعنى صيّر، وخلالها: وسطها أنهاراً. واعلم أنّ المياه المنبعثة في الأرض أربعة.
الأوّل: مياه العيون السيالة، قال ابن الخطيب: وهي تنبيعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة.
الثاني: ماء العيون الراكدة، وهي تحدث من أبخرة بلغت قوتها إلى وجه الأرض، ولم يبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد (تاليها سابقها) .(15/187)
الثالث: ماء القنى والأنهار، وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة عن أن تشق الأرض، فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صار حينئذ لتلك الأبخرة منفذاً يندفع إليه بأدنى حركة.
الرابع: مياه الآبار، وهي منبعثة كمياه الأنهار إلاّ أنه لم يحصل لها ميل إلى موضع تسيل إليه. ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون السيالة إلى العيون الراكدة.
قوله: «بَيْنَ البَحْرَيْنِ» : يجوز فيه ما جاز في «خِلاَلَهَا» ، والحاجز: الفاصل: حجز بينهم يحجز أي: منع وفصل، والمراد بالبحرين: العذب والملح: {أإله مَّعَ الله} قرىء «أَإِلهٌ» بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية، وإدخال ألف بينهما تخفيفاً وتسهيلاً. وهذا كله معروف من أوّل هذا الكتاب، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} توحيد ربهم.
قوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} المضطر: اسم مفعول مأخوذ من اضطر، ولا يستعمل إلا مبنياً للمفعول، وإنّما كرر الجعل هنا، ولم يشرك بين المعمولات في عامل واحد، لأن كل واحدة من هذه مِنّة مستقلة، فأبرزها في جملة مستقلة بنفسها، قال الزمخشري الضرورة الحال المحوجة إلى الالتجاء، والاضطرار: افتعال منها، فيقال: اضطُرّ إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر. فإن قيل: هذا يعم المضطرين، وكم من مضطر يدعو فلا يجاب، فالجواب:
أنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المعرّف لا يفيد العموم، وإنما يفيد الماهية فقط، والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية فقط، فإنه تعالى وعد بالاستجابة، ولم يذكر أنه يستجيب في الحال.
قوله: «وَيَكْشِفُ السُوءَ» كالتفسير للاستجابة، فإنّه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة، إلاَّ القادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا ينازع، {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرض} اي: يورثكم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن، وأراد بالخلافة الملك والتسليط. قوله {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} قرأ أبو عمرو(15/188)
وهشام: «يَذكرُونَ» بالغيبة والباقون بالخطاب، وهما واضحتان، وأبو حيوة: «تَتَذكرون» بتاءين.(15/189)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
قوله: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} يهديكم بالنجوم في السماء والعلامات في البحر إذا سافرتم بالليل في البر والبحر. و {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، وهي المطر، وتقدّم الكلام في «بُشْراً» في الأعراف، {أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
قوله: {أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} لما عدد نعم الدنيا أتبع ذلك بنعم الآخرة، وهي لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء والإبلاغ إلى حد التكليف، فقد تضمن الكلام كل نعم الدنيا والآخرة، وهي لا تتمّ إلا بالإرزاق، فلذلك قال: {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} «مِنَ السَّمَاءِ» : المطر، ومن الأرض: النبات، {أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} حجتكم على قولكم: إن مع الله إلهاً آخر، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ولا برهان لكم فإذاً أنتم مبطلون.
فإن قيل: كيف قيل لهم: أم من يبدؤ الخلق ثم يعيده، وهم ينكرون الإعادة؟ فالجواب: كانوا معترفين بالابتداء، ودللة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية، فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة، صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار.(15/189)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
قوله (تعالى: {قُل) لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} لما بين أنه مختص بالقدرة، بين أنه المختص بعلم الغيب، وإذا ثبت ذلك، ثبت أنه الإله المعبود.(15/189)
وفي هذا الاستثناء أوجه:
أحدها: أنه فاعل «يعلم» ، و «من» مفعوله، و «الغيب» بدل من «من في السموات» أي: لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله، أي: الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم، وهو وجه غريب ذكره أبو حيان.
الثاني: أنه مستثنى متصل من «من» ، ولكن لا بد من الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة على هذا الوجه، وبيانه أن الظرفية المستفادة من «مَنْ في» حقيقة بالنسبة إلى غير الله تعالى، ومجاز بالنسبة إلى الله تعالى بمعنى: أن علمه في السموات والأرض فيندرج (في) {مَن فِي السماوات والأرض} بهذا الاعتبار، وهو مجاز، وغيره من مخلوقاته في السموات والأرض حقيقة، فبذلك الاندراج المؤول استثني من «مَنْ» ، وكان الرفع على البدل أولى، (لأن الكلام غير موجب، قال مكي: الرفع في اسم الله - عَزَّ وَجَلَّ - على البدل) من من.
ورد الزمخشري هذا بأنه جمع بين الحقيقة والمجاز وأوجب أن يكون منقطعاً، فقال: فإن قلت: لم رفع اسم الله، والله يتعالى أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت: جاء على لغة بني تميم، حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، يريدون: ما فيها إلا حمار، كأنَّ أحداً لم يذكر، ومنه قوله:
3969 - عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... وَلاَ النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ
وقولهم: ما أتاني زيد «إلا عمرو» ، وما أعانني أخوانكم إلا إخوانه، فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت: دعيت إليه نكتة سريرة، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلاَّ اليَعَافِيرُ، بعد قوله: لَيْسَ بِهَا أنِيس: ليؤول(15/190)
المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السموات والأرض، فهم يعلمون الغيب يعني أن علمهم الغيب - في استحالته - كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أن معنى «ما في البيت» إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس بتّاً للقول بخلوها من الأنيس. فإن قلت: هلا زعمت أن الله ممن في السموات والأرض، كما يقول المتكلمون: «إن الله في كل مكان» على معنى: أن علمه في الأماكن كلها، فكأن ذاته فيها حتى لا يحمل على مذهب بني تميم؟ قلت: يأبي ذلك أن كونه في السموات والأرض مجاز، وكونهم فيهن حقيقة، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازاً غير صحيح، على أن قولك: من في السموات والأرض، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد فيه إيهام وتسوية، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته، ألا ترى كيف قال عليه السلام لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى: «بئْسَ خَطِيبُ القَوْمِ أنْت» .
فقد رجح الانقطاع، واعتذر في ارتكاب مذهب التميميين بما ذكر، وأكثر العلماء أنه لا يجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وقد قال به الشافعي.
فصل
نزلت هذه الآية في المشركين، حيث سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن وقت قيام الساعة. و «مَا يَشْعُرُون» صفة لأهل السموات والأرض نفى أن يكون لهم علم بالغيب، وذكر في جملة الغيب: متى البعث؛ بقوله: «أيَّانَ يُبْعَثُونَ» ، و «أَيَّانَ» بمعنى متى، وهي كلمة مركبة من: أي والآن، وهو الوقت. وقرىء: «إيّان» بكسر(15/191)
الهمزة، قرأ بها السلمي، وهي لغة قومه بني سليم، وهي منصوبة ب «يُبْعَثُونَ» ومعلقة ل «يَشْعُرُونَ» فهي مع ما بعدها في محل نصب بإسقاط الباء، أي ما يشعرون بكذا.
قوله: «ادّارَكَ» قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «أَدْرَك» كأكرم، والباقون من السبعة «ادَّارَكَ» بهمزة وصل وتشديد الدال المفتوحة بعدها ألف - والأصل (تدارك) وبه قرأ أبي، فأريد إدغام التاء في الدال، فأبدلت دالاً وسكنت، فتعذر الابتداء بها، لسكونها، فاجتلبت همزة الوصل، فصار: «ادَّارك» كما ترى - وتقدم تحقيق هذا في قوله: {فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] . وقراءة ابن كيثير، قيل: يحتمل أن يكون «أفعل» فيها بمعنى «تفاعل» ، فتتحد القراءتان، وقيل: ادرك، بمعنى بلغ وانتهى.
وقرأ سليمان وعطاء ابنا يسار: «بَل ادّرك» بفتح لام «بَلْ» وتشديد الدال دون ألف بعدها وتخريجها: أن الأصل: (ادْتَرَكَ) على وزن افْتَعَل، فأبدلت تاء الافتعال دالاً، لوقوعها بعد الدال، قال أبو حيان: فصار فيه قلب الثاني للأول، كقولهم: أثَّرَدَ، وأصله: اثترد من الثرد، انتهى.
قال شهاب الدين: ليس هذا مما قلب فيه الثاني للأول لأجل الإدغام، كاثَّرَدَ(15/192)
في اثترد، لأن تاء الافتعال تبدل دالاً بعد أحرف منها الدال، نحو: ادَّانَ في افْتَعَلَ من الدين، فالإبدال لأجل كون الدال فاء لا للإدغام، فليس مثل اثَّرَدَ في شيء، فتأمله فإنه حسن، فلما أدغمت الدال في الدال أدخلت همزة الاستفهام، فسقطت همزة الوصل، فصار اللفظ، أَدْرَكَ يهمزة قطع مفتوحة، ثم نقلت حركة هذه الهمزة إلى لام «بَلْ» فصار اللفظ: «بَلْ دَّرَكَ» . وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج وابن عباس وتروى عن عاصم كذلك إلا أنه بكسر لام «بَلْ» على أصل التقاء الساكنين، فإنهم لم يأتوا بهمزة استفهام.
وقرأ عبد الله بن عباس والحسن وابن محيصن «آدَّرَكَ» بهمزة ثم ألف بعدها، وأصلها همزتان أبدلت ثانيهما ألفاً تخفيفاً، وأنكرها أبو عمرو. وقد تقدم أول البقرة أنه قرىء «أَأَنْذَرْتَهُمْ» بألف صريحة - فلهذه بها أسوة.
وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد «بَلْ» ، (لأن «بَلْ» ) إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى: «لَمْ يَكُنْ» كقوله تعالى: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19] أي: لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار. قال شهاب الدين: وفي منع هذا نظر، لأن «بَلْ» لإضراب الانتقال، فقد أضرب عن الكلام الأول، وأخذ في استفهام ثانٍ، وكيف ينكر هذا والنحويون يقدرون «أَمْ» المنقطعة ببل والهمزة، وعجبت من الشيخ - يعني أبا حيان - كيف قال هنا: وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد «بَلْ» ، وشبهه بقول القائل: أَخُبْزاً أكَلْتَ بَلْ أَمَاءً شَرِبْتَ؟ على ترك الكلام الأول، والأخذ في الثاني انتهى. فتخصيصه ببعض المتأخرين يؤذن بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه، وليس كذلك لما حكيت عنهم في «أم» بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه، وليس كذلك لما حكيت عنهم في «أم» المنقطعة. وقرأ ابن مسعود: «أَأَدْرَكَ» بتحقيق الهمزتين، وقرأ ورش في رواية: «بَل ادْرَكَ» بالنقل، وقرأ ابن عباس أيضاً: «بَلَى أَدْرَكَ» بحرف الإيجاب أخت(15/193)
نعم، و «بَلَى آأدْرَكَ» بألف بين همزتين، وقرأ أبي ومجاهد «أن» بدل ( «بَلْ» ) وهي مخالفة للسواد.
قوله: «فِي الآخِرَةِ» فيه وجهان:
أحدهما: أن «فِي» على بابها و «أَدْرَكَ» وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى، لأنه كائن قطعاً، كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ، وعلى هذا ف «فِي» متعلق ب «أدْرَكَ» .
والثاني: أنّ «فِي» بمعنى الباء، أي: بالآخرة، وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم، كقولك: على يزيد كذا. وأمّا قراءة من قرأ «بَلَى» ، فقال الزمخشري: لمّا جاء ببلى بعد قوله: «وَمَا يَشْعُرُونَ» كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: {ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم، ثم قال: وأمّا قراءة: «بَلَى أأَدْرَكَ» على الاستفهام فمعناه: بَلَى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصّل لهم شعور بوقت كونها، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن، ثم قال: فإن قلت ما معنى هذه الإضرابات الثلاثة؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنّهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية انتهى.
فإن قيل: (عَمِيَ) يتعدى ب (عَنْ) تقول: عَمِي فلان عن كذا، فلم عدي ب (مِنْ) قوله «مِنْهَا عَمُونَ» ؟ فالجواب: أنّه جعل الآخرة مبدأ عَمَاهُم ومنشأه.
فصل
المعنى على قراءة ابن كثير: «أَدْرَكَ» أي بلغ ولحق، كما تقول: أدركه علمي، إذَا لحقه وبلغه يريد: ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة. قال مجاهد: يدريك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها، حين لا ينفعهم علمهم.(15/194)
وقال مقاتل: بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكّوا وعمُوا عنه في الدنيا. كقوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} ، أي هم اليوم في شك من الساعة. وعلى قراءة «ادَّارَكَ» ، تتابع علمهم في الآخرة أنها كائنة {هُمْ فِي شَكٍّ} في وقتهم. وقيل استفهام معناه: هل تدارك وتتابع بذلك في الآخرة يعني لم يتتابع، وضلّ وغاب علمهم به، فلم يبلغوه ولم يُدركوه، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد. وقال علي بن عيسى: بل ههنا لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكُّوا بل هُم مِنْهَا عَمُونَ جمع عمٍ، وهو الأعمى القلب.(15/195)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
قوله: {وَقَالَ الذين كفروا} يعني مشركي مكة، «أَئِذَا» تقدم الكلام في الاستفهامين إذا اجتمعا في سورة الرعد. والعامل في «إِذَا» محذوف يدلّ عليه «لَمُخْرجُونَ» تقديره: نبعث ونخرجن ولا يجوز أن يعمل فيها «مُخْرجُونَ» لثلاثة موانع: الاستفهام، وأنّ، ولام الابتداء، وفي لام الابتداء في خبر إنّ خلاف، وذكر الزمخشري هنا عبارة حُلوة، فقال: لأنّ بين يدي عمل اسم الفاعل فيها عقاباً، وهي همزة الاستفهام، وإن، ولام الابتداء، وواحدة منها كافية، فكيف إذا اجتمعن؟ وقال أيضاً: فإنْ قلت: لم قَدّم في هذه الآية «هذَا» على «نَحْنُ وآبَاؤُنَا» وفي آية أخرى قدّم «نَحْنُ وَآبَاؤُنَا» على «هَذَا» ؟ قلت: التقديم دليل على أن المقدّم هو المعنى المعتمد بالذكر وأن الكلام إنّما سيق لأجله: ففي إحدى الآيتين دلّ على اتخاذ البعث الذي هو يعمد بالكلام، وفي الأخرى(15/195)
على اتخاذ المبعوث بذلك الصدد. و «آبَاؤُنَا» عطف على اسم كان، وقام الفصل بالخبر قمام الفصل بالتوكيد.
فصل
«إِنَّا لَمُخْرَجُونَ» من قبورنا أحيا، {لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ} أي: من قبل محمد: وليس ذلك بشيء، «إِنْ هذَا» ما هذَا، {إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها، {فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} . فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل (كيف كانت) عاقبة المجرمين؟ فالجواب أنّ تأنيثها غير حقيقي، ولأنّ المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟ . فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل عاقبة الكافرين؟ فالجواب: أنّ هذا يحصل في التخويف لكل العصاة. ثم إنّه تعالى صبّر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ما يناله من الكفار، فقال: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} على تكذيبهم إيّاك، {وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا أعقاب مكة، و «الضِّيقُ» : الحرج، يقال: ضاق الشيء ضَيقاً وضِيقاً بالفتح والكسر. {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ذكروا ذلك على سبيل السخرية فأجاب الله تعالى بقوله: {عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ} .
قوله: «رَدِفَ لَكُمْ» فيه أوجه:
أظهرها: أنَّ «رَدِفَ» ضُمّن معنى فعل يتعدى باللام، أي: دَنا وقرب وأزف، وبهذا فسّره ابن عباس، و «بَعْضُ الَّذِي» فاعلٌ به، وقد عدّي ب (من) أيضاً على تضمنه معنى «دَنَا» ، قال:
3970 - فَلَمَّا رَدِفْنَا مِن عُمَيْرٍ وَصَحْبِهِ ... تَوَلَّوْا سِرَاعاً وَالمَنِيَّةُ تَعْنِقُ(15/196)
أي: دنونا من عمير.
والثاني: أنّ مفعوله محذوف واللام للعلّة: أي: ردف الخلق لأجلكم ولشؤمكم.
الثالث: أنّ اللام مزيدة في المفعول تأكيداً كزيادتها في قوله:
3971 - أَنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَمَيْنَا ...
وكزيادتها في قوله: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] وكزيادة الباء في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] وعلى هذه الأوجة الوقف على «تَسْتَعْجِلُونَ» .
الرابع: أن فاعل «رَدِفَ» ضمير الوعد، أي: ردف الوعد، أي: قرب ودنا مقتضاه و «لَكُمْ» خبر مقدّم، و «بَعْضُ» مبتدأ مؤخر، والوقف على هذا على «رَدِفَ» وهذا فيه تفكك للكلام.
والخامس: أنّ الفعل محمول على مصدره، أي: الرادفة لكم، وبعض على تقرير ردافة بعض، يعني: حى يتطابق الخبر والمخبر عنه، وهذا أضعف مما قبله.
وقرأ الأعرج: «رَدَفَ» بفتح الدال، وهي لغة، والكسر أشهر. {بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ} من العذاب حل بهم ذلك يوم بدر.
قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} قال مقاتل: على أهل مكة، حيث لم يعجل عليهم العذاب. والفصل: الإفضال ومعناه أنه متفضل، وهذه الآية تبطل قول من قال: إنه لا نعمة لله على الكفار.
قوله: «لاَ يَشْكُرُونَ» يجوز أن يكون مفعوله محذوفاص، أي: لا يشكرون نعمه، ويجوز أن لا يقدر بمعنى: لا يعترفون بنعمةٍ، فعبّر عن انتفاء معرفتهم بالنعمة بانتفاء ما يترتبت على معرفتها، وهو الشكر.(15/197)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ} العامة على ضم تاء المضارعة من: أَكنَّ، قال تعالى: «أَوْ أَكْنَنْتُمْ، وابن محيصن وابن السميفع وحُميد بفتحها وضم الكاف، يقال: كَنَنْتُهُ وَأَكْنَنْتُهُ، بمعنى: أخفيت وسترت.
قوله: {وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ} في هذه التاء قولان:
أحدهما: أنّها للمبالغة، كراويةٍ وعلاّمة، وقولهم: ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه تعالى قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد عَلِمه الله.
والثاني: أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو: العافية والعاقية، قال الزمخشري: ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرّمية في أنها أسماء غير صفات. {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: في اللوح المحفوظ والمبين: الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة.
قوله
: {إِنَّ
هذا
القرآن} الآية، لما تمَّمَ الكلام في إثبات المبدأ والمعاد، ذكر بعده ما يتعلق بالنبوة، ولمَّا كانت العمدة الكبرى في إثبات نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هي القرآن لا جرم بيّن الله تعالى أولاً كونه معجزة من وجوه.
أحدها: أنّ الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة للمذكور في التوراة والإنجيل، مع العلم بأنه - عليه السلام - كان أُمّيّاً - ولم يخالط العلماء، ولم يشتغل بالاستفادة والتعلّم، فإذن لا يكون ذلك إلاّ من قِبَل الله تعالى، وأراد ما اختلفوا فيه وتباينوا، وقبل ما حرّفه بعضهم، وقيل: إخبار الأنبياء.
وثانيها: قوله {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ} ، وذلك لأنّا تأملنا في القرآن فوجدنا فيه من الدلائل العقلية على التوحيد والحشر والنشر والنبوّة وشرح صفات الله ما لم نجده(15/198)
في كتاب من الكتب، ووجدناه مبرءاً من النقص والتهافت، فكان هدى ورحمة من هذه الوجوه، ووجدنا القوى البشرية قاصرة عن جمع كتاب على هذا الوجه، فعَلمنا أنه ليس إلا من عند الله تعالى، فكان القرآن معجزاً من هذه الجهة.
وثالثها: {إِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ} لبلوغه في الفصاحة إلى حيث عجزُوا عن معارضته وذلك معجزة.
قوله: «بحُكْمِهِ» العامة لعى ضم الحاء وسكون الكاف، وجناح بن حبيش بكسرها وفتح الكاف، جمع حكمة، أي: نقضي بين المختلفين يوم القيامة بحكمة الحق «وَهُوَ العَزِيزُ» والمنيع فلا يرد له أمر، «العَلِيمُ» بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء. فإنْ قيل: القضاء والحكم شيء واحد، فقوله: {يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه!!
فالجواب: معنى قوله: «بِحُكْمِهِ» أي: بما يحكم به وهو عدله لا يقضي إلا بالعدل، أو أراد بحكمه على القراءة بكسر الحاء.
قوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} أي البيّن، {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} يعني الكفار، وإنّما حسن جعله سبباً للأمر بالتوكل، لأن الإنسان ما دام يطمع في أخذ شيء فإنه لا يقوى قلبه على إظهار مخالفته، فإذا قطع طمعه عنه قوي قلبه على إظهار مخالفته، فاللَّه تعالى قطع طمع محمد - عليه السلام - بأ بيَّن أنهم كالموتى وكالصم والعمي فلا يسمعون ولا يفهمون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، وهذا سبب لقوة قلبه - عليه السلام - على إظهار الدين كما ينبغي.
قوله: {وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء} قرأ ابن كثير: «لاَ يَسْمَعُ» بالياء مفتوحة، وفتح الميم «الصُّمُّ» رفع وكذلك في سورة الروم، وقرأ الباقون بالتاء وضمها وكسر الميم «الصُّمَّ» نصب {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} : معرضين. فإن قيل: ما معنى قوله: «وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ» وإذا كانوا صمّاً لا يسمعون سواء ولوا أو لم يولوا؟ قيل ذكره تأكيداً ومبالغة، وقيل: الأصم إذا كان حاضراً قد يسمع برفع الصوت ويفهم بالإشارة، فإذا ولّى مُدبراً لم يسمع ولم يفهم.
قال قتادة: الأصم إذا ولّى مُدبراً ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا(15/199)
يسمع ما يدعى إليه من الإيمان. والمعنى: إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميّت الذي لا سبيل إلا إسماعه والأصم الذي لا يسمع. قوله: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي} العامة على «بِهَادِي» مضافاً ل «العُمْي» ، وحمزة «تَهْدِي» فعلاً مضارعاً و «العُمْيَ» نصب على المفعول به. وكذلك التي في الروم. ويحيى بن الحارث وأبو حيوة «بِهَادِ» منوناً «العُمْيَى» منصوب به وهو الأصل. واتفق القراء على أن يقفوا على «هَادٍ» في هذه السورة بالياء، لأنها رُسمت في المصحف ثابتةً، واختلفوا في الروم، فوقف الأخوان عليها بالياء أيضاً كهذه، أما حمزة، فلأنه يقرأها «تَهْدِي» فعلاً مضارعاً مرفوعاً فياؤه ثابتة. قال الكسائي: من قرأ «تَهْدِي» لزمه أن يقف بالياء، وإنّما لزمه ذلك لأن الفعل لا يدخله تنوين في الوصل تحذف له الياء، فيكون في الوقف كذلك، كما يدخل التنوين على «هَادٍ» ونحوه، فتذهب الياء في الوصل، فيجري الوقف على ذلك لمن وقف بغير ياء انتهى. ويلزم على ذلك أن يوقف على «يقضي الحقّ» و {وَيَدْعُ الإنسان} [الإسراء: 11] بإثبات الياء والواو، ولكن يلزم حمزة مخالفة الرسم دون القياس، وأمّا الكسائي فإنه يقرأ «بِهَادِي» اسم فاعل كالجماعة، فإثباته للياء بالحمل على «هَادِي» في هذه السورة، وفيه مخالفة الرسم السلفي.
قوله: «عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «تَهْدِي» وعدي ب (عن) لتضمنه معنى تصرفهم.
الثاني: أنه متعلق بالعمي، لأنك تقول: عمى عن كذا ذكره أبو البقاء.
فصل
المعنى: ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان أن يسمع {إلا من يؤمن بآياتنا} إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله، «فَهُم مُسْلِمُونَ» مخلصون لله.(15/200)
«مِنْ» في قوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} [البقرة: 112} يعني سالماً لله خالصاً لله.(15/201)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
قوله: {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} أي: مضمون القول، أو أطلق المصدر على المفعول، أي: المقول. ومعنى وقع القول عليهم: وجب العذاب عليهم، وقال قتادة: إذا غضب الله عليهم {أخرجنا لهم دابة من الأرض} .
قوله: «تُكَلِّمُهُمْ» العامة على التشديد، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه من الكلام والحديث، ويؤيده قراءة أُبيّ: «تُنَبِّئُهُمْ» وقراءة يحيى بن يلام: «تحدثهم» - وهما تفسيران لها.
الثاني: «تجرحهم» ويدل عليه قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد وأبي زرعة والجحدري «تَكْلُمُهُمْ» - بفتح التاء وسكون الكاف وضم اللام - من الكَلْمِ وهو الجرح، وقد قراء «تجرحهم» وجاء في الحديث: إنها تسم الكافر.
قوله: «أنَّ النَّاسَ» قرأ الكوفيون بفتح «أن» والباقون بالكسر، فأما الفتح فعلى تقدير الباء، أي: بأن الناس، ويدل عليه التصرح بها في قراءة عبد الله «بأنَّ النَّاسَ» . ثم هذه الباء يحتمل أن تكون معدية وأن تكون سببيّة، وعلى التقديرين يجوز أن تكون «تُكَلِّمُهُمْ» بمعنييه من الحديث والجرح أي: تحدثهم بأن الناس أو بسبب أن الناس أو تجرحهم بأن الناس، أي: تسمهم بهذا اللفظ أو تسمهم بسبب انتفاء الإيمان. وأما(15/201)
الكسر فعلى الاستئناف، ثم هو يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى - وهو الظاهر - وأن يكون من كلام الدابة، فيعكر عليه «بِآيَاتِنَا» ويجاب عنه إما باختصاصها صح إضافة الآيات إليها، كقولك: اتباع الملوك ودوابنا وخيلنا وهي لملكهم، وإما على حذف مضاف أي: بآيات ربنا، و «تُكَلِّمُهُمْ» إن كان من الحديث فيجوز أن يكون إما لإجراء «تُكَلِّمُهُمْ» مجرى تقول لهم، وإما على إضمار القول أي: فتقول كذا، وهذا القول تفسير لتكلمهم.
فصل
قال السدي: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام. وقيل: تقول للواحد هذا مؤمن وهذا كافر. وقيل كلامهم ما قال {أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا} تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث. قال ابن عمر: وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «بَادِرُوُا بالأَعْمَالِ ستّاً. طلوعَ الشمس من مغربها، والدجالَ، والدخانَ والدابةَ وخاصةَ أحدكم، وأمرَ العامة» وقال عليه السلام: «إنّ أولَ الآياتِ خروجاً طلوعُ الشمس من مغربها، وخروجُ الدابة على الناس ضحًى، فأيتهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها» وقال عليه السلام: «يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خروجاً في أقصى المين، فيفشوا ذكرها بالبادية، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زماناً طويلاً، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة، فيفشوا ذكرها بالبادية، ويدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم بينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمه، وأكرمها على الله عزَّ وجلَّ يعني المسجد الحرام، ثم لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنوا وتدنو»
- قال الراوي: ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك - «فارفضّ الناس عنها، وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عنهم عن وجوههم، حتى تركتها كأنها الكواكب(15/202)
الدرية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، حتى إن الرجل ليقوم يتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه، فتقول: يا فلان الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال، يُعرَف الكافر من المؤمن، فيقال للمؤمن يا مؤمن، وللكافر يا كافر» وقال عليه السلام: «تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل الخوان ليجتمعوا، فيقولون هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر» وروي عن عليّ قال: ليس بدابة لها ذَنَب، ولكن لها لحية، كأنه يشير إلى أنها رجل، والأكثرون على أنها دابة، لما روى ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس الثور، وعينها عين الخنزير، وأن لها أذناً، قيل: وقرنها قرن أيل وصدرها صدر أسد، ولونها لون النمر، وخاصرتها خاصرة هو، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثني عشر ذراعاً، معها عصا موسى وخاتم سليمان، وذكر باقي الحديث. وروى حذيفة بن اليمان قال: «ذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الدابة، قلت: يا رسول الله: من أين تخرج؟ قال:» من أعظم حرمة المساجد على الله بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم وينشق الصفا مما يلي المشعر، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدوا منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمناً وكافراً، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه مؤمن، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه: كافر «
وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصا - وهو محرم - وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه وروى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» بئس الشعب شعب جياد «،(15/203)
مرتين أو ثلاثاً، قيل: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال:» تخرج منه الدابة، فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين «
وقال وهب: وجهها وجه الرجل، وسائر خلقها خلق الطير فتخبر من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون. قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} ، أي من كل قرن جماعة. و {مِن كُلِّ أُمَّةٍ} يجوز أن يكون متعلقاً بالحشر، و «مِنْ» لابتداء الغاية، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «فَوْجاً» لأنه يجوز أن يكون صفة له في الأصل، والفوج الجماعة كالقوم، وقيدهم الراغب فقال: الجماعة المارة المسرعة. وكأن هذا هو الأصل ثم انطلق، ولم يكن مرور ولا إسراع، والجمع. أفواج وفووج. و «مِمَّن يُكَذِّبُ» صفة له، و «مِنْ» في «مِنْ كُلِّ» تبعيضية، وفي «مِمَّن يُكَذِّبُ» تبيينية.
قوله: «فَهُمْ يُوزَعُونَ» أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى النار، {حتى إِذَا جَآءُوا} يوم القيامة، قَالَ لَهُمُ اللَّهُ: {أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً} ولم تعرفوها حتى معرفتها. والواو في «وَلَمْ تُحِيطُوا» يجوز أن تكون العاطفة وأن تكون الحالية، و «عِلْماً» تمييز. قوله: «أمَّاذَا» أم هنا منقطعة، وتقدم حكمها، و «مَاذَا» يجوز أن يكون برمته استفهاماً منصوباً ب «تَعْملون» الواقع خبراً عن «كُنْتُم» ، وعائده محذوف، أي: أي شيء الذي كنتم تعملونه؟ وقرأ أبو حيوة «أمَا» بتخفيف الميم، جعل همزة الاستفهام داخلة على امسه تأكيداً كقوله:
3972 - أَهَلْ رَأَوْنَا بِوَادِي القُفِّ ذِي الأَكَمِ ...(15/204)
قوله: {أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} حين لم يتفكروا فيها، كأنه قال: ما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ثم قال: {وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم} ، أي: وجب العذاب الموعود عليهم «بِمَا ظَلَمُوا» ، أي بسبب ظلمهم وتكذيبهم بآيات الله، ويضعف جعل «مَا» بمعنى الذي {فَهُمْ لاَ يُنطِقُونَ} ، قال قتادة، كيف ينطقون ولا حجة لهم، نظيره قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35 - 36] ، وقيل: «لاَ يَنْطِقُونَ» لأن أفواههم مختومة. ثم إنه تعالى لما خوّفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة، مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر، فقال: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} مضيئاً يبصر فيه. قوله: «لِيَسْكُنُوا فِيهِ» قيل: فقيه حذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، إذا التقدير: جعلنا الليل و «لتتصرفوا» لدلالة «ليسكنوا» . وقوله: «مُبْصِراً» كقوله: {آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] ، وتقدم تحقيقه في الإسراء، قال الزمخشري: فإن قلت: ما للتقاليل لم يراع في قوله: «لِيَسْكُنُوا» و «مُبْصِرَةٌ» حيث كان أحدهما علة، والآخر حالاً؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف يريد لم لا قال: والنهار لتتصرفوا فيها، وأجاب غيره بأن السكون في الليل هو المقصود (من الليل وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود) لأنه وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون فيعتبرون، وخص المؤمنين بالذكر - وإن كانت الأدلة للكل - لأن المؤمنين هم المنتفعون، كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] .(15/205)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} هذه العلامة الثانية لقيام القيامة، والصور: قرن ينفخ(15/205)
فيه إسرافيل، فإذا سمع الناس ذلك الصوت يصيحون ثم يموتون، وهذا قول الأكثرين. وقال الحسن: الصور هو الصوَر، وأول بعضهم كلامه أن الأرواح تجتمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب الأرواح إلى الأجساد، فتحيا الأجساد. قوله: {فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} قال: «فَفَزَعَ» بلفظ الماضي ولم يقل فيفزع لتحققه وثبوته وأنه كائن لا محالة، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل، كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . والمعنى: يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا، قيل: ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعف، ونفخة القيام لرب العالمين.
قوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ الله} فالمراد إلا من ثبّت الله قلبه من الملائكة، قالوا: وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وجاء في الحديث: أنهم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش، قال سعيد بن جبير وعطاء عن ابن عباس هم الشهداء، لأنهم أحياء عند ربهم. وعن الضحاك: هم رضوان والحور وخزنة النار وحملة العرش. و «كُلٌّ أَتَوْهُ» أي الذين أُحْيُوا بعد الموت. قوله: «أَتَوْهُ» قرأ حمزة وحفص: «أَتَوْهُ» فعلاً ماضياً ومفعوله الهاء، والباقون: «آتوه» : اسم فاعل مضافاً للهاء، وهذا حمل على معنى «كُلّ» وهي مضافة تقديراً، أي: وكلهم. وقرأ قتادة: «أتَاهُ» ماضياً مسنداً لضمير «كلّ» على اللفظ، ثم حمل على معناها، فقرأ «دَاخِرِين» ، والحسن والأعرج «دَخِرِينَ» بغير ألف أي: صاغرين:(15/206)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
قوله: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا} هذه العلامة الثالثة لقيام القيامة، وهي(15/206)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} [الكهف: 47] «جَامِدَةً» قائمة واقعة، و «تَحْسَبُهَا جَامِدَةً» هذه الجملة حالية من فاعل «تَرَى» أو من مفعوله، لأن الرؤية بصرية.
قوله: «وَهِيَ تَمُرُّ» الجملة حالية أيضاً، وهكذا الأجرام العظيمة تراها واقفة وهي مارة قال النابغة الجعدي يصف جيشاً كثيفاً:
3973 - بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسِبُ أَنَّهُمْ ... وُقُوفٌ لِحَاجٍ وَالرِّكَابُ تُهَمْلِجُ
و «مَرَّ السَّحَابِ» : مصدر تشبيهي، قوله: «صُنْعَ اللَّهِ» مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة عامله مضمر، أي: صنع الله ذلك صنعاً، ثم أضيف بعد حذف عامله، وجعله الزمخشري مؤكداً للعامل في {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} [النمل: 87] وقدره: ويوم ينفخ وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المسيئين في كلام طويل جرياً على مذهبه، وقيل منصوب على الإغراء، أي: انظروا صنع الله وعليكم به. والإتقان: الإتيان بالشيء على أكمل حالاته، وهو من قولهم: تقن أرضه إذا ساق إليها الماء الخاثر بالطين لتصلح للزراعة، وأرض تقنة، والتقن فعل ذلك بها، والتقن أيضاً: ما رمي به في الغدير من ذلك أو الأرض، ومعنى {أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي: أحكمه. {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} قرأ(15/207)
ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالغيبة جرياً على قوله «وَكُلٌّ أَتَوْهُ» ، والباقون بالخطاب جرياً على قوله «وتَرَى» ، لأن المراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأمته.(15/208)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
قوله: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} في «خَيْر» وجهان:
أحدهما: أنها للتفصيل باعتبار زعمهم، أو على حذف مضاف، أي: خير من قدرها واستحقاقها «مِنْهَا» في محل نصب، وألا يكون للتفصيل، فيكون (مِنْهَا) في موضع رفع صفة لها. قوله {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} قرأ أهل الكوفة «مِنْ فَزَع» بالتنوين، «يَوْمَئِذٍ» بفتح الميم، وقرأ الآخرون بالإضافة، لأنه أعم فإنه يقتضي الأمن من جمع فزع ذلك اليوم وبالتنوين كأنه فزع دون فزع، ويفتح أهل المدينة الميم من «يومَئذ» وتقدم في هود فتح «يَوْم» وجره و «إِذْ» مضافة للجملة حذفت وعوض عنها التنوين، والأحسن أن تقدر يومئذ جاء بالحسنة، وقيل: يومئذ ترى الجبال، وقيل: يومئذ ينفخ في الصور، والأولى أولى، لقرب ما قدر منه.
فصل
لما تكلم في علامات القيامة شرح - بعد ذلك - أحوال المكلفين بعد قيام القيامة والمكلف إما أن يكوم مطيعاً أو عاصيا، أما (المطيع، فهو) الذي جاء بالحسنة وهي كلمة الإخلاص قال أبو معشر يحلف ما ساتثنى: إنّ الحسنة لا إله إلا الله وقيل: كل طاعة. {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ، قال ابن عباس: يعني له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو: الأمن من العذاب، أما أن يكون له شيء خير من الإيمان، فإنه ليس شيء(15/208)
خيراً من قوله لا إله إلا الله، وقيل: خير منها يعني رضوان الله، قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] ، وقال محمد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد: خير منها يعني الأضعاف، أعطاه الله بالواحد عشراً، فصاعداً، وهذا حسن، لأن للأضعاف خصائص وقيل: إن الثواب خير من العمل، لأن الثواب دائم والعمل منقض، ولأن العمل فعل العبد، والثواب فعل الله. {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} أي: آمنون من كل فزع، فإن قيل: أليس قال - في أول الآية - {فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} ؟ [النمل: 87] فكيف نفى الفزع ههنا؟ فالجواب: أن الفزع الأول ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة تقع أو هول يفجأ، وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه، وأما الثاني: فهو الخوف من العذاب.
وأما من قرأ «مِنْ فَزَع» بالتنوين، فهو محتمل معنيين: من فزع واحد، وهو خوف العذاب، وإما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدته، فلا ينفك عند أحد. فإن قيل: الحسنة لفظة مفردة معرفة، وقد ثبت أنها لا تفيد العموم، بل يكفي في تحققها حصول فرد من أفرادها، وإذا كان كذلك فلنحملها على أكمل الحسنات شأناً، وأعلاها درجة وهو الإيمان، ولهذا قال ابن عباس: الحسنة كلمة الشهادة، وهذا يوجب القطع بأنه لا يعاقب أهل الإيمان، فالجواب: ذلك الخير هو أن لا يكون عقابه مخلداً. و «أمن» يتعدى بالجار وبنفسه، كقوله تعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} [الأعراف: 99] .
قوله: {وَمَن جَآءَ بالسيئة} يعني الإشراك {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} ، يجوز أن يكون ذكر الوجه إيذاناً بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكبين، يقال: كببت الرجل إذا ألقيته على وجهه فأكب وانكب.
قوله: «هَلْ تُجْزُوْنَ» على إضمار قول، وهذا القول حال مما قبله، أي كُبَّتْ وجوههم مقولاً لهم ذلك القول.(15/209)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
قوله: «إِنَّمَا أُمِرْتُ» أي: قل يا محمد إنما أمرت (أي: أمرت) أن اخص الله وحده بالعبادة، ثم إنه تعالى وصف نفسه بأمرين:
أحدهما: أنه رب هذه البلدة، والمراد مكة، وإنما خصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها احب بلاده ليه وأكرمها، عليه، وأشار إليها إشارة تعظيم لها دالاً على أنها وطن نبيه ومهبط وحيه.
قوله: «الَّذِي حَرَّمَهَا» هذه قراءة الجمهور صفة للربِّ، وابن مسعود وابن عباس «الَّتِي» صفة للبلدة، والسياق إنما هو للرب لا للبلدة، فلذلك كانت قراءة العامة واضحة. والمعنى: جعلها الله حرماً آمناً لا سفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصطاد صيدها ولا يختلأ خلاؤها، وله كل شيء خلقاً وملكاً، وإنما ذكر ذلك لأن العرب كانوا معترفين بكون مكة محرمة، وعلموا أن تلك الفضيلة ليست من الأصنام بل من الله فكأنه قال: لما علمت وعلمتهم أنه سبحانه هو المتولي لهذه النعم وجب عليّ أن أخصه بالعبادات، و {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} لله.
قوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن} العامة على إثبات الواو بعد اللام، وفيها تأويلان:
أظهرهما: أنه من التلاوة وهي القراءة، وما بعده يلائمه.
والثاني: من التلو وهو الاتباع كقوله: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} [يونس: 109] ، وقرأ عبد الله: «وَأَنِ اتْلُ» أمراً له عليه السلام، ف «أنْ» يجوز أن تكون المفسرة وأن تكون المصدرية، وصلت بالأمر، وتقدم ما فيه.
فصل
المعنى: وأمرت أن أتلوَ القرآن، ولقد قام بذلك صلوات الله عليه وسلامه أتم قيام «فَمَن اهْتَدَى» فيما تقدم من المسائل، وهي التوحيد والحشر والنبوة، {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي(15/210)
لِنَفْسِهِ} ، أي منفعة اهتدائه راجعة إليه، «ومَنْ ضَلَّ» عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى، {إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين} المخوفين فليس عليَّ إلا البلاغ، نسختها آية القتال.
قوله: «وَمَنْ ضَلَّ» يجوز أن يكون الجواب قوله: {فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ} ، ولا بد من حذفِ عائدٍ على اسم الشرط أي: مِنَ المُنْذِرينَ لهُ، لما تقدم في البقرة وأن يكون الجواب محذوفاً أي: فَوَبَالُ ضَلاَلِهِ عليه.
قوله: {وَقُلِ الحمد للَّهِ} على ما أعطاني من نعمة العلم والحكمة والنبوة، أو على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار، «سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ» القاهرة، «فَتَعْرِفُونَهَا» يعني يوم بدر من القتل والسبي، وضرب الملائكة وجوههم وأديارهم، نظيره قوله تعالى: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37] . وقال مجاهد: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ في السَّماواتِ والأَرْضِ وَفِي أَنْفُسِكُم} ، كما قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] «فتعرفونها» أي تعرفون الآيات والدلالات، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرىء بالتاء والياء، وهذا وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم.
روى أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «من قرأ طس النمل كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان، وكذب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم عليهم السلام، ويخرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلا الله»(15/211)
سورة القصص
سورة القصص مكية إلا قوله عز وجل: {الذين آتيناهم الكتاب} [القصص: 52] إلى قوله: {لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55] ، وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة وهي قوله: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} [القصص: 85] وهي ثمان وثمانون آية، وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانمائة حرف.
ولقائل أن يقول: لم لا سميت سورة موسى، لاشتمالها على قصة موسى فقط من حين ولد إلى أن أهلك الله فرعون وخسف بقارون، كما سميت سورة نوح، وسورة يوسف لاشتمالها على قصتهما، ولا يقال: سميت (بذلك لذكر) القصص فيها في قوله: {فلما جاءه وقص عليه القصص} [القصص: 25] لأن سورة يوسف فيها ذكر القصص مرتين، الأولى {نحن نقص عليك أحسن القصص} [يوسف: 3] ، والثانية قوله: " لقد كان في قصصهم " فكانت سورة يوسف أولى بهذا الاسم، وأيضا فكانت سورة هود أولى بهذا الاسم، يعني: بسورة القصص؛ لأنه ذكر فيها قصص (سبعة أنبياء) وهذه ليس فيها إلا قصة واحدة، فكان ينبغي العكس، أن تسمى سورة هود سورة القصص، وهذه سورة موسى.(15/212)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: «نَتْلُوا عَلَيْكَ» يجوز أن يكون مفعول «نَتْلُو» محذوفاً دَلَّت عليه صفته وهي: {مِنْ نَّبَإِ موسى} (تقديره: نَتْلُو عَلَيْكَ شَيْئاً مِنْ نَبَأ مُوسَى، ويجوز أن تكونَ «مِنْ» مزيدة على رأي الأخفش أي: نتلو عليك نبأ موسى) .
قوله: «بِالحَقِّ» يجوز أن يكون حالاً من فاعل «نَتْلُو» ، أو من مفعوله، أي نَتْلُو عَلَيْكَ بَعْضَ خبرها مُتلبسين أو مُتَلبساً بالحق أو متعلقاً بنفس «نَتْلُو» بمعنى: نَتْلُوه بسبب الحق و «لِقَوْم» متعلق بفعل التلاوة أي: لأجل هؤلاء: و «يُؤْمِنُونَ» يصدقون، وخَصَّهُمْ بالذكر لأنهم قبلوا وانتفعوا.
قوله: «إِنَّ فِرْعْونَ» هذا هو المتلُوّ جيء به في جملة مستأنفة مؤكدة.
وقرىء «فِرْعَونَ» بضم الفاء وكسرها، والكسر أحسن وهو الفسطاط، {عَلاَ فِي الأرض} استكبر وتجبَّر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير، يتبعونه على ما يريد ويطيعونه.
قوله: يَسْتَضْعِفُ يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مستأنفٌ بيان لحال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً.
الثاني: أنه حال من فاعل «جَعَلَ» أي: جعلهم كذا حال كونه مستضعفاً طائفة منهم.
الثالث: أنه صفة ل «طَائِفَةٍ» .
قوله: «يُذْبِّحُ» يجوز فيه الثلاثة الأوجه: الاستئناف تفسيراً ل «يَسْتَضْعِف» . أو(15/213)
الحال من فاعله أو صفة ثانية ل «طَائِفَة» . والعامة على التشديد في «يُذَبِّح» للتكثير. وأبو حيوة وابن محيصن «يَذْبَح» مفتوح الياء والباء مضارع «ذَبَحَ» مخففاً.
فصل
المراد بالطائفة بنو إسرائيل، ثم فسَّرَ الاستضعاف فقال: {يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} ، سمَّى هذا استضعافاً؛ لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} ذكروا في سبب ذبح الأبناء وجوهاً:
قيل: إنَّ كاهناً قال له يُولَدُ مَوْلُود في بني إسرائيل في ليلة كذا (يذهب ملكك) على يده، فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً، فقتلهم وبقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة. قال وهب: قتل القبط في طلب موسى تسعين ألفاً من بني إسرائيل. وقال السدي: إنَّ فرعون رأى في منامه أنَّ ناراً أقبلت من بيت المقدس إلى مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل. فسأل عن رؤياه فقيل له: يخرج من هذا البلد من بني إسرائيل رجل يكون هلاك مصر على يده، فأمر بقتل الذكور، وقيل: إن الإنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه فسمع فرعون بذلك فأمر بذبح أبناء بني إسرائيل.
قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطفٌ على قوله: «إِنَّ فِرْعَوْنَ» عطفُ عليه على اسمية، لأن كلتيهما تفسير للنبأ.
الثاني: أنه حالٌ من فاعل «يَسْتَضْعِفُ» وفيه ضعف من حيث الصناعة ومن حيث المعنى، أما الصناعة فلكونه (مضارعاً) مثبتاً فحقه أن يتجرد من الواو وإضمار مبتدأ قبله، أي: ونحن نريك، كقوله:
3974 - نَجَوْتُ وأَرْهَنهم مَالِكا ...(15/214)
وهذا تكلُّفٌ لا حاجة إليه. وأما المعنى فكيف يجتمع استضعاف فرعون، وإرادة المنّة من الله، لأنه متى مَنَّ اللَّهُ عليهم تعذَّر استضعاف فرعون إياهم.
وقد أجيب عن ذلك بأنه لما كانت المِنَّةُ بخلاصهم من فرعون سريعة الوقوع جعل إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم.
قوله: «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً» قال مجاهد: دعاة إلى الخير، وقال قتادة: ولاة وملوكاً كقوله تعالى: «وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً» ، وقيل: يهتدى بهم في الخير، «وَنَجْعَلَهُمْ الوَارِثِينَ» يعني لملك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم.
قوله: «وَنُمَكِّنَ» العامة على ذلك من غير لام علَّة، والأعمش: وَلِنُمَكَّنَ «بلام العلة ومتعلقها محذوف، أي: ولنمكن فعلنا ذلك، والمعنى: نوطىء لهم في أرض مصر والشام، ونجعلها لهم مكاناً يستقرون فيه، وننفذ أمرهم ونطلق أيديهم، يقال: مكَّن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه وأوطأه ومهده.
قوله: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} قرأ الأخوان:» وَيَرَى «بفتح الياء والراء مضارع (رأى) مسنداً إلى» فِرْعَوْنَ «وما عطف عليه فلذلك رفعوا، والباقون بضم النون وكسر الراء مضارع (أَرَى) ، فلذلك نصب» فِرْعَونَ «وما عطف عليه مفعولاً أول،» وَمَا كَانُوا «هو الثاني. و» مِنْهُم «متعلق بفعل الرُّؤية أو الإرادة، لا ب» يَحْذَرُونَ «لأَنَّ ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله، ولا ضرورة بنا إلى أَنْ نقولَ اتسع فيه، والحذر هو التوقي من الضَّرر، والمعنى: وما كانوا خائفين منه.
قوله:» أَنْ أَرْضِعِيهِ «يجوز أن تكون المفسرة والمصدرية، وقرأ عمر بن عبد(15/215)
العزيز وعمر بن عبد الواحد بكسر النون على التقاء الساكنين، وكأنه حذف همزة القطع على غير قياس فالتقى ساكنان، فكسر أولهما.
فصل(15/216)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} وحي إلهام لا وحي نبوة، قال قتادة: قذفنا في قلبها، واسمها يوخابز، وقيل أيادخا، وقيل أيارخت قاله ابن كثير، بنت لاوي بن يعقوب، «أَنْ أَرْضِعِيْهِ» قيل: أرضعته ثمانية أشهر، وقيل أربعة أشهر، وقيل ثلاثة أشهر، كانت ترضعه في حجرها وهو لا يبكي ولا يتحرك. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} يعني من الذبح، {فَأَلْقِيهِ فِي اليم} ، واليم البحر وأراد هنا النيل، {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني} قيل: ولا تخافي عليه من الغرق وقيل: من الضيعة، «ولا تحزني» على فراقه، ف {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} لتكوني أنت المرضعة {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} إلى أهل مصر والشام. قال المفسرون: إنها لما خافت عليه من الذبح، وضعته في تابوت، وألقته في النيل ليلاً. قال ابن كثير: وقيل إنها ربطت التابوت في حبل وكانت دارها على حافة النيل، فكانت ترضعه، فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر، وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا ذهبوا استرجعته إليها، وكان لفرعونَ قوابل معهم رجال يطوفون على الحوامل، فمن وضعت ذكراً ذبحوه، فأرسلت أم موسى التابوت يوماً. وذهلت عن ربطه فذهب مع النيل. وقال ابن عباس وغيره: وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان برص شديد، فقال له(15/216)
الأطباء: أيها الملك إنها لا تبرأ إلا من قبل البحر يؤخذ منه شبه الإنس، فيؤخذ من من ريقه فيلطخ به برصها، فتبرأ من ذلك، وذلك يوم كذا وساعة كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون من مجلس له كان على شفيرة النيل، ومعه آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق، وهي امرأة فرعون.
وقيل: كانت من بني إسرائيل من سبط موسى، وقيل: كانت عمته؛ حكاه الهسيلي؛ وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطىء النيل، إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج، فتعلق بجرة، فقال فرعون: ائتوني به، فابتدروا بالسفن من كل جانب فوضعوه بين يديه، فعالجوا فتحه، فلم يقدروا عليه، فنظرت آسية فرأت نوراً في جوف التابوت ولم يره غيرهان فعالجته ففتحته، فإذا هو بصبي صغير في مهده، وإذا نور بين عينيه، فألقى الله محبته في قلوب القوم، وعمتدت ابنة فرعون إلى ريقه، فلطخت به برصها، فبرأت، فقالت الغواة من قوم فرعون: إنَّا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه، رُمِيَ في البحر فرقاً منك فاقتله، فهمّ فرعون قتله، فاستوهبته امرأة فرعون فترك قتله.
وقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ} أي: جواريه.
قوله: «لِيَكُونَ} في اللام الوجهان المشهوران: العلية المجازية بمعنى أن ذلك لما كانت نتيجة فعلهم وثمرته شبه بالداعي الذي يفعله الفاعل الفعل لأجله، أو الصيرورة.
قووله: «وَحَزَناً» قرأ العامة بفتح الحاء والزاي، وهي لغة قريش، والأخوان بضم وسكون وهما لغتان بمعنى واحد كالعَدَمَ والعُدْمِ: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ} العامة على الهمز، مأخوذٌ من الخطأ ضد الصواب،(15/217)
وقرئ بياء دون هَمْزٍ، فاحتمل أن يكون كالأول، ولكن خُفِّفَ، وأن يكون من خَطَا يَخْطُوا أي: تَجاوز الصَّوابَ.
قوله: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هُو قُرَّة عينٍ.
الثاني - وهو بعيد جداً - أن يكون مبتدأ والخبر «لاَ تَقْتُلُوهُ» . وكان هذا القائل حقه أن لا يُذكِّر، فيقول: «لاَ تَقْتُلُوها» ، إلا أنه لما كان المراد مذكر ساغ ذلك، والعامة من القراء والمفسرين وأهل العلم يقفون على «ولَكَ» . ونقل ابن الأنباري بسنده إلى ابن عباس عنه أنه وقف على «لاَ» أي: هو «قُرَّةُ عَيْنٍ لِي» فقط، «وَلَكَ لاَ» ، أي: ليس هو لك قرة عين، ثم يبتدىء بقوله «تَقْتُلُوه» ، وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عنه، وكيف يبقى «تَقْتُلُوه» من غير نون رفع، ولا مُقْتَضى لحذفها؟ ولذلك قال الفراء: هو لن.
قوله: {عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} . كانت لا تلدن فاستوهبت موسى من فرعون، فوهبه لها، وقال فرعون: أَمَّا أنا فلا حاجة لي به، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لو قال يومئذ قرة عين لي كما هو لَكِ، لهداه الله كما هداها» وقال لآسية سميه، قالت: سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر، (فَمُو هو الماء، و (شا) هو البحر، فذلك قوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ} . والالتقاط: هو وجود الشيء) .
قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملة حالية، وهل هي من كلام الباري تعالى(15/218)
وهو الظاهر، أو من كلام امرأة فرعون؟ كأنها لما رأت ملأه أشاروا بقتله، قالت له كذا؛ أي: أفعل أنت ما أقول لك وقومك لا يشعرون أنا التقطناه - قال الكلبي، وجعل الزمخشري الجملة من قوله: {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ} معطوفة على «فَالتَقَطَهُ» والجملة من قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} إلى «خَاطِئِينَ» مُعترضة بين المتعاطفين، وجعل متعلق الشعور من جنس الجملة المعترضة أي: لا يشعرون أنهم على خطأ في التقاطه، أو أن هلاكهم على يديه، قال أبو حيان: ومتى أمكن حَمْلُ الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن.(15/219)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً} (قال الحسن: فَارِغاً) من كل همٍّ إِلاَّ همَّ موسى. وقال أبو مسلم: فراغ الفؤاد هو الخوف والإشغاف، كقوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43] .
وقال الزمخشري: فارغاً صفراً من العقل، والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والخوف. وقال الحسن ومحمد بن إسحاق فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها أن {فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] فجاءها الشيطان وقال لها: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجراً وثواباً، وتوليت أنتِ قتله، فألقيته في البحر، وأغرقتيه، ولمَّا أتاها خبر موسى أنه وقع في يد فرعون فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وقال أبو عبيدة: فراغاً من الحزن لعلمها بأنه لا يقتل، اعتماداً على تكفل الله بمصلحته. قال ابن قتيبة: وهذا من العجائب، كيف يكون فؤادها فارغاً من الحزن، والله تعالى يقول: {لولاا(15/219)
أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} ؟ وهل يُرْبَط إلا على قلب الجازع المحزون؟ ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع أنها لشدة ثقتها بوعد الله جاز عندها إظهار عدم الحزن، وأيقنت إنها - وإن أظهرت ذلك - فإنه يسلم لأجل ذل الوعد. إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار (يضر فربط) الله على قلبها. قال المعربون: «فارغاً» خبر أصبح أي: فارغاً من العقل، أو من الصبر، أو من الحزن، وهو أبعدها، ويردُّه قراءاتٌ تُخَالفُه. فقرأ فضالة والحسن «فَزِعاً» بالزاي من الفزع، وابن عباس «قَرِعاً» بالقاف وكسر الراء وسكونها، من قَرَعَ رأسهُ إذا انحسر شعرُهُ، (والمعنى: خلا من كُلِّ شيء، وانحَسَرَ عنهُ كُلُّ شَيءٍ إلا ذِكر موسى، وقيل: الساكن الراء مصدر قَرَعَ يَقْرَع، أي: أُصيب، وقرىء «فِرغاً» بكسر الفاء وسكون الراء، والغين معجمة أي: هدراً، كقوله) :
3975 - فَإِنْ يَكُ قَتْلَى قَدْ أُصِيبَتْ نُفُوسًهُمْ ... فَلَنْ يَذْهَبُوا فِرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ
فِرْغاً حال من «بِقَتْلِ» ، وقرأ الخليل «فُرُغاً» بضم الفاء وإعجام الغين من هذا المعنى، ومنه قولهم دماهم بينهم فرغ أي: هدر.
قوله: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} «إِنْ» إما مخففة، وإما نافية، واللام إمَّا فارقة وإمَّا بمعنى إلاَّ والباء في «بِهِ (مزيدة في المفعول، أي: لتُظْهِرَهُ، وقيل: ليست زائدة بل سببية، والمفعول محذوف، أي: لتُبْدِي القَولَ بسبب موسى أو بسبب الوحي. فالهاء يجوز أن تكون) راجعة إلى موسى، أي: إن كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة(15/220)
وجدها: وقال عكرمة عن ابن عباس: كادت تقول: واابناه حين رأت الموج يرفع التابوت ويضعه.
وقال الكلبي: كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون: إنه ابن فرعون.
وقال السدي: لما أُخِذ من الماء كادت تقول: هو ابني، فعصهما الله.
وقال بعضهم: الهاء عائدة إلى الوحي، أي كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أنه يرُدُّهُ عليها. قوله: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} جوابها محذوف، أي لأبدت، كقوله: {وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] والمعنى: لولا أن ربطنا على قلبها بالعصمة والصبر والتثبت. {لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} متعلق ب «رَبَطْنَا» ، والمعنى: لتكون من المؤمنين المصدِّقين بوعد الله، وهو قوله: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] .
قوله: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: قُصِّي أثر موسى، تتبَّعي أمره حتى تعلمي خبره: وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم. قال «فَبَصُرَتْ بِهِ» أي: أبصرتهُ، وقرأ قتادة «بَصَرَتْ» بفتح الصاد وعيسى بكسرها. قال المبرد: أبصرته وبصرت به بمعنى، وتقدم معناه في طه. و «عَنْ جُنُبٍ» في موضع الحال إمَّا من الفاعل أي: بصرت به مُسْتَخفيةً كائنةً عن جُنُبٍ، وإمَّا من المجرور أي: بعيداً منها.
وقرأ العامة «جُنُبٍ» بضمين وهو صفة لمحذوف، أي: عن مكان بعيد، وقال أبو عمرو بن العلاء: أي: عن شوقٍ، وهي لغة جُذَامٍ، يقولون: جَنَبْتُ إليك أي: اشتقت.
(وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي بفتح الجيم وسكون النون) ، وعن قتادة أيضاً بفتحهما، وعن الحسن «جُنْب» بالضم والسكون، وعن(15/221)
النعمان بن سالم «عَنْ جَانِبٍ» وكلها بمعنى واحد. ومثله الجِنَاب والجَنَابَة.
{وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملة حالية، ومتعلق الشعور محذوف أي: أنها تَقُصُّه، أو أنه سيكُونَ لهم عدواً وحزناً، أو أنها أخته، أو أنها ترقبه.(15/222)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} قيل: يجوز أن يكون جمع مُرْضِع وهي المرأة، وقيل: جمع مَرْضَع بفتح الميم والضاد، ثم جَوَّزوا فيه أن يكون مكاناً أي: مكان الإِرضاع وهو الثَّدي وأن يكون مصدراً أي: الإرْضَاعاتُ، أن: أنواعها، و «مِنْ قَبْلُ» أي: من قبل قصِّهَا أَثرهُ، أو من قبل مجيء أخته، ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا. والمراد من التحريم المنع، لأن التحريم بالنهي تعبّد وذلك لا يصح، فلا بُدَّ من فِعْل سواه، فيحتمل أن - تعالى - غيَّر طبعه عن لبن سائر النساء، فلذلك لم يرتضع أو أحدث في لبنهن طعماً ينفر عنه طبعه، أو وضع في لبن أمه لذة تعود بها، فكان يكره لبن غيرها.
فصل
قال ابن عباس: إن امرأة فرعون كان همَّها من الدنيا أن تجد له مرضعة، فكل ما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها؛ فذلك قوله عزَّ وجلَّ {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} ، فلمَّا رأت أخت موسى التي أرسلتها أمّه في طلبه ذلك {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} أي: يرضعونه لكم ويضمنونه، وهي امرأة قد قُتِلَ ولدها فأحبُّ شيءٍ إليها أن تجد صغيراً ترضعه.
قوله: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} الظاهر أنه ضمير موسى، وقيل لفرعون، قال ابن(15/222)
جُريج والسُّديّ: لما قالت أخت موسى {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} استنكروا حالها وتفرّسوا أنها قرابتُه، فقالت: إنَّمَا أَرَدْتُ وهم للملك ناصِحُونَ، فتخلَّصَت منهم، وهذا يُسمى عند أهل البيان الكلام الموجَّه ومثله: لما سُئِل بعضهم وكان بين أقوام بعضهم يحب عليّاً دون غيره، وبعضهم أبا بكر وبعضهم عمر وبعضهم عثمان، فقيل له: أيهم أحبّ إلى رسول الله؟ فقال: من كانت ابنته تحته. وقيل لما تفرّسوا أنه قرابتُهُ قالت: إنما قللت هذا رغبة في سرور الملك أمي. قالوا: ولأمك ابن؟ قالت: نعم، هارون، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها. قالوا: صدقت، فائتينا بها، فانطلقت إلى أمه فأخبرتها بحال ابنها، وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل تديثها وجعل يمصّه حتى امتلأ جنباه ريّاً.
والنصح: إخلاص العمل من سائر الفساد.
قوله: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بردِّ موسى إليها، «وَلاَ تَحْزَنَ» عطف على «تَقَرَّ» ، ودمعةُ الفرح قارّةٌ، ودمعةُ التَّرَح حارَّةٌ، قال أبو تمام:
3976 - فَأَمَّا عُيُونُ العَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ ... وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ
وتقدم تحقيق هذا في مريم.(15/223)
{وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} بردّه إليها كانت عالمة بذلك ولكن ليس المخبَر كالمعاين فتحققت بوجود الموعود، {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الله وعدها ردّه إليها. قال الضحاك: لمّا قَبلَ ثديها قال هامان: إنك لأمه، قالت: لا، قال: فما بالك قبل ثديك من بين النسوة؟ قالت: أيها الملك، إني أمرأة طيبة الريح، حلوة اللبن، فما شم ريحي صبيّ إلا أقبل على ثديي. قالوا: صدقت. فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها أتحفها بالذهب والجواهر.(15/224)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} تقدم الكلام عليه، «وَاسْتَوَى» أي: بلغ أربعين سنة - (قال ابن عباس -) وقيل: استوى: انتهى شبابه، {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} أي: الفقه والعقل والعلم في الدين، فعلم موسى وحكم قبل أَنْ يبعث نبياً، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ، وهذا يدل على أنه ليس المراد بالحكم النبوة، لأنه جعل إيتاءه الحكم والعلم مجازاة على إحسانه، والنبوة لا تكون جزاء على العمل.
قوله: «وَدَخَلَ المَدِينَة» أي: ودخل موسى المدينة. قال السدي: مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل: قرية تدعى حانين على (رأس) فرسخين من مصر، وقيل: عين شمس، قوله: {على حِينِ غَفْلَةٍ} في موضع الحال إمّا من الفاعل أي: كائناً على حين غَفْلَة، أي: مُستخفياً، وإِمَّا من المفعول، وقرأ أبو(15/224)
طالب القارىء «عَلَى حِينَ» بفتح النون، وتكلَّفَ أبو حيان تخريجها على أنه حمل المصدر على الفعل في أنه إذا أضيف الظرف إليه جاز بناؤه على الفتح، كقوله:
3977 - عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... و «مِنْ أَهْلِهَا» صفة ل «غَفْلَةٍ» ، أي: صادرة من أهلها.
فصل
اختلفوا في السبب الذي لأجله دخل موسى المدينة على حين غفلة من أهلها، فقال السُّدِّي: إن موسى كان يسمى ابن فرعون، فكان يركب في مراكب فرعون، ويلبس مثل ملابسه، فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض منف، فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحدن فذلك {على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} . وقال ابن إسحاق: كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به، فلما عرف ما هو عليه من الحق فارق فرعون وقومه وخالفهم في دينهم حتى ذكر ذلك منه، وأخافوه وخافهم، فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً.
وقال ابن زيد: إِنَّ موسى ضرب رأس فرعون ونتف لحيته، فأراد فرعون قتله، فقالت امرأته: هو صغير، جِىءْ بجمرة فأخذها فطرحها في فيه، فبها عقد لسانه، فقال فرعون: لا أقتله، ولكن أخرجوه عن الدار والبلد، فأخرج ولم يدخل عليها حتى كبر، فدخل {على حِينِ غَفْلَةٍ} .
قوله «يَقْتتلانِ» صفة ل «رَجُلَيْنِ» ، وقال ابن عطية: حالٌ منهما، وسيبويه - وإن كان جوَّزها من النكرة مطلقاً - إلاَّ أَنَّ الأكثر يشترطون فيها ما يُسوِّغُ الابتداء بها.(15/225)
وقرأ نعيمُ بن ميسرة «يقتلان» بالإدغام، نقل فتحة التاء الأولى إلى القاف وأدغم. قوله {هذا مِن شِيعَتِهِ} مبتدأ وخبر في موضع الصفة ل «رَجُلَيْنِ» ، أو الحال من الضمير في «يَقْتتلانِ» وهو بعيدٌ لعدمِ انتِقالهَا.
وقوله: «هذَا» و «هذا» على حكاية الحال الماضية، فكأنهما حاضران، أي: إذا نظر الناظر إليهما، قال: هذا من شيعته وهذا من عدوه. وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب، وأنشد لجرير:
3978 - هذَا ابنُ عَمِّي في دِمَشْقَ خَلِيفَة ... لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمْ إِليَّ قَطِينا
(فصل)
{هذا مِن شِيعَتِهِ} من بني إسرائيل، {وهذا مِنْ عَدُوِّهِ} من القبط. قال مقاتل: كانا كافرين إلا أنَّ أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل، لقول موسى عليه السلام له {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 18] . والمشهور أَنَّ الإسرائيلي كان مسلماً، قيل: إنه السامري، والقبطي طبَّاخ فرعون. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لمَّا بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلُص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع. وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى، لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم.
قوله «فَاسْتَغَاثَهُ» هذه قراءة العامة من الغوث أي طلب غوثه ونصره، وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة والنون من الإِعانة. قال ابن عطية: هي تصحيف وقال ابن جبارة صاحب الكامل: الاختيار قراءة ابن مقسم، لأَنَّ الإِعانة أوْلَى(15/226)
في هذا الباب قال شهاب الدين: نسبة التصحيف إلى هؤلاء غير محمودة (كما أن تغالي) الهذلي في اختيار الشاذة غير محمود.
قوله: «فَوَكَزَهُ» أي: دفعه بجميع كَفِّه، والفرق بين الوَكْزِ واللَّكْزِ: أَنَّ الأول بجميع الكف والثاني: بأطراف الأصابع، وقيل بالعكس، وقيل: اللكز في الصدر، والوكز في الظهر، والنَّكْزُ كاللَّكْزِ قال:
3979 - يَا أَيُّهَا الجَاهِلُ ذُو التَّنَزِّي ... لا تُوعِدني حَبَّةٌ بِالنَّكْزِ
وقرأ ابن مسعود «فَلَكَزَهُ» و «فَنَكَزَهُ» باللام والنون.
قوله: «فَقَضَى» أي: موسى، أو الله تعالى، أو ضمير الفعل أي: الوكز «فَقَضَى عَلَيْهِ» أي: أماته، وقتله، وفرغ من أمره، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه، فندم موسى ولم يكن قصده القتل، فدفنه في الرمل، و {قَالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} فقوله: «هذَا» إشارة إلى القتل الصادر منه، و {مِنْ عَمَلِ الشيطان} أي: من وسوسته وتسويله.
فصل
احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء من وجوه:
أحدها: أن ذلك القبطي إما أن يكون مستحق القتل أو لم يكن كذلك، فإن استحق القتل فلم قال: {هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} ؟ ولم قال: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ} ؟ وقال في سورة أخرى {فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] . وإن لم يستحق القتل كان قتله معصيةً وذنباً.
وثانيها: أنَّ قوله: {وهذا مِنْ عَدُوِّهِ} يدل على أنه كان كافراً حربياً، فكان دمه مباحاً،(15/227)
فَلِمَ استغفر عنه؟ والاستغفار من الفعل المباح غير جائز لأنه يوهم في المباح كونه حراماً.
وثالثها: أَنَّ الوكز لا يحصل عنه القتل ظاهراً. فكان ذلك قتل خطأ، فَلِمَ استغفر منه؟
والجواب عن الأول: لم لا يجوز أن يقال إنه لكفره مباح الدم؟ وأما قوله {هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} ففيه وجوه:
الأول: أنَّ الله تعالى وإن أباح قتل الكفار، إلاَّ أنه كان الأَولى تأخير قتلهم إلى زمان آخر، فلما قتل ترك ذلك المندوب؛ وهو قوله: {هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} .
الثاني: أنَّ قوله: «هذَا» إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه.
(الثالث: أنَّ قوله: «هذَا» إشارة إلى المتقول) . (يعني أنه من حزب الشيطان) وجنده، يقال: فلان من عمل الشيطان أي من أحزابه. وأما قوله {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي} (فعلى نهج قول آدم عليه السلام) {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] والمراد أحد وجهين: إما على سبيل الانقطاع إلى الله، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإِنْ لم يكن هناك ذنب قط أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب.
وأما قوله «فَاغْفِرْ لِي» أي: فاغفر لي ترك هذا المندوب. وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المراد {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} حيث قتلت هذا الملعون، فإنَّ فرعون لو عرف ذلك لقتلني به، «فَاغْفِرْ ليْ» ، فاستره عليَّ ولا توصل خبره إلى فرعون، «فَغَفَرَ لَهُ» أي: ستره عن الوصول إلى فرعون، ويدل على هذا قوله {رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} فلو كانت إعانة المؤمن هنا سبباً للمعصية لما قال ذلك، وأما قوله {فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] فلم يقل إني صرت بذلك ضالاً، بل اعترف أنه كان ضالاً أي: متحيراً لا يدري ما يجب عليه.
وأما قوله: إنْ كان كافراً حربياً فَلِمَ استغفر من قتله؟ قلنا: كون الكافر مباح الدم أم يختلف باختلاف الشرائع، فلعلّ قتلهم كان حراماً في ذلك الوقت، أو كان مباحاً لكن الأولى تركه على ما قررناه.
وأما قوله: كان قتل خطأ، قلنا: لا نسلم، فلعل الرجل إن كان ضعيفاً وموسى عليه السلام كان في نهاية الشدة فوكزه كان قاتلاً قطعاً، ثم إن سلمنا(15/228)
ذلك ولكنه - عليه السلام - كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون الوكز الذي كان الأولى تركه، فلهذا أقدم على الاستغفار. على أَنَّا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية، لكنَّا بيَّنَّا أَنهُ لا دلالة البتة فيه، لأنه لم يكن رسولاً في ذلك الوقت فيكون ذلك قبل النبوة لا نزاع فيه.
فصل
قال المعتزلة: الآية تدل على بطلان قول من نسب المعاصي إلى الله، لأنه - عليه السلام - قال: {هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} ، فلو كانت بخلق الله لكانت من الله لا من الشطيان، وهو كقول يوسف - عليه السلام -
{مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي} [يوسف: 100] ، وقول فتى موسى {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] ، وقوله تعالى: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة} [الأعراف: 27] ، وتقدم الكلام على ذلك.
قوله: «بِمَا أَنْعَمْتَ» يجوز في الباء أن تكون (قسماً و) الجواب مقدراً: لأَتوبنَّ، وتفسيره: فَلأنْ أكُونَ، قال القفال: كأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً، أي: بنعمتك عليَّ، وأنْ تكون متعلقة بمحذوف ومعناها السببية، أي: اعصمني بسبب ما أَنعمتَ به عليَّ، ويترتب عليه قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} ، و «مَا» مصدرية أو بمعنى الذي، والعائد محذوف، وقوله: «فَلَنْ» نفيٌ على حقيقته، وهذا يدل على أنه قال: لِمَ أنعمت عليَّ بهذا الإنعام فإني لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين بل أكون معاوناً للمسلمين، وهذا يدلّ على أَنَّ ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي كان طاعة لا معصية، إذ لو كان معصية لنزل الكلام منزلة قوله: «إنك لمَّا أنعمت عليَّ بقبول توبتي من تلك المعصية.
وقال الكسائي والفراء: إنه خبر ومعناه الدعاء، وإنَّ» لَنْ «واقعة موقع» لا «،(15/229)
كأنه قال: ولا تجعلني ظهيراً، قال الفراء: في حرف عبد الله {وَلاَ تَجْعَلْنِي ظَهِيراً} قال الشاعر:
3980 - لَنْ تَزَالُوا كَذلكُم ثُمَّ لا زلْ ... تَ لَهُمْ خَالِداً خُلُودَ الجِبَالِ
قال شهاب الدين: وليس في الآي والبيت دلالة على وقوع» لن «موقع» لا «، لظهور النفي فيهما من غير تقدير دعاء.
فصل
قال ابن عباس: {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} بالمغفرة، {فَلَنْ أَكُوْنَ ظَهِيراً} عوناً» لِلْمُجْرِمينَ «. أي: للكافرين وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافراً، وهو قول مقاتل، وقال قتادة: لن أعين بعدها على خطيئة.
قال ابن عباس: لم يستثن فابتلي به في اليوم الثاني: (وهذا ضعيف، لأنه في اليوم الثاني ترك الإعانة، وإنما خاف منه ذلك العدو، فقال: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً} [القصص: 19] إلاّ أنه لم يقع منه) .(15/230)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
قوله: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة} التي قتل فيها القبطي «خَائِفاً» الظاهر أنه خبر «أصبح» ، و «فِي المَدِينَةِ» مفعول به، ويجوز أن يكون حالاً، والخبر «فِي المَدِينَةِ» ، ويضعف تمام «أَصْبَحَ» أي: دخل في الصباح.(15/230)
قوله: «يَتَرَقَّبُ» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً ثانيةً، وأن يكون بدلاً من الحال (الأولى) ، أو الخبر الأول، أو حالاً من الضمير في «خَائفاً» فتكون متداخلة، ومفعول «يَتَرَقَّبُ» محذوف، أي: يترقب المكروه، أو الفرج، أو الخبر: هل وصل لفرعون أم لا؟ قوله: «فَإِذَا» «إِذَا» فجائية، و «الَّذِي» مبتدأ وخبره إمَّا «إذَا» ف «يَسْتَصْرِخُهُ» حال، وإمَّا «يَسْتَصْرِخُهُ» ف «إِذَا» فضله على بابها، و «بِالأَمْسِ» معرب، لأنه متى دخلت عليه «أل» أوأضيف أعرب، ومتى عَرِيَ منها فحاله معروفٌ، الحجاز يبنونه، والتميميون يمنعونه الصرف، كقوله:
3981 - لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسَا ... على أنه قد بُنِيَ مع «ال» ندوراً، كقوله:
3982 - وَإِنِّي حُبِسْتُ اليَوْمَ والأَمْسِ قَبْلَهُ ... إِلَى الشَّمْسِ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ
يورى بكسر السين.
قوله: {قَالَ لَهُ موسى} الضمير قيل للإسرائيلي، لأنه كان سبباً في الفتنة الأولى، وقيل للقبطي، وذلك أنَّ موسى لما أصبح خائفاً من قتل القبطي «يَتَرَقَّب» ينتظر سوءاً، والترقب انتظار المكروه. قال الكلبي: ينتظر متى يؤخذ به، {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيثه ويصيح به من بعد، قال ابن عباس: أتى فرعون فقيل له: إنَّ بني(15/231)
إسرائيل قتلوا مِنَّا رجلاً فخذ لنا بحقنا، فقالوا ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه (فلا تنسبوني أن أقضي) بغير بينة، فبينما هم يطوفون لا يجدون بيّنة إذ مَرَّ مُوسَى من الد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً، فاستغاثه على الفرعوني، فصادق موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي، فقال موسى للإسرائيلي: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} (أي: ظاهر الغواية) . قال أهل اللغة: «لَغَوِيٌّ» يجوز أن يكون فَعِيلاً بمعنى مفعل، أي: إنَّك لمغويّ، فإنِّي وقعتُ بالأمس فيما وقعت فيه بسببك، ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي: قاتلت رجلاً بالأمس فقتلته بسببك، وتقاتل اليوم آخر، وتستغيثني عليه، وقيل: إنما قال موسى للفرعوني: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} بظلمك، والأكثرون على الأول.
قوله: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ} الظاهر أنَّ الضميرين لموسى، وقيل للإسرائيلي، والعدو: هو القبطي، والضمير في {قَالَ ياموسى} للإسرائيلي، كأنه توهم من موسى مخاشنة، فَمِنْ ثمَّ قال ذلك، وبهذا فشا خبره وكان مشكوكاً في قاتله.
و «أَنْ» تطرد زيادتها في موضعين:
أحدهما: بعد لمَّا كهذه.
والثاني: قبل «لَوْ» مسبوقة بقسم كقوله:
3983 - أَمَا وَاللَّهِ َنْ لَوْ كُنْتُ حُراً ... 3983م - فَأُقُسِمُ أَنْ لَوْ التَقَيْنَا وَأَنْتُمُ ... لَكَانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِم
والعامة على «يَبْطِش» بالكسر، وضمَّها أبو جعفر، وقيل: إن القائل «يَا مُوسَى» هو القبطي، وكان قد عرف القصة من الإسرائيلي. قال ابن الخطيب: وهذا هو الظاهر، لقوله: {فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ ياموسى} ، فهذا(15/232)
القول منه لا من غيره، وأيضاً قوله: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض} لا يليق إلا بقول الكافر، والجبار: هو الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل بظلم، ولا ينظر في العواقب، وقيل: المتعظم، {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} ، قال المفسرون: فلما سمع القبطي قول الإسرائيلي علم أَنَّ موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني: فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك، وأمر فرعون بقتل موسى. قال ابن عباس: أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى فأخذوا الطريق الأعظم. قوله: {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} ، أي: من آخر المدينة اسمه: حزقيل مؤمن آل فرعون، وقيل اسمه شمعون، وقيل: (شمعان) : «يَسْعَى» قال الزمخشري: «يَسْعَى» يجوز ارتفاعه وصفاً ل «رَجُلٌ» وانتصابه حالاً عنه، لأنه قد تخصص بالوصف بقوله: {مِّنْ أَقْصَى المدينة} ، فإن جعلت «مِنْ أَقْصَى» متعلقاً ب «جَاءَ» ف «يَسْعَى» صفة ليس إلا. وهذا بناء منه على مذهب الجمهور، وقد تقدَّم أَنَّ سيبويه يجيز ذلك من غير شَرْط.
وفي آية يس قدَّمَ «مِنْ أَقْصَى» على «رَجُل» ، لأنه لم يكن من أقصاها وما جاء منها وهنا وصفه بأنه من أقصاها، وهما رجلان مختلفان وقضيتان متباينتان.
(قوله) «يَأْتَمِرُونَ» أي: يتآمرون بمعنى يتشاورون، كقول النمر بن تولب:
3984 - أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شبهَةً ... وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ مُؤْتَمَرْ
وعن ابن قتيبة: يأمر بعضهم بعضاً. أخذه من قوله تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] . (قوله) «فَاخْرُجْ» أي: من المدينة، {إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين} في الأمر بالخروج، فقوله «لَكَ» ، يجوز أن يتعلق بما يدلُّ «النَّاصِحِينَ» عليه، أي؛ ناصحٌ لك من الناصحين، أو بنفس «النَّاصِحِينَ» للاتساع في الظرف، أو على جهة البيان أي: أعني(15/233)
لك. «فَخَرَجَ مِنْهَا» موسى «خَائِفاً يَتَرَقَّبُ» هِدَايَتَهُ وغَوْثَ الله إيَّاهُ، {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} أي؛ لاكافرين وهذا يدلُّ على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذبناً وإلا لكان هو الظالم لهم، وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم له ليقتلوه قصاصاً.(15/234)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
قوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} أي: قصد نحوها ماضياً إليها، يقال: داره تلقاه دار فلان، إذا كانت محاذيتها وأصله من اللقاء، قال الزجاج: أي: سلك الطريق الذي تلقاء مدين فيها. قال ابن عباس: خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله ومشى من غير معرفة فأسلمه الله إلى مدين، وقيل: وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة؛ لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وكان من بني إسرائيل، سميت البلدة باسمه فخرج ولم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على الله، وقيل: جاءه جبريل عليه السلام، وعلمه الطريق.
قال ابن إسحاق: خرج من مصر إلى مدين خائفاً بلا زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر. {قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} ، أي: قصد الطريق إلى مدين.
قوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} وهو الماء الذي ستقبون منه وهو بئر، ووروده: مجيئه، والوصول إليه، «وَجَدَ عليه» أي: على شفيره ( «أمَّةً» جماعة كثيفة العدد «مِنَ(15/234)
النَّاسِ» مختلفين «يَسْقُونَ منها مواشيهم) ، {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} أي: سوى الجماعة، وقيل: في مكان أسفل من مكانهم.
قوله:» امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ «ف» تذودوان «صفة ل» امْرَأَتِيْنِ «لا مفعول ثاني، لأَنَّ» وَجَدَ «بمعنى: لقي، والذَّودُ، الطرد والدفع، قال:
3985 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... وقيل: حبس: ومفعوله محذوف، أي: يَذُودانِ النَّاسَ عن غَنمهما، أو عن مزاحمة الناس، وقال الزمخشري: لم ترك المفعول غير مذكور في» يَسْقُونَ «و» تَذُودَانِ «و» لاَ نَسْقِي «، قُلتُ: لأنَّ الغرض هو الفعل لا المفعول، وكذلك قَوْلهُمَا: {لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء} المقصود منه السَّقي لا المَسْقِيّ.
(فصل
واختلفوا في السبب المقتضي لذلك الحبس، فقال الزجاج: لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم، وقيل: لئلا يختلطن بالرجال، وقيل: كانتا تذودان عن وجوههما نظر الرجال لتسترهما، وقيل: تذودان الناس عن غنمهما، وقال الفراء: يحبسانها لئلا تتفرق وتتسرب، وقيل: تذودان أي: معهما قطيع من الغنم، والقطيع من الغنم يسمى: ذوداً، وكذلك قطيع البقرب وقطيع الإبل. قال عليه السلام:» لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ دَوْدٍ صَدَقَة «وقال الشاعر:
3986 - ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ، وَثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي(15/235)
قوله:» مَا خَطْبكُمَا «تقدم في طه، وقال الزمخشري: هنا حقيقته: مَا مخطُوبُكما؟ أي: ما مطلُوبُكُمَا من الذياد؟ فسمي المخطُوب خطباً كما سمي المشئُونُ شأْناً في قولك: ما شأنُكَ؟ يقال: شَأنْتُ شَأْنَهُ، أي: قَصَدْتُ قَصْدَه. وقال ابن عطية: السؤال بالخطب إنما هو في مُصَاب أو مُضطهد أو مَنْ يُشْلإقُ عليه أو يأتي بمنكر من الأمر.
وقرأ شَمِر «خِطْبَكُمَا» بالكسر أي: ما زوجكما؟ أي: لِمَ تَسْقِيَانِ وَلَمْ يَسْقِ زَوْجُكُمَا؟ وهي شاذة جداً.
قوله: {حتى يُصْدِرَ الرعآء} قرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صَدَرَ يَصْدُرُ وهو قاصر، أي: حتى يرجع الرعاء: أي: يرجعون بمواشيهم والباقون بضم الياء وكسر الدال مضارع أَصدرَ مُعدًّى بالهمزة، والمفعول محذوف، أي: يُصدرُونَ مواشِيهم، والعامة على كسر الراء من «الرِّعَاء» ، وهو جمع تكسير غير مقيس لأنَّ فاعلاً الوصف المعتل اللام كقاضٍ قياسه (فُعَلَة) نحة قُضَاة ورُمَاة.
وقال الزمخشري: وأما الرِّعَاء بالكسر فقياس كصِيام وقِيام. وليس كما ذكر (لِمَا ذَكَرْنَاهُ) . وقرأ أبو عمرو - في رواية - بفتح الراء. قال أبو الفضل: هو مصدر(15/236)
أقيم مقام الصفة فلذلك استوى فيه الواحد والجمع أو على حذف مضاف، وقرىء بضمها، وهو اسم جمع كرخال وثُنَاء. وقرأ ابن مصرف «لا نُسْقِي» بضم النون من أَسْقَى، وتقدم الفرق بين سَقَى وأَسْقَى في النحل، والمعنى لا نسقي حتى يرجع الرّعاء عن الماء، والرّعاء جمع راع مثل تاجر وتِجَار، أي: نحن امرأتان لا نطيق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض، و {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقدر أن يسقي مواشيه ولذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم.
فصل
قال مجاهد والضحاك والسدي والحسن: أبوهما هو شعيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. (وإنه عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام، وتزوج بابنته) . وقال وهب وسعيد بن جبير: هو يثرون ابن أخي شعيب (وكان شعيب) قد مات بعد ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم. وقيل: رجل ممن آمن بشعيب. قالوا: فلما سمع قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس، وقال ابن إسحاق: إنَّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين. وروي أن القوم لمَّا رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشر نفر، فجاء موسى فرفع الحجر وحده، وسقى غنمهما، ويقال: إنه نزع ذنوباً واحداً ودعا فيه بالبركة فروي منه جميع الغنم.
قوله: «فَسَقَى لَهُمَا» مفعوله محذوف أي: غنمهما لأجلهما، {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} أي: إلى ظل شجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع. قال الضحاك: لبث سبعة أيام لم يذق طعاماً إلا بقل الأرض.(15/237)
فصل
«لِمَا أَنْزَلْتَ» متعلق ب «فَقير» قال الزمخشري: عُدِّي فقير باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب ويحتمل إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلتَ إِليَّ من خير الدين، وهو النجاة من الظالمين.
يعني أن افتقر يتعدى ب «مِنْ» ، فإمَّا أن نجعله من باب التضمين، وإمّا أَنَّ متعلقه محذوف و «أَنْزَلْتَ» قيل ماض على أصله، ويعني بالخير ما تقدم من خير الدين، وقيل: بمعنى المستقبل. قال أهل اللغة: اللام بمعنى إلى، يقال: فقير له، وفقير إليه، فإنْ قيل: كيف ساغ بنبي الله شعيب أن يرضى لابنتيه السعي بالماشية فالجواب: أنَّ الناس اختلفوا فيه: هل هو شعيب أو غيره كما تقدم، وإن سلمنا أنه شعيب لكن لا مفسدة فيه، لأن الدين لا يأباه، وأحوال أهل البادية يغر أحوال أهل الحضر سيما إذا كانت الحال حالة ضرورة.
فصل
قال ابن عباس: سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه. قال الباقر: لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة، وقال سعيد بن جبير: قال ابن عباس: لقد قال {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلي شق تمرة، وقيل: إنما قال ذلك في نفسه مع ربه، وهو اللائق بموسى عليه السلام فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حُفّل بِطَان قال لهما: ما أعجلكما: قالتا: وجدنا رجُلاً صالِحاً رحيماً فسقى لنا أغنامنا، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي، قوله «فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا» قرأ ابن محيصن: «فَجَاءَتْهُ حُدَاهمَا» بحذف الهمزة تخفيفاً على غير قياس، كقوله: يا با فلان، وقوله:(15/238)
3987 - يَا بَا المُغيرة رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ ... فَرَّجْتهُ بِالنُّكْرِ عَنِّي وَالدَّهَا
وَوَيْلُمِّه أي: ويلٌ لأُمِّهِ. قال:
3988 - وَيْلُمِّهَا حَالُه لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ ... و «تَمْشِي» حال، و «اسْتِحْيَاءٍ» حال أخرى، إما من «جَاءَتْ» وإما من «تَمْشِي» .
فصل
قال عمر بن الخطاب: ليست بسلفع من النساء خرَّاجة ولاَّجة، ولكن جاءت مستترة وضعت كم درعها على وجهها استحياء. {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} صرحت بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة، وهذا من تمام حيائها وصيانتها، وقيل: ماشية على بُعْد، مائلة عن الرجال. وقال عبد العزيز بن أبي حازم: على إجلال له، ومنهم من يقف على قوله «تَمْشِي» ، ثم يبتدىء {عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} أي: إنها على استحياء قالت هذا القول، لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة يستحي لا سيما المرأة. قال ابن إسحاق: اسم الكبرى صَفورا والصغرى لبنا، وقيل ليا، وقال غيره: صَفُورا وصَفِيرا. وقال الضحاك: صافُورا، قال(15/239)
الأكثرون: التي جاءت إلى موسى الكبرى. وقال الكلبي: هي الصغرى. قال ابن الخطيب: وفي الآية إشكالات.
أحدها: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة، (وَأَنْ يَمْشِي مَعَهَا) وهي أجنبية، فإذن ذلك يورث التهمة العظيمة؟ وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتَّقُوا مَوَاضِع التُّهَم» .
وثانيها: أنه سقى أغنامها تقرباً إلى الله تعالى، فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه، وذلك غير جائز في الشريعة؟ .
وثالثها: أنه عرف فقرَهُنَّ، وفَقْرَ أبيهنّ، وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي، فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة؟
ورابعها: كيف يليق بالنبي شُعَيب عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شابٍّ قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً؟
والجواب عن الأول: أما العمل بقول امرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى، وهي ما كانت إلاَّ مخبرة عن أبيها.
وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع.
وعن الثاني: أن المرأة لما قالت ذلك، فموسى عليه السلام ما ذهب إليهم طالباً للأجر، بل للتبرك بذلك الشيخ، لِما رُوِي أنه لما دخل على شعيب إذا هو بالعَشاء تهيَّأ، فقال: اجلس يا شاب فتعش، فقال موسى: أعوذُ بالله، فقال شُعَيْب: ولم ذلك؟ ألست بجائع؟ فقال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت لا نطلبُ على عملٍ من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا، وفي رواية: لا نبيع ديننا بالدُّنيا، ولا نأخذ بالمعروف ثمناً. فقال شُعيب: لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف، ونطعم الطعام، فجلس موسى، فأكل. وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ به إلى حيث ما كان يطيق تحمله، فقبل ذلك اضطراراً، وهو الجواب عن الثالث، فإن الضرورات تبيح المحظورات.
وعن الرابع: لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها، فكان يعتمد عليها.(15/240)
فصل
قال عمر بن الخطاب: فقام يمشي والجارية أمامه، فعبثت الريح، فوصفت ردفها، فكره موسى أن يرى ذلك منها، فقال موسى عليه السلام: إني من عنصر إبراهيم، فكوني خَلْفي حتى لا ترفع الريح ثيابك، فأرى ما لا يَحِل، وفي رواية: كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحَصَى، لأن صوت المرأة عورة.
فإن قيل: لِمَ خشي موسى - عليه السلام - أن يكون ذلك أجرة له عن عمله، ولم يكره مع الخضر ذلك حين قال: {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] ؟
فالجواب: أن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز، وأما الاستئجار ابتداء (ف) غير مكروه. قوله: {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} مصدر كالعلل سمي به المقصوص، قال الضَّحاك: قال له: مَنْ أنت يا عبد الله؟ قال له: أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي، وأنهم يطلبوه فيقتلوه، فقال شعيب عليه السلام: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} أي: لا سلطان له بأرضنا، فإن قيل إن المفسرين قالوا: إن فرعون يوم ركب خلف موسى، ركب في ألف ألف وستمائه، والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل ألا يكون في ملكه قرية على بُعْد ثمانية أيام من دار مملكته؟ فالجواب: هذا وإن كان نادراً إلا أنَّه ليس بمحال.
قوله: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره} اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} أي: خير من استعملت مَنْ قَوي على العمل، وأداء الأمانة، وإنما جعل {خَيْرَ مَنِ استأجرت} اسماُ و «القَوِيُّ الأَمِينُ» خبراً مع أن العكس أولى، لأن العناية سبب اللتقديم. فإن قيل: القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما العطية والكتابة، فلم أهمَل أمرَ الكتابة؟ فالجواب أنهما داخِلان في الأمانة.(15/241)
قال ابن مسعود: أفرسُ الناس ثلاثة: بنتُ شعيب، (وصاحب يوسف) ، وأبو بكر في عمر.
فقال لها أبوها: وما علمك بقوته وأمانته؟ قالت: أما قوتُه، فإنه رفع حجراً من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة، وقيل: إلا أربعون، وأمَّا أمانته، فإنه قال لي: امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك. قال شعيب عند ذلك: {إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} . قال أكثر المفسرين: إنه زوجه الصغير منهما، وهي التي ذهبت لطلب موسى واسمها صفورة. قوله: {أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى} روي عن أبي عمرو «أنْكِحَكَ حدى» بحذف همزة «إحدَى» ، وهذه تشبه قراءة ابن محيصن «فَجَاءَتْهُ حْدَاهُما» ، وتقدم التشديد في نون «هَاتَيْنِ» في سورة النساء.
قوله {على أَن تَأْجُرَنِي} في محل نصب على الحال، إما من الفاعل أو من المفعول، أي: مشروطاً على أو عليك ذلك. و «تَأْجُرَنِي» مضارع أَجَرْتُه، كنتُ له أجيراً، ومفعوله الثاني محذوف، أي: وتأجُرنِي نفسَك، و «ثَمَانِيَ حِجَجٍ» ظرف له. ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنها هي المفعول الثاني. قال شهاب الدين الزمخشري لم يجعلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجه، وإنّضام جعلها مفعولاً ثانياً على وجه آخر، وأما على هذا الوجه فلم يجعلها غير ظرف، وهذا نصه ليتبين لك، قال: «تَأْجُرَنِي» ، من أجرته إذا كنت له أجيراً، كقولك: أبوته إذا كنت له أَباً، و «ثَمَانِيَ حِجَجٍ» ظفر، أو مِنْ أجرته إذا أثبته، ومنه تعزية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آجركُم اللَّهُ ورحِمَكُمْ» وثماني حججٍ «مفعول به، ومعناه رعية ثماني حجج. فنقل الشيخ عنه الوجه الأول من المعنيين المذكورين في» تأجُرنِي «فقط، وحكى عنه أنه أعرب» ثَمَاني حِجَجٍ «مفعولاً به، وكيف يستقيم ذلك أو يتجه؟ وانظر إلى الزمخشري(15/242)
كيف قدر مضافاً ليصح المعنى به، أي: رَعْيُ ثَمَانِي حِجَجٍ، لأن العمل هو الذي تقع به الإثابة لا نفس الزمان، فكيف يوجه الإجارة على الزمان؟
(قوله) » فَمِنْ عِنْدِكَ «يجوز أن يكون في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: فهي من عندك، أو نصب أي: فقد زدتها أو تفضلت بها من عندك.
فصل
معنى الآية: أريدُ أن أنكِحَكَ إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تكون أجيراً لي ثمانِ سنين قال الفراء: أي تجعل ثوابي من تزويجها أنْ ترعى غنمي ثماني حجج، تقول العرب: أَجَرَكَ اللَّه بأجْرِكَ، أي: أثابك والحِجَج: السِّنُون، واحدها حجَّة.
{فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً} أي: عشر سنين «فَمِنْ عِنْدِك» أي: ذلك تفضل منك وتبرع ليس بواجب عليك. واعلم أن هذا اللفظ - وإن كان على الترديد - فلا شبهة أنه عند التزيوج عين، ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين، والزيادة كالتبرع. ودلت الآيية على أنَّ العمل قد يكون مهراً كالمال، وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمَّن جائز، ولكنه شرع من قبلنا، ودلَّت أيضاً على أنه يجوز أن يشرط الوليُّ، وعلى أنَّ عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد. (واستدل بعض الحنفية بهذه الآية على صحة بيع أحد هذين العبدين، أو الثوبين، وفيه نظر، لأأنها مراضاة لا معاقدة. ودلت الآية أيضاً على صحة الإجارة بالطعمة والكسوة، كما جرت به العادة، ويؤيده قوله عليه السلام: «إنَّ مُوسَى أَجَّر نَفْسه ثَمَانِيَ سينَ أوْ عَشْرَة على عفة فرجه وطعام بطنه» وهو مذهب الحنابلة قاله ابن كثير.
فصل
قال النووي: الإجارة بكسر الهمزة هو المشهور، وحكى الرافعي أن الجياني حكى في الشامل أيضاً ضم الهمزة، قال أهل اللغة: وأصل الأجر الثواب،(15/243)
يقال: أجرت فلاناً عن عمله كذا أي: أثبته، والله يأجر العبد أي؛ يثيبه، والمستأجر يثيب المأجور عوضاً عن بذل المنافع. قال الواحدي: قال المبرد: يقال أجرت داري ومملوكي غير ممدود، وآجرت ممدود قال المبرد: والأول أكثر) .
قوله: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} أي؛ ألزمك تمام العشر. وأَنْ أَشُقَّ، مفعول «أريد» وحقيقة قولهم: شَقَّ عليه أي: شقَّ ظنَّه نصفين فتارة يقول أطيق، وتارة لا أطيق، وهو من أحسن مجاز.
قوله {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} قال عمر: أي في حسن الصحبة والوفاء ولين الجانب. وقيل: أراد الصلاح على العموم، وإنما قال {إِن شَاءَ اللَّهُ} للاتكال على توفيقه ومعونته، فإنْ قيل: كيف ينعقد العقدُ بهذا الشَّرط، ولو قلت أنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ الله لا تطلَّق؟ فالجواب: هذا ما يختلف بالشرائع.
قوله: «ذَلِكَ» مبتدأ، والإشارة به إلى ما تعاقد عليه، والظرف خبره، وأضيفت «بَيْنَ» لمفرد لتكررها عطفاً بالواو، فإن قلت: المالُ بَيْن زيد فعمرو لم يجز، وأما قوله:
3989 - بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ ... فكان الأصمعي يأباها، ويوري «وحوامل» بالواو، والصحيح بالفاء، وول البيت على أن الدَّخُول وحَوْمَل مكانان كل منهما مشتمل على أماكن، نحو قولك: دارِي بين مصر، لأنه يريد به المكان الجامع، والأصل ذلك بيننا ففرق بالعطف.
قوله: «أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ» أي شرطية وجوابها «فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ» . وفي «مَا» هذه قولان:
أشهرهما: أنها زائدة، كزيادتها في أخواتها من أدوات الشرط.(15/244)
والثاني: أنها نكرة، و «الأَجَلَيْنِ» بدل منها.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية «أَيْمَا» بتخفيف الياء كقوله:
3990 - تَنَظَّرْتُ نَسْراً والسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا ... عَلَيَّ مِنَ الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُه
وقرأ عبد الله {أيَّ الأَجَلَيَْ مَا قَضَيْت} بإقحام «مَا» بين «الأَجَلَيْن» و «قَضَيْتُ» .
قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين موقع زيادة «مَا» في القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام، «أَيْ» زيادة في شياعها، وفي الشاذة تأكيداً للقضاء كأنَّه قال: أي الأجلين صمَّمْت على قضائه وجرَّدتُ عزيمتي له.
وقرأ أبو حيوة وابن ٌطَيب «عِدْوانَ» . قال الزمخشري: فإن قلت: تصوُّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصرهما، وهو المطالب بتتمة العشر، فما معنى تعلق العدوان بهما جميعاً؟ قلت: معناه: كما أني إن طولبت بالزيادة على العَشْر (كان عدواناً) لا شك فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثماني، أراد بذلك تقرير أمر الخيار، وأنه ثابت مستقر، وأنَّ الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا، ويكون اختيار الأقل والزائد موكولاً إلى رأيه من غير أن يكون لأحدهمَا عليه إجبار، ثم قال: وقيل: معناه فلا أكون متعدِّياً، وهو في نفي العدوان عن نفسه كقولك: لا إثم عليَّ ولا تبعة.
قال أبو حيان: وجوابه الأول فيه تكثير. قال شهاب الدين: كأنه أعجبه الثاني. والثاني لم يرتضه الزمخشري، لأنه ليس جواباً في الحقيقة، فإن السؤال(15/245)
باق أيضاً، ولذلك نقله عن غيره، وقال المبرد: وقد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما، ولكن جمعهما ليجعل الأول كالأَتَمِّ في الوفاء.
فصل
قال المفسرون: المعنى «أيّ الأَجَلَيْن قَضَيْتُ» أتممتُ وفرغت منه الثماني أو العشر، {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} لا ظلم عليَّ بأن أطالب بأكثر {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} قال مقاتل: شهيد فيما بيني وبينك، وقيل: حفيظ، ولما استعمل الوكيل بمعنى الشاهد عُدِّي ب (عَلَى) قال سعيد بن جبير: سألني يهودي من أهل الحيرة: أيَّ الأَجلينِ قَضَى مُوسَى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأله، فقدمتُ فسألتُ ابن عباس فقال: قَضَى أكثرها وأطيبهما، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا قال فعل.
وروي عن أبي ذر مرفوعاً «إذَا سُئِلْتَ أَيَّ الأَجَلينِ قَضَى مُوسَى؟ فقل خيرهُما وأبرَّهما، وإذا سئلت أيَّ المرأتين تزوَّج موسى؟ فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت فقالت: {ياأبت استأجره} فتزوج صغراهما، وقضى أوفاهما» وقال وهب: أنكَحَه الكُبْرى. ولمَّا تعاقد العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه، واختلفوا في تلك العصا.
فقال عكرمة: عرج بها آدم من الجنة، فأخذها جبريل بعد موت آدم، فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً، فدفعها إليه، قيل: كانت من آس الجنة حملها آدم من الجنة، فتوراثتها الأنبياء، وكان لا يأخذها غير نبي، فصارت من آدم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى، وقال السُّدي: كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتيه بعصا، فدخلت فأخذت العصا فأتته بها، فلما رآها شعيب قال لها: رُدِّي هذه العصا، وأتيه بغيرها، فدخلت وألقتها، وأرادت أن تأخذ غيرها، فلا تقع في يدها إلا هي، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فأعطاها موسى، وأخرجها موسى معه، ثم إن الشيخ ندم وقال: كانت وديعة فذهب في أثره فطلب أن يرد العصا، فأبى موسى أن يعطيه وقال: {هِيَ عَصَايَ} [(15/246)
طه: 18] ، فرضي أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما، فلقيهما ملك في صورة رجل، فحكم أن تطرح العصا فمن حملها فهي له فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها، فلم يطقها، فأخذها موسى بيده، فرعفها فتركها له الشيخ ثم إن موسى لم أتم الأجل وسلم شعيب ابنته إليه، قال مجاهد: لما قضى موسى الأجل مكث بعد ذلك (عند صهره عشراً) أخرى فأقام عنده عشرين سنة، ثم استأذنه في العود إلى مصر، فأذن له فخرج بأهله إلى جانب الطور.(15/247)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
«آنسَ» أي: أبصر « {مِن جَانِبِ الطور نَاراً} وكان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلقُ، فقال {لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} عن الطريق لأنه اكن قد أخطأ الطريق.
قوله» أَوْ جُذْوَةٍ «قرأ حمزة بضم الجيم، وعاصم بالفتح، والباقون بالكسر وهي لغات في العُود الذي في رأسه نار، هذا هو المشهور، قال السُّلَمي:
3991 - حَمَا حُبُّ هذي النَّارِ حُبَّ خَلِيلَتِي ... وَحُبُّ الغَوَانِي فهو دُونَ الحُبَاحِبِ
وَبُدِّلْتُ بعدَ المِسْك وَالبَانِ شِقْوَةً ... دُخَان الجذَا في رأْسِ أَشْمَطَ شَاحِبِ(15/247)
وقيده بعضهم فقال: في رأسه نار من غير لهب، قال ابن مُقبل:
3992 - بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمسن لَهَا ... جِزَالَ الجِذَا غَيْرَ خَوَّارٍ وَلاَ دَعِرِ
الخوَّار الذي يتقصف، والدَّعِرُ الذي فيه لهب. وقد ورد ما يقتضي وجود اللهب فيه، قال الشاعر:
3993 - وَأَلْقَى عَلَى قَبسٍ من النار جُذْوَةً ... شديداً عَلَيْها حَرُّها والتِهَابُهَا
وقيل: الجذوة: العودُ الغليظُ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن، وليس المراد هنا إلا ما يكون في رأسه نارٌ.
قوله» مِنَ النَّارِ «صفة ل» جَذْوَة «ولا يجوز تعلقها ب» آتِيكُم «، كما تعلق بها» مِنْهَا «، لأن هذه النار ليست النار المذكورة، والعرب إذا تقدَّمت نكرة وأرادت إعادَتَها أعادَتْها مضمرةً أو معرَّفةً بأل العهدية، وقد جُمِعَ الأمران هنا.» لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ «تستدفئون.
قوله» مِنْ شَاطِىءِ «» مِنْ «لابتداء الغاية، و» الأَيْمَنِ «صفة للشاطىء أو للوادي، والأَيْمَنُ من اليُمْنِ، وهو البَرَكة، أو مِنَ اليمين المعادل لليسار من العضوين، ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى، أي: الَّذي على يمينك دون يسارِك، والشطاىء ضفة الوادي والنهر أي: حافته وطرفه، وكذلك الشَّطُّ والسيف والساحل كلها بمعنى، وجمع الشاطىء» أَشْطاءٌ «قاله الراغب، وشاطأت فلاناً: ماشيته على الشاطىء.(15/248)
قوله: فِي البُقْعَة» متعلق ( «نُودِيَ» أي) بمحذوف على أنه حال من الشاطىء، وقرأ العامة بضم الباء، وهي اللغة الغالبة، وقرأ مسلمة والأشهب العقيلي بفتحها وهي لغة حكاها أبو زيد قال: سمعتهم يقولون: هذه بقعةٌ طيبة، (ووصف البقعة بكونها مباركة لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة، وتكليم الله تعالى إياه) .
قوله: «مِنَ الشَّجَرَةِ» هذا بدل من «شَاطِىء» بإعادة العامل، وهو بدل اشتمال، لأن الشجرة كانت ثابتة على الشاطىء كقوله: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] .
قوله: {أَن ياموسى} هي المفسرة، وجوِّز فيها أن تكون في المخففة، واسمها ضمير الشأن، وجملة النداء مفسرة له، وفيه بُعد.
قوله {إني أَنَا الله} العامة على الكسر على إضمار القول، أو على تضمين النداء معناه، وقرىء بالفتح، وفيه إشكال، لأَنَّهُ إنْ جعلت «أَنْ» تفسيرية، وجب كسر «إنِّي» للاستئناف المفسر للنداء بماذا كان، وإن جعلتها مخففة لزم تقدير «أَنِّي» بمصدر، والمصدر مفرد، وضمير الشأن لا يفسر بمفرد، والذي ينبغي أن تُخرَّج عليه هذه القراءة أن تكون «أَنْ» تفسيرية و «أَنِّي» معمولة لفعل مضمر تقديره أَنْ موسى اعلم أَنِّي أنا الله، واعلم أنه تعالى قال في سورة النمل {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] وقال ها هنا: نُودِي أَنِّي أنا اللَّه ربُّ العالمين، وقال في سورة طه {نُودِيَ ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 11 - 12] ، ولا منافاة بين هذه الأشياء، فهو تعالى ذكر الكلّ إلا أنه تعالى حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه بعض ذلك النداء.
قوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} تقدم الكلام على ذلك.(15/249)
وقوله: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} فقد عبّر عن هذا المعنى بثلاث عبارات: إحداها هذه، وثانيها {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} ، وثالثها {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل: 12] قوله «مِنَ الرَّهْبِ» متعلق بأحد أربعة أشياء، إمّا ب «وَلَّى» ، وإمَّا ب «مُدْبراً» ، وإمَّا ب «اضمم» ، ويظهر هذا الثالث إذا فسَّرنا الرَّهب بالكمِّ، وإمّا بمحذوف أي: تسكن من الرهب وقرأ حفص بفتح الراء وإسكان الهاء. والأخوان وابن عامر وأبو بكر بالضم والإسكان، والباقون بفتحتين، والحسن وعيسى والجحدري وقتادة بضمتين وكلها لغات بمعنى الخوف وقيل هو بفتحتين الكُمُّ بلغة حمير وحنيفة، قال الزمخشري «هُومن بدِع التفاسير» قال: وليست شعري كيف صحته في اللغة، وهل سُمِعَ من الثقات الأثبات التي تُرْتَضى عربيتهم، أم ليت شعري كيف موقعه في الآية، وكيف تطبيقه المفضل كسائر كلمات التنزيل، على أن موسى صلوات الله عليه ليلة المناجاة ما كان عليه إلاَّ زُرْمانِقَة من صُوفٍ لا كُمّ لها.
الزُّرمانقة: المدرعةُ. قال أبو حيان: هذا مروي عن الأصمعي، وهو ثقة، سمعتهم يقولون أعطني ما في رهبك أي كُمِّكَ، وأما قوله: كيف موقعه؟ فقالوا: معناه: أخرج يدكّ من كُمِّكَ.
قال سهاب الدين: كيف يستقيم هذا التفسير، يُفَسِّرُون «اضْمُمْ» بمعنى أَخْرِج.
وقال الزمخشري: فإن قُلْتَ: قد جعل الجناح وهو اليَدُ في أحد الموضعين مضموماً، وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقوله {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} [طه: 22] فما التوفيق بينهما؟ قلت: المراد بالجناح المضموم: هو اليد اليمنى، وبالجناح المضموم إليه هو اليد اليسرى، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح.(15/250)
فصل
قال الزمخشري: في {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} معنيان:
أحدهما: أنّ موسى عليه السلام لمَّا قلب الله له العصا حيَّةً فزع واضطر واتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له: إنَّ اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتنا وقد انقلبت حية فأدخل يدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما منه غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى، والمراد بالجناح اليد، لأن يد الإنسان بمنزلة جناح الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد اليسرى، فقد ضم جناحه إليه.
(الثاني: أن يراد بضم جناح ة تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حيَّة حتى لا يضطرب) ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نَشَرَ جناحية وأرخاهُما، وإلا فجناحاه منضمان إليه مستمران ومعنى قوله «مِنَ الرَّهْب» أي: من أجل الرهب إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك (ومعنى {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} ) وقوله «اسْلُكْ يَدَكَ» على أحد التفسيرين واحد، وإنما خُولِفَ بين العبارتين وكرَّر المعنى لاختلاف الغرضين، وذلك أنَّ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب. قال البغوي: المعنى إذا هَالَك أمر يدك وما ترى من شعاعها، فأدخِلْها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى، والجناح اليد كلها وقيل: العضد. وقال عطاء عن ابن عباس: مره الله (أن يَضُمَّ) يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية. وقال: ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه.
وقال مجاهد: كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع، وقيل: المراد من ضم الجناح السكون، أي: سكّن روعَك واحفظ عليك جأشك، لأن من شأن الخائف أن يضطرب عليه قلبه وترتعد يداه، ومثله قوله: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} [(15/251)
الإسراء: 24] يريد: المرفق، وقوله: {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك} [الشعراء: 215] أي: أرفق بهم وأَلِنْ جانبك لهم، وقال الفراء: أراد بالجناح العصا، معناه: واضمُمْ إليك عَصَاك.
قوله: «فَذانك» تقدم قراءة التخفيف والتثقيل في النساء، وقرأ ابن مسعود وعيسى وشبل وأبو نوفل بياء بعد نون مكسورة، وهي لغة هذيل، وقيل تميم، وروى شبل عن كثير بياء بعد نون مفتوحة، وهذا على لغة من يفتح نون التثنية، كقوله:
3994 - عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً ... فَمَا هِيَ إِلاَّ لَمْحَةٌ وتغِيبُ
والياء بدل من إحدى النونين (كَتَظَنَّيْتُ) .
وقرأ عبد الله بتشديد النون وياء بعدها، ونسبت لهذيل. قال المهدوي: بل لغتهم تخفيفها، وكأن الكسرة هنا إشباع كقراءة هشام {أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} [إبراهيم: 37] . «ذَانِكَ» إشارة إلى العصا واليد، وهما مؤنثتان، وإنما ذكَّر ما أشير به إليهما لتذكير خبرهما وهو «بُرْهَانَان» ، كما أنه قد يؤنث لتأنيث خبره كقراءة {إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] فيمن أَنَّثَ ونثب «فِتْنَتُهُمْ» وكذا قوله:(15/252)
3995 - وَقَدْ خَابَ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ الغَدْرُ ... وتقدم إيضاح هذا في الأنعام. والبرهان تقدم اشتقاقه، وهو الحجة، وقال الزمخشري هنا: فإنت قُلتَ: لم سميت الحجةُ برهاناً؟ قلت: لبياضها وإنارتها من قولهم (للمرأة البياض) برهرهة، بتكرير العين واللام، والدليل على زيادة النون قولهم أَبْره الرجلُ إذا جاء بالبرهان، ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السَّليط وهو الزيت لإنارتها.
قوله «إلَى فِرْعَوْنَ» متعلق بمحذوف، فقدره أبو البقاء مرسلاً إلى فرعون، وغيره: اذْهَب إلى فرعون، وهذا المقدر ينبغي أن يكون حالاً من «بُرْهَانَانِ» أي: مرسلاً بهما إلى فرعون، والعامل في هذه الحال ما في اسم الإشارة.(15/253)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} اعلم أنه تعالى لمَّا قال: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} [القصص: 32] تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه، فعند ذلك طلب من يقوِّي قلبه فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} ، لأنه كان في لسانه حبسة إما في أصل الخلقة وإما لأنه وضع الجمرة في فيه عندما (نتف لحية) فرعون.(15/253)
قوله «هُوَ أَفْصَحُ» الفصاحة لغةً الخلوصُ، ومنه: فصُحَ وأَفْصَحَ فهو مفصِحٌ وفصيحٌ، أي: خلُصَ من الرِّغوة، ومنه قولهم:
3996 - وَتَحْتَ الرِّغْوَةِ اللَّبَنُ الفَصِيحُ ... ومنه: فصُحَ الرَّجُلُ جادت لغته، وأفصح: تكلَّم بالعربية، وقيل: بالعكس، وقيل: الفصيح، الذي ينطق، والأعجم: الذي لا ينطق، ومنهذا استعير أَفصحَ الصُّبحُ، أي: بَدَا ضوؤُهُ، وأفصح النصراني: دنا فصحُه بكسر الفاء، وهو يعد لهم.
وأما في اصطلاح أهل البيان، فهو خُلُوص الكلمة من تنافر الحروف، كقوله: تَرَعَى الهُعْخُعَ، ومن الغرابة كقوله:
3997 - وَمَرْسِناً مُسَرَّجَا ... ومن مخالفة القياس اللُّغوي كقوله:(15/254)
3998 - العَلِيِّ الأَجْلَلِ ... وخلوص الكلام منن ضعف التأليف كقوله:
3999 - جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ... ومن تنافر الكلمات كقوله:
4000 - وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانِ قَفْرٍ ... وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ
ومن التعقيد وهو إما إخلال نظم الكلامفلا يُدْرَى كيف يتوصل إلى معناه، كقوله:
4001 - وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إلاَّ مُمَلَّكاً ... أبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُه
وإما عدم انتقال الذهب من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهِر كقوله:
4002 - سَأَطْلُبُ بَعْدَ الدَّارَ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا ... وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدَا(15/255)
وخلوص (المتكلم من) النطق بجميع ذلك، فصارت الفصاحة يوصف بها ثلاثة أشياء: الكلمةُ والكلامُ والمتكلمُ، بخلاف البلاغة فإنه لا يوصف بها إلا الأخيران، وهذا ليس (موضع) إيضاحه وإنما ذكرناه تنبيهاً على أصله، ولساناً: تمييز.
قوله «رَِدْءاً» (منصوب) على الحال، والرِّدْءُ: العَوْنُ وهو فعل بمعنى مفعول كالدِّفْ بمعنى المدفوء به، وَرَدَأتُهُ على عدوه أي: أَعنتُهُ عليه، وردأْتُ الحائط: دعمتُهُ خشبةٍ لِئلاً يسقط، وقال النحاس: يقال: رَدَأْتُهُ وَأَرْدَأْتُهُ، وقال سلامة بن جندل:
4003 - وَرِدْئِي كل أَبْيَضَ مَشْرَفيٍّ ... شَحِيذَ الحدِّ أبيض ذِي فُلُولِ
وقال آخر:
4004 - ألم تر أنَّ َصْرَمَ كان رِدْئِي ... وَخَيْرُ النَّاسِ في قُلٍّ ومَالِ
وقرأ نافع بغير همزة «رِداً» بالنقل، وأبو جعفر كذلك إلا أنه لم ينوِّنْه، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، ونافع ليس من قاعدته النقل في كلمة إلاَّ هُنا، وقيل: ليس نَقْلٌ وإنما هو من أردى على كذا، أي: زَادَ، قال:(15/256)
4005 - وَأَسْمَرَ خَطِّيّاً كَأَنَّ كُعُوبَهُ ... نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْدَى ذِرَاعاً على العَشْرِ
أي: زاد، وأنشده الجوهري (قد أَرْبَى) ، وهو بمعناه.
قوله: «يُصَدِّقُنِي» قرأ حمزة وعاصم بالرفع على الاستئناف أو الصفة ل «رِدْءاً» أو الحال من (هاء) «أَرْسِلْهُ» ، أو من الضمير في «رِدْءاً» ، أي: مصدِّقاً، والباقون بالجزم جواباً للأمر، وزيد بن علي وأُبيّ «يُصَدِّقُونِي» ، أي: فرعون وملأه، قال ابن خالويه: هذا شاهد لِمَنْ جزم، لأنه لو كان رفعاً، لقال: «يُصَدِّقُونَنِي» . يعني بنونين، وهذا سهو من ابن خالويه، لأنه متى اجتمعت نون الرفع مع نون الوقاية جازت أوجه: أحدها: الحذف، فهذا يجوز أن يكون مرفوعاً، وحذفت نونه، فمن رفع القاف فالتقدير ردءاً يصدقين، ومن جزم كان على معنى الجزاء، يعني: إن أرسلته صدَّقني، ونظيره: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} [مريم: 5 - 6] ، وروى السُّدِّي عن بعض شيوخه: {رداءاً كَيْمَا يُصَدِّقني} .
والتصديق لهارون في قول الجميع، وقال مقاتل: لكي يُصدِّقنِي فرعون {إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} يعني فرعون وقومه، وقال ابن الخطيب: ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول الناس: صَدَقَ مُوسَى، وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوه الدلائلِ ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ألا ترى إلى قوله {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ} ، وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا مجرد قوله: «صَدقت» .
فصل
قال السُّدِّيّ: إنَّ نبيَّيْن وآيتين أقوى من نبيٍّ واحدٍ وآية واحدة قال القاضي:(15/257)
والذي قاله من جهة العادة أقوى، فأمَّا مِنْ حيث الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين.
قوله «عَضُدَكَ» العامة على فتح العين وضم الضاد، والحسن وزيد بن علي (بضمهما) وعن الحسن بضمة وسكون، وعيسى بفتحهما، وبعضهم بفتح العين وكسر الضاد، وفيه لغة سادسة فتح العين وسكون الضاد، وهذا كناية عن التقوية له بأخيه وكان هارون يومئذ بمصر.
قوله {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} أي: حُجَّةً وبرهاناً {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} . فإن قيل: بيَّن تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات، أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة؟ فإن كانت هذه الآيات ظاهرة فالجواب: أن الآية التي هي قلب العصا حيَّة كما أنها معجزة فهي أيضاً تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون، لأنهم علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة، وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهُم ذلك عن الإقدام عليها، فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره وصارت آية ومعجزة وجمعت بين الأمرين، وأما صلب السَّحرة ففيه خلاف، فقيل: إنهم ما صُلِبوا، وليس في القرآن ما يدل على ذلك، وإن سلم فوصول الضرر لغيرهما لا يقدح في عدم الوصول إليهما.
قوله: «بآياتِنَا» يجوز فيه أوجه أن يتعلق ب «نَجْعَلُ» أو ب «يَصِلُونَ» أو بمحذوف أي: اذهبا، أو على البيان فيتعلق بمحذوف أيضاً، أو ب «الغَالِبُونَ» على أن (أل) ليس موصولة أو موصُولة، واتِّسع فيه ما لا يتسع في غيره، أو قسمٌ وجوابه متقدم، وهو «فَلاَ يَصِلُونَ» ، أو من لغو القسم، قالهما الزمخشري، ورد عليه أبو حيان بأن جواب(15/258)
القسم لا تدخله الفاء عند الجمهور. ويريد: بلغو القسم أن جوابه محذوف أي: وحقّ آياتِنَا لَتَغْلِبُنَّ، ثم قال: {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} أي: لكما ولأتباعكما الغلبة.
قوله: {فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} واضحات وقد تقدم كيفية إطلاق لفظ الآيات - وهو جمع - على العصا واليد في سورة طه. {قَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} مختلق، ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم، وهو قولهم {وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} أي: ما حُدِّثنا بهذا الذي تدعونا إليه.
قوله: «وقَالَ مُوسَى» هذه قراءة العامة بإثبات واو العطف، وابن كثير حذفها. وكل وافق مصحفه، فإنها ثابتة في المصاحف غير مصحف مكة؛ وإثباتها وحذفها واضحان، وهو الذي يسميه أهل البيان: الوَصْلُ والفَصْلُ. قوله {ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ} بالمحق من المبطل.
قوله: «وَمَنْ تَكُونُ» قرأ العامة «تكون» بالتأنيث، و «لَهُ» خبرها، و «عَاقِبَةُ» اسمها، ويجوز أن يكون اسمها ضمير القصة، والتأنيث لأجل ذلك.
و {لَهُ عَاقِبَةُ الدار} جملة في موضع الخبر، وقرىء بالياء من تحت على أن تكون «عَاقِبَةُ» اسمها، والتذكير للفصل، ولأنه تأنيث مجازي، ويجوز أن يكون اسمها ضمير الشأن، والجملة خبر كما تقدم، ويجوزُ أن تكون تامة وفيها ضمير يرجع إلى «مَنْ» والجملة في موضع الحال، ويجوز أن تكون ناقصة واسمها ضمير «مَنْ» والجملة خبرها، والمعنى: «مَنْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ» أي: العاقبة المحمودة في الدار الآخرة لقوله تعالى: {أولئك لَهُمْ عقبى الدار جَنَّاتٌ عَدْنٍ} [الرعد: 22 - 23] ، والمراد من الدار: الدُّنيا. وعاقبتها وعقباها أنْ يُخْتَم للعبد بالرحمة والرضوان، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} ، أي: الكافرون.(15/259)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
قوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} فتضمن كلامه نفي إلهيَّة غيره وإثبات إلهية نفسه، {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين} فاطبخ لي الآجُرَّ، قيل: إنَّه أول من اتخذ الآجُرَّ وبنَى به، {فاجعل لِّي صَرْحاً} أي: قصراً عالياً. وقيل: منارة، واختلفوا في ذلك فقيل: إنه بَنَاه حتى بلغ ما لَمْ يبلغه بنيان أحد من الخلق، وإنه صَعدَ وَرَمَى بسهم وأن السهم عاد إليه ملطخاً بدم، وبعث الله جبريل عليه السلام فضربه بجناحة فقطعه ثلاث قطع، وقيل: إنه لم يَبْن الصرح لأنه يبعد في العقل أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأنّ مَنْ عَلاَ أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها وهو في قرار الأرض، ومن شكَّ في ذلك خرج عن حد العقل، وهذا القول في أنه رمى السهم إلى السماء وأن من حاول ذلك كان من الخائبين، ولا يليق بالعقل، وإنما قال ذلك على سبيل التهكم.
قوله: {لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى} أنظر إليه. والطُّلوع والاطِّلاع واحد، يقال طَلَعَ الجبل واطَّلَعَ واحد، «وَإِنِّي لأَظنُّهُ» يعني موسى «من الكاذبين» في زعمه أنَّ للأرض والخلق إلهاً غيري وأنه رسوله. {واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} واعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى، وهو المتكبر في الحقيقة، قال عليه السلام فيما حكاه عن ربه «الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي والعَظَمَةُ إزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي واحداً مِنْهُمَا(15/260)
ألقيته في النَّار» وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق.
قوله: «بِغَيْرِ الحَقِّ» جحال، أي: استكبروا متلبسين بغير الحق، {وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} قرأ نافع والأخوان ويعقوب «يَرْجِعُونَ» مبنياً للفاعل، والباقون للمفعول.
قوله: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} وهذا من الكلام المفحم الذي يدل على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه، شبههم - استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم - وإن كانوا الجم الغفير - كحصيات أخذهن آخذ في كفه وطرحهُنَّ في البحر، ونحو ذلك قوله {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات: 27] {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14] {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] . وليس الغرض منها إلا تصوير أنَّ كلَّ مقدور وإن عظم فهو حقير بالنسبة إلى قدرته {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} . قوله: «وَجَعَلْنَاهُمْ» أي: صيَّرَنَاهُم وقال الزمخشري: دعوناهم، كأن فر من نسبة ذلك إلى الله تعالى، أعني: التصيير لأنه لا يوافق مذهبه، ويدعون صفة ل «أَئِمَّة» وقال الجبائي: وجعلناهم: أي بيَّنا ذلك من حالهم وسميناهم به، ومنه قوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] . وقال أبو مسلم: معنى الإمامة التقدم، فلما عجَّلل الله لهم العذاب صاروا متقدّمين لمن وراءهم من الكافرين.
ومعنى دعوتهم إلى النار: دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي، فإن أحداً لا يدعو إلى النار ألبتة، وإنما جعلهم الله أئمةً في هذا الباب، لأنهم بلغوا في هذا الباب إلى أقصى النهايات ومن كان كذلك استحق أن يكون إماماً يقتدى به في ذلك الباب.
قوله: {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ} لا يمنعون من العذاب، كما تنصر الأئمة الدعاة إلى الجنة، {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} خزياً وعذاباً.
قوله: «وَيَوْمَ القِيَامَةِ» فيه أوجه:(15/261)
أحدها: أن تتعلق ب «المَقْبُوحِينَ» على أن (أل) ليست موصولة أو موصولة واتسَّع فيه، وأن تتعلق بمحذوف يفسره «المَقْبُوحِينَ» ، كأنه قيل: «وقبِّحُوا يوم القيامة، نحو: {لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الشعراء: 168] ، أو يعطف على موضع» في الدُّنْيَا «، أي: أتبعناهم لعنة يوم القيامة. أو معطوفة على» لَعْنَة «على حذف مضاف، أي: ولعنتةً يوم القيامة.
والوجه الثاني أظهرهما: والمَقْبُوحُ، المطرود قبحه الله: طرده، قال:
4006 - أَلاَ قَبَّحَ اللَّهُ الَراجِمَ كُلَّهَا ... وَجَدَّعَ يَرْبُوعاً وَعَفَّرَ دَارِمَا
وسُمِّي ضد الحسن قبحاً لأنَّ العين تنبو عنه، فكأنها تطرده، يقال: قبح قباحةً، وقيل:» مِنْ المَقْبُوحِينَ «: من الموسومين بعلامة منكرة، كزرقة العيون وسواد الوجوه، قاله ابن عباس، يقال: قَبَحَهُ الله وقَبَّحَه، إذا جعله قبيحاً، قال الليث: قَبَحَهُ المرفق، وقال أبو عبيدة:» مِنَ المَقْبُوحِينَ «من المهلكين.
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى} قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم والمراد بالكتاب: التوراة، بيَّن تعالى أنَّ الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى، ووصفه بأنه بصائر للنَّاس من حيث يستبصر به في باب الدين.
قوله:» بَصَائر «يجوز أن يكون مفعولاً له، وأن يكون حالاً إما على حذف(15/262)
مضاف أي: ذا بصائر، أو على المبالغة، و» هُدًى «من حيث يستدل به، ومن حيث أن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب، ووصفه بأنه» رَحْمَةً، لأنه من نعم الله على من تعبد به.
روى أبو سعيد الخدري «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: ما أهلك الله قرناً من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها الله قردةً» وقوله «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» بما فيه من المواعظ والبصائر.(15/263)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي} (قال قتادة والسدي: وما كنت بجانب الجبل الغربي) فيكون من حذف الموصوف، وإقامة صفته قيامه أو أن يكون من إضافة الموصوف لصفته، وهو مذهب الكوفيين، ومثله: بَقْلَةُ الحَمْقَاءِ، وَمَسْجِدُ الجَامِع.
قوله: {إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} أي: عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه، والمعنى: وما كنت الحاضر المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه أو على الوحي إليه وهم نقباؤه الذي اختارهم للميقات. فإن قيل: لمَّا قال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي} ثبت أنه لم يكن شاهداً،(15/263)
لأن الشاهد لا بد وأن يكون حاضراً فما الفائدة في إعادة قوله: {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} .
فالجواب: قال ابن عباس التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع، فإنه يجوز أن يكون هناك، ولا يشهد ولا يرى.
قوله: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً} وجه الاستدراك أن المعنى: وَمَا كُنْتَ شَاهِداً لموسى وما جرى عليه ولكِنَّا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاراته، فإن هذا الاستدراك هو شبيه بالاستداركين بعده، قاله الزمخشري، وهذا تنبيه على المعجز، كأنه قال: إن في إخبارك بهذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله دلالةً ظاهرةً على نبوتك كقوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} [طه: 133] ؟
قوله: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً} أي: مقيماً، يقال: ثَوَى يَثْوِي ثَوَاءً وثُوِياً، فهو ثاوٍ ومثويّ، قال ذو الرمة.
4007 - لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُه ... تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأْمُ سائِمُ
وقال:
4008 - طَالَ الثَّوَاءُ عَلَى رَسُولِ المَنْزِلِ ... وقال العجاج:
4009 - وَبَاتَ حَيْثُ يَدْخُلُ الثَّوِيُّ ... يعني الضيف المقيم.
قوله: «تَتْلُوا» يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «ثَاوِياً» ، وأن يكون خبراً(15/264)
ثانياً، وأن يكون هو الخبر، و «ثَاوِياً» حال وجعله الفراء منقطاً مما قبله. أي: مستأنفاً كأنَّه قيل: وها أنت تتلو على أمَّتك، وفيه بعد.
فصل
المعنى: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً} خلقنا أمماً من بعد موسى {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر} أي: طالبت عليهم المهملة، فنسوا عهد الله وتركوا أمره، وذلك أن الله عهد إلى موسى وقومه عوداً في محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والإيمان به، فلما طال عليهم العمر وخلقت القرون من بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها، «وَمَا كُنْتَ» مقيماً {في أَهْلِ مَدْيَنَ} كمقام موسى وشعيب فيهم {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} تذكرهم بالوعد والوعيد.
قال مقاتل: يقول لم شتهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} في كل زمان رسولاً يعني: أرسلناك رسولاً، وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار فتتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها، ولم تخبرهم بها، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور} بناحية الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى «إذْ نَادَيْنَا» أي: نادينا موسى: خذ الكتاب بقوَّةٍ.
وقال ابن عباس: إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم: (يا أمة محمدٍ أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل تستغفروني) ، قال: وإنما قال ذلك حين اختار موسى سبعين رجلاً لميقات ربه. وقال وهب: لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد قال موسى: يا رب أرني محمداً، قال: إنك لن تصل إلى ذلك، وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم، قال: بلى يا رب، قال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم.
قوله: {ولكن رَّحْمَةً} أي: أَرْسَلْنَاكَ رَحْمَةً، أو أعلمناك بذلك رحمةً، أو لكن رحمناك رحمة بإرسالك وبالوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك.(15/265)
وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة: «رَحْمَةٌ» بالرفع، أي: أنت رحمة.
قوله: {مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} في موضع الصفة ل «قَوْماً» ، والمعنى: لتنذر أقواماً ما أتاهم من نذير من قبلك، يعني أهل مكة، «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .
قوله: {ولولاا أَن تُصِيبَهُم} هي الامتناعية، و (أنْ) وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء، أي: ولولا أصابتهم مصيبة، وجوابها محذوف، فقدره الزجاج: ما أرسلنا إليهم رسلاً. يعني أن الحامل على إرسال الرسل إزاحة عللهم بهذا القول، فهو كقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] ، وقدره ابن عطية: لعاجلناهم، ولا معنى لهذا. «فَيَقُولُوا» عطف على «تصيبهم» و «لَوْلاً» الثانية تحضيض، و «فنتبع» جوابه، فلذلك نصب بإضمار «أَنْ» .
قال الزمخشري: فإن قلت كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب، لا القول لدخول حرف الامتناع عليه دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سبباً للإرسال، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب للإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها (لولا) ، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السبب، ويؤول معناه إلى قولك: ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم عاينوا ما الجئوا به إلى العلم اليقيني ببطلان دينهم لما(15/266)
يقولوا: لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً. بل إنما يقولون إذا نالهم العقاب، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقال لا غير التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم، وهو كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] .(15/267)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
قوله: «فَلَمَّا جَاءَهُمْ» يعني محمداً الحق من عندنا قالوا يعني كفار مكة (لَوْلاَ) هلاَّ «أُوتِيَ مُحَمَّدٌ» مثل ما أُوتِيَ موسى من الآيات كاليد البيضاء، والعصا، وفلق البحر، وتظليل الغمام، وانفجار الحجر بالماء والمنِّ والسَّلْوَى وكلام الله وغيرها.
وقيل: مثل ما أُوتي موسى كتاباً جملةً واحدةً. قال الله عزّ وجلّ: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ} ، واختلفوا في الضمير في قوله: أَوَ لَمْ يَكْفُرَوا، فقيل: إن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً أن يؤتى مثل ما أُوتِيَ مُوسَى - عليه السلام - فقال تعالى: «أَوَ لَمْ يَكْفُرُوا» هؤلاء اليهود {بِمَآ أُوتِيَ موسى} بجميع تلك الآيات الباهرة؟ وقيل: إنّ الذين اقترحوا هذا هم كفار مكة، والذين كفروا بموسى هم الذين كانوا في زمن موسى إلاَّ أنه تعالى جعله كالشيء الواحد، لأنهم في الكفر والتعنت كالشيء الواحد. وقال الكلبي: إنَّ مشركي مكة بعثوا رهطاً إلى يهود المدينة يسألونهم(15/267)
عن محمد وشأنه، فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرَّهط وأخبروهم بقول اليهود، وقالوا: إنَّه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر، فقال تعالى في حقهم: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ} .
وقال الحسن: كان للعرب أصل في أيام موسى - عليه السلام - فمعناه على هذا: أو لم يكفر آباؤهم، وقالوا: موسى وهارون ساحران، وقال قتادة: أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد فقالوا ساحران، وقيل: إن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول معجزات موسى - عليه السلام - قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ} ، بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل، أي: لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت، ثم حكى كيفية كفرهم بما أوتي موسى، وهو قولهم «سَاحِرَانِ تَظَاهَرا» .
قوله: «مِن قَبْلُ» إمَّا أن يتعلق ب «يَكْفُرُوا» ، أو ب «أُوتِيَ» أي من قبل ظهورك.
قوله: «سَاحِرَانِ» قرأ الكوفيون «سِحْرَان» أي هما، أي: القرآن والتوراة، أو موسى وهارون، وذلك على المبالغة، جعلوهما نفس السحر، أو على حذف مضاف، أي: ذوا سِحْرَين، ولو صحَّ هذا لكان ينبغي أن يفرد سحر، ولكنَّه ثني تنبيهاً على التنويع، وقيل المراد: موسى ومحمد - عليهما السلام - أو التوراة والإنجيل، والباقون: «سَاحِرانِ» أي: موسى وهارون أو موسى ومحمد كما تقدم.
قوله: «تَظَاهَرَا» العامة على تخفيف الظاء فعلاً ماضياً صفة ل «سِحْرَان» أو «سَاحِرَانِ» أي: تعاوَنَا.
وقرأ الحسن ويحيى بن الحارث الذَّمَّاري وأبو حيوة واليزيدي بتشديدها، وقد لحنهم الناس، قال ابن خالويه تشديده لحن، لأنه فعل ماض، وإنَّما يُشَدَّد في المضارع، وقال الهذلي: لا معنى له، وقال أبو الفضل: لا أعرف(15/268)
وجهه. وهذا عجيب من هؤلاء، وقد حذفت نون الرفع في مواضع حتى في الفصيح كقوله عليه السلام: «لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابّوا» ولا فرق بين كونها بعد واو، أو ألف، أو ياء، فهذا أصله تتظاهر أن فأدغم وحذفت نونه تخفيفاً، وقرأ الأعمش وطلحة وكذا في مصحف عبد الله «اظَّاهَرا» بهمزة وصل وشد الظاء وأصلها تظاهرا كقراءة العامة، فلما أريد الإدغام سُكِّن الأول فاجتلبت همزة الوصل، واختار أبو عبيدة القراءة بالألف، لأن المظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منها بأن المراد الكتابين، لكن لما كان كل واحد من الكتابين يقوي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا، كما يقال: تظاهرت الأخبار.
قوله: {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي بما أنزل على محمد وموسى وسائر الأنبياء، وهذا الكلام لا يليق إلا بالمشركين إلا باليهود، ثم قال: قل لهم يا محمد: {فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ} يعني من التوراة والقرآن، وهو مؤيد لقراءة «سِحْرَانِ» أو من كتابيهما على حذف مضاف، وهو مؤيد لقراءة «سَاحِرَان» ، «أتَّبِعْهُ» ، وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله.
قوله: «أتَّبِعْهُ» جواب للأمر وهو: «فَأْتُوا» ، وقرأ زيد بن علي أَتَّبِعُهُ بالرفع استئنافاً، أي: فأنا أتبعه.
قوله: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} استجاب بمعنى أجاب، قال ابن عباس: يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج، وقال مقاتل: فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما، وهذا أشبه بالآية، قال الزمخشري: فإن قلت ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية وبينه في قوله:(15/269)
4010 - فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ ... حيث عدِّي بغير لام؟ قلت: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عُدِّي إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه أو: استجاب به، ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه، وأما البيت فمعناه: فلم يستجب دعاءه على حذف المضاف. وقد تقدم تقرير هذا في البقرة، وأنَّ استجاب بمعنى أجاب، والبيت الذي أشار إليه هو:
4011 - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يجِيبُ إلى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
والناس ينشدونه على تعدِّيه بنفسه، فإن قيل: الاستجابة تقتضي دعاء، فأين الدعاء هنا؟ قيل: «فَأتُوا بِكِتَابٍ» أمر، والأمر دعاء إلى الفعل، وقال: {فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ} أي صاروا ملتزمين طريقه، ولم يبق شيء إلا اتباع الهوى، ثم زيّف طريقهم بقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى} وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، وأنه لا بد من الحجة والاستدلال {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} .
قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول} العامة على تشديد «وَصّلْنَا» إما من الوصل ضد القطع أي: تابعنا بعضه ببعض. قال الفراء: أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضاً، وأصله من وصل الحبل، قال:
4012 - فَقُلْ لِبَنِي مَرْوَانَ ما بَالُ ذِمَّتِي ... بِحَبْلٍ ضَعيفٍ لاَ يَزَالُ يُوصَّلُ(15/270)
وإمّا: جعلناه أوصالاً أي: أنواعاً من المعاني - قاله مجاهد - وقرأ الحسن بتخفيف الصاد وهو قريب مما تقدم، قال ابن عباس ومقاتل: وَصَّلْنَا: بيَّنا لكفار مكة - بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية - كيف عذبوا بتكذيبهم، وقال ابن زيد: وصلنا لهم القول: خبر الدنيا بخبر الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ، ثم لما أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بقوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} .
قوله: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ» مبتدأ و «هُمْ» مبتدأ ثان و «يُؤْمِنُونَ» خبره، والجملة خبر الأول، و «بِهِ» متعلق ب «يُؤْمِنُونَ» ، وقد يُعَكِّرُ على الزمخشري وغيره من أهل البيان، حيث قالوا: التقديم يفيد الاختصاص وهنا لا يتأتى ذلك، لأنهم لم خصُّوا إيمانهم بهذا الكتاب فقط لزم كفرهم بما عداه وهو عكس المراد وقد أبدى أهل البيان هذا في قوله: {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] فقالوا: لو قدِّم «به» لأوهم الاختصاص بالإيمان بالله وحده دون ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا بعينه جارٍ هنا، والجواب: أن الإيمان بغيره معلوم فانصبَّ الغرض إلى الإيمان بهذا.
فصل
قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ} أي من قبل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: من قبل القرآن {هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} ، قال قتادة: نزلت في (أناسٍ من) أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال مقاتل: هم أصحاب السفينة الذين قدموا من الحبشة أربعين رجلاً من أهل الإنجيل وآمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قال سعيد بن جبير: قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى الله الله عليه وسلم لما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا: يا نبيَّ الله إن لنا أموالاً فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ، وعن ابن عباس قال: نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية(15/271)
من الشام، وقال رفاعه: نزلت في عشرة أنا أحدهم: وصفهم الله فقال: {وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ} يعني: القرآن، قالوا: {قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} ، وذلك أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، أي كنا من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله التوحيد مؤمنين بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نبي حق.
قوله
: {أولئك
يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} منصوب على المصدر، و «بِمَا صَبَرُوا» ما مصدرية والباء متعلق ب «يؤتون (أَوْ بنفس الأجر. ومعنى» مَرَّتَيْنِ «أي: بإيمانهم بمحمد قيل بعثته، وقيل: يُؤْتَوْن أَجْرَهُمْ) مرتين لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، وقيل: لإيمانهم بالأنبياء الذين كانوا قبل محمد - عليه السلام - ومرَّة بإيمانهم بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال مقاتل: لما آمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شتمهم المشركون، فصفحوا عنهم فلهم أجران، أجر على الصفح وأجر على الإيمان، وقوله» بِمَا صبَرُوا «أي على دينهم، قال مجاهد: نزلت في قوم من أهل الكتاب أسْلَمُوا فأوذُوا.
قوله: {وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة} أي بالطاعة المعصية المتقدمة، قال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك، وقال مقاتل: يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو، وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون، في الطاعة. قوله: وإذا سمعوا اللَّغو وهو القبيح من القول أعرضوا عنه، وذلك أن المشركين كانوا يسبُّون مؤمني أهل الكتاب، ويقولون تبّاً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردّون عليهم، {أُوْلَ ? ئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِ الْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} , لنا ديننا ولكم دينكم، {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} ، ليس المراد سلام التحية ولكنه سلام المتارك، ومعناه: سَلِمْتُمْ مِنَّا لا نعارِضُكُمْ بالشتم والقبح، ونظيره {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] . ثم أكد ذلك تعالى بقوله حاكياً عنهم {لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} ، أي: دين الجاهلين، أي: لا نحب دينكم الذي(15/272)
أنتم عليه، وقيل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه، قيل: نسخ ذلك بالأمر بالقتال، وهو بعيد، لأن ترك المسافهة مندوب، وإن كان القتال (واجباً) . والله أعلم.(15/273)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي: أحببت هدايته، وقيل: أحببته لقرابته، قال المفسرون: «نزلت في أبي طالب قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قل: لا إلَه إلاَّ الله أشهد لك بها يوم القيامة، قال: لولا أن تعيِّرني قريش، تقول: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينيك» ، فأنزل الله هذه الآية.
فصل
قال في هذه الآية: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} ، وقال في آية أخرى {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، ولا تنافي فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة، والذي نفاه عنه هداية التوفيق وشرح الصدور، وهو نور يقذف في القلب فيجيء به القلب كما قال سبحانه {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس} [الأنعام: 122] .:
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال، فقالوا: قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} يقتضي أن تكون الهداية في الموضعين بمعنى واحد لأنه لو كان المراد من الهداية في قوله {إنَّكَ لاَ تَهْدِي} شيئاً، وفي قوله: {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} شيئاً آخر لاختلّ النظم، ثم إما أن يكون المراد من الهداية بيان الأدلة(15/273)
والدعوة إلى الجنة، أو تعريف طريق الجنة أو خلق المعرفة على سبيل الإلجاء، (أو خلق المعرفة في القلوب لا على سبيل الإلجاء) لا جائز أن يكون المراد (بيان الأدلة، لأأنه عليه السلام هدى الكل بهذا المعنى فهي غير) الهداية التي نفى الله عمومها وكذا القول في الهداية بمعنى الدعوة إلى الجنة، وأما الهداية بمعنى تعريف الجنة فهي أيضاً غير مرادة، لأنه تعالى علَّق هذه الهداية على المشيئة. فمن وجب عليه أداء عشرة دنانير لا يقول أعطي عشرة دنانير إن شئت، وأما الهداية بمعنى الإلجاء والقسر فغير جائز. لأن ذلك عندهم قبيح من الله تعالى في حق المكلف، وفعل القبيح مستلزم للجهل أو الحاجة وهما محالان، ومستلزم المحال محال، فذلك محال من الله والمحال لا يجوز تعليقه على المشيئة، ولما بطلب الأقسام لم يبق إلاَّ أن المراد أنه تعالى يخصُّ البعض بخلق الهداية والمعرفة ويمنع البعض منها {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الانبياء: 3] وإذا أورد الكلام على هذا الوجه سقط ما أورد القاضي عذرا عن ذلك.
قوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي أنه المختص بعلم الغيب فيعلم من يهتدي ومن لا يهتدي، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم: إن نَتَّبع الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ من أرْضِنَا، قال المبرد: الخطف الانتزاع بسرعة نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنَّا لنعلم أنَّ الذي تقوله حقٌّ ولكنا إن اتَّبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة، فأجاب الله عنه من وجوه الأول: قوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} ، أي أعطاكم مسكناً لا خوف لكم فيه، إما لأن العرب يحترمون الحرم ولم يتعرضوا لسكانه، فإنه يروى أن العرب خارجة الحرم كانوا لا يتعرَّضون لساكن الحرم.
قوله: «نُتَخَطَّفُ» العامة على الجزم جواباً للشرط، والمنقريّ بالرفع، على حذف الفاء، كقوله:
4013 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ...(15/274)
وكقراءة «يُدْرِكُكُمْ» بالرفع، أو على التقديم وهو مذهب سيبويه.
قوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} قال أبو البقاء عدَّاه بنفسه لأنه بمعنى «جَعَل» وقد صرحَّ به في قوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] و «مَكَّنَ» متعد بنفسه من غير أن يضمَّن معنى «جَعَلَ» كقوله «مَكَّنَّاهُمْ» ، وتقدم تحقيقه في الأنعام وآمنا قيل بمعنى مؤمن أي: يؤمن من دخله، وقيل: هو على حذف مضاف، أي: آمناً أهله، وقيل فاعل بمعنى النسب أي، ذا أمن.
قوله: «يُجْبَى» قرأ نافع بتاء التأنيث مراعاة للفظ ثمرات، والباقون بالياء للفصل ولأن تأنيثه مجازي والجملة صفة ل «حَرَماً» أيضاً، وقرأ العامة «ثَمَرَاتُ» بفتحتين وأبان بضمتين جمع ثُمُر بضمتين، وبعضهم بفتح وسكون.
قوله: «رِزقاً» إن جعلته مصدراً جاز انتصابه على المصدر المؤكِّد، لأن معنى «يُجبَى إليه» يرزقهم وأن ينتصب على المفعول له، والعامل محذوف، أي يسوقه إليه رزقاً، وأن يكون في موضع الحال من «ثَمَراتٍ» لتخصصها بالإضافة، (كما ينتصب عن النكرة المخصصة) ، وإن جعلته اسماً للمرزوق انتصب على الحال من «(15/275)
ثَمَرات» ومعنى «يُجْبَى» ، أي يجلب ويجمع، يقال: جبيت الماء في الحوض أي: جمعته قال مقاتل: يحمل إلى الحرم {ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن ما نقوله حق.
قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} أي: من أهل قرية «بَطِرَتْ معيشتها» ، قال الزمخشري: البطر سوء احتمال الغنى، وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى، وانتصب «مَعِيشَتهَا» إما بحذف الجار واتصال الفعل كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ، أو بتقدير حذف ظرف الزمان، أصله: بطرت أيَّام معيشتها، وإما بتضمين «بَطِرَتْ» معنى كفرت أو خسرت أو على التمييز أو على التشبيه بالمفعول به، وهو قريب من «سَفِهَ نَفْسَه» . قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله، وعبدوا غيره.
قوله: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} قال ابن عباس لم يسكنها إلا المسافرون، ومارُّ الطريق يوماً أو ساعة.
معناه: لم تسكن من بعدهم إلا سكوناً يسيراً قليلاً، وقيل: لم يعمَّر منها إلا أقلها وأكثرها خراب، فقوله: «لَمْ تُسْكَنْ» جملة حالية، والعامل فيها معنى تلك، يجوز أن يكون خبراً ثانياً، و «إلا قليلاً» أي: إلا سكنى قليلاً، أو إلا زماناً قليلاً، أو إلا مكاناً قليلاً. {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} . كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم: 40] .
قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} يعني القرى الكافرة أهلها حتى نبعث في أمِّها رسولاً، أي في أكثرها وأعظمها رسولاً ينذرهم وخصّ الأعظم ببعثة الرسول فيها لأن الرسول يبعث إلى الأشراف، والأشراف يسكنون المدائن والمواضع التي هي أم ما(15/276)
حولها، وهذا بيان لقطع عذرهم، لأن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم، فوجب ألا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة.
وقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي: يؤدّي ويلِّبغ، قال مقاتل: يخبرهم الرسول أنَّ العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا، {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} : مشركون أي: أهلكهم بظلمهم، وأهل مكة ليسوا كذلك، فإن بعضهم قد آمن وبعضهم قد علم الله منهم أنَّهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يؤمن.(15/277)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
قوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا} ، أي فهو متاع، وقرىء فمتاعاً الحياة بنصب «مَتَاعاً» على المصدر، أي: يتمتَّعون متاعاً، «والحَيَاةَ» نصب على الظرف، والمعنى: يتمتعون بها أيام حياتهم ثم هي إلى فناء وانقضاء {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} ، هذا جواب عن شبهتهم فإنهم إن قالوا تركنا الدِّين لئلا تفوتنا الدنيا، فبيَّن تعالى أن ذلك خطأ عظيم، لأن ما عند الله خيرٌ وأبقى (أمَّا أنَّه خير) فلوجهين: الأول: أن المنافع هناك أعظم، والثاني: أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار، بل المضار فيها أكثر، وأما أنَّها أبقى، فلأنها دائمة غير منقطعة ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فظهر بذلك أن منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة، فلا جرم نبه على ذلك فقال: «أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» أن الباقي خيرٌ من(15/277)
الفاني يعني أن من لا يرجح الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجاً عن حد العقل، ورحم الله الشافعي حيث قال: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله - تعالى - لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلين بالطاعة، فكأنه رَحِمَهُ اللَّهُ إنما أخذه من هذه الآية. وقرأ أبو عمرو «أَفَلاَ يَعْقِلُونَ» بالياء من تحت التفاتاً، والباقون بالخطاب جرياً على ما تقدم.
قوله: «َفَمَنْ وَعَدْنَاهُ» قرأ طلحة «أَمَنْ وَعَدْنَاهُ» بغير فاء «وَعْداً حَسَناً» يعني الجنة «فَهُوَ لاَقِيهِ» مصيبة ومدركه وصائرٌ إليه {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا} وتزول عن قريب {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} النار، وقرأ الكسائي وقالون: «ثُمَّ هُوَ» بسكون الهاء إجراءً لها مجرى الواو والفاء، والباقون بالضم على الأصل، وتخصيص لفظ «المُحْضَرِينَ» بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن، قال تعالى {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} [الصافات: 57] {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 127] وفي اللفظ إشعار به، لأن الإحضار يشعر بالتكليف والإلزام، وذلك لا يليق بمجالس اللذة، وإنما يليق بمجالس الضرر والمكاره. قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} في الدنيا أنهم شركائي وتزعمون أنها تشفع فتخلصكم من هذا الذي نزل بكم، وتزعمون مفعولاه محذوفان أي: (تزعمونهم شركاءه) ، {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي: وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة وقيل: الشياطين.
أحدهما: أن هؤلاء مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنَا صفته والعائد محذوف، أي أغويناهم، والخبر «أَغْوَيْنَاهم» ، و «كَمَا غَوَيْنَا» نعت لمصدر محذفو، ذلك المصدر مطاوع لهذا الفعل أي فغووا غيّاً كما غوينا، قاله الزمخشري، وهذا الوجه منعه أبو علي،(15/278)
قال: لأنه ليس في الخبر زيادة فائدة على ما في صفته، قال: فإن قلت: قد أوصل بقوله كما غوينا وفيه زيادة، قلت: الزيادة في الظرف لا يصيِّره أصلاً في الجملة لأنَّ الظرف صلاتٌ، ثم أعرب هو «هَؤُلاَء» مبتدأ و «الَّذِينَ أَغوَيْنَا» خبره، و «أغْوَيَنْاهم» مستأنف، وأجاب أبو البقاء وغيره عن الأول بأن الظرف قد يلزم كقولك زيدٌ عمرو في داره.
فصل
المعنى: هؤلاء الذين دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أضللناهم كما ضلننا «تَبَرَّأنَا إلَيْكَ» منهم.
قوله: {مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} إيَّانَا مفعول «يَعْبُدونُ» قُدِّم لأجل الفاصلة وفي «ما» وجهان:
أحدهما: هي نافية (أي تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا) .
والثاني: مصدرية ولا بدَّ من تقدير حرف جرٍّ أي: تبرأنا مما كانوا أي من عبادتهم إيانا، وفيه بعدٌ.
قوله: {وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ} أي: وقيل للكافلين ادعوا شركاءكم، أي: الأصنام لتخلصكم من العذاب «فَدَعَوْهُمْ» (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا) لَهُمْ لم يجيبوهم، والأقرب أن هذا على سبيل التقريع، لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم.
قوله: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ} جوابها محذوف أي: لما رأوا العذاب، أو لدفعوه، قال الضحاك ومقاتل: يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروا في الآخرة، وقيل: لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أنَّ العذاب حق، وقيل: لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل قد آن لهم أن(15/279)
يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قول {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [الشعراء: 201] قال ابن الخطيب: وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقديره وجوه:
أحدها: أن الله تعالى لما خاطبهم بقوله {ادعوا شُرَكَآءَكُمْ} فهاهنا يشتد الخوف عليهم ويصيرون بحيث لا يرون شيئاً، فقال تعالى: {وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} شيئاً ولما صاروا من شدة الخوف لا يبصرون شيئاً لا جرم ما رأوا العذاب.
وثانيها: أن الله تعالى لما ذكر عن الشركاء وهم الأصنام الذين لا يجيبون الذين دعوهم، قال في حقهم: {وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} مشاهدين العذاب، وكانوا من الأحياء لاهتدوا، ولكنها ليست كذلك، فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل: قوله: «ورأوا العَذَابَ» ضمير لا يليق إلا بالعقلاء، وكيف يصح عوده للأصنام، قلنا: هذا كقوله: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} ، وإنما أورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا هاهنا.
وثالثها: أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب، أي: والكفار علموا حقيقة هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون، قال: وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب «لو» محذوف، فإن ذلك يقتضي تفكيك نظم الآية.
قوله: «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ» أي: يسأل الله الكفار {مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين} ، فعميت، العامة على تخفيفها، وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم، وتقدمت القراءتان للسبعة في هود، والمعنى: خفيت واشتبهت «عَلَيْهِم الأَنْبَاءُ» وهي الأخبار والأعذار، وقال مجاهد: الحجج يومئذ فلا يكون لهم عذر ولا حجة، فهم لا يستاءلون لا يجيبون وقال قتادة: لا يحتجون، وقيل: يسكتون لا يسأل بعضهم بعضاً وقرأ طلحة «لا يسّاءلون» بتشديد السين على إدغام التاء في السين، كقراءة {تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] .(15/280)
فصل
قال القاضي: هذه الآية تدل على بطلان قول الجبرية، لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله ويجب وقوعه بالقدر والإرادة لما عميت عليهم الأنبا ولقالوا إنَّما كذَّبنا الرسل من جهة خلقك فينا بتكذيبهم والقدرة الموجبة لذلك فكانت حجتهم على الله تعالى ظاهرة وكذلك القول فيما تقدم، لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك فيّ الغواية، والجواب: أنَّ علم الله بعدم الإيمان مع وجود الإيمان متنافيان لذاتهما، فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمرنا بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمرنا بالجمع بين الضِّدين، واعلم أنَّ القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والعقاب إلا يعيد استدلاله بها، كما أن وجه استدلاله في الكل هذا الحرف، فكذا وجه جوابنا حرف واحد، وهو كما ذكرنا.(15/281)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
قوله: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} لمّا بيَّن حال المعذبين أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيباً في التوبة، وزجراً عن الثبات على الكفر، وفي «عَسَى» وجوه:
أحدها: أنه من الكرام حقيق، والله أكرم الأكرمين.
وثانيها: أنَّها للترجي للتائب وطمعه، كأنه قال: فليطمع في الفلاح.
وثالثها: عسى أن يكونوا كذلك إذا داموا على التوبة والإيمان، لجواز أن لا يدوموا.
قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] ، يعني الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم.(15/281)
قوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} فيه وجوه:
أحدها: أنَّ ما نافية، فالوقف على «يَخْتَارُ» .
والثاني: ما مصدرية أي يختار اختيارهم، والمصدر واقع موقع المفعول، أي مختارهم.
الثالث: ان يكون بمعنى «الذي» والعائد محذوف، أي ما كان لهم الخيرة فيه كقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] أي منه، وجوَّز ابن عطية أن تكون كان تامة، ولهم الخيرة جملة مستأنفة، قال: ويتجه عندي أن يكون ما مفعول إذا قدَّرنا كان التامة، أي: إن الله يختار كلَّ كائن، ولهم الخيرة مستأنف معناه: تعديد النعم عليهم في اختيار الله لهم لو قبلوا. وجعل بعضهم في كان ضمير الشأن، وأنشد:
4014 - أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ ... لَوْ كَانَ ذَا مِنْكَ قَبْلَ اليَوْم مَعْرُوفُ
ولو كان ذا اسمها لقال معروفاً، وابن عطية منع ذلك في الآية، قال: لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف، كأنه يريد أن الجار متعلق بمحذوف وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزيئها إلا أنَّ في هذا نظراً إن أراده، لأن هذا الجار قائم مقام الخبر ولا أظن أحداً يمنع: هو السلطان في البلد، وهي الدار، والخيرة: من التخير كالطيرة من التطير فيستعملان استعمال المصدر، وقال الزمخشري {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} بيان لقوله «وَيَخْتَارُ» ، لأن معناه: ويختار ما يشاء ولهذا(15/282)
لم يدخل العاطف، والمعنى أن الخيرة لله في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه.
قال شهاب الدين: لم يزل الناس يقولون: إن الوقف على «يَخْتَار» والابتداء بما على أنها نافية هو مذهب أهل السنة، ونقل ذلك عن جماعة كأُبيٍّ وغيره، وأن كونها موصولة متصلة «يَخْتَارُ» غير موقوف عليه هو مذهب المعتزلة، وهذا الزمخشري قد قرر كونها نافية وحصل غرضه في كلامه وهو موافق لكلام أهل السنة ظاهراً وإن كان لا يريده، وهذا الطبري من كبار أهل السنة منع أن تكون نافية، قال: لئلا يكون المعنى: أنه إن لم يكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، وأيضاً فلم يتقدم نفي، وهذا الذي قاله ابن جرير مرويّ عن ابن عباس، وقال بعضهم: ويختار لهم ما يشاؤه من الرسل ف «ما» على هذا واقعة على العقلاء.
فصل
إن قيل: «ما» للإثبات فمعناه: ويختار الله ما كان لهم الخيرة، أي: يختار ما هو الأصلح والخير، وإن قيل: ما للنفي أي: ليس إليهم الاختيار، أو ليس لهم أن يختاروا على الله كقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ثم قال منزِّهاً نفسه سبحانه وتعالى «عَمَّا يُشْرِكُونَ» أي: إن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه {يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} من عداوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «وَمَا يُعْلِنُونَ» من مطاعنهم فيه، وقولهم: هلا اختير غيره في النبوة،. ولما بيَّن علمه بما هم عليه من الغل والحسد والسفاهة قال: {وَهُوَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة} ، وهذا تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات {لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة} وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة لأن الثواب غير واجب عليه بل يعطيه فضلاً وإحساناً، و {لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة} ويؤكد قول أهل الجنة {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34] . {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74](15/283)
{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] «ولَهُ الحُكْمُ» وفصل القضاء بين الخلق، قال ابن عباس: حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء «وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي: إلى حكمه وقضائه.(15/284)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً} الآية، لما بيَّن بقوله {وَهُوَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه بما لا يقدر عليه سواه، فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً} ، نبَّه بذلك على كون الليل والنهار نعمتان متعاقبتان على الزمان، ووجهه أن المرء في الدنيا مضطرٌّ إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ولا يتم ذلك إلا براحة وسكون بالليل ولا بد منها والحالة هذه، فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب ولا حاجة بهم إلى الليل، ولذلك يدوم لهم الضياء واللذات، فبيَّن بذلك أن القادر على ذلك ليس إلاّ الله فقال: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ» أخبروني يا أهل مكة {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً} دائماً {إلى يَوْمِ القيامة} لا نهار معه {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ} بنهار تطلبون فيه المعيشة «أَفَلاَ تَسْمَعُون» سماع فهم وقبول؟
قوله: أَرَأَيْتُم، وجعل تنازعاً في «اللَّيْل» وأعمل الثاني ومفعول «أَرَأَيْتُمْ» هي جملة الاستفهم بعده والعائد منها على الليل محذوف تقديره: بضياء بعده، وجواب الشرط محذوف، وتقدم تحرير هذا في الأنعام، وسرمداً مفعول ثان إن كان(15/284)
الجعل تصييراً، أو حال إن كان خلقاً وإنشاء، والسَّرمد: الدائم الذي لا ينقطع قال طرفة:
4015 - لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي وَلاَ لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ
والظاهر أن ميمه أصلية، ووزنه فعلل كجعفر، وقيل: هي زائدة واشتقاقه من السَّرد، وهو تتابع الشيء على الشيء، إلا أنَّ زيادة الميم وسطاً وآخراً لا تنقاس نحو: دُلاَمِ، وزُرْقُم، من الدلاً والزُّرقة.
قوله: «إلَى يَوْمِ» متعلق ب «يَجْعَلَ» أو ب «سَرْمَداً» أو بمحذوف على أنه صفة ل «سَرْمَداً» وإنما قال: «أَفَلاَ تَسْمَعُونَ» ، «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ» ، لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر، فلما لم ينتفعوا أنزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر، قال المفسِّرون: «أَفَلاَ تَسْمَعُونَ» سماع فهم «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ» ما أنتم عليه من الخطأ والضلال.
وقال الزمخشري: فإن قيل هلاَّ قيل بنهار يتصرَّلإون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه، قلنا: ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق بها متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة، وإنما قرن بالضياء «أَفَلاَ تَسْمَعُونَ» لنَّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ» لن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه.(15/285)
قوله: «لِتَسْكُنُوا فِيهِ» أي في الليل {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: في النهار وهذا من باب اللف والنشر ومنه:
4016 - كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً وَيَابِساً ... لَدَى وَكْرِهَا العِنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
قوله: «لَعَلَّكُمْ تَشْكرون» أي: نعم الله، وقيل: أراد الشكر على المنفعتين معاً، وعالم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً (وابتغاء فضل الله بالليل ممكناً) إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره الله تعالى، فلهذا خصه به، وقوله: «وَيَوْمَ يُنَادِيِهمْ» كرَّر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ.
قوله: «وَنَزَعْنَا» أخرجنا {مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} يعني رسولهم الذي أرسل إليهم، كما قال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] أي: يشهد عليهم بأنهم بلغوا القوم الدلائل، وأوضحوها لهم ليعلم أن التقصير منهم، فيزيد ذلك في غمهم، وقيل المراد الشهداء الذي يشهدون على الناس، ويدخل في جملتهم الأنبياء {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} حجتكم بأن معي شريكاً «فَعَلِمُوا» حينئذ «أَنَّ الحَقَّ» التوحيد «لِلَّهِ» ، «وَضَلَّ عَنْهُمْ» غاب عنهم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الباطل والكذب.(15/286)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى} الآية، قال المفسرون كان ابن عمه،(15/286)
لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى ابنُ عمران بن قاهث وقال ابن إسحاق: كان قارون عم موسى كان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون، ولكنه نافق كما نافق السَّامري وكان يسمى المنوَّر لحسن صورته.
وقال ابن عباس: إنه كان ابن خالته، فبغى عليهم، وقيل: كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل، وكان يبغي عليهم ويظلمهم، وقال قتادة: «بَغَى عَلَيْهِمْ» بكثرة المال (ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء) .
وقال الضحاك: بغى عليهم بالشرك، وقال القفال: طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده، وقال ابن عباس: تكبّر عليهم وتجبر، وقال الكلبي: حسد هارون على الحبورة، وروي أن موسى عليه السلام لما قطع الله له البحر، وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة والحبورة وكان له القربان والمذبح وكان لموسى الرسالة، فوجد قارون لذلك في نفسه، وقال يا موسى لك الرسالة لهارون الحبورة، ولست في شيء، لا أصبر أنا على هذا، فقال موسى: والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله فقال قارون له: فوالله لا أصدِّقك أبداً حتى تأتيني بآية يعرف بها أن جعل ذلك لهارون، قال: فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل ان يجيء كلُّ رجل منهم بعصاه فجاءوا بها، فألقاها موسى عليه السلام في قبة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى ربه أن يريهم بيان ذلك، فباتوا يحرسون عصيهم، فأصحبت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز، فقال موسى لقارون: ألا ترى ما صنع الله لهارون، فقال: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، فاعتزل قارون ومعه ناس كثيرة وولي هارون الحبوة والمذبح والقربان، وكانت بنو إسرائيل يأتون بهَدَايَاهُمْ إلى هارون فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتَّبَع من بني إسرائيل، فما كان يأتي موسى ولا يجالسه.(15/287)
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إنَّ قارُونَ كانَ من السَّبْعِينَ المُخْتَارَة الَّذِينَ سَمِعُوا كلامَ اللَّه»
قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ} ما موصولة بمعنى الذي صلتها (إنَّ) وما في حيّزها ولهذا كسرت ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع الوصل بإنَّ وكان يستقبح ذلك عنهم، يعني لوجوده في القرآن، والمفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الذي يفتح به الباب قاله قتادة ومجاهد وجماعة، وقيل: مفاتحه خزائنه كقوله {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} [الأنعام: 59] أي: خزائنه.
قوله: «لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ» فيها وجهان:
أحدهما: بأن الباء للتعدية، كالهمزة ولا قلب في الكلام، والمعنى: لتُنيء المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول: أَجَأْتُهُ وَجئْتُ به، وأَذْهَبْتُه وَذَهَبْتُ به، ومعنى ناء بكذا: نهض به بثقل، قال:
4017 - تَنُوءُ بِأُخْرَاهَا فَلأْياً قِيَامُهَا ... وَتَمْشي الهَوَيْنَا عن قَرِيبٍ فَتَبْهَرُ
وقال أبو زيد: نُؤْتُ بالعمل أي: نهضت به، قال:
4018 - إذَا وَجَدْنَا خَلْفاً بِئْسَ الخَلَفْ ... عَبْداً إذَا مَا نَاءَ بالحِمْلِ وَقَفْ
وفسره الزمخشري بالأثقال، قال: يقال: ناء به الحمل حتى أثقله(15/288)
وأماله، وعليه ينطبق المعنى أي: لتثقل المفاتح العصبة.
والثاني: قال أبو عبيدة إنَّ في الكلام قلباً، والأصل: لتنوء العصبة بالمفاتح أي: لتنهض بها لقولهم: عرضت لناقة على الحوض، وتقدم الكلام في القلب وأن فيه ثلاثة مذاهب، وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء بالياء من تحت والتذكير، لأنه راعى المضاف المحذوف، إذ التقدير حملها أو ثثقلها، وقيل الضمير في «مَفَاتِحَه» ل «قَارُونَ» فاكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير، كقولهم: ذهبت أهل اليمامة، قاله الزمخشري؛ يعني كما اكتسب «أَهْل» التأنيث اكتسب هذا التذكير، و «العُصْبَةُ» : الجماعة الكثيرة، والعصابة مثلها، قال مجاهد: ما بين العشرة إلى الأربعين؛ لقول إخوة يوسف {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم وقيل: أربعون رجلاً وقيل سبعون روي عن ابن عباس: كان يحمل مفاتحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال، وروى جرير عن منصور عن خيثمة قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح منها كنز، وطعن بعضهم في هذا القول من وجهين الأول: انَّ مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكان لها أعداد قليل من المفاتيح، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح؟ الثاني: أن المكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض فلا يجوز أن يكون لها مفاتح.(15/289)
وأجيب عن الأول أن المال إذا كان من جنس (العروض لا من جسن النقد) جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد، وأيضاً أن قولهم تلك المفاتح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القرآن، فلا تقبل هذه الرواية، وعن الثاني أن الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق وحمل ابن عباس والحسن المفاتح على نفس المال وهذا أبين، قثال ابن عباس كانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء، وقال أبو مسلم المراد من المفاتح العلم والإحاطة، كقوله تعالى {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] والمراد: آتيناه من الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ما يتعب القائمين أن يحفظوها.
قوله: «إذْ قَالَ» فيه أوجه: أن يكون معمولاً ل «تَنُوءُ» قاله الزمخشري، أو ل «بَغَى» قاله ابن عطية، وردَّه أبو حيان بأن المعنى ليس على التقييد بهذا الوقت أو ل «آتَيْنَاهُ» قاله أبو البقاء وردَّه أبو حيان بأن الإيتاء لم يكن ذلك الوقت.
أو لمحذوف، فقدَّره، أبو البقاء: بغى عليهم وهذا ينبغي أن يردّ بما ردَّ به قول ابن عطية. وقدَّره الطبري: اذكر وقدره أبو حيان أظهر الفرح وهو مناسب، واعلم أنه كان في قومه من وعظه بأمور:
أحدها: قوله: لاَ تَفْرَح إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ، وقرى الفارحين - حكاها عيسى الحجازي - والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة، قال(15/290)
بعضهم: إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها، وأمَّا من يعلم أنَّه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح. وما أحسن قول المتنبي:
4019 - أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
(وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى) {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} [الحديد: 23] قال ابن عباس: كان فرحه ذلك شركاً، لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى.
وثانيها: قوله: {وابتغ فِيمَآ آتَاكَ} يجوز أن يتعلق «فِيمَا آتَاكَ» ب «ابْتَغِ» ، وإن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أَي: متقلباً «فِيمَا آتاكَ» . و «مَا» مصدرية أو بمعنى الذي. والمراد أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة، والظاهر أنه كان مقرّاً بالآخرة.
وثالثها: قوله: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} قال مجاهد وابن زيد لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة وقال السُّدِّي: بالصدقة وصلة الرحم وقال علي ألاَّ تنسى صحتك وقوة شبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة، «قال عليه السلام لرجل وهو يعظه:» اغْتَنِمْ خَمْساً قبلَ خَمْسٍ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِك، وصحَّتك قبل سَقَمِكَ، وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغك قَبْلَ شُغْلِكَ، وحَيَاتكَ قَبْلَ مَوْتِكَ «
قوله: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} : أي: إحساناً كإحسانه إليك، أي: أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته، وقيل: أحسن إلى الله إليك، وقيل إنه لما أمره بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقاً، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء.(15/291)
قوله: {وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض} ولا تطلب الفساد في الأرض، وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض، وقيل المراد ماكان عليه من الظلم والبغي، و» في الأَرْض «يجوز أن يتعلق ب» تَبْغ «أو ب» الفَسَادِ «أو بمحذوف على أنه حال وهو بعيد. ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين} ، قيل: إن هذا القائل هو موسى عليه السلام؛ وقيل: بل مؤمنو قومه.
وقوله:» عِنْدي «إما ظرف ل» أُوتِيته «، وإما صفة للعلم.
فصل
قال قارون: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا} أي: على فضلٍ وخير علمه الله عندي فرآني أهلاً لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره، وقال سعيد بن المسيب والضحاك: كان موسى عليه السلام يعلم عليم الكيمياء (أنزل الله عليه علمه من السماء) فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقناء ثلثه وعلم قارون ثلث، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه. وكان ذلك سبب أمواله.
وقيل: {على عِلْمٍ عنديا} بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب ثم أجاب الله عن كلامه بقوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون} الكافرة {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} للأموال أو أكثر جماعة وعدداً. فقوله {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} يجوز أن يكون هذا إثباتاً لعلمه بأن الله قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قرأه في التوراة وأخبر به موسى وسمعه من حفاظ التواريخ؛ كأنه قيل: أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك لأنه لما قال: {أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا} فتصلف بالعلم وتعظم به قيل مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه. والمعنى أنه تعالى إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما يزيد عليه أضعافاً.(15/292)
قوله: {مَنْ هُوَ أَشَدُّ} من موصولة أو نكرة موصوفة وهو في موضع المفعول ب «أهلك» ، و «مِنْ قَبْلِهِ» متعلق به، و «مِنَ القُرُونِ» يجوز فيه ذلك ويجوز أن يكون حالاً من {مَنْ هُوَ أَشَدُّ} .
قوله: «وَلاَ يُسْأَلُ» هذه قراءة العامة على البناء للمفعول وبالياء من تحت، ورفع الفعل، وقرأ ابو جعفر «وَلاَ تُسْأَل» بالتاء من فوق والجزم وابن سيرين وأبو العالية كذلك إلا أنه مبني للفاعل وهو المخاطب، قال ابن أبي إسحاق: لا يجوز ذلك حتى ينصب «المُجْرِمِين» ، قال صاحب اللوامح: هذا هو الظاهر إلاَّ أنَّه لم يبلغني فيه شيء، فإن تركها مرفوعاً فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون «المُجْرِمُونَ» خبر مبتدأ محذوف أي هم المجرمون.
الثاني: أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في «ذُنُبوبِهِمْ» لأنهما مرفوعاً المحل، يعني أن «ذُنُوباً» مصدر مضاف لفاعله، قال فحمل المجرمون على الأصل كما تقدم في قراءة {مَثَلاً مَّا بَعُوضَةٍ} بجر بعوضة، وكان قد خرجها على أن الأصل: يضرب مثل بعوضةٍ، وهذا تعسف كثير فلا ينبغي أن يقرأ ابن سيرين وأبو العالية إلا «المُجْرِمِينَ» بالياء فقط وإنما ترك نقلها لظهوره.
قوله: {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} قال قتادة: يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال، وقال مجاهد يعني لا تسأل الملائكة عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم، وقال الحسن: لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، وقيل: إن المراد أن الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكنيتها، لأن الله تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى لاسؤال، فإن قيل: كيف الجمع بينه وبين قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ(15/293)
يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] فالجواب: يحمل ذلك على وقتين كما قررناه.
وقال أبو مسلم: السؤال قد يكون للمحاسبة، وقد يكون للتقريع والتوبيخ، وقد يكون للاستعتاب، وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84] {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36] .
قوله: «فِي زينَتِهِ» إما متعلق ب «خَرَج» ، وإما بمحذوف على أنه حال من فاعل خرج.(15/294)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
دلت الآية على أنه خرج بأظهر زينة وأكملها، وليس في القرآن إلا هذا القدر والناس ذكروا وجوهاً مختلفة، والأولى ترك هذه التقديرات لأنها متعارضة، ثم إن الناس لمَّا رأوه على تلك الزينة قال من كان منهم يرغب في الدنيا: {ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} من الحال، وهؤلاء الراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار، وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبُّون الدنيا، فأمّا الذين أوتوا العلم - وهم أهل الدين - قال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إسرائيل، وقال مقاتل: أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة. فقالوا للذين تمنوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ} من هذه النعم، أي: ما عند الله من الجزاء والثواب {خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ} وصدَّق بتوحيد الله وعمل صالحاً، لأن للثواب منافع عظيمة خالصة عن شوائب المضار دائمة، وهذه النِّعم على الضد في هذه الصفات.
قوله: «وَيْلَكُمْ» : منصوب بمحذوف، أي: «ألْزَمَكُمْ اللَّهُ وَيْلَكُمْ» ، قال الزمخشري: ويلك أصله الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والرَّدع والبعث على ترك ما يضر.
قوله: «وَلاَ يُلَقَّاهَا» أي: هذه الخصلة وهي الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله. وقيل: الضمير يعود إلى ما دل عليه قوله: {آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} يعني هذه الأعمال لا يؤتاها إلا الصَّابرون (وقال الزجاج: ولا يُلَقَّى هذه الكلمة وهي قولهم: {ثَوَابُ الله(15/294)
خَيْرٌ} إلا الصَّابرُونَ) على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرمات، وعلى الرِّضا بضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار.
قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} المشهور كسر هاء الكناية في بِهِ وبِدَارِهِ لأجل كسر ما قبلها. وقرىء بضمها وقد تقدم أنها الأصل، وهي لغة الحجاز.
فصل
قيل: لما أشر وبطر وعتا خصف الله به وبداره الأرض جزاءً على عتوه وبطره، والفاء تدل على ذلك، لأن الفاء تشعر بالعلية. وقيل: إن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه، فجمع بني إسرائيل وقال إنّ موسى يريد أن يأخذ أخوالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال: ائتوا بفلانة البغيّ فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعوها فجعل لها قارون شطتاً من ذهب مملوءاً ذهباً، وقال لها: إن أموّلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى فقال إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض، فقام فيهم فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة، (ومن زنى وله) امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، قال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت: فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وناشهدها بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصطق فتداركها الله فقالت في نفسها: أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله، فقالت: لا، كذبوا بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي، فخر موسى ساجداً يبكي، وقال: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى الله إليه ان مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك، قال: يا بني(15/295)
إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون.
فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فلعتزل، فاعتزلوا جميعاً ولم يبق مع قارون إلا رجلان، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرَّحم وهو لا يلتفت إليهم لشدة غضبه، ثم قال خذيهم فانطبقت عليهم فأوحى الله إلى موسى: ما أفظَّك استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم، أما وعزتي لو دعوني مرة واحدة لوجودني قريباً مجيباً، فأصحبت بنو إسرائيل يتناجون بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله حتى خسف الله بداره وأمواله الأرض، ثم إن قارون يخسف به كل يوم قامة.
قال القاضي: إذا هلك بالخسف فسواء نزل عن ظاهر الأرض إلى الأرض السابعة أو دون ذلك، وإن كان لا يمتنع على وجه المبالغة في الزجر، وأما قولهم: إنه - تعالى - قال: لو استغاثوا بي لأغثتهم، فإن صح حمل على استغاثة مقرونة بالتوبة، فأما وهو ثابت على ما هو عليه مع أنه تعالى هو الذي حكم بذلك الخسف، لأن موسى ما فعله إلا عن إذن فبعيد، وقولهم إنهم يتجلجلون في الأرض فبعيد، لأنه لا بد له من نهاية، وكذا القول فيما ذكر من عدو القامات والذي عنده في أمثال هذه الحكايات أنها قليلة الفائدة لأنها من باب أخبار الآحاد فلا تفيد اليقين وليست المسألة عملية حتى يكفي فيها الظنّ ثم إنها في أكثر الأمر متعارضة مضطربة فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب.
قوله: «مِنْ فِئَةٍ» يجوز أن يكون اسم كان إن كانت ناقصة، و «له» الخبر أو «يَنْصُرُونَهُ» وأن تكون فاعلة إن كان تامة و «يَنْصُرُونَهُ» صفة ل «فِئَةٍ» فيحكم على موضعها بالجر لفظاً وبالرفع معنى، لأن «مِنْ» مزيدة فيها، ثم قال: {وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين} أي الممتنعين مما نزل من الخسف، يقالك نصره من عدوه فانتصر أي: منعه فامتنع.(15/296)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
قوله: {وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} أي: صار أولئك الذين تمنوا ما رُزق من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني، والعرب تعبِّر عن الصيرورة بأصبح وأمسى وأضحى، تقول: أصبح فلانٌ عالماً، وأضحى معدماً، وأمسى حزيناً، والمعنى صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى وداعياً إلى الرضا بقضاء الله وقسمته.
قوله: {وَيْكَأَنَّ الله ... . وَيْكَأَنَّ} فيه مذاهب منها: أن وَيْ كلمة رأسها وهي اسم فعلٍ معناها أعجب أي أنا والكاف للتعليل، و «أنْ» وما في حيّزها مجرورة بها، أي: أعجب لأنَّه لا يفلح الكافرون، وسمع كما أنَّه لا يعلم غفر الله له، وقياس هذا القول أن يوقف على «وَيْ» وحدها، وقد فعل ذلك الكسائي، إلا أنه ينقل عنه أنه يعتقد في الكلمة أن أصلها «وَيْلَكَ» كما سيأتي، وهذا ينافي وقفه، وأنشد سيبويه:
4020 - وَيْ كَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ ... بَبْ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرٍّ
الثاني: قال بعضهم «كَأَنَّ» هنا للتشبيه إلا أنه ذهب منها معناه، وصارت للخبر والتقين، وأنشد:(15/297)
4021 - كَأَنَّنِي حِينَ أُمْسِي لاَ يُكَلِّمُنِي ... مُتَيَّمٌ يَشْتَهِي مَا لَيْسَ مَوْجُودا
وهذا أيضاً يناسبه الوقف على «وَيْ» .
الثالث: أن «وَيْكَ» كلمة برأسها والكاف حرف خطاب، وأنَّ معمولة لمحذوف، أي: اعلم أنَّه لا يفلح، قال الأخفش، وعليه قوله:
4022 - وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِيَ وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قِيلُ الفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ
وحقه أن تقف على «وَيْكَ» وقد فعله أبو عمرو بن العلاء.
الرابع: أن أصلها «وَيْلَكَ» فَحُذِفَ، وإليه ذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم،(15/298)
وحقهم أن يقفوا على الكاف كما فعل أبو عمرو، ومن قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين، فإنه يحتمل أن يكون الأصل فيهما «وَيْلَكَ» فحذف ولم يرسم في القرآن إلا «وَيْكَأَنَّ» «وَيْكَأَنَّهُ» متصلة في الموضعين. فعامَّة القرَّاء اتبعوا الرسم، والكسائي وقف على «وَيْ» وأبو عمرو على «وَيْكَ» وهذا كله في وقف الاختيار دون الاختبار كنظائر تقدمت.
الخامس: أنَّ وَيْكَأَنَّ كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها «أَلَمْ تَرَ» . وربَّما نقل ذلك عن ابن عباس، ونقل الكسائي والفراء أنها بمعنى: أما ترى إلى صنع الله، قال الفراء: هي كلمة تقرير، وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ قال: وَيْ كأنَّه وراء البيت، يعني: أما ترينه وراء البيت، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى: رحمة لك في لغة حمير.
قوله: {لولاا أَن مَّنَّ الله} قرأ الأعمش «لَوْلاَ مَنَّ» بحذف «أنْ» وهي مرادة، لأن لولا هذه لا يليها إلا المبتدأ، وعنه «مَنُّ» برفع لانون وجر الجلالة، وهي واضحة.
قوله: لَخِسَفَ «قرأ حفص:» لَخَسَفَ «مبنياً للفاعل أي الله تعالى، والباقون ببنائه للمفعول، و» بِنَا «هو القائم مقام الفاعل، وعبد الله وطلحة لا نُخُسِفَ بِنَا أي: المكان، وقيل:» بِنَا «هو القائم مقام الفاعل كقولك: انقطع بنا، وهي عبارة رديئة وقيل: الفاعل: ضمير المصدر أي: لا نخفسف الانخساف وهي عنه أيضاً، وعن(15/299)
عبد الله» لَتُخُسِّفَ «بتاء من فوق وتشديد السين مبنياً للمفعول، وبنا قائم مقامه.
قوله:» وَيْكَأَنَّ «كلمة مستعملة عند التنبيه للخطاب وإظهار التندم، فلما قالوا: {ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] ثم شاهدوا لاخسف تنبهوا لخطئهم، ثم قالوا: كأنه {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه، ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيِّق عليه، بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة، قال سيبويه: سألت الخليل عن هذا الحرف، فقال:» وَيْ «مفصولة من» كَأَنَّ «وأن القو تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم.
قوله تعالى:» تِلْكَ الدَّارُ «مبتدأ وصفته، و» نَجْعَلُهَا «هو الخبر، ويجوز أن يكون» الدَّارُ «هو الخبر» نجعَلُهَا «خبراً آخر، وحال والأولى أحسن، وهذا تعظيم لها وتفخيم لشأنها، يعني: تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها {لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً} ليفيد أن كلاً منها مستقل في بابه لا مجموعهما، {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} .(15/300)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قوله: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَاَ} ، لمَّا بيَّن أن الدار الآخرة ليست إلا للمتقين بيَّن بعد ذلك ما يحصل لهم فقال: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} ، والمعنى: أنهم يزادون على ثوابهم، وقوله: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وظاهره أنهم لا يزادون على ما يستحقون.
فقوله: {فَلاَ يُجْزَى الذين} من إقامة الظاهر مقام المضمر تشنيعاً عليهم، وقوله: {إِلاَّ مَا كَانُواْ} أي: إلاَّ مثل ما كانوا، قال الزمخشري: إنما كرر ذكر السيئات، لأن في(15/300)
إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيض للسيئة إلى السامعين، وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها، ويجزي بالحسنة بعشر أمثالها.
فإن قيل: قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة، (وفي هذه الآية كرر الإساءة واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة) فما السبب؟
والجواب: أن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة، وأما الآية الأخرى فهي في شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى. فإن قيل: كيف لا تجزى السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد؟ فالجواب: لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه.
قوله: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} قال أبو علي: فرض عليك أحكامه وفرائضه «لَرَادُّكَ» بعد الموت «إلَى مَعَادٍ» وتنكير المعاد لتعظيمه، كأنه قال: مَعَادٍ وأي معاد، أي ليس لغيرك من البشر مثله، وقيل: المراد به مكة وترداده إليها يوم الفتح، ووجه تنكيره إياها كانت في ذلك اليوم معاداً لها شأن عظيم لاستيلاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليها، وقهره لأهلها وإظهار عز الإسلام وإذلال حزب الكفرة، والسورة مكية، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة حين أوذي وهو في غلبة من أهلها أنه يهاجر منها، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً، وقال مقاتل: «إنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما رجع إلى الطريق نزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» نَعَمْ «فقال جبريل إنَّ الله يقول: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} » يعني مكة ظاهراً عليهم قال المحققون: وهذا حد ما يدل على نبوته، لأنه أخبر عن الغيب ووقع ما أخبر به فيكون معجزاً.(15/301)
قوله: {مَن جَآءَ بالهدى} منصوب بمضمر، أي: يَعْلَمْ أو «أَعْلَم» إن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله، ووجه تعلقه بما قبله أنَّ الله تعالى لما وعد رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرد إلى معاد قال: قل للمشركين {ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى} يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم.
قوله: {وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب} أي: يوحى إليك القرآن {إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} قال الفراء هذا استثناء منقطع، أي: لكن رحمة من ربك فأعطاك القرآن وقيل: متصل. قال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة. فيكون استثناء من الأحوال ومن المفعول له، {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ} أي: معيناً لهم على دينهم، قال مقاتل: وذلك حين دعي إلى دين آبائه فذكره الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه.
قوله: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله} قرأ العامة بفتح الياء وضم الصاد، من: صدَّه يصُدُّه، وقرىء بضم الياء وكسر الصاد، من: أصده بمعنى صَدَّه، حكاها أبو زيد عن كلب. قال الشاعر:
4023 - أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُم ... صُدُودَ السَّوَاقِي عَنْ أُنُوف الحَوَائِمِ(15/302)
وأصل «يَصُدُّنكَ» «يَصُدُّونَنَّكَ» ، ففعل فيه ما فعل في {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] ، والمعنى لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله يعني القرآن. {بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وادع إلى رَبِّكَ} أي: إلى دين ربك وإلى معرفته وتوحيده {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} قال ابن عباس: الخطاب في الظاهر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد به: أهل دينه، أي: لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم ومثله: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ} وهذا وإن كان واجباً على الكلِّ إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصاً لأجل (التعليم) ، فإن قيل: الرسول كان معلوماً منه أنه لا يفعل شيئاً من ذلك ألبتة، فما فائدة ذلك النهي؟ فالجواب: أنَّ الخطاب وإن كان معه لكن المراد غيره، ويجوز أن يكون المعنى: لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلاً في أمورك، فإن وثق بغير الله فكأنَّه لم يكمل طريقه في التوحيد، ثم بيَّن أنه لا إله إلاَّ هو أي: لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلاَّ هو كقوله: {رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً} [المزمل: 9] فلا يجوز اتخاذ إلهٍ سواه.
قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} من جعل شيئاً يطلق على الباري تعالى - وهو الصحيح - قال: هذا استثناء متصل، والمراد بالوجه الذات، وإنَّما جرى على عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة، ومن لم يطلق عليه جعله متصلاً أيضاً، وجعل الوجه ما عمل لأجله أو الجاه الذي بين الناس، أو يجعله منقطعاً أي: لكن هو تعالى لم يهلك.
فصل
استدلت المعتزلة على أن الجنة والنار غير مخلوقتين بأنَّ هذه الآية تقتضي فناء الكل، فلو كانتا مخلوقتين لكان هذا يناقض قوله تعالى في صفة الجنة {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} [الرعد: 35] ، والجواب: هذا معارض بقوله تعالى (في صفة الجنة) {أُعِدَّتْ(15/303)
لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] وفي صفة النار: {وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] ثم إما أن يحمل قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} على الأكثر كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 24] أو يحمل على الفناء القليل كقوله: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} [الرعد: 35] على أن فناءها لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائها لا جرم أطلق لفظ الدوام عليها.
قوله: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي: في الآخرة، والعامة على بنائه للمفعول، وعيسى على بنائه للفاعل، روى الثعالبي في تفسير عن أُبَيِّ بن كعب قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» من قَرَأَ طسم القصص لم يبق في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنَّه كان مصدِّقًا أن كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وجهه له الحكم وإليه ترجعون «(15/304)
سورة العنكبوت(15/305)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
مكية إلا عشر آيات من أولها إلى قوله: " وليعلمن المنافقين ". قال الشعبي: فإنها مدنية. وهي تسع وستون آية، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وأربعة آلاف ومائة وخمسة وتسعون (حرفا) . اعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف، فإنها مشاق في الحال، ولا فائدةَ لها في المآل؛ إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوالِ، فلما بين الله تعالى أنهم إليه يرجعون في آخر السورة قبلها بين أن الأمر ليس على ما حسبوه، بل (حسن التكليف) ، لأنه يهذب الشكور ويعذب الكفور، فقال: {أحسب الناس أن يتركوا} غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم.
فصل في حكمة افتتاح هذه السُّوَرِ بحروف التَّهَجِّي
ولنذكرْ كلاماً كُلِّيّاً في افتتاح السور بالحروف.
اعلم أن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة، أو من يكون مشغول البال بشغل يشغله يقدم على الكلام المقصود سبباً غيره ليلتفت المخاطب (إليه) بسببه، ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود.
واعلم أن ذلك المتقدم على الكلام (المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفهوماً، كقول القائل: «زَيْدٌ، ويَا زَيْدُ» و «أَلاَ زَيْدُ» .(15/305)
وقد يكون المقدم صوتاً) غير مفهوم، كمن يُصَفِّرُ خلف إنسان ليلتفتَ وقد يكون الصوت بغير افم، كتصفيق الإنسان بيده، ليقبل السامع عليه.
ثم إن توقع الغفلة (كلما كان أتم، والكلام المقصود كان أهم) ، كان المقدم على الكلام المقصود أكثر ولهذا ينادى القريب «بالهمزة» فيقال: «أَزَيْدُ» ، والبعيد ب «يَا» ، فيقال: «يَا زَيْدُ» ، والغافل ينبه أولاً، فيقال: «أَلاَ يَا زَيْدُ» .
إذا تقرر هذا فنقول: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإن كان يَقْظَانَ الجَنانِ لكنه إنسان يَشغله شأن عن شأن، فحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبِّهات.
وتلك الحروف إذا لم يفم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف المفهومة، لأن الحروف إذا كانت مفهومة المعنى، وذكرت لإقبال السامع على المتكلم لكي يسمع ما بعد ذلك فربما يظن السامع أنه كل المقصود و «لا» كلام بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه أما إذا سمع صوتاً بلا معنى فإنه يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود.
فإذن تقديم الحروف التي لا يفهم معناها على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة.
فإن قيلَ: فما الحكمة في اختصاص بعض السورة بهذه الحروف؟
فالجواب: قال ابن الخطيب: عقل البشر يعجز عن إدراك الأشياء الكُلِّيَّة على تفاصيلها، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول: كل سورة في أوائلها (حروف التهجي فإن في أوائلها) ذكر الكتاب أو التنزيل، أو القرآن كقوله تعالى: {الم ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 1 - 2] ،
{الم
الله
لاا
إله
إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} [آل عمران: 1 - 3] ، {المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ} [الأعراف: 1 - 2] ، {يس والقرآن الحكيم} [يس: 1 - 2] ، {الم تَنزِيلُ الكتاب} [السجدة: 1 - 2] ، {حم ? تَنزِيلُ} [غافر: 1 - 2] {ق(15/306)
والقرآن المجيد} [ق: 1 - 2] . {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1 - 2] (إلا ثلاثَ سُوَرٍ) {كهيعص} [مريم: 1] {الم أَحَسِبَ الناس} [العنكبوت: 1 - 2] {الم غُلِبَتِ الروم} [الروم: 1 - 2] .
والحكمة في افتتاح السور التي فيها الكتاب والتنزيل والكتاب بالحروف (و) هي أن القرآن عظيم، والإنزال له أثقل، كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] ، فكذلك قدم عليها تنبيه يُوجِبُ ثبات المخاطب لاستماعه.
لا يُقالُ: كل سورة قرآن، واستماعها استماع للقرآن، سواء كان فيها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن أو لم يكن فيجب أن يكون في أول كل سورة (منبه) ، وأيضاً فقد وردت سور فيها ذكر الإنزال، والكتاب، وليس فيها حروف، كقوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] لأنا نقول جواباً عن الأول: (لا ريب) في أن كل سورة من القرآن، لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب - مع أنهما من القرآن - فيها تنبيه على كل القرآن، فإن قوله تعالى: {طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} [طه: 1 - 2] مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن، فيصير مثاله كتاب يَردُ من مَلِكٍ على مملوكه فيه شُغْلٌ ما، وكتاب آخر يدر منه عليه فيه: «إنَّا كَتبنا إليك كتاباً فيه أمرُنا فامتثلْه» فلا شك أن هذا الكتاب الآخر أكثر ثقلاً من الأول.
وعن الثاني: أن قوله: «الحمد لله، وتبارك الذي» تسبيحات مقصودة، وتسبيح الله لا يَغْفَلُ عنه العبد، فلا يحتاج إلى منبه، بخلاف الأوامر والنواهي، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمةِ مَنْ له التسبيح، و «سورة أنزلناها» قد بينا أنها بعض من القرآن فيها ذكر إنزالها، وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم وأثقل.
وأما قوله تعالى: «إنا أنزلناه» فهذا ليس وُرُداً على مشغول القلب بشيء غيره، بدليل أنه ذكر الكتاب فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكان منبهاً له فلم يُنَبَّهْ.
واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها، كقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] ، وقوله: {ياا أَيُّهَا النبي اتق الله} [الأحزاب: 1] ، {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: 1] لأنها أشياء هائلة(15/307)
عظيمة، فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها.
وأما هذه السور افتتحت بالحروف وليس فيها الابتداء بالكتاب والقرآن، وذلك لأن ثِقَلَ القرآن هو ما فيه من التكاليف والمعاد، وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا «يعني لا يتركون بمجرد ذلك، بل لا بدّ وأن يؤمنوا بأنواع التكاليف، ففيها المعنى الذي في السورة التي ذكر يها القرآن المشتمل على الأومر والنواهي.
فإن قيل: فهذا المعنى ورد في سورة التوبة وهو قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} [التوبة: 1] ولم يقدم عليه حروف التهجي! .
فالجواب: أن هذا ابتداء كلام، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة، فقال:» أَحَسِبَ «، وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام تاماً، والتنبيه (يكون) في أول الكلام، لا في أثنائه.
وأما {الم غُلِبَتِ الروم} فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا} .
قوله:» أن يتركوا «سد مفعولي» حسب «عند الجمهور، ومسد أحدهما عند الأخفش.
قوله:» أن يقولوا «فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من» أن يتركوا «، أبدل مصدراً مؤولاً من مثله.
الثاني: أنها على إسقاط الخافض، وهو الباء واللام، أي: بأن يقولوا، أو لأنْ يَقُولُوا.(15/308)
قال ابن عطية وأبو البقاء: إذا قدرت الباء كان حالاً.
قال ابن عطية: والمعنى في الباء واللام مختلف، وذلك أنه في الباء، كما تقول: تركت زيداً بحاله وهي في اللام بمعنى من أجل، أي: أحسبوا أنَّ إيمانهم علةٌ للترك انتهى.
وهذا تفسير معنى، ولو فسر الإعراب لقال: أحسبانهم الترك لأجل تلفظهم بالإيمان.
وقال الزمخشري: فإن قلت: فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان (في الآية) ؟
قلت: هو في قوله: {أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} ، وذلك أن تقديره: أحسبوا تركهم غير مَفْتُونِينَ لقولهم: آمنا، فالترك أولى مفعولي» حسب «، وقولهم آمنا هو الخبر، وأما غير مفتونين فتتمة الترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله:
2024 - فَتَركْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول: (تركهم) غير مفتونين لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام.
فإن قلت: أن يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟
قلت: كما تقول: خُرُوجُه لمخافة الشر، وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك: خرجت (مخافة) الشر وضربته تأديباً تعليلين. وتقول أيضاً: حسبت خروجه لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وظننت ضربه للتأديب فتجعلهما مفعولين كام جعلتهما مبتدأ وخبراً.
قال أبو حيان: وهذا كلام فيه اضطراب، ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة يعني أنه(15/309)
حال، لأنه سَبَك ذلك من قوله: {وهم لا يفتنون} وهي جملة حالية، ثم ذكر» أن يتركوا «هنا من الترك الذي هو تصيير، وهذا لا يصح، لأن مفعول» صير «الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم، إذا يصير التقدير: أن يصيروا لقولهم وهم لا يفتنون وهذا كلام لا يصحّ.
وأما ما مثله به من البيت فإنه يصح أن يكون «جزر السباع» مفعولاً ثانياً لترك - بمعنى صير - بخلاف ما قدر في الآية.
وأما تقديره: تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فلا يصح؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم كان غير مفتونين حالاً، إذ لا ينعقد من تركهم بمعنى تصييرهم ولقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم بمعنى تصييرهم إلى مفعول ثان، لأن غير مفتونين عنده حال، لا مفعول ثان.
وأما قوله: فإن قلت: أن يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فضله (فهم) ، وذلك أن قوله: أن يقولوا هو علة تركهم، فليس كذلك، لأنه لو كان علة لكان به متعلِّقاً كما يتعلق بالفِعْل، ولكنه علة الخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن، والخبر غير المبتدأ، ولو كان «لقولهم» علة للترك لكان من تمامه فكان يحتاج إلى خبر.
وأما قوله: كما تقول: خروجه لمخافة الشرِّ، فلِمَخَافَةِ ليس علةً للخروج، بل للخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن انتهى.
قال شهاب الدين: «ويجاب الشيخ بأن الزمخشري إنما نظر إلى جانب المعنى، وكلامه عليه صحيح.
وأما قوله: ليس علة للخروج ونحو ذلك، يعني في اللفظ، فأما في المعنى فهو علة قطعاً، ولولا خوف الخروج فات المقصود»
فصل
معنى الآية: أحسب الناس أن يتركوا بغير اختبار ولا ابتلاء أن يقولوا آمنا {وهم لا يفتنون} وهم لا يُبْتَلَوْنَ في أموالهم وأنفسهم، كلا لنختبرنهم، ليتبين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب.(15/310)
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، قال الشعبي: نزلت في ناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يقبل منكم إقرار باللسان حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فقتل بعضهم ونجا بعضهم، فأنزل الله هاتين الآيتين.
وقال ابن عباس: نزلت في الذين آمنوا بمكة، وكانوا يعذبون سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر وغيرهم.
وقال مقاتل: «نزلت في مهجع بن عبد الله، مولى عمر بن الخطاب، كان أولى قتيل من المسلمين يوم بدر فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مهْجَع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة «، فجزع أبواه وامرأته، فأنزل الله فيه هذه الآية، وقيل: وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي، وذلك أن الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان، ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله هذه الآية.
ثم عزاهم فقال: {ولقد فتنا الذين من قبلهم} يعني الأنبياء والمؤمنين، فمنهم من نُشِرَ بِمنْشَارٍ، ومنهم من قتل، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون، فكان يسومُهُمْ سوء العذاب.
قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ} العامة على فتح الياء مضارع «عِلَم» المتعدية لواحد كذا قالوا وفيه إشكال تقدم وهو أنها إذا تعدت لمفعول كانت بمعنى عرف، وهذا المعنى لا يجوز إسناده إلى الباري تعالى، لأنه يستدعي سبق حصل ولأنه يتعلق بالذات فقط، دون ما عليه من الأحوال.
وقرأ عليٌّ وجَعْفَرُ بنُ مُحمّد بضم الياء مضارع «أعلم» ، (ويحتمل أن(15/311)
يكون من علم بمعنى عرف، فلما جيء بهمزة النقل أكسبتها فمعولاً آخر، فحذف.
ثم هذا المفعول) يحتمل أن يكون هو الأول، أي ليعلمن اللَّهُ النَّاسَ الصَّادِقِينَ وليعلمهم الكاذبين أي بشهرة يعرف لها هؤلاء من هؤلاء، وأن يكون الثاني، أي ليعلمن هؤلاء منازلهم، وهؤلاء منازلهم في الآخرة، ويحتمل أن يكون من العلامة، وهي السِّيمَا، فلا يتعدى إلا لواحد أي ليجعلن لهم علامة يعرفون بها.
وقرأ الزُّهْرِيُّ الأولى كالمشهورة والثانية كالشاذة.
فصل
المعنى: فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم: آمَنَّا، وليعلمن الكاذبين.
قال المفسرون: ظاهر الآية يدل على تجدد العلم، والله تعال عالم بهم قبل الاختبار. ومعنى الآية: فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوحد معلومه.
وقال مقاتل: فليُرِيَنَّ الله. وقيل: ليميز الله، كقوله: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} [الأنفال: 37] .
وقال ابن الخطيب: الية محملة على ظاهرها، وذلك أن علم الله صِفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع، فَقَبْلَ التكليف كان الله تعالى يعلم أنَّ زَيْداً مثلاً سيُطِيعُ وعَمْراً سيعصي ثم وقت التكليف بالإتيان يعلم أنه أطاع، والآخر عصى، ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال، وإنما المتغير المعلوم.
ومثال ذلك في الحِسِّيَّاتِ أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت في موضع، وقوبل بوجهها جهة (ولم تحرك) ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض يظهر فيها زيد في ثوب أبيض، وإذا عبر عليها «عمرو» في ثوب أصفر يظهر فيها كذلك. فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو أنها في صقالتها اختلفت، أو يخطر بباله أنها عن مكانها انتقلت؟ لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير إنما هو الخارجات.
فعلم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال، فإن المرآة ممكنة التغيير، وعلم الله غي ممكن التغيير، فقوله: «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ» من هذا المثال يعني يعلم من علم الله أنه يأتي بالطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم.
وليعلمن الكاذبين، يعني من قال: أنا مؤمن،(15/312)
وكان كذاباً فبفرض العبادات عليه يظهر منه ذلك ويعلم.
وفي قوله: «الَّذِينَ صَدَقُوا» بصيغة الفعل، وفي قوله: «الكَاذِبِينَ» فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يَدُلُّ عليه، كما يقال: فُلاَن شَرِبَ الخَمْرَ، وفلانٌ شَارِبٌ الخَمْرَ، وفلان نفذ أَمْرُهُ، وفلان نافذ أمره، لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ، ويفهم من اسم الفاعل ذلك إذا ثبت هذا فنقول: وقت نزول الآية كانت الحكاية في قومٍ قرباءِ العهد بالإسلام في أوائل إيجاب التكاليف، وعن قوم قديمين في الكفر، مستمرين فيه. فقال في حق المؤمنين: «الذين صدقوا» بصيغة الفعل أي وُجِدَ منهم الصدق وقال في حق الذين كفروا: «الكاذبين» بالصيغة المفهمة للثبات والدوام، فلهذا قال: {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] بلفظ اسم الفاعل، لأن في اليوم المذكور يكون الصدق قد رسخ في المؤمن وهو اليوم الآخر.(15/313)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات} «أم» هذه منقطعة، فتقدر ببل والهمزة عند الجمهور، والإضراب انتقال لا إبطال.
قال ابن عطية: أم معادلة للألف في قوله: «أحسب» وكأنه عزّ وجلّ قرر الفريقين، قرر المؤمنين أنهم لا يفتنون، وقرر الكافرين أنهم يسبقون نقمات الله.(15/313)
قال أبو حيان: «ليست معادلة» ؛ إذ لو كانت كذلك لكانت متصلة، ولا جائز أن تكون متصلة لفقد شرطين:
أحدهما: أن ما بعدها ليس مفرداً، ولا ما في قوته.
والثاني: أنه لم يكن هنا ما يجاب به من أحد شيئين أو أشياء.
وجوز الزمخشري في «حسب» هذه أن تتعدى لاثنين، وجعل «أن» وما في خبرها سادةً مسدهما، كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} [البقرة: 214] ، وأن تتعدى لواحدٍ على أنها مضمنة معنى «قدر» ، إلا أن التضمين لا ينقاس
قوله: «ساء ما يحكمون} يجوز أن تكون» ساء «بمعنى بئس فتكون» ما «إما موصولة بمعنى الذي، و» يحكمون «صلتها، وهي فاعل ساء، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم.
ويجوز أن تكون» ما «تمييزاً، و» يحكمون «صفتها، والفاعل مضمر يفسره» ما «والمخصوص أيضاً محذوف.
ويجوز أن تكون ساء بمعنى قَبُحَ، فيجوز في» ما «أن تكون مصدرية، وبمعنى الذي، ونكرة موصوفة، وجيء ب» يحكمون «دون» حكموا «إما للتنبيه على أن هذا ديدنهم وإما لوقوعه موقع الماضي لأجل الفاصلة.
ويجوز أن تكون ما مصدرية وهو قول ابن كَيْسَانَ فعلى هذا يكون التمييز محذوفاً، والمصدر المؤوّل مخصوص بالذم أي ساء حكماً حكمُهُمْ.(15/314)
وقد تقدم حكم» ما «إذا اتصلت ببئس مشبعاً في البقرة.
فصل
لما بين حسن التكليف بقوله: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب، وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الاستقبال، ولا يفوت الله شيء. في الحال ولا في المآل.
فقوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} يعني الشرك» أن يسبقونا «أي يعجزونا ويفوتونا، فلا نقدرعلى الانتقام منهم {ساء ما يحكمون} بئس ما حكموا حين ظنوا ذلك.
قوله: {مَن كَانَ يَرْجُو} يجوز أن تكون من شرطية، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبهها بالشرطية.
فإن قيل: المعلق بالشرط عُدِمَ عَدَم الشرط، فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتياً له، وهذا باطل، لأن أجل الله آت لا محالة من غير تقييد بشرط؟
فالجواب: أن قوله: {فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ} ليس بجواب، بل الجواب محذوف، أي فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً كما قد صرح به.
وقال ابن الخطيب: المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما يعده من الثواب أي من كان يرجو لقاء الله فإن أجره لآتٍ بثواب الله، أي يُثَابُ على طاعته، ومن لا يرجو لقاء الله آتياً له على وجه الثواب.
فصل
قال ابن عباس ومقاتل: من كان يخشى البعث والحساب. والرجاء بمعنى الخوف. وقال سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله فإن أجل الله يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب.(15/315)
وقال مقاتل: يعني أن يوم القيامة لكائن والمعنى: أن من يخشى الله ويأمله فليستعد له، وليعمل لذلك اليوم، كقوله {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً} [الكهف: 110] الآية كما تقدم.
{وهو السميع العليم} ولم يذكر صفة غيرهما، لأنه سبق القول في قوله: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا} وسبق القول بقوله: {وهم لا يفتنون} وبقوله: {فليعلمن الله الذين صدقوا} وقوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما يدرك بالبصر، ومنه ما لا يدرك به، والعلم يشملهما، فقال: {وَهُوَ السميع العليم} أي يسمع ما قالوه، ويعلم من صدق فيما قال، ومن كذب أو عليم بما يعمل فيثيب ويعاقب.
قوله: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي له ثوابه، والجهاد هو الصبر على الشدة، ويكون ذلك في الحرب، وقد يكون على مخالفة النفس.
فإن قيل: هذه الآية على أن الجزاء على العمل واجب، فإن قوله: {فإنما يجاهد لنفسه} يفهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح.
فالجواب: هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق.
فإن قيل: قوله «فإنما» يقتضي الحصر، فيكون جهاد المرء لنفسه فقط ولا ينتفع به غيره وليس كذلك، فإن من جاهد ينتفع به هو، ومن يريد نفعه حتى إن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعون به.
فالجواب: أن ذلك نفع له، فإن انتفاع الولد انتفاع للأب، والحصر هنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع، ويدل عليه قوله: {إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين} أي عن أعمالهم وعبادتهم.
قوله: «والَّذِينَ آمنُوا» يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء والخبر جملة القسم المحذوفة وجوابها أي: والله لنكفرن. ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر عل الاشتغال، أي: وليخلص الذين آمنوا من سيئاتهم.
والتكفير: إذهاب السيئة بالحسنة، والمعنى: لنُذْهِبَنَّ سيئاتهم حتى تصير بمنزلة من لم يعمل.
فإن قيل: قوله: فلنكفرن (عنهم سيئاتهم يستدعي وجود السيئات حتى تكفر، «والذين آمنوا عملوا الصالحات» بأسرها من أين يكون) لهم سيئة؟
فالجواب: ما من مكلف إلا وله سيئة، أما غير الأنبياء فظاهر، وأما الأنبياء فلأن(15/316)
ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى:
{عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] .
قوله: {أَحْسَنَ الذي كَانُواْ} ، قيل: على حذف مضاف، أي: ثواب الذي فالمراد بأحسن هنا مجرد الوصف.
قيل: لئلا يلزم أن يكون جزاؤهم مسكوتاً عنه، وهذا ليس بشيء، لأنه من باب الأولى إذا جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى.
قال المفسرون: يجزيهم بأحسن أعمالهم وهو الطاعة.
وقيل: يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن، كما قال: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] قوله: «حُسْناً» فيه أوجه:
أحدها: أنه نعت مصدر محذوف أي (إيصَاءً) حسناً، إما على المبالغة جعل نفس الحسن، وإما على حذف مضاف (أي: ذا حُسنٍ) .
الثاني: أنه مفعول به، قال ابن عطية: «وفي ذلك تجوز» ، والأصل ووصينا الإنسان بالحسن في فعله مع والديه، ونظير ذلك قول الشاعر:
4025 - عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إذْ تَشْكُونَا ... وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إذْ يُوصينا
خَيْراً بِهَا كَأَنَّمَا خَافُونَا ... ومنه قول الحطيئة:
4026 - (وَصَّيْتَ مِنْ بَرَّةَ قَلْباً حَرَّا ... بِالْكَلْبِ خَيْراً وبِالحَمَاةِ شَرَّا(15/317)
وعلى هذا فيكون الأصل: وصيناه بحسن في بر والديه، ثم جر «الوالدين» بالهاء فانتصب حسناً وكذلك البيتان. والباء في الآية والبيتين في هذه الحالة للظرفية.
الثالث: أن «بوالديه» هو المفعول الثاني، فنصب «حسناً» بإضمار فعل، أي يحْسُن حسناً، فيكون مصدراً مؤكداً كذا قيل.
وفيه نظر، لأَنَّ عامل الؤكد لا يحذف.
الرابع: أنه مفعول به على التضمين أي من ألزمناه حسناً.
الخامس: أنه على إسقاط الخافض أي «بحُسْنٍ» .
وعبر صاحب التحرير عن ذلك بالقطع.
السادس: أن (بعض) الكوفيين قدره ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسناً. وفيه حذف «أن» وصلتها، وإبقاء معمولها، ولا يجوز عند البصريين.
السابع: أن التقدير: وصيناه بإيتاء والديه حسناً. وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله ولا يجوز
الثامن: أنه منصوب انتصاب «زيداً» في قولك لمن رأيته متهيئاً للضرب «زَيْداً» أي اضرب زيداً، والتقدير هنا: أَوْلهما حسناً، أو افعل بهما حسناً. قالهما الزمخشري.(15/318)
وقرأ عيسى والجحدري: «حَسَناً» وهما لغتان، كالبُخْل والبَخَل. وقد تقدم ذلك في أوائل البقرة.
وقرىء: إحساناً، من قوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] .
فصل
معنى حسناً أي برّاً بهما، وعطفاً عليهما، والمعنى: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن. نزلت هذه الآية، والتي في سورة لقمان والأحقاف في سعد بن أبي وقاص، وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري وأمه حثمْنَةُ بنت أبي سفيان بن أمية من عبد شمس، لما أسلم، وكان من السابقين الأولين وكان باراً بأمه، قالت أمه: ما هذا الدين الذي أَحْدَثْتَ؟ والله لا آكلُ ولا أشربُ حتى ترجعُ إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر، ويقال: يا قاتل أمِّهِ.
ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب (ولم تَسْتَظِلَّ فأصبحت قد جهدت، ثم مكثت يوماً آخر لم تأكل ولم تشرب) فجاء «سعد» إيلها، وقال يا أُمَّاهُ: لو كانت مائة نفس (فخرجت نفسا) نفساً ما تركت ديني فكُلِي، وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلست وشربت فأنزل الله هذه الآية، وأمره الله بالبر بوالديه والإحسان إليهما.
واعلم أنه إنما أمر بالإحسان للوالدين لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة، والله تعالى بسبب له في الحقيقة بالإرادة، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله (معه) .(15/319)
قوله: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} .
قال عليه (الصلاة) والسلام: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في معصية الله» ثم أوعد بالمصير إليه، فقال: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها كأنه تعالى يقول: لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي، وعدم علمي بمخالفتكم فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه.
قوله: «والذين آمَنُوا» يجوز فيه الرفع على الابتداء، والنصب على الاشتغال.
وقوله: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} أي نجعلهم منهم، وندخلهم في أعدادهم، كما يقال: الفقيه داخل في العلماء. والمعنى: نجعلهم من جملة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء. وقيل: في مَدْخَل الصالحين وهو الجنة.
فإن قيل: ما الفائدة في إعادة {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ؟
فالجواب: أنه ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولاً، لبيان حال المهتدي وثانياً، لبيان حال الهادي لأنه قال أولاً: {لنكفرن عنهم سيئاتهم.
وقال ثانياً: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} والصالحين هم الهداة، لأنها مرتبة الأنبياء، ولهذا قال إبراهيم - عليه (الصلالة) والسلام: «والحقني بالصَّالِحينَ» .(15/320)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله} المكلفون ثلاثة أقسام: مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده، وكافر مجاهر بكفره، وعناده، ومذبذب بينهما ويظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر، فالله تعالى لما بين القسمين الأولين بقوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} إلى قوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} بين القسم الثالث وهو المنافق فقال: {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله} أصابه بلاء من الناس افتتن، {جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} أي جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة أي جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه، قال(15/320)
السدي، ابن زيد هذا (في) المنافق إذا أوذي في الله رَجَعَ عن الدين وكفر.
واعلم أنه قال: «فتنة الناس» ولم يقل: «عذاب الناس» ؛ لأن فعل العبد ابتلاه من الله، والفتنة تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فبين منزلته، كما جعل التكاليف ابتلاءً وامتحاناً، وهذا إشارة (إلى) أن الصبر على البلية الصادرة (من الإنسان) كالصبر (على العبادات) فإن قيل: هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه - احْتِرازاً عن العذيب العاجل - يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله.
فالجواب: ليس كذلك لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً بل في بطنه الإيمان. قوله: {وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ} أي فتح ودولة للمؤمنين «ليقُولُّنَّ» يعني هؤلاء المنافقين للمؤمنين {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} على عدوكم، وقال: {وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ} ولم يقل: «ولئن جَاءَكُمْ» «ولئن جاءك» والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون إنا معكم، وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين: «إنّا معكم» إذا جاء النصر لا يجيء إلا للمؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} [الروم: 47] ، ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة، بدليل أن أحد الجيشين إذا انهزم في الحال ثم ذكر المهزوم كرة أخرى وهزموا الغالبين لا يطلق اسم النصر إلا على من كان له العاقبة فكذلك المسلم وإن كسر في الحال فالعاقبة للمتقين، اولنصر لهم في الحقيقة. فإن قيل: {ولئن جاء نصر من ربك} ولم يقل: «من الله» من أن ما تقدم كله يذكر الله كقوله: {أُوذِيَ فِي الله} ، وقوله: «كعذاب الله» فما الحكمة في ذلك؟
فالجواب: لأن - «الرب» - اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة، و «الله» اسم مدلوله الهيبة والعظمة، فعند النصر ذكر الاسم الدال على الرحمة والشفقة، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة.
قوله: «لَيَقُولُنَّ» العامة على ضم اللام، أسند الفعل(15/321)
لضمير جماعة، حملاً على معنى «مَنْ» بعد أن حمل على لفظها، ونقل أبو معاذ النحوي أنه قراىء: ليقولّنَّ بالفتح، جرياً على مراعاة لفظها أيضاً، وقراءة العامة أحسن لقوله: «إنَّا كُنَّا» .
فصل
المعنى: إن المنافقين لما قالوا إنا كنا معكم، أي على عدوكم وكنا مسلمين، وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فكبهم (الله) وقال: {أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين} من الإيمان والنِّفاق ولما بين أنه علم بما في قلوب العالمين بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم، والمنافق وإن لم يتكلم فقال: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ} صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء، «وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ» بترك الإسلام عند البلاء، وتقدم الكلام على (نظر) ذلك. (قال عكرمة) عن ابن عباس إنها نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى «بدر» ، وهم الذين نزلت فيهم: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} ، وقال مجاهد: نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس، أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا، وقال قتادة: نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة.(15/322)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا} قال مجاهد: هذا قول كفار مكة لمن آمن منهم وذلك أن الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل، وعلى الإيذاء لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا فيجيبه المؤمن بأن يقول خوفاً من عذاب الله على خطيئة مذهبكم فقالوا: لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطئية فعلينا.
قوله: «وَلْنَحْمِلْ» أمر في معنى الجنس، قال الزمخشري: وهو في معنى من يريد اجتماع أمرين في الوجهين فيقول: ليكن منك العطاء، ومني الدعاء.
فقوله: «ولنحمل» أي ليكن منا الحِمْل، وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب وقرأ الحَسَن وعيسى بكسر لام الأمر، وهو لغة الحجاز قال الزمخشري: «وَهذا قول صناديد قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم لا نبعث نحن، ولا أنتم، فإن عيسى كان ذلك فإنا نتحمل (عنكم الإثم) . قال أبو حيان:» هذا تركيب عجمي من جهة إدخال حرف الشرط وهي جامدة واستعمالها من غير اسم، ولا خبر، وإيلائها كان «. وقرأ العامة» خطاياكم «، وداود بن هند:» من خطيئاتهم «جمع سلامة، وعند أيضاً:» خطيئتهم «بالتوحيد والمراد الجنس، وهذا شبيه بقراءتي: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} و» خطيئاته «وعنه أيضاً:» خطَئهم «- بفتح الطاء وكسر الياء، يعني بكسر الهمزة القريبة من الياء لأجل تمهيدها بين بين، و» من شيء «وهو مفعول بحاملين و» من خطاياهم «لما تقدم عليه انتصب حالاً.
فصل
معنى الآية اتبعوا سبيلنا أي ديننا وملة آبائنا، ونحن الكفلاء بكل تبعية من الله(15/323)
تصيبكم وهو قوله:» ولنحمل خطاياكم «، نظير هذه الصيغة: {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} ثم أكذبهم الله تعالى فقال: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما قالوا.
فإن قيل: قال: {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء} وقال بعده: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} فنفى الحمل أولاً، وأثبت الحمل ثانياً فكيف الجمع بينهما؟
فالجواب: أن قول القائل في» حمل فلان وعن فلان «يريد: أن حمل فلان خف، فإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل عنه شيئاً، فقوله: {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء} يعني (لا يرحمون) ولا يرفعون عنهم خطيئة، بل يحملون أوزار أنفسهم، وأوزاراً بسبب إضلالهم (لهم) ، كقوله (عليه الصلاة) والسلام:» مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا منْ غَيْرِ أن يَنْقُصَ من وِزِرْهِ شَيْء «، والمعنى: وليحملن أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم،» أثقالاً مع أثقالهم «أو أوزاراً مثل أوزار من أضلوا مع أوزارهم، كقوله: {وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} .
قوله: {وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} سؤال توبيخ وتقريع، وذلك الافتراء يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: قولهم: «ولنحمل خطاياكم» كان لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك، فيسألون عن ذلك الافتراء.
وثانيها: أن قولهم «ولنحمل خطاياكم» كان لاعتقادهم أن لا حشر، فإذا جاء يوم القيامة ظهر خلاف ذلك، فيسألون يوقول لهم: أما قلتم: أن لا حشر.
وثالثها: أنهم لما قالوا: نحمل خطاياكم يوم القيامة، يقال لهم: فاحملوا خطايهم، فلا يحملون ويسألون فيقال لهم: فَلَمَ افتريتم.(15/324)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ... } لما بين التكليف، وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم(15/324)
فكأنه قال: هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم بل قبله كان كذلك كما قال تعالى: {ولقد فتنا الذين من قبلهم} ، فذكر من الذين كلفوا قبله نوح عليه (الصلاة و) السلام وقومه، وإبراهيم عليه (الصلاة و) السلام وغيرهما.
قوله: «ألْفَ سَنَةٍ» منصوب على الظرف {إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} منصوب على الاستثناء. وفي وقوع الاستثناء من أسماء العدد خلاف. وللمانعين عنه جواب عن هذه الآية، وقد روعيت هنا نكتة لطيفة، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول «سنة» ، وفي «الثاني» عاماً، لئلا يثقل اللفظ، ثم إنه خص لفظ العام بالخميس إيذاناً بأن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما استراح منهم بقي في زمن حسن، فالعرب تعبر عن الخَصْب بالعام، وعن الجَدْب بالسنة.
فصل
قال بعضهم: إن الاستثناء في العدد تكلم بالباقي، فإذا قال القائل: لفلان عَلَيَّ عشرة إلا ثلاثةً فكأنه قال: عليّ سبعة، إذا علم هذا فقوله: {ألف سنة إلا خمسين عاماً} كقوله: تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها؟ فقال الزمخشري فيه فائدتان، إحداهما: أنّ الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب، فإن من قال: عاش فلان ألفَ سنة (يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة) تقريباً لا تخفيفاً، فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم، وقد يفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية: هي أن ذكر لَبْثِ نوح عليه (الصلاة و) السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه (الصلاة و) السلام أولى بالصبر مع قِصَرِ مُدَّةِ (دُعَائِهِ) .
قوله: «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ» فغرقوا «وَهُمْ ظَالِمُونَ» قال ابن عباس: مشركون. وفيه إشارة إلى أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم ولا يعذب من ظلم وتاب بأن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم، فقوله: «وهم ظالمون» يعني أهلكهم وهم ملتبسون بالظلم.
قوله: {فَأَخَذَهُمُ الطوفان} يعني من الغرق، «وجعلناها» يعني السفينة «آية للعالمين» أي عبرة، وفي كونها آية وجوه:(15/325)
أحدُها: كانت باقية على الجُودِيِّ مدة مديدة.
وثانيها: أن نوحاً أمر بأخذ قومه معه، ورفع قدر من الزاد والبحر العظيم لا يتوقع أحد (نُضُوبَه) . ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد، ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة.
وثالثها: أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة والحيوانات المؤذية، ولولا ذلك لما حصل النجاة، وقيل: «الهاء» في «جَعَلْنَاهَا» راجعة إلى الواقعة أو النجاة أو العقوبة بالغرق.
فصل
قال ابن عباس بُعِثَ نوح لأربعين سنة، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسينَ عاماً، وعاش بعد الطُّوفَان ستينَ سنة حتى كثر الناس وفَشَوْا، وكان عمره ألفاً وخَمْسِينَ سنةً، وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة، وعاش بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة، فإذا كان هذا محفوظاً عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة، وأما قبره عليه (الصلاة و) السلام بالمسجد الحرام. وقيل: ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح وهناك جامع قد بني بسبب ذلك، والأول أقوى وأثبت.(15/326)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
قوله تعالى: «وَإِبْرَاهِيمَ» أي «وأرْسَلْنَا إبْرَاهِيم» ، والعامة على نصبه عطفاً(15/326)
على «نوحاً» ، أو بإضمار «اذكر» ، أو عطفاً على «هاء» «أنجيناه» ، والنخعي، وأبو جعفر، وأبو حنيفة: «وإبْرِاهيمُ» رفعاً على الابتداء، والخبر مقدر أي ومن المرسلين إبراهيم، وقوله: «إذْ قَالَ» بدل من «إبْرَاهِيمَ» بدل اشتمال، فإن قلنا: هو ظرف «أرْسَلْنَا» أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه، ففيه إشكال، لأن قوله لقومه «اعبدوا الله» دعوة، والإرسال يكون قبل الدعوة، فكيف يفهم من قوله: وأرْسَلْنَا إبراهيم حِينَ قال لقومه مع أنه يكون مرسلاً قبل ذلك؟
فالجواب: هذا كقول القائل: «وَقَفْتُ للأَمِير إذْ خَرَجَ مِنَ الدَّارِ» ، وقد يكون الوقوف قبل الخروج لكن لما كان الوقوف يمتد إلى ذلك الوقت صح ذلك.
فصل
معنى {اعبدوا الله واتّقوه} أطيعوا الله وخافوه، وقيل: «اعبدوا الله» إشارة إلى الإتيان بالواجبات «واتّقوه» إشارة إلى الامتناع عن المحرمات، {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي عباد الله وتقواه خير، لأن خلاف عبادالله تعطيل، وخلاف تقواه شرك، وكلاهما شر، {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً} أصناماً، فلا تستحق العبادة لكونها أصناماً منحوتة لا شرف لها.
قوله: «وَتَخْلُقُونَ إفْكاً» العامة على فتح التاء، وسكون الخاء، ورفع اللام مضارع «خلق» و «إفْكاً» بكسر الهمزة وسكون الفاء، أي وتختلقون كذباً، أو تنحتون أصناماً، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن علي والسُّلَيْميّ، وقتادةُ بفتح الحاء واللام مشددة، وهو مضارع «تَخَلَّقَ» والأصل: «تَتَخَلقونَ» بتاءين فحذفت إحداهما «كَتَنَزَّلَ»(15/327)
ونحوه، روي عن «زيد بن علي» أيضاً تُخَلُقون بضم التاء وتشديد اللام مكسورة مضارع «خلّق» مضعفاً، وقرأ ابن الزبير، وفُضَيْل بن زَرْقَانِ إفكاً - بفتح الهمزة وكسرها - وهو مصدر كالكذب معنى ووزناً، وجوز الزمخشري في الإفْكِ - بالكسر والسكون - وجهين:
أحدهما: أن يكون مخففاً من الأَفِك بالفتح والكسر كالكَذِب واللَّعِب، وأصلها: (الكِذْب واللّعْب) وأن يكون صفة على «فِعْلِ» أي خلقاً إفْكاً أي «ذَا إفْكٍ» .
قال شهاب الدين: وتقديره مضافاً قبل «إفك» مع جعله له صفة غيرُ مُحْتَاجٍ إليه (وإنما كان يُحْتَاجُ إليه) لو جعله مصدراً.
قوله: {إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} لا يقدرون أن يرزقوكم، وهذا إشارة إلى عدم المنفعة في الحال والمآل. قوله: «رزقاً» يجوز أن يكون منصوباً على المصدر، وناصبه «لا يملكون» ؛ لأنه في معناه، وعلى أصول الكوفيين يجوز أن يكون الأصل: لا يملكون أن يَرْزُقُوكُمْ رزقاً، فإن «يرزقوكم» هو مفعول «يملكون» ، ويجوز أن يكون بمعنى «المرزوق» فينتصب مفعولاً به، «فابْتَغُوا» فاطلبوا «عند الله الرزق» (و) هذا إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته.
فإن قيل: قال: {لا يملكون لكم رزقاً} نكّر الرزق وقال: {فابتغوا عند الله الرِّزْقَ} فعرفه، فما الفائدة؟ قال الزمخشري نكره في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلاً، وعرفه عند الإثبات عند الله تعالى أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه. وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من الله معروف بقوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] والرزق من الأوثان غير معلوم، فقال: {لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} لعدم حصول العلم به، وقال: {فابتغوا عِندَ الله الرزق} أي الموعود به، ثم قال: {واعبدوه واشكروا لَهُ} اعبدوه لكونه مستحقاً للعبادة لذاته، فاشكروا له لكونه(15/328)
سائق النعم إلى الخلق «وإليه ترجعون» أي اعبدوه، لكونه مرجاً منه يتوقع الخير لا من غيره. قوله: {وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} في المخاطب بهذه الآية وجهان:
الأول: أنه قوم إبراهيم؛ لأن القصة لإبراهيم، فكأن إبراهيم قال لقومه: إن تكذبوا فقد كَذَّب أُمَمٌ من قبلكم وأنا أتيت بما عليّ من التبليغ، فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان. فإن قيل: إن إبراهيم لم يسبقه إلا قومُ نوح، وهم أمة واحدة.
فالجواب: إن قبل نوح أيضاً كان أقوام كقوم «إدْرِيسَ» ، وقوم «شِيتَ» ، وآدَمَ، وأيضاً فإن نوحاً عاش أكثر من ألف سنة، وكان القرن يموت، ويحيا أولاده، والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الأتْبَاعِ، فكفى بقوم نوحٍ أمماً.
الثاني: أن الآية خطاب مع قوم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأن هذه القصص أكثرُها المقصودُ معه تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا عن التكذيب، ويرتدعوا خوفاً من التعذيب، فقال في أثناء حكاياتهم: يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام هلكوا، فإن كذبتم فإني أخاف عليكم أن يقع بكم ما وقع بغيركم.
وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأن الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فلم يأت بالبلاغ المبين.(15/329)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ} قرأ الأخوان وأبو بكر بالخطاب، على خطاب «إبراهيم» لقومه بذلك، والباقون بالغيبة، ردّاً على الأمم المكذبة.
قوله: «كَيْفَ يُبْدِىءُ» ، العامة على ضم الياء من «أَبْدَأَ» والزُّبَيْرِيُّ، وعيسى، وأبو(15/329)
عمرو بخلاف عنه يَبْدَأُ مضارع بَدَأَ. وقد صرح بماضيه هنا حيث قال: {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} ، وقرأ الزهري: «كيف يبدأ» بألف (صريحة وهو تخفيف على غير قياس، وقياسه بين بين وهو في الشذوذ كقوله:
4027 - ... ... ... ... ... ... ..... فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ المَرْتَعُ
فصل
المعنى: أو لم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة ثم علقه، ثم مضغة.
فإن قيل: متى رأى الإنسان بَدْءَ الخلق، حتى يقال: {أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق} ؟
فالجواب: إن المراد بالرؤية العلم الواضح الذي كالرؤية، والعاقل يعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق، وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أول، فهو من الله، هذا غن قلنا: إن المراد إتيان نفس الخلق وغطن قلنا: إن المراد بالمبتدأ خلق الآدمي أولاً، وبالإعادة خلقه ثانياً، فنقول: العاقل لا يخفى عليه أن خلق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام، والخلقة من نظفة في غاية الإتقان والإحام فذاك الذي خلق أولاً معلوم ظاهر، فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية، وقال: {أو لم يروا} أي أو لم يعلموا علماً ظاهراً واضحاً كيف يبدأ الله الخلق وهو من غذاءٍ هو من ماءٍ وتراب يجمعه فكذلك يجمع أجزاءه من التراب وينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسب إليكم فإن من نحت حجارة حتى صارت أصناماً ثم كسرها وفرقها فإن وضعه شيئاً بجنب شيء في هذه النوبة أسهل، لأن الحجارة منحوته معلومة.
فإن قيل: علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق، ولم يقل: أو لم يروا أن الله خلق او بدأ الخلق والكيفية غير معلومة.
فالجواب: هذا القدر من الكيفية معلوم وهو أنه خلقه ولم يك شيئاً مذكوراً، وأنه خلقه من نطفة من غذاء هو من ماء وتراب، وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة.(15/330)
فإن قيل: قال: «ثم يعيده» «إن ذلك على الله يسير» أبرز اسمه مرة أخرى ولم يقل: إن ذلك عَلَيْهِ يسير كما قال: «ثم يعيده» من غير إبراز.
فالجواب: أنه مع إقامة البرهان على أنه يسير أكده بإظهار اسمه، فإنه يوجب المعرفة أيضاً بكَوْنِ ذلك يسيراً فإن الإنسان إذا سمع لفظ «الله» وفهم معناه أنه الحَيُّ القادر بقُدْرَةٍ كاملة لا يعجزه شيء محيط بذرات كل جسم نافذ الإرادة يقطع بجواز الإعادة.
قوله: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق} أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بَدَأ بخلقهم.
فإن قيل: أبرز اسم «الله» في الآية الأولى عند البدء، فقال: {كيف يبدىء الله} وأضمره عند الإعادة، وهاهنا أضمره عند البداء، وأبرزه عند الإعادة فقال: {ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة} .
فالجواب: أنه في الآية الأولى: لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البداء فقال: {كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده} ، كقول: ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً، ولا يحتاج إلى إظهار اسم «زيد» اكتفاء الأول.
وفي الثانية: كان ذكر البداء مسنداً إلى الله فاكتفى به، ولم يبرزه، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً، فقال: {ثُمَّ الله يُنشِىءُ} مع أنه كان يكفي أن يقول: «ثم ينشىء» النشأة الآخرة لحكمة بالغة وهي أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه، حتى يفهم المسمى به صفات كماله، ونعوت جلاله، فيقطع بجواز الإعادة فقال: «ثم الله» مظهراً لينفع في ذهن الإنسان جلّ اسمه كمالل قدرته، وشمول علمه، ونفوذ إرادته، فيعترف بوقوع بدئه، وجواز إعادته، فإن قيل: فلم لم يقل: «ثُم اللَّهُ يعيده» بعين ما ذكرت من الحكمة فنقول: لوجهين.
أحدهما: أن الله كان مظهراً مبرزاً بقرب منه وهو في قوله: «يبدىء الله الخلق» ، ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق، وأما هنا فلم يذكر غير البدء فأظهره.
وثانيهما: أن الدليل هنا تم على جواز الإعادة لأن الدليل منحصر في الآفاق وفي الأنفس، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] ففي الآية الأولى أشار إلى الديل الحاصل للإنسان من نفسه، وفي الثانية أشار إلى الدليل(15/331)
الحاصل من الآفاق، لقوله: {سيروا في الأرض} وعندها تم الدليلان فأكده بإظهار نفسه، وأما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني فلم يقل: {ثم الله يعيده} فإن قيل: قال في الأولى: {أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق} بلفظ المستقبل وهاهنا قال: {فانظروا كيف بدأ} بلفظ الماضي، فما الحكمة؟
فالجواب: أن الدليل الأول النفسي الموجب للعلم، وهو يوجب العلم ببدء الخلق (وأما الدليل الثاني فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق) فانظروا إلى الأشياء المخلوقة، فيحصل لكم العلم بأن الله بدأ خلقاً، وتحصل من هذا القدر بأنه «ينشىء» فإن قيل: قال في هذه الآية: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال في الأولى: {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} (فما فائدته) .
فالجواب: فيه فائدتان:
أحدهما: أن الدليل الأول هو الدليل النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التام، ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إيه يحصل العلم التام لأنه بالنظر في نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده (منه) فتم علمه (ب) أن الله على كل شيء قدير، أن كل شيء من الله، فقال عند تمام الدليل: إن الله على كل شيء قدير، وقال عند الدليل الواحد إن ذلك على الله يسير وهو الإعادة.
الفائدة الثانية: أن العلم الأول أتم، وإن (كان) الثاني أعم، وكون الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً به، بدليل قولك لمن يحمل مائة مَنٍّ أنه قادر عليه، ولا يقول: إنه سهل عليه فإذا سئلت عن حمله عشر (أمنات) يقول ذلك سهل يسير، فنقول كان التقدير إن لم يحصل لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض ليعلموا أنه مقدور، وفنس كونه مقدوراً كاف في إمكان الإعادة.
قوله: {ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة} ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو النَّشَاءةَ، بالمد هنا،(15/332)
والنجم، والواقعة والباقون بالقص، وهما لغتان كالرأفة والرآفة، وانتصابهما على المصدر المحذوف الزوائد والأصل: الإنشاءة، أو على حذف العامل، أي ينشىء فتُنَشَّئُونَ النَّشْأَةَ، وهي مرسومة بالألف وهو يقوي قراءة المد والمعنى ثم الله الذي خلقها ينشئها نشأة ثانية بعد الموت، فكما لم يتعذر عليه إحداثُها مبتدئاً لا يتعذر عليه إنشاؤها معيداً.
وقوله: «ثم يُعِيدُه» ، {ثم الله ينشىء} مستأنفات من إخبار الله تعالى، فليس الأول داخلاً في حيز الرؤية، ولا الثاني في حيز النظر، {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .(15/333)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
قوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ} ، قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه (الصلاة و) السلام عنه تعالى: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» ؛ لأن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب يسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد، وعقبه بالرحمة فذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده، وهذا يحقق قوله عليه (الصلاة و) السلام عنه: «سبقت رحمتي غضبي» ، وذلك ان الله تعالى حيث كان المقصود ذكر العذاب، لم يخصه بالذكرن بل ذكر الرحمة معه، فإن قيل: إن كان ذكر هذه الآية لتخويف العاصي، وتفريح المؤمن، فلو قال: يعذب الكافر ويرحم المؤمن لَكَانَ أدخل في تحصيل المقصود.
وقوله: {يعذب من يشاء} لا يرهب الكافر، لجواز أن يقول: لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابي.
فالجواب: هذا أبلغ في التخويف لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته، وأنه إذا أراد(15/333)
تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه إذا شاء تعذيب الكافر فلزم منه الخوف العام بخلاف ما لو قال: يعذب العَاصي، فإنه لا يدل على كمال مشيئته لأنه لا يبعد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه، وإذا لم يبعد هذا فنقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن (لا) يحصل في صولة أخرى.
ومثاله إذا قيل: إن الملك يقدر على ضرب المخالفين، ولا يقدر على ضرب المطيع فإذا قال: من خالفني أضربه يقع في وهم المخطاب أنه لا يقدر على ضرب المطيع، فلا يقدر أيضاً عليّ (لكوني مثله) ، وفيه فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصياً.
قوله: «وإلَيْهِ تُقْلَبُونَ» أي تُرَدُّونَ، {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} والخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء، قال الفراء معناه: ولا من في السماء بمعجز (أنْ عَصَى) كقول حَسَّانَ:
4028 - فَمَنْ يَهْجُوا رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... ويَمْدحُهُ ويَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أراد: ومن يمدحه وينصره، فأضمر «مَن» يريد لا يعجز أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء يعني (على) أن {من في السموات} عطف على «أنتم» على أصله، حيث يجوز حذف الموصول الاسميّ، ويبقى صفته.(15/334)
قال قطرب: ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها، كقول القائل: (لا) يفوتني فلان هاهنا ولا في البصرة أي ولا بالبصرة لو كان بها كقوله تعالى {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض} [الرحمن: 33] ، أي على تقدير أن يكونوا فيها، وأبعد من ذلك من قدره موصولين محذوفين؛ أي) وما أنتم مبعجزين من في الأرض من الجن والإنس، ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقها (و) على قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي وما أنتم بمعجزين أين فائتين ما يريد الله بكم.
فصل
اعلم أن إعجاز المعذَّب عن التعذيب إما بالهرب منه، أو بالثبات ومدافعته فذكر الله تعالى القسمين فقال: {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} ، يعني بالهرب لو صعدتم إلى السماء، أو هربتم إلى تُخُوم الأرض (لم) تخرجوا من قبضة قدرة الله - عزّ وجلّ -، فلا مطمع في الإعجاز بالهرب، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز بالثبات إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع، ولا يمكن المعذب مخالفته فيفوته المعذب، ويعجز عنه أو بالانتصار بقويّ يدافعه، وكلاهما محال فلهذا قال: {وما لكم من دون الله من ولي} يشفع {ولا نصير} يدفع. فإن قيل: ما الحكمة في قوله: {وما أنتم بمعجزين} ولم يقل: «ولا تعجزن» بصيغة الفعل؟
فالجواب: لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحة فإن من قال: إن فلاناً لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه انه ليس بخائط، وقدم «الأرض» على «السماء» ، و «الولي» على «النصير» ؛ لأن هربهم الممكن في الأرض، فإن كان يقع منهم هرب فإنه يكون في الأرض، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيصعدون في السماء وأما الدفع فإن العاقل متى أمكنه الدفع فأجمل الطرق فيه الشفاعة، لأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملكن وليس لكل أحد ناصر يعادي الملك فلذلك قدم الأرض على السماء، والولي على النَّصِير.(15/335)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ} أي بالقرآن وبالبعث {أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} يوم القيامة فإن قيل: هلا اكتفي بقوله: «أَولَئكَ» مرة واحدة؟
فالجواب: أن لك لِفائدة وهو أنه لو قال أولئك يئسوا وهم في عذاب أليم ذهب (ذاهب) إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم، فلا يوجد المجموع إلا فيهم. (و) أضاف الرحمة إلى نفسه في قوله تعالى: {يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} وأضاف اليأس إليهم بقوله: «يَئٍسُوا» إعلاماً لعباده بعُمُومِ رحمته.
قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} العامة على نصبه والحسن وسالم الأفْطَس برفعه وتقدم تحقيق هذا. هذه الآيات في تذكير أهل إبراهيم وتحذيرهم وهي معترضة في قصة «إبراهيم» صلوات الله عليه، ثم عاد إلى قصة «إبراهيم» فقال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ} . لما أقام إبراهيم صلوات الله عليه بالبرهان على الأصول الثلاثة لم يجيبوه إلا بقولهم {اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ} فإن قيل: كيف سمى قولهم: اقتلوه جواباً مع أنه ليس بجواب؟
فالجواب عند من وجهين:
أحدهما: أنه خرج مَخْرَجَ كلام متكبر، كما يقول المَلِكُ لرسول خَصْمِهِ: جوابكُمُ السيفُ، مع أن السيفَ ليس بجوابِهِ وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل بالسيف.
وثانيهما: أن الله تعالى أراد بيان (ضلالتهم) وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في(15/336)
معرض الجواب فبيّن أنهم لم يكن لهم جوابٌ أصلا، وذلك أن من لا يجيبُ غيره ويسكت لا يعلم (أنه لا يقدر أم لا) لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات، وأما إذا أجاب بجوابٍ فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه.
فصل
«أو» تذكر لأمرين الثاني منهما لا ينفك عن الأول، كما يقال: «زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ» ، ويقال: هذا إنسان أو حيوان، يعني إن لم يكن إنساناً فهو حيوان، ولايصح أن يقال: «هذا حيوان أو إنسان» إذ يفهم منه أن يقول: هذا حيوان، فإن لم يكن حيواناً فهو إنسان، وهذا فاسد، وإذا كان كذلك فالتحريق مشتمل على القتل، فقوله: «اقتلوه أو حرقوه» كقولك: هذا إنسان أو حيوان.
فالجواب عن هذا من وَجْهَيْنِ.
أحَدهمَا: أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع كقولك: أعطه ديناراً أو دينَارَيْنِ.
قال تعالى: {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 2 - 4] فكذا هاهنا قال: اقتلوه أو زيدواعلى القتل لأن التحريق قتلٌ وزيادة.
الثاني: سلمنا ما ذكرتم، والأمر هنا كذلك لأن التحريق فعل مفض إلى القتل، وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقي في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حياً يصح أن يقال: احترق فلانٌ، وأحرق وما مات.
فكذلك هاهنا قال: اقتلوه ولا تعجلوا قتله وعَذَّبُوه بالنار، فإن ترك مقالته فخلو سبيله وإن أصرَّ فاتركوه في النار.
قوله تعالى: {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار} ، قيل: بردت النار وقيل: خلق في إبراهيم صلوات الله (وسلامه) عليه كيفية اسْتَبْرَدَتِ النارَ. وقيل: ترك إبراهيم (على) ما كان عليه (والنار على ما كانت عليه) وَمنع أذى النار عنه، والْكُلّ ممكنٌ والله قادر عليه.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فإن قيل: ما الحكمة في قوله هناك «آية للعالمين» في إنجاء نوح صلوات الله (وسلامه) عليه وأصحاب السفينة جعلناها آية وقال هاهنا آيات بالجمع، فما الحكمة؟(15/337)
فالجواب: إن إنجاء السفينة شيء يتسع له العقول، فلم يكن فيه من الآية إلا إعلام الله تعالى إياه بالإنجاء وقت الحاجة بسبب أن الله تعالى صان السفينة عن المهلكات كالرياح، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه لآيات فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى هنا: «آيةٌ لِلْعَالِمِينَ» وقال هنا «لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» فخص الآيات بالمؤمنين؟
فالجواب: أن السفينة بقيت أعواماً حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد، وأما تبريد النار فلم يبق فلم يظهر (لمن بعده) إلا بطريق الإيمان والتصديق، وفيه لطيفة (وهو) أن الله تعالى لما بَرَّد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه، وقد قال الله تعالى للمؤمنين بأن لهم أسوة في إبراهيم، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله تبارك وتعالى يبرد عنه النار يوم القيامة، فقال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، فإن قيل: لم قال هناك: «جَعَلْنَاها» ، (وقال هنا جَعَلْنَاهُ) ؟
فالجواب: لأن السفينة ما صارت آية في نفسها، ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح (سفهاً) فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية، وأما تبريد النار فهو في نفسه (آية) إذا وجدت لا تحتاج إلى شيء آخر كخلق الطوفان حتى يصير آيةً.
قوله: «إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ» في «ما» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف وهو المفعول الأول، و «أَوْثَانًا» مفعول ثان، والخبر «مَوَدَّةُ» في قراءة من رفع كما سيأتي، والتقدير: إنْ الذي اتَّخَذْتُمُوهُ أوْثَاناً مودةٌ أي ذو مودة أو جعل نفس المودة محذوف على قراءة من نصب «مَوَدَّةً» أي الذي اتخذتموه أوثاناً لأجل المودة لا تنفكم، أو يكون «عليكم» لدلالة قوله: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} .
والثاني: أن تجعل «ما» كافة، و «أوثاناً» مفعول به، والاتخاذ هنا يتعدى لواحد(15/338)
أو لاثنين والثاني هو {مِّن دُونِ الله} فمن رفع «مودة» كانت خبر مبتدأ مضمر أي هي مودة أي ذات مودة، أو جعلت نفس المودة مبالغة والجملة حينئذ صفة «لأوثاناً» ، أو مستأنفة، ومن نصب كانت مفعولاً به، أو بإضمار «أعْنِي» .
الثالث: أن تجعل «ما» مصدرية، وحينئذ يجوز أن تقدر مضافاً من الأول أي أن سبب اتخاذكم أوثاناً من دون الله (مودة فيمن رفع مودة، ويجوزأن لا يقدر بل يجعل نفس الاتحاد) هو المودة مبالغة (و) في قراءة من نصب يكون الخبر محذوفاً على ما مَرَّ في الوجْهِ الأوّل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع «مَوَدَّةُ» غير منونة، وجر «بَيْنِكُمْ» ، ونافع وابن عامِرٍ وأبو بكر بنصب «مَوَدَّةً» (منونة ونصب «بَيْنَكُمْ» وحمزة وحفص بنصب «مودةً» ) غير منونة وجر بَيْنِكُمْ، فالرفع قد تقدم، والنصب أيضاً تقدم فيه وجهان. ويجوز وجه ثالث وهو أن يجعل مفعولاً ثانياً على المبالغة والإضافة للاتساع في الظرف كقولهم: «يا سارقَ الليلةَ أهْل الدَّارِ» من صبه فعلى أصله، ونقل عن عاصم أنه رفع «مودة» غير منونة، ونصب بينكم وخرجت إضافة «مودة» للظرف،(15/339)
وإنما بني لإضافته إلي غير متمكن كقراءة: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بالفتح إذا جعلنا (بَيْنَكُمْ) فاعلاً، وأما «في الحياة» ففيه أوجُهٌ:
أحدها: أنه هو وبينكم متعلقان «بمودة» إذا نونت جاز تعلقها بعامل واحد لاختلافهما.
الثاني: أن يتعلقا بمحذوف على أنهما صفتان ل «المودة» .
الثالث: أن يتعلق «بَيْنِكُمْ» «بِمودّة» و «في الحياة» صفة لمودة، ولا يجوز العكس لئلا يلزم إعمال المصدر الموصوف، والفرق بينه وبين الأول عمل فيه المصدر قبل أن يوصف، وهذا عمل فيه بعد أن وصف، على أن ابن عطية جوز ذلك هو وغيره، وكأنهم اتسعوا في الظرف، فهذا وجه رابع.
الخامس: أن يتعلق «في الحياة» بنفس «بينكم» لأنه بمعنى الفعل، (إذ) التقدير: اجتماعكم ووصلكم.
السادس: أن يكون حالاً من نفس «دينكم» .
السابع: أن يكون «بيْنكم» صفة المودة و «في الحياة» ، حال من الضمير المستكن فيه.
الثامن: أن يتعلق «في الحياة» «باتخذتم» على أن يكون «ما» كافة و «مودة» منصوبة، قال أبو البقاء: لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة (بالخبر) .
قوله: «وقال» يعني إبراهيم {إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم} ، فعلى قراءة رفع «مودة» وخفض «بينكم» بالإضافة يكون المعنى: اتخذتم من دون الله أوثاناً وهي مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة، ومن خفض «مودة» من غير تنوين على الإضافة لوقوع الاتخاذ عليها، ومن نصب «مودة» ونونها ونصب «بينكم»(15/340)
فالمعنى: إنكم إنما اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا تتوادُّونَ على عبادتها، وتتواصلون عليها في الدنيا {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ} تتبرأ الأوثان من عبادة عباديها وتتبرأ السادة من الأتباع، ويلعن الأتباع القادة.
ومأواكم النار جميعاً، العابدون والمعبودون {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} .
فإن قيل: (قال قبل هذا) ومأواكم النار، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير على لفظ الواحد.
وقال هنا: {وما لكم من ناصرين} على لفظ الجمع فما الحكمة فيه؟
فالجواب: أنهم لما أرادوا إحراق إبراهِيمَ عليه (الصلاة و) السلام، قالوا: نحن ننصر آلهتنا، كما قال تعالى (عنهم) : حَرِّقُوه وانصروا آلهتكم، فقال: أنتم ادَّعَيْتُم أن لهؤلاء ناصرينَ فما لكم كلكم أي الأوثان وعبدتهما من ناصرين، وأما هناك فلم يسبق منهم دعوى النصر فنفى الجنس بقوله: «ولا نصير» .(15/341)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أي صدقه، وهو أول من صدق إبراهيم، وكان ابن أخيه وقال إبراهيم: {إني مُهَاجر إلى ربي} إلى حيث أمرني ربي بالتوجه إليه من «كوثا» وهو من سواد الكوفة إلى «حران ثم إلى الشام ومعه» لوط «وامرأته» سارة «وهو أول من هاجر» . وقال مقاتل: هاجر إبراهيم (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) وهو ابن خَمْسٍ وسبعينَ سنةً. ثم قال: {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، عزيز يمنع أعدائي عن إيذائي بعونه، و «حكيم» لا يأمرني إلا بما يوافق الحكمة.
(فإن قيل) : قوله {فآمن له لوط} أي بعد ما رأى منه العجز القاهر، ودرجة لوط كانت عالية فبقاؤه إلى هذه الوقت مما ينقص من الدرجة، ألا ترى إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما قبل دين محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان قبوله قبل الكل من غير سماع تكلم الخصَى، ولا رُؤية انْشِقَاق القَمَر.
فالجواب: أن لوطاً لما رأى معجزته آمن برسالته، وأما بالوحدانية فآمن مِن حيث سمع مقالته، ولهذا قال: {فآمن لوط} ، ولم يقل: «فآمن لوط» .(15/341)
فإن قيل: ما وجه تعلق قوله: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} بما تقدم؟
فنقول: لما بالغ إبراهيم في الإرشاد، ولم يهتدِ قومه وحصل اليأس الكلي، ورأى القوم الآية الكبرى ولم يؤمنوا وجبت المهاجرة، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسد، لأنه إذا دام على الإرشاد كان اشتغالاً بما لا ينتفع في علمه، فيصير كمن يقول للحجر صدق، وهو عبث والسكوت دليل الرضا فيقال: إنه صار منا، ورضي بأفعالنا، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} ولم يقل: «مهاجر إلى حيثُ أمرني ربي} مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة.
فالجواب: أن قوله {إلى ربي} ليس في الإخلاص، كقوله:» إلَى رَبِّي «لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى موضع ثم إن واحداً منهم عاد إلى ذلك الموضع لغرض (في) نفسه يصيبه، فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصاً لوجهه، وقال: {مهاجر إلى ربي} يعني: توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة، إنما طلب لله.
قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة} ، قِيلَ: إن الله لم يبعث نبياً بعد» براهيم «إلا من نَسْلِهِ، {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا} وهو الثناء الحسن، وكل الأديان يقولون به، وقال السدي: هو الولد الصالح، وقيل: إنه رأى مكانه في الجنة {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس:» مثل آدم، ونوح «وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الله تعالى بدّل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما عذبه قومه بالنار كان وحيداً فريداً، فبدل الله وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كانت أقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم» آزر «بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب، وكان أولاً لا جاه له، ولا مال، وهم غاية اللذة في الدنيا آتاه الله أجره في المال والجاه وكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدَدَهُ حتى قيل: إنه كان له اثنا عشر ألف كلبٍ حارس بأطواق ذهب وأما الجاه فصار (بحيث تقرن) الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، وصار معروفاً وشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً حتى قال قائلهم:
{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] ، هذا الكلام لا يقال إلا في مخمول من الناس.
فإن قيل: إنَّ إسماعيلَ كان من أولاده الصالحين (وكان قد) سلم لأمر الله بالذبح، وانْقَادَ لحكم الله ولم يذكر.(15/342)
فالجواب: هو مذكور في قوله: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} (و) لكن لم يصرح باسْمِهِ؛ لأنه كان بين فضله معه بهبته الأولاد والأحفاد، فذكر من الأولاد واحداً وهو الأكبر، ومن الأحفاد واحداً كما يقال القائل: إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء، والملك الفلاني، والأمير الفلاني، ولا يعدد الكل لأنه ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصه، ولولا ذكر غيره لفهم منه التعديد، واستيعاب الكل فيُظَنّ أنه ليس معه غير المذكور.
فإن قيل: إن الله تعالى لما جعل في ذريته النبوة أجابه لدعائه، والوالد يجب أن يسوي بين ولده فكيف صارت النبوة في ولد «إسحاق» أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل؟ فالجواب: أن الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى (يوم) القيامة قسمين والناس أجمعين، فالقِسْم الأول من الزمان بعث الله تعالى (فيه) أنبياء فيهم فضائلُ جمّة، وجاءوا تترى واحداً بعد واحد، ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة إسحاق عليه السلام، (ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده إسماعيل واحداً اجتمع فيه ما كان فيه وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد عليه السلام) وجعله خاتم النبيين، وقد دام الخلق على دين إسماعيل أكثر من أربعة آلاف سنة، ولا يَبْعُدُ أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار.(15/343)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
قوله تعالى: «وَلوطاً» إعرابه كإعراب إبراهيم {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ} قرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي وأبو بكر «أَئِنَّكُم» بالاستفهام، وقرأ الباقون بلا استفهام، واتفقوا على استفهام الثانية «لَتَأتُونَ الفاحشة» وهو إتيان الرجال، {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا} يجوز(15/343)
أن تكون استثنافية جواباً لمن سأل عن ذلك وأن تكون حالية أي مبتدعين لها.
فإن قيل: قال إبراهيم لقومه: «اعْبدُو اللَّهَ» ، وقال لوطٌ لقومه هاهنا: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة} ولم يأمرهم بالتوحيد، فما الحكمة؟
فالجواب: انه لما ذكر الله لوطاً عند ذكر إبراهيم كان لوط في زمن إبراهيم فلم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالتوحيد مع الرسول لا بدّ أن يقول ذلك فحكاية لوط وغيرها هاهنا ذكرها الله على سبيل الاخْتِصَار فاقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة، ولم يذكر عنه الأمر بالتوحيد، وإن كان قاله في موضع آخر حيث قال: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 61] ؛ لأن ذلك قدأتى به إبراهيم، وسبقه فصار كالمختصِّ به، وأما المنعُ من علم قوم «لوط» فكان مختصاً «بلوط» فذكر كل واحد بما اختص به، وسبق به غَيْرَهُ.
فصل
دلت الآية على وجوب الحد في اللّواطة، لأنه سماها فاحشةً، وقد ثبت أن إتيان الفاحشة يوجب الحدّ، وأيضاً أن الله تعالى جعل عذاب من أتاها إمطارَ الحجارة عليهم عاجلاً وهو الرَّجْمُ. وتقدم الككلام على قوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ} .
قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل} ، قيل: كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمرّ بهم من المسافرين فترك الناس الممرّ بهم، وقيل: يقطعون سبيل النسل بإتيان الرجال، كقوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء} [الأعراف: 81] [النمل: 55] ، {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} قال أبو العباس المَقَّرِيّ. ورد لفظ النادي في القرآن بإزاء معنيين:
الأول: النادي مجلس القوم المحدد فيه لهذه الآية.
والثاني: بمعنى الناصر، كقوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] ، أي ناصره يعني أبا جهل.(15/344)
واعلم أن النادي (والنَّديّ) والمُنْتَدَى مجلس القوم ومُتَحَدَّثُهُمْ، روى أبو صالح مولى أُمِّ هانىء بنت أبي طالب «قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن قوله: {وتأتون في ناديكم المنكر} قلت: ما المنكر الذي كانوا يأتون؟ قال: كانوا يخذُفُونَ أهلَ الطرق، ويسخرون منهم.» وروي أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصًى، فإذا مرّ بهم عابر سبيل حذفُوه فأيهم أصابه كان أولى به. وقيل: إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثةَ دراهم، ولهم قاضي بذلك، وقال القاسم بن محمد: كانوا يتضارطون في مجالسهم.
وقال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم.
وعن عبد الله بن سلام: يَبْزُقُ بعضُهم على بَعْض. وعن مكحول قال: من أخلاق قوم لوط مضغ العِلْكِ، وتطريق الأصابع بالحِنَّاء، وحل الإزار، والصَّفيرُ، والخَذْفُ، واللُّوطِيَّةُ.
(قوله) : {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} ، لما أنكر عليهم «لوط» ما يأتون به من القبائح(15/345)
إلا أَنْ قَالُوا له استهزاء {ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أن العذاب نازل بنا فعند ذلك قال لوط: {رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين} بتحقيق قولي في العذاب.
فإن قيلَ: قال قوم «إبراهيم» اقتلوه أو حرّقوه، وقال قوم لوط {ائتنا بعذاب الله} وما هددوه (مع) أن «إبْرَاهِيمَ» كان أعظم من «لوط» فإن لوطاً كان من قومه.
فالجوابُ: أن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدد صفات نقصهم بقوله: «لا تُبْصِرُ ولا تَسْمَع ولا تَنْفَعُ، ولا تُغْنِي» ، والقدح في الدين صعب، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم، وينبههم إلى ارتكاب التحريم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم وقالوا: إنك تقول: إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول: لا نعذب فإن كنت صادقاً فتِنَا بالعذَابِ.؟
فإن قيل: إن الله قال في موضع آخر: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} [النمل: 56] .
وقال هنا: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا} فكيف الجمع؟
فالجوابُ: أن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد مكرراً على النهي والوعيد فقالوا (أولاً) ائتنا (ثم) لما كثر منه ولم يسكت عنهم قالوا: «أخرجوا» . ثم إنَّ لوطاً لما يَئِسَ منهم طلب النُّصْرَةَ من الله وذكرهم بما لا يحب الله فقال «رب انصرني على القوم المفسدين} (فإن الله لا يحب المفسدين) حتى يُنْجِزَ النَّصْرَ.
واعلم أن كُلَّ نبي من الأنبياء ما طلب هلاكٌ قَوْمه إلا إذا علم أن عدمَهُمْ خيرٌ من وجودهم، كما قال نوحٌ {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27] ، يعني: أن المصلحة إما أن تكون فيهم حالاً، أو بسببها مآلاً ولا مصلحة فيهما، فإنهم ضالون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون أولادهم من صغرهم بالامتناع عن الأَتباع وكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال، واشتغلوا بما لا يُرْجَى منهم ولد صالح يعبد الله فطلب المصلحة حالاً ومآلاً، فعدمهم صار خيراً، وطلب العذاب.(15/346)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
قوله (تعالى) : {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} من الله بإسحاقَ ويعقوبَ {قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية} يعني قوم لوطِ {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ} . «قَالَ» إبْراهيم {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} ، قالت الملائكة: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} ويأتي بقية الكلام على ذلك.
قوله: {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ} تقدم نظيرها إلا أن هنا زيدت «أن» وهو مطّرد تأكيداً.
اعلم أنه لما دعا لوطٌ على قومه بقوله: «رب انصرني» استجاب الله دعاءه، وأمره ملائكته بإهلاكهم وأرلهم مبشرين ومنذرين فجاءوا إبراهيم وبشَّرُوه بذرية طيبة وقالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية يعني أهل سَدُومَ.
«إحداهما» : أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين لكن البشارة إثْرَ الرحمة والإنذار بالهلاك إثْرَ الغضب، ورحمته سبقت غضبه فقدم البشارة على الإنذار، وقال: {جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} ثم قال: «إنَّا مُهْلِكُوا» ، «والثانية» : حين ذكروا البشرى ما هلكوا وقالوا: إنا نبشرك بأنك رسول، أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل، وحين ذكروا الإهلاك هَلَكُوا، وقالوا: إن أهلها كانوا ظالمين لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض، والعادل لا يكون عذابه إلا على جُرْمٍ.
فإن قيل: قال في قوم نوح: {فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14] (وقيل: إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ولم يقل: وهم ظَالِمُونَ) .
فالجواب: لا فرق في الموضعين في كونهما مُهْلَكِينَ وهم مصرّون على الظلم لكن هناك الإخبار من الله عن الماضي حيث قال: «فأخذهم» وهم عند الوقوع في العذاب(15/347)
ظالمون وهاهنا الإخبار من الملائكة عن المستقبل حيث قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية، والملائكة ذكرواما يحتاجون إليه في (إبانة) حسن الأمر من الله بالإهلاك فقالوا: {إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية} ؛ لأن الله أمرنا؛ وحال (ما) أمرنا كانُوا ظالمين فحسن أمر الله عند كل أحد وأما نحن فلا تخبر بما لا حاجة لنا إليه فإن الكلام في الملك بغيْر إذْنِهِ سوءُ أدب فنحن ما احتجنا إلا إلى هذه القَدْر وهو أنهم كانوا ظالمين في وقتنا هذا: وكونهم يَبْقُونَ كذلك فلا حاجة لنا إليه، ثم إن إبراهيم لما سمع كلامهم قال لهم: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} إشفاقاً عليه لِيعْلم حاله، قالت الملائكة: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ} قرأ حمزة والكسائيّ ويعقوبُ «لنُنْجِيَنهُ» - بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد {وأهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرينَ} أي الباقين في العذاب. وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان؛ لأن الغابر لفظ مشترك في الماضي، وفي الباقي يقال: فِيمَا غَبَر من الزَّمَانِ أي فيما مضى وقال عليه (الصلاة و) السلام «لما سئل عن الماء من السباع فقال:» ولنا ماءٌ غير طهور «
أي بقي فعلى الأول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم: إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، ثم جرى (ذكر) لوط. وقول الملائكة: إنها من الغابرين أي الماضين ذكرهم لا من الذين نحْنُ مِنْهُمْ، أو نقول المهلك يفنى بمضي زمانه، والناجي هو الباقي، (ف) قالوا {إنها من الغابرين} أي من الرائحين الماضين، لا من الباقين المستمرِّينَ وأما على الثاني لما قضى الله على القوم بالهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ينجى منه، فقالوا: إنا نُنَجِّي لوطاً وأهله، وأما امْرَأَتُهُ فهي من الباقين في الهَلاَكِ.
قوله: {وَلَمَّآ (أَن) جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً} أي إنهم من عند غبراهيم جاءوا إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشراً فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا في أحسن صورة والقوم كما عرف حالهم «سِيءَ بِهِمْ» أي جاءه ما ساءه وخاف، ثم عجز عن تدبيرهم فحزن {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} كناية عن العجز في تدبيرهم قال الزمخشري: يقال: طال ذَرْعُهُ وذراعه للقادر، وضاق للعاجز، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجهاً آخر معقولاً وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح،(15/348)
ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضاً والقلب هو المعتبر من الإنسان فكأن الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق، ويُقال في الحزين ضاق ذَرْعُهُ والغضب والفرح يوجبان انبساط الرُّوحِ فيبسط مكانه وهو القلب، ويتسع فيقال: طال ذرْعه، ثم إن الملائكة لما رأوا أول الأمر، وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا: لا تخف من قومك علينا ولا تحزن بإهلاكنا إياهم {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} ، وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه بطول رَوْعه.
قوله: «إنَّا مُنَجُّوكَ» في الكاف وما أشبهها مذهب، مذهب سيبويه: أنها في محل جر، ومذهب الأخفش وهِشام أنها في محل نصب. وحذف النون والتنوين لشدة اتّصال الضَّمير.
وقد تقدمت قراءتا التخفيف والتثقيل في «لننجينه» مُنَجُّوك «في الحِجْرِ» .
قوله: إنَّا مُنْزِلُونَ «، قرأ ابن عامر بالتشديدن والآخرون بالتخفيف، وقرأ ابن مُحَيْصِن» رُجزاً «بضم الراء، والأعمش وأبو حيوة» يَفْسِقُونَ «بالكسر.
(فإن قيل) : قال هنا:» إنَّا مُنَجُّوكَ «وقال لإبراهيم:» لنُنَجِّيَنَّهُ «- بصيغة الفعل فما الحكمة؟
فالجواب: ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها، ولا تصل إلى أكثرها، وما أوتي البشر من العلم إلا القليل، والذي يظهر (هاهنا) أن هانك لما قال لهم إبراهيم: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم، وهاهنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة (قالوا) إنَّا مُنَجُّوكَ أي ذلك واقع منا كقوله تعالى:» إنَّكَ مَيِّتٌ «لضرورة وقوعه.
فإن قيل: ما مناسبة قوله: «إنا منجوك» لقوله: {لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ} فإن خوفه ما كان على نفسه.
فالجواب: أن لوطاً لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا: لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنّنا ملائكة. ثم قالوا له يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك وفي مقابل حزنك نزيل حزنك، ولا نتركك تفجع في أهلك، فقالوا: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} .(15/349)
فإن قيل: القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك. فكيف كانت من الغابرين معهم؟
فالجواب: أن الدالّ على الشر كفاعل الشر كما أن الدال على الخير كفاعله، وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت كأحدهم، ثم إنهم بعد بشارة «لوط» بالتنجية ذكروا أنهم مُنْزِلُونَ على أهل هذه القرية العذاب.
واختلفوا في ذلك، فقيل: حجارة، وقيل: نار، وقيل: خَسْف، وعلى هذا يكون قولهم: {رِجْزاً مِّنَ السمآء} بمعنى أن الأمر من السماء بالخسف والقضاء به من السماء، واعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على (نمط) كلامهم مع إبراهيم، فقدموا البشارة على إنزال العذاب، فقالوا: «إنا منجوك» ثم قالوا: «إنا مُنْزِلُونَ» ولم يعللوا التنجية، فلم يقولوا: إنا منجوك لأنك نبي أو عابدٌ، وعللو الإهلاك، فقالوا: {بما كانوا يفسقون} كقولهم هناك: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ} .
قوله: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَة} فيها وجهان:
أحدهما: أن بعضها «باقٍ» وهو آية باقية إلى اليوم، والمعنى تركنا من قريات (قوم) لوط آية بيّنة عبرة ظاهرة.
الثاني: أن «من» مزيدة، وإليه نحا الفراء أي تركناها أية كقوله:
- 4029 أَمْهَرْتُ مِنْهَا جُبَّةً وَتَيْسَا ... أي أمهرتها، وهذا يجيء على رأي الأخفش، أي ولقد تركنا القرية. والقربة معلومة، وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك.
فإن قيل: كيف جعل الآية في «نوح» و «إبراهيم» بالنجاة فقال: {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 15] . وقال: {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار (إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ} [العنكبوت: 24] ، وجعل ههنا الهلاك آية.(15/350)
فالجواب: أن الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأنفي ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي على أعلى الجبال بأسرها أمر عجيب غلهي وما به النجاة وهو السفقينة كان باقياً، والغَرَقُ لم يبق لمن بعده أثره، فجعل الباقي آية، وأما ههنا فنجاة «لوط» لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد، فجعل الآية ههنا البلاد، وهنا السفينة، وهنا لطيفة وهي أن الله تعالى آية قدره موجودة في الإنجاء والإهلاك، فذكر من كل باب آية، وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة، وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب، ورحمته سابقة.
فإن قيل: اما الحكمة في قوله في السفينة «جعلناها آية» ، ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة؟
فالجواب: أنّ الأإنجاء بالسفينة أمر يسع له كل العقل وقد يقع في ذهن جاهل أن الإنجاء لا يفتقر إلى أمر آخرَ، وأما الآية ههنا الخَسْفُ، وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها، وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر مخصصة بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان فهي بينة لا يمكن لجاهل، أن يقول هذا أمر يكون كذلك، وكان له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك، فيقال له: فلو دام الماء حتى ينفذ زادهم كيف كان حصل لهم النجاة؟ ولو سلط الله عليهم الريح العاصبة، وكيف تكون أحوالهم؟
فإن قيل: ما الحكمة في قوله هناك: «لِلْعَالِينَ» ، وفي قوله ههنا: «لِقَوْم يَعْقِلُونَ» ؟
فالجواب: أن السفينة (موجودة) معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون بها حال نوح، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة، فلا يثق أحدٌ بمجرد السفينة، بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرعاً إلى الله طالباً النجاة، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليها إلا من مرّ بها، ويصل إليها وويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله فإرادته بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان، قال ابن عباس: الآية البينة: آثار منازلهم الخربة. وقال قتادة: هي الحدارة التي أهلكوا بها أبقاها الله (تعالى) حتى(15/351)
أدركها أوائل هذه الأمة. وقال مجاهد: هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض.(15/352)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
قوله تعالى: «وإلَى مَدْيَنَ» أي وأرسلنا، أو بعثنا إلى مدين أخاهم «شعيباً» بدل، أو بيان، أو بإضمار: أعني، قيل: مدين: اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة، كتَمِيم، وقيسٍ وغيرهما، وقيل: اسم ما نسب القوم إليه فاشتهر في القوم، والأول أظهر، لأن الله تعالى أضافه إلى مدين بقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} ولو كان اسم الماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية فالأصل في الإضافة التغاير حقيقة وقوله: «أخاهم» ، قيل: لأن شعيباً كان منهم نسباً.
فإن قيل: قال الله (تعالى) في «نوح» : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} [العنكبوت: 14] فقدم نوحاً في الذِّكْرِ وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم، ولوط، وههنا ذكر القوم أولاً، وأضاف إليهم أخاهم «شعيباً» فما الحكمة؟
فالجواب: أن الأصل في الجميع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن الرسل لا تبعث إلا غير معينين، وإنما تبعث الرسلإلى قوم محتاجين إلى الرسل فيرسل إليهم من يختاره، غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص، ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالنبي، فقيل: قوم نوح، وقوم لوط، وأما قوم «شعيب» و «هود» و «صالح» فكان لهم نسبٌ معلوم اشترهوا به عند الناس فجرى الكلام على أصله، وقال الله: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} ، {وإلى عاد أخاهم هوداً} فإن قيل: لم يذكر عن «لوط» أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن شعيب ذلك.
فالجواب قد تقدم وهو أن «لوطاً» كان من قوم «إبْرَاهِيمَ» ، وفي زمانه، وكان(15/352)
إبْراهيمُ سبقه بذلك، واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق عن «إبراهيم» فلم يحتج «لوطٌ» إلى ذكره، وإنما ذكر ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها، وإن كان هو بدأ يأمر بالتوحيد، (إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلاماً في التوحيد، وأما «شعيب» فكان بعد انقراض ذلك الزمان، وذلك القوم، فكان هو أصلاً في التوحيد) فبدأ به وقال اعبدوا الله.
قوله: {وارجوا اليوم الآخر} ، قال الزمشخري: معناه افعلوا فعل من يَرْجُو اليومَ الآخر؛ إذ يقول القائل لغيره: كن عاقلاً ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلاً، فقوله: {وارجوا اليوم آلآخِرَ} بعد قوله: «واعْبُدُوا اللَّهَ» يدل علي التفضل لا على الوجوب.
قوله: {وارجوا اليوم الآخر} ، تقدم الكلام عليه، ونصب «مفسدين» على المصدر، كقول القائل: اجلس قعوداً.
قوله: {فكذبوه فأخذتهم الرجفة} .
فإن قيل: (ما الحكمة) فيما حكاه الله عن شعيب من أمر ونهي، فالأمر لا يكذب، ولا يصدق، فإن قال لغيره اعبد الله لا يقال له: كذبت؟
فالجواب: كان شعيب يقول: الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه، وهذه فيها إخبارات، فكذبوه بما أخبر به.
(فإن قيل هنا) قال في الأعراف: «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» وقال في هود: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» والحكاية واحدة.
(فالحواب) : لا تعارض بينهما، فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة، قيل: إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته، فرجفت قلوبهم، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب.
فإن قيل: ما الحكمة في أنه حخيث قال: «فأخذتهم الصَّيْحَةُ» قال: «في دِيَارِهِمْ» وحيث قال: «فأخذتهم الرجفة» قال في «دَارِهِمْ» ؟(15/353)
فالجواب: أنّ المراد من الدارِ هو الديار، والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع، وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمِنَ (مِنَ) الالْتِباسِ، وإنما اختلف اللفظ لِلطيفة وهي أن اللطيفة هائلة في نفسها، فلم يحتج إلى تهول بها، وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها ولكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع حتى يعلم هيئتها، والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يُحْتَجْ إلى معظِّمٍ لأمرها، وقيل: إن الصيحة كانت أعظم حيث عمت الأرض والجو والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هنا، وهذا ضعيف لأن لادار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم أو دارهم.(15/354)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
قوله تعالى: «وَعَاداً وَثمُوداً» نصب «بأَهْلَكْنَا» مقدراً، أو عطف على مفعول «فَأَخَذَتْهُمْ» أو على منصوب «ولقد فتنا» أول السورة، وهو قول الكسائي. وفيه بعد كثير وتقدم تنوين «ثمود» ، وعدمه في هود، وقرأ ابن وثاب: «وعادٍ وَثُمُودٍ» بالخفض عطفاً على «مَدْيَنَ» عطف لمجرد الدلالة، وإلا يلزم أن يكون شعيبٌ مرسلاً إليهما، وليس كذلك.
قوله: {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} أي ما حلَّ بهم وقرأ الأعمش: «مَسَاكِنُهُم»(15/354)
بالرفع على الفاعلية بحذف «من» . ثم (بين) سبب (ما) جرى عليهم فقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} أي عن سبيل الحق، وهو عابدة الله «وكَانُوا مُسْتَبصْرِينَ» قال مقاتل والكلبي وقتادة كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم يحسبون أنهم على هدى، وكانوا على الباطل، والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين وقال الفراء: كانوا عقلاء ذوي بصائر. وقيل: كانوا مستبصرين بواسطة الرسل، يعني لم يكن لهم في ذلك عذر لأن الرسل أوضحوا السبل.
قوله: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} عطف على «عاداً وثموداً» أو على مفعول: «فصدهم» ، أو بإضمار: اذكروا، {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات} بالدلالات كما قال في عاد وثمود «وكانوا مستبصرين» أي بالرسل. {فاستكبروا فِي الأرض} أي عن عبادة الله، فقوله «في الأَرْضِ» إشارة إلى قلة عقلهم فاسْتكبارهم، لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين، ومن في السماء أقواهم، ثم إن «من في السماء» لا يستكبرون على الله بالعبادة فكيف {من في الأرض} ، {وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} أي فائتين من عقابنا.
قوله: «فَكُلاًّ» منصوب «بأخذنا» و «بذَنْبِه» أي بسببه أو مصاحباً لذنبه، {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} وهم قوم لوط والحاصب: الريح التي تحمل الحصباء وهي الحصا الصِّغَارُ وقيل: انت حجارة مَحْمِيَّة تقع على واحد منهم وتَنْفُذُ من الجانب الآخر، {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة} يعني ثمود {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض} وهم «قارون» وأصحابه، {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} يعني قوم نوح وفرعون وقومه.
وقوله: «مَنْ أَغْرَفْنَا» عائده محذوف لأجل سنة الفاصلة، ثم قال: {وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} يعني لم يظلمهم بالهلاك وإنما ظلموا أنفسهم بالإشراك.(15/355)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
قوله (تعالى) : {مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله (أَوْلِيَآءَ) } يعني الأصنام يرجون نصرها ونفعها {كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً} لنفسها «بَيْتاً» تأوي إليه، وإن بيتها في غاية الضعف والوهي لا يدفع عنها حراً ولا برداً كذلك الأوثان لا تملك لعابدها نفاً ولا ضرّاً {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت (لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} . واعلم أنه تعالى مثل اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذِ العنكبوت) نسجه بيتاً ولم يمثل «نسجه» لأن «نسجه» له فائدة لولاه لما حصل، وهو اصطيادها الذباب من غير أن يفوته ما (هو) أعظم منها واتخاذهم الأوثان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا ولكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة (التي) هي خير وأبقى، فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت. وقوله: {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه إما فائدة الاستظلال أو غير ذلك، وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يَخْرُبُ بأدنى شيء، ولا يبقى منه عينٌ ولا أثر، فذلك عملهم، {لو كانوا يعلمون} . (وَ) العنكبوت معروف، ونونه أصلية،. والواو والتاء مزيدتان بدليل جمعه على «عناكب» وتصغيره عنيكب ويذكر ويؤنث، فمن التأنيث قوله: «اتخذت بيتاً» ومن التذكير قوله:
4030 - عَلَى هَطَّالِهِمْ مِنْهُمْ بُيُوتٌ ... كَأَنَّ العَنْكبُوت هو ابْتَنَاهَا
وهذا مطرد في أسماء الأجناس يذكر ويؤنث.
قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابه محذوف أي لما اتخذوا من يضرب له بهذه الأمثال لِحَقَارَتِهِ ومتعلق يعلمون لا يجوز أن يكون من جنس قوله: {وإنّ أوهنَ البيوت}(15/356)
لأن كل أحد يعلم ذلك، وإنما متعلَّقَهُ مقدر من جنس ما يدل عليه السياق أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم.
قوله: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ} ، قرأ أبو عمرو وعاصم «يَدْعُون» بياء الغيبة، والباقون بالخطاب. و «ما» يجوز أن تكون موصولة منصوبة ب «يَعْلَمُ» أي يعلم الذين يدعونهم ويعلم أحوالهم، و «من شيء» مصدر، وأن تكون استفهامية، ويحينئذ يجوز فيها وجهان أن تكون هي وما عملت فيها معترضاً بين قوله: «يَعْلَمُ» وبين قوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} كأنه قيل: أَيُّ شيءٍ تدعون من دون الله.
والثاني: ان تكون متعلقة «لِيَعْلَمَ» فتكون في موضع نصب بها، وإليه ذهب الفارسي وأن تكون نافية و «مِنْ» في «مِنْ شَيْءٍ» مزيدة في المفعول به كأنه قيل: ما تدعون من دون الله ما يستحق أن يطلق عليه شيء.
قال الزمخشري: هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه من شيء يعني ما يدعون ليس بشيء، وهو عزيز حكيم، فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلاً وهذا يفهم منه أنه جعل «ما» نافية، والوجه فيه حينئذ أن تكون الجملة معترضة كالأول من وجهي الاستفهامية، وأن تكون مصدرية، قال أبو البقاء: و «شيء» مصدر، وفي هذا نظر، إذ يصير التقدير يعلم دعاءكم في شيء من الدعاء.
قوله: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} يجوز أن يكون «نضربها» خبر «تلك الأمثال» و «الأمثال» نعت أو بدل، أو عطف بيان، وأن يكون «الأمثال» خبراً، و «نضربها» حال، وأن يكون خبراً ثانياً.(15/357)
فصل
وتلك الأمثال: الأشباه، والمَثَل: كلام سائغ يتضمن تشبيه الآخر بالأول، يريد امثال القرآن التي شبه بها أحوال الكفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة «نضربها» تَنْبِيهاً للناس، قال مقاتل: لكفار مكة {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} أي ما يعقل الأمْثَالَ إلا العلماءُ الذين يعقلون عن الله. روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تلا هذه الآية {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} قال:» العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته، واجتنب سَخَطَهُ «
فصل
روي أن الكفار قالوا: كيف يضرب خالقُ الأرض والسموات الأمثال بالهوامُ والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت، فقيل: الأمثال تضربها للناس إذْ لم يَكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نُفْرَتَكُمْ مما أنتم فيه لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيراً مثل تأثير الدليل، فإذا قال الحكيم لمن يغتاب (بالغيبة) كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل الغائب وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيبك كمن يقع في ميت يأكل كما ينفر إذا قال له: إنك توجب العقاب ويورث العتاب.(15/358)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
قوله تعالى: {خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} بالحق وإظهار الحق {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إن في خلقها «لآيَة لِلْمُؤْمِنِينَ» على قدرته وتوحيده، فإن قال قائل كيف خص(15/358)
الآية في خلق السماوات والأرض بالمؤمنين مع أَن في خَلْقِهَا آية لكل عاقل كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [الزمر: 38] وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ... لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 4] .
فالجواب: خلق السموات والأرض آية لكل عاقل، وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب ويدل عليه النقل والنقل، أما النقل فقوله تعالى: {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الدخان: 39] أخرج أكثر الناس عن العلم بكونه خلقهما بالحق مع أنه أثبت للكل بأنه خلقهما بقوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وأما العقل فَ (هُوَ أَنَّ) العاقل أَول ما ينظر إلى خلق السماوات والأرض يعلم أن لها خالقاً وهو الله، ثم (من) يهديه الله لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك بل يقول: إنه خلقهما متقناً محماً وهو المراد من قوله: «بالحق» لأن ما لا يكون محكماً يفسد ويبطل فيكون باطلاً، وإذا علم أن خالقهما متقناً يقول: إنه قادرٌ كاملٌ، حيث خلق، فأحكم، وعالم علمه شامل حيث أتقن فيقول: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] ولا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السموات، ولا يعجز عن جمعهما كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات فيجوز بعث مَن في القبور، وبعثه الرسل، وهما بالخلق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه الله على أحسن نظامه.
قوله تعالى: {اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} يعني القرآن لتعلم أن «نوحاً» و «لوطاً» وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسلة، وبالغوا في إقامة الدلالة، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة، وهذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (وشرّف وكرّم) .
قوله: {وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} الفحشاء: ما قَبُحَ من الأعمال، والمنكر ما لا يُعْرَف في الشرع. قال ابو مسعود، وابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله فمن لم تأمره صلاته بالمعروف، ولم تهه عن النمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بُعداً، وقال الحسن وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء(15/359)
والمنكر فصلاته وَبَالٌ عليه، ورُوِيَ عن أنس بن مالك قال: «كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم (لا) يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حالُه فقال:» إنَّ صلاته تهاهُ يوماً «فلم يلبث أن تاب وحَسُنَ حاله»
، وقال ابن عون: معنى الآية: إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء وةالمنكر ما دام فيها، وقيل: المراد بالصلاة القرآن كما قال: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت به} [الإسراء: 110] ، أي بقراءتك، وأراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة، فالقرآن يَنْهَاهُ عن الفحشاء والمنكر.
قوله: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} أي ذكر الله أفضل الصناعات، قال عليه (الصلاة و) السلام: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بخيرِ أَعْمَالِكُمْ وأزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وأرْفَعِهَا في دَرَجَاتِكُمْ وخَيْرٍ منْ إعَطاءٍ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وأن تَلْقوا عَدُوَّكُمْ فَتَضْربُوا أعْنَاقَهُمْ ويَضْرِبُوا أعْنَاقَكُمْ» قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: ذِكْرُ الله وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أيذ العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذَّاكِرُونَ الله كثيراً، قالوا يا رسول الله: ومِنَ الغازي في سبيل الله، فقال: لو ضرب بسيفه الكفارَ والمشركين حتى ينكسر أو يَخْتَضِبَ دماً لكان الذاكرون الله كثيراً أفضل منهُ «وروي أبو هريرة قال:» كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسير في طرق مكة مرَّ على جَبلٍ يقال له: حَمْدَان، فقال: سيروا هذا حَمْدان. سبق المُفْرَدُونَ، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات «
قيل: معنى قوله: {ولذكر الله أكبر} أي ذكر الله إياكم أفضلُ من ذكركم إياه(15/360)
رُوِيَ ذلك عن عبد الله، وهو قول مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ويروى مرفوعاً عن موسى بن عُقْبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال عطاء في قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} من أن يَبْقَى معه معصية {والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} قال عطاء: لا يخفى لعيه شيء.(15/361)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
قوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي لا تخاصمهم إلا بالتي هي أحسن أي بالدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه، وأراد من قبل الجزية منهم لما بين طريقة إرشاد المشركين بين طريقة إرشاد أهل الكتاب.
قوله: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} استثناء متصل، وفيه مَعْنَيَانِ.
أحدهما: إلا الظلمة فلا تجادلوهم ألبتة بل جاهدوهم بالسسيف حتى يسلموا أو يُعْطُوا الجزية.
ومجاز الآية: إلا الذين ظلموكم لأن جميعهم ظالم بالكفر.
والثاني: جادلوهم بغير التي هي أحسن أي أغلظوا لهم كما أغلظوا عليكم، قال سعيد بن جبير: أهل الحرب، ومن لا عهد له، وقال قتادة ومقاتل: نُسِخَتْ بقولِهِ:(15/361)
{قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29] ، وقرأ بن عباس «أَلاَ» حرف تنبيه أي فجادلوهم.
قوله: {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} وهذا تبين لمجادلتهم بالتي هي أحسن يريد إذا أخبركم واحٌ منهم ممن قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عله ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، روى أبو هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعِبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لا تصدقوهم ولا تكذبهم وقولوا: آمنا بالله وما نزل إلينا ... الآية» وروى معمر عن الزهري أن أبا نملة الأنصاري أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جاءه رجل من اليهود ومرّ بجنازة فقالك يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الله) أعلم فقال اليهودي: إنها تتكلم فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تُصَدِّقُوهُم ولا تكذِّبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان باطلاً لم تصدقوه وإن كان حقاً لم تكذبوه»
قوله: «وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا» أي كما أنزلنا إليهم الكتاب أنزلنا إليك الكتاب {فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعنى (مُؤْمِني) أهل الكتاب عبد الله بن سلام، (وأصحابه) «ومِنْ هَؤُلاَءِ» يعني أهل مكة {مَنْ يُؤْمِنُونُ بِهِ} وهم مؤمنوا أهل مكة {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الكافرون} وذلك أن اليهود عرفوا أن محمداً نبي، والقرآن حق، فجحدوا، وقال قتادة: الجحود إنما يكون بعد المعرفة وهذا تنفير لهم عما هم عليه يعني إنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة، وبإنكارها تلتحقون بهم، وتبطلون مزاياكم، فإن الجاحد بآية يكون كافراً.
قوله: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ} أي من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب.
قوله: «مِنْ كِتَابٍ» مفعول «تتلو» و «من» زائدة و «من قبله» حال من «كتاب» أو(15/362)
متعلق بنفس «تتلو» و «تخطّه بيمينك» أي ولا تكتبه أي لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي قوله: «إذاً لاَرْتاب» جواب وجزاء، أي لو تلوت كتاباً قبل القرآن أو كنت ممن يكتب لارتاب المبطلون ولشكّ (المشركون من) أهل مكة، وقالوا: إنه يقرأه من كتب الأولين وينسخه منها، وقال قتادة ومقاتل: المبطلون هم اليهود والمعنى: لشكوا فيك واتهموك، وقالوا: من الذي نجد نعته في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت.
قَوْلُهُ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} قرأ قتادة «آيَةٌ» بالتوحيد، قال الحسن: يعني القرآن ( «آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» } ، يعني: «المؤمنين» الذين حملوا القرآن، وقال ابن عباس وقتادة: ( «بل هو» ) يعني: محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته وصفته في كتبهم وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون} .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله ههنا: «الظالمون» ومن قبل قال: الكافرون؟
فالجواب: أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم: إن لكم المزايا فلا تُبْطِلُوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هانك أبلغ فمنعهم عن ذلك لاستنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآيات لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلحقوا في أول الأمر بالمشركين حكماً، وتلتحقون عند جحد هذه الآيات بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي مشركين، كما قال: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] فهذا اللفظ هنا أبلغ.(15/363)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
وله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ} كما أنزل على الأنبياء من قبل.(15/363)
وقرأ الأخوانِ وابنُ كثير، وأبو بكر بالإفراد؛ لأن غالب ما جاء في القرآن كذلك والباقون «آيات» بالجمع لأن بعده {قُلْ إِنَّمَا الآيات} بالجمع إجماعاً، والرسم يَحْتَمِلُهُ.
فصل
اعلم أنهم قالوا: إنك تقول: إنك أنزل إليك الكتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى، وليس كذلك؛ لأن موسى أُوتِيَ تسع آيات بينات علم بها كون الكتاب من عند الله، وأنت ما أوتيت شيئاً منها ثم إنه تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها.
قوله: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ» هذا جواب لقولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ} قل: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} ، ففاعل «يكفهم» هو قوله: «أنا أنزلنا» والمعنى: إن كان إنزال الآيات شرطاً في الرسالة فلا يشترط إلا إنْزَالُ «آيةٍ» وقد أنزل القرآن، وهو آية معجزة ظاهرة كافية. وقوله: «أولم يكفهم» عبارة تنبىء عن كون القرآن آية فوق الكفاية وبيانه أن القرآن أتم من كل معجزة لِوُجُوهٍ:
أحدها: أن تلك المعجزات وجدت وما دامت، فإن قلب العصا ثُعْبَاناً، وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر، فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب، وأما القرآن فهو باقٍ لو أنكره واحد فيقال له: فَأتِ بآيةٍ من مثله.
الثاني: أن قلب العصا ثعباناً كان في آن واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل واحده، وهنا لطيفه هي أن آيات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانت أشياء لا تختص بمكان دونَ مكان، لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأن الخوف إذا وقع عم، وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر. وغاص بحر «ساوَةَ» في قطر، وسقط إيوان كسرى في قطر (وانْهَدَّت) الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمراً عاماً.
الثالث: أن غير هذه المعجزة يقول الكفار المعاند هذا سحر (وعمل بدواء) والقرآن لا يمكن هذا القول فيه. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً} أي في إنزال القرآن {لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي تذكير وعظمة لمن آمن وعمل به.
قَوْلُهُ (تعالى) : {قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} أني رسوله، وهذا القرآن(15/364)
كتابه، وهذا كما يقول الصادق إذا كذب، وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدقه المعاند: «الله يعلمُ صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينك» ، كل ذلك إنذار وتهديد ثم بين كونه كافياً، بكونه عالماً بجميع الأشياء، فقال: {يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض} .
فإن قيل: ما الحكمة في أنه أخر شهادة أهل الكتاب في آخر الوعد في قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] وهنا قدم شهادة أهل الكتاب، فقال: {فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به (ومن هؤلاء من يؤمن به «} [العنكبوت: 47] أي من الكتاب؟
فالجواب: أن الكلام هناك مع المشركين فاستدل عليهم بشهادة غيرهم (ثم) إن شهادة الله أقوى (في ألزمهم) من شهادة غير الله، وهاهنا الكلام مع أهل الكتاب فشهادة الله على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم، ثم (إنه) تعالى لما بين الطريقتين في إرشاد الفرريقين المشركين وأهل الكتاب عاد الكلام الشامل لهما والإنكار العام فقال: {والذين آمَنُواْ بالباطل} ، قال ابن عباس: بغير الله {وَكَفَرُواْ بالله أولئك هُمُ الخاسرون} .
فإن قيل: قوله {أولئك هم الخاسرون} يقتضي الحصر، أي من أتى بالإيمان (بالباطل) والكفر (بالله) فهو الخاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسراً.
فالجواب: أنه يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتياً بالآخر لأن المؤمن بما سوى الله مشرك، لأنه جعل غير الله مثله، وغير الله عاجز ممكن باطل فيكون الله كذلك، ومن كفر بالله وأنكره فيكون قائلاً بأن العالم ليس له إله موجود فوجود العالم من نفسه فيكون قائلاً: بأن العالم واجب الوجود، والواجب إله (فَيَكُون قائلاً) بأن غير الله إله فيكون إثباتاً لغير الله وإيماناً به.
فإن قيل: إذا كان الإيما بما سواه كفراً (به) فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة (غير التأكيد) الذي في قوله القائل (قم ولا تقعد و» واقتربْ مني ولا تَبْعُدْ «؟(15/365)
فالجواب: فيه فائدة) غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل: أتقولُ بالباطل وتترك الحلق لشأ أن القول بالباطل قيبح.(15/366)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
قوله: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ» نزلت في النضر بن الحارث حين قال: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} قال ابن عباس: ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة كما قال: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] وقيل: يوم بدر. ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته {لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} يعني العذاب. وقيل: الأجل بغتة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه، وقوله: {وهم لا يشعرون} يحتمل وجهين:
أحدهما: معنى تأكيد قوله: «بغتة» ، كما يقول القائل: أتيته على غفلة منه بحث لم يدرِ.
فقوله: {بحيث لم يدر} أكد معنى الغفلة.
والثاني: أنه يفيد فائدة مستقلة وهي أن العذاب يأتيهم بغتة {وهم لا يشعرون} هذا الأمر، ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلاً.
قوله: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} ذكر هذا للتعجب، لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطْمةٍ أو لكمة فيرى في نفسه الجلد ويقول: بسم الله هات، وأما من توعد بإغراقٍ أو إحراقٍ ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد لا يخطر ببال العاقل أن يقول له: هات ما توعدني به فقال ههنا «يستعجلونك بالعذاب» والعذاب بنار جهنم المحيطة (بهم) فقوله ( «يستعجلونك بالعذاب» ) أولاً: إخباراً عنهم، وثانياً: تعجباً منهم.
وقيل: أعادَهُ تأكيداً، ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم فقال: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} .
فإن قيل: لم يخص الجانبين ولم يذكر اليمين والشمال وخلفَ وقُدَّام؟(15/366)
فالجواب: أن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا، (ونار) الدنيا تحيط بالجوانب الأربعة فإن من دخلها تكون الشعلة قدامَهُ وخلفَه ويمينَه ويَسَارَه، فأمّا النار من فوق لا تنزل وإنما تصعد من أسفلَ في العادة وتحت الأقدام، ولا تبقى الشعلة بل تنطفىء الشعلة التي تحت القدم، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفىء بالدوس موضع القدم.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله: {من فوقهم ومن تحت أرجلهم} ولم يقل: من فوق رؤوسهم ولا قال من فوقهم «ولا من تحتهم» بل ذكر المضاف إليه عند ذكر «تحت» ولم يذكره عند ذكر «فوق» ؟
فالجواب: أن نزول النار من «فوق» سواء كان من (سميت) الرأس أو موضع آخر عجيب فلهذا لم يخصه بالرؤوس وأما بقاء النار تحت القدم فهو عجيبن وإلا فمن جوابن القدم في الدنيا تكون الشعلة فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدّوس. وأما «فوق» فعلى الإطلاق.
قوله: «وَيَقُولُ ذُوقُوا» قرأ نافع وأهل الكوفة «ويقول» بياء الغيبة أي الله تعالى، أو الملك الموكل بعذابهم، وباقي السبعة بالنون أي جماعة الملائكة، أو نون العظمة لله تعالى، وأبو البَرَهْشَم بالتاء من فوق أي جهنم كقوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] وعبد الله وابن أبي عَبْلَةَ: «ويُقَالُ» مبنياً للمفعول، وقوله: {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلَونَ} أي جزاء ما كنتم تعملون لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} جعل ذلك عين ما كانوا يعملون مبالغة بطريق إطلاق اسم المُسبَّب على السَّبَب، فإن عملهم كان سبباً لعذابهم وهذا كثير في الاستعمال.(15/367)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
قوله (تعالى) : {يا عبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} لما ذكر حال المشركين على حدة، وحال أهل الكتاب على حدةٍ وجمعهما في الإنذار، وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم، وزاد فسادهم، وسعوا في إيذاء المؤمنين، ومنعهم من العبادة، قال مقاتل والكلبي: (نزلت في ضعفاء) مسلمي مكة يقول: إن كنتم في ضَيْقٍ بمكة من إظهار الإيمان فاخْرُجُوا منها إلى أرضٍ واسعة، آمنة، قال مجاهد: إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها، وقال سعيد بن جبير: إذا عُمِلَ في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة، وقال عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا (فإن) أرضي واسعة وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تُهَيَّأُ له العبادة، وقيل: نزلت في قولم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا تخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة، فأنزل الله هذه الآية ولم يَعْذرهم بتركَ الخروج، وقال مطرف بن عبد الله: أرضي واسعة: رزقي لكم واسع فاخرجوا.
فصل
قوله: «يا عبادي» لا يدخل فيه الكافر لوجوه:
أحدها: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] والكافر يحب سلطانة الشيطان فلا يدخل في قوله: «يا عبادي» .
وثانيها: قوله تعالى: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} [الزمر: 53] .
وثالثها: أن العباد مأخوذ من العِبَادة والكافر لا يعبد الله فلا يدخل في قوله: «عبادي» وإنما يختص بالمؤمنين الذين يعبدونه.
ورابعها: الإضافة بين الله والعبد بقول العبد إلهي، وقول الله عبدي.(15/368)
فإن قيل: إذا كانت «عباده» لا تتناول إلا المؤمنين فما الفادئة في قوله: «الذين آمنوا» مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال: يا أيها المكلفون المؤمنون، يا أيها الرجلاء العقلاء تتمييزاً بين الكافر والجاهل؟
فالجواب: أن الوصف يذكر لا لتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال: الأنبياءُ المُكَرَّمُونَ والملائكة المطهَّرُونَ، مع أن كل نبي مكرمٌ، وكل ملك مطهرٌ، فإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرامَ والطهارة، ومثله قولنا: الله الله العظيم فهاهنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون.
فإن قيل: قوله: «يا عبادي» يفهم منه كونهم عابدين فما الفائدة بالأمر بالعبادة بقوله: «فَاعْبُدُونِ» ؟
فالجواب: فيه فائدتان:
أحدهما: المداومة أي يا من عَبَدْتُمُونِي في الماضي فاعْبُدُوني في المستقبل.
والثانية: الإخلاص أي يا من يعبدني أَخْلِص العمل ولا تَقْبَلْ غيري.
فإن قيل: الفاء في قوله: «فَإِيَّايَ» يدل على أنه جواب لشرطٍ فما ذاك؟
فالجواب: قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال: إذا كان لا مانع من عبادتي فإياي فاعبدون فهو لترتيب المقتضَى على المقتضي كما يقال: هذا عالمٌ فأكرموه.
فكذلك هاهنا لما أعلم نفسه بقوله: «فَإيَّايَ» وهو لنفسه مستق العبادة، فقال: «فَاعْبُدُونِ» . قال الزمخشري: «هذا جواب شرط مقدر، وجعل تقديم المفعول عوضاً من حذفه مع إفادته للاختصاص» . وقد تقدم مُنَازَعُه أبي حيان له في نظيره.
قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} قرأه بالغيبة أبو بكر، وكذا في الروم في قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} وافقه أبو عمرو في الروم فقط(15/369)
والباقون بالخطاب فيها. وقرىء يَرْجعثون مبيناً للفاعل.
فصل
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الأخوان فخوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة أي كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت فإن كل نفس ذائقة الموت فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فإن إلى الله مرجعكم فيجزيكم بأعمالكم، وفيه وجه دقيق آخر وهو أن قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي إذا كانت (معلقة) بغيرها فهو للموت ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت} [الدخان: 56] وإذا كان كذلك فمن يريد أن لا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره، وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت لقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] (يريح من الموت) فقال تعالى: «فإياي فاعبدون» أي تعلقوا بي، ولا تتبعوا النفس، فإنها ذائقة الموت {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوعٌ إلي وليس بموت لقوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وقال عليه (الصلاة و) السلام: «المؤمِنونَ لا يَمُوتونَ بل يُنْقَلُون من دار إلى دار» .
قوله (تعالى) : {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الوجهان المشهوران الابتداء، والاشتغال، وقوله: «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ» ، قرأ الأخوانِ بتاء مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النون، وياء مفتوحة بعد الواو من الثَّوَاءِ وهو الإقامة، يقال: ثَوَى الرجلُ إذا أقامَ، مفتوحة بعد الواو من المَبَاءَةِ وهي الإنزال أي لنبوئنهم من الجنة غرَفاً.(15/370)
قوله: «غُرَافاً» على القراءة الأولى إما مفعول به على تضمين «أَثْوَى» أَنْزَلَ فيتعدى لاثنين؛ لأنَّ «» ثوى «قاصرٌ، وأكسبتْهُ الهمزةُ التعدي لواحدٍ، وإما (على) تشبيه الظرف المختص بالمبهم كقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] وإما على إسقاط الخافض اتساعاً أي في غُرَفٍ. وأما في القراءة الثانية فمفعول ثانٍ؛ لأن» بوأ «يتعدى لاثنين قال تعالى: {تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] ، ويتعدى باللام، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ} [الحج: 26] .
وقرىء «لنثوينّهم» بالتشديد مع الثاء المثلثة، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة، و «تجري» صفة «لِغُرَفاً» {خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين} وهذا في مقابلة قوله للكفار: {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55]
قوله: «الَّذِينَ صَبَرُوا» يجوز فيه الجر والنصب والرفع كنظائر له تقدمت، والمعنى: الذين صبروا على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يعتمدون. قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} جوز أبو البقاء في «كأين» وجهين:
أحدهما: أنها مبتدأ و «لا تحمل» صفتها و «الله يرزقها» خبره و «من دابة» تبيين.
والثاني: أن تكون في موع نصب بإضمار فعل يفسره «يرزقها» ويقدر بعد «كأين» يعني لأن لها صدر الكلام، وفي الثاني نظر؛ لأن من شرط المفسرِ العملَ، وهذا المفسر لا يعمل لأنهُ لو عمل لحل محل المفعول لكن لا يحل محله، لأن الخبر (متى(15/371)
كان) فعلاً رافعاً لضمير مفرد امتنع تقديمه على المبتدأ. وإذا أردت معرفة هذه القاعدة فعليك بسورة «هود» عند قوله: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] .
فصل
لما ذكر الله {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغدٍ، ويأتيها رزقها كل يوم.
واعلم أن (في) كأين (أربع لغات غير هذه كائن على وزن راعٍ، وكَأَى على وزن رَعَى «وكِيءَ» على وزن «رِيعَ» و «كَا» على وزن «رع» ولم يُقْرأ إلا كائن و «كا» قراءة ابن كثير.
فصل
«كأين» كلمة) مركبة من «كاف التشبيه» و «أن» التي تستعمل استعمال «مَن» و «ما» ركبتا، وجعل المركّب بمعنى «كم» ثم لم يكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأن «كأيّ» مستعمل غير مركب كما يقول القائل: «رأيت رجلاً لا كَأَيِّ رَجُلٍ يكُونُ» (فقد حذف المضاف إليه، ويقال: رأيت رجلاً لا كأي رجل) وحينئذ لا يكون «كي» مركباً. فإذا كان «كأي» ههنا مركباً كتبت بالنون للتمييز، (كما تكتب مَعْدِ يكَرِبَ وبَعْلَبَكَّ) موصولاً للفرق وكما تكتب ثَمَّةَ بالهاء تمييزاً بينها وبين (ثَمَّتَ) .
فصل
روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وآذاهم المشركون هاجروا إلى المدينة. فقالوا: كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال؟ فمن يطعمنا بها(15/372)
ويسقينا؟ فأنزل الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ} وكم من دابة ذاتِ حاجة إلى غذاء و {لا تحمل رزقها} لضَعفها، كالقَمْلِ والبُرْغُوث والدود {الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} حيث ما كنتم «وهو السَّمِيعُ» لأقوالكم: ما نجد ما ننفق بالمدينة، {العَلِيمُ بما في قلوبكم} .
قال سفيان: ليس شيء مما خلق الله نَجْباً إلا الإنسان والفأرة والنَّمْلَة روى بن عمر قال: «دخلت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حائطاً من حوائط الأنصار فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يلقط الرُّطَبَ بيده ويأكل، فقال: كُلْ يا ابن عمر، (قلت: لا أشتهيها يا رسول الله قال: لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاماً ولم أجده) فقلت: إنا لله الله المستعان قال يا ابن عمر: لو سألت ربي لأعطاني مثل ملْكِ كِسْرَى وقَيْصَرَ أضعافاً مضاعفة ولكني أجوعُ يوماً وأَشْبع يوماً فكيف بك يا ابن عمر إذا عَمَّرْتَ وبَقِيتَ في أمر الناس يُخْبِّئُونَ رزق سنة ويضعف اليقين فنزلت: {وكأين من دابة لا تحمل رقها} الآية، وقال عليه (الصلاة و) السلام» لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوَكُّله لَرَزَقكُمْ كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِمَاصاً، وتروحُ بِطَاناً «(15/373)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» يعني كفار مكة {مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} أي هم يعتقدون هذا فكيف يصدفون عن عبادة الله مع أن من عُلِمَ عظمُتُه وَجَب خدمَتُهُ ولا عظم فوق السماوات والأرض، ولا حاقرة فوق حقارة الجَمَاد؛ لأن الجمادَ دونَ الحيوان والحيوانَ دونَ الإنسان، والإنسان دون سكان السماواتِ فكيف يتركون عبادة أعظمِ الموجوداتِ ويشتغلون بعبادة أخسّ الموجودات؟
فصل
لما بين أمر المشرِك مخاطباً معه، (ولم ينتفع به، وأعرض عنه، وخاطب(15/373)
المؤمنين بقوله: «يا عبادي» وأتم الكلام معه ذكر معه) ما يكون إرشاداً للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن، فإن السيد إذا كان له عبدان أو الوالد إذا كان ولدان، وأحدهما رشيد، والآخر مفسد ينصح أولاً المفسد فإن لم يسمع يلتفت إلى الرشيد ويعرض عن المفسد، ويقول: إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ولا يكن منك هذا المفسد فيتضمن هذا الكلام نصيحة الرشيد، وزجر المفسد، فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب الموجب نكاية في قلبه، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه إنَ هذا أخاك العجب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف فيه الفساد من الصلاح، وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده يكون هذا الكلام أيضاً داعياً إلى الرشاد ومانعاً له من الفساد فكذلك قال الله للؤمِنِ العجب منهم إنهم إن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولون الله ثم لا يُؤْمِنُونَ.
فصل
ذرك في السماوات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير، لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة فإن الشمس لو كانت مخلوقةً بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل ولا النهار، ولا الصيف ولا الشتاء فإذن الحكمة في تحريكهما (وتسخيرهما) . واعلم أن في لفظ التسخير دون التحريك فائدة وهي أن التحريك يدل على مجرد الحركة، وليست مجرد الحركة كافية؛ لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك في ألُوف من السنين، فالحكمة في تسخيرها تحريكها في قدر ما ينتقل الإنسان آلافاً من الفراسخ، ثم لم يجعل لها حركةً واحدة، بل حركات.
إحداها: حركة من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة، والأخرى: حركتها من المغرب إلى المشرق ويدل عليها أن الهلال يرى في جانب (المغرب) على بعد مخصوص من الشمس ثم يبعد منها غلى جانب المشرق حتى يُرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشَّمْس، والشمس على أفق المغرب، والقمر على أفق المشرق وأيضاً حركة الأوج، وحركة المائل والتدوير في القمر، ولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول.
واعلم أن أصحاب الهيئة قالوا: الشمس مركوزة في الفلك، والفلك يديرها بدَوَران. وأنكره المفسرون الظَّاهِريُّونَ. واعلم أنه لا بعد في ذلك (إن) لم يقولوا(15/374)
بالطبيعة؛ فإن الله تعالى فاعل مختار إن أَراد أن يحركهما (في الفلك وبالفلك ساكن يجوز، وإن أراد أن يحركهما) بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطعٌ أو ظاهرٌ. واعلم أنه تعالى ذكر إيجاد الذوات بقوله: {خلق السموات والأرض} وذكر إيجاد الصفات بقوله: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} ثم قال: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} لما ذكر الخلق ذكر الرزق؛ لأن بقاء الخلق ببقائه، وبقاء الإنسان بالرزق، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاق العبادة والأصنام ليست كذلك والله مستحقها وإما لكونه عظيم الشأن والله الذي خلق السماوات عظيم الشأن فله العبادة، وإما لكونه يأمر الإحسان، والله يَرْزُقُ الخَلْقَ فله الفضل والإحسان، والامْتِنَان فله العبادة {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ} يعلم مقادير الحاجات والأرزاق، ولما قال: «يبسط الرزق» ذكر اعترافهم بذلك فقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله} يعني سبب الرزق، وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله.
قوله: {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على ما أقروا به، ولزوم الحجة عليهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق لهذه الأشياء فقل الحمد لله على ظهور تناقضهم وأكثرهم لا يعقلون) هذا التناقض، وقيل: هذا كلام معترض في أثناء كلام، فإنه قال: {بَلْ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} فذكر في أثناء هذا الكلام الحمد لذكر النعمة كقوله:
4031 - إنَّ الثَّمَانِينَ - وَبُلِّغْتَهَا - ... قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلَى تَرْجُمَان
قوله (تعالى) : {وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} «اللهو» هو: الاستمتاع بلذّات الدنيا، و «اللعب» (الْعَبَثُ) ، سميت بها، لأنها فانية، وقيل: «اللهو» الإعراض عن الحق، و «اللعب» في الإقبال على الباطل.
فإن قيل: قال في الأنعام: {وَمَا الحياة الدنيآ} (ولم يقل: «وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ» ) وقال ههنا: {وما هذه الحياة} فما فائدته؟(15/375)
فالجواب: أن المذكور (من قبل ههنا أمر الدنيا، حيث قال: {فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا} فقال: هذه، والمذكور قبلها) هناك الآخرة حيث قال: {ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال: {وما الحياة الدنيا} .
فإن قيل: ما الحكمة في تقديمه هناك «اللعب» على «اللهو» وههنا أخر «اللعب» عن «اللهو» .
فالجواب: لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة، وإظهارها للحسرة ففي ذلك الوقت ببعد الاستغراق في الدنيا، بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللهم إلا لمانعٍ يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق (بها) ، أو لعاصم يعصمه فلا يستغل بها أصلاً، فكان: (ههنا) الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله هناك: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} [يوسف: 109] [النحل: 30] وقال هَهنا {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان} ؟ .
فالجواب: لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازعٍ قويٍّ فقال: الآخرةُ خَيْر ولما كان الحال هنا حال الاستغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال: لا حياة إلا حياة الآخرة.
قوله: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان} قدر أبو البقاء وغيره قبل المبتدأ مضافاً أي وإنَّ حَيَاةَ الدارِ الآخرة وإنما قدر ذلك ليتطابق المبتدأ والخبر والمبالغة أحسن و «واو» الحيوان (عن ياءٍ) عند سيبويه وأتباعه، وإنما أبدلت واواً شذوذاً، وكذلك في «حَيَاةٍ» علماً وقال أبو البقاء لئلا يلتبس بالتثنية يعني لو قيل: حَيَيَانِ - قال: ولم(15/376)
تقلب ألفاً لتَحَرُّكِهَا وانفتاح ما قبلها؛ لئلا يحذف إحدى الألفين وغير سيبويه حمل ذلك على ظاهره، فالحياة عند لامُها «واو» . ولا دليل لسيبويه في «حَيِيَ» ؛ لأن الواو متى انكسر ما قبلها قلبت ياءً نحوُ: «عُدِيَ، ودُعِي، وَرَضِيَ» . ومعنى الآية: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} أي الحياة الدائمة الباقية، والحيوان بمعنى الحياة أي فيها الحياة الدائمة {لو كانوا يعلمون} أي لو كانوا يعلمون أنها الحيوان لما آثروا عليها الدنيا.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله: في الأنعام {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32] وقال هنا {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ؟
فالجواب: أن المُثْبَتَ هناك كون الآخرة، ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة. وهذا دقيق لا يُعْلَمُ إلا بِعِلْمِ نَافِعٍ.(15/377)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
قوله: {فإذا ركبوا في الفلك} قال الزمخشري: «فإن قُلتَ» : بم اتصلَ قوله فَإذَا رَكبُوا في الفُلْك؟
قلتُ: بمحذوف دل عليه ما وصفهم (به) وشرح من امرهم معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والغفلة فإذا ركبوا.
قوله: «دَعَوُا اللَّهَ» معناه: فإذا خافوا (مِنَ) الغرق دعوا الله مخلصين له الدين، وتركوا الأصنام، وهذا إشارة إلى تحقيق أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا؛ لأنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رَجَعُوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا، وإذا نجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا، وأشركوا لقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد يقرون أن القادر على كشفها هو الله - عزّ وجلّ - وحده، وإذا زالت عادوا إلى كفرهم، قال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت عليهم الريح ألقوها في البحر، وقالوا: يا رب يا رب.(15/377)
قوله: «ليَكْفُرُوا» فيه وجهان:
أظهرهما: أن اللام لام «كي» أي سَيُشْرِكُونَ لِيَكُونَ إشراكُهُم كفراً بنعمة لإنجاء «وَلِيَتَمَتَّعُوا» بسبب الشرك «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» وبال عملهم.
والثاني: أن تكون لام الأمر، ومعناه التهديد والتوعيد، كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] أي ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم فسيعلمون فساد ما يعملون.
قوله: «وَلِيَتَمَتَّعُوا» ، قرأ ابو عمرو وابنُ عامر وعاصمٌ وورشٌ بكسرها، وهي محتملة للأمرين المتقدمين، والباقون بسكونها، (وهي) ظاهرة في الأمر، لإإن كانت الأولى للأمر فقد عطف أمراً على مثله، وإن كانت للعلة فيكون عطف كلاماً على كلام، فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة وقرأ عبد الله فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، وأبو العالية «فَيُمَتَّعُوا» بالياء من تحت مبنياً للمَفْعُولِ.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} وجه تعلقه بما قبله إن الإنسان يكون في البحر على أخوف ما يكون لا سيما غذا كان بيته في بلدٍ حصين فلما ذكر الله حال المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذَكَّرَهُمْ حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم، وفيها سُكْنَاهُمْ، ومولدهم وهي حصين بحصن الله حيث من دخلها يمتنع من حصل فيها، والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس يعني: إنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي أتم ما حصلتم عليه كفرتم بالله، وهذا متناقض، لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لِقَطْعِكُم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي(15/378)
حصلت، وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها، والأصنام التي قد (قطعتم) في حال الخوف أن لا أمن منها لها كيف أَمِنْتُمْ بها في حال الأمن؟ ثم قال: «أَفِبَالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ» (قرأ العامة) يؤمنون ويكفرون بياء الغيبة، والحسن، والسلمي بتاء الخطاب فيهما، والمعنى: أفبالأَصْنَام والشياطين يؤمنون وبنعمة الله محمد والإسلام يكفرون؟
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً} فزعم أن له شريكاً، والظلم وضع الشيء في غير موضعه فإذا وضعه في موضع لا يمكن ذلك موضعه يكون أظلم، لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول.
قوله: {أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ} أي بمحمد، والقرآن لما جاءه {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ} وهذا استفهام تقرير، كقوله:
4032 - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
والمعنى: أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم؟
قوله: «والَّذِينَ جَاهَدُوا» (يجوز) فيه ما جاز في «الذين آمنوا» أول السورة وفيه رد على ثَعْلَب حيث زعم أَنَّ جملة القسم لا تقع خبراً للمبتدأ، والمعنى: والذين جاهدوا المشركين لنُصرة ديننا «لَنَهْدَينَّهُمْ سُبُلَنَا» لَنُثَبَتَنَّهُمْ على ما قاتلوا عليه وقيل: لنَزِيدنهم هدى، كما قال: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} [مريم: 76] وقيل: لَنَهْدِيَنَّهُمْ لإصابة الطرق المستقيمة، والطرق المستقيمة هي التي توصل إلى(15/379)
رضي الله - عزّ وجلّ - قال سفيان بن عيينة: إذا اختلفت الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور، فإن الله قال: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وقيل: المجاهدة هي الصبر على الطاعات قال الحسن: أفصلُ الجهاد مخالفة الهوى، وَقَالَ الفضيل بن عياض {والَّذِينَ جَاهَدُوا في إقامة السنة لنهدينهم سبيل الجنة} .
قوله: {وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} من إقامة الظاهر مُقَام المضمر، إظهاراً لشرفهم، والمعنى لمع المحسنين بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقابهم.
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسناتٍ بعدد المؤمنين والمنافقين»(15/380)
سورة الروم(15/381)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
مكية وهي ستون آية، وثمان مائة وتسع عشرة كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاث حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الروم} وجه تعلق هذه السورة بما قبلها أن الله تعالى لما قال: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي والإله كما قال: {وإلهكم وَاحِدٌ} [العنكبوت: 46] وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله، بل كثير منهم كانوا مؤمنين (به) كما قال: {فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت: 47] أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور، وكان بين فارس والروم قتال والمشركون يودون أن تغلب فارس الروم لأن أهل فارس كانوا مجوساً آمنين، والمسلمين يَودُّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث «كسرى» جيشاً إلى الروم واستعمل عليهم رجلاً (يقال له: شهريار وبعث «قيص» جيشاً واستعمل عليهم) رجلاً يدعى يحانس، فالتقيا باذْرِعاتَ، وبُصْرَى، وقال عكرمة: هي أذرعات وكسكر، وقال مجاهد: أرض الجزيرة، وقال مقاتل: الأردن وفلسطين هي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة، فشق ذلك عليهم وفرح به كفار مكة وقالوا للمسلمين: إنكم(15/381)
أهل الكتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أمّيُّون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الرُّوم وإنكم إن قاتلتمونا لنَظْهَرَنَّ عليكم فأنزل الله هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق بل الله قد يريد في ثواب المؤمنين من يبتليه، ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد.
فصل
قد تقدم أن كل سورة افْتُتِحَتْ بحروف التَّهَجِّي فَإِن في أولها ذكرَ الكتاب أو التنزيلَ أو القرآنَ، كقوله: {الم. ذلك الكتاب} {المص. كتاب} {طه ما أنزلنا عليك القرآن} {الم. تنزيل الكتاب} {حم. تنزيل من الرحمن الرحيم} {يس. والقرآن} {ق. والقرآن} إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت، وذكرنا الحكمة منهما هناك. وأما ما يتعلق بهذه السورة فنقول: إن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت، وهذه في أوائلها ذكر ما هو معجز وهو الإخبار عن الغيب، فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع لما ترد عليه المعجزة ويفزع للاستماع.
قوله: {في أدنى الأرض} زعم بعضهم أن «أل» عوض عن الضمير، وأن الأصل {فِي أَدْنَى أرْضهم} وهو قول كُوفي، وهذا على قول إن الهرب كان من جهة بلادهم، وأما من يقول: إنه من جهة بلاد العرب فلا يتأتى ذلك. وقرأ العامة «غُلِبَتْ» مبنياً للمفعول، وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائه للفاعل.
قوله: {في أدنى الأرض} أي الروم من بعد غلب فارس إِيَّاهم. والغَلَبُ. والغَلَبَةُ «لُغْتَانِ» فعلى القراءة الشهيرة يكون المصدر مضافاً لمفعوله. ثم هذا المفعول إما أن يكون مرفوع المحل على أن المصدر المضاف إليه مأخذو من مبني (للمفعول) على خلاف في ذلك. وإما منصوب المحل على أن المصدر من مبني للفاعل، والفاعل محذوف تقديره: من بعد أن غلبهم عدوهم وهم فارس، وأما على القراءة الثانية فهو مضاف لفاعله.(15/382)
قوله: «سَيَغْلِبُونَ» خبر المبتدأ، و {مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} متعلق به، والعامة - بل نقل بعضهم الإجماع - على سيغلبون مبنياً للفاعل، فعلى الشهيرة واضح أي من بعد أن غلبتهم فارس سيغلبون فارس، وأما على القراءة الثانية فأخبر أنهم سيغلبون ثايناً بعد أن غلبوا أولاً، وروي عن ابن عمر أنه قرأ ببنائه للمفعول. وهذا مخالف لما ورد في سبب الآية، وما ورد في الأحاديث، وقد يلائم هذا بعض ملاءمة من قرأ «غَلَبَتْ» مبنياً للفاعل، وقد تقدم أن ابن عمر ممن قرأ (بذلك) . وقد خرج النحاس قراءة عبد الله بن عُمَر على تخريج حسنٍ، وهو أن المعنى: وفارس من بعد غلبهم للروم سيغلبون إلا أن فيه إضمار ما لم يذكر ولا جرى سبب ذكره.
قوله: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} متعلق بما قبله، وتقدم تفسير البضع واشتقاقه في «يُوسُفَ» . وقال الفراء: الأصل في غلبهم غلبتهم بتاء التأنيث فحذلت للإضافة كإقامة ضرورة تدعو إليه، وقرأ ابن السَّمَيفَع وأبو حيوة غلبهم فيحتمل أن يكون ذلك تخفيفاً شاذّاً، وأن يكون لغة في المفتوح كالظَّعَنِ والظَّعْنِ.(15/383)
فصل
قوله: {في أَدْنَى الأرض} أي أرض العرب، لأن الألف واللام للعهد، والمعهود عندهم أرضهم. فإن قيل: أي فائدة في ذكر قوله: {من بعد غلبهم} لأن قوله: «سيغلبون» بعد قوله: «غلبت الروم» لا يكون إلا من بعد الغلبة؟
فالجواب: فائدته إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً فلو كان غلبتهم بشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعد ما غلبوا دل عليه أن ذلك بأمر الله (فقال) من بعد غلبهم فيتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بقوتهم وإنما ذلك بأمر هو من الله، وقوله: في أدنى الأرض لبيان شدة ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طرف الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك «الرومية» لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإن الله تعالى.
فصل
قال: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} وهو ما بين الثلاثة والعشرة فأبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم لأن السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله وبينها لنبيه، وما أذن له في إظهاره لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلاف في كلامه، ولَمَّا نزلت الآية خرج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكفار فقال: فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فواللَّه لتَظْهَرَنَّ الرُّوم على فارسَ أخبرنا بذلك نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقام إليه أُبَيُّ بن خلف الجُمَحِيّ فقال: كَذَبْتَ فقال: أنت أكذبُ يا عدوَّ اللَّهِ (فقال اجعل بيننا) أجلاً أن احبك عليه، والمناحبة المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت، وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخبره بذلك، وذلك قبل تحريم القُمَار، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر، وماده (في الأجل) فجعلها مائة قلوص، إلى تسع سنين، وقيل: إلى سبع سنين قال: قد فعلت وهذا يدل على علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بوقت الغَلَبَةِ ثم إنّ أبيّ بْنَ خلف خَشِيَ أن يخرج أبو بكر من مكة فأتاه ولزمه وقال (أبيّ) : أخاف أن تخرج من مكة فأقم(15/384)
لي كفيلاً فكفل له ابن عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد رآه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال: والله لا أدَعُكَ حتى تُعْطِيَنِي كفيلاً فأطاه، ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم.
وقيل: كان يوم بدر، قال الشعبي: لم تَمْض تلك المدة التي عقدوا المانحبة بينهم أهل مكة وصاحب قمارهم أبي بن خلف والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر الصديق، وذلك قبل تحريم القمار حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فقمر أبو بكر أبيّاً، وأخذ مال الخطر من ورثته، وجاء به يحمله إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تصدق به.
قوله: {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} العامة على بنائها ضمّاً لقطعهما على الإضافة وإرادتهما أي من قَبْلِ الغَلَبِ ومِن بَعْدِهِ أو من قبل كل أمر ومن بعده، وإنما بني على الضم لما قطعت عن الإضافة لأن غير الضمة من الفتح والكسرة تشبيه بما يدخل إليهما وهو النصب والجر، أما النصب ففي قولك: «جِئْتُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» .
وأما الجر ففي قولك: «من قبلِه ومن بَعْدِه» فبني عليه لعدم دخول مثلها عليه في الإعراب وهو الرفع، وحكى الفراء كسرها من غير تنوين. وغلطه النحاس وقال: إنما يجوزُ من قبل ومن بعد يعني مكسوراً منوناً، قال شهاب الدين: وقد قرىء بذلك ووجهه أنه لم ينو إضافتهما فَأَعْرَبَهُمَا كقوله:
4033 - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً ... أَكَاد أَغُصُّ بِالمَاءِ القُرَاحِ
وقوله:
4034 - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّة ... فَمَا شَرِبُوا بَعْداً عَلَى لذَّةٍ خَمْرَا
وحكي من قبلٍ بالتنوين والجر ومن بعدُ بالبناء على الضم.(15/385)
وقد خرج بعضهم ما حكاه الفراء على أنه قدر أن المضاف إيله موجود فترك الأول بحاله وأنشد:
4033 - ... ... ... ... ... ... ... ... بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
والفرق لائح، فإن في اللفظ مثل المحذوف على خلاف في تقدير البيت أيضاً.
(فصل)
وعلى قراءة عبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، والحسين، وعيسى بن عمر غَلَبَتِ الروم بفتح الغين واللام سيُغْلَبون بضم الياء وفتح اللام. قالوا: نزلت حين أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن غلبة الروم فارساً في أدنى الأرض (إليكم) وهم من بعد غلبهم سيغلبون المسلمين في بضع سنين وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم والأول قول أكثر المفسرين وهو الأصح ولله الأمر من قبل وم نبعد أي من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فأي الفريقين كان لهم الغلبة فهو بأمر الله وقضائه وقدره.
قوله: «ويَوْمَئِذٍ» أي إذ تغلبُ الروم فارساً، والنصاب «ليوم» (يفرح وقوله «بنصر الله ينصر» من التجنيس، وقد تقدم آخر الكهف، وقوله: بنصر الله «الظاهر تلقه» بيفرح) . وجوز أبو البقاء أن يتعلق «بِيَنْصُرُ» وهذا فيه تفكيك للنَّظْمِ.
فصل
المعنى: يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله الروم على فارس. قال السدي: فرح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(15/386)
والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر، فظهر أهل الكتاب على أهل الشرك {ينصر من يشاء وهو العزيز} الغالب «الرحيم» للمؤمنين.(15/387)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قوله: «وَعْدَ اللَّهِ» مصدر مؤكد ناصبه مضمر أي وَعَدَهُم اللَّهُ ذلك وعداً بظهور الروم على فارسَ {لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} وهذا مقدر لمعنى هذا المصدر ويجوز أن يكون قوله: {لا يخلف الله وعده} حالاً من المصدر فيكون كالمصدر الموصوف فهو مبين للنوع (و) كأنه قيل: وعد اله وعداً غير مخلف {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} .
قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا} يعني أمر معايشهم كيف يكتسبون ويتَّجِرُونَ ومتى يغرسون قال الحسن: إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه، ولا يخطىء وهو لا يحسن (يصلي) والمعنى أن علمهم منحصر في الدنيا بل لا يعلمون الدنيا كما هي وإنما يعلمون ظاهرها وهو ملاذها، ولا يعلمون باطنها وهو مضارها ومتاعبها ولا يعلمون فناها {وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} ساهون جاهلون بها لا يتفكرون فيها، وذكرهم الثانية ليفيد أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكر حاصلة.
قوله: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا» فقوله في أنفسهم ظرف للتفكّر، وليس مفعولاً للتفكر (ومتعلقه خلق) السماوات والأرض، والمعنى أن أسباب التفكر حاصلة وهي أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وَحْدَانِيَّة الله، وصدقوا بالحشر أما الوحدانية فلأن الله تعالى خلقهم في أحسن تقويم، ومن يفكر في تشريح بدن الإنسان وحواسه رأى في ذلك حِكَماً كل واحدة منها كافية في معرفة كون الله فاعلاً مختاراً قادراً كاملاً عالماً، ومن يكون كذلك يكون واحداً وإلا لكان عاجزاً عن إرادة شريكه ضد ما أراده وأما دلاله(15/387)
الإنسان على الحشر فلأنه إذا تفكر في نفسه يرى قُوَى مصائره إلى الزوال، وأجزاء ماثلة إلى الانحلالِ وله فناء ضروري فلو لم يكن حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه عبثاً وإليه الإشارة بقوله {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون: 115] ، هذا ظاهر، لأن من يفعل شيئاً للعبث، فلو بالغ في أحكامه لضحك منه فأذن خلقه لذلك للبقاء ولا بقاء دون اللقاء بالآخرة فإذن لا بد من البعث. ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الأقطار فقال: {مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} فقوله: «إلا بالحق» إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية وقد بينا ذلك في قوله: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 44] .
قوله: «ما خلق» «ما» نافية، وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها.
والثاني: أنها معلقة للتفكّر فتكون في محل نصب على إسقاط الخافض ويضعف أن تكون استفهامية بمعنى النفي، وفيها الوجهان المذكوران. والباء في «بالحق» إما سببية، وإما حالية لإقامة الحق، وقوله: «وَأَجَلٌ مُسَمّىً تذكير بالأصل الآخر الذي أنكروه أي لوقت معلوم، إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة، {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُون} لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء.
قوله: «بلقاء» متعلق «بالكافرين» واللام لا تمنع من ذلك لكونها في خبر «إنَّ» .
فإن قيل: ما الحكمة في تقديمه ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق وقدم دليل الآفاق على دلائل الأنفس في قوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] ؟
فالجواب: أن المفيد إذا أفاد فائدة يتذكرها على وجه جيد يختاره فإن مهمة السامع المستفيد فذاك، وإلا يذكرها على وجه أبْيَنَ منه وينزل درجة فدرجة وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخراً فالمذكور من المفيد أخِراً مفهوم عند المستمع أولا، إذا علم هذا(15/388)
فنقول ههنا (الفعل) كان منسوباً إلى السامع حيث قال: {أو لم يتفكروا في أنفسهم} فقال: «في أنفسهم» يعني فيما فهموه أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً، وأما في قوله «سَنُرِيهِمْ» الأمر منسوباً إلى المفيد المسمع فذكر أولاً الآفاق، فإن لم يفهموه فالأنفس، لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها، وأما دلائل الآفاق فيمكن الذهول عنها، وهذا الترتيب مراعىً في قوله تعالى: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ويتفكرون في خلق السماوات والأرض بدلائل الآفاق.
فصل
وجه دلالة الخلق الحَقِّ على الوحدانية ظاهر، وأما وجه دلالته على الحشر فلأن (تخريب) السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع لأن الله قادر على إبقاء الحوادث أبداً كما أنه يبقي الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً، والخلق دليل إمكان العدم، لأن المخلوق لم يَجِبْ له القِدَمُ فجاز عيله العدم، فإذا أخبر الصادق عن أمر ممكن وجب على العاقل التصديق والإذعان؛ لأن العالم لما كان خلقه بالحق ينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياةٌ أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست لَعباً ولهواً كما تبين بقوله: {وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64] (وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث، والعبث ليس بحق) فخلق السماوات والأرض بالحق يدل على أنه لا بد بعد هذه الحياة الدنيا من الحياة.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله ههنا: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس} وقال من قبل: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ؟ .
فالجواب: (فائدته) أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههُنَا قَدْ ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل فبعد الدليل لا بد (أن يؤمن) من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل وإنَّ كَثِيراً، وقال قبله: {ولكن أكثر الناس} لأنه بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه وهو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه، والأرض التي تحته، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم،(15/389)
وحكاية أشكالهم فقال: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} وقال في الدليلين المتقدمين «أَوَلَمْ يَرَوا» «أَوَلَم يَتَفَكَّروا» إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض، وقال ههُنا «أوَ لَمْ يَسِيرُوا فينظروا» ذكرهم بحال أمثالهم، ومآل أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك، لأن من تقدم من «عَادٍ وَثُمودَ» كانوا أشدّ منهم قوة، ولم ينفعهم قُوَاهم وكانوا أكثر مالاً وعمارةٌ، ولم يمنعهم من الهلاك أَموالُهُمُ وحُصُونُهُمْ.
قوله: «وَأَثَارُوا الأَرْضَ» حَرَثُوهَا وقلبوها للزراعة (ومنه «البَقَرَة تُثِيرُ الأَرْضَ» وقيل: منه سمي ثوراً) ، وأنتم لا حراثة لكم، «وعَمَرُوها أَكْثَرَ ممّا عَمَرُوهَا» أهل مكة، قيل: قال ذلك لأنه لم يكن لأهل مكة حرث، وقوله: «أكثر مما» نعت مصدر محذوف أي عمارة أكثر من عمارتهم. وقرىء: «وآثَارُوا» بألف بعد الهمزة وهي إشباع لفتح الهمزة.
قوله: {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} فلم يؤمنوا فأهلكهم الله، {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} بنقص حقوقهم {ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بِبَخْسِ حُقُوقِهِمْ.
قوله: «عَاقِبَةُ الذَّيِنَ» قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ بالرفع، والباقون بالنصب، فالرفع على أنها اسم كان، وذكر الفعل لأن التأنيث مجازي، وفي الخبر حينئذ وجهان:
أحدهما: «السوءى» أي الفعلة السوءى والخَصْلَةُ السوءى.
والثاني: «أَنْ كَذَّبُوا» أي كان آخر أمرهم التكذيب فعلى الأول يكون في «أَنْ كَذَّبُوا» وجهان:
أحدهما: أنه على إسقاط الخافض إما لام العلة أي لأن كذبوا، وإما باء السببية أي(15/390)
بأن كذبوا فلما حذف الحرف جرى القولان المشهوران بين الخليل وسيبويه في محل «أَنْ» .:
والثاني: أنه بدل من «السُّوءَى» أي ثم كان عاقبتهم التكذيب، وعلى الثاني يكون «السوءى» مصدراً «لأساءوا» أو يكون نعتاً لمفعول محذوف أي أساء والفعلةَ والسُّوءَى، و «السوءى» تأنيث «لِلأَسْوَأ» . وجوز بعضهم أن يكون خبر كان محذوفاً للإبهام، و «السوءى» إما مصدر وإما مفعول كما تقدم أي اقْتَرَفُوا الخَطِيئَةَ السُّوءَى؛ أي كان عاقبتهم الدّمار. وأما النصب فعلى خبر كان، وفي الاسم وجهان:
أحدهما: «السوءى» إن كانت الفعلة السوءى عاقبةَ المُسِيئينَ، و «أَنْ كَذَّبُوا» على ما تقدم.
الثاني: أن الاسم «أَنْ كَذَّبُوا» و «السُّوءَى» على ما تقدم. المعنى: ثم كان عاقبة الذين أساءُوا السُّوءى يعني: الخلة التي تسوؤهم وهي النار (وهي) السُّوءَى اسم لجهنم كما أن الحُسْنَى اسم للجنة «أن كذبوا» أي لأن كذبوا، وقيلك تفسير «السوءى» ما بعده، وهو قوله: «أَنْ كَذَّبُوا» يعني: ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب حَمَلَهُمْ تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون.(15/391)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
قوله: {الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء(15/391)
ولم يقل: «يُعِيدُهُمْ» رد على الخلق، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؛ فيجزيهم بأعمالهم، قرأ أبو بكر، وأبو عمرو «يَرْجِعُونَ» - بالياء - والآخرون بالتاء.
قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون} قرأ العامة «يُبْلِسُ» ببنائه للفاعل وهو المعروف يقال: أَبْلَسَ الرجل أي انقطعت حجته فكست وهو قاصر لا يتعدى، قال العجاج:
4036 - يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا ... قَالَ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وقرأ السُّلَمِيُّ: «يُبْلَسُ» مبنيّاً للمفعول، وفيه بعدٌ، لأن أبْلَسَ يتعدى، وقد خُرِّجَتْ هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل مصدر الفعل، ثم حذف (المضافُ، وأقيم) المضاف إليه مُقَامَهُ، إذ الأصل يُبْلَسُ إبْلاَس المجرمين، و «يبلس» هو الناصب «ليَوْمَ تَقُومُ» و «يَوْمَئِذٍ» مضاف لجملة تقديرها يَوْمَئِذٍ يقوم وهذا كأنه تأكيد لفظي، إذ يصير التقيدر يبلس المجرمون (يوم تقوم الساعة) .
فصل
قال قتادةُ والكَلْبِيُّ: المعنى يبلس المشركون من كل خير؛ وقال الفراء: ينقطع كلامهم وحججهم. وقال مجاهد: يفتضحون. ولم يكن لهم شركائهم أصنامهم التي عبدوها ليشفعوا لهم شفعاء، {وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ} يتبرأون منها وتتبرأُ منهم.
قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} أي بين أهل الجنة من أهل النار، قال مقاتل: يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار فلا يجتمعون أبداً كما قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7] . قوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ}(15/392)
وهي البستان الذي في غاية النضارة، وقوله: «يُحْبَرُونَ» قال ابن عباس يكرمون. وقال قتادة ومجاهد: يُنَعمون، وقال مجاهد وأبو عبيدة: يسرون، والحَبْر والحُبُور السرور. وقيل الحَبْرة في اللغة كل نعمة حسنة والتَّحْبير التَّحْسِينُ يقال هو حسن الحِبرَ والسِّبر بكسر الحاء والسين وفتحهما وفي الحديث: «حَبْرْتُهُ لَكَ تَحْبِيراً» ، أي حسنت لك صوتي والقرآن تحسيناً، وجاء في الحديث «يَخْرُجُ من النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبْرُهُ وسَبْرُهُ» فالمفتوح مصدر والمكسور اسم، والروضة الجنة، قيل: ولا تكون روضة إلا وفيها نبت، وقيل: إلا وفيها ماء، وقيل: ما كانت منخفضة، والمرتفعة يقال لها: تُرعة، وقيل: لا يقال لها روضة إلا وهي في مكان غليظ مرتفع. قال الأعشى:
4037 - ما رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةً ... خَضْرَاءَ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
وأصل رياضٍ رَواضٌ، فقلبت الواو ياء على حدِّ حَوْصٍ وحِيَاضٍ ونكر الروضة للتعظيم، وقال ههنا: يُحْبَرُونَ: بصيغة الفعل ولم يقل «مَحْبُرُونَ» وقال في الأخرى (مُحْضَرُون) بصيغة الاسم ولم يقل «يُحْضَرُونَ» لأن الفعل يدل على التجديد، والاسم لا يدل عليه، فقوله «يحبرون» يعني كل ساعة يأتيهم ما يسرون به، وقوله «(15/393)
محضرون» أي الكفار في العذاب يبقون (فيه) مُحْضَرُونَ.(15/394)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
قوله: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} أي سبحوا الله، ومعناه صلوا عليه حين «تمسون» تدخلون في المساء، وهو صلاة المغرب والعشاء «وحين تصبحون» أي تدخلون في الصباح وهو صلاة الصبح. {وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} قال ابن عباس: يَحْمَدُهُ أهل السماوات والأرض ويصلون «وَعَشيّاً» أي صلوا لله عشياً؛ يعني صلاة العصر «وحِينَ تُظْهِرُونَ» أي تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر، قال نافع الأزرق لابن عباس، هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم وقرأ هاتَيْنِ الآيتين، وقال: جمعت الآية الصلوات الخمس ومواقيتها. وروى أبو هريرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال» مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحْمْدِهِ فِي يَوْم مائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ « (وقال عليه السلامَ:» مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مائةَ مَرَّةِ لَمْ يَأْتِ أَحِدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ ممّا جَاءَ بِهِ إلاَّ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أوْ زَادَ عَلَيْهِ «، وقالَ عليه السلام:» كَلَمَتانِ خَفِيفَتَانِ على اللِّسانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ حَبيبَتَانِ عَلَى الرَّحمَن: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله العَظيم «
قوله:» تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ «تامَّاتٌ) أي تدخلون في المساء والصباح كقولهم: إذا سَمِعْتَ بِسُرَى القَيْنِ فاعلم بأنه (مُصْبِح) أي مقيم في الصباح. والعامة على إضافة الظرف إلى الفعل بعده، وقرأ عكرمة:» حِيناً «بالتنوين، والجملة بعده صفة له، والعائد حينئذ محذوف أي تُمْسُونَ فيه، كقوله {واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} [لقمان: 33] . والناصب لهذا الظرف» سُبْحَانَ «لأنّه نائب عن عامله.
قوله:» وَعَشيّاً «عطف على» حين «وما بينهما اعتراض و» في السَّمَوَاتِ «يجوز أن يتعلق بنفس الحمد (أي أن الحمد) يكون في هذين الظرفين.(15/394)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
قوله: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} . قد تقدم اختلاف القراء في تخفيف الميت وتثقيله وكذلك قوله «تُخْرَجُونَ» في سورة الأعراف، و «كَذَلِكَ» نعت مصدر محذوف أي ومثل ذلك الإخراج العجيب تُخْرَجُونَ.
واعلم أن وجه تعلق إخراج احي من الميت والميت من الحي بما قبله هو أن عند الإصباح يخرج الإنسان من سُنَّةِ النَّوْم وهو النوم إلى سنة الوجود وهي اليقظة وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم. واختلف المفسرون في قوله: {يخرج الحي من الميت} فقال أكثرهم يخرج الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة وكذلك الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان. وقيل: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ثم قال: {وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} وفي هذا معنى لطيف وهو أن الإنسان بالموت تبطل حواسه، وأما نفسه الناطقة فتفارقه، وتبقى بعده كما قال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} [آل عمران: 169] لكن الحيوان نام متحرك حساس لكن النائم لا يتحرك، ولا يُحس، والأرض الميتة لا يكون فيها نماء، (ثم) النائم بالانتباه يتحرك ويحس والأرض بعد موتها (ينمو) نباتها، فكما أن تحريك ذلك الساكن وهذا الواقف سهل على الله، كذلك إحياء الميت سهل على الله، وإلى هذا أشار بقوله «وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ» .(15/395)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ} مبتدأ أو خبر أي وم جملة علامات توحيده وأنه يبعثكم خلقكم واختراعكم و «من» لابتداء الغاية، وقوله: «من تراب» أي خلق أصلنا وهو آدم من تراب، (أ) وأنه خلقنا من نطفة والنطفة من الغذاء والغذاء إنما يتولد من الماء والتراب على ما تقدم شرحه {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} في الأرض. والترتيب والمهلة هنا ظاهران فإنهم يصيرون بشراً بعد أَطْوَارِ كثيرة و «تَنْتَشِرُونَ» حال.
و «إِذَا» هي الفُجَائِيَّة، إلا أنَّ الفجائية أكثر ما تقع بعد الفاء؛ لأنها تقتضي التعقيب ووجه وقوعها (مع) «ثم» بالنسبة إلى ما يليق بالحالة الخاصة أي بعد تلك الأطوزار التي قَصَّها علينا في موضع آخر من كوننا نطفةً ثم علقةً ثم مُضْغَةً (ثُمَّ عظماً مجرداً) ثم عظماً مكسوّاً لحما (فَاجَأ) البشرية فالانتشار.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} «مِنْ أَنْفُسِكُمْ» يعني من بني آدم، وقيل خلق «حَوَّى» من ضِلَع آدم «لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا» . والصحيح أن المراد من جنسكم كما قال: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] ويدل عليه قوله: «لِتَسْكُنُوا إلِيها» يعني أن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر، أي لا يثبت نفسه معه، ولا يميل قلبه إليه {وجعل بينكم مودة ورحمة} (وقيل: مودة) بالمجامعة: (ورحمة) للولد تَمَسُّكاً بقَوْلِهِ: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} [مريم: 2] ، وقيل: جعل بين الزوجين المودةَ (والرحمة) فهما يَتَوَادَّانِ، وَيَتَرَاحَمَانِ وما من شيء أحبَّ إلى أحد من الآخر من غير رحم بينهما. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} يحتمل أن يكون المراد منه إن في خلق الأزواج «لآيات» . ويحتمل أن يقال: «إنَّ في جعل المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون» في عظمة الله وقدرته.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض} ثم لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق (ذكر) ما هو من صفات الأنفس وهو قوله: «واخْتِلاَفَ ألْسِنَتِكُمْ» أي لغاتكم من عرب وعجم مع تنوع كل من (الجنسين) إلى أنواع شتى لا سيّما العجم، فإن لغاتهم(15/396)
مختلفة، وليس المراد بالألسنة الجوارح، وقيل: المراد بالألسن اختلاف الأصوات، وأما اختلاف الألوان فالمراد أبيضُ وأسودُ وأحمرُ وأنتم ولدُ رجلٍ واحد، (وامرأةٍ واحدة) . وقيل: المراد باختلاف الألوان الذي بين ألوان الإنسان فإن واحداً منهم مع كَثْرة عددهم، وصغر حجم قدودهم لا يشتبه بغيره، والسموات مع غيرها وقلة عددها مشتبهات في الصورة {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ} ، قرأ حفص بكسر اللام، جعله جمع عَالِمٍ ضد الجاهل ونحوه: {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43] والباقون بفتحها لأنها آيات لجميع الناس وإن كان بعضهم يَغْفُلُ عنها وقد تقدم أول الفاتحة الكلام في «العَالَمِينَ» (قيل) : هو جمع أو اسم جمع.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار} لما ذكر الأعراض اللازمة وهي الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة بالنهار طلباً للرزق (و) قيل: في الآية تقديم وتأخير ليكون كل واحد مع ما يلائمه، والتقدير ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل، وعطفه عليه لأن حرف العطف قد يقوم مَقَامَ الجَارِّ، والأحسن أن يجعل على حاله.
والنوم بالنهار مما كانت العرب تَعُدُّه نعمةً من الله، ولا سيما في أوقات القَيْلُولَةِ في البلاد الحارة، وقوله: {وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ} أي منهما فإن كثير ما يكتسب الإنسان بالليل، ويدل على الأول قوله تعالى: {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [الإسراء: 12] وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 10 - 11] ، ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع تدبير واعتبار وقال ههنا: «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ومن قبل: «لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وقال: «لِلْعَالَمِينَ» لأن المنام بالليل، والابتغاء يظّن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله، فلم يقل آياتٍ للعالمين، ولأن الأمرين الأولين وهو اختلاف الألسن والأولون من اللوازم(15/397)
والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألون فإنهما يدومان بدَوَام الإنسان فجعلها آيات عامة، وأما قوله: «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر، ومنها ما يكفي فيه مُجَرَّدُ الفكرة، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى مثل حسيّة كالأشكال الهندسية، لأن خلق الأرواح لا تقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد، وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة فقال: «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ويجعلون بالهم من كلام المرشد.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً} لما ذكر العرضيات اللازمة للأنفس المفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق.
قوله: «يُريكُمُ البَرْق» فيه أوجه أظهرها: الموافق لأخواته أن يكون جملة اسمية من مبتدأ وخبر إلا أنه حذف الحرف المصدري، ولما حذف بطل عمله والأصل: ومن آياته أن يُرِيَكُمْ، كقوله:
4038 - أَلاَّ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
الثاني: أن «من آياته» متعلق «بيريكم» أو بمحذوف على أنه حال من البَرْقِ. والتقدير «يريكم البرق من آياته» فيكون قد عطف جملة فعليةً على جملة اسمية.
والثالث: أن «يريكم» صفة لموصوف محذوف أي ومن آياته (آية) يريكم البرق بها أو فيها البرق فحذف الموصوف والعائد عليها ومثله:
4039 - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أموت ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(15/398)
أي منهما تارة أموت منها.
الرابع: أن التقدير: ومن آياته سحابٌ أو شيءٌ يريكم؛ فيريكم صفة لذلك المقدر، وفاعل «يريكم» ضمير يعود عليه بخلاف الوجه قبله، فإن الفاعل ضمير الباري تعالى.
فصل
المعنى يريكم البرقَ خوفاً للمسافرين من الصواعق، وطمعاً للمقيمين في المطر وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون} .
فصل
قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة (حيث ذكر أولاً اختلاف الألسنة والألوان ثم المنام والأبتغاء، وقدم في الآفاق العارضة المفارقة) على اللوازم حيث قال: {يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ} وذلك لأن الإنسان متغير الحال، فالعوارض فيها أغرب من اللوازم فقدم ما هو عجيب لكونه أدخلَ في كونهِ «آيةً» فإن الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم فله صوت يعرف به لا يتغير ول لون يتميز به عن غيره، وهو متغير بذلك في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة والسماء (والأرض) ثابتان لا يتغيران ثم نرى في بعض الأحوال أمطاراً هاطلةً، وبُرُوقاً هائِلةً والسماء كما كانت والأرض كما كانت وذلك آية تدل على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحلِّ ويُزِيل أمراً مع ثبات المحلِّ.
فصل
كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافعَ كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة وهي أن البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كِنّ(15/399)
يخاف الابتلال فيستعد له، والذي له صهْريج، أو مصنع يحتاج إلى ماء أو زرع يسوي مجاري الماء، وأيضاً أهل البوادي لا يعلمون أن البلاد عشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروقَ اللائحة من جانبٍ دُونَ جانبٍ، واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمُقِيمينَ في البلاد فهي ظاهرة للبادين فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية.
فصل
أما كونه آيةً فلأن الذي فس السحاب ليس إلا ماءً وهواءً وخروج النار منهما بحيث يحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق وهو الله. وقالت الفلاسفة: السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء أو الماء فالهَوَى ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت الريحُ قويةً تحرك السحابُ فيَحْدُثُ صوت الرعد وتخرج منه النار، كما أن النار تخرج من وَقْعِ الحَجَر على الحَديد فإن قيل: الحديد والحجر جسمان صُلْبَان، والسحاب والريح جسمان (لَيَنانٍ) (فنقول لكن حركة يد الإنسان ضعيفة، وحركة الريح قوية تقلع الأشجار) فنقول لهم الرعد والبرق (أَمْرانِ) حادثان لا بد لهما من مسبِّب، وقد علم بالبرهان كونُ كلِّ حادث (فهما) من الله ثم نقول: (هب) أن الأمر كما يقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة فلا بد لها من سبب وينتهي إلى واجب الوجود فهو آية للعاقل على قدرة الله كَيْفَمَا فَرَضْتُمْ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله ههنا: {آيات لقوم يعقلون} وقوله فيما تقدم: «لقوم يتفكرون؟» فالجواب:
لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة (من) المختلف، والبرق والمطر ليس أمراً دون وقت، وتارة يكون قوياً، وتارة يكون ضعيفاً فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار، فقال هو آية لمن له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً.(15/400)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ} قال ابن مسعود: قامتا على غير عُمُدٍ بأمره. واعلم أنه ذكر من لوزم المساء والأرض قيامهما فإن الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها معجب من علوها وثباتها من غير عمد، وهذا من اللوازم، فإن الأرض لا تخرج عن مكانه الذي فيه.
(فإن قيل:) بأنها تتحرك في مكانها كالرَّحَاء، ولكن اتفق العقلاء على أنها في مكانها (لا تخرج عنه. وهذا آية ظاهرة لأن كونهما في الموضع الذي هما فيه، وعلى الموضع الذي هما عليه) من الأمور الممكنة وكونهما في غير ذلك الموضع جائز فكان يمكن أن يَخْرُجَا منه، فلمّا لم يخرجا كان ذلك ترجيحاً للجائز على غيره وذلك لا يكون إلا بفاعل مختار، وقالت الفلاسفة: كون الأرض في الكائن الذي هي فيه طبيعى لها لأنها أثقل الأشياء، والثقيل يطلب المركز والخفيف يطلب المحيط وكون السماء في مكانها إن كانت ذات مكان فلذاتها، فقيامها فيه لطبعها وأُجيبُوا بأنكم وافقتمونا بأن ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر لكن مقعَّر الفلك لا يخالف مُحْدَبه في الطبع فيجوز حصول مقعره في موضع محْدبه وذلك بالخروج والزوال فإذن تطرق الزوال إليه عن المكان ممكن لا سيما على السماء الدنيا فإنها ليست محدّده للجهات على مذهبكم أيضاً والأرض كانت يجوز عليها الحركة الدورية كما تقول على السماء فعدمها وسكونها ليس إلا بفاعل مختار.
فصل
ذكر الله تعالى من كل باب أمرين: أما من الأنفس فقوله: « (خلقكم) وخلق لكم» واستدل بخلق الزوجين ومن الآفاق السماء والأرض (فقال: «خلق السماوات والأرض» ) ومن لواز الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البَرْقَ والأمطار ومن لوازمها قيام السماء والأرض؛ لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق، والثاني يفيد الاستقرار ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين، فإن قول أحدهما يفيد الظن،، وقول الآخر يفيد تأكيده، ولهذا قال إبراهيم عليه (الصَّلاَة و) السلام: {بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 60] .(15/401)
فصل
قوله: بأمره أي بقوله: «قوما» أو بإرادته قيامها؛ لأن الأمر عند المعتزلة موافقٌ للإرادة وعندنا ليس كذلك ولكن النزاع في أمر التكليف، لا في أمر التكوين فإنا لا ننازعهم في أن قوله: «كُنْ فَيَكُونَ» و «كُونِي» و «كونوا» موافق للإرادة.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله «ههنا» : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء} وقال قبله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] (ولم يقل: أنْ يُرِيَكُم) ليصير (كالمصدر «بأن» ؟) .
فالجواب: أن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية.
فإن قيل: ما الحكمة في أنه ذكر ست دلائلَ وذكر في أربعةٍ منها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} [الروم: 24] ولم يذكر الأولى وهو قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الروم: 20] ولا في الآخر وهو قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض} ؟ .
فالجواب: أما الأول فلأن قوله بعده: {ومن آياته أن خلق لكم} أيضاً دليل الأنفس فخلق السماء والأرض وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد. فلما قال في الثانية: {إن في ذلك لآيات} كان عائداً إليهما، وأما في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهور فلما كان في أول الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سَرْدِ الدلائل يكون أظهر (فلم يميز أحداً في ذلك عن الآخر) . ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة فقال: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} وجه العطف «بثم» و «بم تعلق» فمعناه أنه تعالى إذا بين لكم كمال قدرته بهذه الآيات بعد ذلك يخبركم ويعلمكم أنه إذا قال للعظام الرميمة اخرجوا من الأجداث يخرجون أحياء.
قوله: «مِنَ الأَرْضِ» فيه أوجه: أظهرها: أنه متعلق بمحذوف يدل عليه «يخرجون» أي خرجتم من الأرض، ولا جائز أن يتعلق «بتَخْرُجُونَ» لأن ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها.(15/402)
فصل
قَوْلُ القَائِل: «دعا فلانٌ فلاناً من الجبل» يحتمل أن يكون الدعاء من الجبل كما يقول القائلك يا فلانُ (اصْعَدْ) إلى الجبل، (فيقال: دَعَاهُ من الجبل، ويحتمل أن يكون المدعوّ يُدْعَى من الجبل كما يقول القائل: يا فلانُ انزل من الجبل فيقال دعاه من الجبل) ، ولا يخفى على العاقل أن الدعاء لا يكون من الرض إذا كان الداعي هو اللَّه، والمدعوّ يدعى من الأرض، يعني أنكم في الأرض فيدعوكم منها فتخرجون، وَإِذا هي الفجائية، قال أكثر العلماء معنى الآية: ثم إذا دعاكم دعوة إِذا أنتم تخرجون من الأرض.
فصل
قال ههنا: {إذا أنتم تخرجون} وقال في خلق الإنسان أولاً: {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} لأن هناك يكون خلقٌ وتقديرٌ وتدريجٌ حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفُخُ فيه روحَه فإذا هو بشر، وأما في الإعادة فلا يكون تدريجٌ وتراخٍ بل يكون نداء وخروج، فلم يقل ههنا: «ثُمَّ» .
قوله: {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} قال ابن عباس: كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإنْ عَصَوْا في العبادة. وقال الكلبي: هذا خاص لمن كان منهم مطيعاً. ولما ذكر الآيات التي تدل على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأول أشار إليهما بقوله: {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض} ونفس السموات والأرض له وملكه فكُلٌّ له منقادون قانتون، والشريك يكون منازعاً، فلا شريك له أصلاً، ثم ذكر المدلول الآخر فقال: {هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} يخلقهم أولاً، ثم يعيدهم بعد الموت للبعث.(15/403)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} في «أهون» قولان:
أحدهما: أنها للتفضيل على بابها وعلى هذا يقال: كيف يتصور التفضيل، والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حد سواء؟ في ذلك أجوبة: أحدها: أن ذلك بالنسبة(15/403)
إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أن إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالباً، وإن كان هذا (مُنْتَفِياً) عن البارىء تعالى فخوطبوا بحسب ما أَلِفُوهُ.
الثاني: أن الضمير في «عليه» ليس عائداً على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي والعود أَهْوَنُ عَلَى الخلق أي أسرع لأن البداء فيها تدريجٌ من طورٍ إلى طورٍ إلى أن صارت إنساناً والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل: وهو أَقْصَرُ عليه وأيسر وأقل انتقالاً والمعنى يقومون بصيحة واحد فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نُطَفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً إلى أن يَصِيرُوا رجالاً ونساءً - وهي رواية الكلبي عن أبي صالحٍ عن ابن عباس.
الثالث: أن الضمير في «عليه» يعود على (المخلوق بمعنى) والإعادة أَهْوَنُ على المخلوق أي إعادته شيئاً بعد ما أنشأه هذه في عرف المخلوقين، فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى، والثاني: أن «أَهْوَن» ليست للتفضيل بل هي صفة بمعنى «هَيِّن» كقولهم «اللَّهُ أكبر» أي الكبير وهي رواية العَوْفِيِّ عن ابن عباس.
وقد يجيء «أفعل» بمعنى الفاعل كقول الفرزدق:
4040 - إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
أي عزيزة طويلة. والظاهر عود الضمير في «عليه» على الباري تعالى ليوافق الضمير في قوله: (وله المثل الأعلى. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقدمت في قوله) : {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 9] قلتُ: هنالك قصد الاختصاص وهو (محزة) فقيل: هو على هين وإن كان مستصعباً عندك أن يولد بين هِمٍّ وعاقر فذلك عليّ هين لا على غيري، وأما هنا فلا معنى للاختصاص كيف(15/404)
والأمر مبيَّن على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. قال أبو حيان: ومبنى كلامه على أن التقديم يفيد الاختصاص وقد تقدم منعه. قال شهاب الدين: الصحيح أنه يفيده. وتقدم جمع ذلك.
قوله: {وَلَهُ المثل الأعلى} يجوز أن يكون مرتبطاً بما قبله وهو قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي قد ضربه لكم مثلاً فيما يسهل ويصعب. وإليه نحا الزجاج. أو بما بعده من قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [الروم: 28] وقيل: المثل: الوصف أي الصفة العليا. قال ابن عباس: هي أنه {ليس كمثله شيء} وقال قتادة: هو أنه لا إله إلا هو.
قوله:» فِي السَّمَواتِ «يجوز أن يتعلق» بالأَعْلَى «أي أنه أعلى في هاتين الجهتين، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من» الأعلى «أو من» المثل «أو من الضمير في» الأعلى «فإنه يعود علىلمثل،» وَهُوَ العَزِيزُ «في ملكه» الحَكِيمُ «في خلقه.(15/405)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي بين لكم شبهاً بحالكم ذلك المثل من أنفسكم، و «من» لابتداء الغاية في موضع الصفة «لِمَثَلاً» ، أي أخذ مثلاً وانْتَزَعَهُ من أقْرَبِ شيء منكم وهو «أنفسكم» ثم بين المثل فقال: {هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} من المال، والمعنى أن من يكون مملوكاً لا يكون شريكاً له في ماله فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة الله تعالى حتى يعبدوا.
قوله: «مِنْ شُرَكَاء» مبتدأ و «من» مزيدة فيه لوجود شرطي الزيادة، وفي(15/405)
خبره وجهان: أحدهما: الجار الأول وهو «لَكُمْ» و «مِمَّا مَلَكَتْ» يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «شركاء» ؛ لأنه في الأصل نعت نكرة قدم عليها، والعامل فيه العامل في هذا الجار الواقع خيراً، أو الخبر مقدر بعد المبتدأ، و «فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ» «بشركاء» و «ما» في «مما» بمعنى النوع، تقدير ذلك كله: هل شركاءُ فيما رزقناكم كائنونَ من النَّوْعِ الذي مَلَكتْهُ أيْمَانُكُمْ مستقرون لكم؟ «فكائنون» هو الوصف المتعلق به «ممَّا مَلَكتْ» ولما تقدم صار حالاً و «مستقرون» هو الخبر الذي تعلق به «لكم» .
والثاني: أن الخبر «مِمَّا مَلَكَتْ» و «لَكُمْ» متعلق بما تعلق به الخبر، أو بمحذوف على أنه حال من «شركاء» أو بنفس «شركاء» كقولك: لَكَ في الدنيا محب «فلك» متعلق (بِمُحِبٍّ) وفي الدنيا هو الخبر. قوله: {وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} هذه الجملة جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي «وَفِيهِ» متعلق «بسَوَاء» .
قوله: «تَخَافُونَهُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها خبر ثان «لأنتم» تقديره «فأنتم» مُسْتَوُونَ معهم فيما رزقناكم خائفوهم كخوف بعضهم بعضاً أيها السادة، والمراد نفي الأشياء الثلاثة أعني الشركة والاستواء مع العَبِيد وخوفهم إياهم، وليس المراد ثبوت الشركة، ونفي الاستواء والخوف كما هو أحد الوجهين في قولك: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا بمعنى ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا ولا تحدثُنا بل المراد نفي الجميع كما تقدم. وقال أبو البقاء: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} الجملة في موضع نصب على جواب الاستفهام أي هل لكم فتستووا أنتم. وفيه نظر كيف يجعل جملة اسمية حالة محل جملة فعليه ويحكم على موضع الاسمية بالنصب بإضمار ناصب، هذا مما لا يجوز ولو أنه فسر المعنى وقال: إن الفعل لو حل بعد الفاء لكان منصوباً بإضمار «أَنْ» لكان صحيحاً، ولا بد أيضاً أن يبين أن النصب على المعنى الذي قدمته من نفي الأشياء الثلاثة.
والوجه الثاني: أن «تَخافُونَهُمْ» في محل نصب على الحال من ضمير الفاعل في «سَوَاء» . أي فَسَاوَوْا خائفاً بعضُكُمْ من بعض مشاركَتَهُ له في المال أي إذا لم تَرْضوا أنه يشارككم عبيدكُم في المال فكيف تشركون بالله من هو مصنوع له؟ قاله أبو البقاء.
وقال ابن الخطيب معنى حَسَناً وهو أن بين المِثْلِ والمُمَثَّل به مشابهةٌ ومخالفةٌ، فالمشابهة معلومة والمخالفة من وجوه:(15/406)
أحدها: قوله: «مِنْ أَنْفُسِكُمْ» أي من نَسْلِكُمْ مع حقارة الأنفس ونقصِها وعجْزِهَا، وقاسَ نفسه عليكم مع جلالتها وعظمتها وقدرتها وكمالها.
وثانيها: قوله: {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي عبيدكم لكم عليهم ملك اليمين والملك لها طَارِ (ىء) قابل للنقل والزوال، أما النقل فالبيع وغيره، وأما الزوال فبالعِتْقِ ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكاً لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه بل هو في الحال مثلكم في الآدميَّةِ حال الرق حتى أنكم ليس لكم تصرفٌ في روح وآدميته بقطع وقتل وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه وهو مباينله بالكلية شريكاً له؟!
وثالثه: قوله: «مما رَزَقَنْاكُمْ» يعني: الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو لِلَّه ومن رزقه حقيقة فإذا لم يجز أن يكون لكم شريط فيما هو لكم من حيث الاسم فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما هو له من حيث الحقيقة.
ورابعها: قوله: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون أنتم سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء؛ لأن كل شيء فهو لله وما تدعون إِلهيَّتَهُ لا يملكون شيئاً أصلاً، ولا مِثْقَالَ ذرة خَرْدَلٍ فلا يُعْبَدُ لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم (منهم) منه، وأيضاً فأنتم ومماليككم سواء ليس كذلك لأن المملوكَ ليس له عندكم حُرْمَةُ الأحرار، وإذا لم يكن المملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من الوُجُوه، وإلى هذا إشار بقوله: {تَخَافُونَهُمْ كَخِفَتُكُمْ أَنْفُسَكُمْ} انتهى. وإنما ذكرت هذا المعنى مبسوطاً لأنه مبين لما ذكرته من وجوه الإعراب. «كخفيفتكم» أي كَخِيفَةٍ مِثْل خِيفَتِكُمْ. والعامة على نصب «نفسكم» ، لأن المصدر مضاف لفاعله.
وقرأ ابْنُ أبي عبلةَ بالرفع على إِضافة المصدر لمفعول. اسْتَقْبَحَ بعضهم هذا إِذا وجد الفاعل. وقال بعضهم: ليس بقبيح بل يجوز إضافته إلى كل منهما إذا وجدا وأنشد:(15/407)
4041 - أَفْنَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبِ ... قَرْعُ القَوَارِير أَفْوَاهُ الأَبَارِيقِ
ينصب «الأفواه» و «رفعها» .
قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات} أي مثلُ ذلك التفصيل البين نفصل. وقرأ أبو عمرو - في رواية يُفَصِّل - بياء الغيبة رداً على قوله: «ضَرَبَ لَكُمْ» ، والباقون بالتكلم رداً على قوله «رَزَقْنَاكُمْ» والمعنى يبين بالآيات والدلائل والبراهيم القطعية والأمثلة: «لقوم يعقلون» ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم، والأمر لا يخفى بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل.(15/408)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
قوله: {بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ} أي لا يجوز أن يشرك مالك ممولكه ولكن الذين ظلموا أي أشركوا اتبعوا أهواءهم في الشرك {مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ} أي من غير دليل جهلاً بما يجب عليهم، ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله: {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله} أي هَؤلاء أَضَلَّهم الله فلا هاديَ لهم فلا يحزنْك قَوْلُهُمْ ثم قال: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} مانعيهم يمنعونهم من عذاب الله - عَزَّ وَجَلَّ -.(15/408)
قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أي أخلص دينك لله قال سعيد بن جبير: وقامة الوجه إقامة الدين. وقال غيره: سَدِّدُ عملَكَ. والوجه ما يتوجه إليه، وقيل: أقبل بكُلِّكَ على الدين. عبر عن الذات بالوجه كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي ذاته بصفاته.
قوله: «حَنِيفاً» حال من فاعل «أقم أو من مفعوله، أو من» الدِّين «ومعنى حنيفاً مائلاً إليه مستقيماً عليه، ومِلْ عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر، وهذا قريب من معنى قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} .
قوله:» فِطْرَةَ اللَّهِ «فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقوله: {صِبْغَةَ الله} [البقرة: 138] و {صُنْعَ الله} [النمل: 88] .
والثاني: أنه منصوب بإضمار فعل. قال الزمخشري: وإنما أضمره على خطاب الجماعة لقوله:» مُنِيبِينَ إِلَيْهِ «وهو حال من الضمير في» الْزَمُوا «.
وقوله: {واتَّقُوهُ وأَقِيمُوا ... وَلاَ تَكُونُوا} معطوف على هذا المضمر، ثم قال:» أو عليكم فطرةَ الله «ورد أبو حيان بأن كلمة الإغراء لا تضمر، إذ هي عِوَضٌ عن الفعل فلو حذفها لزم حذف العِوَضِ والمُعَوَّضِ عنه وهو إجحاف. قال شهاب الدين: هذا رأي البصريين وأما الكسائي وتباعه فيجيزون ذلك.
فصل
ومعنى فطرة الله: دين الله وهو التوحيد فإن الله فطر الناس عليه حيث أخرجهم من ظهر آدم وسألهم: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وقال عليه السلام» مَا مِنْ مَوْلُودِ إِلاَّ وَهُوَ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ وَإِنَّمَا أَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانه ويمجّسانه «، فقوله:»(15/409)
على الفطرة «، يعني على العهد الذي أخذه عليهم بقوله: {ألست بربكم قالوا بلى} وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الفطرة التي وقع الخلق عليها وإن عبد غيره قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] ولكن لا عبرة بالإيمان الفِطْريِّ في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعُ المأمور به، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين. وقيل: الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله على الإسلام، روي عن عبد الله بن المبارك قال معنى الحديث: إن كل مولود يولد على فِطرته أي على خلقته التي جُبِلَ عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاء أن يُولَد بين يَهْودِيَّيْنِ أو نَصْرَانِيِّيْنِ فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما، وقيل: معنى الحديث أن كل مولود في مَبْدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلّة السليمة والطبع المنهيّ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها؛ لأن هذا الدين موجود حُسْنُهُ في العقول، وإنما يَعْدِلُ عنه من يَعْدِلُ إلى غيره لآفة من النُّشوءِ والتقليد فمن يَسْلَمْ من تلك الآفات لم يعتقد غيره، ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخَطَّابيُّ في كتابه.
قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} فمن حمل الفِطرة على الدين قال معناه: لا تبديل لذين الله، فهو خبر بمعنى النهي، أي لا تُبَدِّلُوا التوحيد بالشرك. وقيل: هذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال عكرمة ومجاهد: معناه تحريم إخصاء البهائم، ثم قال: {ذَلِكَ الدين القيم} المستقيم الذي لا عوج فيه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن ذلكَ هُوَ الدينُ المستقيمُ.
قوله: «مُنِيبِينَ» حال من فاعل «الْزمُوا» المضمر كما تقدم، أو من فاعل «أَقِمْ» على المعنى لأنه ليس يراد به واحدُ بعينه، وإنما المراد الجميع، وقيل: حال من «(15/410)
النَّاسِ» إِذَا أريد بهم المؤمنون، وقال الزجاج بعد قوله: «وَجْهَكَ» معطوف تقديره «فَأَقِمْ وَجْهَكَ وأُمَّتَكَ» فالحال من الجميع، وَجَازَ حذل المعطوف لدلالة «مُنِيبِينَ» عليه، كما جاز حذفه في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} أي والناسُ لدلالة: «إِذَا طَلَّقْتُمْ» عليه، كذا زعم الزجاج، في {ياا أَيُّهَا النبي} [الطلاق: 1] وقيل: على خبر كان، أي كُونُوا مُنِيبِينَ، لدلالة قَوْلِهِ: «وَلاَ تَكُونُوا» .
فصل
معنى منيبين إليه أي مُقْبِلِينَ عليه بالتوبة والطاعة، «وَاتَّقُوهُ» إي إِذَا أقبلتم عليه، وتركتم الدنيا، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه وداوموا على العبادة «وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ» ولا تَكُونُوا مِنَ المشركِينَ؛ بإِعادة العامل. وتقدم قراءتا «فَرَّقُوا، وَفَارَقُوا» وتفسير «الشِّيَعِ» أيضاً. قوله: «فَرِحُونَ» الظاهر أنه خبر عن «كل حزب» ؛ وجوز الزمخشري أن يرتفع صفة «لكُلّ» قال: ويجوز أن يكون «من الذين» منقطعاً مما قبله ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب فَرِحينَ بما لديهم، ولكنه رفع «فَرِحِين» وصفاً لكل كقوله:
4042 - وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
قال أبو حيان: قدر أولاً «فَرِحِينَ» مجروراً صفة «لِرَجُلٍ» وهو الكثر كقوله:(15/411)
4043 - جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدَّرْهَمِ
وجاز الرفع نعتاً «لكُلّ» كقوله:
4044 - وَلِهَتْ عَلَيْهِ كُلُّ مُعْصِفَةٍ ... هَوْجَاءُ لَيْسَ لِلُبِّهَا زَبْرُ
وهو تقدير حسن.(15/412)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
قوله: {وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} قَحْطٌ وشدّة، {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} بالدعاء، لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل بين أن لهم حالة يعترفون بها، وإن كانوا ينكرونه في وقت ما وهي حالة الشدة، {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} ، خصْبٌ أو نعمة، يعني إذا خلصناهم من تلك الشدة {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} ، وقوله: «مِنْهُ» أي من الضر؛ لأن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي على ذلك الضر وحده، وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة ويحتمل أن يكون الضمير في «منه» عائد إلى الله تعالى، والتقدير ثم إذا أذاقهم اللَّهُ من فضله رحمةً خلصهم بها من ذلك الضر.
قوله: «إذَا فَريقٌ» هذه «إذا» الفُجَائِيَّة، وَقَعَتْ جَوَابَ الشرطِ؛ لأنها كالفاء في أنها للتعقيب ولا يقع أول كلام، وقد تجامعها الفاء زائدةً.(15/412)
فإن قيل: ما الحكمة في قوله ههنا: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ} ، وقال في موضع: {فَلَمَّا نَجَاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشرِكُونَ} ولم يقل: فَرِيقٌ.
فالجواب: أن المذكور هناك غير معين، وهو ما يكون من هَوْل البحر، والتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل، والذي لا يشرك منهم بعد الخلاص فرقة منهم فهم في غاية القلة، فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة من خرج من الشرك وأما المذكور ههنا الضر مطلقاً فيتناول ضُرَّ البحر والأمراض والأهوال، والمتخلص من أنواع الضر خلقٌ كثير بل جميع الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما فتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما فتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهو خلق عظيم وهو جميع المسلمين فإنهم تخلصوا من ضُرّ ولم يبقوا مشركين، وأما المسلمون فلم يتخلصوا من ضُرّ البحر بأجمعهم فلما كان الناجي من الضر المؤمن جمعاً كثيراً سمى الباقي فريقاً.
قوله: «لِيَكْفُرُوا» يجوز أن تكون لام «كي» وأن تكون لام الأمر ومعناه التهديد كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تَهْديدٍ فقال: «فَتَمَتَّعُوا» .
قرأ العامة بالخطاب فيه، وفي «تَعْلَمُونَ» ، وأبو العالية بالياء فيهما، والأول مبني للمَفْعُولِ. وعنه أيضاً «فَيَتَمَتَّعوا» بياء قبل التاء، وعن عبد الله «فلْيَتَمَتَّعُوا» بلام الأمر، والمعنى: فسوف تعلمون حالكم في الآخرة.
قوله: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} أي بُرْهَاناً وحُجَّةً، فإن جعلناهُ حقيقة كان يتكلم مجازاً، وإن جعلناه على حذف مضاف أي ذا سلطان كان يتكلم حقيقة، وقال أبو البقاء هنا: وقيل: هو جميع سليط كرغيف ورغفان انتهى.(15/413)
قال شهاب الدين: وهذا لا يجوز لأنه كان ينبغي أن يقال فهم يتكلمون. و «فَهُوَ يَتَكَلَّمُ» جواب الاستفهام الذي تضمنته «أم» المنقطعة، وهذا استفهام بمعنى الإِنكار أي ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً، قال ابن عباس: حجة وعُذْرا، وقال قتادة: كتاباً يتكلم بما كانوا به يشركون «أي ينطق بشركهم» .(15/414)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
قوله: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} أي الخِصْب وكَثْرة المطر «فَرِحُوا بِهَا» يعني فرح البطر لما بين حال الشرك الظاهر شركه، بين حال الشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته للدنيا، فإذا أعطاه رَضِيَ، وإِذا منه سَخِطَ وقَنَطَ، ولا ينبغي أن يكون كذلك بل ينبغي أن يعبد الله في الشدة وزالرخاء.
فإن قيل: الفرح بالرحمة مأمور به قال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] وهَهُنَا ذمهم على الفرح بالرحمة.
فالجواب: هناك قال افْرَحُوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله، وهَهُنَا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مِثْلَ فرحهم إذا كان مِنَ الله.
قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي الجَدْبُ وقلَّةُ المَطَر، وقيل: الخوف والبَلاَء {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من السيئات {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} يَيأَسُوا من رحمة الله، وهذا خلاف وصف المؤمنين فإنهم يشركونه عند النعمة، ويرجُونَه عند الشدةِ.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} ألم يعلموا أن الكل من الله فالمحق ينبغي أن لا يكون نظره إلى ما يُوجَد بل إِلى من يُوجد وهو الله، فلا يكون له تبدل حال وإنما يكون عنده الفرح الدائم ولذلك قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .(15/414)
قوله: {فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} من البرِّ والصلة، و «المِسْكِين» بأن يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وابْنَ السَّبِيل «يعني المسافر، وقيل: الضيف. وخص هذه الأصناف الثلاثة بالذكر دون بقية الأصناف الثمانية المذكورة في الصدقات، لأنه أراد ههنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال، سواه كان زَكَوِيّاً أو لم يكن وساء كان قبل الحَوْلِ أم بعده؛ لأن المقصودَ هنا الشفقة العامة وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للأنسان مالٌ زائد أما القريب فتجب نفقته عليه إذا كان له مالٌ وإن لم يَحُلْ عليه الحَوْلُ والمسكين كذلك، فإن من لا شيءَ له إذا وقع في الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على القادر دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة، والفقير داخل في المسكين لأن من أوْصَى للمساكين بشيء يُصْرَفُ إلى الفقير أيضاً وإذا نظرتَ إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وَجَبت الزكاةُ عليهم وقدم القريب لأن دفع حاجته واجبٌ سواء كان في مَخْمَصَةٍ أو لم يكن فلذلك قُدِّمَ على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة، وأما المسكين فحاجته ليست مختصة بموضع، فقدم على من حاجته مختصة بموضعٍ دُونَ مَوْضِعٍ.
قوله:» ذَلِكَ خَيْرٌ «يحتمل أنْ يُرادَ:» خير من عنده «، وأن يكون ذلك خير في نفسه {لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} أي يطلبون ثواب الله مما يعملون {وأولئك هُمُ المفلحون} .
فإن قيل: كيف قال: {وأولئك هُمُ المفلحون} ؟ مع أن لِلإفلاح شرائطَ أخرى مذكورة في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} ؟ {.
فالجواب: كل وصف مذكور هنا يفيد الإفلاح، وكذا الذي آتى المال لوجه الله يفيد الإفلاح اللَّهُمَّ إلا إذا وُجِدَ مانعٌ من ارتكاب محظورٍ أو تركِ واجبٍ.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكُرْ غيره من الأفعال كالصلاة وغيره؟
فالجواب: الصلاة مذكورة من قبل وكذا غيرها في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم: 30] ، وقوله {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} [الروم: 31] .
فإن قيل: قوله في البقرة: «فَأُولَئِكِ هُمُ المُفْلِحُونَ» إشارة إلى من أقام الصلاة وآتى الزكاة، وآمن بما أنزل على الرسول وبما أنزل من قبل وبالآخرين فهو المفْلح، وإذا كان المفلح منحصراً في «أولئك» فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحاً؟} .
فالجواب: هذا هو ذاك لأن قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أمر بذلك، فإذا أتَى(15/415)
بالصلاة، وآتى المال، وأراد وجه الله ثبت أنه منم مُقِيمِي الصلاة ومُؤتِي الزكاة ومعترف بالآخرة.(15/416)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
قوله: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً} ، قرأ ابن كثير أَتَيْتُمْ مقصوراً، وقرأ الآخرون بالمد أي أعْطَيْتُم ومن قصر فمعناه جِئْتم من رباً ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء كما تقول: أتيت خطأ، وأتيت صواباً وهو يؤول في المعنى إِلى قول من مَدَّ.
قوله: «لِيَرْبُو» العامة على الياء تحت مفتوحة، أسند الفعل لضمير «الرِّبَا» أي لِيَزْدادَ، ونافعٌ ويعقوبٌ بتاءٍ من فوق مضمومةً خطاباً للجماعة، قَالُوا وعلى الأول لامُ الكلمة، وعلى الثاني كلمةٌ، وعلى الثاني كلمةٌ، ضميرُ الغائبينَ.
فصل
ذكر هذا تحريصاً يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين (تَرْ) غَبُونَ فيه وتُؤْثِرُونَهُ، وذلك لا يربو عند الله فاختطاف أموال الناس والزكاة تنمُو عند الله كما أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقعُ في يَدِ الرَّحْمنِ فَتَرْبُوا حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الجَبَلِ» فينبغي أَن يكون إقْدَامكُمْ على الزكاة أكثرَ واختلفوا في معنى الآية قال سعيد بين جبير، ومجاهد وطاوس وقتادة والضحاك وأكثر المفسرين: هو الرجل يعطي عبده(15/416)
العطيَّة لِيُثيبَ أكثر منها، فهذا جائز حلالاً، ولكن لا يثاب عليه في الفقه فهو معنى قوله تعالى: {فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله} وكان هذا حراماً على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاصة لقوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 9] أي لا تعطِ وتطلب أكثر مما أعطيتَ، وقال النخعي: هو الرجل يعطي صديقة وقريبه ليكثر ماله، ولا يريد به وجه الله. وقال الشعبي: هو الرجل يَلْتَزِقُ بالرجل فيجزيه ويسافر معه فيحصل له ربح ماله التماس عونه لا لوجه الله فَلاَ يَرْبُو عند الله؛ لأنه لم يُردْ به وَجْهَ الله {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍَ} أعطيتم من صدقة تريدون وجه الله.
قوله: {فأولئك هُمُ المضعفون} أي أصحاب الأضعاف، قال الفراء: نحو مُسْمِن ومُعْطِشٍ أي ذي إبل سِمَانٍ وعِطَاشٍ، وتقول العرب: القوم مُهْزِلُونَ ومُسْمِنُونَ، إذا هَزِلَتْ وسَمِنَتْ، فالمُضْعِفُ ذو الأضْعَافِ من الحسنات وقرأ «أبيّ» بفتح العين، وجعله اسم مفعول. وقوله: ( «فَأُولَئِكَ هُمْ» قال الزمخشري: «التفات حسن كأنه قال لملائكته وخواص خلقه) فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم» هم المُضْعِفُون «والمعنى هم المُضْعِفُونَ به لأنه من ضمير يرجع إلى (» مَا انتهى) يعني أن اسم الشرط مَتَى كان غير ظرف وَجَبَ عودُ ضميرٍ من الجواب عليه. وقد تقدم ذلك في البقرة عند: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] ثم قال: «ووجه آخر: وهو أن يكون تقديره فمُؤْتُوه فأولئك هم المضعفون، والحذف لباقي الكلام من الدليل عليه» ، وهذا أسهل مأخذاً، والأول أملأ بالفائدة.
قوله: {الله الذي خَلَقَكُمْ} يجوز في خبر الجلالة وجهان:
أظهرهما: أنه الموصول بعدها.
والثاني: أنه الجملة من قوله: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ} والموصول ((15/417)
صفة) للجلالة، وقدر الزمخشري الرابط المبتدأ، والجملة الرافعة (خبراً) فقال: «من ذلكم» هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ، لأن معناه من أفعاله. قال أبو حيان: والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطاً إذا أشير به إلى المبتدأ، وأما ذلك هنا فليس بإشارة إلى المبتدأ لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الرَّبْطِ بالمعنى وذلك في قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] قال: التقدير يَتَرَبَّصْنَ أزواجُهُمْ، فقد الرابط بمضاف إلى ضمير «الذين» فحصل به الربط كذلك قدر الزمخشري «من ذلكم» من أفعاله بمضاف إلى الضمير العائد إلى المبتدأ.
قوله: «الَّذِي خَلَقَكُمْ» أوجدكم {رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ} جمع في هذه الآية بين الحشر والتوحيد، أما الحشر فقوله: «يُحْيِيكُمْ» ، وأما الدليل فقدرته على الخلْق ابتداءً وأما التوحيد، فقوله: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ} ثم قال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي سبحوه تسبحياً ونزهوه ولا تصفوه بالإشراك «. وقوله» : تَعَالَى «أي لا يجوز ذلك عليه.
قوله:» مِنْ شُرَكَائِكُمْ «خبر مقدم و» مِنْ «لِلتَّبْعيض» مَنْ يَفْعَلُ «هو المبتدأ، و» ذلِكُمْ «متعلق بمحذوف، لأنه حال من» شَيء «بعده فإنه في الأصل صفة له و» مِنْ «الثانية مزيدة في المفعول به؛ لأنه في حَيِّز النفي المستفاد من الاستفهام والتقدير ما الذي يفعل شيئاً مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شركائكم؟ .
وقال الزمخشري:» ومن الأولى والثانية كل واحدة مستقلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم «.
وقال أبو حيان: ولا أدري ما أراد بهذا الكلام؟ وقرأ الأعمش» تشركون «بتاء الخطاب.(15/418)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
قوله: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} وجه تعلق الآية بما قبلها أن الشرك سبب الفساد كَمَا قَالَ تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثاً لظهور الفساد ولو فعل (بهم) ما يقتضيه قولهم لفسدت السموات والأرض، كما قال تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90، 91] ولهذا أشار بقوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} ، واختلفوا في قوله: {فِي البر والبحر} ، فقيل: المراد خوف الطوفان في البحر والبر، وقيل: عدم إنبات بعض الأرض وملحة مياه البحار. وقيل: المراد قحط المطر وقلة النبات، وأراد بالبرّ البوادي والمَفَاوِز وبالبحر المدائن والقُرَى التي على المِياه الجَارِيةِ.
قال عكرمة: العرب تسمي المِصْرَ بَحْراً تقول: أجدب البر وانقطعت مادة البحر.
قوله: «بما كسبت» أي بسب كسبهم، والباء متعلقة «بظَهَرَ» أو بنفس الفساد. وفيه بُعْد (والمعنى بشؤم ذنوبهم) وقال (ابن) عَطِيَّة، البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها، والبحر هو البحر المعروف، والفساد قلة المطر يؤثر في البر والبحر أما تأثيره في البر فهو القحط وأما تأثيره في البحر فيخلوا أجواف الأصداف؛ لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع فيه من المطر صار لؤلؤاً. قال ابن عباس وعركمة ومجاهد: الفساد في البرِّ قتل أحد ابني آدم أخاه وفي البحر غَضْب الملك الجائر السفينة. وقال الضحاك: كانت الأرض خَضِرَةً مونقة لا يأتي ابن آدم بشجرة إلا وجد عليها ثمرةً وكان ما في البحر عَذْباً وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم فلما قتل قابيلُ هابيلَ اقْشَعَرَّت الأرض وشَاكَتِ الأشجار، وصار ماء البحر ملحاً زُعَاقاً وقصد الحيوان بعضه بعضاً. وقال قتادة: هذا قبل مَبْعَث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امتلأت الأرض ظلماً وضلالة فلما بعث الله محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجع الراجعون من الناس {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس} من المعاصي «يعني كفار مكة» .
قوله: «لِيُذِيقَهُمْ» اللام للعلة متعلق «بظَهَرَ» ؛ وقيل: بمحذوف، أي عَاقَبَهْمْ(15/419)
بذلك لِيُذِيقَهُمْ وقيل: اللام للصيرورة. وقرأ قُنْبُلُ: «لنُذِيقَهُمْ» بنون العظمة والباقون بياء الغيبة والمعنى: لنذيقهم عُقُوبة بعض الذي عملوا من الذنوب «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» عن الكفر وأعمالهم الخبيثة، قوله: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض} لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم ضلال أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلُ} أي قوم نوحٍ وعادٍ وثَمودَ لِيَ {َوْا مَنَازِلَهُمْ ومساكنهم خاوية {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} فأهلكوا بكفرهم.
قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم} لما (نهى) الكافرين عما هم عليه، أمر المؤمنين بما هم عليه وخاطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليعلم المؤمن فضيلة من هو مُكَلَّفٌ به فإنه أمر بما شرف الأنبياء الدِّين القيم أي المستقيم وهو دين الإسلام.
قوله: {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} المرد مصدر «رَدَّ» و «من الله» يجوز أن يتعلق ب «يأتِي» أو بمحذوف يدل عليه المصدر أي لا يرده من الله أحَدٌ، ولا يجوز أن يعمل فيه «مرد» لأنه كان ينبغي أن يُنَوَّنَ؛ إِذْ هُوَ من قَبِيل المُطَوَّلاَتِ، والمراد يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الله هوغيره عاجز عن رده، فلا بد من وقوعه. «يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ» أي يتفرقون فريق في الجنة، وفريق في السعير، ثم أشار إلى التفرق بقوله: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وبال كفره {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي يُوَطئُونَ المضاجعَ ويُسَوُّونها في القبور. قوله: «فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» و «يَمْهَدُونَ» تقديم الجارين يفيد الاختصاص يعني أنَّ ضرر كفر هذا، ومنفعة عمل هذا لا يتعداه، ووحد الكناية في قوله: «فعليه» وجمعها في قوله: «فلأنفسهم» إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، وأما الغضب فمسبوق بالرحمة لازم لمن أساء وقال: «فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ»(15/420)
ولم يبين قوال في المؤمن: «فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» تحقيقاً لكمال الرحمة، لإإنه عند الخير بَيَّن بشارة وعند غير أشار إليه إشَارةً.(15/421)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قوله: «لِيَجْزِيَ» في مُتَعَلَّقِهِ أوجه:
أحدها: «يمهدون» .
والثاني: «يَصِّدَّعُونَ» .
والثالث: محذوف. (و) قال ابن عطية: تقديره: «ذلك لِيَجْزِيَ» وتكون الإشارة إلى (ما تقدر مِنْ) قوله: «من كفَر ومَنْ عَمِلَ» .
هَذا قوله وجعل أبو حيان قسيم قوله: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} محذوفاً لدلالة قوله {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} عليه هذا إذا علقت اللام ب «يَصَّدَّعُونَ» أو بذلك المحذوف، قال: تقديره «ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله والكافرين بعدله» .
فصل
قال ابن عباس: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم} .
قوله: {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} لما ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه سببب العمل الصالح لأن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضَاً ويذرك لإضراره سبباً لئلا يتوهم (بِهِ) الظلم فقال: {يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ} قيل: بالمطر كما قال تعالى: {بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل: 63] ، أي قبل الفطرة، وقيل مبشرات بصلاح الأَهْوِية والأحوال؛ فإن الرياح لو لم تَهُبّ لظهر الوباء والفساد وقرأ العامة: «الرياح» جميعاً لأجل «مبشرات» ، والأعمش بالإفراد، وأراد الجنس لأجل «مبشرات» .(15/421)
قوله: «وَلِيُذِقَكُمْ» إما عطف على معنى مبشرات لأأن الحال والصفة يُفْهما العلة فكان التقدير: «ليبشّر وليذيقكم» وإما أن يتعلق بمحذوف أي وليذيقكم أَرْسَلَها، وإما أن يكون الواو مزيدة على رأي فتتعلق اللام بأن يرسل.
قوله: {وليذيقكم من رحمته} (نعمته) بالمطر أو الخَصْب «وَلَتْجِرِيَ الفُلْكُ» لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله «بأَمْرِهِ» أي الفعل ظاهر عليه ولكنه بأمر الله، والمعنى في ولتجري الفلك في البحر بهذه الرياح بأمره وكذلك لما قال: «وَلتَبْتَعوا» مسنداً إلى العباد ذكر بعده «مِنْ (فَضْلِهِ) .
أي لا استقلال لغيره بشيء، والمعنى لتطلبوا من رزقه بالتجارة في البحر» ولعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «هذه النعم.
فصل
قال تعالى:؟ هر الفساد - ليذيقهم بعض الذي عملوا» (وقال ههنا: «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» فخاطبهم ههنا تشريفاً، ولأن رحمته قريب من المحسنين والمحسنين قريب فيخاطب والمسمّى مُبْعَد فلم يُخَاطَبْ وقال هناك: {بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} [الروم: 41) فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم، وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال: «من رحمته» ؛ لأن الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي، وأيضاً فلو قال: أرسلت بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال من رحمته كان غاية البشراة وأيضاً فلو قال: بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنُقْصَان ثوابهم في الآخر، وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم إنما عن نُقْصَانِ عقابهم وهو كذلك وقال هناك: «لعلهم يَرْجِعُونَ» وقال ههنا: ولعلكم تشكرون، قالوا وإشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم فعطف على النعم.
(قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بالبينات} لما بين الأصلين) بالبراهيم ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال: {ولقد أرسلنا من قبلك(15/422)
رسلاً} أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شُغْلٌ غير شُغْلِكَ ولم يظهر عليهم غير ما أظهر عليك، ومن آمن بهم كان له (الانتصار) ومن كَذَّبهم أَصَابَهُمْ البَوَارُ، وفي تعلق الآية وجه آخر وهو أن الله لما بين بالبراهين ولم ينتفع بها الكفار سَلَّى قلب النبي عليه (الصلاة و) السلامَ وقال: حالك كحاكل من تقدمكم كان كذلك وجاءُوا بالبينات أيضاً: أي بالدلائل والدّلاَلاَتِ الواضحات على صدقهم وكان في قومهم كافرٌ ومؤمنٌ كما في قومك {فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ} عذبنا الذين كذبوهم ونصرنا المؤمنين.
[قوله:] وَكَانَ حَقّاً، وقف بعضهم على «حقاً» وابْتَدَأَ بما بعده فجعل اسم «كان» مضمراً فيها و «حقاً» خبرها، أي وكان الانتقام حقّاً، قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأنه لم (يَدْرِ) قدر ما عرضه في نظم الآية يعني الوقف على «حقاً» ؛ وجعل بعضهم «حقاً» منصوباً على المصدر واسم كان ضمير (الأمر والشأن) و «علينا» خبر مقدم، و «نصر» اسم مؤخر، وجعل بعضهم «حقاً» خبرها و «علينا متعلق» بحقاً «، أو بمحذوف صفة له، فعلى الأول يكون بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي علينا نَصْرُكُمْ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ونصرهم إنجاؤهم من العذاب، وعلى الثاني معناه وكان حقاً علينا؛ أي نصر المؤمنين كان حقاً علينا.(15/423)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
قوله: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} أي تنشره وتبْسطه في السَّمَاء كيف يشاء سيره يوماً أو يومين وأكثر على ما يشاء و «يَجْعَلُهُ كِسَفاً» قطعاً متفرقة، «فَتَرَى الوَدقَ» المطر {يخرج من خلاله} وسطه {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} بِالوَدقِ {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي يفرحون بالمطر.
قوله: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم.(15/423)
وقيل: وما كانوا (إلا) «مُبْلِسِينَ» أي آيسين.
قوله: «مِنْ قَبْلِهِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه تكرير «لِمنْ قَبْلِ» الأولى على سبيل التوكيد.
والثاني: أن يكون غير مُكَرَّر؛ وذلك (أن يجعل) الضمي في «قبله» للسَّحَاب، وجاز ذلك لأنه اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه، أو للريح فتتعلق ( «مِن» الثانية) بيُنَزِّل. وقيل: يجوز عود الضمير على «كِسَفاً» كذا أطلق أبو البقاء، وأبو حيان، وهذه بقراءة من سَكَّنَ السِّينَ.
وقد تقدمت قراءات «كسفاً» في «سُبْحَانَ» . وقد أبدى الزمخشريُّ ابنُ عَطِيَّةَ (فائدة التوكيد المذكور فقال ابن عطية) أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإِبلاس إلى الاسْتِبْشَار، وذلك أن قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يحتمل الفُسْحَةَ في الزمان أي من قبل أن ينزل بكثيرٍ كالأيام ونحوه، فجاء قوله: «مِنْ قَبْلِهِ» (بمعنى) أن ذلك متصلٌ بالمطر، فهذا تأكيد مفيد. وقال الزمخشري: ومعنى التأكيد فيه الدلالة على أنَّ عَهْدَهُمْ بالمطر قد نَفَدَ فاستحكم بأسُهُم وتمادى إبلاسهم، فكان استبشارهم على قدر اغتمامهم بذلك، وهو كلام حسن، إِلاَّ أنَّ أبَا حَيَّان لم يَرْتَضِهِ منهما فقال: ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر فإنما هو لمجرد التوكيد ويفيد رفع المجاز انتهى.
قال شهاب الدين ولا أدري عَدَمُ الظُّهُورِ لِمَاذَا.(15/424)
قال قُطْرُبٌ: وإنْ كَانُوا من قبل التَّنْزِيل من قبلِ المَطَرِ، وقيل التقدير من قبل إنْزَالِ المَطَرِ من قبل أن يزرعوا، ودل المطر على الزرع لأنه يخرج بسبب المطر ودل على ذلك قوله: «فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً» يعني الزرع قال أبو حَيَّانَ: وهذا لا يستقيم؛ (لأن) {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ} متعلق «بمبلسين» ، (ولا يمكنُ من قبل الزرع أن يتعلق «بمبلسين» ) ؛ لأن حَرْفَيْ جَرٍّ لا يتعلقان بعامل واحد إلا بوَسَاطَةِ حرف العَطْفِ (أ) والبَدَل، وليس هنا عطف والبدل لا يجوز إذْ إنزالُ الغَيْثِ ليس هو الزرع ولا الزرع بعضه، وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف إما لاشتمالِ (الإنزال) على الزرع بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال فكأن الإنزال مشتملٌ عليه، وهذا على مذهب من يقول الأول مشتمل على الثاني.
وقال المبرد الثاني السَّحَاب؛ لأنهم لما رأوا السَّحاب كانوا راجين المَطَرَ انتهى يريد من قبل رؤية السحاب ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف ليصح تعلق الحرفين بمبلسين. (وقال الرُّمانِيُّ من قبل الإِرسال) ، وقال الكِرْمَانِيُّ: من قبل الاسْتِبْشَار؛ لأنه قرنه بالإبلاس، ولأنه (مَنَّ) عليهم بالاستبشار ويحتاج قولهما إلى حرف العطف لما تقدم، وادعاء حرف العطف ليس بالسسهل فإن فيه خلافاً بعضهم يَقِيسُه، وبعضُهم لا يَقِيسُه، هذا كله في المفردات، أما إذا كان في الجمل فلا خلاف في اقتياسه.
وفي حرف عبد الله بن مسعود: وإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ ينزل عَلَيْهِمْ لَمُبُلِسِينَ غير مكرر.
قوله: {فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ} قرأ أبنُ عامر والأخوانِ وحَفْصٌ بالجمع والباقون(15/425)
بالإفراد: (وَسلاَّمٌ) بكسر الهمزة، وسكون الثاء وهي لغة فيه. وقرأ العامة «كَيْفَ يُحْيِي» بياء الغيبة، أي أثر الرحمة فيمن قرأ بالإفراد، ومن قرأ بالجمع فالفعل مسند لله تعالى وهو يحتمل في الإِفْرَادِ والجَحْدَرِيُّ وأَبو حَيْوَة وابْنُ السَّمَيْقع «تُحْيِي» بتاء التأنيث وفيها تخريجان أظهرهما: ان الفاعل عائد على الرحمة. والثاني: قاله أبو الفصل عائد على «أَثَرِ» وأنت «أثر» لاكتسابه بالإضافة التأنيث كنظائر (له) تقدمت، وَرُدَّ عليه بأن شرط ذلك كون المضاف (بمعنى المضاف) إليه أو من سببه لا اجنبياً، وهذا أجنبي و «كَيْفَ يُحْيِي» معلق «لأنْظُرْ» وهو في محل نصب على إسقاط الخافض. وقال أبو الفتح: الجملة من «كَيْفَ يُحْيي» في موضع نصب على الحال حملاً على المعنى انتهى. وكيف تقع جملة الطلب حالاً؟ وأراد برحمة الله هنا المطر أي انْظُرْ إلى حسن تأثيره في الأرض كيف يحيي الأرض بعد موتها؟! .
قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الموتى} أي إن ذَلك الذي يُحيِي الأرض لمُحْيِي الموتى، فأَتَى باللام المؤكدة لاسم الفاعل.(15/426)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مُنِيبِينَ آيِسِينَ، وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بل لو أصاب زرعهم ريحٌ مفسِد لكفروا فهم متقلبون غير تأمِّين نظرهم إلى الحالة لا إلى المآلِ.
فصل
سمى النافعة رياحاً، والضارة ريحاً لوجوه:
أحدها: أن النافعة كثيرة ألنواع كبيرة الأفراد، فجمعها لأن في كل يوم وليلة (تَهُبُّ) نفحات من الرياح النافعة، (و) لا تهب الريح الضارة في أعوام بل الضارة لا تهب في الدهور.
الثاني: أن النافعة لا تكون إلا رياحاً وأما الضارة فنفحة واحدة تقتل كريح السَّمُوم.
الثالث: جاء في الحديث «أن ريحاً هَبَّتْ فقال عليه (الصلاة و) السلام:» اللَّهم اجْعلها رِيَاحاً وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً «إشارة إلى قوله تعالى: {يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] وقوله: {يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] وإشارة إلى قوله تعالى: ف {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} [الذاريات: 41] وقوله: {رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ الناس} [القمر: 19، 20] .
فصل
معنى الآية ولئن أرسلنا ريحاً أي مُضرّة أفسدت الرزعَ فرأوه مصفراً بعد الخُضْرَة لظلّوا لصاروا من بعد اصفرار الزرع يكفرون يجحدون ما سلف من النعمة يعني أنهم يفرحون عند الخَصْب، ولو أرسلت عذاباً على زرعهم (جحدوا) سالِفَ نعمتي.
قوله:» فَرَأَوْهُ «أي فرأوا النبات لدلالة السياق عليه أو على الأثر، لأن الرحمة هي(15/427)
الغيث وأثرها هو النبات وهذا ظاهر على قراءة الإفراد، وأما على قراءة الجمع فيعود على المعنى. وقيل: الضمير للسَّحَابِ. وقيل: للريح. وقرأ (جَنَاح) بْنُ حبيش مُصْفَاراً بألف و» لظلوا «جواب القسم الموطأ لَهُ» بِلَئِنْ «وهو ماض لفظاً مستقبل معنى، كقوله: {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] والضمير في» من بعده «يعود على الاصفرار المدلول عليه بالصفة كقوله:
4045 - إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
أي السَّفَهُ، لدلالة السفيه عَلَيهِ.
قوله (تَعَالى:) {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} لما علم رسوله وجوه الأدلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا فراراً وكفراً وإصراراً، قال: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} وقد تقدم الكلام على نحو {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ} إلى آخره في الأنبياء، وفي النمل. واعلم أن إرشاد الميِّتِ محالٌ والمحالُ أبعد من الممكن ثم إرشاد الأصمِّ صعبٌ فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم بالإشارة والفهام بالإشارة صعب ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب وإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يَحيد عن قرب، وإرشاد الأصَمُ أصعب ولهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسْهَل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع لأن غايته الإفهامُ بالكلام وليس كلّ ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة، فإن المعدومَ والغائب لا إشارة إليه فقال: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} (ثم قال: وَلاَ الصُمَّ وَلاَ تَهْدِي العُمْيَ) وقال في الأصم: {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} ؛ ليكون أدخل في الامتناع لأن الأصمَّ وإن كان يَفْهِم فإنما يفهم بالإشارة، (فإِذَا وَلَّى لا يكون نظره إلى المشير فامتنع إفهامه بالإشارة أيضاً) ثم قال: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِ العمي عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} لما نفى(15/428)
استماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حيّاً سميعاً وهو كذلك لأن المؤمنَ ينظر في البراهين ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة ويفعل ما يجب عليه فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى (عهنم) :
{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] .
قوله: {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} لما أعاد دليل الآفاق بقوله: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح} [الروم: 48] أعاد دليلاً من دلائل الأنفس أيضاً وهو خلق الآدمي وذكر أحواله فقال: {خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} أي (بأذى ضعف) كقوله: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [المرسلات: 20] ، وقرىء: «ضُعْف» بضم الضاد، وفتحها، فالضم لُغة قريش، والفتح لغة تميم «» مِنْ ضَعْف «أي من نطفة. وتقدم الكلام في القراءتين والفرق بينهما في الأنفال، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} (أي) من بعد ضعف الطفولية شباباً وهو وقت القوة {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} هَرَماً» وَشَيْبَةً «والشيبة هي تمام الضعف {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} .
(فإن قيل: ما الحكمة في قوله ههنا: {وَهُوَ العليم القدير} ) فقدم العلم على القدرة، وقولِهِ من قبل: {وَهُوَ العزيز الحكيم} والعزة إشارة إلى كما القدرة، والحكمة إشارة إلى كمال العلم، فقدم القدرة هناك على العلم؟! .
فالجواب أن المذكور هناك الإعادة {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} لأن الإعادة بقوله:» كُنْ فَيَكُونَ «فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوارٌ وأحوالٌ والعلم بكل حال حاصل فالعلم هَهُنا أظهر ثم إن قوله تعالى: {وَهُوَ العليم القدير} فيه تبشير وإنذار؛ لأنه إذا كان عالماً بأحوال الخلق يكون عالماً بأحوال المخلوق فإن علموا خيراً علمه ثم إذا كان قادراً فإذا علم الخير أثاب، وإذا علم الشر عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب اللَّذَيْن هما بالقدرة (والعلم) قدم العِلم، وأما الآية الأخرى فالعلم بتلك الأحوال قبل العقاب فقال: {وَهُوَ العزيز الحكيم} .(15/429)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون} يحلف المشركون «مَا لَبِثُوا» في الدنيا «غَيْرَ سَاعَةٍ» أي إلا ساعة، لما ذكر الإعادة والإبداء ذكره بذكر أحوالها ووقتها.
قوله: «مَا لَبِثُوا» جواب قوله «يُقْسِمُ» وهو على المعنى؛ إذا لو حكى قولهم بعينه لقيل: ما لبثنا، والمعنى أنهم استلقوا أجل الدينا لما عاينوا الآخرة. وقال مقاتل والكلبي: ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كما قال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} [النازعات: 46] وقوله: {يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35] .
قوله: «كَذَلِكَ» أي مثْلُ ذَلِكَ الإفك «كانَوا يُؤفَكُونَ» أي يصرفون عن الحق في الدنيا، وقال الكلبي ومقاتل كذبوا في (قبورهم) قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا بعث، والمعنى أن الله تعالى أراد يَفْضَحَهُمْ فحلفوا على شيء (يتبين) لأهل الجمع أنهم كاذبون، ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم فقال: {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله} أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه في اللَّبث في القبور. وقيل: في كتاب الله في حُكْم الله أي فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون «في كتاب الله» متعلقاً «بلَبِثْتُم» وقال مقاتل وقتادة: فيه تقديم وتأخير معناه وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يَوْم البَعْثِ.(15/430)
وفي «تَرِدُ بمعنى الباء [و] العامة على سكون عين» البَعْثِ «والحسن بفتحها، وقرىء، بكسرها، فالمكسور اسم، والمفتوح مصدر.
قوله: {فهذا يَوْمُ البعث} في الفاء قولان: اظهرهما: أنها عاطفة هذه الجملة على» لَقَدْ لَبِثْتُمْ «.
وقال الزمخشري هي جواب شرط مقدر كقوله:
4046 - فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا ... كأنه قيل: إن صحَّ ما قلتم إن» خرسان «أقصى ما يراد بكم وآن لنا أن نخلص وكذلك إن كنتم منكرين فهذا يوم البعث، ويشير إلى البيت المشهور.
4047 - قالوا خُرَاسان أقْصَى ما يُرادُ بِنَا ... قُلْنَا القُفُول فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
قوله:» لا تَعْلَمُونَ «أي البعث أي ما يراد بكم (أو) لا يقدر له مفعول أي لم يكونوا من أولي العلم وهو المَنْع.
فصل
اعلم أن الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها، فالمجرم إذا حُشِرَ عَلِمَ أن مصيره (إلى النار يستقل مدة اللَّبْثِ ويخترا تأخير الحشر والإبقاء في الإبقاء، والمؤمن إذا حُشِرَ عَلِمَ أن مصيره) إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان ويقول أحدهما: إن مدة لَبْثنا قليلٌ وإليه الإشارة بقوله: {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث} ونحن صرنا إلى يوم البعث، وهذا يوم البعث {ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقوعه في الدنيا يعني أن طلبكم (التأخير لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به، فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير ولا ينفعكم العلم به الآن.
قوله: «فَيَوْمَئِذٍ» أي إِذْ يَشْفَعُ ذَلك يقولُ الذين أثوتوا العلمَ تلك المقالة «لا ينفع» هو(15/431)
الناصب ليومئذ قبله، وقرأ الكوفيون هنا وفي غافر بالياء من تحت وافقهم نافعٌ على ما في غافر؛ لأن التأنيث مجازيّ ولأنه قد فصل أيضاً والباقون بالتأنيث فيهما مراعاةٌ للفظ.
قوله: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} قال الزمخشري من قولك: أسْتَعْتَبَنِي فلانٌ فَأَعْتَبْتُهُ أي اسْتَرْضَانِي فَأَرضَيْتُهُ، وذلك إذا كان جانياً (عليه) وحقيقة «أَعْتَبْتُهُ» أزلت عَتْبَهُ ألا ترى إلى قوله:
4048 - غَضِبَتْ تَمِيمٌ أن تقَتَّلَ عَامِرٌ ... يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
كيف جعلهم غضاباً، ثم قال: «فأُعْتِبُوا» أي أُزِيلَ غَضَبُهُمْ، والغضب في معنى العتب والمعنى لا يقال (لهم) أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى: {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} [الجاثية: 35] . فإن قلتَ: كيف جعلوا غير مُسْتَعْتَبِين في بعض الآيات وغير مُعْتَبِينَ في بعضها وهو قوله: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} [فصلت: 24] قلت: أما كونهم غي مُسْتَعْتَبِينَ فهذا معناه، وأما كونهم غير معتبين فمعناه أنهم غيرُ راضينَ بما هم فيه فشُبِّهَتْ حالُهُمْ بحال قوم جُنِيَ عليهم فهم عاتبون على الجاني غير راضين (منه) فإن يستعتبو الله أي يسألون إزالة ما هم فيه فما هم من المُجَابِينَ انتهى. وقال ابن عطية ويستعتبون بمعنى يعتبون كما تقول يَمْلِكث، ويَسْتَمْلِكُ، والباب في «استفعل» طلب الشيء وليس هذا منه؛ لأن المعنى كان يفسد إذْ كان المفهوم منه ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبَى، قال شِهابُ الدِّين: وليس (هذا) فاسداً لما تقدم في قوله الزمخشري.(15/432)
قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} وهذا إشارة إلى إزالة الأعْذَار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبقَ من جانب الرسول تقصيرٌ فَإن طلبوا شيئاً آخر فذاك عناد مَحْض لأن من كذَّب دليلاً لا يَصْعبُ عليه تكذيب الدلائل بل يا يجوز للمستدل أن يَشْرَع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيِّداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه، وعانده الخصم لأنه إما أن يعترف بوُرُودِ سُؤال الخَصْم عليه أو لا يعترف فإن اعترف يكون انقطاعاً وهو يَقْدَحُ في الدليل والمستدلّ إما أن يكون الدليل فاسداً وإما أن المستدل جاهل بوجه الدلالة والاستدلال وكلاهما لا يجوز الاعراف (به) من العلم فكيف من النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإن لم يعترف بكون الشُّرُوعِ في غيره يوهم أن الخَصم معاند فيحترز عن العناد في الثاني أكثر.
فإن قيل: فالأنبياء عليهم (الصلاة و) السلام ذكروا أنواعاً من الدلائل، فنقول سردوها سَرْداً ثم فردوها فرداً فرداً (كما) يَقُولُ: الدليلُ عليه من وجوه: الأول: كذا، والثاني: كذا، والثالث: كذا.
وفي مثل هذا الواجب عدم الالتفات إلى عناد المعاند لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المُسْتَدِلُ مِن الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتَنْحَطُّ درجته وإلى هذا أشار بقوله: {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أي ما أنتم إلا على باطل، ووحد في قوله: «جئْتَهُمْ» وجمع في قوله: «إنْ أَنْتُمْ» لنكتةٍ وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ} أي جاءت بها الرسل فقال الكفار ما أنتم أيها المُدعُون الرسالة (كلكم) إلا كذا.(15/433)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قوله: «كَذَلك يَطْبَعُ» أي مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ توحيد الله.
(فإن قيل: من لا يعلم شيئاً أيّ فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه؟
فالجواب:) معناه أن من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل، ثم إنه تعالى(15/433)
سَلَّى نبيه عليه (الصلاة و) السلام فقال: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} في نصرتك وإظهارك على عدوك وتبيين صدقك.
قوله: {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ} العامة من الاسْتِخْفَافِ - بخاء مُعْجَمَةٍ وفاءٍ - ويعقوبُ، وابنُ أبي إسحاق بحاء مهملة وقاف من الاسْتِحْقَاق. وابنُ أبي (عبلة) ويعقوبُ بتخفيف نون التوكيد والنهي من باب: لاَ أَرَينْكَ هَهُنَا.
فصل
المعنى ولا يَسْتَجْهِلَنَّكَ أي لا يَجْهَلَنَّكَ {الذين لا يوقون} على الجهل واتباعهم في البغي، وقيل: لا يَسْتَحِقَّنَ رأيكَ وحِلْمَك الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب، وهذا إشارة إلى وجوب مُدَاومَةِ النبي - عليه السلام - على الدعاء إلى الإيمان، فإنه لو سكت لَقَالَ الكافريون: إن هـ متقلب قابل الرأي لا ثبات له.
روى أبو أمامة عن أبيِّ بْنِ كَعْبٍ قال: «قال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَنْ قَرَأَ سُورَة الرُّومِ كان لَهُ من الاجر عشر حسناتٍ بعدد كُلّ مَلَك يُسَبِّح اللَّهُ بَيْنَ السَّمَاء والأرض وأَدْرَكَ ما صَنَعَ في يومه وليلته «رواه في تفسير والله أعلم (وأحكم) .(15/434)
سورة لقمان(15/435)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
مكية وهي أربع وثلاثون آية، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة، وألفان ومائة وعشرة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {ألم. تلك آيات الكتاب الحكيم} تلك إشارة إلى غائب، والمعنى آيات القرآن (أي) آيات الكتاب الحكيم. والحكيم (قيل) : فعيلٌ بمعنى مُفْعَل وهذا قليل. قالوا عَقَدْتُ اللَّبَنَ فَهُوَ عَقِيدٌ، (أو بمعنى فاعل) أو بمعنى ذي الحكمة أو أصله الحكيمُ قائِلُهُ (ثم) حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ وهو الضمير المجرُور، فانقلب مرفوعاً فاسْتَتَرَ في الصِّفة قاله الزمخشري، وهو الحسن الصِّنَاعِة.(15/435)
قوله: «هَدىً وَرَحْمَةً» العامة على النصب على الحال من «آيات» والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل او المَدْح. وحمزةُ بالرفع على خبر مبتدأ مضمر وجوز بعضهم أن يكون «هدى» منصوباً على الحال رفع «رحمة» . قال: ويكون رفعها على خبر ابتداء مضمر، (وجوز بعضم أن يكونَ هُدىً) أي وهو رحمة وفيه بُعْدٌ.
فصل
قال في البقرة: ذَلِكَ الكِتَابُ، ولم يقل: «الحَكِيمُ» وههنا قال: «الحَكِيمُ» ؛ لأنه لما زاد ذكرَ وصفٍ في الكتاب زاد ذكر أمر أحواله فقال هدى ورحمة وقال هناك: «هدى للمتقين» ، فقوله: «هدى» (في مقابلة قوله: «الكتاب» وقوله: «ورحمة» ) مقابلة قوله «الحكيم» ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذو الحكمة كقوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 69] أي ذات رضا وقال هناك «لِلْمُتَّقِينَ» وقال هنا: «للمُحْسِينِيَ» ؛ لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال: «لِلْمُتَّقِين» أي يهدى (به) من يتقي من الشرك والعناد، وههنا زاد قوله: «وَرَحْمَة» فقال: «لِلْمُحْسِنِينَ» ؛ لأن رحمة الله قريبٌ من المحسنين وقال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فناسب زيادة قوله «وَرَحْمَة» ، ولأن المحسن يتقي، (وزيادة) .
قوله: «الذين يقيمون» صفة أبو بدل أو بيان لما قبله، أو منصوب أو مرفوع على القطع وعلى كل تقدير فهو تفسير للإحسان. وسئل الأصمعي عن الألمعي فنشد:
4049 - الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنْ ... نَ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
يعني أن الألمعي هو الذي إذا ظن شيئاً كان كمن رآه وسمعه كذلك المحسنون هم(15/436)
الذين يفعلون هذه الطاعات ومثله وسئل بعضهم عن الهلوع فلم يزد أن تلا: {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً} [المعارج: 19 - 20]
فصل
قال في البقرة: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة} [البقرة: 3] ولم يقل هنا: الذين يؤمنون بالغيب؛ لأن المتَّقِيَ هو التارك للكفر ويلزم منه أن يكون مؤمناً، والمؤمن هو الآتي بحقيقة الإيمان، ويلزمه أن لا يكونَ كافراً، فلما كان المتقي دالاً على المؤمن بالالتزام مدح بالإيمان هناك، ولما كان المحسن دالاً على الإيمان بالتنصيص لم يصرح بالإيمان.
وتقدم الكلام على نظير قوله: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة} إلى قوله: «المُفْلِحُونَ» .
قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} لم ابين أن القرآن كتابٌ حيكمٌ يشتملُ على آياتِ حكيمة بين حال الكفار أنهم يَترُكُون ذلك ويشتغلون بغيره. قال مقاتل والكلبي: نزلت في النَّضْرِ بْنِ الحَارِث كان يَتَّجرُ فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشاً ويقول: إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث «رُسْتم، واسفِنْديَار» ، وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فأنزل الله هذه الآية، وقال مجاهد: يعني شراء القِيَانِ والمُغَنِّينَ، ووجه الكلام على هذا التأويل من يشتري ذاتَ او ذَا لَهْوِ الحَدِيث، قال عَليه (الصلاة و) السلام: «لا يحل (تعليم) المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام» وفي مثل هذا نزلت الآية {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} وما من رَجُلٍ يرفع صوته بالغناء إلاَّ بعث الله(15/437)
عليه شيطانين أحدهما على هذا المَنْكِبِ والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى هو الذي يسكت قال النحويون قوله: «لَهْوَ الحديث» من باب الإضافة بمعنى «مِنْ» ح لأن اللهو يكون حديثاً وغيرهَ فهو كباب، وهذا أبلغ من حذف المضاف.
قوله: «لِيُضِلَّ» (قرأه ابن كثير وأبو عمرو) بفتح حرف المضارعة، والباقون بضمه لمن «أَضَلَّ غَيْرَهُ» فمفعوله محذوف، وهو مستلزم للضلال لأن من «أَضَلَّ» فقد «ضَلَّ» من غير عكس، وقد تقدم ذلك في إبراهيم. قال الزمخشري هنا: فإن قلت: القراءة بالرفع بينة لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: معنيان:
أحدهما: ليثبت على ضلالة الذي كان عليه ولا يَصْدِفَ ويزيدَ فيه ويمده فإن المخذول كان شديد التمكّن في عداوة الدين وصد الناس عنه.
الثاني: ان موضع «ليضل» (موضع) من قِبَلِ أنَّ من «أَضَلَّ» كان ضالاًّ لا محالة، فدل بالرَّدِيفِ على المَرْدُوفِ.
فصل
روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا: (لهو) الحديث هو الغناء، والآية نزلت فيه، ومعنى قوله: {مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} أي يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وقال ابن جريح: هو الطبل، وقال الضحاك: وهو الشرك، وقال قتادة: حسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ.(15/438)
قوله: «بغير علم» حال أن يشتري بغير علم بأحوال التجارة حيث اشترى ما يخسر قيمة الدَّارَيْنِ.
قوله: «وَيَتَّخِذَهَا» قرأ الأحوان وحفص بالنصب أي بنصب الذَّال عطفاً على «لِيُضِلَّ» وهو علة كالذي قبله.
والباقون بالرفع عطفاً على «يَشْتَرِي» فهو صلة، وقيل: الرفع على الاستئناف من غير عطف على الصلة، والضمير المنصوب يعود على الآيات المتقدمة أو السبيل لأنه يُؤَنَّثُ، أو الأحادث الدال عليها الحَدِيُ لأنه اسم جنس.
قوله: «أولَئِكَ لَهْمْ» حمل أولاً على لفظ «مَنْ» فأفرد (ثم) على معناها فجمع ثم على لفظها فأفرد في قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} وله نظائر تقدم التنبيه عليها في المائدة عند قوله: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 6] . قال أبو حيان: ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غير هاتين الآيتين، قال شهاب الدين: ووجد غيرهما كما تقدم التنبيه عليه في المائدة. وقوله: «عَذَابٌ مُهِينٌ» أي دائم.
قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً} أي يشتري الحديث الباطل، ويأتيه الحق الصُّرَاحُ مَجَّاناً فيعرض عليه.
قوله: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} حال من فاعل «وَلَّى» أو من ضمير «مُسْتَكْبِراً» وقوله: {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} حال ثالثة أو بدل مما قبلها، أو حال من فاعل «يَسْمَعْهَا» أو تبيين لما قبلها، وجوز الزمخشري أن تكون جملة التنبيه استئنافيتين.(15/439)
معنى {كأن لم يسمعها} شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنه غافلة، وقوله: {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} أدخل في الإعراض {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي مؤلم، ووصفه أولاً بأنه «مهين» وهو إشارة إلى الدوام فكأنه قال: «مُؤْلِم دَائم» .
فصل
معنى {كأن لم يسمعها} شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنه غافلة , وقوله: {كَأَنَّ فِي اأُذُنَيْهِ وَقْراً} أدخل في الإعراض {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي مؤلم , ووصفه أولاً بأنه " مهين " وهو إشارة إلى الدوام فكأنه قال: " مُؤْلِم دَائم ".(15/440)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ... } الآية لما بين حال المُعْرِضِ عن سماع الآيات بين حال من يقبل على تلك الآيات بأنَّ لهم جناتِ النعيم. ولذلك عذاب مهين ووحد العذاب، وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة (واسعة أكثر من الغضب، وكّر «العذاب» وعرف «الجنات» إشارة إلى أن الرحمة) تبين النعمة وتعرفها ولم يبين النعمة وإنما نبه عليها تنبيهاً.
وقوله: «خَالِدِينَ» حال، وخبر «إِنَّ» الجملة من قوله: «لَهُمْ جَنَّاتٌ» والأحسن أن يجعل «لَهُمْ» هو الخبر وحده، و «جَنَّاتٌ» فاعل به، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «خالدُونَ» بالواو فيجوز أن يكون هو الخبر والجملة أو الجارّ وحده حال، ويجوز أن يكون ( «خالدون» ) خبراً ثانياً.
قوله: «وَعْدَ اللَّهِ» مصدر مؤكد لنفسه؛ لأن قوله: «لَهُمْ جَنَّاتٌ» في معنى وَعَدَهُم اللَّهُ ذَلِكَ، و «حَقّاً» مصدر مؤكد لغيره، أي لمضمون تلك الجملة الأولى، وعاملها مختلف، فتقدير الأولى وعد الله ذلك وعداً، وتقدير الثاني: أُحِقُّ ذلك حَقّاً، واعلم أنه «العزيز» في اقتداره «الحكيم» في أفعاله.
قوله: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ} وهذا تبيين لقوّته وحكمته، وقد تقدم الكلام(15/440)
على نظيرها في الوعد. واعلم أن أكثر المفسرين قال: إن السموات مبسوطةً كصُحُفٍ مستوية لقوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] . وقال بعضهم: إنها مستديرة وهو قول (جميع) المهندسين والغزاليُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال ونحن نوافقهم على ذلك فإن لهم عليها دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحسّ لا يجوز وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله فضلاً من (أن) ليس في القرآن والخبر مما يدل على ذلك صريحاً بل ما يدل عليه الاستدارة كقوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] «والفلك» اسم لشيء مستدير بل الواجب ان يقال: إن السماء سواء كانت مستديره أو صفحةً مستقيمة هو مخلوق بقدر الله لا بإيجاب وطبع (وتقدم) الكلام على نظير الآية إلى قوله: «كَرِيم» . والكريم الحسن، أو ذي كرم لأنه يأتي كثيراً من غير حساب أو مُكْرِم مثل نَقِيصٍ للمُنْقِص.
قوله: {هذا خَلْقُ الله} يعني هذا الذي ذكرت مما يُعَايِنُونَ خلق الله {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ} من آلهتكم التي تعبدونها وتقدم «ماذا» الاستفهام في البقرة. {بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي بين، أو مبين للعاقل أنه ضلال، والمراد بالظالمين المشركين الواضعين العبادة في غير موضعها.(15/441)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} لقمان قيل: أعجمي وهو الظاهر فمنعه للتعريف والعجمة الشخصية، وقيل: عربي مشتق من اللّقْم وهو حينئذ مُرَجَّل لأنه لم يبق له وضعٌ في النكرات ومنعه حينئذ للتعريف وزيادة الألف والنون، والعامل في «إذ» مضمر.
قال ابن إسحاق لقمانُ هو نَاعور بن ناحثور بن تَارخ، وهو آزر، وقال وهب كان ابن أخت أيوب وقال مقاتل: ذكر أنه كان ابن خالة أيوب، وقال الواقدي: كان قاضياً في بني إسرائيل واتفق العلماء على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً إلا عكرمة فإنه قال كان نبياً وانفرد بهذا القول وقال بعضهم خُيِّرَ لُقْمَانُ: هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض فتحكم بين الناس بالحقّ فأجاب الصوت وقال: إن خَيَّرَنِي ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعاً وطاعة فإني أعْلَمُ إن فعل بي ذلك أعاننين وعصمني فقال الملائكة بصوت لا يراهم لِمَ يا لقمانُ؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان أن يعن فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطا طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً، ومن يختر الدنيا على الآخرة تُغْنه الدنيا ولا يصيب الآخرة فتعجب الملائكة من حسن مَنْطِقِ فقام من نومه فأعطي الحكمة فانْتَبَه وهو يتكلم بها ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما(15/442)
اشترط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة، كُلّ ذلك بعفو الله عنه وكان لقمان تؤازره الحكمة، قال خالد الربعي: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، وقال سعيد بن المسيب: كان خياطاً، وقيل: كان راعِيَ غنم، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال: ألستَ فلاناً الراعيَ فبم بَلَغْتَ ما بَلَغْتَ؟ قال: بصدق الحديث، وأداء الأمانة وترك ما لا يَعْنِينِي، وقال مجاهد: كان عبداً أسود عظيم الشَّفَتَيْنِ مُشَقَّقَ القَدَمَيْنِ، وقال الحسن: اعتزل لقمان الناس فنزل ما بين الرقّة (وبيت) المقدس لا يخالطهم، وقال أبو جعفر: كان لقمانُ الحبشيُّ عبداً لرجل فجاء به إلى السوق ليبيعه فكَانَ كلما جاء إنسانٌ يشريته قال له لقمان: ما تصنع بي (فاعل فيقول: أصنع بك كذا وكذا فيقول: حاجتي إليك أن لا تَشْتِرِيَنِي حتى جاء رجل فقال له: ما تصنع بي) قال أُصَيِّرُك بواباً على بابي فقالك أنت اشتري فاشتراه وجاء به إلى جاره قال: وكان لمولاه ثلاثُ بناتٍ يَبْغِين في القرية، وأراد أن يخرج إلى ضيعةً له فقال له: إني أَدْخَلْتُ إليهن طعامَهُنَّ وما يَحْتَجْنَ إليه فإذا خرجت فأغلق الباب واقعد من ورائه ولا تفتحه حتى أحضر قال: ففعل فَخَرَجْنَ إليه فإذا خرجت فأغلق الباب واقعد من ورائه ولا تفتحه حتى أحضر قال: ففعل فَخَرَجْنَ إليه كما كُن يَخْرُجُنْ فقلن (له) : افتح الباب فأبى (عليهن) فَسَجَنَّه فَغَسَل الدم وجلس، فلما قدم مولاه لم يخبره (ثم عاد فأغلق الباب فجئن إليه فقلن له: افتح الباب فأبى فَشَجَجْنَه ورجَعنَ فغسل الدم وجلس ذلك فخرج إليه وقال: إني قد أدخلت إليهن ما يحتجن إليه فلا تفتح الباب فأغلق الباب فجئن إليه فقلن له: افتح الباب فأبى فشججنه ورجعن فغسل الدم وجلس فلما جاء مولاه لم يخبره) قال: فقالت الكبرى: وما بال هذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ - مني والله لأتوبَنَّ فتَابَتْ، (وقالت) الصغرى: ما بال هذا العبد الحبشيّ وهذه الكبرى أولى بطاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ - مني والله لأتوبَنَّ فَتَابَتْ فقالت الوسطى: ما بال هَاتَيْن وهذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله مني والله لأتوبن فتابت فتُبْنَ إلى الله تعالى وكُنَّ عَوَابِدَ القرية فقال غُوَاةُ القرية ما بال هذا العبد الحبشيّ وبنات فلان أولى بطاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ - منّا فتابوا، وعن مكحول: أن لقمانَ كان بعداً حبشياً لرجل من بني إسرائيل(15/443)
وكان مولاه يلعب بِالنَّرْدِ ويخاطر عليه، وكان على بابه نهرٌ جارٍ فلعب يوماً بالنَّرْدِ على أن من قهر صاحبه شرب الماء الذي في البحر كله أو افتدى منه فقمر سيد لقمان فقال له القامر: اشرب ما في النهر كله وإلا فافتديه فقال سَلْنِي الفداء فقال: عينيك أَفْقَأهُما أو جميع ما تملك فقال: أمْهِلْنِي يوماً قال لك ذلك.
فأمسى كئيباً حزيناً فكلمه لقمان فأعرض عنه فأعاد عليه القول فأعرض عنه فقال أخبرني فلعل لك عندي فرجاً فأخبره فقال: إذا قال لك الرجلُ اشرب ما في النهر فقل له أشرب ما بين حفتي النهر أو المد (فإنه) يقول لك ما بين حفتي النهر فقل له احبس عني المد حتى أشرب ما بين الحفتين فإنه لا يستطيع وتكون قد خرجت مما ضمنته له فعرف الرجل أنه قد صدق فطابت نفسه، فلما أصبح الرجل جاء فقال أَوْفِ لي شرطي فقال له نعم أشرب ما بين الضفتين أو المد فقال ما بين الضفتين قال فاحبس عني المد قال كيف أستطيع فخصمه قال فأعتقه مولاه فأكرمه الله تعالى وكان يختلف إلى داودَ - عليه السلام - يقتبس منه فاختلف إليه سنة وداود يتخذ درعاً يسأله ما هذا ولم يخبره داود حتى فرغ منها ولَبِسَها على نفسه فقال عند ذاك: الصمت حكمة.
فصل
لما بين الله تعالى فساد اعتقاد المشركين في عبادة من لا يَخْلٌُ شَيْئاً قوله: {هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ} [الروم: 11] بين أن المشرك ظالم ضالٌّ ذكر ما يدل على أن ضلاله وظلمهم نقيض الحكمة إن لم يكن هناك نبوة وذكر حكاية لقمان فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} . (والحكمة) عبارة عن توفيق العمل بالعلم، فإن أريد تَحْدِيدُها بما يدخل فيه حكمة الله فنقول: حصول العلم على وفق المعلوم.
قوله: «أَنْ اشْكُرْ» هذه «أن» المفسرة، فسر الله إيتاء الحكمة بقوله: {أَنِ اشكر للَّهِ} ثم بين أن الشكر لا يشفع إلا الشاكر بقوله: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} وبين أن من كفر لا يتضرر غير الكافر، فقال: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي غير محتاج إلى شكره، وقدم الشكر على الكُفْرَانِ ههنا وقال في الروم: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ(15/444)
صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الآية: 44] لأن الذكر في الروم كان للترهيب ولذلك قال: {يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} [الروم: 43] فقدم التخويف، وههنا الذكر للترغيب؛ لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف. والوعد.
قوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} هذا عطف على ما تقدم والتقدير آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه، وحين جعلناه واعظاً لغيره.
قوله: «يا بُنَيَّ» قرأ ابن كثير بإسكان الياء وفتحها حفصٌ والباقون بالكسر {لاَ تُشْرِكْ بالله} بدأ في الوعظ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، أما أنه ظلم فلأنه وضع النفس الشريفة المكرمة في عبادة الخسيس، فوضع العبادة في غير موضعها.
قوله: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ} لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبٌ منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة بل هي واجبة لغير الله (في بعض الصور) كخدمة الأبوين ثم بين السبب فقال: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ» يعني لله على العبد نعمة الابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق أي صارت بقدرة الله سبب وجود فإنها حملته وبرضاه حصل التربية والبقاء.
قوله: {وَهْناً على وَهْنٍ} يجوز أن ينتصب على الحال من (أُمُّهُ) أي ضَعْفاً على ضعف. وقال ابن عباس: شدة عل شدة، وقال مجاهد: مشقة بعد مشقة وقال الزجاج: المرأة إذا حَمَلَتْ توَالَى عليها الضعف والمشقة، وقيل: الحمل ضعف والوضع ضعف، وقيل: منصوب على إسقاط الخافض أي في وهنٍ. قال أبو البقاء: «وعلى وهن» صفة له «الوَهْناً» . وقرأ الثَّقَفِي وأبو عمرٍو - في رواية - وَهَنا(15/445)
على وَهَنٍ - بفتح الهاء فيهما - فاحتمل أن تكونا لغتين كالشَّعْرِ والشَّعرِ، واحتمل أن يكون المفتوح مصدر «وَهِنَ» بالكسر يَوهَنُ وَهناً.
قوله: «وفصاله» قرأ الجَحْدِرِيُّ وقتادةُ وأبُو رَجَاء والحسنُ «وفَصْلُهُ» دون ألف - أي وفِطامُهُ في عامين.
فإن قيل: وصى الله بالوالدين، وذكر السبب في حق الأم مع أن الأب وجد منه الحشر من الأم لأنه حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ.
فالجواب: أن المشقة الحاصلة للأم أعظم فإن الأبَ حمله خلفة لكونه من جملةِ جَسَدِهِ، والأم حملته ثقلاً آدميّاً مودع فيها وبعد وضعه وتربيته ليلاً ونهاراً وبينهما ما لا يخفى من المشقة.
قوله: «أَنْ اشْكُرْ» في «أن» وجهان:
أحدهما: أنها مفسرة.
والثاني: أنها مصدرية في محل نصب «وصّينا» قاله الزجاج، لما كان الوالدان سببَ وجود الولد والموجد في الحقيقة للولد والوالدين هو الله أمر بأن يشكر قبلهما. ثم بين الفرق بين «إِلَيَّ المَصِيرُ» أي المرجع، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أَدْبَار الصَّلَوَاتِ الخَمْس فقد شكر الوالدين.
قوله: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} يعني أن خدمتهما واجبة، وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاقة الله فإن أفضى إليه فلا تُطِعْهُما، وتقدم تفسير الآية في العنكبوت. وقوله: «مَعْرُوفاً» صفة لمصدر محذوف أي صِحَاباً مَعْروفاً وقيل: الأصل: بمعروف.
قوله: {واتبع سبيل من أناب إليّ} أي دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(15/446)
قال عطاء عن ابن عباس: يريد: أبا بكر، وذلك انه حين أسلم أتاه عثمانُ وطلحة والزبير وسعدُ بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عَوْف وقالوا له: (لقد) صَدَّقْتَ هذا الرجل وآمنت به قال نعم هو صادق فآمنوا ثم حملهم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى أسلموا وهؤلاء لهم سابقة الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر قال الله (تعالى) : {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يعني أبا بكر.
قوله: «إِلَي» متعلق «بأَنَاب» ثم «إِليَّ» متعلق بمحذوف لأنه خبر «مرجعكم» فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تعملون. قيل: نزلت هاتان الآيتان في سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاص وأمِّه، وقيل: الآية عامة.
قوله: {يابني إِنَّهَآ} هذا الضمير يرجع إلى الخطيئة، وذلك أن ابنَ لقمان قال لأبيه: يا أبت إنْ عملت الخطيئةَ حيث لا يراني أحد كيف يعلمها (الله) ؟ فقال: {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} . قوله: «إِنْ تَكُ» الضمير ضمير القصة، والجملة الشريطة مفسرة (للضمير) ، وتقدم أن نافعاً يقرأ مِثْقَال بالرفع على أن كَانَ تامة وهو فاعلها وعلى هذا فيقال: لم ألحقت فله تاء التأنيث؟ قيل: لإضافته إلى مؤنث؛ ولأنه بمعنى «زِنَةُ حَبَّةٍ» ، وجوز الزمخشري في ضمير «إِنَّهَا» أن تكون للحبة من السيئات والإحسان في قراءة من نصب «مِثْقَال» . وقيل: الضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام أي إنَّ التي سألتَ عنها (إنْ تَكُ) ، قال المفسرون: إنه سأل أباه أرأيت الحَبَّةَ تقع في مغاص البحر يعلمها الله؟ .(15/447)
قوله: «فتكن» الفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفيةً في موضع حريز كالصَّخْرَةِ لا تخفى على الله لأن الفاء للاتصال بالتعقيب وقرأ عبد الكريم الجَحْدَريُّ «فَتكِنَّ» بكسر الكاف، وتشديد النون مفتوحة أي فتستقر.
وقرأ مُحَمَّدُ بْنُ أبي مُحَمَّد البَعْلَبَكِّيِّ: فَتُكَنَّ، إِلا أنه مبنيٌّ للمجهول، وقتادة «فَتَكِنْ» بكسر الكاف وتخفيف النون مضارع «وَكَنَ» أي استقر في وَكْنِهِ ووَكْرِهِ.
فصل
الصخرة لا بد وأن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة من ذكرها؟ قال بعض المفسرين المراد بالصخرة صخرة عليها الثَّوْرُ وهي لا في الأرض ولا في السماء، (وقال الزمخشري: فيه إضمار تقديره إن تَكُنْ في صخرةٍ أو في موضع آخَرَ في السموات أو في الأرض) . وقيل: هذا من تقديم الخاصّ وتأخر العام، وهو جائز في مثل هذا التقسيم، وقيل: خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصِّغَرِ، هذه الأمور فلا يخفى في العادة فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله: {إنْ تَكُ مثقال حبة من خردل} إشارة إلى الصغر، وقوله: {تَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} إشارة (إلى الحِجَاب، وقوله: «فِي السَّمَوَاتِ» إشارة إلى البُعد، فإنها أبعدُ الأبعاد، وقوله: «أَوْ فِي الأَرْضِ» إشارة) إلى الظلمة فإن جوْف الأرض أظلمُ الأماكن، وقوله: {} أبلغ من قول القائل: يعلمه الله لأن من يظهر له شيء (ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دونَ حال من يَظْهَرُ له الشيء) ويُظْهِرُهُ لغيره فقوله: {يَأْتِ بِهَا الله} أي يظهرها (للإشهار) {إِنَّ الله لَطِيفٌ} نافذ القدرة، «خَبِيرٌ» عالم ببواطن الأمور، روي في بعض الكتب أن هذه آخر كلمة تكلم بها لقمانُ فانشقتْ مرارتُه من هَيْبَتِهَا فمات، قال الحسن: معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها.(15/448)
قوله: {يا بني أَقِمِ الصلاة} لما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزم من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه الله مخلصاً وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئاته اختلفت. وقوله: {وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر} أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك فإن شغل الأنبياء رتبتهم عن العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم {واصبر على مَآ أَصَابَكَ} عين من الأذى لأن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذى فأمره بالصبر عليه.
فإن قيل: كيف قدم (في) وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وحين أمر ابنه قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فقال: {لاَ تُشْرِكْ بالله} ثم قال: «أَقِم الصَّلاَةَ» ؟ .
فالجواب: أنه كان يعلم أن ابنه معترفٌ بوجودِ الإله فما أمره بهذا المعروف بل نهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف، وأما ابنه فأمره أمراً مطلقاً والمعروف يقدم على المنكر.
قوله: {مِنْ عَزْمِ الأمور} يجوز أن يكون عزم بمعنى مفعول أي من مَغْزُماتِ الأمور أو بمعنى عازم كقوله: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} [محمد: 21] وهو مجاز بليغ، وزعم المبرد أن العين تبدل حاء فيقال «حَزْم، وعَزْم» والصحيح أنهما مادات مختلفتان اتفقا في المعنى، والمراد من الآية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى (فيهما) من الأمور الواجهة التي أمر الله تعالى بها ويعزم عليها لوجوبها.
قوله: «وَلاَ تُصَعِّرْ» قرأ ابن كثير وابنُ عامر وعاصمٌ «تُصَاعِرْ» بألف وتخفيف العين، والباقون بالألف وتشديد العين، والرسم يحتملهما، فإنه رسم بغير ألف، وهما(15/449)
لغتان لغةُ الحجاز التخفيف وتميم التثقيل فمن التثقيل قوله:
4050 - وَكُنَّا إِذَا الجَبَارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَيُقَوَّمُ
ويقال أيضاً: تَصَعَّر، قال:
4051 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... أقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّر
وهو من الميل، وذلك أن المتكبر يميل بِخَدِّهِ تكبراً كقوله {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج: 9] . قال أبو عبيدة: أصله من الصَّعَرِ داء يأخذ الإبل في أعناقها فتميل وتَلْتَوِي؛ يقال: صَعَّرَ وجهه وصاَعَرَ إذا مال وأعرض تكبُّراً، ورجل أصْعَرُ أي مائل العنق، وتفسير اليَزِيدِيّ له بأنه التَّشَدُّق في الكلام لا يوافق الآية هنا، قال ابن عباس: يقول لا تتكبر فتحتقر الناس وتعرض عنهم وجهك إذا كلموك، وقال مجاهد: هو الرجل يكون بينك وبين إحْنَةٌ فتلقاه فيعرض عنك بوجهه، وقال عكرمة: هو الذي إذا سلم عليه لوى عُنُقَه تكبراً، وقال الربيع بن أنس وقتادة ولا تحتقر الفقراء ليكون الغنيّ والفقير عندك سواء، واعلم أنه لما أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره فكان يخشى بعدها من أمرين:(15/450)
أحدهما: التكبر على الغير لكونه مكملاً له.
والثاني: التبختر في المشي لكونه كاملاً في نفسه فقال: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ} تكبراً {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} أي خُيَلاَءَ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} في نفسه «فَخُورٍ» على الناس بنفسه.
قوله: «واقْصِدْ» (هذا قاصر) بمعنى اقْتَصِدْ واسلُك الطريقة الوسطى بين ذلك قَوَاماً أي ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً. وقال عطاء: امشِ بالوَقَار والسكينة لقوله: {يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] .
(وقُرِىءَ) «وأَقْصِدْ» بهمزة قطعٍ من أَقْصَدَ إذا سَدَّدَ سهمه للرَّمْيَةِ.
قوله: {واغضض مِن صَوْتِكَ} من تَبْعيضيَّه، وعند الأخفش يجوز أن تكون زائدة، ويؤيده قوله {يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} [الحجرات: 3] . وقيل: «من صوتك» صفة لموصوف محذوف أي شيئاً من صوتك، وكان الجاهلية يتمدحون برفع الصوت، قال: [من المتقارب] :
4052 - جَهِيزَ الكَلاَمِ جَهِيرَ العُطَاسِ ... جَهِيرَ الرُّوَاءِ جَهِيرَ النّعَمْ
والمعنى أَنْقِصْ من صوتك، وقال مقاتل: اخفض من صوتك.
فإن قيل: لِمَ ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟ .
فالجواب: أن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصِّمَاخ بقوته، وربما يخرقُ الغِشَاء الذي داخل الأذن، وأما سرعة المشيء فلا تؤذي وإن أذت فلا يؤذي غير في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن اللمس يؤذي آلة اللمس والصوت(15/451)
يؤذي آلة السمع، وآل السمع على باب القلب فإن الكلامَ ينتقلُ من السمع إلى القلب ولا كذلك اللمس وأيضاً فلأن قبيحَ القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان تَرْجُمانُ القلب.
قوله: «إِنَّ أَنْكَرَ» قيل: أنكر مبنيٌّ من مبنيٍّ للمفعول نحو: «أشْغَلُ مشنْ ذَاتِ النّْيَيْنِ» ، وهو مختلف فيه ووحد «صوت» لأنه يراد به الجنس ولإضافته لجمع، وقيل: يحتمل أن يكون «أنكر» من باب «أطوع له من بنانه» ومعناه أشدّ طاعةً. فإن «أفْعَلَ» لا يجيء (في) «مُفْعَل ولا في» مفْعُول «ولا في باب العيوب إلا ما شَذَّ كقولهم» أَطْوَعُ مِنْ كَذَا «للتفضيل على مُطِيع و» أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْن و «أحْمَقُ (مِنْ فُلانُ» ) من باب العيوب، وعلى هذا فهو من باب «أفعل» كأَشْغَلَ في باب مَفْعُولٍ فيكون للتفضيل على المنكر. أو نقول هو من باب «أَشْغَل» مأخوذ من نُكِرَ الشيءُ فهو مَنْكُورٌ، وهذا أنْكَرُ مِنْه، وعلى هذا فله معنى لطيف وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثِقَل أو تعب كالبَعير أو لغير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهقُ بصوتٍ مُنْكَر (فيمكن) أن يقال: هو من نكير كأَحَدَّ من حَدِيدٍ.
فإن قيل: كيف يفهم كونه أنكر الأصوات مع أن حزَّ المِنْشَار بالمبرد ودق النحاس بالحديد أشد صوتاً؟!(15/452)
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المراد أنكر أصوات الحيوانات صوتاً الحميرُ فلا يَردُ السؤال.
الثاني: أن الآمر بمصلحة وعبادة لا ينكر صوته بخلاف صوت (الحمير) .
فصل
قال مقاتل: اخْفِضْ مِنْ صوتك {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات} أقبح الأصوات {لَصَوْتُ الحمير} أوله زَفيرٌ، وآخره شهيقٌ وهما صوت (أهل النار) وقال موسى بن أعين سمعت سفيان الثوري يقول في قوله تعالى: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} قال صياح كل شيء تسبيح لله تعالى إلا الحمار وقال جعفر الصادق في قوله تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} قال: هي العطسة القبيحة المنكرة، قال وهب تكلم لقمان اثْنَي عشَرَ ألْف كلمةٍ من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم ومن حكمه: قال خالد الريعي كان لقمان عبداً حبشياً فدفع (له) مولاه إليه شاة فقال اذبحها فأتِنِي بأطيبِ مُضْغَتَيْنِ مِنْها فأتاه باللِّسان والقَلْب فسأله مولاه فقال: ليس شيء أطْيَبَ منهما إذا طابا ولا أخبثَ منهام إذا خَبُثَا.(15/453)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ ... } الآية (أي) سخر لأجلكم ما في السماوات والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره وفيها الفوائد لعباده وسخر ما في الأرض لأجل عباده.(15/453)
قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} قرأ نافعٌ وأبُو عَمْروٍ وحفصٌ (نِعَمَهُ) جمعُ نِعْمَةٍ مضافاً لها الضمير «فظَاهِرةً» حال منها، والباقون «نِعْمَةً» بسكون العين، وتنوين تاء التأنيث، اسم جنس يراد به الجمع كقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] و [النحل: 18] فظاهرةً (نعت) لها، وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة «وأصْبَغَ» بأبدال السين صاداً وهي لغة كلْبٍ، يفعلون ذلك مع الغَيْنِ والخَاءِ والقَافِ، وتقدم نظير هذه الجمل كلها في البقرة.
فصل
قال عكرمة عن ابن عباس النعمة الظاهر الإسلام، والقرآن، والباطنة ما ستر عليك من الذنوب، ولم يعجل عليك بالنقمة، وقال الضحاك: الظاهرة حُسْن الصورة وتسويةُ الأعضاء، والباطنة المعرفة، وقال مقاتل: الظاهرة تسوية الخِلْقَة، والرزق، والإسلام والباطنة: ما ستر عليك من الذنوب وقال الربيع الظاهرة الجوارح، والباطنة القلب، وقيل: الظاهرة تمام الرزق والباطنة حُسْنُ الخُلُق، وقال عطاء: الظاهرة تخفيف الشرائع، والباطنة الشفاعة، وقال مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة، وقيل: الظاهرة الإمداد بالملائكة والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفار، وقال سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الظاهرة: اتِّباع الرسول والباطنة محبته.(15/454)
قوله: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله (بِغَيْرِ عِلْمٍ} نزلت في النضر بن الحَرثِ، وَأُبيِّ بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) وفي صفاته {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا} بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القُبْح، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يَدعوهُم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم وبين كلام الله وكلام العلماء بَوْنٌ عظيمٌ فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهال؟ ثم قال: {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير} ، جواب «لو» محذوف ومجازه: يدعوهم فيتبعونه أي يتبعون الشيطان وإن كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير، والمعنى أن الله يدعوهم إلى الثواب، والشيطان يدعوهم إلى العذاب وهم مع هذا يتبعون (الشيطان) وقد تقدم الكلام على «أَوَ لَوْ» ونَحوهِ.
قوله: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} قرأ عَليٌّ (والسُّلَمِيُّ) «يُسَلِّمْ» بالتشديد، لما بين حال المشرك والمجادل في الله بين حال المستسلم المسلم لأمر الله وقوله: «وَهُو مُحْسِنٌ» أي لله يعني يخلص دينه لله ويفوض أمره إليه وهو محسن في عمله {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه لأن أوثق العُرَى جانب الله، فإن كل ما عداه هالك منقطع وهو باقٍ لا انقطاع له {وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور} يعني فقد استمسك بالعروة التي توصله إلى الله لأن عاقبةَ كُلِّ شيء إليه.
فإن قيل: كيف قال هَهُنَا: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} (فعداه «بإلى» وقال في البقرة: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} [الآية: 112] ) فعداه باللاّم؟ فقال الزمخشري: أَسْلَمَ لِلّه أي إلى الله يعني أنَّ «أَسْلَمَ» يتعدى تارة «باللام، وتارة» بإلى «قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ} [النساء» : 79] وقال: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [المزمل: 15] ثم قال: {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا} (لما بين حال(15/455)
المسلم رجع إلى بيان حال الكافر وقال: {من كفر فلا يحزنك} ) أي لا تحزن إذا كفر كافر، فإن من يكذبْ وهو مقطوعٌ بأن صدقه بين عن قرب لا تحزن بل قد يتوب المكذب عن تكذيبه، وأام إذا كان لا يرجو ظهور صدقه فإنه يتألم من التكذيب فقال: {فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} فإن المرجعَ إليَّ {فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا} فيَنْخَجلون ثم قال {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي لا يخفى عليه سرُّهُمْ وعلانيتُهم فينبئهم بما أسَرَّتهُ صدورهم.
قوله: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً» أي نمهلهم ليتمتعوا بنعم الدنيا قليلاً إلى انقضاء آجالهم «ثُمَّ نضطرّهم» نُلجئهم ونردهم في الآخرة {إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهو عذاب النار.
قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ... } الآية لما استدل بخلق السموات بغير عمد، وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم يعترفون بذلك ولا ينكرونه وهذا يقتضي أن الحمد كله لله لأن خالق السماوات والأرض محتاج إليه كلّ من في السماوات والأرض، وكون الحمد كله لله يقتضي أن لا يعبد غيره لكنهم لا يعلمون هذا، ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما سلى قَلْبَ النبي - عليه السلام - بقوله: {فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا} أي لا تحزن على تكذيبك فإن صدقَك وكذبهم يتبين عن قريب وهو رجوعهم إلينا بل لا يتأخر إلى ذلك اليوم بل يتبين قبل يوم القيامة بأنهم يعترفون بأن خالق السموات والأرض هو الله، ثم قال في دعوى الوحدانية وتبيين كذبهم في الشرك {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على (ظهور) صدقك وكذبهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك، وعلى هذا يكون «لاَ يَعْلَمُونَ» استعجالاً للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية، كما يقال: فُلاَنٌ يَعْطِي وَيمْنَعُ ولا يكون ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاءً ومعاً فكذلك ههنَا قال: «لاَ يَعْلَمُونَ» أي ليس لهم علم، وعلى الأولى يكون «لا يعلمون» (له مفعول مفهوم) وهو أنهم لا يعلمون أن الحمدَ كُلَّه لله وعلى الثاني هو كقول القائل: فلانٌ لا علم لهَ بكذا.
قوله: لا علم له وكذا قوله: فلان لا ينفعُ زيداً ولا يضره دون قوله: «فلان لاَ يَضْرُّ وَلاَ يَنْفَعُ» .
قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} ذكر ما يلزم منه وهو أن يكون له ما(15/456)
فيهما {إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} أي إن الكل لله وهو غير محتاج إليه غير منتفع به وخلق منافعها لكم، فهو غني لعدم حاجته «حميد» مشكور (لدفعه) حوائجكم بها.(15/457)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ ... } الآية. لما قال: لله ما في السماوات والأرض أوهم تناهي ملكه لانحصار ما في السموات والأرض فيهما وحكم العَقْلِ الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائبَ لا نهاية لها فقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} يكتب بها والأبحر مداد لا تغني عجائب صنع الله، قال المفسرون نزل بمكة قوله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} [الإسراء: 85] ، إلى قوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الأسراء: 85] فلما هاجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتاه أحبار اليهود فقالوا «يا محمد: بلغنا أنك تقول: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، أفَعَنَيْتَنَا أَمْ قَوْمَكَ؟ فقال - عليه السلام -: كلا قد عنيت. قالوا: ألست تتلو فيما جاءك إنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هي في علم الله قليلٌ، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم قالوا يا محمد: كيف تزعم هذا علم قليل وخير كثير» ؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال قتادة: إن المشركين قالوا: إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفدَ فينقطع فنزلت: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلامٍ «. ووحَّد الشجرة، وجمعَ الأقلام ولم يقل: ولو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام ولم يقل من شجرة قَلَم إشارةً إلى التكثير يعني لو أن بعدد كُلِّ شجرة(15/457)
فإن قلت: لم يقيل: من شجرة بالتوحيد؟ قلت: أريد تفصيل الشجرة وتَقَصِّيها شجرةً شجرةً حتى لا يبقى من جنس الشجرة واحدة إلا قد بريت أقلاماً. قال أبو حيان: وهو من وقوع المفرد موقع الجمع والنكرة موضع المعرفة كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106]
قال شهاب الدين: وهذا يذهب بالمعنى الذي أبداه الزمخشري.
قوله:» والبَحْرُ «قرأ أبو عمرو بالنصب، والباقون بالرفع، فالنصب من وجهين:
أحدهما: العطف على اسم» أنَّ «أي ولو أنَّ البحرَ، و» يَمُدُّهُ «الخبر.
والثاني: النصب بفعل مضمر يفسره» يمده «. والواو حنيئذ للحال، والجملة حالية، ولم يحتج إلى ضمير رابط بين الحال وصاحبها للاستغناء عنه بالواو، والتقدير: ولو أَنَّ الَّذي في الأرض حَالَ كونِ البحر ممدوداً بكذا. وأما الرفع، فمن وجهين:
أحدهما: العطف على» أن «وما في حيّزها، وقد تقدم في» أَنَّ «الواقعة بعد» لو «مذهبان مذهب سيبويه الرفع على الابتداء، ومذهب المبرد على الفاعلية بفعل مقدر وهما عائدان هنا. فعلى مذهب سيبويه يكون تقدير العطف ولو أَنَّ البحرَ، إلا أن أبا حيان قال: إنه لا يلي المبتدأ اسماً صريحاً إلا في ضرورة كقوله:
4053 - لَوْ بِغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .(15/458)
وهذا القول يؤدي إلى ذلك، ثم أجاب بأنه يغتفر في المعطوف عليه كقولهم: «رُبَّ رَجُلٍ وَأَخِيهِ يَقُولاَنِ ذَلِكَ» وعلى مذهب المبرد يكون تقديره ولو ثبتَ البحرُ، وعلى التقديرين يكون «يمُدُّهُ» جملة حالية من البحر.
والثاني: أن «البحر» مبتدأ (ويمده) الخبر والجملة حالية كما تقدم في جملة الاشتغال، والرابط الواو، وقد جعله الزمخشري سؤالاً وجواباً وأنشد:
4054 - وَقَدْ أَغْتَدِي والطَّيْرُ في وُكُنَاتِهَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
و «مِنْ شَجَرَةٍ» حال، إما من الموصول، أو من الضمير المستتر في الجار الواقع صلة، و «أَقْلاَم» خبر «أَنَّ» ، قال أبو حيان: وفيه دليل على من يقول كالزمخشري ومن تعصب له من العجم على أن خَبَر أنَّ الواقعة بعد «لو» لا يكون اسماً البتة لا جامداً ولا مشتقاً بل يتعين أن يكون فعلاً وهو باطل وأنشد:
4055 - ولَوْ َنَّهَا عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتُهَا ... مُسَوَّمَةً تَدْعُو عُبَيْداً وَأَزْنَمَا(15/459)
وقال:
4056 - ما أطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أنَّ الفَتَى حَجَرٌ تَنْبُو الحَوَادِثُ عَنْهُ وَهْوَ مَلْمُومُ ... وقال:
4057 - وَلَوْ أَنَّ حَيّاً فَائِبُ المُوْتِ فَإِنَّهُ ... أَخُو الحَرْبِ فَوْقَ القَارِحِ العُدْوَان
قال: وهو كثير في كلامهم، قال شهاب الدين: وقد تقدم أن هذه الآية ونحوهَا يبطل ظاهر قول المتقدمين في «لو» أنها حرف امتنا لامتناع إذ يلزم محذور عظيم وهو أن ما بعدها إذا كان مُثْبَتاً لفظاً فهو مُثْبَتٌ معنى وبالعكس، وقوله: مَا نَفِدت منفي لفظاً فلو كان مثبتاً معنى فسد المعنى، فعليك بالالتفات إلى أول البقرة. وقرأ عبدُ الله: «وبَحْرٌ» بالتنكير وفيه وجهان معروفان، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعقها بعد واو الحال وهو معدود من مسوغات الابتداء بالنكرة، وأنشدوا:
4058 - سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحْيَّاكَ أخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَارِقِ(15/460)
وبهذا يظهر فساد قول من قال: إن في هذه القراءة يتعين (القول بالعطف على «أن» كأنه يوهم أنه ليس ثَمَّ مُسَوِّغ، وقرأ عبد الله وأبيّ «تَمُدُّهُ» بالتأنيث لأجل «سبعةٍ» والحَسَنُ، وابن هُرْمُز، وابن مِصْرِفٍ «يُمِدُّهُ» بالياء من تحت مضمومة وكسر الميم من أَمَدَّهُ وقد تقدم اللغتان في آخر الأعراف وأوائل البقرة، والأل واللام في البحر لاستغراق الجنس أي (وكل) بحرٍ مدادٍ.
فصل
المعنى والبحر يمده، أي يَزيدُه، وينصب فيه من بعده أي من بعد خلقه سبعةُ أَبْحُر، وهذا إشارة إلى بحارٍ غير موجودة يعني لو مدت البحار الموجودة سبعة أبحر أخرى، وقوله: «سبعة» ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة، ولو بألفِ بحْر، وإنما خُصّت السبعةُ بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدود في العادة، ويدل على ذلك وجوه:
الأول: أن المعلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان فالزمان(15/461)
منحصر في سبعة أيام، ولأن الكواكب السيارة سبعة، والمنجمون ينسبون إليها مراراً فصارت السبعة كالعدد الحصر للمُكْثراتِ الواقعة في العادة فاستعملت في كُلِّ كَثِيرٍ.
الثاني: أن في السبعة معنّى يخصها ولذلك كانت السماواتُ سبعاً، والأرضينَ سبعاً، (وأبواب جهنم سبعاً) ، وأبواب الجنة ثمانية لأنها الحسنى وزيادة فالزيادة هي الثامن؛ لأن العرب عند الثامن يزيدون واواً، يقول الفراء: إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للإستئناف؛ لأن العدد تم بالسبعة. واعلم أن في الكلام اختصاراً تقديره: ولَوْ أَنَّ ما فِي الأَرْضِ من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يَمُدُّه مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبحُرٍ يكتب بها كلام الله ما نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ.
قوله: «كلمات الله» قال الزمخشري: فإن قلتَ: الكلماتُ جمعُ قلَّةٍ، والموضوع موضع تكثير فهلا قِيلَ: كَلِمٌ؟ قلتُ: معناه أن كلماته لا يقع بكتبها البحار يكفي بِكَلِمِهِ، يعني أنه من باب التنبيه بطريق الأولى. ورده أبو حيان بأن جمع السلامة متى عرف «بأل» (غير العهدية، أو أضيف عَمَّ) . قال شهاب الدين: للناس خلاف في «أل» هل تعم أو لا؟ وقد يكون الزمخشري مِمَّنْ لا يرى العموم ولم يزل الناس يشكون في بَيْت حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:
4059 - لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
ويقولون: كيف أتى بجمع القلة في مقام المدح ولم لم يقل «الجفان» وهو تقرير(15/462)
لما قاله الزمخشري، واعتراف بأن «أل» لا تؤثر في جمع القلة تكثيراً. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله عَزِيزٌ} أي كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته «حَكِيمٌ» كامل العلم لا نهاية لمعلوماته، وهذه الآية على قول عطاء بن يسار مدنية، وعلى قول غيره مكية.
قوله: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم لحشر فقال: {خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، فقوله: «إِلا كَنَفْسٍ» خبر «مَا خَلْقُكُمْ» والتقدير: إِلا كَخَلْقِ نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} «سميع» لما يقولون «بصير» بما يعملون فإذا كان قادراً على البعث ومحيطاً بالأقوال والأفعال وجب الاحتراز الكامل، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} في النظم وجهان:
الأول: أن الله تعالى لما قال: {ألم تر أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض} على وجه العموم ذكر منها بعض ما فيها على الوجه المخصوص بقوله: {يُولِجُ الليل فِي النهار} وقوله: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} إشارة إلى ما في السموات.
الثاني: أن الله تعالى لما ذكر البعث فكان من الناس من يقوله: {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] والدهر هو بالليالي والأيام فقال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي يَنْسُبون غليها الموت والحياة هي بقدرة الله فقال: ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ثم قال: إن ذلك باختلاف مسير الشمس فتارة تكون القَوْس التي هي فوق الأرض أكبر من التي تحت الأرض فكيون الليل أقصر والنهار أطور وتارة (يكون) العكس (فيكون بالعكس) ، وتارة يتساويان (فيتساويان) فقال (تعالى) : {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} يعني إن كنتم لا تعرفون بأن هذه الأشياء كلها من الله فلا بد من الاعتراف بأنها بأسْرِهَا عائدة إلى الله فالآجال إن كانت بالمدّدِ والمدد يسيِّر الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته.
فصل
قال: «يُولج» بصيغة الفعل المستقبل وقال في الشمس والقمر «وسخَّر» بصيغة الماضي؛ لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى: {حتى عَادَ كالعرجون القديم} [يس: 39] وقال ههنا: «إلى أَجَلٍ» وفي(15/463)
الزمر «لأَجِلٍ» ؛ لأن المعنيين لائقان بالحرفين فلا عليك في أيهما وقَعَ. قال الأكثرون: هذا خطاب للنبي - عليه السلام - والمؤمنين، وقيل: عام، ثم قال: {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي لما كان الليلُ والنهارُ محلَّ اأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله، وقرأ أبو عمرو في رواية - {وأنَّ اللَّهَ بِمَا يَعملون} - بياء الغيبة، والباقون بتاء الخطاب. قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل} أي ذلك الذي ذكرت، لتعلموا أن الله هو الحق {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل} أي الزائل يقال: بطل ظله، إذ زال {وَأَنَّ الله هُوَ العلي} أي في ذاته.
قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله} لما قال ألم تر أن الله يولج الليل في النهار وسخر الشمس والقمر ذكر آية سماوية وأشار إلى السبب والمسبِّب ذكر بعده آية أرضية وأشار إلى السبب والمسبب بقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر} وقوله: «بِنِعْمَةِ اللَّهِ» أي الريح التي هي بأمر الله {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ} يعني يريكم بإجرائها «بِنِعْمَةِ اللَّهِ» بعض آياته وعجائبه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} على أمر الله «شَكُور» على نعمه.
قوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل} لما قال: إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكلّ صَبَّارٍ ذكر أن الكُلَّ معترف به غير أن البصير يدركه أولاً ومن في بصيرته ضعف لا يُدْرِكُه أولاً فإذا غَشِيَه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل للَّه ودعاه مخلصاً. وقوله: «كالظلل» قال مقاتل: كالجبال، وقال الكلبي: كالسحاب.
والظلل جمع الظُّلَةِ شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها، وجعل الموج وهو واحد كالظُّلَلِ وهو جمع لأن الموج يأتي منه شيء بعد شيء وقوله: {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي يتركون كل من دعوهم {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر} أي نجاهم من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة ووصفهم بقوله: «فَمنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» أي عدل موف في البر بما عاهَدَ اللَّهَ عليه في البحر من التوحيد له يعني على إيمانه. قيل: نزلت في عكرمةَ بْنِ أبي جهل هَرَبَ عام الفتح في البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمةُ: لئن أنجاني الله من هذا الأمر لأرجعن إلى محمد ولأضع(15/464)
يَدِي في يده. فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه، وقال مجاهد: مقتصد في القول أي من الكفار لأن منهم من كان أشد قولاً من بعض.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في العنكبوت: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] وقال ههنا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} ؟! .
فالجواب: لما ذكر ههنا امراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار، ومقتصد في الإخلاص فيبقى معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معانيه مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أُر.
قوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ} في مقابلة قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ} يعني يعترف بها الصبار والشكور، ويجحدها الختَّارُ الكفور فالصّبَّار في موازنة الختار لفظاً ومعنى، والكفور في موازنة الشكور أمَّا لفظاً فظاهر، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر، أو شديد الغدر مثال مبالغة من الخَتْر وهو أشد الغدر (قال الأعشى) :
4060 - بِأَبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلَهُ ... حِصْنٌ حَصِينٌ وجارٌ غَيْرُ خَتَّارِ
وقال عمرو بن معديكرب:
4061 - فَإِنَّكَ لَوْ رأَيْتَ أَبَا عَمرٍو ... مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ
وقالوا: «إنْ مَدَدَتْ لَنَأ مِنْ غَدْرٍ مَدَدْنَا لَكَ بَاعاً منْ خَتر» والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصبور إن لم يعقدْ مع أحد لا يُعْهَدُ منه الإضرار فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله، وأما الغدار فيعاهدك ولا يصبر على العهد فينقضه وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى ظاهر.(15/465)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ} لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى فقال: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي} لا يقضي، ولا يغني {وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} . قال ابن عباس: كل امرىء تهمه نفسه، واعلم أنه تعالى ذكر شخصين في غاية الشفقة والحنان والحُنُوِّ وهو الوالد والولد، فاستدل بالأولى على الأعلى فذكر الوالد والولد جميعاً لأن من الأمور ما يبادر الأب إلى تحمُّلِهِ عن الولد كدَفْع المال، وتَحَمُّل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد (مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد) ، ومنها ما يبادر الولد إليه كالإهانة فإن من يريد (إحضار) والد آخر عند والٍ أو قاضٍ يهُونُ على الابن أن يدفع الإهانة عن والده ويحضر هو بدله وإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الألم عن ابنه وستحمله هو بنفسه. فقوله: {لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} في دفع الآلام {وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} في دفع الإهانة ثم قال: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي إن هذا اليوم الذي هذا شأنه هو كائن لأن الله وعد به ووعده حق، وقيل: وعد الله حق بأنه لا يجزي والدٌ عن ولده لأنه وعد بأن لا تَزر وازرةٌ وزر أخرى ووعد الله حق {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} أي لا تغتروا بالدنيا فإنها زائلة لوقوع اليوم المذكور بالوعد الحق.
{وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} يعني الشيطان يزين في عينه الدنيا ويؤمله يقول: إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فَتجْتَمِع لك الدنيا والآخرة فنهاهم عن الأمرين.
قوله: «وَلاَ مَوْلُودٌ» دوزوا فيه وجهين:
أحدهما: أنه مبتدأ، وما بعده الخبر.
والثاني: أنه معطوف على «وَالدٌ» وتكون الجملة صفة له. وفيه إشكال وهو أنه(15/466)
نفى عنه أن يَجْزِي ثم وصفه بأنه جازٍ، وقد يجاب عنه: بأنه وإن كان جازياً عنه في الدنيا فليس جازياً عنه يوم القيامة، (فالحالان) باعتبار زمنين. وقد منع المَهْدَوِيُّ أن يكون مبتدأ، قال لأن الجملةَ بعده صفة له فيبقى بلا خبر، ولا مسوغ غير الوصف، وهو سهو لأن النكرة متى اعتمدت على نفي سَاغَ الابتداء بها، وهذا من أشهر مسوغاته، وقال الزمخشري: فإن قلت: (قوله) {وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} هو وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه قلتُ: الأمر كذلك لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إلى ذلك قوله: «هُو» وقوله: «مَوْلُودٌ» قال: ومعنى التوكيد في لفظِ المولود أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه لم يقبل منه، فضلاً أن يشفع لمن فوقه مِنَ أجداده؛ لأن الولد يقع على الولد وولد الولد بخلاف المولود فإنه الذي ولد منك قال: والسبب في مجيئه على هذا السَّنَنِ أن الخطابَ للمؤمنين وعلْيتهِمْ قبض آباؤهم في الكفر فأريد حسم أَطْمَاعِهِمْ وأطماع الناس فيهم.
والجملة من قوله «لاَ يَجْزِي» صفة (ليوم) ، والعائد محذوف أي (فِيهِ) فحذف برُمَّته أو على التدريج، وقرأ عكرمة «لاَ يُجْزَى» مبنياً للمفعول، وأَبُوا السَّمَّالِ، وأبو السّوّار لا يُجْزىء بالهمز من «أجْزَأَ عَنْهُ» أي أغنى، وقوله «شيئاً» منصوب على المصدر وهو من الإعمال، لأن «يَجْزِي» و «جَازٍ» يَطْلُبَانِهِ، والعامل «جَازٍ» على ما هو المختار للحذف من الأول.
قوله: «فَلاَ تَغُرَّنَكُمْ» العامة على تشديد النون، وابنُ أبي إسْحَاق وابنُ أبي عَبْلَةَ(15/467)
ويعقوبُ بالتخفيف وسَمَّاك بنُ حَرْبٍ «الغُرُور» - بالضم - وهو مصدر، والعامة بالفتح صفة مبالغة كَشَكُورٍ صفة مبالغة كَشَكُورٍ وفسر بالشيطان على أنه يجوز أن يكون المضموم مصدراً واقعاً وصفاً للشيطان.
قوله تعالى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة ... } الآية، نزلت في الوارثِ بن حارثَة محارب بن خصفة «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من البادية فسأله عن الساعة ووقتها، وقال إن أرضنا أَجْدَبَتْ فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حُبْلَى فمتى تلد؟ وقد علمت أَيْنَ ولدت فبأي أرض أموت؟ فأنزل الله هذه الآية روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ علمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «قال ابن الخطيب: قال بعض المفسِّرينَ: إن الله تعالى نفى (علم) أمور خمسة عن غيره بهذه الآية وهو كذلك لكن المقصودَ ليس ذلك لأن اللَّهَ يعلمُ الجوهر الفرد والطوفان وتقلب الريح من المشرِق إلى المغرب كَمْ مرةً ويعلم أين هُوَ ولا يعلمه غيره ويعلم أنه (ذَرَّهُ) في بَريَّة لا يسلكها أحد ولا يعلمها غيره فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنَّ الحق فيه أن نقول لما قال: اخْشَوا يوماً لا يجْزي والد عن ولده وذكر أنه كائن بقوله: {إن وعد الله حق} كأن قائلاً قال: فمَتَى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لَمْ يَحْصُل لغير الله ولكن هو كائن.
قوله:» مَاذَا تَكْسبُ «يجوز أن تكون» ما «استفهامية فتعلق الدراية، وأن تكونَ موصولة فينتصب بها، وقد تقدم حكم» مَاذَا «أول الكتاب وتكرر في غَضونِهِ.
قوله: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} «بأَيِّ أَرْضٍ» متعلق «بتَمُوتُ» وهو متعلق للدراية فهو في محل نَصْبٍ، وقرأ أُبَيُّ بن كعب وموسى الأهوازيّ «بأية أرض» على تأنيثها، وهي(15/468)
لغة ضعيفة كتأنيث «كُلّ» حيث قالوا: كُلُّهُنَّ (فَعَلْنَ ذَلِكَ) والمشهور بأيِّ أرض؛ لأن الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء، وقيل: أراد بالأرض المكان. نقله البغوي والباطن فيه بمعنى في أي (في) أرضٍ نحو: زَيْدٌ بِمَكَّةَ أي فيها، ثم قال: {إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ} لما خصص أولاً علمه بالأشياء المذكورة بقوله: {إن الله عنده علم الساعة} ذكر أن علمه غير مختصّ بل هو عليم ملطقاً بكل شيء وليس علمه بظاهر الأشياء فقط بل هو خبير بظواهر الأشياء وبواطنها.
روى الثعلبي عن أُبَيِّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرََأ سُورَةُ لُقْمَان كان له لقمانُ رفيقاً يوم القيامة وأعْطِيَ من الحسنات عشراً بعدد من عَمِلَ بالمعروف ونَهَى عن المنكر»(15/469)
سورة السجدة(15/470)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
مكية، وهي ثلاث وثلاثون آية وستمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} .
في «تنزيل» خمسة أوجه:
أحدها: أنه خبر «الم» ، (لأن الم) يراد به السورة وبعض القرآن، و «تَنْزِيلُ» بمعنى منزل، والجملة من قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} حال من «الكِتَابِ» . والعامل فيها «تَنْزِيلُ»(15/470)
لأنه مصدر. و «مِنْ رَبِّ» متعلق به أيضاً. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «فِيهِ» ؛ لوقوعه خبراً، والعامل فيه الظرف، أو الاستقرار.
الثاين: أن يكون «تَنْزِيلُ» مبتدأ و {لا ريب فيه} خبره. «وَمِنْ رَبِّ» حال من الضمير في «فيه» ولا يجوز حينئذ أن يتعلق ب «تنزيل» ؛ لأن المصدر قد أخبر عنه فلا يعمل. ومن يتسع في الجار لا يبالي بذلك.
الثالث: أن يكون «تنزيل» مبتدأ أيضاً و «من رب» خبره، و «لا ريب» حال من مُعْتَرِض.
الرابع: أن يكون «لا ريب» و «من رب العالمين» خبرين ل «تَنْزِلُ» .
الخامس: أن يكون «تَنْزيلُ» خبر مبتدأ (مضمر) ، وكذلك «لا ريب» ، وكذلك «من رب» فتكون كل جملة مستقلة برأسها.
ويجوز أن يكون حالين من «تنزيل» ، وأن يكون «من رب» هو الحال و «لا ريب» معترض وأول البقرة مرشد لهذا.
وجوز ابن عطية أي يكون {مِن رَّبِّ العالمين} متعلقاً ب «تنزيل» . قال: على التقديم والتأخير. ورده أبو حيان: بأنا إذا قلنا: {لاَ رَيْبَ فيه} اعتراض لم يكن تقديماً وتأيخراً بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً. وجوز أيضاً أن يكون متعلقاً بلا ريب فيه من جهة رب العالمين وإن وقع شك الكفرة فذاك لا يراعى، قال مقاتل: لا شك فيه أنه تنزيل من رب العالمين.
قوله: «أَمْ يَقُولُونَ» هي المنقطعة، والإضراب للانتقال لا للإبطال، وقيل: الميم صلة أي أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ.
وقيل: فيه إضمار مجازه فهل يؤمنون أم يقولون افتراه. وقوله: {بَلْ هُوَ الحق} إضراب ثانٍ ولو قيل: بأنه إضرابُ إبطالٍ لنفس «افتراه» وحده لكان صواباً وعلى هذا يقال: كل ما في القرآن إضراب وهو انتقال إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالاً لأنه إبطال لقولهم، أي ليس هو كما قالوا مُفْتَرى بل هو الحق. وفي كلام الزَّمَخْشَرِي ما يرشد إلى هذا فإنه قال: والضمير(15/471)
في «فيه» راجعٌ إلى مضمون الجملة كأنه قيل لا ريبَ في ذلك أي في كونه من رب العالمين ويشهد لواجهته: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} ؛ لأن قولهم مفترىً إنكار لأن يكون من رب العالمين وكذلك قوله: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ} وما فيه من تقرير أنه من الله وهذا أسلوب صحيحٌ محكَمٌ.
قوله: «مِنْ رَبِّكَ» حال من «الحَقِّ» والعامل فيه محذوف على القاعدة وهو العامل في «لِتُنْذِرَ» ويجوز أن يكون العامل في: «لتنذر» غيره أي أنْزَلَهُ لِتُنْذِرَ.
قوله: {قَوْماً مَا أَتَاهُمْ} الظاهر أن المفعول الثاني للإنذار محذوف، و «قوماً» هو الأول، إذ التقدير: لتنذر قوماً العقابَ و «مَا أتَاهُمْ» جملة منفية في محل نصب صفة «لقوماً» يريد الذين في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وجعله الزمخشري كقوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} [يس: 6] فعلى هذا يكون «من نذير» هو فاعل «أَتَاهُمْ» و «من» مزيدة فيه و «مِنْ قَبْلِكَ» صفة «لِنَذير» ، ويجوز أن يتعلق «مِنْ قَبْلِكَ» «بأَتَاهُمْ» . وجوز أبو حيان أن تكون «ما» موصولة في الموضعين والتقدير: لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك و «مِنْ نَذِيرٍ» متعلق «بأَتَاهُمْ» أي أتاهم على لسان نذير من قبلك وكذلك {لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم} أي العقاب الذي أنذرَهُ آباؤُهُمْ، «فما» مفعولة في الموضعين، و «أنذر» يتعدى إلى اثنين قال الله تعالى: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13] وهذا القول جارٍ على لظواهر القرآن قَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19] هذا الذي قال ظاهر، ويظهر أن في الآية الأخرى وجهاً آخر وهو أن تكون «ما» مصدرية تقديره لتنذر قوماً إنذَار آبائهم لأن الرسل كُلَّهُمْ متفقون على كلمة الحق.
فصل
المعنى بل هو يعني القرآن الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبْلِكَ. قال قتادة: كانوا أمةً لم يأتهم نذير قبل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال ابن عباس ومقاتل: ذاك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» .
قوله: {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} لما ذكر الرسالة، وبين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل فقال: {خَلَقَ السماوات والأرض} ، (واللَّهُ مبتدأ، وخبره «الَّذِي خَلَقَ» يعني الله هو الذي خلق(15/472)
السموات) ولم يخلقها إلا واحد فلا إله إلا واحدٌ. وقد تقدم الكلام في معنى قوله «ستة أيام» .
قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} اختلف العلماء في هذه الآية ونظائرها على قولين:
أحدهما: ترك التعرض إلى بيان المراد.
والثاني: التعرض إليه. والأول أسلم؛ لأن صفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن لم يتعرض إليه لم يترك وابجاً ومن تعرض إليه فقد يخطر فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم، والثاني يكاد يقع في أن يكون جاهلاً وعدم العلم والجهل المركب كالسكوت والكذب ولا شك أن السكوتَ خيرٍ من الكذب وأيضاً فإنه أقرب إلى الحكمة لأن من يطالع كتاباً صنفه إنسانٌ وكتب له شرحاً والشارحُ دون والمصنِّف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف ولهذا كثيراً ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنَّف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلام المصنِّفِ ويقول: لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا، وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب من علم قاصر هكذا فما ظنك بالكتاب العظيم الذي فيه كل حكمة كيف يجوزُ أن يدعي جاهلٌ أني علمت كل سر في هذا الكتاب؟ فلو ادعى عالم أني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليها الكتاب الفُلاَنِيّ يستقبح منه ذلك فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله؟
(وَلَيْسَ لقائلٍ أن يقول: بأن الله بين كل ما أنزله) ؛ لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز. ولعل في القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غيرَ نبيه فبين له لا لغيره.
وإذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم، وهذا أقرب إلى ذلك (الذي) لا يعلم للتشابه البالغ الذي فيه. قوله: {مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} . لما ذكر أن الله خالق السموات والأرض قال بعضهم: نحن معترفون بأن خالق السموات والأرض واحد هو إله السموات والأرض وهذا الأصنام صور كواكب منها نصرتنا وقوتنا.
وقال آخرون: هذه صورة ملائكة شفعاء لنا عند الله، فقال تعالى: لاَ إله غير الله،(15/473)
ولا نصرة من غير الله، ولا شفاعة إلا بإذْن الله فعبادتكم لهذه الأصنام باطلة ضائعة.
ثم قال: «أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ» ما علمتموه من أنه خالق السموات والأرض، وخالق لهذه الأجسام العِظَام، لا يقدر عليه مثل هذه الأصنام حتى ينصروكم وتكون لها شفاعة.
قوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} لما بين الخلق بين الأمر كما قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54] يحكم الأمر، وينزل القضاء، والقدر من السماء إلى الأرض. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل - عليه السلام - بالأمر.
قوله: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض} العاملة على بنائه للفاعل. وابن أبي عبلة على بنائه للمفعول. والأصل يعْرُجُ بِهِ، ثم حذف الجار فارتفع الضمير واستتر. وهو شاذ يصلح لتوجيه مثلها، والمعنى: أن أمره ينزل من السماء على عباده ويعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر.
قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} (أي في يوم واحد يعني نزول وعروج العمل في مسافة ألف سنة مِمَّا تَعُدُّونَ) ، وهو بين السماء والأرض فإن مسافته خمْسُمِائَةِ سنةٍ (فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة) يقول لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألأف سنة والملائكة يقطعونه في يوم واحد هذا في وصف عروج الملائكة من الأرض إلى السماء وأما قوله: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] أراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل - عليه السلام - يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرةَ خَمْسِين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. قاله مجاهد والضحاك، وقيل: إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر وذلك لأن من نفذ أمره غَايَةَ النَّفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنينَ متطاولةٍ، فقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} ، يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة فكم يكون شهر منه (وكَمْ تكونُ سنة) منه وكم يكون دهر منه، وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله: {مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} لأن ذلك (إذا كان إشارة إلى دوام إنفاذ الأمر،(15/474)
فسواء يُعَبَّر بألفِ سنةٍ أو بخمسينَ ألفَ سنةٍ) لا يتفاوت إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى. وقيل: ألفُ سنة وخمسونَ ألفَ سنةٍ كلها في القمة يكون على بعضهم أطول، وعلى بعضهم أقصر معناه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا وانقطاع أمر الأمراء أو حكم الحكماء في يوم مقداره ألأف سنة وهو يوم القيامة فأما قوله {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فإنه أراد على الكافر يجعل ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة وعلى المؤمن دون ذلك حتى جاء في الحديث أنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا، وقال إبراهيم التيميّ (لا) يكون على المؤمن (إلا) كما بين الظُّهْر والعَصْر، ويجوز أن يكون هذا إخباراً عن شدته ومشقته وهوله، وقال ابْنُ أبي مليكَةِ: دخلت أنا وعبد الله بن فَيْرُوزَ علي ابن عباس فسألناه عن هذه الآية وعن قوله: {خمسين ألف سنة} فقال ابن عباس: أيام سماها الله لا أدري ما هي أكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم.
قوله: «مِمَّا تَعُدّونَ» العاملة على الخطاب، والحَسَنُ، والسُّلميُّ، وابْنُ وَثَّابٍ والأعْمَشُ بالغيبة، وهذا الجار صفة «لأَلْفٍ» أو «لِسَنَةٍ» .
قوله: «ذَلِكَ عَالِمُ» العامة على رفع «عالم» و «العزيزُ» و «الرَّحِيمُ» ، على أن يكون «ذلك» مبتدأ، و «عالم» خبره و «العَزِيزُ والرَّحِيمُ» خبران أو نعتان أو «العزيز الرحيم» مبتدأ وصفة. و «الَّذِي أَحْسَنَ» خبره، أو «العَزِيزُ الرَّحيم» خبر مبتدأ مضمر. وقرأ زيدُ (بن علي) بجر الثلاثة وتخريجها على إشكالها: أن يكون «ذَلِكَ» إشارة إلى الأمر المدبَّر، ويكون فاعلاً (ليَعْرُجُ) ، والأوصاف الثلاثة بدل من الضمير في «إلَيْهِ» أيضاً. وتكون الجلمة بينهما اعتراضاً.(15/475)
قوله: «الَّذِي أَحْسَن» يجوز أن يكون تابعاً لما قبله في قراءتي الرفع والخفض، وأن يكون خبراً آخر وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون منصوباً على المدح.
قوله: «خَلقَهُ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابنُ عامر: بسكون اللام، والباقون بفتحها فأما الأولى ففيها أوجه:
أحدها: أن يكون «خَلْقَهُ» بدلاً من: «كُلَّ شَيْءٍ» بدل اشتمال والضمير عائد على «كل شيء» وهذا هو المشهور.
الثاني: أنه بدل من كل. والضمير في «هذا» عائد على «الباري» تعالى، ومعنى «أحسن» حسن لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما يقتضيه الحكمة، فالمخلوقات كلها حسنة.
الثالث: أن يكون «كُلَّ شَيْءٍ» مفعولاً أول، و «خَلْقَهُ» مفعولاً ثانياً، على أن يضمن «أحسن» معنى أعْطَى وَألْهَمَ. قال مجاهد: وأعطى كل جنس شَكْلَهُ، والمعنى خلق كل شيء على شكله الذي خص به.
الرابع: أن يكون «كُلَّ شَيْءٍ» مفعولاً ثانياً قُدِّمَ و «خَلْقَهُ» مفعولاً أول أُخِّرَ على أن يضمن «أحْسَنَ» معنى ألْهَمَ وعَرَّفَ.
قال الفراء: ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه فيكون أعلمهم ذلك. (وقال أب البقاء: ضمن «أحْسَنَ» معنى «عَرَّف» وأعرف على نحو ما تقدم إلا أنه لا بُدَّ أن يجعل الضمير) لِلَّه تعالى، ويجعل الخلق بمعنى المخلوق أي عرف مخلوقاتهِ كُلَّ شيء يحتاجون إليه فيؤول المعنى إلى معنى قوله: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] .
الخامس: أن تعود الهاء على «الله» تعالى وأن يكون «خَلْقَهُ» منصوباً على المصدر المؤكد لمضمون الجملة كقوله: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] ، وهو مذهب سيبويه(15/476)
أي خَلَقَهُ خَلْقاً، ورُجِّحَ على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المَصْدَر إلى فاعله، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول وبأنه أبلغ في الامتنان لأنه إذا قال: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} كان أبلغ من {أحسن خلق كل شيء} ؛ لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ولا يكون الشيء في نفسه «حسناً» وإذا قال: {أحْسَنَ كُلَّ شَىْء} اقتضى أن كل (شيء) خلقه حسن بمعنى أنه وضع كل شيء في موضعه.
وأما القراءة الثانية «فخَلَقَ» فيها فعل ماض، والجملة صفة للمضاف أو أو المضاف إليه فتكون منصوبة المحل أو مجرورته.
قوله: «وَبَدَأ» العاملة على الهمز. وقرأ الزُّهْرِيُّ «بَدَأ» بألف خالصة وهو خارج عن قياس تخفيفها إذ قياسه بَيْنَ بَيْنَ على أنَّ الأخفش حَكَى قريباً. وجوز أبو حيان أن يكون من لغة الأنصار، يقولون في «بَدَا» بكسرها وبعدها ياء كقول عبد الله بن رواحة الأنصاري.
4062 - بِاسْمِ الإِلَهِ وَبِهِ بَدِينَا ... وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا
قال: وطيىء تقول في تُقَى تُقَاء، قال: فاحتمل أن تكون قراءة الزهري من هذه اللغة أصله «بَدِي» ثم صار «بَدَأ» ، قال شهاب الدين: فتكون القراءة مركبة من لُغَتَيْنِ.
فصل
{ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة} يعني ذلك الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وما حضر «العَزِيرُ الرَّحِيمُ» لما بين أنه عالم ذكر أنه «عزيز» قادر على الانتقام من الكفرة «رَحِيمٌ» واسع الرحمة على البررة {الذي أحسن كل شيء خلقه} أي أحسن خَلْقَ كلِّ شيء. قال ابن عباس: أتقنه وأحكمه وقال(15/477)
مقاتل: علم كيف يخلق كل شيء من قولك: فلانُ يُحْسِنُ كذا، إذا كان يعلمه. وقيل: خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في خلقه حسن، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح معاشه. واعلم أنه تعالى لما ذكر الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله: {خلق السموات والأرض وما بينهما} أتبعه بذكر الدليل الدال عليها من الأنفس فقال: {الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين} يعني آدم، ويمكن أن يقال: الطين ماء وتراب مجتمعان، والأأدمي أصله مَنِي، والمَنِي أصله غذاءٌ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية (والحيوانية ترجع إلى نباتية) والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ} أي جعل ذريته من نطفة سميت سلالة؛ لأنها تَنْسَلُّ من الإنسان، هذا على التفسير الأول؛ لأن آدم كان من طين، ونسله من سلالة {مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} أي ضعيف وهو نطفة الرجل «ثُمَّ سَوَّاهُ» سوى خلقه {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} يعني آدم؛ لأن كلمة «ثُمَّ» للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة، وذلك بعد خلق آدم، ثم عاد إلى ذريته فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار} (أي جعل لكم بعد أن كنتم نطفاً السمع والأبصار) والأفئدة {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} يعني لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه، فقوله {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع} هذه التفات من ضمير (غائب) مفرد في قوله: «نَسْلَهُ» إلى آخره إلى خطاب جماعة.
وفي هذا الخطاب لطيفة وهي أن الخطاب يكون مع الحي فلما قال: {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} خاطبه من بعد وقال: «وَجَعَلَ لَكُمْ» .
فإن قيل: الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الروم: 20] .
فالجواب: هناك لم يذكر الأمور المترتبة وهي كون الإنسان طيناً ثم ماء مَهِيناً، ثم خَلْقاً مسوى بأنواع القوى فخاطبه في بعض المراتب دون بعض.
فإن قيل: ما الحكم في ذكر المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم، ولهذا جَمَعَ الأبْصَارَ، والأفئدةَ ولم يجمع السمعَ؛ لأن المصدر لا يجمع؟
فالجواب: أن السمع قوةٌ واحدة ولها مَحِلٌّ واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة للأذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دُونَ البعض، وأمَّا الإبصار فَمَحِلّهُ العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المَرْئِيّ(15/478)
دون غيره، وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوعُ اختيار يلتف إلى ما يريد دون غيره، وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير، والقوة مستبدة فذكر القوة في العين والفؤاد؛ (لأن للمحل نوع اختيار، فذكر المحل لأن الفعل مسند إلى المختار ألا ترى أنك) تقول: سَمِعَ زَيْدٌ، ورأى عمرو، ولا تقول: «سَمِعَ أذنُ زَيْدٍ» ولا «رأى عَيْنُ عَمْرو» إلا نادراً لأن المختار هو الأصل وغيره آلته، فالسمع أصل دون محله لعدم له لاختيار له والعين كالأصل وقوة الإبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة، وفي الإبصار والأفئدة الاسم الذي هو مَحِلّ القوة ولأن السمع قوة واحدة لها محل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطها ويرى في زمان واحد صورتين فأكثر ويُتْقِنُهُمَا.
قوله تعالى: «أَئِذَا ضَلَلْنَا» تقدم خلاف القراء في الاستفهامين، والواو للعطف على ما سبق فإنهم قالوا محمد ليس برسول، والله ليس بواحد وقالوا: الحشر ليس بممكن، فالعامل في «إذا» محل تقديره «نُبْعَثُ أو نَخْرُجُ» لِدَلاَلَةِ: «خَلْقِ جَدِيدٍ» عليه ولا يعمل فيه «خَلْقٍ جَدِيدٍ» ؛ لأن ما بعد «إنَّ» والاستفهام لا يعمل فيما قبلهما، وجواب «إذاً» محذوف إذا جعلتها شرطية. وقرأ العامة «ضَلَلْنَا» بضاد معجمة، ولام مفتوحة بمعنى ذَهَبْنَا، وضِعْنَا من قولهم: ضَلَّ اللبنُ في الضرع وقيل: غُيِّبْنَا، قال النابغة:
4063 - فآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنِ جَلِيَّة ... وَغُودِرُ بالجُولاَنِ حَزمٌ وَنَائِلُ
والمضارع منهذا: يَضِل بكسر العين وهو كثير، وقرأ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وابنُ(15/479)
مُحَيْصنٍ وأَبُو رَجَاءٍ: بكسر اللام وهي لغة العالية، والمضارع من هذا يَضَلُّ بالفتح، وقرأ علي وأبو حَيْ (وَة) «ضُلِّلْنَا» بضم الضاد وكسر اللام المشددة من «ضَلَّلَهُ» بالتشديد، وقرأ عَلِيٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد: «صَلَلْنَا» بصاد مهملة، ولام مفتوحة، وعن الحسن أيضاً صَلِلْنَا بكسر اللام.
وهما لغتان، يقال: صَلَّ اللحمُ بفتح الصاد وكسرها لمجيء الماضي مَفْتُوحَ العين ومَكْسُورَها، ومعنى صَلَّ اللَّحْمُ أنْتَنَ وتَغيَّرتَ رَائِحَتُهُ ويقال أيضاً: أَصَلَّ بالألف قال:
4064 - تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فِيهَا أنِيضُ ... أَصَلَّتْ فَهيَ تَحْتَ الكَشْحِ دَاءُ
وقال النحاس: لا يعرف في اللغة «صَلَلْنَا» ولكن يقال: صَلَّ اللَّحْمُ وأَصَلَّ، وخَمَّ وأَخَمَّ وقد عَرَفَها غَيْرُ أَبِي جَعْفَر.
فصل
قال في تكذيبهم بالرسالة: «أَمْ يَقُولُونَ» بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم بالحشر: «وَقَالُوا» بلفظ الماضي؛ لأن تكذيبهم بالرسالة لم يكن قبل وجوده، وإنما كان حال وجوده فقال: «يَقُولُونَ» يعني هم فيه. وأما إنكار الحشر فكان سابقاً صادراً منهم ومن آبائهم فقال: «وَقَالُوا» وصرح بقولهم في الرسالة فقال: «أَمْ يَقُولُونَ» وفي الحشر فقال: {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا} ولم يصرح بقولهم في الوحدانية؛ لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسالة وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في بعض الأحوال في قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] فلم يقل: قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر.(15/480)
فإن قيل: إنه ذكر الرسالة من قبل وذكر دليلها (وهو التنزيل الذي لا ريب فيه وذكر الوحدانية وذكر دليلها وهو) خَلْقُ السماوات والأرض وخَلْقُ الإنسان من طين، ولما ذكر إنكارهم الحشرَ لم يذكر الدليل؟
فالجواب: أنه ذكر دليله أيضاً وهو أن خلق الإنسان ابتداءً دليل على قدرته على الإعادة ولهذا استدل (تعالى) على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال: {ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] وأيضاً خلق السماوات والأرض كما قال: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى} [يس: 81] .
قوله: {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} استفهام إنكاري أي إننا كائنونَ في خلق جديد أو واقعون فيه {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب. أو يكون المعنى لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم بلقاء الله فإنهم كَرِهُوهُ فأنكروا المُفْضي إلَيْهِ، ثم بين لهم ما يكون (من الموت إلى العذاب) فقال: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ» يقبض أرواحكم {مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} أي وكل بقبض أرواحكم وهو عزرائيلُ، (والتَّوَفِّي) استيفاء العدد معناه أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كُتِبَ عليه الموت.
فصل
روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخي منها صاحبها، ما أحب من غير مشقة فهو يقبض أنفُسَ الخَلْقِ من مشارق الأرض ومغربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وأعوان من ملائكة العذاب، وقال ابن عباس: خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب، وقال مجاهد: جعلت الأرض مثل طِسْتٍ يتناول منها حيث شاء.
قوله: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم، وقرأ العامة: تُرْجَعُونَ ببنائه للمفعول، وزيد بن علي: ببنائه للفاعل.
قوله: «وَلَوْ تَرَى» في «لو» هذه وجهان:(15/481)
أحدهما: أنها لِمَا كان سَيَقَعُ لوقوعه غيره. وعبَّر عنها الزمخشري بامتناعٍ لامْتِنَاع، وناقشه أبو حيان في ذلك. وقد تقم تحقيقه أول البقرة، وعلى هذا جوابها محذوف أي لرأيت أمر فظيعاً.
والثاني: أنها للتمني. قال الزمخشري كأنه قيل: وليتك ترى. وفيها إذا كانت للتمنِّي خلافٌ على تقتضي جواباً أم لا، وظاهر تقدير الزمخشري هنا أنه لا جواب لها.
قال أبو حيان: والصحيح أن لها جواباً وأنشد:
4065 - فَلأَوْ نُبِشَ المِقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ ... فَيُخْبِرَ بالذَّنَائِبِ أَيُّ زِيرِ
بِيَوْمِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيْناً ... وَكِيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ القُبُورِ
قال الزمخشري: ولو تجيء في معنى التمني كقولن: «لو تأتيني فتحدثني» (كما تقول) : «لَيْتَكَ تَأتِيني فَتُحَدِّثَنِي» قال ابن مالك: أن أراد به الحذف أي وَدِدْتُ لو تأتني فتحدثني فصحِيح وإن أراد أنها موضوعة له فليس بصحيح، إل لو كانت موضوعة له لم يجمع بينها وبينه كما لم يجمع من «ليت» والتمني، ولا «لعل وأترجّى» ، ولا «إلا» وأستثني، ويجوز أن يجمع بين «لو» وأتمنى تقول (تَمَنَّيتُ لَوْ فَعَلْتُ كذا) ، والمخاطب يحتمل أن يكون - النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شفاء لصدره، فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب، ويحتمل أن يكون عاماً، و «إذْ» على بابها من المضي؛ لأن «لو» تصرف المضارع للمضي، وإنما جيء هنا ماضياً لتحقق وقوعه نحو: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . وجعله أبو البقاء مما وقع فيه «إذ» مَوْقع «إذَا» . ولا حاجة إليه. والمراد بالمجرمين المشركين.(15/482)
قوله: «نَاكِسُوا» العامة على أنه اسم فاعل مضاف لمفعوله تخفيفاً، وزيدُ بن علي «نَكِسُوا» فعلاً ماضياً «رُؤُوسَهُمْ» مفعول به، والمعنى مُطَأطِئُون رُؤُوسِهِمْ.
قوله: «رَبَّنا» على إضمار القول، وهو حال أي قائلينَ ذلك، وقدره الزمخشري يَسْتَغيثُونَ بقولهم، وإضمار القول أكْثَرُ.
قوله: «أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا» يجوز أن يكون المفعول مقدراً أي أ [صرنا ما كنّا نكذب وسمعنا ما كنا ننكر. ويجوز أن لا يقدر أي صِرْنَا بُصَرَاءَ سَمِيعِينَ فارْجِعْنَا (إلى الدنيا) نَعْمَل صِالِحاً «يجوز أن يكون» صالحاً «مفعولاً به، وأن يكون نعت مصدر، وقولهم» إنَّا مُوقِنُونَ «أي إنا آمنا في الحال، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ينكرون الشرك كقولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] .(15/483)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} رشدها وتوفيقها للإيمان، وهذا جواب عن قولهم: ربنا أبَصْرنَا وَسَمِعْنَا وذلك أن الله تعالى قال: إني لو رجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا، ولما لم أهدكم في الدنيا تبين أني ما أردتُ وما شئت إيمانكم فلا أردكم، وهذا صريح في الدلالة على صحة مذهب أهل السنة حيث قالوا إن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر، وما شاء منه إلا الكُفْرَ.(15/483)
قوله: {ولكن حَقَّ القول مِنِّي} وجب القول (مني) وهو قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} . {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ} قال مقاتل: إذا دخلوا النار قال لهم الخزنة: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ} أي تركتم الإيمان به في الدنيا. «لِقَاءَ يَوْمِكُمْ» (يجوز فيه أوجه:
أحدها: أنها من التنازع لأن «ذُوقُوا» يطلب «لِقَاء يَوْمِكُمْ» و «نَسِيتُمْ» يطلبه أيضاً أي ذُوقُوا عَذَابَ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ) هذا بما نَسِيتُمْ عذاب لقاء يومكم هذا ويكون من إعمال الثاني عند البصريين ومن إعمال الأول عند الكوفيين، والأول أصح لللحذف من الأول؛ إذ لو عمل الأول لأضمر في (الثاني) .
الثاني: أن مفعول «ذُوقُوا» محذوف أي ذُوقُوا العذاب بسبب نِسْيَانِكم لقاءَ يومكم، (و «هذا» على هذين الإعرابين صفة «ليَوْمِكُمْ» .
الثالث: أن يكون مفعول «ذُوقُوا» «هَذَا» والإشارة به إلى العذاب، والباء سببية أيضاً أي فذوقها هذا العذاب بسبب نِسْيَانكم لقاء يومكم) ، وهذا ينبو عنه الظاهر، قال ابن الخطيب «هذا» يحتمل ثلاثة أوجه: أن يكون إشارة إلى اللقاء (وأن يكون إشارة إلى اليوم) ، وأن يكون إشارة إلى العذاب، ثم قال: «إنَّا نَسِينَاكُمْ» تركناكم غيرَ ملتفت إليكم {وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من الكفر والتكذيب.
قوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً} سقطوا على وجوههم ساجدين {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} ، قيل: سلموا بأمر ربهم. وقيل: قالوا سُبْحَانَ الله وبحمده {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان به والسجود له.
قوله: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} يجوز في «تَتَجَافَى» أنْ يكون مستأنفاً،(15/484)
وأن يكون حالاً وكذلك «يَدْعُونَ» إذا جعل «يَدْعُون» حالاً احتمل أن يكون حالا ثانية، وأن يكون حالاً من الضمير في «جنوبهم» ؛ لأن المضارع خبرٌ، والتجافي الارتفاع، وعبر به عن ترك النوم، قال ابن رواحة:
4066 - نَبِيٌّ تَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
والمعنى يرتفع (وينبو) جنوبهم عن المضاجع جمع المضْجَع وهو المَوْضِع الذي يَضْطَجِعُ عليه يعني الفراش وهم المتهجدون بالليل الذين يقيمون الصلاة، قال أنس: نزلت فينا مَعْشَرَ الأنصار، كنا نصلي المغرب الصلاة فلا نرجع إلى رحالنا حتى نُصَلِّيَ العشاءَ مع - النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
(وعن أنس: أيضاً قال: نَزَلَتْ في أناسٍ من أصحابِ النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) كانوا يُصَلُّونَ من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهو قول أبي حَازِمٍ، ومُحَمَّد بْنِ المُنْكَدِر، وقال في صلاة الأوابين وهو مروي عن ابن عباس. وقال عطاء: هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخر والفجر في جماعة، (وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ صَلَّى العِشَاء في جماعة) (كَانَ كَقِيَام نِصْفِ لَيْلَةٍ ومن صلى الفجر في جماعة) كان كقيام ليلة» ، والمشهور أن المراد منه صلاة الليل، وهو قول الحَسَنِ(15/485)
وجماعة ومجاهد، ومَالِك والأوْزَاعِي وجماعة لقوله عليه (الصلاة و) السلام: «أفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمضَانَ شِهْرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ، وأفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةٍ صَلاَةُ اللَّيْلِ، وقال عليه (الصلاة و) السلام -:» إن فِي الجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنها وباطنُها من ظاهِرها أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَلاَنَ الكَلاَمَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى باللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ «
(قوله) :» خَوْفاً وَطَمعاً «إام مفعول من أجله وإمّا حالان، (وإما) مصدران لعامل مقدر.
قال ابن عباس: خَوْفاً من النار وطمعاً في الجنة، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} . قيل: أراد به الصدقة المفروضة وقيل: عام في الواجب والتطوع.
قوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} قرأ حمزة» أُخْفِي «فعلاً مضارعاً مسنداً لضمير المتكلم فلذلك سكنت ياؤه (لأنه) مرفوع، ويؤيده قراءة ابن مسعود:» مَا نُخْفِي «بنون العظمة، والباقون» أُخِفِيَ «ماضياً مبنياً للمفعول، (فَمِن) ثمَّ فُتِحَتْ ياؤه، وقرأ محمد بن كعب» أَخْفَى «ماضياً مبنياً للفاعل، وهو اللَّهُ تعالى، يؤيدها قراءة الأعمش و [» مَا] أَخْفَيْتُ مسنداً للمتكلم. و «ما» يجوز أن تكون موصولة أي لا يعلم الذي أخفاه الله، وفي الحديث: «مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» وأن تكون(15/486)
استفهامية معلقة «لتَعْلَمَ» فإن كانت متعدية لاثنين سدت مسدهما أو لواحد سدت مسده.
قوله: {مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} قرأ عبد الله، وأبو الدرداء وأبو هريرةَ «من قُراتِ أَعْيُنٍ» جمعاً بالألف والتاء، و «جزاءً» مفعولٌ له، أو مصدر مؤكد لمعنى الجملة قبله، إذا كانت «ما» استفهامية فعلى قراءة (مَنْ قرأ ما) بعدها فعلاً ماضياً يكون في محل رفع بالابتداء، والفعل بعدها الخبر، وعلى قراءة من قرأ مضارعاً يكون مفعولاً مقدماً و «مِنْ قُرَّةِ» حال من «ما» والمعنى مَا يُقِرُّ الله به أعينهم {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال ابن عباس: هذا مما لا تفسير له.
قال بعضهم: أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.
قوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} نزلت في عليِّ بْن أبي طالب، والوليدِ بن عقبة بن أبي معيط أخِي عثمان لأمه وذلك أنه كان بينهما تنازع فقال الوليد بن عقبة لِعَلِيٍّ: اسْكُتْ فإنك فاسق فأنزل الله عزّ وجلّ: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يَسْتَوونَ} ولم يقل لا يستويان لأنه لم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين. قوله: «لا يستوون» مستأنف؛ روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يعتمد الوقف على قوله «فاسقاً» ثم يبتدىء: «لا يَسْتَوونَ» .
قوله: {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} لما ذكر أن المؤمن والفاسق لا يستويان بطريق الإجمال بين عدم استوائهما على سبيل التفصيل فقال: {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى} قرأ طلحةُ «جنة المأوى» بالإفراد، والعامة بالجمع، أي التي يأوي إليها المؤمنون. وقرأ أبو حيوة نُزْلاً - بضم وسكون - وتقدم تحقيقه آخر آل عمران، {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار} وهذا إشارة إلى حال الكافر، واعلم أن العمل الصالح له مع الإيمان تأثير فلذلك قال: {آمنوا وعملوا الصالحات} ، وأما الكافر فلا التفات إلى الأعمال معه فلهذا لم يقل: «وأما الذين فسقوا(15/487)
وعملوا السيئات» ؛ لأن المراد من «فَسَقُوا» كفروا، ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل لظن (أن) مجرد الكفر (لا) عقاب عليه.
قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ} صفة لعذاب، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة للنار قال: وذكر على معنى الجَحِيم والحَريق.
قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر} قال أبيُّ بنُ كَعْبٍ والضَّحَّاكُ والحَسَنُ وإبْرَاهيمُ: العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وهو رواية الوَالبِيِّ عن ابن عباسٍ، وقال عكرمة عنه: الحدود، وقال مقاتل: الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب. وقال ابن مسعود: هو القتل بالسيف يوم بدر وهو قول قتادة والسدي. وأما العذاب الأكبر وهو عذاب الآخرة فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة.
فإن قيل: ما الحكمة في مقابلته «الأدنى» «بالأكبر» ، «والأدنى» إنما هو في مقابلة «الأقصى» «والأكبر» إنما هو مقابله «الأصغر» ؟
فالجواب: أنه حصل في عذاب الدنيا أمران: أحدهما: أنه قريب والآخر: أنه قليل صغير، وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمران، أحدهما: انه بعيد والأآخر أنه عظيم كبيرٌ لكن العرف في عذاب الدنيا هو أنه الذي يصلح التخويف به فإن العذاب العاجل وإن كان قليلاً فلا يَحْتَرِزُ عنه بعض الناس أكثر مما يَحْتَرِزُ من العذاب الشديد إذا كان آجلاً، وكذا الثواب العاجل قد يَرْعَبُ فيه بعض الناس ويستبعد الثوابَ العظيم الآجل.
وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف هو العظيم والكبير (لا) البعيد لِمَا بينا فقال في عذاب الدنيا الأدنى ليحترز العاقل عنه ولو قال: «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ(15/488)
من العذاب الأصغر» ما كان يحترز عنه لصغره وعدم فَهْم كونه عاجلاً، وقال في عذاب الآخرة الأكبر لذلك المعنى ولو قال: مِنَ العَذَابِ الأبعد الأقْصَى (لما حصل) التخويف به مثل ما يحصل بوصفه بالكِبَر.
قوله: «لعلهم يرجعون» إلى الإيمان يعني مَنْ بَقِي منهم بعد «بدر» .
فإن قيل: ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال؟
فالجواب: فيه وجهان:
أحدهما: معناه لنذيقنهم إذاقة الراجين كقوله: «إنَّا نَسِنَاكُمْ» يعني تركناكم كما يترك الناس (حيث لا يلتفت إليه) أَصْلاً كَذلِكَ ههنا.
والثاني: نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه.
والثاني: نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه.
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} (أي من ذكر بآيات الله) من النعم أولاً، والنِّقَم ثانياً ولم يؤمنوا، فلا أظلَمُ منهم أَحدٌ.
قوله: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ} هذه أبعد ما بين الرُّتْبَتَيْنِ معنىً، وشبهها الزمخشري بقوله:
4067 - وَمَا يَكْشِفُ الغَمَّاء إلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
قال: استبعد (أن يزور) غمرات الموت بعد أن رآها وعرفها، واطلع على شدتها.
قوله: {إِنَّا مِنَ المجرمين} (يعني المشركين) «مُنْتَقِمُونَ» .(15/489)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} لما قرر الأصول الثلاثة عاد إلى الأمثل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [السجدة: 3] وقال: إنَّكَ لَسْتَ بدْعاً مِنَ الرُّسُلِ بل كان قبلك رسلٌ مثلُك، وذكر موسى لقربه (من) النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ووجود من كان على دينه إلزاماً لهم، وإنما لم يختر عيسى - عليه (الصلاة و) السلام (للذكر) والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوّته، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنُبُوَّة عيسى عليه السلام فتمسك بالمجمع عليه.
قوله: {فَلاَ تَكُنْ فِي مَرْيَةٍ} قرأ الحسن بالضم وهي لُغَةٌ، وقوله: «مِنْ لِقَائِهِ» في الهاء أقوال:
أحدها: أنها عائدة على «مُوسَى» والمصدر مضاف لمفعوله أي من لقائِكَ مُوسى ليلةَ الإسراء. وامْتَحَنَ المبردُ الزجاجَ في هذه المسألة فأجاب بما ذكر، قال ابن عباس وغيره: المعنى فلا تكن في شَكٍّ من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه، روى ابن عباس «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسري بي مُوسىَ رَحُلاً آدَمَ طُوالاً جَعْداً كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلاً مَرْبُوعاً إلى الحُمرةِ والبَيَاض سَبْطي الرأس، ورأيتَ مالِكاً خَازِنَ النَّارِ والدَّجَّال في آيات أَراهَنَي اللَّهُ إيَّاهُ»
والثاني: أن المضير يعود على «الكتاب» وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي من لقاء الكتاب لموسى أو للمفعول أي من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاءَ يصح نسبته إلى كل منهما، لأن من لقيك فقد لقيته.(15/490)
قال السدي المعنى فلا تكن في مِرْيَةٍ من لقائه أي تلقى موسى كتاب الله بالرضا والقبول.
الثالث: أي يعود على الكتاب على حذف مضاف أي من لقاء مثل كتاب موسى.
الرابع: أنه عائد على ملك الموت لتقدم ذكره.
الخامس: عوده على الرجوع المفهوم من قوله: {إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] أي لأنك في مرية من لقاء الرجوع.
السادس: أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مِمَّا ابتلي ب موسى من البلاء والامْتِحَان، قاله الحسن. أي لا بدّ ان يلقى ما لقي موسى من قومه فاختار موسى عليه السلام لحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذِهِ من قومه إلا الذين لم يؤمنوا، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لا آمن به آذاه كفرعون (وغيره) ومن آمن به من بني إسرائيل أيضاً (آذاه) بالمخالفة وطلب أِياء مثل رؤية الله جهرة وكقولهم: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا} [المائدة: 24] . وأظهر هذه الأقوال أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب، ثم بين (أن له هداية غير عادية عن المنفعة كما أنه لم تحل هداية موسى حيث جعل الله كتاب موسى هدى) وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صاحبة يهدون كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُم اهْتَدَيْتُمْ» ، ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر فقال: {ولَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} .
فصل
«لَمَّا صَبَرُوا» قرأ الأخوان بكسر اللام وتخفيف الميم، على أنها لام الجر و ( «ما» ) مصدرية، والجار متعلق بالجعل أي جعلناهم كذلك لصبرهم ولإيقانهم، والباقون بفتحها وتشديد الميم. وهي «لمَّا» التي تقتضي جواباً وتقدم فيها(15/491)
قولا سيبويه والفارسي، والمعنى حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمضّرَ.
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} هذا يصلح أن يكون جواباً لسؤال وهو أنه تعالى لما قال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ} فكان لقائل أن يقول: كيف يَهْدُونَ وهم اختلفوا وصاروا فِرَقاً والحق واحد؟ فقال (الله) يبين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة.
قوله: {أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ} بتبين لهم {أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} لما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد وقال: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ} وقوله {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي مساكن المُهْلَكِينَ (لدلالة على حالتهم) وأنتم تمشون فيها وتبصرونها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} آيات الله وعِظَاته واعتبر السمع لأنهم ما كان لهم قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم فقال: «أفلا يسمعون» (يعني) ليس لكم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز} قرىء الجُرْز - بسكون الراء - وتقدم أول الكهف. وهي الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها، قال ابن عباس: هي أرض باليمن، وقال مجاهد: هي أرض بأنين. والجرز هو القطع فكأنها المقطوع عنها الماء والنبات. لما بين الإهلاك وهو الإماتة بين الإحياء ليكون إشارة إلى أن الضرر والنفع بيد الله ثم قال: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ} من العشب والتبن «وأَنْفُسُهُمْ» من الحبوب والأقوات، وقدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه:
الأول: أن الزرع أول ما ينبت للدوابِّ ولا يصلح للإنسان.
الثاني: أن الزرع غذاء للدواب لا بدّ منه وأما غذاء الإنسان فقد يصلح للحيوان فكان الحيوان يأكل الزرع ثم الإنسان يأكل من الحيوان.
قوله: «أَفَلاَ يُبْصِرُونَ» قرأ العامة بالغيبة، (وابن مسعود) بالخطاب التفاتاً.(15/492)
وقال تبصرون لأن الأمر (يرى) بخلاف حال الماضي فإنها كانت مسموعة. ثم لما بين الرسالة والتوحيد بّن الحشر فقال: {وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قيل: أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم بين العابد قال قتادة: قال أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للكفار: إنّ لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم الله بيننا وبينكم فقالوا استهزاء: {متى هذا الفتح} أي القضاء والحكم.
وقال الكلبي: يعني فتح مكة، وقال السدي: يوم بدر لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانوا يقولون لهم إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح.
فصل
«يوم الفتح» منصوب «لاَ يَنْفَعُ» و «لا» غير مانعة من ذلك. وقد تقدم فيها مذاهب والمعنى يوم الفتح يوم القيامة لا ينفع الذين كفروا إيمانُهُمْ. ومن حمل الفتح على فتح مكةوالقتل يوم بدر قال معناه لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم من العذاب وقُتِلُوا {وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يُمْهِلُونَ بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا، ثم لما بين أن الدلالة لم تنفعهم قال: «فَأَعْرَضْ عَنْهُمْ» قال ابن عباس: نسختها آية القتال.
قوله: {وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} العامة على كسر الظاء من «مُنْتَظِرٍ» اسم فاعل، والمفعولُ من «انْتَظَر» ومن «مُنَْظِرُونَ» محذوف أي انتظر ما يَحُلُّ بهم إنهم منتظرون (على زَعْمِهمْ ما يحل بك. وقرا اليَمَانِيُّ: «مُنْتَظَرُونَ» اسم مفعول.
قيل: المعنى انتظر موعدي لك بالنصر إنهم منتظرون بك حوادث الزمان.(15/493)
وقيل: انتظر عذابنا فيهم إنهم منتظرون ذلك وعلى هذا فلا فرق بين الانتظار. وقيل: انتظر عذابهم بنفسك إنهم منتظرونه بلفظهم استهزاءاً كما قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} [الأعراف: 70] .
فصل
روى أبو هريرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقرأ في الفجر يوم الجمعة {الم. تَنْزِيل} و {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ} »
وعن جابر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا ينام حتى يقرأ تَبَارَكَ. والم. تنزيل، ويقول: هما يَفْضُلاَن عَلَى كُلِّ سُورةٍ في القرآن سبعينَ سَنَةً، ومن قرأهما كُتِبَ له سَبْعُونَ حَسَنَةً، ومُحِيَ عنه سَبْعُونَ سَيِّئَةً، ورُفِعَ له سَبْعُونَ دَرَجَةً»
وروى الثعلبي عن ابن عباس عن أُبَيٍّ بن كعب «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: مَنْ قَرَأَ سورة {الم. تَنْزِيلُ} أَعْطِيَ من الأجْرِ كَمَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ القَدْرِ»
والله أعلم.(15/494)
سورة الأحزاب(15/495)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
مكية نزلت بعد آل عمران، وهي ثلاث وسبعون آية ومائتان وثمانون كلمة وخمسة آلاف وسبعمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النبي اتق الله} اعلم أن الفرق ين نداء المنادى بقوله: «يَا رَجُلُ» ويايُّهَا الرَّجُل، أن قوله: «يَا رَجُل» يدل على النداء، وقوله: «يا أيها الرجل» يدل على ذلك ويُنْبِىءُ عن خطر المادى له أو غفلة المنادى فقوله: «يأيها» لا يجوز حمله على غفلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن قوله: «النبي» ينافي الغفلة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خبيرٌ، فلا يكون غافلاً، فيجب حمله على خَطَر الخَطْب.
فإن قيل: الأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمورية إذْ لا يصلح أن (يكون) يقال للجالس: اجلس وللساكت اسْكُتْ والنبي - عَلَيْهِ(15/495)
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان متقياً فما الوجه في قوله «اتق الله» ؟ .
فالجواب: أنه أمر (بالمدينة) بالمداومة فإنه يصح أن يقال للجالس: اجلس ههنا إلى أن يأتيك ويقال للساكت قد أصبت فاسكت تسلم أي دُمْ على ما أنت عليه، وأيضاً من جهة العقل أن الملك يتقي منه عباده على ثلاثة أوجه بعضهم يخاف من عقابه وبعضهم يخاف من قطع ثوابه وثالث يخاف من احتجابه فالنبي - عليه (الصلاة و) السلام لم يؤمر بالتقوى بالأول ولا بالثاني، وأما الثالث: فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا فكيف والأمور البدنية شاغلة فالآدَميُّ في الدنيا تارة مع الله والأخرى مقبل على ما لا بد منه وإن كان معه الله وإلى هذا أشار بقوله: {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ} [الكهف: 110] يعني برفع الحجاب عني وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم فأُمِرَ بتقوى توجب استدامة الحضور، وقال المفسرون: نزلت في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن أبي (رأس المنافقين) بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قولهم الأمان على أن يكلموه فقام (معهم) عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وطُعْمَةُ بن أُبَيْرِق فقالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعنده عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ارفض ذكر آلهتنا اللاتَ والعُزَّى ومَنَاةَ وقل إن لها شفاعةً لمن عبدها وندعك وربَّك فشق على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قولهم فقال عمر: يا رسول اللَّهِ ائذنْ لي في قتلهم. فقال: إني قد أعطيتهم الأمان. فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر أن يُخْرِجَهُمْ من المدينة فأنزل الله: {ياا أَيُّهَا النبي اتق الله} أي دُم على التقوى كما يقول ارجل لغيره وهو قائم: «قُمْ قائماً» أي اثبتْ قائماً، وقيل: الخطاب مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمراد الأمة، وقال الضحاك معناه: اتق الله ولا تَنْقُضِ العهد الذي بينك وبينهم.
قوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} أي من أهل مكة يعني أبا سفيان، وعكرمة وأبا الأعور، والمنافقين من أهل المدينة عبد الله بن أبي، وطعمة {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً (حَكِيماً} بخلقه قبل أن يخلقهم حكيماً فيما دبره لهم
فإن قيل: لم خص الكافر والمنافق بالذكر مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينبغي أن لا يطع أحداً غير الله؟
فالجواب من وجهين:(15/496)
الأول: أن ذكر الغير لا حاجة إليه لأن غيرهما لا يطلب من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الأتِّباع ولا يتوقع أن يصير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مطيعاً له بل يقصد اتباعه ولا يكون عنده إلا مطاعاً.
الثاني: أنه (تعالى) لما قال: {} منعه (من) طاعة الكل لأن كل من طلب من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طاعته فهو كافر أو منافق لأن من يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يأمر إيجاب معتقداً أنه لو لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافراً.
قوله: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} وهذا يقدر ما ذكره أولاً من أنه عليم حكيم فاتباعه واجب.
قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وبعده {بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيراً} قرأهما أبو عمرو بياء الغيبة، والباقون بتاء الخطاب أما الغيبة (في الأولى) فلقوله «الكافرين والمنافقين» وأما الخطاب فلقوله: «يأيها النبي» لأن المراد هو وأمته وخوطب بالجمع تعظيماً (له) كقوله:
4068 - فَإِنْ شئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وجوز أبو حيان أن يكون التفاتاً يعني (عن) الغائبين (و) الكافرين والمنافقين (وهو بعيد) وأما (الغيبة) في الثاني فلقوله {إذ جاءتكم جنود} وأما الخطاب فلقوله {يأيها الذين آمنوا} . قوله: {وتوكل على الله} أي ثق بالله يعني إن توهمت من أحد فتوكل على الله فإنه كافيك {وكفى بالله وَكِيلاً} حافظاً لك، وقيل: كفيلاً برزْقكَ. قوله {مَّا(15/497)
جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «نزلت في أبي يَعْمُرَ (و) جميل بن مَعْمَرٍ الفِهْرِي وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمعه فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان وكان يقول: لي قلبان أعقِلُ بكُلِّ واحد منهما أَفْضَلُ من عقل محمد فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو مَعْمَرُ فَلَقِيَهُ أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال: انهزموا قال فما لك إحدى نعليك (في يدك) والأخرى في رجلك. قال أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نَعْلَهُ في يده.
وقال الزُّهْرِيُّ ومقتل: هذا مَثَلٌ ضربه الله للمظاهر من امرأته والمتبنيّ ولد غيره يقول: فكما لا يكون لرجل قلبان فذلك لا يكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون لها ابناً ولا يكون ولداً واحداً من رَجُلَيْنِ. (قال الزَّمخشري) : قوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} أي ما جعل الله لرجل قلبين كما لم يجعل لرجلين أمين ولا لابن أَبَوَيْنِ، (وقوله: {وما جعل أزواجكم اللائي «) قرأ الكوفيونَ وابن عامر اللائي ههنا وفي سورة الطلاق بياء ساكنة بعد همزة مكسورة وهذا هو الأصل في هذا اللفظ لأنه جميع» التي «معنى وأبو عمرو والبَزِّيُّ اللائي بيان ساكنة وصلاً بعد ألف محضة في أحد وجيهيها، ولهما وجه آخر سيأتي، ووجه هذه القراءة أنهما حذفا الياء بعد الهمزة تخفيفاً ثم ابدلاً الهمزة ياء وسكناها ليصيرورتها ياء مكسوراً ما قبلها (إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس وإِنما القياس جعل الهمزة بين بين) .(15/498)
(قال أبو علي: لا يُقْدَمُ على مثل هذا البدل إلا أن يُسْمَعَ) . قال شهاب الدين: قال أبو عمرو بن العلاء إنها لغة قُريش التي أمر الناس أن يقرءوا بها. وقال بعضهم: لم يبدلوا وإنما كتبوا فعبر عنهم القرآن بالإبدال. وليس بشيء. وقال أبو علي:» أو غير بإظهار أبي عمرو اللاَّئي يَئِسْنَ يدل على أنه يشهد ولم يبدل «وهذا غير لازم لأن البدل عارض فلذلك لم يدغم وقرأها ورش بهمزةٍ مُسَهَلَةٍ بَيْنَ بَيْنَ، وهذا الذي زعم بعضهم أنه لم يصح عنهم غيره وهو تخفيف قياس، وإذا وقفاو سكنوا الهمزة ومتى سكنوها استحال تسهيلها بين بين لزوال حركتها فتقلب ياءً لوقوعها ساكنةٌ بعد كسرة وليس (هذا) من مذهبهم تخفيفها فتقر همزة، وقرأ قُنْبُل وورش بهمزة مكسورة دون ياء حذف الياء واجتزأ عنها بالكسرة وها الخلاف بعينه جارٍ في المجادلة أيضاً والطلاق.
قوله:» تَظَاهَرُونَ «قرأ عاصمٌ تُظَاهِرُونَ بضم التاء وكسر الهاء بعد ألف، مضارع» ظَاهَرَ «وابن عامر» تَظَّاهَرون «بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارع» تَظَاهَرَ «والأصل» تَتَظَاهَرُونَ «بتاءين فأدغم. والأخوان كذلك إلا أنهما خففا الظاء والأصل أيضاً بتاءين (إلا أنهما) حذفا إحداهما، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو إما الإدغام وإما الحذف وقد تقدم تحقيقه في نحو تَذّكر وتَذَّكَّرون مخففاً ومثقلاً وتقدم نحوه في البقرة أيضاً. والباقون» تَظَّهرُونَ «بفتح التاء والحاء (وتشديد الظاء) والهاء دون ألف، والأصل» تَتَظَهَّرُونَ «بتاءين فأدغم نحو» تذكرون «وقرأ الجميع في المجادلة كقراءتهم(15/499)
في قوله: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} [المجادلة: 2، 3] إلا الأخوين، فإنهما خالفا أصلهما هنا فقرءا في المجادلة بتشديد الظاء كقراءة ابن عامر.
والظهار مشتق من الظَّهْر، وأصله أن يقول الرجل لامرأته: «أنْتَ عَلَيَّ كظَهْرِ أُمِّي» وإنما لم يقرأ الأخوان بالتخفيف في المجادلة لعدم المسوِّغ له وهو الحذف؛ لأن الحذف إنما كَان لاجتماع مثلين وهما التاءان وفي المجادلة ياء من تحت وتاء مِن فوق فلم يجتمع مثلان فلا حذف فاضطر إلا الإدغام، وهذا ما قرىء به متواتراً، وقرأ ابن وثاب «تَظهَّرُونَ» بفتح التاء والظاهء مخففة وتشديد الهاء والأصل: تَتَظَهَّرُونَ مضارع «تَظَهَّر» مشدداً، فحذف إحدى التاءين، وقرأ الحسن «تُظَهِّرُونُ» بضم التاء وفتح الظاء مخففة وتشديد الهاء مكسورة مضارع «ظَهَّرَ» مشدداً وعن أبي عمرو «تَظْهَرُونَ» بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع «ظَهَرَ» مخففاً وقرأ أُبَيٌّ - وهي في مصحفه كذلك - تَتَظَهَّرُونَ - بتاءين فهذه تسع قراءات، أربعٌ متواترة، وخمسٌ شاذة، وأخذ هذه الأفعال من لفظ «الظَّهْرِ» كأخذ «لَبَّى» من التَّلْبِيَةِ، و «أفف» من أُفّ. وإنما عدي «بمن» لأنه ضمن معنى التباعد كأنه قيل: يَتَبَاعَدُونَ من نسائهم بسبب الظهار كما تقدم في البقرة في تعدية الإيلاء (بِمِنْ) .
فصل
الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أَنْتِ عَلَيَّ كظهرِ أمي، فقال الله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ نِسَاءَكُمْ اللاتي تقولون لهم هذا في التحريم كأمهاتكم ولكنه منكر وزور. وفيه كفارة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في سورة المُجَادَلَة.
قوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} (يعني) ما جعل من تبنّيتموهم أبناءكم، (نسخ) التبني، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالابن يدعوه الناس إليه ويرث ميراثه، «وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعتق زيد بن حارثة بن شراحبيل(15/500)
الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب» فلما تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زينتب بنت جحش وكانت تحت زيدِ بن حارثة قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية، ونسخ التبني. واعلم أن الظهار كان في الجاهلية طلاقاً حتى كان للزوج ان يتزوج بها من جديدٍ.
قوله: «ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ» مبتدأ وخبر أيْ دعاؤكم الأدعياء أبناء مجدر قول لسان من غير حقيقة، والأَدْعِيَاءُ جمع دَعِيٍّ بمعنى مَدْعُوٍّ فعيل بمعنى مفعول وأصله دَعِيوٌ فأدغم ولكن جمعه على أَدْعِيَاء غير مقيس؛ لأن «أفعلاء» إنما يكون جمعاً لفَعِيل المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل نحو: تَقِيّ وأَتْقِيَاء، وغَنِيّ وأَغنياء، وهذا وإن كان فعيلاً معتل اللام إلا أنه بمعنى مفعول فكان قياس جمعه على فَعْلَى كقَتِيل وقَتْلَى، وجَرِيح، وَجَرْحَى، ونظير هذه (الآية في) الشذوذ، قولهم: أَسِيرٌ وأُسَرَاء، والقياس: أَسْرَى، وقد سمع فيه الأصل.
واعلم أن الله تعالى قال ههنا {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهَكُمْ} وقال في قوله: {وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30] يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضاً في قلب، فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم.
قوله: {والله يَقُولُ الحق} أي قوله الحق {وَهُوَ يَهْدِي السبيل} أي يرشد إلى سبيل الحق وهذا إشارة إلى أنه ينبغي للعاقل أن يكون قوله إما من عقل أو شرع فإذا قال: فلانٌ بنُ فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو شرع بأن يكون ابنه شرعاً وإن لم تعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأةٍ فولدت لِستةِ أشْهُرٍ ولداً وكانت الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول: إنه ابنه شرعاً، وفي الدَّعِيِّ لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق، لأن أباه مشهور ظاهر وأشار فيه من وجه آخر إلى أن قولهم هذه زوجة الابن فتحرم فقال الله هي لك حلال فقولهم لا اعتبار له لأنه بأفواههم كأصوات البهائم وقوله الحقّ فيجب اتباعه وهو يهدي السبيل فيجب اتباعه لكونه حقاً ولكونه هادياً.(15/501)
قوله: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ} (أي الذين ولدوهم {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} أي أعدل قال عبد الله بن عِمران زيد بن حارثة مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوْهُمْ لآبائهم هو أقسط عند) الله. واعلم أن قوله: هو أقسط أي دعاؤهم لآبائهم فهو مصدر قَاصِرٌ لدلالة فعله عليه كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] قال ابن الخطيب وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ترك الإضافة للعموم أي اعدلوا كل كلام كقولك الله أكبر.
الثاني: أن يكون ما تقدم مَنْوِيّاً كأنه (قال) : ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد فقال: {فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين} أي قولوا لهم إخواننا فإن كانوا مُجَرَّدِينَ فقولوا موالي فلان ثم قال: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي قبل النهي فنسبتموه إلى غيره.
قوله: {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} يجوز في «ما» وجهان:
أحدهما: أن تكون مجرورة المحل عطف على ( «ما» ) المجرورة قبلها بفي، والتقدير: ولكن الجناح فيما تعمدته.
الثاني: أنها مرفوعة المحل بالابتدءا والخبر محذوف، تقديره تؤاخذون به أو عليكم في الجُنَاح ونحوه.
قوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} المغفرة هي أن يستر القادر قَبِيحَ مَنْ تَحْتِ قدرته حتى أنَّ العبد إذا ستر عيب سيده مخافةَ عقابه لا يقال غفر له والرحمة هي أن يميل بالإحسان إلى المرحوم لعجز المرحوم لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه وكذلك من أحسن إلى غيره رجاءً في خيره أو عوضاً عما صدر منه آنفاً من الإحسان لا يقال: رحمه إذا علم هذه فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلِساً عاجزاً فرحمه وأعطاه، وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه (ولم) يقتصر عليه بل ستر ذنوبه.(15/502)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
قوله: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه ووجوب طاعته عليهم وقال ابن عباس (وقتادة) وعطاء يعني إذا دعاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولى بهم من طاعة أنفسهم. وقال ابن زيد. النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى بينهم كما كنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه، وقيل: أولى بهم في الحمل على الجهاد وبَذْلِ النفس دونه، وقيل: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخرج إلى الجهاد فيقول قومٌ: نذهب فنَسْتَأْذِنُ من آبائنا وأمهاتنا. فنزلت (الآية) ، وروى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ أَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ اقرْءَوا إنْ شِئْتُمْ: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فَأَيُّمَا مؤمِن مَاتَ وتَرَكَ مالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دُنْيا أو ضياعاً فَلْيأْتني فَأَنَا مَوْلاَهُ «قوله:» وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ «أي مثل أمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن، والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 33] ولا يقال لبناتهن هن أخوات للمؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم وقال الشافعي: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وهي أخت أم المؤمنين، واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات، قيل: كن أمهات المؤمنين جميعاً وقيل: كن أمهات المؤمنين دون النساء.
روى الشعبِيُّ عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة يا أمه فقالت: لست لك بأم(15/503)
إنما أنا أمُّ رِجَالِكُمْ فدل هذا على أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن.
فصل
قال ابن الخطيب: هذا تقرير آخر، وذلك لأن زوجة النبي - عليه السلام - ما جعلها الله في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبي - عليه السلام - فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت زوجاته في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره. فإن قيل: كيف قال: وأزواجه أمهاتهم وقال من قبل: {ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم} فأشار إلى أن غير من ولدت لا تصير أمّاً بوجه، ولذلك قال في موضع آخر {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] ؟ .
فالجواب: أن قوله تعالى في الآية المتقدمة: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} جواب عن هذا والمعنى أن الشرع مثل الحقيقة ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة كما أن امرأتين (إذا) ادَّعَتْ كل واحدة ولداً (بعينه (ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع بل في بعض المواضع (على المندوب) تغلبُ الشريعة على الحقيقة فإن الزاني لا يجعل أباً لولدِ الزنا وإن كان ولده في الحقيقة وإذا كان كذلك فالشارع له الحكم فقول القائل: هذه أمي قول (يفهم) لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة وأما قول الشارع فهو حق فله أن يتصرف في الحقائق كم يشاء، ألا ترى أن الأم ما صارت أمَّا إلا بخلق الله الولد في رحمها ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها فإذا كان الذي يجعل الم الحقيقة أمَّا فله أن يسمى أي امرأة أمَّا ويعطيها حكم الأمومة.
على الابن لأن الزوجية تحصل الغيرة فإن تزوج بمن كان تحت الأب يُفْضي إلى قطع الرحم والعقوق ولكن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يربي في الدنيا والأخرة فوجب أن يكون زجاته مثل زوجات الآباء.(15/504)
فإن قيل: فَلِمَ لم يقل إن النبي أبوكم ويحصل هذا المعنى أو لم يقل أزواج أبيكم.
فالجواب: ان الحكمة فيه هو النبي (عليه السلام) (مما بينا) أنه إذا أراد زوجة واحدٍ من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبي - عليه (الصلاة و) السلام - فلو قال: أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد، ولأنه لام جعل أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدمة على الأب لقوله (- عليه السلام -) : «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» ولذلك فإن المحتاج (إلى القوت) لا يجب عليه صرفه إلى (الأب ويجب عليه صرفه إلى) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم إن أزواجه لهم حكم أزواج الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقة والرضاعة.
قوله: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} يعني في الميراث قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة قال الكلبي: إخاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بين الناس كان يُؤاخِي بين رجلين فإِذا مات أحَدُهُما وَرِثَهُ الأخَرُ دون عصبته حتى نزلت هذه الآية: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} في حكم الله من المؤمنين الذين آخى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بينهم والمهاجرين يعني ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة فصارت بالقَرَابة وبعضهم يجوز فيه وجهين:
أحدهما: أن يكون بدلا من أولو.
والثاني: أنه مبتدأ، وما بعده خبر، والجملة خبر الأول.
قوله: {فِي كِتَابِ الله} يجوز أن يتعلق «بأُولِي» إلا أن أفعل التفضيل يعمل في الظرف، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في أولو والعمل فيها أولو لأنها شبيهة بالظرف ولا جائز أن يكون حالاً (من أولو) للفصل بالخَبَرِ ولأنه لا عامل فيها.(15/505)
قوله: «مِنَ المُؤْمِنِينَ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنها «من» الجارة المفضول كهي في «زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْروٍ» والمعنى وأولو الأرحام أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين الأجانب.
والثاني: أنها للبيان جيء بها بياناً لأولى الأرحام فيعتلق بمحذوف أي (أَعْنِي) والمعنى وأولو الأرحام من المؤمنين أولى بالإرْثِ من الأَجانب.
قوله: {إِلاَّ أَن تفعلوا} هذا استثناء من غير الجنس وهو مستثنى من معنى الكلام وفحواه إذا التقدير وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في الإرث وغيره لكن إذا فعلتم مع غيرهم من أوليائكم خيراً كان لكم ذلك وعدى تفعلوا (بإلى) لتضمنه معنى تدخلوا، وأراد بالمعروف الوصية للذين تولونه من المُعاقِدِينَ يعني إن أوْصَيْتُم فغير الوارثين أولى وإذا لم تُوصُوا فالوارثون أولى بميراثكم وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة وأباح أن يوصي (لمن يتولاه) بما أحب ثُلُثَ ماله. قال مجاهد: أراد بالمعروف المعرفة وحفظ الحُرْمَة بحق الإيمان والهجرة يعني وأولو الأرحام من المُؤِمِنِينَ والمهاجرين أولى ببعض أي لا توارث بين المسلم والكَافِرِ ولا بين المهاجر وغير المهاجر {إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً} أي إلا أن تَعْرِضُوا لذوي قُرَابَاتِكُمْ بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة وهذا قول عطاءٍ وقتادةَ وعكرمة.
فإن قيل: أي تعلق للميراث والوصية بما تقدم.
فالجواب: قال ابن الخطيب وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن غير النبي في حال حياته لا يصير إليه مال الغير وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته والنبي - عليه السلام - في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أرادوه ولا يصير ماله لوَرثَتِهِ بعد وفاته فكأن الله تعالى عوض النبي عن قطع ميراثه بقدرته بأن له تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه النبي يرجع إليهم حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي (عليه السلام) إذا أراد شيئاً يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم، ولا يرجع إليهم فقال الله تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ}(15/506)
يعني التوارث بينكم فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا وهو أنه أولى في حياته بما في أيديكم.
الثاني: أن الله تعالى ذكر دليلاً على أن النبي عليه السلام أولى فيصير أولى من قريبه فكأنه بالواقع قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا لمن أريده فكذلك جعل الله تعالى لنبيه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره ثم قال: {كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً} مكتوباً.
قال القرطبي: أراد بالكتاب القرآن وهو آية المواريث والوصية وقيل: اللوح المحفوظ.
قوله: {وإذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين ميثاقهم} الآية وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه السلام بالاتقاء وقال: {يا أيها النبي اتق الله} وأكده بالحكاية التي خشي (فيها) منهم، خفّف عنه لكي لا يخشى أَحداً غيره وبين أنه لم يرتكب أمراً يوجب الخشية بقوله: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وأكده بوجه آخر فقال: «وإذْ أَخَذْنَا» كأنه قال: اتق الله ولا تخف أاحداً واذكر أن الله (أخذ ميثاق) النبيين في أنهم بلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع والمراد من الميثاق العهد الذي بينه في إرسالهم وأمرهم بالتبليغ وأن يصدق بعضهم بعضاً قال مقاتل: أخذنا ميثاقهم على أن يدعوا الناس إلى عبادته، ويصدق بعضهم بعضاً وينصحوا لقومهم. قوله: «وإذْ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون منصوباً «باذكر» أي اذْكُرْ إِذْ أَخَذْنَا «.
والثاني: أن يكون معطوفاً على مَحَلِّ:» في الكتاب «فيعمل فيه» مَسْطُوراً «أي كان مسطوراً في الكتاب (و) وقت أَخِذِنا. قوله: {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} خص هؤلاء(15/507)
الخمسةَ بالذكر لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم من الرُّسُلِ، وقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنه أولهم في كتاب الله،» كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كُنْتُ أَوَّلَ النبيّين في الخَلْقِ، وآخِرَهم في البَعْثِ «قال قتادة وذلك قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} فبدأ به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال ابن الخطيب: وخص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمه فذكرهما احتجاجاً على قومهما، وإبراهيم (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) يقولون بفضله (وكانوا يتبعونه في الشعائر، ونوحاً لأنه كان أصلاً ثانياً للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان) ، وعلى هذا لو قال قائل: فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول: خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الأبوّة للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب، وأما نوحٌ فكان مخلوقاً للنبوة وأرسل للإنزال ولما كذّبوه أهلك قومه وأغرقوا، وأما ذكرعيسى بقوله: عيسى ابن مريم والمسيح ابن مريم؛ فهو إشارة إلى أنه لا أب له، إذ لو كان لوقع التعريفُ به.
قوله:» مِيثَاقاً غَلِيظاً «هو الأول، وإنما كرر لزيادة صفته وإيذانا بتوكيده، قال المفسرون: عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا. قوله:» ليسألَ «فيها وجهان:
أحدهما: أنها لام كي أي أخذنا ميثاقهم ليسأل المؤمنين عن صدقهم والكافرين عن تكذيبهم فاستغنى عن الثاني بذكر مُسَبِبَّهِ وهو قوله:» وأَعَدَّ «ومفعول صدقهم محذوف أي صِدْقِهِمْ عَهْدَهُمْ، ويجوز أن يكون» صِدْقِهِم «في معنى تصديقهم ومفعوله محذوف أيضاً أي عن تصديقهم الأنْبِيَاءَ.
قوله: «وأَعَدَّ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على ما دل عليه «لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ» ؛ إذ التقدير: فأثاب الصادقين وأعد للكافرين.(15/508)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
والثاني: أنه معطوف على «أَخَذْنَا» ح لأن المعنى أن الله أكد على النبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين وأعد للكافرين، وقيل: إنه حذف من الثاني ما أثبت مُقَابِلُهُ في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابلهُ في الثاني والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما أجابوا رُسُلَهُمْ {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} .
فصل
قال المفسرون: المعنى أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الصادقين عن صدقهم يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه أنهم صادقون بتبكيت من أرسلوا إليهم. وقيل: ليسأل الصادقين عن علمهم بالله عَزَّ وَجَلَّ، وقيل: ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم بقلوبهم.
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ... } الآية وهذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك حين حُوصِرَ المسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أيام الخَنْدَق، واجتمع الأحزاب واشتد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم، ونزلوا على المدينة وعمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الخَنْدَق وكان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغاً إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمَنَهُمْ من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبدُ غَيْرَ ربه فإنه القادر(15/509)
على كل الممكنات فكان قادراً على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم ضعفاء كما قهر الكافين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم.
قوله: «إذْ جَاءَتْكُمْ» يجوز أن يكون منصوباً «بنعمة» أي النعمة الواقعة في ذلك الوقت، ويجوز أن يكون منصوباً باذْكُرُوا على أن يكون بدلاً من «نعمة» بدل اشتمال، والمراد بالجنون الأحزاب وهم قريش وغَطفَان، ويهود قُرَيْظَةَ والنَّضِير {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} وهي الصَّبَا، قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلق بنصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت الشمالُ إن الحرَّّة لا تَسْرِي بالليل فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا وروى مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «قال:» نُصِرتُ بالصَّبَا وأهلكَتْ عَادٌ بالدَّبورِ «
قوله: {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} قرأ الحسن بفتح الجيم، والعامة بضمها، و» جُنَوداً «عطفاً على» ريحاً «و» لَمْ تروها «صفة لهم، وروي عن أبي عمرو، وأبي بكر» لم يَرَوْهَا «بياء الغيبة، وهم الملائكة ولم تقاتل الملائكة يومئذ فبعث الله عليهم تلك اليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطنا الفَسَاطِيطِ وأطفأت النيرانَ وأَكْفَأت القُدُورَ، وجالت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول: يا بني فلان هَلُمَّ إليَّ فإذا اجتمعوا عنده قال: النَّجَا النَّجَا أتيتم لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال. {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} وهذا إشارة إلى أنه الله علم التجاءكم إليه وجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداد والقصة مشهورة.
قوله:» إِذْ جَاؤُوكُمْ «بدل من» إذْ «الأولى، والحناجر جمع» حَنْجَرَةٍ «وهي رأس الغَلْصَمَةِ والغَلْصَمَة منتهى الحُلْقُومِ، والحلقوم مجرى الطعام والشراب، وقيل: الحلقوم(15/510)
مَجْرَى النفس والمريء الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم وقال الرَّاغِبُ: رَأْسُ الغَْصَمَةِ من خارج.
قوله:» الظُّنُونا «قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بإثبات ألف بعد نون» الظُّنُون «ولام الرسول في قوله:
{وَأَطَعْنَا الرسولا} [الأحزاب: 66] ولام السبيل في قوله: {فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67] وصلاً وَوَقْفاً موافقة للرسم؛ لأنهن رسمن في المصحف كذلك وأيضاً فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة، وهاء السكت تثبت وَقْفاً للحاجة إليها وقد ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف كما تقدم في البقرة والأنعام فكذلك هذه الألف، وقرأ أبو عمرو وحمزةُ بحذفها في الحالين؛ لأنها لا أصل لها وقولهم: أجريت الفواصل مُجْرَى القوافي غير معتدٍّ به لأن القوافيَ يلتزم الوقف عليها غاباً، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها، والباقون بإثباتها وقفاً وحذفها وصلاً إجراء للفواصل مُجْرَى القوافي في ثبوت ألف الإطلاق كقوله:
4069 - اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالوَفَاءِ وَبِالعَدْلِ ... وَوَلَّى المَلاَمَةَ الرَّجُلاَ
وقوله:
4070 - أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَا ... وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَا
ولأنها كهاء السكت وهي تثبت وقفاً وتحذف وصلاً، قال شهاب الدين: «كذلك يقولون تشبيهاً للفواصل بالقوافي وأنا لا أحب هذه العبارة فإِنها منكرة لفظاً» . ولا خلاف في قوله: {وَهُوَ يَهْدِي السبيل} أنه بغير ألف في الحالين.(15/511)
فصل
المعنى إذْ جَاؤُوكُمْ من فوقكم أي من فوق الوادي من قبل المَشْرِق وهم «أَسَدٌ» ، وغَطَفَان عليهم مالكُ بن عَوْف النَّضرِيّ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْن الفزَاريّ في ألفٍ من غَطَفَانَ ومنهم طلحةُ بن خُوَيْلد الأسَدِيّ في بني أسد، وحُيَيّ بن أَخْطَبَ في يهودِ بني قُرَيْظَةِ {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أي من بطن الوادي من قِبَلِ المَغْرب وهم قُرَيْشٌ وكِنَانَةُ عليهم أبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ ومن معه وأبو الأعور بن سُفْيَانَ السُّلَمِي من قبل الخندق، وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَنِي النَّضِير من ديارهم {وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار} مالت وشَخِصَتْ من الرعب، وقيل: مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحُلُوق من الفَزَع، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف. قال الفراء معناه أنهم جَبنُوا، سبيل الجَبَان إذا اشتد خوفه أن تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبال: انتفخ سحره؛ لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يَسُدَّ مخرج النفس فلا يقدر المرء (أن) يتنفس ويموت من الخوف. {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} وهو اختلاف الظنون، فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم.
فإن قيل: المَصْدَرُ لا يُجْمَعُ فما الفائدة من جمع الظنون؟
فالجواب: لا شك أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدراً كما يقال: «ضَرَبْتُهُ سِيَاطاً» و «أَدَّبْتُهُ مِرَاراً» فكأنه قال: ظَنَنْتُمْ ظَنّاً جاز أن يكون مصيبين فإذا قال: ظُنُوناً بين أن فيهم من كان ظنه كاذباً لأن الظنون قد تكذب كلها، وقد تكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد كما إذا رأى جمع جسماً من بعيد فظنه بعضهم أنه زيدٌ، وآخرونَ أنه عمرو، وآخرون أنه بكرٌ، ثم ظهر لهم الحق قد يكونون(15/512)
كلهم مخطئين والمرئي شجر أو حجر، وقد يكون أحدهم مصيباً ولا يمكن أن يكونوا كلهم مُصِيبِين في ظنونهم، فقوله: «الظُّنون» فادنا ان فيهم من أخطأ الظن، ولو قال: {تظنون بالله ظناً} ما كان يفيد هذا، والألف واللام في «الظنون» يمكن أن تكون للاستغراق مبالغة بمعنى تظنون كل ظن، ولأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئاً، ويمكن أن تكون الألف واللام للعهد أي ظنونهم المعهودة؛ لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله كما قاله عليه (الصلاة و) السلام:
«ظُنُّوا باللَّهِ خَيْراً» ومن الكافر الظن السوء كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} [ص: 27] وقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [الأنعام: 148] .
قوله: «هُنَالِكَ» منصوب «بابْتُلِيَ» . وقيل: «بتَظُنُّونَ» واستضعفه ابن عطية وفيه وجهان:
أحدهما: أنه ظرف مكان بعيد أي في ذلك المكان الدحْضِ وهو الخَنْدق.
والثاني: أنه ظرف زمان، وأنشد بعضهم على ذلك:
4071 - وَإِذَا الأُمُورُ تَعَاظَمَتْ وَتَشَاكَلَتْ ... فَهُنَاكَ يَعْتَرِفُونَ أَيْنَ المَفْزَعُ
«وَزُلْزِلُوا» قرأ العامة بضم الزاي الأولى، (وكسر الثانية على اصل ما لم يسم فاعله، وروى غير واحد عن «أبي عمرو» كسر الأولى) ، وروى الزمخشري عنه إشمامها كسراُ، ووجه هذه القراءة أن يكون أتبع الزاي الأولى للثانية في الكسر ولم يعتد بالساكن لكونه غير حصين كقولهم: مِبين - بكسر الميم - والأصل ضمها.
قوله: «زِلْزَالاً» مصدر مُبَيِّن للنوع بالوصف والعامة على كسر الزاي، وعيسى، والجَحْدَرِيّ فتحاها وهما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على «فعلال»(15/513)
نحو: «زَلْزَال، وقَلقالَ وصَلْصَال، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو: صَلْصَال بمعنى مُصَلْصِلٌ بمعنى» مُزَلْزِل «.
فصل
قال المفسرون: معنى ابتلي المؤمنون اختبر المؤمنون بالحَصْرِ والقتال ليبين المخلص من المنافق، والابتلاء من الله ليس لإبانة الأمر له بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد أظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة عزم على معاقبته على مخالفته، وعنده غير من العبيد أو غيرهم فيأمره بأمر عالماً بأنه مخالف لكي يتبين الأمر عند الغير فيقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنه يظلم، وقوله: {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} أي أزعجوا وحركوا حركة شديدة فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.
ثم قال: {وَإِذْ يَقُولُ المنافقون} معتب بن قُشَيْر، وقيل: عبد الله بن أبي وأصحابه {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك وضعف اعتقاد {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} وهذا تفسير الظنون وبيان لها، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زوراً ووعدهما كان غروراً حيث ظنوا بأن الغلبة واقعة لهم يَعِدُنَا محمدٌ فَتْحَ قُصُرِ الشام وفارسَ وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا والله الغرور.
قوله: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} أي من المنافقين «وهم أوس بن قيظي وأصحابه» {ياأهل يَثْرِبَ} يعني المدينة، قال أبو عبيد (ة) : يَثْرِبُ: اسم أرض ومدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ناحية منها، وفي بعض الأخبار: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن تمسى المدينةُ يَثْرِبَ، وقال: هي طابة» كأنه كره هذه اللفظة، وقال أهل اللغة: يثرب اسم المدينة، وقيل: اسم البقعة التي فيها المدينة، وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن أو للعلمية والتأنيث، وأما(15/514)
يَتْرَب - بالتاء المثناة وفتح الراء فموضع ضع آخر باليمن، قال الشاعر:
4072 - وَعَدْتَ وَكَانَ الخُلْفُ مِنْكَ سَجِيَّةً ... مَواعِيدَ عُزْقُوب أَخَاء بِيَتْرَبِ
وقال:
4073 - وَقَدْ وَعَدْتُكَ مَوْعِداً لوقت ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب
{لاَ مُقَامَ لَكُمْ} قرأ حفصٌ، وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ بضم الميم، ونافعٌ وابنُ عامر بضم ميمة أيضاً في الدخان في قوله: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ} [الدخان: 51] ولم يختلف في الأولى أنه بالفتح وهو «مقام كريم» والباقون بفتح الميم في الموضعين، والضم والفتح مفهومان من سورة مريم عند قوله: {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم: 73] فمعنى الفتح لا مكان لكم تنزلون به وتقيمون فيه. ومعنى الضم لا إقامة لكم فارجعوا إلى منازلكم عن اتباع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وقيل: عن القتال إلى منازلكم. {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي} هم بنو حارثة وبنو سلمة {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي خالية ضائعة، وهي مما يلي العدو ويخشى عليها السُّراق.
قوله: «عَورةٌ» أي ذاتُ عورة، وقيل: منكشفة أي قصيرة الجُدْرَان للسارق وقال الشاعر:
4074 - لَهُ الشِّدَّةُ الأُولَى إِذَا القَرْنُ أَعْوَرَا ...(15/515)
وقرأ ابن عباس وابنَ يَعْمُرَ وقتادةُ وأبو رجاء وأبو حَيْوَة وآخرون: عَورة بكسر الواو وكذلك {وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ} ، وهما اسم فاعل، يقال: عَوِرَ المنزلُ: يَعْوِرُ عَوَراً وعَوِرَة فهو عَوِرٌ، وبيوتٌ عَوِرَةٌ، قال ابن جني: تصحيح الواو شاذ، يعني حيث تحركت وانفتح ما قبلها ولم تقلب ألفاً، وفيه نظر لأن شرط ذاك في الاسم الجاري على الفعل أن يعتل فعله نحومَقَامٍ ومَقَالٍ، وأما هذا ففعله صحيح نحو عَوِرَ، وإنما صح الفعل وإن كان فيه مقتضى الإعلال لِمَدْرَكٍ آخر وهو أنه في معنى ما لا يعلم وهو «أعور» ولذلك لم نتعجب من «عور» وبابه، وأعْوَرَّ المَنْزِلُ: بدت عَوْرَتُهُ، واعورَّ الفارس بدا منه خلله للضَّرْبِ قال الشاعر:
4075 - مَتَى تَلْقَهُمْ لَمْ تَلْقَ فِي البَيْتِ مُعْوَراً ... وَلاَ الصَّيْفَ مَسْجُوراً ولاَ الجَارَ مُرْسَلاً
ثم كذبهم الله تعالى فقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} .
قوله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا} ولو دخل عليهم المدينة أو البيوت يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحواب «مِنْ أقْطَارِهَا» جوانبها. وفيه لغة وتروى: أَفْتَار - بالتاء -. والقُطْرُ: الجانب أيضاً ومنه قَطَرْتُهُ أي أَلْقَيْتُهُ على قطره فَتَقَطَّرَ أي وقع عليه قال:
4076 - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَاراتُها ... مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا
وفي المثل: «الانفِضَاضُ يُقَطِّرُ الجَلَب» تفسيره أن القوم إذا انفضوا أي فني زادهم احتاجوا إلى جَلْب الإِبل، وسمي القَطْرُ قطراً لسقوطه.(15/516)
قوله: «ثُمَّ سُئِلُوا» قرأ مجاهد «سُويِلُوا» بواو ساكنة ثم ياء مكسورة «كقُوتِلُوا» . حتى أبو زيد: هما يَتَسَاوَلاَن بالواو، والحسن: سُولُوا بواو ساكنة فقط فاحتملت وجهين:
أحدهما: أن يكون أصلها: سيلوا كالعامة، ثم خففت الكسرة فسكنت كقولهم في ضَرب - بالكسر - ضرب بالسكون فسكنت الهمزة بعد ضمة فقلبت واواً نحو: بُوسٍ في بُؤْسٍ.
والثاني: أن يكون من لغة الواو، ونقل عن أبي عمرو أنه قرأ سِيلُوا بياء ساكنة بعد كسرة نحو: قِيلوا.
قوله: «لأتَوْهَا» قرأ نافعٌ وابنُ كثير بالقصرب بمعنى لَجَاؤُوهَا وغَشوهَا، والباقون بالمد بمعنى لأعطوها ومفعوله الثاني محذوف تقديره: لآتوها السائلين. والمعنى ولو دخلت البيوت أو المدينة من دميع نواحيها ثم سئل أهلها الفتنة لم يمتنعوا من إعطائها، وقراءة المد يستلزم قراءة القصر من غير عكس بهذا المعنى الخاص.
قوله: «إِلاَّ يَسيراً» أي إلا تَلَبُّثاً أو إلا زماناً يسيراً. وكذلك قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 16 - 18] أي إلا تَمَتُّعاً أو إلا زمانا قليلاً.
فصل
دلت الآية على أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله فقال تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً فليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة وهي الشرك، {مّوَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ} أي ام تلبثوا بالمدينة أو البيوت «إلاَّ يَسِيراً» وأن المؤمنين يُخْرِجُونَهُمْ قاله الحسن، وقيل: ما تلبثوا أي ما احْتَبَسُوا عن الفتنة -(15/517)
وهي الشرك - إلا يسيراً ولأسرعوا للإجابة إلى الشرك طيّبةً به أنفُسُهم وهذا قول أكثر المفسِّرين.
قوله: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ} أي من قبل غزوة الخندق {لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} عدوهم أي لا ينهزمون قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة هموا يوم الخندق أن يَقْتَتِلُوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها، وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة وقالوا لئن أَشْهَدَنَا اللَّهُ قتالاً لَنُقَاتِلَنَّ فساق الله إليهم ذلك وقال مقالت والكلبي:
«هم سبعون رجلاً جاءوا بايعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة العقبة وقالوا اشترط لنفسك ولربك ما شئتَ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا: وإذا فعلنا ذلك (فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قالوا: قد فعلنا فذلك) عهدهم» ، وهذا القول ليس بمَرْضِيٍّ؛ لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين لم يكن فيهم شَاكٌّ ولا مَنْ يقول مثل هذا القول وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يَفِرُّوا فَنَقَضُوا العهد. وهذا بيان لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً ونَدَماً ثم هددهم بقوله: {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً} أي مَسْؤُولاً عنه.
قوله: «لاَ يُوَلُّونَ» جواب لقوله: «عَاهَدُوا» لأنه في معنى: «أقسموا» وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة ولو جاء على حكاية المعنى لقيل: لا يُولِّي، والمفعول الأول محذوف أي يولون العدو الأدبار. وقال أبو البقاء: ويقرأ بالتشديد تشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم. قال شهاب الدين: ولا اظن هذا إلا غلظاً منه وذلك أنه إما أن يُقْرأ مع ذلك بلا النافية أو بلام التأكيد، والأول لا يجوز لأن(15/518)
المضارع المنفي بلا لا يؤكد بالنون إلا ما نَدَرَ مما لا يقاس عليه والثاني فاسد المعنى.
قوله: «إنْ فَرَرْتُمْ» جوابه محذوف لدلالة النفي قبله عليه أو متقدم عند من يرى ذلك.
قوله: {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} إذَنْ جواب وجزاء، ولما وقعت بعد عاطف جاءت على الأكثر وهو عدم إعمالها ولم يشذّ هنا ما شَذَّ في الإسراء، فلم يقرأ بالنصب، والعامة بالخطاب في «تُمَتَّعُونَ» . وقرىء بالغيبة.
فصل
المعنى: «قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَو القَتْلِ} الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أوقتل {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لا تمتعون بعد الفِرار إلا مدة آجالكم وهي قليل. وهذا إشارة إلى ان الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما قدره الله لأنه كائن لا محالة فلو فررتم لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً وهو ما بقي من آجالكم فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً.
قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي} تقدم في البقرة، قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجْرِيَ مُجْرَى قوله:
مُتَقَلِّداً سيفاً وَرُمْحاً ...(15/519)
أو حمل الثاني على الأول لما في العِصْمَةِ من معنى المنع قال أبو حيان: أما الوجه الأول فيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها، والثاني هو الوجه لا سيما إذا قدر مضاف محذوف أي يمنعكم من مُرَادِ الله، قال شهاب الدين: وأين الثاني من الأول ولو كان معه حذف جُمَلٍ.
فصل
المعنى من ذا الذي يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءاً هزيمة أو أراد بكم رحمة نُصْرَةً، وهذا بيان لما تقدم من قوله: {لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار} وقوله: {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} تقرير لقوله: {مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله} أي ليس لكم شفيع أي قريب ينفعكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم.(15/520)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
قوله: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} المثَبِّطين الناس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} ارجعوا إلينا ودعوا محمداً فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك، قال قتادة: هم ناس من المنافقين كانوا يُثَبِّطُونَ أنصار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقولون لإخوانهم: إن محمداً وأصحابه لو كانوا (لحماً لالْتَهَمُهمْ) أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك. وقال مقاتل: نزلت في المنافقين فإنّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين قالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سُفْيَانَ ومَنْ مَعَهُ فإنهم إن قَدِرُوا عليكم في هذه المرة لم يَسْتَبْقُوا منكم أحداً وإنّا نشفق عليكم أنتم إخواننا وجيراننا هَلُمَّ إلينا فأقبل عبد الله بن أبيٍّ وأصحابُه على المؤمنين يُعَوِّقُونَهُمْ ويُخَوِّفُونَهُمْ بأبي سفيان وبمن معه قالوا: لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحداً ما ترجون من محمد، ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا ههُنَا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً.
قوله: «هَلُمَّ» (تقدّم) الكلام فيه آخر الأنعام. وهو هنا لازم، وهناك مُتَعَدٍّ لنصبه مفعوله وهو «شُهَدَاءَكُمْ» بمعنى أَحْضِرُوهُمْ، وههنا بمعنى «احْضَرُوا» وتَعَالوا، وكلام الزمخشري هنا مؤذن بأنه متعد أيضاً وحُذِفَ مفعوله، فإنه قال: «وهَلُمُّوا إِلَيْنَا» أي قربوا أنفسكم إلينا (قال) : «وهي صوت سمي به فعل متعد مثل: احضَر وقَرْبْ» ، وفي تسميته إياه صوتً نظر إذا أسماء الأصوات محصورة ليس هذا منها. ولا يجمع في لغة الحجاز ويجمع في غيرها فيقال للجماعة: هَلُمُّوا وللنساء هَلْمُمْنَ.
قوله: {وَلاَ يَأْتُونَ البأس} الحرب «إِلاَّ قَلِيلاً» رياء وسمعة أي لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال بالقتال وقت الحضور معكم ولو كان ذلك القليل لكان كثيراً.(15/521)
قوله: «أَشِحَّةً» العامة على نصبه وفيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على الشَّتْمِ.
والثاني: على الحال وفي العامل فيه أوجه:
أحدها: «وَلاَ يَأْتُونَ» قاله الزجاج.
الثاني: «هَلُمَّ إِلَيْنَا» . قاله الطبري.
الثالث: «يعوقون» مضمراً، قاله الفراء.
الرابع: «المُعَوِّقِينَ» .
الخامس: «القَائِلِينَ» ورد هذان الوجهان الأخيران بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي، وفي الرد نظر لأن الفصل بين أبعاض الصلة من متعلقاتها، وإنما يظهر الرد على الوجه الرابع لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته فتأمله فإنه حسن وأما «وَلاَ يَأْتُونَ» فمُعْتَرِضٌ والمُعْتَرِضُ لا يمنع من ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة أَشِحَّةٌ بالرفع على خبر ابتداء مضمر أي هم أشحة وأشحة جمع «شَحِيحٍ» وهو جمع لا ينقاس؛ إذ قياس «فَعِيل» الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو خَلِيلٍ وأَخِلاَّء وَظنِينٍ وأَظِنَّاء، وضَنين وأَضِنَّاء، وقد سمع أشِحَّاء وهو القياس.
والشُّحُّ البخل، وقد تقدم في آل عمران.
فصل
المعنى أشحة عليكم بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة، وقال قتادة بخلاء عند الغنيمة وصفهم الله بالبخل والجبن فقال: {فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} في الرؤوس من الخوف والجبن {كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} أي(15/522)
كَدَوَرَانِ عين الذين يغشى عليه من الموت وذلك أن من قَرُبَ من الموت وغَشِيَتْهُ أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرِفُ، واعلم أن البخل شبيه الجبن فلما ذكر البخيل بين سببه وهو الجبن لأن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه، وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعاً فيما هو أضعاف ذلك.
قوله: «يَنْظُرُونَ» في محل (نصب) حال من مفعول «رَأَيْتَهُمْ» لأن الرؤية بصرية.
قوله: «تدور» إما حال تانية وإما حال من «يَنْظُرُونَ» «كالَّذِي يُغْشَى» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون حالاً من: «أَعْنهم» أي تدور أعينهم حال كونها مشبهة عين الذي يغشى عليه من الموت.
الثاني: أنه نعت مصدر مقدر لقوله «ينظرون» تقديره: ينظرون إليك نظراً مثلَ نظرِ الذي يغشى عليه من الموت ويؤيده الآية الأخرى: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} [محمد: 20] المعنى يحسبون أي هؤلاء المانفِقُونَ يحسبون الأحزاب يعني قريشاً وغَطَفَانَ واليهود «لَمْ يذهبُوا» لم ينصرفوا عن قتالهم من غاية الجبنِ عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله: {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً} {وَإِن يَأْتِ الأحزاب} أي يرجعون إليهم للقتال بعد الذهاب {يودوا لو أَنهم بادون في الأعراب} من الخوف والجبن.
(قوله) : «بَادُونَ» هذه قراءة العامة جمع «باد» وهو المُقيم بالبادية يقال: بَدَا يَبْدُوا بداوةً إذا خرج إلى البَادِيةٍ، وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وابنُ يَعْمُرَ بُدَّى -(15/523)
بضم الباء وفتح الدال مشدّدة - مقصوراً كَغَازٍ وغُزّىً، وسَارٍ وسُرّىً. وليس بقياس، وإنما قياسه في بادٍ وبُداةٍ، كقَاضٍ وقُضَاةٍ، ولكن حمل على الصحيح كقولهم: «ضُرَّب» . وروي عن ابن عباس قراءة ثانية بزنة «عُدّىً» وثالثة: «بَدَوا» فعلاً ماضياً.
(قوله) : «يَسْأَلُونَ» يجوز أن يكون مستأنفاً، وإن يكون حالاً من فاعل «يَحْسَبُونَ» والعامة على سكون السين بعدها «همزة» ، ونقل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنقل حركة الهمزة إلى السين كقوله:
{سَلْ
بني
إِسْرَائِيلَ
كَمْ آتَيْنَاهُم} [البقرة: 211] وهذه ليست بالمشهورة عنهما، ولعلها نقلت عنهام ذاشة، وإنا هي معروفة بالحسن والأمش، وقرأ زيدُ بنُ عَلِيٍّ والجَحْدَرِيُّ وقتادةُ والحَسَنُ «يَسَّاءلُونَ» بتشديد السين والأصل «يَتَسَاءَلُونَ» فأدغم، أي يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً.
فصل
{يسألون عن أبنائكم} أخباركم، وما آل إليه أمركم «وَلَوْ كَانُوا» يعني هؤلاء المنافقين {فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلا} . أي يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم فيقولون: قد قَاتَلْنَا، قال الكَلْبَيُّ: «إِلاَّ قَلِيلاً» أي رمياً بالحجارة. وقال مقاتل: إلاَّ رياءً وسُمْعَةٌ من غير احتساب.
(قوله) تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قرأ عاصم: «أُسْوَةٌ» بضم الهمزة حيث وَقَعَتْ هذه اللفظة والباقون بكسرها. وهما لغتان كالغُدْوَةِ والغِدْوَةِ والقُدْوَةِ والقِدْوةِ والأُسْوة بمعنى الاقتداء أي قدوة صالحة، وهي اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ وهو «الايتساء» فالأسوة من الايتساء كالقُدْوَة من الاقْتِدَاء، وائْتَسَى فُلانٌ بِفُلاَنٍ أي اقْتَدَى به، وأسوة اسم «كان» وفي الخبر وجهان:(15/524)
أحدهما: هو «لكم» فيجوز في الجار الآخر وجوه: التعلق بما يتعلق به الخبر، أي بمحذوف على أنه حال من «أُسْوَةٍ» ؛ إذ لو تأخر لكان صفةً أو «بكان» على مذهب من يَرَاهُ.
الثاني: أن الخبر هو: «فِي رَسُولِ اللَّهِ» و «لَكُمْ» على ما تقدم في «رسول الله» أو يتعلق بمحذوف على التبيين أَعْنِي لَكُمْ.
قوله: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو} فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من الكاف في «لَكُمْ» قاله الزمخشري، ومنعه أبو البقاء، وتابعه أبو حيان، قال أبو البقاء: وقيل: هو بدل من ضمير المُخَاطَبِ بإعادة الجارِّ، ومنع منه الأكثرون؛ لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه. وقال أبو حيان: قال الزمخشري بدل من «لكم» كقوله: {استضعفوا لِمَنْ آمَنَ} [الأعراف: 75] . قال: ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ولا من ضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش وأنشد:
4077 - بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأَمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلّيلاً
قال شهاب الدين: لا نسلم أن هذا بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة، بل بدل بعض من كل باعتبار الواقع لأن الخطاب في قوله: «لكُم» أعمّ مِن: «مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وغَيْره» ثم خصص ذلك العموم لأن المتأَسِّيَ به عليه (الصلاة و) السلام في الواقع إنما هو المؤمنون ويدل عليه ما قلته ظاهر تشبيه الزمخشري هذه الآية بآية الأعراف، وآية الأعراف البدل فيها بدل كل من كل ومجابٌ بأنه إنما قصد التشبيه في مجرد إعادة العامل.(15/525)
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة «لحَسَنَةٍ» .
والثالثك أن يتعلق بنفس «حسنة» قالهما أبو البقاء، ومنع أن يتعلق بأسوة قال: لأنها قد وصفت و «كَثِيراً» أي ذِكْراً كَثِيراً.
فصل
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي قدوة صالحة أن تنصروا دين الله وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذا كسرت رُبَاعِيَّتُهُ، وجرح وَجْهُهُ وقتل عمه، وأوذي بَضُروبٍ من الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضاً، واستنوا بسنته {لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} قال ابن عباس لمن كان يرجو ثواب الله. وقال مقاتل: يخشى الله واليوم الآخر أي يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال وذكر الله كثيراً في جميع المواطن على السراء والضراء، ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب} لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب وهو أنهم لما رأوا الأحزاب قالوا تسليماً لأمر الله وتصديقاً بوعده وهو قولهم: {هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} ، وقولهم {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} ليس بإشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع وإنما هو إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا: {هذا مَا وَعَدَنَا الله} وقد وقع صدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} (عند وجوده ووعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} [الآية: 214] إلى قوله: {إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [البقرة: 214] فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء فلما) (رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً) أي تصديقاً لله وتسليماً له.
قوله: {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} من تكرير الظاهر تعظيماً لقوله:(15/526)
4078 - لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ولأنه لو أعادهما مضمرين لجمع بين اسم الباري تعالى واسم رسوله في لفظة واحدة فكان يقال: «وصدقا» ، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد كره ذلك ورد على من قال حيث قال: مَنْ يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فقال له بئس خطيبُ القوم أنتَ قل: ومن يعص الله ورسوله قصداً إلى تعظيم الله. وقيل إنما رد عليه لأنه وقف على «يَعْصِهِمَا» وعلى الأولى استشكل بعضهم قوله: «حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُما» فقد جمع بينهما في ضمير واحد وأجيب: بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعرف بقدر الله منا فليس لنا أن نقول كما يقال.
قوله: «وَمَا زَادهم» فاعل «زادهم» ضمير الوعد أي وما زادهم وعد الله أو الصدق.
وقال مكي ضمير النظر لأن قوله «لما رأى» بمعنى لما نظر. وقال أيضاً: وقيل ضمير الرؤية، وإنما ذكر لان تأنيثها غير حقيقي ولم يذكر غيرهما، وهذا عجيب منه حيث حجَّروا واسعاً مع الغنية عنه. وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع، ويعود للأحزاب لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخبرهم أن الأحزاب يأتيهم بعد عشر أو تسع.
قوله: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} ووفوا به.
قوله: «صدقوا» صدق يتعدى لاثتين لثانيهما بحرف الجر، ويجوز حذفه ومنه المثل: «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرة» أي في سن. والآية يجوز أن تكون من هذا، والأول محذوف أي صدقوا الله فيما عاهدوا الله عليه، ويجوز أن يتعدى لواحد كقولك «صَدَقِنِي(15/527)
زَيْدٌ، وكَذَبَنِي عَمْرٌوا» أي قال لي الصدق وقال الكذب، ويكون المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً كأنهم قالوا للشيء المعاهد عليه لنوفين بك وقد فعلوا و «ما» بمعنى الذي، ولذلك عاد عليها الضمير في «عليه» ، وقال مكي «ما» في موضع نصب «بصدقوا» وهي والفعل مصدر تقديره «صَدَقُوا» العهد أي وفوا به. وهذا يرده عود المضير إلا أن الأخفس وابن السراج يذهبان إلى اسمية «ما» المصدرية.
(قوله) : «قَضَى نَحْبَهُ» النحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به قال:
4079 - عَشِيَّةَ فَرَّ الحَارِثيُّونَ بَعْدَمَا ... قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القَوْمِ هَوْبَرُ
وقال:
4080 - بِطَخْفَةَ جَالَدْنَا المُلُوكَ وَخَيْلُنَا ... عَشِيَّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ
أي على أمر عظيم، ولهذا يقال: نحب فلان أي نذر نذراً التزمه ويعبر به عن الموت كقولهم «قَضَى أجله» لما كان الموت لا بد منه جعل كالشي الملتزم والنجيب البكاء معه صوت.
فصل
قال المفسرون معنى {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} أي وفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله «فَمِنْهُمْ نَحْبَهُ» أي فرغ من نذره ووفاه بعهده فصبر على الجهاد وقاتل حتى قتل(15/528)
والنحيب النذر قال القُرطبي: مَنْ قَضَى نحبه أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه، وقيل: قضى نحبه أي بذل جهده في سبيل الوفاء بالعهد من قول العرب «نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع» إذ مد فلم ينزل {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} الشهادة يعني من بقي من المؤمنين ينتظرون أحد أمرين إما الشهادة أو النصر {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} بخلاف المنافقين فإنهم قالوا: لا نولي الأدبار وبدلوا قولهم وولوا أدبارهم.
قوله: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها لام العلة.
والثاني: أنها لام الصيرورة، وفيما يتعلق به أوجه إما «بصَدَقَوا» وإام «بزَادَهُمْ» وإما بمَا بَدَّلُوا وعلى هذا قال الزمخشري: جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوقٌ إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلها، والمعنى ليجزي الله الصادقين بصدقهم أي جزاء صدقهم وهو الوفاء بالعهد.
{وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ} أي الذين كذبوا وأخلفوا، وقوله: «إنْ شَاءَ» ذلك فيمنعهم من الإيمان أو يتوب عليهم إن أراد ( «واو» ) وجواب إن شاء مقدر وكذلك مفعول «شاء» أي إن شاء تعذيبَهم عَذَّبهم، فإن قيل: عذبهم متحتم فكيف يصح تعليقه على المشيئة وهو قد شاء تعذيبهم إذا ماتوا على النفاق؟! . فأجاب ابن عطية بأن تعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم، والعقوبة موازية لتلك الإقامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان إقامة على نفاق، أو توبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب أو رحمة فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدةً من هاتين وواحدة (من هاتين) ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدل على أن معنى قوله: «ليُعَذِّب» ليديم على النفاق، قَوْلُهُ: «إنْ شَاءَ» ومعادلته بالتوبة وحرف «أو» . قال أبو حيان وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير: ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبَّب وهو التعذيب، وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران،(15/529)
وقال ابن الخطيب إنما قال ذلك حيث لم يكن قد حصل ما بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن إيمانهم وآمن بعد ذلك ناس {وكان الله غفوراً} حيث ستر ذنبهم و «رحيماً» حيث رحمهم ورزقهم الإيمان فيكون هذا فيمن آمن بعده. أو نقول «ويعذب المنافقين» مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنوبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم ثم بين بعض ما جزاهم الله على صدقهم فقال: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ} وهم قريش وغطفان ردّهم بغيظهم لم تُشْفَ صدورهم بنيل ما أرادوا لم ينالوا خيراً «ظفراً» وَكَفَى اللَّهُ المؤمنين القِتَال بالملائكة والريح أي لم يحوجهم إلى القتال {وكان الله قوياً} في ملكه غير محتاج إلى قتالهم «عزيزاً» في انتقامه قادراً على استئصال الكفار.
قوله: «بغَيْظِهِمْ» يجوز أن تكون الباء سببية وهو الذي عبر عنه أبو البقاء بالمفعول أي أنها مُعَدِّية.
والثاني: أن تكون للمصاحبة فتكون حالاً أي مَغِيظِينَ.
قوله: {لم ينالوا خيراً} حال ثانية أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة، ويجوز أن تكون حالً من الضمير المجرور بالإضافة.
وجوز الزمخشري فبها أن تكون بياناً للحال الأولى أي مستأنفة، ولا يظهر البيان إلا على البدل والاستئناف بعيد.
قوله: «وَأَنْزَلَ الذينَ» أي أنزل الله الذين «ظَاهَرُوهُمْ» أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمسلمين وهم بنو قريظة.
قوله: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب} بيان للموصول فيتعلق بمحذوف، (ويجوز أن يكون حالاً) «من صَياصِيهِمْ» متعلق «بأنزل» و «من» لابتداء الغاية، والصياصي جمع صِيصِيَةٍ وهي الحصون والقلاع والمعاقل ويقال لكل ما يمتنع به ويتحصن «(15/530)
صِيصِيَةٌ» ومنه قيل لقَرْن الثَّوْرِ ولشوكة الديك: صِيصِيَة، والصّيَاصِي أيضاً شوك الحكة، ويتخذ من حديد قال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ:
4081 - ... ... ... ... ... ... ... . ... كَوَقْعِ الصَّيَاصِي في النَّسِيجِ المُمَدَّدِ
قوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي.
قوله: «فريقاً تقتلون» منصوب بما بعده وكذلك «فريقاً» منصوب بما قبله، والجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم والعامة على الخطاب في الفعلين، وابن ذكوان - في رواية - بالغيبة فيهما، واليماني بالغيبة في الأول فقط، وأبو حيوة «تَأْسُرُونَ» بضم السين.
فإن قيل: ما فائدة التقديم المفعول في الأول حيث قال: تقتلون وتأخيره حيث قال «وتأسرون فريقاً؟! .
فالجواب: قال ابن الخطيب إن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب والرجال كانوا مشهورين وكان القتل وارداً عليهم والأسراء كانوا هم النساء والذَّرَارِي ولم يكونوا مشهورين ولاسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلَّين ما هو أشهر على الفعل القائم به ومن الفعلين ما هو أشهر قدمه(15/531)
على المحل الخفي ووجه آخر وهو أن قوله» فريقاً تقتلون «فعل ومفعول والأصل في الجمل الفعلية تقديم الفعل على المفعول والفاعل أما أنها جملة فعلية فلأنها لوكانت اسمية لكان الواجب في» فريق «الرفع، كأنه يقول فريق منهم تقتلونهم (فلما نصب كان ذلك بفعل مضمير يفسره الظاهر تقديره:» تقتلون فريقاً تقتلون «) والحامل على مثل هذا الكلام شدة الاهتمام ببيان المفعول، وههنا كذلك لأنه تعالى لما ذكر حال الذين ظاهروهم وأنه قد قذف في قلوبهم الرعب فلو قال: تقتلون أوهم أن يسمع السامع مفعول» تقتلون «" يكون زمان وقد يمنعه مانع فيفوته ولا يعلم أيهم هم المقتولون فأما إذا قال: " فريقا " سبق في قلوبهم الرعب إلى سمعهم فيستمع إلى تمام الكلام، وإذا كان الأول فعلاً ومفعولاً قدم المفعول لفائدة عطف الجملة الثانية عليها على الأصل (فعدم) تقديم الفعل لزوال موجب التقديم إذ عرف حالهم وما يجيء بعده يكون مصروفاً إليهم فلو قال بعد ذلك:» وَفَريقاً تأسرون «فمن سمع» فريقاً «ربما يظن أنه يقال فيهم يطلقون أو لا يقدرون عليهم فكان تقديم الفعل ههنا أولى وكذا الكلام في قوله: {وَأَنزَلَ الذين (ظَاهَرُوهُم) } (ظَاهَرُوهُمْ) وقوله:» قذف «، فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبيل الإنزال ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر قدم الإنزال على قذف الرعب والله أعلم.
فصل
فريقاً تقتلون هم الرجال قيل: كانوا ستمائة، و «تأسرون فريقاً» وهم النساء والذراري، قيل: كانوا سبعمائة وخمسين، وقيل تسعمائة {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا} بعد؛ قال ابن زيد ومقاتل يعني خيبر وقال قتادة. كنا نحدث أنها مكية، وقال الحسن: فارس والروم وقيل: القلاع وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة.
قوله: «لم تَطَئُوها» الجملة صفة «لأرضاً» والعامة على همزة مضومة ثم واو ساكنة، وزيد بن علي «تَطَوْهَا» بواو بعد طاء مفتوحة ووجهها أنها كبدلِ الهمزة ألفاًعلى الإسناد كقوله:(15/532)
4082 - إنَّ الأُسُودَ لَتُهْدَى في مَرَابِضِهَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
فلما أسنده للواء التقى ساكنان محذوف أولهما نحو «لم تَرَوْهَا» وهذا أحسن من أن تقول ثم أجرى الألف المبدلة من الهمزة مجرى الألف المتأصلة فحذفها جزماً لأن الأحسن هناك أن لا يحذف اعتداداً بأصلها، واستشهد بعضهم على الحذف بقول زهير:
4083 - جَرِيء مَتَى يُظْلَمُ يُعَاقَبْ بظُلْمِهِ ... سَرِيعاً وإِلا يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِم
قوله: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} هذا يؤكد قول من قال: إن المراد من قوله {وأرضاً لم تطؤوها} ما يؤخذ بعد من بني قريظة لأن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاء ووعدهم بغيرها دفع استبعاد من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها، روى أبو هريرة - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يقول:» لا إله إلا الله وحده، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحدَه، فلا شيء بعده. «(15/533)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
قوله تعالى: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} الآية وجه التعلق (هو) أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإلى هذا أشار عليه (الصلاة و) السلام بقوله: «الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ» ، فاللَّه (تعالى لما) أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله: {يأيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1] ذكره ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قَدَّمَهُنَّ في النفقة.
فصل
قال المفسرون: سبب نزلو هذه الآية نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (سَأَلْنَهُ) عن عرض الدنيا (شيئاً) وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وآلى أن لا يقربهن شهراً ولا يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نساءه فقال عمر: لأعلَمنَّ لكم شأنه قال: فدخلت على رسوله الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت يا رسول الله: أطلقتهن قال: لا، فقلت: يا رسول الله إني(15/534)
دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال: نعم إنْ شِئْتَ فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نساءه ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التخيير وكانت تحت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يومئذ تسعُ نسوة خمسٌ من قريش عائشةُ بنت أبي بكرن وحفصةُ بنت عمر، وأمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ وأمّ سلمةَ بنت أمية، وسودةُ بنت زَمْعة وغير القرشيات زينب بنتُ جحش الأسدية، وميمونةُ بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حُيَيّ بن أخطب الخَيْبريَّة وجُوَيْرِيةُ بنت الحارث المُصْطَلِقيَّة، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها فقرأ عليها (القرآن) فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة. ورُؤي الفرح في وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتابعنها على ذلك، قال قتادة فلما اخْتَرْن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال: {لاَ تَحِلُّ لَكَ النِّسَاْءُ مِنْ بَعْدُ} . وعن جابر بن عبد الله قال: «دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لواحد منهم قال: فأذن لأبي بكر فدخل ثم اقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جالساً حوله نساؤه واجماً ساكناً قال: فقال: لأقولَنَّ شيئاً أُضْحِكُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فَوَجأْتُ عنقها فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عُنُقَها وقام عمر إلى حفصة يَجَأُ عنقها كلاهما يقول: تسألن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً ثم نزلت هذه الآية: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} قال: فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير أَبَويَّ بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة وسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أنّ الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً»
، ورى
الزهري «(15/535)
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً» قال الزهري: فأخبرني عروة «عن عائشة قالت: فلما مضت تسعٌ وعشرونَ أعُدُّهن دخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت: بدأ بي فقلت: يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن فقال: إن الشهر تسع وعشرون»
فصل
اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا؟ فذهب الحَسَنُ وَقَتَادة وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض للطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة: «لا تعجلي حتى تَسْتَشَيري أبوَيْك» وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور. وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضَ طلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً، واختلف العلماء في حكم التخيير فقال عمر وابن مسعود وابن عباس إذا خير رجلٌ امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة وهو قول عمر بن عبد العزيز وابنُ أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا ان عند أصحاب الرأي تقع طلقةٌ بائنةً إذا اختارت نفسها، وعند الآخرين رجعيةٌ، وقال زيد بن ثابت: إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدةً وإذا اختارت نفسها فثلاثٌ وهو قول الحسن، وروايةً عن مالك.
وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة واحدة وإذا اختارت نفسها فطلقة ثانية، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء لما روت(15/536)
عائشة قالت: «خيرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك شيئاً»
قوله: «أُمَتَّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ» العامة على جزمهما، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مجزوم على جواب الشرط، وما بين الشرط وجوابه معترض، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض ومثله في دخول الفاء قوله:
4084 - وَاعْلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعهُ ... أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا
يريد: واعلم أن سوف يأتي.
والثاني: أن الجواب قوله «فتعالين» و «أمتعكن» جواب لهذا الأمر، وقرأ زيد بن علي «أُمْتِعْكُنَّ» ، بتخفيف التاء من «أمته» وقرأ حُمَيْد الحَزَّاز «أُمَتِّعُكُنَّ وَأُسَرِّحُكُنَّ» بالرفع فيهما على الاستئناف و «سَرَاحاً» قائم مقام التَّسريح.
فصل
قال ابن الخطيب: وههنا مسائل منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) أم لا والجواب أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ للرسالة لأن الله تعالى لما قال (له) : «قل لهم» صار من الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا، والظاهر أنه للوجوب ومنه أن واحدة منهم لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً. والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبيين المختارة نفسها فإنه من جهة النبي عليه السلام لقوله: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} ومنها أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا إنها لا تبين إلا بإبانة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهل كان يجب على النبي عليه (الصلاة و) السلام الطلاق أم لا؟ الظاهر نظراً إلى منصبه عليه (الصلاة و) السلام أنه كان طلاقاً لأن الخُلْفَ في الوعد من النبي غير جائز بخلاص أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد، ومنها أن المطلقة بعد البينونة هل كانت تحرم(15/537)
على غيره أم لا؟ والظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنية ومنها أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي عليه (الصلاة و) السلام طلاقها أم لا؟ الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه السلام على معنى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يمتنع منه أصلاً لا بمعنى أنه لو أتى به لعُوقِب أو لعُوتِبَ.
قوله: {أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ} أي من عمل صالحاً منكن كقوله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ} [لقمان: 22] والأجر العظيم: الكثير الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق حتى لو كان زائداً في الطول يقال له طويل ولو كان زائداً في العرض يقال له: عريض وكذلك العميق فإذا وجدت (منه) الأمور الثلاثة قيل عظيم، فيقال: جبل عظيم إذا كان عالياً ممتداً في الجهات، وإن كان مرتفعاً حيث يقال: جبل عال.
إذا عُرف هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن وجهة قبح لما في مأكوله ومشروبه من الضرر وغيره، وأيضاً فهو غير دائم، وأجر الآخرة كثير خالٍ عن جهات القبح دائم فهو عظيم.
قوله تعالى: {يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ ... } الآية العامة على «يأت» بالياء من تحت حملاً على لفظ «مَنْ» لأن «مَنْ» أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والجمع (و) المذكر والمؤنث، وزيدُ بن علي، والجَحْدَريُّ، ويعقوب بالتاء من فوق حملاً على معناها لأنه يرشح بقوله: «منْكُنَّ» حال من فاعل «يأْتِ» وتقدم القراءة في «مبينة» بالنسبة لكسر الياء وفتحها، في النساء.
قوله: «يضاعف» قرأ عمرو «يَضَعَّف» - بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحة على البناء للمفعول - العذابُ بالرفع لقيامة مقام الفاعل، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يُضَعِّف» - بنون العظمة وتشديد العين مكسورة على البناء للفاعل - العَذَابَ بالنصب على المفعول به وقرأ الباقون «يُضَاعَف» من المفاعلة مبنياً للمفعول العذابُ بالرفع لقيامه مقام الفاعل (وقد) تقدم توجيه التضعيف والمضاعفة في سورة البقرة.(15/538)
فصل
قال ابن عباس المراد هنا بالفاحشة النشوز وسوء الخلق، وقيل: هو كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . واعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما خير نساءه واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن بالتوقي عما يسوء النبي ويقبح بهن من الفاشحة التي هي أصعب على الزوج من كل ما يأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان.
إحدهما: أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك ليذاء قلبه والإزراء بمَنْصِبِه وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي عليه السلام وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي على النبي ويكون ذلك الغير خيراً عندها من النبي وأولى والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين.
وثانيهما: أن هذا إشارة إلى شرفهن، لأن الحرة عذبها ضعف عذاب الأمة إظهاراً لشرفها ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم فكذلك زوجاته اللائي هن أمهات المؤمنين، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأَمَةِ بالسنبة إلى الحرة، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع في بعض الصور جزماً وفي بعض (يقعُ) جزماً، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين، فقوله تعالى: {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ} من القبيل الأولى فإن الأنبياء صار الله زوجاتهم عن الفاحشة ثم قال: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً} أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكنّ شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن فليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم وشفعائهم وإخوانهم.(15/539)
قوله: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ} أي يطع الله ورسوله وهذا بيان لزيادة ثوابهن كما بين زيادة عقابهن {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} في مقابلة قوله: {يضاعف لها العذاب ضعفين} وفيه لطيفة وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر الموفي وهو الله وعند العذاب لم يصرح بالعذاب فقال: «يضاعف» وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم. قوله: {وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ} قرأ الأخوان «ويَعْمَلْ ويُؤْتِ» - بالياء من تحت فيهما، والباقون «وتعمل» بالتاء من فوق و «نُؤْتها» بالنون، فأما الياء في «ويعمل» فلأجل الحمل على لفظ «من» وهو الأصل والتاء من فوق على معناها إذا المراد بها مؤنث ويرشح هذا قتدم لفظ المؤنث وهو «منكنّ» ومثله قوله:
4085 - وإِنَّ مِنَ النِّسْوَانِ مَنْ هِيَ رَوْضَةٌ..... ... ... ... ... ... ... ... .
لما تقدم قوله «من النِّسْوان» يرجع المعنى فحمل عليه، وأما «يؤتها» بالياء من تحت فالضمير لله تعالى لقتدمه في «لله ورسوله» وبالنون فهي نون العظمة، وفيه انتقال من الغيبة إلى التكلم، وقرأ الجَحْدَريُّ ويعقوبُ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر وشيبة: «تَقْنُتْ» بالتاء من فوق حملاً على المعنى وكذلك «وَتَعْمَلْ» . وقال ابو البقاء: إن بعضهم قرأ «وَمَنْ تَقْنُتُ» بالتأنيث حملاً على المعنى وَيَعْمَلْ بالتذكير حملاً على اللفظ قال: فقال بعض النحويين: هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعاً للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن قال تعالى: {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] .(15/540)
فصل
معنى أجْرَهَا مَرَّتَيْن أي مثل أجر غيرها، قال مقاتل: مكان كل حسنةٍ عشرون حسنةً {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} يعني الجنة، ووصف رزق الآخرة بكونه كريماً مع أن الكرم لا يكون وصفاً إلا للرزاق، وذلك إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس، التاجر يسترزق من السوقة، والعاملين والصناع من المتعلمين والملوك من الرعية منهم، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه وإنما هو مستمر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار، وأما في الآخرة فلا يكون له ممسك ومرسل في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق وفي الآخر يوصف بالكريم نفس الرزق.
قوله
: {يانسآء
النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء} قال الزمخشري: «أحد» في الأصل يعني وَحَد وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث، والواحد وما وراءه والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعة النساء (أي) إذا تَقَصَّيْتُ جماعات النساء واحدةً واحداةً لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة. ومنه قوله عَزَّ وَجَلَّ {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} [النساء: 152] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق البين. قال أبو حيان أما قوله: «أحَد» في الأصل بمعنى «وحد» وهو الواحد فصحيح، وأما قوله: وضع إلى قوله وما وراءه. فليس بصحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن «واحد» ينطلق على شيء اتصف بالوحدة «وأَحَداً» المستعمل في النفي العام مختص بمن يعقل، وذكر النحويون أن مادَّته همزةٌ وحاءٌ ودالٌ ومادة «أحد» بمعنى واحد واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولاً، وأما قوله: «لَسْتُنَّ كجماعة واحدة» فقد قلنا إن معناه ليست كل واحدة منكن فهو حكم على كل واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموع، وأما {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} فيحتمل أن يكون الذي يستعلم في النفي العام ولذلك جاء في سياق النفي فعم وصلحت(15/541)
التثنية للعموم، ويحتمل أن يكون «أحدٌ» بمعنى «واحد» وحذفَ معطوفٌ، أي بين أحدٍ وأحدٍ (كما قال:)
4086 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أبُو حَجَرٍ إِلا لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي بين الخير وبيني انتهى، قال شهاب الدين «أما قوله فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فمسَلَّم، ولكن الزمخشري لم يجعل أحداً الذي أصله واحد - بمعنى أحد المختص بالنفي، ولا يمنع أن» أحداً «الذي أصله» واحد «أن يقع في سياق النفي، وإنما الفارق بينهما أن الذي همزته أصل لا يستعمل إلا في النفي كأخواته في غريب، وكَيْتَع ودَابِر، وتامر والذي أصله واحد يجوز أن يستعمل إثباتاً ونفياً وأيضاً المختص بالنفي مختص بالعقلاء، وهذا لا يختص، وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري من الحكم على المجموع ولكن المعنى على ما قاله أبو حيان أوضح وإن كان خلاف الظاهر» .
قوله: «إن اتَّقَيْتُنَّ» في جوابه وجهان:
أحدهما: أنه محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي إِن اتَّقَيْتُنَّ اللَّهُ فَلَسْتُنَّ كَأَحدٍ، فالشرط قيد في نفي أن يشبَّهْنَ بأحد من النساء.
والثاني: أن جوابه قوله «فَلاَ تَخْضَعْنَ» والتقوى على بابها، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون «اتَّقَى» بمعنى اسْتَقْبَلَ أي استقبلتن أحداً فلا تُلِنَّ له القول، واتَّقَى بمعنى استقبل معروف في اللغة، وأنشد:(15/542)
4087 - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِد إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتُنَا بِاليَدِ
أي واستقبلتنا باليد قال: «ويكون على هذا المعنى أبلغ من مدحهن؛ إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ولا على نهيه عن الخضوع بها إذْ هنّ متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى، قال شهاب الدين: هذا خروج عن الظاهر من غير ضرورة وأما البيت فالاتِّقاءُ أيضاًعلى بابه أي صانت وجهها بيدها عنا.
قوله:» فَيَطْمَعَ «العامة على نصبه جواباً للنهي، والأعرج بالجزم فيكسر العين لالتقاء الساكنين وروي عنه وعن أبي السَّمَّال وعيسى بن عمر وابن مُحَيْصِن بفتح الياء وكسر الميم، وهذا شاذ حيث توافق الماضي والمضارع في حركة. وروى عن الأعرض أيضاً أنه قرأ بضم الياء وكسر الميم من» أَطْمَع «وهي تحتمل وجهين:
أحدهما» أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً عائداً ععلى الخضوع المفهوم من الفعل و «الذي» مفعوله أي لا تخضعن فيطمع الخضُوع المريضَ القلبِ، ويحتمل أن يكون «الذي» فاعلاً، ومفعوله محذوف أي فيطمع المريض نفسه.
فصل
قال ابن عباس: معنى لسْتُنَّ كأحد من السناء يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات أنتن أكرم عليّ، وثوابكن أعظم لَدَيَّ، ولم يقل كواحد لأن الأحد عام يصلح للواحد، والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، قال تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285} وقال: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] وقوله: «إِنْ اتَّقَيْتُنَّ» الله فأطعتنّه ولما منعهن من الفعل القبيح منعهن من مقدماته وفي(15/543)
المحادثة مع الرجال فقال: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} أي تُلِنَّ القولَ للرجال، ولا ترفضن الكلام {فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي فسق وفجور وشهوة، وقيل: نِفاق أي لا تقولن قولاً يجدُ منافقٌ أو فاجرٌ به سبيلاً إلى المطامع فيكُنَّ والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} أي ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح أو بيان من غير خضوع.
قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} قرأ نافعٌ وعاصمٌ بفتح القاف والباقون بكسرها، فأما الفتح فمن وجهين:
أحدهما: أنه أمر من قَرِرْتُ - بكسر الراء الأولى - في المكان أَقَرُّ به - بالفتح - فاجتمع راءان في: «اقرَرْنَ» فحذفت الثانية تخفيفاً، ونقلت حركة الراء الأولى إلى القاف فحذفت همزة الوصل استغناء عنها فصار «قَرْنَ» على وزن «فَعْنَ» فإن المحذوف هو اللام لأنه حصل أخرى ساكنة فحذفت الأولى لالتقاء الساكنين، ووزنه على هذا «فَلْنَ» فإن المحذوف هو العين، وقال أبو علي: أبدلتِ الراءُ الأولى ياءً ونقلت حركتها إلى القاف، فالتقى ساكنان فحذفت الياء لالتقائهما، فهذه ثلاثة أوجه في توجيه أنها أمر من «قَررتُ بالمكانِ» .
والوجه الثاني: أنها أمر من «قَارَ - يَقَارُ -» كخَافَ يَخَافُ إذا اجتمع، ومنه «القَارَةُ» لاجتماعها، فحذفت العين لالتقاء الساكنين، فقيل: «قِرْنَ» «كخِفْنَ» ووزنه على على هذا أيضاً: فلْنَ، إلا أن بعضهم تكلم في هذه القراءة من وجهين:(15/544)
أحدهما: قال أبو حاتم يقال: قَرَرْتُ بالمَكانِ - بالتفح - أَقِرُّ به - بالكسر - وقِرَّت عَيْنُهُ - بالكسر - تَقَرُّ - بالفتح - فكيف تقرأ وقرن بالفتح؟! والجواب عن هذا أنه قد سمع في كل منهما الفتح والسكر، حكاه أبو عبيد، وتقدم ذلك في سورة مَرْيَمَ.
الثاني: سلمنا أنه يقال قَرِرْتُ بالمكان - بالكسر - أَقَرُّ به - بالفتح - وأن الأمر اقْرَرْنَ إلا أنه لا مسوغ للحذف، لأن الفتحة خفيفة، ولا يجوز قياسه على قولهم «ظلت» في «ظللت» قال تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] و {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} [طه: 97] وبابه، لأن هناك شيئين ثقيلين التضعيف والكسرة (فحسن الحذف وأما هنا فالتضعيف فقط) ، والجواب أن المقتضي للحذف إنما هو التكرار ويؤيد هذا أنهم لم يحذفوا مع التكرار ووجود الضمة وإن كان أثقل نحو «اغضضن أبْصَارَكُنَّ» وكان أولى بالحذف فيقال: غَضْنَ لكن السماع خلافه قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] على أن ابن مالك قال: إنه يحذف في هذا بطريق الأولى. أو نقول: إن هذه القراءة إنما هي من «قَارَ - يَقَارُ» بمعنى اجتمع وهو وجه حسن بريء من التكلف فيندفع اعتراض أبي حاتم وغيره لولا أن المعنى على الأمر بالاستقرار لا بالاجتماع. وأما الكسر فمن وجهين أيضاً:
أحدهما: أنه أمر من قَرَّ في المكان - بالفتح - في الماضي والكسر في المضارع، وهي اللغة الفصيحة، ويجيء فهيا التوجيهات الثلاث المذكورة أولاً، أما حذف الراء الثانية أو الأولى أو إبدالُها ياءً وحذفها كما قاله الفارسيّ، ولا اعتراض على هذه القراءة لمجيئها على مشهور اللغة، فيندفع اعتراض أبي حاتم، ولأن الكسر ثقيل فيندفع الاعتراض الثاني ومعناها مطابق لما يراد بها من الثبوت والاستقرار.
الوجه الثانيك أنها أمر من «وَقَرَ» أي ثبت واستقر ومنه «الوَقَار» وأصله اوْقِرْنَ فحذفت الفاء - وهو الواو - واستغني عن همزة الوصل فبقي «قِرْنَ» ، وهذا كالأمر من(15/545)
وعد سواء، ووزنه على هذا «عِلْنَ» ، قال البغوي: الأصح أنه أمر من «الوقار» قولك من الوعد «عِدْنَا» ، ومن الوصل «صِلْنَا» .
وهذه الأوجه المذكورة إنما يهتدي إليها من مَرِنَ في علم التصريف وإلا ضاق به ذَرْعاً.
قوله: «تَبَرُّجَ الجَاهِلِيةِ» مصدر تشبيهيّ أي مثل تبرج والتبرج الظهور من البُرْجِ لظهوره، وقد تقدم، وقرأ البزِّيُّ: «ولا تبرجن» بإدغام التاء في التاء، والباقون بحذف إحداهما وتقدم تحقيقه في البقرة في: «وَلاَ تَيَمَّمُوا» .
فصل
قال المفسرون وقرن أي الزمْنَ بيوتكنّ من قولهم: قررت بالمكان أقر قراراً يقال: قررت: أقر وقررت: أقر، وهما لغتان، لإن كان من الوقار أي كن أهل وقار وسكون من قولهم: وَقَر فُلان يَقِر وُقُوراً إذا سكن واطمأن، و «لا تبرجن» قال مجاهد وقتادة التبرج هو التكسر والتغنج، وقال ابن أبي نُجَيح: وهو التبختر، وقيل: هو إظهار الزينة، وإبراز المحاسن لرجال «تَبَرُّجَ الجَاهِلية الأولى» قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال أبو العالية: هي بين داود وسليمان - عليهما السلام -، وكانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين فيرى حلقها فيه، وقال الكلبي: كان ذلك في زمن نمروذ، وكانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه، وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال، وروى عِكْرَمةُ عن ابن عباس أنه قال: الجاهلية الأولى أي فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر(15/546)
نفسه منه فكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع مثله فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون إليه واتخذه عيداً يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن، وإن رجلاً من أهل الخيل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فذلك قوله: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} ، وقيل: الجاهلية الأولى ما ذكرنا والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان، وقيل: قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى} [النجم: 50] ولم يكن لها أخرى.
قوله: {وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ} يعني ليس التكليف في النهي وحده حتى يحصل بقوله: {وَلاَ تَخْضَعْنَ. وَلاَ تَبَرَّجْنَ} بل في النهي وفي الأوامر فأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله فيما أمر به، ونهى عنه {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس} قال مقاتل: الرجس: الإثم الذي نهى الله النساء عنه، وقال ابن عباس يعني عمل الشياطين وما ليس لله فيه رضا.
وقال قتادةُ يعني السوء، وقال مجاهد: الرِّجْس: الشَّكُّ.
قوله: «أَهْلَ البَيْتِ» فيه أوجه: النداء والاختصاص، إلا أنه في المخاطب أقل منه في المتكلم وسمع «بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الفَضْلَ» ، والأكثر إنما هو في التكلم كقولها:
4088 - نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمارِقْ(15/547)
(وقوله:)
4089 - نَحْنُ - بَنِي ضَبَّة - أَصْحَابُ الجَمَلْ ... المَوْتُ أَحْلَى عِنْدَنَا مِنَ العَسَلْ
(و) «نَحْنُ العَرَبَ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ» (و) : «نَحْنَ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورثُ» أو على المدح أي أمدحُ أهلَ البيت، واختلف في أهل البيت، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنهن في بيته، وتلا قوله: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله} وهو قول عكرمة ومقاتل. وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة غيرهم إلى أنهم عليّ، وفاطمة، والحسن والحسين، لما روت عائشة قالت: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذات غَداةٍ وعليه مرط مرجَّل من شعر أسود فجلست فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء حسين فأدخله فيه، ثم قال:» إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «
وروت أم سلمة قالت:» في بيت أنزل: إنَّما يريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ قال: فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى فاطمة وعلي والحسين والحسن فقال: هؤلاء أهل بيتي. فقلت: يا رسول الله أما أنا من أهل البيت قال: بلى إن شاء الله، وقال(15/548)
زيد بن أرقم: أهل بيته من حرم الصدقة بعده، آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال ابن الخطيب: والأولى أن يقال: هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين، وعليّ منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي عليه (الصلاة و) السلام وملازمته له «
قوله: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله} يعني القرآن والحكمة، قال قتادة يعني السنة، وقال مقاتل: أحكام القرآن ومواعظه، و {من آيات الله} بيان للموصول فيتعلق» بأعني «ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً} بأوليائه» خَبِيراً «بجميع خلقه.
قوله: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} قال مقاتل: قالت أم سلمة بنت أبي أمية، ونسية بنت كعب الأنصارية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نَخْشَى أن لا يكون فيهن خير فنزلت فيهن هذه الآية، ويروى أن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قلن: يا رسول الله ذكر الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة، فأنزل الله هذه الآية، ورُوِيَ
«أن أسماء بنت عميسٍ رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن قلن: لا فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: يا رسول الله إن السناء لفي خيبة وخسارة، قال وممَّ ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال» فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين} المطيعين «والقَانِتَاتِ والصَّادِقينَ» في إيمانهم، وفيما سرهم وساءهم {والصَّادِقَاتِ والصَّابِرِينَ «على أمر الله» والصَّابِرَاتِ والخَاشِعِينَ «(15/549)
المتواضعين» والخَاشِعَاتِ «. وقيل: أراد به الخشوع في الصلاة ومن الخشوع أن لا يلتفت» والمُتَصَدِّقينَ «مما رزقهم الله {والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ} عما لا يحِل» والحَافِظَاتِ «. وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه والتقدير: والحَافِظَاتِها وكذلك: والذاكرات، وحسن الحذف رُؤُوس الفواصل {والذاكرين لله كثيراً والذاكرات} ، قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وروي» أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال سبق المفردون، قالوا: وما المفردُونَ؟
قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات «قال عطاء بن أبي رباح من فوض أمره إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فهو داخل في قوله: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} ومن أقر بأن الله ربه، ومحمداً رسوله، ولم يخالف قلبُه لسانه فهو داخل في قوله:» والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ «ومن أطاع الله في الفرض، والرسول في السنة فهو داخل في قوله:» والقَانِتِينَ والقَانِتَاتِ «ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله:» والصَّادِقِينَ والصَّادِقَاتِ «ومن صَبَرَ على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله:» والصابرين والصابرات «ومن صلى ولم يعرف من يمينه عن يساره فهو داخل في قوله:» والخَاشِعِينَ والخَاشِعَاتِ «ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله:» والمُتَصَدِّقِينَ والمُتَصَدِّقَاتِ «، ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالثَ عَشَر، والخَامِسَ عَشَر فهو داخل في قوله:» والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ «ز ومن حفظ فرجه فهو داخل في قوله» والحَافِظِينَ فُرُوجهُمُ والحَافِظَاتِ «ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} وغلب المذكرعلى المؤنث في» لهم «ولم يقل:» لهن « (لشرفهم) .
قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} نزلت الآية في زينبَ بنت جحش الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اشترى زيداً في الجاهلية بعُكَاظَ، فأعتقه وتبناه، فلما خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اشترى زيدا في الجاهلية بعكاظ، فأعتقه وتبناه، فلما خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب رضيت وظنت أنه يخاطبها لنفسه فلام علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقال: أنا ابن عمتك يا رسول الله فلا(15/550)
أرضاه لنفسي وكانت بيضاءَ جميلةً فيها حدة وكذلك كره أخوها ذلك فانزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} يعني عبد الله بن جحش وأخته زينت {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً} وهو نكاح زيدٍ لزينبَ {أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} . والخيرة الاختيار أي يريد غير ما أراد الله ويمتنع مما أمرالله ورسوله.
قوله: {أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة} أن يكون «هو اسم كان، والخبر الجار متقدم وقوله: {إِذَا قَضَى الله} يجوز أن يكون محْض ظرف معموله الاستقرار الذي تعلق به الخبر، أي وما كان مستقراً لمؤمن ولا مؤمنةٍ وقت قضاء الله كَوْنُ خيرة وأن تكون شرطية ويكون جوابها مقدراً مدلولاً عليه بالنفي المتقدم. وقرأ الكوفيون وهِشَامٌ» يكون «- بالياء من أسفل؛ لأن» الخِيرَةَ «مجازيُّ التأنيث، وللفصل أيضاً، والباقون بالتاء من فوق مراعاةً للفظها، وقد تقدم أن» الخِيَرَةَ «مصدر» تَخَيَّرَ «» كالطَّيرِةِ «من» تَطَيَّرَ «، ونقل عيسى بن سُلَيْمَانَ أنه قرىء الخِيرَة - بسكون الياء - و» مِنْ أَمْرِهِمْ «حال من الخيرة، وقيل:» من «بمعنى» في «وجمع الضمير في» أمرهم «وما بعده لأن المراد بالمؤمن والمؤمنة الجنس. وغلب المذكر على المؤنث، وقال الزمخشري:» كان من حق الضمير أن يُوَحَّدَ كما تقول: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ وَلا امْرَأَةٍ إلاَّ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا «قال أبو حيان:» وليس بصحيح؛ لأن العطف بالواو، فلا يجوز ذلك إلا بتأويل الحذف «.
قوله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} أخْطَأَ خَطَأً ظَاهِراً. فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إليها عَشْرَةَ دَنَانِيرٍ وستِّينَ دِرْهَماً وخِماراً ودِرْعاً وَإِزَاراً وملْحَفَةً وخَمْسِينَ مُدّاً مِن الطَّعَامِ وثلاثينَ صاعاً من تَمْرٍ.(15/551)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
قوله: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} وهو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإِسلام «وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ» بالتحرير والإِعتاق.
قوله: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ» نص بعض النحويين على أن «على» في مثل هذا التركيب اسم قال: لئلا يتعدى فعل المضمر المتصل إلى ضمير المتصل في غير باب «ظَنَّ» وفي لفظتي: فَقَدَ وعَدِمَ وجعل من ذلك:
4090 - هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الأُمُ ... ورَ بِكَفِّ الإِلَهِ مَقَادِيرُهَا
وكذلك حكم على «عن» في قوله:
4091 -[ف] دَعْ عَنْكَ نَهبْاً صِيحَ في حجَرَاتِهِ ...(15/552)
وقد تقدم ذلك مُشْبَعاً في النَّحل في قوله: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} ، وفي قوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25] (وقوله) : {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] .
قوله: «وَتُخْفِي» فيه أوجه:
أحدها: أنه معطوف على «تقول» أي وإِذْ تَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِكَ كَذَا وإِخْفَاءِ كَذَا وخَشْيَةِ الناس قاله الزمخشري.
الثاني: أنها واو الحال أي تقول كذا في هذه الحالة، قاله الزمخشري أيضاً، وفيه نظر حيث إنه مضارع مثبت فكيف تباشره الواو؟ وتخريجه «قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ» أعني على إضمار مبتدأ.
الثالث: أنه مستأنف قاله الحوفي، وقوله: {والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} تقدم مثله في بَرَاءَةَ.
فصل
قال المفسرون إن الآية نزلت في زَيْنَبَ بنتِ جَحْش، وذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما زوج» زينب «من» زَيْد «مكثَتْ عنده حيناً ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتى زيداً ذات يوم لحاجة فأبصر زينب قائمة في دِرْع وخِمَار، وكانت بيضاء وجميلة ذات خُلُق من أتمِّ نساء قريش فوقعت في نفسه، وأعجبه حسنها فقال: سبحان الله مقلِّبَ القلوب وانصرف فلما جاء زيد ذكرت ذلك له، ففطن زيد فألقي في نفس زيد كراهتها في الوقت فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: إن أريدُ أن أفارق صاحبتي قال: ما لك أَرَابَكَ منها شيء قال: لاَ واللَّهِ يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً، ولكنها تتعظم عَلَيَّ لشرفها وتؤذيني بلسانها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوجَكَ يعني زينب بنت جحش واتَّقِ اللَّهِ في أمرها ثم طلَّقَها زيدٌ» ، فذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق وهو زيد بن حارثة {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله} فيها ولا تفارقها {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} أي تُسرُّ في نفسك ما الله مظهره أي كان في قلبه لو فارقها تزوجها. وقال ابن عباس: حبها، وقال قتادة: وَدَّ أنه لو طلقها «وَتَخْشَى النَّاسَ» قال ابنُ عباس والحسن: تستحييهم، وقيل: تخاف لائمةَ الناس أن يقولوا(15/553)
أمرَ رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها، {والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} .
قال عمر وابن مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آية هي أشد عليه من هذه (الآية) . وروي عن مسروق قال: قالت عائشة: لو كتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيئاً مِمَّا أوحي إليه لكتم هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} وروي عن سفيانَ بْن عُيَيْنَةَ عن عليِّ بن جُدْعَانَ قالك سألني عليّ بن الحُسَيْنِ زَيْنُ العابدين ما يقول الحَسَنُ في قوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} قال: قلت: (تقول) : «لَمَّا جاء زيد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال له: يا نبي إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك قال: أمسك عليك زوجك واتق الله» فقال علي بن الحسين ليس كذلك كان الله قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها فلما جاء زيد قال: أريد أن أطلقها قال له: أمْسِكْ عليك زوجك فعاتبه الله وقال: لِمَ قُلْتَ: أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى ولأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال: «زَوَّجْنَاكَهَا» فلو كان الذي أضمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أنه يخبر أنه يُظْهِرُه ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه لا يجوز أن يخبر أنه يُظْهِرُهُ ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد: إن الذي تحتك في نِكَاحِكَ ستكون امرأتي وهذا حسن وإن كان الآخرَ وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم؛ لأن الوُدَّ ومَيْلَ النفس من طبع البشر، وقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله} أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله: {والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه (الصلاة و) السلام قد قال: «أَنَّا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ» ولكن المعنى الله أحَقُّ أنْ تَخْشَاهُ وَحْدَهُ، ولا تخشى أحداً معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً، فلام ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله احق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء.
قوله: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} ، «وطراً» مفعول «قضى» ، والوَطَرُ الشهوة والمحبة قاله المبرد وأنشد:(15/554)
4092 - وَكَيْفَ ثَوَائِي بالمَدِينَةِ بَعْدمَا ... قَضَى وَطَراً مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ معْمَرِ
وقال أبو عبيدة: الوَطَرُ: الأَرَبُ والحَاجَةُ، وأنشد الربيعُ بن ضبع الفزَارِيُّ.
4093 - وَدَّعَنَا قَبْلَ أن نُوَدِّعَهُ ... لَمَّا قَضَى مِنْ شَبَابِنَا وَطَرَا
وقرأ العامة: «زَوَّجْنَاكَهَا» ، وقرأ علي وابناه الحَسَنَان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وأرضاهم - «زَوَّجْتُكَهَا» ، بتاء المتكلم و «لِكَيْلأاَ» متعلق «بزوجناكها» . وهي هنا ناصبة فقط لدخول الجار عليها، واتصل الضميران بالفعل، لاختلافهما رتبةً.
فصل
المعنى فلما قصى زيد منها حاجة من نكاحها زوجناكها، وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنَّى تَحِلُّ بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها؛ لان الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن عنها، وكذلك إذا كانت في العدة لها بها تعلق لأجل شُغْلٍ الرحم فلم يقض منها بعد وطر، فإذا طلقت وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فقضى منها الوطر. قال أنس: كانت زينب تَفْتَخِرُ على أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَوَّجَكثنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْق سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وقال الشعبيُّ: كانت زينب تقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِني لأُدِلُّ عَلَيْك بثلاث ما من نسائك امرأة تُدِلُّ بهن، جَدِّي وَجدُّك واحد، وإني أَنْكَحنِيكَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وإنَّ السفيرَ لِجِبْرِيل.
قوله: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ} إثم {} فالأدعياء جمع أَدءعَى وهو المتبنَّى بخلاف امرأة ابن الصلب لا تحِل للأب {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} أي قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً، وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(15/555)
قوله: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} أي فيما أحل الله له.
قوله: «سُنَّةَ اللَّهِ» منصوب على المصدر ك {صُنْعَ الله} [النمل: 88] و {وَعْدُ الله} [الزمر: 20] أو اسم وضع موضع المصدر أو منصوب «بِجَعَلَ» أبو بالإِغراء أي فعليه سنة الله، قاله ابن عطية ورده أبو حيان بأن عامل الإغراء لا يحذف، وبأن فيه غغراء الغائب وما ورد منه مؤول على نُدُوره نحو: «عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَني» . قال شهاب الدين: وقد ورد قوله عليه السلام: «وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ» فقيل: هو إغراء، وقيل: ليس به وإنما هو مبتدأ وخبر، والباء زائدة في المبتدأ وهو تخريج فاسد المعنى، لأن الصوم ليس واجباً على ذلك. وقال البغوي: نصب بنزع الخافض أي كَسُنَّةِ اللَّهِ.
فصل
المراد بسنة الله في الذين خلوا من قبل أي في الأنبياء الماضين أن لا يؤاخذهم بما أحل لهمن قال الكلبي ومقاتل: أراد داود حين جمع بينه وبين المرأة التي هَوِيَهَا فكذلك جمع بين محمد وبين زينب، وقيل أراد بالسنة النكاح، فإنه من سنة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} ، وقول ثانياً: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} لطيفة وهي أن الله تعالى لما قال: «زَوَّجْنَاكَهَا» قال: {وكان أمر الله مفعولاً} ، أي تزويجنا زينت إياك كان مقصوداً مَقْضِيّاً مُرَاعىً، ولما قال: {وكان أمر الله قدراً مقدوراً} أشار إلى قصة داود حين افتتن بامرأة «أوريا» قال: {وكان أمر الله قدراً مقدوراً} أي كان ذلك حكماً تبعياً.
قوله: «الذين يبلّغون» يجوز أن يكون تابعاً «لِلَّذِينَ خَلَوا» وأن يكون مقطوعاً عنه رفعاً ونصباً على إضمار: «هم» أو أعْنِي، أو أمْدَحُ.(15/556)
فصل
المعنى إنَّ الذين يبلغون رسالات الله كانوا أيضاً رُسُلاً مِثْلَكَ، ثم ذكر حالهم بأنهم جرّبوا الخشية ووجدوها فيخشون الله ولا يخشون أحداً سواه فصار كقوله: «فَبِهُدَاهُم اقْتَدِه» ولا يخسى قَالة الناس فإنهم ليسوا بمهتمين فيما أحل الله لهم وفرض عليهم، {وكفى بالله حَسِيباً} حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبتهم فلا يُخْشَى غَيْرُهُ.
قوله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} لما تزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زينب قال الناس: إن محمداً تزوج امرأة انبه فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} يعني زيد بن حارثة أي ليس أبا أاحد من رجالكمالذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها. فإن قيل: أليس أنه كان له أبناء القاسمُ والمطهرُ، وإبراهيم، والطَّيِّبُ، وكذلك الحَسَنُ، الحُسَيْنُ، قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «إن ابني هذا سيد
؟» فالجواب: هؤلاء كانوا صغاراً ولم يكونوا رجالاً، والصحيح أنه أراد أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم الذي لم يلده.
قوله: {ولكن رَّسُولَ الله} العامة على تخفيف «لكن» ونصب «رسول» ، ونصبه إما على إضمار «كَانَ» لدلالة «كان» السابقة عليها، أي ولكن كَانَ، وإما بالعطف على «أَبَا أَحَدٍ» : والأول أليق؛ لأن «لكن» ليست عاطفة لأجل الواو، فالأليق بها أن تدخل على الجمل «كبل» التي ليست عاطفة. وقرأ أَبُو عَمْروٍ - في رواية - بتشديدها، على أن «رسول الله» اسمها وخبرها محذوف للدلالة، أي ولكن رسول الله هُوَ أي محمد، وحذف خبرها سائغ وأنشد:
4094 - فَلَوْ كُنْتَ ضبّيّاً عَرَفْتَ قَرَابَتِي ... وَلَكِنَّ زِنْجِيّاً عَظِيمَ المَشَافِرِ(15/557)
أي أنت، وهذا البيت يروونه أيضاً «ولكن زِنْجِيٌّ» بالرفع، شاهداً على حذف امسها، أي «ولكنك» .
وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع «رسول» على الابتداء، والخبر مقدر أي هو، أو بالعكس أي ولكن هُوَ رَسُولُ كقوله:
4094 - وَلَسْت الشَّاعِرَ السِّفْسَافَ فِيهِمْ ... وَلَكن مِدْرَهَ الحَرْبِ العَوَانِ
أي ولكن أنا مدره.
قوله: «وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» قرأ عاصم بفتح التاء والباقون بسكرهان فالفتح اسم للآلة التي يختم بها كالطَّابَع والقَالَب، لما يطبع به، ويقلب فيه هذا هو المشهور، وذكر أبو البقاء فيه أَوْجُهاً أُخَرَ منها أنه في معنى المصدر قال: كذا ذكر في بعض الأعاريب، قال شهاب الدين: وهو لغط محض كيف وهو مُحْوِجٌ إلى تَجَوُّزٍ أو إضْمار، ولو حكى هذا في خَاتِم - بالكسر - لكان أقرب، لن قد يجيء المصدر على فاعل وفاعلة وسيأتي ذلك قريباً، ومنها أنه اسم بمعنى «آخَرَ» ومنها أنه فعل ماض مثل «قَاتَل» فيكون «النَّبِيِّينَ» مفعولاً به، قال شهاب الدين: ويؤيد هذا قراءة عبد الله المتقدمة. وقال بعضهم هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه قد ختم النبيين فهو خَاتم.
فصل
قال ابن عباس: يريد لو لم أَختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون من بعده نبيّاً، وروى عطاء عن ابن عباس: أن الله تعالى لما حكم أنه لا نبي بعده لم يُعْطِهِ ولداً ذكراً(15/558)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
يصير رَجُلاً، وقيل: من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره. {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما} أي علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده، فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد عليه (الصلاة و) السلام أن زوجه بزوجة دعيِّه تكميلاً للشرع، وذلك من حيث إنَّ قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يفيد شرعاً لكن إذا امتنع هو عنه يفيد في بعض النفوس نُفْرة، ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حِلّ أكل الضَّبِّ، ثم لما لم يأكله بَقِيَ في النفوس شيء، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله، مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب، روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «مَثَلِي ومَثَلُ الأنبياء كَمَثَلِ قَصْرِ أُحْكِمَ بُنْيَانُهُ تُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهِ النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بِنَائِهِ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ لاَ يُجِيبُونَ سِوَاهَا فَكُنْت أنَا مَوْضِع تِلْكَ اللَّبِنَةِ خُتِمَ بِهِ البُنْيَانُ، وَخُتِمَ بِي الرُّشْدُ» ، وقال - عليه (الصلاة و) السلام: «إنَّ لِي أسْمَاءَ أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الماحِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى قَدَمِيَ وأَنَا العَاقِبُ» والعاقِبُ الذَّي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ.
قوله
: {يا
أيها
الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} قال ابن عباس: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل حدّاً معلوماً ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه لم(15/559)
يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أهله في تركه إلا مغلوباً على عقله وأمرهم به في الأحوال كلها، فقال: {فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] وقال: {اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} أي بالليل والنهار، والبرِّ والبحر والصحة والسِّقَم في السر والعلانية وقال مجاهد: الذكر الكثير أن لا ينساه أبداً {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي صلوا له بكرة يعني صلاة الصبح و «أصيلاً» يعني صلاة العصر، وقال الكلبي: «وأصيلاً» صلاة الظهر والعصر والعشاء، وقال مجاهد معناه: قولوا: سبحانَ اللَّهِ والحمدُ لله ولا إله إلا الله واللَّه أكبر ولا حَوْلَ ولا قوة إلى بالله فعبر بالتسبيح عن أخواته، وقيل: المراد من قوله: «ذكْراً كَثيراً» هذه الكلمات يقولها الطاهرُ والخبيثُ والمحدث.
قوله: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر والتسبيح، قال السدي: قالت بنو إسرائيل لموسى: أيصلي ربنا؟ فكَبُرَ هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه قل لهم: إنِّي أصلي وإن صلاتي رحمتي وقد وسعت رحمتي كُلَّ شيء. وقيل: الصلاة من الله هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده، وقيل: الثناء عليه. قال أنس: لما نزلت إن الله وملائكته يصلون على النبي قال أبو بكر: ما خَصَّك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية.
قوله: «ومَلاَئِكَتُهُ» إما عطف على فاعل «يصلي» ، وأغنى الفصل بالجار عن التأكيد بالضمير، وهذا عند من يرى الاشتراك أو القدر المشترك أو المجاز؛ لأن صلاة الله غير صلاتهم. وإما مبتدأ وخبره محذوف، أي «وملائكته يصلون» وهذا عند من يرى شيئاً مما تقدم جائزاً إلا أن فيه بحثاً، وهو أنهم نصوا على أنه إذا اختلف مدلولاً الخبرين فلا يجوز حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه وإن كانا بلفظ واحد، فلا تقول: «زَيْدٌ ضَاربٌ وَعَمرٌو» يعني وعمرو ضاربٌ في الأرضِ أي مُسِافِرٌ.(15/560)
فصل
الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، فقيل: إن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مَعْنَيَيْهِ معاً وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز. قال ابن الخطيب: وينسب هذا القول للشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ، وهو غير بعيد؛ وذلك لأن الرحمة والاستغفار مشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة واحدة، ثم قال: {لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} أي من ظلمةِ الكفر إلى نور الإيمان يعنى (أنه) برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.
{وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} وهذا بشارة لجميع المؤمنين وأشار بقوله: «يصلي عليكم» أن هذا غير مختص بالسامعين وقت الخطاب. قوله: «تَحِيَّتُهُمْ» يجوز أن يكون مصدراً مضافاً لمفعوله، وأن يكون مضافاً لفاعله ومفعوله على معنى أن بعضهم يُحَيِّي بعصاً، فيصح أن لا يكون الضكير للفاعل والمفعول باعتبارين لا أنه يكون فاعلاً ومفعولاً من وجهٍ واحد وهو قول من قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] أنه مضاف للفاعل والمفعول.
فصل
المعنى تحيةُ المؤمنين يَوْمَ يلقونه أي يرون الله سلام أي يسلم اللَّهُ عليهم ويسلمهم من جميع الآفات، وروي عن البراب بن عازب قال: تحيتهم يوم يلقونه سلام يعني ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه. وعن ابن مسعود قال: إذا جاء ملك يقبض روح المؤمن قال: رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السلام، وقيل: تسلم عليهم الملائكة تبشرهم حين يخرجون من قبورهم ثم قال: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} يعني الجنة.
فإن قيل: الإعداد إنما يكون مِمَّن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه، وأما الله تعالى فغير محتاج ولا عاجز فحيث يلقاه (و) يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الإعداد من قبل؟ .
فالجواب: أن الأعداد للإكرام لا للحاجة.(15/561)
قوله: {يا أيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} أي شاهداً للرسل بالتبليغ «وَمُبَشِّراً» لمن آمن بالجنة و «نَذِيراً» لمن كذب بالنار «فشاهداً» حال مقدرة، أو مقارنة لقرب الزمان {وَدَاعِياً إِلَى الله} إلى توحيده وطاعته، وقوله «بِإِذْنِهِ» حال أي ملتبساً بتسهيله، ولا يريد حقيقة الإذن لأنه مستفاد من «أَرْسَلْنَاكَ» .
قوله: «وَسِرَاجاً» يجوز أن يكون عطفاً على ما تقدم، إما على التشبيه، إما على حذف مضاف أي ذا سراج، وجوز الفَرَّاءُ أن يكون الأصل: وتالياً سراجاً، ويعني بالسِّراج القرآن، وعلى هذا فيكون من عطف الصفات وهي لذات واحدة، لأن التالي هو المرسل. وجوز الزمخشري أن يعطف على مفعول «أَرْسَلْنَاكَ» وفيه نظر لأن السراج هو القرآن ولا يوصف بالإرسال بل بالإنزال إلاَّ أن يقال: إنه حمل على المعنى كقوله:
4096 - فَعَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... [حَتَّ شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا]
وأيضاً فيغتفر في الثواني ما لا يغفتر في الأوائل، وقوله: «مُنِيراً» لأنه يهتدى به كالسِّراج يستضاء به في الظلمة. واعلم أنَّ في قوله: «سِرَاجاً» ولم يقل: إنه شمس مع أن الشمس أشد إضاءة من السراج فائدةً وهي أن نور الشمس لا يؤخذ منه شيء، والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة إذا انطفى الأول يبقى الذي أخذ منه وكذلك إن غاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان كُلُّ صحابي كذلك سراجاً يؤخذ منه نور الهداية كما قال عليه (الصلاة و) السلام:
«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» وفي هذا الخبر لطيفة وهي أن النبي عليه (الصلاة و) السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه (نور) بل له في نفسه نور إذا غرب لا يبقى نور مستفاد منه فكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنور النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولو جعلهم كالسِّراج والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان سراجاً كان للمجتهد أن يَسْتَنِيرَ بمَنْ أراد منهم، ويأخذ النور مِمَّن اختار وليس كذلك فإن مع(15/562)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
نص النبي - صلى الله عيه وسلم - لا يُعْمَل بقول الصَّحابيِّ بل يؤخذ النور من النبي ولا يؤخذ من الصحابي، فلم يجعله سراجاً.
قوله: «وَبَشِّر المُؤْمِنِينَ» عطف على مفهوم تقديره: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشراً فاشْهَدْ وبَشِّرْ} ولم يذكر» فاشهد «للاستغناء عنه، وأما البشارة فذكرت إشارة للكرم، ولأنها غير واجبة لولا الأمر. وقوله {بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} كقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً عَظِيماً} والعظيم والكبير متقاربان.
قوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} تقدم تفسيره أو السورة، وهو إشارة إلى الإِنذار يعني خالفهم ورُدَّ عليهم.
قوله:» وَدَعْ أَذَاهُمْ «يجوز أن يكون» أَذَاهُمْ «مضافً لمفعوله أي اترك أذاك لهم، أي عقابك إياهم.
قال الزجاج: لا تجازهم عليه، وهذا منسوخ بأيةِ السيف، ويجوزم أن يكون مضافاً لفاعله أي اترك ما أَذَوْكَ به فلا تؤاخذهم حتى تُؤْمَر أي دعه إلى الله فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار وبين هذا قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً} أي حافظاً.
قوله
: {يا
أيها
الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ... } الآية وجه تعلق الآية بما(15/563)
قبلها هو أن الله تعالى في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما تقدم والله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه فكلما ذكر لنبيّه مكرمةٌ، وعلَّمَه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه، ولما بدأ الله تعالى في تأديب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله: {ياا أَيُّهَا النبي اتق الله} [الأحزاب: 1] وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه بقوله: بعده {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28، 52] وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله: {يا أيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} [الأحزاب: 45] كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41] ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات} ثم كما ثلث في تأديب بجانب الأمة ثَلَّث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} [الأحزاب: 53] وبقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] فإن قيل: إذا كان هذا إرشاداً إلى ما يتعلق بجانب من هو خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس؟ .
فالجواب: هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها، وبيانه أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد، ولهذا قال تعالى في حق المَمْسُوسَة: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] فإذا أمر الله (تعالى) بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينهما فلما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما، وهذا كقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 32] لو قال: لا تضربهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص بالضرب أو الشتم، فأما إذا قال: {لا تقل لهما أف} علم من معانٍ كثيرةٍ فكذلك ههنا لما أمرنا بالإحِسان مع من لا مودة معها علم منه الإِحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق بعدُ ومن ولدت عنده منه.
قوله: «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ» إن قيل: ما الفائدة بالإتيان «بثُمَّ» وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك؟ فالجواب: أنه جرى على الغالب. وقال الزمخشري: نفى التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها قريبة العهد بالنكاح وبين أن يبعُدَ عهدها بالنكاح وتتراخى بها المرأة في حُبَالَة الزوج ثم طلّقها. قال أبو حيان:(15/564)
واستعمل «عسى» صلة لمن وهو لا يجوز. «قال شهاب الدين» يخرج قوله على ما خرج عليه قول الآخَر:
4097 - وَإِني لَرَامٍ نَظْرَةً قِبَلَ الَّتِي ... لَعَلِّي - وَإِنْ شَطَّتْ نَوَاهَا - أَزُورُهَا
وهو إضمار القول، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح، لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح بكلمة «ثم» وهي للتراخي حتى (و) لو قال لأجنبية: إِذَا نَكَحْتُكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح، لا يقع الطلاق، وهو قول عَلِيٍّ، وابنِ مسعود، وجابر، ومعاذٍ، وعائشةَ. وبه قال سعيد بن أبي المسيب، وعُرْوَةُ، وشُرَيْحٌ، وسعيد بنُ جبير، والقاسمُ، وطاوسٌ والحسنُ، وعكرمةُ، وعطاءُ بن يَسَارِ، والشّعبيُّ، وقتادةُ، وأكثر أهل العلم. وبه قال الشافعيُّ، وأحمدُ. وروى عن ابن مسعود أنه قال: يقع الطلاق وهو قول إبراهيم النَّخَعِيِّ وأصحابِ الرأي، وقال ربيعةُ ومالكٌ والأوزاعِيُّ: إن عين امرأةً يقع، وإن عم فلا يقع، ورى عكرمة عن ابن عباس قال: كذبوا على ابن مسعود إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، يقول الله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يقل: «إِذَا طَلَقْتُمُوهنَّ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ» وروى عطاء عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ»
قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} تجامعوهن {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} أي تحصونها وتستوفونها بالأقراء والأشهر، «فتعتدونها» صفة «لعدة» وتعتدونها تفتعلونها إما من العَدَد، وإما من الاعْتِدَادِ أي تحتسبونها أو تستوفون عددها من قولك: عَدَّ الدَّرَاهِمَ فَاعْتَدَّهَا أي استوفى عددها، نحو: كِلْتُهُ فَاكْتَالَهُ، ووَزنتهُ فاتَّزَنَهُ، وقرأ ابن(15/565)
كثير - في رواية - وأهل مكة بتخفيف الدال وفيها وجهان:
أحدهما: أنها من الاعتداد وإنما كرهوا تضعيفه فخفَّفوه؛ قاله الرازي، قال: ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف، لأن الاعتداء يتعدى «بعلى» . قيل: ويجوز أن يكون من الاعتداء وحذف حرف الجر أي تَعْتَدُونَ عَلَيْهَا أي على العدة مجازاً، ثم تعتدونها كقوله:
4098 - تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابِةٍ ... وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأَسَى لَقَضَانِي
أي لقَضَى عَلَيَّ، وقال الزمخشري: وقرىء تَعْتَدُونَهَا مخففاً أي تعتدون فيها كقوله:
4099 - ويَوْم شَهِدْنَاهُ سُلَيْمَى وَعَامراً ... قَلِيل سِوَى الطَّعْنِ النَّهَال نَوَافِلُهْ
وقيل: معنى تعتدونها أي تعتدون عليهن فيها، وقد أنكر ابن عطية القراءة عن ابن كثير وقال: غلط ابن أبي بزة عنه، وليس كما قال.
والثاني: أنها من العدوان (والاعتداء) وقد تقدم شرحه، واعتراض أبي الفضل عليه بأنه كان ينبغي أن يتعدى «بعلى» وتقدم جوابه، وقرأ الحسن «تعْتدونها» - بسكون العين وتشديد الدال - وهو جمع بين ساكنين على (غير) حديهما.(15/566)
فصل
دلت هذه الآية على أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يَسْقُطُ بإسقاطه؛ لما فيه من حق الله تعالى.
ثم قال: «فَمَتِّعُوهُنَّ» أي أعطُوهُنَّ ما يستمتعن به قال ابن عباس: هذا إذا لم يكن سمى لها صداقاً فلها المتعة، وإن كان فرض لها صداقاً فلها نصف الصداق ولا متعة لها، وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، قيل: إنه عام وعلى هذا فهل هو أمر وجوب أو أمر استحباب؟ فقيل: للوجوب فتجب المتعة مع نصف المهر، وقيل: للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء، ثم قال: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار، وقيل: السراح الجميل: أن لا يطالبها بما آتاها.
قوله تعالى: {يا أيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} وقوله: {مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ} رد عليك من الكفار بأن تَسْبِي فتملك، وهذا بيان لما ملكت، وليس هذا قيداً بل لو ملكت يمينه بالشراء كان الحكم كذا، وإِنَّما خرج مَخْرَج الغالب. واعلم أنه ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما هو أولى فإن الزوجة التي أُوتِيَتْ مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت والمملوكة التي سَبَاها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنه لا يدري كيف حالها، ومن هاجرت من أقارب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معه أشرف ممن لم تهاجِر، وقال بعضهم: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حالاً لنا وكيف والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا طلب شيئاً حرم الامتناع على المطلوب؟ والظاهر أن الطالب في المرة الأولى إنما هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا ويؤكد هذا قوله: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها.
واعلم أن اللاتي يملكت يمينه مثل صفية، وجُوَيْريَة، ومَارِيَة {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} يعني نساء قريش {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ} يعني نساء بني زُهْرَة {اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} إلى المدينة فمن لم تهاجر معه منهم لم يجز له نكاحها، روى أبو صالح عن أم هانىء أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما فتح مكة خطبني لإنزل الله هذه الآية فلم أحل له(15/567)
لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من المطلقات، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.
قوله «وامرْأَةً» العامة على النصب وفيه وجهان:
أحدهما: أنها عطف على مفعول «أَحْلَلْنا» أي وأحْلَلْنَا لك امرأة ً موصوفة بهذين الشرطين، قال أبو البقاء وقد رد هذا قوم، وقالوا: «أَحْلَلْنا» ماضٍ، و «إنْ وَهَبَتْ» - وهو صفة للمرأة - مستقبل، «فأحللنا» في موضع جوابه، وجواب الشرط لا يكون ماضياً في المعنى، قالك وهذا ليس بصحيح لأم معنى الإحلال ههنا الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك كما تقول: «أَبَحْتُ لَكَ أَنْ تُكَلِّمَ فُلاَناً إِنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ» .
والثاني: انه ينتصب بمقدر تقديره: «ويُحِلُّ لك امرأةً» .
قوله: «إنْ وَهَبَتْ، إِنْ أَرَادَ» هذا من اعتراض الشرط على الشرط، والثاني هو قيد في الأول ولذلك نعربه حالاً، لأن الحال قيد، ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود. فلو قال: إن أَكَلْتُ إنْ رَكِبْتُ فأنتِ طالقٌ، فلا بد أن يتقدم الركوب على الأكل، وهذا له تحقق الحالية والتقييد كما ذكرنا، إذ لو لم يتقدم لخلا جزء من الأكل غير مقيد بركوب فلهذا اشترطنا تقدم الثاني وقد مضى تحقيق هذا وأنه يشترط أن لا تكون ثَمَّ قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقوله: «إنْ تَزَوَّجْتُك إِنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدِي حُرٌّ» (لأنه) لا يتصور هنا تقديمُ الطلاق على التَّزويج.
قال شهاب الدين: وقد عرض لي إشكال على ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني هنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم الخاص بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا أنه لا يمكن عقلاً، وذلك ان المفسرين فسروا قوله تعالوا: «إنْ أَرَادَ» بمعنى قبل الهِبَة لأن بالقبول منه (عليه الصلاة و) السلام يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة إذ القبول متأخر، وأيضاً فإن القصة كانت على ما ذكرته من تأخر إرادته من هِبَتها وهو مذكور في التفسير، وأبو حيان لما جاء إلى ههنا جعل الشرط الثاني متقدماً على(15/568)
الأول على القاعدة العامة، ولم يسشكل شيئاً مما ذكرته، وقد عرضت هذا الإِشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عن جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفاً، وقرأ أبو حيوة «وامْرَأَةٌ» بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، أي أَحْلَلْنَا لَكَ أَيْضاً. وفي قوله: {إِنْ أَرَادَ النبي} التفات من الخطاب إلى الغيبة بلفظ الظاهر تنبيهاً على أن سبب ذلك النبوة، ثم رجع إلى الخطاب فقال: «خَالِصَةً لَكَ» ، وقرأ أبي والحسن وعيسى «أَنْ» بالفتح، وفيه وجهان:
أحدها: أنه بدل من «امرأة» بدل اشتمال قاله أبو البقاء، كأنه قيل: وأحْلَلْنَا لك هِبَةَ المَرْأَةِ نَفْسَهَا لَكَ.
قوله: «خالصة» العامة على النصب وفيه أوجه:
أحدها: أنه منصوب على الحال من فاعل «وَهَبَتْ» أي حال كونها خالصةً لك دُونَ غَيْرِكَ.
الثاني: أنها حال من «امرأة» لأنها وصفت فتخصصت، وهو بمعنى الأول، وإليه ذهب الزجاج.
الثالث: أنها نعت مصدر مقدر أي هبة خالصة فنصبها «بوَهَبَتْ» .
الرابع: أنها مصدر مؤكد «كوَعْدَ اللَّهِ، قال الزمخشري: والفاعل والفاعلة في(15/569)
المصادر غير عزيزين كالخَارجِ والقَاعِدِ، والكاذِبَةِ والعَافِيَةِ يريد بالخارج ما في قول الفرزدق:
4100 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَلاَ خَارِجاً مِنْ فِيَّ زُورُ كَلاَمِ
وبالقاعد ما في قولهم:» أَقَاعِداً وَقَدْ سَارَ الرَّكْبُ «، وبالكاذبة ما في قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] ، وقد أنكر أبو حيان عليه قوله:» غير عزيزين «وقال: بل هما عزيزان، وما ورد متأول، وقرىء:» خَالِصَةٌ «بالرفع، فإن كانت» خالصة «حالاً قدر المبتدأ» هي «أي المرأة الواهبة، وإن كانت مصدراً قدر فتلك الحالة خالصة، و» لك «على البيان أي أعني لك نحو:» سَقْياً لَكَ «.
فصل
المعنى: أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق، فأما غير المؤمنة فلا تَحِلُّ له إذا وهبت نفسها منه، واختلفوا في أنه هل كان يحِل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكاح اليهودية والنصرانية، فذهب أكثرهم إلى أنه كان لا يحل له ذلك لقوله:» وامرأة مؤمنة «وأول بعضهم الهجرة في قوله:» هَاجَرْنَ مَعَكَ «يعني على الإسلام أي أسلمن معك، فيدل ذلك على أنه لا يحل نكاح غير المسلمة. وكان نكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مَهْرٍ، وكان ذلك من خصائصه عليه (الصلاة و) السلام - لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين} كالزيادة على الأدب ووجوب تخيير النساء من خصائص لا مشاركة لأحد معه، واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة، فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء: لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو(15/570)
التزويج، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي، ومعنى الآية أنّ إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه عليه السلام. وقال النخعيُّ وأبو حنيفةَ وأهلُ الكوفة ينعقد بلفظ الهبة والتمليك وأن معنى الآية أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجةً من أمهات المؤمنين ولا تحل لغيرك أبداً بالتزويج وأجيب بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له، وما ذكرناه (يتبين) للتخصيص فائدة.
فصل
اختلفا في التي وهبت نفسها لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هل كانت عنده امرأة منهن فقال عبد الله بن عباس ومجاهد: لم يكن عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، وقوله» وَهَبَتْ نَفْسَهَا «على طريق الشرط والجزاء، وقيل: بل كانت موهوبة واختلفوا فيها، فقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الهلالية يقال لها: أم المساكين، وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: أمّ شريك بنت جابر من بني أسد، وقال عروة بن الزبير: هي خولة بنت حكيم من بني سُلَيْم.
قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا} أوجبنا على المؤمنين «فِي أَزواجِهِمْ» من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين، وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحدٌ من المؤمنين نفسه على ما كان النبي عليه السلام فإن له في النكاح خصائصَ ليست لغيره، وكذلك في السَّرَارِي.
قوله: «لِكَيْلاَ» يتعلق «بخالصة» وما بينهما اعتراض و «مِنْ دُونِ» متعلق «بخالصة» كما تقول: خَلَص مِنْ كَذَا.(15/571)
فصل
قال المفسرون: هذا يرجع إلى أول الآية أي أحللنا لك أزواجَك وما ملكت يمينك والموهبة {لكيلا يكون عليك حرج} {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} يغفر الذنوب جميعاً ويرحم العبيد.
قوله: «تُرْجِي» أي تؤخر {مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤويا إِلَيْكَ} أي تضم إِلَيْكَ «مَنْ تَشَاءُ» واختلف المفسرون في معنى الآية فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجباً عليه، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن. قال أبو رزين وابنُ زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وطلب بعضهن زيادة النفقة وهجرهن النبي - صلى الله علي وسلم - شهراً حتى نزلت آية التخيير فأمره الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يُخَيرَهُن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الأخرة على أنهن أمهات المؤمنين فلا يُنكحن أبداً وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء فيرضين به قَسَم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعض دون بعض أوفضل بعضهن على بعض في النفقة والقسمة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائص فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط وذلك لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بالنسبة إلى أمته نسبة السّيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها فكيف زوجات النبي بالنسبة غليه فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات. والإرجاء التأخير والإيواء الضم، واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن عن القسم فقيل: لم يخرج أحداً بل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مع ما جعل الله من ذلك يسوي بينهن في القسم إلا سَوْدَةَ فإنها رَضِيَتْ بترك حقها من القَسْم وجعلت نوبتها لعائشةَ، وقيل: أَخْرَجَ بعضهن، روى جرير عن منصور عن أبي رَزِين قال: لما نزلت آية التخيير أَشفَقْنَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ،(15/572)
فقلن يا رسول الله: اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئتَ ودَعْنَا على حالنا فنزلت هذه الآية فأرجأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعضهن وآوى إليه بعضهن فكان ممن آوى عائشةُ وحفصةُ وزينبُ وأمُّ سلمة وكان يقسم بينهن سواءً، وأرجأ منهن خمساً: أمَّ حبيبة، وميمونَة، وسودةَ، وصفيةَ، وجُورَيْرِية فكان يقسِمُ لهن ما شاء.
وقال مجاهد: ترجى من تشاء منهن يعني تعزل من تشاء منهنّ بغير طلاق وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد، وقال ابن عباس: تطلق من تشاء منهن وتُمْسك من تشاء وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من تشاء من أمتك وقال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا خَطب امرأة لم يكن لغيره خِطْبَتُهَا حتى يتركها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: تَقْبَلُ من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتَتْرُكُ من تشاء فلا تقبلها، روى هشامٌ عن أبيه قال: كانت خَوْلَةٌ بنتُ حَكِيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت عائشة: أما تستحي المرأة انت تَهَب نفسها للرجل فلما نزلت {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} قالت: يا رسول الله. ما أرى ربُّكَ إلاّ يُسارع في هَوَاكَ.
قوله: «وَمَن ابْتَغَيْتَ» يجوز في «من» وجهان:
أحدهما: أنها شرطية في محل نصب بما بعدها وقوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} جوابها، والمعنى من طلبتها من النسوة اللاتي عزلتهن فليس عَليك في ذلك جناح.
والثاني: أن تكون مبتدأة، والعائد محذوف وعلى هذا فيجوز في «مَنْ» أن تكون «موصولة» وأنْ تكون شرطية، و {فلا جناح عليك} خبر، أو جواب أي التي ابتغيها. ولا بد حينئذ من ضمير راجع إلى اسم الشرط من الجواب أي في ابتغائها وطلبها، وقيل: في الكلام حذف معطوف تقديره: ومن ابتغيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ وممن لم(15/573)
تعزل سواء، لا جناح عليك كما تقول: «مَنْ لَقِيَكَ ممَّن لَمْ يَلْقكَ جميعُهم لَكَ شَاكرٌ» يريد من لقيك ومن لم يلقك وهذا في إِلغاز.
قوله: «ذَلِكَ» أي التفويض إلى مشيئتك {أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} أي أقرب إلى قرة أعينهن، والعامة «تَقَرَّ» مبنياً للفاعل مسنداً «لأعينهن» وابن مُحِيْصِن «» تُقرّ «من» أقر «- رباعياً - وفاعله ضمير المخاطب (و) » أَعْيُنُهُنَّ «رفع لقيامه مقام الفاعل وتقدم معنى» قرة العين «في مريم.
قوله: «كُلُّهن» العامة على رفعه توكيداً لفاعل «يَرْضِيْنَ» ، وأبو إياس بالنصب توكيداً لمفعول «آتَيْتَهُنَّ» .
فصل
قال المفسرونَ لا جناح عليك لا إثم عليك، أباحَ له ترك القَسْم لهن حتى إنه ليُرجِي من يشاء في نوبتها وَيَطَأ من يشاء منهن في غير نوبتها ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلاً له على سائر الرجال {ذلك أدنى أن تقر أعينهنّ وَلاَ يَحْزَنَّ} أي ذلك التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن، وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عَزَّ وَجَلَّ، {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ} أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء {والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} من أمر النساء والميل إلى بعضهن {وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً} أي إن أضمرت خلاف ما أظهرت فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم وإن لم يعاقبْهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل.
قوله: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء} قرأ أبو عمرو «لا تَحِلُّ» بالتأنيث اعتباراً باللفظ والباقون(15/574)
بالياء لأنه جنس والمفصل أيضاً، وقوله «مِنْ بَعْدُ» أي من (بعد) اللائي نصصنا لك على إحْلاَلَهِنَّ كما تقدم، وقيل: من بعد إباحة النساء المسلمات دون الكِتَابِيَّات.
فصل
قال المفسرون: من بعد أي من بعدهن: قال ابن الخطيب: والأولى أن يقال لا تحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما تؤتيهن من الوصل والهجران، وقال ابن عباس وقتادة: من بعد هؤلاء التسعة خيرتهن فاخترنَك، وذلك ان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما خيرهن فاخْترن الله ورسوله شكر الله لهن، وحُرِّمَ عليه السناء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن، واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء نم بعد، قالت عائشة: ما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى أحل له النساء. وقال أنس: مات على التحريم، وقال عكرمة: معنى الآية لا تحل لك النساء إلا اللاتي أحللنَا لك أزواجَك، الآية ثم قال: لا تحل لك النساء من بعد اللاتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها.
قول لأبي بن كعب: لو مات نساء النبي - صلى الله عيله وسلم - كان يحل له أن يتزوج، قال: (و) ما يمنعه من ذلك؟ قيل: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ} قال: إنما أحَلَّ اللَّهُ ضَرْباً من النساء فقال: {يا أيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} قال: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ} (و) قال أبو صالح: أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غريبة ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال مجاهد: معناه لا تحل لك اليَهُودِيَّاتُ بعد المسلمات {وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ} بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى يقول: لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أحلَّ له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يَتَسرى بهنَّ؛ وروي عن الضحاك معنى {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هي في حبالك أزواجاً غيرهن بأن تطلق فتنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده وجعلهن أمهات المؤمنين وحرمهن على غيره حين اخترنه، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه.
وقال ابن زيد في قوله: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ(15/575)
مِنْ أَزْوَاجٍ} كانت العرب في الجاهيلة يتبادلونَ بأزواجهم يقول الرجل: بادِلْنِي بامرأتك وأبادِلك بأمْرأتي، تنزل لي عن امرأتك وانزل لك عن امرأتي، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} يعني تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت، فأما الحَرَائِرُ فلا، روى عطاء بن يَسَارِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: «دخل عُيَيْنَةُ بن حصن على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بغير إذن وعنده عائشة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يا عيينة أين الاستئذانُ؟ قال يا رسول الله: ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثم قال: مَنْ هذه الحميراء التي جنبك؟ فقال: هذه عائشة أم المؤمنين فقال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن الله قد حرم ذلك فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: هذا أحمق مُطَاع وإنه على ما تَرَيْن لسيدُ قومه» قوله: «وَلَوْ أَعْجَبَكَ» كقوله: «أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ على فَرَسٍ» أي في كل حال ولو على هذه الحال المنافية قال الزمخشري: قوله «حسنهن» في معنى الحال.
فصل
معنى {ولو أعجبك حسنهن} أي ليس لك أن تطلق أحداً من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها. قال ابن عباس يعني أسماء ينت عميْس الخَثْعَمِيَّة امرأة جعفر بن أبي طالب فلما استشهد جعفر أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يَخْطِبَها فنهي عن ذلك. وقال بعض المفسرين ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه (الصلاة و) السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه مَوْقِعاً كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها. وهذه مسألة حكمية وهي أن النبي عليه (الصلاة و) السلام وسائر الأنبياء في أول النبوة يشتد عليها برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم متحدِّثون(15/576)
مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع، ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغاً لقلبه، وتوسعاً لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله، ثم لما استأنس بالوحي نسخ ذلك إما لقوله عليه (الصلاة و) السلام الجمع بين الأمرين، وإما لأنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوفٌ من أمور الدنيا فلم يبق له التفات إلى غير الله فلم يبق له حاجة إلى إخلاء المتزوّج بمن وقع بصره عليه.
قوله: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ} فيه أوجه:
أحدها: أنه مستثنى من النساء فيجوز فيه وجهان: النصب على أصل الاستثناء والرفع على البدل وهو المختار، والثالث: أنه مستثنى من «أزواج: قاله أبو البقاء، فيجوز أن يكون في موضع نصب على أصل الاستثناء، وأن يكون في موضع جر بدلاً مِن» هُنَّ « (على) اللفظ، وأن يكون في موضع نصب بدلاً مِن» هُنَّ «على المحل، وقال ابن عطية إن كانت (ما) مصدرية فهي في موضع نصب لأنه من غير الجنس وليس بجيد؛ لأنه قال بعد ذلك والتقدير: إلا ملك اليمين، و» ملك «بمعنى مملوك انتهى. وإذا كان بمعنى مملوك صار من الجنس وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعاً على أنه على تقدير انقطاعه لا يتحتم نصبه، بل يجوز عند تميم الرفْعُ بدلاً والنصب على الأًل كالمتصل بشرط صحة توجه العامل إليه كما تقدم تحقيقه، وهذا يمكن توجه العامل إليه، ولكن اللغة المشهورة لغةُ الحِجَاز وهو لزوم النصب في المنقطع مطلقاً، كما ذكره أبو محمد آنفاً.
فصل
قال ابن عباس ملك بعد هؤلاء مَارِيَة، و {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه، وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من(15/577)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
النساء، روي عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» إِذَا خَطبَ أَحَدُكُمْ المَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِها فَلْيَفْعَلْ «
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} الآية قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينبَ حين بنى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما روى ابن شِهَابٍ قال: أخبرني أنسُ بنُ مالك أنه كان ابن عَشْرِ سنينَ فقدِم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(15/578)
المدينة قال: فكانت ام هانىء تواظبُني على خدمةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فخدمته عَشْر سنينَ وتوفي وانا ابن عشرينَ فكنت أعلمَ الناس بشأن الحِجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مْبْتَنَى رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بزينبَ بنتِ جحشٍ أصبح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بها عروساً فدعا القوم وأَصابوا من الطّعام ثم خرجوا وبَقِيَ رَهْطٌ منهم عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأطالوا المُكْثَ فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمشيت حتى جاء عتبة حُجْرَة عائشةَ ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجَع فرَجَعْتُ معهم حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا فرجَع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة فظن أنهم قد خرجوا فرَجَع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيني وبينه بالسِّتر - فأنزل الله الحجاب، (و) قال أبو عثمان واسمه الجَعد عن أنس (قال) فدخل - يعني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} إلى قوله: {والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق} وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناسٍ من السلمين كانوا يتحيَّنون طعام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيدخلون عيله قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتأذَّى بهم فنزلت الآية {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} . وروى ابنُ شِهابٍ عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي - صلى الله عيه وسلم - كُنَّ يَخْرُجْنَ باللَّيْلِ إذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى المَنَاصِع وهو صَعِيدٌ أَفْيَحُ فكان عمر يقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احجبْ نِسَاءَكَ فلم يكن رسولُ الله يفعل فخرجت سُوْدةُ بنتُ زمعة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلةً من الليالي عشاءً وكانت امرأة طويلة فناداها عمر: قد عرفناك يا سَوْدَةُ حرصاً على أن تنزل آيةُ الحجاب فأنزل الله الحجاب، وعن أنس قال: قال عمر: وافَقَنِي ربي في ثلاثة، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله:
{واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] ، وقلت يا رسول الله: إنه يدخل عليك البرُّ الفاجر فلو أمرت أمهات(15/579)
المؤمنين بالحِجاب فأنزل الله آية الحجاب قال: بلغني ما آذين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نساؤه قال: فدخلت عليهن فجعلت استقربهن واحدة واحدة قلت: والله لَتَنْتَبِهْنَ أوْ لَيُبَدِّلنَّه الله أزواجاً خَيْراً منْكُنَّ حت أتيت على زينب فقالت: يا عُمَرُ: ما كان في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما يعظ نساءه حتى تَعِظَهُنَّ أنت قال: فخرجت فأنزل الله: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} [التحريم: 5] الآية
قوله: {إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} فيه أوجه:
أحدها: أنها في موضع نصب على الحال تقديره إِلاَّ مَصْحُوبِينَ بالإِذن.
الثاني: أنها على إسقاط باء السبب تقديره: «إلا بِسبِب الإذن لكم» كقوله «فَأَخْرَجَ بِهِ» أي بسببه.
الثالث: أنه منصوب على الظرف قال الزمشخري: {إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ} في معنى الظرف تقديره: إلا وقت أن يؤذن لكم و «غَيْرَ نَاظِرينَ» حال من «لاَ تَدْخُلُوا» وقع الاسثناء على الحال والوقت معاً كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي إلا وَقْتَ الإذْنِ ولا تدخلوا إلاَّ غَيْرَ ناظرين إناه، ورد أبو حيان الأول بأن النحاة نصوا على أن «أنْ» المصدرية لا تقع مَوْقِعَ الظرف، لا يجوز: «آتِيكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ» وإن جاز ذلك في المصدر الصريح نحو: «آتِيكَ صِيَاحَ الدِّيكَ» ، ورد الثاني بأنه لا يقع بعد «إلا» في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفته ولا يجوز فيما عَدَا هذا عند الجمهور، وأجاز ذلك الكسائي والأخفش أجازا «مَا قَامَ القوْمُ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ ضَاحِكِينَ» و «إلَى طَعَام» متعلق ب «يُؤْذَن» لأنه بمعنى إلاَّ أنْ يَدْعُوا إلى طعام، وقرأ العامة غَيْرَ ناظرين - بالنصب على الحال - كا تقدم، فعند الزمخشري ومن تابعه العامل فيه «يُؤْذَنَ» وعند غيرهم العامل فيه مقدر تقديره ادخلوا غير ناظرين، وقرأ(15/580)
ابن أبي عبلة «غَيْرِ» بالجر صفة لطعام واستضعفها الناس من أجل عدم بروز الضمي لجَرَيَانه على غير مَنْ هو له فكان من حقه أن يقال: غَيْرَ ناظرين إناه أنتم، وهذا رأي البصريين، والكوفيونَ يجيزون ذلك إن لم يُلْبِسْ كهذه الآية، وقد تقدمت هذه المسألة وفروعها وما قيل فيها، وهل هذا مختص بالاسم أو يجري في الفعل خلاف مشهور قلّ من يَضْبِطُهُ.
قوله: «إِنَاهُ» قرأ العامة «إِنَاهُ» مفرداً أي نضجه، يُقَالُ: أنَى الطَّعامُ إنّى، نحوُ: قَلاَهُ قلّى، أي غير منتظرين إِدْرَاكَهُ وَوَقْتَ نُضْجِه ويقال: أنَى الحميمُ إذا انتهى حُرُّهُ، وأنَى أَنْ يَفْعَلَ كَذَا أي حان إِنَى بكسر الهمزة مقصورةً؛ وقرأ الأعمش «آناءه» جمعاً على أفْعَالٍ، فأبدلت الهمزة الثانية ألفاً والياء همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فصار في اللفظ «كآناء» من قوله: «وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ» وإن كان المعنى مختلفاً، قال البَغَويُّ: إذا فتحت الهمزة مَدَدْتَ فقلت: الآناء وفيه لغتان أَنَى يأْنِي، وآنَ يَئِينُ مثل: حَانَ يَحِين.
قوله: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ} أكلتم «فَانْتَشِرُوا» تفرقوا واخرجوا من منزله.
فصل
قال ابن الخطيب قوله: {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ} إِما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره «وَلاَ تَدْخُلُوا إلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت(15/581)
الطعام بغير الإذن وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فكيون معنى: ولا تدخلوا إلا أيؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام فإن لم يؤنذن إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام لا يجوز فنقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدّخول، وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام فلما تقدم في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يَتَحَيَّنُونَ حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن، والأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديمَ والتأخيرَ خلافُ الأصل. وقوله: «إلى طعام» من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جازَ دخول بيته بإذنه إلى طعامه، جاز دخوله إلى غير طعامه فإن غير الطعام يمكن وجوده مع الطعام فإن من الجائز أن يتكلم معه وقت ما يدعوه إلى الطعام ويَسْتَعِينُه في حوائجه ويعلمه ممِا عنده من العلوم مع زيادة الطعام فإن رضي بالكل فرضاه بالبعض أقرب إلى العقل فيصير من باب: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي لا تنظروا وقت الطعام فإنه ربما لا يَتَهَيَّأ.
فصل
لا يشترط في الإذن التصريح به بل إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قال: «إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ» من غير بيان فاعل فالآذن إن كان الله أو النبي أو العقل المؤيد بالدليل جاز والنقل دال عليه حيث قال: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] فلو جاء الرجل وعلم أنّ لا مانع في البيت من يكشف أو بحضور غير محرم أو علم خلو الدار من الأهل وهي محتاجة إلى إطفاء حريق فيها أو غير ذلك جاز الدخول وفي معنى البيت موضع مباح اختاره شخص لعبادته او اشتغاله بشغل فيأتيه أحد ويطيل المكث عنده.
قوله: {وَلاَ مُسْتَأنِسِينَ} يجوز أن يكون منصوباً عطفاً على «غَيْر» أي لا(15/582)
تدخلوها غَيْرَ ناظِرينَ ولا مُسْتَأْنسين والمعنى ولا طالبين الأُنسَ لِلْحَديث، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلاً فَنُهُوا عن ذلك.
قوله: «لِحَدِيثٍ» يحتمل أن تكون لام العلة أي مستأنسين لأجل أن يحدث بعضكم بعضاً وأن تكون المقوية للعامل لأنه قرع أي ولا مستأنسين حديثَ أَهْل البَيْت أو غيرهم.
قوله: «إنَّ ذَلَكُمْ» أي إن انتظارَكم واسْئنَاسكم فأشير إِليهما إِشارة الواحد كقوله {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] أي إن المذكور.
قوله: «فيستحيي منكم» قرىء «لا يَسْتَحِي» بياء واحدة، والأخرى محذوفة، واختلف فيها هل هي الأولى أو الثانية وتقدم ذلك في البقرة، وأنها رواية عن ابن كثير وهي لغة تميم يقولون اسْتَحَى يَسْتَحِي مثل: اسْتَقَى يستقي.
قوله: {والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق} أن لا يترك تأديبكم وهذا إشارة إِلى أنّ ذلك حق وأدب، ثم ذكر أدباً آخر فقال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} أي من وراء سِتْر، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأةٍ من نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُنْتقِبة كانت أو غير مُنْتَقِبة {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} من الريب لأن العين روزنة القلب فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب، فأما وإن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر.
قوله: {وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً} نزلت في رجلٍ من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: لئن قُبِضَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنكحن عائشةَ. قال مقاتل بنه سليمان: هو طلحة ابن عُبَيْد الله فأخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ - أن ذلك مُحَرَّم وقال: {إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} . وروى مَعْمَرٌ عن الزهري أن العالية بنتَ ظبيان التي طلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تزوجت رجلاً وولدت له وذلك قبل تحريم أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الناس.(15/583)
قوله: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ} الآية نزلت فيمن أضمر نِكَاحَ عائشةَ بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: قال رجل من الصحابة ما بالنا نمنع الدخول على بنات أعمامنا فنزلت هذه الآية، ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأقارب ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ} أي لا إثم عليهنّ في ترك الاحتجاب عن هؤلاء «وَلاَ نِسَائِهِنَّ» قيل: أراد به نساء المُسْلمات حتى لا يجوز للكتبيات الدخول عليهن.
وقيل: هو عام في المسلمات والكتبيات وإنَّمَا قال: «وَلاَ نِسَائِهِنَّ» لأنهن من أجناسهن، وقد الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر، وكيف وهم رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر، إنما الكلام في بني الإخوة حيث قدمهم الله عليه على بنات الأخواتِ لأن بني الأخوات آباؤهم في بني الإخوة حيث قدمهم الله عليه على بنات الأخواتِ لأن بين الأخوات آباؤهم ليس المحارم خالات أبنائهم وبني الإخوة آباؤهم محارم أيضاً، ففي بني الأخوات مفسدة ما وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك بنوة الإخوة. فإن قيل: لم يذكر الله تعالى من المحارم الأعمام والأخوال ولم يقل: ولا أعمامهن ولا أخوالهن؟ .
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن ذلك معلوم من بني الإخوة وبني الأخوات لأن من علم أن بني الأخ للعمّات محام علم أن بنات الأخ عند آبائهم وهم غير محارم وكذلك الحال في ابن الخال.
قوله: {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} ذكر هذا بعد الكل، فإن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة، واختلفوا في عبد المرأة هل يكون محرماً لها فقيل يكون لها لقوله: {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} ، وقيل: المراد من كان دون البلوغ.
قوله: «واتَّقِينَ» عطف على محذوف أي امْتَثِلْنَ ما أُمرْتُنِ بِهِ واتَّقِينَ اللَّهَ أن يراكنّ غير هؤلاء، وقوله: {إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} في غاية الحسن في هذا(15/584)
الموضع لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم فقال إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم بشهادة الله فاتقوا الله فإنه شهيد على أعمال العباد.
قوله: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} العامة على نصب «الملائكة» نَسَقاً على اسم «إن» و «يُصَلُّونَ» هل هو خبر عن «اللَّه وملائكته» أو عن «الملائكة» فقط، وخبر الجلالة محذوف لتغاير الصلاتين خلاف. وقرأ ابن عباس وُرَويت عن أبي عمرو: وَمَلاَئِكَتُهُ رفعاً فيحتمل أنْ يكون عطفاً على محل اسم «إِنَّ» عند بعضهم، وأن يكون مبتدأ والخبر محذوف وهو مذهب البصريين، وقد تقدم فيه بحث نحو: زَيْدٌ ضَارِبٌ وعَمْرٌو أي ضَارِبٌ فِي الأَرْضِ.
فصل
لما أمر بالاستئذان وعدم النظر إلى نسائه احتراماً له كمل بيان حرمته وذلك أن حالاته منحصرة في حالتين حالة خلوة فذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} وحالة بكونه في ملأ والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى أما احترامه في الملأ الأعلى فإن الله وملائكته يصلون عليه، وأما احترامه في الملأ الأدنى فقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
فصل
قال ابن عباس: أراد أنّ الله يرحم النبي والملائكة يدعون له، وعن ابن عباس(15/585)
أيضاً: يصلون يزكون، قويل: الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار. وقال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء، روى عبد الرحمن بنُ أَبي لَيْلَى قال: «لَقِيَنِي كعْب بن عُجْرَةَ فقال: ألا أُهْدِي لك هديّة سمعتُها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت بلى فأهدها إليَّ قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم فكيف نصلي عليك؟ قال:» قولوا اللَّهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبْرَاهيم إنك حميد مجيد «وروى أبو حُمَيْد السَّاعِدِيّ» أنهم قالوا يا رسول الله: كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قولوا: اللَّهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد «وروى ابن مسعود قال:» قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرهُمْ عَلَيَّ صَلاَةَ» وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» مَنْ صَلأَّى عَلَيَّ وَاحِدةً صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْراً «، وروى عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» أنه جاء ذات يوم والبِشْرُ في وجهه فقال: «إِنِّي جَاءَنِي جبريلُ فقال: أَمَا يُرْضِيكَ يا محمد أن لا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْراً وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْراً» وروى عامر بن ربيعة «أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول» مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّت المَلاَئِكَةُ عَلَيْهِ مَا صَلَّى عَلَيَّ فليقلّ العَبْدُ مِنْ ذَلِكَ أوْ لِيُكْثِرُ «وروى عبد الله بن مسعود قال:» قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إنَّ لِلَّه مَلاَئِكَةً سَيَّاحِينَ في الأَرْضِ يُبَلِّغُونَ عَنْ أُمَّتِي السَّلاَمَ»
فصل
دلت الآية على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن الأمر للوجوب ولا تجب(15/586)
في غير التشهد فتجب في التشهد وكذلك قوله: «وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» أمر فيجب السلام ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا في التشهد: السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وذكر في السلام المصدر للتأكيد، ولم يُؤكد الصلاة لأنها كانت مؤكدة بقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} .
فإن قيل: إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة به إلى صلاتنا؟
فالجواب: أن الصلاة عليه ليس لحاجة إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه، وإنما هو إظهاره وتعظيمه (كما أن الله تعالى) وجب علينا ذكر نفسه ولا حاجة له إليه وإنما هو لإظهاره وتعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه ولهذا قال عليه (الصلاة و) السلام: «ومن صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً»
قوله (تعالى) : {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله} فيه أوجه أي يقولون فيه ما صورته أذى وإن كان تعالى لا يلحقه ضرر ذلك حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الأنداد ونسبة الولد والزوجة إليه، قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون، قال عليه (الصلاة و) السلام «يقول الله تعالى:» شَتَمَنِي عَبْدِي يَقُولُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدُ وَلَم أَولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كفواً أَحَدٌ «، وقال عليه (الصلاة و) السلام» قال الله تعالى: يُؤذِيني ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهرَ وأَنَا الدَّهرُ بِيدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ «، وقيل: يؤذون الله: يلحدون في أسمائه وصفاته، وقال عكرمة: هم أصحاب التصاوير، روى أبو هريرة قال:» سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: «قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فليخلقوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً»(15/587)
ويحتمل أن يكون على حذف مضاف أي أولياء الله كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] أي أهل القرية قال عليه (الصلاة و) السلام: «قال الله تعالى:» مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ «وقال:» مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ «ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله وارتكاب معاصيه وذكره على ما يتعارفه الناس بينهم والله عَزَّ وَجَلَّ منزه عن أن يلحقه أذى من أحد، وقال بعضهم أتى بالجلالة تعظيماً، والمراد يؤذون رسولي كقوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] وأما إيذاء الرسول فقال ابن عباس: هو أنه شُجَّ في وجهه وكُسِرت رُبَاعِيّتُه، وقيل: ساحر شاعر معلم مجنون، ثم قال: {لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة} واللعن الطرد، وهذا إشارة إلى بعد لا رجاء للقرب معه، لأن البعيد في الدنيا يرجو القرب في الآخرة فإذا خاب في الآخرة فقد خاب وخسر. ثم إنه تعالى لم يحصر جزاءه في الإبعاد بل أوعده بالعذاب المهين فقال:» وَأَعَدَّ لَهُمْ «وهذا يفيد التأكيد؛ لأن السيد إذا عذب عبده حالة الغضب من غير إعداد يكون دون ما أعد له قيداً وغلاًّ.
قوله: {والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} أي من غير ما عملوا ما أوجب أذاهم، وقال مجاهد: يقعون فيهم ويرمونهم بغير كلام، وقيل: إن من جُلِدَ مائة على شرب الخمر أو حُدَّ أربعين على لعب النَّرْد فقد أوذي بغير ما اكتسب.
قوله: «فَقَد احْتَمَلُوا» خبر «والذين» ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط.
وقوله: {بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا} قال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كانوا يؤذونه ويسمعونه وقيل: نزلت في شأن عائشة، وقال الضحاك والكلبي: نزلت في الزّناة (الذين) كانوا يتشمون في طريق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فإِن سكتت اتبعوها وإن زجرتهم انتهوا عنها ولم يكونوا(15/588)
يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من اَمَةِ؛ لأن زي الكل كان واحداً يخرجن في دِرْع وخمار الحرة والأمة فشكَوا ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنزلت هذه الآية: {والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات} الآية، ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإِماء فقال - عَزَّ وَجَلَّ - {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} .
فإن قيل: البهتان هو الزور، وهو لا يكون إلا في القول، والإيذاء قد يكون بغير القول، فمن آذى مؤمناً بالضرب أو أخذ ماله لا يكون قد احتمل بهتاناً؟
فالجواب: أن المراد: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بالقول لأن الله تعالى أراد أظهار شرف المؤمنين لأنه لما ذكر أن من آذى الله ورسوله لعن، وإيذاء الله أن ينكر وجوده أو يشرك به من لا يبصر لا يسمع وذلك قول فذكر إيذاء المؤمنين بالقول وعلى هذا خص إيذاء القول بالذكر لأنه أعم؛ لأنه الإنسان لا يقدر أن يؤذي الله بما يؤلمه من ضرب أو أخذ مال ويؤذيه بالقول وكذا الغائب لا يمكن إيذاؤه بالفعل ويمكن إيذاؤه بالقول بأن يقول فيه ما يصل إليه فيتأذى، ووجه آخر في الجواب بأن يقال: قوله بعد ذلك: وإثْماً مُبِيناً، كأنه استدرك فكان قوله احتمل بهتاناً إن كان بالقول، وَإِثْماً مبيناً ما كان الإيذاء.
قوله: «يُدْنِينَ» كقوله {قُل لِّعِبَادِيَ ... الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ. .} [إبراهيم: 31] و «مِنْ» للتَّبْعِيض، و «الجَلاَبِيبُ» جمع «الجِلْبَابِ» وهو المَلاَءَةُ التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، قال ابن عباس و (أبو) عبيدة من نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههنّ بالجلابيب إلا عينا واحدة ليعلم أنهن حرائر. وقوله: " ذلك أدنى " أي إدناء الجلابيب أقرب إلى عِرْفَانِهِنَّ أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر «فَلاَ يُؤْذَيْنَ» لا يتعرض لهن، ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يَزْنينَ لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها فيُعْرَفْنَ أنهنَّ مستوراتٌ لا يمكن طلب الزنا منهن. {وَكَانَ الله(15/589)
غَفُوراً رَّحِيماً} قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية مقنَّعة فعلاها بالدرَّة، وقال: يا لَكَاعِ أتتشبّهين بالحَرَائِرِ أَلْقِي القِنَاعَ.
قوله: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} لما ذكر حال المشركين الذي يؤذون الله ورسوله والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ذكر حال المُسِرِّ الذي لا يظهر الحق ويظهر الباطل وهو المنافق ولما كان المذكور من قبلُ أقواماً ثلاثةً نظر إلى أمورِ ثلاثة وهم المُؤْذُونَ لله والمُؤْذُونَ للرسول، والمؤذون للمؤمنين ذكر للمسرين ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة:
أحدها: المنافق الذي يؤذي الله سرّاً.
والثاني: الذي في قلبه مرض وهو الذي يؤذي المؤمن باتباع نِسَائِهِ.
والثالث: المرجف الذي يؤذي النبي عليه (الصلاة و) السلام بالإرجاف بقوله: غُلِبَ محمد، وسيخرج من المدينة وسيؤخذ، وهؤلاء وإِنْ كانوا قوماً واحداً إلاَّ أنَّ لهم ثلاث اعتبارات وهذا لقوله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} حيث ذكر أصنافاً عشرة وكلهم يوجد في واحد بالشخص لكنه كثير الاعتبار فقال: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} أي عن نفاقهم {والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} يعني الزناة، {والمرجفون فِي المدينة} بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُوقِعُونَ في الناس أنهم قتلوا وهزموا ويقولون قد أتاكم العدو ونحوه، وقال الكلبي: كانوا يحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا وَيفْشُو الأخبار.
قوله: «لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ» أي لنُحَرِّشَنَّكَ وَلنُسَلِّطَنَّكَ عليهم لِتُخْرِجَهُمْ من المدينة {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ} لا يساكنونك فيها أي في المدينة «إلاَّ قَلِيلاً» حتى يخرجوا منها، وقيل: لنسلطنهم عليهم بقتلهم ونخرجهم من المدينة.
قوله: «الاَّ قَلِيلاً» أي إِلاَّ زماناً قليلاً، أو إلا جوَاراً قليلاً، وقيل: «قليلاً» نصب على الحال من فاعل «يجاورونك» أي إِلا أَقِلاَّءَ أَذِلاَّء بمعنى قَلِيلِينَ، وقيل: قيلاً منصوب على الاستثناء أي لا يجاور إلا القليل منهم على أذل حال وأقله.
قوله: «مَلْعُونِينَ» حال من فاعل «يُجَاوِرُونَكَ» قاله ابن عطية، والزمخشري(15/590)
وأبو البقاء، قال ابن عطية لأنه بمعنى مُنَتَفَوْنَ منها مَلْعُونينَ، وقال الزمخشري: دخل حرف الاستثناء على الحال والظرف معاً كما مر في قوله: {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ} وتقدم بحث أبي حيان معه، وهو عائد هنا، وجوز الزمخشري أن ينتصب على الشَّتْم؛ وجوز ابن عطية أن يكون بدلاً من «قليلاً» على أنه حال كما تقدم تقريره، ويجوز أن يكون «ملعونين» نعتاً، ل «قليلاً» على أنه منصوب على الاستثناء من واو «يجاورونك» كما تقدم تقريره، أي لا يُجَاوِرُكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَلِيلاً ملعوناً، ويجوز أن يكون منصوباً «بأُخِذُوا» الذي هو جواب الشرط نحو: خَيْراً إِنْ تَأْتِنِي تُصِبْ، وقد منع الزمخشري من ذلك فقال: ولا يصح أن يَنْتَصِبَ «بأخذ» لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيها قبلها، وهذا منه مشيء على الجَارَّةِ، وقوله ما بعد كلمة الشرط يشتمل فعل الشرط والجواب، فأما الجواب فتقدم حكمه وأما الشرط فأجاز الكسائيّ أيضاً تقديم معموله على الأداة، نحو: «زَيْداً إنْ تَضْرِبْ أُهِنْكَ» فتلخص في المسألة ثلاثة مذاهب المنع مطلقاً، الجواز مطلقاً، التفصيل يجوز تقديم معمولي الجواب، ولا يجوز تقديم معمولي الشرط وهو رأي الفراء.
قوله: «وَقُتِّلُوا» العامة على التشديد، وقرىء بالتخفيف. وهذه يردها مجيء المصدر على التفعيل إلا أن يقال: جاء على غير مصدره، وقوله: «سُنَّةَ اللَّهِ» تقدم نظيرها.(15/591)
قوله: «مَلْعُونينَ» مطرودين من باب الله وبابك، وإذا خرجوا لا يَنْفَكُّونَ عن الذلة ولا يجدون ملجأً بل أينما يكونون يؤخذون ويقتلون، وهذا ليس بِدْعاً بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار لا تنسخ.
قوله: {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} لما بين حالهم في الدنيا أنهم يُلْعَنُونَ ويُهَانُونَ ويُقْتَلُونَ أراد أن يبين حالهم في الآخرة، فذكرهم بالقيامة وما يكون لهم فيها فقال: {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} أي إن وقت القيامة علمه عند الله لا يبين لهم فإِن الله أخفاها لحكمةٍ وهي امتناع المكلف عن الاجتراء وخوفهم منها في كل وقت.
قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة} الظاهر أن «لعل» تعلق كما تعلق التمني و «قريباً» خبر كان على حذف موصوف أي شيئاً قريباً، وقيل: التقدير: قيام الساعة فروعيت «الساعة» في تأنيث «يكون» ورُوعِيَ المضاف المحذوف في تذكير «قريباً» وقيل: «قريباً» أكثر استعماله استعمال الظرف فهو هنا ظرف في موضع الخبر. وقال ابن الخَطِيب: فَعِيلٌ يستوي فيه المذكَّر والمؤنث قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] أي لعلَّ الساعةَ تكون قريبةً.
فصل
المعنى أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قياماه أي أنت لا تعرفه لعل الساعة تكون قريباً. وهذا إشارة إلى التخويف، ثم قال: {إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} أي كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك هم يلعنون عند الله وأعد لهم سعيراً كما قال: {لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} مطيلين المكث فيها مستمرين، وقوله «فِيهَا» أي في السعير لأنها مؤنثة، أو لأنه في معنى «جهنم» {لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} حال ثانية، أو من «خَالِدِينَ» لا يجدون ولياً ولا نصيراً أي لا صديق يشفع لهم، ولا ناصر يدفع عنهم.
قوله: «يَوْمَ» معمول «لِخالدين» أو لمحذوف، أو «لنصير» أو «لاذْكُرْ» أو لِ «يقولون» بعده، وقرأ العامة تُقَلأَّبُ - مبنيّاً للمفعول (و) وُجُوهُهُمْ رفع على ما لم(15/592)
يسم فاعله، وقرأ الحسن وعيسى والرؤاسي - بفتح التاء - أي تَتَقَلَّب (و) وُجُوهُهُمُ فاعل به، وأبو حيوة نُقَلِّبُ بالنون أي نحن (و) وُجُوهَهُمْ بالنصب. وعيسى تُقَلّب - بضم التاء وكسر اللام - أي السعيرُ أو الملائكةُ وُجُوهَهُمْ بالنصب على المفعول به «يَقُولُون» حال و «يَا لَيْتَنَا» مَحْكيّ.
قوله: {تقلب وجوههم في النار} ظهراً لبطن كانا يسحبون لعيها يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولَ في الدنيا.
قوله: «سَادَتَنا» قرأ ابنُ عامر في آخرينَ بالجمع بالألف والتاء، قال البغوي على جَمْع الجَمْع، والباقون «سَادَتَنا» على أنه جمع تكسير غير مجموع بألف وتاء، ثم «سادة» يجوز أن يكون جمعاً لسيّد ولكن لا ينقاص لأن «فيْعلاً» لا يجمع على «فَعَلَةٍ» وسادة فعلة، إذ الأصل سَوَدَةٌ، ويجوز أن يكون جمعاً لسائد نحو: فَاجِر وفَجَرَةٍ وكَافِر وكَفَرَةٍ، وهو أقرب إلى القياس مما قبله، وابن عامر جمع هذا ثانياً بالألف والتاء وهو غير مقيس أيضاً نحو: بُيُوتَات، وجَمَالاَتٍ.
فصل
لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائه أيضاً لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة اتِّقاءً بيده فإن من يقصد رأسه ووجهه يجعل يده جُنَّة لوجهه ووقاية له يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول في الدنيا فيندمون حيث لا تنفعهم الندامة ثم يقولون {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا} أي(15/593)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
أطعنا السادة بدل طاعة الله وطاعة الرسول «فأَضَلُّونَا السَّبِيلاً» . {فَأَضَلُّونَا السبيلا} قرأ عاصم «كبيراً - بالباء الموحدة - والباقون بالمثلثة وتقدم معناهما في البقرة، والمراد بضعفين من العذاب أي ضِعْفَيْ عَذَابِ غَيْرِهِمْ.
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى} الآية لما بين أن من يؤذي الله ورسوله يُلعن ويعذب، وكان ذلك إشارة إلى أن الإيذاء كفر أرشد المؤمنين إلى الامتناع من الإيذاء الذي هو دونه وهو لا يروث كفراً وهو من لم يرض بقسمة النبي عليه (الصلاة و) السلام وبحكمه (بالفَيءِ لِبَعْض) فقال: لا تكونوا كالذين آذوا موسى قال بعضهم: إيذاؤهم لموسى بنسبة عيب في بَدَنِهِ، وقيل: إن قارون قال لامرأة: قولي إِن موسى قد وقع في فاحشةٍ والإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو قولهم: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا} [المائدة: 24] وقولهم: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] إلى غير ذلك فقال للمؤمنين: لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول للقتال لا تقولوا اذهب أنت وربك فقاتلا وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وقوله: {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ} على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه وعلموا فساد اعتقادهم ونطقت المرأة بالحق وأمر ملائكته حتى عبروا بهارون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى - عليه الصلاة واسلام - عن ما رموه بهوعلى الثاني فبرأه الله مما قالوا أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإِعطائه البعض إياهم وإظهاره عدم جواز البعض وقطع حُجَجهم ثم ضرب عليهم الذّلَّةُ والسمكنة وغضب عليهم.
قوله: «عِنْد اللَّهِ» العامة على «عند» الظرفية المجازية، وابن مسعود والأعمش وأبو حَيْوة «عبداً» مِن العبودية «لله» جار ومجرور وهي حسنة قال ابن خالويه(15/594)
صَلَّيْت خلف ابن شُنْبُوذ في رمضان فسمعته يقرأ بقراءة ابن مسعود هذه قال شهاب الدين: وكان مولعاً بِنَقْل الشاذة، ومَا في «مِمَّا قَالُوا» إمَّا مصدرية، وإما بمعنى الذي، «وَجِيهاً» كريماً ذَا جاهٍ، يقال وَجُهَ الرَّجُلُ يَوْجهُ وَجَاهَة فَهُوَ وَجيهٌ إذا كَانَ ذَا جَاهٍ وقَدْرٍ. قال ابن عباس: كان خَظِيّاً عند الله لا يَسْأَلُ شيئاً إلاّ أعطاه وقال الحسن: اكن مستجاب الدعوة، وقيل: كان محبباً مقبولاً، واختلفوا فيما أُوذِيَ به موسى فروى أبُو هُرَيْرَةَ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إنّ موسى كان رجلاً حَيِياً سَتْراً لا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ استحياء منه فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ من بني إسرائيل فقال: ما يستتر هذا التَّسَتُّر إلا من عيب بجلده إما بَرَص، وإما أدرة، وإمّا آفةٍ، وإن اللَّهَ أراد أن يُبْرِئَهُ مما قالوا فخلا يوماً وحده فخلع فوضَع يثابَهُ على حجر ثم اغْتَسَلَ فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر إدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحَجَر فجعل يقولُ ثوبي حَجَرٌ، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عُرْيَاناً أحْسَنَ ما خلق الله وَأَبْرَأَةُ مِمَّا يَقُولُونَ وقام الحجر فأخذ ثوبه واستتر وطفق بالحجر يضربه بعصاه فواللَّه إن بالحجر لنَدْباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خَمْساً
وقيل: لما مات هارون في التيه ادَّعوا على موسى أنه قتله فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله ولم يروا ببدنه جرحاً، وقال أبو العالية: إن قارون استأجر امرأة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه الله وبرأ موسى وأهْلَكَ قَارُون، ورَوَى أبُو وَائلٍ قال: سمعت(15/595)
عبد الله قال: «قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسْماً فقال رجل إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال» يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى أَوذِيَ بأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ «
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} . قال ابن عباس: صواباً، وقال قتادة عدلاً، وقال الحسن: صِدْقاً، وقيل: مستقيماً، وقال عكرمة: هو قول لا إله إلا الله {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ، قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم، وقال مقاتل: يزكي أعمالكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} ؛ لأن النجاة من العذاب تعظيم بعظم العذاب فإن من أراد أن يضرب عبده سوطاً ثم نجا منه لا يقال: فاز فوزاً عظيماً، ويحتمل أنه أراد بالفوز العظيم الثواب الكبير الدائم الأبديّ.
قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال} وهذا إما حقيقة وإما تمثيل وتخييل. وأراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضَيَّعُوهَا عذبهم، قاله ابن عباس. وقال ابن مسعود: الأمانة أداءُ الصَّلَوَاتِ وإيتاءُ الزكاة وصَوْمُ رَمَضَانَ وحَجُّ البيت وصدقُ الحديث وقضاءُ الدِّيْنِ والعدلُ في المِكيال والميزانِ وأشدُّ من هذا كلَّه الودائعُ. وقال مجاهد: الأمانة الفرائض وحدود الدين. وقال أبو العالية: ما أُمِرُوا به ونهوا عنه، وقال زيد بن أسلم: هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال: هذه أمانة اسْتَوْدَعْتُكَها فالفرج أمانة والأذنُ أمانة والعينُ أمانة واليدُ أمانة والرِّجْلُ أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة لَهُ، وقيل: هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق كل مؤمن أن لا يغشَّ مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليلٍ ولا كثير. وهذه رواية الضَّحاك عن ابن عباس وجماعة من التابعين، وأكثر السلف أن الله عرض هذه الأمانة على السمواتِ والأرض(15/596)
والجبال فقال لهن: أَتَحْمِلْنَ هذِه الأَمَانَةَ بما فيها؟ قُلْنَ: وما فيها؟ قال: إن أَحْسَنْتُنَّ جُوزيتُنَّ وإنْ عَصَيْتُنَّ عُوقِبْتُنَّ فقلن: لا يا رب نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً وقُلْنَ ذَلِكَ خَوْفاً وخشية وتعظيماً لله خوفاً أن لا يقوم بها لا معصية ومخالفة وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو الزمهن لم يمتَنِعْنَ من حملها والجمادات فيها خاشعة لله - عَزَّ وَجَلَّ - ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض.
{ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] وقال في الحجارة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74] ، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب ... } [الحج: 18] الآية. وقال بعضهم: ركَّب الله (عَزَّ وَجَلَّ) فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلْنَ الخطاب وأجبن بما أجبن. وقيل: المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات عرضها على من فيها من الملائكة وقيل: المراد المقابلة أي قابلنا الأمانة مع السموات فرجحت الأمانةُ وهي الدين والأول أصح، وهو قول أكثر العلماء.
قوله: «فأبين» أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع التكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك وإن كان مذكراً وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث - وهو السموات - على المذكر وهو البجال. واعلم أنه لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: {أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 31] ؛ لأن السجود هناك كان فرضاً وههنا الأمانة كانت عرضاً والإباء هناك كان استكباراً وههنا استصغاراً لقوله تعالى: «وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا» أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب «وحَمَلَهَا الإِنْسَانُ» يعني آدم عليه السلام فقال يا آدم: إني عرضت الأمانة على أهل السموات والأرض والجبال فلم تُطِقْهَا فهل أنت آخذها بما فيها؟ فقال يا رب: وما فيها؟ قال: إن أحْسَنْتَ جُوزيت وإنْ أَسَأْتَ عوقبتَ فتحملها آدم عليه السلام. فقال الله تعالى أما إذْ تحمّلتها فسأعنيك أجْعَلُ لبصرك حجاباً فإذا خشيت فاغلق وأجْعَلُ لفرجك ستراً فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدارَ ما بين الظهر إلى العصر {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} قال ابن عباس: ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر الله وما احتمل من الأمنانة وقال مقاتل: ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل. وذكر الزجاج وغيره نم أهل المعاني في قوله: «وَحَمَلَهَا الإنْسَان» قولاً، فقالوا: إن الله(15/597)
ائْتَمَنَ آدم وأولاده على شيء وائتمن أهل السماوات والأرض والجبال على شيء فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا من الطاعة والقيام بالفرائض والأمانة في حق السموات والأرض هي الخضوع والطاعة لما خلقهم له، {فَأَبَيْنَ أنْ يحملنها} أي أدين الأمانة يقال فلان لم يتحمل الأمانة أي يخون فيها «وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ» أي خان فيها، ويقال: فلان حمل الأمانة أي أثم فيها بالخيانة قال تعالى:
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} [العنكبوت: 13] ، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} حكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال: «وحملها الإنسان» يعني الكافر والمنافق حمل الأمانة أي خان، والأول قول السلف.
قوله: «لِيُعَذِّبَ» متعلق بقوله: «وحَمَلَهَا» فقيل: هي لام الصيرورة لأنه لم يحملها لذلك، وقيل: لام العلة على المجاز لما كانت نتيجة حمله ذلك جعلت كالعلة الباعثة.
فصل
قال مقاتل: {لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق. ثم قال: {وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات} ، قرأ الأعمش برفع «ويتوب» على الاسئناف أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة، وقال ابن قتيبة عرضنا الأمانة ليظهر نفاقُ المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في الطاعات، وعطف المشرك على المنافق ولم يُعِدْ اسمه تعالى فلم يقل: «ويُعَذِّبَ اللَّهُ المُشْرِكين» وعند التوبة أعاد اسمه وقال: {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} ولو قال: يتوب على المؤمنين والمؤمنات كان المعنى حاصلاً ولكنه أراد تفضيل المؤمن على(15/598)
المنافق فجعله كالكلام المستأنف ويجب هناك ذكر الفاعل فقال «ويتوب الله» ثم قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} لما ذكر في الإنسان وصفين الظلوم والجهول ذكر من أوصافه وصفين فقال: {وكان الله غفوراً رحيماً} أي كان غفوراً للظالم رحيماً على الجهول.
روى الثَّعْلَبِيُّ عن أبي أُمَامَةَ عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَحْزَاب وَعَلَّمَهَا أَهْلَهُ وَمَا مَلَكَتْ يمِينُه أُعْطِيَ الأَمَانَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ»(15/599)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة سبأ(16/3)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
مكية وهي خمس وخمسون آية وثمان مائة وثلاث وثمانون كلمة وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات} اعلم أن السور المفتوحة بالحمد خمسٌ، سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في النصف الأخير وهما هذه سورة الملائكة، والخامسة وهي سورة فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأخير. والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمةِ الإيجاد ونعمة الإبقاء فإن الله خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه خلقنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد(16/3)
ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ» إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد، ويدل عليه قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين» فأشار إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَالَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلُ لَهُ عِوَاجاً قِيَماً لِيُنْذِرَ» فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع يُنْقاد له لا تّبع كُلُّ واحدٍ هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والتّفاني وقال ههنا: «الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا هِي السَّمَواتِ والأرْضِ» إشارة إلى نعمةِ الإيجاد الثاني دليل قوله: {وَلَهُ الحمد فِي الآخرة} [سبأ: 1] وقال في الملائكة: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض} [فاطر: 1] إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى: {جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً} اي: يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كما قال تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة} [الأنبياء: 103] وقال تعالى عنهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذلك نعمتين أشار بقوله: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] إلى النعمة العاجلة، وأشار بقوله: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» إلى النعمة الآجلة، فرتب الافتتاح والاختتام عليهما.
فإن قيل: قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في يالآخرة فلماذا ذكر الله السموات والأرض؟
فالجواب: أن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ» لتنقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها.
قوله: «الَّذِي لَهُ» يجوز فيه أن يكون تابعاً وأن يكون مقطوعاً نصباً ورفعاً على المحد فيهما و «مَا فِي السَّمَاواتِ» يجوز أن يكون فاعلاً به وهو الأحسن وأن يكون متبدأ.
قوله: «فِي الآخِرَةِ» يجوز أن يتعلق بنفس الحَمْدِ، وأن يتعللق بما تعلق به خبره (وَهُو الحَكِيمُ) يجوز أن يكون معترضاً إذا أعربنا «يَعْلَمُ» حالاً مؤكدة من ضمير الباري تعالى، ويجوز أن يكون «يَعْلَمُ» مستأنفاً، وأن يكون حالاً من الضمير في «الخَبِير» .
فصل
له ما في السموات وما في الأرض مِلْكاً وخَلْقاً وله الحمد في الآخرة كما وله في(16/4)
الدنيا؛ لأن النعم في الدين كلها منه وقيل: احمد في الاخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34] و {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] وهو الحكيم الخبير فالحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمراً ولا يأتي بما يناسب علمه لا يقال له حكيم، والفاعل الذي فعله على وفق العلم وهو الحكيم، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها، فقوله حكيم أي في ابتداء الخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ما يصدر من المخلوق وما لا يصدر فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء ثم بيّن كمال خيره بقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرض} أي ما يدخل فيهما من الماء والأموات وما يخرج منها من النبات والأموات إذا حشروا.
قوله: «وَمَا يَنْزِلُ» العامة على «يَنْزِلُ» مفتوح اياء مخفف الزاي مسندٌ إلى ضمير «مَا» وعَليُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسُّلَميُّ بضمها وتشدشد الزاي أي الله تعالى. والمراد الأمطار والملائكة والقرآن. «وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا» من الكلام الطيب لقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] والملائكة والأعمال الصالحة لقوله: {والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقدم: {مَا يَلْجُ فِي الأرض} على: {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء} ؛ لأن الحبة تُبْذَرُ أولاص ثم تسقي ثانيا. وقال: {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ولم يقل: «مَا يَعْرُج إليها» إشارة إلى بقول الأعمال الصالحة لأن كلمة: «إلَى» للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفم الوقوف عند السموات فقلك وما يعرد فيها ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه ثم قال: {وَهُوَ الرحيم الغفور} رحيم عند الإنزلا حيث ينزل الرزق من المساء غفور عندما يعرج إليه الأرواح والأعيان والأعمال. ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد هي نعمة الآخرة أنكرها قَوْمٌ فقال: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} قوله: «بَلَى» جواب لقولهم: «لاَ تَأتينَا» وما بعدها قسمٌ على ذلك. وقرأ العامة: لتأتِيَنَّكُمْ بالتأنيث، وقرا (طَلْقٌ) بالياء فقيل: (أي) البعث. وقيل: على معنى الساعة أي اليوم. قال الزمخشري وره أبو حيان بأنه ضرورة كقوله:
4101 - ... ... ... ... ... ... ... ... ...(16/5)
وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
وليس مثله، وقيل: (أي) الله بمعنى أمره. ويجوز على قياس هذا الوجه أن يكون: «عالم» فاعلاً لِتَأتِيَنَّكُمْ في قراءة مَنْ رفعه.
قوله: «عَالِمُ» قرأ الأخَوانِ: عَلاَّم على صيغة المبالغة وخفضه نعتاً ل «ربِّي» او بدلاً منه.
وهو قليل؛ لكونه مشتقاً. ونافعُ وابْنُ عَامرٍ عالمٌ بالرفع على هُوَ عالم، او على أنه مبتدأ وخبره «لاَ يَعْزُبُ» أو على أن خبره مضمر أي: هو ذكره الحَوفيّ. وفيه بعد، والباقون عالم بالخفض على ما تقدم وإذا جعل نعتاً فلا بدّ من تقدير تعريفه. وقد تقدم أن كل صفة يجوز أن تتعرف بالإضافة إلى الصفة المشبهة، وتقدمت قراءتا «يَعْزُب» في يُونُسِ.
فصل
اعمل أن الله تعالى ردَّ على مُنْكِري الساعة فقال: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} فأخر بإيتيانها وأكدها باليمين.
فإن قيل: إنهم يقولون لا ريب أو إن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين فأجاب عن هذا بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله: {لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} . وبيان كونه دليلاً هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في الدنيا في الآلام الشديدة ويموت فيها فلولا دار تكون للجزاء لكان الأمر على خلاف الحكمة.(16/6)
قوله: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح، فالأجسام أجزاءها في الأرض والأرواح في السماء فقوله: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات} إشارة إلى علمه بالأرواح، وقوله: {وَلاَ فِي الأرض} إشارة إلى عمله بالأجسم فإذا علم الروح والأجسام قدر على جمعها فلا اسبعاد في الإعادة.
قوله: «وَلاَ أَصْغَرُ» العامة على رفع «أصْغَر وأَكْبَر» وفيه وجهان:
أحدهما: الابتداء، والخبر قوله «إلاَّ فِي كِتَابٍ» .
والثاني: النَّسَق على «مِثْقَالِ» وعلى هذا فيكون: «إلاَّ فِي كِتَابٍ» تأكيداً للنفي في: «لاَ يَعْزُبُ» كأنه قال لكنه في كتاب مبين وقرأ قتادة والأعمش ورويت عن أبي عمرو ونافع أيضاً بفتح الراءين. وفيها وجهان:
أحدهما: أنها «لا» التبرئة وبني اسمها معها، والخبر قوله: «إلاَّ فِي كِتَابٍ» .
والثاني: النسق على «ذَرَّةٍ» وتقدم في يونس أن حمزة قرأ بفتح رَاءِ «أَصْغَر» وأَكْبَر «وهنا وافق على الرفع وتقدم البحث هناك.
قال الزمخشري: فإن قلتَ: هَلاَّ جَازَ عطفُ:» وَلاَ أصْغَر «على» مِثْقَالِ «وعطف» وَلاَ أَكْبَر «على ذرة؟
قُلْتُ: يأبي ذلك حرف الاستثناء إلاا إذا جعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح المحفوظ لأنها إثبات في اللوح نوع من البُرُوزِ عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يُزَال عنه إلا مسطوراً في اللوح.
قال أبو حيان: ولاَ يُحْتَاج إلى هذا التأويلٍ إذ جعلنا الكتاب ليس اللوح(16/7)
المحفوظ، وقرأ زيد بن علي بخفض راء أصغر وأكبر وهي مشكلة جداً، وخرجت على أنهما في نية الإضافة، إذ الأصل: «ولا اصغره ولا أكبره» وما لا ينصرف إذا أضيف انجر في موضع الجر ثم حذف المضاف إليه ونوي معناه فترك المضاف بحاله وله نظائر كقولهم:
4102 - بَيْنَ ذِرَاعِيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ ... 4103 - يَا تَيْمَ تَيْم عَدِيِّ ... على خلاف. وقد يفرق بأن هناك ما يدل على المحذفو لفظاً بخلافِ هنا.
وقد ردّ بعضهم هذا التخريج لوجود «من» ؛ لأنَّ «أفعل» متى أضيف لم يجامع «مِنْ» وأجيب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن (مِنْ) ليست متعقة «بأفعل» بل محذوف على سبيل البيان؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم المضاف فبين «بمن» ومجروها أي أعني من ذلك.
والثاني: أنه مع تقديره للمضاف إليه نوي طرحه، فلذلك أتى «بِمن» ويدل على ذلك أنه قد ورد التصريح بالإضافة مع وجود «من» قال الشاعر:
4101 - نَحْنُ بِغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنَا ... مِنَّا بِرَكْضِ الجِيادِ في السُّدَفِ(16/8)
وخرج على هذين الوجهين إلى التعليق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين «أل» ومن في أفعل كقوله:
4105 - ولَسْتُ بالأكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى..... ... ... ... ... ... ... ... . .
وهذه توجيهات شذوذ ويكفي فيها مثل ذلك.
فصل
قوله: {وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ} إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب.
فإن قيل: فأيُّ حاجة إلى ذلك الأكبر وإنَّ من علم الأصغر من الذرة لا بدّ وأن يعلم الأكبر؟
فالجواب: لما كان الله تعالى أراد بينان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهمٌ أنه يثبت الصغائر لكونها محل النّسيان وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات في الكبائر ليس كذلك فإن الأكبر فيه أيضاً مكتوب ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جميع ذلك وإثباته للجزاء فقال: {لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} .
قوله: «لِيَجْزِيَ» فيه أوجه:
أحدهما: أنه متعلق (بلا) وقال أبو البقاء و (يعزب) بمعنى لا يعزب أي يُحْصِي ذلك ليجزي. وهو حس أو بقوله: «ليأتِيَنًّكُمْ» أو بالعامل في قوله: «إلاَّ فِي كَتَابٍ» اي إلا استقر ذلك «في كتاب مبين» لِيَجْزِيَ.(16/9)
فصل
اعمل أنه تعالى ذكر منهم أمرين الإيمانَ والعملَ الصالح وذكر لهم أمرين المغفرةَ والرِّزْقَ الكريمة فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مفغور له لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116] وقوله عليه (الصلاة و) السلام:
«يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إله إلاَّ اللَّهَ ومَنْ (في) قَلْبِهِ وزنُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمانٍ» .
والرزق الكريم مرتب على العمل الصالح وهذا مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه من العمل لا بدّ وأن ينعم عليه. وتقدم وصف الرزق بالكريم أنه بمعنى ذَا كرم أو مُكْرِم أو لأنه من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يُطْلَبْ ويتسبب إليه لا يأتي.
فإن قيل: ما الحكمة في تَمييزِهِ الرزق بوصفه بأنّه كريمٌ ولم يضف المغفرة؟
فالجواب: لأنَّ المغفرة واحدة وهي للمؤمنين وأما الرزق فمنه شجرة الزَّقّوم والحَميم ومن الفواكهُ والشَّرَاب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانْقِسَام فيها.
فصل
قوله: {أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك لهم جزاء فيوصله إليه لقوله: «ليَجْزِي الَّذِينَ آمَنُو» .
وثانيهما: أن يكون ذلك لهم واللَّهُ يجزيهم بشيء آخر لأن قوله: «أُلَئكَ لَهُمْ» جُملة (تامة اسمية، وقوله تعالى: «لِيَجْزيَ الَّذِينَ آمَنُوا» جملة) فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل: لِيَجْزِيَ الَّذين آمنوا وعملوا الصالحات رزقاً «.
فصل
اللام في» ليجزي «ومعناه الآخرة للجزاء.
فإن قيل: فما وجه المناسبة؟
فالجواب: أن الله تعالى أرد أن لا يقطع ثوابه فجعل للمكلف داراً باقيةً تكون ثوابه(16/10)
واصلاً إليه فيها دائماً أبداً وجعل قبلها داراً فيه الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلق مقدار ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبله.
قوله:» والِّذِين سَعَوْا «يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مبتدأ و» أولئك « (و) ما بعده خبره.
والثاني: أنه عطف على الذي قبله أي ويجزي الذين سعوا ويكون» أُلَئِكَ «الذي بعده مستأنفاً و» أُلَئِكَ «الذي قبله وما في خبره معترضاً بين المُتَعَاطِفَيْن.
قوله: {والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي في إبطال أَدِلَّتِنَا مُعَاجِزِينَ يحسبون أنهم يَفُوتُونَنَا وقد تقدم في الحج قراءتا معاجزين. وعلم أنه تعالى لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين والمراد بهم الذين كذبوا بآياتنا وقوله:» مُعَاجِزِينَ «أي سَعَوا في إبْطَالِهَا لأن المكذّب آتٍ بإخفاء آياتِ بيناتٍ فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ ليروّج كَذِبَهُ لعله يُعْجز المتمسك به.
قوله: {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} قرأ ابنُ كثير وحفصٌ هنا وفي الجاثية ألِيمٌ بالرفع والباقون بالخفض. فالرفع على أنه نعت» لعَذَابِ «والخفض على أنه نعت» لرجزٍ «إلا أن مَكِّيَّا ضعف قراءة الرفع واستبعدها قال: لأن الرّجز هو العذاب فيصير التقدير عذاب أليم من عذاب وهذا المعنى غير ممكن قال: والاختيار خَفْضُ» أليم «لأنه أصحّ في التقدير والمعنى إذ تقديره لهم عذابٌ من عذابٍ أليم أي هذا الصِّنف من أصناف العذاب، لأن العاب بعضه آلم من بعض وأجيب: بأن الرجز مطلق العذاب فكأنه قيل: لهم هذا الصنف من العذاب من جنس العذاب، وكأن أبا البقاء لَحَظَ هذا حيث قال: وبالرفع صفة لعذاب، والرِّجْز مطلق العذاب.(16/11)
فصل
قال قتادة: الرجز أسوأ العذاب فيكون «مِنْ» لبَيَان الجِنْس كقولك: خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ. قال ابن الخطيب: قال هناك: لَهُمْ رِزْقٌ كَريمٌ ولم يقدر بمن التبغيضية فلم يقل: لهم نصيبٌ من رزقٍ، ولا رزق من جنس كريم، وقال ههنا «لهم عذابٌ مِنء رجزٍ أليم» بلفظة صالحة للتبعيض، وذلك إشارة إلى سَعَةِ الرحمة وقله الغضب وقال هناك: «لَهُمْ مغَفْرَةٌ» ثم قال: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4] وههنا لم يقل إلا: «لَهُمْ عَذَابٌ» فزادهم هناك الرزق الكريم، وههنا لم يزدهم على العذاب وفيما قاله نظر، لقوله تعالى في موضع آخر: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} [النحل: 88] .
قوله: {وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم} فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على «لِيَجْزِيَ» قال الزمخشري: أي وليعلم الذين أوتوا العلم عند مجيء الساعة. وإنما قيده بقوله عند مجيء الساعة لأنه علق: «ليجزي» بقوله: «لَتَأتِيَنَّكُمْ» فبنى هذا عليه وهو من احسن ترتيبز
والثاني: أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك «والَّذِي أُنْزِلَ» هو المفعول الأول وهُو فَصْلٌ و «الْحَقَّ» مفعول ثانٍ، لأن الرؤية عِلْميَّة وقرا ابنُ أَبي عَبْلَةَ الْحَقُّ بالرفع على أن خبر «هُوَ» والجملة في موضع المفعول الثاني وهي لغة تميم يجلعون ما هو فل مبتدأ وخبر و «مِنْ رَبِّك» حال على القراءتين.(16/12)
فصل
لما لين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سَعْيَه باطل فإن من أُوتِيَ علماً لا يعتبر تكذيبه وهو يعلم أن ما أنزل إلى محمد عليه (الصلاة و) السلام حق وصدق وقوله: هُوَ الحَقّ يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأم قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خَصْمَان والنزاع لفظي فيكون قوله كل واحد حقاً في المعنى، قال المفسرون: {وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم} يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سَلام وأصْحَابه {الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق} يعني القرآن هو الحق يعني أنه من عند الله.
قوله: {ويهدي} فيه أوجه:
أحدها: أنه مستأنف وفي فاعل احتمالان: أظهرهما: أنَّه ضمير «الَّذِي» وهو القرآن والثاني: ضمير الله تعالى ويتعلق هذا بقوله: {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} إذ لو كان كذلك لقيل: إلى صِراطِهِ ويجاب بأنه من الالتفات ومن إبراز المضمير ظاهراً تنبيهاً على وصفه بهاتين الصِّفَتَيْنِ.
الوجه الثاني: أنه معطوف على موضع «الحق» و «ان» معه مضمرة تقديره هو الحق والهداية.
الثالث: أنه عطف على «الحق» عَطْفَ فعل على اسم لأنه في تأويله كقوله تعالى: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] أي: وقَابِضَاتٍ كما عطف الاسم على الفعل بمعناه كقوله:
4106 - فَألْفْيْتُهُ يَوْمًا يُبِيرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَخِفُّ المَعابِرَا
كأنه قيل: وليروه الحق وهادياً.
الرابع: أن «ويهدي» حال من «الَّذِي أُنْزِلَ» ولا بدّ من إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كقوله:
4107 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... .....(16/13)
نَجَوْتُ وَأرَهْنُهُمْ مَالِكاً
وهو قليل جداً، ثم قال: {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة فالعزيز يفيد التخويف والانقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق.(16/14)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
قوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ} لما بين حالة المكذب بالساعة ورد عليه بقوله: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] ثم بين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله الصالح وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات وبين حال الكافر والمؤمن بعد قوله عليه (الصلاة و) السلام - «بَلَى وَرَبِّي لَتَأتِيَنَّكُمْ» فقلا المؤمن الذي أنزل إليك من ربك الحق وهو يهدي وقال الكافر المنكر للبعث متعجباً: {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} يخبركم يعنون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهذا كقول القائل في الاستبعاد: جاء رجل يقول: إنَّ الشمسَ تَطْلُعُ من المَغْرِب؛ إلى غير ذلك من المحاولات.
فصل
إذَا مُزِّقْتُم «إذا» منصوب بمقدر أي تُبْعَثُون وتُحْشَرُون وَقْتَ تمزيقكم لدلالة: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} عليه ولا يجوز أن يكون العامل «يُنَبِّئُكُمْ» لأن التنْبِيئَة «لأن التنْبِئَة لم تقع ذلك الوقت ولا» خَلْقٍ جَدِيدٍ «لأن ما بعد» إنَّ «لا يعمل فيما قبلها. ومن توسع في الظرف أجازه(16/14)
هذا إذا جعلنا» إذَا «ظَرفاً محضاً، فغن جعلناه شرطاً كان جوابها مقدراً أي تبعثون وهو العامل في» إذَا «عند جمهور النحاة. وجوَّز الزجاج أن تكون معمولة لمُزِّقتُهْم، وجعله ابن عطية خطأ وإفساداً للمعنى، قال أبو حيان: وليس بخطأٍ ولا إفساد.
وقد اختلف في العامل في» إذا «الشرطية، والصحيح أن العامل فيها فعلُ الشرط كأخواتها من أسماء الشرط وقال شهاب الدين: والجمهور على خلافِهِ ثم قال أبو حيان: والجملة الشرطية تحتمل أن تكون معمولة» لِيُنَبِّئُكُمْ «لأن في معنى: يقول لكم إذا مزقتم تُبْعَثُونَ، ثم أكد ذلك بوقوله: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ويحتمل أن يكون: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ} معلقاً» لِيُنَبِّئُكُمْ «سادًّا مسد المفعولين ولوللا اللام لفتحت» أن «وعلى هذا فحملة الشرط اعتراض، وقد مَنَعَ قوم التلعيقَ في» اعلم «وبابها والصحيح جوازه، قال:
4108 - حَذَارِ فَقَدْ نُبِّئْتَ إنَّكَ لَلَّذِي ... سَتُجْزَى بِمَا تَسْعَى فَتَسْعَد أو تَشْقَى
وقرأ زيْدُ بْنُ عليِّ بإبدال الهمزة ياء، وعنه يُنْبِئُكُمْ مِنْ» أَنْبَأَ «كأكْرَمَ و» مُمَزَّق «فيه وجهان:
أحدهما: أنه اسم» مصدر «وهو قياس كلّ ما زاد على الثلاث أن يجئ مصدره وزمانه ومكانه على زنة اسم مفعوله أي كُلَّ تَمْزِيقِ.
والثاني: أنه ظرف مكان، قاله الزمخشري، أي كل تمزيق من القبور وبطون(16/15)
الوحش والطير، ومن مجئ مُفَعَّل مجيء التَّفْعِيل قوله:
4109 - ألَمْ تَعْلَمِي مُسَرِّحِي القَوافي ... فَلاَ عيَّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتلاَبَا
أي تسريحي، والتمزيق التخريق والتقطيع، يقال ثَوبٌ مُمَزَّقٌ ومَمْزَّقٌ ويقال: مزَّقَهُ فهو مَازِقٌ ومَزِقٌ أيضاً قال:
4110 - أتَانِي أَنَّهُمْ مَزِقُونَ عِرْضِي..... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقال الممزق العبدي - وبه سمي المُمَزَّقُ -:
4111 - فَإن كُنْتُ مَأكُولاً فَكُنْ خَيْرَ آكِلِ ... وَإلاَّ فَأدْرِكْنِي وَلَمَّا أُمَزَّقِ
أي ولما أبْلَى وأَفْنَى، و «جَدِيد» عند البصريين بمعنى فاعل يقال: جَدَّ الشَّيْءُ فَهُوَ جَادّ وجَدِيدٌ وعند الكوفيين بمعنى مَفْعُول من جَدَدْتُهُ أي قَطَعْتُهُ.
فصل
المعنى أن الكفار قالوا لقومهم متعجبين: إن محمداً يقول: إنكم إذا مِتَّمْ ومزقتم كل تمزيق وصرتم تراباً إنكم لفي خلق جديد أي تخلقون خلقاً جديداً.(16/16)
(قوله) «أَفْتَرى» هذه همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل فلذلك ثبتت همزة الهمزة وصلاً وابتداء. قال البغوي: هذه ألف استفهام دخلت على ألف الوَصْل فلذلك نُصِبَ «عَلَى اللَّهِ كَذِباً» وبهذه الآية استدل الجَاحِظُ على أن الكلام ثلاثة أقسام صِدق وكَذِب ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة عنه على القسم.
الثالث: أن قوله «بِهِ» جُنَّةٌ «لا جائز أن يكون كذباً لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره ولا جائز أن يكون صدقاً لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث. وأجيب عنه بأنَّ المعنى: أَمْ لَمْ يَفْتَر، ولكن عبر عن هذا بقولهم:» أَمْ بِهِ جِنَّةٌ «؛ لأن المجنون لا افتراء له والظاهر في» أم «هذه أنها متصلة لأنها تقدر بأيِّ الشَّيْئَين ويجاب بأحدهما لأنه قيل: أي الشيئين واقع افتراؤه الكذب أم كونه مجنوناً ولا يضر كونها بعدها جملة لأن الجملة بتأويل المفرد كقوله:
4112 - لاَ أُبَالِي أَنَبَّ بالحَزْن تَيْسٌ ... أَمْ جَفَانِي بظَهْرِ غَيْب اللَّئِيمِ
ومثل قوله الآخر:
4113 - لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنْ كُنْتُ دَارِياً ... شُعَيْثُ بْنُ سَهْم أمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقِرِ
لأن» منقر «خبر لا نعت كذا أنشده بعضهم مستشهداً على أنها جملة وفيه حذف التنوين بما قبل» ابن «وليس بصفة، وهذا إشارة إلى البحث المتقدم في سوة التوبة.(16/17)
فصل
قوله: {أفترى عَلَى الله كَذِباً} يحتمل أن يكون من تمام قول الكافر أولاً اي من كلام القائلين:» هَلْ نَدُلُّكُمْ «ويحتمل أن يكون من كلام الامع المجيب للقائل:» هَلْ نَدُلّكُمْ «كأن السامع لما قيل له: هل ندلكم على رجل قال له وهو يفتري على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه» أَوْ بِهِ جُنَّةٌ «مجنون؟ إن كان لا يعتقد خلاف، وفي هذا لطيفة وهي أن الكافر لاَ يَرْضَى بأن يظهر كذبه ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفترٍ بل قال مفتر أو مجنون احترازاً من أن يقول قائل: كَيْفَ يقول بأنه مفترٍ مع أنه جاز أن يظن أن الحق ذلك، وظن الصدق ينع تسمية القائل مفترياً وكاذباً في بعض المواضع إلا ترى أن من يقول: جَاءَ زيد فإذا تبين أنه لم يجئ وقيل له: لم كذبتَ؟ يقول: ما كذبتُ وإنما سمعت من فلانٍ فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن نفسه بالظن فهم احترزوا عن تبيين كذبهم فكل عاقل بنبغي أن يحترز عن ظهور مرة أخرى رداً عليهم فقال: {بَلِ الذين ...
. فِي العذاب} في مقابلة قولهم: {أفترى عَلَى الله كَذِباً} .
وقوله: «فِي الضِّلال البَعِيد» عن الحق في الدنيا، وهذا في مقابلة قولهم: «بِهِ جِنَّة» وكلاهما مناسب اما العذاب فلأن نسبة المكذب إلى الصادق مؤذٍ، لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا العذاب إلى البرئ وأما المجنون فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين أنَّهُم هم الضالون، ثم وصل ضلالهم بالبعد لأن من يسمي المهتديَ ضَالاً يكون أضلّ، والنبي عليه (الصلاة و) السلام (كان) هادي كل مهتد.
قوله: «أفَلَمْ» فيه الرأيان المشهوران، قدّره الزمخشري أَعَمَوْا فَلَمْ يَرَوْا، وغيره يدِّعِي أن الهمزة مقدم على حرف العطف.
قوله: «مِنَ السَّمَاءِ» بيان للموصول، فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون حالاً فيتعلق به أيضاً قيل: (و) ثمَّ حال محذوفة تقديره: أفَلَمْ يَرَوْا إلَى كَذَا مَقْهُوراً تَحْتَ(16/18)
قُدْرَتِنَا، أو مُحِيطاً بِهِمْ فَيَعْلَمُوا أنَّهُمْ حَيْثُ كَانُوا فإنَّ أرضي وسمائي محيطةٌ بهم لا يخرجون من أقطارها وأنا القادرُ عليهم.
قوله: «إنْ نَشَأ» قرأ الأخَوانِ يَشَا يَخْسِفْ يُسْقِطْ بالياء في الثلاثة، والباقون بنون العظمة فيها، وهم واضِحَتَان، وأدغم الكسائي قال الفارسي: وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا يدغم فيها وإن كان الباء يدغم فيها نحو: اضْرِب فُلاَناً كما تدغم الباء في الميم كقولك: اضْرِب مالكاً وإن كانت الميم لا تدغم في الباء نحو: اضْمُمْ بكراً؛ لأن الباء انحطت عن الميم يفقد الغُنَّةِ، وقلا الزمخشري: وليست بالقوية، وهذا لا ينبغي لأنها تواترت.
فصل
لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازياً على السِّيئات والحسنات ذكر دليلاً آخر فيه التهديد والتوحيد فأما دليل التوحيد فذكره السماء والأرض فإنهما يدلان على الوحدانية كما تقدم مراراً ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة بقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى} [يس: 81] وأما التهديد فقوله: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء} أي نجعل عين نافعهم ضارهم بالحق والكشف ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ} أي: فيما يرون من السماء والأرض آية تدل على قدرتنا على البعث {لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيب} تائب(16/19)
راجع الله بقلبه. ثم إنه تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم دَاوُد كما قال تعالى عنه: {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24] .(16/20)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} فقوله: «مِنَّا» إشارة إلى بيان فضل داود لأن قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ منّا فضلاً} مستقبل بالمفهوم وتام كما يقول القائل: آتَى الملك زيداً خلعةً، فإذا قال القائل: آتاه منه خلعَةً يفيد أنه كان من خاصِّ ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض، ونطيره قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21] فإنَّ رَحِمَهُ اللَّهُ واسعةٌ تصلُ إلى كل أحد لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمه من عنده لخواصِّه، والمراد بالفضل النبوة والكتاب، وقيل: الملك، وقيل: جمعي ما أوتِيَ من حُسْن الصوت وتَلْيِين الحديد وغير ذلك مما خُصَّ به.
قوله: «يَا جِبَالُ» محكيّ بقول مضمر، ثم إن شئت قدرته مصدراً ويكون بدلاً من «فضلاً» على جهة تفسيره به كأنه قيل: آتيناهُ فضلاً قولَنَا يَا جبالُ، وإن شئت جعلته مستأنفاً.
قوله: «أَوِّبي» العامة على فتح الهمزة، وتشديد الواو، أمراً من التَّأويب وهو(16/20)
التَّرجيع، وقيل: التسبيح بلغة الحَبَشَة، وقال القُتَيْبيُّ: أصله من التأويل في السير وهو أن يسير النهار كله، وينزل ليلاً كأنه قال: أدْأَبِي النَّهار كُلَّهُ بالتسبيح معه، وقال وهب: نوحي معه، وقيل: سيري معه، وقيل: سيري معه، والتضعيف يُحتمل أن يكون للتكثير، واختار أبو حيان أن يكون للتعدي قال: لأنهم فَسَّروه برجع مع التسبيح، ولا دليل فيه لأنه دليل معنى.
وقرأ ابنُ عباس والحَسَنُ وقتادةُ وابنُ أبي إسحاق: أُوبِي بضم الهمزة أمراً من آبَ يَؤُوبُ أي ارجع معه بالتسبيح.
قوله: «والطير» العامة على نصبه وفيه أوجه:
أحدهما: أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً.
الثاني: أنه مفعول معه قاله الزجاج. ورد عليه بأنه قبله لفظ «معه» ولا يقتضي العامل أكثرَ من مفعول معه واحد إلا بالبدل أو العطف لا يقال: جَاءَ زَيْدٌ مَعَ بَكْرٍ مَعَ عَمْروٍ قال شهاب الدين: وخلافهم في تَقَصِّيه حالين يقتضي مجيئه هنا.
الثالث: أنه عطف على «فضلاً» ، ولا بدّ من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتَسْبِيح الطير.(16/21)
الرابع: أنه منصوب بإضمار فعل أي سَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ. قاله أبو عمرو، وقرأ السُّلَميُّ والأعرجُ ويعقوبُ وأبو نوفل وأبو يَحْيَى وعاصمٌ - في رواية - والطَّيْرُ بالرفع، وفيه أوجه: النسق على لفظ «الجبال» وأنشد:
4114 - أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا ... فَقَدْ جَوزتُمَا خَمَرَ الطَّرِيق
بالوجهين، وفي عطفِ المفرف بأل على المنادى المضموم ثلاثة مذاهب، الثاني: عطفه على الضمير المستكن في «أَوِّبِي» وجاز ذلك، للفصل بالظرف، والثالث: الرفع على الابتداء والخبر مضمير أي والطيرُ كذلك أي مؤوبةٌ.
فصل
لم يكن الموافقون له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجُمُود والطير للنفور وكلاهما مستبعد منه الموافقة، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشَدّ قسوة.
قال المفسرون كان داود إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصَدَاها وعكفت الطير على من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل: كان داود إذا تخلل الجبال(16/22)
فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح. وقيل: كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له.
قوله: «وَأَلَنَّا» عطف على «آتَيْتَا» وهو من جملة الفَضْل، قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يعطف على «قلنا» في قوله {ياجبال أَوِّبِي ... . . وَأَلَنَّا} .
فصل
ألان الله تعالى له الحديد حتى كان في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مِطْرَقَةٍ وذلك في قدرت الله يسير، روي أنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان الله له الحديدَ وعلمه صنعة اللَّبُوس وهي الدرع وأنه أول من اتخذها. وإنما اختار الله له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وتحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل، فالزَّرَّاد خيرمن القوَّاس والسَّيَّاف وغيرهما؛ لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح رُبَّمَا يستعمل في قتل النفس المحرمة، بخلاف الدَّرع قال عليه (الصلاة و) السلام: «كَانَ دَاوُدُ لاَ يَأكُلُ إلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» .
قوله: {أَنِ اعمل} فيه وجهان:
أظهرهما: أنها مصدرية على حذف الجر أي لأَنْ.
والثاني: قاله الحَوْفيُّ وغيره إنها مفسرة لقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} ورد هذا بأن شرطها تقدم بما هو بمعنى القول ولم يتقدم إلا «أَلَنَّا» ، واعتذر بعضهُم عن هذا بأن قَدَّر ما هو بمعنى القول أي وأَمَرْنَاهُ أَنْ اعْمَلْ. ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، وقرئ: «صَابِغَاتٍ» لأجل الغين وتقديم تقديره في لقمان عند «وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ» .(16/23)
فصل
معنى «سابغات» أي كوامل واسعات طوالاً تسحب في الأرض. وذكر الصفة ويعلم منها الموصوف.
قوله: {وَقَدِّرْ فِي السرد} والسرد: نسيج الدُّرُوع يقال لصانعه: السَّرَّاد «الزَّرَّاد.
والمعنى قدر المسامير في حلق الدروع أي لا تجعل المسامير غلاظاً فتكسر الحَلَق ولا دقاقاً فتُغَلْغِل فيها. ويقال السرد المسمار في الحَلَقة، يقال: درع مسْرُودَة أي مَسْمُورَة الحَلَق. قودر في السَّرد أي اجعله على القصدِ وقدْرِ الحاجة، ويحتمل أ، يقال السَّرد هو عمل الزرد.
وقوله: {وَقَدِّرْ فِي السرد} أي إنكم غيرمأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب (إنما) يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب.
ويدل عليه قوله تعالى: {واعملوا صَالِحاً} أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه ولاكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يريد بهذا والكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يريد بهذا داود وآله، ثم لما ذكر المنيب الواحد منيباً آخر وهو سليمانُ كقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] ذكر ما ساتفاد من الإنابة وهو قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح} العامة على النصب بإضمار فعل، أي سَخَّرنَا لِسُلَيْمانَ، وأبو بكر بالرفع على الابتداء، والخبر في الجار قبله أو محذوف، وجوز أبو البقاء أن يكون فاعلاً يعني بالجار، وليس بقويّ لعدم اعتماده وكان قد وافقه في الأنبياء غيره،(16/24)
وقرأ العامة الرِّيحَ بالإفراد. والحَسَنُ وأبو حَيْوَةَ، وخالدُ بْنُ إلْيَاسَ الرِّيَاح جمعاً. وتقدم في الأنبياء أن الحسن يقرأ مع ذلك بالنصب وهنا لم ينقل له ذلك.
فإن قيلَ: الواو في قوله: «وَلِسُلَيْمَانَ» للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً للجملة الاسمية على فعلية وهو لا يجوز أوْ لاَ يَحْسُنُ؟
فالجواب: أنه لما بين حال داود فكأنه قال: لما ذكر لداود ولسليمان الريح وإما على النصب على قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} (كأنه قال وألنا لداودَ الحديدَ) وسخرنا لسليمان الريح.
قوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} مبتدأ وخبر ولا بد من حذف مضاف أي غُدُوُّهَا مَسِيرةُ شَهرٍ أو مقدارُ غُدُوِّهَا شَهْرٌ، ولو نصب لجاز، إلا أنه لم يُقْرأ بها فيما علمنا، وقرأ ابن أبي عبلة غَدْوَتُهَا ورحتُها على المرّة، والجملة إما مستأنفة، وإما في محلِّ حالٍ.
فصل
المعنى غُدُوُّ تلك الريح المستمرة له مسيرةُ شهر، وسير رواحها شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرةَ شهرين. قال الحسن: كان يَغْدُو من دمشقَ فيقيل بإصطخر _وبينهما مسية شهر، ثم يَرُوحُ من إصطخر فيبيت بكَابُل) وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل: كان يتغذى بالرِّيِّ ويتعشى بسمرقَنْدَ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في الجبال معَ داوُودَ الجِبَالَ وفي الأنبياء وفي هذه السورة فقال: يا جبال أوبي معه وقال في الريح هناك وههنا: لسليمان باللام؟
فالجواب: أن الجبال لما سبَّحت شَرفت بذكر الله فلم يُضِيفْها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب والريح لم يذكر تسبيحها فجعلها كالمملوكة لَهُ.(16/25)
قوله: " وأرسلنا له عين القطر " أي أذبنا له عين النحاس. والقطر: النحاس، قال المفسرون: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجري المياه، وكان بأرض اليمن. وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان. قوله:: {مَنْ يَعْمَلُ} أي أذبْنَا له عين النُّحاس. والقِطْرُ: النحاسُ قال المفسرون: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجَرْي المياه. وكان بأرضِ اليمن.
وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليْمَانَ.
قوله: {} يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره في الجار قبله أي مِنَ الجِنِِّ مَنْ يَعْمَلُ وأن يكون في موضع نصب بفعل مقدر أي وسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ و «مِنَ الجِنِّ» يتعلق بهذا المقدر، أو بمحذوف على أنه حال أو بيان، و «بإذن» حال أي مُيسّراً بإذن ربه، والإذن مصدر مضاف لفاعله، وقرئ: «وَمَنْ يَزُغْ» بضم الياء من أَزَاغَ ومفعوله محذوف أي يَزُغْ نَفْسَهُ، أي يُمِيلُها و «مِنْ عَذَابٍ» لا بتداء الغاية أو للتبعيض.
فصل
قال ابن عباس: سخر الله الجنَّ لسليمانَ وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به، ومن يزُغ يعدل منهم من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليان نُذِقْه مِنْ عَذَابِ السَّعير في الآخرة، وقيل: في الدنيا وذلك أن الله وكل بهم ملكاً بيده سَوْطٌ من نارٍ فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحْرَقَتْهُ.
قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ} مفسر لقوله: «مَنْ يَعَمَلُ» و «مِنْ مَحَارِيبَ» بيان ل «مَا يَشَاءُ» والمراد بالمحاريب: المساجد والأبنية المرتفعة، وكان مما عملوا له بيت المقدس، ابتدأه داود ورَفَعَهُ قامةَ رجُل فأوحى إليه أني لم أقضِ ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمُه سليمانُ أقضي تمامه على يده، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فمجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصل الرُّخَام والمِيهَا الأبيْضَ من معادِنه وأمر ببناء المدينة بالرُّخام والصّفاح وجعلها اثْنَيْ عَشَرَ رَبَضاً وأنزل على كل(16/26)
ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطاً، فلما فرغ من بناء المدينة، ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فِرَقاً فِرَقاً يستخرجون الذهبَ والفضةَ والياقوتَ من معادنها والدرِّ الصِّافِيَ من البحر وفرقاً يقلعون الجواهرَ من الحجارة من أماكنها وفرقاً يأتونه بالمِسْكِ والعَنْبَر وسائر الطّيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يُحصيه إلا الله عزّ وجلّ. ثم أحضر الصُّنَّاع وأمرهم بنحتِ تلك الحجارة المرتفة وتصييرها ألواحاً وإصاحاً تلك الجواهر وثَقَّبَ الياقوتَ واللآلئَ فبنى المسجد بالرُّخَام الأبيض والأصفر والأخضر وعمَّده بأساطين المِيهَا الصَّافي وسقَّفه بألواح الجَوَاهر الثمينة وفَصَّصَ سُقُوفَه وحِيطَانِهُ باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفَيْرُوزَج فلم يكن يومئذ في الأرض بين أبهرُ ولا أنورُ من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقَمر ليلةَ البدر، فلما فرغ منه جمع أحْبَار بين إسرائيل وأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً، روى عبدُ الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «لمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ بِنَاء بَيْتِ المَقْدِس سَأَلَ رَبَّهُ ثَلاثَا فَأَعْطَاه اثْنَتَين وَأنَا أرْجُو أنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثُّالثَةَ سَألَ حُكْماً يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأعطاه إياه، وَسَأَلَهُ مُلْكاً لاَ يَنْبغَي لأَحدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ، وَسَأَلَهُ أنْ لاَ يَأتِيَ هذَا البَيْتَ أحَدٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَا أَرْجُوا أنْ يَكُون قَد أَعْطَاهُ ذَلِكَ»
قَالُوا: فَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بخنتصَّر فخرَّب المدينة وهَدَمَها ونقَضَ المَسْجِد وأخذ ما كان في سقوفه وحِيطَانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار مملكته من أرض العراق وبنى الشيطان لسليمان باليمن حصوناً كثيرة وعجيبة من الصخر.
قوله: {وَتَماثِيلَ} وهي النقوش التي تكون في الأبنية. وقيل: صور من نُحَاس وصفر وشَبَهٍ وزُجَاج ورُخَام. قيل: كانوا يُصَوِّرون السِّباع والطيور. وقيل: كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزداودوا عبادة ولعلها كانت مباحة في شريعتهم كما أن عيسى كان يتخذ صُوراً من طينٍ فينفخ فيها فيكون طيراً.
قوله: {وَجِفَانٍ كالجواب} الجِفَانُ القِصَاعُ، وقرأ ابن كثير بإثبات ياء «الجَوَابِ»(16/27)
وصلاً ووقفاً وأبو عمرو وورشٌ بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً. والباقون بحذفها في الحالين و «كَالْجَوَابِ» صفة «لِجفَانٍ» والجِفَانُ جمع جَفْنَة، والجَوَابِي جمعُ جَابيةٍ كَضاربة وضَوَارب والجابية الحَوْض العظيمُ سميت بذلك لأنه يُجْبي إليها الماءُ، أي يجمع وإسناد الفعل إليها مجاز لأنه يُجْبَى فيها كما قيل: خَابِيَة، لما يُخبَّأُ فيها قال الشاعر:
4115 - بِجِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِيَنَا ... مِنْ سَدِيفٍ حِينَ هَاجَ الصِّنَّبِرْ
كَالْجَوابِي لاَ تَنِي مُتْرَعَةً ... لِقِرَى الأضْيَافِ أوْ لِلمُحْتَضرْ
وقال الأعشى:
4116 - نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ المُحَلِّقِ جَفْنَةٌ ... كَجَابِيةِ الشَّيْخِ العِرَاقيِّ تَفْهَقُ
وقال الأفوه:
4117 - وَقُدُورِ كَالرُّبَا رَاسِيَة ... وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي مُتْرَعَه
قيل: كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.(16/28)
فصل
وقُدُورٍ راسِيَات ثابتات لها قوائم لا يحرِّكْنَ عن أماكنها ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد إلهيا بالسلاليم وكانت باليمن.
قوله: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} في «شكراً» أوجه:
أحدهما: أنه مفعول به أي اعملُوا الطَّاعَةَ سميت الصلاة ونحوها شكراً لسدِّها مَسَدَّهُ.
الثاني: أنه مصدر من معنى «اعْمَلُوا» كأنه قي: اشْكُرُوا شكراً بعَمَلِكُمْ أو اعملوا عَمَلَ شُكْر.
الثالث: أنه مفعول من أجله أي لأجل الشكر كقولك: جِئْتَكَ طَمَعاً، وعبدت الله رجاء غُفْرَانه.
الرابع: أنه مصدر موقع الحال أي شَاكِرينَ.
الخامس: أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره واشْكُرُوا شُكْراً.
السَّادس: أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره اعلمُوا عملاً شكراً أي ذَا شُكْرٍ قال المفسرون: معناه اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمة، والعم أن كما قال عقيب قوله (تعالى) {َنِ اعمل سَابِغَاتٍ} {واعملوا صَالِحاً} قال عقيبَ ما تعمله الجن له اعملا آل داود شكراً إشارة إلى ما تقدم من أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستفرقةً في هذه الأشياء، وإنما يجب الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شُكْراً.
قوله: «وَقَلِيلٌ» خبر مقدم «ومِنْ عِبَادي» صفة له، «والشَّكُورُ» مبتدأ المعنى أن العامل بطاعتي شكراً لنعمتي قليلٌ. قيل: المراد من آل داود هو داود نفسه، وقيل: داود وسليمان وأهل بيته.(16/29)
فصل
قال جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمان: سمعت ثابتاً يقول: كان داود نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائمٌ يُصَلِّي.
قوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} أي على سليمان، قال أهل العلم: كان سليمان - عليه السلام - يتحرز ببيت المقدس السَّنَّة والسَّنَتَيْنِ والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشاربه فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نَبَتَتْ في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها ما اسمك؟ فتقول اسمي كذا فيقول: لأن شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا فيأمرها فتقطع فَإنْ كَانَتْ تنبت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتبه حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت؟ قال الخرّوبة قال: لأي شيء نَبَتْت؟ قالت: لخراب مَسْجِدِك فقال سليمان: ما كان الله ليجزيه وأنا حي أنت الذي على وَجْهِك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال: اللَّهُمَّ عَمَّ على الجنِّ موتى حتى يعمل الناس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعملمون من العيب أشياء ويعلمون ما في غد، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بني يديه وخلفه فكانت الجن تعمل تلك الأعمال فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته فمكثوا يأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَان فخرَّ ميتاً فعلموا بموته، قال ابن عباس: فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله: {مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} «تَأكل منسأته» أي عصاه.
قوله: «تَأكُلُ» إما حال، أو مستأنفة وقرأ ابن ذَكْوَان منسأْتَهُ - بهمزة ساكنة(16/30)
ونافع وأبو عمرو بألف محضفة، والباقون بهمزة مفتوحة، والمِنْسَأةُ اسم آلة من نَسأَهُ أي أخَّرَهُ كالمكسحة والمِكْنَسة من نسأتُ الغنم أي زجرتها وستقتها، ومنه: نَسَأَ اللَّهُ في أجَلِهِ أي أَخَّره وفيها الهمزة وهو لغة تميم وأنشد:
4118 - أَمِنَ أَجْل حَبْلٍ لاَ أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ ... بمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلاَ
(والألف) وهو لغة الحجاز وأنشد:
4119 - إذَا دَبَبْتَ عَلَى المِنْسَأةِ مِن كِبَرٍ ... فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ
فأما بالهمزة المفتوحة فهي الأصل لأن الاشتقاق يشهد له والفتح لأجل بناء مِفْعَلَةٍ كمِكَنَسَةٍ وأما سكونها ففيه وجهان:
أحدهما: أنه أبدل الهمزة ألفاً كما أبدلها نافع وأبو عمرو وسيأتي، ثم أبدل هذه الألف همزة على لغة من يقول العَأَلَمُ والخَأتَمُ وقوله:
4120 - ... ... ... ... ... ... . ... وخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَألَمِ
ذكره ابن مالك قال شهاب الدين وهذا لا أدري ما حمله عليه كيف نعتقد أنه(16/31)
هرب من شيء ثم يعود إليه وأيضاً فإنهم نصُّوا على أنه إذا أبدل من الألف همزة فإن ان لتلك الألف أصل حركت هذه الهمزة بحركة أصل الألف.
وأنشد ابن عصفور على ذلك:
4121 - وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
قال: الأصل زَوْزاةٌ وأصل هذا: زَوْزَوَةٌ، فلما أبدل من الألف همزة حركها بحركة الواو، إذا عرف هذا فكان ينبغي أن تبدل هذه الألف همزة مفتوحة لأنها عن أصل متحرك وهو الهمزة المتفوحة فتعود إلى الأول وهذا لايقال.
الثاني: أنه سكن الفتحة تخفيفاً والفتحة قد سكنت في مواضع تقدم التنبيه عليها وشواهدها، ويحسنه هنا أن الهَمْزَة تشبه حروف العلة، وحرف العلة يستثقل عليه الحركة من حيث الجملة وإن كان لا تستثقل الفتحة لخفتها، وأنشدوا على تسكين همزتها:
4122 - صَرِيعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأتِهِ ... كَقوْمَةِ الشَّيْخِ إلَى مِنْسأتِهِ
وقد طعن قوم على القراءة ونسبوا راويها إلى الغلط قالوا: لأن قياس تخفيفها إنما هو تَسْهيلُها بَيْنَ بَيْنَ وبه قرأ ابنُ عامر وصاحباهُ فظن الراوي أنهم(16/32)
سكنوا وضعفها أيضاً بأنه يلزم سكون ما قبل تاء التأنيث وما قبلها واجب الفتح إلا الألف وأما قراءة الإبدال فقيل: هي غير قياسية يعنون أنها ليست على قياس تخفيفها إلا أن هذا مردود بأنها لغة الحجاز ثابتة فلا يلتفت لمن طعن، وقد قال أبو عمرو وكفى به: أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً، فإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز، وهذا الذي ذكره أبو عمرو أحسن ما يقال في هذا ونظائره. وقرئ مَنْسَأتَه بفتح الميم مع تحيق الهمز، وإبدالها ألفاً وحذفها تخفيفاً وقرئ مِنْسَاءَتِهِ نزنة منعالته كقولهم: مِيضَأةٌ ومِيضَاءَةٌ ولكها لُغات، وقرأ ابن جبير من ساته فَصَل «مِنْ» وجعلها حرف جر وجعل «ساته» مجرورة بها والسَّاةُ والسِّيَةُ هنا العَصَا وأصلها يَدُ القَوْس العليا والسفلى يقال: سَاةُ القَوْسِ مثلُ شَاةٍ وسِئَتُها فسمِّيت العصا بذلك على وجه الاستعا ة والمعنى تأكل من طرف عصاه. ووجه بذلك - كما جاء في التفسير - أنه اتَّكأ على عصا خضراء من خروب والعصا الخضراء متى اتُّكِيءَ عليها تصير كالقَوْس في الاعْوِجاج غالباً. و «سَأَة» فَعَلَة نحو قحَة وقحة والمحذوف لامهما وقال ابن جني: سمي العصا منسأة لأنها تسوء وهي فَلَة والعين محذوفة قال شهاب الدين: وهذا يقتضي أن تكون القراءة بهمزة ساكنة والمنقول أن هذه القراءة بألف صريحة ولأبي الفتح أن يقول أصلها الهمزة ولكن أُبْدِلَتْ.(16/33)
قوله: «دَابَّةُ الأرض» فيه وجهان:
أظهرهما: أن الأرض هذه المعروفة والمراد بدابة الأرض الأَرَضة دُوَيبَّة تأكل الخَشَب.
والثاني: أن الأرض مصدر لقولك أَرَضَيتِ الدابَّة الخَشَبَة تَأرِضُهَا أَرْضاً أي أكلتها فكأنه قيل: دابة الأكل يقال: أرَضَت الدَّابَّةُ الخَشَبَة تَأرُضُها أَرْضاً فأرِضَتْ بالكسر تَأْرَضُ هي بالفتح أيضاً وأكَلت الفَوَازجُ الأسْنَانَ تَأكُلُها أكْلاً فَأَكِلَتْ هي بالكسر تَأكَلُ أكَلاً بالفتح.
ونحوه أيضاً: جِدِعَتْ أَنْفُهُ جَدَعاً فجُدِعَ هو جَدَعاً بفتح عين المصدر، وقرأ ابن عباس والعباس بن الفضل بفتح الراء وهي مقوية المصدرية في القرءاة المشهورة وقيل: الأَرَضُ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أرَضَةٍ وهذا يكون من باب إضافة العام إلى الخاص لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدوّابِّ.
قوله: {فَلَمَّا خَرَّ} أي سقط الظاهر أن فاعله ضمير سليمان عليه - الصلاة و) السلام، وقيل: عائد على الباب لأن الدابة أكلته فوقع وقيل: بل أكلت عبتة الباب وهي الخارّة وينبغي أن لا يصحَّ؛ إذ كان التركيب خرَّتْ بتاء التأنيث و: أبْقَلَ إبْقَالَها ضرورة، أو نادر تأويلها بمعنى العَوْد أندر منه.
قوله: {تَبَيَّنَتِ} العامة على نيابته للفاعل مسنداً للجنِّ وفيه تأويلاتٌ.
أحدهما: أنه على حذ مضاف تقديره تَبَيَّنَ أمْرُ الجِنِّ أي ظَهَرَ وبَانَ و «تَبَيَّنَ» يأتي بمعنى «بَانَ» لازماً كقوله:
4123 - تَبَيَّنَ لِي أَنَّ القَمَاءَةَ ذِلَّةٌ ... وأَنَّ أَعِزَّاء الرِّجَالِ طِيَالُهَا(16/34)
فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وكان مما يجوز تأنيث فعله ألحقت علامة التأنيث (به) .
وقوله « {أَن لَّوْ كَانُواْ} بتأويل المصدر مرفوعاً بدلاً من الجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ.
الثاني: أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ.
الثاني: أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنّ فاعل. ولا حاجة إلى حذف مضاف و» أَنْ لَوْ كَانُوا «بدل كما تقدم والمعنى ظهر الجن جهلهم للناس لأنهم كانوا يوهمون الناس بذلك كقولك: بَانَ زَيْدٌ جَهْلُهُ.
الثالث: أن تَبَيَّنَ هنا متعدِّ بمعنى أدْرَكَ وعَلم وحينئذ يكون المراد» بِالجِنِّ «ضَعَفَتُهُمْ وبالضمير في» كانوا «كبارُهم ومَرَدَتُهُمْ و» أنْ لَّوْ كَانُوا «مفعول به، وذلك أن المردة (و) الرؤساء من الجن كانوا يوهمون ضعفاءهم أنهم يعلمون الغيب فلما خَرَّ سليمانُ مَيْتاً كما ادعوا ما مَكَثُوا في العذاب، ومن مجيء» تَبَيَّنَ متعدياً بمعنى أدْرَكَ قوله:
4124 - أفَاطِم إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيِّنِي ... وَلاَ تَجْزَعِي كُلُّ الأَنَامِ يَمُوتُ
وفي كتاب أبي جَعْفَر ما يقتضي أن بعضم قرأ: «الجنَّ» بالنصب وهي واضحة أي تبينت الإنسُ الجِنَّ، و «أن لو كانوا» بدل أيضاً من «الجن» ، قال البغوي: قرا ابنُ مسعود وابنُ عباس تبينت الإنس أن لو كان الجنُّ يَعْلَمُونَ الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي علمت الإنسُ وأيقنت ذلك وقرأ ابنُ عباس ويعقوب تُبُيِّنَتِ الجِنُّ على(16/35)
البناء للمفعول وهي مؤيدة لما نقله النَّحَّاس وفي الآية قراءاتٌ كثيرةٌ أضْرَبْتُ علها لمخالفتها الشواذ وأن «في» أن لو «الظاهر أنها مصدرية مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و» لو «فاصلة بينهما وبين خبرها الفعليّ وتقدم تحقيق ذَلك كقوله:
{وَأَلَّوِ استقاموا} [الجن: 16] و {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ} [الأعراف: 100] وقال ابن عطية: وذهب سيبويه إلى أَنَّ «أَنْ» لا موضع لها من الإعراب إنما هي مؤذنة بجواب ما يَنْزِلُ مَنْزِلَة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحلّ مَحَلّ القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب «لو» وعلى الأقولا الأُول يكون جوابها. قال شهاب الدين: وظاهر هذا أنها زائدة لأنهم نصوا على اطِّرَادِ زيادتها قبل لو في حَيِّز القَسَم.
وللناس خلاف هل الجواب لِلَوء أو للقسم. والذي يقتضيه القياس أن يجاب أسبقهما كما في اجتماعه مع الشرط الصريح ما لم يتقدمهما ذُو خَبَر كما تقدم بيانه.
وتقدم الكلام والقراءات في سبأ في سورة النمل.
فصل
المعنى أن سليمان لما سقط ميتاً تَبَيَّنَت الجِنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي التَّعَب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب(16/36)
لغلبة الجهل عليهم وذكر الزُّهْريُّ أن معنى تَبَيَّنّت الجِنُّ أي ظهرت وانكشفت الجن للإنس أي ظهر لهم أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك، ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وابن عباس المتقدمة، وقوله: {مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين} يدل على أن المؤمنين من الجنِّ لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النَّبِيِّ في العذاب المهين.
فصل
رُوِيَ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسينَ سنة ومدة ملكه أربعونَ سنة ومَلَكَ يَوْمَ مَلَكَ وهو ابن ثلاثَ عَشْرَة سَنَةً وابتدأ في بناء بين المقدس لأربع سنين مضين من ملكه.(16/37)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
(قوله) تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَة} قرأ حمزة وحفص مَسْكَنِهِمْ بفتح الكاف مفرداً، والكسائي كذلك إلا أنه كسر الكاف والباقون مَسَاكِنِهِمْ جمعاً فأما الإفراد فلعدم اللبس لأن المراد الجمع كقوله:
4125 - كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا..... ... ... ... ... ... ... ... .(16/37)
والفتح هو القياس لأن الفعل متى ضمت عين مضارعة أو فتحت جاء المفعل منه زماناً أو مكاناً أو مصدراً بالفتح والكسر مسموع على غير قياس، وقال أبو الحسن: كسر الكاف لغة فاشيةٌ وهي لغة الناس اليوم والكسر لغة الحجاز وهي قليلة وقال الفراء: هي لغة يمانية فَصِيحةٌ.
و «مسكنهم» يحتمل أن يراد به المكان، وأن يراد به المصدر أي السُّكْنَى، ورجح بعضهم الثاني، قال: لأن المصدر يشمل الكل، فليس فيه وَضْعُ مفرد مَوْضع جمع بخلاف الأول فإن فيه وَضْعَ المفرد مَوْضِعَ الجمع، كما تقرر، لكن سيبويه يأباه إلاَّ ضَرُورةً كقوله:
4126 - ... ... ... ... ..... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جلدُ الجَوَامِيس
أي جلود، وأما الجمع فهو الظاهر لأن كل واحد مسكن، ورسم في المصاحف دون ألف بعد الكاف فلذلك احتمل القراءات المذكورة.
فصل
لما بين حال الشاكرين لِنِعَمِهِ بذكر داود وسليمان وبيَّن حال الكافرين بأنْعُمهِ، بحكاية أهل «سبأ» وقرئ سَبَأ بالفتح على أنه اسم بُقْعَة، وبالجر مع التنوين على أنه(16/38)
اسم قبيلة، وهو الأظهر لأن الله جعل الآية لسبأ والظاهر هو العاقل لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار الأهل، وقوله «آية» أي من فضل ربهم دلالةً على وحدانيتنا وقدرتنا وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن واسم سَبَأ عبد شمس بن يشجُب بن يَعْرُب بن قَحْطَان وسمي (سبأ) لأنه ول من سبأ من العرب.
قال السُّهَيْليّ: ويقال: إنه ول من تبرج، وذكر بعضهم أنه كان مسلماً وكان له شعر يشير فيه بوجود رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال (يعني سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) :
4127 - سَيَمْلكُ بَعْدنا ملكاً عَظِيماً ... نَبِيُّ لاَ يرخِّصُ في الحَرَامِ
وَيملِكُ بَعْدُ منهم مُلُوك ... يدينون العباد بغير دامِ
وَيملِكُ بعده منهم ملوك ... يصيرُ الملك فينا باقتِسام
وَيملك بَعْدَ قَحْطَانَ نَبِيُّ ... نفى جنته خير الأنام
يسمى أحمدَ يَا لَيْتَ أنّي ... أُعَمَّر بعد مَبْعثَهِ بعَامِ
فأعضُدُه وأحبُوه بنَصْرِي ... بكُلّ مُدَجَّج وبِكُلِّ رَامِي
مَتَى يَظْهَرْ فكُونوا ناصِرِيهِ ... ومن يلقاه يُبْلِغْه سَلامِي
روى ابن عباس قال سأل فروة بن مسيك الغطيفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن سبأ ما هو؟ أكان رجلاً أو امرأة أو أرضاً؟ قال: بل هو رجل من العرب ولد عشرة من لاولد فسكن اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة فأما الذين تيامنوا فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحِمير فقال رجل وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثْعم وبجيلة، وأما الذين تشامُوا فلَخم وجُذام وعاملة وغسان، ولما هلكت أموالهم وخربت بلادهم تفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدي سبا شَذَر مذر، فلذلك قيل لكلّ متفرقين بعد اجتماع: «(16/39)
تَفَرَّقُوا أَيَادي سَبَا» فنزلت طوائف منهم الحجاز فمنهم خُزَاعة نزلوا بظاهر مكة ومنهم الأوسُ والخَزْرج نزلوا بيثرب فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قَيْنُقَاع وبنو قُرَيْظَة والنَّضير فخالفوا الأوس والخزرد وأقاموا عندهم ونزلت طوائف أُخَرُ منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غَسَّان وعامِلة ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم، و «سبأ» يجمع هذه القبائل كلها.
والجمهور على أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين فحطانية وعَدْنَانيَّة، فالقحطانية شَعْبَان سبأ وحَضْرَمَوْتَ والعَدْنَانيَّة شعبان ربيعةُ ومُضَر وأما قُضَاعَةُ فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قَحْطَان وبعضهم إلى عدنان، وقيل: إن قحطان أول من قيل له: أنْعِمْ صباحاً، وأبَيْتَ اللَّعْنَ قال بعضهم: إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما (الصلاة و) السلام وليس بصحيح فإن إسماعيل نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عرباً. والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأَهم وجرهم والعماليق يقال: إن «أهم» كان ملكاً يقال إنه أول من سقَّف البيوت بالخشب لامنشور وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة، يقال لها: وَبَار هلكوا بالرمل انثال عليهم فأهلكهم وطمَّ (مناهلهم) وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
4128 - وَكَرَّ دَهْرٌ عَلَى وَبَارِ ... فَهَلَكت عَنْوَةً وَبَارُ(16/40)
قوله: «جنتان» فيه ثلاثة أوجه:
الرفع على البدل من «آية» وأبد مُثَنَّى من مفرد لأن هذا المفرد يصدق على هذا المثنى وتقدم في قوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] .
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر. وضعف ابن عطية الأول ولم يبينه. ولا يظهر ضعفه بل قوته وكأنه توهم أنهما مختلفان إفراداً أو تثنية فلذلك ضعف البدل عنده والله أعلم.
الثالث - وإليه نحا ابن عطية - أن يكون جنتان متبدأ وخبره «عَنْ يَمِينٍ وشِمَالٍ» .
وردَّة أبو حيان بأنه ابتداء بنكرة من غير مسوغ واعْتُذِرَ عنه بأنه قد يعتقد حذف صفة أي جَنَّتَانِ لهم أو جنتان عَظِيمَتان فيصح ما ذهب إليه وقرأ ابن أبي عبلة جنتين بالياء نصباً على خبر كان واسمها «آية» .
قإن قيل: اسم كان كالمبتدأ ولا مسوغ للابتداء به حتى يجعل اسم كان والجواب أنه يخصص بالحال المتقدمة عليه وهي صفته في الأصل ألا ترى أنه لو تأخر «لِسَبأٍ» لكان صفة «لآية» في هذه القراءة.
قوله: «عَنْ يَمينٍ» إما صفة لجنتان أو خبر مبتدأ مضمير أي هما عن يمين قال المفسرون أي عن يمين الوادي وشماله.
وقيل: عن يمين من أتاها وشماله وكان لهم وادٍ قد أحاط الجنتان بذلك الوادي.
قال الزمخشري: أيَّةُ آيَةٍ في جنتين مع أن بعض بلاد العراق فيها ألف من الجِنَان؟ وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتين أو عن يمين أيديهم وشمالهم جماعات من الجنان ولإيصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة.(16/41)
قوله: «كُلُوا» على إضمار القول أي قَالَ اللَّه أو المَلَكُ كُلُوا من رزق ربكم.
وهذه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم واشكروا له على ما رزقكم من النعمة فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة أي اعملوا له بطاعته. قوله «بَلْدَةٌ» أي بَلْدَتثكُمْ بلدةً (طيبة) وربكم «رَبُّ غَفُورٌ» والمعنى أن أرض سبأ بلدة طيبة ليست مسبخة.
قال ابن زيد: لم ير في بلدتهم بَعُوضَة ولا ذُبابٌ ولا بُرْغُوثٌ ولا حيَّة ولا عقربٌ ولا وباءٌ ولا وَخَم وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كلها من طيب الهواء، فذلك قوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي طيبة الهَوَاءِ «ورب غفور» قال مقاتل: وربكم إنشَكَرْتُمْ فيما رزقكم رب غفور للذنوب. وقيل ورب غفور أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة وقرأ رويس بنصب «بلدةٍ، وَرَب» على المدح أو اسكنوا أو اعبدوا وجعله أبو البقاء مفعولاً به والعامل فيه «اشْكُرُوا» وفيه نظر؛ إذ يصير التقدير اشكروا لربكم رَبًّا غفوراً، ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال: «فَأَعْرَضُوا» من كمال ظلمهم، الإعراض بعد إبانة الآية كقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ} [السجدة: 22] قال وهب: أرسل الله إلى سبأَ ثلاثةَ عَشَرَ نبياً فدعوهم إلى الله وذكروهم نعم الله عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله عزّ وجلّ علينا نعمةً، فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَعْرَضُوا، ثم ذكر كيفية الانتقام منهم كما قال تعالى: {إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22] وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلاً غرَّق أموالهم وخَرَّب دُورَهُمْ.
قوله: {سَيْلَ العرم} العَرِمُ فيه أوجه:
أحدهما: أنه من باب إضافة الموصوفِ لصفته في الأصل إذ الأصل: السَّيْلُ العَرِمُ، والعَرِمُ الشديد وأصله من العَرَامَة، وهي الشَّراسَةُ والصعوبة وعَرِمَ فُلاَنٌ فَهُوَ عارِمٌ وَعرِم وعُرَام الجَيْشِ منه.(16/42)
الثاني: أنه من حذف الموصوف وإقامة صفته مُقامه تقديره فأرسلنا عليهم سَيْلَ المَطَرِ العَرِمِ أي الشديد الكثير.
الثالث: أن العَرِم اسم للبناء الذي يجعل سداً وأنشد (قول الشاعر) :
4129 - مِنْ سَبَأِ الحَاضِرين مَأْرِبَ إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ سَيْلِهِ العَرِمَا
أي البناء القوي. قال البغوي: العَرَمْ والعَرَمُ والعَرِمُ جمع عَرَمَةٍ وهي السد الذي يحبس الماء.
الرابع: أن العَرِم اسم للوادي الذي كان فيه الماء نفسه.
وقال ابن الأعرابي: العرم السيل الذي لا يطاق وقيل: كان ماء أحمر أرسله الله عليهم من حيث شاء.
الخامس: أنه اسم للجرذ وهو الفأر. وقيل: هو الخُلْدُ وإنما أضيف إليه؛ لأنه تسبب عنه إذ يروى في التفسير أنه قرض السدّ إلى أن انفتح عليهم فغرقوا به. وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الإضافة إضافةً صحيحة معرفة نحو: غُلاَمُ زَيْدٍ، أي سيل البناء أو سيل الوادي الفُلاَنيّ أو سيل الجُرْذِ. وهؤلاء هم الذين ضربت العرب بهم المثل للفُرْقة فقالوا «تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَا» . وقد تقدم.(16/43)
فصل
قال ابن عباس ووهب وغيرهما: كان ذلك السد بَنَتْهُ بَلْقِيسُ وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المُسَنَّاة بلغة حمير فسكت ما بين الجبلين بالصخور وجعلت له أبواباً على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا سَدُّوا فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السَّدِّ فأمرت بالباب الأعلى يفتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من بالباب الأعلى (ثم) من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يَثوبَ الماءُ من السنة المقبلة فكانت تَقْتَسمثه بينهم على ذلك فبقُوا على ذلك بعدها مدة فلمَّا طَغَوْا وكَفَرُوا سلَّط الله عليهم جُرْذاً يسمَّى الخُلْدَ فنقب السد من أسفله فغَرَّق الماء جنانهم وخرب أرضهم.
قوله: {بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْن} قد تقدم في البقرة أن المجرور بالباء هو الخارج، والمنصوب هو الداخل؛ ولهذا غَلطَ مَنْ قال من الفقهاء: فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بطلت صلاته بل الصواب أن يقول: ظاءً بضادٍ.
قوله: {أُكُلٍ خَمْطٍ} قرأ أبو عمرو بإضافة «أُكُلٍ» إلى «خَمْطٍ» والباقاون بتنوينه غير مضاف، وقد تقدم في البقرة أن ابْنَ عَامِرٍ، وأبَا عمرو والكوفيِّينَ يضمون كاف «أكل» غير المضاف لضمير المؤنثة وأنَّ نافعاً وابنَ كثير يسكنونها بتفصيل هناك تقدم تحريره فيكون القراء هنا على ثلاث مراتب، الأولى لأبي عمرو أُكُلِ خمطٍ بضم كاف أكل مضافاً «لخمط» .
الثانية: لنافع وابن كثير بتسكين كافة وتنوينه.
الثالثة: للباقين ضم كافة وتنوينه فمن أضاف جعل الأكل بمعنى الجَنَى والثَّمَر.(16/44)
والخمط قيل: شجر الأَراكَ وثمره يقال له: البَريرُ. (و) هذا قول أكثر المفسرين وقيل: كل شجر ذي شوك وقال المبرد والزجاج: كل نبت أخذ طعماً من مَرَارَةٍ حتى لا يمكن أكله فهو خَمْط وقال ابن الأعرابي: الخمط ثمرة شجرة يقال لها: فَسْوَة الضَّبْغ على صورة الخَشْخَاش لا ينفتع به. قال البغوي: من جعل الخمط اسماً للمأكول فالتنوين في «أكل» حسن ومن جعله أصلاً وجعل «الأُكُل» ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب في بُسْتَان فلان أعنابُ كَرْمٍ وأعنابٌ كَرْمٌ يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه.
قوله: {وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرِ} معطوفان على «أكل» لا على «خمط» لأن المخط لا أكل له، وقال مكي: لمَّا لَمْ يَجُز أن يكون الخمط نعتاً للأكل؛ لأن الخَمْطَ اسم شجر بعينه ولا بدلاً؛ لأنه ليس الأول ولا بعضه وكان الجنى والثمر من الشجر أضيف على تقدير «مِنْ» كَقولك: «هذَا ثَوْبُ خَزِّ» . ومن نون فيحتمل أوجهاً:
الأول: أنه جعل «خمطاً» وما بعده إما صفة «لأكُل» قال الزمخشري: أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل: ذَوَاتَىْ أُكُلٍ بشيع. قال أبو حيان: والوصف بالأسماء لا يَطَّرِدُ وإن كان قد جَاءَ منه شيءٌ نحو قولهم: «مَرَرْت بقَاعٍ عَرْفَج كُلّهٍ» .
الثاني: البدل من «أكل» قال أبو البقاء: وجُعِلَ خَمْطاً أُكُلاً لمجاورته إياه، وكونِهِ سبباطً له إلا أن الفارسيَّ ردَّ كونه بدلاً قال: لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأكل نفسه، وقد تقدم جواب أبي البقاء، وقد أجاب بعضهم عنه وهو منتزع من كلام الزمخشري أي أنه(16/45)
على حذف مضاف تقديره ذواتي أكُلِ خمطٍ قال: والمحذوف هو الأول في الحقيقة.
الثالث: أنه عطف بيان وجعله أبو عليِّ أحسن ما في الباب، قال: كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة، إلا أن عطف البيان لا يُجيزُه البصريون في النَّكرات إنما يَخصُّونَه بالمعارف والأثْلُ هو الطَّرْفَاءُ. قويل: شجر يشبه الطرفاء وقيل: نوع من الطرفاء ولا يكون على ثمرة إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعَفْص أصغر منه في طعمه وطبعه، والسِّدْرُ شجر معروف وهو شجر النَّبْقِ يُنْتَفَعُ به ولا يصلح ورقه لشيءٍ، وقال بعضهم: السِّدْرُ سِدْرَانِ سِدْرٌ له ثمرة عَفءصَة لا يؤكل ولا ينتفع بورقه. والمراد بالآية الأوّل. وقال قتادة: كان شَجَرُهُمْ خيرَ الشَّجَر فصيره الله من شر الشَّجر بأعمالهم.
قوله: «قَلِيل» نعت ل «سدر» وقيل: نعت «لأُكُل» وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون نعتاً «لخمط» و «أَثْل» و «سِدْرٍ» وقرئ «وَأَثْلاً وشَيْئاً» بنصبهما عطفاً على «جنَّتَيْنِ» ثم بين (الله) تعالى أن ذلك (كان) مجازاة لهم على كفرانِهم فقالك(16/46)
{جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجزيا} بذلك الجزاء «إلاَّ الكَفُور» .
قوله: {وَهَلْ نجزيا} قرأ الأَخَوَانِ وحفصٌ نُجَازِي بنون العظمة وكسر الزاي لقوله: «جَزَيْنَاهُمْ» أي (نحن) (وهل نُجَازِي هَذَا الجَزَاءَ) إلا الكفور مفعول به والباقون بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول إلا الكفور رفع على ما لم يسم فاعله ومسلم بن جُنْدُب «يُجْزَى» للمفعول إلاَّ الكَفُور رفعاً على ما تقدم وقرئ «يَجْزِي» مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تَعَالى «الكَفُورَ» نصباً على المفعول به.
فصل
قال مجاهد: يجازي أي يعاقب ويقال في العقوبة وفي التوبة يجزى. قال الفراء: المؤمن يجزى ولا يجازى أي يُجْزَى الثوابَ بعَملِهِ ولا يكأفَأُ بسيِّئَاته. وقال بعضهم: المجازاة يقال في النعمة والجزاء في النقمة لكن قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفْرُوا} يدل على أن «يَجْزي» في النَّقمة ولعل من قال ذلك أخذه من المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر يكون منا بين اثنين يؤخذ من كل واحد جزاء في حق الآخر وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله مبتدِئٌ بالنعم.
قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا} بالماء والشجر وهي قُرَى الشام «قُرًى ظَاهِرَةً» متواصلة أي يظهر بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى لقربها منها فكان شَجَرُهُمْ من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلُون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سَبَأَ إلى الشام.
فإن قيل: هذا من النعم والله تعالى أراد بيان تبديل نعمهم بقوله: {وبَدَّلْنَاهُمْ بجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَيْنِ} فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النعمة؟(16/47)
فالجواب: أنه ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمراتها بكَثْرة القُرى ثم ذكر تبديله ذلك بالمَفَاوز والبَرَارِي والبَوَادِي بقوله: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} ، وقد فعل ذلك ويدل عليه قراءة من قرأ ربُّنَا بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا على المبتدأ والخبر.
قوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي قدرنا سيرهم من هذه القرى وكان سيرهم في الغَدْوِ والرَّواح على قدر نصف يوم فإذا ساروا نصفَ يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار قال قتادة: كانت المرأة تخرج ومعها مِغْزَلُها وعلى رأسها مِكتَلُها فَتَمْتَهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مِكتَلُها من الثمار وكان ما بين اليمن إلى الشام كذلك.
قوله: «سِيرُوا» أي وقُلْنَا لهم سيروا، وقيل: هو أمر بمعنى الخبر أي مكَّنَّاهم من السير فكانوا يسيرون فيها لَيَالي وأياماً أي بالليالي والأيَّام أي وقت شئتم «آمِنِينَ» لا تخافون عَدُوّاً ولا جُوعاً ولا عَطَشاً.
وقيل: معنى قوله تعالى: {لِيَالِيَ وَأَيَّاماً} أنكم تسيرون فيه إن شئتم لَيَالِيَ وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يُسْلَكُ ليلاً لئلا يعلم العدو بسيرهم وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غيرَ مجاهر بالقصد والعداوة فَبَطَرُوا وطغوا ولم يصبروا على العاقبة وقالوا: لو كَانَ جَنَى جَنَّاتِنَا أبعدَ مما هي كان أجدرَ أن نشتهيه فقالوا: ربَّنَا بَعِّدْ بين أسفارنا فاجعل بيننا وبين الشام فلواتٍ ومَفَاوِزَ لنركبَ فيها الرَّوَاحِل ونتزودَ فيها الأزواد. وقال مجاهد: بَطَرُوا النعمة وسَئِمُوا الراحة كما طلبت اليهود الثوم والبصل. ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره: اضربني إشارة إلى أنه لا يَقْدِرُ عليه، ويحتمل أن يكون قولهم: «رَبَّنَا بَاعِدْ» بلسان الحال أي لما كفروا فقد طلبوا أن يُبَعَّد بين أسفارهم وتخريب المعمور من ديارهم، وقوله: «ظلموا» يكون بياناً لذلك.
قوله: «رَبَّنَا» العامة بالنصب على النداء. وابن كثير وأبو عمرو وهشام «بَعِّدْ»(16/48)
بتشديد العين فعل طلب والباقون بَاعِدْ طلب أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي. وقرأ ابن الحَنَقِيَّة وسُفْيَان بن حُسَيْنِ وابن السَّميفع بَعْدَ بضم العين فعلاً ماضياً والفاعل المسير أي بَعُد المَسِيرُ، و «بين» ظرف وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلا أنه ضَمَّن نون بين جعله فَاعِلَ «بَعُدَ» فأخرجه عن الظرفية، كقراءة {تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] رفعاً. فالمعنى على القراءة المتضمنة للطلب أنهم أَشِرُوا وبَطَرُوا فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسْفَارِ، وعلى القراءة المتضمنة للخبر الماضي يكون شكوى من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً وقرأ جماعة كبيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية ويعقوب (وعمرو) بن فايد: «رَبُّنَا» رفعاً على الابتداء بَعَّدَ بتشديد العين فعلاً ماضياً خبره، وأبو رجاء والحَسَنُ ويعقوبُ كذلك إلا أنه «بَاعَد» بالألف والمعنى على هذه القراءة شكوى بعد أسفارهم على قربها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم وقرئ: «بُوعِدَ» مبنياً للمفعول. وإذا نصبت «بين» بعد فعل متعد من هذه المادة في إحدى هذه القراءات سواء أكان أمراً أم ماضياً فجعله اسماً «؟ قال شها الدين: إقراره على ظرفيته أولى ويكون المفعول محذوفاً تقديره بعد المسيرُ بين أسفارنا. ويدل على ذلك قراءة بَعُدَ بضمّ العين بَيْنَ بالنصب فكما يضمر هنا الفاعل وهو ضمير السَّيْر كذلك يبقى هنا» بين «على بابها وينوى السَّير وكان هذا أولى؛(16/49)
لأن حذف المفعول كثيرٌ جداً لا نزاع فيه وإخراج الظرف غير المتصرف عن ظرفيته فيه نزاع كثير. وتقدم تحقيق هذا والاعتذار عن رفع» بَيْنكُمْ «في الأنْعَامِ وقرأ العامة أَسْفَارِنَا جَمْعاً. وابن يَعْمُرَ» سَفَرنا «مفرداً.
قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم {ومَزَّقْناهُمّ كُلَّ مُمَزَّقٍ} وفرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق. وهذا بيان لجعلهم أحاديث. قال الشعبي: لما غرقت قُراهم تفرّقوا في البلاد أما غسان فلحقوا بالشام ومرَّ الأزد على عمان وخزاعة إلى تِهامة وموالي جذيمة إلى العراق والأوس والخزرج إلى يثرب وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بْنُ عامر وهو جدّ الأوس والخزرج.
قوله: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي فيما ذكرنا من حال الشاكرين ووبال الكافرين لِعبَرٌ ودَلاَلاَتٌ» لِكُلِّ صَبَّارٍ «عن معاصي الله» شَكُورٍ «لنعمة الله قال مقاتل: يعني المؤمن في هذه الآية صبور على البلاد شكور للنعماء قال مُطْرِفٌ: هو المؤمن إذا أُعْطِيَ شَكَر، وإذا ابتُلي صَبَرَ.(16/50)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه} قرأ الكوفيون صَدَّقَ بتشديد الدال والباقون(16/50)
بتخفيفها، فأما الأولى «فظَنَّهُ» مفعول به والمعنى أن طنَّ إبليس ذهب إلى شيء فوافق فصدق هو ظنه على المجاز والاتساع ومثله: كَذَّبْتُ ظَنِّي ونَفْسي وصَدَّقْتُهُمَا وصدَّقَانِي وَكذَّبانِي وهو مجاز شائع سائغ أي ظن شيئاً فوقع وأصله من قوله: {ولأضلنهم} [النساء: 119] وقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه. وأما الثانية: فانصب «ظنه» على ما تقدم من المفعول به كقولهم «أصَبْتُ ظَنِّي، وأَخْطَأت ظَنِّي» أو على المصدر بفعل مقدر أي «يَظُنُّ ظَنَّهُ» أو على إسقاط (الخافض أي) في ظَنَّه، وزيد بن علي والزُّهْريُّ بنصب «إبليسَ» ورفع «ظَنُّهُ» كقول الشاعر:
4130 - فَإنْ يَكُ ظَنِّي صَادِقاً فَهْوَ صَادق..... ... ... ... ... ... ... ... ...
جعل «ظنه» صادقاً فيما ظنه مجازاً واتساعاً، وروي عن أبي عمرو برفعهما وهي(16/51)
واضحة جعل «ظنه» بدل اشتمال من إبليس والظاهر أن الضمير في «عليهم» عائد على أهْلِ سَبَأَ و «إلاَّ فَريقاً» استثناء من فاعل «اتَّبَعُوه» «ومِنَ المُؤمِنِينَ» صفة «فَريقاً» و «مِنْ» للبَيَان لا للتبعيض لئلا يَفْسد المعنى؛ إذا يلزم أن يكون بعض من آمن اتبع إبْليسَ.
فصل
قال المفسرون: صدق عَلَيْهم أي على أهل سبأ. وقال مجاهد: على الناس كلهم إلا من أطاع الله فاتَّبعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين قال السدي عن ابن عباس يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين وقد قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] يعني المؤمنين وقيل: هو خالص في المؤمنين الذين يطيعون الله ولا يَعْصُونه. وقال ابن قتيبة: إن إبليس سأل النظرة فأنَظَرَهُ الله قال: لأغويَنَّهُمْ وَلأضِلَّنَّهُمْ لم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قال ظناً فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم.
قوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ} هذا استثناء مفرغ من العلل العامة تقديره: وما كان له عليهم (من سلطان) استيلاء لشيء من الأشياء إلا لهذا وهو تمييز المُحَقِّ من الشَّاكِّ.
قوله: «مِنْهَا» متعلق بمحذوف على معنى البيان أي أعني منها وبِسَبَبِها وقيل: «من» بمعنى «في» وقيل: هو حال من «شَكَّ» وقوله: «مَنْ يُؤْمِنُ» يجوز في «من» وجهان:
أحدهما: أنها استفهامية فتسُدّ مسدَّ معفولي العلم كذا ذكر أبو البقاء وليس بظاهر؛ لأن المعنى إلا لنُمَيِّزَ ويظهر للناس من يؤمن ممن لا يؤمن فعثر عن مقابله بقوله {مِمَّنْ مِنْهَا فِي شَكِّ} لأنه من نتائجه ولوازمه.(16/52)
والثاني: أنها موصولة وهذا هو الظاهر على ما تقدم تفسيره.
فصل
قال ابن الخطيب: إن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه فإنّ العلم صلة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالمَ سَيُوجد فإذا وجد علمه موجوداً بذلك العلم وإذا عدم علمه مَعدوماً كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمور يظهر فيها صورة والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها وإنما التغيير في الخارجات فكذلك ههنا.
قوله: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} أي ليقع في العلم صُدُور الكفر من الكافر، والإيمان من المؤمن وكان علمه فيه أنْ سَيَكْفُرُ زَيْدٌ ويُؤْمِنُ عَمرو قال البغوي: المعنى إلا ليميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلوماً عنده بالغيب. وقوله: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} محقِّق، ذلك أن الله تعالى قادر على منع إبليس منهم عالم بما يقع فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا الجاهل.
قوله: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ} مفعول «زعمتم» الأول محذوف هو عائد الموصول، والثاني أيضاً محذوف قامت صفته مقامه أي زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ من دون الله ولا جائز أن يكون: «مِنْ دُونِ اللَّهِ» هو المفعول الثاني؛ إذ لا ينعقد منه مع ما قبله كَلاَم لو قلت: هُمْ من دون الله أي من غير نية موصوف لم يجز ولولا قيام الوصف مقامه أيضاً لم يحذف لأنَّ حَذْفَهُ اختصاراً قليلٌ على أن بعضهم منعه.(16/53)
فصل
لما بين الله تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بما مضى عاد إلى خطابهم فقال لرسوله عليه (الصلاة و) السلام: قُلْ للمشركين «ادْعُوا الَّذِينَ زعَمتُمْ من دون الله) وفي الكلام حذف أي ادعوهم ليكشفوا الضر الذي نزل لكم في سِنِينِ الجُوع ثم وصفها فقال: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} من خير وشر ونفع وضر» وَمَالَهُمْ «أي الآلهة فيهما أي السموات والأرض» مِنْ شِرْكٍ «أي شركة» وَمَا لَهُ «أي وما لله» مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير «غَوْنٍ.
قوله: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} اللام في» لمن «فيها أوجه:
أحدهما: أن اللام متعلقة بنفس الشفاعة قال أبو البقاء: وفيه نظر وهو أنه يلزم أحد أمرين إما زيادة اللام في المفعول في غير موضعها وإما حذف مفعول» تنفع «وكلاهما خلافُ الأصل.
الثاني: أنه استثناء مفرغ من مفعول الشّفاعة المقدر أي لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ له ثم المستثنى منه المقدر يجوز أن يكون هو المشفوع له وهو الظاهر والشافع ليس مذكوراً إنما دل عليه الفحوى والتقدير:
لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعة لأحدٍ من المشفوع لهم إلا لِمَنْ أَذِنَ له تعالى للشافعين أن يشفعوا فيه ويجوز أن يكون هو الشافع والمشفوع له ليس مذكوراً تقديره لا تنفع الشفاعة إلا لشافع أذن له أن يشفع وعلى هذا فاللام في» لَهُ «لام التبليغ لا لام العلة.
الثالث: أنه استثناء مفرغ أيضاً لكن من الأحوال العامة تقديره لا تنفع الشفاعةُ إلا(16/54)
كائنة لمن أذن له. وقدره الزمخشري فقال: تقول الشفاعة لزيد على معنى الشافع كما تقول: الكرم لزيد على معنى أنه المشفوع له كما تقول: القيام لزيد فاحتمل قوله: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه} أن يكون على أحد هَذَيْن الوَجْهَينِ أي لا تنفع الشافعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك: «أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو» أي لأجله فكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيفٌ وهو الوجهُ. انتهى فقوله: القيام لزيدٍ يعني أنها لام العلة كما هي في: «القيامُ لزيدٍ» وقوله: «أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو» أن الأولى للتبليغ والثانية لام العلة، وقرأ الأخَوانِ وأبو عمرو «أُذِنَ» مبنياً للمفعول والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور والباقون مبنياً للفاعل أي أذن الله وهو المراد في القراءة الأخرى وقد صرح به في قوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ} [النجم: 26] و «إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن» .
فصل
معنى الآية إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ له في الشفاعة قاله تكذيباً لهم حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يَشَفْعَ لَهُ.
قوله: {حَتَّى إذَا} هذه غاية لا بدّ لها من مُغَيَّا وفيه أوجه:
أحدهما: أن قوله: «فَاتَّبعوه» على أن يكون الضمير في «عَلَيْهِمْ» من قوله: «صَدقَ عَلَيْهِمْ» وفي «قُلُوبِهم» عائداً على جمعي الكفار ويكون التفريغ حالة مفارقة الحياة أو يجعل اتباعهم إياه مفارقة إلى يوم القيامة مجازاً. والجملة من قوله «قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زعمتُمْ» معترضة بين الغاية والمغيا. ذكره أبو حيان. وهو حسن.
والثاني: أنه محذوف قاله ابن عطية كأنه قيل: ولا هم شفاء كما تُحبّون أنتم بل هم عبدة أو مسلمون أي منقادون «حَتَّى إذَا فُرِّع عَنْ قُلُوبِهِمْ» انتهى وجعل الضمير في «(16/55)
قُلُوبِهِمْ» عائداً على الملائكة وقدر ذلك وضعف قول من جعله عائداً على الكفار أو على جميع العالم.
وقوله: {قَالُوا مَاذَا} هو جواب «إذا» ، وقوله: {قَالُوا الحَقَّ} جواب لقوله: «مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ» و «الحَقَّ» منصوب بقَال مُضْمَرة أي قالوا: قَالَ رَبُّنَا الحَقَّ أي القَوْلَ الحَقَّ، إلاَّ أنَّ أبا حيان ردّ هذا فقال: وما قدّره ابن عطية لا يصح لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها (و) هم منقادون عنده دائماً لا ينفكون عن ذلك لا إذَا فُرِّع عَنء قُلُوبِهِمْ ولا إذا لم يُفَرَّعْ.
الثالث: أنه «زَعَمْتُمْ» أي زعمتم الكفر في غاية التفريغ ثم تركتم ما زعمتم وقلتم: قال الحق وعلى هذا يكون في الكلام التفات من خطاب في قوله: «زعَمْتُمْ» إلى الغيبة في قوله: «قُلُوبِهِمْ» .
الرابع: أنه ما فهم من سياق الكلام، قال الزمخشري: فإن قلت: باي شيء اتصل قوله: «حَتَّى إذَا فزع» ؟ وأي شيء وقَعَتْ «حَتَّى» غايةً؟ قلتُ: بما فهم من هذا الكلام من أن ثَمَّ انتظاراً للأذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين الشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لايؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلاَّ بعد مليِّ من الزمان وطول من التَّربُّص ودل على هذه الحالة قوله - عزّ من قائل - {رَّبِّ السماوات والأرض} [النبأ: 37] إلى قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38] فكأنه قيل: يتربصون ويتوقفون ملِيًّا فزكعين وَجِلينَ حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبهم أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تَبَاشَرُوا بذلك وقال بعضهم لبعض: ماذَا قَالَ رَبَّكم قالوا الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وقرأ ابن عامر فَزَّعَ مبنياً للفاعل. فإن كان الضمير في «قلوبهم» للملائكة فالفاعل في «فزع» ضمير اسم الله تعالى تلقدم ذكره وإن كان للكفار فالفاعل ضمير مُغْويهِمْ. كذا قال أبو حيان والظاهر أنه يعود على الله(16/56)
مطلقاً وقرأ الباقون مبنياً للمفعول والقائم مقام الفاعل الجارّ بعده، وفعل ابتشديد معناه السلب هنا نحوه «قَرَّدْتُ البَعِيرَ» أي أزلتُ قُرَادَهُ كذا هنا أي أزال الفَزَعَ عنها أي كشف الفَزَعَ وأخرجه عن قلوبهم فالتفريعُ لإزالة الفزع كالتَّمْريض والتَّقْرِيد.
وقرأ الحَسَنُ فُزِعَ مبنياً للمفعول مخففاً كقولك «ذُهِبَ بِزَيْدٍ» ، والحسن أيضاً قتادة ومجاهد فَرَّغَ مشدداً مبنياً للفاعل من الفَرَاغِ الفَنَاءُ والمعنى حتى إذا أفنى الله الرجل انتفى بنفسه أو نفى الوجل والخوف عن قلوبهم فلما بني للمفعول قام الجار مَقَامه وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عمر افْرُنْقِعَ من الافرنقاع وهو التفرق قال الزمخشري: والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب «اقمطَرَ» من حروف القمط مع زيادة الراء، قال أبو حيان: فإن عنى أن العين من حروف الزيادة (وكذا الراء وهو ظاهر كلامه فليس بصحيح لأن العين والراء ليسا من حروف الزيادة) وإن عنى أنَّ الكلمة فيها حروف ما ذكر وزاد إلى ذلك العين والراء والمادة «فَرْقَعَ وقَمْطَرَ» فهو صحيح انتهى، وهذه قراءة مخالفة للشواذ ومع ذلك هي لفظة غريبة ثقيلة اللفظ نص أهل البيان عليها ومثلوا بها وحكي عن عيسى بن عمر أنه غُشِيَ عليه ذات يوم فاجتمع عليه النَّظَّارة فلما أفاق قال: «ما لي أرَاكُمْ تَكَأكأتم عَلَيَّ تكأكؤكم عَلَى ذِي جِنَّةٍ افْرَنْقِعُوا عنّي» أي اجتمعتم عليّ اجتماعكم على المجنون تفرقوا عني فعابها الناس عليه حيث استعمل مثل هذه الألفاظ الثقيلة المستغربة، وقرأ ابن عبلة بالرفع الحق على أنه خبر مبتدأ مضمر أي قالوا: قَوْلُهُ الحَقُّ.(16/57)
فصل
اختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة فقيل: هم الملائكة، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم إنَّما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله - عزّ وجلّ - لِمَا روى أبو هريرة أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال «إذَا قَضَى اللَّهُ الأمر فِي السَّمَاءِ ضَرَبت المَلاَئِكَةُ بأجْنِحَتِهَا خُضْعَاناً» لِقَوْلِهِ كأنه سلسلة على صَفْوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق هو العلي الكبير وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «خَوْفاً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أهْلُ السَّمَواتِ ضَعُفُوا وخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّداً فيكُونُ أَوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأسَهُ جبريل فُيَكلِّمهُ مِنْ وَحِيْهِ بَمَا أَرَادَ ثُمَّ يَمُرُّ جِبْريلُ عَلَى المَلاَئِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بسَماءٍ سَأَلَهُ مَلاَئِكَتُهَا ماذَا قَال رَبُّنَا يَا جبريلُ؟ فيقُول جِبْريلُ الحقّ وهُو العَليُّ الكبيرُ قال: فيَقُولُون كُلُّهُمْ مثْلَ مَا قَالَ جبْريل. فَيَنْتَهِي جِبْريلُ بالوحي حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ» وقيل: إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة. قال مقاتل والسدي: كانت الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما (الصلاة و) السلام - خمسمائة سنة. وقيل: سمتائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً فلما بعث الله محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلَّم جبريل - عليه (الصلاة و) السلام - بالرسالة إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة فلما انْحدَرَ جبريلُ جعل يمُرُّ بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربُّكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير وقيل: الموصوف بذلك المشركون. قال الحسن وابن زيد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامةً للحجة عليهم قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار.(16/58)
قوله: «وهو العلي الكبير» فقوله: «الحق» إشارة إلى أنه كامل وقوله: «وهو العلي الكبير» إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته.(16/59)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قوله (تعالى) : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات} المطر «و» من «الأَرْضِ» النبات «قُل اللَّهُ» يعني إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت رازقكم الله.
قوله: {أو إيّاكُمْ} عطف على اسم «إن» وفي الخبر أوجه:
أحدها: أن الملفوظ به الأول. وحذف خبر الثاني للدلالة عليه أي وإنَّا لعَلَى هُدًى أو في ضلال أو إنكم لَعَلى هدى أو في ضلال.
والثاني: العكس أي حذف الأول والملفوظ به خبر الثاني وهو خلاف مشهور وتقدم تحقيقه عند قوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وهذان الوجهان لا ينبغي أي يحملا على ظاهرهما قطعاً لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يشكّ أنه على هدى ويقين وأن الكفار على ضلال وإنما هذا الكلام جارٍ على ما تتخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير ويسميه أهل البيان الاسْتِدْرَاجَ وهو أن يذكر المخاطب أمراً يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يُصْغِي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يَصْغَ، ونظيره قولهم: أخْزَى اللَّهُ الكَاذِبَ مِنِّي ومِنْكَ ومثله قول الآخر:(16/59)
4131 - فَأيِّي مَا وأيُّكَ كَانَ شَرًّا ... فَقِيدَ إلَى المُقَامَةِ ولا يَرَاهَا
وقول حسان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
4132 - أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ
مع العلم لكل أحد أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خير خلق الله كلهم.
الثالث: أنه من باب الف والنشر والتقدير: وَإنَّا لَعَلَى هُدًى وإنَّكُمْ لَفِي ضَلاَلٍ مُبين ولكن لفَّ الكَلاَمَيْنِ وأخرجهما كذلك لعدم اللبس، وهذا لا يتأتي إلا أن تكون «أو» بمعنى الواو. وهي مسألة خلاف ومن مجيء «أو» بمعنى الواو قوله:
4133 - قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجِم مُهْرِهِ أَوْ سَافِع
وتقدم تقرير هذا، وهذا الذي ذكرناه منقول عن أبي عبيدة.(16/60)
الرابع: قال أبو حيان: و «أو» هنا على موضعها لكونها لأحد الشيئين وخبر «إنَّا أَوْ إيَّاكُمْ» هو «لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ» ولا يحتاج إلى تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لفي أحد هذين لقولك: «زَيْدٌ أو عمرو في القصر أو في المسجد» لا يحتاج إلى تقدير حذف إذ معناه أحد هذين في أحد هذين.
وقيل: الخبر محذوف ثم ذكر ما تقدم إلى آخره، وهذا الذي ذكره تفسير معى لا تفسير إعراب. (والناس) نظروا إلى تفسير الإعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرناه.
وذكروا في الهدى كلمة «على» وفي الضلال كلمة «في» لأن المهتدي كأنه مرتَفع مطَّلع فذكره بكلمة «التعالي» والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكر بكلمة «في» .
قوله: {قُلْ لاَ تُسألون عَمَّا أَجْرَمْنَا} أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم: «وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم.
قوله: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنَا} يَوْمَ القِيَامَة «ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ» وهاتان صفتا مبالغة وقرأ عيسى بن عمر «الفاتِحُ» اسم فاعل.
قوله: «أَرْوني» فيها وجهان:
أحدهما أنها علمية متعدية قبل النقل إلى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثةٍ أولها «ياء» المتكلم ثانيها «الموصول» ، ثالثها: «شركاء» وعائد الموصول محذوف أي أَلْحَقْتُمُوهُمْ.
والثاني: أنها بصرية متعدية قبل النقل لواحد وبعده لاثنين أولهما: يَاء المتكلم وثانيهما: الموصول و «شركاء» نصب على الحال من عائد الموصول أي بَصِّرُوني المُلْحَقِينَ به حالَ كونهم شركاء قال ابن عطية في هذا الثاني «ولا غناء» له أي لا مَنْفَعَة فيه يعني أن معناه ضعيف. قال أبو حيان: وقوله: «لا غناء له» ليس بجيد بل(16/61)
في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ ولا يريد حقيقة التنزيل بل المعنى الذين هم شركاء لله على زعمكم هم ممن إن أريتموهم افتضحتم لأنه خشب وحجر وغير ذلك.
فصل
الضمير في «به» أي بالله أي أروني الذين ألحقتم بالله شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون؟ كلاّ لا يَخْلُقُون ولا يرزقون.
قوله: «بل هو الله» في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه ضمير عائد على الله تعالى أي ذلك الذي ألحقتم به شركاء هُو الله، و «الْعَزِيزُ الحَكِيمُ» صفتان.
والثاني: أنه ضمير الأمر والشأن و «اللَّهُ» مبتدأ، و «الْعَزِيزُ والْحَكِيمُ» خبران، والجملة ... خبر «هو» والعزيز هو الغالب على أمره، (و) الحكيمُ في تدبير لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه؟
قوله: «كافَّةً» فيه أوجه:
أحدها: أنه حال من كاف «أَرْسَلْنَاكَ» والمعنى إلا جامعاً للناس في الإبلاغ. والكافة بمعنى الجامع والهادي لله للمبالغة كَهي في «علاَّمَة» و «رَاوِيَة» قال الزجاج: وهذا بناء منه على أنه اسم فاعل من كَفَّ يَكُفُّ، قال أبو حيان: أما قول الزجاج إنّ كافة بمعنى جامعاً، والهاء فيه للمالبغة فإن اللغة لا تساعده على ذلك لأن كف ليس معناه محفوظاً بمعنى «جَمَعَ» يعني أنَّ المحفوظ معناه «مَنَعَ» يقال: كَفّ يكُفُّ أي منع والمعنى إلا مانعاً لهم من الكفر وأن يشِذّوا من تبليغك، ومنه الكف لأنها تَمْنَعُ مَا فِيهِ.(16/62)
الثاني: أن كافة مصدر جاءت على الفَاعِلَةِ كالعَاقِبَة والعافية وعلى هذا فوقوعها حالاً إما على المبالغة وإما على حذف مضاف أي ذَا كَافَّةٍ لِلنَّاسِ.
الثالث: أن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا إرْسَالَةً كَافَّةً قال الزمخشري: إلاَّ إرْسَالَة عامَّةً لهم محيط بهم لأنهم إذا شَمِلتْهُمْ فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم. قال أبو حيان: أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما نقلوا، ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفةً لموصوفٍ محذوفٍ.
الرابع: أن «كافة» حال من «لِلنَّاس» أي للناس كافةً إلا أنّ هذا قدره الزمخشري فقال: «وَمَنْ جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم ترى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يَقْتَنَعُ به حتى يضُمَّ إليه أن يجعل اللام بمعنى» إلَى «؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني فيرتكب الخطأين معاً» . قال أبو حيان: أما قوله كذا فهو مختلف في ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز، وذهب أبو علي وابن كَيْسَانَ وابن بَرْهَانَ وابن مَلْكُون إلى جَوَازِهِ قال: وهو الصحيح قال: ومن أمثله أبي علي: «زيدٌ خَيْراً مَا يكونُ خَيْرٌ مِنْكَ» التقدير: زيد خير منك خَيْراً ما يكون فجعل «خَيْراً ما يَكُونُ» حالاً من الكاف في «منك» وقدمها عليها وأنشد:
4134 - إذَا الْمَرْءُ أَعَيَتْهُ المُرُوءَةُ نَاشِئاً ... فَمَطْلَبُها كَهْلاً عَلَيْهِ شَدِيدُ(16/63)
أي فمطلبها عليه كهلاً، وأنشد أيضاً:
4135 - تَسَلَّيْتُ طُراً عَنْكُمُ بُعْدَ بَيْنِكُمْ ... بِذِكْرَاكُمْ حَتَّى كَأنَّكُمْ عِنْدِي
أي عَنْكُمْ طُرًّا، وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور على ما يتعلق به قال الشاعر:
4136 - مَشْغُوفَةً بِكَ قَدْ شُغِفْتُ وإنَّمَا ... حُمَّ الفِرَاقُ فَمَا إلَيْكَ سَبِيلُ
أي قد شغفت بكل مشغوفة وقال الآخر:
4137 - غَافِلاً تَعْرِضُ المِنَيَّةُ لِلْمَرْءِ ... فَيُدْعَى وَلاتَ حِينَ إباءِ
أي تَعْرِضُ المنيةُ للمرء غافلاً قال: وإذا جاز تقديمها على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجْوَز قال: وممن حمله على الحال ابن عطية فإن قال: قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله إلى العرب وللعجم ولسائر الأمم وتقديره إلى الناس كافةً وقول الزمخشري: لا يستوي له الخطأ الأول إلى آخره شنيغ لأن القائل بذلك لا يحتاج إلى جعل اللام بمعنى «إلى» لأن «أَرْسَلَ» يتعدى باللام قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء: 79] وأرسل مما يتعدى باللام وبإلى وأيضاً فقد جاءت اللام بمعنى «إلَى» و «إلَى» بمعناها.
قال شهاب الدين: أما أرسلناك للناس فلا دلالة فيه لاحتمال أن تكون اللام لام المجازيَّة وأما كونها بمعنى «إلى» والعكس فالبصريونَ لا يَتَجَوَّزُونَ في الحروف، و «بَشِيراً» و «نَذِيراً» حالان أيضاً.(16/64)
فصل
لما بيَّن مسألة التوحيد شرع في الرسالة فقال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً} أي الرسالة كافة أي تكُف الناس أنت من الكفر وتمنعهم عن الخروج عن الانقياد لها أو تكف الناس أنت عن الكفر والهاء للمبالغة على ما تقدم. و «لِلنَّاسِ» أي عامةً أحمرهم وأسودهِم «بَشِيراً وَنَذِيراً» أي مبشراً ومنذراً تحثهم بالوعد وتزجرهم بالوعيد «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» ذلك لآ لخفائه ولكن لغفلتهم قال - عليه (الصلاة و) والسلام -: «كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً» .
قوله: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} يعني يوم القيامة لما ذكر الرسالة بين الحشر.
قوله: «لكم ميعاد» مبتدأ وخبر. والميعاد يجوز فيه أوجه:
أحدهما: أنه مصدر مضاف لظرفه والميعاد يطلق على الوعد والوعيد. وقد تقدم أن الوعد في الخير، الوعيد في الشر غالباً.
الثاني: اسم أقيم مقام المَصْدَرِ والظَاهر الأول، قال أبو عبيدة: الوَعْدُ والوَعِيدُ والميعاد بمعنى.
الثالث: أنه هنا ظرف زمان (قال الزمخشري: الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا ظرف زمان) ، والدليل عليه (قراءة) من قرأ: مِيعَادٌ يَوْمٌ يعني برفعهما منونين فأبدل منه «الْيَوْمَ» وأما الإضافة فإضافة تبيين لقولك: سَحْقُ ثَوْبٍ، وبعيرُ سَانِيَةٍ، وقال أبو حيان: ولا يتعين ما قال لاحتمال أن يكون التقدير: لكم ميعاد ميعاد يوم، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه، قال شهاب الدين والزمخشري لو فعل مثل ذلك لسمع به، وجوَّز الزمخشري في الرفع وجهاً آخر وهو الرفع على(16/65)
التعظيم يعني على إضمار مبتدأ وهو الذي يسمى القطع، وسيأتي هذا قريباً، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ واليَزيديّ مِيعَادٌ يوْماً بتنوين الأول ونصب «يوماً» منوناً وفيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على الظرف والعامل فيه مضاف مقدر تقديره: لكم إنجازُ وَعْدٍ في يوم صِفَتُهُ كَيْتَ وكَيْتَ.
الثاني: أن ينتصب بإضمار فعل. قال الزمخشري: وأما نصب «اليوم» فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره أعني يوْماً، ويجوز أن يكون الرفع على هذا أعني التعظيم. وقرأ عِيسَى بتنوين الأول ونصب «يَوْم» مضافاً للجُمْلة بعده. وفيه الوجهان المتقدمان النَّصْب على التعظيم أو الظَّرف.
قوله: {لاَ تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ} يجوز في هذه الجملة أن تكون صفة «لِميعَادٍ» إن عاد الضمير في «عنه» عليه أو «لِيَوْم» إن عاد الضمير في «عنه» عليه فيجوز أن يحكم على موضعها بالرفع أو الجر وأما على قراءة عيسى فينبغي أن يعود الضمير في «عنه» على «ميعاد» لأنه نَصُّوا على أنّ الظَّرْفَ إذا أضيفَ إلى جملة لم يَعُدْ منها إليه ضمير إلاَّ في ضرورة كقوله:
4138 - مَضَتْ سَنَةٌ لِعَامٍ وُلِدْتُ فِيهِ ... وَعَشْرٌ بَعْدَ ذَاكَ وَحِجَّتَانِ
فصل
تقدم الكلام في سورة الأعراف أن قوله: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} [الأعراف: 34] يوجب الإنذار لأن معناه عدم المهلة عن الأجَل ولكن الاستقدام ما وجهه؟ وقد تقدم، ونذكر ههنا أنهم لما طلبوا الاستعدال بين أنه اسْتِعْجَالَ فيه كما أنه لا إمهال وهذا لا يفيد عظَم الأمر، وخَطَر الخطب، لأن الأمر الحقير إذا طلبه من غيره لا يؤخره ولا يُوقفه(16/66)
على وقت بخلاف الأمر الخطير والمراد باليوم يوم القيامة وقال الضحاك: يوم الموت لا يتأخرون عنه ولا يتقدمون بأن يزاد في أجلكم أو ينقص.(16/67)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
قوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن} لما بين التوحيد والرسالة والحشر وكانوا بالكُلّ كافرين بين كفرهم العام بقوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن} وذلك لأن القرآن مشتملٌ على الكل وقوله: {وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني التوراة والإنْجيل وعلى هذا فالمراد «بالذين كفروا» هُم المشركون المنكرون للثواب والحشر. ويحتمل أن يكون المراد بالذين كفروا العموم ويكون المراد بقوله: {القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أن لا نؤمن بالقرآن أنه من الله «ولاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» أي ولا بما فيه من الإخبارات والآيات والدلائل وذلك لأن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنَّه من الله ولا بالذي فيه من الرِّسالة وتفاصيل الحشر.
فإن قيل: أليس هم مؤمنين بالوحدانية والحشر؟
فالجواب: إذا لم يصدق واحد بما في كتاب من الأمور المختصة به يقال إنه لم يؤمن بشيء منه وإن آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره إيمانه لا بما فيه كمن يكذب رجلاً فيما يقوله فإذا أخبره بأن النار حارة لا يكذبه فيه ولكن لا يقال بأنه صدقة لأنه إنما صدق نفسه فإنه كان عالماً به من قبل وعلى هذا فقوله: «بَيْنَ يَدَيْهِ» الذي هو مشتمل عليه من حيث إنه وارد فيه.
قوله: {وَلَوْ تَرَى} مفعول «ترى» وجواب «لو» محذوفان للفهم أي ولو ترى حالَ الظالمينَ وقْتَ وقوفهم مراجعاً بعضهُم إلى بعض القولَ لرأيت حالاً فظيعةً وأمراً(16/67)
منكراً «ويَرْجَعُ» حال من ضمير «مَوْقُوفُونَ» و «القول» منصوب ب «يرجع» ؛ لأنه يتعدى قال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ} [التوبة: 83] وقوله: {يَقُولُ الذين استضعفوا} إلى آخره تفسير لقوله: «يَرْجِعُ» فلا محلَّ له. و «أنْتُم» بعد «لولا» متبدأ على أصحَّ المذاهب، وهذا هو الأفصح أعني وقوع ضمائر الرف بعد «لولا» خلافاً للمبرد حيث جعل خلاف هذا لحناً، وأنه لم يرد إلاَّ في قول زِيَادٍ:
4139 - وكم موطن لولاي ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
وقد تقدم تحقيقه، والأخفض جعل إنه ضمير نصب أو جر قام مقام ضمير الرفع وسيبويه ضمي جر
فصل
لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم: «لَنْ نُؤْمِنَ» فإنه لتأبيد النفي وعد النَّبِيَّ عليه (الصلاة و) السلام - بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول أي يرد بعضهم إلى بعض القول في الدال كما يكون عليه حالة جماعة أخطأوا في أمر يقول بعضهم لبعض. {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} اسْتُحْقِرُوا وهم الاتباع «لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» وهم القادة والأشراف {لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي أنتم مَنَعْتُمُونَا(16/68)
عن الإيمان بالله وسوله وهذا إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لأن بعد المقتضي لا يمكنهم أن يقولوا: مَا جَاءَنا رسول ولا أن يقولوا: قصر الرسول لأن الرسول لو أهمل شيئاً لما كانوا يقولون لولا المستكبرون.
ثم أجابهم المستكبرون وهم المَتْبُوعُونَ في الكفر للذين استضعفوا رد لما قالوا إن كفرنا كان لمانع {أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ} يعني المانع ينبغي أن يكون راجحاً على المقتضي حتى يعمل علمه والذي جاء به هو الهدى، والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئاً يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصحَّ تَعَلُّقُكُمْ بالمانع {بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} بترك الإيمان فبين أن كفرهم كان اجتراماً من حيث إن المعذور لا يكون معذوراً إلا لعدم المقتضي أو ليقام المانع ولم يوجد شيء منهما. ثم قال {وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله} لما قال المستكبرون: إنا صددنا، وما صدر منا ما يصلح مانعاً وصادفاً اعترف المستضعفون به وقالوا بل مكر الليل والنهار أي مكركم في الليل والنهار. واعمل أنه يجوز رفع «مكر» من ثلاث أوجه:
أحدها: الفاعلية تقديره: بل صَدَّنَا مَكْرُكُمْ في هذهين الوقتين.
الثاني: أن يكون مبتدأ محذوف أي مكرُ الليلِ صَدَّنَا.
الثالث: العكس أي سَبَبُ كُفْرِنا مَكْرُكُمْ. وهو المتقدم في التفسير وإضافةُ المَكْر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازي كقولهم: لَيْلٌ مَاكِر، فالعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار كقول الشاعر:
4140 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ(16/69)
فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه، وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافاً لمنصوبه وهذا أحسن مِنْ قَوْل مَنْ قال: إن الإضافة بمعنى «في» أي في الليل، لأن ذلك لم يثبت في (غير) محل النزاع، وقيل: مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل فيهما كقوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] وقرأ العامة مَكْرُ بتخفيف الراء ساكن الكاف مضافاً لما بعد، وابن يَعْمُرَ وقتادةُ بتنوين: «مَكْر» وانتصاب الليل والنهار ظرفين. وقرآ أيضاً وسعيدُ بْنُ جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد الراء مضافاً لما بعده أي كُرُور الليل والنهار، واختلافهما، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ إذا جَاءَ وذَهَبَ، وقرأ ابنُ جُبَيْر أيضاً وطلحةُ وراشد القَارِي - وهو الذي كان يصحح المصاحف أيام الحجاج بأمره - كذلك إلا أنه ينصب الراء وفيها أوجه:
أظهرها: ما قاله الزمخشري وهو الانتصاب على المصدر قال: «بل تَكُرُّون الإغواء مَكَرًّا دائماً لا تَفْتُرُونَ عنه» .
الثاني: النصب على الظرف بإضمار فعل اي بلْ صَدَدْتُمُونَا مَكَرَّ الليل والنهار أي دائماً.
الثالث: أنه منصوب «بتأمُرُونَنَا» قاله أبو الفضل الرازي وهو غلط؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله إلا في مسألة وهي «غير» إذَا كانت بمعنى «لا» كقوله:(16/70)
4141 - إنّ امْرَءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ ... عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْر مَكفُورِ
وتقدم تقريرهذا آخر الفاتحة، وجاء قوله: {قَالَ الذين استكبروا} بغير عاطف؛ لأنه جواب لقول الضَّعَفَةِ فاستؤنف بخلاف قوله: {وَقَالَ الذين استضعفوا} فإنه لم يكن جواباً لعطف، والضمير في «وَأسَرُّوا النَّدَامَةَ» للجميع للإتباع والمتبوعين.
فصل
لما اعترف المستضعفون وقالوا بل مكر الليل والنهار منعنا ثم قالوا لهم إنكم وإن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد وامتداد المدد فَكَفرنَا فكان قولكم جزْءاً لسبب وقولهم «إذْ تَأمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ» أي ننكره «ونَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً» هذا يبين أن المشرك بِاللَّهِ مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه بالمخلوق المنحوت لا يكون مؤمناً به.
فصل
قوله أولاً يَرْجعُ بَعْضُهْم إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذينَ اسْتَضْعِفُوا بلفظ المستقبل وقوله في الآيتين الآخيرتين: «وقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وقَالَ الَّذِين اسْتَضْعِفُوا» بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بدّ من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] وأما الاستقابل فعلى الأصل.
قوله: {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي أنهم يتراجعون القول ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة، وقيل: معنى الإسراء الإظهار وهو من الأضداد أي أظهروا الندامة ويحتمل أن يقال: بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم أبْصَرْنا وسَمِعْنَا فارْجِعْنَا نَعْمَلُ صَالِحاً وأجيبوا بأن لا مرد لكم فأسرُّوا ذلك القول، وقوله: {وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} أي الأتباع والمتبوعين جميعاً في النار، وهذا إشارة إلى كيفية عذابهم {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي في الدنيا.(16/71)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةإلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا} جملة حالية من «قَرْيَةٍ» وإن كانت نكرة لأنها في سياق النفي.
قوله: «بما أُرْسِلْتُمْ» متعلق بخبر «إنّ» و «به» متعلق بأُرْسِلْتُم، والتقدير: إنا كافورن بالذي أرسلتم. وإنما قد للاهتمام وحسنه تواخي الفواصل وهذا تسلية لقلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأن إيذاء الكفار للأنبياء ليس بدعاً بل ذلك عادة جرت من قبل، وإنما نسب القول إلى المترفين مع أن غيرهم أيضاً قالوا ذلك القول لأن المُتْرَفين هم الأصل في ذلك القول كقول المتسضعفين للذين استكبروا: «لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنينَ» ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا «نَحْنُ أَكْثَرُ أمْوَالاً وَأَوْلاَداً» أي بسبب لزومنا لديننا ولو لم يكن الله راضياً بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد «وَمَا نَحْنُ بمُعَذَّبِينَ» أي أن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال فلا يعذبنا. ثم إن الله تعالى بيَّنَ خطأهم بقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} يعني أنّ الرزق في الدناي لا يدل سَعَتُه وضيقه على حال المحق والمبطل فكم من موسر شقي ومُعْسِر تَقِيّ فقوله: «وَيَقْدِرُ» أي يضيِّق بدليل مقابلته «يَبْسُطُ» وهذا هو الطباق البَدِيعِيّ وقرأ الأعمش: وَيُقَدِّرُ بالتشديد ثم قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن قلة الرزق وضيف العيش وكثرة المال وسعة العيش بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح. ثم بين فساد استدلالهم بقوله: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} يعني إن قولكم نحن أكثر أموالاً وأولاداً فنحن أحسن حالاً(16/72)
عند الله استدلالاً صحيحاً فإن المال لا يقر إلى الله وإنما المفيدُ العملُ الصالح بعد الإيمان وذلك أن المال والولد يَشْغِل عند الله فيُبْعِد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئاً حصل؟
قوله: {بالتي تُقَرِّبُكُم} صفة للأموال والأولاد، لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل معالمة المؤنثة الواحدة، وقال الفراء والزجاج إنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا والتقدير: وَمَا أَمْوَالُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى وَلاَ أوْلاَدُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ وهذا لا حاجة إليه أيضاً. ونقل عن الفراء ما تقدم من أن «التي» صفة للأموال والأولاد معاً وهو الصحيح وجعل الزمخشري «التي» صفة لموصوف محذوف قال: «ويجوز أن يكون هيا لتقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها أي ليستْ أَمْوَالُكُمْ ولا أوْلاَكُكُمْ بتلك الموصوفة عند الله بالتقريب» قال أبو حيان: ولا حاجة إلى هذا الموصوف.
قال شهاب الدين: والحاجة إليه بالنسبة إلى المعى الذي ذكره داعية، و «زُلْفَى» مصدر مِنْ مَعْنى الأول، إذ التقدير تُقَرِّبُكُمْ قُرْبَى، وعن الضحاك زُلَفاً بفتح اللام وتنوين الكلمة على أنها جمع «زُلْفَى» نحو قُرْبَة وقُرَب، جُمع المَصْدَرُ لاختلاف أنواعه وقال الأخفش: «زُلْفَى» اسم مصدر كأنه قال: بالتي تقربكم عندنا تَقْريباً.(16/73)
قَوْلُهُ: {إلاَّ مَنْ} فيه أوجه:
أحدهما: أنه استثاء منقطعٌ فهو منصوب المحل والمعنى لكن مَنْ آمَن وعَمِلَ صَالِحاً، قال ابن عباس يريد من آمن إيمانه وعمله يقربه منّي.
الثاني: أنه في محل جر بدلاً من الضمير في: «أَمْوَالِكُمْ» قاله الزجاج. وغلَّطَهُ النَّحَّاس بأنه بدل ضمير من ضمير المخاطب قال: ولو جاز هذا لجاز: رَأَيْتُكَ زَيْداً، وقول أبي إسْحَاقَ هذا هو قول الفارء انتهى. قال أبو حيان: ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز البدل من ضمير المخاطب والمتكلم إلا أن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت: مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلا خالداً لم يجز. وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز إلا أن يصح التفريغ له. قال شهاب الدين: ومنعه قولك «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ خَالِداً» فيه نظر لأن النفي إذا كان منسحباً على الجملة أ"طى حُكْمَ ما لو باشر ذلك الشيء ألا ترى أن النفي في قولك: «مَا طَنَنْتُ أحَداً يَفْعَلُ ذَلِكَ إلاَّ زيدٌ» سوغ البدل في زيد من ضمير «يَفْعَلُ» وإن لم يكن النفي متسلطاً عليه وقالوا ولكنه لما كان في حَيِّز النفي صح فيه ذلك فهذا مثله والزمخشري أيضاً تَبعَ الزجاج والفراء في ذلك في حيث المعنى إلا أنه لم يجعله بدلاً بل منصوباً على أصل الاستثناء فقال: «إلاَّ مَنْ آمَنَ» استثناء من «كُمْ» في «نُقَرِّبُ» والمعنى أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن لاذي يُنْقِقُها في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علَّمهم الخَيْرَ وفَقَّهَهُمْ في الدِّين ورشَّحهم للصَّلاح ورد عليه أبو حيان بنحو ما تقدم فقال: لا يجوز: «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَخْرُجُ إلاَّ أَخْوهُ» و «مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ عَمْراً» والجواب عنه ما تقدم وأيضاً فالزمخشري لم يجعله بدلاً بل استثناء صريحاً، ولا يشترط في الاستثناء التفريغ اللفظي(16/74)
بل الإسناد المعنوي ألا ترى أنك تقول: قَامَ الْقَومُ إلاَّ زَيْداً ولو فرغته لفظاً لامتنع لأنه مثبت وهذا الذي ذكره الزمخشري هو الوجه الثالث في المسألة الرابع: «أنَّ» مَنْ آمَنَ «في محلِّ رفع على الابتداء والخبر.
قوله
: {فأولئك
لَهُمْ جَزَآءُ الضعف} قال الفراء: هو في موضع رفع تقديره ما هو المقرب إلاَّ مَنْ آمَن، وهذا ليس بجيد وعجيب من الفراء كيف يقوله. قوله: «فَأولَئِكَ لَهُمَ جَزَاء الضّعْفِ» ، قرأ العامة جزاء الضعف مضافاً على أنه مصدر مضاف لمفعلوله، أي أنْ يُجَازِيَهُم الضّعْفَ وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول أي يُجْزَوْنَ الضّعفَ ورده أبو حيان بأن الصحيح منعه. وقرأ قتادة برفعها على إبدال الضّعفِ من «جزاء» وعنه أيضاً وعن يعقوب بنصب جزاء على الحال منوناً والعامل فيها الاستقرار وهذه كقوله: {فَلَهُ جَزَآءً الحسنى} [الكهف: 88] فيمن قرأه بالنصب نصب جزاء في الكهف.
قوله: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} قرأ حمزة الغُرْفَةِ بالتوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه وقد أُجْمِعَ على التوحيد في قوله: {يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75] ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس والباقون «الغُرُفَاتِ» جمع سلامة وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58] والرسم محتمل للقراءتين. وقرأ الحسن بضم راد غُرُفات على الإتباع وبعضهم يفتحها(16/75)
وتقدم تحقيق ذلك أول البقرة وقرأ ابن وثاب الغُرُفَةَ بضم الراء والتوحيد.
فصل
والمعنى يضعف الله حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشرة إلى سبع مائة لأنه الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل ثم زاد وقال: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُون} إشارة إلى دوامها وتأبيدها. ثم بين حال المسيء فقال: {والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي سعون في إبطال حججنا معاجزين معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا. وقد تقدم تفسير: «أولئك في العذاب محضرون» وهذا إشارة إلى الدوام أيضاً كقوله: {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} [الإنقطار: 16] ثم قال مرة أخرى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِر} إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينفافي نعمة الدنيا بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم في القطع بحصلو النعم في العُقْبَى ببناء على الوعد قطعاً لقول من يقول: إذا كانت العاجلة والآجلة لهم فالنقد أولى فقال هذا النقد غير مختص بكم فإن كثيراً من الأشقياء مدفوعون وكثيراً من الأتقياء مَمْنُوعُونَ، ولهذا المعنى ذكر هذا الكلام مرتين مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالةٍ على حسن أحوالهم ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود القرب لا يدل على الشرف ثم إنْ سَلَّمنا أنه كذلك لكن المؤمنون سيحصل لهم ذلك فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم ويدل على ذلك أن الله تعالى لم يذكر أولاً لمن يشاء من عباده بل قال: لمن يشاء. وقال ثانياً: لمن يشاء من عبادة فالكافر أثره مقطوع وماله إلى زوال وماله إلى الهواء وأما المؤمن فما يُنْفِقْه يُخْلِفْه الله.
قوله: {وَمَآ أَنفَقْتُم} يجوز أن تكون ما موصولة في محل رفع بالابتداء والخبر قوله: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ودخلت الفاء لشبهه بالشرط، و «مِنْ شَيْءٍ» بيان كذا قيل. وفيه نظر؛ لإبهام شيء فأي (تَبين) فيه؟ ويجوز أن تكون «ما» شرطية فيكون في محل نصب مفعولاً مقدماً و «فَهُوَ يُخْلِفُهُ» جواب الشرط.(16/76)
فصل
المعنى: وَمَا أَنْقَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعطي خلقه قال سعيد بن جبير: ما كان في غير إسْرِافٍ ولا تَقْتِير فهْو يُخْلِفُه وقال الكلبي: ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نَفَقَةٍ فهو (ينفقه) ويخلفه على المُنْفِق إما أن يعجَّل له في الدنيا وإما أن يدَّخِرَ له في الآخرة. «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» خَيْرُ من يعطي ويرزق، رَوَى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن الله قال: «أنْفِقْ أُنْفِقْ عليك» وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبحُ فِيهِ العِبَادُ إلاَّ وَيَنْزِلُ (فِيهِ) مَلَكَا (ن) فيقولُ أحدهما: اللَّهُمّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً ويقول الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً» وإنما جمع الرازقين من حيث الصورة لأن الإنسان يرزق عياله من رزق الله والرازق للكل في الحقيقة إنما هو الله، واعلم أنَّ خير الرازقين يكون أمور أن لا يؤخر في وقت الحاجة وأن لا يَنْقُصَ من قد الحاجة وأن لا ينكده بالحساب وأن لا يُكَدِّره بطلب الثواب والله تعالى كذلك.
فإن قيل: قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} ينبئ عن كثرة الرّازقين ولا رازق إلاَّ الله.
فالجواب: أن يقال: الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى: {أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] وأيضاً فإن الصفات منها ما هو لله وللعبد حقيقة كالعلم بأن الله واحد فإن الله يعلم أنه واحد، والعبد يعلم أنه واحدٌ حقيقة ومنها ما يقال للَّهِ حقيقةً وللعبد مجازاً مثل الرزَّاق والخَالِق فإن العبد إذا أعطى غيره شيئاً فالله هو المعطي في الحقيقة ولكن لما وجدت صورة العطاء من العبد سُمّي معطياً وهذا منه.(16/77)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ} وقد تقدم أنه يقرأ بالنون والياء في الأنعام.
قوله: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} إياكم منصوب بخبر «كان» قدم لأجل الفواصل والاهتمام. واستدل بل على جواز تقديم خبر «كان» عليها إذا كان خبرها جملة فإن فيه خلافاً جوزه ابنُ السارج، ومنعه غيره وكذلك اختلفوا في توسطه إذا كان جملة. قال ابن السِّرِّاج: القياس جوازه لكن لم يسمع.
قال شهاب الدين: قد تقدم في قوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} [الأعراف: 137] ونحوه أنه يجوز أن يكون من تقديم الخبر وأن لا يكون. ووجه الدلالة هنا أن تقتديم المعمول مُؤْذِنٌ بتقديم العامل. وتقدم تحقيق هذا في «هُودٍ» في قوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] (و) وضع هذه القاعدة.
فصل لما بين أن حال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه حال من تقدّم من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم بين ما يكون عاقبة حالهم فقال: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يعني المكذبين بك «ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ» الذين يدعون أنهم يعبدونهم فإن غاية ما ترتفي إليه منزلتهم أنهم يقولون:(16/78)
نحن نعبد الملائكة والكواكب قال قتادة: هذا استفهام تقرير كقوله تعالى لعيسى {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين} [المائدة: 116] فيقول: « (أَ) هَؤُلاَءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ» فتبرأ منهم الملائكة فيقولون: «سُبْحَانَكَ» تنزيهاً لك «أنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ» أي نحن نتولاك ولا نتولاهم يعني كونك ولي بالعبودية أولى وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا فقالوا: « (بَلْ) كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ» أي الشياطين فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الجن ونحن (كنا) كالقِبْلة لهم.
فإن قيل: فهم كانوا يعبدون الملائكة فما وجه قولهم يعبدون الجن؟ قيل: أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فهم كانوا يُطيعون الشياطين في عبادة الملائكة فقوله: «يعبدون» أي يطيعون الجن ولعبادة هي الطاعة «أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» أي مصدِّقون الشياطين.
فإن قيل: جميعهم كانوا متابعين للشياطين فما وجه قوله: {أكْثَرُهُمْ بِهِمْ} فإنه يدل على أنَّ بَعْضَهُم لم يؤمن بهم ولم يُطِعْهُمْ؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الملائكة أحتظروا عن (دَعْوى) الإحاطة بهم فقالوا: أكثرهم لأنَّ الَّذِين رأوهم وأطلعوا على أحوالهم كانوا يعبدون الجنَّ ويؤمنون بهم ولعلَ في لاوجود من لم يُطْلع الله الملائكة عليه من الكفار.
الثاني: هو أن العبادة علم ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا بل يعبدون الجن لاِّطلاعهم على أعمالهم وقالوا أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطّلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا يطلع على من فيه إلا الله كما قال:
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5] .
ثم بين أن ما كانوا يعبدون لا ينفعهم فقال: {فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً} . وهذا الخطاب يحتم أن يكون مع الملائكة لسبق قوله: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} وعلى هذا يكون تنكيلاً للكافرين حيث بيّن لهم أن معبودهم لا ينفعهم ولا يضر. ويصحح هذا قوله تعالى: «لا يملكون الشّفاعة إلا لمن ارتضى» .
ولقوله بَعْدَه: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا} ولو كان المخاطب هم الكفار لقال: «(16/79)
فَذُوفُوا» ويحتمل أن يكون داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضِ} أي الملائكة والجن وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيرهم، ويحتمل أن يكون الخطاب والمخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم وعلى هذا فقوله: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} إنما ذكره تأكيداً لبيان حالهم في الظلم.
فإن قيل: قوله «نفعاً» مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضرّ مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك؟
فالجواب: لما كان العبادة نفع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبَّار، ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم.
فإن قيل: «قَوْلُه هَهُنَا:» الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا «صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته؟
فالجواب: قيل: لأنهم هناك كانوا مُلْتَبِسٍين بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] فوصف لهم ما لا بسوه وهنا لم يُلاَبِسُوهُ بعد لأنه عقيب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون.
قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا} يعنون محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» إلاَّ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يَصْدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ «فعارضوا الرهانَ بالتقليد» وَقَالُوا مَا هَذَا إلاَّ إفْكٌ مُفْتَرى «يعنون القرآن وقيل: القول بالوحدانية» إفْكٌ مُفْتَرًى «كقوله تعالى في حقهم: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} [الصفات: 86] وكقولهم للرسول: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف: 22] وعلى هذا فيكون قوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} بدلاً وقالوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ؛ هذا إنكار للتوحيد وكان مختصاً بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمُعْجِزة فكان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ} على العموم.
قوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ} يعني المشركين» مِنْ كُتُبٍ يَدرسونَها «العامة على(16/80)
التخفيف مضارع» دَرَسَ «مخففاً أي حفظ وأبو حيوة يُدَرِّسُونَها بفتح الدال مشددة وكسر الراء والأصل» يَدْتَرِسُونَها «من الادّارس على الافتعال فأدغم، وعنه أيضاً بضم الياء وفتح الدال وتشديد الراء نم التَّدْريس.
والمعنى يقرأونها وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ} أي إلى هؤلاء المحاضرين لك لم ترسل إليهم أي لم يأت العرب قبْلك نبي ولا نزل عليهم كتاب ولا أتاهم نذير يشافههم بالنّذارة غيرك، فلا تعارض بينه وبين قوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] إذ المراد هناك آثار النذير. ولا شك أن هذا كان موجوداً يذهب النبي وتبقى شريعته، ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كَذّبوا مثلَ عادٍ وثمودٍ وغيرهم.
قوله: {وَمَا بَلَغُوا} الظاهر أن الضمير في «بلغوا» وفي «آتيناهم» للَّذِين من قبله ليناسق قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} يعني أنهم لم يبلغوا في شكر النعمة وجزاء المِنّة «مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ» من النعم والإحسان إليهم. وقيل: بل ضمير الرفع لقريش والنصب «للذين من قبلهم» وهو قول ابن عباس على معنى أنهم كانوا أموالاً، وقيل: بالعكس على معنى إنا أعطيْنَا قريشاً من الآيات والبراهين ما لم نُعْطِ من قبلهم. واختلق في المشعار فقيل: هو بمعنى العُشْر بني مِفْعَال من لفظ العُشْر كالمِرْبَاع، ولا ثالث لهما من ألفاظ العدد لا يقال: مِسْدَاس ولا مِخْمَاس، وقيل: هو عُشْرُ العُشْرِ، إلا أن ابن عطية أنكره وقال: ليس بشيء وقال المَاوَرْدِيُّ: المعشار هنا عُشْر العَشِيرِ، والعَشِيرُ هو عُشْرُ العُشْرِ.(16/81)
فيكون جزءاً من ألف قال: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل.
فصل
المعنى أن هؤلاء المشركين ما بلغوا مِعْشَارَ ما أعطينا الأمم الخالية من النِّعْمَة والقوة وطول العُمْرِ فكذبوا رسلي فكيف كان نكير؟ أي إنكاري وتغييري عليهم يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية وقي: المراد وكذَّب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم أي الذين من قبلهم ما بلغوا مِعْشَار ما آتينا قوم محمد من البَيَان والبُرْهان وذلك لأن كتاب محمد - عليه السلام - أكملُ من سائر الكتب وأوضح ومحمد - عليه السلام - أفضل من الكتب وبما آتاهم من الرسل أنكر عليهم فكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بأفصح الرُّسل وأوضح السُّبُل ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} يعني غير القرآن ما آتيناهم كتاباً «وَمَا أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِير» فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب فحمل الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى.
قوله: «فكذبوا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على «كَذِّبَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ» .
والثاني: أنه معطوف على «وما بلغوا» وأوْضَحَهُما الزمخشري فقال: «فإن قلت: ما معنى» فكذبوا رسلي «وهو مستغنى عنه بقوله: {وَكَذَّبَ الَّذِين مِنْ قَبْلِهِم} ؟ قلتُ: لما كان معنى قوله: {وَكَذَّبَ الِّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل سبباً عنه ونظيره أن يقول القائل: أقْدَمَ فلانٌ على الكفر فكفر بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويجوز أن يعطف على قوله: {وَمَا بَلَغُوا} كقولك: مَا بَلَغَ زَيْدٌ مِعْشَارَ فَضْلِ عمرو فَيُضِّلَ عليه» و «نَكِيرِ» مضاف لفاعله أي إنْكاري وتقدم حذف يائه وإثْبَاتُها.(16/82)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قوله: {قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي آمركم وأوصيكم بواحدة أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة فقال: {أنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} أي لأجل الله.
قوله: «أن تقوموا» فيه أوجه:
أحدها: أنها مجرورة المحل بدلاً من «وَاحِدَةٍ» على سبيل البيان. قاله الفارسي.
الثاني: أنها عطف بيان «لواحدة» قاله الزمخشري. وهو مردود لتخالفها تعريفاً وتنكيراً، وقد تقدم هذا عند قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] .
الثالث: أنها منصوبة بإضمار «أَعْنِي» .
الرابع: أنها مرفوعة على خبر ابتداء مضمر أي هي أن تقوموا، و «مَثْنَى وفُرَادَى» حال وتقدم تحقيق القول في «مثنى» وبابه في سورة النساء، ومضى القول في «فُرَادَى» في الأنعام، ومعنى «مَثْنَى» أي اثنين اثنين، و «فُرَادَى» واحداً واحداً. ثم قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} عطف على «أنْ تَقُومُوا» أي قِيَامكُمْ ثم تَفَكُّركُمْ، والوقف عند أبي حاتم على هذه الآية مث يتبدئ: «مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةِ» وقال مقاتل: تم الكلام (عند) قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} أي في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد لا شريك له.(16/83)
قوله: {مَا بِصَاحِبكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} وفي «ما» هذه قولان:
احدهما: أنها نافية
والثانية: أنها استفهامية لكن لا يراد به حقييقة الاستفهام فيعود إلى النفي. وإذا كانت نافية فهل هي معلقة أو مستأنفة أو جواب القسم الذي تضمنه معنى «تَتَفَكَّرُوا» لأنه فعل تحقيق كتَبَيَّنَ وبابه؟ ثلاثة أوجه نَقَل الثَّالِثَ ابنُ عطية. وربما نسبه لِسِيبويهِ، وإذا كانت استفهامية جاز فيها الوجهان الأولان دون الثالث و «مِنْ جنَّةٍ» يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ ويجوز في «ما» إذا كانت نافية أن تكون الحجَازيَّة أو التَّمِيميَّة.
قوله: {مثنى وفرادى} إشارة إلى جمعي الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره فيدخل في قوله «مَثْنَى» وإن كان وحده دخل في قوله: «فُرَادَى» فكأنه قال: تَقُومُوا لله مجتَمعِينَ ومُنْفَرِدِين لا يمنعكم الجمعيَّةُ من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد يُعينكم على ذكر الله ثم تتفكروا في حال محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتعلموا ما بصاحبكم من «جنة» جنون. وليس المراد من القيام القيام ضد الجلوس وإنما هو القايم بالأمر الذي هو طلب الحق كقوله: {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} [النساء: 127] قال ابن الخطيب وقوله: {بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} يفيد كونه رسولاً وإن كان يظهر من أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر من يظهر منه العجائب إما الجن وإما الملك فإذا لم يكن الصادر من النبي - عليه السلام - بواسطة الجن بل بقدرة الله من غير واسطة وعلى(16/84)
التقديرين فهو رسول الله وهذا من أحسن الطُّرق، وهو الذي يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخسِّ الصفات فإنه لو قال أولاً هو رسول كانوا فيه النِّزاع فإذا قال: ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك، ليعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه، فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة ولهذا قال بعده: {إنْ هُوَ نَذِيرٌ لَكُمْ} يعني إما هو به جِنّة وهو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير.
وقوله: {بَيْنَ يَدِيْ عَذَابِ شَدِيدٍ} إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال بنذركم بعذاب حاضر يَمَسّكم عن قريبٍ.
قوله: {قُلَ مَا سألتُكُمْ مِنْ أجْرٍ} في «ما» وجهان:
أحدهما: أنها شرطية فيكون مفعولاً مقدماً و «فهُوَ لَكُمْ» جوابها.
والثاني: أنها موصولة في محل رفع بالابتداء والعائدمحذوف أي سأَلْتُكُمُوهُ والخبر: «فَهُوَ لَكُمْ» ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط والمعنى يحتمل أنه لم يسألهم أجراً البتة كقولك: إن أعْطَيْتَنِي شيئاً فخذه مع عملك أي لم يُعْطِكَ شيئاً وقول القائل: ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء. ويؤيده: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} ويحتمل أن سألهم شيئاً نفعُه عائدٌ عليهم وهو المراد بقوله: {إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] «إنْ أَجْرِيَ» ما ثوابي {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ} .
قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق} يجوز أن يكون «يَقْذِفُ بالْحَقِّ» مفعوله محذوفاً لأن القَذْفَ في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضاً عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه «بالْحَقِّ» أي بسبب الحق أو ملتبساً بالحق. ويجوز أن يكون التقدير يَقْذِفُ الباطلَ بالحقِّ أي يدفعه ويطرحه، كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} [الأنبياء: 18] ويجوز أن يكون الباء زائدة أي نُلْقِي الحَقِّ، كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] أو تضمن «يقذف» معنى يقتضي ويحكم، والقذف الرمي بالسهم أو بالحَصَاةِ أو الكلام.(16/85)
قال المفسرون: معناه نأتي بالحق بالوحي ننزله من السماء فنقذفه إلى الأنبياء قوله: {عَلاَّمُ الغيوب} العامة على رفعه وفيه أوجه: أظهرها: أنه خبر (ثانٍ) ل «إنّ» أو خبر لمتبدأ مضمر أو بدل من الضمير في «يَقْذِفُ» أو نعت له على رأي الكسائي؛ لأنه يُجيزُ نعت الضمير الغائب. وقد صرح به هنا وقال الزمخشري: رفع على محل إنَّ واسْمِها، أو على محل إنَّ اسْمِها، أو على المستكِنِّ في «يَقذف» يعني بقوله محمول على محل إنَّ واسْمِهَا يعني به النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم.
ويرد بالحمل على الضمير في نقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وعيسَى بْنُ عُمَرَ وابنُ أبي إسْحَاقَ بالنصب نعتاً لاسم إنَّ أو بدلاً منه على قلة الابدال بالمشتق أو منصوب على المدح. وقرئ الغُيُوب بالحركات الثلاث في الغين. فالضم تقدما في «بُيُوتٍ» وبابه. وأما الفتح(16/86)
صيغةُ مبالغة كالشَّكُورِ والصَّبُورِ وهو الشيء الغائب الخَفِيُّ.
فصل
قال ابن الخطيب في يقذف بالحق وجهان: أحدهما: نقذف بالحق في قلوب المحقين. وعلى هذا تُعَلَّقُ الآية بما قبلها من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي - عليه (الصلاة و) السلام - بقوله: {إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ} وأكده بقوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم} وكان من عادة المشركين استعباد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه كما حكى عنهم قولهم: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] ذكر ما يصلح جواباً لهم فقال: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق} في القلوب (إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالماً وإنما ذلك فعل اتفاقاً، كما يصيب السهم موضعاً دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة، فقال: «بالْحقِّ» كيف شاء وهو عالم بما يفعله (دعاكم) بعواقب ما يفعله إذْ هُو عَلاَّم الغُيُوب فهو كما يريد لا كما يفعل الهاجمُ الغافلُ عن العَوَاقب.
الوجه الثاني: أن المراد منه أنه يقذف بالحق على الباطل كقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء: 18] وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت وشبهتهم داحضة قال: «إن ربي يقذف بالحق» أي يُبْلي باطلكم. وعلى هذا الوجه فقوله: «علام الغيوب» هو أنّ البرهان المعقول لم يقع إلا على التوحيد والرسالة وأما الحشر فلا بُرْهَان على وقوعه إلا إخبار الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال: {يَقْذِفُ بالحق} أي على الباطل أشار به إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة. ثم قال: «عَلاَّم الغُيُوبِ» أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأهوالها فهو لا خُلْف فيه فإن اله علام الغيوب. وتحتمل الآية وجهاً آخر هو أن يقال: « {رَبِّي يَقْذِفُ بالحق} أي ما(16/87)
يقذفه بالحق لا بالباطل. والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به والحق مقذوف على الوجهين الأولين وعلى هذا الباب في قوله:» بالحق «كالباء في قوله تعالى: {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} [ص: 26] والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلوب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم.
قوله: {قُلْ جَآءَ الحق} يعني القرآن. وقيل: التوحيد والحشر، وكلّ ما ظهر على لسان النبي - عليه (الصلاة و) السلام. وقيل المعجزات الدالة على نبوة محمد - عليه (الصلاة و) السلام وقيل: المراد من جاء بالحق أي ظهر الحق لأن كلَّ ما جاء فقد ظهر.
قوله: {وَمَا يُبْدِيءُ} يجوز في «ما» أن تكون نفياً، وأن تكون استفهاماً، ولكن يَؤُول معناها إلى النفس، ولا مفعول «ليُبْدِئُ» ولا «لِيُعِيدُ» إذ المراد لا يوقع هذهين الفعلين كقوله:
4142 - أقَفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عُبَيْدُ ... أَصْبَحَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيدُ
وقيل: مفعوله محذوف أي ما يُبْدِئُ لأهله خبراً ولا يُعِيدُه، وهو تقدير الحسن. والمعنى: ذَهَبَ البَاطِلُ ووَهَن فلم يبق منه بقية يبدي شيئاً أو يعيد. وهو كقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء: 18] وقال قتادة: الباطل هو إبليس أي ما يخلق إبليسُ أحداً ابتداء ولا يبعثه. وهو (قول) مقاتل والكلبِّي، وقيل: الباطل الأصنام.
قوله: {إنْ ضَلَلْتُ} العامة على فتح لامه في الماضي وكسرها في المضارع ولكن(16/88)
بنقل الساكن قبلها. وابن وثاب بالعكس وهو لغةُ تميمٍ وتقدم ذلك.
فصل
قال المفسرون: إن كفار مكة كانوا يقولون: إنك ضللت حتى تركت دين آبائك، فقال الله تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي} أي إثم ضلالي على نفسي {وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} من القرآن والحكمة {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} .
قوله: {فِبِمَا يُوحِي} يجوز أن تكون «ما» مصدرية أي بسبب إيحاء ربي لي، وأن تكون موصولة أي بسبب الذي يُوحِيه فعائده محذوف وقوله «سميعٌ» أي يسمع إذا ناديتهُ واستغنت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الدَّاعِي.(16/89)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} قال قتادة عن البعث حتى يخرجوا من قبورهم «فَلاَ فَوْتَ» أي فلا تَفُوتُونِي كقوله: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] وقيل: إذْ فَرِعُوا عند الموت فلا نجاةَ و «لَوْ تَرَى» جوابه محذوف؛ أي (جوابه) ترى عجباً.
قوله: {فَلاَ فَوْتَ} العامة على بنائه على الفتح و «أُخِذُوا» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول معطوفة على «فَزِعُوا» .(16/89)
وقيل: على معنى: «فَلاَ فَوْتَ» أي فلم يفوتوا وأخذوا وقرأ عبد الرحمن مولى هاشم وطلحةُ فَلاَ فَوْتٌ وأَخْذٌ مرفوعين منونين، وأُبَيّ يفتح «فوت» ، ورفع «أخذ» ، فرفع «فوت» على الابتداء أو على اسم لا الليسية ومن رفع «وأخذ» رفعه بالابتداء والخبر محذوف أي وأَخْذٌ هناك أو على خبر ابتداء مضمر أي وَحالُهُمْ أَخْذٌ.
ويكون من عطف الجمل مثبتةً على منفيةٍ.
قوله: {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} قال الكلبي: من تحت أقدامهم. وقيل: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. وحيث ما كانوا فهُمْ مِنَ الله قريب لا يفونه. وقيل: من مكان قريب يعني عذاب الدنيا. قال الضحاك: هو يوم بَدْر. وقال ابنُ أبْزَى: خَسْفٌ بالبيداء وجواب «لَوْ تَرَى» محذوف أي لَرَأيْتَ أَمْراً يُعْتَبَرُ بِهِ.
قوله: {وقالوا آمَنَّا بِه} أي عند اليأس. والضمير في «به» لله أو للرسول أو للقرآن أو للعذاب أو للبعث و «أَنِّي لَهُمْ» أي من أين لهم أي كيف يقدرون على الظَّفَرِ بالمطلوب وذلك لا يكون إلاَّ من الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة.
فإن قيل: فكيف قال في كثير من المواضع: إنَّ الآخِرَةَ من الدنيا قريبة وسمى الله الساعة قريبة فقال: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] {لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] .(16/90)
فالجواب: أن الماضي كالأمس الدابر وهو أبعد ما يكون؛ إذ لا وصولَ إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آتٍ فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيِّها ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه.
قوله: {التناوش} متبدأ و «أنَّى» خَبَرهُ، أي كيف لهم التناوش و «لَهُم» حال، ويجوز أن يكون «لهم» رافعاً للتناوش لاعتماده على الاستفهام تقديره كيف استقر لهم التناوش؟ وفيه بعد، والتناوش مهموز في قراءة الأخوين وأبي عمرو، وأبي بكر وبالواو في قراءة غيرهم، فيحتمل أن يكونا مادتين مستقلتين مع اتّحاد معناهما، وقيل: الهمزة عن الواو لانضمامها كوُجُوهٍ وأُجُوه، ووُقّتت وأُقِّتَتْ وإليه ذهب جماعة كثيرةٌ كالزَّجّاج والزَّمخْشَري وابن عطية والحَوْفي وأبي البقاء قال الزجاج: كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت فيها بالخيار، وتابعه الباقون قريباً من عبارته.
وردَّ أبو حيانَ هذا الإطلاق وقيده بأنه لا بدّ أن تكون الواو غير مدغم فيها تحرزاً من التعوذ وأن تكون غير مصححة في الفعل فإنها متى صحت في الفعل لم تبدل همزة نحو: تَرَهُوَكَ تَرَهْوُكاً، وتَعَاوَنَ تَعَاوُناً. وهذا القيد الآخر يبطل قولهم لأنها صحت في: «تَنَاوَشَ يَتَنَاوَشُ» ، ومتى سلم له هذان القيدان أو الأخير منهما ثَبَتَ رده. والتَّنَاوُشُ الرجوعُ، قال:
4143 - تَمَنَّى أَنْ تَئُوبَ إلَيَّ مَيٌّ ... وَلَيْسَ إلى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ(16/91)
أي إلى رجوعها. وقيل: هو التناول يقال: نَاشَ كذا أي تَنَاوَلَهُ ومنه تَنَاوشَ القَوْمُ بالسِّلاح كقوله:
4144 - ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أبِيهِ تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تَشَقَّقُ
وقال آخر:
4145 - وهي تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشاً مِنْ عَلاَ ... نَوْشاً به تقطَع أجْوَازَ الفَلاَ
وفرق بعضهم بين المهموز وغيره فجعل المهموز بمعنى التأخير. وقال الفراء: من نَأَشْتُ أي تَأَخَّرْتُ. وأنشد:
4146 - تَمَنَّى نَئِيشاً أَنْ يَكُونَ مُطَاعُنَا ... وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأُمُورِ أُمُورُ
وقال آخر:
4147 - قَعَدْتَ زَمَاناً عَنْ طِلاَبِكَ لْلعُلاَ ... وَجِئْتَ نَئِيشاً بَعَْ مَا فَاتَكَ الخَيْرُ
وقال الفراء أيضاً: هما متقاربان يعني الهمزة وتركها مثل ذِمْتُ الشيء وذَأَمْتُهُ أي عِبْتُهُ وانْتَاشَ انْتَاشَ انِتْيَاشاً كَتَنَاوَشَ وقال:
4148 - كَانَتْ تَنُوشُ العنق انْتِيَاشا ...(16/92)
وهذا مصدر على غير المصدر، و «مِنْ مَكَانٍ» متعلق بالتَّنَاوُشِ.
فصل
المعنى كيف لهم تناول ما بعد وهم الإيمان والتوبة وقد كان قريباً في الدنيا فضيّعوه وهذا على قراءة من لم يهمز وأما من همز معناه هذا أيضاً. وقيل: التناوش بالهمز من النَّيْشِ وهي حركة في إبطاء، يقال: جاء نيْشاً أي مُبْطِئاً متأخراً والمعنى من أي لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه.
قال ابن عباس: يسألون الرد فيقال: وأنَّى لهم الردُّ إلى الدنيا «من مكان بعيد» أي من الآخرة إلى الدنيا.
قوله: {وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ} جملة حالية. وقوله «به» أي بالقرآن. وقيل: بالله أو محمد - عليه (الصلاة و) السلام -.
وقيل: بالعذاب أو البعث. و «من قبل» أي من قبل نزول العذاب. وقيل: من قبل أن عاينوا أهوال القيامة، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والأول أظهر.
قوله: {وَيُقْذَفُونَ} يجوز فيها الاستئنافُ والحال، وفيه بعد. عكس الأول لدخول الواو على مضارع مثبت. وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو: ويُقْذَفُونَ مبنياً للمفعول أي يُرْجَمُونَ بما يسوؤهُمْ من جزاء أعمالهم من حيث لا يحْتسبون.(16/93)
فصل
ويقذفون قال مجاهد: يرمون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالظن لا باليقين وهو قولهم: ساحرٌ وشاعرٌ وكاهنٌ. ومعنى الغيب هو الظن لأنه غاب علمه عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون والمعنى يَرْمُونَ محمداً بما لا يعلمون من حيث لايعلمون.
وقال قتادة: «أي يرجمون بالظن يقولون لا بعثَ ولا جنةَ ولانَارَ» .
قوله: {وَحِيَل} تقدم في الإشمام والكسر أو البقرة.
والقائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحَوْلُ ولا تقدره مصدراً مؤكداً بل مختصاً حتى يصح قيامه، وجعل الحَوْفيُّ القائم مقام الفالع «بينهم» اعترض عليه بأنه كان نيبغي أن يرفع. وأجيب عنهُ بأنه إنما بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكِّن. ورده أبو حيان بأنه لا يبنى المضاف إلى غير متمكن مطلقاً، فلا يجوز: قاَمَ غُلاَمَكَ ولا مَرَرْتُ بِغُلاَمكَ بالفتح. قال شهاب الدين: وقد تقدم في قوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] ما يغني عن إعادة ثم قال أبو حيان: وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر:
4149 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعَيْرِ والنَّزَوَانِ
فإنه نصب «بين» مضافة إلى معرب وخُرِّجَ أيضاً على ذلك قول الآخر:
4150 - وَقَالَتْ مَتَى يُبْخَلْ عَلَيْكَ وَيُعْتَلَلْ ... يَسُؤْكَ (وَ) إنْ يُكْشَفْ غَرَامُكَ تَدْرَبِ(16/94)
أي يتعلل هو أي الاعتلال.
قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} يعني الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا.
وقيل: نعيم الدنيا وزهرتها، «كَمَا فُعشلَ باَشْيَاعِهِمْ» بنظرائهم ومن كان (على) مث حالهم من الكفار «مِنْ قَبْلُ» لم يقبل منهم الإيمان في وقت اليأس «إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكِّ» من البعث ونزول العذاب بهم، و «مِنْ قَبْلُ» متعلق «بفُعِلَ» أو «بأَشْيَاعِهِمْ» أي (الذين) شايعوهم قبل ذلك الحين.
قوله: {مُرِيب} قد تقدم أنه اسم فاعل من أَراربَ أي أى بالريب أو دخل فيه وأَرَبْتُهُ أوْقَعْتُهُ في الرَّيْبِ. ونسبة الإرابة إلى الشك مجازاً.
وقال الزمخشري هنا إلا أن ههنا فُرَيْقاً وهو أن المريب من المتعدي منقول من صحاب الشك إلى الشك كما تقول شرع شاعر ... . وهي عبارة حسنة مفيدة وأين هذا من قول بعضهم ويجوز أن يكون أردفه على الشك ليناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب. وقول ابن عطية الشك المريب: أقوى ما يكون من الشك وأشدُّه،(16/95)
وتقدم تحقيق الريب أول البقرة، وتشينع الراغب على من يفسر بالشكّ، والله أعلم.
روى أو أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. «مَنْ قَرَأَ سُوَرةَ سَبَأٍ لَمْ يَبْقَ نَبِيُّ وَلاَ رَسُولٌ إلاَّ كَانَ لَهُ رفيقاَ وَمُصَافِحاً» .
(صدق نبي الله وحَبِيبُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) .(16/96)
سورة فاطر (سورة الملائكة - عليهم السلام -(16/97)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
مكية وهي ست وأربعون آية وسبع وتسعون كلمة وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا. بسم الله الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: قوله: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات} قد تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر. ونعم الله على قسمين عاجلة وآجلة والعاجلة وجود وبقاء والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء.
قوله: {فَاطِرِ} إن جعلت إضافة محضة كان نعتاً «لله» وإن جعلتها غير محضة كان بدلاً. وهو قليل، من حيث إنه مشتق، وهذه قراءة العامة. والزُّهْريّ والضحاك: «فَطَرَ» فعلاً ماضياً وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها صلة لموصول محذوف أي الَّذِي فطر. كذا قدره أبو (حيان) وأبو(16/97)
الفضل، ولا يليق بمذهب البصريين لأن حذف الموصل الاسمي لا يجوز، وقد تقدم هذا الخلاف متسوفًى في البقرة.
الثاني: أنه حال على إضمار «قد» قال أبو الفضل أيضاً.
الثالث: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ فطر وقد حكى الزمخشري قراءة تؤيد ما ذهب إليه الرّازي فقال: «وقرئ الذي فَطَر وَجَعَل» ، فصرح بالموصول.
فصل
معنى فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. قاله ابن عباس وقيل: فاطر السموات والأرض أي شاقّهما لِنُزُول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض. ويلد عليه قوله تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} فإن في ذلك اليوم تكن الملائكةُ رسلاً.
قوله: «جاعل» العامة أيضاً على جره نعتاً أو بدلاً، والحسن بالرفع والإضافة.
وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنَّه لم ينون ونصب الملائكة، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:
1451 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا(16/98)
وابنُ يعمُر وخُلَيْدُ بن نَشِيطٍ «جَعَلَ» فعلاً ماضياً بعد قراءة فاطر بالجر وهذه كقراءة: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل} [الأنعام: 96] والحَسَنُ وحُمَيْد رُسْلاً بسكون السين وهي لغة تميم. وجاعل يجوز أن يكون بمعنى مصير أوبمعنى خالق فعلى الأولى يجري الخلاف هل نصب الثاني باسم الفاعل أو بإضمار فعل هذا إن اعتقد أن جاعلاً غير ماضي أما إذا كان ماضياً تعين أن ينتصب بإضمار فعل.
وتقدم تحقيق ذلك في الأنعام وعلى الثاني ينتصب على الحال، و «مَثْنَى وثُلاَثَ ورُبَاعَ» صفة لأجنحة و «أُولي» صلة لرُسُلاً.
وتقدم تحقيق الكلام في مَثْنَى وأخْتَيْهَا في سورة النساء قال أبو حيان وقيل: أولي أجنحة معترض و «مثنى» حال والعامل فعل محذفو يدل عليه رسلاً أي يُرْسَلُون مَثْنَى وثُلاَث ورُبَاع وهذا لا يسمى اعتراضاً لوجهين:
أحدهما: أن «أولي» صفة لرسلاً والصفة لا يقلا فيها معترضة.
والثاني: أنها ليست حالاً من «رُسُلاً» (بل) من محذفو فكيف يكون ما قبله معترضاً؟ ولو جعله حالاً من الضمير في «رُسُلاً» لأنه مشتق لسهل ذلك بعض شيء(16/99)
ويكون الاعتراض بالصفة مجازاً من حيث إنه فاصل في الصورة.
قوله: {يَزِيدُ} مستأنف و «مَا يَشَاءُ» هو المفعول الثاني للزّيادة. والأول لم يقصد فهو محذفو اقتصاراً لأن قوله في الخلق يُغْنِي عَنْهُ.
فصل
قول قتادة ومقاتل: ألوي أجنحة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثةُ أجنحة، وبعضهم له أجنحة يزيد فيها ما يشاء وهو قوله: {يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآء} قال (عبد الله) بنُ مسعود في قوله عزّ وجلّ: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} [النجم: 18] قال: رأي جبريل في صورته له ستّمائةِ جَنَاح. «قال ابن شهاب في قوله: {يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآء} قال: حسن الصوت وعن تقادة: هو المَلاَحَةُ في العينين وقيل: هو القعل والتمييز {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
قوله: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر وقال: {مَّا يَفْتَحِ الله} إن رحم الله فلا مانع له وإن لم يرحم فلا باعثَ له عليها. وفي الآية دليل على سبق الرحمة الغضب من وجوه:
أحدها: التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر.
وثانيها: أنه أنّث الكناية فقال: فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا» ويجوز من حيث العربية أن يقال: «لَهُ» عَوْداً إلى «ما» ولكن قال الله تعالى ذلك ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة فيه واصلة إلى من رَحِمَتُهُ وقال عند الإمساك: «وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ» بالتذكير ولم يقل «لها» فلم يصرح بأنه لا مرسل للرحمة بل ذكره بلفظ يحتلم أن يكون الذي يرسل هو غير الرحمة، فإن قوله (تعالى) {وَمَا يُمْسِكْ} عامٌّ من غير بيانٍ وتخصيص.
وثالثها: قوله من بعْدِه أي من بعد الله فاستثنى ههنا وقال: «لاَ مُرْسِلَ لَهُ إلاَّ اللَّهُ» وعند الإمساك قال: لاَ مُمْسِكَ لَهَا «ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رَحِمَهُ الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ومن يعذبه الله قد ي رَحِمَهُ اللَّهُ بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان.(16/100)
قوله: {مِنْ رَحْمَةٍ} تبين أو حال من اسم الشرط ولا يكون صفة ل» ما «لأن اسم الشرط لا يوصف قال الزمخشري: وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قيل: أيّ رحمةٍ كانت سماويةً أو أرضية؟ قال أبو حيان: والعموم مفهوم من اسم الشرط و» من رحمة «بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجْتُزِئَ فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات. و» من «في موضع الحال. انتهى.
قوله {وَمَا يُمْسِكْ} يجوز أن يكون على عمومه أيْ أيّ شيء أمْسَكَه من رحمة أو غيرها.
فعلى هذا التذكير في قوله له ظاهر لأنه عائد على «ما يمسك» ويجوز أن يكون قد حذف الميَّن من الثاني لدلالة الأول عليه تقديره وما يمسك من رحمة فعلى هذا التذكير في قوله: «له» على لفظ «ما» وفي قوله أولاً: فلا ممسك لها التأنيث فيه حمل على معنى «ما» لأن المراد به الرحمة فحل مأولاً على المعنى وفي الثاني على اللفظ. والفَتْحُ والإمساك استعارة حسنة «وَهُوَ العَزِيزُ» فيما أمسك أي كامل القدرة «الحَكِيمُ» فيما أرسل أي كامل العلم. قال - عليه (الصلاة و) السلام «الَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجدّ مِنْكَ الجِدُّ» .
قوله: {يا أيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تَسْتَوجبُ الحمدل على سبيل التفصيل بني النعمة على سبيل الإجمال فقال: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وهي مع كونها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء وقال: {يَرْزُقُكُمْ} إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق في الانتهاء.
قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} قرأ الأخوان «غَيْرٍ» بالجر نعتاً «لِخَالِقٍ» على اللّفظ و «مِنْ خَالِقٍ» متبدأ مراد فيه «من» وفي خبره قولان:
أحدهما: هو الجملة من قوله: {يَرْزُقُكُمْ} .(16/101)
والثاني: أنه محذوف تقديره: «لكم» ونحوه، وفي «يرزقكم» على هذا وجهان:
أحدهما: أنه صفة أيضاً لخلق فيجوز أن يحكم على مَوْضِعِهِ بالجر اعتباراَ باللفظ وبالرفع اعتباراً بالمَوْضِعِ.
والثَّانِي: أنه مستأنف وقرأ الباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر المبتدأ.
والثاني: أنه صلة لخالق على المَوْضِع والخبر إما محذوفٌ وإما «يَرْزُقُكُمْ» .
والثالث: أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية لأن اسمَ الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام إلاَّ أن أبا حيان توقف في مثل هذا من حيث إن اسم الفاعل وإن اعتمد إلا أنه لم يحفظ (فيه) زيادة «من» قال: فيحتاج مثله إلى سماع ولا يظهر التوفق فإن شروط الزيادة والعمل موجودة، وعلى هذا الوجه «فَيرْزُقُكُمْ» إما صفة أو مستأنف.
وجعل أبو حيان استئنافه أولى، قال: لانتفاء صدق «خالق» على غير الله بخلاف كونه صفة فإن الصفة تُقَيَّد فيكون ثَمَّ خالق غير الله لكنه ليس برازقٍ وقرأ الفضلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النحويّ «غَيْرَ» بالنصب على الاستثناء والخبر «يَرزُقُكُمْ» أو محذوف و «يرزقكم» مستأنفةٌ أو صفةٌ.
فصل
قال المفسرون: هذا استفهام على طريق التنكير كأنه قال: لا خالق غير الله يرزقكم.(16/102)
من السماء والأرض أي من السماء المطر ومن الأرض النبات «لاَ إلَه إلاَّ هُوَ» مستأنف «فَاَنَّى تُؤْفَكُونَ» أي فأنى تُصْرَفُونَ عن هذا الظاهر فكيف تشركون المَنْحُوتَ بمن له الملكوت؟ ثم لما بين الأصل الأول وهو التوحيد ذلك الأصل الثاني وهو الرِّسالة فقال: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} يسلي نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب (و) غير المكذب له الثواب بقوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر فقال: {يا أيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} يعني وعد القيامة {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور} أي الشيطان وقرأ العامة بفتح «الغَرُور» وهو صفة مبالغة كالصَّبُور والشَّكُور. وأبو السَّمَّال وأبو حَيْوَة بضمِّها؛ إماغ جمع غارٍ كَقَاعدٍ وقُعُودٍ وإمَّا مصدر كالجُلُوس.(16/103)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
قوله: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ} لما قال تعالى: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور} [فاطر: 5] يمنع العاقل من الاغترار وقال: {الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّا} ولا تمسعوا قوله. قوله: {فاتخذوه عَدُوّا} أي اعملوا ما يسوؤه وهو العمل الصالح. ثم قال: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ} أي أشياعه {لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير} (و) في الآية أشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فإما أنْ يُعَادِيَه مجازاةً له وإما أن يُرْضيه فلما قال تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوّ} أمرهم بالعداوة وأَشَارَ إلى أن الطريق ليس إلا هذا. وأما الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إنْ أَرْضَيْتمُوهُ واتَّبعتُمُوهُ فهو لا يؤدِّيكم إلا إلى السعير.
واعلم أن من علم أن له عدواً لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يق له ويصير معه على(16/103)
قتاله إلى يظفر به وكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان (أن) يهرب منه فإنه يقف معه ولا يزال ثابتاً على الجادّة والاتِّكال على العبداة ثم بين تعالى ما حال حزبه وحال حزب الله وهو قوله: {الذين كَفَرُواْ} يجوز رفعه ونصبه وجره فرفعه من وجهين:
أظهرهما: أن يكون متبدأ والجملة بعده خبره. والأحسن أن يكون «لهم» هو الخبر و «عَذَابٌ» فاعله.
الثاني: أنه بدل من واو «لِيَكُونُوا» ونصبه من أوجه: البدل من «حِزْبَهُ» أو النعت له أو إضمار فلع «أَذُمُّ» ونحوه، وجره من وجهين: النعت أو البدلية من «أصْحَابِ السًّعِيرِ» وأحسن الوجوه الأول المطابقة التقسيم واللام في «لِيَكُونُوا» إما للعلة على المجاز من إقامة السَّبَب مَقَم المُسَبب وإما الصَّيْرُورة ثم قال: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وهذا حال حزب الشيطان {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} فالإيمان في مقابلته المغفرة فلا يُؤَبَّد مؤمنٌ في النار والعمل الصالح في مقابلته «الأجر الكبير» .
قوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِه} «مَنْ» موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر محذوف فقدره الكسائِيُّ «تذهب نفسك عليهم حَسَرَاتٍ» لدلالة: «فَلاَ تَذْهَب» عليه وقدره الزجاج: «وأَضَلَّهُ اللَّهُ كَمَنْ هَدَاهُ» وقدره غيرهما كمن لم يُزَيَّنْ له. وهو(16/104)
أحسن، لموافقته لفظاً ومعنى ونظيره «أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ (هُوَ أعْمَى) » {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] والعامة على «زُيِّنَ» مبنياً للمفعول «سُوءُ» رفع وعُبَيْدُ بْنُ عَمَيْر زَيَّنَ مبنياً للفاعل وهو الله «سُوءَ» بالنصب به. وعنه «أَسْوأَ» بصيغة التفضيل منصوباً وطلحةُ «أَمَنْ» بغير فاء قال أبو الفضل: الهمزة للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ويجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب، يعني أنه يجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب، يعني أنه يجوز في هذه القراءة أن تكون الهمزة للنداء وحذف التّمام أي ما نُودي لأجله كأنه قيل: يَا مَنْ زينَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ارْجِعء إلى الله وتب إليه، وقوله: «كما حذِف الجواب» يعني به خبرَ المبتدأ الذي تَقدَّم تقريره.
فل
قال ابن عباس: نزلت في أبي جهل ومشركي مكة وقال سعيد بن جبير: نزلت في أصحاب الأهْوَاء والبِدَع فقال قتادة: منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم فأما أهل الكبائر فليسوا منهم لأنهم لا يستحلون الكبائر. ومعنى زين له سوء عمله شبه له وموه عليه وحسن له سوء عمله أي قبح عمله فرآه حسناً زين له الشيطان ذلك بالوسواس. وفي الآية حذف مجازه: أفمن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرأى الباطل حَقًّا كَمَنْ هداه اله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً؟ «فإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي(16/105)
مَنْ يَشَاء» وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك بالاستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى.
ثم سلى - رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجةٍ قاهرة فقال: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} [الكهف: 6] أي لا تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا.
قوله: {فَلاَ تَذْهَبْ} العامة على فتح التاء مسنداً «لِنَفْسِك» من باب «لاَ أَرَيَنَّكَ هَهُنَا» أي لا تتعاط أسباب ذلك. وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهب بضم التاء وكسر مسنداً لضمير المخاطب (و) نَفْسَك مفعول به.
قوله: {حَسَرَاتٍ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول من أجله أي لأَجْلِ الحَسَرَاتِ.
والثاني: أنه في موضع الحال على المبالغة كأن كلها صَا (رَ) تْ حَسَرَاتٍ لفرط التحسر كما قال:
4152 - مشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى ... حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُوراً
يريد: رجعن كلاكلاً وصدرواً، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم (شعر) :(16/106)
4153 - فَعَلَى إثْرِهم تَسَاقَطُ نَفْسِي ... حَسَرَاتٍ وذَِكْرُهُم لِي سَقَامُ
وكون «كلاكل وصدور» حال قوله سيبويه وجعلها المُبَرِّدُ تَمْييزين منقولين من الفاعلية والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر. ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون} أي الله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعونه، ثم عاد إلى البيان وقال: {والله الذي أَرْسَلَ الرياح} وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي حركاته المخلتفة قد يُنْشِئ السَّحَابَ وقد لا يُنْشِئُ.
فهذه الاختلافات دليل على مسخَّرٍ مدبِّرٍ مُؤَثِّر مُقَدِّرٍ.
قوله: {فَتُثِرُ} عطف على «أرْسَلَ» لأن «أرْسَلَ» بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرْسَلَ لِتَحقُّقِ وقوعه. و «تثيرُ» لتصور الحال واستحضار الصورة البديعية كقوله: {أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] وكقول تَأبَّكَ شَرًّا:
4154 - ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيَانَ فَهْمٍ ... بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحَا مَطَانِ
بأنِّي قد رأيت الغول تَهْوِي ... بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَقُلْتُ لَهَا كِلاَنَا نِضْوُ أرْضٍ ... أَخُو سَفَرٍ فخل لِي مَكَانِي
فَشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوِي فَأَهْوَتْ ... لَهَا كَفِّي بمصقول يَمَانِي
فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ ... صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرَانِ(16/107)
حيث قال: «فأضربها» ليصور لقوله حاله وشجاعته وجرأته وقوله: «فَسُقْنَاهُ وأَحْيَيْنَا» معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدْخَلُ في الاختصاص وأدلّ عليه.
فصل
قال: أرسل بلفظ الماضي وقال: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} بلفظ المستقبل، لأنه لما أُسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزَّمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان، ولأنه فرغ من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة. ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح ويه تؤلَف في زمان فقال: تُثِيرُ أي على هيئتها وقال: «سُقْنَا» أسند الفعل غلى المتلكم وكذلك في قوله: «فَأحْيَيْنَا» لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعلا وهو الإرسال ثم لما عرف قال: أنا الذي بَعَثْتُ السَّحَاب وأحْيَيْتُ الأَرْضَ. ففي الأول كان تعريفاً بالفعل العجيب وفي الثاني: كان تذكيراً بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسَّوْقِ والإحياء وقوله: «سُفْنَا وَأَحْيَيْنَا» بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله: «أرسل» وبين قوله: «تثير» ثم قال: «كَذَلِكَ النُّشُورُ» أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه:
أحدها: أن الأرض الميتة لما وصلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة.
وثانيها: كما أن الريح تجمع القِطَعَ السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعطاء وأبعَاضَ الأشياء.
وثالثها: كما أنَّا نسوق الرِّيح والسحاب إلى البلد نسوق الرُّوحَ إلى الجسد الميِّت.
فإن قيل: ما الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد؟
فالجواب: أنه تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله: «جَاعِلِ الملائكة رسلاً أولي أجنحة» ذكر في الأمور الأرضية الرِّياحَ.(16/108)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ} شرط جوابه مقدر باختلاف التفسير في قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} (فقال مجاهد: معاه) من كان يريد العزة بعبادة الأوثان فيكون تقديره فليطلبها.
وقال قتادة: من كان يريد العزة وطريقة القويم ويحِبُّ نَيْلَها على وجهها. فيكون تقديره على هذا فليطلبها.
وقال الفراء: مِنْ كَانَ يريد علمَ العرزة فيكون التقدير: فَلْيَنْسب ذلك إلى الله.
قويل: من كان يريد العزة لا يعقبها ذلّة. فيكون التقدير: فهو لا يُبَالِهَا. ودل على هذه الأجوبة قوله: {فَلِلَّهِ العزة} وإنما قيل: إن الجواب محذوف وهو هذه الجملة لوجهين:
أحدهما: أن العز لله مطلقاً من غير ترتبها على شرط إرادة أحدٍ.
والثان: أنه لا بدّ في الجواب من ضي يعود على اسم الشرط إذا كان غير ظرف ولم يوجد هنا ضمير، و «جَميعاً حال، والعامل فيها الاسْتِقْرَارُ.
فصل
قال قتادة: من كان يريد العزة فليتفرد بطاعة الله عزّ وجلَ - ومعناه الدعاء إلى(16/109)
طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته كما يقال: من كان يريد المال فالمال لفُلان (أي) فليطلبه من عنده ذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزيز كما قال تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ} [مريم: 81 - 82] وقال: {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} [النساء: 139] .
قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَد} العامة على بنائه للفاعل من» صَعَدَ «ثلاثياً» الكَلِمُ الطَّيِّبُ « (برفعهما فاعلاً ونعتاً وعليّ وابنُ مسعود يُصْعِدُ من أصْعَدَ الكَلِمَ الطَّيّبَ) منصوبان على المفعول والنعت وقرئ يُصْعَدُ مبنياً للمفعول. وقال ابن عيطة: قرأ الضحاك يُصْعَد بضم الياء لكن لم يبيّن كونه مبنياً للفاعل او المفعول.
فصل
قال المفسرون: الكَلِمُ الطَّيب قول لا إله إلا الله. وقيل: هو قول الرجل: سُبْحَان اللَّهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ ولاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ أَكْبَرُ. وعن ابن مسعود قال: إذا حَذَّثْتُكُمْ حَديثاً أنبأتكم بِمصْدَاقِهِ من كتاب الله - عزّ وجلّ - ما مِن عبدٍ مسلم يقول خمس كلمات سُبْحَان الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ وتبارك الله إلا أحذهُنَّ ملكٌ فَجعَلَهُنَّ تحت جناحه ثم صعد بِهِنَّ، فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلاَّ استغفروا لقائلهن حتى يَجِيءَ بهنَّ وَجْهَ ربِّ العالمين ومصداقيه من كتاب الله عزّ وجلّ قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} وقيل: الكلم الطيب: ذكر الله. وعن قتادة: إليه يصعد الكلم الطيب أي يقبل اللَّهُ الكلمَ الطيب.
قوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} العامة على الرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على» الكَلِمُ الطَّيَّبُ «فيكون صاعداً أيضاً.
و «يَرْفَعُهُ» على هذا استئناف إخبار من الله برفعهما. وإنما وَحَّدَ الضمير وإن كان المراد الكلم والعمل(16/110)
ذهاباً بالضمير مذهب اسم الإشارة كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] وقيل: لاشتراكهما في صفة واحدة وهي الصُّعود.
والثاني: أنه مبتدأ و «يرفعه» الخبر ولكن اختلفوا في فاعل «يَرْفَعُ» على ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه ضمير الله تعالى أي والعمل على الصالح يرفعهُ الله إليه.
والثاني: أنه ضمير العمل الصالح وضمير النصب على هذا وجهان:
أحدهما: أنه يعود على صاحب العمل أي يرفع صَاحِبَهُ.
والثان: أنه ضمير الكلم الطيب أي العمل الصالح يرفع الكلمَ الطيب. ونُقل هذا عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين إلاَّ أنَّ ابن عطية منع هذا عن ابن عباس وقال: لا يصح؛ لأن مذهب أهل السنة أن الكلم الطيب مقبول وإن كان صاحبه عاصياً.
والثالث: أن ضمير الرفع للكلم والنصب للعمل أي يرفع العَمَلَ وقرأ ابنُ أبي عَبَلَةَ وعِيسَى بالنّصب الْعَمَلَ الصَّالِحَ على الاشتغال والضمير المرفوع لِلْكَلِم أو لله والمنصوب للْعَمَلِ.
فصل
قال الحسن وقتادة: الكلمُ الطَّيَّبُ ذكر الله والعمل الصلاح أداء فرائضه، فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني ولا بالتًّخَلِّي لكمن ما وقَرَ في القلوب وصدقه الأعمال فمن قال حَسَناً وعَمِلَ غير صالح ردّ الله عليه قوله ومن قال حَسَناً وعمل صالحاً رفعه العمل لقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح(16/111)
يَرْفَعُهُ} وقال عليه (الصلاة و) السلام - «لَمْ يَقْبَل اللَّهُ إلاَّ بِعَمَلٍ وَلاَ قَوْلاً وَعَمَلاً إلاَّ بِنِيَّة» . ومن قال الهاء في قوله «يَرفعُهُ» راجعةٌ إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يُقْبَلُ عَمَلٌ إلا أن يكون صادراً عن التوحيد. وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل. وقال سفيان بن عيينة: العمل الصالح هو الخالص يعني أن الإخلاص سبب قبلو الخيرات من الأقولا والأفعال لقوله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} [الكهف: 110] فجعل نقيض العمل الصالح الشِّرك والرياء.
قوله: {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} «يمكرون» أصله قاصر فعلى هذا ينتصب «السيّئات» على نعت مصدر محذوف أي المكراتِ السيئات أو تعتٍ مضاف إلى (مصدر) أي أصْنَاف المَكْرَاتِ السيئاتِ ويجوز أن يكون «يَمْكُرُونَ» مضمناً معنى يكْسِبُون فينتصب «السيئات» معفولاً به قال الزمخشري ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فمعناه تعديته كما قال: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} [النساء: 18] قال مقاتل: يعني الشرك. وقال أبو العالية: يعني الذين مكروا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في دار النَّدْوة كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: 30] .
قوله: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} هو مبتدأ و «يبور» خبره والجملة خبر قوله: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ} وجوَّز الحَوْفِيُّ وأبو البقاء أن يكون «هو» فصلاً بين المبتدأ أو الخبر وخبره وهذا مردود بأن الفصل لا يقع قبل الخبر إذا كان فعلاً إلاَّ أن الجُرْجَانيِّ(16/112)
جوز ذلك، وجوز أبو البقاء أيضاً أن يكون «هو» تأكيداً وهذا مردود بأن المضمر لا يؤكد الظاهر ومعنى «يَبُور» يَهْلِكُ ويَبْطُلُ في الآخرة.
قوله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ... . الآية} قد تقدم أن الدلائل مع كثرتها منحصرة في قسمين: دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] فلما ذكر دلائل الآفاق من المسوات وما يرسل منها من الرياح شرع في دلائل الأنفس وتقدم ذكره مِراراً أن قوله: «مِنْ تراب» إشارة إلى خلق آدم «ثُمَّ مِنْ نُطْفِةٍ» إشارة إلى خلق أولاده. وتقدم أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم، وكلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء (ينتهي) بالآخرة إلى الماء والتراب فهو من تراب صار نطفة «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ذُكْرَانا وإنَاثاً» .
قوله: {} من مزيدة في «أُنْثَى» وكذلك في: «مِنْ مُعَمَّرٍ» إلا أن الأول فاعل وهذا مفعول قام مقامه و «إلاَّ بِعِلْمِهِ» حال أي إلاَّ مُلْتبِسَةً بعِلْمِهِ.
قوله: {مِنْ أنثى} في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه يعود على «مُعَمَّر» آرخ لأن المراد بقوله: «مِنْ مُعَمَّر» الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى، لأنه بعد أن فرض كونُه معمراً استحال أن يَنْقص مِنْ عُمُرِهِ نفسه كقوله:
4155 - وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَتْلَ فَحْلِهِم ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فهو سَارِبُ
ومنه: عندي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ أي ونصف درهم آخر.(16/113)
والثاني: أنه يعود على «مُعَمَّر» لفظاً ومعنى. أنه إذا مضى من عمره حول أُحْصِيَ وكُتِبَ ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص. وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبُو مالكٍ؛ ومنه قول الشاعر:
4156 - حياتك أنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلما ... مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا
وقرأ يعقوب وسلاَّم - وتروى عن أبي عمرو - ولا يَنْقُصُ مبنياً للفاعل وقرأ الحَسَنُ: مِنْ عُمْرِهِ بسكون المِيم.
فصل
معنى «وما يعمر من معمر» لا يطول عمره ولا ينقص من عمره أي من عرم آخر كما يقال: لفلانٍ عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر «إلا في كتاب» وقيل: قوله ولا نيقص من عرمه ينصرف إلى الأول. وقال سعيد بن جبير: مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل (من) ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره.
وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر: والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر فقيل له: إن الله عزّ وجلّ يقول: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] فقال: هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و (أن) يَنْقُصَ، وقرأ هذه الآية.
فصل
«وما تحمل من أنثى ولا تضع» إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئاً فلما ذرك بقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} كمال قدرته بين بقوله: {ما تَحْمِلُ من أنثى ولا تضع(16/114)
إلا بعلمه} كمال علمه. ثم بين نفوذ إرادته بقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} فبين أنه هو القادرُ العليم المريد والأصنام لا قدرة لها (ولا علم) ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة. ثم قال: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي الخلق من التراب. ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير والنقصان على الله يسير. ويحتمل أن يكون المراد: إن العمل بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير. والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل أليق.
قوله: {وَمَا يَسْتَوِي البحران} يعني العذب والملح ثم ذكرهما فقال: {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} طيب «سَائغٌ شَرَابُهُ» جائز في الحلق هنيء «وَهَذا مِلْحٌ أجَاجٌ» شديد الملوحة. وقال الضحالك: هو المُرُّ.
قوله: {سَآئِغٌ شَرَابُهُ} يجوز أن يكون متبدأ وخبراً، والجملة خبر ثانٍ وأن يكون «سائغٌ» خبراً و «شرابه» فاعلاً به لأنه اعتمد وقرأ عيسى - ويوى عن أبي عمرو وعاصم - سَيِّغٌ مثل سيِّد وميِّت وعن عيسى بتخفيف يائه كما يخفف هَيِّن ومَيِّت.
وقرأ طلحة وأبو نُهَيْك ملحٌ بفتح الميم وكسر اللام، فقيل: هو مقصور من مَالِحٍ ومالٍح لغَيَّة شاذة. قويل: مَلِح بالفَتْح والكسر لُغَةٌ في مِلْحٍ، بالكسر والسكون.
فصل
قال أكثر المفسرين: إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان لا يُشَبَّه بالكفر كما لا يشبه البحر العَذْبُ الفراتُ بالبحر المَلِح الأجاج ثم على هذا فقوله: {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} فالبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاجَ يشارك الفُرَاتَ في خير ونفع إذ اللحمُ(16/115)
الطريُّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منها والفُلْكُ تجري فيهما ولا نفع في الكفر والكافر. وهذا على نَسَقِ قوله تعالى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وقوله: {كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء} [البقرة: 74] قال ابن الخطيب: والأظهر أن المراد من ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى وذلك من حيث إن البحرين يَسْتَوِيَانِ في الصورة ويختلفان في الماء، فإن أحدهما فُراتٌ والآخر مِلْح أُجَاج ولولا ذلك بإيجاب مُوجِب لما اختلفت المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريَّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منهما ومن يوجد من المتشابهين اختلافاً ومن المختلفين اشتباهاً لا يكون إلا قادراً مختاراً فقوله: {َمَا يَسْتَوِي البحران} إشارة إلى أن عدم استوئهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته.
فصل
قال أهل اللغة: لا يقال لماء البحر إذا كان فيه مُلُوحَةٌ مالحٌ وإنما يقال له: مِلْح.
وقد يذكر في بعض كتب الفقه يَصِيرُ بها ماءُ البَحْرِ مَالِحاً. ويؤاخذ قائله (به) وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقي فيه مِلْح حتى مَلَحَ لا يقالُ له إلا مالح. وماء مِلْحٌ يقال للماء الذي صار من أصل خِلْقَتِهِ كذلك لأن المَالِحَ شيء فيه مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْق والماء الملح ليس ماءً ومِلْحاً بخلاف الطعام المالح فالماء العذب المُلْقَى فيه المِلْح ما فيه ملح ظاهر في الذَّوْق بخلاف (ما هو مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْقِ بخلاف) ما هو من أصل خلقته كذلك (فلما) قال الفقيه: الملحُ أجزاء أرضيَّة سَبِخَة يصير بها ماءُ البَحْرِ مالحاً راعى فيه الأصل فإنه جعله ماءً جاوره مِلْحٌ. وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه مِلْحٌ جعلوه كذلك من أصل الخلقة والأجَاجُ المُرُّ كما تقدم.
قوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} من الطَّيْر والسَّمَك من العَذْب والملح جميعاً «وتَسَتْخَرِجُونَ حِلْيَةً» يعني من الملح دون العذب «تَلْبَسُونَها» من اللُّؤْلُؤ والمَرجَان. وقيل: نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الأجاج (عيون) عذبة تمتزج بالملح فيكون(16/116)
اللؤلؤ من ذلك. وقرئ «الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ» أي ماخرات تَمْخُر البحر بالجَرَيَان أي تشُقّ جَوَارِي مقبلة ومدبرة بريح واحدة «لِتبَبْغُوا مِنْ فَضْلِهِ» بالتجارة «ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ» الله على نعمة وهذا يدل على أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته.
قوله: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} وهذا استلال آخر باختلاف الأزمنة وقوله: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} جواب لسؤال يذكره المشركون وهوأنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسيّ الواقعة فوق الأرض وتحتها فإن الصيف تكون الشمس على سَمْتِ الرُّؤُوس في بعض البلاد المائلة الآفاق وحركة الشمس هناك مائلة فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة فيقل زمان مكثها تحت الأرض فيقْصُرُ الليل وفي الشتاء بالضَّدّ فيقصر النهار فقال الله تعالى: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} يعني سبب الاختلاف وإن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك «كُلُّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسمَّى» .
قوله: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُم} ذلكم مبتدأ و «الله» خبره و «ربكم» خبر ثانٍ أو نعت لله. وقال الزخشري: ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسمالله صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و «ربكم» خبر لولا أن المعنى يأباه وردهُ أبو حيان بأن «اللَّهَ» علم لا جنس فلا يُوصَفُ به. ورد قوله إنّ المعنى يأباه قال: لأنه يكون قد أخبر عن المُشِار إليه بتلك الصفات أنه مَالِكُكُمْ ومُصْلِحُكُمْ.
فصل
المعنى ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فَطْرِ السَّمَواتِ والأرض وإرْسَالِ الأرواح وخَلْقِ الإنسان من ترابٍ وغيرذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها. ثم بين ما ينافي صفة الإلهية فقال: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} يعني الأصنام {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير}(16/117)
قوله: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} العامة على الخطاب في «تَدْعُونَ» لقوله: «رَبُّكُمْ» وعيسى وسَلاَّم ويعقوبُ - وتُرْوَى عن أبي عمرو - بياء الغيبة إمَّا على الالتفات وإمَّا على الانتقال إلى الإخبار. والفرق بينهما أن يكون في الالتفات المراد بالضميرين واحداً بخلاف الثاني فإنهما غَيْرَانِ و «يَمْلِكُونَ» هو خبر الموصول و «مِنْ قِطْمِير» مفعول به؟ و «مِنْ» فيه مزيدة والقطمير المشهور فيه أنه لُفَافَهُ النَّواة. وهو مَثَلٌ في القِلَّةِ كقوله:
4157 - وَأبُوكَ يخْصِفُ نَعْلهُ مُتَوَرِّكاً ... مَا يَمْلِكُ المِسْكِينُ مِنْ قِطْمِير
وقيل: هو القُمْعُ وقيل: ما بين القُمْع والنَّواة وقد تقدم أن النَواةَ أربعة أشياء يضرب بها المثل في القِلَّة: الفتيل وهو ما في شقِّ النَّواة، والقطمير وهو اللفافة والنَّفيرُ والثفروقُ وهو ما بين القُمْعِ والنَّواةِ.
قوله: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ} يعني الأصنام «وَلَو سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ» وهذا إبضال لما كانوا يقولون: إن في عبادة الأصنام عزّة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقلا مجيباً لهم: إن هؤلاء لا يسمعون كما تظنون فإنهم كانوا يقولون: إن الأصنام تسمع وتعلم ولكن لا يمكنهم أن يقولون بأنها تجيب لأن ذلك إنكار للمحسوس فقال: {َلَوْ سَمِعُواْ} كما تظنون «مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» .
قوله: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يَتَبرءُون منكم ومن عبادتكم إيَّاها ويقولون «مَا كُنْتُم إيَّانا تَعْبُدُونَ» واعلم أنه لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع فيهم في الآخرة ووجود الضرر منهم في القيامة بقوله: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ(16/118)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
بِشِرْكِكُم} أي بإشراككم بالله غيره وهذا مصدر مضاف لفاعله ثم قال: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} يعني نَفْسَهُ أي لا ينبئك أحدٌ مثل خبير عالم بالأشياء وهذا الخطاب يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون خطاباً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ووجه أن الله تعالى لما أخبر أن الخَشَبَ والحَجَرَ يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك ما لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخْبَار الله تعالى عنه بقوله: «إنهم يكفرون بهم يوم القيامة» فهذا القول مع كون المُخْبَر عنه أمراً عجيباً قال إن المخبر عنهَ خبير.
والثاني: أن ذلك الخطاب غير مختص بأحد أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ولا يُنْبئُك أَيُّها السَّامِعُ كائناً من كنت مثْلَ خبير.
قوله
: {يا
أيها
الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله} (أي) إلى فضل الله. والفقير هو المحتاج «وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ» عن خلقه «الحَمِيدُ» أي المحمود في إحسانه إليهم. واعمل أنه لما كثر الدعاء من النبي - عليه السلام - والإصرار من الكفار قالوا إن اللَّهَ لعله محتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا بها أمراً بالغاً ويهددنا على تركها مبالغاً فقال الله. {أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني} فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم وإنما هو لإشفاقه عليكم.
فصل
التعريف في الخبر قليل والأكثر أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ معرفة لأن المخبر لا يخبر في الأكثر إلا بأمر يعلمه المخبر أو في ظن المتكلم أن السامع لا علم له به ثم إنَّ المبتدأ لا بدّ وأن يكون معلماً عند السامع حتى يقول له: أيها السامع الأمر الذي تعرفه ثَبَتَ له قيامٌ لا علم عندك به فإن الخبرَ معلوم عند السامع والمبتدأ كذلك ويقع الخبر(16/119)
تنبيهاً لا تفهيماً فإنه يحسن تعريف الخبر كقول القائل: «اللَّهُ رَبُّنَا ومُحَمَّدٌ نَبِيُّنَا» حيث عرف كون الله ربنا وكون محمد نبينا وههنا لما كان الناس فقراء أمراً ظاهراً لا يخفى على أحد قال: «أَنْتُم الفُقراء» وقوله: «إلى الله» إعلام بأنه لا افتقارَ إليه ولا اتِّكال إلا عليه. وهذا يوجب عبادته لكونه مُفْتَقَراً إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره ثم قال: {والله هُوَ الغني} أي هو مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء وأنتم مع احتياجكم لا تجيبونه.
قوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} وهذا بيان لِغناه وفيه بلاغة كاملة لأن قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه: إنْ شَاءَ فُلاَنٌ هَدَمَ دَارَهُ وإنما يقال: لَوْلاَ حَاجَةُ السُّكْنَى على الجار لِبعْتُها، ثم إنه تعالى زاد على بيان الاستغناء بقوله: {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} يعني إن كان يتوهم متوهم أنَّ هذا الملك كمال وعظمه فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن يخلق خلقاً جديداً أحسن من هذا (وأجْمَلَ) .
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي الإذهاب والإتيان. واعمل أن لفظة «العزيز» استعمله الله تارة في القائم بنفسه فقال في حق نفسه: {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: 25] وقال في هذه السورة: «عَزِيزٌ غَفُورٌ» واستعملة تارة في القائم بغيره فقال: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ} وقال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فنقول: العزيز في اللغة هو الغالب والفعل إذا كان لا يطيقه شخصٌ يقال: هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله: «وما ذلك على الله بعزيز» أي ذلك الفِعل لا يغلبه بل هو هَيِّنٌ على الله وقوله:
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] أي يحزنه ويؤذيه كالشُّغْل (الشَّاغِل) الغَالِبِ.(16/120)
قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ} أي نَفْسٌ وازة بحذف الموصوف للعمل به. ومعنى «تَزِرُ» تحمل، أي لا تحمل نَفْسٌ حاملةٌ حِمْلَ نَفْسٍ أخرى.
قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي نفس مثقلة بالذنبو نفساً إلى حملها فحذف المفعول به للعلم به. والعامة «لا يُحْمَلُ» مبنياَ للمفعول و «شَيْءٌ» قائم مقام الفاعل، وأبو السَّمَّال وطلحةُ - وتُرْوى عن الكسائي - بفتح التاء من فوق وكسر الميم أسند الفعل إلى ضمر النفس المحذوفة التي هي مفعولة «لِتَدْعُ» أي لا تَحْمِلُ تلك النفسُ الدَّعْوَة (و) شيئاً مفعول «بلاَ تَحْمِلْ» .
قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} أي ولو كان المَدْعو ذَا قُرْبَى، وقيل التقدير ولو كان الدَّاعِي ذَا قربى، والمعنيان حَسَنَان، وقرئ: «ذُو» بالرفع على أنها التامة أي ولو حَضَرَ ذُو قُربى نحوك قَدْ كان من مَطَرْ، {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] قال الزمخشري: ونظم الكلام أحسن ملاءمةً للنَّاقِصَةِ لأن المعنى على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان مَدْعُوهَا ذا قربى وهو ملتئم ولو قلت: ولو وُجِدَ ذو قربى لخرج عن التئامه، قال أبو حيان: وهو ملتئم على المعنى الذي ذكرناه قال شهاب الدين: والذي قال هو ولو حضر إذْ ذاكَ ذُو قربى ثم قال: وتفسيره «كان» وهو مبني للفاعل ب «وُجِدَ» وهو مبني للمفعول تفسير معنى والذي يفسر النَّحْويُّ به كان التامة نحو: حَدَثَ وحَضَرَ ووَقَعَ.
فصل
المعنى وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ بذنوبها غيرَها إلى حِمْلها أي يَحَمِلُ ما عليه من الذنوب لا(16/121)
يُحْمَل منْه شَيْءٌ ولو كان المَدْعو ذا قَرَابة له ابنَة أو أبَاه أو أمَّة أو أَخَاه. قال ابن عباس: يَلْقَى الأبُ أو الأمُّ ابنه فيقول يا بني احْمِلْ عني بَعْضَ ذُونُوبي فيقول لا أستطعي حَسْبِي ما عَلَيَّ.
قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} ولم يروه. قال الأخفش: تأويله إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب.
قوله: «بالغيب» حال من الفاعل أي يَخْشَوْنَه غائبين عنه. أو من المفعول أي غائباً عنهم وقوله: {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة} في المعنى.
قوله: {وَمَن تزكى} قرأ العامة «تَزَكَّى» تَفَعَّلَ «فَإنما يَتَزَكَّى» يتفعل. وعن أبي عمرو «ومَنْ يَزَّكَّى فَإنَّما يَزَّكَّى» والأصل فيهما يَتَزَكَّى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في الدال نحو «يَذَّكَّرُونَ» في «يتَذَكَّرُونَ» وابن مسعود وطلحة: «وَمَن ازَّكَّى» والأصل تَزَكَّى فأُدغِمَ (باجْتلابِ همزة الوصل «فَإنَّمَا يَزَّكَّى» أصله «يَتَزكَّى فأُدْغِمَ» كأبي عمرو في غير المشهور عنه.
فصل
معنى «ومَنْ تزكَّى» صلى وعمل خيراً «فإنَّما يَتَزكَّى لِنَفْسِهِ» لها ثوابه «وَإلَى اللَّهِ المَصِيرُ» أي التزكي إن لم تظهر فائدته عاجلاً فالمصيرُ إلى الله يظهر عنده يوم القيامة في دار البقاء. والوازرُ إنْ لم تظخر تبعةُ وِزْرِهِ في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصيرُ إلى الله. ثم لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر وهدى الله المؤمن ضرب له مثلاً بالبصير والأعمى فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعْمَى.
قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} استوى من الأفعال التي لا يكتفي فيها بواحد لو قلت: اسْتَوَى زيدٌ لم يصح فمن ثَمَّ لزم العطف على الفاعل أو تعدده و «لا»(16/122)
في قوله: {وَلاَ الظلمات} إلى آخره مكررة لتأكيد النفي وقلا ابن عطية: دخول «لا» إنما هو على نية التكرار كأنه قال: ولا الظلمات والنور والظلمات فاستغنى بذكر الأوائل عن الثَّوَانِي ودل مذكور الكلام على متروكه؟ قال أبو حيان: وهذا غير محتاج إليه لأنه إذا نفي استؤاءهما أولاً فأي فائدة في نفي استوئهما ثانياً؟ وهو كلام حسن إلا أن أبا حيان هنا قال: فدخول «لا» في النفي لتأكيد معناه كقوله: {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} [فصلت: 34] وللناس في هذه الآية قولان:
أحدهما: ما ذكر.
والثاني: أنها غير مؤكدة إذ يراد بالحسنة الجنس وكذلك السَّيِّئة فكل واحد منهما متفاوت في جنسه لأن الحسان درجات متفاوتة وكذلك السيئات وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى. فعلى هذا يمكن أن يقال بهذا هنا في الظاهر؛ إذ المراد مقابلة هذه الأجناس بعضها ببعض لا مقابلة بعض أفراد كل جنس على حدته ويرجح هذا الظاهر التصريح بهذا في قوله أولاً: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} حيث لم يكررها وهذا من المواضع الحسنة المفيدة. «والْحَرُورُ» شدة حر الشمس وقال الزمخشري: الحرور السَّمُوم إلا أنّ السًّمُومَ بالنهار والحرور فيه وفي الليل قال شهاب الدِّين: وهذا مذهب الفراء وغيره. وقيل السموم بالهار والحرور بالليل خاصة. نقله ابن عطية عن رؤبة. وقال: ليس بصحيح بل الصحيح ما قال الفراء. وهذا عجيب منه كيف يرد على أصحاب اللِّسان بقول من يأخذ عنهم؟ وقرأ الكسائي - في رواية زَاذَانَ - عنه «(16/123)
وَمَا تَسْتَوِي الأَحْيَاءُ» بالتأنيث على معنى الجماعة. وهذا الأشياء جيء بها على سَبيل الاستعارة والتمثيل فالأعمى والبصير الكافر والمؤمن والظلمات والنور الكفر والإيمان والظَّلُّ والحَرُورُ الحقُّ والباطل والأحياء والأموات لم دخل في الإسلام ولمن لم يدخل فيه. وجاء ترتيب هذه المَنْفِيَّات على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير وإن كان حديد النظر لا بدّ له من ضوء يبصر فيه وقدم الأعمى؛ لأن البصير فاصلة فحسن تأخيره ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم ما هو فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ولأن النور فاصل.
ثم ذكر ما لكلّ منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور، وأخّر الحرور لأجل الفاصلة كما تقدم. وقولنا: لأجل الفاصلة هنا وفي غيره من الأماكن أحسن من قيل بعضهم لأجل السجع لأن القرآن يُنَزّه عن ذلك. وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع، وإنما كرر الفعل في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء} مبالغة في ذلك لأن المنافَاةَ بين الحياة والموت أتم من المنافاة المتقدمة وقدم الأحياء لشرف الحياة ول يُعِد «لا» تأكيداً في قوله الأعمى والبصير وكررها في غيره لأن منافة ما بعده أتمّ فإن الشخص الواحد قد يكون بصيراً ثم أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف يخلاف الظِّلِّ والحَرُور والظلمات والنور فإنها متنافية أبداً لا تجتمع اثنان منهما في مَحَلِّ فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمةٌ.
فإن قيل: الحياةُ والموت بمنزلة العَمَى والبَصَر فإن الجسم قد يكون متصفاً بالحياة ثم يتصف بالموت!
فالجواب: أن المنافة بينهما أتم من لامافة بين الأعمى والبصير لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت فالمنافة بينهما أتمّ. وأفرد «الأعمى والبصير» لأنه قابل الجِنْسَ بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العُمْيَان ما يساوي بعض أفراد البُصَراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأَفْرَادِ.
وجمع الظلمات لأنها عبارة عن الكفر والضلال وَطُرُقُهُمَا كثيرة متشعبة. ووحد(16/124)
النور لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد فالتفاوت بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى الظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي هذا الواحد قال شهاب الدين: كذا قيل. وعندي (أنه) ينبغي أنْ يقال: إن هذا الجمع لا يساوي هذا الواحد فنعلم انتفاء مساواة (فردٍ منه) (لِ) هذا الواحد بطريق أولى وإنما جمع الأحْيَاءَ والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميِّتٍ يساوي في الإدراك حيًّا فذكر أن الأَحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس أم الفرد بالفرد.
فصل
قال ابن الخطيب: قدم الأشْرَف في مثلين وهو الظّل والحيّ وأخّره في مثلين وهو البصر والنور في مثل هذا يقول المفسرون: إنه لتواخر الآيات. وهذا ضعيف لأن تواخي الأواخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بلغة المعنى فيه ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة المعنى فيه صحيح واللفظ يصح فلا يقدم ويؤخر اللفظ بلا معنى فنقول: الكفار قبل النبي - عليه (الصلاة و) السلام - وبين الحق واهندى به منهم قوم فصاروا بَصِيرينَ وطريقتم كالنُّور فقالك «لاَ يَسْتَوِي» من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد - عليه (الصلاة و) السلام - والكافر قبل المؤمن قدم المقدم.
ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله - عليه (الصلاة و) السلام - في الإلهيات: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» ثم إن الكافر المصر بعد البعث صار أضلَّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء} أي(16/125)
المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تُلِيَتْ عليهم تُلِيَتْ عليهم الآياتُ البينات ولم نتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد الإيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين. وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الصالِّين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بها.
فصل
قال المفسرون: «وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِرُ» (يعني) الجاهل والعالم. وقيل الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى أي المؤمن والمشرك «وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ» يعني الكفر والإيمان «وَلاَ الظِّلُّ ولا الحَرُورُ» يعني الجنة والنار «ومَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ» يعني المؤمنين والكفار. وقيل: العملاء الجهال. «إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ» حتى يتعظ ويجيب «ومَا أَنْتَ إلاَّ نَذِيرٌ» ما أنت إلا منذر فخوِّفْهُم بالنار.(16/126)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
قوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً} لما قال: إن أنت إلا نذير بين أنه ليس نذيراً من تلقاء نفسه إنما هو نذير بإذن الله تعالى وإرساله.
قوله: {بالحق} يجوز فيه أوجه:
أحدهما: أنه حال من الفاعل أيْ أَرْسَلْنَاكَ مُحِقِّين. أو من المفعول أي مُحِقًّا أو نعت لمصدر محذوف أي إرسالاً ملتبساً بالحق. ومتعلقٌ بِبَشِيرٍ ونذير، قال الزمخشري: بشيراً بالوعد ونذيراً بالوعيد الحق.
قال أبو حيان: ولا يمكن أن يتعلق «بالحق» هذا ببشيراً ونذيراً معاً بل ينبغي أن(16/126)
يتأول كلامه على أنه أراد أَنَّ ثَمَّ محذوفاً والتقدير: بشيراً بالوَعْدِ الحَقِّ ونذيراً بالوَعِيدِ الحَقِّ، قال شهاب الدين: قد صرح الرجلُ بهذا.
قوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ} أي وما مِنْ أُمَّة فيما مضى. وقوله: {إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} ومعنى «خَلاَ» أي سلف فيها نذير نبي منذر. وحذف من هذا ما أثبته في الأول، إذ التقدير: إلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.
قوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر} أي الكتب «وبالْكِتَابِ المُنِير» أي الواضح. وكرر ذلك الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد. وقيل: البينات المعجزات، والزبر: هي الكتب الموافقة للحكمة الإليهة وهي المحتملة للنسخ. وهذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حيث يعلم أن غيره كان مثلَه مُحْتَمِلاً لأذى القوم وأن غيره أيضاً أتاهم بمثل ذلك فكذبوه وآذَوهُ وصبروا على تكذيبهم «ثُمَّ أَخذتُ الِّذِين كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِير» ؟ وهذا سؤال تقرير فإنهم علموا شدة إ، كار الله عليهم واستئصالهم.(16/127)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} قيل: الخطاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفيه حمكة وهي أن اله تعالى لما ذكر الدلائل ولم ينتفعوا قطع الكلام منهم والنعت إلى غيرهم كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره: اسمع ولا تكمن مثل هذا. ويكرر معه ما ذكره للأول ويكون فيه إشْعار بأنه الأول فيه نقيصه لا يصلح للخطاب فينبّه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة وأيضاً فلا يخرج إلى كلام أجنبيِّ عن الأول بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاماً آخر فيترك التفكر فيهما كان من النصيحة.
قوله: {فَأَخْرَجْنَا} هذا التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان كذلك لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء و «مُخْتلِفاً» نعت «لَثَمَرَاتٍ» و «ألوانها» فاعل به ولولا لأنَّث «مختلفاً» ولكنه لما أسند إلى جميع تكسير غير عاقل جاز تذكيره ولو أنت فقيل مختلفة كما يقول اختلفتْ ألوانُها لجاز. وبه قرأ زيدُ بن علي.
قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} العامة على ضم الجيم وفتح الدال جمع «جُدَّةٍ» وهي الطريقة قال ابن بحر: قِطَعٌ من قولك: جَدَدْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ وقال أبو الفضل الرازي: هي ما يخالق من الطرائق لون ما يليها ومنه جُدّة الحمار للخط الذي في ظهره وقرأ الزُّهْرِيُّ جُدُد بضم الجيم والدال جمع جَدِيدَةٍ يقال: جَدِيدَة وجُدُد وجَدَائِدُ، قال أبو ذؤيب:
4158 - ... ... ... ... ... ... ... ... ...(16/128)
جَوْنُ السَّرْاةِ لَهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ
نحو: سِفِينةٍ وسُفُنٍ وسَفَائِنَ. وقال أبو الفضل: جمع جديد بمعنى: آثار جديدة واضحة الألوان وعنه أيضاً جَدَدٌ بفتحهما، ورد أبو حاتم هذه القراءة من حيث الأثَرِ والمعنى وقد صححها غيره وقال: الجَدد الطريق الواضح البيِّن، إلا نه وضع المفرد موضع الجمع إذ المراد الطرائق والخطوط.
قوله: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} مختلف صفة «لجُدَد» أيضاً، «ألوانها» فاعل به كما تقدم في نظيره ولا جائز أن يكون «مُخْتَلِفٌ» خبراً مقدماً و «ألوانها» مبتدأ مؤخر والجملة صفة؛ إذ كان يجب أن يقال مختلفة لِتَحَمُّلِهَا ضمير المبتدأ وقوله: {أَلْوَانُهَا} يحتمل معنيين:
أحدهما: أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرُبَّ أبْيَضَ أشدَّ من أبْيَضَ وأحْمَرَ أشدَّ من أحْمَرَ فنفيس البياض مختلف وكذلك الحمرة فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المُشْكِل.
والثاني: أن الجُدَد كلها على لونين بياض وحرمة فالبياض والحرمة وإن كان لونين إلا أنهما جمعا باعتبار مَحَالِّهِمَا.
قوله: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه معطوف على «حُمْرٌ» عطفُ ذِي لَوْنٍ على ذِي لَوْنٍ.(16/129)
والثاني: أنه معطوف على «بيض» .
الثالث: أنه معطوف على «جدد» ، قال الزمخشري: معطوف على بيض (أَ) وعلى «جدد» كأنه قيل: ومن الجبال مُخَطّط ذُو ومنها ما هو على لون واحدٍ. ثم قال: ولا بد من تقدير حذف مضاف في قوله: «ومن الجبال جدد» بمعنى ومن الجبال ذُو جُدَد بيضٌ وحمرٌ وسودٌ حتى يؤول إلى قول: وَمِنَ الْجِبَالِ مختلف ألوانها «كما قال {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} ولم يذكر بعد غرابيب سود (مختلفاً ألوانها) كما ذكر ذلك بعد» بيض وحمر «لأن الغِرْبِيبَ هو البَالِغُ في السواد فصار لوناً واحداً غير متفاوت بخلاف ما تقدم.
وغرابيب: جمع غِرْبيب وهو الأسود المتناهي في السواد.
فهو تابع للأسود كقانٍ وناصع وناضر ويَقَقٍ، فمن ثم زعم بعضهم أنه في نية التأخير ومن مذهب هؤلاء أنه يجوز تقديم الصة على موصوفها وأَنْشَدُوا:
4159 - والْمُؤْمِنِ العَائِذَاتِ الطَّيْرِ يَمْسَحُهَا..... ... ... ... ... ... ... . .(16/130)
يريد: والمؤمن الطيْرَ العَائِذَاتِ، وقول الآخر:
4160 - وبالطَّوِيل العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا..... ... ... ... ... ... ... ... .
يريد: وبالعمر الطويل. والبصريون لا يرون ذلك ويخرجون هذا وأمثاله على أن الثَّاني بدلٌ من الأول» فسودٌ والطيرُ والعمرُ «أبدالٌ مما قبلها وخرَّجها الزَّمَخْشَريُّ وغيرهُ على أنه حذف الموصوف وقامت صفته مَقَامه وأن المذكور بعد الوصف دال على الموصوف قال الزمخشري: الغِرْبيبُ تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك أصفرُ فاقعٌ وأبيضُ يَقَق، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر كقوله:» والْمؤْمِن العَائِذَات الطَّير «وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار، يعني فيكون الأصلُ وسودٌ غرابيبُ سود والمؤمن الطير العائذات الطير. قال أبو حيان: وهذا لا يصح إلا على مذهب من يُجَوِّز حذفَ المؤكد ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك قال شهاب الدين: ليس هذا هو التوكيد المختلف في حذف مؤكده لأن هذا من باب الصّفة والموصوف ومعنى تسمية الزمخشري لها تأكيداً من حيث إنَّهَا لا تفيد معنى زائداً إنما تفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول تأكيداً فقالوا وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو: {نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] و {إلهين اثنين} [النحل: 5] والتوكيد المختلف في حذف مؤكده إنما هو في باب التوكيد الصَّنَاعِيّ.
ومذهب سيبويه جوازه، أجاز:» مَرَرْتُ بأَخْوَيْك أَنْفُسُهَما «بالنصب والرفع على تقدير أَعْيُنِهِما أنْفُسِهما أو هُمَا أَنْفُسُهُمَا فأين هذا من ذاك إلا أنه يشكل على الزمخشري هذا المذكور بعد» غرابيب «ونحوه بالنسبة إلى أنه جملة مفسراً لذلك المحذوف وهذا إنما(16/131)
عهد في الجمل لا في المفردات إلا في باب البدل وعطف البيان فبأي شيء يسميه؟ والأولى فيه أن يسمى توكيداً لفظياً إذ الأصل سود غرابيب سود.
قوله: «مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ» «مُخْتَلِف» نعت لمنعوت محذوف هو مبتدأ والجار قبله خبره أي ومِنَ النَّاس صِنْفٌ أو نَوْغٌ مختلف ولذلك عمل اسم الفاعل كقوله:
4161 - كَناطحٍ صَخْرَةً لِيَفْلِقَهَا..... ... ... ... ... ... ... ... .
وقرأ ابن السَّمَيْقَع ألوانها وهو ظاهر وقرأ الزهري «وَالدَّوَابِ» خفيفة الباء هرباً من التقاء ساكنين كما حرك أولهما في الضّالين وجانَّ.
فصل
قال ابن الخطيب في الآية لطائف الأولى: قوله: «أَنْزَلَ» وقال: «أَخْرَجْنَا» وفائدته أن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} فإن كان جاهلاً يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله فلما كان ذلك أظهره أسنده إلى المتكلم. وأيضاً فإن الله تعالى لما قال إن الله أنزل علم الله بالدليل وقرب التفكير فيه إلى الله فصار من الحاضرين فقال: أخْرَجْنَا، لقربه وأيضاً فالإخراج أتم نعمة من الإنزال، لأن الإنزال لفائدة الإخارج فأسْنَدَ (تعالى) الأتمَّ إلى نفسه بصيغة المتلكم وما دونه بصيغة المخاطب الغائب. الثانية: قال تعالى: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} كأَنَّ قائلاً قال: اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع ألا ترى أن بعض(16/132)
النباتات لا تَنْبُتُ ببعض البلاد كالزَّغْفَرَانِ فقال تعالى: اختلاف البِقاع ليس إلا بإرادة الله (تعالى) وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمرٌ ومواضع بيضٌ.
فإن قيل: الواو في «وَمِنَ الْجِبَالِ» ما تقديرها؟ هي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون للاستئناف كأنه تعالى قال: «أخْرَجْنَا بالماء ثمراتٍ مختلفة الألوان وفي الجبال جدد بيض دالة على القدرة الرادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار.
ثانيهما: أن تكون للعطف والتقدير وخُلِقَ مِن الجبال جددٌ» بِيضٌ «.
قال الزمخشري: أراد ذُو جُدَدٍ.
الثالثة: ذكر الجبال ولم يذكر الآية في (الأرض) كما قال في موضع آخر: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] مع أن هذا الدليل مثل ذلك وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} كان نفس إخراج الثِّمار دليلاً على القدر ثمر زاد عليه بيناناً وقال:» مختلفاً «كذلك في الجبال في نفسها دليل القدرة والإرادة لكن كون الجبل في بعض نواحي الأرض دون بعضها وكون بعضها أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار. ثم زاد بياناً وقال:» جُدَدٌ بِيضٌ «أي دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف ألوانها دليل.
الرابع: قوله:» مُخْتَلِفاً ألوانها «الظاهر أن الاختلاف راجعٌ إلى كل لون أي بيض مختلف أولانها وحمر مخلتف ألوانها لأن الأبيض قد يكون على لون الجِصّ وقد يكون على لون التُّراب الأبيض وبالجلمة فالأبيض تتفاوت درجاته في البياض وكذلك الأحمر تتفاوت درجاته في الحمرة ولو كان المراد البيض والحُمْر مختلف الألوان لكان لمجرد التأكيد والأول أولى.
وعلى هذا ذكر «مختلفٌ ألوانها» في البيض والحمر وأخر «السود الغرابيب» لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغِرْبيب يكون بالغاً غايةَ السواد فلا يكون فيه اختلافٌ.
قوله: {وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام} استدلال آخر على قدرة الله إرادته فكان تعالى قسم الدلائل دلائل الخلق في هذا العالم وهو عالم المركبات قسمين حيوان وغير(16/133)
حيوان وهو إما نبات وإما معدِن والنبات أشر فأشار إليه بقوله: {فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ} ثم ذكر المعدن بقوله: {وَمِنَ الجبال} ثم ذكرالحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال: «ومن الناس» ثم ذكر الدواب، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها أو لأن الدابة في العرف تُطْلَقُ على الفَرَس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره. وقوله: «مختلف ألوانه» القول فيه كما تقدم أنها في أنفسها دلائل كذلك باختلافها دلائل. وقوله: «مختلف ألوانه» مذكراً؛ لكون الإنسان من جملة المذكرو فكان التذكير أولى.
قوله: {كَذَلِكَ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه بما قبله أي مُخْتَلِفٌ اخْتِلاَفاً مِثْلَ الاختلاف في الثَّمرات والجُدَد والوقف على «كَذَلِكَ» .
والثاني: أنه متعلق بما بعده والمعنى مثل ذلك المطر والاعتبار بمَخْلُوقات الله واختلاف ألوانها يخشى اللَّهَ العلماءُ. وإلى هذا نحا ابنُ عَطِيَّةَ. وهو فاسد من حيث إن ما بعد «إنَّمَا» مانع من العمل فيها قبلها وقد نَصَّ أبو عمرو الدَّانِيُّ على أن الوقف على «كذلك» تام. ولم يحك فيه خِلاَفاً.
قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله} العامة على نصب الجلالهِ ورفع «العلماء» وهي واضحة. وقرأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ وأَبُو حَنِيفَةَ - فيما نقله الزمخشريّ - وأبو حيوة - فيما نقله الهذلي في كامله - بالعكس. وتُؤُوِّلَتْ على معنى التعظيم أي إنما يعظم اللَّهُ من(16/134)
عباده العلماء وهذا القراءة شبيهة بقراءة: «وإذا ابْتَلَى إبْرَاهِيمُ رَبَّهُ» برفع إبْرَاهِيمَ ونصب «رَبَّهُ» .
فصل
قال ابن عباس: إنما يخافُني مِنْ خَلْقي من عَلِمَ جَبَرُوتِي وعِزَّتِي وسُلْطَاني. واعلم أنَّ الخشيبة بقدرمعرفة المخشي والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أنَّ العالمَ أعلى درجةً من العابد؛ لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] بين أن الكرامة بقدر التقوى والتقوى بقدر العلم لا بقدر العلم قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «وَاللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً» وقال مسروق: كفى بخشية عِلماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً. ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} أي عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده فذكر ما يوجب الخوف والرجاء فكونه عزيزاً يوجب الخوف ورفع الجلالة تقدَّم معناه.
قوله: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ} في خبر «إن» وجهان:
أحدهما: الجملة من قوله: {يَرْجُون} أي (إنَّ) التالِينَ يَرْجُونَ و «لَنْ تَبُورَ» صفة «تِجَارةً» و «لِيُوفِّيَهُمْ» متعلق «بِيَرْجُونَ» أوْ «بتَبُور» أو بمحذوف أي فَعَلُوا ذلك لِيَوفِّيَهم، وعلى الوجهين الأولين يجوز أن تكون لام العاقبة.(16/135)
والثاني: أن الخبر «إنَّه غَفُورٌ شَكُورٌ» (و) جوزه الزمخشري على حذف العائد أي غفور لهم وعلى هذا «فَيرجُونَ» حال من «أنْفَقُوا» أي أنْفَقَوا ذلك راجينَ.
فصل
المراد بالذين يتلون كتابا لله أي قراء القرآن لما بين العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه فقوله: {يَتْلُونَ كِتَابَ الله} إشارة إلى الذكر وقوله: {وَأَقَامُواْ الصلاة} إشارة إلى العل البدنيّ وقوله: {وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} إشارة إلى العمل الماليّ. وفي الآية حكمة بالغة وهي قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ} إشارة إلى عمل القلب. وقوله: {الذين يَتْلُونَ} إشارة إلى عَمَل اللِّسِّانِ وقوله: {وَأَقَامُواْ الصلاة} إشارة إلى علم الجوارح. ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقةٌ بجانب تعظيم الله وقوله: {وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} يعني الشفقة على خلقه. وقوله: {سِرّاً وَعَلاَنِيَة} حَثٌّ على الإنفاق كَيْفَما تهيأ فإن تهيأ سراً فذاك وإلاَّ فَعَلاَنِيَة ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء ويمكن أن يكون المرار بالسِّرِّ الصدقة المطلقة وبالعلانية الزكاة فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض وهو مستحب. «يرْجُونَ تِجَارةً» هي ما وعد الله من الثواب لَنْ تَبُورَ «لن تفسدّ ولن تَهْلِكَ» لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورهم «جزاء أعمالهم بالثواب» وَيزِيَدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «قال ابن عباس: يني سوى الثواب ما لم تَرَ عَيْنٌ ولم تسمعْ أذن. ويحتمل أن يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة» إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ «قال ابن عباس: يغفر الذنب العظيم من ذنوبهم ويشكر اليَسَير من أعمالهم وقيل: غفور عند الإبطاء شكور عند إعطاء الزيادة.
قوله: {والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} يعني القرآن وقيل: اللَّوح المحفوظ لما بين الأصل (الأول) وهو وجود الله الواحد بالدلائل في قوله: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح} [الروم: 48] وقوله: {واللَّهُ (الذي) خَلَقَكُمْ} وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً}(16/136)
ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة فقال: {والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق} .
قوله: {مِنَ الكِتَابِ} يجوز أن تكون للبيان كما يقال:» أَرْسَلَ إلَيَّ فُلاَنٌ مِنَ الثِّيَاب جُملَةً «وأن تكون للجنس وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال:» جَاءَانِي كِتَابٌ مَنَ الأمير «وعلى هذا فاكتاب يمكن أن يراد به اللوح يعني الذي أوحينا إليك من اللوح المحفوظ إليك حق، ويمكن أن يراد به القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليه من القرآن ويمكن أن تكون للتبعيض و» هُو «فصل أو مبتدأ و» مُصَدِّقاً «حال.
فصل
«هُوَ الحَقُّ» آكد من قول القائل: «الَّذِي أوْحَيْنَاحَقٌّ إلَيْكَ» من وجهين:
أحدهما: أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكون نكرةً.
الثاني: أن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا: «زيد قاَمَ» فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً بزيد ولا يعرف قيامه فيخبره به فإذا كان الخبر معلوماً فيكون الإخبار للتنبيه فيعرِّفان باللاَّمِ كقولنا: «إنَّ زيداً الْعَالِمُ في هذه المدينة» إذا كان علمه مشهوراً وقوله {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} من الكتب وهذا تقرير لكونه وحياً لأن النبي - عليه (الصلاة و) السلام - لم يكون قارئاً كاتباً وأتَى ببيان ما في كتاب الله ولا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى. أو يقال: إن هذا الوحي مصدِّقٌ لما تقدم لأن الوحي لو لم يكن موجوداً لكذب موسى وعيسَى - عليهما (الصلاة و) السلام - علم جوازه وصدق ما تقدم في إنزال التوراة. وفي هذه لطيفة وهي أنه تعالى جعل القرآن مصدِّقاً لما مضى، لأن ما مضى أيضاً مصدق له لأن الوحي إذا نزل على واحد جاز أن ينزل على غيره وهو محمد - عليه (الصلاة و) السلام - ولم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن لأن القرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بدّ فيه من معجزة تُصَدَّقه ثم قال: «إنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» خبير بالبواطن بصير بالظواهر فلا يكون الوحي من الله باطلاً لا في الباطن ولا في الظاهر ويمكن أن يكون جواباً لقولهم إنّ القرآن لو ينزل على رجل من القريتين عظيم فقال: {إنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ خِبِيرٌ} يعمل بواطنهم وبصير يرى ظواهِرَهم(16/137)
فاختار مُحَمَّداً ولم يختر غيره كقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] .
قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا} «الكتاب الذين اصطفينا» مفولا أوْرَثْنَا و «الكتابَ» هو الثاني قدم لشرفه إذ لا لبس وأكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن. وقيل: المراد جنس الكتاب ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا وتجويز أن يكون ثم بمعنى الواو وأورثنا كقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} [البلد: 17] ومعنى أورثنا أعطينا لأن المثراث عطاء. قال مجاهد. وقيل: أورثنا: أخرنا ومنه الميراث لأنه أخر عن الميِّت ومعناه: أخرنا القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له.
قوله: {مِنْ عِبَادِنَا} يجوز أن يكون للبيان على معنى إنَّ المُصْطَفينَ هم عبادنا وأن يكون للتبعيض أي إنَّ المصطفين بعضُ عبادنا لا كلهم.
وقرأ أبو عِمْرَان الجَوْنِي ويعقوبُ وأبو عمرو - في رواية - سَبَّاق مثال مبالغة.
فصل
قال ابن عباس: يريد بالعباد أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم قسَّمهم ورتَّبهم فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} وروى أسامةُ بن زيد في هذه الآية قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلهم من هذه الأمة وروى أبو عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عنبادنا» الآية فقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَابِقُنَا سَابِقٌ وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ وَظَالمنا مَغْفُورٌ لَهُ.
وروى أبو الدَّرْداء قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ هذه الآية «ثُمَّ أُوْرَثنا الْكِتَاب ... .» الآية وقال «أما السابق بالخيرات فيدخُلُ الجنةَ بغير حساب وأما المقتصد فيُحاسَبُ حساباً يسيراً وأما الظالم لنفسه فيجلسُ في المَقام حتى يدخله اللهم ثم يَدْخل الجنة ثم قرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أذْهِبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ لَغَفُورٌ شكُورٌ.(16/138)
وقال عقبة بن صهبان: سألت عائشة عن قول الله - عزّ وجلّ -: أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية. فقالت: يا بُنّيِّ كلُّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شهد له رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالخير وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحِقَ به وأما الظالم فمثلِي ومثلُكم. فجعلت نفسها معنا وقال مجاهد والحسن وقتادة: فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المَشْأمة، ومنهم مقتصد أصحاب المَيْمنَة ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم. وعن ابن عباس قال: السابقُ المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة. وقيل: الظالم هو الرَّاجِحُ السيئات والمقتصد هم الذي تساوت سَيِّئَاتُهُ وحسناتُهُ والسبق هو الذي رَجَحَتْ حسناته. وقيل: الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه والسابق من باطه خير من ظاهره. وقيل الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه، والمقتصد هو الموحِّد الذي يمنع جوراحه من المخالفة بالتكليف والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد. وقيل: الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد المتعلم والسابق العالم وقال جعفر الصادق: بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وأن الظالم لا يؤثر في الاصطفاء، ثم ثنى بالمُقْتَصدِ لأنه بين الخوف ولارجاء ثم ختم بالسابق لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة. وقالأبو بكر الوراق: ربتهم على مقامات الناس لأن أحْوالَ العبدِ ثلاثةٌ معصيةٌ وغلفةٌ ثم توبةٌ ثم قرب فإذا عصى دخل في حَيِّز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت له التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عِدَاد السابقين.
قويل غير ذلك وأما من قال: المراد بالكتاب جنس الكتاب كقوله: {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} [فاطر: 25] فالمعنى أنا أعطيناك الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء لأن لفظ المصفطى إنما يطلق في الأكثر على الأنبياء لا على غيرهم ولأن قوله: {مِنْ عِبَادِنَا} يدل على أن العباد أكابر مكرَّمون لأنه أضافهم إليه ثم المصطفين (منهم) أشرف(16/139)
ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالماً مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمى الشرك ظلماً.
فإن قيل: كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى ظالم مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع؟
فالجواب: أن المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حين يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ» الحديث. وقال آدمُ - عليه (الصلاة و) السلام - مع كونه مصطفى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] وأما الكافر فيضع قبله الذي به اعتماد الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق وأما قلب المؤمن فمطْمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكير في آلاَءِ الله ووجه آخر وهو أن قوله: «منهم» غيرُ راجع إلى الأنبياء المصطفين بل المعنى: إنّ الذي أويحنا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا وآتيناهم كتباً «ومنهم» أي ومن قومكم «ظالم» كَفَر بك وبما أنزل إليك ومقتصد أمر به ولم يأت بجميع ما أمر به المراد منه المنافق وعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} وحمل هذا القائل الاصطفاء على أن الاصْطِفَاء في الخِلقة وإرسال الرسول إليهم وأنزل الكتاب. والذي عليه عامة أهل العلم أن المراد من جميعهم المُؤْمِنُونَ.
فصل
معنى سابق بالخيرات أي الجنة وإلى رحمة الله بالخيرات أي بالأعمال الصالحة بإذن الله أي بأمر الله وإرادته «ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبيرُ» يعني إيراثهم الكتابَ، ثم أخبر بثوابهم فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} يعين الأصناف الثلاثة.
قوله: «جنات عدن» يجوز أن يكون مبتدأ والجملة بعدها الخبر، وأن يكون بدلاً من «الفَضْلُ» قال الزمخشري وابن عيطة إلاَّ أنَّ الزمخشري اعرتض(16/140)
وأجاب فقال: فإن قلت: فكيف جعلت «جنات عدن» بدلاً من «الفضل» الذي هو السبق بالخيرات (المشار إليه بذلك؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب) فأبدل عنه «جنات عدن» وقرأ زِرّ والزّهري جَنَّةٌ مفرداً والجَحْدَريُّ جناتِ بالنصب على الاشتغال وهي تؤيد رفعها بالابتداء وجوز أبو البقاء أن كون «جنات» بالرفع خبراً ثانياً لاسم الإشارة وأن يكون خبر مبتدأ محذفو وتقدمت قراءة يَدْخُلُونَهَا للفاعل أو المعفول وباقي الآية في الحَجِّ.
فصل
قيل: المراد بالداخلين الأقسام الثلاثة. وهذا على قولنا بأنهم أقسام المؤمنين. وقيل: الذين يتلون كتاب الله وقيل: هم السابقون وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله: {يُحَلَّوْنَ} والمكرم هو السابق.
فإن قيل: تقديم الفالع على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقياً كقولنا: اللَّهُ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وقول القائل: زَيْدٌ بَنَى الجِدَارَ، فإن الله موجود قبل كل شيء ثم له فعل هو الخلق ثم حصل به المفعول وهو السّموات وكذا زيد ثم البناء ثم الجدار من البناء وإذا لم يكن المفعول حقيقاً كقولنا: دخل الداخلُ الدار، وضرب عمراً فإن «الدار» في الحقيقة ليس مفعولاً للداخل وإنما فعله متحقق بالنسبة إلى الدار وكذلك عمرو فعل (من أفعال) زيد تعلق به فسمي مفعولاً ولكن الأصل تقديم الفعل على المفعول ولهذا يعاد الفعلُ المقدّم بالضمير تقول: عَمْراً ضَرَبَهُ(16/141)
زَيْدٌ فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة فما الفائدة في تقديم «الجنات» على الفعل الذي هو الدخول وإعادة ذكرها بالهاء في «يدخلونها» وما الفرق بني هذا و «بَيْنَ» قوله القائل: يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ؟
فالجواب: أن السامعَ إذا علم له مدخلاً من المداخل وله دخول ولم يعلم غير المدخل فإذا قيل له: أنت تَدْخُلُ مال إلى أن يسمع الدار والسوق فيبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون. فإذا قيل: «الدّارَ تَدْخُلُهَا» فيذكر الدار يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق بأنه له دخولاً يعلم الدخول فلا يبقى متعلق القلب ولا سيما الجنة والنار فإن بين المُدْخَلِين بوناً بعيداً.
قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجاً لكان فيه تأخير المدخول فقال: {يَدْحُلُونَها} وفيها يقع تَحْلِيَتُهُمْ، وقوله: «مِنْ أَسَاورَ» بجمع الجمع فإنه جمع «أسْوِرَة» وهي جمع «سِوَار» «مِنْ ذَهَبٍ ولُؤلؤاً» وقوله: {وَلِبَاسُهُمْ} أي ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس يدل على حاجة مَنْ دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل (إلا) على الغِنَى، وذكر الأساور من بين سائر الحُلِيِّ في مواضع كثيرةٍ كقوله تعالى: {وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] وذلك لأن التحلي بمعنيّيْن:
أحدهما: إظهار كون المتحلّي غير مبتذل في الأشْغال لأن التحَلِّي لا يكون (حَالُهُ) حَالَةَ الطبخِ والغُسْلِ.
وثانيهما: إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء لأن التحلي إما بالآلِئَ والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلِّي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المُتَحَلِّي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة حيث لم يعجز عن الوصول إلى الأشياء العزيزة الوجود لا لحاجة والتحلِّي بالذهب والفضة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع حاجَتِهِ وإذا عرف هذا فنقول: الأساوِرُ محلّها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور عُلِمَ الفراغُ من الأعمال.(16/142)
قوله تعالى: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} قرأ العامة «الْحَزَنَ» يفتحتين وجَنَاحُ بني حُبَيْشٍ بضم الحاء وسكون الزاي. وتقدم من ذلك أول القصص والمعنى يقولون إذا دخلوا لجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن والحَزَنُ والحُزْنُ واحد كالبَخَلِ والبُخْلِ، قال ابن عباس: حزن النار. وقال قتادة: حزن الموت وقال مقاتل: لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنعن بهم. وقال عكرمة: حزن السيئات والذنوب وخوف ردِّ الطاعات وقال القاسم: حزن زوال النعم وخوف العاقبة. وقيل: حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي: ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: الخبر في الدنيا. وقيل: هم المعيشة، وقال الزجاج: أَذْهَبَ الله عن أهل الجنة كُلَّ الأحزان ما كان منها لمعاشٍ أوم معادٍ. وقال - عليه (الصلاة و) السلام) لَيْسَ عَلَى أهْلِ لاَ إليه إلاّ اللَّه وَحْشَةٌ في قُبُورِهمْ وَلاَ مَنْشَرِهِمْ وَكَأَنِّي بأَهِلِ لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ يَنْفُضُونَ التُّرابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَيَقولُون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أَذْهَبَ عنّا الْحَزَنَ ثُمَّ قَالُوا: إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. ذكرالله عنهم أموراً كلها تفيد الكرامة: الأول (أن) الحمد لله فإن الحامد مثاب. الثاني: قولهم: رَبَّنَا فإن اللَّهَ (تعالى) إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادى اللهم إلا أن يكون لامادي يطلب ما لا يجوزُ. الثالث: قوله: غفور شكور. والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بحَمْدهم في الدنيا، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في الآخرة.
قوله: {الذي أَحَلَّنَا} أي أنزلنا «دارَ المُقَامَةِ» مفعول ثانٍ «لأَحَلَّنَا» ولا يكون ظرفاً لأنه مختص فلو كان ظرفاً لتعدي إليه الفعل بفِي والمُقَامَةُ الإقامة. والمفعول قد يجيء بالمصدر يقال: ما له مَعْقُول أي عَقْل. قال تعالى: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] وكذلك المستخرج للإخراج لأن المصدر هو(16/143)
المفعول في الحقيقة فإنه هو الذي فعل (فجاز إقامة المفعول مُقَامَهُ) .
فصل
في قوله: {دَارَ المقامة} إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومن القبور إلى منزلة العَرَصَات التي فيها الجَمْع ومنها التفريق وقد يكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار البقاء وكذا النار لأهلها.
قوله: {مِن فَضْلِهِ} متعلق «بأَحَلَّنَا» و «من» إما لِلْعِلَّة وإما لابتداء الغاية ومعنى فضله أي يحكم وعدد لا بإيجاب من عنده.
قوله: {لاَ يَمَسُّنَا} حال من مفعول «أَحَلَّنَا» الأول والثاني، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما وإن كان الحال من الأول أظهر والنَّصْبُ التَّعَبُ والمشقَّة، واللُّغُوبُ الفُتُورُ النَّاشِيءُ عنه وعلى هذا فيقال إذا انتفى السَّبَبُ فإذا قيل: لم آكل فيعلم انتفاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانياً فلم أشبع بخلاف العكس ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل و (في) الآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب فما فائدته؟ وقد أجاب ابن الخطيب: بأنه بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن أماكنها على قسمين موضع يمس فيه المشاق كالبَرَاري وموضع يمس فيه الإعباء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار فقيل: لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ لأنها ليست مظانَّ المتاعب كدار الدنيا ولا يَمَسُّنَا فيها لغوب أي لا يخرج منها إلى مواضع يتعب ويرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وهذا الجواب ليس بذالك والذي يقال: إن النصب هو تعب البدن واللغوب تعب النفس. وقيل:(16/144)
اللغوب الوجع وعلى هذين فالسؤال زائل وقرأ عليُّ والسُّلَمِيُّ بفتح لام لغوب وفيه أوجه:
أحدهما: أنه مصدر على فَعُول كالقَبُول.
والثاني: أنه اسم لما يغلب به كالفَطُورِ والسَّحُور. قاله الفراء.
الثالث: أنه صفة لمصدر مقدر أي لا يَمَسُّنَا لُغُزبٌ لَغُوبٌ نحو: شعرٌ شاعرٌ وموتٌ مائتٌ وقيل: صفة لشيء غير مقدار أي أمرٌ لَغُوب.
قوله: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} عطف على قوله: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله} [فاطر: 29] وما بينهما كلام يتعلق {بالَّذين يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} على ما تقدم.
قوله: {فَيَمُوتُوا} العامة على نصبه لحذف النوف جواباً للنفي وهو على أحد مَعْنَيين نَصْبِ: «مَا تَأتِينا فَتُحَدِّثَنَا» أي ما يكون منك إتيان ولا حديثٌ. انتفى السبب وهو الإتيان فانتفى مسببه وهو الحديث. والمعنى الثاني: إثابت الإتيان ونفي الحديث أي ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدث. وهو لا يجوز في الآية البتّة وقرأ عيسى والحسن «فَيَموتُونَ» بإثبات النون قال ابن عطية: وهي ضعيفة قال شهاب الدين وقد(16/145)
وَجَّهَهَا المَازِنيُّ على العطف على «لاَ يُقْضَى» أي لا يُقْضَى عليهم فلا يموتون. وهو أحد الوجهين في معنى الرفع في قولك: مَا تَأتِيناً فَتُحَدِّثُنَا أو انتفاء الأمرين معاً كقوله: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المراسلات: 36] أي فَلاَ يَعْتَذِرُونَ. و «عَلَيْهِمْ» قائمٌ مَقَامَ الفالع وكذلك «عَنْهُمْ» بعدَ «يُخَفِّفُ» ويجوز أن يكون القائم «مِنْ عَذَابِهَا» و «عَنْهُمْ» منصوب المحل، ويجوز أن يكون «مِنْ» مزيدةً عند الأخفش فيتعين قيامه مقام الفاعل لأنه هو المفعول به وقرأ أبو عمرو - في روايةٍ - ولا يُخَفِّفْ بسكون الفاء شبه المنفصل بعَضْدٍ كقوله:
4162 - فَالْيوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
فصل
{لاَ
يقضى
عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُواْ} أي لا يَهْلِكُون فيستريحوا كقوله: {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} [القصص: 15] أي قَتَله. لاَ يَقْضِي عليهم الموت فيموتوا كقوله: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] أي الموت فنستريح بل العذاب دائم «ولا يخفف عنهم من عذابها أي من عذاب النار. وفي الآية لطائف:
الأولى: أن العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يَقْتُلْ يَعْتَادُهُ البدن ويصير مِزَاجاً(16/146)
فاسداً لا يحسّ به المعذب فقال عذاب نار الآرخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفني وإما أن يألَفَهُ البَدّنُ بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم.
الثانية: دقيق العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنوه ولا يُجَابُون كما قال تعالى: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] أي بالموت.
الثالث: ذكر في المعذبين الأشقياء بأنه لا ينقصُ عذابهم ولم يقل: يزيدهم، وفي المثابين قال: {يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} .
قوله: {كَذلِكَ} إما مرفوع المحل أي الأمر كذلك، وإما منصوبة أي مِثْلُ ذلِكَ الجَزَاءِ يُجْزَى وقرأ أبو عمرو» يُجْزَى «مبنياً للمعفول كُلُّ رفع به والباقون نَجْزِي بنون العظمة مبنياً للفاعل كُلَّ مفعول به. والكَفُور الكافر.
قوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ} يستغيثون ويصيحون» فِيهَا «وهو يَفْتَعِلُون من الصَّراخ وهو الصِّياح. وأبدلت الفاء صاداً لوقوعها قبل الطاء،» يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْهَا «من النار فقوله:» ربنا «على إضمار القول وذلك القول إن شئت قدرته فعلاً مفسراً ليَصْطَرِخُونَ أي يقولون في صراخهم كما تقدم وإن شئت قدرته حالاً من فالع» يصطرخون «أي قَائِلينَ ربَّنا.
قوله: {صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَل} يجوز أن يكونا نَعْتَيْ مصدر محذوف أي عملاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكونا نعتي مفعول به محذوف أي نعمل شيئاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكون» صالحاً «نعتاً لمصدر و» غيرا لذي كنا نعمل «هو المفعول به. وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: فهلا اكتفي بصالِحاً كما اكتفي به في قوله: فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً؟ وما فائدة زيادة غير الذي كنا نعمل؟ على أنه يوهم أنهم يعملون صلاحاً آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلتُ: فائدته زيادة التحسرّ على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] فقالوا: أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِجاً غَيْرَ الِّذي كُنَا نَحْسَبُهُ صَالِحاً(16/147)
قوله:» أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ « (أي فيقول لهم توبيخاً: أو لم نعمركم أي عَمَّرْنَاكُمْ مِقْداراً يمكن التذكرُ فيه.
قوله: {مَّا يَتَذَكَّرُ} جوزوا في» ما «هذه وجهين:
أحدهما: ولم يحك أبو حيان غيره -: أنها مصدرية طرفية قال: أي مُدَّةَ تَذَكُّر، وهذه غلط لأن الضمير (في) يمنع ذلك لعوده على» ما «ولم يَقُلْ باسمية ما المصدرية إلا الأخْفَشُ وابنُ السِّرِّاجِ.
والثاني: أنها نكرة موصوفة أي تَعَمُّراً يُتّذَكَّرُ فيه أو زماناً يُتَذَكَّرُ فيه. وقرأ الأعمش ما يذَّكَّرُ بالإدغام من «اذَّكَّر» قال أبو حيان: بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدَّرج وهذا غريب حيث أثبت همزة الوصل مع الاستغناء عنها إلاَّ أَنْ يكون حافَظَ على سكون «من» وبيَان ما بعدها.
فصل
معنى قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} قيل: هو البلوغ. وقال قتادة وعطاء والكلبي: ثماني عشرة سنة وقال الحسن: أربعون سنة. وقال ابن عباس: ستون سنة. رُويَ ذلك عن عَلِيِّ وهو العمر الذي أَعْذَرَ الله إلى ابن آدم. قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «أعْذَرَ اللَّهُ إلَى آدَم امْرىءٍ أخَّر أَجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً» وقال عليه (الصَّلاَةُ و) السلام -: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوز ذَلِكَ» .
قوله: {وَجَآءَكُمُ} عطف على «أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ» ؛ لأنه في معنى قَدْ عَمَّرناكُمْ(16/148)
كقوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ} [الشعراء: 18] ثم قال: وَلَبِثْتَ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} [الشرح: 1] ثم قال: {وَوَضَعْنَا} [الشرح: 2] إذْ هما في معنى رَبَّيْنَاك وشَرَحْنا، والمراد بالنَّذير محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قول أكثر المفسرين. قويل: القرآن. وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع: هو الشيب والمعنى أو لم نعركم حتى شِبْتُم. ويقال: الشَّيْبُ نذير الموت. وفي الأثر: مَا مِنْ شَعْرَةٍ تَبْيَضُّ إلاَّ قَالَتْ لأُخْتِهَا: اسْتَعِدِّ] فَقَدْ قَرُبَ الْمَوتُ وقرئ: النّذُر جمعاً.
قوله: {فَذُوقُواْ} أمر إهانة «فَمَا» لِلظّالِمينَ «الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها.» مِنْ نَصيرٍ «في وقت الحاجة ينصرهم، و» من نصير «يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالجار قبله.
قوله: {إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات والأرض} قرأ العامة عَالِمُ غَيْبِ على الإضافة تخفيفاً وجَنَاحُ بْنُ جبيش بتنوين عالم ونصبب (غيب) إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور. وهذا تقرير لدوامهم في العذاب وذلك من حيث إن الله تعالى لما أعلم أنّ جزاءَ السِّيئة سيئة مثلها ولا يزاد عليها فلو قال (قائل) : الكافر ما كفر بالله إلا أياماً معدودة فينبغي أن لا يعذَّب إلا مثل تلك الأيام فقال: غن اله لا يخفى عليه غيب السموات والأرض فلا يخفى عليه ما في الصدور وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تَمَكُّنَ الكُفْرِ لو دام إلى الإبد لما أطاع الله.(16/149)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
قوله: {هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض} أي خلف بعضكم بضعاً وقيل: جعلكم أمة واحدة خلت من قبلها ما ينبغي أن يعتبر به فجعلكم خلائف في الأرض أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين وترضون بحالهم، فمن كفر بعد هذا كله «فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» أي وبالُ كُفْرِهِ «وَلاَ يَزِيدُ الكَافِرينَ كُفْرِهُمْ عِنْدَ رَبِّهْم إلاَّ مَقْتاً» أي عضباً لأن الكافر (و) السابق كان ممقُوتاً «وَلاَ يَزِيدُ الكَافِرينَ كُفْرُهُمْ إلاَّ خَسَاراً» أي الكفر لا ينفع عن الله حيث لاي يزد إلا المقت ولا ينفهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسار لأنه العمر كرأسِ (مالٍ) من اشترى به رضى اللَّهَ رِبحَ ومن اشترى به سخطه خَسِرَ.
قوله: {أَرَأَيْتُم} فيها وجهان:
أحدهما: أنها ألف استفهام على بابها ولم تتضمن هذه الكملة معنى أَخْبِرُوني بل هو استفهام حقيقي وقوله: «أَرُوني» أمر تعجيز.
والثاني: أَنَّ الاستفهام غير مراد وأنها ضُمِّنَتْ معنى أَخْبرُونِي. فعلى هذا يتعدى لاثنين:
أحدهم: شُرَكَاءَكُمْ
والثاني: الجملة الاستفهامية من قوله «مَاذَا خَلَقُوا» وَ «أَرُوِين» يحتمل أن تكون جملة اعتراضية.
والثاني: أن تكون المسألة من باب الإعمال فَإنَّ «أَرَأَيتُمْ» يطلب «مَاذَا خَلَقُوا» مفعولاً ثانياً و «أَرُونِي» أيضاً يطلبه معلقاً له وتكون المسألة من باب إعمال الثاني على مُخْتَارِ البَصْرِيِّن، و «أَرُوني» هنا بصريَّة تعدت للثاني بهمزة النقل والبصرية قبل النقل تعلق بالاستفهام كقولهم: «أَمَا تَرَى أيّ بَرْق هَهُنا» وقد تقدم الكلام على (أن) «أَرأَيْتُمْ»(16/150)
هذه في الأنعام وقال ابن عطية هنا: «أرأيتم» ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني ولذلك لا يحتاج إلى مفعولين. وهو غلط بل يحتاج كما تقدم تقريره. وجعل الزمخشري الجملة من قوله «أَرُوني» بدلاً من قوله: «أرَأيتُمْ» قال: لأن المعنى أرأيتم أخبروني وردَّهُ أبو حيان بأن البدل إذا دخلت عليه أداة الاستفهام (لا) يلزم إعادتها في المبدل ولم تعد هنا وأيضاً فإبدال جملة من جملة لم يعهد في لسانهم قال شهاب الدين: والجواب عن الأول أن الاستفهام فيه غير مراد قطعاً فلم تعد أداته، وأما قوله: لم يوجد في لسانهم فقد وجد ومنه:
4163 - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بِنَا ... ..... ... ... ... ... ... .
(و) :
4416 - إنَّ عَلَيَّ اللَّهَ أنْ تُبَايِعَا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً وَتُجِيبَ طَائِعاً
وقد نص النحويون على أنه متى كانت الجملة في معنى الأول ومبينة لها أبدلت منها.
فصل
هذه الآية تقرير للتوحيد وإبطال للإشراك والمعنى جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَائي بزعمكم يعني الأصنام «أرُوني» أخبروني «ماذا خلقوا من الأرض» فقال: «شركاءكم» فأضافهم إليهم(16/151)
من حيث إنَّ الأصنامَ في الحقيقة لم تكن شركاء لله وإنما هم الذين جعلوها شركاء فقال شركاءكم أي الشركاء بجعلكم.
ويحتمل أن يقال: معنى شركاءكم أي {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ويحتمل أن يكون معنى «أرأيتم» أي أعلمتم هذه الأصنام التي تدعونها هل لها قدرة أم لا؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها؟ وإن كنتم تعلمن أن لها قدرة فأروني قدرتها في أي شيء أهي في الأرض قال بعضهم: إن الله إله المساء وهؤلاء آلهة الأرض وهم الذين قالوا: أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها أم هي في السموات كما قال بعضهم: إن السموات خلقت باستعانة الملائكة شكراء في خلق السموات وهذه الأصنام صورها أم قدرتها في الشفاعة لكم كما قال بعضهم: «إنما نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى» فهل معهم كتاب من الله؟ قال مقاتل: هل أعطينا كفار مكة كتاباً فهم على بينة منه؟
قوله: {آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ} الأحسن في هذا الضمير أن يعود على «الشُّرَكَاء» ليتناسق الضمائر وقيل: يعود على المشركين كقول مقاتل فيكون التفاتاً من خطاب إلى غيبة وقرأ أبُو عمرو وحمزةُ وابنُ كثير وحفصٌ بيِّنة بالإفراد والباقون بيِّنَات بالجمع أي دلائل واضحة منه مِمَّا في ذلك الكتاب من ضُرُوبِ البَيَانِ.
قوله: {بَلْ إِن يَعِدُ} «إن» نافية والمعنى مايعد الظالمون {بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام. والغرورو ما يغر الإنسان ما لا أصل له، قال مقاتل: يعين ما يَعِدُ الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة في الآخرة غرور باطل.
قوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها بين أن الله قادر بقوله: إن الله يمسك السموات والأرض. ويحتمل أن يقال: لما بين شركهم قال: مقتضى شركهم زوال السموات والأرض كقوله تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90 - 91] ويؤيد هذا قوله في آخر الآية «إنَّ اللَّهَ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً» حليماً ما ترك تعذيبهم إلا حلماً منه وإلا كانوا يستحقون إسْقَاط السّماء وانطباق الأرض عليهم. وإنما أَخَّر إزالة(16/152)
السموات لقيام الساعة حكماً. ويحتمل أن يقال: إن ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب كأنه تعالى قال: شُرَكَاؤُكم مَا خَلَقُوا من الأرض شيئاً ولا من السماء جزءاً لا قدرة لهم على الشفاعة فلا عِبَادة لهم وهَبْ أنهم فعلوا شيئاً من الأشياء فهل يقدرون على إمْسَاكِ السموات والأرض ولا يمكنهم القول بأنهم يَقْدِرُون لأنهم ما كانوا يقولون ذلك كما قال تعالى عنهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] ويؤيد هذا قوله: {وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} فإذن تبين أن لا معبودّ إلاَّ الله من حيث إن غيره لم يخلق شيئاً من الأشياء وإن قال كافرٌ بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك.
قوله: {أَن تَزُولاَ} يجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي كَرَاهَةَ أَنْ تَزُولاَ وقيل: لئلا تزولا ويجوز أن يكون معفولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي يمنعهما من أن تزولا كذا قدره أبو إسحاق ويجو أن يكون مفعولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي يمنعهما من أن تزولا. كذا قدره أبو إسحاق ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي يمنع زَوَالَهُمَا.
قوله: {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} جواب القسم الموطأ له بلام القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم ولذلك كان فعل الشرط ماضياً. وقول الزمخشري: إنه سدّ مسد الجوابين يعني أنه دال على جواب الشرط.
قال أبو حيان؛ وإن أُخذ كلامه على ظاهر لم يصح لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب من حيث إنه سد مسدّ جواب الشرط ولا موضع له من حيث إنه سد مسد جواب القسم، والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول و «مِنْ أَحَدٍ» من مزيدة لتأكيد الاستغراق و «مِنْ بَعْدِهِ» من لابتداء الغاية والمعنى أَحَدٌ سواه «إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غفوراً» ، «حليماً» حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم «غفوراً» لمن تاب ويرحمه وإن إستحق العِقَابَ.(16/153)
فإن قيل: ما معنى ذكر الحليم هَهُنَا؟ قيل: لأن السموات والأرض همت بما همت من عقوبة الكفار فأمسكهما الله - عزّ وجلّ - عن الزوال لحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقُوبة.
قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله} يعني كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قَالُوا لَعَنَ اللَّهُ اليهودَ والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله وقالوا: «لو أتانا رسول لَنَكُونَنَّ أَهْدَى» ديناً منهم وذلك قبل مبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله - عزّ وجلّ - «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمَانِهمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ» رسول «لَيكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إحْدى الأمم» يعني اليهود والنصارى وقيل: المعنى أهدى مما نحن عليه. وعلى هذا فقوله: {مِنْ إِحْدَى الأمم} للتبيين كما يقال: زَيْدٌ مِنَ المسلمين، ويؤيده قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} أي صاروا أضل مما كانوا يقولون: نكون أهدى وقيل: المراد أهدى من إحدى الأمم كقولك: زَيْدٌ أَوْلَى مِنْ عَمْرو. وقيل: المراد بإحدى الأمم العموم أي إن إحْدَى الأمم يفرض واعلم أنه لما بين إنكارهم للتوحيد من تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه يحث كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلاً وقالوا إنما نكذب محمداً - عليه (الصلاة و) السلام - لكونه كاذباً ولو تبني لنا كونُه رسولاً لآمنَّا كما قال تعالى:
{وَأَقْسَمُواْ
بالله
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] وهذا مبالغة في التكذيب.
قوله: {لَّيَكُونُنّ} جواب القسم المقدر والكلام فيه كما تقدم وقوله: {لَئِن جَآءَهُم} حكاية لمعنى كلامهم لا للفظه إذ لو كان كذلك لكان التركيب لَئِنْ جَاءَنَا لَنَكُونَنَّ.
قوله: {مِنْ إِحْدَى الأمم} أي من الأمة التي يقال فيها: هي إحدى الأمم تفضيلاً لها كقولهم: هو إحْدَ (ى) الأَحَدَيْنِ قالَ:
4165 - حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إحْدى الإحَدِ ... لَيْثاً هِزَبْراً في سِلاَح مُعْتَدِ
قوله: «مَا زَادَهُمْ» جواب «لَمَّا» وفيه دليل على أنها حرف لا ظرف إذا لا يعملُ ما(16/154)
بعد «ما» النافية فميا قبلها، وتقدمت له نظائر وإسناد الزيادة للنذير مجاز لأنه سبب في ذلك كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]
فصل
معنى جاءهم أي صح لهم مجيئة بالمعجزة وهو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً» أي ما زادهم بمجيئة إلا تباعداً عن الهدى.
قوله: {اسْتِكْباراً} يجوز أن يكون مفعولاً له أي لأجل الاستكبار وأن يكون بدلاً من «نُفُوراً» وأن يكون حالاً أي كونهم مستكبرين قال الأخفش.
قوله: «ومكر السيّء» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطف على «استكباراً»
والثاني: أنه عطف على «نُفُوراً» وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل إذ الأصل والمَكْر والسيِّئ وقرأ العامَّةُ بخفض همزة «السيّئ» وحمزة والأعمش بسكونها وصلاً وقد تجرأت النحاة وغيرهم على هذه القراءة ونسبوها لِلِّحْنِ(16/155)
ونزهوا الأعمش من أن يكون قرأ بها. قالوا: وإنما وقف مسكناً فظُنَّ أنه واصل فغلط عليه. وقد احتج لها قومٌ بأنه إجراء الوصل مُجْرى الوقف أو أجري المنفصل مُجْرى المتصل وحسَّنة كون الكسرة على حرف ثقيل بعد ياء مشددة مكسورة وقد تقدَّمَ أَنَّ أبا عمرو يقرأ: «إلى بارئْكُمْ» «عند بارِئْكُمْ» بسكون الهمزة. فهذا أولى لزيادة الثقل هنا. وقد تقدم هُنا (كَ) أمثلة وشواهد، وروي عن ابن كثير «ومَكْرَ السّأي» بهمزة ساكنة بعد السين ثم ياء مكسورة (و) خرجت على أنها مقلوبة من السَّيْء، والسَّيْءُ مخفف (من السيّء) كالمَيْتِ من الميِّت قال الحَمَاسِيُّ:
4166 - وَلاَ يَجْزُونَ من حَسَنٍ بسَيْءٍ ... ولا يَجْزُونَ مِنْ غِلَظٍ بِلِينِ
وقد كثر في قراءة القلب نحو ضِيَاءٍ، وتَأيَسُوا ولا يَأيَسُ، كما تقدم تحقيقه وقرأ عبد الله: «وَمَكْراً سَيِّئاً» بالتنكير وهو موافق لما قبله وقرئ: ولا يُحِيقُ بضم(16/156)
الياء المَكْرَ السَّيِّئَ بالنصب على أن الفاعل ضمير الله تعالى؛ أي لا يُحِيطُ اللَّهُ الْمَكْرَ السَّيِّئَ إلاَّ بأهله.
فصل
المراد بالمكر السيّء أي القبيح أضيف المرك إلى صفته قال الكلبي: هو إجتماعهم على الشرك وقيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال ابن الخطيب: هذا من إضافته الجنس إلى نوعه كما يقال: عِلْمُ الفِقْهِ وحِرْفَةُ الحِدَادَةِ ومعناه: ومكروا مكراً سيئاً ثم عُرِّف لظهور مكرهم ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيّئ لكون السر فيه أبين الأمور. ويحتمل أن يقال: بأن المكر استعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى: {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} [فاطر: 10] أي يعملون السيئات.
قوله: «ولا يحيق المكر السيّئ» أي لا يحل ولا يحيط، وقوله: «يَحِيقُ» ينبئ عن الإحاضة التي هي فوق اللحوق.
فإن قيل: كثيراً ما نرى الماكر يمكُر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك.
فالجواب من جوه:
أحدهما: أن يكون المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوه يوم بدر وغيره.
وثانيها: أن نقول: المكرُ عام وهو الأصح، فإن النبي - عليه (الصلاة و) السلام - نهى عن المكر وأخبر بقوله: «لا تَمْكُرُوا وَلاَ تُعِينُوا مَاكِراً فَإنَّ اللَّهِ يَقُولُ: وَلاَ يَحيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأهْلِهِ» وعلى هذا (فذلك) الرجل الماكر يكون أهلاً فلا يرد نفضاً.
وثالثها: أن الأعمال بعواقبها ومن مكر غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقَة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ} يعني إن كان لمكرهم في الحال رواجٌ فالعاقبة للتقوى والأمور بخَوَاتِيمها.(16/157)
قوله: {سُنَّةَ آلأَوَّلِين} مصدر مضاف لمفعوله و «وسُنَّةَ اللَّهِ» مصدر مضاف لفاعله لأنه سنَّها بهم فصحت إضافتها إلى الفاعل والمفعول. وهذا جواب (عن) سؤال وهو أن الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله ف الأولين والجواب عن هذا السؤال من وجهين:
أحدهما: أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجهٍ دون وجه فيقال فيما إذا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ عمرو وكيف ضرب مع ما له من الْقَوم والقُوة؟ وعجبتُ من ضَرْب عمرو وكيف ضرب مع ماله من العلم والحلم؟ فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها (سنة) سنت بهم وإضافتها إلى نفسه بعدها بقوله: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله} لأنها سنة من الله، فعلى هذا نقول: أضافها في الأول إليهم حيث قال: سنة الأولين، لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيتهما فإذا قال: سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها إلى الله لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظيماً وتبين أنها أمر واقعٌ ليس لها من دافع.
وثانيهما: أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال: أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنةٍ لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقِّها.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار التبديل والتحويل؟
فالجواب: أن المراد بقوله: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} حصول العلم بأن العذاب لا يبدل بغيره وبقوله: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً} حصول العلم بأن العذاب مع أنه لا يتبدل بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المُسِيءِ.
فصل
المعنى فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزر بمن مَضَى من الكفار والمخاطب بقوله: {فَلَن تَجِد} عام كأنه قال: لن تجد أيها السامع وقيل: الخطاب مع محمد - عليه (الصلاة و) السلام -.(16/158)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} لما ذكر الأولين وسنته في إهلاكهم نبههم بتذكير الأولين فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم وكانوا اطول أعماراً منهم وأشد اقتداراً ومع هذا لم يكذبوا مِثْلَ محمد وأنتم يا أهْلَ مكة كفرتم محمداً ومَنْ تَقَدَّمَهُ.
قوله: {وكانوا أَشَدّ} جملة في موضع نصب على الحال ونظيرتها في الروم: «كَانُوا» بلا «واو» على أنها مستأنفة فالمَقْصِدانِ مُخْتَلِفَان.
وقال ابن الخطيب: الفرق بينهما أن قول القائل: «أمَا رَأَيْتَ زَيْداً كَيْفَ أَكْرَمَنِي هُو أَعْظَمُ مِنْكَ» يفيد أن القائل يخبره بأن زيداً أعظمُ وإذا قال: مَا رَأَيته كَيْفَ أكْرَمَنِي وهُوَ أَعْظَمُ (مِنْكَ) يفيد أن يقرر أن المعنيين حاصلان عند السامع كأنه رآه أكرمه ورآه أكرم منه (و) لا شك في أن هذه العبارة الأخيرة تفيد كون الأمر الثاني في الظهرو مثل الأول بحيثُ لا يحتاج إلى اعلام من المتكلم ولا إخبار. وإذا علم هذا فنقول: المذكرو ههنا كونُهم أشدَّ منهم قوة لا غير ولعل ذلك كان ظاهراً عندهم فقال «بالواو» أي نظركم كما يقع على عاقبة أمرهم يقع على قولهم وأما هناك فالمذكور أشياء كثيرة فإنه قال: {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ} [الروم: 9] وفي موضع آخر قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض} [غافر: 82] ولعل عملهم لم يحصل بإثارتهم في الأرض أو بكثرتهم ولكن نفس القوة ورجحانهم كان معلوماً عندهم فإن كل طائفة تعتقد فيمن تقدمها أنها أَقْوَى منها ولا تنازع فيه.(16/159)
قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ} أي ليفوت عنه. وهذا يحتمل شيئين:
أحدهما: أن يكون المراد بيان أو الأولين مع شدة قوتهم ما عجزوا الله وما فاتوه فهم أولى بأن لا يُعْجزوه.
والثاني: أن يكون قطعاً لاعتاقده الجهال فإنَّ قائلاً لو قال: هب أن الأولين كانوا أشدَّ قوةً وأطْوَلَ أعماراً لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم ونستعين بأمور أرضيةٍ لها خواص أو كواكبُ سماوية لها أثارها فقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً} بأفعالهم وأقوالهم «قَدِيراً» على إهلاكهم واستئصالهم.
قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ} من الجرائم «مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ»
يعني على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور وتقدم نظيرها في النحل، إلاَّ أن هناك لم يجر للأرض ذكر بل عاد الضمير على ما فُهِمَ من السِّياق وهنا قد صرح بها في قوله: {فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} فيعود الضمير إليها لأنها أقرب، وأيضاً فلقوله: {مِنْ دَابَّةٍ} والدب إنما يكون على ظهر الأرض وهنا قال: «عَلَى ظَهْرِهَا» استعارة من ظهر الدابة دللاة على التمكن والتقلب عليها والمقام هنا يناسب ذلك لأنه حيث على السير للنظر والاعتبار.
قوله: {مِن دَآبَّةٍ} أي كما في زمن نوح - عليه (الصلاة و) السلام) أهلك الله ما على ظهر الأرض من كان في السفينة مع نُوحٍ.
فإن قيل: إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما (بال) الدوَابِّ يهلكون؟
فالجواب من وجوه:
أحدهما: أن خلق الجواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم والدوابّ أقرب النعم، لأن المفردَ (أولاً) ثم المركب والمركب إما أن يكون معدناً وإما أن يكون نامياً والنامي إما أن يكون حيواناً أو نباتاً والحيوان إما إنساناً أو غير إنسان فالدوابّ أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان.
الثاني: أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقا (ء الأشياء) بالإنسان كما أنَّ بقاء الإنسان بالأشياء لأن الإنسان يدبر الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها(16/160)
الإنسان فإذا كان الهلاك عاماً لا يبقى من الإنسان من يُعَمِّر فلا يبقى الأبنية والزروع فما تبقى الخيرات الإلهية فإن بقاءها لحفظ الإنسان إياها عن التلف والهلاك السَّقْي الْقَلْبِ.
الثالث: أن إنزال المطر إنعام من الله في حق العباد فإذا لم يستحقوا الأنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت جميع الحيوانات.
فإن قيل: كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابلهُ الوجه فهو كالتضاد؟ فيقال: من حيث إنَّ الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن نم باب ووجه الأرض ظهر لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.
قوله: {ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو يوم القيامة وقيل: يوم لا يوجد في الخلق مؤمن وقيل: لكل أمة أجل، ولك أجل كتاب وأجل قوم محمد - عليه (الصلاة و) السلام - أيام القتل والأسر كيوم بدر وغيره.
قوله: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} تسلية للؤمنين لأنه قال: ما ترك على ظهرها من دابة وقال {لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25] فقالك فَإذَا جَاءَ الْهَلاَك فاللَّهُ بالعباد بصيرٌ قال ابن عباس: يريد أهل طاعنه وأهل معصيته، (و) روى أبو أمامةَ عن أُبيِّ بْن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْمَلاَئِكَةِ دَعَتْهُ يَوْمَ الْقِيامَةَ ثَمَانِيةُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ أَنْ ادْخُلْ مِنْ أيّ الأبْوَابِ شِئْتَ» [والله الموفّقُ للصّواب، وإليه المرجعُ والمآبُ] .(16/161)
سورة يس(16/162)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
مكية وهي ثلاث وثمانون آية، وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة، وثلاثة آلاف حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: قوله: {يس} بسكون النون. وأدغم النون في الواو بعدها ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش بخلاف عنه. وكذلك النون من «نون والقلم» وأظهرهما الباقون فمن أدغم فاللخفّة، ولأنه لما وصل والنفي متقاربان من كلمتين أولهما ساكن وجب الإدغام كالمِثْلَيْن. ومن أظهر فاللمبالغة في تفكيك هذه الحروف بعضها من بعض، لأنه بنية الوقف وهذا أُجْرِيَ على القياس في لحروف المقطعة وكذلك التقى فيها الساكنان وصلاً ونقل إليهما حركة همزة الوصل على رأي نحو «الم. الله» كما تقدم تقريره.
(وأمال الياء من «يس» الأخَوَانِ، وأبُو بكرٍ؛ لأنها اسم من الأسماء كما تقدم تقريره) أَوَّلَ البقرة.(16/162)
قال الفَارسيُّ: وإذا أمالوا «ياء» وهي حرف نداء فَلأَنْ يُمِيلُوا «يا» من «يس» أَجْدَرُ وقرأ عيسى وابن أبي إسْحَاقَ بفتح النون إمَّا على البناء على الفتح تخفيفاً ك «أَيْنَ وكَيْفَ» وإما على أنه مفعول ب «اتْلُ» وإما على أنه مجرور بحرف القسم، وهو على الوجهين غير منصرف للعملية والتأنيث ويجوز أن يكون منصوباً على إسْقاطِ حرف القسم كقوله:
4167 - ... ... ... ... ... ... ... . ... أمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ
وقرأ الكلبي بضم النون، فقيل: على أنها خبرُ مبْتَدأ مُضْمَر، أي هذه يس ومُنِعَتْ من الصرف؛ لما تقدم.
وقيل: بل هي حركة بناء ك «حَيْثُ» فيجوز أن (يكون) خبراً كما تقدم وأن يكون مقسماً بها نحو: «عَهْدَ اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ» .
وقيل: لأنها منادى فبنيت على الضم، ولهذا فسَّرها الكلي القارئ لها ب «يَا إنْسَانُ» قال: وهي لغة طَيِّئ قال الزمخشري: إن صح مناه فوجهه أن يكون أصله يا أُنَيْسِينُ فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره كما قولا في القسم: «مُ اللَّهِ» في أَيْمُنُ اللَّهِ.
قال أبو حيان: الذي نقل عن العرب في تصغير إنسان أُنَيْسَان بياء بعدها ألف فدل أن أصله أُنْسِيَان؛ لأن التصغير يرد الأشياءَ إلى أصولها، ولا نعلم أنهم قالوا في تصيغره: أُنَيْسِين. وعلى تقديره أنه يصغر كذلك فلا يجوز ذلك إلا أنْ يُبْنَى على الضم لأنه(16/163)
منادى مُقْبَلٌ عليه، ومع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير ويمتنع من ذلك في حق النُّبُوَّةِ.
قال شهاب الدين: أما الاعتراض الأخير فصحيح نصوا على أن التصغير لا يدخل في الأسماء المعظمة شرعاً، ولذلك يحكى أن ابْن قُبَيْبَةً (لمَّا قال) في المهَيْمِن إنه مصغر من «مُؤْمن» والأصل: مُؤَيْمِنٌ فأبدلت الهمزةُ هاءً قيل له: هذا يَقْرُبُ من الكفر فلْيَتَّقِ اللَّهَ قَائِلُه.
وتقدمت هذه الحكايات في المائدة وما قيل فيها. وقد تقدم للزمخشري في «طه» ما يقرب من هذا البحث وتقدم كلام الشيخ معه.
وقرأ ابْن أَبِي إسْحَاقَ أيضاً وأبو السَّمَّا يس بكسر النون، وذلك على أصل التقاء الساكنين ولا يجوز أن يكون حركة إعراب «وَالقُرْآنِ» إما قسم متسأنف إن لم تجعل ما تقدم قسماً وإما عطف على ما قبله إن كان مقسماً به وقد تقدم كلام عن الخليل في ذلك أوائلَ البقرة فاعتبرْهُ هنا فإنَّه حسنٌ جدَّا.(16/164)
فصل
قد تقدمت في سورة العنكبوت ذكر حروف التهجي وأن كل سورة بدأ الله فيها يحروف التهجي كان في أوائله الذكر أو الكتاب أو القرآن. ولنذكر هَهُنا أن في ذكر الحروف أوائل السور أموراً تدل على أنها غير خالية عن الحكمة لكن علم الإنسان لا يصل إليها. والذي يدل على أن فيها حكمة من حيث الجملة هو أن الله تعالى ذلك من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفاً وهي نصفُ ثمانيةٍ وعشرينَ حرفاً هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا: الهمزة ألف متحركة.
ثم إنه تعالى قسم الحروف ثلاثَة أقسام تسعةَ أحرف من الألف إلى الذال والتسعة الأخيرة من الفاء إلى الياء وعشرةً في الوسط من الراء إلى الغَيْن، وذكر من القسم الأول حرفين الألفَ والحاء وترك سبعةً ولم يترك فن القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحداً لم يذكره وهو الخاء ولم يذكر من القسم الأخير من حروف الشَّفَةِ إلا واحداً لم يتركه وهو الميم والعشر الأواسط ذكرمنه حرفاً وترك حرفاً، فترك الزاي وذكر الراء وذكر السين وترك الشِّين، وذكر الصاد وترك الضاد، وذكر الطاء وترك الظّاء وذكر العين وترك الغيْن. ولي هذا أمراً يقع اتفاقاً بل هو ترتيب مقصود وهو لحكمة لكنها غير معلومة وهب أن واحداً يدعي فيه شيئاً فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسُورة «ن» و «ق» و «ص» وبعضها بحرفين كسورة «حم» و «يس» و «طه» وبعضها بثلاثة أحرف كسورة «الم» و «طسم» و «الر» وبعضها بأربعة أحرف كسروة «المر» و «المص» وبعضها بخمسة كسورة «حمعسق» و «كهيعص» وهب أنَّ قائلاً يقول: إن هذا إشارة بأن الكلام إما حرف، وإما فعل، وإما اسمٌ، والحرف كثيراً ما جاء على حرف كواوِ العطف وفاء العقيب، وهمزة الاستفهام، وكاف التشبيه، وياء الإلصاق وغيرها، وجاء على حرفين كمِنْ للتبعيض و «أَوْ» للتخيير، و «أم» للاستفهام المتوسط، وإن للشرط وغيرها. والفعل والاسم والحرف جاء على ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعَلَى في الاسم وأَلا يألو وعَلاَ يعلو في الفعل، والاسم والفعل جاءا على أربعة أحرف، والاسم خاصة جاء على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة ك «عِجْل» وسنجل(16/165)
وجرَحْل فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد، والبعض بأكثر فلا يعلم ما السِّرُّ إلا الله من أعْلَمَهُ الله به وإذا علم هذا العبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جاريحة، وكل واحد منها قسمان:
قمس عُقِل معناه وحقيقته وقسم لم يُعْلَمْ.
أما القلبية مع أنها عن الشك والجهل ففيها ما لم يعلم دليله عقلاً وإنما وجب الإيمَانُ به والاعتقاد سمعاً كالصّراط الذي هو أرق من الشعر وأحدّ من السيف، ويمر عليه المؤمن كالبَرْق الخاطبف، والميزان الذي تزن به الأعمال الذي لا ثقل بها في نظر الناظر وكيفية الجنة والنار فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم (و) مقطوع به بالمسع ومنها ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات والحكمة في ذلك أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعمل ما فيه من الفائدة لا يكون الإتيان إلا لمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي بها لفائدة وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده: انقُل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في لانقل فنقها ولو قال انقلها فإن تحتها كنزاً هو لك فإنه ينقلها وإن لم يؤمَر وإذا علم ها فكذلك في العبادات الِّسانية الذكرية يجب أن يكون ما لم يفهم معناه إذا تكلم به العبد علم أنه لا يعقل غير الانقياد لأمر المعبود الإلهيّ. فإذا قال: حم، يس، طس علم أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل يتلفظ به امتثالاً لما أمر به.
فصل
قال ابن عباس: يس قسم، ووري عنه أن معناه يا إنسان بلغة طيئ. قيل: لأن تصغير إنسان أُنَيْسِين كما تقدم عن الزمخشري فكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال: ياسين أي أُنَيْسِينُ.
قال أكثر المفسرين عين محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال الحسن وسعيد بن جبير وجماعة. وقال أبو (العالية: يا رَجُلُ. وقال أبو بكر الوراق: يا سيِّد البشر وقوله: {والقرآن(16/166)
الحكيم} أي ذي) الحكمة ك {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أي ذات رضا، أو أنه ناطق بالحكمة وهو كالحيِّ المتكلم.
قوله: {إنَّكَ} و {على صِرَاط} يجوز أن يكون متعلقاً ب «المُرْسَلِين» يقول: أَرْسَلْتُ عليه، كما قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً} [الفيل: 3] وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في «لَمِنَ المُرْسَلِين» لوقوعه خبراً وأن يكون حالاً من «المُرْسَلِينَ» وأن يكون خبراً ثانياً ل «إنَّكَ» .
فصل
أقسم بالقرآن على أن محمداً من المرسلين. وهو رد على الكفار، حيث قولوا: (لَسْتَ مُرْسَلاً) .
فإن قيل: المطلب ثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة بالإقْسَام؟! .
فالجواب من وجوه:
الأول: إن العرب كانوا يتقون الإيمان الفادرة وكانوا يقولون بأن الأيْمَان الفاجرة توجب خراب العالم وصحح النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذلك بقوله: «اليَمينُ الكَاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلاَقِعَ» ثم إنهم كانوا يقولون: إن النبي عليه - (الصلاة و (السلام - يصيبه عذاب آلهتهم، وهي الكواكب والنبي عليه (الصلاة و) السلام يحلق بأمر الله وإنزال كلامه عليه بأشياء مختلفة، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرْفَعَ شَأْناً وأمْنَعَ مَكَاناً، فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب.
الثاني: أن المُتَنَاظِرَ (يْنِ) إذا وقع بينهما كلام، وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المغلوب: إنك قدرت هذا بقوة جدالك، وأنت خبير في نفسك بضعف مقالتك، وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه الدليل صورة، وعجزت(16/167)
أنا عن القدح فيه وهذا كثير الوقوع بين المُتَناظِرَيْنِ فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر؛ لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول، فلا يجد أمراً إلا باليمين فيقول: وَاللَّهِ إنِّي لَسْتُ مُكَابِراً، وإنَّ الأمر على ما ذكرت ولم علمت خلافه لرَجَعْتُ إليه فههنا يتعين اليمين، فكذلك النبي عليه (الصلاة و) السلام أقام البراهين، وقالت الكفرة: {مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ} [سبأ: 43] وقالوا {لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: 7] فالتمسك بالأيْمان لعدم فائدة.
الدليل الثالث: أن هذا ليس مجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين؛ لأن القرآن معجزة ودليل كَوْنه مُرْسَلاً هو المعجزة والقرآن كذلك.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر في صورة الدليل. وما الحكمة في صورة اليمين؟
فالجواب: أن الدليل إذا ذكر لا في صورة اليمين، قد لا يُقْبِلُ عليه السامع فلا يفيد فائدة، فإذا ابتدأ به على صورة اليمين لا يقع ولا سيما من العظيم إلا على عظيم، والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصْغاء إليه فلصروة اليمين تقبل عليه الأسماع لكونه دليلاً شافياً يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب.
قوله: {على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم. والمسقيم أقرب الطرق الموصلة إلى المقصِد والدين كذلًك فإنه يوصل إلى الله وهو المقصد.
قوله: {تَنزِيلَ العزيز الرحيم} قرأ نافعٌ وابنُ كَثيروأبُو عمرو وأبو بكر برفع «تنزيلُ» على أنه خبر متبدأ مضمير أي هُو تنزيل. ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ إذا جعلت «يس» اسماً للسورة أي هذه السورة المسمّاة ب «يس» تنزيلٌ، أو هذه الأحرف المقطعة تنزيلٌ.
والجملة القسمية على هذا اعتراض. والباقون بالنصب على المصدر كأنه قال: نَزَلَ تَنْزِلَ العَزِيزِ الرحيم لتنذر. أو على أنه معفول بفعل مَنْوِيِّ كأنه قال والقرآن الحكيم أعين تَنْزِيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر وهذا اختيار الزمخشري(16/168)
وهو المراد بقوله: «أو عَلَى المَدْح» وهو في المعنى كالرفع على خبر ابتداء مضمر و «تنزيل» مصدر مضاف لفاعله.
وقيل: هو بمعنى منزِّل وقرأ أبو حيوة واليزيدي وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة تَنْزِيل بالجر على النعت للقرآن أو البدل منه، كأن قال: والقُرْآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين.
وقوله: {العزيز الرحيم} إشارة إلى أن الملك إذا أرسل فالمرسَلُ إليهم إما أن يخالفوا المرسل ويُعِينُوا المُرْسَل، وحينئذ لا يقدر الملك على الانتقام منهم إلا إذا كان عزيزاً، أو يخالفوا المُرْسِل ويكرموا المُرْسَل وحينئذ لا يقدر الملك. أو يقال: المُرْسَلُ يكون معه في رسالته مَنْعٌ عن أشياء وإطلاق لأشياء والمنع يؤكده العزة والإطلاق يدل على الرحمة.
قوله: {لِتُنْذِرَ} يجوز أن يتعلق ب «تَنْزِيلُ» أو بمعنى المرسلين يعني بإضمار فعل يدل عليه هذا اللفظ أي أرْسَلْنَاك لِتُنْذِرَ.
قوله: {قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} يجوز أن تكون «ما» هذه بمعنى الذي، وأن تكون نكرة موصوفة والعائد على الوجهين مُقَّدرٌ.
أي ما أنذره آباؤهم فتكون ما وصلتها أو وصفتها في محل نصب مفعولاً ثانياً لقوله: {لِتُنذِر} كقوله: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ: 40] أو التقدير لِتُنْذِرَ قَوْماً الذي أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ من العذاب، أو لتنذر قوماً عذاباً أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ.
ويجوز أن تكون مصدرية أي إنْذَار آبَائِهِم أي مثله. ويجوز أن تكون ما(16/169)
نافية، وتكون الجملة المنفية صلة ل «قوماً» أي قوماً غير منذر آباؤهم. ويجوز أن تكون زاذدة أي قوماً أنذر آباؤهم. والجملة المثبتة أيضاً صفة ل «قوماً» قال أبو البقاء.
وهو مناف للوجه الذي قبله. فعلى قولنا ما نافية، فالمعنى ما أنذر آبَاؤُهُم الأَدْنونَ وإن قلنا: ما للإثبات فالمعنى ليُنْذَرُوا بما أنذر آباؤهم الأولون. وقوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي عن الإيمان والرشد.(16/170)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
قوله: {لَقَدْ حَقَّ القول} وجب العذاب {على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} وهذا كقوله: {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} [الزمر: 71] وفي الآية وجوه:
أشهرها: أن المراد من القول هو قوله تعالى: {ولكن حَقَّ القول مِنِّي} [السجدة: 13] {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ} [ص: 85] .
والثاني: أن معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي وُجِد وثَبَتَ بحيث لا يُبَدَّل بغيره. لا يبدل القول لدي.
الثالث: المراد لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبانَ بُرْهَانُهُ، فإنهم لَمَّا لم يؤمنوا عندما ما حق القول واستمروا، فإن كانوا يريدون شيئاً أوضح من البرهان فهو العِنَاد وعند العناد لا يُفيد الإيمان. وقوله: {على أَكْثَرِهِمْ} على هذا الوجه معناه أن من لم تَبْلُغْه الدعوة والبُرْهَانُ قليلُون فحق القَول على أكثرهم هو من لم يوجد منه الإيمان وعلى الأول والثاني ظاهر، لأن أكثر الكفار ماتوا على الكفر.
قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} نزلت في أبي جهل وصاحِبَيْهِ، وذلك أن أبا جهل كان (قد) حلف لئن رأى محمداً يُصَلِّي ليَرْضَخَنَّ رأسه بالحجارة فأتاه وهو(16/170)
يصلي ومعه حجر ليدمَغَهُ به فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه، ولزق الحجرُ بيده، فلما رَجَعَ إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بين مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه وهو يصلَّي لِيَرْمِيَهُ بالحَجَر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يَرَهُمْ حتى نادوه فقالوا له: ماذا صنعت؟ فقال: ما رأيته، ولقد سمعت كلامه، وحال بيني وبينه كهيئة الفحْل يخطر بِذَنبِهِ لو دنوتُ منه لأَكَلَنِي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} .
ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} وتقدم أن المرادَ به البرهان قال بعده: بل عيانوا وأبصروا ما يقرب من الضّرورة حيث التزقت يده بعنقه ومُنع من إرسال الحَجَر، وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن على أنه لا يؤمن أصلاً.
وقال الفراء: معناه حبسْنَاهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] معناه ولا تُمْسِكْها عن النفقة.
الرابع: قال ابن الخطيب وهو الأقوى وأنشد مناسبةً لما تقدم: إنّ ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وأما مناسبة قول الفراء لما تقدم أن قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يُؤمِنُون} يدخل فيه أنهم لا يصلون كقوله تعالى: {لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم عند بعض المفسرين، والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال: لا يُصَلّون ولا يُزَكون.
قوله: {فَهِىَ إِلَى الأذقان} في هذا الضمير وجهان:
أشهرهما: أنه عائد على الأَغْلاَل، لأنها هي المُحَدَّث عنها، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغُلَّ لِغِلَظهِ وعَرْضِهِ يصل إلى الذقن، لأنه يلبس العُنُقَ جَميعَهُ.
قال الزمخشري: والمعنى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثِقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يَتَمَكَّن المَغلُول معنا من أن يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ.
الثاني: أن الضمير يعود على «الأيدي» لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في العنق، واليدين، ولذلك سمي جامعة، ودَلَّ على الأيدي وإن لم تُذْكر للملازمة المفهومة من هذه الآلة(16/171)
أعني الغُلّ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ إلا أن الزمخشري قال: جعل الإقماح نتيجة قوله: {فَهِىَ إِلَى الأذقان} ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهراً، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك للظاهر.
وفي هذا الكلام قولان:
أحدهما: أن جَعْل الأَغْلاَلِ حقيقة.
والثاني: أنه استعارة، وعلى كل من القَوْلين جماعة من الصَّحَابة والتابعين.
وقال الزَّمْخَشَرِيُّ: (مثل) لتصميمهم على الكفر، وأنَّه لا سبيل إلى ارْعِوَائِهِمْ بأن جعلهم كالمَغْلُولِينَ المُقْمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطَأْطِئُونَ رُؤُوسَهُمْ له، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما قدامهم ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم تعامون عن آيات الله. وقال غيره. هذا استعارة لمنع الله إيَّاهم من الإيمان وحولهم بينهم وبينه (و) قال ابن عطية: وهذا أرجح الأقوال؛ لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يُؤْمِنون لما سبق لهم في الأول عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشَّقَاوة ما حالهم معه حال المغلوبين وتقدم تفسير الأّذْقان.
وقال ابن الخطيب: المانع إما أن يكون في النفس فهو الغُلّ وإما من الخارج فالسد، فلم يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] وذلك لأن المُقْمَحَ لا يرى (في)(16/172)
نفسه ولا يقع بصره على بَدَنِهِ، ولا يقع نظرهم على الآفاق فلا يتبين لهم الآيات التي في الآفاق. وعلى هذا فقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ ... . وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في (الأنْفُسِ و) الآفاق. «فَهُمْ مُقْمَحُونَ» هذا الفاء لأحسن ترتيب، لأنه لما وصلت الأغلال إلى الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رُؤُوسهم إلى فَوْق. أو ولما جمعت الأيدي إلى الأذقان وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق فترتفعُ رُؤُوسُهُمْ.
والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع، وهو من قَمَحض البعيرُ رأسَه إذا رفعها بعد الشُّرْب، إما لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قُمُوحاً وقِمَاحاً - بكسر القاف وضمها - وأقمحتُه أَنَا إقْمَاحاً، والجَمْع قِماحٌ وأنشد:
4168 - وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ ... نَغُضُّ الطَّف كَالإبِلِ القِمَاحِ
يصف نفسه وجماعة كانوا في سفينة، فأصابهم المَيَدُ.
قال الزجاج قيل: الكَانُونَيْن شهراً قِماحٍ، لأن الإبل إذا وَرَدْنَ الماء رفعت رُؤُوسَها، لشِدة البرد وأنشد أبو زيد للهذلي:
4169 - فَتًى مَا بْنُ الأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا ... وَحُبَّ الزَّادِ فِي شَهْرَيْ قمَاحِ(16/173)
كذا رواه بضم القَاف، وابنُ السِّكِّيت بكسرها. وقال اللَّيْثُ القُمُوح رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكرية ثم يعود. وقال أبو عبيدة إذا رفع راسه عن الحوض ولم يشرب والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما قتدم تحريه.
وقال الحسن: القامح الطامح يبصره إلى موضع قدمه. وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى. وزاد بعضهم مع رفع الرأس غَضَّ البصر مستدلاً بالبيت المتقدم:
4170 - ... ... ... ..... نغض الطرف كالإبل القماح
وزاد مجاهد مع ذلك وضع اليد على الفم. وسأل الناس أمير المؤمنين (علياً) - كرم الله وجهه - عن هذه الآية فجلع يده تحت لِحْيَتِهِ ورفع رأسه وهذه الكيفية ترجّح قول الطَّبَريِّ في عود «فَهيَ» على الأيدي.
قوله: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} تقدم خلاف القراء في فتح السِّين وضمِّها والفرق بينهما مستوفًى آخرَ الكهف والحمد لله.
وأما فائدة السد من بين الأيدي فإنهم في الدنيا سالكُون فيبغي أن يَسْلُكُو الطّريقة المستقيةَ «مِنْ بَيْنِ أيْدِيهمْ سَدًّا» فلا يقدرون على السلوك وأما فائدة السد من خلفهم فهو أنَّ الإنسان له فِطْريَّة والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول: جَعَلْنَا من بين أيديهم سدًّا فلا يسلكون طريق الاهتداء الذي هو فطرية وجعلنا من خلفهم سداً فلا يرجعون إلى الهداية والجبلية التي هي فطرية، وأيضاً فإن الإنسان مبدأه منا لله ومصيره إليه فعمي الكافر لا يبصر ما بين من المصير إلى الله، وما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله وأيضاً فإنَّ السالك إذا لم يكن له بدّ من سلوك طريق، فإن اشتدَّ الطريقُ الذي قدامه يفوته المقصد ولكمنه ريجع، وإذا اشتد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا(16/174)
يكون موضع إقامة يهلك. فقوله {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} إشارة إلى هَلاَكِهِمْ فصاروا بمنزلة من يبنى عليه الحائط وهو واقفٌ.
قوله: {فأغشيناهم} العامة على الغين المعجمة أي غَطَّيْنَا أبْصَارَهُمْ وهو على حذف مضاف. وابن عباس وعمرُ بن عبد العزيز، والحَسَنُ، وابنُ يعْمُرَ، وأبُو رَجَاءٍ في آخَرِينَ بالعين المهملة.
وهو ضعف البصر. يقال: عِشِيَ بَصَرُهُ، وأَعْشَيْتُهُ أَنَا.
وهذا يحتمل الحقية والاسْتِعَارَة.
فصل
قوله: {فَأغْشَيْنَاهُمْ} بحرف الفاء يقتضي أن يكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فما وجهه؟ فيقال من وجهين:
أحدهما: أن ذلك بيان لأمور مرتبة لي بعضها سبباً في العبض فكأنه تعالى قال: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَلاَ يُبْصِرُون أنفسهم لإقماحهم، وجعلنا من بين أيديهم سداً ومِنْ خلفهم سداً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يَروا السماء ما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله: جَعَلْنَا عَلَى أَبْصَارهم غشاوة فلا يبصرون شيئاً أصلاً.
والثاني: أن ذلك بيان لكون السدِّ قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغِشَاوة على أبصارهم، فإن من جعل من خلف وقدّامِهِ سدين مُلْتَزِقَيْن به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما يبثى عينه على سطح السد فلا يُبْصِرُ شيئاً، لأن شرط المرئيِّ أن يكون قريباً من العَيْن جِداً.
فَإنْ قيلَ: ذكر اسد من بين الأيدي ومن خَلْفٍ، ولم يذكر من اليَمِين والشِّمالِ فما الحكمة فيه؟ .
فالجواب: إن قلنا: إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر. وأما على غير ذلك فيقال: إنه حصل العموم بما ذكر والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة، لأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا مُتَوَجِّهِينَ إلى شيء، ومُؤَلِّين(16/175)
عن شيء فصار ما إليه توجُّهُهُمْ ما بين أيديهم فجعل الله السد هناك فمنعه من السوك فكيمفما توجه الكافر يجعل الله بين أيديه سداً وأيضاً (فإنَّا) لما بينا أن جعل السد سبباً لاستتار بصره فكان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين، فلا قدره له على الحركة يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشِّمال.
وقوله: {فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} أي لا يبصرون شئياً، أو لا يبصرون سبيلَ الحق؛ لأن الكافر مَصْدُورٌ عَنْ سبيل الهدى.
قوله: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} تقدم الكلام عليه أول البقرة، بين أن الإنذار لا نيفعهم مع ما فعل الله بهم ن الغُلِّ والسدِّ والإغشاء والإعماء بقوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} أي الإنذارُ وعَدَمُهُ سيَّان بالنسبة إلى إيمانهم.
{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب} قال من قبل: {لِتُنذِرَ قَوْماً} [يس: 6] وذلك يقتضي الإنذار العام وقال هنا: «إنَّما تنذر» وهو يقتضي التخصيص، فكيف الجمع بينهما؟! وطريقة من وجوه:
الأول: أن قوله: «لتنذر» أي (كَيْفَ) ما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن.
وقوله: {إِنَّما تُنْذِرُ} أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة لمن يتبع الذِّكْرَ وَيَخْشَى.
الثاني: (هو) أنّ الله تعالى لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار وذكر (أن) الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلأى أهل العناد قال نبيه: ليس إنذارك غيرَ مفيد من جمع الوجوه، فأنِذرْ على سبل العموم وإنما يُنْذَرُ بذلك الإنذارِ العَام من يتبع الذكر كأنه يقول: يا محمد أنذر بإنذارك وتَتَبَّعْ بذكرك.
الثالث: أن يقول: لتنذر أولاً فإذا أنذرت وبالغت (وبلغت) واستهزأ البعض وتولى واستكبر فبعد ذلك إنما تُنْذِرُ الِّذِينَ اتَّبَعُوك والمراد بالذكر: القرآن لتعريف الذكر الألف واللام. وقد تقدم ذرك القرآن في قوله تعالى: {والقرآن الحكيم} [يس: 2] وقيل:(16/176)
ما في القرآن من الآيات لقوله: {والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] فما جعل القرآن نفس الذكر. والمعنى إنما تُنْذِرُ العلماءَ الِّذِين يخشون ربهم. وقوله: {وَخشِيَ الرحمن} أي عمل صالحاً لقوله: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} وهذا جزاء العمل كقوله:
{فالذين
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج: 50] والمراد بالغيب: ما غاب وهو أحوال يوم القيامة. وقيل الوَحْدانية.
وقوله: {فَبَشِّره} إشارة إلى الرسالة، فإنَّ النَّبِيِّ بشيرٌ ونذيرٌ.
وقوله: «بمغفرة» على التنكير أي بمغفرة واسعةٍ تسيرُ من جميع الجوانب «وَأجْرٍ كريمٍ» أي ذي كرم كقوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ «والمراد به الجنة.
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى} عند البعث. لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بهم المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر. ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله: {فَبَشِّرهم بمغفرة} ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال: إن لم يرد في الدنيا فاللَّه يحي الموتى وُيجْزَى المنذّرُونَ والمُبشرُونَ ووجه آخر وهو أن تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يكده وهو إحْيَاءُ الموتى.
فصل
» إنّا نحن «يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبراً كقوله:
4171 - أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي ... ومثل هذا يقال عند الشُّهْرَة العظيمة، وذلك لأنَّ من لا يُعْرَفُ يُقَال (لَهُ) : من أنت؟ فيقول: أنا ابنُ فُلاَنٍ فيُعْرَفُ، ومن يكون مشهوراً إذا قيل له: مَنْ أَنْتَ، يقول:(16/177)
أنا ولا معرفة لي أظهر من نفسي فيقال: إنَّا نَحْنُ معروفون بأوصاف الكمال، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا ينكر قدرتنا على إحياء الموتى.
والثاني: أن الخبر» نُحْيِي «كأنه قال:» إِنَّا نُحِيي المَوْتَى «و» نحن «يكون تأكيداً.
وفي قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى} إشارة إلى الوحيد؛ لأن الإشراك يوجب التمييز، فإن» زيداً «إذا شاركه غيره في الاسم، فلو قال:» أنا زيد «لا يحصل التعريف التام،» لأن «للسامع أن يقول: أيُّمَا زيد؟ فيقول: ابنُ عمرو، (ولو كان هناك زيدٌ آخرُ أبو عمرو ولا يكفي قوله: ابن عمرو) فلام قال الله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى} أي ليس غيرنا أحد يشركنا حتى يقول: أنا كذا فيمتاز، وحينئذ تصير الأصول الثلاثة مذكورة: الرسالة والتوحيد والحشر.
قوله: {وَنَكْتُبُ} العمة على بنائه للفاعل، فيكون» مَا قَدَّمُوا «مفعولاً به و» آثَارهُمْ «عطف عليه وزِرّ ومسروقٌ قَرَآهُ مبنياً للمفعول، و» آثَارُهُم «بالرفع عطفاً على» مَا قَدَّمُوا لِقِيَامِهِ مَقَام الفَاعِل.
فصل
المعنى ماقدموا وأخروا، فكتفى بأحدهما، لدلالته على الآخر كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي وَالبَرْدَ. وقيل: المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحةً كانت أو فاسدةً، كقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] أي بما قدمت في الوجود وأوجدته. وقيل: نكتب نِيَّاتِهِمْ فإنها قبل الأعمال و «آثَارَهُمْ» أي أعمالهم. وفي «آثارهم» وجوه:
أحدها: ما سنوا من سنة حسنة وسيئة.
فالحسنة كالكتب المصنّفة والقناظر المبنية، والسيئة كالظّلامة المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة. قال - عليه ((16/178)
الصلاة و) السلام: «مَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً فَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا ومِثْلُ أَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهمْ شَيْئاً، وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَه كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْئاً» وقيل: نكتب آثارهم أي خُطاهم إلى المسجد لما روي أبو سعيد الخُدْرِي قال: شَكَتْ بنو سلمة بُعْدَ منازِلهم من المسجد فأنزل الله: {ونكتُبُ ما قدموا وآثارهم} فقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «إنَّ اللَّه يَكْتُبُ خُطَوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ» وقال - عَلَيْهِ (الصَّلاَةُ وَ) السَّلاَمُ -: «أَعْظَمُ النَّاس أَجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةً حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أَعْظَمُ أجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أعْظَمُ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ» فإن قيل: الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال: ( «نُحْي» ) و «نكتُبُ» ولم يقل: نكتب ما قَدَّمُوا وَنُحْيِيهمْ؟ .
فالجواب: أن الكتابة معظمة، لا من الإيحاء، لأن الإحياء إن لم يكن للحاسب لا يعظم، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياءً وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً والإحياء هو المعتبر، والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء (و) لأنه تعالى قال: {إِنَّا نَحْنُ} وذلك يفيد العظمة والجَبَرُوتَ، والإحياء العظيم يختص بالله، والكتابة دونه تقرير العريق الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم.
قوله: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} العامة على نصب «كل» على الاشتغال وأبو السِّمِّال قرأه مرفوعاً بالابتداء والأرجحُ قراءةُ العامة، لعطف جملة الاشتغال على جملة فعليةٍ.(16/179)
فصل
«أَحْصَيْنَاهُ» حفظناه وثبّتناه «فِي إمَامِ مُبينٍ» فقوله «أَحْصَيْنَاهُ» أبلغ من كتبناه، لأن كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدد فقال يحصي فيه وإمامٌ جاء جمعاً في قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] أي بأئمتهم وحنيئذ ف «إمَام» إذا كان فرداً فهو ككِتَاب وحِجَاب، وإذا كان جمعاً فهو كجِبَال. والمُبِينُ هو المظهر للأمور لكونه مُظْهراً (للملائكة ما) يفعلون وللناس ما يفعل بهم، وهو الفارق بينهم أوحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير. وسمي الكتاب إماماً، لأن الملائكة يأتمون به، وتيبعونه، وهو اللوح المحفوظ. وهذا بيان لكونه ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لايُبدَّل، فإن القَلَم جَفَّ بما هو كائن، فلما قال «نَكْتُبُ مَا قَدًَّمُوا» بين أن قبل ذلك كتابةً أخرى، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه. وقيل: إن ذلك مؤكّدا لمعنى قوله: «وَنَكْتُبُ» ؛ لأن من يكتب شيئاً في ارواق ويرميها وقد لا يجدها، فكأنه لم يكتب فقالك نكتُبُ ونَحفَظُ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى:
{عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52] وقيل: إنَّ ذلكَ تعميمٌ بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم، وليست الكتابة مقتصرةً عليه بل كل شيء مُحْصًى في إمام مبين، وهذا يفيد أن شيئاً من الأفعال والأقوال لا يَعزُبُ عن (علم) الله ولا يفوته وهو قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [القمر: 52 - 53] يعين ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب.(16/180)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قوله تعالى: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية} تقدم الكلام على نظيره في(16/180)
البقرةِ والنحل والمعنى واضرب لأجلهم مثلاً، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلاً أي مثهم عند نفسك بأصحاب القرية. فعلى الأول لمَّا قال تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 3] وقال: {لِتُنذِرَ قَوْماً} [يس: 6] قال: قل لهم ما أنا بدعاً من الرسل بل (قبلي) بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة. وعلى الثاني لما قال تعالى: إن الإنذار لا ينفع من أضله اللَّهُ وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه (الصلاة و) السلام: فلا بأس واضرب لنفسك ولقومك «مثلاً» أي مَثِّلْ لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية، حيث جاءهم ثلاثةُ رُسُل فم يؤمنوا، وصبر الرسل عل القتل والإيذاء وأنت جئتهم واحداً وقومك أكثر من قوم الثلاثة، فإنهم جاءوا قريةً وأنت بعثت إلى العالم.
قوله: {أَصْحَابَ القرية} أي واضرب لهم مثلاً (مَثَلَ) أصحاب القرية، فترك «المَثَلَ» وأقيم «الأصحاب» مُقامة في الإعراب كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] .
قال الزمخشري: وقيل: لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً أو مثل أصحاب القرية بهم قال المفسرون: المراد بالقرية أنْطَاكية.
قوله: {إِذْ جَآءَهَا} بدل اشتمال. قال الزمخشري: «إذْ» منصوبة لأنها بدل أصْحَابِ القَرْيَة كأنه تعالى قال: واضْرِب لهم وقت مجيء المرسلين ومثل ذلك الوقت بوقتِ مُحَمَّد.
وقيل: منصوب بقوله: «اضْرِبْ» أي اجعل الضرب كأنه حين مجيئهم وواقع(16/181)
فيه والمرسلون من قوم عيسى وهم أقرب مُرْسَلٍ أُرْسل إلى قوم إلى زمان محمد - عليه (الصلاة و) السلام - وهم ثلاثة.
قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَآ} بدل من «إذ» الأولى، كأنه قال: اضْرب لهم مثلاً إذ أرسلنا إلى اصحاب القرية اثنين. قال ابن الخطيب: والأصح الأوضح أن يكون «إذا» ظرفاً والفعل الواقع فيه «جَاءَها» أي جاءها المرسلون حينَ أرْسَلْنَاهُمْ إلَيْهِمْ.
وإنما جاءوهم حيث أمروا. وهذا فيه لطيفة أخرى وهي أن في القصة أن الرسلَ كانوا مبعوثين من جهة عيسى - عليه (الصلاة و) السلام - أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى: إرسال عيسى (عليه السلام -) هو إرسالنا رسول رسول الله بإذن الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رُسُلَ الرسل وإنما هم رُسُلُ الله، فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله: {إِذْ أَرْسَلْنَآ} ويؤيد هذا مسألة فِقْهِيَّةٌ وهي أن وَكيلَ الوكيل بإذن الموكل وَكيلُ المُوَكّل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل (الأول) وهذا على قولنا: «واضرب لهم مثلاً» ضرب المثل لأجل محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ظاهر وقوله: «إذا أرسلنا إليهم اثنين» في بعثة الاثْنَيْنِ حكمةٌ بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى عليه (الصلاة و (السلام) (بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قَوْلُهُمَا على قومهما عند عيسى حجَّةً.
فصل
قال ابن كثير: وروى ابن إسحاق عن ابن عباس وكعب الأحْبار ووهب بن منبّه ورُوِيَ عن بُريدةَ بْنِ الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أن هذه القرية أنطاكية وكان اسم ملكها انطيخش، وكان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صَادِق وصَدُوق وسلومُ فكذبهم وهذا ظاهر (هـ) أنهم رسل الله - عَزَّ وَجَلَّ - وزعم قتادة أنهم كانوا رسلاً من عند المسيح وكان اسم الرسولين الأولين شمْعون ويوحَنّا واسم الثالث(16/182)
بُولص والقرية أنطاكية. وهذا القول ضَعِيف جداً؛ لأن أهل أنطاكية لما بَعث إليهم المسيحُ ثلاثةً من الحواريين كانوا أول مدينة آمن بالمسيح في ذلك الوقت، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها مباركة النصارى وهي أنطاكية والقدس واسكندرية رومية، ثم بعدها قسطنطينية، ولم يهلكوا (إذا) أهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا لقول الله تعالى: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورة في القرآن بعثوا لأهل أنطاكية قديماً فكذبوهم فأهلكهم الله ثم عُمِّرت بعد ذلك فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله فيجوز والله أعلم.
قوله: {فَعَزَّزْنَا} قرأ أبو بكر بتخفيف الزاي بمعنى غَلَبْنا، ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23] ومنه قولهم: عَزَّ وبَزَّ أي ص له بَزّ.
والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنَا يقال: عَزَّز المَطَرُ الأَرْضَ أي قواها ولَبدها، ويقال لِتِلْكَ الأرْضِ العَزاء وكذا كل أرض صُلْبَة. وتعَزَّزَ لَحْمُ النَّاقَة أي صلُبَ وقَوِيَ وعلى كلتا القراءتين المفعول محذوف أي فَقَوّيناهما (أو فغلبناهما بثالث) ؛ لأن المقصود من البعثة نُصرة الحق، لا نصرتهما، والكل كانوا مقوين للدين والبرهان.
وقرأ عبد الله «بالثُّالثِ» بألفٍ ولام.
قوله: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُون} جرد خبر «إنّ» هذه من لام التوكيد، وأدخلها في خبر الثانية، لأنهم في الأولى استكملوا مجرد الإنكار فقابلتهم الرسل بتوكيد واحد وهوا لإتيان ب «إنَّ» وفي الثانية بالَغُوا في الإنكار فقابلتهم (الرسل) بزيادة التأكيد، فأتوا ب «إنَّ» وب «اللاَّم» .
قال أهل البيان: الأخبار ثلاثة أقسام: ابتداءٌ وطلبيُّ وإنكاريُّ.(16/183)
فالأول: (يقال) لمن لك يتردد في نسبة أحد الطرفين إلا الآخر نحو: زَيْدٌ عَارَفٌ.
والثاني: لمن هو مترد في ذلك طالبٌ له منكِرٌ له بعض إنكار فيقال له: إنَّ زَيْداً عَارِفٌ.
والثالث: لم يبالغ في إنكاره فيقال له: إنَّ زَيْداً لَعاَرِفٌ ومن أحسن ما يحى أن رجلاً جاء إلى أبي العباس الكِنْديِّ فقال: يا أبا العباس: إني لأجدُ في كلام العرب حشواً قال: وما ذالك؟ قال: يقولون زُيْدٌ قَائِمٌ، وإنَّ زَيْداً لَقَائمٌ، فقال: كلاَّ، بل المعاني مختلفة، «فعبد الله قائم» إخبار بقيامة، و «إنَّ عبد الله قائمٌ» جواب لسؤال سائل و «إنَّ عبد الله لقائمٌ» جواب عن إنكار مُنْكِر وهذا هوا لكندي الذي سئل أن يعارض القرآن ففتح المصحف فرأى سورة المائدة وقال أبو حيان: وجاء أولاً «مرسلون» بغير لام، لأنه ابتداء إخْبار، فلا يحتاج إلى توكيد، وبعد المجاورة «لَمُرْسَلُونَ» بلام التوكيد، لأنه جواب عن إنكارٍ.
قال شهاب الدين: «وهذا قصور عن فهم ما قاله أهل البيان، فإنه جعل المقام الثاني - وهو الطلبي - مقام المقام الأول وهو الابتدائي» .
قوله: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} جعلوا كونهم بشراً مِثلهم دليلاً على عدم الإرسال. وهذا عام في المشركين قالوا في حق محمد عليه (الصلاة و) السلام: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] وإنما ظنُّوه دليلاً بناء على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار وإنما قالوا: إنه موجب بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن (الرجحان) فرد الله تعالى عليهم بقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وبقوله: {الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13](16/184)
إلى غير ذلك. ثم قالوا: «وَمَا أَنْزَل الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ» وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مُتمِّماً لما ذكرو (هـ) فيكون الكل شبهةً واحدة، والمعنى وما أنزل الله إليكم أحداً فكيف صرتم رسلاً؟ {
والثاني: أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة وهي أنهم لما قالوا: أنتم بشر مثلنا، فلا يجوز رُجْحَانُكم علينا. ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المُرْسَلِين ثم قولا شبهة أخرى من جهة المرسِل وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئاً في هذا العالم، فإن تصرفه في العالم العلوي فاللَّهُ لم ينزل شيئاً من الأشياء في الدينا فكيف أنزل إليكم؟} .
وقوله تعالى: {الرحمن} إشارة إلى الرد عليهم، لأن الله تعالى لما كان رَحْمنَ الدُّنْيَا، والإرسال رحمة فيكف لا ينزل رحمته وهو رَحْمن؟! ثم قال: «إنْ أَنْتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ» أي ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون «إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِم اثْنَيْنِ» قال وهب: اسمهما يحيى وبولس «فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا» برسول «ثَالِثٍ» وهو شمعون وقال كعب: الرسولان صَادِق وصدوق والثالث سلوم. وإنما أضاف الله الإرسال إليه، لأن عيسى عليه (الصلاة و) السلام - إنما بعثهم بأمرهم عَزَّ وَجَلَّ -.
قوله: {قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} وهذا إشارة إلى أنهم مجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا بل أعادوا ذلك لهم، وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين {قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} وأكدوه باللام لأن علم الله يجري مَجْرَى القسم، كقوله:
{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] أي هو عالم بالأمور «وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاَغُ المُبِينُ» وذلك تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا عن عُهْدَةِ ما علينا هو البَلاَغ وقوله «المبين» أي المبين الحق عن الباطل وه والفارق بالمعجزة والبُرهان؛ إذ البلاغ المظهر لما ارسلنا إلى الكل أي لا يكفي أن يبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين. أو المظهر للحق بكل ما يمكن فإذا لم يقبلوا الحق فهنالك الهلاك فما كان جوابهم بعد ذلك إلا قولهم: «إنا تَطَيَّرْنا بِكُمْ» أي تَشَاءمنا بكُمْ وذلك أن المطر حُبِسَ عنهم فقالوا أصابنا هذا بشؤمِكُمْ «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمنَّكُمْ» لنقتلنّكم قاله قتادة.
وقيل: لنشتمنّكم «وليمسنكم منا عذاب أليم» فإن فسرنا الرجم بالحجارة فيكون(16/185)
قولهم: «وليمسنكم منا عَذَابٌ أَلِيمٌ» كأنه قالوا: لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم أو يكون المراد: ولَيَمسَّنَّكُمْ بسبب الرجم منَّا عذاب أليم أي مُؤْلِم.
وإن قلنا: الرجم الشتم فكأنهم قولوا ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحِسِّيِّ. إذا فسرنا «أليم» بمعنى مؤلم فالفَعِيلُ بمعنى مُفْعِل قليلٌ.
ويحتمل أن يقال: هو من باب قوله: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أي ذاتِ رِضَا أي عذابٌ ذُو ألَمٍ، فيكون فعلي بمعنى فَاعِلٍ وهو كثيرٌ.
ثم أجابهم المرسلون فقالوا «طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ» أي شؤمكم معكم، أي كُفْركُمْ.
قوله: «طائركم» العامة على «طائِر» اسم فاعل أي ما طَارَ لكم من الخير والشر، فغبر به عن الحظ والنصيب وقرأ الحسن - فيما روى عنه الزمخشري «اطَّيْرُكُمْ» مصدر اطَّيَّرَ الذي أصله تَطَيَّرَ، فلما أريد إدغامه أبدلت الفاء طاء وسكنت واجتلبت همزة الوصل وصار اطَّيَّر، فيكون مصدره «اطَّيَّاراً» .
ولما ذكر أبو حيان هذا لم يرد عليه وكان (هو) في بعض ما رد به على ابن مالك(16/186)
في شرح التسهيل في باب المصادر أن مصدر «تَطَيَّر وتَدَارأ» إذا أدغما وصار «اطَّيَّر وادَّارأ» لا يجيء مصدرهما علهيما، بل عل أصلهما، فيقال: اطَّيَّر تَطَيُّراً، وادَّارأَ تَدَرُءاً. ولكن هذه القراءة تَردُّه إنْ صحت وهو بعيدٌ.
وقد روى غيره طَيْرُكُمْ بياء ساكنة ويغلب على الظن أنها هذه وإنما تصحفت على الرواي فحسبها مصدراً وظن أن ألف «قالوا» همزةُ وَصْلٍ.
قوله: {أَإِن ذُكِّرْتُم} قرأ السبعة بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية وهم على أصولهم من التسهيل والتحقيق، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه في سورة (البقرة) واخْتَلَفَ سيبويه ويونسُ إذا اجتمع استفهام وشرط أَيُّهُما يُجَابُ؟ فذهب سيبويه إلى أجابة الاستفهام، ويونُس إلى إجابة الشرط.
فالتقدير عند سيبويه أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ تَتَطَيُّرُون وعند يونس تَطَيُّرُوا مجزوماً(16/187)
فالجواب للشرط على القولين محذوف.
وقد تقدم هذا في سورة الأنبياء. وقرأ أبو جفعر وطلحة وزِرّ بهمزتين مفتوحتين، إلاَّ أنَّ زِرّاً لم يسهل الثانية، كقوله:
4172 - أَإِنْ كُنْتَ بْنَ أَحْوَى مُرَحَّلاً ... فَلَسْتَ برَاعٍ لابْن عَمِّكَ مَحْرَمَا
وروي عن أبي عمرو وزرِّ أيضاً كذلك، إلا أنها فصلاً بأَلِفٍ بني الهَمْزَتَين وقرأ المَاجَشُون (بهمزة) واحدة مفتوحة.
وتخرج هذه القراءات الثلاث على حذفلام العلة أي (أَ) لأَنْ ذُكّرْتُمْ تَطَيِّرْتُمْ ف «تطيرتم» هو المعلول، وأن ذكرتم عليته. والاستفهام منسحب عليهما في قراءة الاستفهام. وفي غيرها يكون إخبار بذلك. وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسروة وهي شرط من غير استفهام، وجوابه محذوف أيضاً. وقرأ الأعمش والهَمْدَانيُّ أين ذكرتم فطائركم معكم أو صُحْبَتُكُمْ طائركم، لدلالة ما تقدم من قوله: {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} ومن يجوز تقديم الجواب لا يحتاج إلى حذف.(16/188)
وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصْمَعِيُّ عن نافع ذُكِرْتُمْ بتخفيف الكاف.
فصل
قوله: «أئن ذكرتم» جواب عن قوله: {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} أي أتفعلون بنا ذلك وإن ذكرتم أي وعظتم بالله وبين لكم الأمر بالمعجز والبُرْهان «بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ» مشركون مجاوزون حيث تجعلون ما يُتَبرَّكُ به يتشاءم بِهِ وتقصدون إيلام من يجب إكرامه، أو مسرفون حيث تكفرون ثم تُصِرُّونَ بعد ظهور الحق بالمُعْجِزة والبُرهان.
فإن قيل: (بل) للإضراب فما (الأمر) المضروب عنه؟
فالجواب: يحتمل أن يقال قوله: أَئِنْ ذُكِّرتم واردة على تكذيبهم فإنهم قالوا: نحن كاذبون وإن جئنا بالبرهان لا بل قوم مسرفون. ويحتمل أن يقال: أنحن مشؤومون وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه لا بل أنتم قوم مسرفون. ويحتمل أن يقال: أنحن مستحون الرجم والإيلام وإن بينا صحَّةَ ما أتينا به لا بل أنتم قوم مسرفون.
فصل
ذكر المفسرون أن عيى - عليه (الصلاة و) السلام - بعث رجلين إلى أهل أنطاكية فَدَعَوَا إلى توحيد الله وأظهرا المعجزة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فحبسهم الملك فأرسل بعدهما شمْعُون، فأتى الملك، ولم يدع الرسالة وقرب نفسه من الملك بحسن التدبير، ثم قال: إني أسْمَعُ (أنَّ) في الحبس رَجُلَيْنِ يَدِّعيَا (نِ) أمراً بديعاً أفلا يحضران نسمع كلامهما؟ فقال الملك: بلى فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقَّةَ فقال شمعون: وهل لكما بيِّنَةٌ؟ قالا: نعم فأبرءا الأكمه والأبرص وأَحْيَيا الموتى. فقال شمعون: يا أيها الملك: إن شئت أن تَغْلِبَهم فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئاً من ذلك فقال له الملك أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فقال شمعون: فَإذَنْ ظهر لي الحق من جانبهم فآمن الملك (وقوم) وكفر آخرون. وكانت الغلبة للمكذبِينَ.(16/189)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
قوله: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} في تعلقه بما قبله وجهان:
أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث أمن بهم الرجل الساعي. وعلى هذا فقوله: «مِنْ أَقْصَى المَدِينَة» فيه بلاغة باهرة لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل و (هو) قد آمن دل على (أن) إنذارهم وإبلاغهم بلغ إلى أقصى المدينة.
والثاني: أن ضرب المثل لما كان لتسلية قلب محمد - عليه (الصلاة و) السلام - ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعي المؤمنين في تصديق أنبيائهم، وصبرهم على ما أوذوا، ووصول الجزاء الأوفر إليهم ليكون ذلك تسليةً لقلب أصحاب محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
قوله: {رجل يسعى} في تنكير «الرجل» مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان:
الأولى: أن يكون تعظيماً (لشأنه) أي رجل كامل في الرجولية.
الثانية: أن يكون مفيداً ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال: إنهم تواطئوا والرجل هو حبيب النَّجار كان ينحت الأصنام. وقال السدي: كان قصاراً وقال وهب: كان يعمل الحرير وكان سقياً قد أسرع فيه الجُذَامُ وكان منزلة عند أقصى باب المدينة وكان مؤمناً آمن بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله، ورأى فيه نعت محمد وبعثته وقوله: «يسعى» تصيرٌ للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جَهْدَهم في النُّصْحِ.
قوله: {قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين} تقدم الكلام في فائدة قوله: «يا قوم» عند(16/190)
قوله موسى: {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] .
فإن قيل: هذا مثل مؤمن آل فرعون {وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون} [غافر: 38] وهذا قال: «اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ» فما الفرق؟ .
فالجواب: هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السَّبِيلَ وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مراراً فقال: «اتَّبِعُونِي في الإيمان بمُوسى وهَارُونَ - عليهما (الصلاة و) السلام - واعلموا أنه لو لم يكن خيراًلما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته» ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول: أنتم تعلمون اتّباعي لهم. واعلم أنه جمع بين إظهار النصيحة وإظهار إيمانه فقوله: «اتبعوا» نصيحة وقوله: «المرسلين» إظهار إيمانه وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعياً في النصيحة وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله: «يسعى» على إرادته النصح.
قوله: {مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} بدل من «المرسلين» بإعادة العامل إلا أن أبا حيان قال: النحاة لا يقولون ذلك إلا إذا كان العامل حرف (جر) وإلا فلا يسمونه بدلاً بل تابعاً وكأنه يريد التوكيد اللفظي بالنسبة إلى العامل.
فصل
هذا الكلام في غاية الحسن لأن لما قال اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونَهُمْ مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة الاستقامة والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه والامتناع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين إما لطالب الدليل الأجرة وإما عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريق المستقيمة الموصولة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين أليسوا بمهتدين فاتبعوهم.
قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} أصل الكلام وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عليهم ليكون الكلام أسرع قبولاً ولذلك جاء قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} دون «وإليه أَرْجِعُ» وقوله {أَأَتَّخِذُ} مبني على كلام الأول وهذه الطريقة أحسن من ادِّعاء(16/191)
الالتفات وقرأ حمزةٌ ويعقوبُ ما لي بإسكان الياء والآخرون فتحها واعلم أن قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ} أَيْ أيُّ مانع من جانبي وهذا إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه فمن يمنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جَرَمَ عبدته وفي العدول من مخاصمة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى وهي أنه لو قال: ما لكم لا تعبدون الذي فطركم «لم يكن في البيان مثل قوله: {وَمَا لِيَ} لأنه لو قال:» وَمَالِي «وأحد لا يخفى عليه (حال) نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعمل بحال نفسه فهو بين عدم المانع وأما لو قال:» وَمَا لَكُمْ «جاز أن يفهم (منه) أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه، وقوله: {الذي فَطَرَنِي} إشارة إلى وجود المقتضي، فإن قوله:» وَمَا لِي «إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضي فقوله: {الذي فَطَرَنِي} دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعمٌ بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته. وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه واختار من الآيات فطرة نفسه لأن خَالِقَ عَمْرو يجب على زيدٍ عبادتُه لأن من خلق عمراً (لا يكون إلا) كامل القدرة واجب فهو مستحق العبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على» زيد «بخلق» زيد «أظهر إيجاباً
فصل
أضافَ الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم كأن الفطرة أثر النعمة وكان عليه أظهر وفي الرجوع معنى الشكر وكان بهم أليق. روي أن لما قال: اتبعوا المرسلين أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له:» أَفَأَنْتَ تَتَّبِعُهُمْ «؟ فقال: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي أي شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم.
ومعنى فطرني: خلفني اخترعاً ابتداء. وقيل جعلني على الفطرة(16/192)
كما قال تعالى: {فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} [الروم: 30] .
قوله: {أَأَتَّخِذُ} استفهام بمعنى الإنكار، أي لا أتخذ من دونه آلهةً و «مِنْ دُونِهِ» يجوز أن يتعلق «بأَتِّخِذُ» على أنها متعدية لواحد وهو «آلهة» ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «آلهة» وأن يكون مفعولاً ثانياً قدم على أنها المتعدية لاثنين.
فصل
في قوله: «من دونه آلهة» لطيفة وهي أنه لما بين أنه يعبد الذي فطهر بين أن مَنْ دُونَهُ لا يجوز عبادة لأن الكل محتاجٌ مفتقرٌ حادثٌ وقوله: {أَأَتَّخِذُ} إشارة إلى أن غيره ليس بإلَهِ لأن المتخذ لا يكون إلهاً قوله: «إنْ يُرِدْنِي» شرط جوابه «لاَ تُغْنِ عَنِّ» والجملة الشرطية في محل نصب صفة «لآلهةٍ» وفتح طلحة السَّلْمَانِي - وقيل: بِضُمر بمعنى إن يُورِدْنِي ضُرًّا أي يجعله مَوْرداً للضر قال أبو حيان: وهذا والله اعلم رأى في كتب القراءات بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعدياً بالياء المعدية كالهمزة فلذلك دخل همزة التعدية فنصب به اثنين والذي في كتب القراءات الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطًّا ونطقاً لالتقاء الساكنين قال(16/193)
شهاب الدين: وهذا رجل ثِقَةٌ قد نقل هذا لاقراءة فتقبل منه.
فإن قيل: ما الحِكْمَةُ في قوله {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ} ولم يقل: إنْ يُرِد الرَّحْمَنُ بِي ضُرًّا وكذلك قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38] ولم يقل: إن أَرَادَ اللُّهُ بي ضُرًّا؟ .
فالجواب: أن الفعل إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بالحرف كالأمر تعدى بالحرف في قولهم: ذَهَبَ به وخَرَجَ به. ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولاً بحرف فإذا قال القائل مثلاً: كيف حال فلان؟ يقول: اختصه الملكُ بالكرامة والنعمة. فإذا قال: كيف كرامة الملك؟ يقول: اختصها بزيد فيقول المسؤول مفعولاً بغير حرف؛ لأنه هو المقصود وإذا تقرر هذا فالمقصود فيما نحن فيه: بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البُؤْسِ والرَّخاء وليس الضر مقصود بيانه كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله ويُؤَيِّد هذا قولُه مِنْ قَبْل: «الَّذِي فَطَرَنِي» حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فلذلك جعلها مفعول الإرادة ووقع الضر تبعاً وكذلك القول في قوله: «إنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بضُرِّ» المقصود بيان أنه يكون كما يريده الله (وليس الضر) لخصوصيته مقصوداً بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال الله تعالى:
{سَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] يعني هو تحت إرادتِهِ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله هنا: «إن يُرِدْني الرحمن» بصيغة المضارع وقال في الزمر: {إِنْ أَرَادَنِيَ الله} [الزمر: 38] بصيغ الماضي وذكر المريد هنا باسم الرحمن وذكر المريد هناك اسم الله؟ .
فالجواب أن الماضي والمستقبل مع لاشرط يصير الماضي والمستقبل مع الشرط يصير الماضي مستقبلاً لأن المذكور هنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله: {أَأَتَّخِذُ} وقوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ} والمذكرو هناك من قبل بصيغة الماضي قوله: {أَفَرَأَيْتُم} [الزمر: 38] .(16/194)
قوله: {لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئا} [يس: 23] أي إن يَمْسَسْنِي اللَّهُ بضرِّ أي بسوء ومكروه لا تُغْنِ شفاعتهم شيئاً أي لا شفاعة لها فتغني «ولا يُنْقِذُونِ» من ذلك المكروه أو لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن فعلت ذلك. قوله تعالى: {إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي خطأ ظهار إن فعلت ذلك فأنا ضالٌّ ضلالاً بيناً. و «المُبِينُ» مُفْعِل بمعنى «فَعِيل» وعكسه «فَعِيلٌ» بمعى مُفْعِل في قوله «أليم» بمعنى مؤلم.
قوله: {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} فيه وجوه:
أحدها: أنه خطاب المرسلين. قال المفسرون: أقبل القوم عليه يريدون قلته فأقبل هو للمرسلين وقال: إنِّي آمن بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُوا قولي واشهدوا لي.
والثاني: هم الكفار لمَّا نصحهم وما نفعهم قال آمنت فاسمعون.
الثالث: بركم أيها السامعون فاسمعوني على العموم كقول الواعظ: يا مِسْكينُ ما أَكْثَرَ أَمَلَك (وما أتْرَرَ عَمَلَك «يريد كل سامع يسمعه وفي قوله» فَاسْمَعُونَ «فوائد منها: أنه كلام متفكر حيث قال: اسمعوا فإن المتكلم إذا كان يعمل أن لكلامه جماعةً سامعين يتفكر، ومنها أن ينبه القوم ويقول: إن أخبرتكم بما فعلت حتى لا يقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرته لآمنا معك.
فإن قيل: قال من قبل: مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الِّذي فطرني، وقال ههنا: آمنتُ بربكم ولم يقل: آمن بربي!؟ فالجواب: إن قلنا: الخطاب مع الرسل فالأمر ظاهر لأنه لما قال: آمنتُ برَبِّكُمْ ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه وقال» بِرَبِّكُمْ «وإن قلنا: الخطابُ مع الكفار ففيه (وجوه) بيان للتوحيد لأنه لما قال:» أعبد الذي فطرني «ثم قال:» آمنت بربكم فاسمعون «فُهِمَ أنه يقول: ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم بخلاف ما لو قال: آمن بربي فيقول الكافر: وأنا أيضاً آمنت بربي.
قوله: {فاسمعون} العامة على كسر النون وهي نون الوقاية حذفت بعدها ياء الإضافة مُجتزءاً عنْهَا بكسرة النون وهي اللغة الغالية. وقرأ عِصْمَةُ عن عصم(16/195)
بفتحها وليست إلا غلط (على عاصم) ، إذ لا وجه (لها) وقد وقع لابن عطية وَهَمٌ فاحش في ذلك فقال: وقرأ الجمهور بفتح النون وقال أبو حاتم: هذا خطأ فلا يجوز لأنه أمر فإما حذف النون وإما كسرها على جهة الياء عين ياء المتكلم، وقد يكون قوله:» الجمهور «سبقَ قلم منه أو من النساخ وكان الأصل: وقرأ غيرُ الجمهور فسقط لفظة» غيره « (و) قال ابن عطية حذف من الكلام ما تواترت الأخبار والروايات به وهو أنهم قتلوه فقيل له عند موته: ادْخُلِ الجَنَّة بَعْدَ القتل وقيل: قوله: (قِيلَ) ادخل الجنة عطف على قوله: {آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} فعلى الأول يكون قوله: {ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ} بعد موته والله أخبر بقوله، وعلى الثاني قال ذلك في حياته وكان يسمع الرسل يقولون إنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقعطع به.
قوله: (قَال) يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ «كما علمت فيؤمنون كما آمنت وقال الحسن خرقوا خرقاً في حَلْقِهِ وعلقوه في سرو المدينة وقره بأنطاكية فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق، فذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ:» قِيلَ ادْخُل الجَنَّة «فلما أقضى إلى الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي أي بغرانربي لي وجعلين من المكرمين. قوله: {بِمَا غَفَرَ لِي} يجوز في (ما) هذه ثلاثة أوجه: المصدرية كما تقدم والثاني: أنها بمعنى الذي والعائد محذوف أي بالذي غفره لي ربي واسْتُضْعِفَ هذا من حيث إنه يبقى معناه أنه تمنى أن يعمل قومه بذنبوه المغفورة. ولي المعنى على ذلك إنما المعنى على تَمَنِّي علمهم بغفران رَبِّه ذُنُوبَه والثالث: أنها استفهامية وإليْهِ ذَهَبَ الفرّاء ورده الكسائي بأنه كان(16/196)
ينبغي حذف ألها لكونها مجرورة وهو رد صحيح وقال الزمخشري الأجود وطرح الألف والمشهور من مذهب البصريين وجوب حذف ألها كقوله:
4173 - (عَلاَمَ يقُولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ عَاتِقِي ... إِذَا أَنَا لَمْ أَطْعُنْ إذَا الخَيْلُ كَرَّتِ
إلاَّ في ضرورة كقول الشاعر) .
4174 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئيمٌ ... كَخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادٍ
وقرئ من المكرمين بتشديد الراء.(16/197)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
قوله (تعالى) : {وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء} لما تمنى أن(16/197)
يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل فلما قتل حبيب غضب الله وعجل لهم النَّقْمة وأمر جبريل - عليه (الصلاة و) السلام - فصاح بهم صيحةً واحدةً فماتوا عن آخرهم فذلك قوله: {وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء} يعني الملائكة.
قوله: «وما كنا منولين» في (ما) هذه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنها ناقية كالتي قبلها فتكون الجملة الثانية جارية مَجْرى التأكيد للأولَى.
والثاني: أنها مزيدة قال أبو البقاء: اي وقد كنا منزلين وهذا لا يجوز البتة لفساده لفظاً ومعنى.
الثالث: أنها اسم معطوف على «جُنْدٍ» قال ابن عطية: أي من جند من الذين كُنَّا مُنْزِلينَ وردّه أبو حيان بأن «مِنْ» مزيدة، وهذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب جار لمعرفة ومذهب البصريين غير الأخفش أن يكون الكلام غير موجب وأن يكون المجرور نكرة، قال شهاب الدين: فالذي ينبغي عند من يقول بذلك (أن) يقدرها بنكرة أي: ومن عذاب كُنَّا مُنْزليه والجملة بعضها صفة لها وأما قوله إن هذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب فليس بصحيح البتة وتعجَّبْتُ كَيْفَ يَلْزُم ذَلِكَ؟! .
فصل
قال ههنا «وما أنزلنا» بإسناد الفعل إلى النفس، وقال في بيان حال المؤمن: «قِيلَ ادْخُل الجَنَّة» بإسناد القول إلى غير مذكور لأن العذاب من الهيئة فقال بلفظ التعظيم وأما إدخال الجنة فقال: قيل: (ليكون كالمهنأ بقول الملائكة وبقول كل صلاح يراه ادخل الجنة خالداً كالتهنئة له، وكثيراً ما ورد) في القرآن قوله تعالى: «وقيل ادخلوا» إشارة إلى أن الدخول يكون دخولاً بإكْرَامِ. فإن قيل: لم أضاف القوم إليه مع أن الرسل أولى بكون الجمع قوماً لهم لأن الرسول لكونه مرسلاً يكون جميع الخلق أو جميع من أرسل إليهم قوماً لهم؟ .(16/198)
فالجواب: تبين الفرق بينه وبنيهم لأنهما من قبيلة واحدة وأيضاً فالعذاب كان مختصاً بهم أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأُهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر ونسبهما نم قبلية واحدة وأيضاً فالعذاب كان مختصاً بهم وهم أقاربه لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يُصِبْهُم العذاب.
فإن قيل: لم خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جنداً قبله أيضاً فما فائدة التخصيص؟ .
فالجواب: أن استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الإهلاك.
فإن قيل: قال: «من السماء» وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جنداً من الأرض فما فائدة التقييد؟ .
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد ما أنزل عليهم جنداً بأمر من السماء فتكون للعموم.
والثاني: أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جنداً وإنما كان بصيحة أخذتهم وخربت ديارهم.
فإن قيل: أي فائدة في قوله: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} مع قوله: {وَمَآ أَنزَلْنَا} وهو يستلزم أن لا يكون من المنزلين؟ .
فالجواب: أنه قوله: «وما كنا» أي ما كان ينبغي أن ينزل لأن الأمر كان يتم بدون ذلك والمعنى وما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى الإنزال أو وما أنزلنا وما كمنا منزلين في مثل تلك الواقعة جنداً في غير تلك الواقعة أي وما أنزلنا على قومه من بعده أي على قوم حبيب من بعد قتله من جنده وما كنا منزلين ما ننزله على الأمم إذا أهلكناهم كالطُّوفَانِ والصَّاعِقَةِ والرِّيح.
فإن قيل: فكيف أنزل الله جنوداً في يوم «بدر» وفي غير ذلك حيث قال تعالى: {رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] .
فالجواب: أن ذلك تعظيماً لمحمد - عليه (الصلاة والسلام) وإلاَّ لكان تحريك رِيشَةٍ من جَنَاح ملكٍ كافياً في استئصالهم ولم تكن رسل (عيسى) عَلَيْهِ الصَّلَاة(16/199)
وَالسَّلَام ُ في درجة محمد عليه السلام ثم بين الله تعالى عقوبتهم فقالك «إنْ كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحَدِةً» .
قوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً} العامة على النصب على أنَّ «كان» ناقصة واسمها ضمير الأَخْذ لدلالة السِّياق عليها و «صَيْحَةً» خبرها وقرأ أبو جعفر وشيبَةُ ومُعاذ القَارئ برفعها على أنها التامة أي إن وَقَعَ وحَدَثَ وكان ينبغي أن لا يلحق تاء التأنيث للفصل «بإلا» بل الواجب في غير ندور واضطرار حذف التاء نحو: مَا قَامَ إلاَّ هِنْدٌ وقد شذ الحسن وجماعة فقرأوا: {لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقوله:
4175 - ... ... ... ... ... ... وَمَا بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ
وقوله:
4176 - مَا بَرِئَت مِنْ رِيبَة وَذَمّ ... فِي حَرْبِنَا إلاَّ بَنَاتُ العَمّ
قال الزمخشري: أصله إن كان شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر لكنه تعالى أنّث لما بعده من المفسر وهو الصيحة وقوله: «وَاحِدَةٌ» تأكيد لكون الأمر هيّناً عنده وقوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُون} إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة في وقتها لم يتأخر ووصفهم بالخمود في غاية الحسن لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك أما الغضب.(16/200)
فإنهم قتلوا مؤمناً كان ينصحهم وأما الشهوة فلأنهم احتلموا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الخالية فإذن كانوا كالنار الموقَدَة لأنهم كانوا جبارين ومستكبرين كالنار ومن خلق منها «فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ» ميتِّون. قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم صح بهم صيحة واحدة فإذا هُمْ خامدن ميتون.
قوله
: {ياحسرة
} العامة على نصبها وفيه وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة على المصدر والمنادى محذوف تقديره يا هؤلاء تَحسَّرُوا حَسْرَةً.
والثاني: أنها منونة لأنها منادى منكر فنصبت على أصلها كقوله:
4177 - فَيَا رَاكِباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغاً ... نَدَامَاي مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقِيَا
ومعنى النداء هنا على المجاز، كأنه قيل: هذا أوانك فاحضري وقرأ قتادة وأبيّ - في أحد وجهيه - يا حسرة بالضم جَعَلها مقبلاً عليها وأبيّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحُسَيْن «يَا حَسْرَةً العِبادِ» بالإضافة فيجوز أن تكون مضافاً لفاعله أي تَتَحَسَّرُونَ على غيرهم لما يرون من عذابهم وأن يكون مضافاً لمفعوله أي يَتَحَسَّرُ عليهم (من) غيرهم. وقرأ أبو الزناد وابن هُرْمز وابن جُنْدُب «يا حَسْرَهْ» بالهاء ((16/201)
المهملة) المبدلة من تاء التأنيث وصلاً وكأنهم أَجْروا الوَصْل مُجْرَى الوقف وله نظائر مرت وقال صحب اللوامح وقفوا بالهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التَّاهَةِ بمعنى التأوه ثم وصلوا على تلك الحال وقرأ ابن عباس أيضاً: يا حَسْرَة بفتح التاء من غير تنوين ووجهها أن الأصل يا حسرتا فاجتزئ بالفتحة عن الألف كما اجتزئ بالكسرة عن الياء ومنه:
4178 - وَلَسْتُ براجِعِ مَا فَاتض مِنِّي ... بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لَوَانِّي
أي بلهفها بمعنى لهفي وقرئ: يا حَسْرتَا بالألف كالتي في الزمر وهي شاهدة لقراءة ابن عباس وتكون التاء لله تعالى، وذلك على سبل المجاز دلالة على فرط هذه الحسرة وإلا فاللَّه تعالى لا يوصف بذلك قوله: «مَا يَأْتِيهِمْ» هذه الجملة لا محل لها لأنها مفسِّرة لسبب الحسرة عليهم وهذا الضمير يجوزأن يكون عائداً إلى قوم حبيب أي ما يأتيهم من رسول من الرّسلِ الثلاثة. ويجوز: أن يعود إلى الكفار المصرين وقوله: «إلاَّ كَانُوا» جملة حالية من مفعول «يَأْتِيهِمْ» .(16/202)
فصل
الألف واللام في العبادة قيل: للعهدوهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك. وقيل: لتعريف الجنس أي جنس الكفار المكذبين وقيل: المراد بالعبادة الرسل الثلاثة كأنه الكافرين يقولون عند ظهور اليأس يا حسرةً عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين لنؤمن بهم ثانياً وهم قوم (حبيب) وفي التحسر وجوه:
الأول: لا متحسر أصلاً في الحقيقة إذا المقصودُ بيانُ (أن) ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عن تحقق العذاب وههنا بحث لغوي وهو أن المفعول قد يرفض كثيراً إذا كان الغرض غير متعلق به يقال: فلان يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء مُعْطًى ولا شخص معطى، إذا المقصود أن له المنع والإعطاء، ورفض المفعول كثير وما نحو فيه رفض الفاعل وهو قليل. والوجه فيه أن ذكر التحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في خلال الوقت.
الثاني: أن القائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيماً لللأمر وتهويلاً له وحينئذ يكون كالألفاظ التي وردت في حقل اله كالضِّحِك والسُّخْرية والتعجيب والتّمنِّي.
أو يقال لي معنى قوله يا حسرة أو يا ندامة أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أنه مخبرٌ عن الوقوع وقوع الندامة ولا يحتاج إلى التجوز في كونه تعالى قائلاً يا حسرة بل تجْريه على حقيقته إلا في الندامة فإن النداء مجاز والمراد الإخبار.
الثالث: أن المتلهفين من المسلمين والملائكة لما حكى عن حبيب أنه حين القتل كان يقوله اللَّهم اهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال يا ليت قومي علمون فيجوز أن يتحسر المسلم لكافر ويندم له وعليه وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هذا سبب الندامة.
فصل
قال الزهري الحسرة لا تدعى، ودعاءها تنبيه للمخاطبين، وقيل العرب تقول: يا حَسْرَتَا ويا عَجَبَا على طريق المبالغة. والنداء عندهم بمعنى التنبيه فكأنه يقول: أيها العجبُ هذا وقتُكَ وأيتها الحسرة هذا أوَانُكِ وحقيقة المعنى أن هذا زمان الحسرة والتَّعَجُّب(16/203)
قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا} لما بين حال الأولين قال للحاضرين: ألَمْ يَرُوا الباقون ما جرى على من تقم منهم قوله: «كم أهلكنا» كم هنا خبرية فهي فعول بأهلكنا «تقديره كثيراً من القرون أهلكنا وهي مُعَلِّقة» ليَرَوْا «ذهاباً بالخبرية مذهب الاستفهامية، وقيل: بل» يَرَوا «علمية» وكم «استفهامية كما سيأتي بيانه و» أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يرجعون «فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من» كم «قال ابن عطية و» كم «هنا خبرية و» أنهم «بدل منها، والرؤية بصرية قال أبو حيان وهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية (كانت) في موضع نصب» بأهلكنا «ولا يسوغ فيها إلا ذلك وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون» أنهم «بدلاً منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت» أهلكنا (هم) «على» أنهم «لم يصح ألا ترى أنك لو قلت: أهلكنا انتفى رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون لم يكن كلاماً لكنَّ ابْنَ عطية توهم أن (يَرُوْا) مفعولة» كم «فتوهم أن قوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بدل منه لأنه لا يسوغ أن يسلط عليه فتقول: ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون. وهذا وأمثاله دليل إلى ضعفه في (عِلْم) العربية قال شهاب الدين: وهذا الإنحاءُ عليه تحامل عليه لأنه لقائل أن يقول: كم قد جعلها خبرية والخبرية يجوز أن تكون معمولة لما قبلها عند قوم فيقولون:» مَلَكْتُ كم عبدٍ «فلم يلزم الصدر فيجوز أن يكون بناء هذا التوجيه على هذه اللغة وجعل» كم «منصوبة» بيَرَوا «و» أنهم «بدل منها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذ.(16/204)
الثاني: أن «أنَّهُمْ» بدل من الجملة قبله الزجاج وهو بدل من الجملة والمعنى ألم يروا أن القرون التي أهلكناهم أنهم لا يرجعون لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى قال أبو حيان ولي بشيء لأنه ليس بدلاً صناعياً وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صناعة النحو قال شهاب الدين: بل هو بدل صناعي لأن الجملة في قوة المفسر إذ هي سادة مسد فعلوي «يروا» فإنها معلقة لها كما تقدم.
الثالث: قال الزمخشري: أَلَمْ يَرَوا الم يعلموا وهو معلَّقٌ عن العمل في «كَمْ» لأن «كم» لا يعمل فيها عامل قبلها سواه كانت للاستفهام (أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام) إلا أنَّ معناها نافد في الجملة كما نفذ في قولك: (ألَمْ يَرَوْا) إن زيداً لمُنْطَلِقٌ و «أن» لم يعمل في لفظه و «أنَّهُمْ إِلَيْهمْ لاَ يَرْجِعُون» بدل من «كَمْ أهلَكْنَا» على المعنى لا على اللفظ تقديره: ألم يروا كَثْرَة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم.
قال أبو حيان قوله «لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر» ليس على إطلاقه لأن إذا كانَ حرف جر أو اسماً مضافاً جاز أن يعمل فيها نحو: عَلَى كَمْ جِذْع بَيْتُكَ؟ وأيْن كم رئيس صَحِبْتَ؟ كَمْ فَقير تَصَدَّقْت أرجو الثواب؟ وأين كم شهيد في سبل الله أحسنت إليه. وقوله أو الخبرية الخبرة فيها لغة الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار، واللغة الأخرى حكاها الأخفض يقولون: مَلَكْت كَمْ غُلاَم اي ملكت كثيراً من الغِلمان فكما يجوز تقدم العامل على كثيراً كذلك يجوز على «كم» لأنها بمعناها. وقوله: لأنها أصلها الاستفهام والخبرية ليس اصلها الاستفهام بل كل واحدة أصل ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر وقوله: لأن معناها نافذ في الجملة يعني معنى «يَرَوْا» نافذ في الجملة لأنه جعلها معلقة وشرح «يروا»(16/205)
بيعلموا، وقوله: كما نفذ في قولك: «أَلمَمْ يَرَوا إِنًّ زيداً لَمُنْطلِقٌ» يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظ لامتنع دخول اللام ولفتحت «أن» فإن «إن» التي في خبرها اللام من الأدوات المعلقة لأفعال القلوب، وقوله: {أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ} إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلاً على اللفظ ولا على المعنى أما على اللفظ فإن زعم أن «يروا» معلقة فتكون كم استفهامية فيه معمولة «لأهْلَكْنَا» و «أهلكنا» لا يتسلط على «أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ» كما تقدم.
وأما على المعنى فلا يصح أيضاً لأنه قال تقديره: أي على (هذا) العنى ألميروا كثرة إهلاكنا القرونَ من قبلهم كَوْنَهم غيرَ راجعين إليهم. فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك فلا يكون بدل كل من كل وليس بعض الإهلاك فلا يكون (بدل بعض من كل ولا يكون) بدل اشتمال لأن بدل الاشتمال يصيح أنْ يُضَافَ إلى ما أبدل منه وكذلك بدل بعض من كل وهذا لا يصيح هنا لا نقول: ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم وفي بدل الاشتمال نحو: أعجبتني الجارية ملاحتها وسُرقَ زيد ثوبُه يصح أعجبتني ملاحةُ الجارية وسُرق ثَوْبُ زَيْدٍ.
الرابع: أن يكون أنهم بدلاً من موضع «كم أهلكنا» والتقدير ألم يروا أنهم إليهم قاله أبو البقاء ورده أبو حيان بأن «كم أهلكنا» لي بمعمول «ليروا» قال شهاب الدين: وقد تقدم أنها معمولة لها على معنى أنه معلقة لَهَا.
الخامس: وهو قول الفراء: أن يكون «يروا» علاماً في الجملتين من غير إبدال ولم يبين كيفية العمل وقوله الجملتين يجوز لأن «أنهم» ليس بجملة لتأويله بالمفرد إلا أنه مشتمل على مُسْنَدٍ ومُسْنَدٍ إليه.
السادس: (أن) «أنَّهُم» معمول لفعل محذوف دل عليه السِّيَاق والمعنى تقديره: قَضَينَا وحَكَمْنَا أنَّهُمْ إليهم لا يرجعون ويدل على صحة هذا قول ابنِ عباس والحسن إنَّهُمْ بكسر الهمزة على الاستئنانف والاستئناف قطع لهذه الجملة عما قبلها فهما(16/206)
مقولان تكون معمولة لفعل محذوف يقتضي انقطاعها عما قبلها والضمير في «أنهم» عائد على معنى كم، وفي «إليهم» عائد على ما عاد عليه واو «يَرَوا» (وقيل: بل الأول عائد على ما عاد عليه واو يَرَوْا «والثاني عائد على المُهْلَكِينَ.
فصل
المعنى ألم يخبروا أهل مكة كم أهلكنا قبلهم من القرون والقرن أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ سموا بذلك لاقترانهم في الوجود أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعبترون وقيل: لا يرجعون أي الباقون لا يرجعون إلى المُهْلَكين بنسب ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أنَّ الإهلاك الذي يكون مع قطع النّيل أتم وأعم والأول أشه نقلاً والثاني أظهر عقلاً.
قوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} تقدم فيهود تشديد» لمَّا «وتخفيفها والكلام في ذلك، وقال ابن الخطيب في مناسبة وقع» لما «المشددة موقع» إلا «: إن لما كأنَّهَا حَرْفا نفي جمعاً وهما:» لَمْ «و» مَا «فتأكد النفي وإلا كأنها حرفا نفي:» إن ولاَ «فاستعمل أحدهما مكان الآخر انتهى وهذا يجوز أن يكون أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء إنها مركبة من» إنْ ولاَ «إلا أنَّ الفراء جعل إنْ مخففة من الثقيلة وجعلها نافية وهو قول ركيك رَدَّهُ عليه النحويون وقال الفراء أيضاً إنّ لما هذه أصلها لَمْمَ فخففت بالحذف وتقديم هذا كله مُوَضِّحاً.(16/207)
و «كل» مبتدأ و «جميع» خبره و «مُحْضَرُونَ» خبر ثاني لا يختلف ذلك سواء شددت «لما» أم خففتها، لا يقال: إن جميعاً تأكيد لا خبر (لأن) «جميعها» هنا فَعِيل بعنى مفعول أي مجموعون فكل يدل على الإحاطة والشمول وجميع يدل على الاجتماع فمعناها حمل على لفظها كما في قوله: {جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] وقدم «جميع» في الموضعين لأجْل الفَوَاصِل و «لَدَيْنا» متعلق «بمُحْضَرُونَ» فمن شدد «فلما» بمعنى إلا وإنْ نافية كما تقدم والتقدير: ومَا كُلُّ إلاَّ جميعٌ ومن خفَّفَ «فَإنْ» مخففة (من الثقيلة) واللام فارقة وما مزيدة هذا قولا البصريين والكوفيون يقولون: إنَّ «إنْ» نافية واللام بمعنى إلا كما تقدم مراراً.
فصل
لما بين الإهلاك بين أن من أهْلَكَهُ ليس بتارك له بل بعده جمع وحبس وحساب وعقابٌ ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحةً ونعْمَ ما قال القائل:
4179 - ولو أنّا إذا ما متْنَا تُرِكْنَا ... لَكَانَ المَوْتُ رَاحَة كُلِّ حَيِّ(16/208)
وَلكِنَّا إِذا مِتْنا بُعِثْنا ... وَنُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيِّ
قال الزمخشري: إن قال قائل: «كل وجميع» بمعنى واحد فكيف جعل جميعاً خبراً ل «كلّ» حيث أدخل اللام عليه إذ التقدير وإن كل لجميعٌ؟ نقول معنى «جميع» مجموع ومعنى «كل» أي كل فرد مجمع مع الآخر مضموم إليه ويمكن أن يقال: «مُحْضَرُونَ» يعني كما ذكره وذلك لأنه لو قال: وإن جميع لجميع محضرون لكان كلاماً صحيحاً. قال ابن الخطيب: ولم يوجد ما ذكره من الجواب بل الصحيح أنَّ مُحْضَرُونَ كالصفة للجمع فكأنه قال جميعٌ جميعٌ محضرون كما نقُول: الرجلُ رجلٌ عالم والنبيُّ نبيُّ مرسل. والواو في «وَإنْ كُلّ» يعطف على الحكاية كأنه يقول: بَيَّنْتُ لك ما ذكرت وأبين أن كُلاًّ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ.(16/209)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
قوله: {وَآيَةٌ} خبر مقدم و «لَهُمْ» صفتها أو متعلقة «بآية» ؛ لأنها (بمعنى) علامة. و «الأرض» مبتدأ وتقدم تخفيف «الميتة» وتشديدها في أول (آل) عمران.
ومع أبو حيان أن يكون «لأهم» صفة لآية ولم يبين وَجْهَةُ ولا وجه له وأعرب أبو البقاء «آية» مبتدأ و «لهم» الخبر و «الأرض الميتة» مبتدأ وصفته و «أَحْيَيْنَا» خبره، والجملة مفسرة «لآيةٍ» .(16/209)
وبهذا بدأ ثم قال: وقيل؛ فذكر الوجه الأول وكذلك حكى مَكِّيٌّ أعني أن تكون «آية» ابتداء و «لهم» الخبر وجوز مكي أيضاً أن تكون «آية» متبدأ و «الأرض» خبره وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لأنه لا يُتْرَكُ المعرفة من الابتداء بها ويبتدأ بالنَّكِرَة إلاَّ في مَوَاضِعَ للضَّرُورَةِ.
قوله: «أحييناها» تقدم أنه يجوز أن يكون خبر «الأَرْضِ» ويجوز أيضاً أن يكون حالاً من «الأَرْضِ» إذا جعلناها مبتداً و «آية» خبر مقدم وجوز الزمخشري في «أَحْيَيْنَاهَا» وفي «نَسْلخُ» أن يكونا صفتين للأرض والليل وإن كانا معرفين بأل لأنه تعريف بأل الجنسيَّة فهما في قوة النكرة قال كقوله:
4180 - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي..... ... ... ... ... . .
لأنه لم يقصد لئيماً بعينه، ورده أبو حيان بأن فيه هدماً للقواعد من أنّه لا تنعت(16/210)
المعرفة بنكرة قال: وقد تبعه ابنُ مالك ثم خرج أبو حيان الحمل على الحال أي الأرض مُحْيَاةً والليل مُنْسَلِخاً منه النهار واللئيم شاتماً لي، قال شهاب الدين: وقد اعتبر النحاة ذلك في مواضع فاعتبروا معنى المعرف بأل الجنسية دون لفظه فَوَصَفُوهُ بالنَّكرة الصَّرِيحَة، نحو: يا لرجل خير منك على أحد الأوجه. وقوله: {إِلاَّ الذين} [العصر: 3] بعد {إِنَّ الإنسان} [العصر: 2] وقوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ} [النور: 31] و «أهْلَكَ النَّاسُ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ» كل هذا ما روعي فيه المعنى دون اللفظ، وإن اختلف نوع المراعاة، ويجوز أن يكون «أحْيَيْنَاهَا» استئنافاً بين به كونَها آيةً.
فصل
وجه التعلق بما قبله من وجهين:
أحدهما: أنه لما قال: كان ذلك (إشارة) إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستعبادهم وإصرارهم وعنادهم فقال: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} كذلك يُحْيِي المَوْتَى.
وثانيهما: أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذِّبين وكان شُغْلُهم التوحيد ذكر ما يدل عليه وبدأ بالأرض لكونها مكانَهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة والسكون؟
فإن قيل: الأرض آية مطلقة فلم خصها بهم حيث قال: «وآيَةٌ لَهُمْ» ؟ .
فالجواب: الآية تعدد وتردد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه أما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له لدليل فالنبي - عليه (الصلاة و) السلام - وعباد الله المخلصين عرفوا الله قبل الأرض والسماء فليست الأرض معرفة لهم وهذا كما قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} [فصلت: 53] وقال: {أَوَلَمْ(16/211)
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] يعني أنت كفاك الله معرفاً به عرفت كل شيء فهو شهيدٌ لك على كل شيء وأما هؤلاء نبين لهم الحق بالآفاق والنفس وكذلك ها هنا الأرض آية لهم، فإن قيل: إن قُلْنا الآية مذكروة للاستدلال على جَوَاز إحياء المَوْتَى فيكفي قوله: «أحْيَنْنَاهَا» ولا حاجة إلى قوله: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} وغير ذلك وإن قلنا: إنه للاستدلال على وجود الإله ووحدانيته فلا فائدة في قوله: {الأرض الميتة} فقوله: {الميتة أَحْيَيْنَاهَا} كافٍ في التوحيد فما فائدة قوله: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} ؟ فالجواب: هي مذكورة للاستدلال عليها ولكلّ ما ذكره الله تعالىً فائدة أما فائدة قوله: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّا} فهو بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى لأنه لما أحيا الأرض وأخرج منها حباً كان ذلك إحياء تامًّا لأن الأرض المُخْضرَّة التي لا تنبت الزرع ولا تخرج الحَبَّ دون ما تنبيه الحياةُ، فكأنه تعالى قال: الذي أحيا الأرض إحياء كاملاً منبتاً للزّرع يحي الموتى إحياء كاملاً بحيث يدري الأمور وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تقرير النعمة، كأنه يقول: آية لهم الأرضُ فإنها مكانُهم ومَهْدُهُم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها في نعمة ثم إحياؤها نعمة ثانية فإنها تصير أحسن وأنزه ثم إخراج الحبِّ منها نعمة ثالثة فإن قوتهم تصير في مكانهم وكان يمكن أن يجعل رزقهم في السماء أو الهواء فلا يحصل لهم الوُثُوقُ ثم جعل الحياة منها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحَبَّ في كل سنة والأشجار بحيث يوجد منها الثِّمار فيكون بعد الحبِّ وجوداً ثم فجر منها العيون ليحصل لهم الاعتمال بالحصول ولو كان ماؤها من السماء لحصل ولكن لم يعلم أنها أين تغرس وأين (يقع) المطر.
فصل
المعنى «أَحْيَيْنَاها» بالمطر «وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا» يعني الحِنْطَة والشعير وما أشبههما «فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» أي من الحب «وَجَعَلْنَا فِيها جَنَّاتٍ» بساتين «مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وفَجَّرْنا فِيهَا» في الأرض «مِنَ العُيُونِ لِيَأْكُلُوا منْ ثَمَرِهِ» الحاصل بالماء.
قوله: {وَفَجَّرنَا «العامة على التشديد تكثيراً لأنها مخففة متعدّية، وقرأ جَنَاحُ بْنُ(16/212)
حبيش بالتخفيف، والمفعول محذوف على كلتا القراءتين أي يَنْبُوعاً كما في آية:» سًبْحَانَ «.
قوله: {مِن ثَمَرِهِ} قيل: الضمير عائد على النخيل؛ لأنه أقرب مذكور وكان من حق الضمير أن يثنى على هذا لتقدم شيئين وهما الأعْنَاب والنَّخِيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما، وقيل يعود على جنات وعاد بلفظ المفرد ذهاباً بالضمير مَذْهَبَ اسم الإشارة كقول رؤبة:
4181 - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبلَقْ ... كَأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
فقيل له، فقال: أردت كأن ذاك وتلك، وقيل: عائد على الماء المدلول عليه بعيون وقيل: بل عاد عليه لأنه مقدر أي من العيون. ويجوز أن يعود على العيون ويعتذر عن إفراده بما تقدم في عوده على جنات، ويجوز أن يعود على الأعناب والنخيل معاً ويعتذر عنه بما تقدم أيضاً وقال الزمخشري وأصله من «ثَمَرِنَا» لقوله: «وفَجَّرْنَا» و «أَيْدِينَا» فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات. والمعنى ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر. فعلى هذا يكون الضمير عائداً على الله تعالى ولذلك فسر معناه بما ذكر، وتقدمت هذه القراءات في هذه اللفظ في سورة الأَنْعَام.(16/213)
قوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} في «ما» هذه أربعة أوجه:
أحدها: أنها موصولة أي ومن الذي عملته أيديهم من الغَرْس والمُعَالَجَة. وفيه تجوز على هذا.
والثاني: أنها نافية أي لم يعلموه هم بل الفاعل له هو الله سبحانه وتعالى، أي وجدها معمولة ولا صنع لهم فيها. وهو قول الضحاك ومقاتل. وقيل: أراد العيون والأنهار التي لم تعلمها يدُ خلقٍ مثل الدِّجْلة والفرات والنيل ونحوها. وقرأ الأخوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون: وما عملته بإثباتها. فإن كانت «ما» موصولة فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حذف العائد كما حذف في قوله: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] بالإجماع وعلى قراءة غيرهم جيء به على الأصل، وإن كانت نافيةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر لا ضمير مقدر ولكن المفعول محذوف أي ما عَمِلَتْ أيْدِيهم شَيْئاً من ذلك وعلى قراءة غيرهم الضمر يعود على «ثَمَرِهِ» وهي مرسومة بالهاء في غير مصاحف الكوفة وبحذفها فيما عداها، فالأخوان وأبو بكر وافقوا مصاحفهم والباقون غير حفص وافقوا (ها) أيضاً وحفص خالف مصحفه وهذا يدل على أن القراءة متلقاةٌ من أفواه الرجال فيكون عاصم قد أقرأها لأبي (بكر) بالهاء كالكلام في الموصولة.
والرابع: أنها مصدرية أي ومن عمل أيديهم والمصدر واقع موقع المفعول(16/214)
به فيعود المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة.
فصل
إذا قلنا: «ما» موصولة يحتمل أن يكون المعنى وما عملته أيديهم بالتِّجَارة كأنه ذكر نَوْعَيْ ما يأكل الإنسان وهما الزراعة والتجارة (أ) ومن النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعِنَبِ والتَّمْر وغيرهما ومنه ما يعمل فيه عمل فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخةأو كالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر قوله: {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} وذكر بصيغة الاستفهام لما تقدم في فوائد الاستفهام قوله: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} أيا لأصناف و «سبحان» عَلَمٌ دال على التسبيح تقديره: سُبِّح تَسْبِيحَ الِّذِي خلق الأزواج.
ومعنى (سبح) نَزَّهَ (و) وجه تعلق الآية بما قبلها هو أنه تعالى لما قال: {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} وشكر الله بالعبادة وهم تركوها وعبدوا غيره فقال: سُبْحَانَ الذي خلق الأزواج كلها وغيره لم يخلق شيئاً. أو يقال: لما بين أنهم أنركروا الآيات ولم يشكروا (بين) ما ينبغي علهي أن يكون عليه العامل فقال {سُبْحَانَ الذي خَلَق} تَنَزَّهَ عن أن يكونَ له شَرِيكٌ أو يكون عاجزاً عن إِحياء الموتى.
قوله: {مِمَّا تُنبِتُ الأرض} من الثِّمار والحُبُوب والمعادن ونحوها، «وَمِنْ أَنْفُسهِمْ» يعين الذكور والإناث والدلائل النفسية «وَمِمَّا» لاَ يَعْلَمُونَ «يدخل فيه ما في أقطار السموات وتخوم الأرض.(16/215)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل} كقوله: {نَسْلَخُ} و «نَسْلَخُ» استعارة بديعة شبه انكشاف ظُلْمَةِ الليل بكَشْطِ الجِلْد عن الشَّاة لم استدل تعالى بأحوال الأرض وهو المكان(16/215)
الكلِّيُّ استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكُلِّيُّ؛ فإن دلالة الزمان والمكان متناسبة؛ لأن المكانَ لا يستغني عنه الجواهر والزمان لا يستغني عنه الأعراض لأن كل عرض فهو في زمان.
فإن قيل: إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان فَلِمَ خَصَّ الدليل؟! .
فالجواب: أنه لما استدل بالمكان المظلم وهو الأرض استدل بالزَّمَان المُظْلِم وهو الليل ووجه آخر وهو أن اللَّيْلَ فيه سكون (الناس) وهدوء الأصوات وفيه النَّوْم وهو الموت الأصغر فيكون بعد طلوع الفَجْرِ كالنفخ في الصور فيتحرك الناس فذكر الموت كما قال في الأرض: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة} [يس: 33] وذكر من الزمان أشبههما بالموت كما ذكر في المكان أشْبَهَهُمَا بالموت.
فإن قيل: الليل بنفسه آية فأيُّ حاجة إلى قوله: {نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} .
فالجواب: أن الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه ولهذا لم يجعل الله الليل وحده آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها.
قوله: {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي داخلون في الظلام كقوله: «مُصْبِحِينَ» و «إذَا» للمفاجأة؛ أي ليس لهم بعد ذلك أمرٌ لا بد لهم من الدخول فيه.
قوله: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} يحتمل أن تكون الواو للعطف على «اللَّيْل» تقديره: «وآيَةٌ لَهُم اللَّيلُ نسلخ والشمسُ تَجْري والقمر قدرناه» فيه كلها آية ووقوله «والشمس تجري» إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها بأم الله فمغرِب الشمس سالخ النّهار فذكر السبب بين صحة الدعوة ويحتمل أن يقال بأن قوله: «والشمس تجري لمستقر لها» إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال: «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» ذك أن الشمس تجري فتطلع عن انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه.
قال المفسرون: إن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة.
قوله: «لمستقر» قيل: في الكلام حذف مضاف تقديره تَجْري لِمَجْرى مُسْتَقَرٍّ لها(16/216)
وعلى هذا فاللام للعلة أي لأجل جري مستقر لها. والصحيح أنه لا حذف وأن اللام بمعنى «إلى» ويدل على ذلك قراءة بعضهم «إلَى مُسْتَقَرٍّ» وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزيْن العابدين وابنُه الباقر والصَّادِق ابن الباقر: لاَ مُسْتَقَّر بلا النافية للجنس وبناء «مُسْتَقَر» على الفتح و «لها» الخبر وابن عبلة لا مُسْتَقَرٌّ بلا العاملة عمل ليس «فمستقر» اسمها و «لها» في محل نصب خبرها، كقوله:
4182 - تَعَزَّ فَلاَ شَيْءٌ عَلَى الأَرْضِ بَاقِيا ... وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
والمراد (بذلك) أنها لا تستقر في الدنيا بل هي دائمة الجَرَيان وذلك إشارة إلى جريها المذكور.
فصل
قيل: المراد بالمستقر يوم القيامة فعندها تستقر ولا يقى لها حركة وقيل: تَسِيرُ حتَّى تَنْتَهِيَ إلى أبعد مغاربها فلا تتجاوزه ثم ترجع وقيل: الليل وقيل: نهاية ارتفاعها في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء «وروى أبو ذَرّ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي ذر حين غربَتِ الشمس:» تدري أين تذهب «؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حت تسجُدَ تحت العرش فتستأذنَ فيؤذَنَ لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل (منها) وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها: ارْجِعِي من حيث جئت فتطلع من مغربها(16/217)
فذلك قوله:» والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم «وروى عَمْرُو بن دِينَار عن ابن عباس والشمس (تجري) لا مستقرّ لها أي لا قرار لها ولا وقوف وهي جارية أبداً.
قوله: {ذَلِكَ} إشارة إلى جَرْي الشَّمْس أي ذلك الجري تقدير الله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى المستقر أي ذلك المستقر تقدير الله العزيز الغالب والعليم الكامل العلم أي قادر على إجرائها على الوجه الأنفع وذلك من وجوه:
الأول: أن الشمس لو مرّت كل يوم على مُسَامَتَةٍ واحدة لاحترقت (الأرض) التي تُسَامِتُها بمرورها عليها لك يوم وبقي الجمود مستولياً على الأماكن الأُخَر فقدر الله لها بُعْداً لتجمع الرطوبات في باطن الأرض والإسخان في زمان الشتاء ثم قدر قربها بتدريج ليخرج النبات والثمار من الأرض والشجر ويَنْضُجَ ويَجفَّ.
الثاني: قدر لها في كل يوم طُلُوعاً وفي كل ليلة غروباً، لئلا تَكِلَّ القوى والأبصار بالسهر والتعب ولئلا يَخْرُبَ العالم بترك العِمَارة بسبب الظلمة الدائمة.
الثالث: جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زُحَلَ لأنها كاملة النور فلو كانت بطيئةً السير لدامتْ زماناً كثيراً في مُسَامَتَةِ شيء واحد فتحرقه ولو كانت سريعة السير لما حصل لها لبث بقَدْر ما ينضج من الثمار في بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ.
قوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمور برفع» القمر «والباقون بنصبه فالرفع على الابتداء والنصب بإضمار فعل على الاشتغال والوجهان مستويان لتقدم جملةٍ ذاتِ وجهين وهي قوله: {والشَّمْسُ تجري} فإن راعيت صدرها(16/218)
رفعت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عَجُزَهَا نصبت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عَجْزَهَا نصبت لتعطف فعلية على مثلها وبهذه الآية يبطل (قول) الأخفش: إنه لا يجوز النصب في الاسم إلا إذا كان في جملة الاشتغال ضمير يعود على الاسم الذي تضمنته جملةٌ ذات وجهين: قال: لأن المعطوف على الخبر خبر فلا بد من ضمير يعود على المبتدأ فيجوز:» أَزْيْدٌ قَامَ وعمراً أكْرَمْتُه فِي دَارِهِ «ولو لم يقل» في داره «لم يجز ووجه الردّ من هذه الآية أن أربعة من السبعة نصَبُوا وليس في جملة الاشتغال ضمير يعود على الشمس وقد أجمع على النصب في قوله تعالى:
{والسمآء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] بعد قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] .
قوله: {مَنَازِلَ} فيه أَوْجُهٌ:
أحدها: أنه مفعول ثان لأن «قَدَّرْنَا» بمعنى صَيَّرْنَا.
الثاني: أنَّه حال ولا بد من حذف مضاف قبل منازل تقديره: ذَا مَنَازِلَ قال الزمخشري: لا بُدَّ من تقدير لفظ يتم به معنى الكلام، لأن القمر لم يجعل نفسه مَنَازلَ.
الثالث: أنه ظرف أي قدرنا مَسِيرَهُ فِي مَنَازِلَ وتقدم نحوه أول يونس.
قوله: {حتى عَادَ كالعرجون} العامة على ضم العين والجيم. وفي وزنه وجهان:
أحدهما: أنه فُعْلُولٌ. فنونه أصلية وهذا هو المرجح.(16/219)
والثاني: وَهُو قول الزجاج: أن نونه مزيدة ووزنه فُعْلُونٌ مشتقاً من الانْعِرَاج وهو الانعطاف وقرأ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بكسر العين وفتح الجيم وهما لغتان كالبُزيون والبِزْيُون والعرجون عُود العِذْق ما بين الشماريخ إلى مَنْبِتِهِ من النخلة وهو تشبيه بديع شبه به القمر في ثلاثة أشياء دقَّتِهِ واستقواسه واصْفِرَارِهِ لأن العِذق الذي عليه الشماريخ إذا قَدِمَ وعَتِقَ دَقَّ وتَقَوَّسَ واصْفَرَّ والقديم ما تَقَادَمُ عَهْدُهُ بحكم العادة ولا يشترط في جواز إطلاق لفظ القديم عليه مدةً بعينها بل إنما يعتبر العادة حتى لا يقال لمدينة بنيت من سنةٍ أو سنتين لبنائها قديم أو هي مدينة قديمةٌ ويقال لبعض الأشياء: إنّه قديم وإن لم يكن له سنةٌ (واحدة) ولهذا جاز أن يقال: بَيْتٌ قديمٌ ولم يجز (أن يقال) في العالم: إنه قديم؛ لأن القِدَم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد ومرور السنين عليه وإطلاق القديم على العالم بِتَمَادِي الأزمنة عند من (لا) يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه.
قوله: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر} أي لا يدخل على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه وهو معنى قوله: {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} أي يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته. وقيل: لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر لا تطلع الشمس بالليل ولا (يطلع) القمر بالنهار وله ضوء فإذا اجتمعا وأدرك كلّ (واحد) منهما صحبه قامت القيامة. وقيل: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر} لا تجتمع معه في فَلَك واحد {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} أي لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر} بصيغة الفعل وقوله: {وَلاَ الليل سَابِقُ} بصيغة اسم الفاعل ولم يقل ولا الليل «سَبَقَ» ولا قال: لاَ الشَّمْسُ مُدْرِكَةٌ لِلْقَمر؟ .(16/220)
فالجواب: أن حركة الشمس التي لا تدرك بها القمر مختصة بالشمس فجعلها كالصادرة منها فذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال: يَخِيط ولا يكون تصدر منه الخِيَاطَةُ وأما حركة القمر فليست مختصةً بكوكب من الكواكب بل الكل فيها مشترك بسبب حركة فَلَكٍ لا يختص بكوكب فالحركة ليس كالصادرة منه فأطلق على اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال: فُلاَنٌ خَيَّاطٌ وإن لك يكن يَخِيط. فإن قيل: قوله: {يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [الأعراف: 54] يدل على أن الليل سابق.
فالجواب: أن المراد من الليل ها هنا سلطان الليل وهو القمر ولا يسبق الشمس بالحركة اليَوْمِيَّةِ السريعة والمراد من الليل هاك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر فكأنه طَالبُهُ.
فإن قيل: قد ذكر ههنا سابق (النهار) وقال هناك يطلبه ولم يقل طالبه.
فالجواب: لما بينا (من) أن المراد في هذه السورة من الليل كواكب الليل وحركتها بحركة الفَلَكِ فكأنها لا حَرَكَةَ لها فلا سبق ولا من شأنها أنها سابقة والمراد هناك نفس الليل والنهار وهما زَمَانَانِ لا قرارَ لهما فهو يطلب حثياً لصدور المنقضي منه.
فإن قيل: ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر وماذا يكون لو قال: ولا القمرُ سابق الشَّمس.
فالجواب: لو قال ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم المناقض بأن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر فالقمر أسرع ظاهراً وإذا قال: ولا القمر سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع فقال اللَّيْل والنهار ليعمل أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في يوم وليلة مرة وأن جميع الكواكب لها طلوع وغروب في اللّيل والنهار.
قوله: {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} قرأ عمارة بنصب «النَّهَار» حذف التنوين لالتقاء الساكنين.(16/221)
قال المبرد: سمعته يقرؤها فقلت: ما هذا؟ فقال: أردت سَابِقٌ - يعني بالتنوين - فخففت.
قوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي يَجْرُون. وهذا يحقق أن لكلِّ طلوع في يوم وليلة ولا يسبق بعضُها بالنسبة إلى هذه الحركة والتنوين في قوله: «كُلُّ» عوض عن الإضافة والمعنى كل واحدٍ. وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع التعريف والتنكيرُ في شيءٍ واحد فلما أسقط المضاف إليه لفظاً رد التنوين عليه لفظاً وفي المعنى معرف الإضَافَةِ.
فإن قيل: فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظاً وتركها؟ .
فالجواب: نعم، لأن قول القائل: كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار الفهم عليه، فإذا قال: كُلّ كذا يدخل في الفهم عمومٌ أكثر من العموم عند الإضافة وهذا كما في: «قَبْل وبَعْد» إذا قلت: أفعلُ قَبْلَ كذا فإذا حذفت المضاف وقلت أفعل قبل أفاد الفعل قبل كُلِّ شَيْءٍ.
فإِنْ قِيلَ: فهل بين قولنا: «كُلٌّ منْهُمْ» وبين: «كُلّهم» وبين «كُلِّ» فرق؟ .
فالجواب: نعم فقولك: كلهم يثبت الأمر للاقتصار عليهم، وقولك: كُلّ منهم يثبت الأمر أولاً للعموم ثم استدركه بالتخصيص فقال: منْهم وقولك: كلّ يثبت الأمر على العموم وتركت عليه فإن قيل: إذا كان «كُلّ» معناه كل واحد منهم والمذكور الشمس والقمر فكيْفَ قال: يَسْبَحُونَ؟ .
فالجواب: أن قوله «كل» للعموم فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيَّاراً. وأيضاً فلفظ «كل» يجوز أن يوحَّد نظراً إلى كون لفظه مُوحِّداً غير مثنى ولا مجموع ويجوز أن يجمع لكونه معناه جمعاً، وأما التثنيه فلا يدل عليه اللفظ ولا المعنى وعلى هذا يحسن أن يقال: «زَيْدٌ وعمرٌو كُلُّ جَاءَ» ولا يقال: (كل) جَاءَا بالتثنية. وجواب آخراً قوله: {وَلاَ الليل سَابِقُ} فالمراد من الليل الكواكب فقال: «يَسْبَحُونَ» . فصل
الفلك هو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها وفلك الخيمة هي الخشبة المسطحة(16/222)
المستديرة التي توضع على رأس العمود، لئِلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة. فإن قيل: فعلى هذا تكون السماء مستديرةً وقد اتفق أكثر المفسرين (على) أنَّ السماءَ مبسوطةٌ لها أطراف على جبال وهي كالسَّقْقِ المُسْتَوِي ويدل عليه قوله تعالى: {والسقف المرفوع} [الطور: 5] قال ابن الخطيب: ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة بل دل الدليل الحِسِّيُّ على كونها مستديرةً فوجب المصير إليه والسقف والمقَبَّب لا يخرج عن كونه سقفاً وكذلك كونه على جبال. وأما الدليل الحسي فوجوه:
الأول: أن من أمْعَنَ في النظر في جانب الجنوب تظهر له كواكب مثل سُهَيْل وغيره ظهوراً أبدياً ولو كان السماء سطحاً مستوياً لبان الكُلُّ للكلِّ بخلاف ما إذا كان مستديراً فإن بضعه حينئذ يستتر بأطراف الأرض فلا يُرَى.
الثاني: أن الشمس إذا كانت مقارنة للحَمَل مثلاً فإذا غربت ظهر لك كواكبُ في منطقة البروج من الحَمل إلى المِيزان ثم في كل قليل يستتر الكوكب الذي يكون طلوعه بعدَ طلوع الشمس وبالعكس وهذا دليل ظاهر وإن بحث فيه يصير (قَطْعيًّا) .
الثالث: أن الشمس قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوؤها ويستنير نورُها وإلا لما كان كذا بل كان (عن) إعادتها إلى السماء يظهر لك أحد جِرْمُها ونورُها معاً لكون السماء مستوية (حنيئذ مكشوفة كلها لكل أحد.
الرابع: لو كانت السماء مستويةً) لكان القمرُ عندما يكون فوق رُؤُوسِنَا على المُسَامَتَةِ أقرب ما يكون إلينا وعندما يكون على الأفق أبعد منا لأن العمودأصغرُ من القُطْرِ والوتر وكذلك في الشمس والكواكب وكان يجب أن يرى أكبر لأن القريب يرى أكبر وليس كذلِكَ.
الخامس: لو كانت السماءُ مستويةً لكان ارتفاعها أَولَ النهار ووَسَطَهُ وآخِرَهُ مستوياً وليس كذلك. والوجوه كثيرة وفي هذا كفايةٌ.
فصل
قال المُنَجِّمُونَ قوله تعالى: {يَسْبَحُونَ} يدل على أنها أحياء لأن ذلك لا يطلق إلا(16/223)
على العاقل قال ابن الخطيب إن أرادوا القَدْرَ الذي يكون منها التسبيح فنقول به لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كا في قوله تعالى في حق الأصنام: {مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} [الصفات: 92] وقوله: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91] .(16/224)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} لما مَنَّ بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر عليه بل بين للإنسان طريقاً يتخذ من البحر ويسير فيها كما يسير في البر وهو كقوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر} [الإسراء: 70] ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} إذا فسرناه بأن المراد منه الإبل فإنها سفُن البرِّ. ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما بين سِبَاحَةَ الكواكب في الأفلاك ذكر ما هو مثله وهو سباحة الفُلْكِ في البحار ووجه آخر وهو أن الأمور التي أنعم الله (تعالى) بها على عباده منها ضرورة ومنها نافعة فالأول للحاجة والثاني للزينة فخلق الله الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش الإنسان، والليل والنهار في قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل} [يس: 37] أيضاً من القبيل الأول لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث الإنسان والشمسُ والقمرُ وحركتُهُما لو لم تكن لما عاش الإنسان، ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول وآيتين ذكر من القبيل الثاني وهو الزينة آيتين:
إحداهما: الفُلْك التي تجري في البحر فتستخرج من البحر ما يُتَزَيَّنُ به كما قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12] .
وثانيهما: الدَّوَابُّ التي هي البرّ كالفُلْك في البحر في قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} فإن الدوابَّ زينة كما قال تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] .
قوله: {أَنَّا حَمَلْنَا} مبتدأ «وآية» خبر مقدم، وجوز أبو البقاء أن يكون: «أَنَّا حَمَلْنَا» خبر مبتدأ محذوف بناء منه على أن «آية لهم» مبتدأ وخبر كلام مستقل بنفسه كما(16/224)
تقدم في نظيره والظاهر أن الضميرين في «لَهُمْ» و «ذُرِّيَّتهم» لشيء واحد ويراد بالذرية آباؤهم المحمولين في سفينة نوح - عليه (الصلاة و) السلام - أو يكون الضميران مختلفين أي ذرية القرون الماضية ووجه الامتنان عليهم أنهم في ذلك مِثْلُ الذرية من حيث إنهم ينتفعون بها كانتفاع أولئلك. وقوله «مَا يَرْكَبُونَ» هذا يحتمل أن يكون من جنس الفُلْك إِن أريد بالفلك سفينة نوح - عليه (الصلاة و) السلام - خاصة وأن يكون من جنس آخر كالإبل ونحوه ولهذا سمتها العربُ سُفُنّ البرِّ فقوله: «مِنْ مِثْلِهِ» أي من مثل الفلك أو من مثل ما ذكر من خلق الأزواج، (في قوله «وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ» ) والضمير في «لهم» يحتمل أن يكون عائداً إلى الذرية أي حملنا ذريتهم وخَلَقْنَا للمحمولين ما يركبون، ويحتمل أن يعود إلى العباد الذين عاد إليْهِمْ قَوْلُهُ: «وَآيَةٌ لَهُمْ» وهو الظاهر لعود الضمائر إلى شيء واحد و «مِنْ» يحتمل أن تكون صلة أي خلقنا لهم مِثْلَهُ وأن تكون لِلْبَيَانِ لأن المخلوق كان أشياء.
وقال مِنْ مِثْل الفلك للبيان وتقدم اشتقاق الذُّرِّيَّةِ في البقرة، واختلاف القراء فيها في الأعراف.
فصل
قال المفسرون: المراد بالذُّرَّيَةِ الآباء والأجداد واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد أي حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ في الفلك، والألف للتعريف أي فُلْكِ نُوِحِ وهو مذكور في قوله: {واصنع الفلك} [هود: 37] وهو معلوم عند العرب. وقال الأكثرون: الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فالمراد إما أن يكون الفلك(16/225)
المعين الذي كان لنوح وإما أن يكون المراد الجنس كقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] وقوله: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12] وقوله: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك} [العنكبوت: 65] إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس فإن كان المراد سفينةَ وح ففيه وجوه:
الأول: أن المراد: حملنا أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ولولا ذلك لما بقي للأب نسلٌ ولا عَقِب وعلى هذا فقوله: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُم} إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة وهذا قول الزمخشري ويحتمل أن يقال: إنه تعالى إنما خص الذريات بالذكر لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُم} أي لم يكن الحَمْلُ حَمْلاً لهم وإنَّما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كمن حمل صُنْدُوقاً لا قيمة له وفيه جَوَاهِرُ (ف) قيل: إنه لم يحمل الصندوق إنما حمل ما فيه.
الثاني: أنّ المُرَادَ بالذُّرِّيَّة الجنس أي حملنا أجناسهم لأن ذلك الحيوانَ من جسنه ونوعه، والذرية تطلق على الجنس ولذلك تطلق على النِّساء كنهي النبي - عليه (الصلاة و) السلام) عن قَتْلِ الذَّرَارِي أي النساء لأنَّ المرأة وإن كانت صِنْفاً غير صِنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال: ذَرَاينا أي أمثالنا.
الثالث: أن الضمير في قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمْ} عائد على العَبِاد، حيث قال: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] وقال بعد ذلك: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} (وإذا عُلِمَ هذا فكأنه تعالى قال: «وآيةٌ للعبادِ أنا حملنا ذريات العباد» . ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصاً مُعَيَّنينَ كقوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] وكذلك(16/226)
إذا تقاتل قومٌ ومات الكُلّ في القتال يقال: هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم. «فهم» في الموضعين يكون عائداً إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصاً مُعَيَّنِينَ بل المراد أن بعضَهم قتل بعضَهم فكذلك قوله تعالى: «آيةٌ لهم» أي آية لكل بعض منهم أ، احلمنا ذرية كُلِّ (بَعْض) منهم، أو ذرية بعض منهم.
وإن قلنا: المراد جنس الفلك فآية ظاهرة لكل أحد وقوله تعالى في سفينة نوح: {وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 15] أي بوجود جنسها ومثلها. ويؤيده قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31] وإن قيل: المراد سفينة نوح فوجه المناسبة أنه ذكرهم بحال نوح وأن المكذبين هلكوا والمؤمنين فازوا فكذلك هم إن آمنوا يفوزوا وإن كذبوا يَهْلَكُوا. والأول أظهر وهو أن المراد بالفلك الموجودة في زمانهم ويؤيده قوله تعالى: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} .
فإن قيل: لم قال {حَمَلْنَا ذُرِّيّيتهُمْ} ولم يقل: «حملناهم» ليكون أعم كما قال: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] ولم يقل: تَأْكُلُ ذُرِّيِّتهُم؟ .
فالجواب: قوله تعالى: «حملنا ذريتهم» أي ذريات العباد ولم يقل حملناهم لأن سكون الأرض عام (ل) كلّ أحد يسكنها فقال: {وآيَةٌ لَهُم الأرض الميتة} إلى أن قال: {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} لأن الأكل عام وأما الحمل في السفنية فمن الناس من لا يركبها في عمره ولا يُحْمَلُ فيها ولكن ذرية العباد لا بد لهم من ذلك فإنَّ فيهم من يحتاج إليها فيُحْمَلُ فيها.
فإن قيل: ما الحكمة في كونه جمع الفلك في قوله: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12] وأفرده في قوله: {فِي الفلك المشحون} .
فالجواب: أن فيه تدقيقاً مليحاً في علم اللغة وهو أن الفلك تكون حركتها مثلَ حركة تلك الكلمة في الصورة، والحركتان مختلفنان في المعنى مثاله قولك: سَجَد يَسْجُدُ سُجُوداً للمصدر وهم قوم سُجُودٌ في جمع «سَاجِدٍ» يظن أنها كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك بل السجود عند كونه مصدراً حركته أصلية إذا قلنا: إن الفعل مشتق من المصدر(16/227)
وحركة السجود عند كونه للجمع حركة معتبرة من حيثُ إن الجمع مشتق مِنَ الواحد وينبغي أن يلحق الشمتق تغيير في حرف أو حركة أو في مجموعهما، فساجد لما أردنا أن يشْتَقَّ منه لفظُ جمع غيّرناه وجئنا بلفظ السُّجُود فإذن السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة لمعنيين. وإذا عرف هذا فنقول «الفُلْك» عند كونه واحداً مثل: «قُفْل وبُرْد» وعند كونها جمعاً مثل خُشْبٍ أو بُرْدٍ أو غَيْرِهِما.
فإن قيل: فإذا جعلتَهُ جمعاً ما يكون واحدها؟ .
فالجواب: نقول جاز أن يكون واحدها فَلْكَة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النِّساء لم يستعمل وكذا القول في: «إمام مبين» إمَام كَزِمام وكتاب عند قوله تعالى: {كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] أي بِأَئِمَّتِهِمْ إمَامٌ كَسِهام وحِفَانٍ، وهذا من دقيق التَّصْرِيف. وأما من جهة المعنى ففيه سؤالات:
السؤال الأول: قال ههنا: «حَمَلْنا ذُرّيَّتّهُم» مَنَّ عليهم بحَمْلِ ذرّياتهم وقال تعالى:
{إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} [الحاقة: 11] منَّ عليهم هناك بحمل أنفسهم.
فالجواب: أن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير ومن يدفع الضر عن المتعلّق بالغير لا يكون قد دفع الضر عن ذلك الغير بل يكون قد نفعه كمن أحسن إلى ولد إنسان وفرَّحَةُ فَرِحَ بفَرَحِهِ أبوه وإذا دفع الألم عن ولد إنسان يكون قد فَرَّح أباه ولا يكون في الحقيقة أزال الألم عن أبيه فعنْد طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال: دفعت وههنا عنكم الضّرر ولو قلا: دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بين دفع الضرر عنهم وههنا أراد بيان المنافع فقال: «حملنا ذرياتهم» لأنَّ النفع حاصل بنفع الذرية، ويدل على هذا قوله: «فِي الفُلْكِ المشحون» فإن امتلأ الفلك من الأموال يحصل (بذكره)(16/228)
بيان المنفعة وإذا دفع المضرة فلا لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص بها أبطأ وهنالك السلامة فاختار هناك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشّحْن.
فإن قيل: قال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر} [الإسراء: 70] ولم يقل: وحملنا ذريتكم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة لا دفع النِّقْمة نقول: لما قال في البرّ والبحر عَمّ الخلق لأن ما من أحدٍ إلا وحمل في البر والبحر وأما الحمل في البحر فلم يَعُمّ فقال إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء.
فصل
وفي قوله: «المشحون» فائدة أخرى وهي أن الآدمِيِّ يرسُب في الماء ويَغْرقُ فحمله في الفلك واقع بقدرته لكن من الطَّبِيعيِّنَ من يقول: الخفيف لا يرسب ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله.
فإن قيل: ما الحكمةُ في قوله: «وآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ (و) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ» ؟ ولم يقل: وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم؟ .
فالجواب: أن حملهم في الفلك هو العجيب. أما نفس الفلك فليس بعجيب لأنه كَبيْتٍ مَبْنِيِّ من خشب وأما نفس الأرض فعجيب ونفس الليل عجيب لا قدرة لأحد عليهما إلا الله.
قوله: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} قرأ الحسن بتشديد الراء وهذه الآية تدل على أن المراد بقوله: {مِنْ مِثْلِهِ} الفلك الموجود في زمانهم وليس المراد الإبل كما قاله بعض المفسرين بأن المراد الإبلُ لأنها سفنُ البرِّ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} فاصلاً بين متصلين. ويحتمل أن يقال: الضمي في مثله يعود إلى معلوم غير مذكور. وتقريره أن يقال: وخَلَقْنَا لهم من مثل ما ذكر من المخلوقات كما في(16/229)
قوله تعالى: {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} [يس: 35] أن الهاء عائدة إلى ما ذكرنا أي من ثمرنا.
فصل
في قوله: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} فائدتان:
إحداهما: أن في حال النعمة ينبغي أن لا يُؤْمَنَ عذابُ الله.
والثانية: أن ذلك جواب عن سؤال مقدر وهو أن الطَّبيعيِّ يقول: السفينة تَحْمِلُ بمُقْتَضَى الطَّبِيعَة والمجوَّف لا يرسب، فقال: ليس كذلك بل لو شاء الله إغراقهم لأغرقهم وليس كذلك بمُقْتَضى الطبيعة ولو صح كلامه الفاسد لكان لقائل أن يقول: ألست توافق أن من السفن ما ينقلب ونيكسر ومنها ما يثقبه ثاقب فيرسب وكل ذلك بمشيئة الله فإن شاء أغرقهم من غير شيء من هذه الأسباب كما هو مذهب أهل السنة أو شيء من تلك الأسباب التي سلمتها أنت.
قوله: {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} فَعِيلٌ بمعنى فاعل لا مغيث لهم وقيل: فلا مُسْتَغيث وقال الزمخشري: فلا إغاثة جعله مصدراً من «أصْرَخَ» قال أبو حيان «ويحتاج إلى نقل أن» صَرِيحاً يكون مصدراً بمعنى إصراخ «والعامة على فتح» صَرِيخَ «وحكى أبو البقاء أنه قرئ بالرفع والتنوين قال: ووجهة على ما في قوله: {خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 38] .
فصل
معناه: لا مُغيثَ لهم يمنع عنهم الغَرَقَ» وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ «إذا أدركهم الغرق لأن الخلاص من العذاب إما أن يكون برفع العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال:» لاَ صَرِيْخ لَهُمْ «يدفع ولا هم يُنْقَذُونَ بعد الوقوع فيه وهو كقوله تعالى: {لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ} [يس: 23] وفيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال: لا صَرِيخ لهم ولم يقل: ولا منقذ لهم؛ لأ (نَّ) مَنْ لا يكون مِن شأنه أن ينصر لا يشرع في(16/230)
النصر مخافة أن يْغلَبَ ويذهبَ ماءُ وَجْهِهِ وإنما يَنْصُرُ ويغيث من كان من شأنه أن يُغِيثَ فقال:» لاَ صِرِيخَ لَهُمْ «وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا راى من يعين عليه في نصره يشرع في الإنقاذ وإن لم يثِقْ من نفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه وإنما يبذل المجهود فقال:» ولا هم ينقذون «ولم يقل: ولا منقذ لهم، ثم استثنى وقال:» إلا رَحْمَةَ مِنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ «وهو يفيد أمرين:
أحدهما: انقسام الإنقاذ إلى قسمين: الرحمة والمَتَاع أي فمن عَلِمَ أنه يؤمن فينقذه الله رحمة وفيمن علم أنه لا يؤمن فليمتنع زماناً ويزداد إثمه.
وثاينهما: أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزّوال في الدنيا لا بدَّ منه، فينقذه رحمة ويمتعه إلى حين ثم يميته فإذن الزوال لازم أن يقع. قال ابن عباس المراد» بالحِينِ «انقضاء آجالهم يعني (إلاَّ) أن يرحمهم ويمتعهم إلى حين آجالهم.
قوله:» إلاَّ رَحْمَةً «منصوب على المفعول له وهو استثناء مفرغ، وقيل: استثناء منقعطع وقيل: على المصدر بفعل مقدَّر، أو على إسقاط الخافض أي إلا برحمةٍ والفاء في قوله:» فَلاَ صَرِيخَ «رابطةٌ لهذه الجملة بما قبلها؛ فالضمير في» لَهُمْ «عائد على المُغْرَقينَ» وجوز ابن عطية هذا ووجهاً آخَر وجعله أحْسَنَ منه وهو أن يكون استئناف إخبار عن المُسَافِرينَ في البحر ناجينَ كانوا مُغْرَقِينَ هم بهذه الحالة لا نجاة لهم إلاَّ برَحْمَةِ الله وليس قوله: {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} مربوطاً بالمغرقين انتهى.
وليس جعله هذا الأحسن بالحسن لئلا تخرج الفاء عن مَوْضُوعِهَا والكلام عن التئامِهِ.(16/231)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا} جوابها محذوف أي أعرضوا يدل عليه بعده: «إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضينَ» وعلى هذا فلفظ «كانوا» زائدٌ، قال ابن عباس: ما بين أيديكم يعني الآخرة فاعملوا لها، وما خلفكم يعني الدنيا فاحْذَرُوها ولا تغترّوا بها وقيل: ما بين أيدكم وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم وما خلفكم عذاب الآخرة قاله قتادة ومقاتل، «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» .
قوله: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي دلالة على صدق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا كانوا عنها معرضين وهذا الاستئناف في محل (نصب) حال كما تقدم في نظائره، وهذه الآية متعلقة بقوله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30] أي إذا جاءتهم الرسل كذبوا وإذا أتوا بالآيات أعْرَضُوا.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا} لما عدد الآيات بقوله: ( «وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ» ) (و) «آيةٌ لَهُمُ اللِّيْلُ» (و) (آيةٌ لَهُمْ أنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ «وكانت الآيات تفيد اليقين والقطع ولم تفدهم اليَقينَ قال فلا أقلَّ من أن يَحْترزوا وقوع العذاب، فإن من أخبر بوقوع العذاب يتقيه وإن مل يقطع بصدق المخبر احْتِيَاكاً فقال تعالى: إذا ذكرتم الدليل القاطع لا يعترفون به فإذا قيل لهم اتقوا لا يتقون فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة لا مثل العلماء الذين يبنون الأمر على الأحوط ويدل على ذلك قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بحرف التمنِّي أي أن يخفى عليه البرهان لا يترك الاحتراز والاحْتِيَاطَ.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله} أي أعطاكم الله. وهذا إشاءة إلى أنهم بخلوا بجميع التكاليف لأن المكلف يجب عليه التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله وهم تركوا التعظيم حيث قيل لهم: اتَّقُوا (فلم يَتَّقُوا (وتركوا الشفة على خلق الله(16/232)
حيث قيل لهم: أَنْقِقُوا ولم ينفقوا فما الحكمة في حذف الجواب في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ} وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب ولو قال:» وإذا قيل لهم أنققوا قالوا أنْطْعِمُ مَنْ لو يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «لكان كافياً فما الفائدة في قوله تعالى: {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا} فالجواب: أن الكفار كانوا يقولون بأنَّ الإطعام من الصِّفات الحميدة وكانوا يفتخرون بطُعمةِ الأضياف فأوردوا في ذلك على المؤمنين معتقدين بأن أفعالنا مَنًّا ولولا إطعامنا مَنَّا لما اندفعت حاجة الضيف وأنتم تقولون: إنّ إلهكم يرزق من يشاء فَلِمَ تقولون لنا: أنفقوا؟ فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين، لا الامتناع من الإطعام قال تعالى عنهم: {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا} إشارة إلى الرد.
وأما قوله: اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ «فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا فأعرض (الله) عن ذكر إعراضهم لحصول العِلْمِ به.
فصل
قال المفسرون: إن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أَنْفِقُوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم وهو ما جعلوا لله من حُرُوثهم وأَنْعَامهم» قَالوا أَنْطْعِمُ «أنرزق» مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللُّهُ «رزقه ثم لم يرزقه مع قدرته عليه فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله. وهذا مما يتمسك به البخلاء يقولون: لا نعطي من حرمه الله. وهذا الذي يزعمون باطل؛ لأن الله تعالى بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلو الغنيّ بالفقير فيما فرض له في مال الغني ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه.
فإن قيل: ما الفائدة من تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا: أننفق من لو يشاء الله رزقه وذلك أنهم أمروا بالإنفاق في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ} فكان جوابهم أن يقولوا: أننفقُ؛ فَلِمَ قالوا: أنطعم؟ .
فالجواب: أن في هذا بيانَ غاية مخالفتهم لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره فمل يأتوا بالإنفاق ولا بأقلَّ منه وهو الإطعام. وهذا كقول القائل لغيره:» أَعْطِ زَيْداً دِينَاراً «فيقول: لاَ أُعْطِيهِ دِرْهماً مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه ديناراً(16/233)
ولكن المبالغة في هذا الوجه أتمّ. فكذلك ههنا.
فإن قيل: قولهم: {لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} كلام حق فلماذا ذكر في معرض الذَّمِّ؟ .
فالجواب: لأن مرادهم كان الإنكارَ لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله وكلاهما فاسدٌ فبيّن الله ذلك بقوله: {مِمَّا رِزَقَكُمُ الله} فإنه يدل على قدرته ويصحِّح أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزانته مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزانته وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء، ولا يجوز أن يقول من في يده مال: في خزانتك أكثير مما في يدي أعطه منه.
قوله: {مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} مفعول» أَنُطْعِمُ «و» أَطْعَمَهُ «جواب» لو «وجاء على أحد الجَائِزين (و) هو تجرده من اللام. والأفصح أن يكون بلام، نحو: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة: 65] قوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} يقول الكفار للمؤمنين: ما أنت إلا في خطأ بيِّن في اتِّباعكم محمداً وترك ما نحن عليه وهذا إشارة إلى أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد واعتقادهم هو الفاسد.
فصل
اعمل أنَّ» إنْ «وردت للنفي بمعنى» ما «وكان الأصل في» إن «أنْ تكون للشرط والأصل في» مَا «أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتعارضا واستعمل» ما «في الشرط، واستعمل» إن «في النفي.
أما وجه اشتراكهما فهو أن كل واحدة منها حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الأنف والميم من النون ولا بد أن يكون المعنى الذي يدخل عليه «ما» و «إنْ» لا يكون ثابتاً أما في «ما» فظاهر وأما في «إنْ» فلأنك إذا قلت: «إنْ جَاءَ زَيْدٌ أَكْرِمْه» ينبغي أن لا يكون منه في الحال (مجيء)(16/234)
فاستعمل إنْ مكان «ما» وقيل: «إنْ زَيْدٌ قَائِمٌ» أي ما زيد بقائم. واستعمل ما في الشرط تقول: مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ والذي يدل على ما ذكرنا أن «ما» النافية تستعمل بحيث لا تستعمل إن (وذلك) لأنك تقول: «مَا إنْ جَلَسَ زَيْدٌ» فتجعل إنْ «صلة» ولا تقول: «إنْ جَلَسَ زَيْدٌ» ، بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول: إِمَّا ترين فتجعل «إنْ» أصلاً و «ما» صلة فدلنا هذا على أَنَّ «إنْ» في الشرط أصل و «ما» دخيل فيه و «ما» في النفي بالعَكْسِ.
فصل
قوله: {إنْ أَنْتُمْ} يفيد ما لا يفيد قوله: {أَنْتُمْ فِي ضَلاَلٍ} لأنه يوجب الحصر وأنه ليسُوا في غير الضَّلالِ، ووصف الضلال بالمُبِين أي أنه لظِهوره تبين نفسه أنه ضلال أي في ضلالٍ لا يخفى على أحد أنه في ضَلالَ.
وقوله: «في ضلال» يفيد كونهم مَغْمُورينَ فيه غائصين، فأما قوله في موضع آخر: «عَلَى بَيِّنَةٍ» و «عَلَى هُدى» فهو إشارة إلى كونهم راكبينَ متن الطريق المستقيم قَادِرينَ عليه.
فصل
إنما وصفوا المؤمنين بأنهم في ضَلالَ مبين لظنهم أن كلام المؤمنين متاقض ومن يتناقض كلامهُ يكون في غاية الضلال قال ابن الخطيب: ووجه ذلك أنهم قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه وهذا إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم فهو يطعمهم فكان الأمر بإطعامهم أمراً بتحصيل الحاصل وإن لم يشأ إطعامهم لا يقدر أحدٌ على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ فلا قدرة لنا على الإطعام فكيف تأمروننا بالإطعام؟! ووجه آخر وهو أنهم قالوا إن أراد الله تجويعهم فلو أطْعَمْنَاهُم يكون ذلك سعياً في إبطال(16/235)
فعل الله وأنه لا يجوز وأنتم تقولولن أطعموهم فهو ضلال. واعلم أنه لم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر وذلك لأن العبد إذا أمره السِّيدُ بأمر لا ينبغي الإطِّلاَعُ على المقصود الذي لأجهل الذي أمره به مثاله إذا أراد الملك الركوب للهجوم على عَدُوَّه بحيث لا يَطَّلع عليه أحد وقال للعبد: أَحْضِر المركوبَ فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عوه على الحَذَرِ منه وكشف سره فالأدب في الطاعة هو اتباع الأمر لا تتبع المراد فاللَّه تعالى إذ (ا) قال: أنفقوا مما رزقكم الله لا يجوز أن يقال: لِمَ لَمْ يطعمهم (الله) مما في خزائنه؟ .(16/236)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
قوله: {وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد} أي القيامة والبعث «إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» وهذا إشارة إلى ما اعتقدوا أن التقوى المأمور بها في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا} [يس: 45] والإنفاق المذكور في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا} [يس: 45] لا فائدة فيه لأن لا حقيقة له وقولهم: «مَتَى هَذَا الوَعْدُ» أي متى يقع المَوْعُودُ به.
فصل
«إنْ» للشرط وهي تستدعي جزاء و «متى» استفهام لا تصلح جواباً فيه فما الجواب؟ .
قيل: هو في صورة الآستفهام وهو في المعنى إنكار كأنهم قالوا: إن كنتم صادقين في قوع الحشر فَقُلُوا متى يكون.
فصل
الظاهر أن هذا الخطاب مع الأنبياء لما أنكروا الرسالة قالوا إن كنتم أيها المُدَّعونَ للرسالة صادقين فأخبرونا متى يكون ما تَعِدُونَنَا به.(16/236)
فإن قيل: ليس في هذا الموضع وعد فالإشارة بقوله: «هَذَا الوَعْد» إلى أي وعد؟
فالجواب: هو ما في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} [يس: 45] من قيام الساعة، أو نقول: هو معلوم وإن لم يكن مذكوراً لكون الأنبياء مقيمين على تذكيرهم بالساعة والحساب والثواب والعقاب.
قوله: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} قال ابن عباس: ما ينتظرون إلاّ الصيحة المعلومة يريد النفخة الأولى والتنكير للتكثير.
فإن قيل: هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها.
فالجواب: المراد بالانتظار فعلهم لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله الهوان وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وعلمه بأنهم لا يفوتونه أو يقال: لما لم يكن قولهم «متى» استفهاماً حقيقياً قال ينتظرون انتظاراً غير حقيقي لأن القائل متى يفهم منه الانتظار نظر لقوله.
فصل
ذكر في الصيحة أموراً تدل على عظمتها:
أحدها: التنكير
وثانيها: قوله «واحدة» أي لا يحتاج معها إلى ثانية.
ثالثها: «تأخذهم» أي تَعْمُّهم بالأَخْذِ وتصلُ إلى مَنْ في الأرض مشارقِهَا ومَغَارِبها.
قوله: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} قرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خَصَم يَخْصِمُ. والمعنى بخصم بعضهم بعضاً فالمفعول محذوف، وأبو عمرو وقالوا بإخفاء فتحة الخاء، وتشديد الصاد. ونافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنه بإخلاص فتحة الخاء، والباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد والأصل في القراءات الثلالث يَخطْتَصُمُونَ فأدغمت التاء في الصاد. فنافع وابن كثير وهشام نقولا فتحتها إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنْبِيهاً على أن الخاء أصلها السكون والباقون حذفوا حركتها(16/237)
فالتقى ساكنان كذلك فكسر (وا) أولهما. فهذه أربع قراءات قرئ بها في المشهور، وروي عن أبي عمرو وقالون سكون الخاء وتشديد الصاد فالنحاة يستشكلونها للجمع بين ساكنين على غير حَدِّيْهمَا.
وقرأ جماعة «يخِصِّمُونَ» بكسر الياء والخاء وتشديد الصاد وكسروا الياء إتباعاً وقرأ أبيّ يَخْتَصِمُونَ على الأصل، وقال أبو حيان وروي عنهما - أي عن أبي عمرو وقالون - سكون الخاء، وتخفيف الصاد من خَصَم قال شهاب الدين: هذه هي قراءة حَمْزَةَ ولم يحكِها هو عنه، وهذا يشبه قوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] في البقرة و «لاَ يَهْدِّي» في يُونُس وقرأ ابن مُحَيْصِن «يرجعون» مبنيٍّا للمفعول.
فصل
قال عليه (الصلاة و) السلام: «لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرجُلاَنِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلاَ يِبِيعانِهِ وَلاَ يَطْوِيَانِهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ الرَّجُلُ أَكْلَتَهُ إلَى فِيهِ فَلاَ يَطْعَمُها» .
قوله: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي لا يقدرون على الإيصاء قال مقاتل: أي أعجلوا عن الوصية فماتوا «وَلاَ إلَى أَهْلِهِمْ يرْجِعُونَ» يَنْقَلِبُونَ. أي أنَّ الساعة لا تُمْهِلْهُم لشيء.
واعلم أن قول القائل: فلان في هذه الحالة لا يوصي دون قوله لايستطيع التوصية لأن ما من لايوصي قد يستطيعها والتوصية بالقول، والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل فقال: لا يتسطيعون كلمة، فكيف الذي يحتاج إلى زمن طويل من أداء الواجبات ورد المظالم؟! واعتبار الوصية من بين سائر الكلمات يدل على أنه لا قدرة له على أهم الكلمات فإن وقت الموت الحاجة إلى الوصية أمسّ. والتنكير في التوصية للتعميم أي لا(16/238)
يقدر على توصية (ما) ولو كانت بِكَلِمةٍ يسيرة، ولأن الوصية قد تحصل بالإشارة، فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. قوله: {إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} بيان لشدة الحاجة إلى التوصية، ثم بين ما بعد الصيحة الأولى فقال: {وَنُفِخَ فِي الصور} أي نفخ فيه أخرى كقوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] وقرأ الأعرج ونفخ في الصور بتفح لاواو وهي القبور واحدها جَدَث، وقرئ من الأجدافِ بالفاء، وهو لغة في الأجداث يقال: جَدَث، وجَدَف كثمَّ وفُمَّ، وثُوم، وفُوم.
فإن فيل: أين يكون ذلك الوقت وقد زلزت الصيحة الجبال؟ .
فالجواب: أن الله يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقْرِرَ فيه من ذلك الموضع وهو جدثه.
قوله: {إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} أي يخرجون من القبور أحياء. وقرأ ابنُ أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية: يَنْسُلُونَ بضم السين، يقال: نَسَلَ الثعلبُ يَنْسِلُ وَنْسُلُ إذا أسرع في عَدْوِهِ، ومنه قيل للولد: نَسَل لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه.
فإن قيل: المسيء إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى والنَّسلاَن سرعة الشيء فكيف يوجد بينهم ذلك؟
فالجواب: ينسلون من غير اختيارهم والمعنى أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث نفخ في الصور فيكون في وقته جمع وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد، فقوله: «إذَا هُمْ يَنْسِلُونَ» أي في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب.
فإن قيل: قال في آية {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] وقال ههنا: {فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} والقيام غير النسلان فقوله في الموضعين: «إذا هم» يقتضي أن يكونا معاً.(16/239)
فالجواب من وجهين:
الأول: أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر.
الثاني: أن لسرعة الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل:
4183 - مِكَرِّ مِفَرِّ مُقْبِل مُدْبِرٍ مَعاً..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
واعمل أن النفختين تورثان تزلزلاً وانقلاباً للأجرام فعند اجتماع الأجرامِ يُفَرِّقها وهو المراد بالنفخة الأولى وعند تفرق الأجرام يجمعها وهو النفخة الثانية.
قوله: {ياويلنا} العامة على الإضافة إلى ضمير المتكلمين دون تأنيث وهو «ويل» مضاف لما بعده. ونقل أبو البقاء أن «وَيْ» كلمة براسها عن الكوفيين و «لنا» جار ومجرور انتهى قال شهاب الدين: ولا معنى لهذا إلا بتأويل بعيد وهو أن يكون يا غَجَب لنا، لأن «وَيْ» تفسير بمعنى أعجب منا وابنُ أَبِي لَيْلَى يا ويلتنا بتاء التأنيث وعنه أيضاً يَا وَيْلَتِي بإبدال التاء ألفاً وتلأأويل هذه أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي.
قوله: {مَنْ بَعَثَنَا} العامة على فتح ميم «من» و «بعثنا» فعلاً ماضياً خبراً «لمنْ» الاستفهامية قبله، وابن عباس والضحاك وأبو نُهَيْك بكسر الميم على أنها حرف جر، و «بعثنا» مصدر مجرور «بمن» ف «من» الأولى تتعلق بالويل والثانية تتعلق بالبعث. والمَرْقَدُ يجوز أن يكون مصدراً أي من رُقَادِنَا وأن يكون مكاناً وهو مفرد(16/240)
أقيم مُقَام الجمع والأول أحسن؛ إذ المصدر يفرد مطقاً.
فصل
قال ابن عباس وأبيّ بن كعب وقتادة: إنما يقولون هذا لأن الله يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة، دعوا بالويل. وقال (أهل) المعاني: الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم فقالوا: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا.
فإن قيل: لو قيل: فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون يا ويلنا كان أليق قال ابن الخطيب: نقول: معاذ الله وذلك لأن قوله إذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون إشارة إلى أنهم تعالى باسرع زمان يجمع أجزاءهم وؤلفها ويحييها ويحركها بحيث يقع نسلانهم في وقت النفخ مع أن ذلك لا بدّ له من الجمع والتأليف فلو قال يقولون لكان ذلك مثل الحال لنيسلون أي نسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك فإن قولهم: يا ويلنا قبل أن ينسلوا وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفائدة.
فإن قيل: ما وجه تعلق «مَنْ بعَثنَا مِنْ مَرْقَدِنَا» بقولهم «يَا وَيْلَنَا» ؟
فالجواب: لما بعثوا تذكروا ما كانوا يمسعون من الرسل فقالوا: يَاوَيْلَنَا أبَعَث الله البَعْثَ الموعود به أم كنا نِيَاماً هنا كما إذا كان إنسان موعوداً بأن يأتيه عدو لايطيقه ثم يَرَى رَجُلاً هائلاً يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول أهذا ذاك أم لا؟ .
ويدل على هذا قولهم: {مِنْ مَرْقَدِنَا} حيث جعلوا القبور موضع الرُّقَاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نيَاماً فنبهوا أو كانوا موتى فبعثوا وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين وقالوا من بعثنا إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به وقالوا من مرقدنما إشارة إلى توهمهم احتمال الانْتِبَاه.
قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} في «هذا» وجهان:
أظهرهما: أنه مبتدأ وما بعده خبره ويكون الوقوف تامًّا على قوله: {مِن مَّرْقَدِنَا} وهذه الجملة حينئذ فيها وجهان:(16/241)
أحدهما: أنها مستأنفة إما من قول الله تعالى، أو من قول الملائكة، أو من قول المؤمنين للكفار.
الثاني: أنها من كلام الكفار فيكون في محلّ نصب بالقَول.
والثاني من الوجهين الأولي: (أن) «هذا» صفة «لمرقدنا» و «مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ» منقطع عما قبله ثم في «ما» وجهان:
أحدهما: أنها في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر أي الذي وعده الرحمن وصدق فيه المرسلون حق عليكم وإليه ذهب الزجاج والزمخشري.
والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هذا وعد الرحمن، وقد تقدم في ألو الكهف أن حَفْصاً يقف على «مرقدنا» وقفلةً لطيفة دون قطع نفس لئلا يتوهم أن اسم الإشارة تباع ل «مَرْقَدِنَا» وهذا الوَجْهَانِ يقويان ذلك المعنى المذكور الذي تعمد الوقف لأجله، و «ما» يصحّ أن تكون موصولة اسمية أو حرفية كما تقدم ومفعولاً الوعد والصدق محذفوفان أي وَعَدَنَاهُ الرَّحْمَنُ وصَدَقَنَاهُ المرسلون والأصل «صدقنا فيه» ويجوز حذف الخاضف وقد تقدم ذلك نحو: صَدَقَنِي سنَّ بكْرِ (هِ) أي في سنه.
قوله: {ِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} تقدمت قراءتا: {صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 53] نصباً ورفعاً أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة، ويدل على النفخة قوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} ويحتمل أن يقال: إنها كانت الواقعة وقرئت الصيحة مرفوعة على أن «كان» هي التامة بمعنى «ما وقعتْ إلاَّ صَيْحَةٌ» قال الزمخشري: لو كان كذلك لكان الأحسن أن(16/242)
يقال: إن كان؛ لأن المعنى حينئذ ما وقع شيء إلى صيحة لكن التأنيث جائز إحالته على الظاهر ويمكن أن يقول الذي قرأ بالرفع إن قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] تأنيث تهويل ومبالغة بدليل قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] فإنها للمبالغة فكذلك ههنا قالك «إنْ كانت إلا موتتنا الأولى» تأنيث تهويل، ولهذا جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحَاقَة والصَّاخَّة إلى غيرها.
والزمخشري يقول: كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة. وقوله «محضرون» دليل على أنّ كونهم نسلون إجباريّ لا اختياريّ ثم بين ما يكون في ذلك اليوم فقال: {فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} فاليوم منصوب «بلاَ تُظْلَمُ» و «شيئاً» إما مفعول ثانٍ وإماغ مصدر.
فقوله: {لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ} (و) {وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ليَيْأسَ المجرمُ والكافر.
فإن قيل: ما الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى أمان المؤمن؟
فالجواب: أن قوله: {لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} يفيد العموم وهو كذلك فإنه لا يظلم أحداً وأما «لا تجزون» فيختص بالكافر لأن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن لله فضلاً مختصاً بالمؤمن وعدلاً عاماً فيه. وفيه بشارة.(16/243)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
ثم بيّن حال المحسن فقال: {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} فقوله: {فِي شُغُلٍ} يجوز أن يكون خبراً ل «إنّ» و «فَاكِهُونَ» خبر ثانٍ وأن يكون «فاكهون» هو(16/243)