وقال الزمخشري: الخَصْم صفة وصف بها الفوج أو الفريق، فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان يختصمان، وقوله:» هَذَانِ «للفظ، و» اختَصَمُوا «للمعنى، كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ} [محمد: 16] ، ولو قيل: هؤلاء خصمان أو اختصما جاز أن يراد المؤمنون والكافرون. قال شهاب الدين: إن عنى بقوله: أن خصماً صفة بطريق الاستعمال المجازي فمسلم، لأن المصدر يكثر الوصف به، وإن أراد أنه صفة حقيقية فخطأه ظاهر لتصريحهم بأن نحو رجل خَصْم مثل رجل عَدْل، وقوله:» هذان «للفظ. أي: إنما أشير إليهم إشارة المثنى، وإن كان في الحقيقة المراد الجمع باعتبار لفظ الفوجين والفريقين ونحوهما. وقوله: كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ} [محمد: 16] إلى آخره فيه نظر، لأن في تيك الآية تقدم شيء له لفظ ومعنى وهو» من «، وهنا لم يتقدم شيء له لفظ ومعنى.
وقوله تعالى: {فِي رَبِّهِمْ} أي: في دين ربهم،، فلا بد من حذف مضاف أي جادلوا في دينه وأمره. وقرأ الكسائي في رواية عنه» خصمان «بكسر الخاء. واحتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله: {هذان خَصْمَانِ اختصموا} . وأجيب بأن المعنى جمع كما تقدم.
فصل
اختلفوا في تفسير الخَصْمَيْن، فقيل: المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم، وطائفة الكفار وجماعتهم، وأن كل الكفار يدخلون في ذلك، قال ابن عاس: رجع أهل الأديان الستة» في رَبِّهِم «أي في ذاته وصفاته. وقيل: إنّ أهل الكتاب قالوا: نحن أحق بالله، وأقدم منكم كتاباً، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تكتمونه، وكفرتم به حسداً، فهذه خصومتهم في ربهم. وقيل: هو ما روى قيس بن عباد عن أبي ذر الغفاري(14/47)
أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن المغيرة.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله. وقال عكرمة: هما الجنة والنار. قالت النار: خلقني الله لعقوبته، وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، فقص الله على محمد خبرهما. والأقرب هو الأول؛ لأن السبب وإن كان خاصاً فالواجب حمل الكلام على ظاهره.
وقوله: «هَذَانِ» كالإشارة إلى ما تقدم ذكره، وهم الأديان الستة المذكورون في قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [الحج: 17] .
وأيضاً ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب، فوجب رجوع ذلك إليهما، فمن خص به مشركي العرب واليهود من حيث قالوا في نبيهم وكتابهم ما حكينا فقد أخطأ، وهذا هو الذي يدل على أن قوله: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} [الحج: 17] أراد به الحكم، لأن ذلك التخاصم يقتضي أن الواقع بعده حكماً. فبين تعالى حكمه في الكفار، وذكر من أحوالهم ثلاثة أمور:
أحدها: قوله: {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} ، وهذه الجملة تفصيل وبيان لفصل الخصومة المعني بقوله تعالى: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} [الحج: 17] قاله الزمخشري.
وعلى هذا فيكون «هَذَانِ خَصْمَانِ» معترضاً، والجملة من «اخْتَصَمُوا» حالية وليست مؤكدة لأنها أخص من مطلق الخصومة المفهومة من «خَصْمَان» وقرأ الزعفراني في اختياره «قُطِعَتْ» مخفف الطاء، والقراءة المشهورة تفيد التكثير وهذه تحتمله. والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] ، وقال سعيد بن جبير: ثياب من نحاس مذاب. وقال بعضهم: يلبس أهل النار مقطعات من النار.(14/48)
قوله: «يُصَبُّ» هذه الجملة تحتمل أن تكون خبراً ثانياً للموصول، وأن تكون حالاً من الضمير في «لَهُمْ» ، وأن تكون مستأنفة. والحميم الماء الحار الذي انتهت حرارته، قال ابن عباس: لو قطرت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها.
قوله: «يُصْهَر» جملة حالية من الحميم، والصهر الإذابة، يقال: صَهَرْتُ الشحم، أي: أذبته، والصهارة الألية المذابة، وصهرته الشمس: أذابته بحرارتها، قال:
3753 - تَصْهَرُه الشَّمْسُ وَلاَ يَنْصَهِر ... وسمي الصِّهْرُ صِهْراً لامتزاجه بأصهاره تخيلاً لشدة المخالطة. وقرأ الحسن في آخرين «يُصَهِّر» بفتح الصاد وتشديد الهاء مبالغة وتكثيراً لذلك، والمعنى: أن الحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم يذيب ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء.
قوله: «والجُلُود» فيه وجهان:
أظهرهما: عطفه على «ما» الموصولة، أي: يذيب الذي في بطونهم من الأمعاء، ويذاب أيضاً الجلود، أي يذاب ظاهرهم وباطنهم.
والثاني: أنه مرفوع بفعل مقدر أي: يحرق الجلود.
قالوا: لأن الجلد لا يذاب إنما ينقبض وينكمش إذا صلي بالنار، وهو في التقدير كقوله:
3754 - عَلَفْتُهَا تِبْناً (وَمَاءً بَارِداً)(14/49)
3755 - وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا ... {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] فإنه على تقدير: وسقيتها ماء، وكحلن العيون، واعتقدوا الإيمان. قوله: «وَلَهُمْ مَقَامِعُ» يجوز في هذا الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه يعود على «الذين كفروا» ، وفي اللام حينئذ قولان:
أحدهما: أنها للاستحقاق. والثاني: أنها بمعنى (على) كقوله: «وَلَهُمُ اللَّعْنَة» وليس بشيء.
والوجه الثاني: أن الضمير يعود على الزبانية أعوان جهنم، ودل عليهم سياق الكلام، وفيه بعد. «مِنْ حَدِيد» صفة ل «مَقَامِعُ» ، وهي مِقْمَعَة بكسر الميم، لأنها آلة القمع، يقال: قمعه يقمعه: إذا ضربه بشيء يزجره به، ويذله، والمقمعة: المطرقة، وقيل: السوط، أي: سياط من حديد، وفي الحديث «لَوْ وُضِعَتْ مِقْمَعَةٌ مِنْهَا في الأَرْضِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا الثَّقَلاَنِ (مَا أَقَلّوهَا) » .
قوله: «كُلَّمَا أَرَادُوا» . «كُلّ» نصب على الظرف، وتقدم الكلام في تحقيقها في البقرة، والعامل فيها هنا قوله: «أُعِيدُوا» . و «مِنْ غَمٍّ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه بدل من الضمير في «منها» بإعادة العمل بدل اشتمال كقوله:(14/50)
{لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] ، ولكن لا بد في بدل الاشتمال من رابط، فقالوا: هو مقدر تقديره: من غمها.
والثاني: أنه مفعول له، ولما نقص شرط من شروط النصب جر بحرف السبب. وذلك الشرط هو عدم اتحاد الفاعل، فإن فاعل الخروج غير فاعل الغم، فإن الغم من النار والخروج من الكفار. واعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج، والمعنى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها. ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن: أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضُرِبُوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً.
قوله: «وَذُوقُوا» منصوب بقول مقدر معطوف على «أُعِيدُوا» أي: وقيل لهم: {ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} ، أي: المُحْرِق مثل الأليم والوجيع. قال الزجاج: هو لأحد الخصمين، وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} .
قوله: «يُحَلَّوْنَ» العامة على ضم الياء وفتح اللام مشددة من حلاه يُحَلِّيه إذا ألبسه الحليّ. وقرئ بسكون الحاء وفتح اللام مخففة، وهو بمعنى الأول كأنهم عدوه تارة بالتضعيف وتارة بالهمزة. قال أبو البقاء: من قولك: أُحْلي أي: أُلبس الحلي هو بمعنى المشدد.
وقرأ ابن عباس بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه من حَلِيَت المرأة تَحْلَى فهي حال، وكذلك حَلِيَ الرجل فهو حال، إذا لبسا الحلي (أو صارا ذوي حليّ) .(14/51)
الثاني: أنه من حَلِيَ بعيني كذا يحلى إذا استحسنه، و «من» مزيدة في قوله «من أساور» قال: فيكون المعنى: يستحسنون فيها الأساور الملبوسة ولما نقل أبو حيان هذا الوجه عن أبي الفضل الرازي قال: وهذا ليس بجيد، لأنه جعل حلي فعلاً متعدياً، ولذلك حكم بزيادة (من) في الواجب، وليس مذهب البصريين، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز، لأنه لا يحفظ بهذا المعنى إلا لازماً، فإن كان بهذا المعنى كانت «من» للسبب، أي بلباس أساور الذهب يُحَلّون بعين من رآهم أي يحلى بعضهم بعين بعض.
وهذا الذي نقله عن أبي الفضل قاله أبو البقاء، وجوز في مفعول الفعل وجهاً آخر فقال: ويجوز أن يكون من حلي بعيني كذا إذا حسن، وتكون «من» مزيدة، أو يكون المفعول محذوفاً و «مِنْ أَسَاوِرَ» نعت له. فقد حكم عليه بالتعدي ليس إلا، وجوز في المفعول الوجهين المذكورين.
والثالث: أنه من حلي بكذا إذا ظفر به، فيكون التقدير: يُحَلَّوْنَ بأساور، و «من» بمعنى الباء، ومن مجيء حلي بمعنى ظفر قولهم: لم يَحْلَ فلان بطائل أي: لم يظفر به.
واعلم أن حلي بمعنى لبس الحلي أو بمعنى ظفر من مادة الياء لأنها من الحلية وأما حلي بعيني كذا، فإنه من مادة الواو؛ لأنه من الحلاوة، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} . في من الأولى ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها زائدة كما تقدم تقريره عن الرازي وأبي البقاء، وإن لم يكن من أصول البصريين.
الثاني: أنها للتبعيض أي: بعض أساور.
الثالث: أنها لبيان الجنس قاله ابن عطية، وبه بدأ وفيه نظر، إذ لم يتقدم شيء(14/52)
مبهم وفي «مِنْ ذَهَبٍ» لابتداء الغاية، وهي نعت لأساور. كما تقدم.
وقرأ ابن عباس «مِنْ أسور» دون ألف ولا هاء، وهو محذوف من «أساور» كما قالوا: جندل والأصل جنادل. قال أبو حيان: وكان قياسه صرفه، لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف. قال شهاب الدين: فقد جعل التنوين في جندل المقصور من جنادل تنوين صرف، وقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوين عوض، كهو في جوارٍ وغواشٍ وبابهما والأساور جمع سوار.
قوله: «ولُؤْلُؤاً» قرأ نافع وعاصم بالنصب، والباقون بالخفض. فأما النصب ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه منصوب بإضمار فعل تقديره: ويؤتون لؤلؤاً، ولم يذكر الزمخشري غيره، وكذا أبو الفتح حمله على إضمار فعل.
الثاني: أنه منصوب نسقاً على موضع «مِنْ أَسَاوِرَ» وهذا كتخريجهم «وَأَرْجُلَكُم» بالنصب عطفاً على محل «برؤوسكم» ، ولأن {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} في قوة: يلبسون أساور، فحمل هذا عليه.
الثالث: أنه عطف على «أَسَاوِرَ» ، لأن «من» مزيدة فيها كما تقدم.
الرابع: أنه معطوف على ذلك المفعول المحذوف، التقدير يحلون فيها الملبوس من أساور ولؤلؤاً ف «لُؤلُؤاً» عطف على الملبوس.(14/53)
وأما الجر فعلى وجهين:
أحدهما: عطفه على «أَسَاوِر» .
والثاني: عطفه على «مِنْ ذَهَب» ، (لأنَّ السوار يتخذ من اللؤلؤ أيضاً بنظم بعضه إلى بعض. فقد منع أبو البقاء أن يعطف على «ذَهَب» ) . قال: لأنَّ السوار لا يكون من اللؤلؤ في العادة. قال شهاب الدين: بل قد يتخذ منه في العادة السوار.
واختلف الناس في رسم هذه اللفظة في الإمام فنقل الأصمعي أنها في الإمام «لؤلؤ» بغير ألف بعد الواو. ونقل الجحدري أنها ثابتة في الإمام بعد الواو وهذا الخلاف بعينه قراءة وتوجيهاً جارٍ في حرف فاطر أيضاً. وقرأ أبو بكر في رواية المعلى بن منصور عنه «لؤلؤاً» بواو أولاً وياء آخراً، والأصل «لؤلؤاً» أبدل الهمزتين واوين، فبقي في آخر الاسم واو بعد ضمة، ففعل فيها ما فعل بأدل جمع دلو بأن قلبت الواو ياء والضمة كسرة.(14/54)
وقرأ ابن عباس «وَليلياً» بياءين فعل ما فعل الفياض ثم أتبع الواو الأولى للثانية في القلب وقرأ طلحة «وَلُولٍ» بالجرِ عطفاً على المجرور قبله، وقد تقدم، والأصل وَلُولُو بواوين ثم أعل إعلال أَدْلٍ. واللؤلؤ قيل: كبار الجوهر، وقيل: صغاره.
قوله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم والمعنى أنه تعالى يوصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا. قال عليه السلام «مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ في الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخرة، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه» .
قوله: {وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول} . يجوز أن يكون «من القول» حالاً من «الطيب» ، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن فيه. و «من» للتبعيض أو للبيان.
قال ابن عباس: الطيب من القول: شهادة أن لا إله إلا الله، ويؤيد هذا قوله: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم: 24] وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] . وهو صراط الحميد، لقوله: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] وقال ابن زيد: لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله. وقال السدي: هو القرآن. وقال ابن عباس في رواية عطاء: هو قول أهل الجنة: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] . {وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد} إلى(14/55)
دين الله وهو الإسلام، و «الحميد» هو الله المحمود في أفعاله.(14/56)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} الآية. لما فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت، وعظم كفر هؤلاء فقال {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام} وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد.
قال ابن عباس: نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عام الحديبية عن المسجد الحرام وعن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهَدْي، فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتالهم وهو محرم، ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل.
قوله: «وَيَصدُّونَ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه معطوف على ما قبله، وحينئذ ففي عطفه على الماضي ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنّ المضارع قد لا يقصد به الدلالة على زمن معين من حال أو استقبال وإنما يُراد به مجرد الاستمرار، فكأنه قيل: إن الذين كفروا ومن شأنهم الصدّ عن سبيل الله، ومثله: {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28] .
الثاني: أنه مؤول بالماضي لعطفه على الماضي.
الثالث: أنه على بابه فإن الماضي قبله مؤول بالمستقبل.
الوجه الثاني: أنه حال من فاعل «كَفَرُوا» ، وبه بدأ أبو البقاء. وهو فاسد ظاهراً، لأنه مضارع مثبت وما كان كذلك لا تدخل عليه الواو وما ورد منه على قلته مؤول، فلا يحمل عليه القرآن. وعلى هذين القولين فالخبر محذوف، واختلفوا(14/56)
في موضع تقديره، فقدره ابن عطية بعد قوله: «وَالبَادِ» أي: إن الذين كفروا خسروا أو أهلكوا، ونحو ذلك.
وقدره الزمخشري بعد قوله: «وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ» أي إن الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم، وإنما قدره كذلك؛ لأن قوله: {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يدل عليه. إلا أن أبا حيان في تقدير الزمخشري بعد «المَسْجِدِ الحَرَامِ» : لا يصح، قال: لأن «الَّذِي» صفة للمسجد الحرام، فموضع التقدير هو بعد «وَالْبَادِ» . يعني أنه يلزم من تقديره الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو خبر «إنَّ» فيصير التركيب: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم الذي جعلناه للناس.
وللزمخشري أن ينفصل عن هذا الاعتراض بأن «الَّذِي جَعَلْنَاه» لا نسلم أنه نعت للمسجد حتى يلزم ما ذكر بل نجعله مقطوعاً عنه نصباً أو رفعاً. ثم قال أبو حيان: لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية، لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك.
الوجه الثالث: أن الواو في «وَيَصُدُّونَ» مزيدة في خبر «إنَّ» تقديره: إن الذين كفروا (يصدون) .
وزيادة الواو مذهب كوفي تقدم بطلانه. وقال ابن عطية: وهذا مفسد للمعنى المقصود. قال شهاب الدين: ولا أدري فساد المعنى من أي جهة ألا ترى لو صرح بقولنا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ) لم يكن فيه فساد معنى، فالمانع إنما هو أمر صناعي عند أهل البصرة لا معنوي، اللهم إلا أن يريد معنى خاصاً يفسد بهذا التقدير فيحتاج إلى بيانه.
قوله: «الَّذِي جَعَلْنَاهُ» يجوز جره على النعت والبيان، والنصب بإضمار فعل،(14/57)
والرفع بإضمار مبتدأ. والجعل يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صيّر، وأن يتعدى لواحد. والعامة على رفع «سواء» . وقرأ حفص عن عاصم بالنصب هنا، وفي الجاثية «سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ» وافقه على الذي في الجاثية الأخوان وسيأتي توجيهه. فأما على قراءة الرفع، فإِن قلنا: إنَّ «جَعَلَ» بمعنى (صير) كان في المفعول الثاني ثلاثة أوجه:
أظهرها: أن الجملة من قوله: {سَوَآءً العاكف فِيهِ} هي المفعول الثاني، ثم الأحسن في رفع «سَوَاءٌ» أن يكون خبراً مقدماً، و «العاكف» ، والبادي مبتدأ مؤخر، وإنما وَحَّد الخبر وإن كان المبتدأ اثنين، لأنَّ «سَواءٌ» في الأصل مصدر وصف به، وقد تقدم أول البقرة. وأجاز بعضهم أن يكون «سَوَاءٌ» مبتدأ، وما بعده الخبر، وفيه ضعف أو منع من حيث الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ، ولأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة المبتدأ. وعلى هذا الوجه أعني كون الجملة مفعولاً ثانياً فقوله: «للنَّاس» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بالجعل، أي: جعلناه لأجل الناس كذا.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من مفعول «جَعَلْنَاهُ» ، ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجه غير ذلك، وليس معناه متضحاً.
الوجه الثاني: أنَّ «لِلنَّاسِ» هو المفعول الثاني، والجملة من قوله: «سَوَاءٌ العَاكِفُ» في محل نصب على الحال، إما من الموصول وإما من عائده وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء، وفيه نظر؛ لأنه جعل هذه الجملة التي هي محطّ الفائدة فضلة.(14/58)
الوجه الثالث: أن المفعول الثاني محذوف. قال ابن عطية: المعنى الذي جعلناه للناس قبلة ومتعبداً. فتقدير ابن عطية هذا مرشد لهذا الوجه. إلا أن أبا حيان قال: ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ؛ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني، فلا يحتاج إلى هذا التقدير وإن جعلناها متعدية لواحد كان قوله: «لِلنَّاسِ» متعلقاً بالجعل على الغلبة وجوَّز فيه أبو البقاء وجهين آخرين:
أحدهما: أنه حال من مفعول «جَعَلْنَاهُ» .
والثاني: أنه مفعول تعدى إليه بحرف الجر.
وهذا الثاني لا يتعقل كيف يكون «لِلنَّاسِ» مفعولاً عدي إليه الفعل بالحرف هذا ما لا يعقل، فإن أراد أنه مفعول من أجله فهي عبارة بعيدة من عبارة النحاة. وأما على قراءة حفص فإن قلنا: «جَعَلَ» يتعدى لاثنين كان «سواء» مفعولاً ثانياً. وإن قلنا: يتعدى لواحد كان حالاً من هاء «جَعَلْنَاهُ» وعلى التقديرين ف «العَاكِفُ» مرفوع به على الفاعلية؛ لأنه مصدر وصف به، فهو في قوة اسم الفاعل المشتق، تقديره: جعلناه مستوياً فيه العاكف، ويدل عليه قولهم: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٍ هُوَ وَالعَدَمُ، فهو تأكيد للضمير المستتر فيه، والعدم نسق على الضمير المستتر؛ ولذلك ارتفع، ويروى: سَوَاءٍ وَالعَدَمُ؛ بدون تأكيد وهو شاذ وقرأ الأعمش وجماعة «سَوَاء» نصباً «العَاكِف» جرًّا، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من الناس بدل تفصيل.(14/59)
والثاني: أنه عطف بيان، فهذا أراد ابن عطية بقوله: عطفاً على الناس.
ويمتنع في هذه القراءة رفع «سَوَاءٌ» لفساده صناعة ومعنى، ولذلك قال أبو البقاء: و «سَوَاء» على هذا نصب لا غير. وأثبت ابن كثير ياء «وَالبَادِي» وقفاً ووصلاً. وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً. وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً، وهي محذوفة في الإمام.
فصل
معنى الكلام: ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً كما قال: «وُضِعَ لِلنَّاسِ» وتقدم الكلام على معنى «سَوَاء» باختلاف القراءة.
وأراد ب «العَاكِف» المقيم فيه، و «البَادِي» الطارئ من البدو، وهو النازع إليه من غربته. وقال بعضهم: يدخل في «العَاكِف» الغريب إذا جاور ولزمه كالبعيد وإن لم يكن من أهله. واختلفوا في معنى «سَوَاء» فقال ابن عباس في بعض الروايات: إنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما أحق بالنزول الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون أحدهما سبق إلى المنزل، وهو قول قتادة وسعيد بن جبير، ومن مذهب هؤلاء تحريم كراء دور مكة وبيعها، واستدلوا بالآية والخبر أما الآية فهذه، قالوا: إن أرض مكة لا تملك، فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والباد، فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد. وأما الخبر فقوله عليه السلام: «مكة مناخ لمن سبق إليه»(14/60)
وهذا مذهب ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وأبي حنفية وإسحاق الحنظلي.
وقال عبد الرحمن بن سابط: كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة أحق بمنزله منهم. وكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم وعلى هذا فالمراد ب «المَسْجِدِ الحَرَامِ» الحرم كله؛ لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام وإرادة البلد الحرام جائز لقوله تعالى
{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] . وأيضاً فقوله: «العَاكِفُ» المراد منه المقيم، وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل. وقيل: {سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد} في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة، أي ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس، قال عليه السلام: «يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلب من وُلِّي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صَلّى أية ساعة من ليل أو نهار» وهذا قول من أجاز بيع دور مكة.
وقد جرت مناظرة بين الشافعي وإسحاق الحنظلي بمكة وكان إسحاق لا يرخِّص في كراء بيوت مكة، فاحتج الشافعي بقوله تعالى: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم} [الحج: 40] . فأضاف الديار إلى مالكيها أو إلى غير مالكيها. وقال عليه السلام يوم فتح مكة: «من أغلق بابه فهو آمن» ، وقوله عليه السلام: «هل ترك لنا عقيل من رباع» وقد اشترى عمر بن الخطاب دار السجن، أترى أنه اشتراها من مالكيها أو من غير مالكيها.(14/61)
قال إسحاق: فلما علمت أن الحجة لزمتني تركت قولي. والقول بجواز بيع دور مكة وإجارتها قول طاوس وعمرو بن دينار وبه قال الشافعي.
قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن مفعول «يُرِدْ» محذوف، وقوله: «بإلحَادٍ بظُلمٍ» حالان مترادفان، والتقدير: ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً نذقه من عذاب إليم. وإنما حذف ليتناول كل متناول، قال معناه الزمخشري.
والثاني: أنّ المفعول أيضاً محذوف تقديره: ومن يرد فيه تَعَدِّيا، و «بإلحاد» حال، أي: ملتبساً بإلحاد، و «بِظُلْمٍ» بدل بإعادة الجار.
الثالث: أن يكون «بظلم» متعلقاً ب «يُرِدْ» والباء للسببية، أي: بسبب الظلم و «بإلحَادٍ» مفعول به، والباء مزيدة فيه كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] .
3756 - لاَ يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ ... وإليه ذهب أبو عبيدة، وأنشد للأعشى:
3757 - ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيالنَا أَرْمَاحُنَا ...(14/62)
أي: ضمنت رزق. ويؤيده قراءة الحسن: {وَمَنْ يُرِدْ إلحَادَهُ بِظُلْمٍ} .
قال الزمخشري: أراد إلحاده فيه، فأضافه على الاتساع في الظرف ك «مَكْرُ اللَّيْلِ» ومعناه: ومن يرد أن يلحد فيه ظالماً.
الرابع: أن تضمن «يُرِدْ» معنى يلتبس فذلك تعدى بالباء، أي: ومن يلتبس بإلحاد مريداً له. والعامة على «يُرِد» بضم الياء من الإرادة. وحكى الكسائي والفراء أنه قرئ «يَرد» بفتح الياء، قال الزمخشري: من الورود ومعناه: من أتى فيه بإلحاد ظالماً.
فصل
الإلحاد: العدول عن القصد، وأصله إلحاد الحافر. واختلف المفسرون فيه، فقيل: إنه الشرك، أي مَن لجأ إلى الحرم ليشرك به عَذّبه الله، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس، وهو قول مجاهد وقتادة.
وروي عن ابن عباس هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم من لا يظلمك. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سعد حيث استسلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فارتد مشركاً، وفي قيس بن (ضبابة) . وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن خطل حيث قتل الأنصاريّ وهرب إلى مكة كافراً، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقتله يوم الفتح. وقال مجاهد: تضاعَفُ السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات.(14/63)
وعن سعيد بن جبير وحبيب بن أبي ثابت: هو احتكار الطعام بمكة. وعن عطاء هو قول الرجل في المبايعة: لا والله وبلى والله. وعن عبد الله بن عمر: أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فقيل له في ذلك فقال: كنا نُحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله، وبلى والله.
وعن عطاء: هو دخول الحرم غير محرم وارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر. ولما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بيَّن تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلاً إلى الظلم فلهذا قرن الظلم بالإلحاد؛ لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم، ولذلك قال تعالى {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
وقوله: {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} بيان للوعيد.(14/64)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} الآية. أي؛ اذكر حين، واللام في «لإبراهيم» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها للعلة، ويكون مفعول «بَوَّأْنا» محذوفاً، أي: بوأنا الناس لأجل إبراهيم مكان البيت، و «بَوَّأَ» جاء متعدياً صريحاً قال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني(14/64)
إِسْرَائِيلَ} [يونس: 93] {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58] ، وقال الشاعر:
3758 - كَمْ صَاحِبٍ لِي صَالِحٍ ... بَوَّأْتُه بِيَدَيَّ لَحْدا
والثاني: أنها مزيدة في المفعول به، وهو ضعيف لما تقرر أنها لا تزاد إلا بعد تقدم معمول أو كان العامل فرعاً.
الثالث: أن تكون معدية للفعل على أنه مضمن معنى فعل يتعدى بها، أي؛ هيأنا له مكان البيت، كقولك: هيأت له بيتاً، فتكون اللام معدية قال معناه أبو البقاء.
وقال الزمخشري: واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة ففسر المعنى بأنه ضمن «بَوأْنا» معنى (جعلنا) ، ولا يريد تفسير الإعراب. وفي «مكان البيت» وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول به.
والثاني: قال أبو البقاء: أن يكون ظرفاً. وهو ممتنع من حيث إنه ظرف مختص فحقه أن يتعدى إليه ب (في) .
فصل
روي أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات:
أحدها: بناء الملائكة قبل آدم، وكانت من ياقوتة حمراء، ثم رفعت إلى السماء أيام الطوفان.
والثانية: بناء إبراهيم - عليه السلام -.
والثالثة: بناء قريش في الجاهلية، وقد حضر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا البناء.(14/65)
والرابعة: بناء ابن الزبير.
والخامسة: بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم.
«وروى أبو ذر قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال:» المسجد الحرام «.
قال: ثم قلت: أي؟ قال:» المسجد الأقصى «. قلت: كم بينهما؟ قال:» أربعون سنة «والمسجد الأقصى أسسه يعقوب - عليه السلام - وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بعثَ اللَّهُ جبريلَ عليه السلام إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا ليَ بيتاً، فخطّ لهما جبريل فجعل آدمُ يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء نودي من تحته: حسبك يا آدم. فلما بنياه أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه «روي عن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم - عليه السلام - أن ابنِ لي بيتاً في الأرض، فضاق به زرعاً، فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج لها رأس، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت، ثم تطوقت في موضع البيت تطوُّق الحية، فبنى إبراهيم حتى إذا بلغ مكان الحجر، قال لابنه: ابغني حجراً، فالتمس حجراً حتى أتاه به، فوجد الحجر الأسود قد ركب، فقال لأبيه: من أين لك هذا؟ قال: جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء فأتمه، قال: فمرّ عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يومئذ رجل شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا: نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أول من خرج، فقضى بينهم أن يجعلوه في مربط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم، فرفعوه، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فوضعه، وكانوا يدعونه الأمين.
قال موسى بن عقبة: كان بناء(14/66)
الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة. قال ابن إسحاق: كانت الكعبة على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثماني عشرة ذراعاً، وكانت تكسى القباطي ثم كسيت البرود، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.
وأما المسجد الحرام فأول من أخر بنيان البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب اشتراها من أهلها وهدمها، فلما كان عثمان اشترى دوراً وزادها فيه، فلما وُلّي ابن الزبير أحكم بنيانه وأكثر أبوابه وحسن جدرانه، ولم يوسعه شيئاً آخر، فلما استوى الأمر إلى عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج، وتولى ذلك بأمره الحجاج.
وروي أن الله تعالى لما أمر إبراهيم - عليه السلام - ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله تعالى ريحاً خجوجاً فكشفت ما حول البيت عن الأساس. وقال الكلبي: بعث الله سحابة بقدر البيت، فقامت بحيال البيت فيها رأس يتكلم وله لسان وعينان يا إبراهيم ابن على قدري وحيالي، فبنى عليه.
قوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ} في «أَنْ» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها هي المفسرة. قال الزمخشري بعد أن ذكر هذا الوجه: فإن قلت: كيف يكون النهي عن الشرك، والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئِة. قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، وكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا لا تشرك. يعني الزمخشري أن «أن» المفسرة لابد أن يتقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ولم يتقدم(14/67)
إلا لتبوئة وليست بمعنى القول فضمنها معنى القول، ولا يريد بقوله: قلنا: لا تشرك. تفسير الإعراب بل تفسير المعنى، لأن المفسرة لا تفسر القول الصريح.
الثاني: أنها المخففة من الثقيلة. قاله ابن عطية. وفيه نظر من حيث إن (أن) المخففة لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة.
الثالث: أنها المصدرية التي تنصب المضارع، وهي توصل بالماضي والمضارع والأمر، والنهي كالأمر، وعلى هذا ف «أن» مجرورة بلام العلة مقدرة أي: بوأناه لئلا تشرك، وكان من حق اللفظ على هذا الوجه أن يكون «أن لا يشرك» بياء الغيبة، وقد قرئ بذلك، قاله أبو البقاء: وقوى ذلك قراءة من قرأة بالياء.
يعني من تحت. ووجه قراءة العامة على هذا التخريج أن يكون من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
الرابع: أنها الناصبة ومجرورة بلام أيضاً، إلا أن اللام متعلقة بمحذوف، أي: فعلنا ذلك لئلا تشرك، فجعل النهي صلة لها، وقَوَّى ذلك قراءة الياء قاله أبو البقاء. والأصل عدم التقدير مع عدم الاحتياج إليه. وقرأ عكرمة وأبو نهيك {أن لا يشرك} بالياء.
قال أبو حيان: على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له. وقال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى: لئلا يُشْرِكَ. قال شهاب الدين: كأنه لم يظهر له صلة (أَنْ) المصدرية بجملة النهي؛ فجعل (لاَ) نافية، وسلّط (أَنْ) على(14/68)
المضارع بعدها حتى صار علة للفعل قبله، وهذا غير لازم لما تقدم من وضوح المعنى مع جعلها ناهية.
فصل
وههنا سؤالات:
الأول: إذا قلنا: أنّ (أَنْ) هي المفسرة: فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة؟
والجواب: أنه سبحانه لما قال: جعلنا البيت مرجعاً لإبراهيم، فكأنه قيل: ما معنى كون البيت مرجعاً له، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه موحداً لرب البيت عن الشريك والنظير مشتغلاً بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام.
السؤال الثاني: أن إبراهيم - عليه السلام - لما لم يشرك بالله فيكف قيل: {لاَّ تُشْرِكْ بِي} ؟
والجواب: المعنى: لا تجعل في العبادة لي شريكاً، ولا تشرك بي غرضاً آخر في بناء البيت.
السؤال الثالث: أنَّ البيت ما كان معموراً قبل ذلك فكيف قال: «وَطَهِّرْ بَيتِي» .
والجواب: لعل ذلك المكان كان صحراء فكانوا يرمون إليها الأقذار، فأمر إبراهيم ببناء ذلك البيت في ذلك المكان وتطهيره عن الأقذار، أو كانت معمورة وكانوا وضعوا فيها أصناماً، فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء ووضع بناء جديد، فذلك هو التطهير عن الأوثان، أو يكون المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا ينبغي من الشرك.
وقوله: «لِلطَّائِفينَ» قال ابن عباس: للطائفين بالبيت من غير أهل مكة «والقائمين» أي: المقيمين فيها، «والرُّكَّع السُّجُود» أي: المصلين من الكل، وقيل: القائمون هم المصلون.
قوله: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} . قرأ العامة بتشديد الذال بمعنى (ناد) .(14/69)
وقرأ الحسن وابن محيصن «آذن» بالمد والتخفيف بمعنى أعلم. ويبعده قوله: «فِي النّاس» إذ كان ينبغي أن يتعدى بنفسه. ونقل أبو الفتح عنهما أنهما قرءا بالقصر وتخفيف الذال، وخرجها أبو الفتح وصاحب اللوامح على أنها عطف على «بَوَّأْنَا» أي: واذكر إذ بوأنا وإذ أُذن في الناس، وهي تخريج وضاح.
وزاد صاحب اللوامح فقال: فيصير في الكلام تقديم وتأخير ويصير «يأتوك» جزماً على جواب الأمر في «وَطهِّر» . وابن محصين «وآذن» بالمد: وتصحف هذا على ابن جنيّ فإنه حكى عنهما «وأَذِنَ» على أنه فعل ماض وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على «بَوَّأْنَا» . قال شهاب الدين: ولم يتصحف عليه بل حكى هذه القراءة أبو الفضل الرازي في اللوامح له عنهما، وذكرها أيضاً ابن خالويه، ولكنه لم يطلع عليها، فنسب من اطّلع عليها للتصحيف، ولو تأنّى أصاب أو كاد.
وقرأ ابن ابي إسحاق «بالحجِّ» بكسر الحاء حيث وقع كما تقدم.
فصل
قال أكثر المفسرين: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال الله له: {أذن في الناس بالحج} ، قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان وعليَّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا، وفي رواية أبا قبيس، وفي رواية على المقام. فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال: يا(14/70)
أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً، وقد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم، فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهم لبيك. قال ابن عباس: فأول من أجابه أهلُ اليَمَن فهم أكثر الناس حجاً. وقال مجاهد: من أجاب مرّة حجّ مرّة ومن أجاب مرتين أو أكثر فيحج مرتين أو أكثر بذلك المقدار. قال ابن عباس: لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى. وقال الحسن وأكثر المعتزلة: إنّ المأمور بالأذان هو محمد - عليه السلام - واحتجوا بأن ما جاء في القرآن وأمكن حَمْله على أن محمداً هو المخاطب فهو أولى وقد بينا أن قوله: «وَإِذْ بَوَّأنَا» ، أي: واذكر يا محمد إذ بوأنا، فهو في حكم المذكور، فلما قال: «وَأَذِّنْ» فإليه يرجع الخطاب. قال الجبائي: أمر محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يفعل ذلك في حجة الوداع. قالوا: إنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول، وفي قوله: «يَأْتُوكَ» دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدى به.
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُم الحجَّ فحُجُّوا» .
قوله: «رِجَالاً» نصب على الحال، وهو جمع راجل نحو: صاحب وصِحَاب، وتاجر وتجار، وقائم وقيام. وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز «رُجَّالاً» بضم الراء وتشديد الجيم.
وروي عنهم تخفيفها، وافقهم ابن أبي إسحاق على التخفيف، وجعفر بن محمد ومجاهد على التشديد، ورويت عن ابن عباس أيضاً. فالمخفف اسم جمع كظؤار، والمشدد جمع تكسير كصائم وصوام. وروي عن عكرمة أيضاً «رُجَالَى»(14/71)
كنُعَامى بألف التأنيث. وكذلك عن ابن عباس وعطاء إلا أنهما شددا الجيم. قوله: {وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} نسق على «رجالاً» ، فيكون حالاً أي: مشاة وركباناً. والضمور: الهزال، ضَمَر يضْمُر ضُمُوراً، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها.
قوله: «يأتين» . النون ضمير «كُلِّ ضَامِر» حملاً على المعنى، إذ المعنى: على ضوامر، ف «يَأْتِينَ» صفة ل «ضامر» ، وأتى بضمير الجمع حَملاً على المعنى، أي جماعة الإبل، وقد تقدم في أول الكتاب أن «كل إذا أضيفت إلى نكرة لم يراع معناها إلا في قليل، كقوله:
3759 - جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْتُ كُلَّ حَديقَة كَالدِّرْهَمِ
وهذه الآية ترده، فإن» كلّ «فيها مضافة لنكرة وقد روعي معناها، وكان بعضهم أجاب عن بيت زهير بأنه إنما جاز ذلك؛ لأنه في جملتين، قيل له: فهذه الآية جملة واحدة، لأن» يأتين «صفة ل» ضَامِر «. وجوَّز أبو حيان أن يكون الضمير يشمل» رجالاً «و» كل ضامر «قال: على معنى الجماعات والرفاق. قال شهاب الدين: فعلى هذا(14/72)
يجوز أن يقال عنده: الرجال يأتين، ولا ينفعه كونه اجتمع مع الرجال هنا» كل ضامر «، فيقال جاز ذلك لما اجتمع معه ما يجوز فيه ذلك إذ يلزم منه تغليب غير العاقل على العاقل وهو ممنوع. وقال البغوي: وإنما جمع» يَأْتِين «لمكان» كُلّ «وأراد النوق. وقرأ ابن مسعود والضحاك وابن أبي عبلة» يَأْتون «تغليباً للعقلاء الذكور. وعلى هذا فيحتمل أن يكون قوله: {على كل ضامر} حالاً أيضاً، ويكون» يأتون «مستأنفاً متعلق به من كل فج أي يأتونك رجالاً وركباناً ثم قال: {يأتون من كل فج} وأن يتعلق بقوله» يأتون «أي يأتون على كل ضامر من كل فجّ، و» يأتون «مستأنف أيضاً، فلا يجوز أن يكون صفة ل» رجالاً «ول» ضامر «لاختلاف الموصوف في الإعراب؛ لأن أحدهما منصوب والآخر مجرور، ولو قلت: رأيت زيداً ومررت بعمرو العاقلين. على النعت لم يجز بل على القطع. وقد جوَّز ذلك الزمخشري فقال: وقرئ» يَأْتُون «صفة للرجال والركبان وهو مردود بما ذكرنا. والفج: الطريق بين الجبلين، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعاً. والعميق: البعيد سفلاً، يقال: بئر عميقة معيقة، فيجوز أن يكون مقلوباً إلا أنه أقل من الأول، قال:
3760 - إِذَا الخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ ... يَمُدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شَاحِبُ
وقرأ ابن مسعود: «مَعِيقٌ» ويقال: عمق وعمق بكسر العين وضمها عمقاً بفتح الفاء قال الليث: عميق (ومعيق، والعميق في الطريق أكثر. وقال الفراء: عميق لغة الحجاز) ومعيق لغة تميم وأعمقت البئر وأمعقتها وعَمُقَت ومَعُقَت عماقة ومعاقة وإعماقاً وإمعاقاً قال رؤبة:(14/73)
3761 - وَقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي المُخْتَرقْ ... الأعماق هنا بفتح الهمزة جمع عُمْق وعلى هذا فلا قلب في معيق، لأنها لغة مستقلة، وهو ظاهر قول الليث أيضاً، ويؤيده قراءة ابن مسعود بتقديم الميم، ويقال: غميق بالغين المعجمة أيضاً.
فصل
بدأ الله بذكر المشاة تشريفاً لهم، وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل: يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف حسنة» .
وإنما قال تعالى: «يَأْتُوكَ رِجَالاً» ؛ لأنه هو المنادي فمن أتى مكة حاجّاً فكأنه أتى إبراهيم - عليه السلام -، لأنه يجيب نداءه.
قوله: «لِيَشْهَدُوا» يجوز في هذه اللام وجهان:
أحدهما: أن تتعلق ب «أَذِّنْ» ، أي: أذن ليشهدوا.
والثاني: أنها متعلقة ب «يَأْتُوكَ» . وهو الأظهر.
قال الزمخشري: ونكر «مَنَافِعَ» لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات. قل سعيد بن المسيب ومحمد بن علي الباقر:(14/74)
المنافع: هي العفو والمغفرة وقال سعيد بن جبير: التجارة، وهي رواية ابن زيد.
وعن ابن عباس قال: الأسواق. وقال مجاهد: التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا والآخرة. {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} قال الأكثرون: هي عشر ذي الحجة قيل لها «مَعْلُومَات» للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها.
والمعدودات: أيام التشريق. وروي عن علي: أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وهو اختيار الزجاج. لأن الذكر على «بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ» يدل على التسمية على نحرها. والنحر للهدايا إنما يكون في هذه الأيام. وروى عطاء عن ابن عباس: أنها يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق. وقيل: عبر عن الذبح والنحر بذكر اسم الله؛ لأن المسلمين لا ينفكون عن ذكر اسم الله إذا نحروا. ثم قال: {على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} يعني الهدايا والضحايا تكون من النعم، وهي الإبل والبقرة والغنم. قال الزمخشري: البهيمة المبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي: الإبل والبقر والغنم.
قوله: «فَكُلُوا مِنْهَا» . قيل: هذا أمر وجوب، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً تَرَفُّقاً على الفقراء.
وقيل: هذا أمر إباحة. واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً كان للمُهْدِي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر أن يؤخذ من كل جزور بضعه، فطبخت، وأكل لحمها، وحسي من مرقها، وكان هذا تطوعاً. واختلفوا في الهدي الواجب في النذور والكفارات والجبرانات للنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودم التقليم والحلق، والواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد. فقال الشافعي وأحمد: لا يأكل منه. وقال ابن عمر: لا(14/75)
يأكل من جزاء الصيد والنذور، ويأكل مما سواهما. وقال مالك: يأكل من هدي التمتع، ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور. وعند أصحاب الرأي: يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما.
قوله: {وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير} . يعني الزمن الفقير الذي لا شيء له.
قال ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني. والبؤس شدة الفقر.
قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} . العامة على كسر اللام، وهي لام الأمر. وقرأ نافع والكوفيون والبزي بسكونها، إجراء للمنفصل مجرى المتصل نحو كتف، وهو نظير تسكين هاء (هو) بعد (ثُمَّ) في قراءة الكسائي وقالون حيث أجريت (ثُمَّ) مجرى الواو والفاء والتَّفَث: قيل أصله من التف. وهو وسخ الأظفار قلبت الفاء ثاء كمعثور في معفور. وقيل: هو الوسخ والقذر يقال: ما تفثك. وحكى قطرب: تفث الرجل، أي: كثر وسخه في سفره. قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التّفَث إلا من التفسير. وقال المبرد: أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. وقال القفال: قال نفطويه: سألت أعرابياً فصيحاً ما(14/76)
معنى قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} ، فقال: ما أفسر القرآن، ولكنا نقول للرجل: ما أتفثك، أي: أوسخك وما أدرنك. ثم قال القفال: وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي. والمراد بالتفث هنا: الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث والحاج أشعث أغبر، والمراد قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. والمراد بالقضاء إزالة ذلك، والمراد به الخروج من الإحرام بالحلق وقص الشارب والتنظيف ولبس الثياب. وقال ابن عمر وابن عباس: قضاء التفث مناسك الحج كلها. وقال مجاهد: هو مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار. وقيل: التفث هنا رمي الجمار. وقيل: معنى «لِيَقْضُوا تَفَثَهُم» ليصنعوا ما يصنعه المحرم من إزالة شعر وشعث ونحوهما عند حله، وفي ضمن هذا قضاء جميع المناسك إذ لا يفعل هذا إلا بعد فعل المناسك كلها.
قوله: «وَليُوفُوا» . قرأ أبو بكر «وَليُوفُّوا» بالتشديد، والباقون بالتخفيف.
وتقدّم في البقرة أن فيه ثلاث لغات وَفّى، وَوفَى، وأَوْفَى. وقرأ ابن ذكوان: «ولِيوفوا» بكسر اللام، والباقون بسكونها. وهذا الخلاف جار في قوله «وَلِيَطَّوَّفُوا» . والمراد بالوفاء ما أوجبه بالنذر، وقيل: ما أوجبه الدخول في الحج من المناسك. قال مجاهد: أراد نذر الحج والهدي، وما ينذره الإنسان من شيء يكون في الحج. وقيل: المراد الوفاء بالنذر مطلقاً وقوله: «وَلِيَطَّوَّفُوا» المراد الطواف الواجب، وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق وسمي البيت العتيق قال الحسن: القديم لأنه أول بيت وضع للناس. وقال ابن عباس وابن الزبير: لأنه أُعْتِقَ من الجبابرة، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله، ولما قصده أبرهة فُعِل به ما فعل. فإن قيل: قد تسلَّط الحجاج عليه؟(14/77)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
فالجواب: أنه ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصّن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه وقال ابن عيينة: لم يُمْلك قط. وقال مجاهد: أعتق من الغرق.
وقيل: لأنه بيت كريمٌ من قولهم: عِتاق الخيل والطير.
فصل
والطواف ثلاثة أطواف:
الأول: طواف القدوم وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعاً، يرمل ثلاثاً من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه، ويمشي أربعاً وهذا الطواف سنة لا شيء على تاركه.
والثاني: طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق، ويسمى أيضاً طواف الزيارة وطواف الصدر، وهو واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به.
والثالث: طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعاً، فمن تركه فعليه دم إلا الحائض والنفساء، فلا وداع عليهما لما روى ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه أرخص للمرأة الحائض. والرمل يختص بطواف القدوم، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع.
قوله
تعالى
: {ذلك
وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله} الآية. «ذَلِكَ» خبر مبتدأ مضمر، أي: الأمر والشأن ذلك، قال الزمخشري: كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني، فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا، وقد كان كذا. وقدره ابن عطية: فرضكم ذلك أو الواجب ذلك. وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، أي ذلك(14/78)
الأمر الذي ذكرته. وقيل: في محل نصب أي: امتثلوا ذلك. ونظير هذه الإشارة قول زهير بعد تقدم جمل في وصف هرم بن سنان:
3762 - هذَا وَلَيْسَ كَمنْ يَعْيَا بَخُطَّتِهِ ... وَسْطَ النَّدِيّ إِذَا نَاطِقٌ نَطَقَا
والحرمة ما لا يحلّ هَتْكُه، وجمييع ما كلفه الله بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج.
وعن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمشعر الحرام. وقال ابن زيد: الحرمات ههنا: البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، (والإحرام) .
وقال الليث: حرمات الله ما لا يحل انتهاكها.
وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه.
قوله: «فهو» «هُو» ضمير المصدر المفهوم من قوله: «وَمَنْ يُعَظّم» ، أي؛ فتعظيم حرمات الله خير له، كقوله تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] و «خير» هنا ظاهرها التفضيل بالتأويل المعروف ومعنى التعظيم: العلم بوجوب القيام بها وحفظها.(14/79)
وقوله: «عِنْدَ رَبِّهِ» أي: عند الله في الآخرة. وقال الأصم: فهو خير له من التهاون.
قوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} ووجه النظم أنه كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضاً تَحْرُم، فبيَّن تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها، ثم استثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم في سورة المائدة في قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] ، وقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] .
قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} يجوز أن يكون استثناء متصلاً، ويصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام لسبب عارض كالموت ونحوه. وأن يكون استثناءً منقطعاً؛ إذ ليس فيها محرم وقد تقدم تقرير هذا أول المائدة.
قوله: «مِنَ الأَوْثَانِ» . في «مِنْ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها لبيان الجنس، وهو مشهور قول المعربين، ويقدر بقولك الرجس الذي هو الأوثان. وقد تقدم أن شرط كونها بيانية ذلك ويجيء مواضع كثيرة لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضه.
والثاني: أنها لابتداء الغاية.
قال شهاب الدين: وقد خلط أبو البقاء القولين فجعلهما قولاً واحداً. فقال: و «مِنْ» لبيان الجنس، أي: اجتنبوا الرجس من هذا القبيل وهو معنى ابتداء الغاية(14/80)
ههنا يعني أنه في المعنى يؤول إلى ذلك ولا يؤول إليه البتة.
الثالث: أنها للتبعيض. وقد غلّط ابن عطية القائل بكونها للتبعيض فقال: ومن قال إن «من» للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده. وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس عبادة الأوثان، وبه قال ابن عباس وابن جريج فكأنه قال: فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغيره مما لم يحرم الشرع استعماله، فللوثن جهات منها عبادتها وهي بعض جهاتها. قاله أبو حيان. والأوثان جمع وثن، والوثن يطلق على ما صُوِّر من نحاس وحديد وخشب ويطلق أيضاً على الصليب، قال عليه السلام لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً: «أَلْقِ هذَا الوَثَنَ عَنْكَ» وقال الأعشى:
3763 - يَطُوفُ العُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ ... كَطَوْفِ النَّصَارَى ببَيْتِ الوَثَنْ
واشتقاقه من وَثن الشيء، أي أقام بمكانه وثبت فهو واثن، وأنشد لرؤبة:
3764 - عَلَى أَخِلاَّءِ الصَّفَاءِ الوُثَّنِ ... أي: المقيمين على العهد، وقد تقدم الفرق بين الوثن والصَّنم.
فصل
قال المفسرون: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} أي؛ عبادتها، أي كونوا على جانب منها فإنها رجس، أي سبب رجس وهو العذاب، والرجس بمعنى الرجز.(14/81)
وقال الزجاج: «مِن» ههنا للتجنيس، أي اجتنبوا الأوثان التي هي الرجس {واجتنبوا قَوْلَ الزور} . واعلم أنه تعالى لما حَثّ على تعظيم حرماته أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور، لأن توحيد الله وصدق القول أعظم الحرمات، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد، لأن الشرك من باب الزور، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا شيئاً منه، وما ظنك بشيء من قبيلة عبادة الأوثان. وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس، ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. قال الأصَمّ: إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في القربان أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها. وهذا بعيد، وإنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً.
والزور من الازورار وهو الانحراف كما أن الإفك (من أَفِكه إذا صرفه) وذكر المفسرون في قول الزور وجوهاً:
الأول: قولهم: هذا حلال وهذا حرام، وما أشبه ذلك.
والثاني: شهادة الزور؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى الصبح فلما سلم قام قائماً، واستقبل الناس بوجهه، وقال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» وتلا هذه الآية.
الثالث: الكذب والبهتان.
الرابع: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
قوله: «حُنَفَاءَ لِلَّهِ» حال من فاعل «اجْتَنِبوا» ، وكذلك «غَيْرَ مُشْرِكِين»(14/82)
وهي حال مؤكدة إذ يلزم من كونهم «حنفاء» عدم الإشراك أي مخلصين له، أي تمسكوا بالأوامر والنواهي على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به، فلذلك قال {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} .
ثم قال: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء} أي: سقط من السماء إلى الأرض.
قوله: «فَتَخْطَفُهُ» . قرأ نافع بفتح الخاء والطاء مشددة، وأصلها تختطفه فأدغم. وباقي السبعة «فتَخْطَفُه» بسكون الخاء وتخفيف الطاء. وقرأ الحسن والأعمش وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد. وروي عن الحسن أيضاً بفتح الطاء مشددة مع كسر التاء والخاء. وروي عن الأعمش كقراءة العامة إلا أنه بغير فاء «تخطفه» وتوجيه هذه القراءات قد تقدم في أوائل البقرة عند قوله: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ} [البقرة: 20] . وقرأ أبو جعفر «الرياح» جمعاً.
وقوله: «خَرّ» في معنى (تخر) ، ولذلك عطف عليه المستقبل وهو «فتَخْطَفُه» .
ويجوز أن يكون على بابه ولا يكون «فَتَخْطَفُهُ» عطفاً عليه بل هو خبر مبتدأ مضمر أي: فهو تخطفه. قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيهاً مركباً، فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال مَنْ خَرّ من السماء فاختطفته(14/83)
الطير فتفرق مُزَعاً في حواصلها، أو عصفت به الرياح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة.
وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. والسحيق البعيد، ومنه: سَحَقَهُ الله، أي: أبعده، ومنه قول عليه السلام: «سُحْقاً سُحْقاً» أي بُعْداً بُعْداً. والنخلة السحوق الممتدة في السماء من ذلك.
قوله تعالى: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله} الآية. إعراب «ذَلِك» كإعراب «ذَلِكَ» المتقدم وتقدم تفسير الشعيرة واشتقاقها في المائدة. والمعنى: ذلك الذي ذكرت من اجتناب الرجس، وقول الزور، وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب.
قال ابن عباس: شعائر الله البُدْن والهدايا. وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هَدْي، وتعظيمها استحسانها واستسمانها. وقيل: شعائر الله أعلام دينه.
وقيل: مناسك الحج.(14/84)
قوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} . أي: فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى (من) ليرتبط به، وإنما ذكرت القلوب، لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه وقلبه خال عنها، فلهذا لا يكون مجدّاً في الطاعات، وأما المخلص الذي تمكنت التقوى من قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص.
واعلم أن الضمير في قوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} فيه وجهان:
أحدهما: أنه ضمير الشعائر على حذف مضافه، أي: فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
والثاني: أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل قبله، أي: فإن التعظيم من تقوى القلوب والعائد على اسم الشرط من هذه الجملة الجزائية مقدر تقديره: فإنها من تقوى القلوب منهم. ومن جوَّز إقامة (أل) مقام الضمير - وهم الكوفيون -، أجاز ذلك هنا، والتقدير: من تقوى قلوبهم كقوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] . والعامة على خفض «القلوب» ، وقرئ برفعها، فاعلة للمصدر قبلها وهو «تقوى» .(14/85)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي: في الشعائر بمعنى الشرائع، أي: لكم في التمسك(14/85)
بها. وقيل: في بهيمة الأنعام، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك. ورواه مقسمٌ عن ابن عباس. وعلى هذا فالمنافع درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهرها إلى أجل مسمى، وهو أن يسميها ويوجبها هدياً؛ فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها.
وروي عن ابن عباس أن في البدن منافع مع تسميتها هدياً بأن تركبوها إن احتجتم إليها، وتشربوا لبنها إن احتجتم إليه، إلى أجل مسمّى إلى أن تنحروها. وهذا اختيار الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وهو أَوْلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «مَرَّ برجلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً وهو في جهد، فقال عليه السلام:» ارْكَبْهَا «. فقال يا رسول الله إنها هدي. فقال:» ارْكَبْهَا ويلك «قال عليه السلام:» اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهراً «واحتج أبو حنيفة على أنه لا يملك من منافعها بأنه لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكاً لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات. وأجيب بأن هذا قياس في معارضة النص فلا عبرة به، وأيضاً فإن أم الولد لا يملك بيعها ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا. ومن حمل المنافع على سائر الواجبات يقول:» لَكُمْ فِيهَا «أي: في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده.
والأول قول جمهور المفسرين لقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} أي: لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافعِ محلها إلى البيت العتيق، أي: وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] .
وقوله:» مَحِلُّهَا «يعني حيث يحل نحرها، وأما» البيت العتيق «فالمراد به الحرم كله لقوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] أي: الحرم كله، فالمنحر على هذا القول مكة، ولكنها نزهت عن الدماء إلى منى، ومنى من مكة قال عليه السلام:»(14/86)
كل فجاج مكة منحر، (وكل فجاج منى منحر) «قال القفال: هذا إنما يختص بالهدايا التي تبلغ منى، فأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محلها موضعه.
ومن قال: الشعائر المناسك فإن معنى قوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} أي: محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة (يوم النحر) .
قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} الآية. قرأ الأخوان هذا وما بعده» منسِكاً «بالكسر. والباقون بالفتح.
فقيل: هما بمعنى واحد، والمراد بالمنسك مكان النسك أو المصدر. وقيل: المكسور مكان، والمفتوح مصدر.
قال ابن عطية: والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب.
قال شهاب الدين: وهذا الكلام منه غير مرضي، كيف يقول: ويشبه أن يكون الكسائي سمعه. والكسائي يقول: قرأت به. فكيف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى السماعات، وهو روايته لذلك قرأنا متواتراً. وقوله: من الشاذ: يعني قياساً لا استعمالاً فإنه فصيح في الاستعمال، وذلك أن فعل يفعُل بضم العين في المضارع قياس الفعل منه أن يفتح عينه مطلقاً، أي: سواء أريد به الزمان أم المكان أم(14/87)
المصدر، وقد شذت ألفاظ ضبطها النحاة في كتبهم مذكورة في هذا الكتاب.
فصل
«وَلِكُلِّ أُمَّةٍ» (أي: جماعة مؤمنة سلفت قبلكم من عهد إبراهيم عليه السلام «جَعَلْنَا مَنْسَكاً» ) أي ضرباً من القربان، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه عند ذبحها ونحرها فقال: {لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} أي: عند الذبح والنحر لأنها لا تتكلم. وقال: «بَهِيمة الأَنْعَام» قيد بالنعم، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير لا يجوز ذبحها في القرابين، وكانت العرب تسمي ما تذبحه للصَّنَم العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة.
قوله: {فإلهكم إله وَاحِدٌ} في كيفية النظم وجهان:
الأول: أن الإله واحد، وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح.
والثاني: {فإلهكم إله وَاحِدٌ} لا تذكروا على ذبائحكم غير اسمه. «فَلَهُ أَسْلِمُوا» انقادوا وأطيعوا، فمن انقاد لله كان مخبتاً فلذلك قال بعده «وَبَشِّر المُخْبِتِينَ» .
قال ابن عباس وقتادة: المخبت المتواضع الخاشع وقال مُجاهد: المطمئن إلى الله. والخبت المكان المطمئن من الأرض. قال أبو مسلم: حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض تقول: أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال: أنجد وأَتْهَمَ وأشَأم.(14/88)
وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم. وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون وإذا ظُلِموا لم ينتصروا.
قوله: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} . يجوز أن يكون هذا الموصول في موضع جر أو نصب أو رفع، فالجر من ثلاثة أوجه: النعت للمخبتين، أو البدل منهم، أو البيان لهم. والنصب على المدح. والرفع على إضمارهم وهو مدح أيضاً، ويسميه النحويون قطعاً.
والمعنى: إذا ذكر الله ظهر عليهم الخوف من عقاب الله والخشوع والتواضع لله، والصابرين على ما أصابهم من البلايا والمصائب من قبل الله، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن، فأما ما يصيبهم من قبل الظَّلَمة فالصبر عليه غير واجب بل لو أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة.
قوله: «والمُقِيْمي الصَّلاَةِ» في أوقاتها. والعامة على خفض «الصَّلاَة» بإضافة المقيمين إليها.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية بنصبها على حذف النون تخفيفاً كما تحذف النون لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن مسعود والأعمش بهذا الأصل «والمُقِيْمِينَ الصَّلاة» بإثبات النون ونصب الصلاة. وقرأ الضحاك: «والمُقِيْم الصَّلاَة» بميم ليس بعدها(14/89)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
شيء. وهذه لا تخالف قراءة العامة لفظاً وإنما يظهر مخالفتها لها وقفاً وخطاً. ثم قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي: يتصدقون فهم خائفون خاشعون متواضعون لله مشتغلون بخدمة ربهم بالبدن والنفس والمال.
قوله
تعالى
: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} الآية. العامة على نصب «البُدْنَ» على الاشتغال، ورجح النصب وإن كان محوجاً للإضمار على الرفع الذي لم يحوج إليه، لتقدم جملة فعلية على جملة الاشتغال وقرئ برفعها على الابتداء والجملة بعدها الخبر والعامة أيضاً على تسكين الدال. وقرأ الحسن ويروى عن نافع وشيخه أبي جعفر بضمها، وهما جمعان لبدنة نحو ثَمَرة وثُمُر وثُمْر، فالتسكين يحتمل أن يكون تخفيفاً من المضموم وأن يكون أصلاً وقيل: البُدُن والبُدْنِ جمع بَدَن، والبَدَن جمع بَدَنَة نحو خشبة وخشب ثم يجمع خشباً على خُشْب وخُشُب. وقيل: البُدْن اسم مفرد لا جمع يعنون اسم الجنس. وقرأ ابن أبي إسحاق: «البُدُنّ» بضم الباء والدال وتشديد النون وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنه قرأ كالحسن فوقف على الكلمة وضعف لامها، كقولهم: هذا فرج ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك ويحتمل أن يكون اسماً على فُعُلّ كعُتُلّ.(14/90)
وسميت البدنة بدنة، لأنها تبدن أي تسمن. وهل تختص بالإبل؟ الجمهور على ذلك، قال الزمخشري: والبدن جمع بدنة سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ألحق البقر بالإبل حين قال: «البَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، والبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ» فجعل البقر في حكم الإبل، فصارت البدنة متناولة في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابه، وإلا فالبدن هي الإبل، وعليه تدل الآية.
وقيل: لا تختص بالإبل، فقال الليث: البدنة بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعير، وما يجوز في الهدي والأضاحي، ولا تقع على الشاة. وقال عطاء وغيره: ما أشعر من ناقة أو بقرة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين سئل عن البقر فقال: «وهَلْ هِيَ إِلاَ مِنَ البُدْن» (وقيل: البدن يراد به العظيم السن من الإبل والبقر) .
ونقل النووي في تحرير ألفاظ التنبيه عن الأزهري أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم. ويقال للسمين من الرجال، وهو اسم جنس مفرد.
قوله: {مِّن شَعَائِرِ الله} هو المفعول الثاني للجعل بمعنى التصيير.
وقوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} الجملة حال من هاء «جَعَلْنَاهَا» ، وإما من «شَعَائِرِ اللَّهِ» وهذان مبنيان على أن الضمير في «فِيْهَا» هل هو عائد على «البُدْن» أو على «شعائر الله» ، والأول قول الجمهور.
قوله: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} . نصب «صَوَافَّ» على الحال، أي مصطفة جنب بعضها إلى بعض. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم «صَوَافِي» جمع صافية، أي: خالصة لوجه الله تعالى. وقرأ عمرو بن عبيد كذلك إلا أنه نون الياء فقرأ «صَوَافِياً» .
واستشكلت من حيث إنه جمع متناه، وخرجت على وجهين:
أحدهما: ذكره الزمخشري: وهو أن يكون التنوين عوضاً من حرف الإطلاق عند(14/91)
الوقف، يعني أنه وقف على «صَوافِي» بإشباع فتحة الياء فتولد منها ألف، يسمى حرف الإطلاق، ثم عوض عنه هذا التنوين، وهو الذي يسميه النحويون تنوين الترنم.
والثاني: أنه جاء على لغة من يصرف ما لا ينصرف. وقرأ الحسن «صَوَافٍ» بالكسر والتنوين، وجهها أنه نصبها بفتحة مقدرة فصار حكم هذه الكلمة كحكمها حالة الرفع والجر في حذف الياء وتعويض التنوين نحو هؤلاء جوار، ومررت بجوار وتقدير الفتحة في الياء كثير كقولهم:
3765 - أَعْطِ القَوْسَ بَارِيْهَا ... وقوله:
3766 - كَأَنَّ أَيْدِيْهِنَّ بِالقَاعِ القَرِقْ ... أَيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الوَرِقْ(14/92)
وقول الآخر:
3767 - وَكَسَوْتُ عَارٍ لَحْمَه ... ويدل على هذه قراءة بعضهم «صَوَافِيْ» بياء ساكنة من غير تنوين نحو رأيت القاضي يا فتى. بسكون الياء. ويجوز أن يكون سكن الياء في هذه القراءة للوقف ثم أجرى الوصل مجراه.
وقرأ العبادلة ومجاهد والأعمش «صَوَافِنَ» بالنون جمع صافنة، وهي التي تقوم على ثلاثة وطرف الرابعة أي: على طرف سنبكه، لأن البدنة تعلق إحدى يديها، فتقوم على ثلاثة إلا أن الصوافن إنما يستعمل في الخيل كقوله: «الصَّافِنَاتُ الجِيَاد» كما سيأتي، فيكون استعماله في الإبل استعارة.
فصل
سميت البدنة بدنة لعظمها يريد الإبل العظام الصحاح الأجسام، يقال: بَدَنَ الرجل بُدْناً وبَدَانَةً: إذا ضَخُم، فأما إذا أسن واسترخى يقال: بَدَّنَ تَبْدِيْناً.
{جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} أي: من أعلام دينه، سميت شعائر، لأنها تشعر، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هَدْي. {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} النفع في الدنيا والأجر في العقبى. {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} عند نحرها «صَوَافَّ» أي قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك لما روى زياد بن جبير(14/93)
قال: رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وقال مجاهد: الصواف إذا علقت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث. قال المفسرون: قوله: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} فيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها، وهو أن يقال عند النحر: باسم الله والله أكبر ولا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك. والحكمة في اصطفافها ظهور كثرتها للناظر فتقوى نفوس المحتاجين، ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجراً، وإعلاء اسم الله وشعائر دينه.
فصل
إذا قال: لله عليَّ بدنة، هل يجوز نحرها في غير مكة؟ قال أبو حنيفة ومحمد يجوز وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بمكة. واتفقوا في من نذر هدياً أن عليه ذبحه بمكة.
ومن قال: لله عليَّ جزور أنه يذبحه حيث شاء. وقال أبو حنيفة: البدنة بمنزلة الجزور، فوحب أن يجوز له نحرها حيث يشاء، بخلاف الهدي فإنه قال: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي. واحتج أبو يوسف بقوله: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدي.
وأجاب أبو حنيفة بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم، فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن.
قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض. وأصل الوجوب السقوط، يقال: وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب، ووجب الجدار: أي سقط، ومنه الواجب الشرعي كأنه وقع علينا ولزمنا. قال أوس بن حجر:
3768 - أَلَمْ تُكْسَفِ الشَّمْسِ شَمْسُ النَّهَا ... ر والبَدْرُ لِلْجَبَلِ الوَاجِبِ(14/94)
قوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} أمر إباحة {وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} اختلفوا في معناهما، فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة: القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل. والمعتر الذي يسأل. قال الأزهري: قال ابن الأعرابي: يقال: عَرَوْتُ فلاناً وأعْتَرَيْتُه وعَرَرْتَه واعْتَرَرْته: إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه.
قال أبو عبيدة: روى العوفي عن ابن عباس: القانع الذي لا يتعرض ولا يسأل، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل. فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة، يقال: قَنِعَ قَنَاعَةً: إذا رضي بما قسم له. وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي: القانع الذي يسأل، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل. وقيل: القانع الراضي بالشيء اليسير من قَنِعَ يَقْنَعُ قَنَاعَةً فهو قانع. والقنع بغير ألف هو السائل. ذكره أبو البقاء. وقال الزمخشري القانع السائل من قَنَعْتُ وكَنَعْتُ إذا خضعت له وسألته قنوعاً، والمُعتَرّ: المتعرض بغير سؤال أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال من قَنِعْتُ قَنَعاً وقَنَاعَةً، والمعتر المتعرض للسؤال. انتهى.
وفرق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال: «قَنَعَ يَقْنَع قُنُوعاً» أي: سأل، وقناعةً أي: تعفف ببلغته واستغنى به، وأنشد للشماخ:
3769 - لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحه فيُغْنِي ... مَفَاقِرهُ أَعَفُّ مِنَ القُنُوْعِ
وقال ابن قتيبة: المعتر المتعرض من غير سؤال، يقال: عَرّهُ واعْتَرّهُ وَعَرَاهُ واعْتَرَاهُ أي: أتاه طالباً معروفه، قال:(14/95)
3770 - لَعَمْرُكَ مَا المُعْتَرُّ يَغْشَى بِلاَدَنَا ... لِنَمْنَعَهِ بِالضَّائِعِ المُتَهَضِّمِ
وقول الآخر.
3771 - سَلِي الطَّارِقَ المُعْتَرَّ يا أُمَّ مَالِكٍ ... إِذَا ما اعْتَرَانِي بَيْنَ قِدْرِي وَمَجزَرِي
وقرأ أبو رجاء: «القَنِعَ» دون ألف، وفيها وجهان:
أحدهما: أن أصلها القانع فحذف الألف كما قالوا: مِقْوَل، ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في مِقْوَال، ومِخْيَاط، وجَنَادِل، وعُلاَبِط.
والثاني: أن القانع هو الراضي باليسير، والقَنِع السائل كما تقدم تقريره. قال الزمخشري: والقنع الراضي لا غير. وقرأ الحسن: «والمُعْتَرِي» اسم فاعل من اعْتَرَى يَعْتَرِي وقرأ إسماعيل ويروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً «والمُعْتَرِ» بكسر الراء اجتزاء بالكسر عن لام الكلمة.
وقرئ «المُعْتَرِي» بفتح التاء، قال أبو البقاء: وهو في معناه أي: في معنى «المُعْتَر» في قراءة العامة. قال بعضهم: والأقرب أن(14/96)
القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر: هو الذي يعترض ويطالب ويعتريهم حالاً بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا يقنع بما يدفع إليه أبداً.
وقال ابن زيد: القانع المسكين، والمعتر الذي ليس بمسكين، ولا يكون له ذبيحة، ويجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم.
قوله: «كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا» . الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر، أي مثل وصفنا ما وصفنا من نحرها قياماً سخرناها لكم نعمة منا لتتمكنوا من نحرها. «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون» لكي تشكروا إنعام الله عليكم.
قوله: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا} العامة على القراءة بياء الغيبة في الفعلين، لأن التأنيث مجازي، وقد وجد الفصل بينهما. وقرأ يعقوب بالتاء فيهما اعتباراً باللفظ.
وقرأ زيد بن عليّ {لُحُومَهَا وَلاَ دِمَاءَها} بالنصب والجلالة بالرفع، «وَلكِنْ يُنَالُهُ» بضم الياء على أن القائم مقام الفاعل «التَّقْوَى» . و «مِنْكُم» حال من التقوى، ويجوز أن يتعلق بنفس «يناله» .
فصل
لما كانت عادة الجاهلية إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله عزَّ وجلَّ فأنزل الله هذه الآية {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} . قال مقاتل: لن يرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها. {ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} أي ولكن يرفع إليه منكم الأعمال الصالحة، وهي التقوى والإخلاص وما أريد به وجه الله.
فصل
قالت المعتزلة: دلَّت هذه الآية على أمور:
أحدها: أن الذي ينتفع به فعله دون الجسم الذي ينحره.
وثانيها: أنه سبحانه غني عن كل ذلك وإنما المراد أن يجتهد العبد في امتثال أمره.(14/97)
وثالثها: أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه، وجب أن يكون تقواه فعلاً له، وإلا كان تقواه بمنزلة اللحوم.
ورابعها: أنه لما شرط القبول بالتقوى، وصاحب الكبيرة غير مُتَّقٍ، فوجب أن لا يكون عمله مقبولاً وأنه لا ثواب له.
والجواب: أما الأولان فحقان، وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم.
وأما الرابع: فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقياً مطلقاً، ولكنه مُتَّقٍ فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص، فوجب أن تكون طاعته مقبولة، وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم.
قوله: «كَذَلِكَ سَخَّرهَا» الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر «وَلِتُكَبِّرُوا» متعلق به أي إنما سخرها كذلك لتكبروا الله، وهو التعظيم بما يفعله عند النحر وقبله وبعده. و {على مَا هَدَاكُمْ} متعلق بالتكبير، عُدِّي بعلى لتضمنه معنى الشكر على ما هداكم أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، وهو أن يقول: الله أكبر ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا، ثم قال بعده على سبيل الوعد لمن امتثل أمره «وَبَشِّر المُحْسِنِيْن» كما قال من قبل «وَبَشِّر المُخْبِتِيْن» قال ابن عباس: المحسنين الموحدين. والمحسن الذي يفعل الحسن من الأعمال فيصير محسناً إلى نفسه بتوفير الثواب عليه.(14/98)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
قوله تعالى: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} قرأ ابن كثير وأبو عمرو «يَدْفَعُ» ، والباقون «يُدَافِع» . وفيه وجهان:
أحدهما: أن (فَاعِل) بمعنى (فَعَل) المجرد نحو جاوزته وجزته وسافرت وطارقت.(14/98)
والثاني: أنه أُخرج على زنة المفاعلة مبالغة فيه لأن فعل المبالغة أبلغ من غيره.
وقال ابن عطية: يحسن «يُدَافِع» لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته ودفعه عنهم مدافعة. يعني فتختلط فيها المفاعلة.
فصل
لما بيَّن الحج ومناسكه، وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وذكر قبل ذلك صد الكفار عن المسجد الحرام، أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} قال مقاتل: إن الله يدفع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة، وهذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم، فاستأذنوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قتلهم سراً فنهاهم.
والمعنى: أن الله يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم من المؤمنين ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم، وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين، فلذلك قال بعده {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار، وهو كقوله {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} [آل عمران: 111] وقوله {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ} [غافر: 51] وقوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 72] .
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} في أمانة الله «كَفُوْرٍ» لنعمته. قال ابن عباس: خافوا الله فجعلوا معه شركاء وكفروا نعمه. قال الزجاج: من تقرب إلى الأصنام بِذَبِيحَتِهِ وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور. قال مقاتل: أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذه.
قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} . قرأ «أُذِنَ» مبنياً للمفعول نافع وأبو عمرو وعاصم،(14/99)
والباقون قرأوه مبنياً للفاعل. قال الفراء والزجاج: يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل. وأما «يقاتلون» فقرأه مبنياً للمفعول نافع وابن عامر وحفص، والباقون مبنياً للفاعل. وحصل من مجموع الفعلين أن نافعاً وحفصاً بنياهما للمفعول. وأن ابن كثير وحمزة والكسائي بنوهما للفاعل، (وأن أبا عمرو) وأبا بكر بنيا الأول للمفعول والثاني للفاعل، وأن ابن عامر عكس هذا. فهذه أربع رتب والمأذون فيه محذوف للعلم به أي للذين يقاتلون في القتال. و «بأَنَّهُم ظُلِمُوا» متعلق ب «أُذِنَ» ، والباء سببية، أي بسبب أنهم مظلومون.
فصل
قال المفسرون: «كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلا يزالون يجيئون بين مضروب ومشجوج يشكون ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيقول لهم:» اصْبِرُوا فَإِنِّي لَمْ أُوْمَرْ بِالقِتَال «
حتى هاجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال، ونزلت هذه الآية بالمدينة. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة، فكانوا يمنعون، فأذن الله لهم في قتال الكفار الذي يمنعونهم من الهجرة «بأنَّهُم ظُلِمُوا» أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء. {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وهذا وعد منه تعالى بنصرهم، كما يقول المرء لغيره: إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك، لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك.
قوله: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ} يجوز أن يكون «الذين» في محل جر نعتاً للموصول الأول، أو بياناً له، أو بدلاً منه وأن يكون في محل نصب على المدح، وأن يكون في محل رفع على إضمار مبتدأ.(14/100)
فصل
لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظُلموا، فسر ذلك الظلم بقوله {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} ، فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين:
الأول: أنهم أُخرجوا من ديارهم.
والثاني: أخرجوهم بسبب قولهم: «رَبُّنَا اللَّه» . وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم.
قوله: {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} . فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على الاستثناء المنقطع، وهذا مما يُجمع العرب على نصبه، لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل إليه، وما كان كذا أجمعوا على نصبه نحو: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر. فلو توجه العامل جاز فيه لغتان: النصب وهو لغة الحجاز، وأن يكون كالمتصل في النصب والبدل نحو ما فيها أحد إلا حمار. وإنما كانت الآية الكريمة من الذي لا يتوجه عليه العامل، لأنك لو قلت: الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله لم يصح.
الثاني: أنه في محل جر بدلاً من «حَقّ» .
قال الزمخشري: أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير، ومثله {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله} [المائدة: 59] انتهى.
وممن جعله في موضع جر بدلاً مما قبله الزجاج. إلا أن أبا حيان رد ذلك فقال: ما أجازاه من البدل لا يجوز، لأن البدل لا يجوز إلا حيث سبقه نفي أو نهي(14/101)
أو استفهام في معنى النفي (نحو: ما قام أحد إلا زيد، ولا يضرب أحد إلا زيد، وهل يضرب أحد إلا زيد) وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل (لا يقال: قام القوم إلا زيد، على البدل، ولا يضرب القوم إلا زيد، على البدل) لأن البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه، ولو قلت: قام إلا زيد، وليضرب إلا عمرو لم يجز.
ولو قلت في غير القرآن: أخرجِ الناس من ديارهم إلا أن يقولوا لا إله إلا الله لم يكن كلاماً، هذا إذا تخيل أن يكون {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} في موضع جر بدلاً من «غَيْر» المضاف إلى «حَقّ» ، وأما إذا كان بدلاً من «حق» كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد، لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب: بغير إلا أن يقولوا؛ وهذا لا يصح، ولو قدرنا (إلا) بغير كما نقدر في النفي ما مررت بأحد إلا زيد، فنجعله بدلاً لم يصح، لأنه يصير التركيب: بغير قولهم ربنا الله، فيكون قد أضيف غير إلى غير، وهي هي، فيصير بغير غير، ويصح في ما مررت بأحد إلا زيد، أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل وقدره بغير موجب سوى التوحيد، وهذا تمثيل للصفة جعل (إلا) بمعنى سوى، ويصح على الصفة، فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل، ويجوز أن تقول: ما مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل.
قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله} تقدم الخلاف فيه في البقرة وتوجيه القراءتين.
وقرأ نافع وابن كثير «لَهُدِمَتْ» بالتخفيف، والباقون بتثقيل الدال على التكثير، لأن المواضع كثيرة متعددة، والقراءة الأولى صالحة لهذا المعنى أيضاً.
قوله: {صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} العامة على «صَلَوات» بفتح الصاد واللام جمع صلاة وقرأ جعفر بن محمد «وصُلُوَات» بضمّهما. وروي عنه أيضاً بكسر الصاد وسكون اللام. وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام. وأبو العالية بفتح(14/102)
الصاد وسكون اللام، والجحدري أيضاً «وصُلُوت» بضمهما وسكون الواو بعدهما تاء مثناة من فوق مثل صَلْب وصُلُوب والكلبي والضحاك كذلك إلا أنهما أعجما التاء بثلاث من فوقها. والجحدري أيضاً وأبو العالية وأبو رجاء ومجاهد كذلك إلا أنهم جعلوا بعد الثاء المثلثة ألفاً فقرءوا «صُلُوثا» ، وروي عن مجاهد في هذه التاء المثناة من فوق أيضاً، وروي عن الجحدري أيضاً «صُلْوَاث» بضم الصاد وسكون اللام وألف بعد الواو والثاء مثلثة. وقرأ عكرمة «صِلْوِيثا» بكسر الصاد وسكون اللام وبعدها واو مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف وحكى ابن مجاهد أنه قرئ «صِلْوَاث» بكسر الصاد وسكون اللام بعدها واو بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة. وقرأ الجحدري «وصُلُوْب» مثل كعوب بالباء الموحدة وجمع صليب وفُعُول جمع فَعِيل شاذ نحو ظَرِيف وظُرُوف وأَسينَة وأُسُون.
وروي عن أبي عمرو «صَلَوَاتُ» كالعامة إلا أنه لم ينون، منعه الصرف للعلمية والعجمة، كأنه جعله اسم موضع فهذه أربع عشرة قراءة المشهور منها واحدة وهي هذه الصلوات المعهودة. ولا بد من حذف مضاف ليصح تسلط الهدم أي مواضع صلوات، أو تضمن «هُدِّمَتْ» معنى عطلت، فيكون قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال فإن تعطيل كل شيء بحسبه، وأخر المساجد لحدوثها في الوجود أو الانتقال إلى الأشرف. والصلوات في الأمم الملتين صلاة كل(14/103)
ملة بحسبها. وظاهر كلام الزمخشري أنها بنفسها اسم مكان فإنه قال: وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها، وقيل: هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتا انتهى.
وأما غيرها من القراءات، فقيل: هي سريانية أو عبرانية دخلت في لسان العرب ولذلك كثر فيها اللغات والصوامع: جمع صومعة، وهي البناء المرتفع الحديد الأعلى من قولهم رجل أصمع، وهو الحديد القول، ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة، وهي متعبد الرهبان لأنهم ينفردون. وقال قتادة: للصابئين. والبيع جمع بيعة وهي متعبد النصارى قاله قتادة والزجاج.
وقال أبو العالية هي كنائس اليهود. وقال الزجاج: الصوامع للنصارى، وهي التي بنوها في الصحارى، والبيع لهم أيضاً وهي التي بنوها في البلد، والصلوات لليهود.
وقال الزجاج: وهي بالعبرانية صَلُوْثا. والمساجد للمسلمين. وهذا هو الأشهر.
وقال أبو العالية: الصلوات للصابئين. وقال الحسن: إنها بأسرها أسماء المساجد، أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع، وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه، وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد.
فصل
معنى {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي بالجهاد وإقامة الحدود كأنه قال: ولولا دفع الله أهل الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الإيمان وعطلوا ما يبنونه من مواضع العبادة.
وقال الكلبي: يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين عن الجهاد.(14/104)
وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس: يدفع الله بالمحسن عن المسيء، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق، وبالذي يحج عن الذي لا يحج.
وعن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِالمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بيْتِهِ وَمِنْ جِيْرَانِهِ» ثم تلا هذه الآية. وقال الضحاك: يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة. وقال مجاهد: يدفع عن الحقوق بالشهود، وعن النفوس بالقصاص. فإن قيل: لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين؟ فالجواب أما على قول الحسن: فالمراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين وإن اختلفت العبارات عنها. وأما على قول غيره فقال الزجاج: المعنى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يتعبد فيه، فلولا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن نبينا المساجد.
فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ. فإن قيل: كيف تهدم الصلوات على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين؟ فالجواب من وجوه:
الأول: المراد من هدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان، إذا قابله بالكفر دون الشكر.
الثاني: ما تقدم من باب حذف المضاف كقوله: «واسْأَلِ القَرْيَة» أي أهلها، فالمراد مكان الصلاة.
الثالث: لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه كقولهم: متقلداً سيفاً ورمحاً. وإن كان الرمح لا يتقلد. فإن قيل: لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد؟
فالجواب لأنها أقدم في الوجود. وقيل أخر المساجد في الذكر كما في قوله: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} [فاطر: 32] . قال عليه السلام: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُون» .(14/105)
قوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله} يجوز أن يكون صفة للمواضع المتقدمة كلها إن أعدنا الضمير من «فِيهَا» عليها. قال الكلبي ومقاتل: يعود إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كلها. ويجوز أن يكون صفة للمساجد فقط إن خصصنا الضمير في «فِيهَا» بها تشريفاً لها. ثم قال {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} أي: ينصر دينه ونبيه.
وقيل: يتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين الله. {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ} أي: على هذه النصرة التي وعدها المؤمنين. «عَزِيْزٌ» وهو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده.
قوله: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ} يجوز في هذا الموصول ما جاز في الموصول قبله ويزيد هذا عليه بأنه يجوز أن يكون بدلاً من «مَنْ يَنْصُرُه» ذكره الزجاج أي: ولينصرن الله الذين إن مكناهم، و «إنْ مَكَّنَّاهم» شرط و «أقاموا» جوابه، والجملة الشرطية بأسرها صلة الموصول.
فصل
لما ذكر الذين أذن لهم في القتال وصفهم في هذه الآية فقال: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق أي: نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا من البلاد. قال قتادة: هم أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المهاجرون لأن الأنصار لم يخرجوا من ديارهم فوصفهم بأنهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ثم قال {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور} أي: آخر أمور الخلق ومصيرهم أي: يبطل كل ملك سوى ملكه، فتصير الأمور له بلا منازع.(14/106)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
قوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} الآية. لما بيَّن إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأذن في مقاتلتهم، وضمن للرسول النصرة، وبين أن لله عاقبة الأمور، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول بالصبر على أذيته بالتكذيب وغيره، فقال: وإن يكذبوك قومك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم، وذكر الله تعالى سبعة منهم. فإن قيل: فلم قال: وكذب موسى. ولم يقل: وقوم موسى؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط.
الثاني: كأنه قيل بعدما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم، وكُذِّب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره. «فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِيْنَ» أي: أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ» عاقبتهم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب، وهذا استفهام تقرير، أي؛ أليس كان واقعاً قطعاً، أبدلتهم بالنعمة نقمة، وبالكثرة قلة، وبالحياة موتاً، وبالعمارة خراباً؟ وأعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصر على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض، فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم، فإنه تعالى إنما يمهل لمصلحة، فلا بد من الرضا والتسليم، وإن شق ذلك على القلب.
والنكير: مصدر بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار. وأثبت يا نكيري حيث وقعت ورش في الوصل وحذفها في الوقف، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً.
قوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} يجوز أن تكون «كأين» منصوبة المحل على الاشتغال بفعل مقدر يفسره (أَهْلَكْتُهَا) وأن تكون في محل رفع بالابتداء، والخبر (أَهْلَكْتُهَا) . وتقدم تحقيق القول فيها. قال بعضهم: المراد من قوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} وكم، على وجه التكثير.(14/107)
وقيل: معناه: ورب قرية. والأول أولى، لأنه أوكد في الزجر.
وقوله: «أَهْلَكْتُهَا» قرأ أبو عمرو ويعقوب «أَهْلَكْتُها» بالتاء، وهو اختيار أبي عبيد لقوله: {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة «أَهْلَكْنَاهَا» .
قوله: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} جملة حالية من هاء «أَهْلَكْنَاهَا» .
وقوله: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} عطف على «أَهْلَكْتُها» ، فيجوز أن تكون في محل رفع لعطفها على الخبر على القول الثاني، وأن لا تكون لها محل لعطفها على الجملة المفسرة على القول الأول. وهذا عنى الزمخشري بقوله: والثانية - يعني قوله: «فَهِيَ خَاوِيَةٌ» - لا محل لها، لأنها معطوفة على «أَهْلَكْنَاهَا» وهذا الفعل ليس له محل. تفريعاً على القول بالاشتغال، وإلا إذا قلنا إنه خبر لكان له محل ضرورة.
فصل
المعنى: وكم من قرية أهلكتها (أي أهلها) لقوله: «وَهِيَ ظَالِمَةٌ» ، أي: وأهلها ظالمون، «فَهِيَ خَاوِيَةٌ» ساقطة «عَلَى عُرُوشِهَا» على سقوفها.
قال الزمخشري: كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش، والخاوي: الساقط من خوى النجم: إذا سقط، أو من خوى المنزل: إذا خلا من أهله. فإذا فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي: خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها، فسقطت فوق السقوف. وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خلت من الناس مع بقاء عروشها وسلامتها ويمكن أن يكون خبراً بعد خبر، أي: هي خالية وهي على عروشها، يعني أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان، وبقيت الحيطان قائمة، فهي مشرفة على السقوف الساقطة. قوله: «وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» عطف على «قَرْيَةٍ» ، وكذلك «قَصْرٍ» أي: وكأيٍّ من بئر وقصر أهلكناهما. وقيل: يحتمل أن تكون معطوفة وما بعدها على «عُرُوشِها» أي: خاوية على بئر وقصر أيضاً، وليس بشيء.(14/108)
والبئر: من بأرت الأرض، أي: حفرتها ومنه التأبير، وهو شق كيزان الطلع، والبئر: فعل بمعنى مفعول كالذِّبح بمعنى المَذْبُوح، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب. وقوله:
3772 - وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وَذُو طَوَيْتُ ... يحتمل التذكير والتأنيث. والمُعَطَّلَةُ: المهملة، والتعطيل: الإهمال.
وقرأ الحسن: «مُعْطَلَةٍ» بالتخفيف، يقال: أَعْطَلَتِ البئرُ وعَطَلْتُهَا فعَطَلَتْ بفتح الطاء، وأما عَطِلَتِ المرأة من الحُلِيّ فبكسر الطاء. والمعنى: وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها. والمَشيدُ: المرتفع، قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل. وقال سعيد بن جُبير وعطاء ومجاهد: المُجصص من الشِّيد وهو الجص. وإنما بني هنا من شاده، وفي النساء من شَيَّدَهُ، لأنه هناك بعد جمع فناسب التكثير، وهنا بعد مفرد فناسب التخفيف، ولأنه رأس آية وفاصلة.
فصل
المعنى أنه تعالى بيَّن أن القرية مع تكليف بنيانهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك البئر التي تكلفوها وصارت شربهم صارت معطلةً بلا شارب، ولا وارد، والقصر الذي أحكموه بالجصِّ وطولوه صار خالياً بلا(14/109)
ساكن، وجعل ذلك عبرة لمن اعتبر، وهذا يدل على أن تفسير «على» ب «مع» أولى، لأن التقدير: وهي خاوية مع عروشها. قيل: إنَّ البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن، أما القصر على قُلَّة جبل والبئر في سفحه، ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله، وبقي البئر والقصر خاليين. وروى أبو روق عن الضحاك: أن هذه البئر بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء وذلك أن صالحاً مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به أتوا حضرموت، فلما نزلوها مات صالح فسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات، فبنوا قوم صالح حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم جلهس بن جلاس، وجعلوا وزيره سنحاريب، فأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان، وكان حمّالاً فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله وعطّل بئرهم وخرب قصورهم.
قال الإمام أبو القاسم الأنصاري: وهذا عجيب، لأني زرت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها: عكا، فكيف يقال: إنه بحضرموت.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} الآية. يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية، فذكر ما يتكامل به الاعتبار، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع، فلهذا قال: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} .
قوله: «فَتَكُونَ» منصوب على جواب الاستفهام، وعبارة الحوفي على جواب التقرير. وقيل: على جواب النفي وقرأ مبشر بن عبيد: «فَيَكُونَ» بالياء من(14/110)
تحت لأن التأنيث مجازي. ومتعلق العقل محذوف أي: ما حل بالأمم السالفة. ثم قال: {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} أي: يعلمون بها، وهذا يدل على أن العقل العلم، وعلى أن محل العلم هو القلب، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل، فيكون القلب محلاً للعقل، ولهذا سمي الجهل بالعمى، لأن الجاهل لكونه متحيراً يشبه الأعمى. ثم قال: {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي: ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية يعتبرون بها.
قوله: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى} الضمير للقصة، و {لاَ تَعْمَى الأبصار} مفسرة له، وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة تأنيث، ولو ذكر في الكلام فقيل: «فإنه» لجاز، وهي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود، والتذكير باعتبار الأمر والشأن. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره «الأبصار» وفي «تعمى» ضمير راجع إليه.
قال أبو حيان: وما ذكره لا يجوز، لأن الذي يفسره ما بعده محصور وليس هذا واحداً منه وهو في باب (رُبَّ) ، وفي باب نعم وبئس، وفي باب الإعمال، (وفي باب البدل) ، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في بعضها، وفي باب ضمير الشأن، والخمسة الأُول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن فإنه يفسر بجملة، وهذا ليس واحداً من الستة.
قال شهاب الدين: بل هذا من المواضع المذكورة، وهو باب المبتدأ غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ وهو «إنَّ» فهو نظير قولهم: هي العرب تقول ما شاءت، و:
3773 - هِيَ النَّفْسَ تَحْمِلُ مَا حُمِّلَت ... وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الأنعام: 29] وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده، ولا فرق بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ، ولا أثر له، وعجيب من غفلة الشيخ عن ذلك.
قوله: {التي فِي الصدور} صفة أو بدل أو بيان، وهل هو توكيد كقوله: «يَطِيرُ(14/111)
بِجَنَاحَيْهِ» لأن القلوب لا تكون في غير الصدور، أو لها معنى زائد كما قال الزمخشري: الذي قد تعورف واعتقد أنَّ العمى في الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب استعارة وَمَثلٌ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك.
(فقولك: الذي بين فكيك) تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهواً، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً. وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله: تعمدت به إياه، وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير، وليس من مواضع فصله، وكان صوابه أن يقول تعمدته به. كما تقول: السيف ضربتك به، لا ضربت به إياك.
وقد تقدم نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله. قال شهاب الدين: وأي خطأ في مثل هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان مخطئاً في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده.
وقال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] ، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر. وفي محل العقل خلاف مشهور، وإلى الأول مال ابن عطية قال: هو مبالغة كما تقول: نظرت إليه بعيني، وكقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] . وقد تقدم أن في قوله: «بِأَفْوَاهِهِمْ» فائدة زيادة على التأكيد.(14/112)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} الآية. نزلت في النضر بن الحارث حيث قال: «إنْ كَان هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاء» .
وهذا يدل على أنه - عليه السلام - كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم، ولهذا قال: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} ، فأنجز ذلك يوم بدر. ثم بين أن العاقل لا ينبغي له أن يستعجل عذاب الآخرة فقال: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ} أي فيما ينالهم من العذاب وشدته {كَأَلْفِ سَنَةٍ} ، فبين تعالى أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه. قاله أبو مسلم وقيل: المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة. وقيل: إن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء، لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا إمهال ألف سنة «مِمَّا تَعُدُّون» قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يَعُدُّون» بياء الغيبة، لقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} وقرأ الباقون بالتاء، لأنه أعمّ، ولأنه خطاب للمسلمين. واتفقوا في «تنزيل» السجدة بالتاء. قال ابن عباس: يعني يوماً من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض وقال مجاهد وعكرمة: يوماً من أيام الآخرة، لما روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ المُهاجِرِينَ بالفَوْزِ التَّام يَوْمَ القِيَامَة تَدْخلونَ الجَنَّة قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْم، وذَلِكَ قَدر خَمْسمائةِ سَنَة» .(14/113)
قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: أمهلتها مع استمرارهم على ظلمهم، فاغتروا بذلك التأخير، «ثُمَّ أَخَذْتُهُم» بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر، وهو معنى قوله «وَإليَّ المَصِير» . فإن قيل: ما الفائدة في قوله أولاً «فكأين» بالفاء، وهاهنا قال «وكأين» بالواو؟
فالجواب: أن الأولى وقعت بدلاً من قوله {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] ، وأما هذه فحكمها ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني قوله: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} .
قوله: {قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أمر رسوله بأن يديم لهم التخويف والإنذار، وأن لا يصده استعجالهم للعذاب على سبيل الهزء عن إدامة التخويف والإنذار، وأن يقول لهم: إنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه.
قوله: {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . لما أمر الرسول بأن يقول لهم: إني نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم، لأن هذه صفة المنذر، فقال: {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فجمع بين الوصفين، وهذا يدل على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان، وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان، ويدخل في العمل الصالح كل واجب وترك المحظور، ثم بين تعالى أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم، فالمغفرة عبارة عن غفران الصغائر، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة، أو عن غفرانها قبل التوبة، والأولان واجبان عند الخصم، وأداء الواجب لا يسمى غفراناً فبقي الثالث وهو العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة.
وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب، والكريم: هو الذي لا ينقطع أبداً وقيل: هو الجنة.
قوله: {والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي: اجتهدوا في ردها والتكذيب بها وسموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين، يقال لمن بذل جهده في أمر: إنه سعى فيه توسعاً، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال: إنه سعى، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازاً، قال الزمخشري: يقال: سعيت في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه.
قوله: «مُعَجِّزِينَ» قرأ أبو عمرو وابن كثير بتشديد الجيم هنا وفي حرفي سبأ.(14/114)
والباقون: «مُعَاجِزِين» في الأماكن الثلاثة. والجحدري كقراءة ابن كثير وأبي عمرو في جميع القرآن. وابن الزبير «مُعْجِزِين» بسكون العين فأما الأولى ففيها وجهان:
أحدهما: قال الفارسي: معناه ناسبين أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى العجز نحو: فسقته، أي: نسبته إلى الفسق.
والثاني: أنها للتكثير ومعناها مثبطين الناس عن الإيمان.
وأما الثانية فمعناها ظانين أنهم يعجزوننا، وقيل: معاندين.
وقال الزمخشري: عاجَزَه: سَابَقَه، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أَعْجَزَه وعَجَّزَه. فالمعنى: سَابِقِين أو مُسَابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم والمعنى: سعوا في معناها بالفساد. وقال أبو البقاء: إن «مُعَاجِزِين» في معنى المُشَدَّد مثل: عَاهَد: عَهَّد، وقيل: عاجَزَ سَابَق، وعَجَّز: سَبَق.
فصل
اختلفوا في المراد هل معاجزين لله أو الرسول والمؤمنين، والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه، وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يُعْجِزُونه ويغلبونه، ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد.
فأما القائلون بالأول فقال قتادة: ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم وأن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، أو يعجزوننا: يفوتوننا فلا نقدر عليهم كقوله تعالى {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] ، أو يعجزون الله بإدخال الشُّبَهِ في قلوب الناس.(14/115)
وأما معاجزين فالمغالبة في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة لا إلى الله تعالى.
ثم قال: {أولئك أَصْحَابُ الجحيم} أي: أنهم يدومون فيها.(14/116)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} الآية. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي، وغيرهما من المفسرين: لما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء يُنَفِّر عنه، وتمنى ذلك فأنزل الله سورة {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] ، فقرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} [النجم: 19 - 20] ، ألقى الشيطان على لسانه لما كانت تحدثه به نفسه ويتمنّاه: تلك الغَرَانِيق العُلَى منها الشفاعة ترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به، ومضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قراءته، وقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة، فسجد المسلمون لسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبا أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حِفْنَةً من(14/116)
البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما لأنهما كانا شيخين كبيرين، فلم يستطعا السجود، وتفرقت قريش، وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذِّكر، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإن جعل لها محمد نصيباً فنحن معه فلما أمسى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتاه جبريل، فقال: يا محمد مَاذَا صَنَعْتَ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ ما لم أنزل به عن الله عَزَّ وَجَلَّ، وقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فحزن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حزناً شديداً، وخاف من الله خوفاً عظيمً فأنزل الله هذه الآية يعزيه، وكان به رحيماً.
قال ابن الخطيب: وأما أهل التحقيق فقالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول: أما القرآن فقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 - 46] ، وقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} [يونس: 15] ، وقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] . فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله: تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال، وذلك لا يقوله مسلم. وقوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73] وكلمة «كاد» عند بعضهم قريب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وقوله:
{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} [الإسراء: 74] وكلمة «لَوْلاَ» لانتفاء الشيء لانتفاء غيره، فذلك دل على أن الركون القليل لم يحصل، وقوله: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] ، وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] وأما السنة: فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال: رواة هذه القصة مطعونون. وروى البخاري في صحيحه أنه - عليه السلام - قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق.(14/117)
وروي هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه:
أحدها: أن من جوَّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
وثانيها: أنه - عليه السلام - ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة أمناً لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه، وإنما كان يصلي، إذا لم يحضروا ليلاً أو في أوقات خلوة، وذلك يبطل قولهم.
وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على حقيقة الأمر، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سُجَّداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.
ورابعها: قوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بغيره، فبأن يُمْنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى.
وخامسها: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة، أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة. وأما من جهة التفصيل فالتمني جاء في اللغة لأمرين:
أحدهما: تمني القلب.
والثاني: القراءة، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] أي: إلا قراءة، لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف، وإنما يعلمه من القراءة.
وقال حسان:
3774 - تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... وآخِرَها لاقَى حَمَام المَقَادِرِ(14/118)
وقيل: إنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يُبْتلى بها.
وقال أبو مسلم: التَّمَنِّي هو التقدير، وتَمَنَّى هو تَفَعَّل من مَنَيْتُ، والمَنِيَّة وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله، ومَنَّى الله لك أي: قدَّر لك، وإذا تقرر ذلك فإن التالي مقدر للحروف يذكرها شيئاً فشيئاً. فالحاصل أن الأمنية إما القراءة وإما الخاطر، فإن فسرناها بالقراءة ففيه قولان:
الأول: أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول فيه ويشتبه على القارئ ما رووه من قوله: تلك الغرانيق العُلَى.
والثاني: المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته، ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه:
الأول: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يتكلم بقوله: تلك الغرانيق العلى، ولا الشيطان تكلم به، ولا أحد تكلم به لكنه - عليه السلام - لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم: تلك الغَرَانِيقُ العُلَى. وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال، قاله جماعة وهو ضعيف لوجوه:
أحدها: أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما جرت العادة بسماعه، فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه.
وثانيها: أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم في بعض هذا لتوهم بعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجمع العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات.
وثالثها: لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان.
الوجه الثاني: قالوا: إن ذلك الكلام كلام الشيطان وذلك بأن يلفظ بكلام من تلقاء(14/119)
نفسه يوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول، قالوا: ويؤيد ذلك أنه لا خلاف أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول، فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول، وعند سكوته، فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول، وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له. وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع. فإن قيل: هذا الاحتمال قائم في الكل، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله أن يبين الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس.
فالجواب لا يجب على الله تعالى إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات، وإذا لم يجب على الله ذلك أمكن الاحتمال في الكل.
الوجه الثالث: أن يقال: المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس، وهم الكفرة فإنه عليه السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع ذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها، فقال بعضهم: تلك الغرانيق العُلاَ، فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة مباحثهم، وطلبهم تغليطه، وإخفاء قراءته، ولعل ذلك في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته، ويسمعون قراءته، ويَلْغَوْنَ فيها.
وقيل: إنه عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات، فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات، فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول، ثم أضاف الله ذلك إلى الشيطان، لأنه بوسوسته يحصل أولاً، أو لأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم نفسه شيطاناً.
وهذا أيضاً ضعيف لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول إزالة الشبهة وتصريح الحق، وتبكيت ذلك القائل، وإظهار أن هذه الكلمة صدرت منه، ولو فعل ذلك لنقل، فإن قيل: إنما لم يفعل الرسول ذلك، لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة دون هذه الزيادة، فلم يكن ذلك مؤدياً إلى اللبس كما لم يؤد سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس.(14/120)
قلنا: لأن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته، لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور، فلم تكن تأدية تلك السورة بدون الزيادة سبباً لزوال اللبس.
وثانيهما: لو كان كذلك لاستحق العتاب على فعل الغير، وذلك لا يليق بالحكيم.
الوجه الرابع: أن المتكلم بهذا هو الرسول - عليه السلام - ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه:
إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو قسراً أو اختياراً. فإن قالها سهواً كما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا: إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان، فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد، وفرح المشركون بما سمعوا، وأتاه جبريل واستقرأه فلما انتهى إلى الغرانيق قال: لم آتِكَ بهذا، فحزن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى أن أنزلت هذه الآية. وهذا ضعيف لوجوه:
أحدها: أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع، وحينئذ تزول الثقة عن الشرع.
وثانيها: أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة، وطريقتها ومعناها، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها.
وثالثها: هب أنه تكلم بذلك سهواً فكيف لا يتنبه لذلك حين قرأها على جبريل وذلك ظاهر. وأما إن تكلم بذلك قَسْراً، كما قال قوم إن الشيطان أجبر النبي على التكلم به وهذا أيضاً فاسد لوجوه:
أحدها: أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي لكان اقتداره علينا أكثر، فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين، ولجاز في أكثر ما يتكلم به أحدنا أن يكون ذلك بإجبار الشيطان.
وثانيها: أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال.
وثالثها: أنه باطل لقوله تعالى حاكياً عن الشيطان {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] ، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ} [النحل: 99](14/121)
وقال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40] ولا شك أنه - عليه السلام - كان سيد المرسلين.
وأما إن كان تكلمه بذلك اختياراً وهاهنا وجهان:
أحدهما: أن يقول إن هذه الكلمة باطلة.
والثاني: أن يقول إنها ليست كلمة باطلة.
أما على الأول فذكروا فيه طريقتين:
الأول: قال ابن عباس في رواية عطاء: إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم، فجاءه جبريل فاستعرضه، فقرأ السورة، فلما بلغ إلى تلك الكلمة. قال جبريل: أنا ما جئتك بهذا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «أَتَانِي آتٍ عَلَى صُورَتِكَ فَأَلْقَاهُ عَلَى لِسَانِي»
. الطريق الثاني: قال بعض الجهال: إنه - عليه السلام - لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه، ثم رجع عنها. وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة، لأن الأول يقتضي أنه - عليه السلام - ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث. والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي، وكل واحد منهما خروج عن الدين.
وأما الوجه الثاني وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فهاهنا أيضاً طرق:
الأول: أن يقال: الغرانيق هم الملائكة، وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة، فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله ذلك.
الثاني: أن يقال: المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار، فكأنه قال: أشفاعتهن ترتجى؟
الثالث: أن يقال: ذكر تعالى الإثبات وأراد النفي كقوله {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] أي: لا تضلوا، كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [الأنعام: 151] والمعنى أن تشركوا. وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن، أو في الصلاة بناء على هذا التأويل، ولكن الأصل في الدين(14/122)
أن لا يجوز عليهم شيئاً من ذلك، لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها نحو الفظاظة وقول الشعر، فقد ظهر القطع بكذب هذه الوجوه المذكورة في قوله: الغرانيق العلا هذا إذا فسرنا التمني بالتلاوة.
فأما إن فسرنا التمني بالخاطر وتمني القلب، فالمعنى أنه - عليه السلام - إذا تمنى بعض ما يتمناه من الأمور وسوس إليه الشيطان بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته. ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه:
أحدها: أنه تمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا: إنه - عليه السلام - كان يحب أن يتألفهم، فكان يتردد ذلك في نفسه، فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه، وهذا أيضاً خروج عن الدين لما تقدم.
وثانيها: قال مجاهد إنه - عليه السلام - كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير، فنسخ الله ذلك بأن عرفه أن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها.
وثالثها: يحتمل أنه - عليه السلام - عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إذا كان مجملاً، فيلقي الشيطان في جملته ما لم ينزل، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده بأدلته وآياته.
ورابعها: معنى «إذَا تَمَنَّى» إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه، فرجع إلى الله في ذلك، وهو كقوله: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ، وكقوله: {وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200] . ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب، لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتنة للكفار، وذلك يبطله قوله: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ} .
والجواب: لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار.(14/123)
فصل
يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر، فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم، وذلك هو المحكم. وقال أبو مسلم: معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل: وما أرسلنا إلى البشر ملكاً (وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم) ، وما أرسلنا من نبي خلا عند تلاوته من وسوسة الشيطان، وأن يلقي في خاطره ما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك، وبطلان ما يكون من الشيطان، قال: وفيما تقدم من قوله: {قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الحج: 49] تقوية لهذا التأويل، كأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين: أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة، ولم يرسل الله قبلي ملكاً، وإنما أرسل رجالاً فقد يوسوس الشيطان إليهم.
فإن قيل: هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة. قلنا: إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلائهم بالوسوسة على الملائكة. واعلم أنه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين:
الأول: كيفية إزالتها، وهو قوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} والمراد إزالته وإزالة تأثيره، وهو النسخ اللغوي، لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.
وأما قوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن، وإلا فيُحمل على أحكام الأدلة التي لا تجوز فيها الغلط.
البحث الثاني: أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة شرح أثرها في حق الكفار أولاً ثم في حق المؤمنين ثانياً، أما في حق الكفار فهو قوله: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً} ، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، والمراد به تشديد التبعد، لأن ما يظهر من الرسول - عليه السلام - من الاشتباه في القراءة سهواً يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد، وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صواباً.(14/124)
ثم قال: {لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق، وخصهم بذلك، لأنهم مع كفرهم محتاجون إلى التدبر. (وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر) وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم باطناً وظاهراً. ثم قال: {وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين. والمعنى: وإنهم. فوضع الظاهر موضع المضمر، قضى عليهم بالظلم وأبرزهم ظاهرين للشهادة عليهم بهذه الصفة الذميمة. والشقاق الخلاف الشديد والمعاداة والمباعدة سواء. وأما في حق المؤمنين فهو قوله: {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ} ولنرجع إلى الإعراب فنقول:
قوله: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان} في هذه الجملة بعد «إلاّ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها في محل نصب على الحال من «رَسُول» والمعنى: وما أرسلنا من رسول إلا حاله هذه، والحال محصورة.
والثاني: أنها في محل الصفة لرسول، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجر باعتبار لفظ الموصوف، وبالنصب باعتبار محله، فإن «مِنْ» مزيدة فيه.
الثالث: أنها في موضع استثناء من غير الجنس. قاله أبو البقاء، يعني: أنه استثناء منقطع و «إذا» هذه يجوز أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وإليه ذهب الحوفي، وأن تكون لمجرد الظرفية. قال أبو حيان: ونصوا على أنه يليها - يعني «إلا» - في النفي المضارع بلا شرط نحو ما زيد إلا يفعل، وما رأيت زيداً إلا يفعل، والماضي بشرط تقدم فعل نحو
{مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ} [الحجر: 11] ، أو مصاحبة (قد) نحو: ما زيد إلا قد فعل، وما جاء بعد (إلا) في الآية جملة شرطية ولم يلها ماض مصحوب ب (قد) ، ولا(14/125)
عار منها، فإن صح ما نصوا عليه يؤول على أن «إذا» جردت للظرفية، ولا شرط فيها، وفصل بها بين (إلا) والفعل الذي هو «أَلْقَى» ، وهو فصل جائز، فتكون «إلا» قد وليها ماض في التقدير، ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل (إلا) وهو «وَمَا أَرْسَلْنَا» . قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى هذا التكليف المخرج للآية عن معناها بل هي جملة شرطية إما حال أو صفة أو استثناء كقوله: {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ} [الغاشية: 23 - 24] وكيف يدعي الفصل بها وبالفعل بعدها بين «إلا» وبين «ألقى» من غير ضرورة تدعو إليه، ومع عدم صحة المعنى.
وقوله تعالى: {إِذَا تمنى} إنما أفرد الضمير، وإن تقدمه سببان معطوف أحدهما على الآخر بالواو، لأن في الكلام حذفاً تقديره: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا إذا تمنى، ولا نبي إلا إذا تمنى كقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، والحذف إما من الأول أو الثاني. والضمير في «أُمْنِيَّتِه» فيه قولان: أظهرهما أنه ضمير الشيطان والثاني: أنه ضمير الرسول.
قوله: «لِيَجْعَلَ» في متعلق هذه اللام ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها متعلقة ب «يُحْكِمُ» ، أي: ثم يُحْكِمُ الله آياته ليجعل، وقوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} جملة اعتراض، وإليه نحا الحوفي.
والثاني: أنها متعلقة ب «يَنْسَخُ» وإليه نحا ابن عطية، وهو ظاهر أيضاً.
الثالث: أنها متعلقة ب «أَلْقَى» ، وليس بظاهر. وفي اللام قولان:(14/126)
أحدهما: أنها للعلة. والثاني: أنها للعاقبة. و «ما» في قوله: «ما يُلْقِي» الظاهر أنها بمعنى الذي، ويجوز أن تكون مصدرية.
قوله: «والقاسِيَة» أل في «القَاسِيَة» موصولة، والصفة صلتها، و «قُلُوبُهم» فاعل بها، والضمير المضاف إليه هو عائد الموصول، وأُنِّثت الصلة لأن مرفوعها مؤنث مجازي، ولو وضع فعل موضعها لجاز تأنيثه. و «القَاسِيَة» عطف على «الذين» ، أي: فتنة للذين في قلوبهم مرض وفتنة للقاسية قلوبهم.
قوله: «وَليَعْلَمَ الَّذِينَ» عطف على «لِيَجْعَلَ» عطف علة على مثلها والضمير في «أنَّه» قال الزمخشري: إنه يعود على تمكين الشيطان، أي: ليعلم المؤمنون أن تمكين الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق. أما على قول أهل السنة فلأنه تعالى يتصرف كيف شاء في مُلكه ومِلكه فكان حقاً وأما على قول المعتزلة فلأنه تعالى حكيم فتكون كل أفعاله صواباً فيؤمنوا به وقال ابن عطية: إنه يعود على القرآن، وهو وإن لم يجر له ذكر فهو في قوة المنطوق، وهو قول مقاتل.
وقال الكلبي: إنه يعود إلى نسخ الله ما ألقاه الشيطان.
قوله: «فَيُؤْمِنُوا» عطف على «وَليَعْلَمَ» ، و «فَتُخْبِتَ» عطف عليه وما أحسن ما وقعت هذه الفاءان. ومعنى «فَتُخْبِتَ» أي تخضع وتسكن له قلوبهم لعلمهم بأن المقضي كائن وكلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلِقَ لَه.
فصل
ومعنى «أُوتُوا العِلْمَ» أي: التوحيد والقرآن. وقال السُّدِّي: التصديق. «فَيُؤْمِنُوا به» أي: يعتقدوا أنه من الله.
قوله: {وَإِنَّ الله لَهَادِ} قرأ العامة «لهَادِ الَّذِينَ» بالإضافة تخفيفاً. وابن أبي(14/127)
عبلة وأبو حيوة بتنوين الصفة وإعمالها في الموصول. والمعنى: أن الله يهدي الذين آمنوا إلى طريق قويم وهو الإسلام.
قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ} الآية. لما بين حال الكافرين أولاً ثم حال المؤمنين ثانياً عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى، فقال: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ} شك ونفاق «مِنْه» أي: من القرآن، أو من الرسول، أو مم ألقاه الشيطان.
والمِرية والمُرية بالكسر والضم لغتان مشهورتان، وظاهر كلام أبي البقاء أنهما قراءتان.
قوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة} وهذا يدل على أن الأعْصَار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه. «بغْتَة» أي: فجأة من دون أن يشعروا، ثم جعل الساعة لكفرهمِ، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. وقيل: أراد بالساعة الموت. {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} . قال الأكثرون: هو يوم بدر. وقال عكرمة والضحاك: هو يوم القيامة. والعقيم من العُقْم، وفيه قولان:
أحدهما: أنه السد، يقال: امرأة مَعْقُومة الرَّحم أو مسدودته عن الولادة. وهو قول أبي عبيد.
والثاني: أن أصله القطع، ومنه (المُلْك عَقِيم) أي: لأنه يقطع صلة الرحم بالتراحم عليه، ومنه العقيم لانقطاع ولادتها. والعقم انقطاع الخبر، ومنه يوم عقيم، قيل: لأنه لا ليلة بعده، ولا يوم فشبه بمن انقطع نسله، وقيل: لأنهم لا يرون فيه خيراً. وقيل: لأن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم، فكيف يحصل الحمل فيه. هذا إن أريد به يوم القيامة.
وإن أريد به يوم بدر فقيل: لأن أبناء الحرب تقتل فيه، فكأن النساء لم يلدنهم فيكنّ عُقماً، يقال: رجل عَقِيم وامرأة عَقيم، أي: لا يولد لهما. والجمع عقم.
وقيل: لأنه الذي لا خير فيه، يقال: ريح عقيم إذا لم تنشئ مطراً، ولم تلقح شجراً.(14/128)
وقيل: إنه لا مثل له في عظم أمره، وذلك لقتال الملائكة فيه.
والقول الأول أولى لأنه لا يجوز أن يقال: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ} ويكون المراد إلى يوم بدر، لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر.
فإن قيل: لمّا ذكر الساعة، فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار. قلنا: ليس كذلك لأن الساعة مقدمات القيامة، واليوم العقيم كما مر نفس ذلك اليوم على أن الأمر لو كان كما قال لم يكن تكراراً، لأن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم.
وإن أريد بالساعة وقت الموت، وبعذاب يوم عقيم القيامة فالسؤال زائل.
قوله: {الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ} ، وهذا من أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو هذا اليوم، وأراد أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه. و «يَوْمَئِذٍ» منصوب بما تضمنه «لِلَّهِ» من الاستقرار، لوقوعه خبراً. و «يَحْكُم» يجوز أن يكون حالاً من اسم الله، وأن يكون مستأنفاً، والتنوين في «يَوْمَئِذٍ» عوض من جملة، فقدرها الزمخشري: يوم يؤمنون. وهو لازم لزوال المِرْيَة، وقدره أيضاً: يوم نزول مِرْيَتِهِم.
ثم بيَّن تعالى كيف يحكم بينهم وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم والكافرين إلى عذاب مهين.
قوله: «والَّذِيْنَ كَفَرُوا» مبتدأ، وقوله: «فأولَئِكَ» وما بعده خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط بالشرط المذكور، و «لَهُم» يحتمل أن يكون خبراً عن «أولَئِكَ» و «عَذَاب» فاعل به لاعتماده على المخبر عنه. وأن يكون خبراً مقدماً وما بعده مبتدأ، والجملة خبر «أولئك» .(14/129)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
قوله: «والَّذِينَ هَاجَرُوا» مبتدأ، وقوله: «لَيَرْزُقَنَّهُم» جواب قسم مقدر، والجملة القسمية وجوابها خبر قوله: «والَّذِينَ هَاجَرُوا» . وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ. ومن يمنع يضمر قولاً هو الخبر يحكي به هذه الجملة القسمية. وهو قول مرجوح.
قوله: «رِزْقاً» يجوز أن تكون مفعولاً ثانياً على أنه من باب الرعي والذبح أي: مرزوقاً حسناً. وأن يكون مصدراً مؤكداً.(14/130)
وقوله: «ثُمَّ قُتِلُوا» وقوله: «مُدْخَلاً» تقدم الخلاف في القراءة بهما في آل عمران وفي النساء.
فصل
لما ذكر أن المُلْكَ له يوم القيامة، وأنه يَحكم بينهم، ويُدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر الوعد الكريم للمهاجرين، وأفردهم بالذكر تفخيماً لشأنهم فقال: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا» فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله، وطلب رضاه {ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ} وهم كذلك قال مجاهد: نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم وظاهر الآية العموم. ثم قال: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً} والرزق الحسن هو الذي لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة. وقال الأصم: إنه العلم والفهم لقول شعيب - عليه السلام - {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} [هود: 88] . (وقال الكلبي: «رِزْقاً حَسَناً» ) أي حلالاً وهو الغنيمة.
وهذان الوجهان ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت، وبعدهما لا يكون إلا نعيم الآخرة. ثم قال: {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} معلوم بأن كل الرزق من عنده. فقيل: إن التفاوت إنما كان بسبب أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره. وقيل: المراد أنه الأصل في الرزق، وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله. وقيل: إن غيره ينقل من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق.
وقيل: إن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به، إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء، أو لأجل الرقّة الجنسية، أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالاً زائداً، فالرزق الصادر منه لمحض الإحسان. وقيل: إن غيره إنما يرزق إذا حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل، وتلك الإرادة من الله، فالرازق في الحقيقة هو الله.(14/131)
فصل
قالت المعتزلة: الآية تدل على أمور ثلاثة:
الأول: أن غير الله قادر.
الثاني: أن غير الله يصح أن يرزق ويملك، ولولا كونه قادراً فاعلاً لما صح ذلك.
الثالث: أن الرزق لا يكون إلا حلالاً، لأن قوله: «خَيْرُ الرَّازِقِيْن» يدل على كونهم ممدوحين.
والجواب: لا نزاع في كون العبد قادراً، فإن القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام.
والثالث بحث لفظي تقدم الكلام فيه.
فصل
دل قوله: {ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ} على أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء، لأنه تعالى جمع بينهما في الوعد، ويؤيده ما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «المَقْتُولُ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ والمُتَوَفَّى فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ هُمَا فِي الأَجْرِ شَريكَان» ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصها بالذكر فائدة.
قوله: «لَيُدْخِلَنَّهُمْ» هذه الجملة يجوز أن تكون بدلاً من «لَيَرْزُقَنَّهُم» وأن تكون مستأنفة. وقوله: «مُدْخَلاً يَرْضَوْنَه» قال ابن عباس: إنما قال: «يَرْضَوْنَه» لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ف «يَرْضَوْنَ» وقوله: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] وقوله: {ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 28] {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] .
ثم قال: {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم، أو عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة، وأما الحليم فلا يعجل بالعقوبة على من يقدم على المعصية، بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحق الجنة.
قوله تعالى: {ذلك وَمَنْ عَاقَبَ} «ذَلِكَ» خبر مبتدأ مضمر أي: الأمر ذلك وما بعده مستأنف. والباء في قوله: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} للسببية في الموضعين قاله أبو البقاء(14/132)
والذي يظهر أن الأولى يشبه أن تكون للآلة. «وَمَنْ عَاقَبَ» مبتدأ خبره «لَيَنْصُرَنَّه اللَّهُ» .
فصل
المعنى: الأمر ذلك الذي قصصناه عليك {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي قاتل من كان يقاتله، ثم كان المقاتل مبغياً عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتُدِئ بالقتال.
قال مقاتل: نزلت في قوم من قريش أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، وكره المسلمون قتالهم، وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام، فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنُصِروا، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية، وعفا عنهم وغفر لهم.
والعقاب الأول بمعنى الجزاء، وأطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] .
وهذه النُّصْرة تقوي تأويل من تأول الآية على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك. وقال الضحاك: هذه الآية في القصاص والجراحات لأنها مدنية.
قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه: من حَرَّق حَرَّقْنَاه، ومن غَرَّق غَرَّقْنَاه لهذا الآية، فإن الله تعالى جوَّز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر. وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى: بل يقتل بالسيف.
فإن قيل: كيف تعلق الآية بما قبلها؟
فالجواب: كأنه تعالى قال: مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم.
ثم قال: {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي إن الله ندب المعاقبين إلى العفو عن الجاني بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40] {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] {وَلَمَن صَبَرَ(14/133)
وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة فكأنه تعالى قال: إني عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها. وقيل: إنه تعالى وإن ضمن له النصر على الباغي لكنه عرض مع ذلك بما هو أولى وهو العفو والمغفرة، فلوَّح بذكر هاتين الصفتين.
وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
قوله: {ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار} وفيه وجهان:
الأول: أي: ذلك النصر بسبب أنه قادر، ومن قدرته كونه خالقاً لليل والنهار ومتصرفاً فيهما، فوجب أن يكون قادراً عالماً بما يجري فيهما، وإذا كان كذلك كان قادراً على النصر.
الثاني: المراد أنه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر. ومعنى إيلاج أحدهما في الآخر أنه يحصل ظلمة هذا في ضياء ذلك بغيبوبة الشمس وضياء ذلك في ظلمة هذا بطلوعها كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده.
وقيل هو أن يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات. و «ذَلَكَ» مبتدأ و «بأَنَّ اللَّهَ» خبره، ثم قال: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي: أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، فكذلك يدرك المسموع والمبصر، ولا يجوز المنع عليه، وذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر.
قوله: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} الآية. قرأ العامة «وأن ما» عطفاً على الأول. والحسن بكسرها استئنافاً. وقوله: «هُوَ الحَقّ» يجوز أن يكون فصلاً ومبتدأ.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون توكيداً. وهو غلط لأن المضمر لا يؤكد المظهر، ولكان صيغة النصب أولى به من الرفع فيقال: إياه، لأن المتبوع منصوب. وقرأ الأخوان(14/134)
وحفص وأبو عمرو هنا وفي لقمان «يَدْعُونَ» بالياء من تحت. والباقون بالتاء من فوق، والفعل مبني للفاعل وقرأ مجاهد واليماني بالياء من تحت مبنياً للمفعول. والواو التي هي ضمير تعود على معنى «ما» والمراد بها الأصنام أو الشياطين، ومعنى الآية: أن ذلك الوصف الذي تقدم من القدرة على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق، أي: هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغيير والزوال وأن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كقوله: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة} [غافر: 43] .
{وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير} العلي القاهر المقتدر نبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغباً بذلك في عبادته زاجراً عن عبادة غيره، وأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه، وذلك يفيد كمال القدرة.(14/135)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} الآية لما دل على قدرته بما تقدم أتبعه بأنواع أُخَر من الدلائل على قدرته ونعمته فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ} وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن المراد الرؤية الحقيقية، لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين،(14/135)
واخضرار النبات على الأرض مرئي، فحمل الكلام على حقيقته أولى.
والثاني: المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام.
الثالث: المراد ألم تعلم.
قال ابن الخطيب: والأول ضعيف، لأن الماء وإن كان مرئياً إلا أن كون الله منزلاً له من السماء غير مرئي، وإذا ثبت هذا وجب حمله على العلم، لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم، لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.
قوله: «فتصبح» فيه قولان:
أحدهما: أنه مضارع لفظاً ماض معنى تقديره: فأصبحت، قاله أبو البقاء، ثم قال بعد أن عطفه على «أَنْزَل» : فلا موضع له إذاً. وهو كلام ضعيف، لأن عطفه على «أنزل» يقتضي أن يكون له محل من الإعراب وهو الرفع خبراً ل «أن» . لكنه لا يجوز لعدم الربط.
الثاني: أنه على بابه، ورفعه على الاستئناف. قال أبو البقاء: فهي، أي: القصة، و «تُصْبِح» الخبر. قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى تقدير مبتدأ، بل هذه جملة فعلية مستأنفة لا سيما وقَدَّر المبتدأ ضمير القصة ثم حذفه، وهو لا يجوز، لأنه لا يؤتى بضمير القصة إلا للتأكيد والتعظيم والحذف ينافيه. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: فأصبحت، ولم صرف إلى لفظ المضارع. قلت: لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان كما تقول: أنعَمَ عليَّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكراً له، ولو قلت: فَرِحْتُ وغَدَوْتُ لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جواباً بالاستفهام. قلت: لو نصب لأعطى عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار، فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله. وقال ابن عطية: قوله: «فَتُصْبِِحُ» بمنزلة قوله: فتضحى أو تصير، عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة، ووقع قوله: «فتُصْبحُ» من حيث(14/136)
الآية خبر، والفاء عاطفة وليست بجواب، لأن كونها جواباً لقوله: «أَلَمْ تَر» فاسد المعنى. قال أبو حيان: ولم يبين هو ولا الزمخشري قبله كيف يكون النصب نافياً للاخضرار، ولا كون المعنى فاسداً.
قال سيبويه: وسألته - يعني الخليل - عن {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} فقال: هذا واجب وتنبيه، كأنك قلت: أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.
قال ابن خروف: وقوله: هذا واجب. وقوله: فكان كذا. يريد أنهما ماضيان وفسر الكلام ب «أتسمع» . (ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام) لضعف حكم الاستفهام فيه.
وقال بعض شراح الكتاب: «فتُصْبِحُ» لا يمكن نصبه، لأن الكلام واجب، ألا ترى أن المعنى أن الله أنزل فالأرض هذه حالها. وقال الفراء: «ألَمْ تَر» خبر، كما تقول في الكلام: اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا. ويقول: إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا، لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام، وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام، هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وكذلك الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب. فإذا قلت: ما تأتينا فتحدثنا. بالنصب، فالمعنى ما تأتينا محدثاً، وإنما تأتينا ولا تُحَدَِّث، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتي فكيف تحدث، فالحديث منتف في الحالتين، والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة وينفي الجواب، فيلزم من هذا التقدير إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار، وهو خلاف المقصود.(14/137)
وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء كقوله:
3775 - أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِركَ الرُّسُومُ ... يتقدر: إن تسأل تخبرك الرسوم، وهنا لا يتقدر: إن تر إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة، لأن اخضرارِها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال.
وإنما عبر بالمضارع، لأن فيه تصوير الهيئة التي الأرض عليها والحالة التي لابست الأرض، والماضي يفيد انقطاع الشيء، وهذا كقول جحدر بن معاوية يصف حاله مع أسد نازله في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وهي أبيات فمنها:
3776 - يَسْمُو بِنَاظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فِيْهمَا ... لَما أَجَالَهُمَا شُعَاعَ سِرَاجِ
لَما نَزَلْتَ بِحصْنٍ أَزْبَرَ مِهْصَرٍ ... لِلْقِرْنِ أَرْوَاح العِدَا مَحَّاجِ
فَأَكِرُّ أَحْمِلُ وَهو يُقْعِي باسْتِه ... فَإِذَا يَعُوْدُ فَرَاجِعٌ أَدْرَاجِ
وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أَبَيْتُ نِزَالَهُ ... أَنِّيْ مِنَ الحَجَّاجِ لَسْتُ بَنَاجِ
فقوله: فأَكِرُّ تصوير للحالة التي لابسها. قال شهاب الدين: أما قوله: وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد مع الاستفهام. إلى قوله: إنما هو مترتب على الإنزال. منتزع من كلام أبي البقاء. قال أبو البقاء: إنما رفع الفعل هنا وإن كان قبله استفهام لأمرين:
أحدهما: أنه استفهام بمعنى الخبر، أي قدر رأيت فلا يكون له جواب.
والثاني: أن ما بعد الفاء ينصب إذا كان المستفهم عنه سبباً له، ورؤيته لإنزال الماء لا يوجب اخضرار الأرض، وإنما يجب على الماء.
وأما قوله: وإنما عبر بالمضارع. فهو معنى كلام الزمخشري بعينه، وإنما غير عبارته وأوسعها.(14/138)
وقوله: «فَتُصْبح» استدل به بعضهم على أن الفاء لا تقتضي التعقيب، قال: لأن اخضرارها متراخ عن إنزال الماء، هذا بالمشاهدة.
وأجيب عن ذلك بما نقله عكرمة من أن أرض مكة وتهامة على ما ذكروا أنها تمطر الليلة فتصبح الأرض غدوة خضرة، فالفاء على بابها. قال ابن عطية: شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلاً بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف. وقيل: تراها كل شيء بحسبه، وقيل: ثم جُمَلٌ محذوفة قبل الفاء تقديره: فتهتز وتربو وتنبت، بيّن ذلك قوله تعالى: {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ} [الحج: 5] وهذا من الحذف الذي يدل عليه فحوى الكلام كقوله تعالى: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا} [يوسف: 45 - 46] إلى آخر القصة. و «تُصْبِحُ» يجوز أن تكون الناقصة وأن تكون التامة «مُخَضَرَّة» حال قاله أبو البقاء. وفيه بعد عن المعنى إذ يصير التقدير فتدخل الأرض في وقت الصباح على هذه الحال. ويجوز فيها أيضاً أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بهذا الزمن الخاص، وإنما خص هذا الوقت لأن الخضرة والبساتين أبهج ما ترى فيه ويجوز أن تكون بمعنى تصير. وقرأ العامة «مُخضَرَّة» بضم الميم وتشديد الراء اسم فاعل من اخْضَرَّت فهي مُخْضَرَّة، والأصل مُخْضَررَة بكسر الراء الأولى فأدغمت في مثلها. وقرأ بعضهم «مَخْضَرَة» بفتح الميم وتخفيف الراء بزنة مَبْقَلة ومَسْبعة.
والمعنى: ذات خضروات وذات سِبَاع وذات بَقْل.
ثم قال: {إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي: أنه رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به، لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة، والسماء إذا أمطرت كان ذلك سبباً لعيش الحيوان أجمع. ومعنى «خَبِير» أي؛ عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك(14/139)
من غير زيادة ولا نقصان. وقال ابن عباس: «لطيفٌ» بأرزاق عباده «خبير» بما في قلوبهم من القنوط. وقال الكلبي: «لطيف» في أفعاله «خبير» بأعمال خلقه.
وقال مقاتل: «لطيف» باستخراج النبت «خبير» بكيفية خلقه.
{لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} عبيداً وملكاً، وهو غني عن كل شيء لأنه كامل لذاته، ولكنه لما خلق الحيوان فلا بد في الحكمة من مطر ونبات فخلق هذه الأشياء رحمة للحيوانات وإنعاماً عليهم لا لحاجة به إلى ذلك، وإذا كان كذلك كان إنعامه خالياً عن غرض عائد إليه، فكان مستحقاً للحمد، فكأنه قال: إنه لكونه غنياً لم يفعل ما فعله إلا للإحسان، ومن كان كذلك كان مستحقاً للحمد فوجب أن يكون حميداً، فلهذا قال: {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد} .
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض} أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر، ولا أشد من الحديد، ولا أكثر هيبة من النار، وقد سخرها لكم، وسخر الحيوانات أيضاً حتى ينتفع بها للأكل والركوب والحمل.
قوله: «والفُلْكَ» العامة على نصب «الفُلْكَ» وفيه وجهان:
أحدهما: أنها عطف على {مَّا فِي الأرض} أي سخر لكم ما في الأرض وسخر لكم الفلك، وأفردها بالذكر وإن اندرجت بطريق العموم تحت «ما» في قوله {مَّا فِي الأرض} لظهور الامتنان بها، ولعجيب تسخيرها دون سائر المسخرات، و «تَجْرِي» على هذا حال.
والثاني: أنها عطف على الجلالة، وتقديره: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْر، ف «تجري» خبر على هذا. وضم لام «الفُلْك» هنا الكسائي فيما رواه عن الحسن، وهي قراءة ابن مقسم، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأعرج وأبو حيوة والزعفراني برفع «والفُلْك» على الابتداء، و «تَجْرِي» بعده الخبر. ويجوز أن يكون ارتفاعه(14/140)
عطفاً على محل اسم «إن» عند من يجيز ذلك نحو إن زيداً وعمرو قائمان، وعلى هذا ف «تجري» حال أيضاً والباء في «بأمره» للسببية.
فصل
وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياحُ تجريها، فلولا صفتها على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف فنبه تعالى على نعمته بذلك، وبأن خلق ما تُعْمَل منه السفن، وبأن بين كيف تعمل، وقال: «بأَمْرِه» لما كان تعالى هو المجري لها بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعاً، لأن ذلك يفيد (تعظيمه بأكثر مما يفيد) لو أضافه إلى فعله على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة.
قوله: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ} (في «أَنْ تَقَعَ» ) ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها في محل نصب أو جر لأنها على حذف حرف الجر تقديره من أن تقع.
الثاني: أنها في محل نصب فقط لأنها بدل من «السماء» بدل اشتمال أي ويمسك وقوعها بمنعه.
الثالث: أنها في محل نصب على المفعول من أجله، فالبصريون يقدرون كراهة أن تقع، والكوفيون لئلا تقع.
قوله: «إِلاَّ بإِذْنِه» في هذا الجار وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «تَقَع» أي: إلا بإذنه فتقع.
والثاني: أنه متعلق ب «يمسك» .
قال ابن عطية: ويحتمل أن يعود قوله: «إلا بإذنه» على الإمساك، لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه، كأنه أراد إلا بإذنه فيه نمسكها. قال أبو حيان: ولو كان(14/141)
على ما قال لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء ويكون التقدير: ويمسك السماء بإذنه.
قال شهاب الدين: فهذا الاستثناء مفرغ، ولا يقع في موجب، لكنه لما كان الكلام قبله في قوة النفي ساغ ذلك إذ التقدير: لا يتركها تقع إلا بإذنه، والذي يظهر أن هذه الباء حالية، أي: إلا ملتبسة بأمره. ثم قال: {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام، فهو إذاً رؤوف رحيم قوله: {وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ} أنشأكم ولم تكونوا شيئاً «ثُمَّ يُميتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم «ثُمَّ يُحْييْكُمْ» يوم القيامة للثواب والعقاب {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} لنعم الله عزَّ وجلَّ، وهذا كما يعدد المرء نعمه على ولده ثم يقول: إن الولد لكفور لنعم الوالد زجراً له عن الكفران، وبعثاً له على الشكر، فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار، فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] .
قال ابن عباس: الإنسان هنا هو الكافر، وقال في رواية: هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف. والأولى أنه في كل المنكرين.(14/142)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
قوله تعالى: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} لما عدد نعمه وأنه لرؤوف رحيم بعباده، وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر، أتبعه بذكر نعمه بما كلَّف، فقال: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} . وحذف الواو من قوله: «لِكُلِّ أُمَّةٍ» لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فحذف العاطف.
قال الزمخشري: لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في(14/142)
أمر النسائك فعطفت على أخواتها، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً.
قوله: «هم ناسكوه» هذه الجملة صفة ل «مَنْسَكاً» . وقد تقدم أنه يقرأ بالفتح والكسر، وتقدم الخلاف فيه هل هو مصدر أو مكان. وقال ابن عطية: «نَاسِكُوه» يعطي أن المنسك المصدر، ولو كان مكاناً لقال: ناسكون فيه. يعني أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير الظرف إلا بواسطة (في) . وما قاله غير لازم، لأنه قد يتسع في الظرف فيجري مجرى المفعول فيصل الفعل إلى ضميره بنفسه، وكذا ما عمل عمل الفعل.
ومن الاتساع في ظرف الزمان قوله:
3777 - وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِراً ... قَلِيْلٍ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نَوَافِلُه
ومن الاتساع في ظرف المكان قوله:
3778 - وَمَشْرَبٍ َشْرَبُه وشيلٍ ... لاَ آجِنُ المَاءِ وَلاَ وَبِيْلُ
يريد أشرب فيْه.
فصل
روي عن ابن عباس: المَنْسَك شريعة عاملون بها، ويؤيده قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] . وروي عنه أنه قال: عيداً يذبحون فيه. وقال مجاهد وقتادة: قربان يذبحون. وقيل: موضع عبادة. وقيل: مألفاً يألفونه والأول أولى لأن المنسك(14/143)
مأخوذ من النسك وهو العبادة، وإذا وقع الاسم على عبادة فلا وجه للتخصيص.
فإن قيل: هلا حملتموه على الذبح، لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح وهلا حملتموه على موضع العبادة وعلى وقتها؟
فالجواب عن الأول: لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح، لأن سائر أفعال الحج تسمى مناسك قال عليه السلام: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم» .
وعن الثاني: أن قوله: «هُمْ نَاسِكُوه» أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان. «فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ» قرأ الجمهور بتشديد النون، وقرئ بالنون الخفيفة وقرأ أبو مجلز «فَلاَ يَنْزِعُنَّكَ» من نَزَعتهُ من كذا أي قلعته منه. وقال الزجاج: هو من نَازعتُه فَنَزَعْتُه أَنْزِعُه أي: غلبته في المنازعة. ومجيء هذه الآية كقوله تعالى: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} [طه: 16] وقولهم: لا أَرَيَّنَكَ ههنا.
فصل
معنى الكلام على قراءة أبي مجلز: أي اثبت في دينك ثباتاً لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه وعلى قراءة: «يُنَازِعُنَّكَ» فيه قولان:
الأول: قال الزجاج: إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول: لا يضاربك فلان أي: لا تضاربه.
قال بعض المفسرين: {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر} في أمر الذبائح، نزلت في بُدَيْل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن حُبَيش قالوا لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَا لَكُمْ تَأْكُلُونَ مَا تَقْتُلون بأَيْدِيْكُمْ وَلاَ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّه.(14/144)
والثاني: أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك، وقد استقر الآن الأمر على شرعك، وعلى أنه ناسخ لكل ما عداه، فكأنه قال: كل أمة بقيت منها بقية يلزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول - عليه السلام - فلذلك قال: {وادع إلى رَبِّكَ} أي: لا تخص بالدعاء أمة دون أمة، فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك، فإنك على هدى مستقيم والهدى يحتمل أن يكون نفس الدين، وأن يكون أدلة الدين، وهو أولى. كأنه قال: ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة، ولهذا قال: «وَإِنْ جَادَلُوْك» أي فإن عدلوا عن هذه الأدلة إلى المراء والتمسك بعادتهم {فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي أنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى الوعيد والتحذير من يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قَبِل وبين نار وعقاب لمن رَدّ وأنكر. فقال: {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فتعرفون حينئذ الحق من الباطل.(14/145)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض} الآية. لما قال: {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الحج: 69] أتبعه بما به يعلم أنه تعالى عالم بما يستحقه كل أحد، ويقع الحكم بينهم بالعدل لا بالجور فقال لرسوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض} ، وهذا استفهام معناه تقوية قلب الرسول - عليه السلام - والوعد له وإيعاد الكافرين بأن أفعالهم كلها محفوظة عند الله لا يضل عنه ولا ينسى. والخطاب مع الرسول والمراد سائر العباد لأن الرسالة لا تثبت إلا بعد العلم بكونه تعالى عالماً بكل المعلومات، إذ لو لم يثبت ذلك لجاز أن يشتبه عليه الكاذب بالصادق، فحينئذ لا يكون إظهار المعجزة دليلاً على الصدق، وإذا كان كذلك استحال أن لا يكون الرسول عالماً بذلك، فثبت أن المراد(14/145)
أن يكون خطاباً مع الغير ثم قال: {إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ} أي: كله في كتاب يعني اللوح المحفوظ.
وقال أبو مسلم: معنى الكتاب الحِفْظ والضَّبْط والشَّد، يقال: كَتَبْتُ المزادة أكْتُبُها إذا خَرزْتها، فحفظت بذلك ما فيها، ومعنى الكتاب بين الناس حفظ ما يتعاملون به، فالمراد بالآية أنه محفوظ عنده. وأيضاً فالقول الأول يوهم أن علمه مستفاد من الكتاب.
وأجيب بأن هذا القول وإن كان صحيحاً نظراً إلى الاشتقاق لكن حمل اللفظ على المتعارف أولى، ومعلوم أن الكتاب هو ما كتب فيه الأمور.
فإن قيل: أي فائدة في ذلك الكتاب إذا كان محفوظاً؟
فالجواب أن كتبه تلك الأشياء في ذلك الكتاب مع كونها مطابقة للموجودات دليل على أنه تعالى غني في علمه عن ذلك الكتاب. وفائدة أن الملائكة ينظرون فيه، ثم يرون الحوادث داخلة في الوجود على وفقه فيصير ذلك دليلاً لهم زائداً على كونه تعالى عالماً بكل المعلومات وقوله: {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي العلم بجميع ذلك على الله يسير. والمعنى: إن ذلك مما يتعذر على الخلق لكنه متى أراده الله تعالى كان، فعبر عن ذلك بأنه يسير، وإن كان هذا الوصف لا يستعمل إلا فينا من حيث تسهل وتصعب علينا الأمور، وتعالى الله عن ذلك. ثم إنه تعالى بين ما يقدم الكفار عليه مع عظم نعمه ووضوح دلائله فقال:
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} حجة {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي: عن جهل، وليس لهم به دليل عقلي فهو تقليد وجهل، والقول الذي هذا شأنه يكون باطلاً.
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} أي وما للمشركين من نصير مانع يمنعهم من عذاب الله.
قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} يعني القرآن «بَيِّنَاتٍ» لأنه متضمن للدلائل العقلية وبيان الأحكام.
وقوله: «تَعْرِفُ» العامة على «تعرف» خطاباً مبنياً للفاعل، «المُنْكَر» مفعول به. وعيسى بن عمر «يُعْرَف» بالياء من تحت مبنياً للمفعول، «المنكر» مرفوع قائم مقامل الفاعل، والمنكر اسم مصدر بمعنى الإنكار.
وقوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا» من إقامة الظاهر مقام المضمر للشهادة عليهم بذلك، قال(14/146)
الكلبي: تَعْرِف في وجوههم الكراهية للقرآن. وقال ابن عباس: التجبر والترفع. وقال مقاتل: أنكروا أن يكون من الله.
قوله: «يَكَادُونَ يَسْطُونَ» هذه حال إما من الموصول، وإن كان مضافاً إليه لأن المضاف جزؤه وإما من الوجوه لأنها يُعَبَّرُ بها عن أصحابها كقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40] ثم قال: «أُولَئِكَ هُم» . و «يَسْطُونَ» ضُمن معنى يبطشون فتعدى تعديته، وإلا فهو متعدّ ب (على) . يقال: سطا عليه، وأصله القهر والغلبة، وقيل: إظهار ما يهول للإخافة، ولفلان سطوة أي تسلط وقهر. وقال الخليل والفراء والزجاج: السطو شدة البطش والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيماً لإنكار ما خوطبوا به. أي: يكادون يبطشون {بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه من شدة الغيظ، يقال: سطا عليه وسطا به إذا تناوله بالبطش والعنف ثم أمر رسوله بأن يقابلهم بالوعيد فقال: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم} أي بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون. أو من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم. قوله: «النار» تقرأ بالحركات الثلاث، فالرفع من وجهين:
أحدهما: الرفع على الابتداء والخبر الجملة من «وعَدَهَا اللَّهُ» ، والجملة لا محل لها فإنها مفسرة للشر المتقدم كأنه قيل: ما شر من ذلك؟ (فقيل: النار وعدها الله.
والثاني: أنها خبر مبتدأ مضمر كأنه قيل: ما شر من ذلك) فقيل: النار أي: هو النار وحينئذ يجوز في «وَعَدَهَا اللَّهُ» الرفع على كونها خبراً بعد خبر، وأجيز أن يكون بدلاً من النار. وفيه نظر من حيث إن المبدل منه مفرد، وقد يجاب عنه بأن الجملة في تأويل مفرد، ويكون بدل اشتمال، كأنه قيل: النار وعدها الله الكفار.(14/147)
وأجيز أن تكون مستأنفة لا محل لها. ولا يجوز أن تكون حالاً، قال أبو البقاء لأنه ليس في الجملة ما يصلح أن يعمل في الحال.
وظاهر نقل أبي حيان عن الزمخشري أنه يجيز كونها حالاً فقال: وأجاز الزمخشري أن تكون «النَّارُ» مبتدأ و «وَعَدَها» خبر، وأن تكون حالاً على الإعراب الأول انتهى.
والإعراب الأول هو كون «النار» خبر مبتدأ مضمر. والزمخشري لم يجعلها حالاً إلا إذا نصبت «النار» أو جررتها بإضمار قد.
هذا نصه وإنما منع ذلك لما تقدم من قول أبي البقاء، وهو عدم العامل. وأما النصب فهو قراءة زيد بن علي وابن أبي عبلة. وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الفعل الظاهر، والمسألة من الاشتغال.
الثاني: قال الزمخشري: إنها منصوبة على الاختصاص.
الثالث: أن ينتصب بإضمار أعني، وهو قريب مما قبله أو هو هو. وأما الجر فهو قراءة ابن إبي إسحاق وإبراهيم بن نوح، على البدل من «شَرّ» والضمير في «وَعَدَهَا» قال أبو حيان: الظاهر أنه هو المفعول الأول، على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] ، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني و «الَّذِينَ كَفَرُوا» هو المفعول الأول، كما قال: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 68] . قال شهاب الدين: وينبغي أن يتعين هذا الثاني، لأنه متى اجتمع بعد ما يتعدى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارة عن الأول، فالفاعل المعنوي رتبته التقديم وهو المفعول الأول، ونعني بالفاعل المعنوي من يتأتى منه فعل، فإذا قلت: وعدت زيداً ديناراً. فالدينار هو المفعول، لأنه لا يتأتى منه فعل، وهو(14/148)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
نظير أعطيت زيداً درهماً. فزيد هو الفاعل، لأنه آخذ للدرهم.
وقوله: «وَبِئْسَ المَصِير» المخصوص بالذم محذوف تقديره: وبئس المصير هي النار.
فصل
والمعنى: أن الذي ينالكم من النار أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب والغم، وهي النار وعدها الله الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وبئس المصير هي.
قوله
تعالى
: {يا
أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ} الآية لما بين أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم به ولا علم ذكر هاهنا ما يدل على إبطال قولهم.
قوله: «ضُرِبَ مَثَلٌ» قال الأخفش: ليس هذا مثل وإنما المعنى جعل الكفارُ لله مثلاً. قال الزمخشري: فإن قلت: الذي جاء به ليس مثلاً، فكيف سماه مثلاً؟ قلت قد سميت الصفة والقصة الرائعة المتلقاة بالامتحان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستغربة مستحسنة. وقيل: معنى «ضَرَبَ» جعل، كقولهم: ضَرَبَ السلطان البَعْثَ، وضرب الجِزْيَة على أهل الذمة. ومعنى الآية: فجعل لي شَبَهٌ وشُبِّه بي الأوثان، أي: جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها. وقيل: هو مثل من حيث المعنى، لأنه ضرب مثل من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذباباً. «فَاسْتَمِعُوا لَه» أي: فتدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع، وإنما ينفع بالتدبر.
قوله: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ} قرأ العامة «تَدْعُونَ» بتاء الخطاب والحسن ويعقوب وهارون ومحبوب عن أبي عمرو بالياء من تحت وهو في كلتيهما مبني للفاعل.(14/149)
وموسى الأسواري واليماني «يُدْعَوْنَ» بالياء من أسفل مبنياً للمفعول. والمراد الأصنام. فإن قيل: قول «ضُرِبَ» يفيد فيما مضى، والله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء فالجواب: إذا كان ما يورد من الوصف معلوماً من قبل جاز ذلك فيه، ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر تقدم.
قوله: «لَنْ يَخْلُقُوا» . جعل الزمخشري نفي «لَنْ» للتأبيد وتقدم البحث معه في ذلك. والذباب معروف، وهو واحد، وجمعه القليل: أذِبَّة، وفيه الكسرة، ويجمع على ذِبَّان وذُبَّان بكسر الذال وضمها وعلى ذُبّ. والمِذَبَّة ما يطرد بها الذباب. وهو اسم جنس واحدته ذبابة تقع للمذكر والمؤنث فتفرد بالوصف.
قوله: {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} قال الزمخشري: نصب على الحال كأنه قال يستحيل خلقهم الذباب حال اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه فكيف حال انفرادهم. وقد تقدم أن هذه الواو عاطفة هذه الجملة الحالية على حال محذوفة، أي: انتفى خلقهم الذباب على كل حال ولو في هذه الحالة المقتضية لخلقهم، فكأنه تعالى قال: إن هذه الأصنام لو اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبوداً.(14/150)
قوله: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً} السلب اختطاف الشيء بسرعة، يقال: سلبه نعمته.
والسلب: ما على القتيل، وفي الحديث: «مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبه» .
وقوله: {لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} الاستنقاذ: استفعال بمعنى الإفعال، يقال: أنقذه من كربته، أي: أنجاه منه وخلصه، ومثله: أَبَلَّ المريض واسْتَبَلّ.
فصل
كأنه تعالى قال: أترُكُ أمر الخلق والإيجاد وأتكلمُ فيما هو أسهل منه، فإن الذباب إذا سَلَبَ منها شيئاً فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب.
واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة، وأما الثانية فلا.
فإن قيل: هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة عالمة حية مدبرة، وإما لنفي كونها مستحقة للتعظيم، والأول فاسد، لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة، فلا فائدة في إقامة الدلالة عليه. وأما الثاني فهذه الدلالة لا تفيده، لأنه لا يلزم من نفي كونها حيّة أن لا تكون معظمة، فإن جهات التعظيم مختلفة، فالقوم كانوا يعتقدون فيها أنها طلسمات موضوعة على صور الكواكب، أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين.
فالجواب: أما كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الضر والنفع، فهو يبطل بهذه الدلالة، فإنها لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا تنفع غيرها أولى. وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين، فقد تقرر في العقل أنَّ تعظيمَ غير الله ينبغي أن يكون أقل من تعظيم الله، والقوم كانوا(14/151)
يعظمونها نهاية التعظيم، وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم، فمن هاهنا استوجبوا الذم.
فصل
قال ابن عباس: كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، فإذا جفَّ جاءت الذباب فاستلبته وقال السدي: كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فيقع الذباب عليه فيأكلن منه.
وقال ابن زيد: كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر، ويطيبونها بأنواع الطيب، فربما يسقط منها واحدة فأخذها طائر وذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} قيل: هو إخبار. وقيل: تعجب. والأول أظهر.
قال ابن عباس: الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم، والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب. وقيل: العكس الطالب الصنم والمطلوب الذباب، فالصنم كالطالب لأنه لو طلب أن يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه، والذباب بمنزلة المطلوب. وقال الضحاك: الطالب العابد والمطلوب المعبود، لأن كون الصنم طالباً ليس حقيقة بل على سبيل التقدير. وقيل: المعنى ضعف أي ظهر قبح هذا المذهب كما يقال عند المناظرة: ما أضعف هذا المذهب، وما أضعف هذا الوجه.
قوله: {ما قدروا الله حق قدره} أي: ما عظموه حق تعظيمه، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شركاء له في المعبودية. {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} : «قويّ» لا يتعذر عليه فعل شيء «عزيز» لا يقدر أحد على مغالبته، فأي حاجة إلى القول بالشريك.
قال الكلبي: في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الأنعام: أنها نزلت في مالك(14/152)
ابن الصيف وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهم من اليهود، حيث قالوا: إن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض أعيا من خلقها، فاستلقى واستراح، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم، ونزل قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] .(14/153)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
قوله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً} الآية لما ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر هاهنا ما يتعلق بالنبوات. قال بعضهم: [تقدير الكلام: ومن الناس رسلاً. ولا حاجة لذلك، بل قوله «ومن الناس» مقدَّر التقديم، أي: يصطفي من الملائكة ومن الناس رسلاً] . قال مقاتل: قال الوليد بن المغيرة {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} ؟ [ص: 8] فأنزل الله هذه الآية فإن قيل: كلمة «من» للتبعيض، فقوله «من الملائكة» يقتضي أن يكون الرسل بعضهم لا كلهم، وقوله: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} [فاطر: 1] يقتضي كون كلهم رسلاً، فكيف الجمع؟
فالجواب: يجوز أن يكون المذكور ههنا من كان رسلاً إلى بني آدم، وهم أكابر الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل، والحفظة صلوات الله عليهم، وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض. فإن قيل: قوله في سورة الزمر {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} [الزمر: 4] فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى، وهذه الآية تدل على أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين، فلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد.
فالجواب: أن قوله: {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى} [الزمر: 4] يدل على أن كل ولد(14/153)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
مصطفى ولا يدل على أن كل مصطفى ولد، فلا يلزم من دلالة هذه الآية على وجود مصطفى كونه ولداً. وأيضاً فالمراد من هذه الآية تبكيت من عبد غير الله من الملائكة، كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان، وفي هذه الآية أبطل قول عبدة الملائكة، فبين أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة لأن الله اصطفاهم لمكان عبادتهم، فكأنه تعالى بيَّن أنهم {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج: 74] إذ جعلوا الملائكة معبودة مع الله.
ثم بين تعالى: بقوله: {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أنه يسمع ما يقولون، ويرى ما يفعلون ولذلك أتبعه بقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} . قال ابن عباس: ما قدموا وما خلفوا وقال الحسن: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما عملوا، «وَمَا خَلْفَهُم» ما هم عاملون من بعد. ثم قال: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} إشارة إلى القدرة التامة، والتفرد بالإلهية والحكم، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية.
قوله
تعالى
: {يا
أيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا} إلى آخر السورة. لما ذكر الإلهيات ثم النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع، وهو من أربعة أوجه:
الأول: تعيين المأمور.
والثاني: أقسام المأمور به.
والثالث: ذكر ما يوجب تلك الأوامر.
والرابع: تأكيد ذلك التكليف.
فأما تعيين المأمور به فهو قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ} وهذ خطاب للمؤمنين؛ لأنه(14/154)
صرح بهم، ولقوله: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ» ، ولقوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين} ، وقوله {وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} . وقيل: خطاب لكل المكلفين مؤمناً كان أو كافراً؛ لأن التكليف بهذه الإشارة عامّ في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمن بذلك. وأما فائدة التخصيص، فلأنه لما لم يقبله إلا المؤمنون خصهم بالذكر ليحرضهم على المواظبة على ما قبلوه، وكالتشريف لهم في ذلك الإفراد. وأما المأمور فأربعة أمور:
الأول: الصلاة وهو المراد بقوله: «ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا» وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود، والصلاة هي المختصة بهذين الركنين، فجرى ذكرهما مجرى ذكر الصلاة، وذكر ابن عباس: أن الناس كانوا في أول إسلامهم يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية.
والثاني: قوله: «وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ» قيل: وحدوه. وقيل: اعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات. وقيل: افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات بنية العبادة.
الثالث: قوله: «وَافْعَلُوا الخَيْرَ» قال ابن عباس: هو صلة الرحم ومكارم الأخلاق «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» لكي تفوزوا بالجنة. وقيل: كلمة «لَعَلَّ» للترجي، فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير، فليس هو على يقين من أن الذي أتى به هل هو مقبول عند الله والعواقب مستورة «وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له»
فصل
اختلفوا في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية، فذهب عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس: إلى أنه يسجد، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لما روى عقبة بن عامر قال: «قلت: يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين قال:» نعم، من لم يسجدهما فلا يقرأهما «وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا يسجد هاهنا. وعدد سجود القرآن أربع عشرة سجدة عند أكثر أهل العلم منها ثلاث في المفصل، وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس: ليس في المفصل سجود، وبه قال مالك.(14/155)
وقد صح عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في» اقْرَأ «و {إِذَا السمآء انشقت} [الانشقاق: 1] . وأبو هريرة متأخر الإسلام. واختلفوا في سجدة ص فروي عن ابن عباس أنها سجدة شكر وهو مذهب الشافعي وعن عمر أنه يسجد فيها، وهو قول الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق.
الرابع: قوله: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ} يجوز أن يكون «حَقَّ جِهَادِهِ» منصوباً على المصدر، وهو واضح. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي جهاداً حق جهاده. وفيه نظر من حيث إن هذا معرفة فكيف يجعل صفة لنكرة.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس: حقّ الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال {وَجَاهِدُوا فِي الله} . قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول من أجله ولوجهه صحت إضافته إليه، ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله:
3779 - وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِرا ... يعني بالظرف الجار والمجرور كأنه كان الأصل: حق جهاد فيه. فحذف حرف الجر وأضيف المصدر للضمير، وهو من باب هو حقّ عالم وجد، أي: عالم حقاً وعالم جداً.
فصل
المعنى: جاهدوا في سبيل الله «أعداء اللَّه حَقَّ جِهَادِهِ» هو استفراغ الطاقة فيه. قاله ابن عباس، وعنه قال: لا تخافون لومة لائم. وقال الضحاك ومقاتل: اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته. وقال مقاتل بن سليمان: نسخها قوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] وهذا بعيد لأن التكليف شرطه القدرة لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً(14/156)
إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [البقرة: 78] و {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] . فكيف يقول: {وَجَاهِدُوا فِي الله} على وجه لا يقدرون عليه؟ وقال أكثر المفسرين: حق الجهاد أن يكون بنية صادقة. وقيل: يفعله عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم والغنيمة. وقيل: يجاهدوا آخراً كما جاهدوا أولاً، فقد كان جهادهم في الأول أقوى، وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر، روي عن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ «وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله» ؟ قال عبد الرحمن: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو المغيرة الوزراء. واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن، وإلا لنقل كنقل نظائره، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية.
وروي عن ابن عباس أنه قرأ: «وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جَهَادِهِ كما جاهدتم أول مرة» فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: من الذي أمرنا بجهاده؟ فقال: قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس، فقال: صدقت. وقيل: معنى الآية: استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله، وإقامة حقوقه بالحرب واليد واللسان، وجميع ما يمكن، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل وقال ابن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى، وهو الجهاد الأكبر [وهو حق الجهاد وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما رجع من غزوة تبوك قال:
«رجعنا من الجهاد والأصغر إلى الجهاد الأكبر» ] وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس. وأما بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر، فهو ثلاثة:
الأول: قوله: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ» اختاركم لدينه، وهذه من أعظم التشريفات، فأي رتبة أعلى من هذه، وأي سعادة فوق هذا. ثم قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} وهو كالجواب عن سؤال، وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً لكنه شاق على النفس؟ أجاب بعضهم بقوله: {مَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} ، [روي أن أبا هريرة - رَضِيَ(14/157)
اللَّهُ عَنْه قال: كيف قال الله {ما جعل عليكم في الدين من حرج} ] مع أنه منعنا عن الزنا؟ فقال ابن عباس: بلى، ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنّا.
وهذا قول الكلبي، قال المفسرون: معناه لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منها مخرجاً بعضها بالتوبة، وبعضها برد المظالم والقصاص، وبعضها بالكفارات وليس في دين الله ذنب إلا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العذاب منه. وقال ابن عباس ومقاتل: هو الإتيان بالرخص، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً، ومن لم يستطع ذلك فَلْيُوم، وإباحة الفطر في السفر للصائم، والقصر فيه والتيمم وأكل الميتة عند الضرورة.
فصل
استدلت المعتزلة بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق، وقالوا: لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي، ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج، وذلك منفي بصريح هذا النص.
والجواب أنه لما أمره بترك الكفر، وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً، فقد أمر المكلف بقلب علم الله جهلاً، وذلك من أعظم الحرج، ولما استوعى العدمان زال السؤال.
الموجب الثاني: قوله: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ» فيه أوجه:
أحدها: أنها منصوبة باتبعوا مضمراً. قاله الحوفي وتبعه أبو البقاء.
الثاني: أنها منصوبة على الاختصاص، أي: أعني بالدين ملة أبيكم.
الثالث: أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها، كأنه قال: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قاله الزمخشري. وهذا أظهرها.
الرابع: أنها منصوبة بجعلها مقدراً. قاله ابن عطية.(14/158)
الخامس: أنها منصوبة على حذف كاف الجر، أي: كملة أبيكم. قاله الفراء، وقال أبو البقاء قريباً منه، فإنه قال: وقيل تقديره: مثل ملة، لأن المعنى سهل عليكم الدين مثل ملة أبيكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وقوله: «إبراهيم» بدل أو بيان أو منصوب بأعني.
فصل
والمقصود من ذكر «إِبْرَاهِيم» التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم والعرب كانوا محبين لإبراهيم - عليه السلام - لأنهم من أولاده، فكان ذكره كالسبب لانقيادهم لقبول هذا الدين.
فإن قيل: ليس كل المسلمين يرجع نسبه إلى إبراهيم. فالجواب: أن هذا خطاب مع العرب، وهم كانوا من نسل إبراهيم. وقيل: خاطب به جميع المسلمين، وإبراهيم أب لهم على معنى وجوب إكرامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب، فهو كقوله تعالى: «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ» ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إنما أنا لكم مثل الوالد» فإن قيل: هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم سواء، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص، ويؤكده قوله: {اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] .
فالجواب: إنما وقع هذا الكلام مع عبدة الأوثان، فكأنه قال: عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم، وأما تفاصيل الشرائع فلا تعلّق لها بهذا الموضع.
قوله: «هُو سَمَّاكُمْ» في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه يعود على «إبْرَاهِيمَ» ، لأنه أقرب مذكور إلا أن ابن عطية قال: وفي هذه اللفظة يعني قوله: «وَفِي هَذَا» ضعف قول من قال: الضمير ل «إبراهيم» ولا يتوجه إلا بتقدير محذوف من الكلام مستأنف. انتهى.
ومعنى ضعف من قال بذلك أن قوله: «وَفِي هَذَا» عطف على «مِنْ قَبْلُ» و «هَذَا» إشارة إلى القرآن، فيلزم أن «إبْرَاهِيمَ» سمّاهم المسلمين في القرآن، وهو غير واضح؛ لأن(14/159)
القرآن المشار إليه إنما أنزل بعد إبراهيم بمدد طوال، فلذلك ضعف قوله.
قوله: إلا بتقدير محذوف الذي ينبغي أن يقدر: وسميتهم في هذا القرآن المسلمين وقال أبو البقاء: قيل: الضمير ل «إبْرَاهِيمَ» فعلى هذا الوجه يكون قوله «وَفِي هَذَا» أي: وفي هذا القرآن سبب تسميتهم وهو قول إبراهيم: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] ، فاستجاب الله له، وجعلها أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
والثاني: أن الضمير يعود على الله تعالى، ويدلّ له قراءة أُبيّ «اللَّهُ سَمَّاكُمْ» بصريح الجلالة، أي سماكم في الكتب السالفة وفي هذا القرآن الكريم أيضاً. وهو مرويّ عن ابن عباس ويؤيده قوله: {لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} . فبيّن أنه سمّاهم بذلك لهذا الغرض، وهذا لا يليق إلا بالله.
فقوله: «لِيَكُونَ الرَّسُولُ» متعلق ب «سَمَّاكُمْ» فبيّن فضلكم على سائر الأمم، وسماكم بهذا الاسم لأجل الشهادة المذكورة، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه. وهذا هو الموجب الثالث لقبول التكليف، وتقدم الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيداً علينا وكيف تكون أمته شهداء على الناس في سورة البقرة. وأما ما يجري مجرى المؤكد لما مضى فهو قوله: {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} فهي المفروضات، لأنها المعهودة. واعتصموا بحبل الله أي بدلائله العقلية والسمعية.
قال ابن عباس: سلو الله العِصمة عن كل المحرمات. وقيل: ثقوا بالله وتوكلوا عليه. وقال الحسن: تمسكوا بدين الله «هُوَ مَوْلاَكُمْ» سيدكم والمتصرف فيكم وناصركم وحافظكم. {فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} فكأنه تعالى قال: أنا مولاكم بل أنا ناصركم. وحسن حذف المخصوص بالمدح وقوع الثاني رأس آية وفاصلة.
فصل
احتجت المعتزلة بهذه الآية من وجوه:(14/160)
أحدها: أن قوله: «لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ» يدلّ على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل؛ لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلاً مرضياً، فإذا أراد أن يكونوا شهداء على الناس فقد أراد أن يكونوا جميعاً صالحين عدولاً، وقد علمنا أن منهم فسّاقاً، فدل ذلك على أن الله - تعالى - أراد من الفاسق كونه عدلاً.
وثانيها: قوله: «وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه.
وثالثها: قوله: «فَنِعْمَ المَوْلَى» فإنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى، بل كان لا يوجد من شر المولى أحد إلا وهو شرٌّ منه، فكان يجب أن يوصف بأنه بئْس المولى. وذلك باطل فدل على أنه - سبحانه - ما أراد من جميعهم إلا الصلاح. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة؟ قلنا: إنه - تعالى - مولى الكافرين والمؤمنين جميعاً، فيجب أن يقال: نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين، فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله - تعالى - تعالى الله عند ذلك.
ورابعها: أن قوله: {سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله - تعالى - لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص.
والجواب عن الأول: وهو قولهم إن كونه - تعالى - مريداً لكونه شاهداً يستلزم كونه مريداً لكون عدلاً. فنقول: إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر يوجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله، ويلزم كونه - تعالى - مريداً لجهل نفسه، وإن لم يكن ذلك واجباً فقد سقط الكلام.
وأما قوله: «واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» فيقال: هذا أيضاً وارد عليكم، فإنه - سبحانه - خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهى وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه شياطين الإنس والجن، وعلم لا محالة أنه يقع في الفجور والضلال، وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى. فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازمٌ عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية والله أعلم.
روى الثعلبي بإسناده عن أُبيّ بن كعب: قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» .(14/161)
سورة المؤمنون(14/162)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
مكية وهي مائة وثمان عشرة آية، وألف مائتان وأربعون كلمة، وعدد حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} الآيات العشر، روى ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: «كان إذا نزل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الوحي يسمع عند وجهه كَدَوِيّ النحل فَمَكَثْنَا ساعة، وفي رواية: فنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة، فَاسْتَقْبَلَ القبلة فرفع يديه، وقال:» اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلاَ تَنْقِصْنَا، وأكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا، وأعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا، وآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضَ عَنَّا «ثم قال:» لَقَدْ أُنْزِلَ علينا عشر آيات مَنْ أَقَامَهُنَّ دخل الجنة «ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} عشر آيات» ورواه الإمام أحمد، وعلي بن المديني، وجماعة عن عبد(14/162)
الرزاق وقالوا: «وَأعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا وارْضَ عَنَّا» .
قوله: «قَدْ» هنا للتوقع، قال الزمخشري: «قد» نقيضة «لَمَّا» قد تثبت المتوقع ولما تنفيه، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لهذه البشارة، وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دلّ على ثبات ما توقعوه. وقال البغوي: قد حرف تأكيد. وقال المحققون: قد يقرب الماضي من الحال يدل على أن الفلاح قد(14/163)
حصل لهم وأنهم عليه في الحال. وهو أبلغ من تجريد ذلك الفعل.
والعامة على «أَفْلَحَ» مفتوح الهمزة والحاء فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل، وورش على قاعدته من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها. وعن حمزة في الوقف خلاف، فروي عنه كورش وكالجماعة. وقال أبو البقاء: من أَلْقَى حركة الهمزة على الدال وحذفها فعلّته أنَّ الهمزة بعد حذف حركتها صُيِّرت ألفاً، ثم حذفت لسكونها (وسكون الدال قبلها في الأصل ولا يُعْتَدُّ بحركة الدال لأنها عارضة. وفي كلامه نظر من وجهين:
أحدهما: أنَّ اللغة الفصيحة في النقل حذف الهمزة من الأصل فيقولون: المَرَة والكَمَة في المَرْأة والكَمْأَة، واللغة الضعيفة فيه إبقاؤها وتدبيرها بحركة ما قبلها، فيقولون: المَرَاة والكَمَاة بمدة بدل الهمزة ك (رَاس وفَاس) فيمن خففها، فقوله: صُيّرت ألفاً. ارتكاب لأضعف اللغتين.
الثاني: أنه وإن سُلم أنها صُيّرت ألفاً فلا نُسلّم أنَّ حذفها) لسكونها وسكون الدال في الأصل بعد حذفها لساكن محقق في اللفظ، وهو الفاء من «أَفْلَحَ» ، ومتى وجد سبب ظاهر أُحيل الحكم عليه دون السبب المقدر. وقرأ طلحة بن مُصرّف وعمرو بن عبيد «أُفلح» مبنياً للمفعول، أي: دخلوا في الفلاح فيحتمل أن يكون من أَفْلَح متعدياً، يقال: أفلحه،(14/164)
أي: أصاره إلى الفلاح، فيكون «أَفْلَحَ» مستعملاً لازماً ومتعدياً.
وقرأ طلحة أيضاً: «أَفْلَحُ» بفتح الهمزة واللام وضم الحاء، وتخريجها على أنّ الأصل أفلحوا المؤمنون، بإلحاق علامة جمع قبل الفاعل كلغة: أكلوني البراغيثُ، فيجيء فيها ما تقدم في قوله:
{ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71] {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] .
قال عيسى: سمعتُ طلحة يقرؤها فقلتُ له: أتلحن؟ قال: نعم كما لحن أصحابي، يعني أني اتّبعتهم فيما قَرَأْتُ به، فإن لَحِنُوا على سبيل فَرْض المحالِ، فأنا لاَحِنٌ تبعاً لهم. وهذا يدل على شدة اعتناء القدماء بالنقل وضبطه خلافاً لمن يُغلّط الرواة.
وقال ابن عطية: وهي قراءة مردودة. قال شهاب الدين: ولا أدري كيف يُردُّونها مع ثبوت مثلها في القرآن بإجماع، وهما الآيتان المتقدمتان. وقال الزمخشري: وعنه أي: عن طلحة - «أَفْلَحُ» بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله:
3780 - فَلَوْ أَنَّ الأَطِّبَّا كَانُ حَوْلِي ... وفيه نظر من حيث إن الواو لا تثبت في مثل هذا درجاً، لئلا يلتقي ساكنان فالحذف هنا لا بدّ منه، فكيف يقول اجتزأ بها عنها. وأما تنظيره بالبيت فليس بمطابق، لأنّ حذفها من الآية ضروري ومن البيت ضرورة، وهذه الواو لا يظهر لفظها في الدرج بل يظهر في الوقف وفي الخط.
وقد اختلف النقلة لقراءة طلحة هل يثبت للواو صورة؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء، وفي اللوامح: وحذفت الواو بعد الحاء لالتقائهما في الدرج، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] . قال شهاب الدين: ومثله «(14/165)
سَندْعُ الزَّبَانِيَةَ» «لَصَالُ الجَحِيم» . قال المفسرون: والفلاح: النجاة والبقاء. قال ابن عباس: قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة. وتقدم الكلام في الإيمان في البقرة. قوله: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} الجار متعلق بما بعده، وقُدّم للاهتمام به، وحسنه كون متعلقه فاصلة، وكذا فيما بعده من أخواته، وأضيف الصلاة إليهم، لأنهم هم المنتفعون بها، والمُصلى له غَنِيٌّ عنها، فلذلك أضيفت إليهم دونه.
فصل
اختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين، وهو الأولى.
قال ابن عباس: مخبتون أذلاء. وقال الحسن وقتادة: خائفون. وقال مقاتل: متواضعون. وقال مجاهد: هو غض البصر وخفض الصوت، والخشوع قريب من الخضوع إلا أنّ الخضوع في البدن، والخشوع في القلب والبصر والصوت قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} [طه: 108] . وعن عليّ: هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً. وقال سعيد بن جبير: هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره. وقال عطاء: هو أن تعبث بشيء من جسدك، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» وقال ابن الخطيب: وهو عندنا واجب، ويدل عليه أمور:
أحدها: قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] . والتدبير لا يتصور بدون الوقوف على المعنى، وقوله تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} [المزمل: 4] أي: قفوا على عجائبه ومعانيه.(14/166)
وثانيها: قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لذكريا} [طه: 14] وظاهر الأمر للوجوب، والغفلة تضاد الذكر، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره.
وثالثها: قوله تعالى: {وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين} [الأعراف: 205] وظاهره للتحريم، وقوله: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] تعليل لنهي السكران، وهو مطرد في الغافل المستغرق في الدنيا.
ورابعها: قوله - عليه الصلاة - «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً» وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء، قال عليه السلام: «كم من قائم حظّه من قيامه التعب والنصب» وما أراد به ألا الغافل، وقال أيضاً: «ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل» ، وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الالتفات في الصلاة، فقال: «هو اختلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ من صلاة العبد» وعن أبي ذر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «لا يزال الله - عزَّ وجلَّ - مُقْبِلاً على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه» وذهب بعضهم إلى أنه ليس بواجب لأنّ اشتراط الخضوع والخشوع خلاف لإجماع الفقهاء فلا يلتفت إليه.
وأُجيب بأن هذا الإجماع ممنوع، لأن المتكلمين اتفقوا على أنه لا بُدّ من الخضوع والخشوع، واحتجوا بأن السجود لله تعالى طاعة، وللصنم كفر، وكل واحد منهما(14/167)
يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بُدّ من أمر لأجله يصير السجود في إحدى الصورتين طاعة، وفي الأخرى معصية، قالوا: وما ذاك إلا القصد والإرادة، والمراد من القصد: إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور.
قوله: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} قال عطاء عن ابن عباس: عن الشرك.
وقال الحسن: عن المعاصي. وقال الزجاج: كل باطل، ولهو وما لا يجمل من القول والفعل. وقيل: هو معارضة الكفار بالشتم والسب، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.
واعلم أن اللغو قد يكون كفراً كقوله تعالى: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] ، وقد يكون كذباً لقوله تعالى: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] ، وقوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} [الواقعة: 25] . ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه بوصفهم بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك.
قوله: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} اللام في قوله: «لِلزَّكَاةِ» مزيدة في المفعول لتقدمه على عامله، ولكونه فرعاً. والزكاة في الأصل مصدر، ويطلق على القدر المُخْرَج من الأعيان، وقال الزمخشري: اسم مشترك بين عين ومعنًى، فالعين القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب، والمعنى فعل المزكي، وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين له، ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عنه بالفعل، ويقال لمحدثه فاعل، تقول للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل، وللمزكي: فاعل التزكية، وعلى هذا الكلام كله، والتحقيق في هذا أنك تقول في جميع الحوادث: (من فعل هذا) فيقال لك: فاعله الله أو بعض الخلق، ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها (فاعلون) لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها، وقد أنشدوا لأمية بن أبي الصلت:(14/168)
3781 - المطعمُون الطَّعام في السنة ال ... أَزْمة والفاعلون للزكوات
ويجوز أن يراد بالزكاة العين، ويقدر مضاف محذوف، وهو الأداء، وحمل البيت على هذا أصح، لأنها فيه مجموعة. قال شهاب الدين: إنما أحوج أبا القاسم إلى هذا أن بعضهم زعم أنه يتعين أنْ يكون الزكاة هنا المصدر؛ لأنه لو أراد العين لقال: مؤدون ولم يقل: فاعلون، فقال الزمخشري: لم يمتنع ذلك لعدم صحة تناول فاعلون لها بل لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها، وإنما جعل الزكوات في بيت أمية أعياناً لجمعها، لأنّ المصدر لا يجمع، وناقشه أبو حيان وقال: يجوز أن يكون مصدراً وإنما جمع لاختلاف أنواعه. وقال أبو مسلم: إنّ فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي، كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14] ، وقوله: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] ومن جملتهم ما يخرج من حق المال، وإنما سمي بذلك؛ لأنها تطهر من الذنوب، لقوله تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . وقال الأكثرون: المراد بها هنا: الحق الواجب في الأموال خاصة؛ لأنّ هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى. فإنْ قيل: إن الله تعالى لم يفصل بين الصلاة والزكاة فَلِمَ فصل هنا بينهما بقوله: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} ؟ فالجواب: لأنّ ترك اللغو من متمات الصلاة. قوله: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الفرج اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة، وحفظ الفرج التعفف عن الحرام. قوله: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ} فيه أوجه:
أحدها: أنه متعلق ب «حَافِظُونَ» على التضمين معنى ممسكين أو قاصرين وكلاهما يتعدى بعلى قال تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] .
الثاني: أنّ «عَلَى» بمعنى «مِنْ» أي: إلا من أزواجهم كما جاءت «مِنْ» بمعنى «(14/169)
عَلَى» في قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] وإليه ذهب الفراء.
الثالث: أنْ يكون في موضع نصب على الحال، قال الزمخشري: إلاَّ وَالِينَ على أزواجهم أو قوّامين عليهنّ من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان، ونظيره: كان زياد على البصرة أي: والياً عليها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان، ومن ثمّ سميت المرأة فراشاً.
الرابع: أنْ يتعلق بمحذوف يدل عليه «غَيْرُ مَلُومِينَ» قال الزمخشري: كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم، أي: يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه. قال شهاب الدين: وإنما لم يجعله متعلقاً ب «مَلُومِينَ» لوجهين:
أحدهما: أن ما بعد «إِنَّ» لا يعمل فيما قبلها.
الثاني: أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف.
الخامس: أن يجعل صلة لحافظين، قال الزمخشري: من قولك: احفظ عليّ عنان فرسي، على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم: نشدتك بالله إلا فعلت معنى: ما طلبت منك إلا فعلك يعني أنّ صورته إثبات ومعناه نفي. قال أبو حيان بعدما ذكر ذلك عن الزمخشري: وهذه وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة. قال شهاب الدين: وأي عجمةٍ في ذلك على أنّ الشيخ جعلها متعلقة ب «حَافِظُونَ» على ما ذكره من التضمين، وهذا لا يصح له إلا بأن يرتكب وجهاً منها وهو التأويل بالنفي(14/170)
كنشدتك الله، لأنه استثناء مفرغ ولا يكون إلا بعد نفي أو ما في معناه.
السادس: قال أبو البقاء: في موضع نصب ب «حَافِظُونَ» على المعنى؛ لأنّ المعنى صانوها عن كل فرج إلا عن فروج أزواجهم. قال شهاب الدين: وفيه سببان:
أحدهما تضمين «حَافِظُونَ» معنى صانوا، وتضمين «على» معنى «عَنْ» .
قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ} «مَا» بمعنى: اللاتي، و «مَا» في محل الخفض يعني: أو على ما ملكت أيمانهم. وفي وقوعها على العقلاء وجهان:
أحدهما: أنها واقعة على الأنواع كقوله: {فانكحوا مَا طَابَ} [النساء: 3] أي: أنواع.
والثاني: قال الزمخشري: أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث.
قال أبو حيان: وقوله: وهم. ليس بجيد، لأنّ لفظ هُمْ مختص بالذكور فكان ينبغي أن يقول: «وَهُوَ» على لفظ «مَا» أو «هُنَّ» على معنى (ما) .
وأجيب بأن الضمير عائد على العقلاء فقوله: «وَهُمْ» أي: العقلاء الإناث. وقال ابن الخطيب هلا قيل: مَنْ ملكت؟ فالجواب: لأنه اجتمع في السُّرِّيَّةِ وصفان:
أحدهما: الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل.(14/171)
والآخر: كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع.
فلهذين الوصفين فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء.
فصل
هذه الآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها.
فإن قيل: أليست الزوجة والمملوكة لا تحل له الاستمتاع بها في أحوال كحال الحيض، وحال العدة، والصيام، والإحرام، وفي الأمة حال تزويجها من الغير وحال عدتها، وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنّ مذهب أبي حنيفة أنّ الاستثناء من النفي لا يكون إثباتاً، لقوله عليه السلام:
«لا صلاة إلا بطهور، ولا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَليّ» فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور، وحصول النكاح بمجرد حصول الولي. وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ} معناه أنه يجب حفظ الفرج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات.
الثاني: (أَنَّا إنْ) سلمنا أنّ الاستثناء من النفي إثبات فغايته أنه عام دخله التخصيص بالدليل فيبقى حجة فيما عداه.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} يعني: يحفظ فرجه إلا من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك إذا كان على وجه أذن الشرع فيه دون الإتيان في غير المأتى، وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور ويلام على فعله.
قوله: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك} أي: التمس وطلب سوى الأزواج والمملوكات {فأولئك هُمُ العادون} الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام، وفيه دليل أنَّ الاستمناء باليد حرام قال ابن جريج: سألت عطاء عنه فقال: مكروه، سمعت أنّ قوماً يحشرون وأيديهم حُبالى فأظن أنهم هؤلاء. وعن سعيد بن جبير قال: عَذَّب الله أمة كانوا يعبثون(14/172)
بمذاكيرهم. قوله: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ} قرأ ابن كثير هنا وفي سأل «لأَمَانَتِهِم» بالتوحيد، والباقون بالجمع. وهما في المعنى واحد إذ المراد العموم والجمع أوفق.
والأمانة في الأصل مصدر، ويطلق على الشيء المؤتمن عليه لقوله: {أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .
«وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ» ، وإنما يُؤدَّى ويُخان الأعيان لا المعاني، كذا قال الزمخشري.
أما ما ذكره من الآيتين فمسلم، وأما هذه الآية فيحتمل المصدر ويحتمل العين، والعهد ما عقده على نفسه فيما يقربه إلى الله، ويقع أيضاً على ما أمر الله به كقوله: {الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} [آل عمران: 183] ، والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. فالأمانات تكون بين الله وبين العبد كالصلاة، والصيام، والعبادات الواجبة وتكون بين العبيد كالودائع والبضائع، فعلى العبد الوفاء بجميعها.
وقوله: «رَاعُونَ» الراعي القائم على الشيء يحفظه ويصلحه كراعي الغنم، ومنه يقال: مَنْ راعي هذا الشيء؟ أي متوليه.
وقوله: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قرأ الأخوان «عَلَى صَلاَتِهِمْ» بالتوحيد، والباقون «صَلَوَاتِهِمْ» بالجمع، وليس في المعارج خلاف.(14/173)
والإفراد والجمع كما تقدم في «أَمَانَتِهم) و (أَمَانَاتِهِمْ) . قال الزمخشري: فإنْ قُلْتَ: كيف كرر ذكر الصلاة أولاً وآخراً؟ قلت: هما ذكران مختلفان وليس بتكرير، وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم، وآخراً بالمحافظة عليها. ثم قال: وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة، أي صلاة كانت، وجمعت آخراً لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن الراتبة، وهذا إنما يتجه في قراءة غير الأخوين وأما الأخوان فإنهما أفردا أولاً وآخراً على أنَّ الزمخشري قد حكى الخلاف في جمع الصلاة الثانية وإفرادها بالنسبة إلى القراءة.
وقيل: كرر ذكر الصلاة ليبين أنّ المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب.
ثم قال: {أولئك هُمُ الوارثون} «أُولَئِكَ» أي: أهل هذه الصفة «هُمُ الوارِثُونَ» فإن قيل: كيف سمى ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث؟ مع أنه سبحانه حكم بأنَّ الجنة حقهم في قوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] . فالجواب من وجوه:
الأول: روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «ما منكم من أحد إلاَّ وله منزلان منزل في الجنّة ومنزلٌ في النار، فإنْ مات ودخل النار وَرِثَ أهلُ الجنة مَنْزله» ، وذلك قوله: {أولئك هُمُ الوارثون} . وأيضاً: فقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه، كذلك قالوا في الدية التي إنما تجب بالقتل إنها تورث مع أنه مالكها على التحقيق وهذا يؤيد ما ذكر فإن قيل: إنه تعالى وصف كل الذي يستحقونه إرثاً، وعلى ما قلتم فإنه يدخل في الإرث ما كان يستحقه غيرهم لو أطاع.
فالجواب: لا يمتنع أنه تعالى جعل ما هو (منزلة) لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك كان يزيد في المنازل فإذا أمن هذا عدل بذلك إليه.(14/174)
الثاني: أنَّ انتقال الجنة إليهم من دون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث.
الثالث: أنَّ الجنة كانت مسكن أبينا آدم - عليه السلام - فإذا انتقلت إلى أولاده كان ذلك شبيهاً بالميراث. فإن قيل: كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبعة بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج؟
فالجواب: أنَّ قوله: {لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما تقدم والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات لكونها من شرائطها. واعلم أنَّ قوله: «هُمُ الوَارِثُونَ» يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به، لأنه ثبت أنَّ الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو لقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ، وتقدم الكلام في الفردوس في سورة الكهف. قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً مقدرة إما من الفاعل ب «يَرِثُونَ» وإما من مفعوله إذ فيها ذكر كل منهما ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون، وقد جاء في الحديث: «أن الله خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» .(14/175)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} الآيات لما أمر بالعبادات في(14/175)
الآيات المتقدمة بطريق الحث عليها والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله، لا جرم عقّبها بذكر ما يدل على وجوده، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية، فذكر أنواعاً من الدلائل: منها تقلب الإنسان في أدوار خلقته وهي تسعة:
أولها: قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل: المراد بالإنسان آدم - عليه السلام - سُلَّ مِنْ كُلِّ تُرْبَةٍ، وخُلقتْ ذريته من ماء مهين.
وقيل: الإنسان اسم جنس يقع على الواحد والجميع، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منياً، وهذا مطابق لقوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 7 - 8] .
قال ابن الخطيب: وفيه وجه آخر: وهو أنّ الإنسان إنما يتولد من النطفة، وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك إنما يتولد من الأغذية، وهي إما حيوانية أو نباتية، والحيوانية تنتهي إلى النباتية، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء، فالإنسان في الحقيقة يكون متولداً من سلالة من طين، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت عليها أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منياً.
(قوله) : «مِنْ سُلاَلَةٍ» فيه وجهان:
أظهرهما: أن يتعلق ب «خَلَقْنَا» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الإنسان» .
والسُّلالة (فُعَالَة) ، وهو بناء يدل على القلة كالقُلاَمة، وهي من سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استخرجْتهُ منه، ومنه قولهم: هو سُلاَلَةُ أَبيهِ كأنه انسلّ من ظهره، وأنشد:
3782 - فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الأَدِيمِ غَضَنْفَراً ... سُلاَلَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينٍ(14/176)
وقال أمية بن أبي الصلت:
- 3783 خلق البرية من سلالة منتن ... وإلى السلالة كلها ستعود
وقال عكرمة: هو الماء يسيل من الظهر. والعرب يسمون النطفة سُلاَلَة، والولد سَلِيلاً وسُلاَلة، لأنهما مَسْلُولاَنِ منه. وقال الزمخشري: السلالة الخُلاصة، لأنها تسل من بين الكَدَر. وهذه الجملة جواب قسم محذوف، أي: والله لقد خلقنا، وعطفت على الجملة قبلها لما بينهما من المناسبة، وهو أنه لما ذكر أنّ المتصفين بتلك الأوصاف يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على المعاد، فإنّ الابتداء في العادة أصعب من الإعادة، لقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] .
وهذا أحسن من قول ابن عطية: هذا ابتداء كلام، والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة كلام، وإن تباينتا في المعنى. وقد تقدم بيان وجه المناسبة.
قوله: «مِنْ طِين» في «مِنْ» وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية.
والثاني: أنها لبيان الجنس.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين «مِنْ» و «مِنْ» ؟ قلت: الأولى للابتداء، والثانية للبيان كقوله: «مِنَ الأَوْثَانِ» . قال أبو حيان: ولا تكون للبيان إلا إذا قلنا: إن السلالة هي الطين أما إذا قلنا: إنه من انسل من الطين ف «مِنْ» لابتداء الغاية وفيما تتعلق به «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه:(14/177)
أحدها: أنها تتعلق بمحذوف إذ هي صفة ل «سُلاَلَة» .
الثاني: أنها تتعلق بنفس «سُلاَلَة» لأنها بمعنى مسلولة.
الثالث: أنها تتعلق ب «خَلَقْنَا» ، لأنها بدل من الأولى إذا قلنا: إنّ السلالة هي نفس الطين. قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه يعود للإنسان، فإن أريد غير آدم فواضح، ويكون خلقه من سلالة الطين خلق أصله، وهو آدم (فيكون على حذف مضاف وإن كان المراد به آدم، فيكون الضمير عائداً على نسله، أي: جعلنا نسله) ، فهو على حذف مضاف أيضاً، ويؤيده قوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 7 - 8] .
أو عاد الضمير على الإنسان اللائق به ذلك، وهو نسل آدم، فلفظ الإنسان من حيث هو صالح للأصل والفرع، ويعود كل شيء لما يليق به وإليه نحا الزمخشري.
قوله: «فِي قَرَارٍ» يجوز أنْ يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «نُطْفَة» .
والقرار: المستقر، وهو موضع الاستقرار، والمراد بها الرحم، وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها لأحد معنيين: إمَّا على المجاز كطريق سائر، وإنما السائر من فيه، وإِمّا لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت بحيث هي وأحرزت. ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة، فصار الرحم قراراً مكيناً لهذه النطفة تتخلق فيه إلى أن تصير إنساناً. قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} وما بعدها ضمن «خَلَق» معنى «جَعَل» التصييرية فتعدت لاثنين كما يضمن «جَعَل» معنى «خَلَق» فيتعدى لواحد نحو {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] . والمعنى: حولنا النطفة عن صفاتها(14/178)
إلى صفات العلقة، وهي الدم الجامد {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} أي: جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة، أي: قطعة لحم، كأنها مقدار ما يمضع كالغرفة، وهو ما يغترف.
وسمى التحويل خلقاً، لأنه تعالى يفني بعض أعراضها، ويخلق أعراضاً غيرها، فسمى خلق الأعراض خلقاً لها، كأنه سبحانه يخلق فيها أجزاء زائدة.
قوله: {فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً} أي: صيرناها كذلك. وقرأ العامة: «عِظاماً» و «العِظَام» بالجمع فيهما، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «عَظْماً» و «العَظمَ» بالإفراد فيهما، والسلمي والأعرج، والأعمش بإفراد الأول وجمع الثاني، وأبو رجاء، ومجاهد، وإبراهيم بن أبي بكر بجمع الأول وإفراد الثاني عكس ما قبله.
فالجمع على الأصل، لأنه مطابق لما يراد به، والإفراد للجنس كقوله: «وَالمَلَكُ صَفًّا» ، وكقوله: {وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] .
وقال الزمخشري: وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس، لأنَّ الإنسان ذو عظام كثيرة. قال أبو حيان: وهذا عند سيبويه وأصحابه لا يجوز إلا (لضرورة) وأنشدوا:
3784 - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُم تَعِفُّوا ...(14/179)
وإن كان معلوماً أن كل واحد له بطن. قال شهاب الدين: ومثله:
3785 - لا تُنْكِرُوا القَتْلَ وقَدْ سَبَيْنَا ... فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجَيْنَا
يريد في حلوقكم ومثله قوله الآخر:
3786 - بِهَا جِيَفُ الحسْرَى فأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
يريد جلودها، ومنه «وعَلَى سَمْعِهِمْ» .
قوله: {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} أي: ألبسنا، لأنّ اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة (لها) قيل: بين كل خلقين أربعون يوماً. {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أي: خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً، وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره بل كل جزء من أجزائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية: المراد بالخلق الآخر هو نفخ الروح فيه. وقال قتادة: نبات الأسنان والشعر، وروى ابن جريج عن مجاهد: أنه استواء الشباب. وعن الحسن قال: ذكر أو أنثى.
وروى العوفي عن ابن عباس: أنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتفاع إلى القعود إلى القيام إلى المشي إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم، وخلق الفهم والعقل ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها إلى أنْ يموت.
قالوا: وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول النظام أن الإنسان هو الروح لا البدن، فإنه سبحانه بَيَّن أنَّ الإنسان هو المركب من هذه الأشياء. وفيها دلالة أيضاً(14/180)
على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون: الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم.
وقال: «فَتَبَارَك اللَّهُ» أي: فتعالى الله، لأنَّ البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ويجوز أن يكون المعنى البركات والخيرات كلها من الله.
وقيل: أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال: البقاء والدوام والبركات كلها منه، فهو المستحق للتعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال «أَحسَنُ الخَالِقِينَ» المصورين والمقدرين. والخلق في اللغة: التقدير، قال زهير:
3787 - ولأَنْتَ تَفْري مَا خَلقْتَ وَبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي
قوله: «أَحْسَنُ الخَالِقِينَ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من الجلالة.
الثاني: أنه نعت للجلالة، وهو أولى مما قبله، لأنّ البدل بالمشتق يقل.
الثالث: أنْ يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هو أحسن، والأصل عدم الإضمار.
وقد منع أبو البقاء أن يكون وصفاً، قال: لأنه نكرة وإن أضيف لمعرفة لأنّ المضاف إليه عوض عن «من» ، وهكذا جميع أفعل منك.
قال شهاب الدين: وهذا بناء منه على أحد القولين في أفعل التفضيل إذا أضيف هل إضافته محضة أم لا، والصحيح الأول. والمميز لأفعل محذوف لدلالة المضاف إليه(14/181)
عليه، أي: أحسن الخالقين خلقاً المقدرين تقديراً كقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] أي: في القتال حذف المأذون فيه لدلالة الصلة عليه.
فصل
قالت المعتزلة: لولا أن يكون غير الله قد يكون خالقاً لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه: «أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ» و «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» . والخلق في اللغة: هو كل فعل وُجد من فاعله مقدّراً لا على سهو وغفلة، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه. قال الكعبي: هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد، كما أنه يجوز أن يقال: رَبُّ الدار، ولا يجوز أن يقول: رب، ولا يقول العبد لسيده: هذا ربّي، ولا يقال: إنما قال الله سبحانه ذلك لأنه وَصفَ عيسى - عليه السلام - بأنه يَخْلُق مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. لأنا نجيب من وجهين:
أحدهما: أن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه «أَحسَنُ الخَالِقِينَ» الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح.
الثاني: أنه إذا صحّ وصف عيسى بأنه يخلق صحّ أنّ غيره سبحانه يخلق وصحّ أيضاً وصف غيره من المصورين بأنه يخلق.
وأجيب بأن هذه الآية معارضة بقوله: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فوجب حمل(14/182)
هذه الآية على أنه «أَحسَنُ الخَالِقينَ» في اعتقادكم وظنكم كقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] .
وجواب ثان، وهو أنّ الخالق هو المقدر، لأن الخلق هو التقدير، فالآية تدل على أنه تعالى أحسن المقدرين، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال، فتكون الآية من المتشابه.
وجواب ثالث: أنّ الآية تقتضي كون العبد خالقاً بمعنى كونه مقدراً لكن لم قلت إنه خالق بمعنى كونه موحداً.
فصل
قالت المعتزلة: الآية تدل على أنّ كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقاً للكفر والمعصية، فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما.
وأجيب بأنّ من الناس من حمل الحسن على الأحكام والإتقان في التركيب والتأليف، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله كل الأشياء، لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعاً له عن فعل شيء.
فصل
روى الكلبي عن ابن عباس أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما انتهى إلى قوله: «خَلْقاً آخَرَ» عجب من ذلك فقال: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحَسَنُ الخَالِقِينَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اكتبْ فَهكَذَا نزلت» فشك عبد الله وقال: إن كان محمد صادقاً فيما يقول، فإنه يُوحَى إليّ كما يُوحَى إليه، وإن كان كاذباً فلا خير في دينه، فهرب إلى مكة، فقيل: إنه مات على الكفر، وقيل: إنه أسلم يوم الفتح وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب: فتبارك اللَّهُ أحسن الخالقين. فقال رسول الله: «هكذا أُنزلَ يا عمر» .
وكان عمر يقول: وافقني ربي في أربع: الصلاة خلف المقام، وضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهنّ: أو ليُبْدِلَهُ اللَّهُ خيراً مِنْكُنّ، فنزل قوله: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] ، والرابع قوله: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} قال العارفون: هذه الواقعة(14/183)
كانت من أسباب السعادة لعمر، وسبب الشقاوة لعبد الله، كما قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26] .
فإن قيل: فعلى كل الروايات فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن، وذلك يقدح في كونه معجزاً كما ظنّه عبد الله.
فالجواب: هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز، فسقطت شبهة عبد الله.
قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ} أي: بعدما ذكر، ولذلك أفرد اسم الإشارة، وقرأ العامة «لَمَيِّتُونَ» ، وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن «لَمَائِتُونَ» والفرق بينهما: أن الميّت يدل على الثبوت والاستقرار، والمائت على الحدوث كضيق وضائق وفرح وفارح، فيقال لمن سيموت: ميّت ومائت، ولمن مات: ميّت فقط دون مائت، لاستقرار الصفة وثبوتها، وسيأتي مثله في الزمر إن شاء الله تعالى. فإن قيل: الموت لم يختلف فيه اثنان وكم من مخالف في البعث، فَلِم أَكّد المجمع عليه أبلغ تأكيد وترك المختلف فيه من تلك المبالغة في التأكيد؟ فالجواب: أنّ البعث لما تظاهرت أدلته وتظافرت، أبرز في صورة المجمع عليه المستغني عن ذلك، وأنّهم لَمَّا لم يعملُوا للموت، ولم يهتموا بأموره، نُزِّلوا منزلة من يُنكره، فأبرز لهم في صورة المنكر الذي استبعدوه كل استبعاد. وكان أبو حيان سئل عن ذلك، فأجاب أنّ اللام غالباً تخلص المضارع للحال، ولا يمكن دخولها في «تُبْعَثُونَ» ، لأنه مخلص للاستقبال لعمله في الظرف المستقبل، واعترضَ على نفسه بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [النحل: 124] فإن اللام دخلت على المضارع العامل في ظرف مستقبل وهو «يَوْمِ القِيَامَة» فأجاب بأنه خرج هذا بقوله: غالباً، وبأن العامل في «يوم القيامة» مقدر، وفيه نظر إذ فيه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه.
و «بَعْدَ ذَلِك» متعلق ب «مَيِّتُونَ» ، ولا تمنع لام الابتداء من ذلك.(14/184)
قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع.
فإن قيل: ما الحكمة في الموت، وهلا وَصَل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الإنعام أبلغ؟
فالجواب هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله بدليل أنه لو قيل لمن يصوم: إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة، فلا جرم أخره وبعده بالإماتة، وهو الإعادة، ليكون العبد عابداً لطاعته لا لطلب الانتفاع.
فإن قيل: هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر، لأنه قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة.
والثاني: أنّ الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإحياء والإماتة والإعادة والذي تُرك ذكره فهو من جنس الإعادة.(14/185)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ} الآية، أي: سبع سموات سُميت طرائق لتطارقها، وهو أن بعضها فوق بعض، يقال: طارقتُ النعلَ: إذا أطبق نعلاً على نعل، وطارق بين الثوبين: إذا لَبس ثوباً على ثوب قاله الخليل والزجاج والفراء قال الزجاج: هو كقوله: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} [الملك: 3] وقال عليّ بن عيسى: سميت بذلك، لأنها طرائق الملائكة في العروج والهبوط، وقيل: لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.(14/185)
والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه جعلها موضعاً لأرزاقِنَا بإنزال الماء منها، وجعلها مقراً للملائكة، ولأنها موضع الثواب، ومكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي.
قوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} أي: بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم، وهذا قول سفيان بن عيينة، وهو كقوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] ، وقوله: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} [الحج: 65] ، وقال الحسن: إنا خلقناهم فوقهم ليدل عليهم بالأَرزاق والبركات منها.
وقيل: خلقنا هذه الأشياء دلالة على كمال قدرتنا، ثم بَيَّن كمال العلم بقوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} يعني: عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر.
وقيل: وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظين لئلا تخرج عن التقدير الذي أردناها عليه كقوله تعالى: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ} [الملك: 3] .
واعلم أن هذه الآيات دالة على مسائل:
منها: أنها تدل على وجود الصانع، فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على الصفة الأولى يدل على أنه لا بد من مغير.
ومنها: أنها تدل على فساد القول بالطبيعة، فإن شيئاً من تلك الصفات لو حصلت بالطبيعة لوجب بقاؤها، وعدم تغيرها، ولو قيل: إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجد.
ومنها: أنها تدل على أنّ المدبر قادر عالم، لأنَّ الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة.
ومنها: أنها تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات.
ومنها: أنها تدل على جواز الحشر والنشر بصريح الآية، ولأنّ الفاعل لما كان قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت.(14/186)
ومنها: أنّ معرفة الله يجب أنْ تكون استدلالية لا تقليدية، وإلاَّ لكان ذكر هذه الدلائل عبثاً.(14/187)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ} الآية، لما استدل أولاً على كمال القدرة بخلق الإنسان، ثم استدل ثانياً بخلق السموات، استدّل ثالثاً بنزول الأمطار، وكيفية تأثيرها في النبات. واعلم أنّ الماء في نفسه نعمة، وهو مع ذلك سبب لحصول النعم، فلا جَرم ذكره الله أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً.
قال أكثر المفسرين: إنه تعالى يُنزل الماء في الحقيقة من السماء لظاهر الآية، ولقوله: {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] . وقال بعضهم: المراد بالسماء السحاب، وسماه سماء لعلوه، والمعنى: أنّ الله صعد الأجزاء المائية من قعر الأرض، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرّات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض، ولا بماء البحر لملوحته، ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض، لأنّ البحار هي الغاية في العمق، وهذه الوجوه التي يتحملها من ينكر الفاعل المختار، فأمّا من أَقرَّ به فلا حاجة به إلى شيء منها.
وقوله: «بِقَدَرٍ» قال مقاتل: بقدر ما يكفيهم للمعيشة من الزرع والغرس والشرب، ويَسْلَمُون معه من المضرة.
وقوله: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} قيل: جعلناه ثابتاً في الأرض، قال ابن عباس: أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سَيْحُونَ وجَيْحُونَ ودجلة والفرات والنيل أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل -(14/187)
عليه السلام -، ثم استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس، فذلك قوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} ، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج، ويرفع أيضاً القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فَقَدَ أَهْلُها خير الدنيا والدين. وقيل: معنى: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} : ما تبقّى في الغدران والمستنقعات ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر.
وقيل: فأسكناهُ في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع، فماء الأرض كله من السماء.
قوله: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} «عَلَى ذَهَابٍ» متعلق ب «لقَادِرُونَ» واللام كما تقدم غير مانعة من ذلك، و «بِهِ» متعلق ب «ذَهَابٍ» ، وهي مرادفة للهمزة كهي في «لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ» أي: على إذهابه والمعنى: كما قَدَرْنا على إنزاله كذلك نَقْدِر على رفعه وإزالته فتهلكوا عطشاً، وتهلك مواشيكم وتخرب أرضكم.
قال الزمخشري: قوله: {على ذَهَابٍ بِهِ} من أوقع النكرات وأحزها للمفصل، والمعنى: على وجه من وجوه الذهاب به، وطريق من طرقه، وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30] واعلم أنه تعالى لمّا نبّه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} ، أي: بالماء {جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ، وإنما ذكر النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفاكهة رطباً ويابساً، وقوله:(14/188)
{لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} أي: في الجنات فكما أن فيها النخيل والأعناب فيها الفواكه الكثيرة، «وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ» شتاءً وصيفاً.
قال الزمخشري: يجوز أن يكون هذا من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن صنعة يعملها، يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم.
قوله: «وشَجَرَةً» عطف على «جَنَّات» ، أي: ومما أنشأنا لكم شجرة، وقرئت مرفوعة على الابتداء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سِينَاء» بكسر السين، والباقون بفتحها والأعمش كذلك إلا أنه قصرها. فأمّا القراءة الأولى فالهمزة فيها ليست للتأنيث إذ ليس في الكلام (فِعْلاَء) بكسر الأول وهمزته للتأنيث بل للإلحاق بِسرْدَاح وقرطاس، فهي كعِلْبَاء، فتكون الهمزة منقلبة عن ياء أو واو، لأن الإلحاق يكون بهما فلما وقع حرف العلة متطرفاً بعد ألف زائدة قُلب همزة كَرِدَاء وكِسَاء قال الفارسي: وهي الياء التي ظهرت في درْحَاية، والدرحاية الرجل القصير السمين. وجعل أبو البقاء هذه الهمزة على هذا أصلاً مثل: حِمْلاَق، إذ(14/189)
ليس في الكلام مثل: سيناء. يعني: مادة (سين ونون وهمزة) . وهذا مخالف لما تقدم من كونها بدلاً من زائد ملحق بالأصل على أن كلامه محتمل للتأويل إلى ما تقدم، وعلى هذا فمنع الصرف للتعريف والتأنيث، لأنها اسم بقعة بعينها، وقيل: للتعريف والعجمة. قال بعضهم: والصحيح أن سيناء اسم أعجمي نطقت به العرب فاختلفت فيه لغاتها، فقالوا: (سَيْنَاء) كحمراء وصفراء، و (سِينَاء) كعِلْبَاء وحِرْبَاء وسينين كخِنْذِيدِ، وزحْلِيل، والخِنْذِيد الفحل والخصي أيضاً، فهو من الأضداد، وهو أيضاً رأس الجبل المرتفع. والزحْلِيل: المتنحي من زحل إذ انتحى وقال الزمخشري: «طُورِ سَيْنَاء» وطُورِ سِينِينٍ لا يخلو إمّا أَنْ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإمّا أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس وكبعلبك، فيمن أضاف، فَمَن كَسَر سِين «سيْنَاء» فقد منع الصرف للتعريف والعُجمة أو التأنيث، لأنها بقعة، وفِعْلاء لا يكون ألفه للتأنيث كَعِلْبَاء وحِرْبَاء.
قال شهاب الدين: وكون ألف (فِعْلاء) بالكسر ليست للتأنيث هو قول أهل البصرة، وأَمَّا الكوفيون فعندهم أَنّ ألفها يكون للتأنيث، فهي عندهم ممنوعة للتأنيث اللازم كحَمْراء وبابها.
وكسر السين من (سَيْنَاء) لغة كنانة وأمَّا القراءة الثانية: فألفها للتأنيث، فمنع الصرف واضح. قال أبو البقاء: وهمزته للتأنيث، إذ ليس في الكلام (فَعْلاَل) بالفتح، وما حكى الفراء من قولهم ناقة فيها خَزْعَالٌ لا يثبت، وإن ثبت فهو(14/190)
شاذ لا يحمل عليه. وقد وهم بعضهم فجعل (سَيْنَاء) مشتقة من (السنا) وهو الضوْء، ولا يصح ذلك لوجهين:
أحدهما: أنه ليس عربيّ الوضع نصوا على ذلك كما تقدم.
الثاني: أَنّا وإنْ سلمنا أنه عربي الوضع لكن المادتان مختلفتان فإن عين (السنَا) نون وعين (سَيْناء) ياء. كذا قال بعضهم. وفيه نظر؛ إذْ لقائل أن يقول: لا نُسلّم أن عين (سيناء) (ياء) بل عينها (نون) ، وياؤها مزيدة، وهمزتها منقلبة عن واو، كما قلبت (السنا) ، ووزنها حينئذ (فِيعَال) و (فِيعَال) موجود في كلامهم، كِميلاَع وقيتَال مصدر قاتل.
قوله: «تَنْبُتُ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «تُنْبِت» بضم التاء وكسر الباء والباقون بفتح التاء وضم الباء. فأمّا الأولى ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن أنبت بمعنى (نَبَت) فهو مما اتفق فيه (فَعَل) و (أَفْعَل) وأنشدوا لزهير:
3788 - رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ عِنْدَ بُيُوتِهِم ... قَطِيناً بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ
وأنكره الأصمعي، أي: نَبَت.
الثاني: أنّ الهمزة للتعدية، والمفعول محذوف لفهم المعنى أي: تنبت ثمرها، أو جناها، و «بالدُّهْنِ» حال، أي: ملتبساً بالدهن.
الثالث: أن الباء مزيدة في المفعول به كهي في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] ، وقول الآخر:(14/191)
3789 - سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ ... وقول الآخر:
3790 - نَضْرِبُ بالسَّيْفِ ونَرْجُوا بِالفَرَج ... وأمّا القراءة الأخرى فواضحة، والباء للحال من الفاعل، أي ملتبسة بالدهْنِ يعني وفيها الدهن، كما يقال: ركب الأمير بجنده. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تنبت» مبنيًّا للمفعول من أنبتها الله و «بالدُّهْنِ» حال من المفعول القائم مقام الفاعل أي: ملتبسة بالدُّهن. وقرأ زِرّ بن حبيش «تُنْبِتُ الدُّهْنَ» من أنبت، وسقوط الباء هنا يدل على زيادتها في قراءة من أثبتها. والأشهب وسليمان بن عبد الملك «بالدِّهَان» وهو جمع دُهْن كرُمْح ورماح وأمّا قراءة أُبّي: «تُتْمِر» ، وعبد الله: «تُخْرِج» فتفسير لا قراءة لمخالفة السواد، والدّهن: عصارة ما فيه دسم، والدَّهن - بالفتح - المسح بالدُّهن مصدر دَهَن يَدْهُنُ، والمُدَاهَنَة من ذلك كأنه يمسح على صاحبه ليقر خاطره.
فصل
اختلفوا في «طُورِ سَيْنَاء» وفي «طُورِ سِينِينَ» . فقال مجاهد: معناه البركة(14/192)
أي: من جبل مبارك. وقال قتادة: معناه الحسن أي: الجبل الحسن. وقال الضحاك: معناه بالنبطية: الحسن.
وقال عكرمة: بالحبشية. وقال الكلبي: معناه: المشجر أي: جبل وشجر. وقيل: هو بالسريانية: الملتف بالأشجار. وقال مقاتل: كل جبل فيه أشجار مثمرة، فهو سَيْناء، وسِينِين بلغة النبط.
وقال ابن زيد: هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة.
وقال مجاهد: سَيْناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. والمراد بالشجرة التي تُنْبَتُ بالدُّهْنِ أي: تثمر الدهن وهو الزيتون. قال المفسرون: وإنما أضافه الله إلى هذا الجبل، لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت، ولأن معظمها هناك. قوله: «وَصِبْغٍ» العامة على الجر عطفاً على الدُّهنِ.
والأعمش: «وَصِبْغاً» بالنصب نسقاً على موضع «بالدُّهنِ» ، كقراءة «وأَرْجُلَكُمْ» في أحد محتملاته. وعامر بن عبد الله: «وصِباغ» بالألف، وكانت هذه القراءة مناسبة لقراءة من قرأ «بالدِّهَان» . والصِبْغ والصِبَاغ كالدِبْغ والدِبَاغ، وهو اسم ما يفعل به. قال الزمخشري: هو ما يصطبغ به أي: ما يصبغ به الخبز.(14/193)
و «للآكِلِينَ» صفة، والمعنى: إدام للآكلين. فنبّه تعالى على إحسانه بهذه الشجرة، لأنها تخرج الثمرة التي يكثر الانتفاع بها، وهي طرية ومدخرة، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها، ويعظم وجوه الانتفاع به.(14/194)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} الآية، لما ذكر النعم الحاصلة من الماء والنبات، ذكر بعده النعم الحاصلة من الحيوان، فذكر أنَّ فيها عبرة مجملاً ثم فصله من أربعة أوجه:
أحدها: قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} المراد منه جميع وجوه الانتفاع، ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع، وتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله - تعالى - فتستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة، وتصير غذاء، فَمَن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته، فهو من النعم الدينية، ومن انتفع به فهو من النعم الدنيوية. وأيضاً: فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إذا ذبحت لم تجد لها أثراً، وذلك دليل على عظم قدرة الله. وتقدم الكلام في «نُسْقِيكُمْ» في النحل وقُرئ «تَسْقيكُم» بالتاء من فوق مفتوحة، أي: تَسقِيكُم الأنعام.
وثانيها: قوله: {وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ} أي: بالبيع، والانتفاع بأثمانها.
وثالثها: قوله - تعالى -: «ومِنْهَا تَأْكُلُونَ» أي: كما تنتفعون بها وهي حيّة تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.
ورابعها: قوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أي: على الإبل في البر وعلى الفلك في البحر، ولمّا بيَّن دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} . قيل: كان نوح اسمه يشكر(14/194)
ثم سمي نوحاً لكثرة ما نَاحَ على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك فأهلكهم الله بالطوفان فَندم على ذلك.
وقيل: لمراجعة ربه في شأن ابنه. وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له: اخسأ يا قبيح، فعوتب على ذلك، وقال الله تعالى: أعِبْتني إذ خلقته، أم عِبْتَ الكلب، وهذه وجوه متكلفة، لأن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى.
قوله: {ياقوم اعبدوا الله} : وَحِّدُوه {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي: أنَّ عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. وقُرئ «غَيْرُهُ» بالرفع على المحل، وبالجر على اللفظ.
ثم إنه لمّا لَمْ ينفع فيهم الدعاء واستمروا على عبادة غير الله حذرهم بقوله: «أَفَلاَ تَتَّقُونَ» زجرهم وتوعدهم باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه ثم إنه تعالى حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح - عليه السلام -: وهي قولهم: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} وهذه الشبهة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقال: إنه لمّا كان سائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض سواء امتنع كونه رسولاً لله، لأنّ الرسول لا بُدّ وأن يكون معظماً عند الله وحبيباً له، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والعزة، فلما انْتَفَتْ هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة.
والثاني: أن يقال: إن هذه الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور، ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلاً إلا بادعاء النبوة، فصار ذلك شُبهة لهم في القدح في نبوته، ويؤكد هذا الاحتمال قولهم: {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي: يطلب الفضل عليكم ويرأسكم.
الشبهة الثانية: قولهم: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} أي: ولو شاء الله أن لا يتعبد سواه لأنزل ملائكة بإبلاغ الوحي، لأنّ بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى المقصود من بعثة البشر، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم، وكثرة علومهم ينقاد الخلق إليهم، ولا يشكون في رسالتهم فلمّا لم يفعل ذلك عَلِمنا أنه ما أرسل رسولاً.(14/195)
الشبهة الثالثة: قولهم: {مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} فقولهم: «بِهَذا» إشارة إلى نوح - عليه السلام - أي: بإرسال بشر رسولاً، أو بهذا الذي يدعو إليه نوح وهو عبادة الله وحده، لأنّ آباءهم كانوا يعبدون الأوثان، وذلك أنهم كانوا لا يُعوّلون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء، فلمّا لم يجدوا في نبوة نوح - عليه السلام - هذه الطريقة حكموا بفسادها.
الشبهة الرابعة: قولهم: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي: جنون، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام، لأنه - عليه السلام - كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم، فكان الرؤساء يقولون للعوام إنه مجنون، فكيف يجوز أن يكون رسولاً؟
الشبهة الخامسة: قولهم: {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ} ، وهذا يحتمل أن يكون متعلقاً بما قبله، أي: أنه مجنون فاصبروا إلى زمان يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا فاقتلوه.
ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً، وهو أن يقولوا لقومهم: اصبروا فإنه إنه كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوي أمره فنتبعه حينئذ، وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه. واعلم أنه تعالى لم يذكر الجواب على هذه الشبه لركاكتها ووضح فسادها لأنَّ كل عاقل يعلم أنَّ الرسول لا يصير رسولاً لكونه من جنس الملك وإنما يصير رسولاً بتميزه عن غيره بالمعجزات، فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً، بل جعل الرسول من البشر أولى لما تقدم من أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم: {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} فإن ارادوا إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب في الرسول، وإن أرادوا أنه يترفع عليهم على سبيل التكبر فالأنبياء منزهون عن ذلك. وأما قولهم: {مَّا سَمِعْنَا بهذا} فهو استدلال بعدم التقليد (على عدم وجود الشيء، وهو في غاية السقوط، لأنّ وجود التقليد) لا يدل على وجود الشيء، فعدمه من أين يدل على عدمه. وأما قولهم: «بِهِ جِنَّة» فكذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم: «فَتَرَبَّصُوا» فضعيف، لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته، وهي المعجزة،(14/196)
وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته، لأنَّ الدولة لا تدل على الحقيقة، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر.(14/197)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} أي: أعِنّي على هلاكهم بتكذيبهم إياي (كأنه قال: أهلكهم بسبب تكذيبهم) . وقيل: انصرني بدل ما كذبون كما تقول: هذا بذاك، أي بدل ذاك ومكانه. وقيل: انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] .
ولمَّا أجاب الله دعاءه قال: {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} أي: بحفظنا وكلائنا، كان معه من الله حُفّاظاً يكلأونه بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله.
قيل: كان نوح نجاراً، وكان عالماً بكيفية اتخاذ الفلك.
وقيل: إن جبريل - عليه السلام - علّمه السفينة. وهذا هو الأقرب لقوله: «بأَعْيُنِنَا وَوَحْينَا» . {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} . واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم، لأن قولك: هذا أمر تردد الذهن بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما. وقيل: إنما سماه أمراً تعظيماً وتفخيماً كقوله: {قَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} [فصلت: 11] .(14/197)
قوله: «وَفَارَ التَّنُّور» تقدم الكلام في التنور في سورة هود. «فَاسْلُكْ فِيهَا» أي: ادخل فيها. يقال: سَلَك فيه دَخَلَهُ، وسَلَكَ غيره وأَسْلَكَهُ {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} أي: من كل زوجين من الحيوان (الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكيلا ينقطع نسل ذلك الحيوان) وكل واحد منهما زَوْج، لا كما تقوله العامة: إنَّ الزوجَ هو الاثنان. روي أنه لم يحمل إلاّ ما يَلِدُ ويَبيضُ. وقرئ: «مِنْ كُلٍّ» بالتنوين و «اثْنَيْن» تأكيد وزيادة بيان «وَأهْلَكَ» أي: وأدْخل أَهْلَك {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} ولفظ (على) إنما يستعمل في المضارّ قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] . وهذه الآية تدل على أمرين:(14/198)
أحدهما: أنه تعالى أمره بإدخال سائر مَنْ آمَنَ به، وإن لم يكن من أهله. وقيل: المراد بأهله من آمَنَ دون من يتعمل به نسباً أو حسباً. وهذا ضعيف، وإلاّ لما جاز الاستثناء بقوله: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} .
والثاني: قال: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا} يعني: كنعان، فإنه - سبحانه - لَمَّا أخبر بإهلاكهم، وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم. لأنه إن أجابه إليه، فقد صيّر خبره الصادق كذباً، وإن لم يجبه إليه، كان ذلك تحقيراً لشأن نوح - عليه السلام -، فلذلك قال: «إِنَّهُم مُغْرَقُونَ» أي: الغرق نازل بهم لا محالة. قوله: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك} اعتدلت أنت ومن معك على الفلك، قال ابن عباس: كان في السفينة ثمانون إنساناً، نوح وامرأته سِوَى التي غرقت، وثلاثة بنين، سام، وحام، ويافث، وثلاثة نسوة لهم، واثنان وسبعون إنساناً، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.
روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «وُلِد لنوح ثلاثة أولاد سَام، وحَام، ويَافِث، فأمّا سام فأبو العرب وفارس والروم، وأما يافث فأبو يأجوج ومأجوج والبربر، وأما حام فأبو هذه الجلدة السوداء ويأجوج ومأجوج بنو عم الترك» .
قال ابن الجوزي: وُلِد لحام كوش، ونبرش، وموغع، وبوان، ووُلِد لكوش نمرود، وهو أول النماردة، مَلِك بعد الطوفان ثلاثمائة سنة، وعلى عهده قسّمت الأرض، وتفرَّق الناس واختلفت الألسن، ونمرود إبراهيم الخليل، ومن وَلد نبرش الحرير، ومن وَلد مُوغع يأجوج ومأجوج، ومن وَلد بوان الصقالبة، والنوبة، والحبشة، والهند، والسند.
ولما اقتسم أولاد نوح الأرض، نزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور، فجعل الله فيهم الأدمة، وبياضاً قليلاً، ولهم أكثر الأرض، وروي أن فالغ أبو غابر قسم الأرض بين أولاد نوح بعد موت نوح، فنزل سام سرة الأرض فكانت فيهم الأدمة والبياض، ونزل بنو يافث مجرى الشمال والصبا فكانت فيهم الحمرة والشقرة، ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور فتغيرت ألوانهم.(14/199)
روى ابن شهاب قال: قيل لعيسى ابن مريم - عليه السلام - أَحْيِ حام بن نوح - فقال: أروني قبره. فأروه، فقام، فقال: يا حام بن نوح احْيَ بإذن الله - عزّ وجلّ - فَلَمْ يَخْرُج، ثم قالها الثانية، فخرج، وإذا شِقّ رأسه ولحيته أبيض، فقال: ما هذا، قال: سمعتُ الدعاء الأول فظننتُ أنه من الله - تعالى - فشاب له شقي، ثم سمعت الدعاء الثاني فعلمت أنه من الدنيا فخرجتُ، قال: مذ كم مِتَّ؟ قال: منذ أربعة آلاف سنة، ما ذهبت عنّي سكرة الموت حتى الآن. وروي أن الذي أحياه عيسى ابن مريم سام بن نوح، والله أعلم. وروي عن النمر بن هلال قال: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ فاثنا عشر ألف للسودان، وثمانية للروم، وثلاثة للفرس وألف للعرب قال مجاهد: ربع من لا يلبس الثياب من السودان مثل جميع الناس.
قوله: {فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} الكافرين، وإنما قال: «فَقُل» ولم يقل: فقولوا، لأنّ نوحاً كان نبياً لهم وإمامهم، فكان قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة ذلك المخاطب لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي.
قال قتادة: علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] ، وعند ركوب الدابة: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} [الزخرف: 13] ، وعند النزول: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} . قال الأنصاري: وقال لنبينا: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}
[الإسراء: 80] ، وقال: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] فكأنه - تعالى - أمرهم أن لا يغفلوا عن ذكره في جميع أحوالهم.
قوله: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} قرأ أبو بكر بفتح ميم (مَنْزِلاً) وكسر الزاي، والباقون بضم الميم وفتح الزاي و (المَنْزل) و (المُنْزَل) كل منهما يحتمل أن(14/200)
يكون اسم مصدر، وهو الإنزال أو النزول، وأن يكون اسم مكان النزول أو الإنزال، إلا أنّ القياس «مُنْزَلاً» بالضم والفتح لقوله: «أَنْزِلْنِي» . وأما الفتح والكسر فعلى نيابة مصدر الثلاثي مناب مصدر الرباعي كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، وتقدم نظيره في «مُدْخَل» و «مَدْخَل» في سورة النساء واختلفوا في المنزل، فقيل: نفس السفينة، وقيل: بعد خروجه من السفينة منزلاً من الأرض مباركاً. والأول أقرب، لأنه أُمِرَ بهذا الدعاء حال استقراره، فيكون هو المنزل دون غيره.
ثم قال: {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} ، وذلك أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله، لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله. ثم بين تعالى أنّ فيما ذُكِر من قصة نوح وقومه «آيات» دلالات وعبر في الدعاء إلى الإيمان، والزجر عن الكفر، فإنّ إظهار تلك المياه العظيمة، ثم إذهابها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح - عليه السلام - يدل على المعجز العظيم، وإفناء الكفار، وبقاء الأرض لأهل الطاعة من أعظم أنواع العبر. قوله: {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} «إِنْ» مخففة، و «اللام» فارقة. وقيل: «إِنْ» نافية و «اللام» بمعنى «إِلاَّ» وتقدم ذلك مراراً فعلى الأول معناه: وقد كنا، وعلى الثاني: ما كنا إلا مبتلين، فيجب على كل مكلَّف أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه. وقيل: المراد لمعاقبين من كذب الأنبياء، وسلك مثل طريقة قوم نوح. وقيل: المراد كما عاقب بالغرق من كذب فقد نمتحن من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب، لكيلا يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد.(14/201)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} الآيات. قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هذه قصة هود لقوله تعالى حكاية عن هود {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] ، ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف، وهود، والشعراء.
وقال بعضهم: هي قصة صالح لأنَّ قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة وتقدم كيفية الدعوى في قصة نوح.
قوله: «فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ» قال الزمخشري: فإنْ قُلْتَ: حق «أَرْسَلَ» أن يتعدى ب «إلى» كأخواته التي هي: وَجَّهَ، وأَنْفَذَ وبَعَثَ، فما له عدي في القرآن ب (إلى) تارة وب (في) أخرى كقوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ} [الرعد: 30] { (وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ) } [سبأ: 34] . قُلْتُ: لم يعد ب (في) كما عُدّي ب (إلى) ، ولم يجعل صلة مثله، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال، كقول رؤبة:
3891 - أرسلت فيها مصعباً ذا أقحام ...(14/202)
وقد جاء (بَعَثَ) على ذلك، كقوله تعالى {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} [الفرقان: 51] .
قوله: {أَنِ اعبدوا الله} يجوز أن تكون المصدرية أي: أرسلناه بأن اعبدوا الله. أي: بقوله اعبدوا، وأن تكون مفسرة. «أَفَلاَ تَتَّقُونَ» قال بعضهم: هذا الكلام غير موصول بالأول، وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه، وردّوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك خوفهم بقوله: «أَفَلاَ تَتَّقُون» هذه الطريقة مخالفة العذاب الذي أنذركم به. ويجوز أن يكون موصولاً بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان، فدعاهم إلى عبادة الله، وحذّرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان.
قوله: «وقَالَ الملأُ» قال الزمخشري: فإنْ قُلْتَ: ذكر مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف، وسورة هود بغير واو، {قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66] {قَالُواْ (ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) } [هود: 53] . وههنا مع الواو، فأيّ فرق بينهما؟ قُلْتُ: الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال: فماذا قيل له؟ فقيل له: قالوا: كيت وكيت، وأمّا الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله، ومعناه أنه اجتمع في الحصول، (أي في هذه الواقعة في) هذا الكلام الحق وهذا (الكلام) الباطل وشتان ما بينهما قال شهاب الدين: ولقائل أن يقول: هذا جواب بنفس الواقع، والسؤال باق، إذ يحسن أن يقال: لِمَ لا جعل هنا قولهم أيضاً جواباً لسؤال سائل كما في نظيرتها أو عكس الأمر.
قوله {وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة} أي: بالمصير إلى الآخرة «وأَتْرَفْنَاهُم» نعمناهم ووسعنا عليهم {فِي الحياة الدنيا مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} وقد تقدم شرح هذه الشبهة في القصة الأولى {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} أي: منه، فحذف العائد لاستكمال شروطه، وهو اتحاد الحرف، والمتعلق، وعدم قيامه مقام مرفوع، وعدم ضمير(14/203)
آخر، هذا إذا جعلناها بمعنى الّذي، فإن جعلتها مصدراً لم يحتج إلى عائد، فيكون المصدر واقعاً موقع المفعول.
أي: من مشروبكم.
وقال في التحرير: وزعم الفراء أن معنى «مِمَّا تَشْرَبُونَ» على حذف أي: تشربون منه. وهذا لا يجوز عند البصريين، ولا يحتاج إلى حذف ألبتة، لأن (ما) إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت العائد، ولم تحتج إلى إضمار (من) يعني: أنه يقدر تشربونه من غير حرف جر، وحينئذ تكون شروط الحذف أيضاً موجودة ولكن تفوت المقابلة إذ قوله: «تَأْكُلُونَ مِنْهُ» فيه تبعيض، فلو قدرت هنا تشربونه من غير (من) فاتت المقابلة. ثم إن قوله: وهو لا يجوز عند البصريين ممنوع، بل هو جائز لوجود شرط الحذف.
قوله: {لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} لمغبونون، جعلوا اتباع الرسول خسراناً ولم يجعلوا عبادة الصنم خسراناً، قال الزمخشري و «إذا» وقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قولهم قال أبو حيان: وليس واقعاً في جزاء الشرط، بل واقعاً بين «إنكم» و (الخبر) ، و «إنكم» و (الخبر) ليس جزاء للشرط بل ذلك جواب للقسم المحذوف قبل «إن» الشرطية (ولو كانت «إنكم» والخبر جواباً للشرط) لزمت (الفاء) في (إنكم) بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلا عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ قال شهاب الدين: يعني أنه إذ توالى شرط وقسم أجيب سابقهما، والقسم هنا متقدم فينبغي أن يجاب ولا يجاب الشرط، ولو أجيب الشرط لاختلت القاعدة إلا عند بعض(14/204)
الكوفيين، فإنه يجيب الشرط وإن تأخر، وهو موجود في الشعر.
قوله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ «الآية. في إعرابها ستة أوجه:
أحدها: أنّ اسم أنّ الأولى مضاف لضمير الخطاب، حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، والخبر قوله:» إِذَا متُّم «، و» أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «تكرير، لأنَّ الأولى للتأكيد، والدلالة على المحذوف والمعنى: أنَّ إخراجكم إذا متم وكنتم.
الثاني: أنَّ خبر (أنَّ) الأولى هو» مُخْرَجُونَ «، وهو العامل في» إِذَا «وكررت الثانية توكيداً لمَّا طال الفصل وإليه ذهب الجرمي والمبرد والفراء، ويدل على كون الثانية توكيداً قراءة عبد الله: {أَيَعِدُكُمْ إِذَا متُّمْ وكُنْتُمْ تُراباً وعِظَاماً أَنَّكُم مُخْرَجُونَ} .
الثالث: أنّ» أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «مؤول بمصدر مرفوع بفعل محذوف ذلك الفعل المحذوف جواب (إذا) الشرطية، و (إذا) الشرطية وجوابها المقدر خبر ل (أنَّكُم) الأولى تقديره: يحدث أنكم مخرجون.(14/205)
الرابع: كالثالث في كونه مرفوعاً بفعل مقدر إلا أنَّ هذا الفعل المقدر خبر ل (أَنَّ) الأولى وهو العامل في (إذا) .
الخامس: أنّ خبر الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه، فتقديره: أنكم تبعثون، وهو العامل في الظرف، و (أنَّ) الثانية وما في حيزها بدل من الأولى، وهذا مذهب سيبويه.
السادس: أن يكون «أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» مبتدأ وخبره الظرف مقدماً عليه، والجملة خبر عن (أَنَّكُمْ) الأولى، والتقدير: أيعدكم أنكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم. ولا يجوز أن يكون العامل في «إذَا» «مُخْرَجُونَ» على كل قول لأن ما في حيز (أنَّ) لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها «متم» ، لأنه مضاف إليه، و «أَنَّكُمْ» وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف الحرف إذ الأصل: أيعدكم بأنكم ويجوز أن لا يقدر حرف جر، فيكون في محل نصب فقط نحو: وعدت زيداً خيراً.
قوله: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ» . «هَيْهَاتَ» اسم فعل معناه: بَعُدَ، وكُرر للتوكيد وليست المسألة من التنازع، قال جرير:
3792 - فَهَيْهَات هَيْهَاتَ العقيقُ وأهلهُ ... وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُوَاصِلُه(14/206)
وفسره الزجاج في عبارته بالمصدر، فقال: البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُون فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف الفعل عليه، ويمكن أن يكون فسّر المعنى فقط.
و «هَيْهَات» اسم لفعل قاصر برفع الفاعل، وهنا قد جاء ما ظاهره الفاعل مجروراً باللام فمنهم من جعله على ظاهره وقال «مَا تُوعدُون» فاعل به، وزيدت فيه اللام التقدير: بَعُدَ بَعُدَ ما تُوعدُون،، وهو ضعيف: إذ لم يعهد زيادتها في الفاعل. ومنهم من جعل الفاعل مضمراً لدلالة الكلام عليه، فقدره أبو البقاء: هيهات التصديق، أو: الصحة لما توعدون. وقدّره غيره: بَعُدَ إخْرَاجُكُم. و (لِمَا تُوعَدُونَ) للبيان، قال الزمخشري: لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في «هَيْتَ لَكَ» لبيان المهيت به. وقال الزجاج: «البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ» فجعله مبتدأ والجار بعد الخبر. قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: (مَا تُوعَدُونَ) هو المستبعد، فمن حقه أن يرتفع ب «هَيْهَاتَ» كما ارتفع بقوله:
3793 - هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ العَقِيقُ وأَهْلُه ... فما هذه اللام؟ قُلتُ: قال الزجاج في تفسيره: البعْدُ لِمَا تُوعدُونَ أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُونَ فيمن نَوّن، فنزّله منزلة المصدر. قال أبو حيان: وقول الزمخشري (فمن نَوّنه نزّله منزلة المصدر) ليس بواضح، لأنهم قد نَوّنُوا أسماء الأفعال ولا نقول: إنها إذا نُوّنت تنزلت منزلة المصادر. قال شهاب الدين: الزمخشري لم يقل كذا، إنما(14/207)
قال: فيمن نَوَّن نزله منزلة المصدر لأجل قوله: أو بُعْد، فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه منزلاً منزلة المصدر، فإنّ أسماء الأفعال ما نُوّن منها نكرة، وما لم يُنوّن معرفة نحو: صَهْ وصَهٍ يقدر الأول بالسكوت، والثاني بسكوت ما.
وقال ابن عطية: طوراً تلي الفاعل دون لام، تقول: هيهات مجيء زيد أي: بَعُدَ، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً عند اللام، كهذه الآية، والتقدير: بَعُدَ الوجودُ لمَا تُوعَدُونَ. ولم يستجيده أبو حيان من حيث قوله: حذف الفاعل، والفاعل لا يحذف، ومن حيث إنّ فيه حذف المصدر، وهو الموجود، وإبقاء معموله وهو «لِمَا تُوعَدُون» و «هَيْهَاتَ» الثاني تأكيد للأول تأكيداً لفظياً، وقد جاء غير مؤكد كقوله:
3794 - هَيْهَاتَ مَنْزِلُنَا بِنَعْفِ سُوَيْقَةٍ ... كانت مُبَارَكَةً على الأَيَّامِ
وقال آخر:
3795 - هَيْهَاتَ نَاسٌ مِنْ أُنَاس دِيَارُهُمْ ... دُقَاق ودَارُ الآخِرِينَ الأَوَائِنُ
وقال رؤبة:
3796 - هَيْهَاتَ مِن مُنْخَرِقٍ هَيْهَاؤُه ... قال القيسي شارح أبيات الإيضاح: وهذا مثل قولك: «بَعُدَ بُعْدَهُ» وذلك أَنَّه بَنَى من هذه اللفظة (فَعْلاَلاً) فجاء به مجيء القَلْقَال والزلزَال. والألف في «هَيْهَاتَ» غير الألف في (هَيْهَاؤُه) ، وهي في «هَيْهَاتَ» لام الفعل الثانية كقاف الحَقْحَقَة الثانية، وهي في (هَيْهَاؤُه) ألف الفعلال الزائدة. وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين،(14/208)
ذكر منها الصَّاغَانِي ستة وثلاثين لغة، وهي: (هَيْهَاتَ) ، وأَيْهَاتَ، وهَيْهَانَ، وأَيْهَانَ وهَيْهَاه، وأَيْهَاه كل واحد من هذه الستة مضمومة الآخرة ومفتوحته، ومكسورته، وكل واحدةٍ منها منوّنة وغير منوّنة، فتكون ستًّا وثلاثين. وحكى غيره: هَيْهَاك، وأَيْهَاكَ - بكاف الخطاب -، وأَيْهاء، وأَيْهَا، وهَيْهَاء، فأمّا المشهور ما قرئ به. فالمشهور «هَيْهَات» بفتح التاء من غير تنوين بُني لوقوعه موقع المبني، أو لشبهه بالحرف، وتقدم تحقيق ذلك وبها قرأ العامة وهي لغة أهل الحجاز. و «هَيْهَاتاً» بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس.
و «هَيْهَاتٌ» بالضم والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة. وبالضم من غير تنوين،(14/209)
ويروى عن أبي حيوة أيضاً، فعنه فيها وجهان وافقه أبو السمال في الأولى دون الثانية.
و «هَيْهَاتٍ» بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس. وبالكسر من غير تنوين، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة، وتُروى عن عيسى أيضاً وهي لغة تميم وأسد.
و «هَيْهَاتْ» بإسكان التاء، وبها قرأ عيسى بن عمر الهمداني أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج و «هَيْهَاه» بالهاء آخراً وصلاً ووقفاً. و «أيْهَاتَ» بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعض القراء فيما نقل أبو البقاء. فهذه تسع لغات قد قرئ بهنّ لم يتواتر منها غير الأولى. ويجوز إبدال الهمزة من الهاء الأولى في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة. و «أَيْهَان» بالنون آخراً. و «أَيْهَا» بألف آخراً.
فمن فتح التاء قالوا: فهي عنده اسم مفرد، ومن كسرها فهي عنده جمع تأنيث كزَيْنَبَات وهِنْدَات.
ويُعْزَى هذا لسيبويه، لأنه قال: هي مثل بَيْضَات، فنسب إليه أنه جمع من ذلك، حتى قال بعض النحويين: مفردها (هَيْهَة) مثل بَيْضَة.(14/210)
وليس بشيء بل مفردها (هَيْهَاتَ) .
قالوا: وكان يبغي على أصله أن يقال فيها: (هَيْهَيَات) بقلب ألف (هَيْهَاتَ) ياء، لزيادتها على الأربعة نحو: مَلْهَيَات، ومَغْزَيات، ومَرْمَيات، لأنها من بنات الأربعة المضعّفة من الياء من باب حَاحَيْتَ وصِيْصِية، وأصلها بوزن القَلْقلة والحَقْحَقَة فانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت: هَيْهَاة كالسلْقَاة والجَعْبَاة. وإن كانت الياء التي انقلبت عنها ألف سلْقَاة وجَعْبَاة زائدة، وياء هَيْهية أصلاً، فلما جمعت كان قياسها على قولهم: أَرْطَيَاتٍ وعَلْقَيَاتٍ أن يقولوا فيها: (هَيْهَياتٍ) ، إلاّ أنهم حذفوا الألف لالتقاء الساكنين لمّا كانت في آخر اسم مبني كما حذفُوها في (ذان) ، و (اللَّتان) و (تان) : ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية، والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أولات وذَوَات، لتخالف ياء حَصَيات ونَوَيات. وقالوا: من فتح تاء (هَيْهَاتَ) فحقه أن يكتبها هاء، لأنها في مفرد كتَمْرة ونَواة، ومن كسرها فحقه أن يكتبها تاء، لأنها في جمع كهِنْدَات، وكذلك حكم الوقف سواء، ولا التفات إلى لغة: كيف الإخوهْ والأخواهْ، ولا هذه ثمرت، لقلتها، وقد رسمت في المصحف بالهاء.
واختلف القراء في الوقف عليها، فمنهم من اتبع الرسم فوقف بالهاء وهما الكسائي والبزيّ عن ابن كثير. ومنهم من وقف بالتاء وهم الباقون. وكان ينبغي أن يكون الأكثر على الوقف بالهاء لوجهين:
أحدهما: موافقة الرسم.
والثاني: أنهم قالوا: المفتوح اسم مفرد أصله هَيْهَيَة كَوَلولة وقَلْقَلة في مضاعف الرباعي، وقد تقدم أن المفرد يوقف على تاء تأنيثه بالهاء. وأمّا التنوين فهو(14/211)
على قاعدة تنوين أسماء الأفعال دخوله دال على التنكير، وخروجه دال على التعريف.
قال القيسي: من نَوّن اعتقد تنكيرها، وتصوَّرَ معنى المصدر النكرة، كأنه قال: بُعْداً بُعْداً. ومن لم يُنوّن اعتقد تعريفها، وتصوَّر معنى المصدر المعرفة، كأنه قال: البُعْدُ البُعْدُ فجعل التنوين دليل التنكير وعدمه دليل التعريف انتهى.
ولا يوجد تنوين التنكير إلا في نوعين: أسماء الأفعال وأسماء الأصوات (نحو صَهْ وصَهٍ، وبَخْ وبَخٍ، والعلم المختوم ب (ويه)) نحو سيبويهِ وسيبويهٍ، وليس بقياس بمعنى: أنه ليس لك أن تنوّن منها ما شئت بل ما سمع تنوينه اعتقد تنكيره. والذي يقال في القراءات المتقدمة: إنّ من نوّن جعله للتنكير كما تقدم. ومن لم ينوّن جعل عدم التنوين للتعريف. ومن فتح فللخفةِ وللاتباع. ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضم فتشبيهاً بقَبْل وبَعْد. ومن سَكّن فلأنّ أصل البناء السكون. ومن وقف بالهاء فاتباعاً للرسم، ومن وقف بالتاء فعلى الأصل سواء كُسرت التاء أو فتحت، لأنّ الظاهر أنهما سواء، وإنما ذلك من تغيير اللغات وإن كان المنقول عن مذهب سيبويه ما تقدم.
هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة. وقال ابن عطية فيمن ضم ونوّن: إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء، وخبره «لِمَا تُوعدُونَ» أي: البُعْد لوعدكم، كما تقول: النجح لسعيك.
وقال الرازي في اللوامح: فأمَّا مَنْ رَفَعَ وَنَوَّنَ احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرفوعين، خبرهما من حروف الجر بمعنى: البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، والتكرار للتأكيد، ويجوز أن يكونا اسماً للفعل، والضم للبناء مثل: حُوبُ في زجر الإبل لكنه نَوّنه (لكونه) نكرة.
قال شهاب الدين: وكان ينبغي لابن عطية وأبي الفضل أن يجعلاه اسماً أيضاً في حالة النصب مع التنوين على أنه مصدر واقع موقع الفعل وقرأ ابن أبي عبلة: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا تُوعَدُونَ} من غير لام جر. وهي واضحة، مؤيدة لمدعي زيادتها(14/212)
في قراءة العامة. و «ما» في «لِمَا تُوعَدُونَ» تحتمل المصدرية، أي: لوعدكم، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: توعدونه.
قوله: «إنْ هِيَ» «هي» ضمير يفسره سياق الكلام، أي: إن الحياة إلا حياتنا.
وقال الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يُراد به إلاَّ بما يتلوه من بيانه، وأصله: إن الحياة {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} ، فوضع «هي» موضع «الحياة» لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه: هي النَّفْس تتحمل مَا حُمِّلَتْ، وهي العَرَبُ تقول ما شَاءَتْ. وقد جعل بعضهم هذا القسم مما يفسر بما بعده لفظاً ورتبةً، ونسبه إلى الزمخشري متعلقاً بما نقلناه عنه. قال شهاب الدين: ولا تعلق له في ذلك.
قوله: «نَمُوتُ ونَحْيَا» جملة مفسرة لما ادّعوه من أنَّ حياتهم ما هي إلا كذا. وزعم بعضهم أنَّ فيها دليلاً على عدم الترتيب في الواو، إذ المعنى: نحيا ونموت إذ هو الواقع.
ولا دليل فيها لأنّ الظاهر من معناها يموت البعض منا ويحيا آخرون وهلم جرًّا يسير إلى انقراض العصر ويخلف غيره مكانه. وقل: نموت نحن ويحيا أبناؤنا.
وقيل: القوم كانوا يعتقدون الرجعة أي: نموت ثم نحيا بعد ذلك الموت.
فصل
اعلم أنَّ القوم طعنوا في نبوّته بكونه بشراً يأكل ويشرب، ثم جعلوا طاعته خسراناً: أي: إنكم إن أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها نفع، فذلك هو الخسران، ثم طعنوا في صحة الحشر والنشر، فقالوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} معادون أحياء للمجازاة، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى(14/213)
قرنوا به الاستبعاد العظيم، فقالوا: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} ثم أكدوا ذلك بقولهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ولم يريدوا بقولهم: «نَمُوتُ ونَحْيَا» الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه بهذا الباطل فقد {افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} .
واعلم أنَّ الله - تعالى - ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى: فتقدم الجواب عنها. وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه، أنّه لمّا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على الحشر والنشر، وأيضاً: فلولا الإعادة لكان تسليط القويِّ على الضعيف في الدنيا ظلماً، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله تعالى: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [طه: 15] .
واعلم أنَّ الرسول لمّا يئس من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال: {رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} وقد تقدّم تفسيره. فأجاب الله سؤاله وقال: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} .
قوله: «عَمَّا قَلِيلٍ» في (ما) هذه وجهان:
أحدهما: أنّها مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد كما زيدت الباء نحو: «فَبِمَا رَحْمَةٍ» ، وفي من نحو «مِمَّا خَطَايَاهُمْ» .
و «قَلِيلٍ» صفة لزمن محذوف، أي: عن زمن قليل.
والثاني: أنّها غير زائدة، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن، و «قَلِيلٍ» صفتها، أو بدل منها، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّه متعلق بقوله: «لَيُصْبِحُنَّ» ، أي: ليصبحن عن زمن قليل نادمين.(14/214)
الثاني: أنه متعلق ب «نَادِمِين» ، وهذا على أحد الأقوال في لام القسم، وذلك أنّ فيها ثلاثة أقوال:
جواز تقديم معمول ما بعدها عليها مطلقاً، وهو قول الفراء وأبي عبيدة.
والثاني: المنع مطلقاً، وهو قول جمهور البصريين.
والثالث: التفصيل بين الظرف وعديله وبين غيرهما، فيجوز للاتساع ويمتنع في غيرهما فلا يجوز في: والله لأضربن زيداً، زيداً لأضربن لأنه غير ظرف ولا عديله.
والثالث من الأوجه المتقدمة: أنّه متعلق بمحذوف تقديره: عَمّا قَلِيلٍ تنصر حذف لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله: «رَبّ انْصُرْنِي» . وقرئ: «لَتُصْبِحُنَّ» بتاء الخطاب على الالتفات، أو على أنَّ القول صدر من الرسول لقومه بذلك.
قوله: «عَمَّا قَلِيلٍ» الآية معناه أنه يظهر لهم علامات الهلال فعند ذلك يحصل لهم الحسرة والندامة على ترك القبول. ثم بيّن تعالى الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق} قيل: إن جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحةً عظيمةً فهلكوا. وقال ابن عباس: الصيحة الرجفة. وعن الحسن: الصيحة نفس العذاب والموت. كما يقال فيمن يموت: دعي فأجاب.
وقيل: هي العذاب المصطلم، قال الشاعر:
3797 - صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خروا لشدتها على الأذقان
والأول أولى لأنه الحقيقة.
قوله: «بالحقِّ» أي: دمرناهم بالعدل، من قولك: فلانٌ يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضائه.
وقال المُفضل: «بالحقِّ» بما لا مدفع له كقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19] .(14/215)
قوله: «فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً» الجعل بمعنى: التصيير، و «غُثَاءً» مفعول ثان، والغُثَاء: قيل: هو الجفاء، وتقدم في الرعد، قاله الأخفش وقال الزجاج: هو البالي من ورق الشجر والعيدان إذا جرى السيل خالط زبده واسود، ومنه قوله: «غُثَاءً أَحْوَى» وقيل: كل ما يلقيه السيل والقدر مما لا ينتفع به، وبه يُضْربُ المثل في ذلك ولامه واو، لأنه من غَثَا الوادي يَغْثُوا غَثْواً، وكذلك غَثَتِ القِدر، وأمّا غَثِيَتْ نَفْسُهُ تَغْثِي غَثَيَاناً، أي: خَبُثَتْ. فهو قريب من معناه، ولكنه من مادة الياء.
وتشدد (ثاء) الغُثَاء، وتُخفَّف، وقد جمع على أَغْثَاء، وهو شاذ، بل كان قياسه أن يجمع على أغْثِية، كَأغْرِيَة، وعلى غِيثَان، كغِرْبَان، وغِلْمَان وأنشدوا لامرئ القيس:
3798 - مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءُ فَلْكَةُ مِغْزَلِ ... بتشديد الثاء، وتخفيفها، والجمع، أي: والأَغْثَاء.
قوله: {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} «بُعْداً» مصدر يذكر بدلاً من اللفظ بفعله فناصبه واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم، والأصل: بَعُدَ بُعْداً وبَعَداً نحو رَشُدَ رُشْداً ورَشَداً وفي هذه اللام قولان:(14/216)
أظهرهما: أنها متعلقة بمحذوف للبيان، كهي في سَقْياً له، وجَدْعاً له. قاله الزمخشري.
والثاني: أنَّها متعلقة ب «بُعْداً» قاله الحوفي. وهذا مردود، لأنه لا يُحفظ حذف هذه اللام، ووصول المصدر إلى مجرورها ألبتة، ولذلك منعوا الاشتغال في قوله: {والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} [محمد: 8] لأن اللام لا تتعلق ب «تَعْساً» بل بمحذوف، وإن كان الزمخشري جَوَّز ذلك، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل
«فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً» صيرناهم هلكى فَيَبِسُوا يَبْسَ الغثاء من نبات الأرض، «فَبُعْداً» بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير «لِلقَوْمِ الظَالِمِينَ» الكافرين، ذكر هذا على وجه الاستخفاف والإهانة لهم.(14/217)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} أي: أقواماً آخرين. قيل: المراد قصة لُوط، وشعيب، وأيوب، ويوسف - صلوات الله عليهم أجمعين -، والمعنى: أنه ما أخلى الديار من المكلفين. {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} (مِنْ) صلة كأيّ: ما تَسْبِقُ أمة أجلها وقت هلاكها. وقيل: آجال حياتها وتكليفها. قال أهل السنة: هذه الآية تدل على أن المقتول ميّت بأجله، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدّم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص.
قوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} في «تَتْرَى» وجهان:(14/217)
أظهرهما: أنه منصوب على الحال من «رُسُلنَا» ، يعني: متواترين أي: واحداً بعد واحد، أو متتابعين على حسب الخلاف في معناه. وحقيقته: أنه مصدر واقع موقع الحال.
والثاني: أنه نعت مصدر محذوف، تقديره: إرسالاً تَتْرَى، أي: متتابعاً أو إرسالاً إثر إرسال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر، وهي قراءة الشافعي «تَتْرًى» بالتنوين، ويقفون بالألف، وباقي السبعة «تَتْرَى» بألف صريحة دون تنوين، والوقف عندهم يكون بالياء، ويميله حمزة والكسائي، وهو مثل غَضْبَى وسَكْرَى، ولا يميله أبو عمرو في الوقف، وهذه هي اللغة المشهورة. فمن نَوّن فله وجهان:
أحدهما: أنَّ وزن الكلمة فَعْلٌ كفَلْس فقوله: «تَتْرًى» كقولك: نصرته نَصْراً؛ ووزنه في قراءتهم «فَعْلاً» . وقد رُدَّ هذا الوجه، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب على رائه، فيقال: هذا تَتْرٌ، ورأيتُ تَتْراً، ومررت بتترٍ، نحو: هذا نصرٌ، ورأيت نصراً، ومررت بنصرٍ، فلمّا لم يحفظ ذلك بَطَلَ أن يكون وزنه (فَعْلاً) .
الثاني: أنّ ألفه للإلحاق بِجَعْفَر، كهي في أَرْطَى وَعَلْقَى، فلما نُوّن ذهبت لالتقاء الساكنين وهذا أقرب مما قبله، ولكنه يلزم منه وجود ألف الإلحاق في المصادر، وهو نادر (ومن لم يُنوّن، فله فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الألف بدل من التنوين في حالة الوقف.
والثاني: أنها للإلحاق كأَرْطَى وعَلْقَى) .
الثالث: أنها للتأنيث كدَعْوَى، وهي واضحة.(14/218)
فتحصّل في ألفه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من التنوين في الوقف.
الثاني: أنها للإلحاق.
الثالث: أنها للتأنيث.
واختلفوا فيها هل هي مصدر كَدَعْوَى و «ذِكْرَى» ، أو اسم جمع ك «أَسْرَى» و «شَتَّى» ؟ كذا قاله أبو حيان. وفيه نظر: إذ المشهور أن «أَسْرَى» و «شَتَّى» جمعا تكسير لا اسما جمع. وتاؤها في الأصل واو لأنها من المواترة، والوتر، فقلبت تاء كما قلبت تاء في «تَوْرِيَة» ، وتَوْلَج، وتَيْقُور، وتخمة وتراث، وتجاه فإنه من الوَرْي والولُوج، والوَقَار، والوَخَامَة، والورَاثة، والوَجه. واختلفوا في مدلولها، فعن الأصمعي: واحداً بعد واحد وبينهما هُنَيْهَة وقال غيره: هو من المُوَاتَرَة، وهي التتابع بغير مُهْلَة.
وقال الراغب: والتوَاتُر تَتَابُع(14/219)
الشيء وِتْراً وفُرَادَى، قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} . والوَتِيرة: السَّجية والطريقة، يقال: هم على وَتِيرةٍ واحدةٍ. والتِّرَةُ: الذَّحْلَ والوَتِيرة: الحاجز بن المنخرين.
قوله: {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} أي: أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدّم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة، ولذلك قال: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} بالإهلاك.
قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} قيل: هو جمع حديث، ولكنه شاذ. والمعنى: سَمَراً وقصصاً يحدث من بعدهم بأمرهم، ولم يبق منهم عين ولا أثر إلا الحديث الذي يعتبر به.
وقيل: بل هو جمع أُحْدُوثة، كأُضْحُوكة وأُعْجُوبَة، وهو ما يحدث به الناس تَلهياً وتَعَجُّباً.
وقال الأخفش: لا يقال ذلك إلا في الشر ولا يقال في الخير وقد شذت العرب في ألفاظ، فجمعوها على صيغة (أفَاعيل) كأباطيل وأقاطيع. وقال الزمخشري: الأحاديث يكون اسم جمع للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال أبو حيان: و (أفاعيل) ليس من أبنية اسم الجمع، فإنما ذكره النحاة فيما شذ من الجموع كقَطِيع وأقَاطِيع، وإذا كان عَبَادِيد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد، فأحرى أحاديث وقد لفظ له بواحد وهو حديث فاتضح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرنا. ثم قال تعالى: {فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} وهذا دعاء، وذم، وتوبيخ، وذلك وعيد شديد.(14/220)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ} الآية. يجوز أن يكون «هَارُونَ» بدلاً، وأن يكون بياناً، وأن يكون منصوباً بإضمار أعني. واختلفوا في الآيات، فقال ابن عباس: هي الآيات التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، والسنين، ونقص الثمرات. وقال الحسن: «بآيَاتِنَا» أي: بديننا. واحتج بأن المراد لو كان الآيات وهي المعجزات، والسلطان المبين: هو أيضاً المعجز، لزم منه عطف الشيء على نفسه.
والأول أقرب، لأنّ لفظ الآيات إذا ذكر مع الرسول فالمراد به المعجزات.
وأما احتجاجه فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أنّ المراد بالسلطان المبين: يجوز أن يكون أشرف معجزاته، وهي العصا، لأن فيها معجزات شتّى من انقلابها حيّة وتلقّفها ما صنع السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها، وكونها حارساً، وشمعةً، وشجرة مثمرة، ودَلْواً، ورشَاءً، فلاجتماع هذه الفضائل فيها أفردت بالذكر كقوله: «وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ» .
والثاني: يجوز أن يكون المراد بالآيات نفس تلك المعجزات، وبالسلطان المبين كيفيّة دلالتها على الصدق، فلأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات فقد فارقتها في قوة دلالتها على قبول قول موسى - عليه السلام -.
الثالث: أن يكون المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى - عليه السلام - عليهم في الاستدلال على وجود الصانع، وإثبات النبوّة، وأنه ما كان يقيم لهم قدراً ولا وزناً.
واعلم أنَّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضاً وأنّ النبوة مشتركة بينهما، فكذلك المعجزات. ثم قال: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فاستكبروا} وتعظموا عن الإيمان {وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم.
قوله: «لِبَشَرَيْنِ» شر يقع على الواحد والمثنى والمجموع، والمذكر والمؤنث(14/221)
قال تعالى: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ} [يس: 15] ، وقد يطابق، ومنه هذه الآية وأما إفراد «مِثْلِنَا» ، فلأنه يجري مجرى المصادر في الإفراد والتذكير، ولا يؤنث أصلاً، وقد يطابق ما هو له تثنية لقوله: {مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} [آل عمران: 13] وجمعاً كقوله: {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] .
وقيل: أريد المماثلة في البشريّة لا الكمية. وقيل: اكتفى بالواحد عن الاثنين. {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} جملة حالية.
فصل
«فَقَالُوا» يعني لفرعون وقومه {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} يعنون موسى وهارون {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} مطيعون متذللون. قال أبو عبيدة: والعرب تسمي كل من دان لِملك عابداً له ويحتمل أن يقال: إنه كان يدعي الإلهية، وإن طاعة الناس له عبادة، ولمّا خطر ببالهم هذه الشبهة صرحوا بالتكذيب، ولمّا كان التكذيب كالعلّة لهلاكهم لا جَرَم رتّبه عليه بفاء التعقيب، فقال: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} أي: بالغرق (أي: فيمن حكم عليهم بالغرق) فإن الغرق لم يحصل عقيب التكذيب، (إنما حصل عقيب التكذيب) حكم الله - تعالى - عليهم بالغرق في الوقت اللائق به.
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب} قيل: أراد قوم موسى، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولذلك أعاد الضمير من قوله: «لَعَلَّهُم» عليهم.
وفيه نَظَر، إذ يجوز عود الضمير على القوم من غير تقدير إضافتهم إلى موسى، ويكون هدايتهم مترتبة على إيتاء التوراة لموسى. قال الزمخشري: لا يجوز أن يرجع الضمير في «لَعَلَّهُم» إلى فرعون وملئه لأن التوراة إنما أوتيت بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون، بدليل قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى} [القصص: 43] .(14/222)
بل المعنى الصحيح ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يعملون بشرائعها، ومواعظها، فذكر موسى والمراد آل موسى كما يقال: هاشم وثقيف. والمراد قومهم.(14/223)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} والمراد عيسى - عليه السلام - وأمه «آيَةً» دلالة على قدرتنا. ولم يقل آيتين قيل: معناه جعلنا شأنهما آية. وقيل المعنى كل واحدٍ آية كقوله: {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] . قال المفسرون: معنى كون عيسى وأمه آية أنه خُلِقَ من غير ذكر، وأنطقه في المهد في الصغر، وأجرى على يده إبراء الأَكْمَه والأبرص، وإحياء الموتَى وأمّا مريم فلأنها حملت من غير ذَكَر. وقال الحسن: تكلّمت مريم في صغرها كما تكلّم عيسى وهو قولها: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] ، ولم تلقم ثدياً قط. قال ابن الخطيب: والأقرب أن جعلهما آيةً هو نفس الولادة، لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعاً في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة، ويدل على هذا وجهان:
الأول: قوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} لأن نفس المعجز ظهر منهما، لا أنَّه ظهر على يديهما، لأنَّ الولادة فيه وفيها بخلاف الآيات التي ظهرت على يده.
الثاني: قوله: {آيَةً} ولم يقل آيتين، وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتمّ إلا بمجموعهما أولى، وذلك هو الولادة لا المعجزات التي كانت لعيسى.
قوله: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ} «الرُّبْوَة» و «الرُّبَاوة» في رَائهما الحركات الثلاثة، وهي الأرض المرتفعة.(14/223)
قال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس، وهو قول قتادة وأبي العالية وكعب قال كعب: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً.
وقال أبو هريرة: إنها الرَّمْلَة. وقال السدي: أرض فلسطين. وقال عبد الله بن سلام: هي دمشق، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل والضحاك. وقال الكلبي وابن زيد: هي مصر. والقَرار: المستقر من أرض مستوية منبسطة. وقال قتادة: ذات ثمارٍ وماء، أي: لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها. قوله: «وَمَعِينٍ» صفة لموصوف محذوف، أي: وماء معين. وفيه قولان:
أحدهما: أن ميمه زائدة، وأصله مَعْيُون. أي: مبصر بالعين فَأُعلّ إعلال مَبِيع وبابه وهو مثل قولهم: كَبْدتُه، أي ضربت كَبده، ورأسته أي: أصبت رأسه، وعنْتُه أي: أدركته بعيني ولذلك أدخله الخليل في مادة ع ي ن.
والثاني: أن الميم أصلية، ووزنه (فَعِيل) مشتق من المَعْن.
واختلف في المعين، فقيل: هو الشيء القليل، ومنه: المَاعُون. وقيل: هو من مَعنَ الشيء معانة أي: كثر، قال جرير:
3799 - إنَّ الَّذِينَ غَدَوْا بِلُبِّكَ غَادَرُوا ... وَشَلاً بِعَيْنِكَ لا يزالُ مَعِينَا
وقال الراغب: هو من مَعَن الماء جرى، وسُمي مَجَارِي الماء مُعْنان، وأمْعَن الفرس تباعد في عَدْوه، وأمْعَن بِحَقِّي: ذهب به، وفلانٌ معن في حاجته يعني: سريعاً فكلّه راجع إلى معنى الجري والسرعة.(14/224)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
وفي المعين قولان:
أحدهما: أنّه مفعول، لأنه لظهوره مدرك بالعين من عانه: إذا أدركه بعينه.
وقال الفراء والزجاج: إن شِئْتَ جعلته (فَعِيلاً) من المَاعون، ويكون أصله من المَعْن والمَاعون فاعُول منه. قال أبو علي: والمعين: السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى، والماعون ما سهل على معطيه. قالوا: وسبب الإيواء أنها فرّت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم.
قوله
تعالى
: {يا
أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} الآية.
اعلم أنَّ هذا خطاب مع كل الرسل، وذلك غير ممكن، لأنّ الرّسل إنّما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، فلهذا تأوّلوه على وجوه:
فقيل: معناه الإعلام بأن كلّ رسول نُودي في زمانه بهذا المعنى، ووصي به، ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل، ووصوا به، حقيق أن يؤخذ ويعمل عليه.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي وجماعة: أراد به محمداً - عليه السلام - وحّده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة كقولك للواحد: أيُّها القوم كُفُّوا عنّا أذاكم ولأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل. وقال ابن جرير: المراد عيسى - عليه السلام - لأنه إنما ذكر بعد ذكره مكانه الجامع للطعام والشراب، ولأنه روي «أنّ عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يأكل من غزل أمه» .(14/225)
والأول أقرب، لأنه أوفق للفظ، ولأنه «روي عن أم عبد الله أخت شدّاد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقدح لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم فردّه الرسول إليها وقال:» من أين لَكِ هذا؟ «، فقالت: من شاةٍ لي، فقال:» من أين هذه الشاة؟ «، فقالت: اشتريتُها بِمَالي، فأخذه، ثم إنها جاءته فقالت: يا رسول الله لِمَ رَدَدته؟ فقال - عليه السلام -:» بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلاّ طيباً ولا تعمل إلاّ صالحاً «.
واختلفوا في الطيّب، فقيل: هو الحلال. وقيل: هو المستطاب المستلذ من المأكل.
قوله: {واعملوا صَالِحاً} يجوز أن يكون» صالحاً «نعتاً لمصدر محذوف أي: واعملوا عملاً صالحاً من غير نظر إلى ما يعملونه، كقولهم: يُعطي ويمنع. ويجوز أن يكون مفعولاً به، وهو واقع على نفس المعمول. {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وهذا تحذير من مخالفة ما أمرهم به، وإذا كان تحذيراً للرسل مع علو شأنهم، فبأن يكون تحذيراً لغيرهم أولى.
قوله: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قرأ ابن عامر وحده» وأن هذه «بفتح الهمزة وتخفيف النون. والكوفيون بكسرها والتثقيل. والباقون بفتحها والتثقيل. فأمّا قراءة ابن عامر فهي المخففة من الثقيلة، وسيأتي توجيه الفتح في الثقيلة، فيتضح معنى قراءته.
وأمّا قراءة الكوفيين فعلى الاستئناف.
وأمّا قراءة الباقين ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّها على حذف اللام أي: ولأنّ هذه، فلمّا حذف حرف الجَرّ جَرَى الخلاف المشهور، وهذه اللام تتعلق ب» اتّقون «. والكلام في الفاء كالكلام في قوله:» وَإِيَّايَ فَارْهَبُون «.(14/226)
الثاني: أنها منسوقة على» بِمَا تَعْمَلُون «أي: إنِّي عليم بما تعملون وبأنّ هذه، فهذه داخلة في حيز المعلوم.
الثالث: أنّ في الكلام حذفاً تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم.
وتقدّم {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} وما قيل فيها.
فصل
المعنى: وأن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أمةً واحدةً، أي: ملة واحدة وهي الإسلام. فإن قيل: لمّا كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحداً؟
فالجواب: أنّ المراد من الدين ما لا يختلفون من أصول الدين من معرفة ذات الله وصفاته، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يُسمّى اختلافاً في الدين، فكما يقال في الحائض والطاهر من النساء: إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا هنا.
وقيل: المعنى: أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم، وأمركم واحد.
{وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} فاحذرون، {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي: تفرقوا فصاروا فرقاً يهوداً، ونصارى، ومجوساً. «زُبُراً» أي: فرقاً وقطعاً مختلفة، واحدها (زَبُور) ، وهو الفرقة والطائفة، ومثلها «الزُّبْرَة» وجمعها «زُبَر» ومنه «زُبَرَ الحَدِيدِ» .
وقرأ بعض أهل الشام: «زُبَراً» بفتح الباء. وقال مجاهد وقتادة «زُبراً» أي: كتباً، أي: دان كلّ فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر.
وقيل: جعلوا كتبهم قطعاً آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض وحرّفوا البعض {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} بما عندهم من الدين معجبون مسرورون.
ولما ذكر تفرقهم في دينهم أتبعه بالوعيد وقال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} وهذا خطاب(14/227)
لنبينا - عليه السلام -، أي: دع هؤلاء الكفار في جهلهم.
قوله: «في غَمْرتِهِمْ» مفعول ثان ل «ذَرْهُمْ» أي: اتركهم مستقرين «في غَمْرَتِهِمْ» ويجوز أن يكون ظرفاً للترك، والمفعول الثاني محذوف. والغمرة في الأصل الماء الذي يغمر القامة، والمغمر الماء الذي يَغْمُر الأرض ثم استعير ذلك للجهالة، فقيل: فلانٌ في غمرة والمادة تدل على الغطاء والاستتار ومنه الغُمر - بالضم - لمن لم يجرب الأمور، وغُمَار الناس وخمارهم زحامهم، والغِمْر - بالكسر - الحقد، لأنه يغطي القلب، فالغمرات الشدائد، والغامر: الذي يلقي نفسه في المهالك. وقال الزمخشري: الغمرة الماء الذي يغمر القامة، فضربت لهم مثلاً لما هم فيه من جهلهم وعَمَايَتِهم، او شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لِمَا هُمْ عليه من الباطل كقوله:
3800 - كَأَنَّنِي ضَارِبٌ في غَمْرَةٍ لَعِب ... وقرأ أمير المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبد الرحمن «غمراتهم بالجمع، لأنَّ لكل منهم غمرة تخصه. وقراءة العامة لا تأبى هذا المعنى، فإنه اسم جنس مضاف.
قوله:» حَتَّى حِين «أي إلى أن يموتوا. وقيل: إلى حين المعاينة. وقيل: إلى حين العذاب. ولمّا كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أنّ تلك النعم كالثواب المعجل لهم إلى أديانهم، فبيّن سبحانه أنّ الأمر بخلاف ذلك فقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} أي: أن ما نعطيهم ونجعله مدداً لهم من المال والبنين في الدنيا ل {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} أي: نعجل لهم في الخيرات، ونقدّمها ثواباً بأعمالهم لمرضاتنا عنهم {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} أنّ ذلك استدراج لهم.
قوله: «أَنَّما نُمِدُّهُمْ» في «مَا» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بمعنى الذي، وهي اسم (أنَّ) و (نُمِدُّهُمْ بِهِ) صلتها وعائدها محذوف،(14/228)
و (مِنْ مَالٍ) حال من الموصول أو بيان له، فيتعلق بمحذوف، و (نُسَارعُ) خبر (أنَّ) والعائد من هذه الجملة إلى اسم (أنَّ) محذوف تقديره: نسارع لهم به أو فيه إلا أنّ حذف مثله قليل. وقيل: الرابط بين هذه الجملة باسم «أنَّ» هو الظاهر الذي قام مقام المضمر من قوله: «في الخَيْرَاتِ» ، إذ الأصل نُسَارع لهم فيه، فأوقع الخيرات موقعه تعظيماً وتنبيهاً على كونه من الخيرات، وهذا يتمشّى على مذهب الأخفش، إذ يرى الربط بالأسماء الظاهرة وإن لم يكن بلفظ الأوَّل، فيجيز زيد الذي قام أبو عبد الله، إذا كان أبو عبد الله كنية زيد، وتقدّمت منه أمثلة. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون الخبر (مِنْ مَالٍ) ، لأنه (إذا) كان من مال فلا (يعاب عليهم ذلك، وإنّما) يُعاب عليهم اعتقادهم أن تلك الأموال خيرٌ لهم.
الثاني: أن تكون (ما) مصدرية فَيَنْسَبِك منها ومما بعدها مصدر، هو اسم (أنّ) ، و «نُسَارع» هو الخبر، وعلى هذا فلا بدّ من حذف (أنْ) المصدرية قبل «نُسَارعُ» ، ليصح الإخبار، تقديره: أن نُسَارعَ. فلمّا حذفت (أنْ) ارتفع المضارع بعدها، والتقدير: أيحسبون أن إمدادنا لهم من كذا مسارعةً مِنَّا لهم في الخيرات.
الثالث: أنها مهيئة كافة، وبه قال الكسائي في هذه الآية، وحينئذ يوقف على (وَبَنِينَ) ، لأنّه قد حصل بعد فعل الحسبان نسبة من مسند ومسند إليه نحو: حسبتُ إنّما ينطلق عمرو وإنّما تقوم أنت. وقرأ يحيى بن وثاب: «إِنَّمَا» بكسر الهمزة على الاستئناف، ويكون حذف مفعول الحسبان اقتصاراً واختصاراً. وابن كثير في رواية «يَمدُّهُمْ» بالياء، وهو الله تعالى، وقياسه أن يقرأ «يُسَارع» أيضاً. وقرأ السلمي وابن أبي بكرة «يُسَارع» بالياء وكسر الراء، وفي فاعله وجهان:
أحدهما: الباري تعالى.(14/229)
والثاني: ضمير (ما) الموصولة إن جعلناها بمعنى (الذي) ، أو على المصدر إن جعلناها مصدرية، وحينئذ يكون «يُسَارعُ لَهُمْ» الخبر. فعلى الأوّل يحتاج إلى تقدير عائد أي: يُسَارعُ الله لهم به أو فيه وعلى الثاني لا يحتاج إذ الفاعل ضمير (ما) الموصولة.
وعن (ابن) أبي بكرة المتقدم أيضاً «يُسَارع» بالياء مبنياً للمفعول و «في الخَيْرَاتِ» هو القائم مقام الفاعل، والجملة خبر (أنّ) والعائد محذوف على ما تقدّم.
وقرأ الحسن: «نُسْرِعُ» بالنون من أسْرَعَ، وهي ك «نُسَارع» فيما تقدم. و {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} إضراب عن الحسبان المستفهم عنه استفهام تقريع، وهو إضراب انتقال، والمعنى: أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتفكروا في ذلك الإمداد، أهو استدراج أم مسارعة في الخير روى يزيد بن ميسرة قال: أوحى الله - تعالى - إلى نبيّ من الأنبياء: «أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا وهو أبعد له منّي، ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهي أقرب له منّي» ثم تلا {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} .(14/230)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
قوله: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} الآيات لمَّا ذمَّ من تقدّم بقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} [المؤمنون: 55] ثم قال: {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 56] ، بيّن بعده صفات من يُسارع في الخيرات، فقال: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} ، والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف. وقيل: جمع بينهما للتأكيد. ومنهم من حمل الخشية على العذاب،(14/230)
والمعنى: إن الذي هم من عذاب ربهم مشفقون أي: خائفون من عقابه.
قوله: «مِنْ خَشْيَةِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها لبيان الجنس. قال ابن عطية: هي لبيان جنس الإشفاق.
قال شهاب الدين: وهي عبارة قَلِقَة.
والثاني: أنها متعلقة ب «مُشْفِقُونَ» . قاله الحوفي، وهو واضح.
قوله: {والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} يصدّقون، وآيات الله هي المخلوقات الدالة على وجوده. {والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله - تعالى -، لأن ذلك داخل في قوله: {والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} بل المراد منه نفي الشرك الخفيّ، وهو أن يكون مخلصاً في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه.
قوله: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ} العامة على أنه من الإيتاء، أي: يعطون ما أعطوا.
وقرأت عائشة وابن عباس والحسن والأعمش: «يَأَتُونَ مَا أَتَوْا» من الإتيان، أي: يفعلون ما فعلوا من الطاعات. واقتصر أبو البقاء في ذكر الخلاف على «أَتَوْا» فقط، وليس بجيّد، لأنّه يوهم أن من قرأ «أَتَوْا» بالقصر قرأ «يُؤْتُونَ» من الرباعي وليس كذلك.
قوله: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هذه الجملة حال من فاعل «يُؤْتُونَ» ، فالواو للحال، والمعنى: يعطون ما أعطوه، ويدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان من حقوق الله كالزكوات، والكفارات وغيرها. أو من حقوق الآدميين، كالودائع، والديون وأصناف الإنصاف والعدل. وبيّن أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه «وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» ، أي: إنهم يقدمون على العبادة على وجل من تقصير وإخلال بنقصان.
«روي أن عائشة سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}(14/231)
أهو الذي يزني، ويشرب الخمر، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله؟ فقال عليه السلام:» لا يا بنت الصديق، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، وهو على ذلك يخاف الله «قوله:» أنَّهُمْ «يجوز أن يكون التقدير: وجلة مِنْ أنَّهُمْ أي: خائفة من رجوعهم إلى ربّهم. ويجوز أن يكون: لأنهم أي: سبب الوجل الرجوع إلى ربهم.
قوله: {أولئك يُسَارِعُونَ} هذه الجملة خبر» إنَّ الَّذِينَ «، وقرأ الأعمش:» إنَّهُمْ «بالكسر، على الاستئناف، فالوقف على» وَجِلَةٌ «تام أو كاف.
وقرأ الحسن: «يُسْرعُونَ» من أسْرَعَ. قال الزجاج: يُسَارِعُونَ أبلغ. يعني: من حيث إن المفاعلة تدل على قوة الفعل لأجل المبالغة.
قوله: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} في الضمير في «لَهَا» أوجه:
أظهرها: أنه يعود على الخيرات لتقدمها في اللفظ.
وقيل: يعود على الجنة. وقال ابن عباس: إلى السعادة. وقال الكلبي: سبقوا الأمم إلى الخيرات. والظاهر أن «سَابِقُونَ» هو الخبر، و «لَهَا» متعلق به(14/232)
قُدّم للفاصلة وللاختصاص. واللام، قيل: بمعنى (إلى) ، يقال: سبقت له، وإليه، بمعنى ومفعول «سَابِقُون» محذوف، تقديره: سابقون الناس إليها. وقيل: اللام للتعليل، أي: سابقون الناس لأجلها. وتكون هذه الجملة مؤكدة للجملة قبلها، وهي {يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} ، ولأنها تفيد معنى آخر وهو الثبوت والاستقرار بعدما دلَّت الأولى على التجدد.
وقال الزمخشري: أي: فاعلون السَّبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها قال أبو حيان وهذان القولان عندي واحد. قال شهاب الدين: ليسا بواحد إذ مراده بالتقدير الأول: أن لا يقدر السبق مفعول ألبتة، وإنّما الغرض الإعلام بوقوع السبق منهم من غير نظرٍ إلى مَنْ سبقوه كقوله: «يُحْيِي وَيُمِيتُ» ، و «كُلُوا واشْرَبُوا» ، و «يعطي ويمنع» وغرضه في الثاني تقدير مفعول حذف لدلالة، واللام للعلة في التقديرين وقال الزمخشري أيضاً: أو: إيّاها سابقون. أي: ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا. قال شهاب الدين: يعني أن «لَهَا» هو المفعول ب «سَابِقُونَ» ، وتكون اللام قد زيدت في المفعول، وحسن زيادتها شيئان كل منهما لو انفرد لاقتضى الجواز، كَوْن العامل فرعاً، وكونه مقدّماً عليه معموله. قال أبو حيان: ولا يدل لفظ «لَهَا سَابِقُون» على هذا التفسير، لأنّ سبق الشيء الشيء يدل على تقديم السابق على المسبوق، فكيف يقول: وهم يسبقون الخيرات، هذا لا يصح. قال شهاب الدين: ولا أدري عدم الصحة من أي جهةٍ، وكأنّه تخيّل أنّ السابق يتقدم على المسبوق فكيف يتلاقيان؟ لكنّه كان ينبغي أن يقول: فكيف يقول: وهم ينالون الخيرات، وهم لا يجامعونها، لتقدمهم عليها إلاّ أن يكون قد سبقه القلم فكتب بدل (وهم ينالون) (وهم يسبقون) وعلى كل(14/233)
تقدير فأين عدم الصحة؟ وقال الزمخشري أيضاً: ويجوز أن يكون {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} خبراً بعد خبرٍ ومعنى «وَهُمْ لَهَا» كمعنى قوله:
3801 - أَنْتَ لَهَا أَحْمَد مِنَ بَيْنِ البَشَر ... يعني: أن هذا الوصف الذي وصف به الصالحين غير خارج من حد الوسع والطاقة.
فتحصل في اللام ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى (إلى) .
الثاني: أنها للتعليل على بابها.
والثالث: أنها مزيدة. وفي خبر المبتدأ قولان:
أحدهما: أنه «سَابِقُونَ» وهو الظاهر.
والثاني: أنه الجار كقوله.
3802 - أَنْتَ لَهَا أَحْمَد مِنْ بَيْنِ البَشَر ... وهذا قد رجّحه الطبري، وهو مروي عن ابن عباس.(14/234)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
قوله: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} الآية، لمّا ذكر كيفيّة أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العبادة:
الأوّل: قوله: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} قال المفضّل: الوسع الطاقة.
وقال مقاتل، والضحّاك، والكلبي، والمعتزلة: هو دون الطاقة، لأن الوسع إنما(14/234)
سُمي وُسعاً، لأنه يتسع عليه فعله، ولا يصعب ولا يضيق، فبيّن أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا. قال مقاتل: من لم يستطع القيام فليصلّ قاعداً، ومن لم يستطع الجلوس فَلْيومئ إيماء، ومن لم يستطع الصوم فليفطر.
قوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} «يَنْطِقُ» صفة ل «كِتَابٌ» و «بِالحَقِّ» يجوز أن يتعلق ب «يَنْطِق» ، وأن يتعلق بمحذوف حالاً من فاعله. أي: ينطق ملتبساً بالحق، ونطيره {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] . فشبّه الكتاب بمن يصدر عنه البيان، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان مُحِقًّا. فإن قيل: هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب، إما ان يكونوا محيلين الكذب على الله، أو مجوزين ذلك عليه، فإن أحالوه عليه، فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، وإن جوزوه عليه لم يحصل لهم بذلك الكتاب يقين، لتجويزهم أنه - سبحانه - كتب فيه خلاف ما حصل، وعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب. فالجواب: يفعل الله ما يشاء، وعلى أنه لا يَبْعُد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة.
قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا ينقص من حسناتهم، ولا يُزاد على سيئاتهم ونظيره: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] .
قالت المعتزلة: الظلم إمّا أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب، أو بأن يعذب على ما لم يعمل أو بأن يكلفهم (ما لاَ يَطِيقُونَ) فتكون الآية دالة على كون العبد مُوجداً لفعله، وإلا لكان تعذيبه عليه ظلماً، ويدلُّ على أنه - سبحانه - لا يكلف ما لا يطاق.
وأجيب بأنه لمّا كلف أبا لهب أن يؤمن (والإيمان يقتضي تصديق الله في كل ما أخبر به، ومما أخبر أنّ أبا لهب لا يؤمن) فقد كلّفه (بأن يؤمن) بأن لا يؤمن فيلزمكم (كل ما ذكرتموه) .
قوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} أي: في غفلة وجهالةٍ، يعني الكفار في غفلة. «مِنْ هَذَا» أي: القرآن، أي من هذا الذي بيّناه في القرآن، أو من الكتاب الذي ينطق بالحق(14/235)
أو من هذا الذي هو وصف المشفقين. «وَلَهُمْ» أي: ولهؤلاء الكفار {أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك} أي: أعمال خبيثة من المعاصي «دُون ذَلِك» أي: سوى جهلهم وكفرهم.
وقيل: «دُون ذَلِك» يعني: من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله - عَزَّ وَجَلَّ - قال بعضهم: أراد أعمالهم في الحال. وقيل: بل أراد المستقبل لقوله: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .
وإنما قال: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، لأنها مثبتة في علم الله - تعالى - وفي اللوح المحفوظ، فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة. وقال أبو مسلم: هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه قال بعد وصفهم: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون «وَلَدَيْنَا كِتَابٌ» يحفظ أعمالهم «يَنْطِقُ بالحَقِّ» «فَلاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا» هو أيضاً وصفٌ لهم بالحيرة كأنه قال: وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أن أعمالهم مقبولة أو مردودة {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك} أي: لهم أيضاً من النوافل ووجوه البرِّ سِوَى ما هم عليه إمَّا أعمالاً قد عملوها في الماضي، أو سيعملوها في المستقبل، ثم إنه تعالى رجع بقوله: {حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} إلى وصف الكفار وهذا قول قتادة.
قال ابن الخطيب: وقول أبي مسلم أولى، لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به كان أولى من ردّه إلى ما بعد خصوصاً، وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أنّ أعمالهم محفوظة، كما يحذر بذلك من الشر، وقد يُوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة، ويراد أنّه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو ردِّه، وفي أنه هل أدَّى عمله كما يجب أو قصّر؟
فإن قيل: فما المراد بقوله: «مِنْ هَذَا» وهو إشارة إلى ماذا؟
قلنا: إشارة إلى إشفاقهم ووجهلم بيَّن أنهما مستوليان على قلوبهم.
قوله: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} كقوله: {هُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] .
قوله: {حتى إِذَآ} «حَتَّى» هذه إمّا حرف ابتداء والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها، وإذا الثانية فجائية، وهي جواب الشرط، وإمّا حرف جر عند بعضهم، وتقدّم تحقيقه. وقال الحوفي: «حَتَّى» غاية، وهي عاطفة، و «إذَا» ظرف مضاف لما بعده فيه معنى الشرط، و «إذَا» الثانية في موضع جواب الأولى، ومعنى الكلام عامل في «(14/236)
إذَا» ، والمعنى: جأروا، والعامل في الثانية «أَخَذْنَا» . وهو كلام لا يظهر.
وقال ابن عطية: و «حَتَّى» حرف ابتداء لا غير، و «إذا» الثانية - (التي هي جواب) - تمنعان من أن تكون «حَتَّى» غاية ل «عَامِلُونَ» . قال شهاب الدين: يعني أنّ الجملة الشرطية وجوابها لا يظهر ان تكون غاية ل «عَامِلُونَ» .
وظاهر كلام مكّي أنها غاية ل «عَامِلُونَ» ، فإنه قال: أي: لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البرّ {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم إذا هم يضجون والجُؤار: الصراخ مطلقاً، وأنشد الجوهري:
3803 - يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِي ... ك طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤَارَا
وتقدّم مستوفى في النحل.
فصل
قال المزمخشري: «حَتَّى» هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية.
واعلم أن الضمير في «مُتْرفِيهِم» راجع إلى من تقدّم ذكره من الكفار، لأنّ العذاب لا يليق إلا بهم. والمراد بالمُترفين: رؤساؤهم. قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر.
وقال الضحاك: يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «اللهُّم اشْدُدْ وَطْأَتَك على مُضَر واجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِني يُوسُف» فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجِيفَ. وقيل: أراد عذاب الآخرة. ثم بيّن تعالى أنّهم إذا نزل(14/237)
بهم هذا «يَجْأَرُونَ» أي: ترتفع أصواتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة مَا نَالَهُم.
ويقال لهم على وجه التبكيت: {لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} .
لا تُمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم.(14/238)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} يعني القرآن {فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} وهذا مثل يُضرب لمن يتباعد عن الحق كل التباعد فهو قوله: {فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} أي: ترجعون قهقرى وتتأخرون عن الإيمان، وينفرون عن تلك الآيات، وعن من يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه.
قوله: «عَلَى أَعْقَابِكُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «تَنْكِصُونَ» كقولك نكص على عقبيه.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف، لأنه حال من فاعل (تنْكِصُونَ) قاله أبو البقاء وقرأ أمير المؤمنين «تَنْكُصُونَ» بضم العين، وهي لغة.
قوله: «مُسْتَكْبِرِينَ» حال من فاعل «تَنْكِصُونَ» ، و «بِهِ» فيه قولان:
أحدهما: أنه متعلق ب «مُسْتَكْبِرِينَ» .
والثاني: أنه متعلق ب «سَامِراً» .
وعلى الأوَّل فالضمير للقرآن، لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت باللّيل(14/238)
يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن، وتسميته سحراً وشعراً. أو للبيت شرّفه الله - تعالى - كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم، كانوا يفتخرون به، لأنهم ولاته، والقائمون به. قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل الضمير في «بِهِ» للرسول - عليه السلام -. أو للنكوص المدلول عليه ب «تَنْكِصُونَ» كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] . والباء في هذا كله للسببية، لأنهم استكبروا بسبب القرآن لما تلي عليهم وبسبب البيت لأنهم كانوا يقولون نحن ولاته، وبالرسول لأنهم كانوا يقولون هو منا دون غيرنا وبالنكوص لأنه سبب الاستكبار. وقيل: ضُمّن الاستكبار معنى التكذيب فلذلك عدي بالباء، وهذا يتأتى على أن يكون الضمير للقرآن وللرسول.
وأمّا على الثاني وهو تعلقه ب «سَامِراً» فيجوز أن يكون الضمير عائداً على ما عاد عليه فيما تقدّم إلا النكوص، لأنهم كانوا يسمرون بالقرآن وبالرسول يجعلونهما حديثاً لهم يخوضون في ذلك كما يسمر بالأحاديث وكانوا يسمرون في البيت فالباء ظرفية على هذا و «سَامِراً» نصب على الحال إمّا من فاعل «تَنْكِصُونَ» وإمّا من الضمير في (مُسْتَكْبِرِينَ) .
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة ويروى عن أبي عمرو: «سُمّراً» كذلك إلا أنه بزيادة ألف بين الميم والراء، وكِلاَهُمَا جمع لِسَامِر، وهما جمعان مقيسان لفاعل الصفة نحو ضُرَّب وضُرَّاب في ضَارِب، والأفصح الإفراد، لأنه يقع على ما فوق الواحد بلفظ الإفراد يقال: قَوْمٌ سَامِر ونظيره: «نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً» .(14/239)
والسامِر مأخوذ من السَّمر، وهو سَهَر الليل أو مأخوذ من السَّمَر: وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر، فيجلسون إليه يتحدثون مستأنسين به قال:
3804 - كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ ولَمْ يَسْمُرْ بِمَكةَ سَامِرُ
وقال الراغب: السَّامِر: الليل المظلم يقال: وَلاَ آتِيكَ ما سَمَرَ ابْنَا سَمِيرٍ يعنون الليل والنهار. وقال الراغب: ويقال: سَامِرٌ، وسُمَّارٌ، وسَمَرَةٌ، وسَامِرُونَ. وسَمَرْتُ الشيءَ، وإبل مُسْمَرَةٌ، أي: مُهْمَلَةٌ، والسَّامِريُ: منسوب إلى رجل انتهى.
والسُّمْرَةُ أحج الألوان، والسَّمْرَاء يكنى بها عن الحِنْطَة.
قوله: «تَهْجُرُونَ» قرأ العامة بفتح التاء وضم الجيم، وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها من الهَجْر بسكون الجيم، وهو القطع والصدّ. أي تهجرون آيات الله ورسوله، وتزهدون فيهما فلا تصلونهما.
والثاني: أنها من الهَجَر - بفتحها - وهو الهذيان، يقال: هَجَر المريض هَجَراً أي: هذى فلا مفعول له. ونافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم من أَهْجَر إهْجاراً، أي: أفحش في منطقه قال ابن عباس: يعني كانوا يسبون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(14/240)
وأصحابه وقرأ زيد بن علي، وابن محيصن، وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة مضارع هَجّر بالتشديد، وهو محتمل لأن يكون تضعيفاً للهَجَر أو للهَجْر (أو للهُجْر) وقرأ ابن أبي عاصم كالعامة إلا أنه بالياء من تحت، وهو التفات.
قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} أي: يتدبروا القول، يعني ما جاءهم من القول وهو القرآن من حيث إنه كان مبايناً لكلام العرب في الفصاحة، ومبرأ من التناقض مع طوله، فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومعرفة الصانع، والوحدانية، فيتركوا الباطل، ويرجعوا إلى الحق {أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين} واعلم أنّ إقدامهم على كفرهم وجهلهم لا بُدّ وأن يكون لأحد أمور أربعة:
الأول: أن لا يتأملوا دليل ثبوته، وهو المراد من قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} وهو القرآن يعني: أنه كان معروفاً لهم.
والثاني: أن يعتقدوا أن مجيء الرسول على خلاف العادة، وهو المراد من قوله: {أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ} وذلك أنهم عرفوا بالتواتر مجيء الرسول إلى الأمم السالفة، وكانت الأمم بين مُصدّقٍ ناجٍ وبين مكذّبٍ هالك، أفَمَا دعاهم ذلك إلى تصديق الرسل.
وقال بعضهم: «أَمْ» هاهنا بمعنى «بَلْ» والمعنى بل جاءهم ما لم يأت آباءهم.
والثالث: أن لا يكونوا عالمين بديانته، وحسن خصاله قبله ادعائه النبوة، وهو المراد من قوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} والمعنى: أنهم كانوا يعرفونه قبل أن يدعي الرسالة، وكونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار عن الكذب والأخلاق الذميمة، وكانوا يسمونه الأمين، فكيف كذبوه بعد أن اتفقتْ كلمتهم على تسميته بالأمين.
والرابع: أن يعتقدوا فيه الجنون، فيقولوا إنّما حمله على ادعاء الرسالة جنونه، وهو المراد بقوله {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} . وهذا أيضاً ظاهر الفساد، لأنّهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعقل الناس، فالمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة، والشرائع الكاملة.
وفي كونهم سمّوه بذلك وجهان:(14/241)
أحدهما: أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له، وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم، فنسبوه إلى الجنون لذلك.
والثاني: أنهم قالوا ذلك إيهاماً لعوامهم لئلاّ ينقادوا له، فذكروا ذلك استحقاراً له.
ثم إنه - تعالى - بعد أن عدّ هذه الوجوه، ونبّه على فسادها قال: {بَلْ جَآءَهُمْ بالحق} أي: بالصدق والقول الذي لا يخفى صحته على عاقل {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} لأنهم تمسكوا بالتقليد، وعلموا أنّهم لو أقرُّوا بمحمدٍ لزالت رياستهم ومناصبهم، فلذلك كرهوه.
فإن قيل قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} يدلُّ على أنّ أقلّهم لا يكرهون الحق.
فالجواب: أنه كان منهم من ترك الإيمان أنفَةً من توبيخ قومه، وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق.
قوله: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ} الجمهور على كسر الواو لالتقاء الساكنين وابن وثّاب بضمها تشبيهاً بواو الضمير كما كُسرتْ واو الضمير تشبيهاً بها.
فصل
قال ابن جريج ومقاتل والسّدّيّ وجماعة: الحق هو الله. أي: لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل وقيل: لو اتبع مرادهم، فيسمّي لنفسه شريكاً وولداً كما يقولون {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} .
وقال الفراء والزجاج: المراد بالحق: القرآن. أي: نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدون {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} وهو كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .(14/242)
قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} العامة على إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه، والمراد أتتهم رسلنا. وقرأ أبو عمرو في رواية «آتَيْنَاهُمْ» بالمد أي أعطيناهم، فيحتمل أن يكون المفعول الثاني غير مذكور، ويحتمل أن يكون «بِذِكْرِهِمْ» والباء مزيدة فيه وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمرو أيضاً «أَتَيْتهمْ» بتاء المتكلم وحده. وأبو البرهثم وأبو حيوة والجحدري وأبو رجاء «أَتَيْتَهُمْ» بتاء الخطاب، وهو الرسول - عليه السلام -.
وعيسى: «بِذِكْرَاهُم» بألف التأنيث. وقتادة «نُذَكِّرهُمْ» بنون المتكلم المعظم نفسه مكان باء الجر مضارع (ذَكَّر) المشدد، ويكون (نُذكرُهُمْ) جملة حالية.
وتقدم الكلام في «خَرْجاً» و «خَرَاجاً» في: الكهف.
فصل
قال ابن عباس: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} بما فيه فخرهم وشرفهم. يعني: القرآن، فهو كقوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] أي: شرفكم، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] أي: شرف لك ولقومك {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ} شرفهم «معرِضون» .
وقيل: الذكر هو الوعظ والتذكير التحذير. «أَمْ تَسْأَلُهُمْ» على ما جئتم به «خَرْجاً» أجراً وجعلاً {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} وتقدم الكلام على نظيره.(14/243)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
قوله: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام. {وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ(14/243)
بالآخرة عَنِ الصراط} عن دين الحق «لَنَاكِبُونَ» لعادون عن هذا الطريق، لأنَّ طريق الاستقامة واحد وما يخالفه فكثير.
قوله: «عَنِ الصِّرَاطِ» متعلق ب «نَاكِبُونَ» ولا تمنع لام الابتداء من ذلك على رأي تقدّم تحقيقه. والنُّكُوب والنَّكْبُ: العدول والميل، ومنه: النَّكْبَاء للريح بين ريحين، سُميت بذلك لعدولها عن المهاب، وَنَكَبَتْ حوادثُ الدهرِ، أي: هَبّت هبوب النَّكْبَاء.
والمَنْكِبُ: مجتمع ما بين العَضُدِ والكتف، والأَنْكَبُ: المائل المَنْكِب، ولفلان نِكَابَة في قومه أي: نقابة فتشبه أن تكون الكاف بدلاً من القاف، ويقال: نَكَبَ ونَكَّبَ مخففاً ومثقلاً.
قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ} قحط وجدب وقيل: ضرر القتال والسبي. وقيل: مضار الآخرة وعذابها.
قوله: «للجُّوا» جواب «لَوْ» ، وقد توالى فيه لاَمَان، وفيه تضعيف لقول من قال: جوابها إذا نفي ب (لم) ونحوها مما صدر فيه حرف النفي بلام أنه لا يجوز دخول اللام ولو قلت: لو قام لَلَمْ يقم عمرو، لَمْ يجز، قال: لئّلا يتوالى لامان، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية، ولم يمتنع، وإلا فما الفَرْق بين النفي والإثبات في ذلك واللّجَاجُ: التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، ومنه اللَّجَّة: بالفتح: لتردد الصوت، كقوله:
3805 - في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاَناً عن فُلِ ...(14/244)
ولجَّة البحر لتردد أمواجه، ولَجَّةُ الليل لتردّد ظلامه. واللَّجْلَجَةُ تردّد الكلام، وهو تكرير لَجَّ، ويقال: لَجَّ والتَجَّ. ومعنى الآية: لتمادوا في طغيانهم وضلالهم وهم متحيرون لم ينزعوا عنه.(14/245)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب} قال المفسرون: لما أسلم ثُمامة بن أثال الحنفي، ولحق باليمامة، ومنع المِيرَة عن أهل مكة، ودَعَا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط حتى أكلوا العِلْهِز، جاء أبو سفيان إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: أنشدك الله والرحم، ألَسْتَ تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال: «بَلَى» . فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فادعُ الله يكشف عنا هذا القحط، فدعا فكشف عنهم، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا. وقال الأصم: العذاب هو ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر يعني أن ذلك مع شدة ما دعاهم إلى الإيمان.
وقيل: المراد من عُذِّبَ من الأمم الخالية. «فَمَا اسْتَكَانُوا» أي: مشركو العرب.
قوله: «فَمَا اسْتَكَانُوا» تقدم وزن (استكان) في آل عمران.
وجاء الأول ماضياً والثاني مضارعاً، ولم يجيئا ماضيين، ولا مضارعين ولا جاء الأول مضارعاً والثاني ماضياً، لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه، وهو بالاستكانة أليق، بخلاف التضرع فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال وأما الاستكانة فقد توجد منهم.(14/245)
وقال الزمخشري: فإن قلت: هَلاَّ قيل: وما تَضرّعوا (أو) فما يستكينون.
قلت: لأنّ المعنى محنّاهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة، وما مِنْ عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد.
فظاهر هذا أنَّ (حَتَّى) غاية لنفي الاستكانة والتضرّع. ومعنى الاستكانة طلب السكون، أي: ما خضعوا وما ذلوا إلى ربهم، وما تضرعوا بل مضوا على تمرّدهم.
قوله: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} . قرئ «فَتَّحنَا» بالتشديد.
قال ابن عباس ومجاهد: يعني القتل يوم بدر. وقيل: الموت وقيل: قيام الساعة. وقيل: الجوع. {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} آيسون من كل خير. وقرأ السلمي: «مُبْلَسُون» - بفتح اللام - من أبلسه، أي: أدخله في الإبلاس.
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار} الآية.
العطف لا يحسن إلاّ مع المجانسة، فأي مناسبة بين قوله: {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار} وبين ما قبله؟
والجواب: كأنّه تعالى لمّا بيّن مبالغة الكفار في الإعراض عن سماع الأدلة والاعتبار، وتأمّل الحقائق قال للمؤمنين: هو الذي أعطاكم هذه الأشياء ووفّقكم لها تنبيهاً على أنَّ من لم يُعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، لقوله: {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ} [الأحقاف: 26] وأفرد السمع والمراد الأسماع ثم قال: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} .
قال أبو مسلم: وليس المراد أنَّ لهم شكراً وإن قَلّ، لكنه كما يقال للكفور والجاحد للنعمة: ما أقلّ شكر فلان.
ثم قال: {وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض} أي: خلقكم، قال أبو مسلم: ويحتمل بسطكم فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] أي: هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين، ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه، فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشراً إليه لا بمعنى المكان. ثم قال: {وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة(14/246)
وأنّه سبحانه - وإن أنعم بها، فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب. ثم قال: {وَلَهُ اختلاف الليل والنهار} أي: تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان، ووجه النعمة بذلك معلوم. قال الفراء: جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض. ثم قال: «أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» قرأ أبو عمرو في رواية يعقوب: بياء الغيبة على الالتفات والمعنى: أفلا تعقلون ما ترون صُنْعَهُ فَتعْتبرونَ.(14/247)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
قوله تعالى: {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون} أي: كذبوا كما كذب الأولون {قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لمحشورون، قالوا ذلك منكرين متعجبين.
واعلم أنه - سبحانه - لما أوضح دلائل التوحيد عقّبه بذكر المعاد، فذكر إنكارهم البعث مع وضوح أدلته، وذكر أن إنكارهم ذلك تقليد للأولين، وذلك يدل على فساد القول بالتقليد ثم حكى قولهم: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ} كأنهم قالوا إنّ هذا الوعد كما وقع منه - عليه السلام - فقد وقع قديماً من سائر الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد، وظنُّوا أنّ الإعادة تكون في الدنيا، ثم قالوا: لمّا لم يكن ذلك فهو من أساطير الأولين. والأساطير جمع أسْطار، وهي جمع سَطْر، أي: ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له، أو جمع أُسْطُورَة.(14/247)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ} الآية. اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود(14/247)
من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة، وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان، لأنّ القوم كانوا مُقرين بالله، وقالوا: نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى، فقال تعالى: قل يا محمد مُجيباً لَهُم يعني يا أهل مكة {لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ} من الخلق {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} خالقها ومالكها «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» فَلا بُدّ لهم من ذلك، لأنهم يقرون أنها مخلوقة، فقل لهم إذا أقَرُّوا بذلك: «أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ» فتعلمون أنّ من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت. وفي قوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} سؤال يأتي في قوله: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ووجه الاستدلال به على نفي عبادة الأوثان من حيث أن عبادة من خلقهم، وخلق الأرض وكل من فيها هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع.
وقوله: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} معناه الترغيب في التدبّر ليعلموا بطلان ما هم عليه.
قوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ووجه الاستدلال بها على الأمرين كما تقدّم. وإنما قال: «أَفَلاَ تَتَقُّونَ» أي: تحذرون، تنبيهاً على أنَّ اتقاء عذاب الله لا يحصل إلاَّ بترك عبادة الأوثان، والاعتراف بجواز الإعادة.
قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} قرأ أبو عمرو «سَيُقُولونَ اللَّهُ» في الأخيرتين من غير لام جر، ورفع الجلالة جواباً على اللفظ لقوله «مَنْ» قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} ، لأنّ المسؤول به مرفوع المحل وهو «مَنْ» فجاء جوابه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِم الموضعان في مصاحف البصرة بالألف.
والباقون: «لِلَّهِ» في الموضعين باللام وهو جواب على المعنى؛ لأنه لا فرق بين قوله: {مَن رَّبُّ السماوات} وبين قوله: لِمَن السَّمَوات، ولا بين قوله: «مَنْ بِيَدِهِ» ولا لمن له الإحسان، وهذا كقولك: مَنْ رَبّ هذه الدار؟ فيقال: زيدٌ، وإن شئت(14/248)
لزيدٍ، لأنّ قولك: من ربُّه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد، لأنّ السؤال لا فرق فيه بين أن يقال: لمن هذه الدار؟ ومن ربُّها؟ واللام مرسومة في مصاحفهم فوافق كل مصحفه.
ولم يختلف في الأول أنه «لِلَّهِ» ، لأنه مرسوم باللام وجاء الجواب باللام كما في السؤال ولو حذفت من الجواب لجاز، لأنه لا فرق بين: «لِمَنِ الأَرْضُ» ومَنْ رَبّ الأرض، إلا أنه لم يقرأ به أحد.
قوله: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} (لمّا ذكر الأرض أولاً والسماء ثانياً، عمَّم الحكم هاهنا بقوله: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ) ويدخل في الملكوت المِلْك والمُلْك والتاء فيه على سبيل المبالغة.
«وَهُوَ يُجِيرُ» أي: يؤمن من يشاء، {وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} أي: لا يؤمن من أخافه الله، يقال: أجرت فلاناً على فلان إذا منعته منه.
قوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه سؤال: وهو كيف قال: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم حكى عنهم «سَيَقُولُونَ اللَّهُ» وفيه تناقض؟ والجواب: لا تناقض، لأنّ قوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} لا ينفي علمهم بذلك وقد يُقال مثل ذلك في الحِجَاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم بما يورد من ذلك.
وقوله: {فأنى تُسْحَرُونَ} أي: تصرفون عن توحيده وطاعته، والمعنى كيف يحتمل لكم الحق باطلاً. {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق} بالصدق، «وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» فيما يدعون من الشرك والولد، وقرئ هنا ببعض ما قرئ به في نظيره. فقرأ ابن إسحاق: «أَتَيْتُهُمْ» بتاء الخطاب، وغيره بتاء المتكلم.(14/249)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
قوله تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} الآية. وهذه الآية كالتنبيه على الردّ على الكفار الذين يقولون: الملائكة بنات الله. وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} ردّ(14/249)
على اتخاذهم الأصنام آلهة، ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية.
ثم إنه تعالى ذكر الدليل بقوله: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} أي: لانفرد كل واحد من الآلهة بما خلقه، ولم يرض أن يضاف خلقه إلى غيره، ومنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} أي: طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم، وحين لم تروا ذلك فاعلموا أنه إله واحد.
قوله: «إذاً» جواب وجزاء، قال الزمخشري: فإن قلت: «إذاً» لا تدخل إلاَّ على كلام هو جواب وجزاء، فكيف وقع قوله: «لَذَهَبَ» جواباً وجزاءً ولم يتقدّم شرط ولا سؤال سائل قُلْتُ: الشرط محذوف تقديره: لَوَ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ، حذف لدلالة {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} .
وهذا رأي الفراء، وقد تقدّم في الإسراء في قوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73] ثم إنه تعالى نَزّه نفسه فقال: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} من إثبات الولد والشريك.
قرئ: «تَصِفُونَ» بتاء الخطاب وهو التفات.
قوله: «عَالِمُ الغَيْبِ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: بالجر على البدل من الجلالة. وقال الزمخشري: صفة لله. كأنه محض الإضافة فتعرف المضاف.
والباقون: بالرفع على القطع خبر مبتدأ محذوف.
ومعنى الآية: أنه مختص بعلم الغيب والشهادة، فغيره وإن علم الشهادة لكن لم(14/250)
يعلم الغيب، لأن الشهادة لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال: ( «فَتَعَالَى اللَّهُ) عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
قوله: «فَتَعَالَى» عطف على معنى ما تقدم، كأنّه قال علم الغيب فتَعَالَى كقولك: زيد شجاع فعظمت منزلته أي: شجع فعظمت. أو يكون على إضمار القول، أي: أقول فتعالى الله. قوله: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي: ما أوعدتهم من العذاب قرأ العامة «تُرِيَنِّي» بصريح الياء. والضحاك: «تُرِئَنِّي» بالهمز عوض الياء، وهذا كقراءة: «فَإِمَّا تَرِئَنَّ» «لتَرؤُنَّ» بالهمز، وهو بدل شاذ.
قوله: {رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي} جواب الشرط، و «رَبِّ» نداء معترض بين الشرط وجزائه، وذكر الربّ مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع.
فإن قيل: كيف يجوز أن يجعل الله نبيه مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟
فالجواب: يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه.
قوله: {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ} هذا الجار متعلق ب «لَقَادِرُونَ» أو بمحذوف على خلاف سبق في أن هذه اللام تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها. والمعنى: أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد في الدنيا. وقيل: المراد عذاب الآخرة.(14/251)
قوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} وهو الصفح والإعراض والصبر على أذاهم.
قال الزمخشري: قوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} أبلغ من أن يقال: بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل، (كأنه قال ادفع بالحُسنى السيئة) والمعنى الصفح عن إساءتهم، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان، وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة ...
قيلك هذه الآية نُسخت بآية السيف، وقيل: محكمة، لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دينٍ أو مروءة. ثم قال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي: يقولون من الشرك.(14/252)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
قوله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} الآية لما أدَّب رسوله بقوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] أتبعه بما يقوي على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين:
أحدهما: من همزات الشياطين. والهَمَزَاتُ جمع همزَة، وهي النخسة والدفع بيدٍ وغيرها، وهي كالهزِّ والأزّ، ومنه مِهْمَازُ الرائض، والمِهْمَاز مفْعَالٌ من ذلك كالمِحْرَاث من الحَرْث والهَمَّازُ الذي يصيب الناس، كأنه يدفع بلسانه وينخس به.
فصل
معنى «أعُوذُ بِكَ» أمتنع وأعتصم بك {مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} نزعاتهم وقال الحسن:(14/252)
وساوسهم. وقال مجاهد: نفخهم ونفثهم. وقال أهل المعاني: دفعهم بالإغواء إلى المعاصي. قال الحسن: كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة: «لا إله إلاّ الله ثلاثاً، الله أكبر ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من هَمَزَاتِ الشياطين هَمْزِهِ ونَفْثِه ونَفْخِه» .
فقيل: يا رسول الله ما همزه؟ قال: «الموتة التي تأخذ ابن آدم» أي: الجنون. قيل: فَمَا نَفْثه؟ قال: «الشعْر» قيل: فما نفخُه؟ قيل: «الكِبْر» .
والثاني: قوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} أي: في شيء من أموري، وإنما ذكر الحضور، لأن الشيطان إذا حَضَر وسوس.
قوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت} الآية في (حَتَّى) هذه أوجه:
أحدها: أنها غاية لقوله: «بِمَا يَصِفُونَ» .
والثاني: أنها غاية «لِكَاذِبُونَ» .
ويبين هذين الوجهين قول الزمخشري: «حَتَّى» يتعلق ب «يَصِفُونَ» أي: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد. ثم قال: أو على قوله: «وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» . قال شهاب الدين: قوله: (أو على قوله كذا) كلام محمول على المعنى، إذ التقدير: «حَتَّى» معلقة على «يَصِفُونَ» أو على قوله: «لَكَاذِبُونَ» وفي الجملة فعبارته مشكلة.
الثالث: قال ابن عطية: «حَتَّى» في هذا الموضع حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف، والأوَّل أبْيَن، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود (ذكره) .
قال أبو حيان: فتوهم ابن عطية أن «حَتَّى» إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية، وهي وإن كانت حرف ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر.
وقال أبو البقاء: (حَتَّى) غاية في معنى العطف. قال أبو حيّان: والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون «حَتَّى» غاية لها يدل عليها ما قبلها، التقدير: فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جَاءَ، ونظير حذفها قول الشاعر:(14/253)
3806 - فَيَا عَجَبا حَتَّى كُليْبٌ تسُبُّني ... أي: يسبني الناس كُلهم حتى كليب إلاَّ أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة.
قوله
: {رَبِّ
ارجعون
} . في قوله: «ارْجِعُونِ» بخطاب الجمع ثلاثة أوجه:
أجودها: أنه على سبيل التعظيم كقوله:
3807 - فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
وقال الآخر:
3808 - أَلاَ فَارْحَمُونِي يَا إلهَ مُحَمَّدٍ ... وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال: إنه لم نعلم أحداً أجاز للداعي أن يقول: يَا رَحْيَمُون قال: لئّلا يُوهم خلاف التوحيد، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
الثاني: أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله: «ارْجِعُونِ» . ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف، أي: ملائكة ربي، فحذف المضاف ثم التف إليه في عود الضمير كقوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] . ثم قال: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] التفاتاً ل «أهل» المحذوف.
الثالث: أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال: ارْجعنِي ارجعنِي نقله أبو(14/254)
البقاء وهو يشبه ما قالوه في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثنّى الفعل للدلالة على ذلك، وأنشدوا:
3809 - قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِل ... أي: قف قف.
فصل
اعلم أنّه تعالى أخبر أنَّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت (قَالَ رَبِّ ارجعون} ) ولم يقل: ارجعني، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب. وقال الضحّاك: كنت جالساً عند ابن عباس فقال: مَنْ لَمْ يُزَكِّ ولم يَحُج سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل: إنما يسأل ذلك الكفار. فقال ابن عباس: أنا أقرأ عليك به قرآناً {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 10] .
وقال عليه السلام: «إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول: {رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} » .
واختلفوا في وقت مسألة الرجعة، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل: بل عند معاينة النار في الآخرة، وهذا القائل إنَّما ترك ظاهر هذه الآية لمَّا أخبر الله - تعالى - عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة.
قوله: {لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} أي: ضيّعتُ. أي: أقول لا إله إلاَّ الله.(14/255)
وقيل: أعمل بطاعة الله تعالى. وقيل: أعمل صالحاً فيما قصّرتُ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية، وهذا أقرب، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه. فإن قيل: قوله تعالى: {لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً} كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك.
فالجواب: ليس المراد ب «لَعَّلَ» الشك فإِنَّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما سأل، فهو مِثْل من قَصّر في حق نفسه، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير، فيقول: مكنُونِي من التدارك لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك.
ويحتمل أيضاً أنَّ الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردُوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] .
قوله: «كَلاَّ» كلمة ردع وزجر أي: لا ترجع. معناه المنع طلبوا، كما يقال لطالب الأمر المُسْتبعد: هَيْهَات. ويحتمل أن يكون ذلك إخباراً بأنهم يقولون ذلك، وأنّ هذا الخبر حق، فكأنّه تعالى قال: حقاً إنّها كلمة هو قائلها. والأول أقرب.
قوله: «إِنَّهَا كَلِمةٌ» من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد» يعني قوله:
3810 - أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِل ... وقد تقدم طرف من هذا في آل عمران. و «هُوَ قَائِلُهَا» صفة ل «كَلِمَة» .(14/256)
والمراد بالكلمة: سؤاله الرجعة: كلمة هو قائلها ولا ينالها، وقيل: معناه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه.
قوله: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ» أي: أمامهم وبين أيديهم. «بَرْزَخٌ» البرزخ: الحاجز بين المسافتين وقيل: الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر، وهو بمعنى الأوّل.
وقال الراغب: أصلة برْزَة بالهاء فعُرّب، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.
قال مجاهد: حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. (وقال قتادة: بقيّة الدنيا) .
قال الضحاك: البرزخ ما بين الموت إلى البعث. وقيل: القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون.(14/257)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور} الآية لمَّا قال: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] ذكر أحوال ذلك اليوم فقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور} وقرأ العامة بضم الصاد وسكون الواو، وهو آلة إذا نُفِخ فيها ظهر صوت عظيم جعله الله علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات، قال عليه السلام: «إِنَّه قَرْنٌ يُنفخُ فِيه» وقرأ ابن عباس والحسن: بفتح الواو جمع صُورة. والمعنى: فإذا نُفخ في الصور أَرْوَاحها وقرأ أبو رزين: بكسر الصاد وفتح الواو، وهو شاذ. هذا عكس (لُحَى) بضم اللام جمع (لِحْية) بكسرها. وقيل: إنّ النفخ في الصور استعارة، والمراد منه البعث والحشر.(14/257)
قوله: «فَلا أَنْسَابَ» الأنساب جمع نَسَب، وهو القرابة من جهة الولادة، ويُعبّر به عن التواصل، وهو في الأصل مصدر قال:
3811 - لاَ نَسَبَ اليَوْمَ وَلاَ خُلَّةً ... اتسعَ الخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ
قوله: «بَيْنَهُم» يجوز تعلقه بنفس «أَنْسَابَ» ، وكذلك «يَوْمَئِذٍ» ، أي: فلا قربة بينهم في ذلك اليوم. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة ل «أَنْسَابَ» ، والتنوين في «يَوْمَئِذٍ» عوض عن جملة تقديره: يومئذ نفخ في الصور.
فصل
من المعلوم أنَّه تعالى إذا أَعادهم فالأنساب ثابتة، لأنّ المعاد هو الولد والوالد، فلا يجوز أن يكونَ المراد نفي النسب حقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه:
أحدها: أنّ من حق النسب أنْ يقع به التعاطف والتراحم كما يُقال في الدنيا: أسألك باللَّه والرحم أن تفعل كذا، فنفى سبحانه ذلك من حيث أنَّ كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه، وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب كما أنَّ الإنسان في الدنيا إذا كان في آلام عظيمة ينسى ولده ووالده.
وثانيها: أنَّ من حق النسب أنْ يحصل به التفاخر في الدنيا، وأنْ يسأل البعض عن أحوال البعض، وفي الآخرة لا يَتَفَرغونَ لذلك.
وثالثها: أنّ ذلك عبارة عن الخوف الشديد، فكل امرئٍ مشغول بنفسه عن نسبه وأخيه وفصيلته التي تؤويه. قال ابن مسعود: يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينادي منادٍ ألا إنّ هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه، فيفرح المرء يومئذ(14/258)
أن يثبت له الحق على أمه أو أخيه أو أبيه ثم قرأ ابن مسعود {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} وروى عطاء عن ابن عباس: أنّها النفخة الثانية.
{فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} أي: لا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا مَنْ أنت؟ ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أنّ الأنساب تنقطع.
فإن قيل: أليس قد جاء في الحديث:
«كل سَبَبٍ ونسب ينقطع إلا سَبَبِي ونَسَبِي» قيل معناه: لا ينفع يوم القيامة سبب ولا نسب إلاّ سببه ونسبه، وهو الإيمان والقرآن.
فإن قيل: قد قال ههنا «وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ» وقال: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10] . وقال {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 27] .
فالجواب: رُوي عن ابن عباس أنّ للقيامة أحوالاً ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عِظَم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة يتساءلون. وقيل: إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شُغلوا بأنفسهم عن التساؤل، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا: {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] . وقيل: المراد لا يتساءلون بحقوق النسب. وقيل: «لاَ يَتَسَاءَلُونَ» صفة للكفار لشدة خوفهم، وأمّا قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 27] فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها. وعن الشعبي قالت عائشة: «يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} فقال عليه السلام» ثلاثة مواطن تذهل فيها كُلُّ مرضعةٍ عما أرضعت عند رؤية القيامة وعند الموازين وعلى جسر جهنم «.
قوله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون} لمَّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء. قيل المراد بالموازين الأعمال فمن أُتِيَ بِمَا لَهُ قدر وخطر فهو الفائز(14/259)
المفلح، ومن أتي بِمَا لاَ وزن له ولا قدر فهو الخاسر. وقال ابن عباس: الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 105] أي: قدراً وقيل: ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة، والسيّئات في أقبح صورة. وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء.
قوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ} قال ابن عباس: غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. وقيل: امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب.
قوله: {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} يجوز أن يكون» خَالِدُونَ «خبراً ثانياً ل (أُولَئِكَ) ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم خالدون. وقال الزمخشري: {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} بدل من» خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ «، ولا محل للبدل والمبدل منه، لأنّ الصلة لا محل لها.
قال أبو حيان: جعل» فِي جَهَنَّمَ «بدلاً من (خَسِرُوا) ، وهذا بدل غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به» فِي جَهَنَّمَ «أي: استقروا في جهنم وهو بدل شيء من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم. قال شهاب الدين: فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل دون» خالدون «، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلاً، بدليل قوله بعد ذلك: أو خبراً بعد خبر، ل» أُولَئِكَ «أو خبر مبتدأ محذوف. وهذان إنّما يليقان ب» خَالِدُونَ «، وأما» فِي جهنَّم «فمتعلق به، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب، وأيضاً فيصير» خَالِدُونَ «معلقاً.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون الموصول نعتاً لاسم الإشارة، وفيه نظر، إذ الظاهر كونه خبراً له.
قوله: «تَلْفَحُ» يجوز استئنافه، ويجوز حَالِيته، ويجوز كونه خبراً ل «أُولَئِك» .(14/260)
واللَّفْحُ إصابة النار الشيء بِوَهجها وإحراقها له، وهو أشدُّ من النفح، وقد تقدّم النفح في الأنبياء. قوله: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} الكُلُوح تشمير الشفة العليا، واسترخاء السفلى.
قال عليه السلام في قوله: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال: «تَشْويه النَّارُ فَتَقْلِصُ شَفَتُه العُلْيَا حَتّى تَبْلغ وَسَطَ رَأْسِه، وتَسْترخِي شَفَتُهُ السُفْلَى حَتّى تَبْلغَ سُرَّتَهُ» وقال أبو هريرة: يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ضرسه مثل أحد، وشفاههم عند سررهم سود زرق خنق مقبوحون. ومنه كُلُوح الأسد أي: تكشيره عن أنيابه، ودهرٌ كالح (وبرد كالح) أي: شديد وقيل الكُلُوح: تقطيب الوجه وتسوره، وكَلَحَ الرجلُ يَكْلَحُ كُلُوحاً (وكُلاَحاً) .
قوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} يعني القرآن تخوفون بها {فكنتم بها تكذبون} قالت المعتزلة دلّت الآية على أنهم إنّما عُذِّبُوا بسوء أفعالهم، ولو كان فعل العبد بخلق الله لما صحّ ذلك.
والجواب: أن القادر على الطاعة والمعصية إنْ صدرت المعصية عنه لا لِمُرجح ألبتّة كان صدورها عنه اتفاقيّاً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق العقاب، وإن كان لمرجح فذلك المرجح ليس من فعله وإلاّ لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عنه اضطرارياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق الثواب.(14/261)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
قوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} الآية. لمّا قال سبحانه {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 105] ذكر ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} قرأ الأخوان: «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف. والباقون بكسر الشين وسكون القاف. وهما مصدران بمعنى واحد فالشقاوة كالقساوة، وهي لغة فاشية، والشقوة كالفطنة والنعمة، وأنشد الفراء:
3812 - كُلِّفَ مِنْ عَنَائِهِ وشِقْوَتِهْ ... بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغة الحجاز.
قال أبو مسلم: «الشقْوَة من الشقَاء كجِرْيَة الماء، والمصدر الجَرْي، وقد يجيء لفظ فِعْلَة، والمراد به الهيئة والحال فيقول: جِلْسَة حَسنة ورِكْبَة وقِعْدَة، وذلك من الهيئة، وتقول: عاش فلان عِيشَةً طيبة، ومات مِيتَةً كريمة، وهذا هو الحال والهيئة، فَعَلَى هذا المراد من الشقْوَة حال الشقاء. وقرأ قتادة والحسن في رواية كالأخوين إلاّ أنهما كسرا الشين، وشبل في اختياره كالباقين إلاّ أنّه فتح الشين.(14/262)
قال الزمخشري:» غَلَبَتْ عَلَيْنَا «ملكتنا من قولك غَلَبَنِي فلان على كذا إذا أخذه منك (وامتلكه) والشَّقاوة سوء العاقبة.
فصل
قال الجبائي: المراد أن طلبنا اللذّات المحرّمة، وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المُسبب على السبب، وليس هذا باعتذار فيه، لأن علمهم بأن لا عُذر لهم فيه ثابت عندهم، ولكنه اعتراف بقيام الحجة عليهم في سوء صنيعهم.
وأجيب: بأنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذّات المحرّمة، وطلب تلك اللذّات حاصل باختيارهم أو لا باختيارهم، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر، فَلِم لا يجوز في كل الحوادث ذلك؟ وحينئذ يَنْسد عليك باب إثبات الصانع، وإن افتقر إلى مُحدث فمحدثه إمَّا العبد أو الله، فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه:
أحدها: أنَّ قدرة العبد صالحة للفعل والترك، فإن توقَّف صدور تلك الإرادة عنه إلى مرجح آخر، عاد الكلام فيه، ولزم التسلسل، وإن لم يتوقف على المرجّح، فقد جوزتَ رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجّح، وذلك يسد باب إثبات الصانع.
وثانيها: أنَّ العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال، ولا كيفيّتها، والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له، وإلاّ لبطلت دلالة الأحكام، ولا يقال علم العلم.
وثالثها: أَنَّ أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل، بل لا يقصد إلا (ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد إلاّ) تحصيل العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للداعي والبواعث هو الله، ثم إنَّ الداعية إِذا كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة، وإن كانت سائقة إلى الشرّ كانت شقاوة.
وقال القاضي، قولهم {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} دليل على أنه لا عذر لهم لاعترافهم، فلو كان كفرهم من خلقه وإرادته، وعَلِمُوا ذلك، لكان ذكرهم ذلك أولى وأقرب إلى العذر.
والجواب: قد بيّنا أنّ الذي ذكروه ليس إلاّ ذلك، ولكنهم مُقرّون أن لا عذر لهم فلا جرم قيل: «اخْسَئُوا فِيهَا» .
والوجه الثاني لهم في الجواب: قولهم: {وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} أي: عن الهدى،(14/263)
وهذا الضلال الذي جعلوه كالعِلّة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه، وهو باطل، فلم يبق إلاّ أن يكون ذلك الضلال (عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم، وما ذلك إلاّ خلق الداعي إلى الضلال) . ثم إنّ القوم لما اعتذرُوا بهذين العُذرين، قالوا: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا} أي: من النار «فَإِنْ عُدْنَا» لما أنكرنا «فَإِنَّا ظَالِمُونَ» فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} .
فإن قيل: كيف يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أنَّ عقابهم دائم؟ قلنا: يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على وجه الغوث والاسترواح.
قوله: «اخْسَئُوا فِيهَا» أقيموا فيها، كما يقال للكلب إذا طُرد اخسأ؛ أي: انزجر كما تنزجر الكلاب إذا زُجرت، يقال: خسأ الكلب وخَسَأَ بِنَفْسِه. «وَلاَ تُكَلمون» في رفع العذاب فإِنّي لا أرفعه عنكم، وليس هذا نهياً، لأنّه لا تكليف في الآخرة.
قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلّمون بعده إلا الشهيق والزفير. ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يَفْهَمُون ولا يُفْهمُون.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} الآية. العامة على كسر همزة (إِنَّهُ) استئنافاً. وأُبّي والعتكي: بفتحها أي: لأنه والهاء ضمير الشأن. قال البغوي: الهاء في إنه عماد، وتسمى المجهولة أيضاً.
قوله: «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرياً» قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص بكسر السين. والباقون: بضمها في المَوْضعين.
و (سِخْريًّا) مفعول ثان للاتخاذ. واختلف في معناها فقال الخليل(14/264)
وسيبويه والكسائي وأبو زيد: هما بمعنى واحد نحو دُريّ ودِريّ، وبَحْر لُجِّي ولِجِّي بضم اللام وكسرها. وقال يونس: إن أريد الخدمة والسخرة فالضم لا غير، وإن أريد الهزء فالضم والكسر ورَجّح أبو عليّ وتَبعه مكي قراءة الكسر، قالا: لأنّ ما بعدها أَلْيَق لها لقوله: {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} . ولا حجة فيه، لأنّهم جمعوا بين الأمرين سَخروهم في العمل، وسَخِرُوا منهم استهزاءً. والسُّخْرَة بالتاء الاستخدام وسُخْرِيًّا بالضم منها، والسُّخْر بدونها الهُزء والمكسور منه، قال الأعشى:
3813 - إِنِّي أَتَانِي حَدِيثٌ لاَ أُسَرُّ بِهِ ... مِنْ علْو لاَ كذبٌ فِيهِ ولاَ سَخَرُ
ولم يختلف السبعة في ضم ما في الزخرف، لأنّ المراد الاستخدام، وهو يُقوِّي قول من فرّق بينهما، إلاَّ أنَّ ابن محيصن وابن مسلم وأصحاب عبد الله كَسَرُوه أيضاً، وهي مُقَوية لقول من جعلهما بمعنى والياء في سُخْريًّا وسِخْريًّا للنسب زيدت(14/265)
للدلالة على قوة الفعل، فالسُّخْريّ أقوى من السُّخْر، كما قيل في الخصوص خُصُوصيّة دلالة على قوة ذلك.
قال معناه الزمخشري.
فصل
اعلم أنّه تعالى قرعهم بأمر يتصل بالمؤمنين قال مقاتل: إن رؤوس قريش مثل أبي جهل، وعقبة وأبيّ بن خلف، كانوا يستهزؤون بأصحاب محمدٍ، ويضحكون بالفقراء منهم، كبلال، وخباب، وعمّار، وصهيب، والمَعْنى: اتخذتموهم هزواً «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ» بتشاغلكم بهم على تلك الصفة {ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} ونظيره: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] ثم إنّه تعالى ذكر ما يوجب أسفهم وخسرانهم بأَنْ وصف ما جازى به أولئك فقال: {جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} أي: جزيتهم اليوم الجزاء الوافر.
قوله: {أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون} قرأ الأخوان بكسر الهمزة، استئنافاً.
والباقون بالفتح، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه تعليل فيكون نصباً بإضمار الخافض أي: لأنهم هم الفائزون، وهي موافقة للأُولى فإنّ الاستئناف يعلل به أيضاً.
والثاني: قاله الزمخشري، ولم يذكر غيره، أنه مفعول ثان ل «جَزَيْتُهُمْ» أي: بأنهم أي: فوزهم وعلى الأَوّل يكون المفعول الثاني محذوفاً.(14/266)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} قرأ الأخوان: {قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ} {قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ} بالأمر في الموضعين وابن كثير كالأخوين في الأوَّل فقط. والباقون: «قَالَ» في الموضعَين على الإخبار عن الله أو الملك. والفعلان مرسومان بغير ألف في مصاحف الكوفة، وبألف في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة. فحمزة والكسائي وَافَقَا مصاحف الكوفة، وخالفها عاصم أو وافقها على تقدير حذف الألف من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحف مكة، وفي الأَوّل غيرها، أو إيّاها على تقدير حذف الألف وإرادتها. وأمّا الباقون فوافقُوا مصاحفهم في الأوّل والثاني. فَعَلَى الأمر معنى الآية: قُولُوا أَيُّها الكَافِرُونَ، فأخرج الكلام مخرج الواحد، والمراد منه الجماعة إذ كان معناه مفهوماً. ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم، أي: قل أيها الكافرون. وأمّا على الخبر أي قال الله - عزَّ وجلَّ - للكفار يوم البعث {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض} أي: في الدنيا أو في القبور. و (كَمْ) في موضع نصب على ظرف الزمان، أي: كم سنة، و «عَدَد» بدل من «كَمْ» قاله أبو البقاء، وقال غيره: «عَدَدَ سَنِينَ» تمييز ل «كَمْ» وهذا هو الصحيح. وقرأ الأعمش والمفضّل عن عاصم: «عَدَداً» منوناً، وفيه أوجه:
أحدها: أن يكون عدداً مصدراً أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدّم على المنعوت قاله صاحب اللوامح. يعني: أنَّ الأصل سنين عدداً. أي: معدودة، لكنّه يلزم تقديم(14/267)
النعت على المنعوت، فصوابُه أن يقول فانتُصب حالاً هذا مذهب البصريين.
والثاني: أن «لَبِثْتُم» بمعنى: عددتم، فيكون نصب «عَدَداً» على المصدر و «سَنِينَ» بدل منه. قاله صاحب اللوامح أيضاً. وفيه بُعْد لعدم دلالة اللبث على العدد.
والثالث: أنَّ «عَدَداً» تمييز ل «كَمْ» و «سِنِينَ» بدل منه.
فصل
الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ، لأنّهم كانُوا ينكرون لبثاً في الآخرة أصلاً، ولا يُعدون اللبث إلاّ في دار الدنيا، ويظنون أنَّ بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة. فلمّا حصلوا في النار، وأيقنوا دوامها، وخلودهم فيها سألهم {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض} مُنبِّهاً لهم على ما ظَنُّوه دائماً طويلاً، وهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه، فحينئذٍ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا، حيث تيقّنوا خلافه، وهذا هو الغرض من السؤال فإنْ قيل: فكيف يصح أن يقولوا في جوابهم: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ولا يقع الكذب من أهل النار؟ فالجواب: لعلّهم نسوا لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بهذا النسيان وقالوا: «فَاسْأَلِ العَادِّينَ» . قال ابن عباس: أنساهم ما كانُوا فيه من العذاب بين النفختين.
وقيل: مرادهم بقولهم: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من العذاب. وقيل: أرادوا أن لبثهم في الدنيا يوماً أو بعض يوم من أيام الآخرة، لأن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة.
فصل
اختلفوا في أنّ السؤال عن أيّ لبث؟ فقيل عن لبثهم أحياء في الدنيا، فأجابوا بأَنّ قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أنّ الله أعلمهم أنَّ الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار.
وقيل: المراد اللبث في حال الموت، لأنَّ قوله: «فِي الأَرْضِ» يفيد الكَوْن في الأَرض أي: في القبر، والحيّ إِنّما يقال فيه أنّه على الأرض. وهذا ضعيف لقوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} [الأعراف: 56] ، واستدلوا أيضاً بقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] ثم قالوا: «فَاسْأَلِ العَادِّينَ» أي: الملائكة الذين يحفظون أعمال(14/268)
بني آدم ويُحْصُونها عليهم، وهذا قول عكرمة. وقيل الملائكة الذين يعدّون أيام الدنيا. وقيل: المعنى سَلْ من يعرف عدد ذلك فإنّا نسيناه. وقُرئ «العَادِينَ» بالتخفيف، وهي قراءة الحسن والكسائي في رواية جمع (عَادِي) اسم فاعل من (عَدَا) أي: الظلمة فإنّهم يقولون مثل ما قلنا.
وقيل: العَادين: القدماء المعمرين، فإنّهم سيقصرونها. قال أبو البقاء: كقولك: هذا بئر عَاديَة، أي؛ سل من تقدّمنا، وحذف إحدى ياءي النسب كما قَالُوا: الأشعرون، وحُذفت الأخرى لالتقاء الساكنين. قال شهاب الدين: المحذوف أَوّلاً الياء الثانية؛ لأنّها المتحركة وبحذفها يلتقي ساكنان. ويؤيد ما ذكره أبو البقاء ما نقله الزمخشري قال: وقُرئ (العَادِيين أي: القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرُونَها، فكيف بِمَن دُونهم؟ قال ابن خالويه: ولغة أخرى العَادِيّين يعني: بياء مشددة جمع عَادِيّة بمعنى القدماء) .
فصل
احتجّ من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال: قوله: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض} يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض، وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض، فلو كانُوا معذبين في القبر لعلموا أنَّ مدة مكثهم في الأرض طويلة، فلم يقولوا: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} .
والجواب من وجهين:
الأول: أنّ الجواب لا بُدّ وأن يكون بحسب السؤال، وإنّما سألوا عن موتٍ لا حياةَ بعده إلاّ في الآخرة، وذلك لا يكون إلاّ بعد عذاب القبر.
والثاني: يحتمل أن يكونُوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه، فلا مدخل في تقدّم موت بعضهم على بعض فيصح أن يكون جوابهم {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} عند أنفسنا.(14/269)
قوله: «إِنْ لَبِثْتُم» أي: ما لبثتم «إِلاَّ قَلِيلاً» ، وكأنه قيل لهم: صدقتم ما لبثتم فيها إِلاّ قليلاً، لأنها في مقابلة أيام الآخرة.
قوله: «لَوْ أَنَّكُمْ» جوابها محذوف تقديره: لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول لمَا أجبتم بهذه المدة.
وانتصب «قليلاً» (على النعت) لزمن محذوف (أو لمصدر محذوف) أي: إلاّ زمناً قليلاً، أو إِلاّ لُبْثاً قليلاً.
قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} الآية في نصب (عَبَثاً) وجهان:
أحدهما: أنّه مصدر واقع موقع الحال أي: عابثين.
والثاني: أنه مفعول من أجله أي: لأجل العبث. والعَبَث: اللعب، وما لا فائدة فيه، أي: لتعبثوا وتلعبوا، كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وكل ما ليس له غرض صحيح. يقال: عَبَثَ يَعْبِثُ عَبثاً إذا خلط عليه بلعب، وأصله من قولهم عبثت الأَقِط، أي: خلطته، والعَبِيث: طعام مخلوط بشيء، ومنه العَوْبَثَانِي لتمر وسُوَيْق وسمن مختلط. قوله: «وَأَنَّكُمْ» يجوز أن يكون معطوفاً على (أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ) لكون الحسبان منسحباً عليه وأن يكون معطوفاً على (عَبَثاً) إذا كان مفعولاً من أجله.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون معطوفاً على (عَبَثاً) أي: للعبث ولترككم غير مرجوعين وقُدّم «إِلَيْنَا» على (تُرْجَعُونَ) لأجل الفواصل.
قوله: «لاَ تُرْجَعُونَ» هو خبر «أَنَّكُمْ» ، وقرأ الأخوان «تَرْجِعُونَ» مبنياً للفاعل، والباقون مبنياً للمفعول. وقد تقدّم أن (رجع) يكون لازماً ومتعدياً. وقيل: لا يكون إلا متعدّياً، والمفعول محذوف.(14/270)
فصل
لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنّه لولا القيامة لما تميّز المُطيع عن العاصي، والصديق عن الزنديق، وحينئذ يكون هذا العالم عَبَثاً، وهو كقوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] . والمعنى: أَنَّما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ.
«رُوي أن رجلاً مُصاباً مُرَّ به على ابن مسعود فَرَقَاهُ في أذنيه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} حتى ختمها، فَبَرأ، (فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بماذا رقيته في أذنه فأخبره) فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً موقناً قرأها على جبل لَزَال «ثم نَزّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال: {فَتَعَالَى الله الملك الحق} ، والمَلِكُ: هو المالك للأشياء الذي لا يزول ملكه وقدرته، والحَقّ: هو الذي يحق له الملك، لأنّ كل شيء منه وإليه، والثابت الذي لا يزول ملكه.
{لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} قرأ العامة» الكريم «مجروراً نعتاً للعرش، وُصف بذلك لتنزُّل الخيرات منه والبركات والرحمة. أو لِنسْبته إلى أكرم الأكرمين، كما يُقال: بَيْتٌ كَريم إذا كان ساكنوه كراماً. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب بالرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنّه نعت للعرش أيضاً، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على خبر مبتدأ مضمر. وهذا جيّد لتوافق القراءتين في المعنى.
والثاني: أنه نعت ل (رَبّ) .
فصل
قال المفسرون: العرش السرير الحسن. وقيل: المرتفع. وقال أبو مسلم: العرش هنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة، ويجوز أن يُراد به(14/271)
الملك العظيم.
والأكثرون: على أنّه العرش حقيقة.
قوله: «وَمَنْ يَدْعُ» شرط، وفي جوابه وجهان:
أحدهما: أنه قوله: «فَإِنَّما حِسَابُهُ» وعلى هذا ففي الجملة المنفية وهي قوله: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وجهان:
أحدهما: أنها صفة، ل «إِلهاً» وهي صفة لازمة، أي: لا يكون الإله المَدْعو من دون الله إلاّ كذا، فليس لها مفهوم لفساد المعنى. ومثله {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] لا يفهم أنّ ثمَّ إِلهاً آخر مَدْعُوًّا من دون الله له برهان، وأن ثمَّ طَائِراً يطيرُ بغير جناحيه.
والثاني: أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه، وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله وهي صفة لازمة كقوله: «يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ» جِيءَ بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان، ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء كقولك: مَنْ أَحْسَن إلى زيدٍ لا أحد أَحقُّ بالإحسان منه فاللَّهُ مثيبه.
والثاني من الوجهين الأَولين: أن جواب الشرط قوله: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} كأنه فرَّ من مفهوم الصفة لِمَا يلزم من فساده، فوقع في شيء لا يجوز إِلاّ في ضرورة شعر، وهو حذف فاء الجزاء من الجملة الاسمية كقوله:
3814 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرهَا ... والشَّرُّ بِالشَّر عِنْدَ اللَّهِ سِيَّانِ
وقد تقدّم تخريج كون {لاَ بُرْهَانَ لَهُ} على الصفة، ولا إشكال، لأنها صفة لازمة، أو على أنها جملة اعتراض.
فصل
لمّا بيَّن أنَّه {الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ} أتبعهُ بأن من ادّعى إلهاً آخر فقد ادّعى(14/272)
باطلاً، لأنه {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} لا حجّة ولا بيّنة، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك، وهذا يدل على صحة النظر وفساد التقليد. ثم قال: «فَإِنَّما حِسَابُهُ» أي: جزاؤه عند ربه يجازيه بعمله كما قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] كأنّه قال: إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلاّ الله.
قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} فشتّان ما بين فاتحة السورة وخاتمتها. قرأ الجمهور بكسر همزة (إنّه) على الاستئناف المفيد للعلة. وقرأ الحسن وقتادة «أَنَّه» بالفتح، وخرّجه الزمخشري على أن يكون خبر «حِسَابُه» قال: ومعناه حسابه عدم الفلاح، والأصل حساب أنّه لا يفلح هو، فوضع الكافرون في موضع الضمير، لأن «مَنْ يَدْعُ» في موضع الجمع، وكذلك حسابه أنّه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون. انتهى.
ويجوز أن يكون ذلك على حذف حرف العلة أي: لأنّه لا يفلح. وقرأ الحسن: «لاَ يَفْلحُ» مضارع (فَلح) بمعنى (أَفْلَح) (فَعَل) و (أَفْعَل) فيه بمعنى، والله أعلم.
فصل
المعنى لا يسعد من جحَد وكذّب، وأمر الرسول بأن يقول: {رَّبِّ اغفر وارحم} ويثني عليه بأن «خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» ، وقد تقدّم بيان كون «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .
فإن قيل: كيف اتصال هذه الخاتمة بما قبلها؟
فالجواب: أنّه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله والالتجاء إلى غفرانه ورحمته، فإنهما العاصمان عن كل الآفات والمخافات.
رُوي أنَّ أَوَّل سورة (قد أفلح) وآخرها من كنوز العرش من عَمِل بثلاثِ آياتٍ من أولها، واتعظ بأربع من آخرها فقد نَجَا وأفلح. وروَى الثعلبي في تفسيره عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالرَّوْحِ والرَّيْحَانِ، وما تقرّ بِهِ عَيْنُه عند نزول ملك الموت» .(14/273)
سورة النور(14/274)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
مدنية وهي أربع وستون آية، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، وخمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم (قوله تعالى) : {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} الآية.
قرأ العامة «سُورَةٌ» بالرفع، وفيه وجهان:
أحدهما: أن تكون مبتدأ، والجملة بعدها صفة لها، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداء بالنكرة، وفي الخبر وجهان:
أحدهما: أنه الجملة من قوله: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» .
(وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال: ويجوز أن تكون مبتدأ، والخبر «الزَّانِيَةُ والزّانِي» ) وما بعد ذلك. والمعنى: السورةُ المُنَزَّلةُ والمفروضة كذا وكذا، إذ السورة عبارة عن آيات مَسْرُودَة لها بدْءٌ وخَتْمٌ.
والثاني: أن الخبر محذوف، أي: فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ، أو فيما أنزلنا سورة.
والوجه الثاني من الوجهين الأولين: أن تكون خبراً لمبتدأ مضمر، أي: هذه (سورة) .(14/274)
وقال أبو البقاء: (سورة) بالرفع على تقدير: هذه سورةٌ، أو فيما يتلى عليك سورة، فلا تكون (سورة) مبتدأ، لأنها نكرة.
وهذه عبارة مشكلةٌ على ظاهرها، كيف يقول: «لا تكون مبتدأ» مع تقديره: فيما يُتلى عليك سورةُ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرة مع تقديره لخبرها جاراً مقدماً عليها، وهو مسوغ للابتداء بالنكرة؟ وقرأ عمر بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهد وأبو حيوة وطلحة بن مصرف «سُورَةً» بالنصب، وفيها أوجه:
أحدها: أنها منصوبة بفعل مُقَدَّر غير مُفَسَّرٍ بما بعده، تقديره: «اتْلُ سُورَةً» أو «اقرأ سورة» .
والثاني: أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده، والمسألة من الاشتغال، تقديره: «أنزلنا سورةً (أنزلناها» ) .
والفرق بين الوجهين: أنَّ الجملة بعد «سُورَةً» في محل نصب على الأول، ولا محل لها على الثاني.
الثالث: أنها منصوبة على الإغراء، أي: دونك سورةً، قاله الزمخشري. ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء. واستشكل أبو حيان أيضاً على وجه الاشتغال جواز الابتداء بالنكرة من غير مسوغ، ومعنى ذلك أنه ما مِنْ موضع يجوز (فيه) النصب على الاشتغال إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداء، وهنا لو رفعت «سُورَةً» بالابتداء لم يَجُزْ، إذ لا مسوغ، فلا يقال: «رجلاً ضربتُه» لامتناع «رجل ضربتُه» ، ثم أجاب بأنه إن اعْتُقِدَ حذف وصفٍ جاز، أي: «سُورة مُعَظَّمةً أو مُوَضّحَةً أنزلناها» فيجوز ذلك.
الرابع: أنها منصوبة على الحال من «ها» في «أَنْزَلْنَاهَا» ، والحال من المكنيّ يجوز أن يتقدم عليه، قاله الفراء.(14/275)
وعلى هذا فالضمير في «أَنْزَلْنَاهَا» ليس عائداً على «سُورَةً» بل على الأحكام، كأنه قيل: أنزلنا الأحكام سورةً من سُوَر القرآن، فهذه الأحكام ثابتةٌ بالقرآن بخلاف غيرها فإنه قد ثبت بالسُّنّة، وتقدم معنى الإنزال.
قوله: «وفرضناها» قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد. والباقون بالتخفيف.
فالتشديد إمَّا للمبالغة في الإيجاب وتوكيد، وإمَّا المَفْرُوض عليهم، وإمَّا لتكثير الشيء المفروض. والتخفيف بمعنى: أَوْجَبْنَاهَا وجعلناها مقطوعاً بها. وقيل: ألزمناكم العمل بها وقيل: قدرنا ما فيها من الحدود.
والفرض: التقدير، قال الله (تعالى) : {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي: قدرتم، {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} [القصص: 85] . ثم إنَّ السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود، وتحصيل الحاصل محال، فوجب أن يكون المراد: فرضنا ما بيِّن فيها من الأحكام، ثم قال: {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات. «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» تتعظون، وأراد ب «الآيَات» ما ذكر في السورة من الأحكام والحدود ودلائل التوحيد.
وقرئ «تَذَكَّرُونَ» بتشديد الذال وتخفيفها. وتقدم معنى «لَعَلَّ» في سورة البقرة.
قال القاضي: «لَعَلّ» بمعنى «كَيْ» .
فإن قيل: الإنزال يكون من صعود إلى نزول، وهذا يدل على أنه تعالى في جهة؟
فالجواب: أن جبريل كان يحفظها من اللوح ثم ينزلها على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقيل: «أنْزَلْنَاهَا» توسعاً.
وقيل: إن الله تعالى أنزلها من أم الكتاب إلى السماء الدنيا دفعة واحدة، ثم أنزلها بعد ذلك على لسان جبريل - عليه السلام -.(14/276)
وقيل: معنى «أنزلناها» : أعطيناها الرسول، كما يقول العبد إذا كلم سيّده: رفعت إليه حاجتي، كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] .
قوله تعالى: {الزانية والزاني} في رفعهما وجهان:
مذهب سيبويه: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي: فيما يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْم الزَّانِيَةِ، ثم بَيَّنَ ذلك بقوله: «فَاجْلِدُوا» ... إلى آخره.
والثاني وهو مذهب الأخفش وغيره: أنه مبتدأ، والخبر جملة الأمر، ودَخَلَتِ الفاءُ لشبه المبتدأ بالشرط، ولكون الألف واللام بمعنى الذي، تقديره: مَنْ زنا فاجلده، أو التي زنت والذي زنا فاجلدوهما، وتقدم الكلام على هذه المسألة في قوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] وعند قوله: «والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ» فأغْنَى عن إعادته.
وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وأبو شيبة ورُوَيْس(14/277)
بالنصب على الاشتغال.
قال الزمخشري: «وهو أحسن من (سورةً أنزلناها) لأجل الأمر» .
وقرئ: «والزَّان» بلا ياء.
ومعنى «فاجلدوا» : فاضربوا {كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} ، يقال: جَلَدَه: إذا ضرب جِلْدَهُ، كما يقال: رأسَه وبطنه: إذا ضرب رأسه وبطْنه، وذكر بلفظ الجلد لئلا يبرح، ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم.
قوله (تعالى) : {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} : رحمة ورقة.
قرأ العامة هنا وفي الحديد بسكون همزة «رَأْفَة» . وابن كثير بفتحها.
وقرأ ابن جريج وتروى أيضاً عن ابن كثير وعاصم «رَآفَة» بألف بعد الهمزة بِزِنَةِ «سَحَابَةٍ» .
وكلها مصادر ل «رَأَفَ بِهِ يَرْؤُف» ، وتقدم معناه، وأشهر المصادر الأول، ونقل أبو البقاء فيها لغة رابعة، وهي إبدال الهمزة ألفاً، وهذا ظاهر.
وقرأ العام «تَأْخُذْكُمْ» بتاء التأنيث مُرَاعاةً للفظ.
وعليُّ بن أبي طالب والسُّلميُّ ومجاهد بالياء من تحت، لأنَّ التأنيث مجازيّ، وللفصل بالمفعول والجار.(14/278)
و «بِهِمَا» يتعلق ب «تَأْخُذْكُمْ» ، أو بمحذوف على سبيل البيان، ولا يتعلق ب «رَأْفَة» لأن المصدر لا يتقدم عليه معمولاً، و «دِينِ اللَّهِ» مُتعلِّقٌ بالفعل قبله أيضاً.
وهذه الجملة دالة على جواب الشرط بعدها، أو هي الجواب عند بعضهم.
فصل
الزنا حرام، وهو من الكبائر، لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله: «وَلاَ يَزْنُونَ» ، وقال {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] ، وقال عليه السلام: «يَا مَعْشَرَ الناس اتقوا الزِّنَا فإنَّ فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا: فيُذْهِبُ البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر. وأما اللاتي في الآخرة: فسُخْطُ الله، وسوء الحساب، وعذاب (النار) » .
قال بعض العلماء في حدّ الزنا: إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم قطعاً.
واختلف العلماء في اللواط، هل يسمى زنا أم لا؟
فقيل: نعم لقوله - عليه السلام -: «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان» ، ولدخوله في حدّ الزنا المتقدم. وقيل: لا يسمى زنا، لأنه في العرف لا يسمى زانياً، ولو حلف لا يزني فلاط لم يحنث، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة.
وأما الحديث فمحمول على الإثم (بدليل قوله - عليه السلام -) : «إذَا أَتَتِ(14/279)
المَرْأةُ المرأةَ فَهُمَا زَانِيتَان» ، وقوله عليه السلام: «اليَدَان تَزْنِيَان، والعَيْنَان تَزْنِيَان» وأما دخوله في مسمى الفرج لما فيه من الانفراج فبعيد، لأن العين والفم منفرجان ولا يسميان فرجاً، وسمي النجم نجماً لظهوره، وما سموا كل ظاهر نجماً، وسموا الجنين جنيناً لاستتاره، وما سمّوا كل مستتر جنيناً.
واختلفوا في حدّ اللوطي:
فقيل: حدّ الزنا، إن كان محصناً رجم، وإن كان غير محصن جلد وغرب.
وقيل: يقتل الفاعل والمفعول مطلقاً.
واختلفوا في كيفية قتله:
فقيل: تضرب رقبتُه كالمرتد لقوله عليه السلام: «مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوه» .
وقيل: يرجم بالحجارة.
وقيل: يهدم عليه جدار.
وقيل: يرمي من شاهق، لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك.
وقيل: يعزّر الفاعل، وأما المفعول فعليه القتل إن قلنا يقتل الفاعل، وإن قلنا على الفاعل حدّ الزنا فعلى المفعول جلد مائة وتغريب عام محصناً كان أو غير محصن.
وقيل: إن كانت امرة محصنة فعليها الرجم.
فصل
وأجمعت الأمة على حرمة إتيان البهيمة، واختلفوا في حدّه:(14/280)
فقيل: حدّ الزنا.
وقيل: يقتل مطلقاً لقوله عليه السلام: «مَنْ أَتَى بَهِيمةً فَاقْتُلوهُ واقْتُلُوهَا مَعَهُ» .
وقيل: التعزير، وهو الصحيح.
وأما السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه إلا التعزير.
فصل
تقدم الكلام في حدّ الزنا في سورة النساء، وأما إثباته فلا يحصل إلا بالإقرار أو بالبينة. أما الإقرار، فقال الشافعي: يثبت بالإقرار مرة واحدة لقصة العسيف.
وقال أبو حنيفة وأحمد: لا بد من الإقرار أربع مرات لقصة ماعز، ولقوله عليه السلام: «إنَّكَ شَهدتَ على نفسِكَ أربعَ مرات» ولو كانت المرة الواحدة مثل الأربع في إيجاب الحدّ لكان هذا الكلام لغواً، ولقول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لماعز بعد إقراره الثالثة: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(14/281)
وقال بريدة الأسلمي: كنا معشر أصحاب محمد نقول: لو لم يقر ماعز (أربع مرات) ما رجمه رسول الله.
وأيضاً فكما لا يقبل في الشهادة على الزنا إلاّ أربع شهادات، فكذا في الإقرار. وكما أن الزنا لا ينتفي إلاّ بأربع شهادات في اللعان، فلا يثبت إلا بالإقرار أربع مرات.
وأما البينة فأجمعوا على أنه لا بُدّ من أربع شهادات لقوله تعالى: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} [النساء: 15] .
فصل
قال بعض العلماء: لا خلاف أنه يجب على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه، كما إذا ادعى رجل على آخر حقاً وأقام عليه بينة، والقاضي يعلم أنه قد أبرأه، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا وقد رآه القاضي حيًّا بعد ذلك، أو ادعى نكاح امرأة وقد سمعه القاضي طلقها، لا يجوز أن يقضي به ولو أقام عليه شهوداً وهل يجوز له أن يقضي بعلم نفسه مثل إن ادعى عليه ألفاً وقد رآه القاضي أقرضه، أو سمع المدعى عليه يقرّ به؟
فقال أبو يوسف ومحمد والمزني: يجوز له أن يقضي بعلمه، لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود، وهي إنما تفيد الظن، فلأن يجوز (له) بما هو منه على علم أولى.
قال الشافعي: أقْضِي بعلمي، وهو أقوى من شاهدين، أو شاهد وامرأتين، وهو أقوى من شاهد ويمين، (وبشاهد ويمين) وهو أقوى من (النكول) وردّ اليمين «وقيل: لا يحكم بعلمه لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء، ولم يوجد هذا في الأموال فأما العقوبات، فإن كانت العقوبة من حقوق العباد كالقصاص وحدّ القذف فهو مثل المال، إن قلنا لا يقضي فهاهنا أولى، وإلا فقولان.
والفرق بينهما أن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة، ولا فرق(14/282)
على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته (وزمان ولايته) أو في غيره. وقال أبو حنيفة: إن حصل له العلم في بلد ولايته (وفي زمان ولايته) له أن يقضي بعلمه وإلا فلا.
فصل
لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه وللسيد أن يقيم الحد على رقيقه لقوله عليه السلام: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدكم فَلْيَجلِدْها» وقيل: بل يرفعه إلى الإمام.
ويُجلد المحصن مع ثيابه ولا يجرد، ولكن ينبغي أن تكون بحيث يصل ألم الضرب إليه، وأما المرأة فلا يجوز تجريدها، بل تربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف، ويلي ذلك منها امرأة. ويضرب بسوط لا جديد يجرح ولا خلق لا يؤلم، ولا يمد، ولا يربط، بل يترك حتى يتقي بيديه ويضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة، وتفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد ويتقى المهالك كالوجه والبطن والفرج.
قال الشافعي: يضرب على الرأس.
وقال أبو حنيفة: لا يضرب على الرأس.
فصل
ولا يقام الحدّ على الحامل حتى تضع ولدها، ويستغنى عنها لحديث الجهنية، وأما المريض فإن كان يرجى زوال مرضه أخّر حتى يبرأ (إن كان الحد جلداً، وإن كان رجماً أقيم عليه الحدُّ، لأن المقصود قتله) ، وإن كان مرضه لا يرجى زواله لم يضرب بالسياط، بل يضرب بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه لقصة أيوب (- عليه(14/283)
السلام -) وأدلة جميع ما تقدم مذكورة في كتب الفقه.
فصل
لو فرق السياط تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن ضرب كل يوم سوطاً أو سوطين لم يحسب، وإن ضرب كل يوم عشرين وأكثر حسب.
فصل
ويقام الحد في وقت اعتدال الهواء، فإن كان في وقت شدة حرّ أو برد نظرنا: إن كان الحدّ رجماً أقيم عليه كما يقام في المرض، لأن المقصود قتله.
وقيل: إن كان الرجم ثبت بإقراره أخّر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض (إنْ كان يرجى زوال، لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم) وقد أثر الرجم في جسمه فيعين شدة الحر والبرد والمرض على إهلاكه.
وإن ثبت بالبينة لا يؤخر، لأنه لا يسقط.
وإن كان الحد جلداً لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض.
فصل
معنى قوله: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} .
قال مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي: لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها.
وقيل: ولا تأخذكم رأفة فتخففوا، ولكن أوجعوهما ضرباً. وهو قول سعيد بن المسيب والحسن.
قال الزهري: يجتهد في حدّ الزنا والغربة، ويخفف في حدّ الشرب.
وقال قتادة: يخفف في الشرب والغربة، ويجتهد في الزنا.
ومعنى {فِي دِينِ الله} : أي: في حكم الله، روي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد: «اضْرُبْ ظَهْرَهَا ورِجْلَيْهَا» فقال له ابنه: «ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةً في دِينِ اللَّهِ» فقال: «يا بنيّ إن الله لم يأمرني بقتلها، وقد ضربت فأوجعت» .(14/284)
فصل
إذا ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك، وقع به بعض الحد أو لم يقع (به) ، لأنّ ماعزاً لما مسته الحجارة هرب، فقال عليه السلام: «هَلاَّ تركتموه» .
وقيل: لا يقبل رجوعه.
ويحفر للمرأة إلى صدرها، ولا يحفر للرجل، وإذا مات في الحدّ غُسِّل وكُفِّن وصُلِّيَ عليه ودفِن في مقابر المسلمين.
قوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} معناه: أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله.
قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} أي: وليحضر «عَذَابَهُمَا» : حدهما إذا أقيم عليهما «طَائِفَةٌ» نفر من المؤمنين. قال النخعي ومجاهد: أقله رجل واحد، لقوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] . وقال عطاء وعكرمة: اثنان، لقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} [التوبة: 122] وكل ثلاثة فرقة، والخارج عن الثلاثة واحد أو اثنان، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر. وقال الزهري وقتادة: ثلاثة فصاعداً، لأن الطائفة هي الفرقة التي تكون حافة حول الشيء، وهذه الصورة أقل ما لا بد في حصولها الثلاثة.
وقال ابن عباس: «إنَّها أربعة، عدد شهود الزنا» ، وهو قول مالك وابن زيد.
وقال الحسن البصري: عشرة، لأنها العدد الكامل.
واعلم أن قوله: «وَلْيَشْهَد» أمر، وظاهره للوجوب، لكن الفقهاء قالوا: يستحب حضور الجمع، والمقصود منه: إعلان إقامة الحد لما فيه من الردع ودفع التهمة.
وقال الشافعي ومالك: يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر، وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور. وقال أبو حنيفة: «إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدؤوا بالرمي، ثم الإمام، ثم الناس، وإن ثبت بالإقرار بدأ الإمام ثم الناس» .(14/285)
واحتج الشافعي بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجم ماعزاً والغامدية ولم يحضر رجمهما وأما تسميته عذاباً فإنه يدل على أنه عقوبة، ويجوز أن يسمى عذاباً لأنه يمنع المعاودة، كما يسمى نكالاً لذلك.(14/286)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
قرأ أبو البرهسيم «وَحَرَّم» مبنياً للفاعل مشدداً. وزيد بن علي «حَرُم» بزنة كَرم. واختلفوا في معنى الآية وحكمها:
فقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي، ورواية العوفي عن ابن عباس: «قَدِمَ المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن، وهُنَّ يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم، فاستأذنوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنزلت هذه الآية» وحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا، لأنهنَّ كنَّ مشركات.
وقال عكرمة: نزلت في نساء بمكة والمدينة، منهن تسع لهن رايات البيطار يعرفن بها منزلهن: أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، فاستأذن رجل من المسلمين نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في نكاح «أمِّ مهزول» واشترطت له أن تنفق عليه، فأنزل الله هذه الآية.
فإن قيل: قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} ظاهره خبر وليس الأمر كذلك، لأن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة، والزانية(14/286)
قد ينكحها المؤمن العفيف، وأيضاً فقوله: {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} ليس كذلك، فإن المؤمن يحل له التزويج بالمرأة الزانية.
فالجواب من وجوه:
أحدها - وهو أحسنها -: ما قاله القفال: إن اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد منه الأعم الأغلب، لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة، وإنما يرغب في فاسقة مثله أو في مشركة، والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح، بل تنفر عنه، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين، فهذا على الأعم الأغلب، كما يقال «لا يفعَل الخيرَ إلاّ الرجلُ التقيُّ» وقد يفعل الخيرَ من ليس بتقي، فكذا هاهنا.
وأما قوله: {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} فالجواب من وجهين:
الأول: أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها فحرم عليه لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور موقع التهمة، والتسبب لسوء المقالة فيه، والغيبة، ومجالسة الخطائين فيها التعرض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة الزواني والفجار.
وثانيها: أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين، لأن قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} معناه: أنَّ الزاني لا يرغب إلا في زانية، فهذا محرم على المؤمنين، ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزويج بالزانية، فهذا هو المعتمد في تفسير الآية.
الوجه الثاني: أن الألف واللام في قوله: «الزَّاني» وفي قوله: «المُؤْمِنينَ» وإن كان للعموم ظاهراً لكنه مخصوص بالأقوام الذين نزلت فيهم كما قدمناه آنفاً.
الوجه الثالث: أن قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} وإن كان خبراً في الظاهر لكن المراد منه النهي، والمعنى: كل من كان زانياً فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية، {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} هكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام.
وعلى هذا الوجه ذكروا قولين:
أحدهما: أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف وبالعكس، وهذا مذهب أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود.
ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول: كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها.
ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة.(14/287)
والقول الثاني: أن هذا الحكم صار منسوخاً. واختلفوا في ناسخه: فقال الجبائي: إن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] ، {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] .
قال المحققون: هذان الوجهان ضعيفان، أما قول الجبائي فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وأيضاً فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي، فكيف يصح؟
وأما قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] فلا يصلح أن يكون ناسخاً، لأنه لا بد من أن يشترط فيه ألا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما.
ولقائل أن يقول: لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمنين، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ، وأن للزنا تأثيراً في الفرقة ما ليس لغيره، ألا ترى أنه إذا قذفها يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه؟ ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد، ولأن الزنا يورث العار، ويؤثر في الفراش، ففارق غيره.
واحتج من ادعى النسخ بأن رجلاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: «يا رسول الله إن امرأتي لا تردّ يد لامس» ، قال: «طَلِّقْهَا» . قال: «إني أحبها، وهي جميلة» ، قال: «استمتع بها» وفي رواية: «فأمسكها إذن» .
وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلاً وامرأة في زنا وحرص أن يجمع بينهما، فأبى الغلام. وبأن ابن عباس سُئِل عن رجل زنا بامرأة فهل له أن يتزوجها؟ فأجازه ابن عباس، وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه.
وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سُئِل عن ذلك فقال: «أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وآخِرُهُ نِكاح، والحرامُ لا يُحَرِّمُ الحلال» .
الوجه الرابع: أن يحمل النكاح على الوطء، والمعنى: أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة، وكذا الزانية {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} أي: وحرم الزنا على المؤمنين، وهذا تأويل أبي مسلم، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم، ورواية الوالبي عن ابن عباس.(14/288)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قال الزجاج: «وهذا التأويل فاسد من وجهين:
الأول: أنه ما ورد النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزوج، ولم يرد البتة بمعنى الوطء.
الثاني: أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة، لأنا لو قلنا: المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد، لأنا نرى الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها، ولو قلنا: المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا، فهذا كلام لا فائدة فيه» .
فإن قيل: أي فرق بين قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} وبين قوله: {الزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ} ؟
فالجواب أن الكلام الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية، بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني، فلا جرم بيَّن ذلك بالكلام الثاني.
فإن قيل: لم قدم الزانية على الزاني في أول السورة وهاهنا بالعكس؟
فالجواب: سبقت تلك الآية على عقوبتها لخيانتها، فالمرأة هي المادة في الزنا، وأما هاهنا فمسوقة لذكر النكاح، والرجال أصل فيه، لأنه هو الراغب الطالب.
قوله
تعالى
: {والذين يَرْمُونَ المحصنات. .} الآية هي كقوله: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] فيعود فيه ما تقدم بحاله، وقوله: «المُحْصَنَات» فيه وجهان:
أحدهما: أن المراد به النساء فقط، وإنما خَصَّهُنَّ بالذكر لأن قَذْفَهُنَّ أشْنَعُ.
والثاني: أن المراد بهن النساء والرجال، وعلى هذا فيقال: كيف غلَّب المؤنث على المذكر؟
والجواب أنه صفةٌ لشيء محذوف يَعمُّ الرجال والنساء، أي: الأنْفُسَ المحصنات، وهو بعيد أو تقول: ثمَّ معطوف محذوف لفهم المعنى، وللإجماع على أن حُكْمَهُمْ حُكْمهُنَّ أي: والمُحْصَنين.
قوله: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} العامة على إضافة اسم العدد للمعدود، وقرأ أبو زرعة(14/289)
وعبد الله بن مسلم بالتنوين في العدد، واستَفْصَحَ الناس هذه القراءة حتى تجاوز بعضهم الحد كابن جني ففضّلها على قراءة العامة، قال: لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجود الإتباع دون الإضافة، تقول: «عندي ثلاثةٌ ضاربون» ، ويَضعف «ثلاثةُ ضاربين» وهذا غلط، لأن الصفة التي جَرَتْ مُجْرَى الأسماء تُعْطَى حُكْمَهَا، فَيُضَافُ إليها العددُ، و «شُهَدَاء» من ذلك، فإنه كَثُرَ حذف موصوفه، قال تعالى: {مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] . و «اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ» ، وتقول: عندي ثلاثةُ أعبد، وكل ذلك صفةٌ في الأصل.
ونقل ابن عطية عن سيبويه أنه لا يُجيزُ تنوين العدد إلاّ في شعر.
وليس كما نقله عنه، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماء نحو «ثلاثةُ رجالٍ» وأما الصفات ففيها التفصيل المتقدم.
وفي «شُهَدَاءَ» على هذه القراءة ثلاثة أوجه:(14/290)
أحدها: أنه تمييزٌ، وهذا فاسد، لأنَّ من ثلاثة إلى عشرة يضاف لمُمَيِّزه ليس إلا، وغير ذلك ضرورة.
الثاني: أنه حالٌ، وهو ضعيف أيضاً لمجيئها من النكرة من غير مخصِّصٍ.
الثالث: أنها مجرورة نعتاً ل «أربعة» ، ولم تنصرف لألف التأنيث.
فصل
ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات، وذكر الرمي لا يدل على الزنا، إذ قد يرميها بسرقة أو شرب خمر، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين.
واتفق العلماء على أن المراد الرمي بالزنا، وفي دلالة الآية عليه وجوه:
الأول: تقدم ذكر الزنا.
الثاني: أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف، فدل ذلك على أن المراد رميها بعدم العفاف.
الثالث: قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} يعني: على صحة ما رموا به، وكون الشهود أربعة من شروط الزنا.
الرابع: الإجماع على أنه لا يجب الحد بالرمي بغير الزنا، فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا.
فصل
شروط الإحصان خمسة:
الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والعفة من الزنا، حتى أن من زنا مرة أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته منذ عمره، فقذفه قاذف لا حدّ عليه، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف، لأن الحد وجب للفرية، وقد ثبت صدقه.
فصل
وألفاظ القذف: صريح، وكناية، وتعريض.
فالصريح: أن يقول: يا زانية، أو زنيت، أو زنا قُبُلُكِ أو دُبُرُكِ، فإن قال: زنا(14/291)
يدك، فقيل: كناية، لأن حقيقة الزنا من الفرج، والصحيح أنه صريح، لأن الفعل يصدر بكل البدن، والفرج آلة.
والكناية: أن يقول: يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة، يا مؤاجرة، يا ابنة الحرام، أو لا ترد يد لامس، فلا يكون قذفاً إلا بالنية، وكذا لو قال لعربي: يا نبطي، أو بالعكس، فإن أراد القذف فهو قذف لأم المقول له، وإلا فلا.
فإن قال: عنيت نبطي الدار أو اللسان، وادعت أم المقول له إرادة القذف فالقول قوله مع يمينه. والتعريض ليس بقذف وإن نواه، كقوله: يا ابن الحلال أما أنا فما زنيت وليست أمي بزانية، لأن الأصل براءة الذمة، فلا يجب بالشك، والحد يُدْرَأ بالشبهات.
وقال مالك: يجب فيه الحد.
وقال أحمد وإسحاق: هو قذف في حال الغضب دون الرضا.
فصل
إذا قذف شخصاً واحداً مراراً، فإن أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد، (فإن قال الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني.
وإن قذفه بزناءين مختلفين كقوله: زنيت بزيد، ثم قال: زنيتِ بعمرو، فقيل: يتعدد اعتباراً باللفظ، ولأنه حقّ آدمي فلا يتداخل كالديون.
والصحيح أنه يتداخل لأنهما حدان من جنس واحد، فتداخل كحدود الزنا.
ولو قذف زوجته مراراً فالصحيح أنه يكفي بلعان واحد سواء قلنا بتعدد الحد أو لا.
وإن قذف جماعة بكلمة واحدة، فقيل: حدّ واحد) ، لأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال عليه السلام: «البينةُ أو حَدٌّ في ظهرك» ، فلم(14/292)
يوجب على هلال إلا حداً واحداً مع أنه قذف زوجته بشريك.
وقيل: لكل واحد حدٌّ.
وإن كان بكلمات فلكل واحد حدّ.
فصل
إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان، لا في الحال ولا بعد البلوغ، لقول عليه السلام: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاث» ولكن يعزّران للتأديب إن كان لهما تمييز.
والأخرس إن فهمت إشارته أو كتابته وقذف بالإشارة أو بالكتابة لزمه الحد، ولذلك يصح لعانه بالإشارة والكتابة.
وأما العبد إذا قذف الحر، فقيل: يلزمه نصفُ الحد. وقيل: الحد كله.
وأما الكافر إذا قذف المسلم فعليه الحد لدخوله في عموم الآية.
وإن كان المقذوف غير محصَن لم يجب الحد، بل يوجب التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به فلا حدّ هناك ولا تعزير.
قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} أي: يشهدون على زناهن {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون} قوله: {وأولئك هُمُ الفاسقون} يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهو الأظهر، وجوَّز أبو البقاء فيها أن تكون حالاً.(14/293)
وقوله {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} اعلم أن في هذا الاستثناء خلافاً، هل يعود لما تقدَّمه من الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟
وتكلم عليها من النحاة ابن مالك والمَهَابَاذِيُّ، فاختار ابن مالكٍ عوده إلى الجمل المتقدمة والمَهَابَاذِي إلى الأخيرة.
وقال الزمخشري: رد شَهَادَةِ القاذفِ معَلَّقٌ عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - باستيفاء الحدِّ، فإذا شهد قبل الحدِّ أو قبل تمام استيفائِهِ قُبِلَتْ شهادته، فإذا استوفي لم تُقْبَلْ شهادته أبداً وإن تابَ وكان من الأبرار الأتقياء.
وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتعلَّقُ ردُّ شهادِتِه بنفس القَذْفِ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه عاد مقبول الشهادة، وكلاهما مُتَمَسِّكٌ بالآية، فأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل جزاء الشرط الذي هو الرميُ: الجلدَ وردَّ الشهادة عُقَيْبَ الجلد على التأبيد، وكانوا مَرْدُودِي الشهادة عنده في أبدهم، وهو مدَّة حياتهم، وجعل قوله: {وأولئك هُمُ الفاسقون} كلاماً مستأنفاً غير داخلٍ في حيز جزاء الشرط، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية، و {إِلاَّ الذين تَابُواْ} استثناء من «الفَاسِقِينَ» ، ويدلُّ عليه قوله: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . والشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً(14/294)
غير أنه صَرَفَ الأبد إلى مدة كونه قاذفاً، وهي تنتهي بالتوبة (والرجوع) عن القذف، وجعل الاستثناء متعلِّقاً بالجملة الثانية. انتهى.
واعلم أن الإعراب متوقفٌ على ذكر الحكم، ومحلُّ المستثنى فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على أصل الاستثناء.
والثاني: أنه مجرور بدلاً من الضمير في «لَهُمْ» .
وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله: وحق المستثنى عنده - أي: الشافعي - أن يكون مجروراً بَدَلاً من «هُمْ» في «لَهُمْ» ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً، لأنه عن موجب والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاثة بمجموعهن جزاء الشرط، كأنه قيل: وَمَنْ قَذَفَ المُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ، وَرُدّوا شَهَادَتَهُمْ، وفسِّقوهم، أي: فاجمعوا لهم الجلد والردَّ والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين.
قال أبو حيان: وليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها.
والوجه الثالث: أنه مرفوع بالابتداء، وخبره الجملة من قوله: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
واعترض بخلوّها من رابطٍ.
وأُجيبَ بأنه محذوف، أي: غفور لهم.
واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناء، هل هو مُتَّصِلٌ أم مُنْقَطِعٌ؟ والثاني ضَعيفٌ جداً.(14/295)
فصل
الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا، لأن الفعل يعسر الاطلاع عليه وقيل: لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا.
فصل
إذا شهدوا على فعل الزنا يجب أن يذكروا الزاني والمزني به، لأنه قد يراه على جارية ابنه فيظن أنه زنا.
ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المُكْحُلة، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنا لم يثبت، بخلاف ما لو قذف إنساناً وقال: «زنيتَ» يجب الحد ولا يستفسر، ولو أقر على نفسه بالزنا، فقيل: يجب أن يستفسر كالشهود، وقيل: لا يجب كما في القذف.
فصل
لا فرق بين أن يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين.
وقال أبو حنيفة: إذا شهدوا متفرقين لا يثبت، وعليهم حد القذف.
وحجة الأول: أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين ومتفرقين. وأيضاً فكل حكم ثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين ثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام، بل هذا أولى، لأن مجيئهم متفرقين أبعد من التهمة وعن تلقن بعضهم من بعض، ولذلك إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم، وأيضاً فإنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة، بل إذا اجتمعوا عند القاضي قدَّم واحداً بعد واحد ويشهد، وكذا إذا اجتمعوا على بابه يدخل واحد بعد واحد.
واحتج أبو حنيفة بأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فيجب عليه الحد للآية، أقصى ما في الباب أنهم عبروا عن القذف بلفظ الشهادة، وذلك لا عبرة به، لأنه يؤدي إلى إسقاط حدّ القذف رأساً، لأن كل قاذف يمكن أن يقذف بلفظ الشهادة ويتوسل بذلك إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده.
وأيضاً فإن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا أربعة عند عمر بن الخطاب: أبو(14/296)
بكرة، وشبل بن معبد، ونافع، ونفيع، قال زياد: وقال رابعهم: رأيت استاً تنبو، ونفساً يعلو، ورجلاها على عاتقه كأذني حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فجلد عمر الثلاثة، ولم يسأل: هل معهم شاهد آخر؟ فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف أداء الحد عليه.
فصل
لو شهد على الزنا أقل من أربعة لم يثبت، وهل يجب حد القذف على الشهود؟ فقيل: يجب عليهم حد القذف لما تقدم آنفاً.
وقيل: لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود، ولأنا لو حَدَدْنَا لانسد باب الشهادة على الزنا، لأن كل واحد لا يأمن أن يوافقه صاحبه فيلزمه الحد.
فصل
لو أتى القاذف بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا:
قال أبو حنيفة: يسقط الحد عن القاذف، ويجب الحد على الشهود.
وقال الشافعي في أحد قوليه: يُحَدُّون.
واحتج أبو حنيفة بأنه أتى بأربعة شهداء، فلا يلزمه الحد، والفاسق من أهل الشهادة، فقد وجدت شرائط الشهادة إلا أنه لم يقبل شهادتهم للتهمة.
واحتج الشافعي بأنهم ليسوا من أهل الشهادة.
قوله: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وهذا خطاب للإمام، أو للمالك، أو لرجل(14/297)
صالح إذا فُقِد الإمام. ويخص من هذا العموم صور:
الأولى: الوالد إذا قذف ولده (أو ولد ولده) وإن سفل لا يجب عليه الحد، كما لا يجب عليه القصاص بقتله.
الثانية: القاذف إذا كان عبداً فالواجب جلده أربعين، وكذا المكاتب، وأم الولد، ومن بعضه حر، فقيل: كالرقيق. وقيل: بالحساب.
الثالثة: من قذف رقيقه، أو من زنت قديماً ثم تابت فهي محصنة ولا يجب الحد بقذفها.
فصل
قالوا: أشد الضرب في الحدود ضرب حد الزنا، ثم ضرب حدّ الخمر، ثم ضرب القاذف، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض.
فصل
قال مالك والشافعي: حدّ القذف يورث، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث عنه.
وقيل: لا يورث إلا أن يطالب المقذوف قبل موته، فإن قذف بعد موته ثبت لوارثه طلب الحد. وعند أبي حنيفة: الحد لا يورث، ويسقط بالموت.
حجة الشافعي: أنه حق آدمي يسقط بعفوه، ولا يستوفى إلا بطلبه، ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر، وإذا كان حق آدمي وجب أن يورث لقوله عليه السلام: «مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلورثَتِهِ» .
وحجة أبي حنيفة: لو كان موروثاً لورثة الزوج والزوجة: ولأنه حق ليس فيه معنى المال فلا يورث كالوكالة والمضاربة.
وأجيب بأنا لا نسلم أن الزوج والزوجة لا يرثان، وإن سلم فالفرق بينهما أن الزوجية تنقطع بالموت، ولأن المقصود من الحدّ دفع العار عن النسب، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة.
فصل
إذا قذف إنساناً بين يدي الحاكم، أو قذف امرأته برجل بعينه، والرجل غائب(14/298)
فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قذفك، وثبت لك حدّ القذف عليه، كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلم، يجب عليه إعلامه، ولهذا بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنيساً ليخبرها أن فلاناً قذفها بابنه، ولم يبعثه ليتفحص عن زناها وليس للإمام إذا رمي رجل بزنا أن يبعث إليه يسأله عن ذلك.
قوله: {ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً} .
قال أكثر الصحابة والتابعين: إذا تاب قُبِلَتْ شهادته وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح: لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب. وأدلة المذهبين مذكورة في كتب الفقه، وهاهنا مبنية على أن الاستثناء هل يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل المتقدمة؟ فلذلك اختلف العلماء في قبول شهادته بنفس القذف، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته، سواء تاب بعد إقامة الحد أو قبله لقوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} .
وقالوا: الاستثناء راجع إلى الشهادة وإلى الفسق، فبعد التوبة تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق، يروى ذلك عن عمر وابن عباس، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والشافعي.
وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب، وقالوا: الاستثناء يرجع إلى قوله: {وأولئك هُمُ الفاسقون} وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي.
وقالوا: بنفس القذف ترد شهادته ما لم يحد.
قال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات، فكيف تردون شهادته في أحسن حالته وتقبلونها في شر حالته.
وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة.(14/299)
وقالوا: الاستثناء يرجع إلى الكل.
وعامة العلماء على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة.
فإن قيل: إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله: «أبَداً» ؟
قيل: معناه: لا تقبل شهادته أبداً ما دام مصرًّا على قذفه، لأن أبد كل إنسان على ما يليق بحاله، كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبداً، يراد: ما دام كافراً.
فصل
اختلفوا في كيفية التوبة بعد القذف.
فقيل: التوبة منه إكذابه نفسه بأن يقول: كذبت فلا أعود إلى مثله.
وقيل: لا يقول كذبت، لأنه ربما يكون صادقاً، فيكون قوله: «كذبت» كذباً، والكذب معصية، وإتيان المعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه. ولا بد من مضي مدة عليه بعد التوبة يحسن حاله فيها حتى تقبل شهادته، وقدر تلك المدة سنة حتى يمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأحوال والطباع كأجل العنِّين، وقد علق الشرع أحكاماً بالنسبة من الزكاة والجزية وغيرهما، وهذا معنى قوله: «وَأَصْلَحُوا» ، ثم قال: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي يقبل التوبة.
لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات.(14/300)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
قال ابن عباس: لما نزل قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ(14/300)
شُهَدَآءَ} [النور: 4] قال عاصم بن عدي الأنصاري: «إنْ دخل رجلٌ منا بيته فرأى رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال: وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت عن غيظ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له: عُوَيْمِر، وله امرأة يقال لها: خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصماً فقال: لقد رأيت شريك بن سَحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: يا رسول الله، ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» وما ذاك «؟ فقال: أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خوله، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لهم جميعاً، فقال لعويمر:» اتقِ اللَّهَ في زوجتكِ وابنة عمك، ولا تقذفها «فقال: يا رسول الله، تالله لقد رأيت شريكاً على بطنها، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر، وإنها حبلى من غَيري. فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» اتّقي اللَّهَ ولا تخبرِي إلا بما صنعتِ «فقالت: يا رسول الله، إن عويمر رجلٌ غيور، وإنه رأى شريكاً يطيل النظر ويتحدث، فحملته الغيرة على ما قال، فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسولُ الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) بأن يؤذَّن: الصلاة جامعة، فصلى العصر ثم قال لعُوَيْمِر: قم وقل: أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثانية: أشهد أني رأيت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثالثة: أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمنَ الصادقين، ثم قال في الرابعة قل أشهد بالله أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين، ثم قال في الخامسة: لعنة الله على عُوَيْمِر (يعني: نفسه) إن كان من الكاذبين. ثم قال: اقعد، وقال لخولة: قومي، فقامت وقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة: أشهد بالله ما أنا حُبْلى منه وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الرابعة: اشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه من الكاذبين، وقالت في الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عُوَيْمر من الصادقين في قوله، ففرق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بينهما» .
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(14/301)
بشريك بن سحماء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» البينة وإلا حدٌّ في ظهرك «. فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول:» البينَةُ وإلاَّ حَدٌّ في ظهْرِك «. فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزيل جبريل - عليه السلام - وأنزل عليه: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ حتى بلغ {إِن كَانَ مِنَ الصادقين} فانصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول:» إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ «؟ . ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة.
قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، حدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء. فجاءت به كذلك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» لَوْلاَ مَا مَضَى من كتابِ الله - عزَّ وجلَّ - لكانَ لِي ولَهَا شَأْن «.
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال:» لما نزلت {والذين يَرْمُونَ المحصنات ... } [النور: 4] الآية قال سعد بن عبادة: لو أتيت لَكَاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلاَ تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ» .
قالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور، ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها. قال سعد: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق، ولكن عجبت من ذلك، فقال عليه السلام: «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْبَى إِلاَّ ذلك» . فقال: صدق الله ورسوله، قال: فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له: هلال بن أمية (من حديقة له) ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، فرأى(14/302)
رجلاً مع امرأته يزني بها، فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو جالس مع أصحابه، فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاءً فوجدتُ رجلاً مع امرأتي، رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما جاء به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه، فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم إني لصادق، وما قلت إلا حقاً، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً، فهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بضربه، قال: واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، يُجْلَد هلال وتبطل شهادته، فإنهم لكذلك ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل عليه الوحي، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ، فأنزل الله: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ... إلى آخر الآيات} . فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أبشر يا هلال، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ فَرجاً» . فقال: كنت أرجو ذلك من الله - عزَّ وجلَّ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أرسلوا إلَيْها» فجاءت فكذبت هلال. فقال عليه السلام: «اللَّه يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُما كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» ؟ وأمر بالملاعنة، وشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فقال عليه السلام له عند الخامسة: «اتَّقِ اللَّهَ يَا هلالُ، فإنَّ عذابَ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة» . فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله، وشهد الخامسة: أنَّ لعنةَ الله إِنْ كَانَ مِنَ الكاذِبين، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتشهدين "؟ فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، ثم قال لها عند الخامسة ووقفها: «اتقي الله فإنها الخامسة الموجبة، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس» . فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كانَ من الصَّادقين. ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بينهما، وقضى أن الولد لها، ولا يدعى لأب، ولا يرمى ولدها، ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي قِيلَ فِيهِ» . فجاءت به غلاماً كأنه جمل أورق، على التشبيه المكروه، وكان بعد أميراً بمصر ولا يدرى من أبوه «.
فصل
إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة، والتعزير إن لم تكن محصنة، كما في رمي الأجنبي، إلا أن قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف، أو ببينة أربعة شهداء على الزنا.(14/303)
وفي قذف الزوجة يسقط الحد عنه بأحد هذين الأمرين وباللعان.
وإنما اعتبر الشارع اللعان في الزوجات دون الأجنبيات، لأنه لا معيرة عليه في زنا الأجنبية، والأولى له سترة.
وأما في الزوجة فيلحقه العار والنسب الفاسد، فلا يمكنه الصبر عليه.
فصل
إذا قذف زوجته ونكل عن اللعان لزمه حد القذف، فإذا لاَعَن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا. وقال أبو حنيفة: يجلس الناكل منهما حتى يلاعن.
حجة القول الأول: قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ ... } الآية؛ فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد.
وأيضاً قوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} والألف واللام في «العَذَاب» للمعهود السابق وهو الحدّ، وليس للعموم، لأنه لم يجب عليها جميع أنواع العذاب. ومما يدل على بطلان الحبس في حق المرأة أن تقول: إن كان الرجل صادقاً فحدُّوني، وإن كان كاذباً فخلوني. وليس حبس في كتاب الله وسنة رسوله ولا الإجماع ولا القياس. واحتج أبو حنيفة بأن المرأة ما فعلت سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك ليس بينة على الزنا ولا إقراراً منها به، فوجب ألا يجوز رجمها لقوله عليه السلام: «لا يَحلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ» الحديث. وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن، لأن لا قائل بالفرق. وأيضاً فالنكول بصريح الإقرار، فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره.(14/304)
فصل
من صح يمينه صح لعانه، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين، وكذا إذا كان أحدهما رقيقاً، أو كان الزوج مسلماً والمرأة ذمية.
فإن قيل: اللعان شهادة، فوجب ألا يصح إلا من أهل الشهادة. وإنما قلنا: اللعان شهادة، لقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} فسمى اللعان شهادة كقوله: «واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ» ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين، وإذا ثبت أن اللعان شهادة وجب ألا تقبل من المحدودين في القذف لقوله: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور: 4] ، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر، إما للإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة، أو لأنه لا قائل بالفرق.
فالجواب: أن اللعان ليس شهادة في الحقيقة، بل هو يمين مخصوصة، لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه ولأنه لو كان شهادة لكانت المرأة تأتي بثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل، ولأنه يصح من الأعمى والفاسق ولا تجوز شهادتهما فإن قيل: الفاسق والفاسقة قد يتوبان. قلنا: وكذلك العبد قد يعتق فتجوز شهادته.
فصل
قال عثمان البتي: إذا تَلاَعَنَ الزوجان لم تقع الفرقة، لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة، فلا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة، ولأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقاً في قوله، وهذا لا يوجب تحريماً، (ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريماً) ، فإذا كان كاذباً والمرأة صادقة فأولى ألا يوجب تحريماً.
وأيضاً لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة، فكذا عند الحاكم. وأيضاً فاللعان إسقاط الحد (فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد) .(14/305)
وأيضاً فلو أكذب الزوج نفسه في قذفة إياها ثم حُدَّ لم يوجب ذلك الفرقة، فكذا إذا لاَعَن، لأن اللعان قائم مقام درء الحد.
وأما تفريق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قصة العجلاني، وكان قد طلقها ثلاثاً بعد اللعان فلذلك فرق بينهما.
وقال أصحاب الرأي: لا تقع الفرقة بفراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما، لما روى سهل بن سعد في قصة العجلاني مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ولأن في قصة عويمر أنهما لما فرغا قال: كذبتُ عليْهَا يا رسول الله إن أمسكتها، هي طالق ثلاثاً، (فطلقها ثلاثاً) قبل أن يأمرهما، ولو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله: كذبت عليها إن أمسكتُها، لأن إمساكها غير ممكن، ولأن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم، فوجب ألا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم، كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم وقال مالك والليث وزفر: (إذا فرغا) من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم بينهما، لأنه لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا، بل فرق بينهما، فدل على أن اللعان قد أوجب الفرقة.
وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج الشهادة فقد زال فراش امرأته، ولا يحل له أبداً لقوله تعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب ... الآية} ، فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج، ولأن لعان الزوج مستقلّ بنفي الولد، فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها.
فصل
في كيفية اللعان
وهو مذكور في الآية صريحاً. قال العلماء: يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة،(14/306)
وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب ويقول له: إني أخاف إن لم تكن صادقاً. ويكون اللعان عند الحاكم، فإن كان بمكة كان بين المقام والركن، وإن كان بالمدينة عند المنبر، وبيت المقدس في مسجده، وفي المواضع المعظمة. ولعان المشرك في الكنيسة وأما في الزمان فيوم الجمعة بعد العصر، ولا بد من حضور جماعة، وأقلهم أربعة. وهذا التغليظ قيل: واجب. وقيل: مستحب.
فصل
معنى الآية: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أي: يقذفون نساءهم {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ} يشهدون على صحة ما قالوا «إلاَّ أَنْفُسُهُمْ» أي: غير أنفسهم {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} .
قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} . في رفع «أنفسهم» وجهان:
أحدهما: أنه بدل من «شُهَدَاءُ» ، ولم يذكر الزمخشري في غضون كلامه (غيره) .
والثاني: أنه نعت له على أن «إلا» بمعنى: غير.
قال أبو البقاء: ولو قرئ بالنصب لجاز على أن يكون خبر «كانَ» ، أو منصوباً على الاستثناء، وإنما كان الرفع هنا أقوى لأن «إلا» هنا صفة للنكرة كما ذكرنا في سورة الأنبياء.
قال شهاب الدين: وعلى قراءة الرفع يحتمل أن تكون «كان» ناقصة، وخبرها الجار، وأن تكون تامة، أي: ولم يوجد لهم شهداء.
وقرأ العامة «يَكُنْ» بالياء من تحت، وهو الفصيح، لأنه إذا أسند الفعل لما بعد «إلا» على سبيل التفريغ وجب عند بعضهم التذكير في الفعل نحو «ما قام إلا هند» ولا يجوز «ما قامت» إلا في ضرورة كقوله:(14/307)
3815 - وَمَا بَقِيَتْ إِلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ ... أو في شذوذ، كقراءة الحسن: {لاَ تُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} .
وقرئ: «وَلَمْ تَكُنْ» بالتاء من فوق، وقد عرف ما فيه.
قوله: «فَشَهَادةُ أَحَدِهِمْ» في رفعها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ، وخبره مقدر التقديم، أي: فعليهم شَهَادة، أو مؤخر أي: فشهادة أحدهم كافية أو واجبة.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: فالواجب شهادة أحدهم.
الثالث: أن يكون فاعلاً بفعل مقدر، أي: فيكفي، والمصدر هنا مضاف للفاعل.
وقرأ العامة: «أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ» بالنصب على المصدر، والعامل فيه «شَهَادة» . فالناصب للمصدر مصدر مثله كما تقدم في قوله: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] . وقرأ الأخوان وحفص برفع «أَرْبَعُ» على أنها خبر المبتدأ، وهو قوله: «فَشَهادةُ» . ويتخرج على القراءتين تعلق الجار في قوله: «بِاللَّهِ» .(14/308)
فعلى قراءة النصب يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «شَهَادَاتٍ» لأنه أقرب إليه.
والثاني: أنه متعلق بقوله: «فَشَهَادَةُ» أي: فشهادة أحدهم بالله، ولا يضر الفصل ب «أَرْبَعُ» لأنها معمولة للمصدر فليست أجنبية.
الثالث: أن المسألة من باب التنازع، فإن كلاًّ من «شَهَادَةُ» أو «شَهَادَاتٍ» يطلبه من حيث المعنى، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول، وهو مختار البصريين وعلى قراءة الرفع يتعين تعلقه ب «شَهَادَاتٍ» إذ لو علقت ب «شَهَادةُ» لزم الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، ولا يجوز أنه أجنبي.
ولم يختلف في «أَرْبَعَ» الثانية، وهي قوله: {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} أنها منصوبة، للتصريح بالعامل فيها وهو الفعل.
قوله: «والخَامِسَةُ» اتفق السبعة على رفع «الخَامِسَةُ» الأولى، واختلفوا في الثانية: فنصبها حفص. ونصبهما معاً الحسن والسلمي وطلحة والأعمش.
فالرفع على الابتداء، وما بعده من «أَنَّ» وما في حيزها الخبر.
وأما نصب الأولى فعلى قراءة من نصب «أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ» يكون النصب للعطف على المنصوب قبلها. وعلى قراءة من رفع يكون النصب بفعل مقدر، أي: وتشهد الخامسة.
وأما نصب الثانية فعطف على ما قبلها من المنصوب وهو «أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ» ، والنصب هنا أقوى منه في الأولى لقوة النصب فيما قبلها كما تقدم تقريره، ولذلك لم يختلف فيه.
وأما «أَنَّ» وما في حيزها فعلى قراءة الرفع يكون في محل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم، وعلى قراءة النصب يكون على إسقاط الخافض ويتعلق الخافض بذلك الناصب(14/309)
ل «الخامسة» أي: ويشهد الخامسة بأنَّ لعنة الله، وبأن غضب الله وجوَّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من «الخَامِسَة» .
قوله: {أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ} .
قرأ العامة بتشديد «أنَّ» في الموضعين.
وقرأ نافع بتخفيفها في الموضعين، إلا أنه يقرأ «غَضِبَ اللَّهُ» يجعل «غَضِبَ» فعلاً ماضياً، والجلالة فاعله، كذا نقل أبو حيان عنه التخفيف في الأولى أيضاً، ولم ينقله غيره. فعلى قراءته يكون اسم «أَن» ضمير الشأن في الموضعين، و «لَعنةُ اللَّهِ» مبتدأ و «عَلَيْهِ» خبرها، والجملة خبر «أَنْ» ، وفي الثانية يكون «غَضِبَ اللَّهُ» جملة فعلية في محل خبر «أَنْ» أيضاً. ولكنه يقال: يلزمكم أحد أمرين: وهو إمَّا عدم الفصل بين المخففة والفعل الواقع خبراً، وإما وقوع الطلب خبراً في هذا الباب، وهو ممتنع.
تقرير ذلك: أن خبر (أنْ) المخففة متى كان فِعْلاً متصرفاً غير مقرون ب «قَدْ» وجب الفصل بينهما بما تقدم في سورة المائدة.
فإن أجيب بأنه دعاء، اعترض بأن الدعاء طلب، وقد نصوا على أن الجمل الطلبية لا تقع خبراً ل «أَنَّ» ، حتى تأولوا قوله:
3816 - إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيْبِ ... وقوله:
3817 - إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ ... لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
على إضمار القول.
ومثله: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] .(14/310)
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسُّلَمي وعيسى بتخفيف «أن» و «غَضَبُ الله» بالرفع على الابتداء، والجار بعده خبره، والجملة خبر «أَنْ» .
وقال ابن عطية: و (أَنْ) الخفيفة على قراءة (نافع) في قوله: (أَنْ غَضِب) قد وليها الفعل. قال أبو علي: وأهل العربية يستقبحون أن يَلِيهَا الفعل، إِلاَّ أن يُفْصل بينها وبينه بشيء، نحو قوله:
{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ} [المزمل: 20] ، {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ} [طه: 89] ، فأما قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ} [النجم: 39] فذلك لقلة تمكن (ليس) في الأفعال، وأما قوله: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] و (بُورِكَ) في معنى الدعاء، فلم يجئ دخول الفاعل لئلا يفسد المعنى، فظاهر هذا أن (غَضِب) ليس دعاء، بل هو خبر عن {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْها} . والظاهر أنه دعاء كما أن (بُورِكَ) كذلك، وليس المعنى على الإخبار فيهما فاعتراض أبي علي وأبي محمد ليس بمرضي.
قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} .
جواب: «لَوْلاَ» محذوف أي: لهلكتم أو لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان، {وَأَنَّ الله تَوَّابٌ} يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة «حَكِيمٌ» فيما فرض من الحدود.(14/311)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} الآية.
في خبر «إِنَّ» وجهان:
أحدهما: أنه عصبةٌ و «مِنْكُمْ» صفته. قال أبو البقاء: «وبه أفاد الخبر» .
والثاني: أن الخبر الجملة من قوله: «لاَ تَحْسَبُوهُ» ، ويكون «عُصْبَةٌ» ، بدلاً من فاعل «جَاءوا» . قال ابن عطية: التقدير: إنَّ فعل الذين، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون «عُصْبَةٌ» خبر (إِنَّ) . كذا أورده عنه أبو حيان غير معترض عليه؛(14/311)
والاعتراض عليه واضح من حيث أنه أوقع خبر «إِنَّ» جملة طلبية، وقد تقدم أنه لا يجوز وإن ورد منه شيء في الشعر أُوِّلَ كالبيتين المتقدمين. وتقدير ابن عطية ذلك المضاف قبل الموصول ليصحّ به التركيب الكلامي، إذ لو لم يقدر لكان التركيب «لاَ تَحْسَبُوهُمْ» .
ولا يعود الضمير في «لا تَحْسَبُوهُ» على قول ابن عطية على الإفك لئلا تخلو الجملة من رابط يربطها بالمبتدأ.
وفي قول غيره يجوز أن يعود على الإفك، أو على القذف، أو على المصدر المفهوم من «جَاءُوا» ، أو على ما نال المسلمين من الغم.
فصل
سبب نزول هذه الآية ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم رووا عن عائشة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، قالت: فأقرع بيننا في غزوة غزاها قبل بني المصطلق فخرج بها سهمي، فخرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسِرْنَا حتى إذا فرغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة قافلين نزل منزلاً ثم آذَنَ بالرحيل، فقمت حين آذنوا ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني(14/312)
أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظَفَار وقد انقطع، فرجعت والتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يُهْبَّلْنَ ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العُلْقَة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن فظنوا أني في الهودج، وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعدما اسْتَمَرَّت الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني ويعودون في طلبي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش يتبع أمتعة الناس يحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب شيء، فلما رآني عرفني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحتله فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها، وانطلق يقود بي حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، وافتقدني(14/313)
الناس حين نزلوا، وماج الناس في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم، فتكلم القوم وخاضوا في حديثي.
قالت: فَهَلَك مَنْ هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أُبيّ ابن سَلولٍ. قال عروة: لم يسلم من الإفك إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أُثاثة، وحمنة بنت جحش. في أناس آخرين لا علم بهم غير أنهم عصبة كما قال عزَّ وجلَّ. قال عروة: وكانت عائشة تكره أن يُسَب عندها حسان وتقول: إنه هو الذي قال:
3818 - فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قالت عائشة: وقدم رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) المدينة، ولم أر فيه - عليه السلام - ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، فاشتكيت حتى قدمت شهراً، وهو يريبني في وجعي أنَّي لا أرى من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيسلم ثم يقول: «كيف تيكُمْ» ؟ ثم ينصرف، فذلك يَريبُني، ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مِسْطَح قِبَلَ المناصع وكان(14/314)
متبرَّزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى الليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا قالت: فانطلقت أنا وأم مِسْطَح، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف. وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابنُها مِسْطَح بن أُثَاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وأم مِسْطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مِسْطَح في مرطها، فقالت: تعس مِسْطَح. فقلت لها: بئس ما قلت، أَتَسُبِّين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟ فقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، وقالت: أشهد بالله إنك من المؤمنات الغافلات. فازددتُ مرضاً على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم قال: «كيف تِيكُمْ» ؟ فقلت له أتأذن لي أن آتي أَبَوَيّ؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت لأمي: يا أماه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية، هَوِّني عليك، فوالله لقلَّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراء إلا كَثَّرنَ عليها.
فقلت: سبحان الله، أو لقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأُ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فدخل عليَّ أبي وأنا أبكي، فقال لأمي: ما يبكيها؟ قالت: لم تكن علمت ما قيل فيها، فأقبل يبكي. قالت: ودعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق(14/315)
أهله، فقال أسامة: يا رسول الله، هم أهلك، ولا نعلم إلا خيراً. وأما عليّ فقال: لم يضيِّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تَصْدُقكَ، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بَرِيرَة، فقال: «هَلْ رأيتِ من شيء يُريبُك» ؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق نبياً ما رأيت عليها أمراً قط أغضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله. قالت: فقام نبي الله خطيباً على المنبر فقال: يا معشر المسلمين من يعذرُني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي - يعني: عبد الله بن أُبيّ - فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أخو بني الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعْذِرُك فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً، ولكن أخذته الحمية، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمر الله لا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حُضَير، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتله، وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا. قالت: فبكيتُ يَوْمِي ذلك كله وليلتي لا يَرْقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أني لأظنّ أن البكاء فالق كبدي، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن على ذلك إذ دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علينا فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل فِيَّ ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين جلس ثم قال: أمَّا بعد يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن(14/316)
كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه قالت: فلمَّا قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مقالته قلص دمعي حتى ما أحسُّ منه قطرة، (فقلت) لأبي: أجب عني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيما قال.
فقال: والله ما أردي ما أقول لرسول الله. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت وأنا جارية حديثة السِّن لا أقرأ من القرآن كثيراً: إني والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقونني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم وأنا أعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى، ولَشَأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأَمْرٍ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر فيه العرق مثل الجمان في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه. قالت: فسري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو يضحك، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال: «يا عائشة، أما الله قد برأك» قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: فوالله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله. قالت: وأنزل الله {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ. .} العشر آيات. فقال أبو بكر: والله لا أنفق على مِسْطَح بعدها، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره، فأنزل الله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة. .} [النور: 22] إلى قوله: «غَفُورٌ رَحِيمٌ» . فلما سمع أبو بكر قوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22] قال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى النفقة على مِسْطح وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
قال: فلما نزل عُذْري قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فذكر(14/317)
ذلك وتلا القرآن، فلما نزل ضرب عبد الله بن أُبيِّ ومِسْطَح وحسَّان وحَمنَة الحد.
فصل
الإفك: أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وهو أسوأ الكذب. وسمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق من قولهم: أفك الشيء: إذا قلبه عن وجهه. قيل: هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد: ما أفك به على عائشة.
وإنما وصف الله ذلك الكذب بكونه إفكاً لكون المعروف من حال عائشة خلافه، وذلك من وجوه:
الأول: أن كونها زوجة المعصوم يمنع من ذلك، لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعونهم ويستعطفونهم، فيجب ألا يكون معهم ما ينفر عنهم، وكون زوجة الإنسان مسافحة من أعظم المنفرات.
فإن قيل: كيف جاز أن تكون امرأة الرسول كافرة كامرأة نوح ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ وأيضاً فلو لم يجز لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما خاف ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة؟
فالجواب عن الأول: أن الكفر ليس من المنفرات بخلاف الفجوز فإنه من المنفرات.
والجواب عن الثاني: أنه عليه السلام كثيراً ما يكون يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد ذلك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] فهذا من ذاك الباب.
الثاني: أن المعروف من عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور، ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به.
الثالث: أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم، وكلام المفتري ضرب من الهذيان. فلمجموع هذه كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي.(14/318)
فصل
العُصْبَةُ: قيل: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وكذلك العِصَابَة، وهم عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم.
قوله: «كِبْرَهُ» العامة على كسر الكاف.
وضمّها في قراءته الحسن والزهري وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعَمْرة بنت عبد الرحمن. ورويت أيضاً عن أبي عمرو والكسائي.
فقيل: هما لغتان في مصدر: كبر الشيء، أي: عظم، لكن غلب في الاستعمال أن المضموم في السن والمكانة، يقال: هو كُبر القوم بالضم، أي: أكبرهم سناً أو مكانة، وفي الحديث قصة مُحَيْصَة وحويصة: «الكُبْرَ الكُبْرَ» .
وقيل: بالضم: معظم الإفك. وبالكسر: البداءة. وقيل: بالكسر: الإثم.
قوله: «مِنْكُم» معناه: إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون، لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهراً.
قوله: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} هذا شرح حال المقذوف وليس خطاب مع القاذفين.
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين:
أحدهما: أنه لم يتقدم ذكرهم.
والثاني: أن المقذوفين هم عائشة وصفوان، فكيف يحمل عليهما صيغة الجمع في قوله: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} ؟
فالجواب عن الأول: أنه تقدم ذكرهم في قوله: «مِنْكُمْ» .(14/319)
وعن الثاني: أن المراد من لفظ الجمع: كل من تأذّى بذلك الكذب، ومعلوم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تأذّى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به.
فإن قيل: فمن أي جهة يصير خيراً لهم مع أنه مَضَرّة؟
فالجواب: لوجوه:
أحدها: أنهم صبروا على ذلك الغم طلباً لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين.
وثانيها: لولا إظهار الإفك كان يجوز أن يبقى الهَمُّ كامِنٌ في صدور البعض، وعند الإظهار انكشف كذب القوم.
وثالثها: صار خيراً لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثماني عشرة آية، كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة، وشهد الله بكذب القاذفين، ونسبهم إلى الإفك، وأوجب عليهم اللعن والذم، وهذا غاية الشرف والفضل.
ورابعها: صيرورتها بحال تعلق الكفر بقذفها، فإن الله لما نص على كون تلك الواقعة إفكاً وبالغ في شرحه، فكل من شك فيه كان كافراً قطعاً، وهذه درجة عالية.
وقال بعضهم: قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} خطاب مع القاذفين وجعل الله خيراً لهم من حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة، ومن حيث تاب بعضهم عنده. وهذا القول ضعيف، لأنه تعالى خاطبهم بالكاف، ولما وصف أهل الإفك خاطبهم بالهاء بقوله: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم} ، ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة، فالمراد: لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا، والمعنى: أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض.
قوله: {والذي تولى كِبْرَهُ} . أي: الذي قام بإشاعة هذا الحديث وهو عبد الله بن (أبيّ ابن) سلول. والعذاب العظيم هو النار في الآخرة.
روي عن عائشة في حديث الإفك قالت: ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين، وكان عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس، فقال عبد الله بن أبي رئيسهم: من هذه؟ قالوا: عائشة. قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقودها. وشرع في ذلك أيضاً حسان بن ثابت، ومِسْطَح، وحمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله، فهم الذين تولوا كِبْرَه. والأقرب أنه عبد الله بن أُبيّ، فإنه كان منافقاً يطلب ما يقدح في (الرسول) .(14/320)
قال مسروق: دخلتُ على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعراً يشبب بأبيات له وقال:
3819 - حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبحُ غَرْثَى مِنْ لحُومِ (الغَوَافِلِ)
فقالت له عائشة: «لكنك لست كذلك» .
قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله: « {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ؟ قالت:» وأيُّ عذابٍ أشد من العمى «.
وروي أن عائشة ذكرت حسان وقالت: «أَرْجُو لَهُ الجنةَ» . فقيل: أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت: «إذا سَمِعْتُ شِعْرَهُ في مدحِ الرسولِ رَجَوْتُ لَهُ الجَنَّةَ» وقال عليه السلام: «إِنَّ الله يؤيد حسان بروح القدس في شعره» .
وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعاً.
فصل
المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئاَ بذلك القول، فلا جرم حصل له من العقاب ما حصل لكل من قال ذلك، لقوله عليه السلام: «من سنَّ سُنّة سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
وقال أبو مسلم: «سبب تلك الإضافة شدة الرغبة في إشاعة تلك الفاحشة» .(14/321)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
قوله تعالى: {لولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} «لَوْلاَ» هذه تحضيضية، أي: هَلاَّ، وذلك كثير في اللغة إذا كانت تلي الفعل كقوله: «لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي» وقوله: «فَلَوْلاَ كَانَتْ» .
فأما إذا ولي الاسم فليس كذلك كقوله: {لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] ، {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النور: 21] . و «إذْ» منصوب ب «ظَنَّ» والتقدير: لولا ظَنَّ المؤمنون بأنفسهم إذ سَمِعْتُمُوه. وفي هذا الكلام التفات. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: لولا إذ سمعتموه، ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم، ولِمَ عَدَل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت: ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض ألا يصدق (أحد قالةً في أخيه، وألا يظن بالمسلمين إلا خيراً) .
وقوله: «وَلِمَ عدل عن الخطاب» ؟ يعني في قوله: «وَقَالُوا» فإنه كان الأصل: «وقلتم» ، فعدل عن هذا الخطاب إلى الغيبة في «وَقَالُوا» .
وقوله: «وعن الضمير» يعني أن الأصل كان «ظَنَنْتُمْ» فعدل عن ضمير الخطاب إلى لفظ المؤمنين.
فصل
المعنى: هلاَّ {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ} بإخوانهم «خَيْراً» .
وقال الحسن: بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة، كقوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61] المعنى: بأمثالكم من المؤمنين.
وقيل: جعل المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور، فإذا جرى(14/322)
على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم، كما قال عليه السلام «مَثَلُ المُسْلِمينَ في تَوَاصُلِهِمْ وتراحُمِهِمْ كمثل الجَسَد إذا وجع بعضه وجع كله بالسَّهر والحُمَّى» ، وقال عليه السلام: «المؤمنُون كالبُنْيَانِ يشدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» .
وقوله: {هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي: كذب بين.(14/323)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
قوله: «لَوْلاَ جَاءُوا» : هَلاَّ جاءوا {عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} أي: على ما زعموا يشهدون على معاينتهم ما رَمَوْها به {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ} ولم يقيموا بينةً على ما قالوه {فأولئك عِندَ الله} أي: في حكمه «هُمُ الكَاذِبُون» .
فإن قيل: كيف يصيرون عند الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت؟
فالجواب: معناه: كذبوهم بأمر الله.
وقيل: هذا في حق عائشة خاصة، فإنهم كانوا عند الله كاذبين.
وقيل: المعنى: في حكم الكاذبين، فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب، والقاذف إذا لم يأت بالشهود فإنه يجب زجره، فلما (كان) شأنه (شأن) الكاذب في الزجر أطلق عليه أنه كاذب مجازاً.
قوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ} . «إذْ» منصوب ب «الكَاذِبُونَ» في قوله: {فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} ، وهذا كلام في قوة شرط وجزاء.
قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ} من(14/323)
الإفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} . (وهذا زجر) و «لَوْلاَ» هاهنا لامتناع الشيء لوجود غيره ويقال: أفاض في الحديث: اندفع وخاض. والمعنى: ولو أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال، وأتَرَحَّم عليكم في الآخرة بالعفو، لعاجلتُكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك.
وقيل: المعنى: وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لمَسَّكُم العَذَابُ في الدُّنْيَا والآخرة معاً، فيكون فيه تقديم وتأخير. وهذا الفضل هو حكم الله لمن تاب.
وقال ابن عباس: المراد بالعذاب العظيم أي: عذاب لا انقطاع له. أي: في الآخرة لأنه ذكر عذاب الدنيا من قبل فقال: {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] وقد أصابه، فإنه جلد وحدّ.(14/324)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
قوله: «إذْ تَلَقَّوْنَهُ» . «إذْ» منصوب ب «مَسَّكُمْ» أو ب «أَفَضْتُمْ» .
وقرأ العامة: «تَلَقَّوْنَهُ» والأصل: تَتَلَقَّوْنَهُ، فحُذِفَ إحدى التاءين ك «تَنَزَّل» ونحوه، ومعناه: يَتَلَقَّاهُ بعضكُمْ من بعضٍ.
قال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا وكذا، يتلقونه تلقياً.
قال الزجاج: يلقيه بعضهم إلى بعض.
والبَزِّي على أصله في أنه يُشَدِّدُ التَّاءَ وَصْلاً، وتقدم تحقيقه في البقرة نحو «ولا تَيَمَّمُوا» وهو هناك سهل، لأن ما قبله حرف لين بخلافه هنا.(14/324)
وأبو عمرو والكسائي وحمزة على أصولهم في إدغام الذال في التاء.
وقرأ أُبيّ: «تَتَلَقَّوْنَهُ» بتاءين، وتقدم أنها الأصل. وقرأ ابن السميفع في رواية عنه: «تُلْقُونه» بضم التاء وسكون اللام وضم القاف مضارع: ألقى إلقاء.
وقرأ هو في رواية أخرى: «تَلْقَونه» بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف مضارع: لقي. وقرأ ابن عباس وعائشة وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الرجل: إذا كذب. قال ابن سيدة: جاءوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي، وعندي أنه أراد: تلقون فيه، فحذف الحرف، ووصل الفعل للضمير، يعني: أنهم جاءوا ب «تَلَقَّوْنَهُ» وهو متعد مفسراً ب «تكذبون» وهو غير متعد، ثم حمله على ما ذكر. وقال الطبري وغيره: إن هذه اللفظة مأخوذة من الوَلَق وهو الإسراع بالشيء بعد الشيء، كعَدْوٍ في إثْر عدو، وكلامٍ في إثر كلامٍ، يقال: ولق في سيره أي: أسرع، وأنشد:
3820 - جَاءَتْ بِهِ عِيسٌ مِنَ الشَّامِ تَلِقْ ... وقال أبو البقاء: أي: يُسْرِعُون فيه، وأصله من «الولق» وهو الجنون.
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر: «تَأْلِقُونَهُ» بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف مضمومة من «الأَلَق» وهو الكَذِبُ. وقرأ يعقوب: «تِيلَقُونه» بكسر التاء من فوق،(14/325)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
بعدها ياء ساكنة ولام مفتوحة وقاف مضمومة، وهو مضارع «وَلِق» بكسر اللام، كما قالوا: «تيجل» مضارع «وَجِل» . وقوله: «بِأَفْوَاهِكمْ» كقوله: «يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ» وقد تقدم.
فصل
اعلم أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام، وعلق مس العذاب العظيم بها.
أحدها: تلقي الإفك بألسنتهم، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل يقول له: ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع واشتهر، ولم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه. فكأنهم سعوا في إشاعة الفاحشة، وذلك من العظائم.
وثانيها: أنهم كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به، وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم، ونظيره:
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] .
وثالثها: أنهم كانوا يستصغرون ذلك، وهو عظيمة من العظائم.
وتدل الآية على أن القذف من الكبائر لقوله: {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} ، وتدل على أن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه.
ونبه بقوله: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً» على أن عمل المعصية لا يختلف بظن فاعله وحسبانه، بل ربما كان ذلك مؤكداً لعظمه.
فإن قيل: ما معنى قوله: «بِأَفوَاهِكُمْ» والقول لا يكون إلاّ بالفم؟
فالجواب: معناه: أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه باللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] .
قوله
: {ولولاا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} كقوله: {لولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ} [النور: 12] ولكن الالتفات فيه قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصل بين (لولا) و (قلتم) بالظرف؟ قلت:(14/326)
للظروف شأن ليس لغيرها، لأنها لا ينفك عنها ما يقع فيها، فلذلك اتسع فيها.
قال أبو حيان: «وهذا يوهم اختصاص ذلك بالظروف، وهو جائز في المفعول به، تقول: لولا زيداً ضربتُ، ولولا عَمْراً قتلتُ» .
وقال الزمخشري أيضاً: فإن قلت: أي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقِعَ فاصلاً؟ قلت: الفائدة فيه: بيان أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب تقديمه. فإن قلت: ما معنى «يكون» والكلام بدون مُتْلَئِب لو قيل: ما لنا أن نتكلم بهذا؟ قلت: معناه: ينبغي ويصح، أي: ما ينبغي وما يصح كقوله: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ} [المائدة: 116] .
فصل
قوله: {ولولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سُبْحَانَكَ} هذا اللفظ هنا معناه التعجب {هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي: كذب عظيم يبهت ويتحير من عظمته.
روي أن أم أيوب قالت لأبي أيوب الأنصاري: أما بلغك ما يقول الناس في عائشة؟ فقال أبو أيوب: «سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ» فنزلت الآية على وفق قوله.(14/327)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ ... } الآية وهذا من باب الزواجر،(14/327)
أي: يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب، ولأن فيه الحد والنكال في الدنيا والعذاب في الآخرة، لكي لا تعودوا إلى مثل هذا الفعل أبداً.
قوله: «أَنْ تَعُودُوا» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعول من أجله، أي: يعظكم كراهة أن تعودوا.
الثاني: أنه على حذف «في» أي: في أن تعودوا، نحو: وعطف فلاناً في كذا، فتركه.
الثالث: أنه ضمن معنى فعل يتعدى ب «عَنْ» ثم حذفت، أي: يَزْجُرُكُمْ بالوعظ عن العود.
وعلى هذين القولين يجيء القولان في محل «أنْ» بعد نزع الخافض.
قال ابن عباس: «يحرم الله عليكم» .
وقال مجاهد: «يَنْهَاكم اللَّهَ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أبداً إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم الآيَات» في الأمر والنهي «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بأمر عائشة وصفوان «حَكِيمٌ» ببراءتهما.
واعلم أن العليم الحكيم هو الذي لا يأمر إلا بما ينبغي، ولا يهمل جزاء المستحقين فلهذا ذكر هاتين الصفتين وخصهما بالذكر.
فصل
استدلت المعتزلة بقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} على أن ترك القذف من الإيمان، لأن المعلق على الشرط يعدم عند عدم الشرط.
وأجيبوا بأن هذا معارض بقوله: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} [النور: 11] أي: منكم أيها المؤمنون، فدل ذلك على أن القذف لا يوجب الخروج عن الإيمان، وإذا ثبت التعارض حملنا هذه الآية على التهيج في الاتعاظ والانزجار.
فصل
قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد مَنْ جميع من وعظه مجانبة ذلك في المستقبل وإن كان فيهم من لا يطيع، فمن هذا الوجه يدل على أنه يريد منهم كلهم(14/328)
الطاعة وإن عصوا، ولأن قوله: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ} ، أي: لكي لا تعودوا لمثله، وذلك يدل على الإرادة، وتقدم الجواب عنه مراراً.
فإن قيل: هل يجوز أن يسمى الله واعظاً لقوله: «يَعِظُكُم اللَّهُ» ؟ فالأظهر أنه لا يجوز، كما لا يجوز أن يسمى الله معلماً لقوله: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1 - 2] .(14/329)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} الآية.
لمَّا بين ما على الإفك وعلى مَنْ سُمِع مِنْهُ وما ينبغي أن يتمسكوا به من آداب الدين أتبعه بقوله: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا كما شارك فيه من فعله.
والإشاعة: الانتشار، يقال: في هذا العقار سهم شائع: إذا كان في الجميع ولم يكن منفصلاً. وشاع الحديث: إذا ظهر في الجميع ولم يكن منفصلاً. وشاع الحديث: إذا ظهر في العامة. والمعنى: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ} أن يظهر ويذيع الزنا {فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة} يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين والعذاب في الدنيا: الحد. وفي الآخرة: النار.
وظاهر الآية يتناول كل من كان بهذه الصفة.
والآية إنما نزلت في قَذَفَةِ عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وهذا حسن الموقع في هذا الموضع، لأن محبة القلب كافية ونحن لا نعلمها إلا بالإبانة، وأما الله - سبحانه - فإنه لا يخفى عليه، وهذا نهاية في الزجر، لأن من أحبّ إشاعة الفاحشة وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله يعلم ذلك منه، ويعلم قدر الجزاء عليه.
وهذه الآية تدل على أن العزم على الذنب العظيم ذنب، وأن إرادة الفسق فسق، لأنه تعالى علق الوعيد بمحبّة إشاعة الفاحشة.
فصل
قالت المعتزلة: إن الله بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة، فلو كان تعالى هو(14/329)
الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلا هو، فكان يجب ألا يستحق الذم على إشاعة الفاحشة إلا هو، لأنه هو الذي فعل تلك الإشاعة، وغيره لم يفعل شيئاً، وتقدم الكلام على (نظيره) .(14/330)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} جواب «لولا» محذوف، أي: لعاجلكم بالعقوبة.
قال ابن عباس: يريد مسطحاً وحسان وحَمْنة. ويجوز أن يكون الخطاب عاماً.
وقيل: جوابه في قوله: {مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} .
وقيل: جوابه: لكانت الفاحشة تشيع فتعظم المضرة، وهو قول أبي مسلم. والأقرب أن جوابه محذوف، لأن قوله من بعد: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ} كالمنفصل من الأول، فلا يكون جواباً للأول خصوصاً (وقد) وقع بين الكلامين كلام آخر.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} الآية قرئ «خُطُوَاتِ» بضم الطاء وسكونها. والخُطُوات: جمع خُطْوة وهو من خَطَا الرجلُ يَخْطُوا خَطْواً فإذا أردت الواحدة قلت: خَطْوَة مفتوحة الأول، والمراد بذلك: السيرة.
والمعنى: لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في إشاعة الفاحشة، والله(14/330)
تعالى وإن خص بذلك المؤمنين، فهو نهي لكل المكلفين، لأن قوله: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء} منع لكل المكلفين من ذلك والفحشاء: ما أفْرَط قُبْحُهُ. والمُنْكَر: ما تنكره النفوس، فتنفر عنه ولا ترتضيه.
قوله: «فإنه يأمر» في هذه الهاء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها ضمير الشأن، وبه بدأ أبو البقاء.
والثاني: أنها ضمير الشيطان.
وهذان الوجهان إنما يجوزان على رأي من لا يشترط عود الضمير على اسم الشرط من جملة الجزاء.
والثالث: أنه عائد على «مَنْ» الشرطية.
قوله: «مَا زَكَى» . العامة على تخفيف الكاف، يقال: زَكَا يَزْكُو، وفي ألفه الإمالة وعدمها. وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بتشديدها. وكتبت ألفه ياء، وهو شاذ، لأنه من ذوات الواو كغزا، وإنما حمل على لغة من أمال، أو على كتابة المشدد.
فعلى قراءة التخفيف يكون «مِنْ أحَدٍ» فاعلاً. وعلى قراءة التشديد يكون مفعولاً، و «مِنْ» مزيدة على كلا التقديرين، والفاعل هو الله تعالى.
فصل
قال مقاتل: ما زَكَا: ما صلح.
وقال ابن قتيبة: ما (ظهر) .
وقيل: من بلغ في الطاعة لله مبلغ الرضا، (يقال: زكا الزرع) ، فإذا بلغ المؤمن(14/331)
في الصلاح في الدين ما يرضاه (تعالى) سمي زكياً، فلا يقال: زكى إلا إذا وجد زاكياً، كما لا يقال لمن ترك الهدى: هداه الله مطلقاً، بل يقال: هداه الله فلم يهتد. ودلت الآية على أن الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد، لأن التزكية كالتسويد والتحمير، فكما أن التسويد يحصل السواد، فكذا التزكية تحصل الزكاء في المحل.
والمعتزلة حملوها هنا على فعل الإلطاف، أو على الحكم بكون العبد زكياً، وهو خلاف الظاهر، ولأن الله تعالى قال: {ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} علق التزكية على الفضل والرحمة، وخلق الإلطاف واجباً فلا يكون معلقاً بالفضل والرحمة، وأما الحكم بكونه زكياً فذلك واجب، لأنه لولا الحكم له لكان كذباً (و) الكذب على الله محال، فكيف يجوز تعليقه بالمشيئة؟ .
فصل
قال ابن عباس في رواية عطاء: هذا خطاب للذين خاضوا في الإفك، ومعناه: ما ظهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل، أي: ما قبل منكم توبة أحد أبداً، {ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} يطهر «مَنْ يَشَاءُ» من الذنب بالرحمة والمغفرة {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: يسمع أقوالكم في القذف، وأقوالكم في البراءة و «عَلِيمٌ» بما في قلوبهم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهتها، وإذا كان كذلك وجب الاحتراز عن معصيته.(14/332)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} الآية.
يجوز أن يكون «يَأْتَلِ» : «يفتعل» ، من الألية، وهي الحلف، كقوله:
3821 - وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلَّلِ ...(14/332)
ونصر الزمخشري هذا بقراءة الحسن «ولا يَتَأَلَّ» من الأليَّة، كقوله: «مَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكَذبْهُ» .
ويجوز أن يكون «يفتعل» من أَلَوْت، أي: قَصَّرْتُ، كقوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] قال:
3822 - وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَة نَفْسِهِ ... بمُدْرِكِ أَطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِ
وقال أبو البقاء: وقرئ: «وَلاَ يَتَأَلَّ» على «يَتفعل» وهو من الألية أيضاً، ومنه:
3823 - تَألَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لَيَرُدُّنِي ... إلى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَفَائِدُ
قوله: «أَنْ يُؤْتُوا» هو على إسقاط الجار، وتقديره على القول الأول: ولا يأتل أولو الفضل على أن لا يحسنوا. وعلى الثاني: ولا يقصر أولو الفضل في أن يحسنوا.
وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسيم وابن قطيب: «تؤتوا» بتاء الخطاب، وهو التفات موافق لقوله: «أَلاَ تُحِبُّون» . وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين «ولتعفوا ولتصفحوا» بالخطاب وهو موافق لما بعده.(14/333)
فصل
المشهور أن معنى الآية: لا يحلف أولو الفضل، فيكون «افتعال» من الألية.
قال أبو مسلم: وهذا ضعيف لوجهين:
أحدهما: أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع عن الحلف على الإعطاء، وهم أرادوا المنع على ترك الإعطاء، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب، وجعل المنهي عنه مأموراً به.
الثاني: أنه قلما يوجد في الكلام «أَفتعَلت» مكان «أفعلت» (وإنما وجد مكان «فعلت» ) وهنا آليْتُ من الأليّة: «افْتَعَلْتُ» فلا يقال: أفعلت، كما لا يقال من ألزمت التزمت، ومن أعطيت اعتطيت. ثم قال في «يأتل» : إن أصله «يأتلي» ذهبت الباء للجزم لأنه نهي، وهو من قولك: مَا ألوتُ فلاناً نصحاً، ولم آل في أمري جُهْداً، أي: ما قصرت. ولا يأل ولا يأتل ولم يأل والمراد: لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم، ويوجد كثيراً «افْتَعَلْتُ» مكان «فَعَلْت» ، تقول: كسبتُ واكتسبت، وصنعتُ واصطنعتُ، وهذا التأويل مروي عن أبي عبيدة. قال ابن الخطيب: «وهذا هو الصحيح دون الأول» .
وأجاب الزجاج عن الأول بأن «لا» تحذف في اليمين كثيراً، قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ} [البقرة: 224] يعني: أن لا تبروا، وقال امرؤ القيس:
3824 - فَقُلْتُ يَمِين اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ... أي: لا أبرح.
وأجابوا عن السؤال الثاني أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظ باليمين، وقول واحد منهم حجة في اللغة، فكيف الكل؟ ويعضده قراءة الحسن: «ولا يَتَأَلَّ» .
فصل
قال المفسرون معناه: ولا يحلف {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} أي: أولوا الغنى،(14/334)
يعني: أبا بكر الصديق {أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} يعني: مِسْطَحاً، وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً ابن خالة أبي بكر حلف أبو بكر لا ينفق عليه «وَلْيَعْفُوا وليصْفَحُوا» عنهم خوضهم في أمر عائشة «أَلاَ تُحِبُّونَ» يخاطب أبا بكر {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله (لَكُمْ) والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فلما قرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أبي بكر قال: «بلى إنما أحب أن يغفر الله لي» ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال: «والله لا أنزعها منه أبداً» .
وقال ابن عباس والصحابة أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر ألا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية.
فصل
أجمع المفسرون على أن المراد من قوله: «أولُوا الفَضْل» أبو بكر، وهذا يدل على أنه كان أفضل الناس بعد الرسول، لأن الفضل المذكور في الآية إما في الدنيا وإما في الدين، والأول باطل، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له، والمدح من الله بالدنيا غير جائز، ولأنه لو جاز ذلك لكان قوله: «والسَّعَة» تكريراً، فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين، فلو كان غيره مساوياً له في الدرجة في الدين لم يكن هو صاحب الفضل، لأن المساوي لا يكون فاضلاً، فلما أثبت الله له الفضل غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق تُرك العمل به في حق الرسول - عليه السلام - فيبقى معمولاً به في حق الغير.
وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو عليّ، فإذا تبين أنه ليس المراد عليًّا تعينت الآية في أبي بكر.
وإنما قلنا: ليس المراد عليًّا، لأن ما قبل الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر، ولأنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة، وأن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لم يكن من أولي السَّعة في الدنيا في ذلك الوقت، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعاً.
فصل
أجمعوا على أن مِسْطَحاً كان من البدريين، وصح عنه عليه السلام أنه قال: «(14/335)
لَعَلَّ الله نظرَ إلى أهل بدر فقال: اعمَلُوا ما شِئْتُم، فقد غفرت لكم» فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدريًّا؟
والجواب: أنه لا يجوز أن يكون المراد منه: افعلوا ما شئتم من المعاصي، فيأمر بها، لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقياً عليهم، ولو حملناه على ذلك لأفضى إلى زوال التكليف عنهم، ولو كان كذلك لما جاز أن يحدّ مِسْطح على ما فعل، فوجب حمله على أحد أمرين:
الأول: أنه تعالى علم توبة أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير، فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة.
والثاني: أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة، فكأنه تعالى قال: قد غفرتُ لكم لعلمي بأنَّكم تموتون على التوبة والإنابة، فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة.
فصل
دلت الآية على أن (الأيمان على) الامتناع من الخير غير جائز، وإنما يجوز إذا حصلت داعية صارفة عنه.
فصل
مذهب الجمهور أنَّ من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه.
وقال بعضهم: إنه يأتي بالذي هو خير، وذلك هو كفارته، لأن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة. ولقوله عليه السلام: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فرأى غيرها خيراً مِنْهَا فليأتِ الذي هو خير، وذلك كفارته» .
واحتج الجمهور بقوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] ، وقوله: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] ، وقوله لأيوب - عليه السلام -: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] وقد علمنا أن الحنث كان خيراً من تركه، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها، بل كان يحنث بلا كفارة، وقال عليه السلام: «(14/336)
مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمينٍ فرَأَى غيرَها خيراً منْهَا فليأتِ الَّذِي هو خيرٌ وليكفِّرْ عن يمينه» .
وأما قولهم: إنَّ الله تعالى لم يذكر الكفارة في قصة أبي بكر، فإن حكمها كان معلوماً عندهم. وأما قوله عليه السلام: «وليأت الذي هو خير، وذلك كفارته» فمعناه: تكفير الذنب لا أنه الكفارة المذكورة في الكتاب.
فصل
روي عن عائشة أنها قالت: «فَضِلْتُ على أزواج النبي بعشر خصال:
تزوج رسول الله بي بكراً دون غيري، وأبواي مهاجران، وجاء جبريل بصورتي وأمره أن يتزوج بي، وكنت أغتسل معه في إنائه، وجبريل ينزل عليه وأنا معه في لحاف، وتزوج في شوال، وبنى بي في ذلك الشهر وقبض بين سحري ونحري، وأنزل الله عذري من السماء، ودفن في بيتي، وكل ذلك لم يساوني فيه غيري» .
وقال بعضهم: «لقد برَّأ الله أربعة بأربعة: بَرأ يوسف {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} [يوسف: 26] ، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها، وبرأ عائشة بهذه الآيات في كتابه المتلو على وجه الدهر» .(14/337)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
قوله: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} العفائف «الغَافِلاَت» عن الفواحش «المُؤْمِنَاتِ» والغافلة عن الفاحشة أي: لا تقع في مثلها، وكانت عائشة كذلك، فقال(14/337)
بعضهم: الصيغة عامة، فيدخل فيه قَذَفَةُ عائشة وغيرها.
وقيل: المراد قذفة عائشة.
قالت عائشة: رميت وأنا غافلة، وإنما بلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله عندي إذ أوحى إليه، قال: «أبشري» وقرأ: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} .
وقيل: المراد جُملة أزواج رسول الله، وأنهن لشرفهن خصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحقٌ به. واحتج هؤلاء بأمور:
الأول: أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله في أول السورة: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] إلى قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ ... } [النور: 5] .
وأما القاذف في هذه الآية فإنه لا تقبل توبته لقوله تعالى: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة} ولم يذكر استثناء.
وأيضاً فهذه صفة المنافقين في قوله: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا} [الأحزاب: 61] .
الثاني: أن قاذف سائر المحصنات لا يكفر، والقاذف في هذه الآية كافر، لقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ ... } وذلك صفة الكفار والمنافقين لقوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار ... } [فصلت: 19] الآيات.
الثالث: أنه قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} والعذاب العظيم هو عذاب الكفر، (فدلّ على أن عذاب هذا القاذف عقاب الكفر) . وعقاب قذف سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر.
وروي أن ابن عياش كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير هذه الآية، فقال: «من أذنب ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة» .
وأجاب الأولون بأن الوعيد المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون مشروطاً بعدم التوبة، لأن الذنب سواء كان كفراً أو فسقاً، فإذا تاب عنه صار مغفوراً.(14/338)
وقيل: هذه الآية نزلت في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله عهد، فكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: «إنها خرجت لتفجر» فنزلت فيهم.
قوله: «يَوْمَ تَشْهَدُ» ، ناصبه الاستقرار الذي تعلق به «لَهُمْ» .
وقيل: بل ناصبه «عَذَابٌ» . ورد بأنه مصدر موصوف.
وأجيب بأن الظرف يُتَّسَعُ فيه ما لا يُتَّسَع في غيره.
وقرأ الأخوان: «يَشْهَدُ» بالياء من تحت، لأن التأنيث مجازي، وقد وقع الفصل والباقون: بالتاء مراعاة للفظ.
قوله: «يَوْمَئِذٍ» : التنوين في «إذْ» عِوَضٌ من الجملة تقديره: يَوْمئذ تَشْهَدُ، وقد تقدم خلاف الأخفش فيه.
وقرأ زيد بن علي «يُوفِيهِمْ» مخففاً من «أَوْفَى» .
وقرأ العامة بنصب «الحَقِّ» نعتاً ل «دِينَهُمْ» .
وأبو حَيْوَة وأبو رَوْق ومجاهد - وهي قراءة ابن مسعود - برفعه نعتاً لله تعالى.
فصل
قوله {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} .
قال المفسرون: هذا قبل أن يختم على أفواههم وأيديهم وأرجلهم.
يروى أنه يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا.
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} جزاءهم الواجب. وقيل: حسابهم العدل،(14/339)
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا.
وإنما سُمِّيَ الله ب «الحق» لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره.
وقيل: سُمِّيَ ب «الحق» ومعناه: الموجود، لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم، ومعنى «المُبين» : المظهر.(14/340)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قوله تعالى: «الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ» الآية.
قال أكثر المفسرين: «الخَبِيثَاتُ» من القول والكلام «لِلْخَبِيثِينَ» من الناس، «والخَبِيثُونَ» من الناس «لِلْخَبِيثَات» من القول، «والطيبات» من القول «للطَّيِّبِينَ» من الناس، «والطَّيِّبُونَ» من الناس «لِلطَّيِّبَاتِ» من القول.
والمعنى: أنَّ الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس، والطيِّب لا يليق إلا بالطيِّب فعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لا يليق بها الخبيثات من القول، لأنها طيبة، فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها.
وقال الزجاج: معناه: لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء وهذا ذم للذين قذفوا عائشة، ومدح للذين برّأوها بالطهار.
قال ابن زيد: معناه: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، أمثال عبد الله بن أبيّ والشاكين في الدين، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، يريد: عائشة طيبها الله لرسوله الطيب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «مُبَرءُونَ» يعني: عائشة وصفوان، ذكرهما بلفظ الجمع كقوله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] أي: أخوان.
وقيل: «أولئك مُبَرَّؤُونَ» يعني: الطيبين والطيبات منزهون مما يقولون.
وقيل: الرَّمْيُ تعلق بالنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبعائشة وصفوان، فبرأ الله كل واحد منهم.(14/340)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
وقيل: المراد كل أزواج الرسول برأهن الله تعالى من هذا الإفك، ثم قال: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» يعني: براءة من الله. وقيل: العفو عن الذنوب. والرزق الكريم: الجنة.
قوله: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» يجوز أن تكون جملة مستأنفة، وأن تكون في محل رفع خبراً ثانياً.
ويجوز أن يكون «لَهُمْ» خبر «أولئك» (و) «مَغْفِرَةٌ» فاعله.
قوله
تعالى
: {يا
أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآية.
لما ذكر حكم الرمي والقذف ذكر ما يليق به، لأن أهل الإفك (إنما توصلوا) إلى بهتانهم لوجود الخلوة، فصارت كأنها طريق التهمة، فأوجب الله تعالى ألا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، لأن الدخول على غير هذا الوجه يوقع التهمة، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به.
قوله: «تَسْتَأنِسُوا» يجوز أن يكون من الاستئناس، لأنَّ الطارق يستوحش من أنه هل يؤذن له أو لا؟ فزال استيحاشه، وهو رديف الاستئذان فوضع موضعه.
وقيل: من الإيناس، وهو الإبصار، أي: حتى تستكشفوا الحال.
وفسره ابنُ عباس: «حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا» وليست قراءة، وما ينقل عنه أنه قال: «تَسْتَأنِسُوا» خطأ من الكاتب، إنما هو (تَسْتَأْذِنُوا) فشيء مفترى عليه.
وضعفه بعضهم بأن هذا يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر، ويقتضي(14/341)
صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر، وفتح هذين البابين يطرق الشك إلى كل القرآن وإنه باطل.
وروي عن الحسن البصري أنه قال: «إن في الكلام تقديماً وتاخيراً، فالمعنى: حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا» . وهذا أيضاً خلاف الظاهر.
وفي قراءة عبد الله: {حَتَّى تُسَلِّمُوا وَتَسْتَأْذِنُوا} وهو أيضاً خلاف الظاهر.
واعلم أن هذا نظير ما تقدم في الرعد: (في) {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} [الرعد: 31] وتقدم القول فيه. والاستئناس: الاستعلام (والاستكشاف، من أنس الشيء: إذا أبصره، كقوله: {إني آنَسْتُ نَاراً} [طه: 10] ، والمعنى: حتى تستعلموا الحال، هل يراد دخولكم؟) قال:
3825 - كَأَنَّ رَحْلِيَ وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... يَوْمَ الجَلِيلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ
وقيل: هو من «الإنْس» بكسر الهمزة، أي: يَتَعرَّف هل فيها إنْسٌ أم لا؟
وحكى الطبري أنه بمعنى: «وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ» .
قال ابن عطية: وتصريف الفعل يَأْبَى أن يكونَ مِنْ «أَنَس» .(14/342)
فصل
قال الخليل: الاستئناس: الاستبصار من (أنس الشيء إذا أبصره) كقوله: «آنسْتُ نَاراً» أي: أبصرت.
وقيل: هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو بتنحنح يؤذن أهل البيت. وجملة حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان.
واختلفوا: هل يقدم الاستئذان أو السلام؟
فقيل: يقدم الاستئذان، فيقول: أأدخل؟ سلام عليكم، لقوله: «حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا» أي: تستأذنوا {وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} . والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول: سلام عليكم، أأدخل؟ ( «لما روي أن رجلاً دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يسلم ولم يستأذن، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» ارجع فقُل: السلام عليكم، أأدخل «) وروى ابن عمر أن رجلاً استأذن عليه فقال: أأدخل؟ فقال ابن عمر: لا، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم، فسلَّم، فأذِنَ له.
وقيل إن وقع بصره على إنسان قدم السلام، وإلاّ قدم الاستئذان ثم يسلم. والحكمة في إيجاب تقديم الاستئذان ألاَّ يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه من الأحوال.
فصل
عدد الاستئذان ثلاثاً لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «الاستئذان ثلاثٌ، الأولى يستضيئون، والثانية يستصلحون، والثالثة يأذنون أو يردون» وعن أبي سعيد الخدري قال: «كُنت جالساً في مجلس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعاً، فقلنا له: ما أفزعك؟ فقال: أخبرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثاً، فلم يؤذن لي، فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت: قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، وقد قال عليه السلام -:» إذا استأذنَ أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع «. فقال: لتأتيني (على هذا) بالبينة، أو لأعاقبنك، فقال أبو سعيد: لا يقوم معك إلا(14/343)
صغير القوم، قال: فقام أبو سعيد، فشهد له» .
وفي بعض الروايات أن عمر قال لأبي موسى: لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله.
وعن قتادة: «الاستئذانُ ثلاثةٌ: الأول ليسمع الحي، والثاني ليتهيأ، والثالث إن شاء أذن وإن شاء ردّ» .
وهذا من محاسن الآداب، لأنه في أول كرَّة ربما منعهم بعض الأشغال من الإذن، وفي الثانية ربما كان هناك ما يمنع، فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع. ويجب أن يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما.
فأما قرع الباب بعنف، والصياح بصاحب الدار فذاك حرام، لأنه إيذاء، وكذا قصة بني أسد وما نزل فيها من قوله: {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] .
فصل
في كيفية الوقوف على الباب
روى أبو سعيد قال: استأذن رجلٌ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو مستقبل الباب، فقال عليه السلام: «لا تستأذِنْ وأنت مستقبلُ البابِ» .
«وروي أنه عليه السلام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، فيقول:» السلامُ عليكُمْ «وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.
فصل
كلمة» حَتَّى «للغاية، والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها، فقوله: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن.(14/344)
والجواب أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس، ولا يحصل إلا بعد الإذن.
وأيضاً فإنّا علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان ألا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه، فإنّ ذلك مما يسوؤه، وهذا المقصود لا يحصل إلا بعد الإذن.
وأيضاً قوله: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا (حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} ) فمنع الدخول إلا مع الإذن، فدل على أن الإذن شرط في إباحة الدخول في الآية الأولى.
وإذا ثبت هذا فنقول: لا بد من الإذن أو ما يقوم مقامه، لقوله عليه السلام «إذا دُعِيَ أحدُكُم فجاء مع الرسول فإنَّ ذلك له إذن» .
وقال بعضهم: إن من جرت العادة بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان. واعلم أن ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقاً سواء كان الآذن صبياً أو امرأة أو عبداً أو ذمياً، فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة، وكذلك قبول إحضار هؤلاء في الهدايا ونحوها.
فصل
ويستأذن على المحارم، «لما روي أن رجلاً سأل النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال:» أأستأذن على أختي؟ «فقال عليه السلام:» نَعَمْ، أتحب أن تراها عريانة؟ «وسأل رجل حذيفة:» أأستأذن على أختي؟ «فقال:» إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك «. ولعموم قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} [النور: 59] إلا أنَّ ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوه.
فصل
إذا اطلع إنسان في دار إنسان بغير إذنه ففقأ عينه فهي هدر، لقوله عليه السلام:» مَن اطَّلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه «.(14/345)
وقال أبو بكر الرازي: هذا الخبر ورد على خلاف قياس الأصول، فإنه لا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً، وكان عليه القصاص إن كان عامداً، والأرش إن كان مخطئاً، والداخل قد اطَّلع وزاد على الاطلاع، فظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق، فإن صحَّ فمعناه: من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم فمنع فلم يمتنع فذهب عينه في حال الممانعة فهي هدر، فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى:» العَيْن بِالعَيْنِ «إلى قوله:» والجُرُوحَ قِصَاصٌ «.
وأجيب بأن التمسك بقوله:» العَيْنُ بِالعَيْنِ «ضعيف، لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن العين مستحقة، فإنه لو كانت مستحقة القصاص، فلم قلت: إن من اطَّلع في دار إنسان لم تكن عينه مستحقة؟
وأما قوله: إنه لو دخل لم يجز فقء عينه، فكذا إذا نظر.
والفرق بينهما أنه إذا دخل، علم القوم بدخوله عليهم، فاحترزوا عنه وتستروا، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه، فلا يبعد في حُكْم الشرع أن يبالغ هنا في الزجر حسماً لهذه المفسدة.
وأيضاً فردّ حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بهذا القدر من الكلام ليس جائزاً.
فصل
إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق، أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان؟ فقيل: كل ذلك مستثنى بالدليل.
فأما السلام فهو من سنة المسلمين التي أمروا بها، وهو تحية أهل الجنة، ومجلبة للمودة، ونافٍ للحقد والضغائن.
قال عليه السلام: «لمَّا خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذن الله، فقال له الله: يرحمك ربك يا آدم، اذهب إلى هؤلاء الملائكة ((14/346)
وهم) ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه فقال: هذه تحيتك وتحية ذريتك» وعن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «حق المسلم على المسلم ست: يسلِّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، وينصح له بالغيب، ويشمِّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات» .
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إن سرَّكم أن يسل الغل من صدروكم فأفشوا السلام بينكم» .
قوله: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} .
أي: إن فعل ذلك خير لكم وأولى بكم من الهجوم بغير إذن «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» أي: لتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ} أي: فإن لم تجدوا في البيوت «أَحَداً» يأذن لكم في دخولها {فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} لجواز أن يكون هناك أحوال مكتومة، {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} وذلك أنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار، فكذلك الوقوف على الباب قد يكرهه، فلا جرم كان الأولى له أن يرجع {هُوَ أزكى لَكُمْ} أي: الرجوع هو أطهر وأصلح لكم.
قال قتادة: إذا لم يؤذن له فلا يقعد على الباب، فإنَّ للناس حاجات، وإذا حضر فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز.
كان ابن عباس يأتي الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب (حتى يخرج) ولا يستأذن، فيخرج الرجل ويقول: «يا ابنَ عم رسول الله لو أخبرتني» فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم. وإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردوداً «لما روي أن رجلاً اطلع على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ستر الحجرة، وفي يد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مدراء، فقال:» لو علمتُ أن هذا ينظرني حتى آتيه لَطَعْنتُ بالمدراء في عينه، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر «
قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي: من الدخول بالإذن وغير الإذن.
ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير(14/347)
مسكونة فقال: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} .
قال المفسرون: لما نزلت آية الاستئذان قالوا: كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى ظهر الطريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} . أي: بغير استئذان {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} أي: منفعة لكم.
قال محمد ابن الحنفية: إنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين.
وقال ابن زيد: هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء، وهو المنفعة قال إبراهيم النخعي: ليس على حوانيت السوق إذن.
وكان ابن سيرين إذا جاء إلى حانوت السوق يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثم يلج.
وقال عطاء: هي البيوت الخربة، و «المَتَاعُ» هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط. وقيل: هي جميع البيوت التي لا ساكن لها.
وقيل: هي الحمامات.
وروي أن أبا بكر قال: يا رسولَ الله، إن الله قد أنزلَ عليكَ آيةً في الاستئذان، وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت هذه الآية.
والأصح أنه لا يمتنع دخول الجميع تحت الآية، لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة، فإن لم يخف ذلك فله الدخول، لأنه مأذون فيها عرفاً.
{والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وهذا وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.(14/348)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية. الغض: إطباق الجفن بحيث يمنع الرؤية. قال:
3826 - فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبا
وفي «مِنْ» أربعة أوجه:
أحدها: أنها للتبعيض، لأنه يُعْفَى عن الناظر أول نظرة تقع من غير قصد.
والثاني: لبيان الجنس، قاله أبو البقاء. وفيه نظر من حيث إنَّه لم يَتَقَدَّم مُبهمٌ يكونُ مُفَسَّراً ب «مِنْ» .
الثالث: أنها لابتداء الغاية، قاله ابن عطية.
الرابع: قال الأخفش: إنها مزيدة.
فصل
قال الأكثرون: المراد غض البص عما يحرم والاقتصار به على ما يحل.
فإن قيل: كيف دخلت «مِنْ» في غض البصر دون حفظ الفرج؟
فالجواب: أن ذلك دليل على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن، وكذا الجواري المستعرضات، وأما أمر الفروج فمضيق.
وقيل: معنى {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي: ينقصوا من نظرهم بالبصر إذا لم يكن من عمله فهو مغضوض.
وعلى هذا «مِنْ» ليست زائدة، ولا هي للتبعيض، بل هي صلة للغض، يقال: غضضت من فلان: إذا نقصت منه.
فصل
العورات تنقسم أربعة أقسام:(14/349)
عورة الرجل مع الرجل.
وعورة المرأة مع المرأة.
وعورة المرأة مع الرجل.
وعورة الرجل مع المرأة.
أما الرجل مع الرجل، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا العورة، وهي ما بين السرة والركبة، والسرة والركبة ليسا بعورة.
وعند أبي حنيفة: الركبة عورة.
وقال مالك: «الفخذ ليس بعورة» .
وهو مردود بقوله عليه السلام: «غَطِّ فَخَذَكَ فإنَّهَا مِنَ العَوْرَةِ» .
وقوله لعلي: «لا تُبْرِزْ فَخذَكَ، وَلاَ تَنْظُر إلى فَخِذِ حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ» .
فإن كان أمر ولم يحل النظر إلى وجهه، ولا إلى شيء من سائر بدنه بشهوة، ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لقوله عليه السلام: «لا يُفضي الرجل إلى الرجل في فراش واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» وتكره معانقة الرجل للرجل وتقبيله إلا لولده شفقة لما روي عن أنس قال: «قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أيلزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: أفيأخذ يده فيصافحه؟ قال: نعم» .
ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن المكاعمة والمكامعة، وهي: معانقة الرجل للرجل وتقبيله.
وأما عورة المرأة مع المرأة، فهي كالرجل مع الرجل فيما ذكرنا سواء.
والذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة؟ فقيل: هي كالمسلمة مع المسلمين.(14/350)
والصحيح أنه لا يجوز لها (النظر) لأنها أجنبية في الدين لقوله تعالى: «أَوْ نِسَائِهِنَّ» وليست الذمية من نسائنا.
وأما عورة المرأة مع الرجل، فإما أن تكون (أجنبية، أو ذات محرم، أو مستمتعة. فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة. فإن كانت) حرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين، لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء، والمراد: الكف إلى الكوع. واعلم أن النظر إلى وجهها ينقسم ثلاثة أقسام:
إما ألاّ يكون فيه غرض ولا فتنة، وإما أن يكون فيه غرض ولا فتنة، وإما أن يكون لشهوة. فإن كان لغير غرض فلا يجوز النظر إلى وجهها، فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} . وقيل: يجوز مرة واحدة إذا لم تكن فتنة، وبه قال أبو حنيفة. ولا يجوز تكرار النظر لقوله عليه السلام: «لا تُتْبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» .
وقال جابر: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن نظر الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري. فإن كان فيه غرض ولا فتنة، وهو أمور:
أحدها: أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيْها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للرجل الذي سأله أنْ يتزوج امرأة من الأنصار: «انظُرْ إليْهَا، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً» وقال عليه السلام: «إذا خطب أحدُكُم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان ينظر إليها للخطبة» .
وقال المغيرة بن شعبة: «خطبت امرأة، فقال عليه السلام: نظرت إليها؟ فقلت:(14/351)
لا. قال: فانظر فإنه أحْرى أن يؤدم (بينكما) » .
وذلك يدل على جواز النظر بشهوة إلى الوجه والكفين إذا أراد أن يتزوجها ولقوله تعالى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52] ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن.
وثانيها: أنه إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر منها إلى ما ليس بعورة.
وثالثها: عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة.
ورابعها: ينظر إليها عند تحمل الشهادة، ولا ينظر إلى غير الوجه. فإن كان النظر لشهوة فهو محرم لقوله عليه السلام: «العينان تزنيان» .
وأما النظر إلى بدن الأجنبية فلا يجوز إلا في صور:
أحدها: يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمعالجة والختان، ينظر إلى فرج المختون للضرورة.
وثانيها: أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين ليشهد على الزنا، وكذلك ينظر إلى فرجها ليشهد على الولادة، وإلى ثدي المرضعة ليشهد على الرضاع.
وقال بعض العلماء لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع، لأن الزنا مندوب إلى ستره، وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء، فلا حاجة إلى نظر الرجال.
وثالثها: لو وقعت في غرق أو حرق له أن ينظر إلى بدنها لتخليصها. فإن كانت الأجنبية أمة قيل: عورتها ما بين السرة والركبة.
وقيل: عورتها ما لا يبين في المهنة، فخرج منه عنقها وساعدها ونحرها ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال إلا لحاجة، لأن اللمس أقوى من النظر، لأن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره.(14/352)
فصل
فإن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع الرجل. وقيل: عورتها ما لا يبدو عند المهنة، وهو قول أبي حنيفة. وستأتي بقية التفاصيل - إن شاء الله تعالى - في تفسير الآية.
فصل
فإن كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن ينظر إلى جميع بدنها حتى الفرج، إلا أنه يكره النظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه، لأنه يروى أنه يورث الطمس.
وقيل: لا يجوز (النظر) إلى فرجها، ولا فرق فيه بين أن تكون الأمة قِنّ أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة.
فإن كانت مجوسية، أو مرتدة، أو وثنية، أو مشتركة بينه وبين غيره، أو مزوجة، أو مكاتبة فهي كالأجنبية لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إذا زوَّج أحدُكُم جاريتَه عبدَه أو أجيره فعورته معها ما بين السرة والركبة» .
فصل
فأما عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة، ولا تكرير النظر إلى وجهه «لما روت أم سلمة أنَّها كانت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وميمونة، إذ أقبل ابن أم مكتوم، فقال:» احتجبَا عنه «فقالت: يا رسول الله، أليس هو(14/353)
أعمى لا يبصرُنا؟ فقال عليه السلام:» أَفعمياوان أنْتُمَا؟ ألستما تبصرانه «؟ . وإن كان محرماً لها فعورته ما بين السرة والركبة.
وإن كان زوجها أو سيدها الذي له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه، غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها.
فصل
ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خالٍ وله ما يستر عورته، لأنه عليه السلام سئل عنه فقال:» الله أحق أن يُسْتَحيَى منه «وقال عليه السلام:» إيَّاكُمْ والتَّعَرِّي، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله «.
قوله:» وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ «أي: عما لا يحل.
وقال أبو العالية: كلُّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا والحرام إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه.
وهذا ضعيف، لأنه تخصيص من غير دليل، والذي يقتضيه الظاهر حفظ الفروج عن سائر ما حرم عليهما من الزنا واللمس والنظر.
قوله
: {ذلك
أزكى
لَهُمْ
} .
أي: غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم، أي: خير لهم وأطهر {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} عليمٌ بما يفعلون.
قوله: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} الكلام فيه كما تقدم وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا، والبلوى فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراز منه.
قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} أي: لا يظهرن زينتهن لغير محرم، والمراد بالزينة: الخفية، وهما زينتان: خفية وظاهرة. فالخفية: مثل الخلخال والخضاب في الرِّجْل،(14/354)
والسوار في المعصم، والقرط والقلائد، فلا يجوز لها إظهارها، ولا للأجنبي النظر إليها. والمراد بالزينة: موضع الزينة.
وقيل: المراد بالزينة: محاسن الخَلْق التي خلقها الله، وما تزين به الإنسان من فضل لباس، لأن كثيراً من النساء ينفردن بخَلْقِهِنَّ من سائر ما يُعَدُّ زينة، فإذا حملناه على الخِلْقَة وفينا العموم حقه، ولا يمنع دخول ما عدا الخِلْقة فيه، ولأنَّ قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} يدل على أن المراد من الزينة ما يعم الخِلْقة وغيرها، فكأنها تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن، موجباً سترها بالخمار.
قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . أما الذين حملوا الزينة على الخلقة فقال القفال: معنى الآية: إلا ما يظهره الإنسان في العادة، وذلك من النساء: الوجه والكفان، ومن الرجال: الوجه واليدان والرجلان، فرخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه، وأدت الضرورة إلى إظهاره، وأمرهم بستر ما لا ضرورة في كشفه. ولما كان ظهور الوجه والكفين ضرورة لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة.
وأما القدم فليس ظهوره ضرورياً فلا جرم اختلفوا فيه هل هو من العورة أم لا؟ والصحيح أنه عورة. وفي صوتها وجهان:
أصحهما ليس بعورة، لأن نساء النبي - عليه السلام - كن يروين الأخبار للرجال.
وأما الذين حملوا الزينة على ما عد الخلقة، قالوا: إنه تعالى إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف في أنه يحل النظر إليها حال (انفصالها عن أعضاء المرأة، فلما حرم الله النظر إليها حال) اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة. وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوَشمَة والغُمْرَة، وزينة بدنها من(14/355)
الخضاب والخواتيم والثياب، لأن سترها فيه حرج، لأن المرأة لا بد لها من مزاولة الأشياء بيديها، والحاجة إلى كشف وجهها للشهادة والمحاكمة والنكاح.
قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي: «الزينة الظاهرة التي استثنى الله الوجهُ والكفان» .
وقال ابن مسعود: هي الثياب، لقوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] .
وقال الحسن: الوجه والثياب.
وقال ابن عباس: الكحْل والخاتم والخضاب في الكف. فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها إذا لم يخف فتنة وشهوة، فإن خاف شيئاً منها غض البصر.
فصل
واتفقوا على تخصيص قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالحرائر دون الإماء والمعنى فيه ظاهر، لأن الأمة مالٌ، فلا بد من الاحتياط في بيعها وشرائها، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء.
قوله: «وَلْيَضْرِبْنَ» . ضمن «يضْرِبْنَ» معنى «يُلْقِينَ» فلذلك عداه ب «على» . وقرأ أبو عمرو في رواية بكسر لام الأمر.
وقرأ طلحة: «بِخُمْرهنَّ» بسكون الميم. وتسكين «فَعْل» في الجمع أولى من تسكين المفرد. وكسر الجيم من «جِيُوبِهِنَّ» ابن كثير والأخوان وابن ذكوان.
والخُمُر: جمع خمار، وفي القلة يجمع على أخْمِرة. قال امرؤ القيس:(14/356)
3827 - وَتَرَى الشَّجْراءَ فِي رِيِّقِهِ ... كَرُؤُوسٍ قُطِعَتْ فِيهَا الخُمُرْ
والجيب: ما في طوق القميص يبدو منه بعض الجسد.
فصل
قال المفسرون: إنَّ نساء الجاهلية كنَّ يُسْدِلْنَ خُمُرهن من خلفهن، وإن جيوبهن كانت من قدام، وكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتغطي بذلك أعناقهن ونحورهن.
قالت عائشة: رحم الله نساءَ المهاجرات الأُوَل، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها.
قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} يعني الزينة الخفية التي لم يبح لهنَّ كشفها في الصلاة ولا للأجانب، وهو ما عد الوجه والكفين «إِلاَّ لِبُعولَتهنَّ» قال ابن عباس ومقاتل: يعني لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن {أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة، ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة إلا الزوج فإنه يجوز له أن ينظر على ما تقدم، وهؤلاء محارم.
فإن قيل: أيحل لذي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل في المؤمنة؟
فالجواب: إذا ملك المرأة من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة فإن قيل: فما القول في العم والخال؟
فالجواب: أن الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر، وهو قول الحسن البصري قال: لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع، وهو كالنسب، وقال في سورة الأحزاب {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ} الآية [الأحزاب: 55] ولم يذكر فيها البعولة، وقد ذكره هنا.(14/357)
وقال الشعبي: إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفها العم عند ابنه، والخال كذلك.
والمعنى: أن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وابناهما، وإذا رآها الأب وصفها لابنه وليس بمحرم، وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب.
فصل
والسبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة هو الحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن واحتياج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار في النزول والركوب.
قوله: «أَوْ نِسَائِهِنَّ» .
قال أكثر المفسرين: المراد اللاَّئِي على دينهن.
قال ابن عباس: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة، ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها.
وكتب عُمَر إلى أبي عبيدة أن تمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات. وقيل: المراد ب «نِسَائِهِنَّ» جميع النساء.
وهذا هو الأولى، وقول السلف محمول على الاستحباب.
قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} . وهذا يشمل العبيد والإماء، واختلفوا في ذلك: فقال قوم: عبد المرأة مَحْرَم لها يجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم، وهو ظاهر القرآن، وهو مروي عن عائشة وأم سلمة. «وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قَنعْت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما تلقى قال:» إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغُلامك «وعن مجاهد:» كنَّ أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم «. وكانت عائشة تمتشط والعبد ينظر إليها.
وقال ابن مسعود والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته. وهو قول أبي حنيفة.(14/358)
وقال ابن جريج: المراد من الآية: الإماء دون العبيد، وأن قوله: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أنه لا يحل لامرأةٍ مسلمة أن تتجرد بين امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المشركة أمةً لها.
قوله: {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال} .
قرأ ابن عامر وأبو بكر:» غَيْرَ «نصباً، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه استثناء.
وقيل: على القطع، لأن» التَّابِعِينَ «معرفة و» غَيْر «نكرة.
والثاني: أنه حال. والباقون:» غيرِ «بالجر نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً.
والإِرْبَةُ: الحاجةُ. وتقدم اشتقاقها في» طه «.
(قوله:» مِنَ الرِّجَالِ «حال من» أُولِي «) .
فصل
المراد ب {التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة} .
قال مجاهد وعكرمة والشعبي: هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم، لا همة لهم إلا ذلك، ولا حاجة لهم في النساء.
وعن ابن عباس: أنه الأحمق العنين.
وقال الحسن:» هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن «.
وقال سعيد بن جبير: المعتوه. وقال عكرمة: المجبوب. وقيل: هو(14/359)
المخنّث. وقال مقاتل: هو الشيخ الهم والعنِّين والخَصِيّ والمجبوب ونحوه.
واعلم أن الخَصِيّ والمجبوب ومن يشاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع، ويكون له إربة فيما عداه من التمتع، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد، فيجب أن يحمل المراد على من لا إربة له في سائر وجوه التمتع لما روت عائشة قالت:
«كانَ رجلٌ مخنَّثٌ يدخل على أزواج - النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكانوا يَعدُّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوماً وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة فقال: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمانٍ. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» أَلاَ أرى هذا يعلم ما هَهُنا، لا يَدْخُلَنَّ هَذا «فحجبوه» .
وفي رواية عن زينب بنت أم سلمة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخلَ عليها وعندها مخنَّث، فأقبل على أخي أم سلمة، فقال:» يا عبد الله، إن فتح الله غداً لكم الطائف دللتك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان «. فقال عليه السلام:» لا يدخُلَنَّ عليكم هذا «فأباح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخول المخنث عليهن، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهنَّ علم أنه من أولي الإربة، فحجبه.
وفي الخَصِيّ والمجبوب ثلاثة أوجه:
أحدها: استباحة الزينة الباطنة.
والثاني: تحريمها.
(والثالث: تحريمها) على المَخْصِيّ دون المجبوب.
قوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} .
تقدم في الحج أن الطفل يطلق على المثنى والمجموع، فلذلك وصف بالجمع.
وقيل: لما قصد به الجنس روعي فيه الجمع كقولهم:» أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَار الحمْر والدِّرْهَمُ البِيضُ «. و» عَورَاتِ «جمع عَوْرَةٍ، وهو ما يريد الإنسان ستره من بدنه، وغلب في السَّوأَتَيْن. والعامة على» عوْرات «بسكون الواو، وهي لغة عامة العرب،(14/360)
سكنوها تخفيفاً لحرف العلة. وقرأ ابن عامر في رواية» عَوَرَاتِ «بفتح الواو.
ونقل ابن خالويه أنها قراءة ابن أبي إسحاق والأعمش، وهي لغة هذيل بن مدركة. قال الفراء: وأنشد في بعضهم:
3828 - أَخُو بَيَضَاتٍ رائِحٌ مُتَأوِّبٌ ... رَفِيقٌ بمَسْحِ المَنْكبَيْنِ سَبوح
وجعلها ابنُ مجاهد لحناً وخطأ، يعني: من طريق الرواة، وإلا فهي لغة ثانية.
(فصل)
الظهور على الشيء يكون بمعنى العلم به، كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} [الكهف: 20] أي: يشعروا بكم. ويكون بمعنى الغلبة عليه، كقوله:» فَأَصْبَحُوا ظَاهِرينَ «.
فلهذا قال مجاهد وابن قتيبة: معناه: لم يطلعوا على عورات النساء، ولم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر.
وقال الفراء والزجاج: لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء.
وقيل: لم يبلغوا حدّ الشهوة.(14/361)
فصل
فأما المراهق فيلزم المرأة أن تستُر منه ما بين سرتها وركبتها، وفي لزوم ستر ما عداه وجهان:
الأول: لا يلزم، لأن القلم غير جار عليه.
والثاني: يلزم كالرجل، لأنه مشتهى، والمرأة قد تشتهيه، واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم وأما الشيخ فإن بقيت له شهوة فهو كالشاب، وإن لم تبق له شهوة ففيه وجهان:
أحدهما: أن الزينة الباطنة معه مباحة، والعورة معه ما بين السرة والركبة.
والثاني: أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة.
وههنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى، (والرضاع كالنسب) .
قوله: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} .
قال ابن عباس وقتادة: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخالها، فنُهِينَ عن ذلك؛ لأن الذي تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة إلى مشاهدتهن، وعلل تعالى ذلك بقوله: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} وفي الآية فوائد:
الأولى: لما نهي عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة، فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى.
الثانية: أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب، إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة (من صوت خلخالها، ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت، والمرأة منهية عنه.
الثالثة: تدل على تحريم النظر إلى وجهها بشهوة، لأن ذلك أقرب إلى الفتنة) .
قوله تعالى: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون} . قال ابن عابس: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. وقيل: تُوبُوا من(14/362)
التقصير الواقع منكم في أمره ونهيه. وقيل: راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة.
قوله: «أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ» . العامة على فتح الهاء وإثبات ألف بعد الهاء، وهي «ها» التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف «يأَيُّهُ السَّاحِر» وفي الرحمن «أَيُّهُ الثقلان» بضم الهاء وصلاً، فإذا وقف سكن.
ووجهها: أنه لما حذفت الألف لالتقاء الساكنين استحقت الفتحة على حرف خفي، فضمت الهاء إتباعاً. وقد رُسِمَتْ هذه المواضع الثلاثة دون ألف، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف والباقون بدونها اتباعاً للرسمِ، ولموافقة الخط للفظ. وثبتت في غير هذه المواضع حَمْلاً لها على الأصل نحو: «يَأَيُّهَا النَّاسُ» ، «يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» وبالجملة فالرسم سنة متبعة.(14/363)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} .
لما أمر تعالى بغض الأبصار وحفظ الفروج بيَّن بعده أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل، ثم ذكر بعد ذلك طريق الحِلّ فقال: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} . الأيامى: جمع أيِّم ب «زنة» : «فَيْعل» ، يقال منه: آم يَئيم كباع يبيع، قال الشاعر:
3829 - كُلُّ امْرِئٍ سَتَئيم مِن ... هُ العِرْسُ أَوْ مِنْهَا يَئِيمُ
وقياس جمعه: أَيائِم، كسيِّد وسَيَائِد. و «أَيامى» فيه وجهان:(14/363)
أظهرهما من كلام سيبويه أنه جمع على «فَعَالَى» غير مقلوب، وكذلك «يَتَامَى» .
وقيل: إن الأصل «أَيَايم» و «يَتَايم» و «يَتِيم» (فقلبا) .
والأَيِّم: (من لا زوج له) ذكراً كان أو أنثى. قال النضر بن شميل: الأَيِّمُ في كلام العرب: كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها. وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك، يقول: زوجوا أياماكم بعضكم من بعض. وخصَّه أبو بكر الخفَّاف بمن فقدت زوجها، فإطلاقه على البِكْر مجاز. وقال الزمخشري: «تأيَّما إذا لم يتزوجا بِكرين كانا أو ثيّبين» ، وأنشد:
3830 - فَإِنْ تَنْكِحي أَنْكِح وإِنْ تَتَأَيَّمِي ... وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُم أَتَأَيَّمُ
وعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «اللَّهم إني أعوذ بك من العَيْمَة والغَيْمَة والأَيْمَة والكَرم والقَرَم» العَيْمة - بالمهملة: شدة شهوة اللبن. وبالمعجمة: شدة العطش. والأَيْمَة: طول العزبة. والكَرَم: شدة شهوة الأكل والقَرَم: شدة شهوة(14/364)
اللحم و «منكم» حال. وكذا «مِنْ عِبادكُمْ» .
فصل
قوله: «وَأَنكحوا» أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فدلّ على أن الولي يجب عليه تزويج موليته، (وإذا ثبت هذا وجب ألا يكون النكاح إلا بولي، لأن كل ما وجب على الولي حكم بأنه لا يصح من المولية) ، ولأن المولية لو فعلت ذلك لفوَّتتْ على الولي تمكنه من أداء هذا الواجب، وأنه غير جائز، ولم تطابق قوله عليه السلام: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزوِّجُوهُ، إلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَة فِي الأَرْضِ» قال أبو بكر الرازي: هذه الآية وإن اقتضت الإيجاب، إلا أنه أجمع السلف على أنه لا يراد الإيجاب، ويدل عليه أمور:
أحدها: أنه لو كان ذلك واجباً لنقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعن السلف مستفيضاً، لعموم الحاجة إليه، فلما علمنا أن سائر الأعصار كانت فيهم أيامى من الرجال والنساء ولم ينكروا ذلك، ثبت أنه لم يرد الإيجاب.
وثانيها: أجمعنا على أن الأَيِّم الثيّب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه.
وثالثها: اتفاق الكل على أنه لا يجب على السيد تزويج أمته وعبده، وهو معطوف على الأيامى، فدل على أنه غير واجب في الجميع، بل ندب في الجميع.
ورابعها: أن اسم الأَيَامَى يشمل الرجال والنساء، وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم، كذلك في النساء.
والجواب: أن جميع ما ذكرته تخصيصات تطرقت إلى الآية، والعام بعد التخصيص حجة، فوجب إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب، وحينئذ ينتظم الكلام.
فصل
قال الشافعي: الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها، لأن الآية والحديث يدلان على أمر الولي بتزويجها. ولولا قيام الدلالة على أنه تزوج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا له تزويجها أيضا لعموم الآية.(14/365)
فصل
الناس في النكاح قسمان:
الأول: من تتوقُ نفسُه للنكاح، فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبته سواء كان مقبلاً على العبادة أو لم يكن، ولكن لا يجب، وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم لقوله عليه السلام: «يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ، مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُم البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأحْصَنُ للفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» .
الثاني: من لا تتوق نفسه للنكاح، فإن كان لعلة من كِبَر أو مرض أو عجز فيكره له، لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام به، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة.
وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له النكاح، لكن الأفضل أن يتخلّى للعبادة، لأن الله تعالى مدح يَحْيَى بكونه «حَصُوراً» ، والحَصُور: الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهنّ، ولا يقال: هو الذي لا يأتي النساء مع العجز؛ لأن مدح الإنسان بما يكون عيباً غير جائز، وإذا كان مدحاً في حق يحيى وجب أن يشرع في حقنا، لقوله تعالى: «فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ» ، ولا يحمل الهدى على الأصول، لأن التقليد فيها غير جائز، فوجب حَمْلُه على الفروع. وقال عليه السلام: «اعْلمُوا أَن خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاَةَ» وقال عليه السلام: «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي قرَاءَةُ القُرْآنِ» وقال أبو حنيفة: النكاح أفضل لقوله عليه السلام: «أحبُّ المباحات إلى الله النكاح» لأن النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا، فيكون دفعاً للضرر عن النفس. والنافلة:(14/366)
جلب نفع. ودفع الضرر أولى من جلب النفع. وأجيب بأن يحمل الأحب على الأصلح في الدنيا، لئلا يقع التناقض بين كونه أحبّ وبين كونه مباحاً. والمباح: ما يستوي طرفاه في الثواب والعقاب.
والمندوب: ما ترجّح وجوده على عدمه، فتكون العبادة أفضل. وبقية المباحث مذكورة في كتب الفقه.
قوله: «مِنْكُم» أي: زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم.
وقيل: أراد الحرية والإسلام.
وقوله: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} ظاهره يقتضي الأمر بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين. وخصَّ الصالحين بالذكر ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن الصالحين منهم هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في المودَّة، فكانوا مظنة للتوصية والاهتمام بهم. ومن ليس بصالح فحاله على العكس من ذلك.
وقيل: أراد الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج. وقيل: أراد بالصلاح ألا تكون صغيرة لا تحتاج إلى النكاح.
فصل
ظاهر الآية يدل على أنّ العبد لا يتزوج نفسه، وإنما يتولى تزويجه مولاه، لكن ثبت بالدليل أنه إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه، فيكون توليه بإذنه بمنزلة تولي السيد. فأما الإماء فإنَّ المولى يتولى تزويجهنَّ خصوصاً على قول من لا يجوِّز النكاح إلا بوليّ.
فصل
الولي شرط في صحة النكاح لقوله عليه السلام: «لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَليّ» .
وقال عليه السلام: «أيُّمَا امرأةٌ نكحَتْ بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطلٌ» ، فإن(14/367)
أصابها فلها المهر بما استحلَّ من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ (من لا وليّ له) . قوله: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} الأصح أن هذا ليس وعداً بإغناء من يتزوج، بل المعنى: لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم، أو فقر من تريدون تزويجها، ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غادٍ ورائح، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح، فهذا معنى صحيح، وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغنى حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف. وروي عن قدماء الصحابة ما يدلّ على أن ذلك وعد، فروي عن أبي بكر قال: «أطيعُوا اللَّهَ فيما أمركُم به من النكاح ينجز لكم ما وَعَدكُم من الغِنَى» . وعن عمر وابن عباس مثله. وشكى رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الحاجة، فقال: «عليك بالباءة» ، ويزيد الله في مروءتكم. فإن قيل: فنحن نرى من كان غنياً فتزوج فيصير فقيراً؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} [التوبة: 28] والمطلق يحمل على المقيد.
وثانيها: أن اللفظ وإن كان عامّاً إلا أنه يخصّ بعض المذكورين دون البعض، وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون.
وثالثها: المراد بالغنى: العفاف، فيكون الغنى هنا معناه: الاستغناء بالنكاح عن الوقوع في الزنا.
فصل
استدل بعضهم بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم، فاقتضى أن العبد قد يكون فقيراً وغنياً، وذلك دل على الملك، فثبت أنهما يملكان. والمفسرون تأولوه على الأحرار خاصة، فقالوا: هو راجع إلى الأيامى، وإن فسرنا الغنى بالعفاف سقط استدلالهم.(14/368)
وقوله: {والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي يوسع عليهم من أفضاله، «عَلِيمٌ» بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق.(14/369)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} الآية.
لما ذكر تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك فقال: «وَلْيَسْتَعْفِفِ» أي: وليجتهد في العفة، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف.
وقوله: {لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي: لا يتمكنون من الوصول إليه، يقال: لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه، قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92] ويقال: هو غير واجد للماء، وإن كان موجوداً، إذا لم يمكنه أن يشتريه. ويجوز أن يراد بالنكاح: ما ينكح به من المال، فبين تعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ثم يصل إلى بغيته من النكاح. فإن قيل: أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح؟
قلنا: لكن من لم يجد المهر والنفقة فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى.
قوله تعالى: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ... } الآية لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم كالأحرار، فقال: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} . يجوز في الذين الرفع على الابتداء، والخبر الجملة المقترنة بالفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط.
ويجوز نصبه بفعل مقدر على الاشتغال، كقولك: «زيداً فاضربه» وهو أرجح لمكان الأمر. والكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه:(14/369)
أحدها: أن أصل الكلمة من الكتب، وهو الضم والجمع، ومنه سميت الكتابة لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض، وتضم ماله إلى ماله.
وثانيها: مأخوذ من الكتاب، ومعناه: كتبت لك على نفسي (أن تعتق إذا وفيت بمالي وكتبت لي على نفسي) أن تفي لي بذلك، أو كتبت عليك الوفاء بالمال، وكتبت عليَّ العتق، قاله الأزهري.
وثالثها: سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالاً، بل يقع مؤجلاً، ليكون متمكناً من الاكتساب. ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب، فلهذا المعنى سمي هذا العقد كتاباً لما فيه من الأجل، قال تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 28] .
فصل
قال بعض العلماء: الكتابة أن يقول لمملوكه: كاتبتك على كذا، ويسمي مالاً معلوماً، يؤديه في نجمين أو أكثر، ويبين عدد النجوم، وما يؤدي في كل نجم، ويقول: إذا أديت ذلك المال فأنت حر، أو ينوي ذلك بقلبه، ويقول العبد: قبلت.
فإذا لم يقل بلسانه، أو لم ينو بقلبه: إذا أديت ذلك فأنت حر، لم يعتق.
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: لا حاجة إلى ذلك، لأن قوله تعالى: «فَكَاتِبُوهُمْ» ليس فيه شرط، فتصح الكتابة بدون هذا الشرط، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع. واحتج الأولون بأن الكتابة ليست عقد معاوضة(14/370)
محضة، لأن ما في يد العبد ملك للسيّد، والإنسان لا يبيع ملكه بملكه، بل قوله: «كاتبتك» كناية في العتق، فلا بد من لفظ التعليق أو نيته.
فصل
لا تجوز الكتابة الحالّة، لأن العبد ليس له ملك يؤديه في الحال، وإذا عقدت حالّة توجهت المطالبة عليه في الحال، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل العقد، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح، بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز لأنه يتصور أن يكون له ملك في الباطن، فالعجز لا يتحقق. وقال أبو حنيفة: تجوز لقوله تعالى «فكاتبوهم» ، وهو مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة. وأيضاً فمال الكتابة بدل عن الرقبة، فهو بمنزلة أثمان السلع المبيعة، فتجوز حالة. وأيضاً فأجمعوا على جواز العتق مطلقاً على مال حال، فالكتابة مثله لأنه بدل عن العتق في الحالين، إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط العبادة وفي الآخر معجل، فوجب أن لا يختلف حكمهما.
فصل
لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين، لأنه يروى عن عليّ وعثمان وابن عمر، روي أن عثمان غضب على عبده فقال: «لأضيقن عليك، ولأكاتبنك على نجمين» ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل، لأن التضييق فيه أشد، وإنما شرطنا التنجيم، لأنه عقد إرفاق، ومن شرط الإرفاق: التنجيم ليتيسر عليهم الأداء.
وقال أبو حنيفة: تجوز الكتابة على نجم واحد، لأن ظاهر قوله: «كاتبوهم» ليس فيه تقييد.
فصل
يشترط أن يكون المكاتب بالغاً عاقلاً. فإن كان صبياً أو مجنوناً لم تصح كتابته لقوله تعالى: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} والابتغاء لا يتصور من الصبي والمجنون.
وقال أبو حنيفة: تجوز كتابة الصبي، ويقبل عنه (المولى) .
فصل
ويشترط أن يكون السيد مكلفاً مطلقاً. فإن كان صبياً أو محجوراً عليه لسفه لم(14/371)
تصح كتابته، كما لا يصح بيعه، لأن قوله: «فَكَاتِبُوهُمْ» خطاب، فلا يتناول غير المكلف.
وقال أبو حنيفة: تصحّ كتابة الصبيّ بإذن الوليّ.
فصل
اختلفوا في قوله تعالى: «فكاتبوهم» هل هو أمر إيجاب أو ندب؟ فقيل: أمر إيجاب، فيجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيراً، فإن سأله بدون قيمته لم يلزمه، وهذا قول ابن دينار وعطاء، وإليه ذهب داود بن عليّ ومحمد بن جرير لظاهر الآية، وأيضاً فلأن سبب نزولها إنما نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له: «صبيح» سأل مولاه أن يكاتبه، فأبى عليه، فنزلت الآية، فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً وروي أن عمر أمر أنساً بأن يكاتب سيرين (أبا محمد بن سيرين) فأبى، فرفع عليه الدِّرَّة وضربه، وقال: «فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْراً» وحلف عليه ليكاتبنه، ولو لم يكن واجباً لكان ضربه بالدرة ظلماً، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فجرى ذلك مجرى الإجماع.
وقال أكثر الفقهاء: إنه أمر استحباب، وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد لقوله عليه السلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ولأنه لا فرق بين أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة فإن قيل: كيف يصح أن يبيع ماله بماله؟
فالجواب: إذا ورد الشرع به جاز، كما إذا علق عتقه على مال يكسبه فيؤديه أو يؤدى عنه صار سبباً لعتقه.
فإن قيل: هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه لولا الكتابة؟
فالجواب: نعم، لأنه لو دفع إليه الزكاة قبل الكتابة لم يحل له أخذها، وإذا صار(14/372)
مكاتباً حل له أخذها سواء أدى فعتق، أو عجز فعاد إلى الرق. واستفاد أيضاً أن الكتابة تبعثه على الاجتهاد في الكسب، ولولاها لم يكن ليفعل ذلك. ويستفيد المولى الثواب، لأنه إذا باعه فلا ثواب، وإذا كاتبه فالولاء له، فورد الشرع بجواز الكتابة لهذه الفوائد.
قوله: {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قال عليه السلام: «إن علمتم لهم حرفة، ولا تدعوهم كلاًّ على الناس» وقال ابن عمر: قوة على الكسب، وهو قول مالك والثوري.
قال عطاء والحسن ومجاهد والضحاك: الخير: المال، لقوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] أي: مالاً. قال عطاء: بلغني ذلك عن ابن عباس. ويروى أن عبداً لسلمان الفارسي قال له: كاتبني. قال: لك مال؟ قال: لا. قال: تريد أن تطعمني أوساخ الناس ولم يكاتبه. قال الزجاج: لو أراد به المال لقال: إنْ عَلِمْتُم لهم خيراً.
وأيضاً فلأن العبد لا مال له، بل المال لسيده. وقال إبراهيم النخعي وبن زيد وعبيدة: صدقاً وأمانة. وقال طاوس وعمرو بن دينار: مالاً وأمانة.
وقال الحسن: صلاحاً في الدين. قال الشافعي: وأظهر معاني الخير في العبيد: الاكتساب مع الأمانة، وأجاب ألا يمتنع من الكتابة إذا كان هكذا، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما، فإنه ينبغي أن يكون كسوباً يحصل المال، ويكون أميناً يصرفه في نجومه ولا يضيعه.
قوله: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} . قيل: هذا خطاب للموالي، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئاً، وهو قول عثمان وعليّ والزبير وجماعة، وبه قال الشافعي وهؤلاء اختلفوا في قدره: فقيل: يحط عنه ربع مال الكتابة، وهو قول عليّ، ورواه بعضهم عن عليّ مرفوعاً.
وعن ابن عباس: يحط الثلث. وقيل: ليس له حد، بل يختلف بكثرة المال وقلته، وهو قول الشافعي، لأن ابن عمر(14/373)
كاتب غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم.
وقيل: يحط عنه قدراً يحصل الاستغناء به. قال سعيد بن جبير: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه، مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته، ووضع من آخر كتابته ما أحب. وكاتب عمر عبداً، فجاءه بنجمه، فقال: اذهب فاستغن على أداء مال الكتابة، فقال المكاتب: لو تركته إلى آخر نجم فقال: إني أخاف ألا أدرك ذلك.
وقيل: هو أمر استحباب، لقوله عليه السلام: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» وقوله عليه السلام: «أيما عبد كاتب على مائة فأداها إلا عشرة فهو عبد» ولو كان الحط واجباً سقط عنه بقدره، وأيضاً فلو كان الإيتاء واجباً لكان وجوبه معلقاً بالعقد، فيكون العقد موجباً له ومسقطاً له، وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب.
وأيضاً فلو كان الحط واجباً لما احتاج أن يضع عنه، بل كان يسقط القدر المستحق، كمن له على إنسان دين، ثم لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قابضاً له. وأيضاً فلو كان واجباً لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً، فإن كان معلوماً وجب ألا تكون الكتابة بثلاثة أرباع المال على قول من يجعله الربع، فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف إذا كان العقد على أربعة آلاف، وذلك باطل، لأن أداء جميعها شرط، فلا يعتق بأداء البعض لقوله عليه السلام: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» وإن كان مجهولاً صارت الكتابة مجهولة، لأن الباقي بعد الحط مجهول، فلا يصح، كما لو كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء.
وقال قوم: المراد بقوله: «وآتُوهُم» أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله: «وَفِي الرّقَابِ» وهو قول الحسن وزيد بن أسلم، ورواية عطاء عن(14/374)
ابن عباس. وعلى هذا الخطاب لغير السادة، لأنهم أجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع زكاته إلى مكاتبه. وقال الكلبي وعكرمة وإبراهيم: هو خطاب لجميع الناس، وحث على معونة المكاتب، لقوله عليه السلام: «من أعان مكاتباً في فك رقبته أطلقه الله في ظل عرشه» .
فصل
إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم. فقيل: يموت رقيقاً، وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع. وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت، وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة، وإليه ذهب الشافعي وأحمد.
وقيل: إن ترك وفاء لما بقي عليه من الكتابة كان حراً، وإن كان فيه فضل فالزيادة لأولاده الأحرار، وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن، وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي.
فصل
ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال، لأن عتقه معلق بالأداء، وقد وجد، ويتبعه الأولاد والأكساب كما في الكتابة الصحيحة. ويفترقان في بعض الأحكام، وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم، ولا تبطل بموت المولى، ويعتق بالإبراء من النجوم. والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق، وتبطل بموت المولى، ولا يعتق بالإبراء من النجوم. وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ويثبت في الكتابة الفاسدة، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالاً.
قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء ... } الآية لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور.
واعلم أن العرب تقول للمملوك: فتى، وللمملوكة: فتاة، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ} [الكهف: 62] وقال: «تُرَاوِدُ فَتَاهَا» وقال: {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ} [النساء: 25] .(14/375)
وقال عليه السلام: «ليقل أحدكم: فَتَاي وفَتَاتي، ولا يقل: عَبْدِي وأَمَتِي» .
والبِغَاء: الزنا، مصدر: بَغَتِ المَرْأَة تَبْغي بِغَاءً، أي: زَنَتْ، وهو مختص بزنا النساء.
فصل
قال المفسرون: نزلت في عبد الله بن أبيّ المنافق، كان له ست جوار مُعَاذة، ومُسَيْكة، وأُمَيْمة، وعَمْرَة، وأَرْوَى، وقتيلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب يأخذها، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين: فإن يكن خيراً فقد استكثرنا منه، وإن كان شراً فقد آن لنا أن ندعه فشكيا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنزلت الآية. وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوماً ببرد، وجاءت الأخرى بدينار، فقال لهما: «ارجعا فازنيا» فقالتا: «والله لا نفعل وقد جاء الإسلام وحرم الزنا» فأتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وشكيا إليه، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية. وروي أن عبد الله بن أبيّ أسر رجلاً، فأراد الأسير جارية عبد الله، وكانت الجارية مسلمة، فامتنعت الجارية لإسلامها، فأكرهها سيدها على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده، فنزلت الآية. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: «جاء عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومعه جارية من أجمل النساء تسمى: معاذة، وقال: يا رسول الله، هذه لأيتام فلان، أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها. فقال عليه السلام: لا. فأعاد الكلام، فنزلت الآية» .(14/376)
فصل
الإكراه إنما يحصل بالتخويف بما يقتضي تلف النفس.
ومعنى قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} أي: إذا أرَدْنَ، وليس معناه الشرط، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردْن تحصناً، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أي: إذ كنتم مؤمنين. وقيل: إنما شرط إرادة التحصن، لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن، فإن لم تُرِد التحصن بغت طوعاً، لأنه متى لم توجد إرادة التحصن لم تكن كارهة للزنا، وكونها غير كارهة للزنا يمنع إكراهها، فامتنع الإكراه لامتناعه في نفسه. وقيل: هذا الشرط لا مفهوم له، لأنه خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن، كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق، ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} [البقرة: 229] (مفهوم) ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} [النساء: 101] والقصر لا يختص بحال الخوف، ولكنه أخرجه على الغالب، فكذا ههنا. وقال بعض العلماء: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُم على البِغَاءِ لتبتغوا عرض الحياةِ الدُّنيا، أي: لتطلبوا من أموال الدنيا، يريد: من كسبهن وبيع أولادهن. والتحصن: التعفف.
قوله: {وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . أي: غفور رحيم للمكرهات، والوزر على المُكْرِه، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: (لهنَّ والله) .
وقال ابن الخطيب: فيه وجهان:
أحدهما: غَفُوراً لَهُنَّ، لأنّ الإكراه (يُزِيلُ الإثم) والعقوبة عن المكره فيما فعل.(14/377)
والثاني: (فإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم) بالمكره بشرط التوبة. وهذا ضعيف لأنه يحتاج إلى الإضمار، والأول لا يحتاج إليه. وفي هذا نظر، لأنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط عند الجمهور كما تقدم تحقيقه (في البقرة) .
قوله: «فإن الله» جملة وقعت جواباً للشرط، والعائد على اسم الشرط محذوف، تقديره: غَفُور لهم. وقدره الزمخشري في أحد تقديراته وابن عطية وأبو البقاء: فإن الله غفور لَهُنَّ، أي: لِلْمُكرهات، فعرِيَتْ جملة الجزاء عن رابط يربطها باسم الشرط، ولا يقال: إن الرابط هو الضمير المقدر الذي هو فاعل المصدر؛ إذ التقدير: من بعد إكراههم لهُنّ، فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابط المقدر، لأنهم لم يعدوا ذلك من الروابط، تقول: هند عجبت من ضربها زيداً فهذا جائز، ولو قُلْتَ: هند عجبت من ضربِ زيدٍ: أي: من ضربها، لَمْ يَجُز، لخلوها من الرابط وإن كان مقدراً. ولما(14/378)
قدر الزمخشري «لهن» أورد سؤالاً فقال: فإن قلت: لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن، لأن المُكرهة على الزنا بخلاف المُكره غير آثمة. قلت: لَعَلَّ الإكراه غير ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل، أو بما يُخَاف منه التلف، أو فوات عضو حتى يسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحد الذي تُعذَرُ فيه فتكون آثمة.(14/379)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} الآية.
لما ذكر الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث:
أحدها: قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} أي: مفصلات. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر: «مبيِّنات» بكسر الياء، أي: أنها تبين للناس الحلال والحرام، كقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 195] وتقدم الكلام في «مُبَيّنَاتٍ» كسراً وفتحاً.
وثانيها: قوله: {وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} . قال الضحاك: «يريد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود، فأنزل في القرآن مثله» وقال مقاتل: «قوله:» وَمَثَلاً «أي: شبهاً من حالهم بحالكم في تكذيب الرسل» يعني: بينا لكم ما أحللنا بهم من العقاب لتمردهم على الله، فجعلنا ذلك مثلاً لكم، وهذا تخويف لهم، فقوله: «ومثلاً» عطف على «آيات» أي: وأنزلنا مثلاً من أمثال الذين من قبلكم.
وثالثها: قوله: «وَمَوْعِظَة لِلْمُتقينَ» أي: الوعيد والتحذير، ولا شك أنه موعظة للكل، وخصَّ المتقين بالذكر لما تقدم في قوله: «هُدًى لِلْمتقينَ» .(14/379)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قوله تعالى: {الله نُورُ السماوات والأرض} الآية. هذه جملة من مبتدأ وخبر، إما على حذف مضاف، أي: ذو نور السموات والمراد بالنور: عَدْلُهُ، ويؤيد هذا قوله: «مَثَلُ نُورِهِ» وأضاف النور لهذين الظرفين إما دلالة على سَعَةِ إِشْرَاقِهِ، وَفشُوّ إضاءته حتى تضيء له السمواتُ والأرضُ، وإمَّا لإرادة أهل السموات والأرض، وأنهم يَسْتَضِيئُونَ به. ويجوز أن يُبَالَغَ في العبادة على سبيل المدح كقولهم: فلان شَمْسُ البلادِ وقمرُها قال النابغة:
3831 - فإِنَّك شَمْسٌسٌ والمُلُوكُ كَوَاكِبٌ ... إذَا ظَهَرتْ لم يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ
وقال (آخر) :
3832 - قَمَرُ القَبَائِلِ خَالِدُ بن يزيد ... ويجوز أن يكون المصدر واقعاً اسم الفاعل، أي: مُنَوِّرُ السَّمواتِ. ويؤيد هذا الوجهَ قراءة أمير المؤمنين وزيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي: «نَوَّر» فعلاً ماضياً، وفاعله ضمير الباري تعالى، «السموات» مفعوله، وكَسْرُهُ نَصْبٌ، و «الأَرْضُ» بالنصب نَسَقٌ عليه. وفَسَّرَهُ الحسنُ فقال: «اللَّهُ مُنوِّرُ السَّمواتِ» .(14/380)
فصل
قال ابن عباس: هادي أهل السموات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون. وقال الضحاك: منوِّر السموات والأرض، يقال: نوّر الله السماء بالملائكة ونوّر الأرض بالأنبياء. وقال مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض.
وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية: مزَيّن السموات والأرض، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقيل: بالنبات والأشجار. وقيل: معناه: الأنوار كلها منه، كما يقال: فلان رحمة، أي: منه الرحمة. وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح، كقول القائل:
3833 - إذا سارَ عبدُ اللَّهِ من مَرْوَ لَيْلَةً ... فقد سارَ منها نورُها وجمالُها
قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} مبتدأ وخبر، وهذه الجملة إيضاحٌ وتفسيرٌ لِمَا قبلها، فلا محلَّ لها، وثمَّ مُضَاف محذوف، أي: كَمَثَلِ مِشْكَاةٍ. قال الزمخشري: أي: صفةُ نُورِهِ العجيبةُ الشأنِ في الإضاءة «كَمِشْكَاةٍ» أي: كصفة (مشكاة) . واختلفوا في الضمير في «نُورِهِ» : فقيل: هو الله تعالى، أي: مثل نور الله - عزَّ وجلَّ - في قلب المؤمن، وهو النور الذي يهتدى به، كما قال: {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22] . وكان ابن مسعود يقرأ «مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ المُؤْمِن» وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: «مثل نوره الذي أعطى المؤمن» وعلى هذا المراد بالنور: الإيمان، والآيات البيّنات.
وقيل: يعود على المؤمنين أو المؤمن، أو من آمن به، أي مثل نور قلب المؤمن. وكان أبيّ يقرأ بهذه الألفاظ كلها، وأعاد الضمير على ما قرأ به. والمراد بالنور: الإيمان(14/381)
والقرآن لقوله تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 15] يعني: القرآن.
وقال سعيد بن جبير والضحاك: الضمير يعود على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يتقدم لهذه الأشياء ذِكْر.
وأما عوده على المؤمنين في قراءة أبيّ، ففيه إشكال من حيث الإفراد. قال مكّيٌّ: يُوقَف على الأرض في هذه الأقوال الثلاثة.
وقيل: أراد ب «النور» الطاعة، سمى طاعة الله نوراً، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلاً.
فصل
واختلفوا في هذا التشبيه:
(هل هو) تشبيه مركب، أي: أنه قصد تشبيه جملة بجملة من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء، بل قصد تشبيه هُدَاهُ وإتْقَانهُ صُنْعَتَهُ في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي يتخذونه، وهو أبلغ صفات النور عندكم أو تشبيه غير مركب، أي: قصد مقابلة جزء بجزء. ويترتب الكلام فيه بحسب الأقوال في الضمير في «نورِهِ» . و «المِشْكَاةُ» : الكُوَّةُ غير النَّافِذة. وهل هي عربية أم حبشيّة مُعَرَّبَةٌ؟ خلاف.
قال مجاهد: «هي القنديل» . وقيل: هي الحديدةُ أو الرَّصاصةُ التي يُوضع فيها الذُّبالُ، وهو الفتيل، ويكون في جوف الزجاجة.
وقيل: هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح. وقيل: ما يعلق منه القنديل من الحديدة. وأمال «المِشْكَاة» الدُّوري عن الكسائي لِتقدُّم الكسر وإن(14/382)
وُجِدَ فاصل ورُسِمَتْ بالواو ك «الزكوة» و «الصلواة» . والمصباح: السِّراج الضَّخم، وأصله من الضوء ومنه الصبح. والزّجاجة: واحدة الزّجاج، وهو جوهَر معروف، وفيه ثلاث لغات: فالضم: لغة الحجاز، وبها قرأ العامة. والكسر والفتح: لغة قيس. وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد. وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في رواية عنه، وأبو رجاء. وكذلك الخلاف في قوله: «الزُّجَاجَةُ» . والجملة من قوله: «فِيهَا مِصْبَاح» صفة ل «مشكاة» ، ويجوز أن يكون الجار وحده هو الوصف، و «مِصْبَاح» مرتفع به فاعلاً.
قوله: «دُرِّي» . قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال، وياء بعدها همزة. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياء بعدها همزة. والباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز. وهذه الثلاثة في السبع. وقرأ زيد بن عليّ والضحاك وقتادة بفتح الدال وتشديد الياء. وقرأ الزهري بكسرها وتشديد الياء.
وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وقتادة أيضاً «دَرِّيءٌ» فتح الدال وياء بعدها همزة فأما الأولى فقراءة واضحة، لأنه بِنَاءً كثيرٌ، يوجد في الأسماء نحو: «سِكِّين» وفي الصفات نحو «سِكِّير» . وأما القراءة الثانية فهي من «الدرء» بمعنى: الدفع، أي: يدفع بعضها بعضاً، أو يدفع ضوؤها خفاءها.(14/383)
قيل: ولم يوجد شيء وزنه «فُعِّيل» إلا «مُرِّيقاً» للعُصْفر، و «سُرِّيّة» على قولنا: إنها من السّرور، وأنه أبدل من إحدى المُضَعَّفَات ياء، وأُدْغِمت فيها ياء «فُعِّيل» ، و «مُرِّيخاً» للذي في داخل القرن اليابس، ويقال بكسر الميم أيضاً، و «عُلِّية» و «دُرِّيءٌ» في هذه القراءة، و «دُرِّيَّة» أيضاً في قولٍ، وقال بعضهم: وزن «دريء» في هذه القراءة «فُعُّول» كسُبُّوح قُدُّوس فاستثقل توالي الضم فنُقِل إلى الكسر، وهذا منقول أيضاً في «سُرِّيّة» و «دُرِّيّة» .
وأما القراءة الثالثة فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون أصلها الهمز كقراءة حمزة إلا أنه أُبدل من الهمز ياءً، وأُدغِم، فيتحد معنى القراءتين. ويحتمل أن تكون نسبة إلى الدُّرِّ لصفائها، وظهور (إشراقها) .
وأما قراءة تشديد الياء مع فتح الدال وكسرها، فالذي يظهر أنه منسوب إلى الدُّرّ. والفتح والكسر في الدال من باب تغييرات النسب. وأما فتح الدال مع المد والهمز ففيها إشكال.
قال أبو الفتح: وهو بناءٌ عزيز لم يُحْفَظ منه إلاّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين.(14/384)
قال شهاب الدين: وقد حكى الأخفش فعلية السَّكِّينَة والوَقَار، وكَوْكَبٌ دَرِّيءٌ من (دَرَأْتُه) . قوله: «تُوقَدُ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «تَوَقَّدَ» بزنة «تَفَعَّلَ» فعلاً ماضياً فيه ضمير فاعله يعود على «المِصْبَاح» ، ولا يعود على «كَوْكَبٍ» لفساد المعنى. والأخوان وأبو بكر: «تُوقَدُ» بضم التاء من فوق وفتح القاف مضارع «أَوقَدَ» ، وهو مبني للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير يعود على «زُجَاجَة» فاستتر في الفعل. وباقي السبعة كذلك إلا أنه بالياء من تحت، والضمير المستتر يعود «المِصْبَاح» . وقرأ الحسن والسُّلمي وابن مُحيصن ورُويَتْ عن عاصم من طريق المُفضَّل كذلك إلا أنه ضمَّ الدَّال، جعله مضارع «تَوَقَّدَ» ، والأصل «تَتَوَقَّد» بتاءين فحذف إحداهما ك «تَتَذَكّر» ، والضمير أيضاً للزجاجة.
وقرأ عبد الله «وُقِّدَ» فعلاً ماضياً بزنة «قُتِّلَ» مشدداً، أي: «المصْبَاحُ» وقرأ الحسن وسلام أيضاً «يَوَقَّدُ» بالياء من تحت وضم الدال مضارع «توقد» ، والأصل «يتوقد» بياء من تحت وتاء من فوق، فحذف التاء من فوق (و) هذا شاذٌ، إذ لم يَتَوال مِثلان، ولم يَبْقَ في اللفظ ما يدل على المحذوف، بخلاف «تَنَزَّلُ» و «تَذَكَّرُ» وبابه، فإن فيه تاءين، والباقي يدل على ما فُقِدَ. وقد يُتَمَحَّلُ لصحته وجه من القياس، وهو أنهم قد حملوا «أَعِدُ» و «تَعِدُ» و «نَعِدُ» على «يَعِدُ» في حذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، فكذلك حملوا «يَتَوَقّدُ» بالياء والتاء على «تَتَوَقَّدُ» بتاءين وإن لم يكن الاستثقال موجوداً في الياء والتاء.(14/385)
قوله: «مِنْ شَجَرَةٍ» مِنْ لابتداء الغاية، وثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: من زيت (شَجَرَةٍ) . و «زَيْتُونَةٍ» فيها قولان: أشهرهما: أنها بدل من «شَجَرَةٍ» .
الثاني: أنها عطف بيانٍ، وهذا مذهب الكوفيين، وتبعهم أبو علي. وتقدم هذا في قوله: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] .
قوله: «لاَ شَرْقِيَّةٍ» صفة ل «شجرةٍ» ودخلت «لاَ» لتفيد النفي. وقرأ الضَّحَّاكُ بالرفع على إضمار مبتدأ، أي: لاَ هِيَ شَرْقِيةٌ، والجملة أيضاً في محل جر نعتاً ل «شَجَرَةٍ» . (قوله: «يَكَادُ» هذه الجملة أيضاً نعت ل «شَجَرَةٍ» ) .
قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} جوابها محذوف، أي: لأضاءت، لدلالة ما تقدم عليه، والجملة حالية. وتقدم تحرير هذا في قولهم: أعطوا السائل وَلَوْ جاء على فَرَسٍ. وأنها لاستقصاء الأحوال حتى في هذه الحالة. وقرأ ابن عباس والحسن: «يَمْسَسْهُ» بالياء، لأن التأنيث مجازي، ولأنه قد فصل بالمفعول أيضاً.
فصل في كيفية هذا التمثيل
قال جمهور المتكلمين: معناه: أن هداية الله قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي يكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح (يتّقد بزيت) بلغ النهاية في الصفاء. فإن قيل: لم شبهه بذلك مع أن ضوء الشمس أعظم منه؟(14/386)
فالجواب: أنه تعالى أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة، لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات (وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات) وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس، لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة، فلا جرم كان هذا المثل أليق وأوفق.
فصل
اعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذه المثل توجب كمال الضوء.
فأولها: أن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أشد إنارة، ويحقق ذلك أن المصباح ينعكس شعاعه من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض، لما في الزجاجة من الصفاء والشفافة، فيزداد بسبب ذلك الضوء والنور، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف النور الظاهر، حتى إنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء، فإذا انعكست تلك الأشعة من كل جانب من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية.
وثانيها: أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد فيه، فإذا كان الدهن صافياً خالصاً كانت حاله بخلاف حاله إذا كان كدراً، وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت، فربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه.
وثالثها: أن الزيت يختلف باختلاف شجرته، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس (في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجاً، فكان زيته أكثر صفاءً، لأن زيادة تأثير الشمس) تؤثر في ذلك، فإذا اجتمعت هذه الأمور وتعاونت صار ذلك الضوء خالصاً كاملاً، فيصلح أن يجعل مثلاً لهداية الله تعالى.
فصل
قال بعضهم: «هذه الآية من المقلوب والتقدير: مثل نوره كمصباح في مشكاة، لأن المشبه به هو الذي يكون معدناً للنور ومنبعاً له، وذلك هو المصباح لا المشكاة» .
فصل
قال مجاهد: «المِشْكَاة» : القنديل، والمعنى: كمصباح في مشكاة. المصباح في(14/387)
زجاجة، يعني: «القنديل» قال الزجاج: إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين في كل شيء، وضوؤه يزيد في الزجاج. ثم وصف الزجاجة فقال: {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} . والدَّرُّ: الدفع، لأن الكواكب تدفعُ الشياطينَ من السماء. وشبيه حالة الدفع، لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور. وقيل: «دري» أي: طالع، يقال: درى النجم: إذا طلع وارتفع، ويقال: هو من درأ الكوكب: إذا اندفع منْقضاً فيضاعف ضوؤه في ذلك الوقت) (ويقال: درأ علينا فلان، أي: طلع وظهر. وقيل: الدري أي ضخم مضى، ودراري النجوم: عظامها. وقيل: الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام، وهي: زحل، والمريخ والمشتري، والزهرة وعطارد. وقيل: الكواكب المضيئة كالزهرة والمشتري والثوابت التي في المعظم الأول. فإن قيل: لم شبهه بالكوكب ولم يشبهه بالشمس والقمر؟ .
فالجواب لأن الشمس والقمر يلحقها الخسوف، والكواكب لا يلحقها الخسوف. «توقّد» يعني: المصباح، أي: اتَّقَدَ. ويقال: توقدت النار، أي: اتقدت، يعني: نار الزجاجة، لأن الزجاجة لا توقد. هذا على قراءة من ضم التاء وفتح القاف.
وأما على قراءة الآخرين ف «توقد» يعني المصباح {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي: من زيت شجرة مباركة، فحذف المضاف بدليل قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء} . وأراد بالشجرة المباركة: الزيتون وهي كثيرة البركة والنفع: لأن الزيت يسرج به وهو أضوأ وأصفى الأدهان، وهو إدام وفاكهة، ولا يحتاج في استخراجه إلى عصار، بل كل أحد يستخرجه. وقيل: أول شجرة نبتت بعد الطوفان، وبارك فيها سبعون نبياً منهم الخليل. وجاء في الحديث أنه مصحة من الباسور، وهي شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها. وقال عليه السلام: «كُلُوا الزَّيْتَ وادهنُوا بِهِ فإِنَّهُ من شَجَرة مُبَارَكةٍ» .(14/388)
وقيل: المراد زيتون الشام، لأنه في الأرض المباركة فلهذا جعل الله هذه الشجرة بأنها {لا شرقية ولا غربية} واستدلوا على ذلك بوجوه:
أحدها: أن الشام وسط الدنيا، فلا توصف شجرتها بأنها شرقية أو غربية.
وهذا ضعيف، لأن من قال: «الأرض كرة» لم يثبت للمشرق والمغرب موضعين معينين، بل لكل بلد مشرق ومغرب على حدة، لأن المثل مضروب لكل من (يعرف، الزيت) وقد) يوجد في غير الشام كوجوده فيه.
وثانيها: قال الحسن: «لأنها من شجر الجنة، إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية» . وهذا أيضاً ضعيف، لأنه تعالى إنما ضرب المثل بما شاهدوه، وهم ما شاهدوا شجر الجنة.
وثالثها: أنها شجرة يلتف بها ورقها التفافاً شديداً، ولا تصل الشمس إليها سواء كانت الشمس شرقية أو غربية، وليس في الشجر ما يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان. وهذا أيضاً ضعيف، لأن الغرض صفاء الزيت، وذلك لا يحصل إلا بكمال نضج الزيتون، وذلك إنما يحصل في العادة بوصول أثر الشمس إليه لا بعدم وصوله.
ورابعها: قال ابن عباس: «المراد الشجرة التي تبرز على جبل عال، أو صحراء واسعة، فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب» . وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة.
وقال الفراء والزجاج: «لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها، ولكنها شرقية غربية، كما يقال: فلان لا مسافر ولا مقيم، إذا كان يسافر ويقيم، أي: تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها، فتكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين، فيكون زيتها أضوأ، كما يقال: فلان ليس بأسود ولا أبيض، يريد: ليس بأسود خالص ولا بأبيض خالص، بل اجتمع فيه الأمران، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض، أي: اجتمع فيه الحلاوة والحموضة» .
وهذا هو المختار، لأن الشجرة إذا كانت كذلك كان زيتها في نهاية الصفاء، وحينئذ يكون مقصود التمثيل أتم. وقيل: المراد ب «المِشْكَاة» صدر محمد، (و «الزجاجة» قلب محمد) و «المصباح» ما في قلب محمد من الدين، {يوقد من شجرة} يعني:(14/389)
{واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النساء: 125] والشجرة: إبراهيم، ثم وصف إبراهيم بقوله: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي: لا يصلي قبل المشرق ولا قبل المغرب كاليهود والنصارى، بل كان عليه السلام يصلي إلى الكعبة، ثم قال: {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} لأن الزيت إذا كان خالصاً ثم رئي من بعيد يرى كأن له شعاعاً، فإذا مسته النار ازْدَاد ضَوءاً على ضوئه كذلك.
قال ابن عباس: «يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد نوراً على نور، وهدى على هدى» . وقال الضحاك: «يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي» . قال عبد الله بن رواحة:
3834 - لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آياتٌ مبينةٌ ... كانتْ بديهتُه تُنْبِيكَ بالخَبر
وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة: إبراهيم، والزجاجة: إسماعيل والمصباح محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سماه الله مصباحاً كما سماه سراجاً فقال «وسراجاً منيراً» {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} وهي إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وسماه مباركاً، لأن أكثر الأنبياء من صلبه {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي لم يكن إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً، لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يكاد محاسن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تظهر للناس من قبل أن يوحى إليه، {نُّورٌ على نُورٍ} نبي من نسل نبي (نور محمد على نور إبراهيم) .
قوله: {نُّورٌ على نُورٍ} خبر مبتدأ مضمر أي: ذلك نور، و «عَلَى نُورٍ» صفة ل «نُورٌ» . والمعنى: أن القرآن نور من الله - عزَّ وجلَّ - لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نوراً على نور. {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} .
قال ابن عباس: «لدين الإسلام، وهو نور البصيرة» . وقيل: القرآن. (قال إن(14/390)
المؤمن يتقلب في خمسة أنوار: قوله نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصير إلى نور) . واستدل أهل السنة بهذه الآية على صحة مذهبهم فقالوا: «إنه تعالى بعد أن بين أن هذه الدلائل التي بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه، قال:» يَهْدِي اللَّهُ «بإيضاح هذه الأدلة {لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} أي: وضوح هذه الدلائل لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان» .
قوله: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} يبين الله الأشباه للناس، أي: للمكلفين، تقريباً لأفهامهم، وتسهيلاً لنيل الإدراك.
{والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} وهذا كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله، ولا ينظر في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات. قالت المعتزلة: قوله تعالى {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} ذكره في معرض النعمة، وإنما يكون نعمة عظيمة لو أمكنكم الانتفاع به وتقدم جوابه.(14/391)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} الآية.
واعلم أن قوله: «فِي بُيُوتٍ» يقتضي محذوفاً يكون فيها، وذكروا فيه ستّة أوجه:
أحدها: أن قوله: «في بُيُوتٍ» صفة ل «مِشْكَاةٍ» أي كَمِشْكَاةَ في بُيُوتٍ، أي: في بيتٍ من بُيُوت الله.
(الثاني: أنه صفة ل «مصباح» ) وهذا اختيار أكثر المحققين.
واعترض عليه أبو مسلم بن بحر الأصفهاني من وجهين:
الأول: أن المقصود من ذكر «المصباح» المثل، وكون المصباح في بيت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود، لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضاءة.(14/391)
والثاني: أن الذي تقدم ذكره في وجوه يقتضي كونه واحداً، كقوله: «كَمشْكَاةٍ» وقوله: «فيهَا مِصْبَاحٌ» وقوله: «فِي زُجَاجَةٍ» وقوله: {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] ، ولفظ «البُيُوت» جمع، ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت.
وأجيب عن الأول: أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم، فكان أضوأ، فكان التمثيل به أتم وأكمل.
وعن الثاني: أنه لما كان القصد بالمثل هذا الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل مشكاة فيها مصباح في زجاجة يتوقد من الزيت، فتكون الفائدة في ذلك أن ضوءه يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى، كقوله: «الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وقناعة يلزم بيته» لكان وإن ذكر بلفظ الواحد، فالمراد النوع، فكذا ههنا.
الثالث: أنه صفة ل «زجاجة» . .
الرابع: أنه يتعلق ب «يُوقَدُ» أي: يُوقَد في بيوت، والبيوت هي المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: المساجد بيوت الله في الأرض، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض. وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على «عَلِيمٌ» .
الوجه الخامس: أنه متعلق بمحذوف كقوله: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] أي: سبحوه في بيوت.
السادس: أنه متعلق ب «يُسَبِّحُ» أي: يسبح رجال في بيوت، و «فيهَا» تكرير للتوكيد كقوله: {فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] وعلى هذين القولين فيوقف على «عَلِيمٌ» .
قوله: «أَذِنَ اللَّهُ» في محل جر صفة ل «بُيُوت» ، و «أَنْ تُرْفَع» على حذف الجار، أي: في أن ترفع. ولا يجوز تعلق «فِي بُيُوتٍ» بقوله: «وَيُذْكرَ» لأنه عُطِفَ(14/392)
على ما في حيز «أَنْ» وما بعد «أن» لا يتقدم عليها.
فصل
قال أكثر المفسرين: المراد ب «البيوت» ههنا: المساجد.
وقال عكرمة: هي البيوت كلها. والأول أولى، لأن في البيوت ما لا يوصف بأن الله أذن أن ترفع، وأيضاً فإن الله تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة، وذلك لا يليق إلا بالمساجد. ثم القائلون بأنها المساجد قال بعضهم: بأنها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة. وبيت المقدس بناه داود وسليمان - عليهما السلام - ومسجد المدينة بناه النبي - عليه السلام - ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قاله ابن بريدة. وعن الحسن أن ذلك بيت المقدس يسرج فيه عشرة آلاف قنديل. وهذا تخصيص بغير دليل.
وقال ابن عباس: المراد جميع المساجد كما تقدم.
قوله: «أَنْ تُرفَعَ» . قال مجاهد: تبنى كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127] ، وهو مرويّ عن ابن عباس. وقال الحسن والزجاج: تُعَظَّم وتُطَهَّر عن الأنجاس ولغو الأفعال. وقيل: مجموع الأمرين {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} .
قال ابن عباس: يتلى فيها كتابه. وقيل: عام في كل ذكر {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} .
قرأ ابن عامر وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثَّلاث، والأَوْلَى منها بذلك الأَوَّل، لاحتياج العامل إلى مرفوعه، فالذي يليه أولى، و «رِجَالٌ» على هذه القراءة مرفوع على أحد وجهين: إمَّا بفعل مُقدَّر لتعذّر إسناد الفعل إليه، وكأنَّه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: «مَنْ يُسَبِّحُهُ» ؟ فقيل: «يُسَبِّحُهُ رجالٌ» ، وعليه في أحد الوجهين قول الشاعر:
3835 - ليُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لخُصُومةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوَائِح(14/393)
كأنه قيل: من يَبْكيه؟ فقيل: يَبْكيه ضارعٌ، إلاَّ أَنَّ في اقتباس هذا خلافاً: منهم من (جَوَّزهُ وقاس) عليه: «ضُرِبَتْ هندٌ زيدٌ» أي: ضَرَبَهَا زيدٌ. ومنهم من مَنَعهُ.
والوجه الثاني في البيت أن «يَزِيدُ» منادى حذف منه حرفُ النِّداء، أي: ما يزيد وهو ضعيفٌ جداً.
الثاني: أن «رِجَالٌ» خبر مبتدأ محذوف، أي: المُسَبِّحةٌ رجالٌ.
وعلى هذه القراءة يوقف على «الآصالِ» . وباقي السبعة بكسر الباء مبنياً للفاعل، والفاعلُ «رِجَالٌ» فلا يوقف على «الآصَالِ» . وقرأ ابن وثَّاب وأبو حَيْوَة «تُسَبِّحُ» بالتاء من فوق، وكسر الباء، لأن جمع التكسير يُعَامَل معاملة المؤنث في بعض الأحكام، وهذا منها. وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنه فتح (الباء) . وخرَّجَها الزمخشري على إسناد الفعل إلى «الغُدُوّ والآصَالِ» على زيادة الباء، كقولهم: «صيد عليه يومان» (والمراد: وحشهما) . وخرَّجها غيره على أن القائم مقام الفاعل ضمير(14/394)
التَّسبيحة، أي: تُسَبِّح التَّسبيحَةُ على المجاز المُسَوّغ لإسناده إلى الوقتين، كما خرجوا قراءة أبي جعفر أيضاً: «لِيُجْزَى قَوْماً» أي: «لِيُجْزَى الجَزَاء قَوْماً» ، بل هذا أولى من آية الجاثية، إذ ليس هنا مفعول صريح.
فصل
اختلفوا في هذا التسبيح. فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة، وهؤلاء منهم من حمله على صلاة الصبح والعصر، فقال: كانتا واجبتين في بدء الحال ثم زيد فيهما، وقال عليه السلام: «من صلى صلاة البردين دخل الجنة» وقيل: أراد الصلوات المفروضة، فالتي تؤدى بالغداة صلاة الفجر، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشائين لأن اسم الأصيل يجمعهما، و «الآصال» جمع أَصيل، وهو العشي.
وإنما وحد «الغدو» لأنه مصدر في الأصل لا يجمع، و «الأَصيل» اسم فجمع.
قال الزمخشري: «بالغدو، أي بأوقات الغد، أي بالغدوات» .
وقيل: صلاة الضحى، قال عليه السلام: «من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهِّر، فأجره كأجر الحاجِّ المُحْرم، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المُعْتَمِر، وصلاةٌ على إثر صلاة لا لَغْوَ بينهما كتاب في عِلِّيِّين» وقال ابن عباس: «إنّ صلاة الضحى لفي كتاب الله (مذكورة) (وتلا هذه) الآية. وقيل: المراد منه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله؛ لأنه قد عطف على ذلك الصلاة والزكاة فقال: {عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة} . وهذا الوجه أظهر.
وقرئ:» بالغدو والإيصَالِ «وهو الدخول في الأصل.
قوله:» لا تُلْهِيهِمْ «في محل رفع صفة ل» رِجَالٌ «. (و) خص الرجال(14/395)
بالذكر في هذه المساجد، لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد.» لاَ تُلْهِيهِمْ «: تشغلهم،» تِجَارَةٌ «قيل: خص التجارة بالذكر، لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات.
قال الحسن: أما والله إنهم كانوا يتجرون، ولكن إذا جاءتهم فرائض الله لم يلههم عنها شيء، فقاموا بالصلاة والزكاة. فإن قيل: البيع داخل في التجارة، فلم أعاد البيع؟ فالجواب من وجوه:
الأول: أن التجارة جنس يدخل تحته أنواع الشراء والبيع، وإنما خص البيع بالذكر لأن الالتهاء به أعظم، لكون الربح الحاصل من البيع معين ناجز، والربح الحاصل من الشراء مشكوك مستقبل.
الثاني: أن البيع تبديل العرض بالنقدين، والشراء بالعكس، والرغبة في تبديل النقد أكثر من العكس.
الثالث: قال الفراء: التجارة لأهل الجَلْب، يقال: تجر فلان في كذا: إذا جلب من غير بلده، والبيع ما باعه على يديه.
الرابع: أراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً، لأنه ذكر البيع بعده كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة: 11] يعني: الشراء.
قوله: {عَن ذِكْرِ الله} عن حضور المساجد لإقامة الصلاة. فإن قيل: فما معنى قوله:» وَإقَامِ الصَّلاَةِ؟ «فالجواب قال ابن عباس: المراد بإقامة الصلاة: إقامتها لمواقيتها، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة.
ويجوز أن يكون قوله: «الصَّلاَة» تفسيراً لذكر الله، فهم يذكرون قبل الصلاة.
قال الزجاج: وإنما حذفت الهاء، لأنه يقال: أقمت الصلاة إقامة، وكان الأصل: إقواماً، ولكن قُلِبَت الواو ألفاً، فاجتمعت ألفان، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي: أقَمْتُ الصلاة إقاماً، فأدخلت الهاء عوضاً عن المحذوف، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة وهذا إجماع من النحويين.(14/396)
فصل
المراد: الصلوات المفروضة لما روى سالم (عن) ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم، فدخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت هذه الآية: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة} .
وقوله: «وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ» يريد: المفروضة. قال ابن عباس: إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها. وروي عن ابن عباس أيضاً: المراد من الزكاة: طاعة الله والإخلاص. وهذا ضعيف لأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء، وهذا لا يحتمل إلا ما يعطى من حقوق المال. قوله: «يخَافُونَ يَوْماً» يجوز أن يكون نعتاً ثانياً ل «رِجَالٌ» ، وأن يكون حالاً من مفعول «تُلْهِيهِمْ» و «يَوْماً» مفعول به لا ظرف على الأظهر، و «تَتَقَلَّبُ» صفة ل «يَوْماً» .
قوله: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتنفتح الأبصار من الأغطية بعد أن كانت مطبوعة عليها لا تبصر، وكلهم انقلبوا من الشك إلى اليقين، كقوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] وقوله: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22] . وقيل: تتقلب القلوب تطمع في النجاة وتخشى الهلاك، وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤخذ أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم، أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟
والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل، لأنهم قالوا: إن أهل الثواب لا خوف عليهم البتة، وأهل العقاب لا يرجون العفو. وقيل: إن القلوب تزول من أماكنها فتبلغ الحناجر، والأبصار تصير زرقاً. وقيل: تقلب البصر: شخوصه من هول الأمر وشدته.(14/397)
(وقال الجبائي: تقلب القلوب والأبصار) : تغير هيئاتها بسبب ما ينالها من العذاب. قال: ويجوز أن يريد به تقليبها على جمر جهنم كقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] .
قوله: «لِيَجْزِيَهُمْ» . يجوز تعلقه ب «يُسَبِّحُ» أي: يُسَبِّحون لأجل الجزاء.
ويجوز تعلقه بمحذوف، أي: فعلوا ذلك ليجزيهم. وظاهر كلام الزمخشري أنه من باب الإعمال، فإنه قال: والمعنى: يُسبِّحونَ وَيَخَافُونَ (لِيَجْزيهمْ «) . ويكون على إعمال الثاني للحذف من الأول.
وقوله: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي: ثواب أحسن، أو أحسن جزاء ما عملوا، و «ما» مصدرية، أو بمعنى الذي، أو نكرة.
فصل
المراد بالأحسن: الحسنات أجمع، وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل: إنما ذكر الأحسن لأنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم، بل يغفرها لهم.
وقيل: يجزيهم جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشر إلى سبعمائة. ثم قال: {وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ} أي: ما لم يستحقوه بأعمالهم. فإن قيل: هذا يدل على أن لفعل الطاعة أثر في استحقاق الثواب، لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل، وأنتم لا تقولون بذلك، فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئاً؟ قلنا: نحن نثبت الاستحقاق بالوعد، فذلك القدر هو الذي يستحق، والزائد عليه هو الفضل. ثم قال: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وذلك تنبيه على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فكأنه تعالى لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة، وهم مع ذلك في نهاية الخوف، فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم.(14/398)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قوله تعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الآية.
لما بيَّن حال المؤمن أنه في الدنيا يكون في النور، وبسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح ثم بين أنه يكون في الآخرة فائزاً بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبع ذلك ببيان أن الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات، وضرب لكل واحد منهما مثلاً، أما المثل الدال على حسرته في الآخرة فقوله: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} .
قال الأزهري: «السَّرَابُ: ما يتراءى للعين وقت الضحى في الفلوات شبيهاً بالماء الجاري وليس بماء، ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جارياً، يقال: سَرَبَ الماءُ يَسْرُبُ سُرُوباً: إذَا جرى، فهو سَارِبٌ» . وقيل: السَّرَابُ: مَا يَتَرَاءَى للإنْسَانِ في القَفْرِ في شِدَّةِ الحَرِّ مِمَّا يُشْبهُ المَاءَ. وقيل: مَا يَتَكَاثَفُ مِنْ قُعُورِ القيعَانِ. قال الشاعر:
3836 - فَلَمَّا كَفَفْت الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهم ... كَلَمْع سَرَابٍ في الفَلاَ مُتَألِّقِ
يضرب به المَثَلُ لمن يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيُخْلَفُ ظَنُّهُ. وقيل: هو الشُّعَاعُ الذي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ في شدة الحَرِّ في البراري، يُخَيَّلُ للناظر أنه الماء السَّارِبُ، أي: الجاري، فإذا قرب منه لم ير شيئاً. والآل: ما ارتفع من الأرض وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه المَلاَة يرفع الشخوص، يرى فيها الصغير كبيراً، والقصير طويلاً.(14/399)
والرَّقْرَاقُ: يكون بالعشايا. وهو ما ترقرق من السراب، أي: جاء وذهب.
قوله: «بِقِيعَةٍ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه صفة ل «سَرَابٍ» .
والثاني: أنه ظرف، والعامل فيه الاستقرار العامل في كاف التشبيه.
والقيعة: بمعنى القاع، قاله الزمخشري، وهو المُنْبَسِطُ من الأرض، وتقدم في «طه» .
وقيل: بل هي جمعه ك «جَارٍ وَجيرَة» قاله الفراء. وقرأ مسلمة بن محارب بتاء (ممطوطة) ، وروي عنه بتاء شَكل الهاء، ويقف عليها بالهاء، وفيها أوجه:
أحدها: أن يكون بمعنى «قيعة» كالعامة، وإنَّما أشبع الفتحة فتولَّد منها ألف كقوله: مُخرنبقٌ لينباع. قاله صاحب اللوامح.
والثاني: أنه جمع: «قيعة» وإنَّما وقف عليها بالهاء ذهاباً به مذهب لغة طيئ في قولهم: «الإخْوَه والأخَوَاه» و «دَفْنُ البَنَاه من المَكْرُماه» أي: والأخوات، والبنات، والمكرمات. وهذه القراءة تؤيد أن «قيعة» جمع قاع.(14/400)
قال الزمخشري: وقد جعل بعضهم «بِقِيعَاة» بتاء مدوَّرة ك «رجل عِزْهَاةٍ» .
فظاهر هذا أنه جعل هذا بناء مستقلاً ليس جمعاً ولا إشباعاً.
قوله: «يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ» جملة في محل الجر صفة ل «سَرَابٍ» أيضاً، وحَسُنَ ذلك لتقدم الجار على الجملة، هذا إن جعلنا الجارَّ صفةً والضمائر المرفوعة في «جَاءَهُ» ، وفي «لَمْ يَجِدْهُ» وفي «وَجَدَ» ، والضمائر في «عِنْدَهُ» وفي «وَفَّاهُ» وفي «حِسَابَهُ» كلها ترجع إلى «الظَّمْآن» لأن المراد به الكافر المذكور أولاً، وهذا قول الزمخشري وهو حسن.
وقيل: بل الضميران في «جَاءَهُ» و «وَجَدَ» عائدان على «الظَّمْآن» ، والباقية عائدة على الكافر. وإنما أفرد الضمير على هذا وإن تقدمه جمع، وهو قوله: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» حَمْلاً على المعنى؛ إذ المعنى: كلُّ واحدٍ من الكفار.
والأول أولى لاتِّساق الضمائر. وقرأ أبو جعفر، ورُويَتْ عن نافع: «الظَّمَانُ» بإلقاء حركة الهمزة على الميم.
فصل
قال الزجاج: « (الظَّمْآن) قد تخفف همزته، وهو الشديد العطش، ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثواباً مع أنه يعتقد أن له ثواباً عليه، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه العقاب مع أنه يعتقد أنه ثواباً، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثواباً عند الله تعالى، فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب، بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه، فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الشراب ويتعلق قلبه به، ويرجو به النجاة، فإذا جاءه وأيس مما(14/401)
كان يرجوه عظم ذلك عليه» . قال مجاهد: «السراب: عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا» .
فإن قيل: قوله: {حتى إِذَا جَآءَهُ} يدل على كونه شيئاً، وقوله: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} مناقض له؟
فالجواب من وجوه:
الأول: معناه: لم يجد شيئاً نافعاً، كما يقال: فلان ما عمل شيئاً، وإن كان قد اجتهد.
الثاني: «إذا جَاءَهُ» أي: جاء موضع السراب لم يجد السراب، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء.
قوله: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} أي: وجد عقاب الله عنده الذي توعد به الكافر.
وقيل: وجد الله عنده، أي: عند عمله، أي وجد الله بالمرصاد.
وقيل: قدم على الله «فَوَفَّاهُ حِسَابه» أي: جزاء عمله. قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام.
قوله: {والله سَرِيعُ الحساب} لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فلا يشق عليه الحساب.
وقال بعض المتكلمين: «معناه: لا تشغله محاسبة أحد عن آخر كنحن، ولو كان يتكلم بآلة كما تقول مشبهة لما صح ذلك» .
قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} هذا مثل آخر ضربة الله تعالى لأعمال الكفار، وفي هذا العطف أوجه:
أحدها: أنه نسقٌ على «كَسَرَابٍ» على حذف مضاف واحد، تقديره: أو كَذِي ظُلُمَاتٍ، ودل على هذا المضاف قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف.
وهو قول أبي علي.(14/402)
الثاني: أنه على حذف مضافين، تقديره: أو كَأَعْمَالٍ ذِي ظُلُمَاتٍ فَيُقَدَّر «ذي» ليصح عود الضمير إليه في قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ} ويقدر «أَعْمَال» ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة.
الثالث: أنه لا حاجة إلى حذف البتَّة، والمعنى: أنه شَبَّهَ أعمالَ الكُفَّارِ في حَيْلُولَتِهَا بين القلب وما يهتدي به بالظلمة.
وأما الضميران في «أَخْرَجَ يَدَهُ» فيعودان على محذوف دلَّ عليه المعنى، أي: إذا أخرج يده من فيها و «أَوْ» هنا للتنويع لا للشك. وقيل: بل هي للتخيير، أي: «شَبهُوا أعمالهم بهذا أو بهذا. وقرأ سفيان بن حسين:» أوَ كَظُلُمَاتٍ «بفتح الواو، جعلها عاطفة دخلت عليها همزة الاستفهام التي معناها التقرير، وقد تقدم ذلك في قوله: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} [الأعراف: 98] . قوله: {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} :» في بَحْر «صفة ل» ظُلُمَاتٍ «فيتعلق بمحذوف. واللُّجِيُّ: منسوبٌ إلى» اللُّجِّ «وهو مُعْظَمُ البحر قاله الزمخشري.
وقال غيره: منسوب إلى اللُّجَّةِ بالتاء، وهي أيضاً معظمه. فاللُّجّيّ: هو العميق الكثير الماء، وفيه لغتان: كسر اللام، وضمها.
قوله:» يَغْشَاه موجٌ «صفة أخرى ل» بَحْرٍ «هذا إذا أعدنا الضمير في» يَغْشَاهُ «على» بَحْرٍ «وهو الظاهر. وإن قدَّرنا مضافاً محذوفاً، أي:» أَو كَذِي ظُلُمَاتٍ «كما فعل(14/403)
بعضهم كان الضمير في» يَغْشَاهُ «عائداً عليه، وكانت الجملة حالاً منه لتخصيصه بالإضافة، أو صفة له. قوله: {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} يجوز أن تكون هذه جملة من مبتدأ وخبر صفة ل» مَوْجٍ «الأول ويجوز أن يجعل الوصف الجار والمجرور فقط، و» مَوْجٌ «فاعل به، لاعتماده على الموصوف، قوله: {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} فيه الوجهان المذكوران قبله من كون الجملة صفة ل» مَوْجٍ «الثاني، أو الجار فقط.
قوله:» ظُلُمَاتٌ «. قرأ العامة بالرفع، وفيه وجهان:
أجودهما: أن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره: هذه أو تلك ظلمات.
الثاني: أن يكون» ظُلُمَاتٌ «مبتدأ، والجملة من قوله: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} خبره، ذكره الحوفي وفيه نظر، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة، اللهم إلا أن يقال: إنها موصوفة تقديراً، أي: ظلمات كثيرة متكاثفة، كقولهم:» السمن منوان بِدِرْهم «.
وقرأ ابن كثير:» ظُلُمَاتٍ «بالجر، إلا أنَّ البزِّي روى عنه حينئذ حذف التنوين من» سَحَابُ «فقرأ البَزِّيُّ عنه:» سَحَابُ ظُلُمَاتٍ «بإضافة» سَحَابُ «ل» ظُلُمَاتٍ «.
وقرأ قُنْبُل عه التنوين في «سَحَابٌ» كالجماعة مع جره ل «ظُلُمَاتٍ» . فأما رواية البزِّي فقال أبو البقاء: جَعَلَ المَوْجَ المُتَرَاكم بمنزلة السحاب. وأما رواية قنبل فإنه جعل «ظُلُمَاتٍ» بدلاً من «ظُلُمَاتٍ» الأولى.
قوله: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع أو جر على حسب القراءتين في «ظُلُمَاتٍ» قبلها لأنها صفة لها. وجوَّز الحوفي على قراءة رفع «ظُلُمَاتٍ»(14/404)
في «بَعْضُها» أن تكون بدلاً من «ظُلُمَاتٌ» ورد عليه من حيث المعنى، (إذ المعنى) على الإخبار بأنها ظلمات، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض وصفاً لها بالتَّراكم، لا أنَّ المعنى أنَّ بعض تلك الظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلماتٌ متراكمة.
وفيه نظرٌ، إذ لا فرق بين قولك: بعض الظلمات فوق بعضٍ، وبين قولك: الظلماتُ بعضُهَا فوق بعض، وإن تُخُيِّل ذلك في بادئ الرأي.
قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . تقدم الكلام في «كاد» وأنَّ بعضهم زعم أنَّ نَفْيَهَا إثباتٌ وإثباتها نفيٌ، وتقدمت أدلة ذلك في البقرة عند قوله: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] .
وقال الزمخشري هنا: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مبالغة في (لَمْ يَرَهَا) أي: لم يَقْرُب أن يَرَاهَا فَضلاً (عن) أن يراها، ومنه قوله ذي الرمة:
3837 - إذَا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الهَوَى مِنَ حُبِّ مَيَّة يَبْرَحُ
أي: لم يَقْرُبْ مِنَ البِرَاحِ فَمَا بَالُهُ يَبْرحُ. وقال أبو البقاء: اختلف الناس في تأويل هذا الكلام، ومنشأ الاختلاف فيه أنَّ موضوع «كَادَ» إذا نفيت وقوع الفعل، وأكثر المفسرين على أن المعنى: أنه لا يرى يَدَهُ، فعلى هذا في التقدير ثلاثة أوجه:
أحدها: أن التقدير: لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ، ذكره جماعةٌ من النحويين، وهذا خطأ لأن قوله: «لَمْ يَرَهَا» جَزْمٌ بنفي الرؤية، وقوله: «لَمْ يَكَدْ» إذا أخرجها على مقتضى الباب كان التقدير: وَلَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية، فإن أراد هذا القائل أنه لم يكد يراها وأنه يراها بعد جَهْدٍ، تناقض، لأنه نفى الرؤية ثم أثبتها.
وإن كان معنى {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لم يَرَها البتَّة على خلاف الأكثر في هذا الباب فينبغي أن يحمل عليه من غير أن يقدِّر «لَمْ يَرَهَا» .(14/405)
الوجه الثاني: قال الفراء: إن (كَادَ) زائدة. وهو بعيد.
الثالث: أن «كَادَ» خرِّجت هاهنا على معنى «قَارَبَ» والمعنى: لم يُقَارِب رؤيتها، وإذا لم يُقَارِبها بَاعَدَها، وعليه جاء قول ذي الرمة في البيت المتقدم، أي: لم يقارب البراح، ومن هنا حكي عن ذي الرُّمة أنه لما روجع في هذا البيت قال: (لم أجِد) بدل (لَمْ يَكَدْ) .
والمعنى الثاني: أنه رآها بعد جَهد، والتشبيه على هذا صحيح، لأنه مع شدة الظلمة إذا أحدَّ نظره إلى يده وقرَّبها من عينه رآها انتهى.
أما الوجه الأول وهو ما ذكره أن قول الأكثرين (إنه يكون نَفْيُها إثباتاً، فقد تقدم أنه غير صحيح، وليس هو قول الأكثر) وإنما غرّهم في ذلك آية البقرة، وما أنشد بعضهم:
3838 - أَنَحْوِيَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ ... البيتين.(14/406)
وأما ما ذكره من زيادة «كاد» فهو قول أبي بكر وغيره، ولكنه مردود عندهم.
وأما ما ذكره من المعنى الثاني، وهو أنه رآها بعد جهد، فهو مذهب الفراء والمبرد. والعجب كيف يعدل عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشري، وهو المبالغة في نفي الرؤية.
وقال ابن عطية ما معناه: إذا كان الفعل بعد «كاد» منفيًّا دلَّ على ثبوته، نحو: «كاد زيد لا يقوم» ، أو مثبتاً دلَّ على نفيه، نحو: «كاد زيد يقوم» وتقول: «كَادَ النَّعام يَطِير» فهذا يقتضي نفي الطيران عنه، فإذا قلت: «كاد النعام ألا يطير» وجب الطيران له، وإذا تقدم النفي على «كاد» احتمل أن يكون موجباً وأن يكون منفياً، تقول: «المفْلُوجُ لا يكاد يَسْكُنُ» فهذا يتضمَّن نفي السكون، وتقول: «رجل مُنْصَرِفٌ لا يكاد يَسْكُنُ» فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جَهْدٍ.
فصل
اعلم أن الله تعالى بين أنَّ أعمال الكفار إن كانت حسنةً فمثلها السراب، وإن كانت قبيحةً فهي الظلمات، وفيه وجه آخر، وهو أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة، وإما كظلمات في بحر وذلك في الدنيا. وقيل: إن الآية الأولى في ذكر أعمالهم، وأنهم لا يَحْصلون منها على شيء، والآية الثانية في ذكر عقائدهم، فإنها تشبه الظلمات، كما قال: ( {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} ) [البقرة: 257] أي: من الكفر إلى(14/407)
الإيمان، يدل عليه قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .
فصل
وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غور الماء، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة، فإذا كانت فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى، فالواقع في قعر هذا البحر اللُّجِّيّ في نهاية شدة الظلمة. ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب ما يراها، وأبعد ما يظن أنه لا يراها، فقال تعالى: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فبين سبحانه بهذا بلوغ تلك الظلمة التي هي أقصى النهايات، ثم شبه الكافر في اعتقاده، وهو ضد المؤمن في قوله تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] وفي قوله: {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم}
[الحديد: 12] . ولهذا قال أبي بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلم: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات إلى النار.
وفي كيفية هذا التشبيه وجوه:
الأول: قال الحسن: «إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب، كذا الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل» .
الثاني: قال ابن عباس: «شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث» .
الثالث: أن الكافر لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، ويعتقد أنه يدري، فهذه المراتب الثلاثة تشبه تلك الظلمات الثلاث.
الرابع: قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم.
الخامس: أن هذه الظلمات متراكمة، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه.
قوله: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .
قال ابن عباس: من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له. وقيل: من لم يهده الله (فلا إيمان له) ولا يهديه أحد. قال أهل السنة: إنه تعالى لما وصف(14/408)
هداية المؤمن بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: 35] ، ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبه بقوله: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . والمراد من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد الإيمان، وظلمة الطريق لا تمنع منه، فإن الكل مربوط بخلق الله وهدايته وتكوينه.
قال القاضي: قوله: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً} يعني في الدنيا بالإلطاف {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} أي: لا يهتدي فيتحير، وتقدم الكلام عليه.(14/409)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض} الآية.
لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد.
والمعنى: ألم تعلم، لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب، وهذا استفهام والمراد به: التقرير والبيان. قال ابن الخطيب: «إما أن يكون المراد من هذا التسبيح دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص، موصوفاً بنعوت الجلال، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان.
والأول أقرب، لأن القسم الثاني متعذر، لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى والمكلفون منهم فمن لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار.
وأما القسم الثاني وهو أن يقال: إن من في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح على سبيل الدلالة، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً، وهو غير جائز، فلم يبق إلا(14/409)
القسم الأول، وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلاهيته وتوحيده وعدله، فسمى ذلك تنزيهاً توسعاً. فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل بجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء؟ قلنا: لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر، وهي العقل والنطق والفهم» .
قوله: «والطَّيرُ» . قرأ العامة: «والطّيْر» رفعاً، «صَافَّاتٍ» نصباً. فالرفع عطف على «مَنْ» والنصب على الحال. وقرأ الأعرج: «والطَّيْرَ» نصباً على المفعول معه على الابتداء والخبر، ومفعول «صَافَّات» محذوف، أي: أجنحتها.
قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ} في هذه الضمائر أقوال:
أحدها: أنَّها كلَّها عائدةٌ على «كُلٌّ» ، أي: كلٌّ قد عَلِمَ هُوَ صَلاَةَ نَفْسِهِ وتَسْبِيحَهَا، وهذا أولى لتوافق الضمائر.
الثاني: أن الضمير في «عَلِمَ» عائد إلى الله تعالى، وفي «صَلاَتَهُ وتَسْبِيحَهُ» عائد على «كُلٌّ» ، ويدل عليه قوله تعالى: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
الثالث: بالعكس، أي: عَلِمَ كلٌّ صلاةَ اللَّه وتَسْبِيحَه، أي: اللذين أمَرَ بهما وبأن يُفْعَلاَ، كإضافة الخلق إلى الخالق، وعلى هذا فقوله: «واللَّه علِيمٌ» استئناف.
ورَجَّحَ أبو البقاء ألاَّ يكون الفاعل ضمير «كُلٌّ» قال: «لأنَّ القراءة برفع» كُلٌّ «على الابتداء فيرجع ضمير الفاعل إليه، ولو كان فيه ضمير الله لكان الأولى نصب (كُلّ) لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك: (زَيْداً ضَرَبَ عَمْرٌو وغُلاَمه) فتنصب (زيداً) بفعل دلَّ عليه ما بعده، وهو أقوى من الرفع، والآخر جائز» .
قال شهاب(14/410)
الدين: وليس كما ذكر من ترجيح النصب على الرفع في هذه الصُّورة ولا في هذه السورة، بل نصَّ النحويون على أنَّ مثل هذه الصورة يرجَّح رفعها بالابتداء على نصبها على الاشتغال، لأنه لم يكن ثمَّ قرينة من القرائن التي جعلوها مرجحةً للنصب، والنصب يحوجُ إلى إضمار، والرفع لا يحوج إليه، فكان أرجح. وقرأت فرقة: {عُلِمَ صَلاَتُهُ وتَسْبِيحُهُ} بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله. ذكرها أبو حاتم.
فصل
وجه اتصال هذا بما قبله أنه تعالى لما ذكر أن أهل السموات والأرض يسبحون، ذكر المستقرين في الهواء الذي هو بين السماء والأرض، وهم الطير يسبحون، وذلك أن إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه، وجعل طيرانها سجوداً منها له سبحانه، وذلك يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه (لا النطق) اللساني. وقال أبو ثابت: «كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ (قال: لا) قال: فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن» . واستبعد المتكلمون ذلك فقالوا: الطير لو كانت عارفة بالله لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا، لكنها ليست كذلك، فإنا نعلم بالضرورة بأنها أشد نقصاناً من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله استحال كونها مسبحة له بالنطق، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال كما تقدم. قال بعض العلماء: إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء، وإذا كان كذلك (فلِمَ لا) يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه؟ وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه:(14/411)
أحدها: أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه، وربما عاود يشمه ويتحسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه تعريضاً بالواحد وصدمة بالأخرى، ثم ينفخ فيه فيدرأ قشره ويتغذى به، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة.
وثانيها: أمر النحل وما لها من الرياسة والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين.
وثالثها: انتقال الكَرَاكِيّ من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلباً لما يوافقها من الأهوية، ويقال: من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتاً ما، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق الفهد عمد إلى زبل الإنسان ليأكله، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال له: القطقاط وينظف ما بين أسنانها، وعلى رأس ذلك الطائر كالشوكة، فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من تلك الشوكة، فيفتح فاه، فيخرج ذلك الطائر، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعتراً جبلياً ثم تعود من ذلك.
وحكى بعض الثقاة المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود، ولا تزال كذلك، وكان ذلك الشخص قاعداً في كن، وكانت البقلة قريبة من مسكنه، فلما اشتغل الحبارى قلع البقلة، فعاد الحبارى إلى منبتها فلم يجدها، وأخذ يدور حول منبتها دوراناً متتابعاً حتى خَرَّ ميتاً، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة، وتلك البقلة هي الجرجير البري.
وابنُ عِرْس يستظهر في الحية أكل السّذَاب، فإن النكهة السذابية تنفر عنها الأفعى.
والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح. وإذا جرحت اللقالق بعضها(14/412)
بعضاً داوت الجراحة بالصعتر الجبلي. والقنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها، وكان رجل بالقسطنطينية قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها، وينتفع الناس بإنذاره، وكان السبب فيه قنفذ في داره يفعل الصنيع المذكور، فيستدل به.
والخُطَّاف صانع في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب لتحمل جناحاه قدراً من الطين، وإذا فرَّخ بالغ في تعهد الفراخ، وتأخذ ذرقها بمنقارها وترميها عن العش، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة ظهرت له القبحة وقربت مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب الفراخ. وناقر الخشب قلما يقع على الأرض، بل على الشجر ينقر الموضع يعلم أن فيه دوداً. والغرانيق تصعد في الجو عند الطيران، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب أو ضباب أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يتبع به بعضهم بعضاً، فإذا باتت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلاّ القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه، وإذا سمع جرساً صاح. وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضاً أمر عجيب، وإذا كشف عن بيوتهم الساتر الذي كان يستره وكان تحته بيض لهم، فإن كلّ نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت.
والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب «طبائع الحيوان» . والمقصود من(14/413)
ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال: إنها تسبح الله وتثني عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس، ويؤيد هذا قوله تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . ثم قال: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
قرأ الجمهور بالياء من تحت على المبالغة في وصف قدرة الله تعالى وعلمه بخلقه.
وقرأ عيسى والحسن بالتاء من فوق، ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى وفي مصحف أبيّ وابن مسعود: «والله بصير بما تفعلون» .
قوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} تنبيه على أن الكل منه، لأن كل ما سواه ممكن ومحدث، والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب، ويدخل في هذا جميع الأجرام والأعراض، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم.
وقوله: {وإلى الله المصير} وهذا دليل على المعاد، وأنه لا بُدَّ من مصير الكل إليه.(14/414)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
وهذه الرؤية بصرية. والإزْجَاءُ: السوق قليلاً قليلاً، ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد، وإزجاء السير في الإبل: الرفق بها حتى تسير شيئاً شيئاً.
قوله: «بَيْنَهُ» إنما دخلت «بَيْنَ» على مفرد، وهي إنَّما تدخل على مثنى فما فوقه، لأنَّه إما أن يُرَاد بالسحاب: الجنس، فعاد الضمير عليه على حكمه، وإما أن يراد حذف مضافه أي: بَيْنَ قطعِهِ، فإن كل قطعة سحابة. قال ابن عطية: بين مُفترق السحاب، لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجاً. وورش عن نافع لا يهمز «(14/414)
يُؤَلِّفُ» . وقالون عن نافع والباقون يهمزون «يُؤَلِّفُ» .
قوله: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أي: متراكماً يركب بعضها على البعض ويتكاثف، والعرب تقول: إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر بعضه بعضاً فخرج الودق منه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً} [النبأ: 14] ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت:
3839 - كِلْتَاهُمَا حَلَبُ العَصِيرِ فَعَاطِنِي ... بِزُجَاجَة أرْ خَاهُمَا لِلمَفْصَلِ
وروي: «لِلْمِفْصَلِ» بكسر الميم وفتح الصاد. فالمَفْصَلُ: واحد المفاصل. والمِفْصَل: اللسان. وروي بالقاف. أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت، أي: من عصير العنب، وهذه من عصير السحاب، نقله ابن عطية. وقال أهل الطبائع: إن تكوين السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار، وفي الأقل من تكاثف الهواء.
أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلاً وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء، وإن كان البخار كثيراً ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ.
فإن بلغت فإما أن يكون البرد قوياً أو لا يكون. فإن لم يكن البرد هنا قوياً تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد واجتمع وتقاطر، فالبخار المجتمع هو السحاب، والمتقاطر هو المطر، والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم. وإن كان البرد شديداً فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الإجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبار أو بعد صيرورتها كذلك. فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجاً. وإن كان على الوجه الثاني نزل برداً فإن لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فإما أن تكون كثيرة أو قليلة.(14/415)
فإن كانت كثيرة فقد تنعقد سحاباً ماطراً، وقد لا تنعقد. أما الأول فلأسباب خمسة:
أحدها: إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة.
وثانيها: أن تكون الرياح (ضاغطة) إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح.
وثالثها: أن تكون هناك رياح متقابلة متصادمة فتعود الأبخرة حينئذ.
ورابعها: أن يعرض للبخار المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته يلتص به سائر الأجزاء الكثيرة المدد.
وخامسها: لشدة برد الهواء القريب من الأرض، وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعوداً يسيراً حتى كأنه مكبة موضوعة على وَهْدَة، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة، والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون، والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس.
فإن كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة، فإذا مر بها برد الليل وكثفها، فإنها تصير ماءً محبوساً ينزل أولاً متفرقاً لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به، فإن لم يجمد كان طلاًّ، وإن جمد كان صقيعاً، ونسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر.
والجواب (أنَّا دللنا على) حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادراً مختاراً يمكنه إيجاد الأجسام، فلا نقطع بما ذكرتموه (لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه) وأيضاً فهب أن الأمر كما ذكرتم، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر، ثم إنها متماثلة، فاختصاص كل واحد منها بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص، فإذا كان هو سبحانه خالقاً لتلك الطبائع، فتلك الطبائع في هذه الأحوال لا بد لها من سبب، وخالق السبب خالق المسبب، فكان سبحانه هو الذي يُزْجي سحاباً، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء، ثم تلك الأبخرة(14/416)
ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض، فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاماً، فعلى جميع التقديرات توجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة.
قوله: {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} . تقدم الخلاف في «خِلاَلِ» هل هو مفرد كحجاب أم جمع كجِبَال جمع «جبل» ؟ ويؤيد الأول قراءة ابن مسعود والضحاك - وتُرْوَى عن أبي عمرو أيضاً - «مِنْ خَلَلِهِ» بالإفراد وقرأ عاصم والأعرج: «يُنَزِّل» على المبالغة.
والجمهور على التخفيف. والوَدْق: قيل: هو المطر ضعيفاً كان أو شديداً، قال:
3840 - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا
وقيل: هو البرق، وأنشد:
3841 - أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا ... خُرُوجَ الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ
والوَدْقُ في الأصل مصدر، يقال: «وَدَقَ السحاب يَدِقُ وَدْقاً» و «يخرُج» حال، لأن الرؤية بصرية.
قوله: {مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} . «مِنْ» الأولى لابتداء الغاية اتفاقاً، لأن ابتداء الإنزال من السماء. وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها لابتداء الغاية أيضاً فهي ومجرورها بدلٌ من الأولى بإعادة العامل، والتقدير: ويُنَزِّلُ من جبال السماء، أي: من جبال فيها، فهو بدل اشتمال.
الثاني: أنها للتبعيض، قاله الزمخشري وابن عطية، لأن جنس تلك الجبال(14/417)
من جنس البرد، فعلى هذا هي ومجرورها في موضع مفعول الإنزال، كأنه قال: وينزل بعض جبال.
الثالث: أنها زائدة، أي: ينزل من السماء جبالاً.
وقال الحوفي: (من جبال) بدل من الأولى، ثم قال: «وهي للتبعيض» .
ورده أبو حيان بأنه لا تستقيم البدلية إلا بتوافقهما معنى، لو قلت: خرجت من بغداد من الكَرْخ، لم تكن الأولى والثانية إلا لابتداء الغاية.
وأما الثالثة ففيها أربعة أوجه:
الثلاثة المتقدمة، والرابع: أنها لبيان الجنس، قاله الحوفي والزمخشري. فيكون التقدير على قولهما ويُنَزِّل من السماء بعض جبال التي هي البَرَدُ، فالمُنَزَّلُ بَردٌ، لأنَّ بعض البَرَدِ بَرَدٌ، ومفعول «يُنَزِّلُ» : هو مِنْ جِبَالٍ كما تقدم تقريره.
وقال الزمخشري: «أَو الأولَيَان للابتداء، والثالثة للتبعيض» يعني: أنَّ الثانية بدلٌ من الأولى كما تقدم تقريره، وحينئذ يكون مفعول «يُنَزِّلُ» هو الثالثة مع مجرورها، التقدير: ويُنَزِّلُ بعض بردٍ من السماء من جِبَالِها. وإذا قيل بأن الثانية(14/418)
والثالثة زائدتان، فهل مجرورهما في محل نصب والثاني بدلٌ من الأول، والتقدير: ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ جِبالاً برداً، فيكون بدل كل من كل أو بعض من كل، أو الثاني في محل نصب مفعولاً ل «يُنَزِّل» ، والثالث في محل رفع على الابتداء وخبره الجار قبله؟ خلافٌ، الأول قول الأخفش، والثاني قول الفراء، وتكون الجملة على قول الفراء صفة ل «جِبَال» ، فيحكم على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ، أو بالنصب اعتباراً بالمحل. ويجوز أن يكون «فِيهَا» وحده هو الوَصْفُ، ويكون «مِنْ بَرَدٍ» فاعلاً به لاعتماده، أي استقر فيها بردٌ. وقال الزجاج: «معناه: ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ بَرَدٍ فيها، كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، أي: خاتم حديد في يدي، وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب» مِنْ «لما فَرَّقْتَ، ولأنك إذا قلت: هذا خاتمٌ من حديدٍ، وخاتم حديدٍ، كان المعنى واحداً» انتهى.
فيكون «مِنْ بَرَدِ» في موضع جرٍّ صفة ل «جِبَالٍ» كما كان «مِنْ حَدِيدٍ» صفة ل «خَاتم» ، ويكون مفعول: «يُنَزِّلُ» : «مِنْ جِبَالٍ» ، ويلزم من كون الجبال بَرَداً أن يكون المُنَزَّلُ بَرَداً.
وقال أبو البقاء: والوجه الثاني: أن التقدير: شيئاً من جبال، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة. وهذا الوجه هو الصحيح، لأن قوله: {فِيهَا مِن بَرَدٍ} يُحوجك إلى مفعول يعود الضمير إليه، فيكون تقديره: ويُنَزِّلُ مِنْ جِبَال السماء جبالاً فيها بَرَدٌ، وفي ذلك زيادة حَذْفٍ وتقدير مستغنًى عنه. وفي كلامه نَظَرٌ، لأن الضمير له شيءٌ يعود عليه وهو «السَّمَاء» ، فلا حاجة إلى تقدير شيء آخر، لأنه مستغنى عنه، وليس ثَمَّ مانعٌ يمنع من عوده على «السَّمَاء» .
وقوله آخراً: وتقدير يستغنى عنه ينافي قوله: وهذا الوجه هو الصحيح.(14/419)
والضمير في «به» يجوز أن يعود على البَرَدِ وهو الظاهر، ويجوز أن يعود على الوَدْق والبَرَد معاً جرياً بالضمير مُجْرَى اسم الإشارة، كأنه قيل: فيصيب بذلك، وقد تقدم نظيره.
فصل
قال ابن عباس: أخبر الله أن في السماء جبالاً من برد، ثم ينزل منها ما شاء وهو قول أكثر المفسرين. وقيل: المراد بالسماء هو الغيم المرتفع، سمي بذلك لسموه وارتفاعه، وأنه تعالى أنزل من الغيم الذي هو سماء البرد. وأراد بقوله: «مِنْ جِبَالٍ» : السحاب العظام، لأنها إذا عظمت شبهت بالجبال كما يقال: فلان يملك جبالاً من مال، ووصف بذلك توسعاً.
وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله في السحاب، ثم أنزل إلى الأرض. وقال بعضهم: إنما سمي ذلك الغيم جبالاً لأنه سبحانه خلقها من البرد، وكل جسم متحجر فهو من الجبال، ومنه قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} [الشعراء: 184] . قال المفسرون: والأول أولى، لأنَّ السماء اسم لهذا الجسم المخصوص، فتسمية السحاب سماء بالاشتقاق مجاز، وكما يصح أن يجعل الماء في السحاب ثم ينزله برداً، فقد يصح في القدرة جعل هذين الأمرين في السماء، فلا وجه لترك الظاهر.
قوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} أي: بالبرد من يشاء فيهلك زرعه وأمواله {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ} أي: يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقطه عليه.
قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} . العامة على قصر «سَنَا» وهو الضوء، وهو من ذوات الواو، يقال: سَنَا يَسْنُو سَناً، أي أضاء يُضِيء، قال امرؤ القيس:
3842 - يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبِ ...(14/420)
والسناءُ - بالمد -: الرفعة، قال:
3843 - (وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَنَاءً وسُنَّما)
وقرأ ابن وثاب: «سَنَاءُ بُرَقِهِ» بالمد، وبضم الباء من «بَرْقِهِ» وفتح الراء وروي عنه ضم الراء أيضاً. فأما قراءة المد فإنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان. فأما «بُرَقِهِ» فجمع «بُرْقَةٍ» ، وهي المقدار من البرق، ك «غُرْفَة وغُرَف» ، و «لُقْمَة ولُقَم» . وأما ضم الراء فإتباع، ك «ظُلُمَات» بضم اللام إتباعاً لضم الظاء، وإن كان أصلها السكون. وقرأ العامة أيضاً «يَذْهَبُ» بفتح الياء والهاء.
وأبو جعفر بضم الياء وكسر الهاء من «أَذْهَبَ» .
وقد خَطَّأ هذه القراءة الأخفش وأبو حاتم، قالا: «لأنَّ الباءَ تُعَاقِبُ الهمزة» .(14/421)
وليس ردُّهما بصوابٍ، لأنَّها تَتَخرّجُ على ما خُرِّجَ ما قُرِئَ به في المتواتر: «تُنْبِتُ بالدُّهْنِ» من أنَّ الباء مزيدةٌ، أو أنَّ المفعول محذوف والباء بمعنى «مِنْ» تقديره: يَذهب النور من الأبصار، كقوله:
3844 - شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الحَشْرَجِ ... فصل
المعنى: يكاد ضوء برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه. واعلم أنّ البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد، فظهوره يقتضي ظهور الضد من الضد، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم، ثم قال: {يُقَلِّبُ الله الليل والنهار} يصرفهما في اختلافهما، ويعاقبهما: يأتي بالليل ويذهب بالنهار، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل قال عليه السلام: «قال الله تعالى: يُؤْذيني ابن آدم، يَسُبُّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقَلِّبُ الليلَ والنهارَ» وقيل: المراد ولوج أحدهما في الآخر.
وقيل: المراد تغير أحوالهما في الحر والبرد وغيرهما. {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} أي: إن في الذي ذكرت من هذه الأشياء {لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار}(14/422)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
البصائر، أي: دلالة لأهل العقول على قدرة الله وتوحيده.
قوله
تعالى
: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} الآية.
لما استدل أولاً بأحوال السماء والأرض، وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات. قال ابن عطية: قرأ حمزة والكسائي: {واللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ} على الإضافة، فإن قيل: لم قال: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} مع أن كثيراً من الحيوانات لم يُخْلَقْ من الماء، كالملائكة خلقوا من النور، وهم أعظم الحيوانات عدداً، وكذلك الجن وهم مخلوقون من النار، وخلق آدم من التراب لقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] وخلق عيسى من الريح لقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] ونرى كثيراً من الحيوانات يتولد لا عن نطفة؟ فالجواب من وجوه:
أحسنها: ما قال القفال: إنَّ «مَاءٍ» صلة «كُلَّ دَابَّةٍ» وليس هو من صلة «خَلَق» والمعنى: أنَّ كلَّ دَابَّةٍ متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى.
وثانيها: أنَّ أصل جميع المخلوقات الماء على ما روي: «أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور» . والمقصود من هذه الآية: بيان أصل الخلقة، وكان أصل الخلقة الماء، فلهذا ذكره الله تعالى.
وثالثها: المراد من «الدَّابَّة» : التي تدب على وجه الأرض، ومسكنهم هنالك، فيخرج الملائكة والجن، ولما كان الغالب من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء، إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء، لا جرم أطلق عليه لفظ الكل تنزيلاً للغالب منزلة الكل.
وقيل: الجار في قوله: «مِنْ مَاء» متعلق ب «خَلَقَ» أي: خَلَقَ مِنْ ماءٍ كُلَّ دَابَّةٍ، و «مِنْ» لابتداء الغاية. ويرد على هذا السؤال المتقدم.(14/423)
فإن قيل: لم نكر الماء في قوله: «مِنْ مَاءٍ» وعرفه في قوله: {مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ؟
فالجواب: جاء هاهنا منكراً لأنّ المعنى: خلق كلّ دابة من نوع من الماء مختصاً بتلك الدابة، وعرفه في قوله: {مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] لأنّ المقصود هناك: كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وهاهنا بيان أنّ ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة.
قوله: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي} . إنما أطلق «مَنْ» على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المُفَضَّل ب «مِن» وهو «كُلَّ دَابَّةٍ» . وكان التعبير ب «مَنْ» أولى ليوافق اللفظ.
وقيل: لَمَّا وَصَفَهُمْ بِما يُوصف به العقلاء وهو المشيُ أطلق عليها «منْ» وفيه نظرٌ، لأن هذه الصفة ليست خاصةً بالعقلاء، بخلاف قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] ، وقوله:
3845 - أَسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
البيت.
وقد تقدَّم خلاف القرَّاء في {خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} في سورة «إبراهيم» .
واستعير المشي للزَّحف على البطن، كما استعير المشفر للشفة وبالعكس، كما قالوا في الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر، ويقال: فلان ما يمشي له أمر. فإن قيل: لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي، وقد تجد من يمشي على أكثر من(14/424)
أربع كالعناكب والعقارب والرتيلات والحيوان الذي أربعة وأربعون رجلاً؟
فالجواب: هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر، فكان ملحقاً بالعدم. وأيضاً قال النقاش: إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر، لأنّ جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخِلْقَة، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها. قال ابن عطية: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلاً، بل هي محتاج إليها في نقل الحيوان، وهي كلها تتحرك في تصرفه.
وجواب آخر وهو أن قوله تعالى: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ} كالتنبيه على سائر الأقسام.
وفي مصحف أبيّ بن كعب: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَر» فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان، ولكنه قرآن لم يثبت بالإجماع.
قوله: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأنه هو القادر على الكل، والعالم بالكل، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات، فأي عقل يقف عليها؟ وأي خاطر يصل إلى ذَرَّة من أسرارها؟ بل هو الذي يخلق ما يشاء كما يشاء، ولا يمنعه منه مانع.
قوله: {لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} . الأولى حمله على كل الأدلة. وقيل: المراد القرآن، لأن كالمشتمل على كل الأدلة والعبر. {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وتقدم الكلام في نظائر هذه الآية بين أهل السنة والمعتزلة.(14/425)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
قوله تعالى: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا} الآية.
لما ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالذنب بألسنتهم ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في بشر المنافق وكان قد خاصم يهودياً في أرض، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف، فإن محمداً يحيف علينا، فأنزل الله هذه الآية. وقد مضت قصتها في سورة «النساء» .
وقال الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل، كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض تقاسماها، فوقع إلى عليّ ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة، فقال المغيرة: بعني أرضك. فباعها إياه، وتقابضا. فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي: اقبض أرضك، فإنما اشتريتها إن رضيتها، ولم أرضها. فقال علي: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها، لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال المغيرة: أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه، فإنه يبغضني، وأنا خاف أن يحيف علي، فنزلت الآية.
وقال الحسن: نزلت هذه في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر.
فصل
المعنى: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا} يعني: المنافقين يقولونه، «ثُمَّ يَتَوَلَّى» يعرض عن طاعة الله ورسوله {فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك} أي من بعد قولهم: آمَنَّا، ويدعو إلى غير حكم الله، ثم قال: {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} .
فإن قيل: إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون: «آمَنَّا» ثم حكى عن فريق منهم التولي، فكيف يصح أن يقول في جميعهم: {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} مع أن المتولي فريق منهم؟
فالجواب: أن قوله: {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة(14/426)
الأولى، وأيضاً فلو رجع إلى الأولى لصح، ويكون معنى قوله: {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} أي: يرجع هذا الفريق إلى الباقين فيظهر بضهم لبعض الرجوع، كما أظهروه، ثم بين تعالى أنهم إذا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُم بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرضُونَ، وهذا ترك للرضا بحكم الرسول لقوله تعالى: {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} منقادين لحكمه، أي: إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لتيقنهم أنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضاً بالحق، وهذا يدل على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا. فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض وسارعوا إلى الحكم وأذعنوا (ببذل الرضا) .
قوله: «ليَحْكُم» أفرد الضمير وقد تقدَّمه اسمان وهما: «اللَّهُ ورَسُولُهُ» فهو كقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] لأنَّ حكم رَسُولِهِ هو حُكْمُهُ.
قال الزمخشري: كقولك: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، أي: كَرَمُ زَيْدٍ، ومنه:
3846 - وَمَنْهَلٍ مِنَ الفَيَافِي أَوْسَطُهْ ... غَلَّسْتُهُ قَبْلَ القَطَا وفَرَطُهْ
أي: قبل فَرطِ (القطا) يعني: قبل تقدَّم القطا. وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن إلياس والحسن: «ليُحْكَمَ بَيْنَهُمْ» هنا، والتي بعدها مبنياً للمفعول، والظرف قائم مقام الفاعل.(14/427)
قوله: «إذا فَرِيقٌ» «إذَا» هي الفجائية، وهي جواب «إذَا» الشرطية أولاً وهذا أحد الأدلة على منع أن يعمل في «إذا» الشرطية جوابها، فإن ما بعد الفجائية لا يعمل فيما قبلها، كذا ذكره أبو حيان، وتقدم تحرير هذا وجواب الجمهور عنه.
قوله: «إلَيْهِ» يجوز تعلقه ب «يَأْتوا» ، لأنَّ «أَتَى» و «جَاءَ» قد جاءا مُعَدَّيَيْن ب «إلى» ، ويجوز أن يتعلق ب «مُذْعِنِينَ» لأنه بمعنى: مسرعين في الطاعة. وصححه الزمخشري، قال: لتقدُّم صلته، ولدلالته على الاختصاص، و «مُذْعِنِينَ» حال والإذعان: الانقياد، يقال: أَذْعَنَ فلانٌ لفلان، انقَادَ لَهُ. وقال الزجاج: «الإذْعَانُ: الإسراع مع الطاعة» .
قوله: {أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ} . «أَمْ» فيهما منقطعة، فتقدر عند الجمهور بحرف الإضراب وهمزة الاستفهام، تقديره: بل أَرْتَابُوا بل أَيَخَافُونَ، ومعنى الاستفهام هنا: التقرير والتوقيف، ويبالغ فيه تارة في الذم كقوله:
3847 - أَلَسْتَ مِنَ القَوْم الَّذِينَ تَعَاهَدُوا ... عَلَى اللُّؤمِ وَالفَحْشَاءِ في سَالِفِ الدَّهْرِ
وتارة في المدح كقوله جرير:
3848 - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايا ... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
و «أَنْ يَحِيفَ» مفعول الخوف والحوف: الميل والجور في القضاء، يقال: حاف في قضائه، أي: (مال) .
فصل
قوله {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} نفاق «أَم ارْتَابُوا» شكوا، وهو استفهام ذم وتوبيخ،(14/428)
أي هم كذلك، {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي: يظلم {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} ، لأنفسهم بإعراضهم عن الحق.
قال الحسن بن أبي الحسن: من دعا خصمه إلى حكم من أحكام المسلمين فلم يجب، فهو ظالم فإن قيل: إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدين، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض، فالكل واحد، فأي فائدة في التعديد؟
فالجواب: قوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} إشارة إلى النفاق، وقوله: «أَم ارْتَابُوا» إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه. فإن قيل: هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة، فكيف أدخل عليها كلمة «أم» ؟
فالجواب الأقرب أنه تعالى أنبههم على كل واحدة من هذه الأوصاف، فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق، وكان فيها شك وارتياب، وكانوا يخافون الحيف من الرسول، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق، ثم بين تعالى بقوله: {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} بطلان ما هم عليه، لأن الظلم يتناول كل معصية، كما قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .(14/429)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين} . العامة على نصب «قَوْلَ» خبراً ل «كَانَ» ، والاسم «أنْ» المصدرية وما بعدها. وقرأ أمير المؤمنين والحسن وابن أبي إسحاق برفعه على أنه الاسم، و «أَنْ» وما في حَيِّزها الخبر، وهي عندهم مرجُوحَةٌ، لأنه متى اجتمع مَعْرِفَتَان فالأولى جعل الأعرف الاسم، وإن كان سيبويه خيَّر في ذلك بين كل(14/429)
معرفتين، ولم يفرِّق هذه التفرقة، وتقدم تحقيق هذا في «آل عمران» .
فصل
قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله} أي: إلى كتاب الله {وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وهذا ليس على طريق الخبر، ولكنه تعليم أدب الشرع، بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا، {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا الدعاء وأطعنا بالإجابة، {وأولئك هُمُ المفلحون وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} قال ابن عباس: فيما ساءه وسره «وَيخْشَى اللَّهَ» فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي «وَيَتَّقِه» فيما بقي من عمره {فأولئك هُمُ الفآئزون} الناجون.
قوله: «وَيَتَّقِهِ» . القراء فيه بالنسبة إلى القاف على مرتبتين:
الأولى: تسكينُ القاف، ولم يقرأ بها إلاّ حفص. والباقون بكسرها.
وأما بالنسبة إلى هاء الكناية فإنهم فيها على خمس مراتب:
الأولى: تحريكُهَا مَفْصُولةً قولاً واحداً، وبها قرأ ورشٌ وابن ذَكْوَانَ وخَلَفٌ وابن كثير والكسائيّ.
الثانية: تسكينها قولاً واحداً، وبها قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم.
الثالثة: إسكان الهاء أو وصلها بياء، وبها قرأ خلاَّد.(14/430)
الرابعة: تحريكها من غير صلة، وبها قرأ قالون وحفص.
الخامسة: تحريكها موصولة أو مقصورة، وبها قرأ هشام.
فأمَّا إسكان الهاء وقصرها وإشباعها فقد مرَّ تحقيقه مستوفًى. وأما تسكين القاف فإنهم حملوا المنفصل على المتَّصل، وذلك أنهم يُسَكِّنُون عين «فَعل» فيقولون: كَبْد، وكتف، وصبر في كَبِد وكَتِف وصبِر، لأنها كلمة واحدة، ثم أجري ما أشبه ذلك من المنفصل مُجْرَى المتصل، فإن «يَتَّقِه» صار منه «تَقِه» بمنزلة «كَتِف» فسكن كما يسكن، ومنه:
3849 - قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... بسكون الراء كما سكن الآخر:
3850 - فَبَاتَ مُنْتَصباً وَمَا تَكَرْدَسَا ... وقول الآخر:
3851 - عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ
يريد: «مُنْتَصِباً» ، و «لَمْ يَلِدْهُ» .(14/431)
وتقدم في أول البقرة تحرير هذا الضابط في قوله: «فهي كالحجارة» و «هي» و «هو» ونحوها:
وقال مكيٌّ: كان يجب على من سَكَّنَ القاف أن يضُمَّ الهاء، لأنَّ هاء الكناية إذا سُكِّن ما قبلها ولم يكن الساكن ياءً ضُمَّتْ نحو «مِنْهُ» و «عَنْهُ» ، ولكن لما كان سكون القاف عارضاً لم يعتدَّ به، وأبقى الهاء على كسرتها التي كانت عليها مع كسر القاف، ولم يصلها بياء، لأنَّ الياء المحذوفة قبل الهاء مُقَدَّرَةٌ مَنْويَّةٌ، (فبقي الحذف الذي في الياء قبل الهاء على أصله) .
وقال الفارسيُّ: الكسرة في الهاء لالتقاء الساكنين، وليست الكسرة التي قبل الصلة، وذلك أنَّ هاء الكناية ساكنةٌ في قراءته، ولما أَجْرَى «تَقِهِ» مجرى كَتِفٍ، وسكَّن القاف التقى ساكنان، ولمَّا التقيا اضطر إلى تحريك أحدهما، فإمَّا أن يحرِّك الأول أو الثاني، (و) لا سبيل إلى تحريك الأول، لأنه يعود إلى ما فرَّ منه، وهو ثقل «فَعِل» فحرَّك ثانيهما (على غير) أصل التقاء الساكنين، فلذلك كسر الهاء، ويؤيده قوله:
3852 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... . لَمْ يَلْدَه أبَوَانِ
وذلك أن أصله: لم «يَلِدْه» بكسر اللام وسكون الدال للجزم، ثم لما سكن اللام التقى ساكنان، فلو حرك الأول لعاد إلى ما فرَّ منه، فحرك ثانيهما وهو الدال، وحركها بالفتح وإن كان على خلاف أصل التقاء الساكنين مراعاة لفتحة الياء. وقد ردَّ أبو القاسم بن فيره قول الفارسي وقال: لا يصحُّ قوله: إنه كسر الهاء لالتقاء الساكنين، لأن حفصاً لم يسكِّن الهاء في قراءته قطُّ وقد رد أبو عبد الله شارح قصيدته هذا الردَّ، وقال: وعجبت من نفْيِهِ الإسكان عَنْهُ مع ثُبُوتِهِ عَنْهُ في «أَرْجِهْ» و «فَأَلْقِهْ» ، وإذا قَرَأَهُ في «أَرْجِهْ» و «فَأَلْقِهْ» احتمل أن يكون «يَتَّقِهْ» عنده قبل سكون(14/432)
القاف كذلك، وربما يرجَّحَ ذلك بما ثبت عن عاصم من قراءته إيَّاه بسكون الهاء مع كسر القاف. قال شهاب الدين: لم يَعْنِ الشاطبيُّ بأنَّه لم يسكن الهاء قطّ، الهاء من حيث هي هي، وإنما (عَنَى هَاء) «يَتَّقِهْ» خاصة، وكان الشاطبيّ أيضاً يعترض التوجيه الذي تقدم عن مكيّ، ويقول: تعليله حذف الصلة بأن الياء المحذوفة قبل الهاء مقدَّرةٌ منويَّةٌ، فبقي في حذف الصلة بعد الهاء على أصله غير مستقيم من قبل أنَّه قرأ «يُؤَدِّهِي» وشبَّهه بالصلة، ولو كان يعتبر ما قاله من تقدير الياء قبل الهاء لم يصلها.
قال أبو عبد الله: هو وإن قرأ «يُؤَدِّ هِي» وشبَّهَهُ بالصلة فإنه قرأ: «يَرْضَهُ» بغير صلةٍ، فَألحق مكيّ «يَتَّقِه» ب «يَرْضَهْ» ، وجعله مما خرج فيه عن نظائره لاتّباع الأثر، والجمع بين اللغتين، ويرجح ذلك عنده لأنّ اللفظ عليه، ولما كانت القاف في حكم المكسورة بدليل كسر الهاء بعدها صار كأنه «يَتَّقِهِ» بكسر القاف والهاء من غير صلةٍ، كقراءة قالون وهشام في أحد وجهيه، فعلَّله بما يُعَلَّل به قراءتهما، والشاطبيُّ يرجح عنده حمله على الأكثر مما قرأ به، لا على ما قلَّ وندر، فاقتضى تعليله بما ذكر.
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} . في «جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ» وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على المصدر بدلاً من اللفظ بفعله، إذ أصل: أقسم بالله جهد اليمين: أقسم بجهد اليمين جهداً، فحذف الفعل وقدَّم المصدر موضوعاً موضعه، مضافاً إلى المفعول ك «ضَرْبَ الرِّقَابِ» ، قاله الزمخشري.
والثاني: أنه حال، تقديره: مُجتهدين في أيمانهم، كقولهم: افعل ذلك جهدك وطاقتك. وقد خلط الزمخشريّ الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعد ما تقدَّم عنه: وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قيل: جاهدين أيمانهم وتقدم الكلام على «جَهْد أيْمَانِهِم» في المائدة.(14/433)
فصل
قال مقاتل: من حلف بالله فقد أجهد في اليمين، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أينما كنت نكن معك، لئن خرجت خرجنا، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا» فقال الله تعالى: «قُلْ» لهم «لاَ تُقْسَمُوا» لا تحلفوا، وهاهنا تم الكلام.
ولو كان قسمهم لما يجب لم يجز النهي عنه، لأنّ من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه، فثبت أنّ قسمهم كان لنفاقهم، وكان باطنهم بخلاف ظاهرهم، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح.
قوله: «طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ» . في رفعها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره: «أَمْرُنَا طَاعَةٌ» ، أو «المطلوب طَاعَةٌ» .
والثاني: أنها مبتدأ والخبر محذوفٌ، أي: (أَمْثَل أَوْ أَوْلَى) .
وقد تقدَّم أَنَّ الخبر متى كان في الأصل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعل وجب حذف مبتدأه، كقوله: «صَبْرٌ جَمِيلٌ» ، ولا يبرز إلاّ اضطراراً، كقوله:
3853 - فَقَالَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ أَمرُكَ طَاعَةٌ ... وإنْ كُنْتُ قَدْ كُلِّفْتُ مَا لَمْ أُعَوَّدِ
على خلاف في ذلك.
والثالث: أن يكون فاعله بفعل محذوف، أي: ولتكن طاعة، ولتوجد طاعة.(14/434)
واستضعف ذلك بأنَّ الفعل لا يحذف إلاَّ (إذا) تقدَّم مشعر به، كقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36] في قراءة من بناه للمفعول، أي: يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. أو يجاب به نفيٌ، كقولك: بلى زيدٌ لمن قال: «لم يقم أحدٌ» . أو استفهام كقوله:
3854 - أَلاَ هَلْ أَتَى أُمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَل ... بَلَى خَالِدٌ إنْ لَمْ تَعُقْه العَوَائِق
وقرأ زيد بن علي واليزيديّ: «طاعةً» بنصبها بفعل مضمر، وهو الأصل. قال أبو البقاء:
ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً في العربية، وذلك على المصدر، أي: أطيعوا طاعةً وقولوا قولاً، وقد دلَّ عليه قوله بعدها: {قُلْ أَطِيعُواْ الله} قال شهاب الدين: (قوله: (ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً) قد تقدم النقل لقراءته) .
وأما قوله: (وقولوا قولاً) فكأنه سبق لسانه إلى آية القتال، وهي: {فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} [محمد: 20 - 21] ولكن النصب هناك ممتنع أو بعيد.
فصل
المعنى: هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد، وهي معروفة، أي: أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون، قاله مجاهد. وقيل: طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل. وقال مقاتل بن سليمان: لتكن(14/435)
منكم طاعة معروفة. هذا على قراءة الرفع. وأما على قراءة النصب فالمعنى: أطيعوا الله طاعةً و {الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: لا يخفى عليه شيء من سرائركم، فإنه فاضحكم لا محالة، ومجازيكم على نفاقكم، ثم قال: {قُلْ أَطِيعُواْ الله (وَأَطِيعُواْ) الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: عن طاعة الله ورسوله «فَإِنَّمَا عَلَيْه» أي: على الرسول «مَا حُمِّلَ» كلِّف وأمر به من تبليغ الرسالة {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} من الإجابة والطاعة. وقرأ نافع في رواية: {فَإنَّمَا عَلَيْهِ مَا حَمل} بفتح الحاء والتخفيف أي: فعليه إثم ما حمل من المعصية.
{وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} أي: تصيبوا الحق، وإن عصيتموه، ف {مَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} ، و «البَلاَغُ» بمعنى: التبليغ. و «المُبِينُ» : الواضح.
قوله: «فَإِنْ تَوَلَّوا» يجوز أن يكون ماضياً، وتكون الواو ضمير الغائبين ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، وحسَّن الالتفات هنا كونه لم يواجههم بالتولِّي والإعراض، وأن يكون مضارعاً حذفت إحدى تاءيه، والأصل: «تَتَوَلَّوا» ، ويُرَجّح هذا قراءة البزِّيِّ: بتشديد (التاء «فَإنْ) تَّولَّوا» . وإن كان بعضهم يستضعفها للجمع بين ساكنين على غير حدِّهما.
ويرجّحه أيضاً الخطاب في قوله: {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} ، ودعوى الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ثانياً بعيد.(14/436)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
قوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
تقدير النظم: بلِّغ أيها الرسول وأطيعوا أيها المؤمنون فقد {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} أي: الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين، كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود(14/436)
وسليمان عليهما السلام - وغيرهما، وأنه يمكن لهم دينهم، وتمكينه ذلك بأن يؤيدهم بالنصر والإعزاز، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمناً، بأن ينصرهم عليهم فيقتلوهم، ويأمنوا بذلك شرهم.
قال أبو العالية: مكث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد الوحي بمكة عشر سنين مع أصحابه، وأمروا بالصبر على أذى الكفار، فكانوا يصبحون ويمسون خائفين، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة، وأمروا بالقتال، وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه، فقال رجل منهم: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة، يعني: والله ليستخلفنهم في الأرض ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وسكانها {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} .
(قال قتادة: داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء.
وقيل) : {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني: بني إسرائيل، حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام، وأورثهم أرضهم وديارهم. روى عدي بن حاتم قال: «أتينا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذ أتى إليه رجل فشكى إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع النسل، فقال:» يا عدي هل رأيت الحيرة؟ «قلت: لم أرها وقد أتيت فيها: قال:» فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله «قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين قد سعوا البلاد،» وإن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى «. قلت: كسرى بن هرمز،» ولئن طالت بك حياة لترين الرجل من مكة يخرج ملأ كفه من ذهب، أو ذهب يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله، وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، وليقولن: «ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً وأتفضل عليك» فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا الجنة، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم «قال عدي: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:» اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد تمراً فبكلمة طيبة «- قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله تعالى وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
«يخرج (الرجل ملأ كفه) » .(14/437)
قوله: «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: هو جواب قسم مضمر، أي: أقسم ليستخلفنهم، ويكون مفعول الوَعْدِ محذوفاً تقديره: وَعَدَهُم الاسْتِخْلاَف، لدلالة قوله: «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» عليه.
والثاني: أن يُجْرَى «وَعَدَ» مجرى القسم لتحقُّقه، فلذلك أجيب بما يجاب به القسم.
قوله: «كَمَا اسْتَخْلَفَ» أي: اسْتِخْلاَفاً كَاسْتِخْلاَفِهِمْ. والعامة على بناء اسْتَخْلَفَ للفاعل.
وأبو بكر بناه للمفعول. فالموصول منصوب على الأول ومرفوع على الثاني.
قوله: «ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ» . قرأ ابن كثير وأبو بكر: «وَليُبْدلَنَّهُمْ» بسكون الباء وتخفيف الدال من أبدل وتقدم توجيهها في الكهف في قوله: {أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} [الكهف: 81] .
قوله: «يَعْبُدُونَنِي» فيه سبعة أوجه:
أحدها: أنه مستأنف، أي: جواب لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: ما بالهم يُسْتَخْلَفُونَ ويؤمنون؟
فقيل: «يَعْبُدُونَنِي» .
والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هم يَعْبُدُونَنِي، والجملة أيضاً استئنافية تقتضي المدح.
الثالث: أنه حال من مفعول «وَعَدَ اللَّهُ» .
الرابع: أنه حال من مفعول «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» .(14/438)
الخامس: أن يكون حالاً من فاعله.
السادس: أن يكون حالاً من مفعول «لَيُبَدِّلَنَّهُمْ» .
السابع: أن يكون حالاً من فاعله.
قوله: «لاَ يُشْرِكُونَ» . يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً من فاعل «يَعْبُدُونَنِي» أي: يعبدونني موحدين، وأن يكون بدلاً من الجملة التي قبله الواقعة حالاً، وتقدم ما فيها.
فصل
دلّ قوله: «وَعَدَ اللَّهُ» على أنه متكلم، لأن الوعد نوع من أنواع الكلام، والموصوف بالنوع موصوف بالجنس، ولأنه تعالى ملك مطاع، والملك المطاع لا بُدّ وأن يكون بحيث يمكنه وعد أوليائه ووعيد أعدائه، فثبت أنه سبحانه متكلم.
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً لهشام بن الحكم، فإنه قال: لا يعلمها قبل وقوعها. ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إخباراً على التفصيل. وقد وقع المخبر مطابقاً للخبر، ومثل هذا الخبر لا يصح إلا مع العلم.
فصل
ودلت الآية على أنه تعالى حي قادر على جميع الممكنات لقوله: «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً» وقد فعل كل ذلك، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل الممكنات المقدورات.
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة، لأن قال: «يَعْبُدُونَنِي» .
وقالت المعتزلة: الآية تدل على أن فعل الله تعالى معلل بالغرض، لأنَّ المعنى: لكي يعبدونني. وقالوا أيضاً: الآية تدل على أنه سبحانه يريد العبادة من الكل، لأنّ من(14/439)
فعل فعلاً لغرض، فلا بدَّ وأن يكون مريداً لذلك الغرض.
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه منزه عن الشريك، لقوله: {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} وذلك يدل على نفي الإله الثاني، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله سبحانه.
فصل
ودلت الآية على نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنه أخبر عن الغيب بقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} وقد وجد هذا المخبر موافقاً للخبر، ومثل هذا الخبر معجز، والمعجز دليل الصدق، فدل على صدق محمد عليه السلام.
فصل
دلت الآية على أنّ العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان، خلافاً للمعتزلة، لأنه عطف العمل الصالح على الإيمان، والمعطوف خارج عن المعطوف عليه.
فصل
دلت الآية على إمامة الأئمة الأربعة، لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمد - عليه السلام - بقوله: «مِنْكُمْ» بأنه يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يمكن لهم دينهم المرضي، وأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، ومعلوم أن المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء، لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده، ومعلوم ألا نبيّ بعده، لأنه خاتم الأنبياء، فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة، ومعلوم أن بعد الرسول لا يحصل هذا الاستخلاف إلاّ في أيام أبي بكر وعمر وعثمان، لأنّ في أيامهم كان الفتوح العظيم، وحصل التمكن، وظهر الدين والأمن، ولم يحصل ذلك في أيام عليّ - كرم الله وجهه - لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار، لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة، فثبت بهذا دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء. فإن قيل: الآية متروكة الظاهر، لأنها تقتضي حصول الخلافة(14/440)
لكل من آمن وعمل صالحاً، ولم يكن الأمر كذلك، نزلنا عنه، ولكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله: «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» هو أنه تعالى أسكنهم في الأرض، ومكنهم من التصرف، لأنّ المراد خلافة الله، ويدل عليه قوله: {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الأمانة، فوجب أن يكون الأمن في حقهم أيضاً، كذلك نزلنا عنه، لكن هاهنا ما يدل على أنه لا يجوز حمله على خلافة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن من مذهبكم أنه - عليه السلام - لم يستخلف أحداً، وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: «أنزلتكم كما نزلت نبي الله» فعبر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] ، وقال في حق علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] ، نزلنا عنه، ولكن محمله على الأئمة الاثني عشر؟
والجواب عن الأول: أن كلمة «مِنْ» للتبعيض، فقوله: «مِنْكُمْ» يدل على أنَّ المراد من هذا الخطاب بعضهم.
وعن الثاني: أن الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق، والمذكور هاهنا في معرض البشارة، فلا بدَّ وأن يكون مغايراً له.
وأما قوله تعالى: {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} فالذين كانوا قبلهم قد كانوا خلفاء تارة بسبب النبوة وتارة بسبب الملك، فالخلافة حاصلة في الصورتين.
وعن الثالث: أنه وإن كان مذهبنا أنه عليه السلام لم يستخلف أحداً بالتعيين، ولكن قد استخلف بذكر الوصف والأمر والإخبار، فلا يمتنع في هؤلاء أنه تعالى استخلفهم، وأن الرسول استخلفهم، وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - خليفة رسول الله، والذي قيل: إنه عليه السلام لم يستخلف أريد به على وجه التعيين، وإذا قيل: استخلف فالمراد على طريق الوصف والأمر.
وعن الرابع: أن حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز، وهو خلاف الأصل.(14/441)
وعن الخامس: أنه باطل لوجهين:
أحدهما: قوله تعالى: «مِنْكُمْ» يدل على أنّ الخطاب كان مع الحاضرين، وهؤلاء الأئمة ما كانوا حاضرين.
الثاني: أنه تعالى وعدهم القوة والشوكة والبقاء في العالم، ولم يوجد ذلك فيهم. فثبت بهذا صحة إمامة الأئمة الأربعة، وبطل قول الرافضة الطاعنين على أبي بكر وعمر وعثمان، وعلى بطلان قول الخوارج، الطاعنين على عثمان وعلي.
قوله: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك} أراد كفر النعمة، ولم يرد الكفر بالله تعالى، {فأولئك هُمُ الفاسقون} العاصون لله عَزَّ وَجَلَّ. قال المفسرون: أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخواناً. روى حميد بن هلال قال: قال عبد الله بن سلام في عثمان: إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى اليوم، فوالله لئن قتلتموه لتذهبون ثم لا تعودون أبداً، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له، وإن سيف الله لم يزل مغموداً عنكم، والله لئن قتلتموه ليسللنه الله - عَزَّ وَجَلَّ - ثم لا يغمده عنكم إما قال أبداً، وإما قال إلى يوم القيامة، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفاً.
وروى علي بن الجعد قال: أخبرني حماد - وهو ابن سلمة - عن ابن دينار عن سعيد بن جهمان عن سَفِينَة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: «الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً، ثم قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر(14/442)
عشر، وعثمان اثني عشر، وعلي ست» قال علي: «قلت لحماد: سفينة القائل لسعيد: أمسك؟ قال: نعم» .(14/443)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على {أَطِيعُواْ الله (وَأَطِيعُواْ) الرسول} [النور: 54] وليس ببعيدٍ أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل، وإن طال، لأنّ حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، قاله الزمخشري. قال شهاب الدين: وقوله: (لأن حقَّ المعطوف ... إلى آخره) لا يظهر عِلَّةً للحكم الذي ادَّعاه.
والثاني: أَنَّ قوله: «وَأَقِيمُوا» من باب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وحسنه الخطاب في قوله قبل ذلك: «مِنْكُمْ» ثم قال: {وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: افعلوها على رجاء الرحمة.
قوله: «لاَ تَحْسَبَّن» . قرأ العامة: «لاَ تَحْسَبَّنَ» بتاء الخطاب، والفاعل ضمير المخاطب، أي: لا تحسبن أَيُّها المخاطب، ويمتنع أو يبعد جعله للرسول - عليه السلام - لأنَّ مثل هذا الحُسبان لا يُتصوَّرُ منه حتى يُنْهى عنهُ. وقرأ حمزة وابن عامر: «لاَ يَحْسَبَّن» بياء الغيبة، وهي قراءة حسنةٌ واضحةٌ، فإنَّ الفاعل فيها مضمرٌ، يعودُ على ما دلَّ السياق عليه، أي: «لاَ يَحْسَبَّن حاسِبٌ واحدٌ» . وإما على الرسول لتقدُّمِ ذكره، ولكنه ضعيف للمعنى المتقدم، خلافاً لمن لَحَّنَ قارئ هذه القراءة كأبي حاتم(14/443)
وأبي جعفر والفراء. قال النحاس: ما عَلِمْت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يُلَحِّنُ قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحنٌ، لأنه لم يأت إلا مفعولُ واحدٌ ل «يَحْسَبن» . وقال الفراء: هو ضعيفٌ، وأجازه على حذف المفعول الثاني والتقدير: «لاَ يَحْسَبن الذين كفروا أنفسهم معجزين» قال شهاب الدين: وسبب تلحينهم هذه القراءة: أنهم اعتقدوا أنَّ «الَّذِينَ» فاعل، ولم يكن في اللفظ إلا مفعولٌ واحدٌ، وهو «مُعْجِزِينَ» فلذلك قالوا ما قالوا.
والجواب عن ذلك من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ الفاعل مضمر يعود على ما تقدم، أو على ما يفهم من السياق، كما سبق تحريره.
الثاني: أنَّ المفعول الأول محذوف تقديره: ولاَ يَحْسَبن الَّذِين كفروا أنفسهم معجزين، إلاّ أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين، ومنه قول عنترة:
3855 - وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي: تظني غيره واقعاً. ولما نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال: وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين. ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوّغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث. فقدّر المفعول الأول ضميراً متصلاً. قال أبو حيان: وقد رَدَدْنَا هذا التخريج في أواخر «آل عمران» في قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} [آل عمران: 188] في قراءة من قرأ بالغيبة، وجعل الفاعل: «الَّذِين يَفْرَحُونَ» ، وملخصه: أنَّ هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدها، فلا يتقدَّر «لاَ يَحْسَبَنَّهُمْ» إذ لا يجوز ظنَّهُ زيدٌ(14/444)
قائماً، على رفع (زيدٌ) ب (ظنه) .
وقد تقدم هذا الرد في الموضع المذكور.
الثالث: أن المفعولين هما قوله: {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} قاله الكوفيون. ولما نحا إليه الزمخشري قال: والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ الله في الأرض يطمعوهم في مثل ذلك، وهذا معنى قويٌّ جَيِّدٌ. قال شهاب الدين: قيل: هو خطأ، لأنَّ الظاهر تعلق «فِي الأَرْض» ب «مُعْجِزينَ» فجعلهُ مفعولاً ثانياً كالتهيئة للعمل والقطع عنه، وهو نظير: «ظَنَنْتُ قَائِماً فِي الدَّارِ» .
قوله: «وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذه الجملة عطفٌ على الجملة التي قبلها من غير تأويل ولا إضمار، وهو مذهب سيبويه، أعني: عطف الجمل بعضها على بعض وإن اختلفت أنواعها خبراً وطلباً وإنشاءً. وقد تقدم تحقيقه في أول الكتاب.
الثاني أنها معطوفة عليها، ولكن بتأويل جملة النهي بجملة خبرية، والتقدير: الذين كفروا لا يَفُوتُونَ اللَّهَ ومأواهم النارُ. قاله الزمخشري، كأنه يرى تناسب الجمل شرطاً في (صحة) العطف، هذا ظاهر حاله.
الثالث: أنها معطوفة على جملة مقدرة.
قال الجرحاني: لا يحتمل أن يكون «وَمَأْوَاهُم» متصلاً بقوله: «لاَ يَحْسَبن» ذلك(14/445)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
نهيٌ وهذا إيجابٌ، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله، تقديره: «لاَ يَحْسَبن الَّذين كفروا مُعْجزين في الأرض بل هم مَقْهُورُونَ ومَأْوَاهُمُ النَّارُ» .
قوله
تعالى
: {يا أيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} الآية.
قال ابن عباس: وجَّه رسول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غلاماً من الأنصار يقال له: «مُدْلج بن عمرو» إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل، فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مَرْثَد، كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله {يا أيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ} اللام للأمر «مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» يعني: العبيد والإماء.
قال القاضي: هذا الخطاب وإن كان ظاهره للرجال، فالمراد به الرجال(14/446)
والنساء، لأنّ التذكير يغلب على التأنيث. قال ابن الخطيب: والأولى عندي أنّ الحكم ثابت في النساء بقياس جليّ، لأنّ النساء في باب (حفظ) العورة أشد حالاً من الرجال، فهو كتحريم الضرب بالقياس على حرمة التأفيف. وقال ابن عباس: هي في الرجال والنساء يستأذنون على كل حال في الليل والنهار. واختلف العلماء في هذا الندب: فقيل للأمر. وقيل: للوجوب، وهو الأظهر. قوله: {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} أي: من الأحرار، وليس المراد: الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل الذين عرفوا أمر النساء، ولكن لم يبلغوا.
واتفق الفقهاء على أنّ الاحتلام بلوغ. واختلفوا في بلوغ خمس عشرة سنة إذا لم يوجد احتلام: قال أبو حنيفة: لا يكون بالغاً حتى يبلغ ثماني عشرة سنة، ويستكملها الغلام والجارية تستكمل سبع عشرة. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: في الغلام والجارية خمس عشرة سنة إذا لم يحتلم، لما روى ابن عمر أنه عرض على النبي يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة، فأجازه. قال أبو بكر الرازي: هذا الخبر مضطرب، لأنّ أُحُداً كان في سنة ثلاث، والخندق كان في سنة خمس، فكيف يكون بينهما سنة؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ، فقد لا يؤذن للبالغ لضعفه، ويؤذن لغير البالغ لقوته ولطاقته لحمل السلاح، ولذلك لم يسأله النبي - عليه السلام - عن الاحتلام والسن. واختلفوا في الإنبات: هل يكون بلوغاً؟ فأصحاب الرأي لم يجعلوه بلوغاً، لقوله - عليه السلام -: «وعن الصبي حتى يحتلم» وقال الشافعي: هو بلوغ، لأنّ النبي - عليه السلام -: أمر بقتل من أنبت من بني قريظة. قال الرازي: الإنبات يدل على القوة البدنية، فالأمر بالقتل لذلك لا للبلوغ.
فصل
قال أبو بكر الرازي: دلَّت هذه الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع، وينهى عن ارتكاب القبائح، فإن الله تعالى أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات.
وقال عليه السلام: «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر» .(14/447)
وقال ابن عمر: يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله. وقال ابن مسعود: إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له حسناته، ولا تكتب عليه سيئاته حتى يحتلم. واعلم أنه إنما يؤمر بذلك تمريناً ليعتاده ويسهل عليه بعد البلوغ.
فصل
قال الأخفش: الحلم: من حلم الرجل بفتح اللام، ومن الحلم: حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام.
قوله: «ثَلاَثَ مَرَّاتٍ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه منصوب على الظرف الزماني، أي: ثلاثة أوقات، ثم فسَّر تلك الأوقات بقوله: {مِّن قَبْلِ صلاة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ (ثيابكم مِّنَ الظهيرة) وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء} .
والثاني: أنه منصوب على المصدرية، أي ثلاثة استئذانات.
ورجح أبو حيان هذا فقال: والظاهر من قوله: ثَلاثَ مرَّاتٍ: ثلاثة استئذاناتٍ، لأنك إذا قلت: ضربتُ ثَلاثَ مراتٍ، لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضرباتٍ، ويؤيده قوله عليه السلام: «الاستئذانُ ثَلاَثٌ» قال شهاب الدين: مسلَّم أنّ الظاهر كذا، ولكن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة، وهي التفسير بثلاثة الأوقات المذكورة.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية: «الحُلْم» بسكون العين، وهي تميمية.
قوله: {مِّن قَبْلِ صلاة الفجر} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدلٌ من قوله: «ثَلاَثَ» فيكون في محل نصب.(14/448)
الثاني: أنه بدلٌ من «مَرَّاتٍ» فيكون في محل جرّ.
الثالث: أنه خبرُ مبتدأ مضمر، أي: هي من قَبْلُ، أي: تلكَ المرات، فيكون في محل رفع.
وقوله: «وَحِينَ تَضَعُونَ» عطف على محل {مِّن قَبْلِ صلاة الفجر} .
قوله: «من الظَّهِيرةِ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ «مِنْ» لبيان الجنس، أي: حين ذلك الذي هو الظهيرة.
الثاني: أنها بمعنى «في» أي: تضعونها في الظهيرة.
الثالث: أنها بمعنى اللام، (أي) : من أجل حرّ الظهيرة.
وقوله: {وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء} : عطف على ما قبله. والظَّهيرةُ شِدّةُ الحرِّ، وهو انتصاف النهار.
قوله: «ثلاث عورات» . قرأ الأخوان وأبو بكر: «ثَلاَثَ» نصباً. والباقون رفعاً. فالأولى تحتمل ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها بدلٌ من قوله: «ثَلاَثَ مَرَّاتٍ» .
قال ابن عطية: إنما يصح البدلُ بتقدير: أوقاتُ ثلاث عوراتٍ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وكذا قدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث المرات نفس ثلاث العورات مبالغة فلا يحتاج إلى حذف مضاف، وعلى هذا الوجه - أعني: وجه البدل - لا يجوز الوقف على ما قبل «ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ» لأنه بدل منه وتابع له، ولا يوقف على المتبوع دون تابعه.(14/449)
الثاني: أنَّ «ثَلاَثَ عَوْراتٍ» بدل من الأوقات المذكورة، قاله أبو البقاء. يعني قوله: {مِّن قَبْلِ صلاة الفجر} وما عُطِفَ عليه، ويكون بدلاً على المحل، فلذلك نصب.
الثالث: أن ينْتصب بإضمار فعل.
فقدره أبو البقاء: «أعني» وأحسن من هذا التقدير: اتقوا، أو احذروا ثلاث.
فأمّا الثانية: ف «ثَلاَثُ» خبر مبتدأ محذوف تقديره: «هُنَّ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ» .
وقدره أبو البقاء مع حذف مضاف، فقال: أي: هي أوقات ثلاث عورات، فحذف المبتدأ والمضاف. قال شهاب الدين: وقد لا يحتاجُ إليه على جعلِ العَوْرات نَفْسَ الأوقاتِ مبالغةً، وهو المفهوم من كلام الزمخشري، وإن كان قد قدَّر مضافاً، كما تقدم عنه.
قال الزمخشري: ويسمى كل واحد من هذه الأحوال عَوْرةً، لأنَّ الناس يختل تسترهم وتحفظُهم فيها. والعَوْرةُ: الخللُ، ومنه أعور الفارسُ، وأعور المكانُ. والأعور: المختل العين. فهذا منه يؤذن بعدم تقدير «أوقاتٍ» مضاف ل «عوراتٍ» بخلاف كلامه أولاً فيؤخذ من مجموع كلاميه وجهان.
وعلى قراءة الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريج قراءة النصب يوقف على ما قبل «ثَلاَثَ عوراتٍ» لأنها ليست تابعة لما قبلها. وقرأ الأعمش: «عَورَاتٍ» بفتح الواو، وهي لغة هذيل وبني تميم، يفتحون عين «فَعْلاء» واواً أو ياءً، وأنشد:
3856 - أَخُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأَوِّبٌ ... رَفِيقٌ بِمَسْحِ المِنْكَبَيْنِ سَبُوحُ
فصل
المعنى: يستأذنوا في ثلاثة أوقات: من قبل صلاة الفجر، ووقت القيلولة، ومن بعد(14/450)
صلاة العشاء. وخصَّ هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد من العبيد والصبيان، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات، فأما غيرهم فيستأذنون في جميع الأوقات. وسميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته.
فصل
قال بعضهم: إن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] يدل على أنّ الاستئذان واجب في كل حال، فنسخ بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة. قال ابن عباس: لم يكن للقوم ستور ولا حجاب، وكان الخدم والولائد يدخلون، فربما يرون منهم ما لا يحبون، فأمروا بالاستئذان، وقد بسط الله الرزق، واتخذ الناس الستور، فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان.
وقال آخرون: الآية الأولى أريد بها المكلف، لأنه خطاب لمن آمن، والمراد بهذه الآية غير المكلف، لا يدخل في بعض الأحوال إلاّ بإذن، وفي بعضها بغير إذن، ولا وجه للنسخ. فإن قيل: قوله: {الذين مَلَكَتْ أيمانكم} يدخل فيه من بلغ، فالنسخ لازم؟
فالجواب أن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27] لا يدخل تحته العبيد والإماء، فلا يجب النسخ.
قال أبو عبيد: لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس لا أرى أحداً يعمل بهن، قال عطاء: حفظت آيتين ونسيت واحدة، وقرأ هذه الآية، وقوله {يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13] ذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى ... } [النساء: 8] الآية.(14/451)
قوله: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ» هذه الجملة يجوز أن يكون لها محل من الإعراب، وهو الرفع نعتاً ل «ثَلاَثُ عَوْرَات» في قراءة من رفعها، كأنه قيل: هُنَّ ثَلاَثُ عَوْراتٍ مخصوصةٌ بالاستئذان، وأَلاَّ يكون لها محل، بل هي كلام مقرر للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة، وذلك في قراءة من نصب «ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ» .
قوله: «بعدهن» . قال أبو البقاء: التقدير: بعد استئذانهم فيهن، ثم حذف حرف الجر والفاعل فبقي «بعد استئذانهم» ثم حذف المصدر.
يعني بالفاعل: الضمير المضاف إليه الاستئذان، فإنه فاعل معنوي بالمصدر، وهذا غير ظاهر، بل الذي يظهر أن المعنى: ليس عليكم جناح ولا عليهم أي: العبيدُ والإماءُ والصبيانُ «جُنَاحٌ» في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة، ولا حاجة إلى التقدير الذي ذكره.
قوله: «طَوَّافُونَ» خبر مبتدأ مضمر تقديره: «هُمْ طَوَّافُونَ» ، و «عَلَيْكُم» متعلق به.
قوله: {بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ} . في «بَعْضُكُم» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، و «عَلَى بَعْضٍ» الخبر، فقدره أبو البقاء: «يَطُوفُ على بعض» وتكون هذه الجملة بدلاً مما قبلها، ويجوز أن تكون مؤكدة مبينة، يعني: أنها أفادت إفادة الجملة التي قبلها، فكانت بدلاً أو مؤكدة. وردّ أبو حيان هذا بأنه كونٌ مخصوص، فلا يجوز حذفه.
والجواب عنه: أن الممتنع الحذف إذا لم يدل عليه دليل، وقُصِدَ إقامةُ الجار والمجرور مقامه. وهنا عليه دليل ولم يُقْصَد إقامة الجار مقامه. ولذلك قال الزمخشري: خبره «عَلَى بَعْضٍ» على معنى: طائف على بعض، وحذف لدلالة «طوافون» عليه.
الثاني: أن يرتفع بدلاً من «طَوَّافُونَ» قاله ابن عطية قال أبو حيان: ولا يصحُّ إن قدَّر الضميرَ ضمير غيبةٍ لتقدير المبتدأ «هم» لأنه يصير التقدير: هُمْ يطوفُ بعضكُم على بعضٍ وهو لا يصح، فإن جعلت التقدير: أنتم يطوف بعضكم على بعض، فَيَدْفَعهُ أنَّ قوله: «عَليْكُم» يدل على أنهم هم المطوفُ عليهم، و «أنتُمْ طَوَّافُونَ» يدل على أنهم طائفون، فتعارضا. قال شهاب الدين: الذي نختار أن التقدير: أنتم، ولا يلزمُ(14/452)
محذور، وقوله: فيدفعه إلى آخره، لا تعارض فيه، لأن المعنى: كل منكم ومن عبيدكم طائف على صاحبه، وإن كان طوافُ أحد النوعين غير طواف الآخر، لأنَّ المراد الظهور على أحوال الشخص، ويكون «بعضكم» بدلاً من «طَوَّافُونَ» و «على بعض» بدلاً من عليكم بإعادة العامل، فأبدلت مرفوعاً من مرفوع ومجروراً من مجرور، ونظيره قوله:
3857 - فَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بَعْضَهُ ... بِبَعْضٍ أَبَتْ عيدَانُه أَنْ تَكَسَّرَا
ف «بعضه» بدل من «النَّبع» المنصوب، و «ببعض» بدل من المجرور بالياء.
الثالث: أنه مرفوعٌ بفعل مقدر، أي: يطوفُ بعضُكُم على بعض، لدلالة «طَوَّافُونَ» عليه، قاله الزمخشري. وقرأ ابن أبي عبلة: «طَوَّافينَ» بالنصب على الحال من ضمير «عَلَيْهِمْ» .
فصل
المعنى «ليس عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهم» يعني: العبيد والإماء والصبيان «جُنَاحٌ» في الدخول عليكم بغير استئذان «بَعْدَهُنَّ» أي: بعد هذه الأوقات الثلاثة، «طَوَّافُونَ علَيْكُمْ» أي: العبيد والخدم يطوفون عليكم: يترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن {بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ} . فإن قيل: هل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة (لهم؟ فالجواب، لا، وإنما أباح تعالى ذلك من حيث كانت العادة لا تكشف العورة) في غير تلك الأوقات، فمتى كشفت المرأة عورتها مع ظن دخول الخدم فذلك يحرم عليها. فإن كان الخادم مكلفاً حرم عليه الدخول إن ظن أن هناك كشف عورة.
فإن قيل: أليس في الناس من جوَّز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته؟
فالجواب: من جوَّز ذلك فالشعر عنده ليس بعورة في حق المماليك كما هو في(14/453)
حق الرحم، إذ العورة تنقسم أقساماً وتختلف بالإضافات.
فصل
هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم.
وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ} هذا الحكم مختص بالصغار دون البالغين، لقوله بعد ذلك: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} .
قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} أي: الاحتلام، يريد: الأحرار الذين بلغوا «فَلْيَسْتَأْذِنُوا» أي: يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأحرار (الكبار) . وقيل يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ} دلالاته. وقيل: أحكامه «واللَّهُ عَلِيمٌ» بأمور خلقه «حَكِيمٌ» بما دبر لهم. قال سعيد بن المسيب: يستأذن الرجل على أمه، فإنما أنزلت الآية في ذلك وسئل حذيفة: أيستأذن الرجل على والدته؟ قال: «نعم وإن لم تفعل رأيت منها ما تكره» .
قوله: {والقواعد مِنَ النسآء} . القواعدُ: من غير تاء تأنيث، ومعناه: القواعدُ عن النكاح، أو عن الحيض، أو عن الاستمتاع، أو عن الحبل، أو عن الجميع ولولا تخصيصهُنَّ بذلك لوجبت التاء نحو ضاربة وقاعدة من القعود المعروف.(14/454)
وقوله: «مِنَ النِّسَاءِ» وما بعده بيان لهن. و «القَوَاعِدُ» مبتدأ، و «مِنَ النِّسَاءِ» حال، و «اللاَّتِي» صفة القواعد لا للنساء، وقوله: «فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ» ، الجملة خبر المبتدأ، وإنما دخلت الفاء لأن المبتدأ موصوف بموصول، لو كان ذلك الموصول مبتدأ لجاز دخولها في خبره، ولذلك منعت أن تكون «اللاتي» صفة للنساء، إذ لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ.
وقال أبو البقاء: ودخلت الفاءُ لما في المبتدأ من معنى الشرط، لأن الألف واللام بمعنى الذي وهذا مذهب الأخفش، وتقدم تحقيقه في المائدة، ولكن هنا ما يُغني عن ذلك، وهو وصف المبتدأ بالموصول المذكور، و «غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ» حال من «عليهن» . (والتَّبرُّجُ الظهور من البُرْج) وهو البناء الظاهر، والتبرج: سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها كله، لا يغيب منه شيء والتبرج: إظهار ما يجب إخفاؤه بأن تكشف المرأة للرجال (بإبداء) زينتها وإظهار محاسنها. و «بزينة» متعلق به. قوله: «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ» مبتدأ بتأويل: «اسْتِعْفَافُهُنَّ» ، و «خَيْرٌ» خبره.
فصل
قال المفسرون: القواعد: هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر، ولا مطمع لهن في الأزواج.
والأولى ألا يعتبر قعودهن عن الحيض، لأن ذلك ينقطع، والرغبة فيهن باقية، والمراد: قعودهن عن الأزواج، ولا يكون ذلك إلا عند بلوغهن إلى حيث لا يرغب فيهن الرجال لكبرهن قال ابن قتيبة: سميت المرأة قاعداً إذا كبرت، لأنها تكثر القعود وقال ربيعة: هنَّ العجز اللواتي إذا رآهنَّ الرجل استقذرهن، فأما من كانت فيها بقية من جمال، وهي محل الشهوة، فلا تدخل في هذه الآية. {فَلَيْسَ(14/455)
عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} عند الرجال، يعني: يضعن بعض ثيابهن، وهي الجلباب، والرداء الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار، فأما الخمار فلا يجوز وضعه لما فيه من كشف العورة.
وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: {أن يضعن من ثيابهن} . وروي عن ابن عباس أنه قرأ: {أن يضعن جلابيبهن} . وعن السدي عن شيوخه: أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن وإنما خصهن الله بذلك لأن التهم مرتفعة عنهن، وقد بلغن هذا المبلغ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهنّ وضع الثياب، ولذلك قال: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} وإنما جعل ذلك أفضل لأنه أبعد عن الظنة، فعند الظنة يلزمهن ألا يضعن ذلك كما يلزم الشابة، والله سميع عليم.(14/456)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} الآية.
قال ابن عباس: لما أنزل الله - عزَّ وجلَّ - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [النساء: 29] تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعُمْي والعرج وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله - عزَّ وجلَّ - عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول، فلا يستوفي الطعام، فأنزل الله هذه الآية. وعلى هذا التأويل تكون «على» بمعنى «في» أي: ليس في الأعمى، أي: ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج. وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما: «كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس(14/456)
يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، ويقول الأعمى: ربما أكل أكثر، ويقول الأعرج: ربما أخذ مكان اثنين، فنزلت هذه الآية» .
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية (ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله بهذه الآية) لأن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب العلم، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم، أو بعض من سمى الله - عزَّ وجلَّ - في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون: ذهب بنا إلى بيت غيره، فأنزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب: كان المسلمون إذا غزوا اختلفوا منازلهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم غيب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم. وقال الحسن: نزلت الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد، وقال: تم الكلام عند قوله: {وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} وقوله تعالى: «وَعَلى أَنْفسكُمْ» كلام منقطع عما قبله.
وقيل: لما نزل قوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188] قالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} ، أي: لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم، نسب بيوت الأولاد إلى الآباء كقوله عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» .
فصل
دلَّت هذه الآية بظاهرها على إباحة الأكل من هذه المواضع بغير استئذان، وهو(14/457)
منقول عن قتادة، وأنكره الجمهور، ثم اختلفوا: فقيل: كان ذلك في صدر الإسلام، فنسخ بقوله عليه السلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ويدل على هذا النسخ قوله تعالى {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}
[الأحزاب: 53] وكان في أزواج الرسول من لهنَّ الآباء والأخوات، فعم بالنهي عن دخول بيوتهن إلا بالإذن في الأكل. فإن قيل: إنما أذن الله تعالى في هذه الآية، لأن المسلمين لم يكونوا يمنعون قراباتهم هؤلاء من أن يأكلوا في بيوتهم، حضروا أو غابوا، فجاز أن يرخص في ذلك؟
فالجواب: لو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص هؤلاء الأقارب بالذكر معنى، لأن غيرهم كهم في ذلك. وقال أبو مسلم: المراد من هؤلاء الأقارب إذا لم يكونوا مؤمنين، لأنه تعالى نهى من قبل عن مخالطتهم بقوله: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] ثم إنه تعالى أباح في هذه الآية ما حظره هناك، قال: ويدل عليه أن في هذه السورة (أمر بالتسليم على أهل البيوت فقال: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] وفي بيوت هؤلاء المذكورين لم يأمر بذلك، بل) أمر أن يسلموا على أنفسهم، فالمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات.
وقيل: لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم، والعادة كالإذن، فيجوز أن يقال: خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأصل توجد منهم، ولذلك ضم إليهم الصديق، ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت لأجل حصول الرضا فيها، فلا حاجة إلى النسخ.
قوله: {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} .
قال ابن عباس: عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل ولا يدخر، وملك المفتاح: كونه في يده وحفظه قال المفضل: «المفاتح» واحدها «مَفْتَح» بفتح الميم، وواحد(14/458)
المفاتيح: مِفْتح (بكسر الميم) . وقال الضحاك: يعني: من بيوت عبيدكم ومماليككم، لأن السيد يملك منزل عبده والمفاتيح: الخزائن، لقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} [الأنعام: 59] ، ويجوز أن يكون الذي يفتح به. وقال عكرمة: «إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير» .
وقال السُّديّ: الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه، فلا بأس أن يأكل منه. وقيل: {أو ما ملكتم مفاتحه} : ما خزنتموه عندكم. قال مجاهد وقتادة: من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم.
قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} العامة على فتح الميم واللام مخففة. وابن جُبير: «مُلِّكْتُم» ، بضم الميم وكسر اللام مشدّدة؛ أي: «مَلَّكَكُمْ غَيْرُكُمْ» . والعامة على «مَفَاتِحَه» دون ياء، جمع «مَفْتَح» . وابن جُبَير «مَفَاتِيحَهُ» بالياء بعد التاء، جمع «مِفْتَاح» .
وجوَّز أبو البقاء أن يكون جمع «مِفْتَح» بالكسر، وهو الآلة، وأن يكون جمع «مَفتح» بالفتح، وهو المصدر بمعنى الفتح. والأول أقيس. وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه: «مِفْتَاحَهُ» بالإفراد، وهي قراءة قتادة.
قوله: «أَوْ صَدِيقكُمْ» . العامة على فتح الصاد. وحُمَيد الجزَّارُ روى كسرها إتباعاً لكسرة الدّال والصديق: يقع للواحد والجمع كالخليط والفطين وشبههما.
فصل
الصديق: الذي صدقك في المودة. قال ابن عباس: نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده(14/459)
مجهوداً، فسأله عن حاله فقال: تحرجت من أكل طعامك بغير إذنك، فأنزل الله هذه الآية وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية. والمعنى: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا. يحكى أن الحسن دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد أخرجوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة مكبون عليها يأكلون، فتهلل أسارير وجهه سروراً وضحك، وقال: «هكذا وجدناهم» يعني: كبراء الصحابة. وعن ابن عباس: الصديق أكبر من الوالدين، لأن أهل جهنم لمّا استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات، بل قالوا: {مَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] .
وحكي أن أخا الربيع بن خيثم دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل، فلما قدم أخبرته بذلك، فانسر لذلك وقال: إن صدقت فأنت حرة.
فصل
احتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع، لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم، ودخولها بغير أذنهم، فلا يكون ماله محرزاً منهم. فإن قيل: فيلزم ألا يقطع إذا سرق من مال صديقه؟
فالجواب: من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له.
قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} قال الأكثرون: نزلت في بني ليث بن عمرو حي من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده، ويمكث يومه حتى يجد ضيفاً يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا(14/460)
يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل. هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج. وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس: كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه، فيقول: والله إني لأحتج، أي: أتحرج أن آكل معك، وأنا غني وأنت فقير، فنزلت هذه الآية وقال عكرمة وأبو صالح: «نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا جميعاً مجتمعين، أو اشتاتاً متفرقين» .
وقال الكلبي: «كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً على حدة، وكذلك المزمن والمريض، فبيّن الله لهم أن ذلك غير واجب» . قوله: «جَمِيعاً» حال من فاعل «تَأْكُلُوا» ، و «أَشْتَاتاً» عطف عليه، وهو جمع «شَتّ» و «شَتَّى» جمع «شَتيت» . و «شَتَّانَ» تثنية «شت» . قال المفضل: وقيل: الشت: مصدر بمعنى: التفرق، ثم يوصف به ويجمع.
قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} . أي: ليسلم بعضكم على بعض، جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة، كقوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . قال ابن عباس: «فإن لم يكن أحد فعلى نفسه يسلم، ليقل: السلام علينا من قبل ربنا» .
قال جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار: «إذا دخل الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته» . وقال قتادة: «إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، حدثنا أن الملائكة ترد عليه» وعن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} قال: «إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» . قال القفال: «وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل: السلام على من اتبع الهدى» .
قوله: «تَحيَّةً» منصوب على المصدر من معنى «فَسَلِّمُوا» فهو من باب: قَعَدْتُ(14/461)
جُلُوساً، كأنه قال: فحيوا تحية، وتقدم وزن «التحية» . و {مِّنْ عِندِ الله} يجوز أن يتعلق بنفس «تَحية» أي: التحية صادرة من جهة الله، و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً إلا أنه يعكر على الوصف تأخر الصفة الصريحة عن المؤولة، وتقدم ما فيه.
فصل
{تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله} أي: مما أمركم الله به. قال ابن عباس: من قال: السلام عليكم، (معناه: اسم الله عليكم «مُبَارَكَةً طَيِّبَةً» . قال ابن عباس) : «حسنة جميلة» وقال الضحاك: «معنى البركة فيه تضعيف الثواب» {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} أي: يفصل الله شرائعه «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» عن الله أمره ونهيه. قال أنس: «وقفت على رأس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أصب الماء على يديه، فرفع رأسه وقال:» ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها «؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بلى. قال:» من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك، وإذا دخلت بيتاً فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين «.(14/462)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ} أي: مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(14/462)
{على أَمْرٍ جَامِعٍ} يجمعهم من حرب حضرت، أو صلاة جمعة، أو عيد، أو جماعة، أو تشاور في أمر نزل. فقوله «أَمْرٍ جَامِع» من الإسناد المجازي (لأنه لما كان سبباً في جمعهم نسب الفعل) إليه مجازاً.
وقرأ اليماني: {عَلَى أَمْرٍ جَميعٍ} فيحتمل أن يكون صيغة مبالغة بمعنى «مُجمع» وألا يكون. والجملة الشرطية من قوله: «وَإِذَا كَانُوا» وجوابها عطف على الصلة من قوله: «آمَنُوا» .
والأمر الجامع: هو الذي يعم ضرره أو نفعه، والمراد به: الخطب الجليل الذي لا بُدَّ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أرباب التجارب (والآراء) ليستعين بتجاربهم، فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يَشُق على قلبه.
فصل
قال الكلبي: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعَرِّضُ في خطبته بالمنافقين ويعيبهم، فينظر المنافقون يميناً وشمالاً، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً، فنزلت الآية، فكان المؤمن بعد نزول هذه الآية لا يخرج لحاجته حتى يستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكان المنافقون يخرجون بغير إذن.
فصل
قال العلماء: كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلاّ بإذن، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام، (فإن حدث سبب يمنعه من المقام) بأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة، أو يجنب رجل، أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان.
فصل
قال الجبائي: دلَّت الآية على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم، ولولا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان.
والجواب: هذا بناء على أن كلمة «إنما» للحصر، وأيضاً فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافاً، وذلك كفر.(14/463)
قوله: {إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} تعظيماً لك ورعاية للأدب {أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} أي: يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه. قال الضحاك ومقاتل: المراد: عمر بن الخطاب، وذلك أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له، وقال: «انطلق، فوالله ما أنت بمنافق» يريد أن يُسْمِع المنافقين ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم، وإذا استأذناه أبى، فوالله ما نراه يعدل.
قال ابن عباس: «إن عمر استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في العمرة، فأذن له، ثم قال:» يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك «.
قوله:» لِبَعْض شَأْنِهِمْ «تعليل، أي: لأجل بعض حاجتهم.
وأظهر العامةُ الضادَ عند الشين. وأدغمها أبو عمرو فيها، لما بينهما من التقارب، لأن الضاد من أقصَى حافة اللسان والشين من وسطه. وقد استضعف جماعة من النحويين هذه الرواية واستبعدوها عن أبي عمرو - رأس الصناعة - من حيث إن الضادَ أقوى من الشين، ولا يدغم الأقوى في الأضعف وأساء الزمخشري على راويها السوسيّ. وقد أجاب الناس عنه، فقيل: وجه الإدغام أن الشين أشد استطالة من الضاد، وفيها تَفَشِّي ليس في الضاد، فقد صارت الضاد أَنْقَصَ منها، وإدغام الأنقص في الأزْيَدِ جائز، قال:(14/464)
ويُؤَيّد هذا أن سيبويه حكى عن بعض العرب «اطَّجَع» في «اضْطَجع» ، وإذا جاز إدغامها في الطاء فإدغامها في الشين أولى.
والخصم لا يسلم جميع ما ذكر، ومستند المنع واضح.
فصل
{فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أمرهم {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} بالانصراف، أي: إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن، {واستغفر لَهُمُ الله} وهذا تنبيه على أن الأولى ألا يستأذنوا وإن أذن، لأن الاستغفار يكون عن ذنب. ويحتمل أن يكون أمره بالاستغفار لهم مقابلة على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان.
فصل
قال مجاهد: قوله: فأذن لمن شئت منهم نسخت هذه الآية. وقال قتادة: نسخت هذه الآية بقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] . والآية تدل على أنه تعالى فوض إلى رسول الله بعض أمر الدين ليجتهد فيه رأيه.
قوله: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} . قال سعيد بن جبير وجماعة كثيرة: لا تنادونه باسمه فتقولون: يا محمد، ولا بكنيته فتقولون: يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير: يا رسول الله، يا نبي الله. وعلى هذا يكون المصدر مضافاً لمفعوله. وقال المبرد والقفال: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض فتتباطؤون كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر، بل يجب عليكم المبادرة لأمره، ويؤيده قوله: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} . وعلى هذا يكون المصدر مضافاً للفاعل.
وقال ابن عباس: «احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره» . وروي عنه أيضاً: «لا ترفعوا أصواتكم في دعائه» . وهو المراد من قوله: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} [الحجرات: 3] وقول المبرد أقرب إلى نظم الآية. وقرأ الحسن: «نبيكم» بتقديم النون على الباء المكسورة، بعدها ياء(14/465)
مشددة مخفوضة مكان «بينكم» الظرف في قراءة العامة، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من الرسول.
الثاني: أنه عطف بيان له، لأَنَّ النبيَّ بإضافته إلى المخاطبين صار أشهر من الرسول.
الثالث: أنه نعتٌ.
لا يقال: إنه لا يجوز لأن هذا كما قَرَّرتم أعرف، والنعت لا يكون أعرف من المنعوت بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ، لأنَّ الرَّسول صار علماً بالغلبة على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقد تساويا تعريفاً.
قوله: {قَدْ يَعْلَمُ الله} . «قد» تدل على التقليل مع المضارع إلاّ في أفعال الله فتدل على التحقيق كهذه الآية. وقد ردَّها بعضهم إلى التقليل، لكن إلى متعلَّق العلم، يعني: أن الفاعلين لذلك قليل، فالتقليل ليس في العلم بل في متعلِّقه.
قوله: لِوَاذاً فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول، إذ التقدير: يتسلّلون منكم تَسَلُّلاً، أو يُلاَذُون لواذاً.
والثاني: أنه مصدر في موضع الحال، أي: مُلاَوِذين.
واللِّواذُ: مصدر لاَوذَ، وإنما صحَّت الواو وإن انكسر ما قبلها ولم تُقلب ياءً كما قُلبَتْ في «قِيَام» و «صِيَام» ، لأنه صحَّت في الفعل نحو «لاَوَذَ» ، فلو أُعِلَّتْ في الفعل أُعِلَّتْ في المصدر نحو «القيام» و «الصِّيَام» لقلبها ألفاً في «قام» و «صام» . وأما مصدر: «لاَذَ بكذا يَلُوذُ به» فمعتل نحو: «لاَذَ لِيَاذاً» مثل: «صَامَ صِياماً، وقام قِياماً» . واللِّوَاذُ والمُلاَوَذَةُ: التَّستُّر، يقال: لاَوَذَ فلانٌ بكذا: إذا استتر بِهِ. واللَّوذُ:(14/466)
ما يُطيفُ بالجبل. وقيل: اللِّوَاذُ: الرَوَغَان من شيءٍ إلى شيءٍ في خفيةٍ، ووجه المفاعلة أَنَّ كُلاًّ منهم يلُوذُ بصاحبه، فالمشاركة موجودة.
وقرأ يزيد بن قطيب: «لَوَاذاً» بفتح اللام، وهي محتملة لوجهين:
أحدهما: أن يكون مصدر «لاذ» ثلاثياً، فيكون مثل «طاف طوافاً» .
والثاني: أن يكون مصدر «لاَوَذَ» إلاّ أنه فتحت الفاء إتباعاً لفتحة العين. وهو تعليل ضعيف يصلح لمثل هذه القراءة.
فصل
المعنى: قال المفسرون: إن المنافقين كانوا يخرجون مستترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا. قال ابن عباس: كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار وقال مجاهد: يتسللون من الصف في القتال. وقيل: كان هذا في حفر الخندق ينصرفون عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مختفين. وقيل: يعرضون عن الله وعن كتابه وعن ذكره وعن نبيه.
قوله: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ» فيه وجهان:
أشهرهما، وهو الذي لا يعرف النحاة غيره: أن الموصول هو الفاعل و «أن تصيبهم» مفعوله، أي: فليحذر المخالفون عن أمره إصابتهم فتنة.
والثاني: أن فاعل «فَلْيَحْذَر» ضمير مستتر، والموصول مفعول به. وردَّ هذا بوجوهٍ:(14/467)
منها: أن الإضمار خلاف الاصل. وفيه نظر، لأنَّ هذا الإضمار في قوة المنطوق به، فلا يقال: هو خلاف الأصل، ألا ترى أن نحو: «قُمْ» و «ليقُمْ» فاعله مضمر، ولا يقال في شيء منه هو خلاف الأصل، وإنما الإضمار خلاف الأصل فيما كان حذفاً نحو: «وَاسْأَلِ القَرْيَةَ» .
ومنها: أنَّ هذا الضمير لا مرجع له، أي: ليس له شيء يعود عليه، فبطل أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً. وأجيب بأن الذي يعود عليه الضمير هو الموصولُ الأول، أي: فَلْيَحْذَر المُتَسَلِّلُونَ المخالفين عن أمره، فيكونون قد أمروا بالحذر منهم، أي: أُمرُوا باجتنابهم، كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ. وردُّوا هذا بوجهين:
أحدهما: أنَّ الضمير مفرد، والذي يعود عليه جمع، ففاتت المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسير الضمائر.
الثاني: أن المُتَسلِّلينَ هم المُخالِفُون، فلو أمروا بالحذر عن الذين يخالفون لكانوا قد أُمِرُوا بالحذر عن أنفسهم، وهو لا يجوز، لأنه لا يمكن أن يُؤْمَرُوا بالحذر عن أنفسهم. ويمكن أن يُجاب عن الأول بأن الضمير وإن كان مفرداً فإنما عاد على جمع باعتبار أن المعنى: فليحذر هو، أي من ذكر قبل ذلك، وحكى سيبويه: «ضَرَبَني وضربت قومك» أي: ضَرَبَني من ثمَّ ومن ذكر، وهي مسألة معروفة في النحو. أو يكون التقدير: فَلْيَحْذَر كلُّ واحد من المتسللين.
وعن الثاني: بأنه يجوز أن يُؤْمَر الإنسانُ بالحذر عن نفسه مجازاً، يعني: أنه لا يطاوعها على شهواتها، وما تُسوِّلُه له من السوء، وكأنه قيل: فليحذر المخالفون أنفسهم فلا يطيعوها فيما تأمرهم به، ولهذا يقال: أمَرَ نفسهُ ونَهَاهَا، وأَمرتهُ نفسهُ باعتبار المجاز.(14/468)
ومنها: أنه يصير قوله: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مفلَّتاً ضائعاً، لأنَّ «يحذر» يتعدى لواحد، وقد أخذه على زعمكم، وهو الذين يخالفون ولا يتعدى إلى اثنين حتى يقولوا: إن {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} في محل مفعوله الثاني، فيبقى ضائعاً. وفيه نظرٌ، لأنَّا لا نُسلِّم ضياعهُ، لأنه مفعول من أجله. واعترض على هذا بأنه لا يستكمل شروط النصب لاختلاف الفاعل، لأن فاعل الحذر غير فاعل الإصابة.
وهو ضعيف، لأن حذف حرف الجر يطرد مع «أَنَّ» و «أَنْ» منقول مسلمٌ: شروط النصب غير موجودةٍ، وهو مجرور باللام تقديراً، وإنما حُذفت مع أَنْ لطولها بالصلة. و «يُخَالِفُونَ» يتعدى بنفسه نحو: خَالَفْتُ أَمْر زيدٍ، وب «إِلَى» نحو: خالفتُ إلى كذا، فكيف تعدَّى هذا بحرفِ المجاورة؟ وفيه أوجه:
أحدها: أنه ضُمِّنَ معنى «صَدَّ» و «أَعْرَضَ» أي: صدَّ عن أمره، وأَعْرَضَ عنه مُخَالِفاً له.
الثاني: قال ابن عطية: معناه: يقعُ خلافُهُمْ بعدَ أَمْرِه، كما تقول: كان المطر عَنْ ريح كذا، و «عن» لِمَا عدا الشي.
الثالث: أنها مزيدة، أي: يخالفون أمره، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة. والزيادة خلافُ الأصل. وقُرِئ: «يُخَلِّفُونَ» بالتشديد، ومفعوله محذوف، أي: يُخَلِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ.
فصل
المعنى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ} أي: يعرضون «عَنْ أَمْرِهِ» ، أو يخالفون أمره وينصرفون عنه بغير إذنه {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: لئلا تصيبهم فتنة.
قال مجاهد: بلاء في الدنيا. {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع في الآخرة. والضمير في «أمره» يرجع إلى «الرسول» . وقال أبو بكر الرازي: الأظهر أنه لله تعالى لأنه يليه.(14/469)
فصل
الآية تدل على أن الأمر للوجوب، لأن تارك المأمور مخالف للأمر، ومخالف الأمر يستحق العقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
قوله تعالى: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} أي: ملكاً وعبيداً، وهذا تنبيه على كمال قدرته تعالى عليهما، وعلى ما بينهما وفيهما.
قوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} . قال الزمخشري: أدخل «قد» ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن «قد» إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «رُبَّما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله:
3858 - فَإِنْ يُمْسي مَهْجُورَ الفَنَاءِ فَرُبَّمَا ... أقام به بَعْدَ الوُفُودِ وُفُودُ
ونحو من ذلك قول زهير:
3859 - أَخِي ثِقَةٍ لاَ تُهْلِكُ الخَمْرُ مَالَهُ ... وَلكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُه
قال أبو حيان: وكونُ «قَدْ» إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قولٌ لبعض النحاة، وليس بصحيح، وإنما التكثير مفهوم من السياق. والصحيح أن رُبَّ لتقليل(14/470)
الشيء أو لتقليل نظيره، وإن فُهِمَ تكثير فمن السياق لا منها.
قوله: «وَيَوْمَ يُرجَعُونَ» ، في «يَوْمَ» وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به لا ظرف، لعطفه على قوله: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} ، أي: يعلم الذي أنتم عليه من جميع أحوالكم، ويعلم يوم يرجعون، كقوله {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] .
وقوله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] .
والثاني: أنه ظرف لشيء محذوف. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون التقدير: والعلم الظاهر لكم أو نحو: هذا يومَ، فيكون النصب على الظرف. انتهى.
وقرأ العامة «يُرْجَعُونَ» مبنياً للمفعول، وأبو عمرو في آخرين مبنيًّا للفاعل، وعلى كلتا القراءتين فيجوز وجهان:
أحدهما: أن يكون في الكلام التفات من الخطاب في قوله: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} إلى الغيبة في قوله «يرجعون» .
والثاني: أنَّ {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} خطاب عام لكل أحد، والضمير في «يرجعون» للمنافقين خاصة، فلا التفات حينئذ.
فصل
المعنى: {يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} من الإيمان والنفاق و «قَدْ» صلة {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} يعني يوم البعث، {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} من الخير والشر، {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} .
روي عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغَزْلَ وسورة النور» .
وروى الثعلبي عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن فيما مضى وفيما بقي» .(14/471)
سورة الفرقان(14/472)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
مكية، وهي سبع وسبعون آية، وثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} الآية. اعلم أنه تعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر العباد المخلصين المؤمنين. قال الزجاج: «تبارك» تفاعل من البركة. والبركة كثرة الخيرة وزيادته، وفيه معنيان:
أحدهما: تزايد خيره وتكاثره. قال ابن عباس: معناه: جاء بكل بركة، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] .
والثاني: قال الضحاك: تعظّم الذي نزل الفرقان، أي: القرآن على عبده. وقيل: الكلمة تدل على البقاء، وهو مأخوذ من بروك البعير، ومن بروك الطير على الماء. وسميت البركة بركة، لثبوت الماء فيها، والمعنى: أنه سبحانه باق في ذاته أزلاً وأبداً ممتنع التغير، وباق في صفاته ممتنع التبدل.
فإن قيل: كلمة «الذي» موضوعة في اللغة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه(14/472)
بقضية معلومة، وإذا كان كذلك فالقوم ما كانوا عالمين بأنه - سبحانه - الذي نزل الفرقان. فالجواب: أنه لما ظهر الدليل على كونه من عند الله، فلقوة الدليل وظهوره أجراه مجرى المعلوم.
فصل
وصف القرآن بالفرقان، لأنه فرق بين الحق والباطل في نبوة محمد - عليه السلام - وبين الحلال والحرام، أو لأنه فرق في النزول كقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} [الإسراء: 106] ، وهذا أقرب، لأنه قال: {نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} ولفظة «نزل» تدل على التفريق، ولفظة «أنزل» تدل على الجمع، ولهذا قال في سورة آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق (مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) } [آل عمران: 3] {وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3] . والمراد بالعبد ههنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قوله: «ليكون» . اللام متعلقة ب «نزَّل» ، وفي اسم «يكون» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضمير يعود على «الَّذِي نزّل» ، أي: ليكون الذي نزل الفرقان نذيراً.
الثاني: أنه يعود على «الفرقان» وهو القرآن، أي: ليكون الفرقان نذيراً (أضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي} [الإسراء: 9] وهذا بعيد؛ لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف، ووصف القرآن به مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أولى) .
الثالث: أنه يعود على «عبده» ، أي: ليكون عبده محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نذيراً. وهذا أحسن الوجوه معنى وصناعة لقربه مما يعود عليه الضمير على أقرب مذكور. و «لِلعَالَمِين» متعلق ب «نَذِيراً» ، وإنما قدم لأجل الفواصل، ودعوى إفادة الاختصاص بعيدة، لعدم تأتيها هنا، ورجح أبو حيان عوده على «الذي» ، قال: لأنه العمدة المسند إليه الفعل، وهو من وصفه تعالى كقوله:
{إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: 3] ، و «نذيراً» الظاهر فيه أنه بمعنى منذر، وجوَّزوا أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار، ومنه {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] فإن قوله: «تبارك» يدل على كثرة(14/473)
الخير والبركة، فالمذكور عقيبه لا بد وأن يكون سبباً لكثرة الخير والمنافع، والإنذار يوجب الغم والخوف، فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟ فالجواب: أن الإنذار يجري مجرى تأديب الولد، كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر (كان الإحسان إليه أكثر، لما أن ذلك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة، فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيراً) كان رجوع الخلق إلى الله أكثر، وكانت السعادة الأخروية أتم وكثر، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه بأنه معطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين، ولم يذكر منافع الدنيا البتّة.
قوله: {الذي لَهُ مُلْكُ} يجوز في «الّذِي» الرفع نعتاً للذي الأول، أو بياناً، أو بدلاً، أو خبراً لمبتدأ محذوف، أو النصب على المدح.
وما بعد بدل من تمام الصلة فليس أجنبياً، فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا الثاني تابعاً له.
فصل
{الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه حال حدوثها، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء.
{وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} أي: هو الفرد أبداً، ولا يصح أن يكون غيره معبوداً ووارثاً للملك عنه، وهذا رد على النصارى. {ولم يكن له شريك في الملك} أي: هو المنفرد بالإلهية، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه عن كل ما سواه، ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه، وفيه رد على الثنوية، والقائلين بعبادة النجوم والأوثان.
قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} الخلق هنا عبارة عن الإحداث والتهيئة لما يصلح له، لا(14/474)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
خلل فيه ولا تفاوت حتى يجيء قوله: «فقدره تقديراً» مفيداً إذ لو حملنا {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام: وقدر كل شيء فقدره.
فصل
قوله: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} يدل على أنه تعالى خلق الأعمال من وجهين:
الأول: أن قوله: «كل شيء» يتناول جميع الأشياء، ومن جملتها أفعال العباد.
والثاني: أنه تعالى نفى الشريك، فكأن قائلاً قال: ههنا أقوام معترفون بنفي الشريك والأنداد ومع ذلك يقولون بخلق أفعال أنفسهم، فذكر الله تعالى هذه الآية رداً عليهم. قال القاضي: الآية تدل عليه لوجوه:
أحدها: أنه تعالى صرح بكون العبد خالقاً فقال: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} [المائدة: 110] ، وقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] وتمدح بأنه قدره تقديراً، ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره. فظاهر الآية لا يدل إلا على التقدير، لأن الخلق عبارة عن التقدير، فلا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير وهو الأجسام لا الأعراض. والجواب: أن قوله: «إِذْ تَخْلُقُ» ، وقوله: «أَحْسَنُ الخَالِقِينَ» معارض بقوله: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] وبقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3] وقولهم: لا يجوز التمدح بخلق الفساد، فالجواب: لم لا يجوز أن يتمدح به من حيث نفاذ القدرة.
قوله
تعالى
: {واتخذوا
} يجوز أن يعود الضمير على الكفار الذين تضمنهم لفظ العالمين، وأن يعود على من ادَّعى لله شريكاً وولداً، لدلالة قوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} [الفرقان: 2] وأن يعود على المنذرين، لدلالة «نذيراً» عليهم.(14/475)
قوله: «لا يَخْلُقُونَ» صفة ل «آلهة» ، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لأن الكفار كانوا يعبدون العقلاء كعزير والمسيح والملائكة وغيرهم كالكواكب والأصنام. ومعنى «لا يخلقون» لا يقدرون على التقدير، والخلق يوصف به العباد قال زهير:
3860 - ولأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وبع ... ضُ القَوم يخلُق ثم لا يَفْرِي
ويقال: خلقت الأديم: أي: قدرته، وهذا إذا أريد بالخلق التقدير، فإن أريد به الإيجاد فلا يوصف به غير الباري - تعالى - وقد تقدم.
وقيل: بمعنى يختلقون كقوله: «وتَخْلُقُون إفْكاً» .
فصل
لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف مذهب عبدة الأوثان من وجوه: منها: أنها ليست خالقة للأشياء، والإله يجب أن يكون قادراً على الخلق والإيجاد ومنها: أنها مخلوقة، والمخلوق محتاج، والإله يجب أن يكون غنياً. ومنها: أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً، ومن كان كذلك لا يملك موتاً ولا حياةً ولا نُشُوراً. أي: لا يقدر على الإحياء والإماتة لا في زمن التكليف، ولا في زمن المجازاة، ومن كان كذلك كيف يسمى إلهاً، وكيف يستحق العبادة؟ .
فصل
احتج أهل السنة بقوله: «ولا يَخْلُقُونَ شَيْئاً» على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأنه عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يَخْلُق شيئاً، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد، فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً. وأجاب الكعبي بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى، (وقال بعض أصحابنا في الخلق: إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب ولا يكون ذلك إلا لله تعالى.
ثم قال: قد قال الله تعالى) : {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} [الأعراف: 195] في وصف الأصنام، أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد. فإذا قالوا: لا. قيل: فكذلك ما ذكرتم، وقد قال الله تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] هذا كله كلام الكعبي.(14/476)
والجواب: قوله: لا نطلق اسم الخالق على العبد. قلنا: بل يجب ذلك، لأن الخلق في اللغة هو التقدير، والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازاً في الله، فكيف يمكنهم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد؟ . وأما قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} [الأعراف: 195] فالعيب إنما وقع عليهم، فلا جرم أن من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته. وأما قوله: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] فتقدم الكلام عليه. واعلم أن في استدلال أهل السنة بالآية نظر، لاحتمال أن الغيب إنما حصل بمجموع الأمرين، وهو كونهم ليسوا بخالقين، وكونهم مخلوقون، والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه مخلوق، فلا يلزم أن يكون العبد إلهاً معبوداً.
فصل
دلَّت الآية على البعث، لأنه تعالى ذكر النشور، ومعناه: أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين، والعقاب إلى العصاة، فمن لا يكون كذلك يجب أن لا يصلح للإلهية.(14/477)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه} الآية. لما تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في الرد على عبدة الأوثان، تكلم ههنا في مسألة النبوة، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فالشبهة الأولى: قوله: {وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} .(14/477)
قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث هو الذي قال هذا القول {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يعني: عامر مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبير مولى عامر، هؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب، وكانوا يقرؤون التوراة، فلما أسلموا، وكان النبي يتعهدهم، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال. وقال الحسن: عبيد بن الحصر الحبشيّ الكاهر. وقيل: جبر ويسار وعداء عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب، فزعم المشركون أن محمداً يأخذ منهم.
قوله: «افتراه» الهاء تعود على «إفك» وقال أبو البقاء: الهاء تعود على «عبده» في أول السورة. قال شهاب الدين: ولا أظنه إلا غلطاً وكأنه أراد أن يقول الضمير المرفوع في «افتراه» فغلط.
قوله «ظلماً» فيه أوجه:
أحدها: أنه مفعول به، لأن جاء يتعدى بنفسه (وكذلك أتى) .
والثاني: أنه على إسقاط الخافض، أي: جاءوا بظلم. قاله الزجاج.
الثالث: أنه في موضع الحال، فيجيء فيه ما في قولك: جاء زيد عدلاً.
قال الزمخشري: {فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً} أي: أتوا ظلماً وكذباً كقوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} [مريم: 89] فانتصب بوقوع المجيء. أما كونه «ظلماً»(14/478)
فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه، وذلك هو الظلم. وأما كونه «زوراً» فلأنهم كذبوا، قال أبو مسلم: الظلم تكذيبهم الرسول.
الشبهة الثانية: قوله تعالى: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين. اكتتبها} الآية. يجوز في «اكْتَتَبَهَا» ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون حالاً من «أساطير» ، والعامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة المقدرة، فإن «أَسَاطِير» خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذه أساطير الأولين مكتتبة.
الثاني: أن يكون في موضع خبر ثان ل «هذه» .
الثالث: أن يكون «أساطير» مبتدأ و «اكْتَتَبَها» خبره. و «اكْتَتَبَها» الافتعال هنا يجوز أن يكون بمعنى: أمر بكتابتها كافتصد واحتجم إذا أمر بذلك ويجوز أن يكون بمعنى كتبها، وهو من جملة افترائهم عليه، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ويكون كقولهم: (استكبه واصطبه، أي: سكبه وصبه) ، والافتعال مشعر بالتكليف. ويجوز أن يكون من كتب بمعنى جمع من الكتب، وهو الجمع لا من الكتابة بالقلم.
وقرأ طلحة «اكتُتِبهَا» مبنياً للمفعول.
قال الزمخشري: والمعنى: اكتتبها له كاتب، لأنه كان أمياً لا يكتب بيده، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير، فصار اكتُتِبها إياه كاتب، كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هُوَ إيَّاه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً، وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار «اكتُتِبَها» كما ترى. قال أبو حيان: ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين، لأن «اكتَتَبها» له(14/479)
كاتب، وصل الفعل فيه المفعولين: أحدهما: مسرح، وهو ضمير الأساطير والآخر مقيّد، وهو ضميره عليه السلام - ثم اتسع في الفعل، فحذف حرف الجر، فصار «اكْتَتَبَها إياه كاتبٌ» ، فإذا بني هذا للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً، لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً، فعلى هذا كان يكون التركيب (اكتَتَبه) لا (اكتَتَبها) ، وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع، قال الفرزدق:
3861 - ومنَّا الَّذِي اختير الرجال سماحةً ... وجوداً إذا هبَّ الرياحُ الزّعازعُ
ولو جاء على ما قدره الزمخشري لجاء التركيب: ومنَّا الذي اختيره الرجال. لأن (اختير) تعدى إلى الرجال بإسقاط حرف الجر؛ إذ تقديره: اختير من الرجال. وهو اعتراض حسن بالنسبة إلى مذهب الجمهور، ولكن الزمخشري قد لا يلتزمه، ويوافق الأخفش والكوفيين، وإذا كان الأخفش وهم يتركون المسرح لفظاً وتقديراً، ويقيمون المجرور بالحرف مع وجوده، فهذا أولى.
والظاهر أن الجملة من قوله {اكتتبها فهي تملى} من تتمة قول الكفار.
وعن الحسن أنها من كلام الباري تعالى، وكان حق الكلام على هذا أن يقرأ «أَكْتَتَبَها» بهمزة مقطوعة مفتوحة للاستفهام كقوله: {أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] . ويمكن أن يعتذر عنه أنه حذف الهمزة للعلم بها كقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] . وقول الآخر:(14/480)
3862 - أفْرَحُ أَنْ أُرزأَ الكرام وأن ... أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبلاَ
يريد: أو تلك، أو أأفرح، فحذف لدلالة الحال، وحقه أن يقف على «الأولين» قال الزمخشري: كيف قيل: {اكتَتَبها فهي تملى عليه} وإنما يقال: أمليت عليه فهو يكتبها. قلت فيه وجهان:
أحدهما: اراد اكتِتَابها وطلبه، فهي تملى عليه، أو كتبت له، وهو أمر فهي تملى عليه، أي: تلقى عليه من كتاب يتحفظها، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب.
وقرأ عيسى وطلحة «تُتْلَى» بتاءين من [فوق من التلاوة. و «بُكْرَةً وأَصِيلاً» ظرفا زمان للإملاء، والياء في «تُمْلَى» بدل من] اللام، كقوله: «فَلْيُمْلِلِ» وقد تقدم.
فصل
المعنى: أن هذا القرآن ليس من الله، إنما هو مما سطره الأولون كأحاديث رستم واسفنديار، جمع أسطار وأسطورة كأحدوثة استنسخها محمد من أهل الكتاب {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ} أي: تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها «بُكْرَةً وأَصِيلاً» غدوة وعشيًّا.
قوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر} الآية. وهذا جواب عن شبههم، وذلك أنه - عليه السلام - تحداهم بالمعارضة وأظهر عجزهم عنها، ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن من عند نفسه، أو استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد، فيأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه، فلهذا قال: «قُلْ أَنْزَلَهُ» يعني: القرآن {الذي يَعْلَمُ السر} أي: الغيب {فِي السماوات والأرض} ؛ لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالماً بكل المعلومات ظاهرها وخفيها، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله(14/481)
لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، فذكر الغفور في هذا الموضع لوجهين:
أحدهما: قال أبو مسلم: إنه لما أنزله لأجل الإنذار وجب أن يكون غفوراً رحيماً، غير مستعجل بالعقوبة.
الثاني: أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العقاب صبًّا، ولكن صرف عنهم كونه غفوراً رحيماً، يمهل ولا يعاجل.
الشبهة الثالثة: قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} . الآية. «ما» استفهامية مبتدأة، والجار بعدها خبر، و «يأكل» جملة حالية، وبها تتم فائدة الإخبار، كقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وقد تقدم في النساء أن لام الجر كتبت مفصولة من مجرورها، وهو خارج عن قياس الخط. والعامل في الحال الاستقرار العامل في الجر، أو نفس الجر ذكره أبو البقاء.
قوله: «فَيَكُونَ» . العامة على نصبه، وفيه وجهان:
أحدهما: نصبه على جواب التحضيض.
والثاني: قال أبو البقاء: «فَيَكُونَ» منصوب على جواب الاستفهام. وفيه نظر، لأن ما بعد الفاء لا يترتب على هذا الاستفهام، وشرط النصب أن ينعقد منهما شرط وجزاء. وقرئ «فَيَكُونُ» بالرفع وهو معطوف على «أُنْزِلَ» ، وجاز عطفه على الماضي؛ لأن المراد بالماضي المستقبل إذ التقدير: لولا ينزل.
قوله: «أَوْ يُلقَى ... أَوْ تَكُون» معطوفان على «أنزل» لما تقدم من كونه بمعنى(14/482)
ينزل، ولا يجوز أن يُعطفا على «فَيَكُون» المنصوب في الجواب؛ لأنهما مندرجان في التحضيض في حكم الواقع بعد «لولا» ، وليس المعنى على أنهما جواب للتحضيض، فَيُعْطَفا على جوابه. وقرأ الأعمش وقتادة {أَوْ يَكُونُ لَهُ} بالياء من تحت؛ لأن تأنيث الجنة مجازي.
قوله: «يَأْكُلُ مِنْهَا» الجملة في موضع الرفع صفة ل «جَنّة» . وقرأ الأخوان «نَأْكُلُ» بنون الجمع، والباقون بالياء من تحت أي: الرسول.
قوله: «وَقَالَ الظَّالِمُون» وضع الظاهر موضع المضمر؛ إذ الأصل «وَقَالُوا» .
قال الزمخشري: وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم.
قال أبو حيان: وقوله ليس تركيباً سائغاً بل التركيب العربي أن يقول أرادهم بأعيانهم.
فصل
وهذه الشبهة التي ذكروها في نهاية الرذالة، فقالوا: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} يلتمس المعاش كما نلتمس فمن أين له الفضل علينا؟ وكيف يمتاز عنّا بالنبوة، وهو مثلنا في هذه الأمور.
وقالوا: {لولاا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} هلاّ أنزل إليه ملك {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} يصدقه ويشهد له، ويرد على من خالفه. {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} من السماء، فينفعه ولا يحتاج إلى تردد لطلب المعاش، وكانوا يقولون له: لستَ أنتَ بملك، لأنك تأكل والملك لا يأكل، ولست بملك؛ لأن الملك لا يتسوق، وأنت تتسوق وتتبذل. وما قالوه فاسد؛ لأن أكله الطعام لكونه آدمياً، ومشيه في الأسواق لتواضعه، وكان ذلك صفة له. وقالوا: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} ، والمعنى: إن لم يكن له كنز فلا أقلّ أن يكون كواحد من الدهاقين، فيكون له بستان يأكل منه {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} مخدوعاً، وقيل: مصروفاً عن الحق. وتقدمت هذه القصة في آخرِ بني إسرائيل. ثم أجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال}(14/483)
يعني الأشباه فضلوا عن الحق {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} إلى الهدى ومخرجاً عن الضلالة.
وبيان وجه الجواب كأنه تعالى قال: انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها: لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوَّتِك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً البتّة، إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول.(14/484)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك} الآية وهذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة، أي: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ الذي قالوا، وأفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا، أي: أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه، ولكنه تعالى يعطي عباده بحسب المصالح، أو على وفق المشيئة، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله.
قال ابن عباس: {خَيْراً مِّن ذلك} أي: مما عيَّروك بفقد الجنة الواحدة، وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة. وقال في رواية عكرمة: {خَيْراً مِّن ذلك} أي: من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش.
وقوله: «إِنْ شَاءَ» معناه: أنه تعالى قادرٌ على ذلك لا أنه شاكٌّ، لأن الشك لا يجوز على الله تعالى. وقيل: «إِنْ» ههنا بمعنى (قَدْ) ، أي: قد جعلنا لك في الآخرة جنات ومساكن، وإنما أدخل (إن) تنبيهاً للعبادة على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته، وأنه معلق على محض مشيئته، وليس لأحد من العباد حق على الله لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قوله: «جَنَّاتٍ» . يجوز أن يكون بدلاً من «خَيْراً» وأن يكون عطف بيان لذلك الخير عند من يجوزه في النكرات، وأن يكون منصوباً بإضمار أعني. و {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفة.
قوله: «وَيَجْعَل لَكَ» قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع «يَجْعَلُ» ، والباقون(14/484)
بإدغام لام «يَجْعَل» في لام «لك» وأما الرفع ففيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف.
والثاني: أنه معطوف على جواب الشرط. قال الزمخشري: لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع، كقوله:
3863 - وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ... يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
قال الزمخشري: وليس هذا مذهب سيبويه بل مذهبه أن الجواب محذوف، وأن هذا المضارع مَنْوِيٌّ به التقديم، ومذهب المبرد والكوفيين أنه جواب على حذف الفاء، ومذهب آخرين أنه جواب لا على حذفها بل لما كان الشرط ماضياً ضعف تأثير (إن) فارتفع. فالزمخشري بنى قوله على هذين المذهبين. ثم قال أبو حيان: وهذا التركيب جائز فصيح، وزعم بعض أصحابنا أنه لا يجيء إلا في ضرورة. وأما القراءة الثانية فتحتمل وجهين:(14/485)
أحدهما: أن سكون اللام للجزم عطفاً على محل (جعل) ؛ لأنه جواب الشرط.
والثاني: أنه مرفوع، وإنما سكن لأجل الإدغام. قاله الزمخشري وغيره. وفيه نظر من حيث إن من جملة من قرأ بذلك وهو نافع والأخوان وحفص ليس من أصولهم الإدغام حتى يدعى لهم في هذا المكان. نعم أبو عمرو أصله الإدغام وهو يقر هنا بسكون اللام فيحتمل ذلك على قراءته، وهذا من محاسن علم النحو والقراءات معاً وقال الواحدي: وبين القراءتين فرق في المعنى، فمن جزم فالمعنى: إن شاء يجعل لك قصوراً في الدنيا، ولا يحسن الوقف على «الأَنْهَارُ» ومن رفع حسن الوقف (على «الأَنْهَار» ) واستأنف {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} في الآخرة.
وقرأ ابن سليمان وطلحة بن سليمان «وَيَجْعَلَ» بالنصب، وذلك بإضمار أن على جواب الشرط، واستضعفها ابن جنيّ، ومثل هذه القراءة قوله:
3864 - فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبيعُ النَّاسِ والبَلَدُ الحَرَامُ
وَنَأْخُذ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
بالتثليث في (نأخذ) .
فصل
القصور جماعة القصر، وهو المسكن الرفيع. قال المفسرون: القصور هي البيوت(14/486)
المشيدة، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً. ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكناً ومنتزهاً، ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة.
وقال مجاهد: «إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ جَنَّاتٍ» في الآخرة وقصوراً في الدنيا.
روي أنه - عليه السلام - قال: «عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكة ذَهَباً، فقلتُ: لا يَا رَبِّ، وَلكِنْ أَشْبَعُ يَوْماً وأَجُوعُ يَوْماً - أَوْ قال ثَلاثاً، أَوْ نَحْوَ هَذَا - فإِذا جعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَدَعَوْتُكَ، وإذا شَبِعْت حَمِدْتُك وشَكَرْتُكَ» وروت عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لو شئتُ لسارت معي جبالُ الذهب جاءني ملكٌ فقال: إنَّ ربك يقرأ عليك السلام ويقول إِنْ شِئْتَ كنت نبياً عبداً، وإن شئْتَ نبياً مَلكاً، فنظرت إلى جبريل - عليه السلام - فأشار إليَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ، فقلت: نبياً عبداً قالت: وكان النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد ذلك لا يأكل متكئاً، ويقول: آكل كما يَأْكُلُ العبدُ وأجلس كما يجلس العبد وعن ابن عباس قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جالس وجبريل - عليه السلام - معه فقال جبريل:» هذا مَلَكٌ قَدْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ استأْذَنَ رَبَّهُ فِي زِيَارَتك «فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاءَ المَلَكُ وسلم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال:» إِنَّ اللَّهَ يُخيركَ أَنْ يُعْطِيكَ مفاتيحَ كلِّ شيءٍ لَمْ يُعْطَ أحد قبلك ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما أداك شيئاً «فقال عليه السلام: بل يجمعهما لي جميعاً في الآخرة» فنزل {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ} الآية. قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} أي: بالقيامة، فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً فلا يتكلفون النظر والفكر ولهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل. {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} . قال أبو مسلم: «أَعْتَدْنَا» أي: جعلناها عتيداً ومعدة لهم، والسعير: النار الشديدة الاستعار، وعن الحسن: أنه اسم جهنم.
فصل
احتج أهل السنة على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] وعلى أن النار التي هي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية.(14/487)
قال الجبائي: يحتمل في قوله: «وَاَعْتَدْنَا» أن المراد منه نار الدنيا، وبها نعذب الكفار والفساق في قبورهم، ويحتمل نار الآخرة، ويكون المعنى: «وأَعْتَدْنَا» أي: سنعدّها، كقوله تعالى: {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار} [الأعراف: 44] . وهذا جواب ساقط، لأن المراد من السعير إما نار الدنيا، أو نار الآخرة، فإن كان الأول فإما أن يكون المراد أنه تعالى يعذبهم في الدنيا بنار الدنيا، والثاني - أيضاً - باطل؛ لأنه لم يقل أحد من الأمة إنه تعالى يعذب الكفرة في الآخرة بنيران الدنيا. فثبت أن المراد نار الآخرة وأنها معدة.
وأما حمل الآية على أن الله تعالى سيجعلها معدة فترك للظاهر من غير دليل. قوله: «إِذَا رَأَتْهُمْ» هذه الجملة الشرطية في موضع نصب صفة ل «سَعِيراً» ، لأنه مؤنث بمعنى النار.
قوله: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} فإن قيل: التَّغَيُّظُ لا يُسمع. فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على حذف مضاف، أي: صوت تغيظها.
والثاني: أنه على حذف تقديره: سمعوا ورأوا تغيظاً وزفيراً، فيرجع كل واحد إلى ما يليق به، أي: رأوا تغيظاً وسمعوا زفيراً.
والثالث: أن يضمن «سَمِعُوا» معنى يشمل الشيئين، أي: أدركوا لها تغيظاً وزفيراً.
وهذان الوجهان الأخيران منقولان من قوله:
3865 - وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ في الوَغَى ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا
ومن قوله:
3866 - عَلَفْتُها تِبْناً وَمَاءً بَارداً ... أي: ومعتقلاً رمحاً، وسقيتها ماء، أو يُضَمَّن (مُتَقَلِّداً) معنى متسلحاً،(14/488)
و (علفتها) معنى أطعمتها تبناً وماءً بارداً.
فصل
معنى {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} . قال الكلبي والسديّ من مسيرة عام. وقيل: من مسيرة مائة سنة. روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «مَنْ كَذَب علَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأ بَيْنَ عَيْنَي جهنمَ مَقْعَدا» قالوا: وهل لها من عينين؟ قال: نعم ألم تسمع قول الله - عزَّ وجلَّ - {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} «.
وقيل: إذا رأتهم زبانيتها. قال الجبائي: إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلين بتعذيب أهل النار، لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار، فهو كقوله» وَاسْأَلِ القَرْيَةَ «وأراد أهلها.
قوله: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} .» مَكَاناً «منصوب على الظرف، و» منها «في محل نصب على الحال من» مكاناً «. لأنه في الأصل صفة له. و» مُقَرَّنينَ «حال من مفعول» أُلْقُوا «، و» ثُبُوراً «مفعول به، فيقولون: واثبوراه، ويجوز أن يكون مصدراً من معنى» دعوا «، وقيل: منصوب بفعل من لفظه مقدر تقديره ثبرنا ثبوراً.
وقرأ معاذ بن جبل «مُقَرَّنُونَ» بالواو، ووجهها أن تكون بدلاً من مفعول «أُلْقُوا» وقرأ عمرو بن محمد «ثَبُوراً» بفتح الثاء، والمصادر التي على ((14/489)
فعول) بالفتح قليلة جداً، وينبغي أن يضم هذا إليها، وهي مذكورة في البقرة عند قوله {وَقُودُهَا الناس} [البقرة: 24] .
فصل
قال ابن عباس: يُضَيق جهنم عليهم كما يضيق الزج على الرمح، وهو منقول أيضاً عن ابن عمر. وسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك فقال: «إِنَّهُمْ يُسْتَكْرَهُونَ في النار كما يُسْتَكْرَه الوتد في الحائط» .
قال الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب. قال الزمخشري: الكرب مع الضيق كما أن الفرج مع السعة، ولذلك وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض.
وقوله: «مُقَرَّنِينَ» (أي: مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. وقيل: مقرنين) مع الشياطين في السلاسل، كل كافر مع شيطان، فعندما يشاهدون هذا العذاب دعوا بالويل والثبور.
قال ابن عباس: يقولون: ويلاً. وقال الضحاك: هلاكاً. فيقولون: واثبوراه فهذا حينك وزمانك، فيقال لهم: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} أي: هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة فادعوا أدعية كثيرة.(14/490)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
قال الكلبي: نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات.
قوله
تعالى
: {أذلك
خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} الآية. لما وصف العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة فقال: «أَذَلِكَ خَيْرٌ» .
فإن قيل: كيف يقال: العذاب خير أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل: السكر أحلى أم الصبر؟ فالجواب: هذا يحسن في معرض التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر فضربه ويقول له: أهذا خير أم ذلك؟
فصل
قال أبو مسلم: جنة الخلد: هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور، قال تعالى: {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} [الإنسان: 9] . فإن قيل: الجنة اسم لدار مخلدة، فأي فائدة في قوله: «جَنَّةُ الخُلْدِ» ؟ فالجواب: الإضافة قد تكون للتبيين، وقد تكون لبيان صفات الكمال، كقوله تعالى: «الخَالِقُ البَارِئ» وهذا من هذا الباب.
فصل
احتج المعتزلة بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين:
الأول: اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق، فأما الموعود بمحض التفضيل فلا يسمى جزاء.
والثاني: لو كان المراد بالجزاء ما صرتُم إليه بمجرد الوعد فلا يبقى بين قوله: «جَزَاءً» وبين قوله: «مَصِيراً» تفاوت، فيصير ذلك تكريراً من غير فائدة.
والجواب: أنه لا نزاع في كونه جزاء إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق، وليس في الآية ما يدل على التعيين.
فإن قيل: إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيراً لكنها بعد ما صارت كذلك، فلم قال الله {كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً} ؟
فالجواب من وجهين:(14/491)
الأول: أن ما وعده فهو في تحققه كأنه قد كان؛ ولأنه قد كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم (ومصيراً) .
قوله: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ} هو نظير قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ} [فصلت: 31] ، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} [الزخرف: 71] . فإن قيل: أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها، فإذا سألوها ربهم، فإن أعطاها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ} ، وأيضاً فالأب إذا كان ولده في دركات النيران وأشد العذاب فلو اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب، (فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه) ، فإن فعل قدح ذلك في أن عذاب الكافر مخلد، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ} [فصلت: 31] ، وفي قوله: ( {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ} ) .
والجواب أن الله تعالى يزيل هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم.
قوله: «خَالِدينَ» منصوب على الحال، إما من فاعل «يَشَاءونَ» وإما من فاعل «لَهُمْ» ، لوقوعه خبراً، والعائد على «ما» محذوف، أي: لهم فيها الذي يشاءونه حال كونهم خالدين.
قوله: {كَانَ على رَبِّكَ} في اسم «كَانَ» وجهان:
أحدهما: أنه ضمير «ما يشاءون» ذكره أبو البقاء.
والثاني: أن يعود على الوعد المفهوم من قوله «وُعِدَ المُتَّقُونَ» . و «مَسْؤولاً» على المجاز، يسأل هل وفى لك أم لا، أو يسأله من وعد به.
فصل
قوله: {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما تقدم. وقوله: «مَسْؤولاً» أي: مطلوباً، قيل: إن المتقين سألوا(14/492)
ربهم في الدنيا فقالوا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] وقال محمد بن كعب القرظي: الملائكة سألوا ربهم للمؤمنين بقولهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8] .
وقيل: إن المكلفين سألوه بلسان الحال؛ لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعة الله كان ذلك قائماً مقام السؤال، قال المتنبي:
3867 - وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِيكَ فَطَانَةٌ ... سُكُوتِي كَلاَمٌ عَنْدَهَا وَخِطَابُ
وقيل: «وَعْداً مَسؤولاً» أي: واجباً وإن لم يسأل. قاله الفراء وقيل: «مَسْؤولاً» أي: من حقه أن يكون مسؤولاً، لأنه حق واجب إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة.(14/493)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الآية قرأ ابن عامر «نَحْشَرُهُمْ ... فَنَقُولُ» بالنون فيهما، وابن كثير وحفص بالياء من تحت فيهما، والباقون بالنون في الأوّل وبالياء في الثاني. وهُنّ واضحات.(14/493)
وقرأ الأعرج «نَحْشِرهُمْ» بكسر الشين في جميع القرآن.
قال ابن عطية: هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعُل بضم العين. وقال أبو الفضل الرازي: وهو القياس في الأفعال الثلاثية المتعدية؛ لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فَعُل بضمها في الماضي. قال أبو حيان: وليس كما ذكرا بل فعل المُتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة، ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعِل ويفعُل كثيراً، فإن شُهِرَ أحد الاستعمالين اتُّبع وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا خيَّر فيهما سُمِعَا للكلمة أم لم يُسْمَعَا.
قال شهاب الدين: الذي خيَّر في ذلك ابن عصفور، فيجيز أن يقول: زيد يفعِل بكسر العين، ويَضْرِب بكسر الراء مع سماع الضم في الأول والكسر في الثاني وسبقه إلى ذلك ابن درستويه (إلا أن) النحاة على خلافه.
قوله: «وَمَا يَعْبُدُونَ» عطف على مفعول «يَحْشُرُهُمْ» ، ويضعف نصبه على المعية، وغلب غير العاقل عليه فأتي ب «ما» دون «من» .(14/494)
فصل
ظاهر قوله: «وَمَا يَعْبُدُونَ» أنها الأصنام، لأن (ما) لما لا يعقل. وظاهر قوله: {فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ} أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وعزير وغيرهم؛ لأن الإضلال وجد بهم فلهذا اختلفوا.
فقال مجاهد: أراد الملائكة والجن والمسيح وعزير. وقال عكرمة والضحاك والكلبي: يعني الأصنام. فقيل لهم: كيف يخاطب الله تعالى الجماد فأجابوا بوجهين:
أحدهما: أنه تعالى يخلق الحياة فيها ويخاطبها.
والثاني: أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل بلسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات، وكلام الأيدي والأرجل، وكما قيل سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك؟ فإن لم يحصل جواباً أجابتك اعتباراً.
وقال الأكثرون: المراد الملائكة وعيسى وعزير - عليهم السلام - قالوا: ويتأكد هذا القول بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] فإن قيل: لفظة «ما» لا تستعمل في العقلاء. فالجواب من وجهين:
الأول: لا نسلم أن كلمة «ما» لا تستعمل لمن لا يعقل؛ لأنهم قالوا: «مَنْ» لمن لا يعقل في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45] .
الثاني: أنه أريد به الوصف كأنه قيل: ومعبودهم.
وقال
تعالى
: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] ، {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] وهذا لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين.
فصل
قالت المعتزلة: (وفيه كسر بيّن لقول من يقول إن) الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقول: إلهنا ههنا قسم ثالث(14/495)
غيرهما هو الحق، وهو أنّك أضللتهم فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا ضلالهم إلى أنفسهم، علمنا أنه تعالى لا يضل أحداً من عباده، فإن قيل: لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه، وقالوا: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر} ، وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم، وهو أنه تعالى متَّعهم وآباءهم بنعيم الدنيا. قلنا: لو كان الأمر كذلك لكان يلزم أن يصير الله محجوجاً في يد أولئك المعبودين، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملوماً.
وأجاب أهل السنة بأن القدرة على الضلالة إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله، وإن صلحت له لم يترجح اقتدارها للضلال على اقتدارها على الاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى، وعند ذلك يزول السؤال.
وأما ظاهر الآية وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظوهر المطابقة لقولنا.
قوله: «هؤلاء» يجوز أن يكون نعتاً ل «عِبَادي» أو بدلاً أو بياناً.
قوله: «ضلّوا السَّبِيلَ» على حذف حرف الجر وهو «عن» كما صرح به في قوله {يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 117] ثم اتُّسع فيه فحُذِف نحو هَدَى، فإنَّه يتعدَّى ب (إلى) وقد يُحْذَف اتساعاً. و «ضلَّ» مطاوع (أَضَلَّ) . فإن قيل: إِنَّهُ تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال؟
فالجواب: هذا سؤال تقريع للمشركين كما قيل لعيسى {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] . فإن قيل: فما فائدة «أَنْتُمْ» ، وهلاَّ قيل: أَأَضْلَلْتُمْ عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟
فالجواب: هذا سؤال عن الفاعل فلا بدَّ من ذكره حتى يعلم أنه المسؤول عنه.
وقوله: «أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ ... أَمْ هُمْ ضَلُّوا» (إنما قدم الاسم على الفعل)(14/496)
كما تقدم في قوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] .
قوله: «يَنْبَغِي» العامة على بنائه للفاعل، وأبو عيسى الأسود القارئ «يُنْبَغَى» مبنيًّا للمفعول. قال ابن خالويه: زعم سيبويه أنَّ «يُنْبَغَى» لغة.
قوله: «أَنْ نَتَّخِذَ» فاعل «يَنْبَغِي» ، أو مفعول قائم مقام الفاعل في قراءة الأسود وقرأ العامة «نَتَّخِذَ» مبنيًّا للفاعل، و «مِنْ أَوْلِيَاء» مفعوله وزيدت فيه (مِنْ) ويجوز أن يكون مفعولاً أوَّلَ على أن (اتَّخَذَ) متعدياً لاثنين.
ويجوز أن لا تكون المتعدية لاثنين بل لواحد، فعلى هذا «مِنْ دُونِكَ» متعلق بالاتخاذ، أو بمحذوف على أنه حال من «أَوْلِيَاء» .
وقرأ أبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو رجاء، والحسن، وأبو جعفر في آخرين: «نُتَّخَذَ» مبنيًّا للمفعول. وفيه أوجه:
أحدها: أنها المتعدية لاثنين، فالأول: «هُمْ» ضمير الاثنين، والثاني: قوله: «مِن أَوْلِيَاء» و «مِنْ» للتبعيض، أي: ما كان ينبغي أن نتخذ بعض أولياء، قاله الزمخشري.
الثاني: أنَّ «مِنْ أَوْلِيَاء» هو المفعول الثاني - (أيضاً - إلاَّ أن «مِنْ» مزيدة في المفعول الثاني) . وهذا مردود بأن «مِنْ» لا تزاد في المفعول الثاني إنما تزاد في الأول. قال ابن عطية: ويضعف هذه القراءة دخول «مِنْ» في قوله: «مِنْ أَوْلِيَاء» اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره. قال الزجاج: أخطأ من قرأ بفتح الخاء وضم النون، لأنَّ «مِنْ» إنما تدخل في هذا الباب إذا كانت مفعولةً أولاً ولا تدخل على مفعول الحال، تقول: ما اتخذت من(14/497)
أحدٍ ولياً، ولا يجوز ما اتخذت أحداً من وليٍّ.
الثالث: أن يكون «مِنْ أَوْلِيَاء» في موضع الحال قاله ابن جني إلاَّ أنه قال: ودخلت «مِنْ» زيادة لمكان النفي المتقدم كقولك: ما اتخذت زيداً من وكيل. فظاهر هذا أنه جعل الجار والمجرور (في موضع الحال، وحينئذ يستحيل أن تكون «مِنْ» مزيدة ولكنه يريد أن هذا المجرور) هو الحال نفسه و «مِنْ» مزيدة فيه إلاَّ أنه لا يحفظ زيادة «مِنْ» في الحال وإن كانت منفية وإنما حفظ زيادة الباء فيها على خلاف في ذلك. فإن قيل: هذه القراءة غير جائزة، لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء. قلنا: المراد أنا لا نصلح لذلك، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا؟ وقرأ الحجاج: نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ [أولياء] فبلغ عاصماً فقال: مَقَّتَ المُخْدجُ، أو ما علم أنَّ فيها «مِنْ» .
فصل
أجابوا بقولهم: «سُبْحَانَكَ» . وفيه وجوه:
أحدها: أنه تعجب منهم، تعجبوا مما قيل لهم؛ لأنهم ملائكة، والأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختصٌّ بإبليس وجنوده.
وثانيها: أنهم نطقوا ب «سُبْحَانَكَ» ليدلوا على أنهم المسبحون الموسومون بذلك، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده.(14/498)
وثالثها: قصدوا بالتسبيح تنزيهه عن الأنداد سواء كان المسبح وثناً أو نبياً أو ملكاً.
ورابعها: قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إبراء من كان بريئاً من الجرم، بل إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم.
وقولهم: {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} .
معناه: إذا كنا لا نرى أن يتخذ من دونك ولياً، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك، أي ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك.
وقيل: ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين. وقيل: ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء، أي: إنا علمنا أنك لا ترضى بهذا فما فعلنا، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: قالت الملائكة: (إنَّا وهم عبيدك، ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك ولياً ولا حبيباً فضلاً عن أن يتخذ عبداً آخر إلهاً. وقيل: قالت الأصنام) : إنا لا يصلح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادعاؤنا من المعبودين.
قوله: «وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ» . لمَّا تضمَّن كلامهم أنَّا لم نضلهم ولم نحملهم على الضلال حسن هذا الاستدراك، وهو أن ذكروا سببه، أي: أنعمت عليهم وتفضلت فجعلوا ذلك ذريعةً إلى ضلالهم عكس القضية. والمعنى متعتهم وآباءهم في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة. {حتى نَسُواْ الذكر} تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن. وقيل: تركوا ذكرك وغفلوا عنه.
قوله: {وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} أي: هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان. و «بُوراً» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع بائر كعائذ وعوذ.
والثاني: أنه مصدر في الأصل كالزور، فيستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، وهو من البوار والهلاك.
وقيل من الفساد، وهي لغة الأزد، يقولون: بَارَتْ بِضَاعَتَهُ أي: فسدت، وأمرنا بائر، أي: فاسد، وهذا معنى قولهم: كسدت البضاعة.
وقال الحسن: هو من قولهم: أرض بورٌ، أي: لا نبات بها. وهذا يرجع إلى معنى الهلاك والفساد.(14/499)
قوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ» هذا خطاب مع المشركين، أي: كَذَّبَكُمُ المعبودون في قولكم إنهم آلهة وإنهم أضلوكم. وقيل: خطاب للمؤمنين في الدنيا، أي: فقد كذبوكم أيها المؤمنون الكفار بما تقولون من التوحيد في الدُّنيا، وهو معنى قوله «بِما تَقُولُونَ» . وهذه الجملة من كلام الله تعالى اتفاقاً، فهي على إضمار القول والالتفات. قال الزمخشري: هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنةٌ رائعةٌ وخاصة إذا انضمَّ إليها الالتفات وحذف القول، ونحوها قوله: {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ [فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ] } [المائدة: 19] ، وقول القائل:
3868 - قالوا خُراسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ القُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
انتهى.
يريد أنَّ الأصل في الآية الكريمة فقلنا فقد كذبوكم، وفي البيت: فقلنا قد جئنا. وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياء من تحت، أي: «فَقَدْ كَذَبَكُم الآلِهَةُ بِمَا يَقُولُونَ (سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ» إلى آخره وقيل: المعنى: فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار بما يقولون) من الافتراء عليكم.
قوله: «فَمَا يَسْتَطِيعُونَ» .
قرأ حفص بتاء الخطاب، والمراد عبَّادها، والمعنى فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم. وقيل: الصرف: التوبة، وقيل: الحيلة.(14/500)
وقرأ الباقون باء الغيبة، والمراد الآلهة التي كانوا يعبدونها من عاقل وغيره، ولذلك غلب العاقل وأتى بواو الضمير، والمعنى: فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم.
قوله: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ} . قرأ العامة «نُذِقْهُ» بنون العظمة، وقرئ بالياء، وفي الفاعل وجهان:
أظهرهما: أنه الله تعالى لدلالة قراءة العامة على ذلك.
والثاني: أنه ضمير الظلم المفهوم من الفعل، وفيه تجوز بإسناد إذاقة العذاب إلى سببها وهو الظلم، والمعنى: ومن يشرك منكم نذقه عذاباً كبيراً.
فصل
تمسك المعتزلة بهذه الآية (في القطع بوعيد أهل الكبائر، قالوا: ثبت أن كلمة «مَنْ» في معرض الشرط للعموم، وثبت أن الكافر ظالم لقوله {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، والفاسق ظالم لقوله: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون} [الحجرات: 11] فثبت بهذه الآية) أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة.
والجواب: أنا لا نسلم أن كلمة «مَنْ» في معرض الشرط للعموم، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه، سلمنا أنه للعموم لكن قطعاً أم ظاهراً؟ ودعوى القطع ممنوعة، فإنا نرى في العرف العام والاستعمال المشهور استعمال صيغ العموم مع إرادة الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون ويدل عليه قوله تعالى {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع أن يقال: قولنا «الَّذِينَ كَفَرُوا» كان يفيد العموم، لكن المراد منه إمَّا الغالب أو المراد منه أقوام مخصصون.
وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة، وذلك لا ينفي تجويز العفو.(14/501)
سلمنا دلالته، لكن أجمعنا على أن قوله: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} مشروط بأن لا يزيل ذلك الظلم بتوبة أو بطاعة هي أعظم من ذلك الظلم، فيرجع حاصل الأمر إلى أن قوله: «يَظْلِمْ مِنْكُمْ» مشروط بأن لا يعاجل ما يزيله وعند هذا فنقول: هذا مسلم، لكن لم قلتم: إنه لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور الثلاثة التي تزيله، وذلك هو أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً} [الكهف: 107] .
فإن قيل: آيات الوعيد أولى، لأن السارق يُقْطع على سبيل التنكيل، وإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب محبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال. قلنا: لا نسلم أنَّ السارق يقطع على سبيل التنكيل، ألا ترى أنه لو تاب فإنه (لا) يقطع على سبيل التنكيل (بل على سبيل المحنة) .
نزلنا عن هذه المقامات، ولكن قوله تعالى: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} خطاب مع قوم مخصوصين معينين، فهب أنه لا يعفو عن غيرهم.
قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين} الآية هذا جواب عن قولهم: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7] أي: هذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن.
قوله: {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ} حق الكلام أن يقال: إلاَّ أنَّهُمْ. بفتح الألف، لأنه متوسط، والمكسورة لا تليق إلاَّ بالابتداء، فلهذا ذكروا في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها في محل نصب صفة لمفعول محذوف، فقدره الزجاج والزمخشري: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ أحَداً مِن المُرْسَلِين إلا آكِلِين وَمَاشِينَ» . وإنما حذف، لأن في قوله: «مِنَ المُرْسَلِينَ» دليلاً عليه، نظيره قوله تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] بمعنى: مَا مِنَّا أحدٌ. وقدره ابن عطية: رجالاً أو رسلاً. والضمير في «إنَّهم» وما بعده عائد على هذا الموصوف المحذوف.
والثاني: قال الفراء: إنها لا محل لها من الإعراب، وإنما هي صلة لموصول(14/502)
محذوف هو المفعول (ل «أَرْسَلْنَا» ) ، تقديره: إلا من أنهم. فالضمير في «إنَّهُمْ» وما بعده عائد على معنى «مَنْ» المقدرة، واكتفي بقوله: «مِنَ المُرْسَلِينَ» عنه كقوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا (كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً) } [مريم: 71] ، أي: إلاَّ من يردها.
فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف، وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين إلاَّ في مواضع، تقدَّم التنبيه عليها في البقرة.
الثالث: أن الجملة محلها النصب على الحال، وإليه ذهاب ابن الأنباري قال: التقدير: إلاَّ وإنهم، يعني أنها حالية، فقدَّر معها الواو بياناً للحالية، فكسر بعد استئناف. وردَّ بكون ما بعد «إلاَّ» صفة لما قبلها، وقدره أبو البقاء أيضاً. والعامة على كسر «إنَّ» ، لوجود اللام في خبرها، ولكون الجملة حالاً على الراجح. قال أبو البقاء: وقيل: لَوْ لَمْ تكن اللام لكسرت أيضاً لأن الجملة حالية، إذ المعنى: إلاَّ وَهُمْ. وقيل: المعنى: إلا قيل أنهم.
وقرئ «أنَّهُمْ» بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية، والتقدير: إلاَّ لأنَّهُمْ أي: ما جعلنا رسلاً إلى الناس إلا لكونهم مثلهم.
وقرأ العامة «يَمْشُونَ» خفيفة، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وعبد الله «يُمَشُّونَ» مشدداً مبنيًّا للمفعول، أي: تُمَشِّيهِمْ حَوَائِجُهُمْ أو الناس.
وقرأ عبد الرحمن: «يَمشُّونَ» بالتشديد مبنيًّا للفاعل، وهي بمعنى «يَمْشُونَ» قال الشاعر:
3869 - وَمَشَّى بِأَعْطَانِ المِيَاهِ وابْتَغَى ... قَلاَئِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ(14/503)
قال الزمخشري: ولو قرئ «يَمَشُّونَ» لكان أوجه لولا الرواية. يعني بالتشديد.
قال شهاب الدين: قد قرأ بها السُّلَمِيّ ولله الحمد.
فصل
روى الضحاك عن ابن عباس قال: لمَّا عيَّر المشركون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقالوا: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7] أنزل الله هذه الآية. يعني: ما أنا إلا رسول، وما كنت بدعاً من الرسل، وهم كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، كما قال في موضع آخر: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فصلت: 43] . {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} أي: بلية، فالغني فتنة للفقير، (ويقول الفقير) : ما لي لم أكن مثله؟ والصحيح فتنة للمريض، والشريف فتنة للوضيع. قال ابن عباس: أي: جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم وتتبعون الهدى.
وقال الكلبي والزجاج والفراء: نزلت في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أَنِفَ أن يسلم، وأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه، ويدل عليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] وقيل: هذا عام في جميع الناس، روى أبو الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للسلطان من الرعية، (وويل للرعية من السلطان) ، وويل للمالك من المملوك، وويل للشديد من الضعيف، وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة» وقرأ هذه الآية.
وروي عن ابن عباس والحسن هذا في أصحاب البلاء والعافية (هذا يقول لِمَ لَمْ أجعل مثله) في الخلق، والخلق، وفي العقل، وفي العلم، وفي الرزق، وفي الأجل.
وقيل: هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته لهم في البشريّة وصفاتها، فالمرسلون يتأذون من المرسل إليهم بأنواع الأذى على ما قال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} [آل عمران: 186] ،(14/504)
والمرسل إليهم يتأذون أيضاً (من الرسل) بحسب الحسد، وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً.
والأولى حمل الآية على الكل، لأن بين الجميع قدراً مشتركاً.
قال عليه السلام: «إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ والجَسدِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ دُونَهُ في المالِ والجَسَدِ» .
قوله: {أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} . «أَتَصْبِرُونَ» المعادل محذوف، أي: أم لا تصبرون وهذه الجملة استفهام، والمراد منه: التقرير بأن موقعه بعد الفتنة موقع أيّكم بعد الابتلاء في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] بمعنى: أنها معلِّقة لما فيها من معنى فعل القلب، فتكون منصوبة المحل على إسقاط الخافض والمعنى: «أَتَصْبِرُونَ» على البلاء، فقد علمتم ما وعد الصابرون، {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي: عالم بمن يصبر، وبمن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب.(14/505)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} الآية. هذه هي الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحاصلها: لم (لم) تنزَّل الملائكة حتى يشهدوا أن محمداً محق في دعواه، {أَوْ نرى رَبَّنَا} حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا؟
فصل
قال الفراء: قوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي: لا يخافون(14/505)
لقاءنا، فوضع الرجال موضع الخوف لغة تهاميّة إذا كان معه جحدٌ، ومنه قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] أي: لا تخافون لله عظمةً
قال القاضي: لا وجه لذلك، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز، والمعلوم من حال عبّاد الأصنام أنهم كانوا لا يخافون العقاب، لتكذيبهم (بالمعاد) ، فكذلك لا يرجون الثواب لمثل ذلك، فقوله: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} محمول على الحقيقة، وهو أنهم لا يرجون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب والجنة، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضاً، فالخوف تابع (للرجاء) .
فصل
دلَّ ظاهر الآية على جواز الرؤية، لأن اللقاء جنس تحته أنواع، أحد أنواعه الرؤية، والآخر الاتصال والمماسّة. وهما باطلان، فدلَّ على جواز الرؤية، لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمي الرؤية لقاء. وقالت المعتزلة: تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة، لأنه يقال في الدعاء: لقاك الله الخير. ويقول القائل: لم أَلْقَ الأمير. وإن رآه من بعد إذا حجب عنه، ويقال في الضرير: لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب، وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه، بل المراد من اللقاء هنا المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم {لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} [الانفطار: 19] لا أنه رؤية البصر. قال ابن الخطيب وهذا كلام ضعيف، لأنَّ اللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطلق على كل واحد من تلك المعاني، فيصح قوله: لقاك الخير، ويصح قول الأعمى: لقيت الأمير، ويصح قول البصير: لقيته (بمعنى رأيته، وما لقيته) بمعنى ما وصلت إليه، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} مذكور في معرض الذم لهم، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلاً، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني وبين الوصول بالرؤية، وقد بطل الأول فتعيّن الثاني.(14/506)
وقولهم: المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه. صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها، بل على أنّ إنكار الرؤية ليس إلا من دين (الكفار) .
قوله: «لَوْلاَ أُنْزِلَ» : هلاّ أنزل «عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ» فيخبرونا أن محمداً صادق {أَوْ نرى رَبَّنَا} فيخبرنا بذلك {لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ} (أي: تعظموا في أنفسهم) بهذه المقالة.
قال الكلبي ومقاتل: نزلت الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما المنكرين للنبوة والبعث.
قوله: «عُتُواً» مصدر وقد صحَّ هنا وهو الأكثر وأُعِلَّ في مريم في «عِتِيًّا» ، لمناسبة ذكرت هناك، وهي تواخي رؤوس الفواصل.
فصل
قال مجاهد: «عُتُوًّا» طغواً. وقال مقاتل: «عتوًّا» غلوًّا في القول.
والعتو: أشد الكفر وأفحش الظلم، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به.
وقوله: «فِي أَنْفُسِهِمْ» ، لأنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه، كما قال: {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم (بِبَالِغِيهِ) } [غافر: 56] . وعتوا: تجاوزوا الحد في الظلم.
فصل
وهذا جواب عن شبهتهم وبيانه من وجوه:
أحدها: أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد تمت نبوة محمد - عليه السلام - فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض التعنت والاستكبار.(14/507)
وثانيها: أنَّ نزول الملائكة لو حصل لكان أيضاً من جملة المعجزات، فل يدل على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزاً فيكون قبول ذلك المعجز وردّ المعجز الآخر ترجيحاً لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجِّح، وهو محض الاستكبار والتعنت.
وثالثها: أنهم بتقدير أن يروا الرب، ويسألوه عن صدق محمد - عليه السلام - وهو سبحانه يقول: نعم هو رسولي، فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد - عليه السلام - لأنَّا بيَّنَّا أن المعجزة تقوم مقام التصديق بالقول، إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول: اللهم إن كنت صادقاً فأحْيِ هذا الميت، فيحييه الله تعالى، (والعادة لم تجر بمثله) ، وبين أن يقول له: صدقت. وإذا كان التصديق بالقول والتصديق الحاصل بالمعجز (سيّين) في كونه تصديقاً للمدعى، كان تعيين أحدهما محض استكبار وتعنت.
ورابعها: يمكن أن يكون المراد أنَّ الله تعالى قال: لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت، فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به، فلا جرم لا أعطيهم ذلك.
وخامسها: لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله لا يُرَى، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل الاستهزاء.
فصل
استدل المعتزلة بهذه الآية على عدم الرؤية، لأنّ رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً. قالوا: فقوله: {لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} ليس إلا لأجل سؤال الرؤية، واستعظم في آية أخرى قولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} [البقرة: 55] . فثبت أن الاستكبار والعتو هاهنا إنما حصل لأجل سؤال الرؤية، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة. ونقول هاهنا: إنّا بينا أن قوله: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} يدل على الرؤية، وأمّا الاستكبار والعتو فلا يدل ذلك على أن الرؤية(14/508)
مستحيلة، لأنَّ من طلب شيئاً محالاً لا يقال: إنه عَتَا واستكبر، ألا ترى قولهم:
{اجعل
لَّنَآ
إلها
كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتوًّا واستكباراً بل قال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] .
ومما يدل على ذلك أن موسى - عليه السلام - لما قال: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] ما وصفه الله بالاستكبار والعتوّ، لأنه - عليه السلام - طلب الرؤية شوقاً، وهؤلاء لمَّا طلبوها امتحاناً وتعنتاً لا جرم وصفهم بذلك.
قوله: «يَوْمَ يَرَونَ» فيه أوجه:
أحدها: أنه منصوب بإضمار فعل يدل عليه قوله: «لاَ بُشْرَى» أي: يُمْنَعُونَ البُشْرَى يَوْمَ يَرَونَ.
الثاني: أنه منصوب ب (اذكر) ، فيكون مفعولاً به.
الثالث: أنَّه منصوب ب (يعذبون مقدراً.
ولا يجوز أن يعمل فيه نفس «البُشْرَى» لوجهين:
أحدهما: أنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله.
والثاني: أنَّها منفية ب (لا) ، (وما بعد (لا)) لا يعمل فيما قبلها.
قوله: «لاَ بُشْرَى» هذه الجملة معمولة لقول مضمر، أي: يَرَون الملائكة يقولون لا بُشْرَى، فالقول حال من «المَلاَئِكَة» ، وهو نظير التقدير في قوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ} [الرعد: 23] إلى قوله: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 24] .
قال أبو حيان: واحتمل «بُشْرَى» أن يكون مبنيًّا مع «لاَ» ، واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإنه كان مبنيًّا مع «لا» احتمل أن يكون «يَوْمَئِذٍ» خبراً و «لِلْمُجْرِمِينَ» خبراً بعد خبر، أو نعتاً ل «بُشْرَى» ،(14/509)
أو متعلقاً بما تعلَّق به الخبر، وأن يكون «يَوْمَئِذٍ» صفة ل «بُشْرَى» والخبر «لِلْمُجْرِمِينَ» ، ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس «لاَ» أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع «لاَ» وما بني معها.
وإن كان في نية التنوين وهو معرب، (جاز أن يكون «يَوْمَئِذٍ» ، و «لِلْمُجْرِمِينَ» خبرين، و) جاز أن يكون «يَوْمَئِذٍ» خبراً و «لِلْمُجْرِمِينَ» صفة، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنياً لنفس «لاَ» بإجماع. قال شهاب الدين: قوله: واحتمل أن يكون في نية التنوين إلى آخره لا يتأتَّى إلاَّ على قول أبي إسحاق، وهو أنه يرى أنَّ اسم (لاَ) النافية للجنس معربٌ، ويعتذر عن حذف التنوين بكثرة الاستعمال ويستدل عليه بالرجوع إليه في الضرورة، وينشد:
3870 - أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً ... ويتأوله البصريون على إضمار: ألا ترونني رجلاً، وكان يمكن الشيخ أن يجعله معرباً كما ادّعى بطريق أخرى، وهو: أن يجعل «بُشْرَى» عاملة في «يَوْمَئِذٍ» أو في «لِلْمُجْرِمِينَ» ، فيصير من قُبَيْل المطوَّل، والمطوَّل معربٌ، لكنه لم يلم بذلك، وسيأتي شيء من هذا في كلام أبي البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ.
ويجوز أن يكون «بُشْرَى» معرباً منصوباً بطريق أخرى، وهي أن تكون منصوبة بفعل مقدَّر، أي: لا يُبَشَّرُونَ بُشْرَى، كقوله تعالى: {لاَ مَرْحَباً (بِهِمْ) } [ص: 59] ، (و) لا أهلاً ولا سهلاً، إلاَّ أن كلام الشيخ لا يمكن تنزيله على هذا لقوله: جاز أن يكون «يَوْمَئِذٍ» و «لِلْمُجْرِمِينَ» خبرين، فقد حكم أن لها خبراً، وإذا جُعِلَت منصوبة بفعل مقدر لا(14/510)
يكون [ل (لا) ] حينئذ خبر، لأنها داخلة على ذلك الفعل المقدر، وهذا موضع حسنٌ.
قوله: «يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ» قد تقدَّم في «يَوْمَئِذٍ» أوجه: وجوَّز أبو البقاء أن يكون منصوباً ب «بُشْرَى» ، قال: إذا قدَّرت أنها منونة غير مبنيَّة مع (لا) ، ويكون الخبر «لِلْمُجْرِمِينَ» . وجوَّز - أيضاً - هو والزمخشري أن يكون «يَوْمَئِذٍ» تكريراً ل «يَوْم) يَرَوْنَ» وردَّه أبو حيان سواء أريد بالتكرير التوكيد اللفظيّ أم أريد به البدل قال: لأنَّ «يَوْمَ» منصوب بما تقدم ذكره من (اذكر) (أو من) (يَعْدَمُونَ) البشرى، وما بعد (لاَ) العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها، وعلى تقدير ما ذكراه يكون العامل فيه ما قبل (لاَ) . وما ردَّه ليس بظاهر، لأنَّ الجملة المنفية معمولةٌ للقول المضمر الواقع حالاً من «المَلاَئِكَةِ» ، و «الملائكة» معمولةٌ ل «يَرَوْنَ» ، و «يَرَوْنَ» معمول ل «يَوْمَ» خُصِّصَا بالإضافة، ف (لا) وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث إنها معمولة لبعض ما في حيزه، فليست بأجنبية ولا مانعةٍ من أن يعمل ما قبلها فيما بعدها.
والعجب له كيف تخيل هذا وغفل عما تقدم فإنه واضح مع التأمل. و «لِلْمُجْرِمِينَ» من وضع الظاهر موضع المضمر شهادةً عليهم بذلك. والضمير في «يقُولُونَ» يجوز عوده للكفار (أو للملائكة) . و «حِجْراً» من المصادر الملتزم إضمار ناصبها، ولا يتصرَّف فيه نحو معاذ الله، وقعدك، وعمرك، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوٍّ وهجوم نازلة، ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة، قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل: أتفعل كذا فيقول: حِجْراً وهي من حجره: إذا منعه، لأنَّ المستعيذ(14/511)
طالب من الله أن يمنع المكروه ولا يلحقه، وكان المعنى: أسأل الله أن يمنعه منعاً ويحجره حجراً. والعامة على كسر الحاء، والضحاك، والحسن، وأبو رجاء على ضمِّها وهو لغة فيه.
قال الزمخشري: ومجئيه على فِعْل أو فُعْل في قراءة الحسن تصرُّفٌ فيه لاختصاصه بموضع واحد كما كان قعدك وعمرك كذلك وأنشد لبعض الرجاز:
3871 - قَالَتْ وَفِيهَا حَيْدَةٌ وذُعْرُ ... عَوْذٌ بِرَبِّي مِنْكُم وَحُجْرُ ... وهذا الذي أنشده الزمخشري يقتضي تصرُّف «حِجْراً» . وقد تقدم نص سيبويه على أنه يلتزم النصب. وحكى أبو البقاء فيه لغةً ثالثةً وهي الفتح، قال: وقد قرئ بها. فعلى هذا كمل فيه ثلاثة لغاتٍ مقروء بهنَّ.
و «مَحْجُوراً» صفة مؤكدة للمعنى كقولهم: ذيل ذائل، والذيل: الهوان، ومَوْتٌ مَائِتٌ، والحِجْرُ: العقل، لأنه يمنع صاحبه.
فصل
قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة} عند الموت. قاله ابن عباس، وقال الباقون: يريد يوم القيامة {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ} للكافرين. قالت المعتزلة: الآية تدلّ على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو، قوله: «لاَ بُشْرَى ... لِلْمُجْرِمِينَ» نكرة في سياق النفي فتعمّ(14/512)
جميع أنواع البشر في جميع الأوقات، بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية قال: بل له بُشْرَى في الوقت الفلاني، فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية، علمنا أن قوله: «لاَ بُشْرَى» يقتضي نفي جميع البشرى في كل الأوقات، وشفاعة الرسول لهم من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين، والكلام على التمسك بصيغ العموم، وقد تقدم مراراً.
فصل
اختلفوا في القائلين «حِجْراً مَحْجُوراً» : فقال ابن جريج: كانت العرب إذا نزلت بهم شدة، ورأوا ما يكرهون، قالوا: «حِجْراً مَحْجُوراً» ، فهم يقولونه إذا عاينوا الملائكة.
قال مجاهد: يعني: عوذاً مَعَاذاً، فيستعيذون به من الملائكة.
وقال ابن عباس: تقول الملائكة: حراماً محرماً أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله. قال مقاتل: إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة «حِجْراً مَحْجُوراً» أي: حرام محرم عليكم أن تكون لكم البشرى.
قوله: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} أي: وعمدنا إلى عملهم.
قوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} . الهَبَاءُ والهَبْوَةُ: التراب الدقيق. قاله ابن عرفة.
قال الجوهري: يقال فيه: هَبَا يَهْبُو: إذا ارتفع، وأَهْبَبْتُهُ أَنَا إِهْبَاءً.
وقال الخليل والزجاج: هو مثل الغبار الداخل في الكوَّة يتراءى مع ضوء الشمس فلا يمس بالأيدي ولا يرى في الظل. وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد.(14/513)
وقيل: الهَبَاءُ ما تطاير من شرر النَّار إذا أُضْرِمَتْ، والواحدة هباءة على حد تَمْر وتَمْرَة. و «مَنْثُوراً» أي: مفرَّقاً، نثرت الشيء فرَّقته. والنَّثْرَةُ لنجوم متفرقة. والنَّثْرُ: الكلام غير المنظوم على المقابلة بالشعر.
قال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير: هو ما تسفيه الرياح، وتذريه من التراب، (وحطام الشجر) .
وقال مقاتل: هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير.
وفائدة الوصف به أنَّ الهَبَاءَ تراه منتظماً مع الضوء، فإذا حرّكته تفرَّق، فجيء بهذه الصفة لتفيد ذلك.
وقال الزمخشري: أو مفعول ثالث ل «جَعَلْنَاهُ» أي: فَجَعَلْنَاهُ جامعاً لحقارة الهَبَاء والتناثر، كقوله: «كُونُوا» {قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 66] أي: جامعين للمسخ والخسأ.
قال أبو حيان: وخالف ابن درستويه، فخالف النحويين في منعه أن يكون ل (كان) خبران وأزيد، وقياس قوله في (جعل) أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث.
قال شهاب الدين: مقصوده أن كلام الزمخشري مردودٌ قياساً على ما منعه ابن درستويه من تعديد خبر (كَانَ) .
قوله: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} أي: من هؤلاء المشركين المستكبرين. «وَأَحْسَن مَقِيلاً» موضع قائلة. وفي (أَفْعَل) هاهنا قولان:
أحدهما: أنها على بابها من التفضيل، والمعنى: أن المؤمنين خير في الآخرة(14/514)
مُسْتَقَراً من مُسْتَقَرِّ الكفار «وَأَحْسَنُ مَقِيلاً» من مقيلهم، لو فرض أن يكون لهم.
والثاني: أن يكون لمجرَّد الوصف من غير مفاضلةٍ.
فصل
قال المفسرون: يعني أن أهل الجنة لا يمرّ بهم يوم إلا قدر النهار من أوله إلى قدر القائلة حتى يسكنوا مساكنهم من الجنة.
قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وقرأ: «ثُمَّ إن مَقِيلَهُمْ لإلى الجَحِيمِ» وهكذا كان يقرأ.
وقال ابن عباس في هذه الآية: الحساب ذلك اليوم في أوله. وقال قوم: حين قالوا في منازلهم.
قال الأزهري: القيلولة والمقيل: الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم، لأن الله قال: «وَأَحْسَنُ مَقِيلاً» والجنة لا نوم فيها.
وروي «أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس» .(14/515)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
قوله: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ» العامل في «يَوْمَ» إمّا (اذكر) ، وإمّا ينفرد الله بالمُلْكِ يَوْمَ تشقق، لدلالة قوله: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} عليه. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو [هنا وفي (ق) «تَشَقَّقُ» بالتخفيف، والباقون بالتشديد، وهما واضحتان،(14/515)
حذف الأولون] تاء المضارعة أو تاء التفعل على خلاف في ذلك، والباقون أدغموا تاء التفعل في الشين لما بينهما من المقاربة، وهما ك «تَظَاهَرُونَ» و «تَظَّاهَرُونَ» حذفاً وإدغاماً، وقد مضى في البقرة. قوله: «بِالغَمَامِ» في هذه الباء ثلاثة أوجه:
أحدها: على السببية، أي: بسبب الغمام، يعني بسبب طلوعها منها، ونحوه السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] كأنه الذي يتشقق به السماء.
الثاني: أنها للحال، أي: مُلتَبِسَةً بالغمام.
الثالث: أنها بمعنى (عَنْ) ، أي: عن الغَمَام كقوله: { (يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ) } [ق: 44] ، [والباء وعن يتعاقبان، تقول: رميت عن القوس وبالقوس] .
قوله: «وَنُزِّلَ المَلاَئِكَةُ» فيها اثنتا عشرة قراءة ثنتان في المتواتر، وعشر في الشاذ. فقرأ ابن كثير من السبعة «وَنُنْزِلُ» بنون مضمومة ثم أخرى ساكنة وزاي خفيفة مكسورة مضارع (أَنْزَلَ) ، و «المَلاَئِكَةَ» بالنصب مفعول به، وكان من حق المصدر أن يجيء بعد هذه القراءة على (إِنْزَال) . قال أبو علي: لما كان (أَنْزَلَ) و (نَزَّلَ) يجريان مجرى واحداً أجزأ مصدر أحدهما عن مصدر الآخر، وأنشد:
3872 - وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الحِضْبِ ...(14/516)
لأنَّ تَطَوَّيْتُ وانْطَويْتُ بمعنى، ومثله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] [أي: تَبَتُّلاً] وقرأ الباقون من السبعة «وَنُزِّلَ» بضم النون وكسر الزاي المشددة وفتح اللام ماضياً مبنيًّا للمفعول، «المَلاَئِكَةُ» بالرفع لقيامه مقام الفاعل، وهي موافقةٌ لمصدرها.
وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «وَنَزَّلَ» بالتشديد ماضياً مبنيًّا للفاعل، وهو الله تعالى، «المَلاَئِكَةَ» مفعول به. وعنه - أيضاً - «وَأَنْزَلَ» مبنيًّا للفاعل عداه بالتضعيف مرة، وبالهمزة أخرى، والاعتذار عن مجيء مصدره على التفعيل كالاعتذار عن ابن كثير. وعنه - أيضاً - «وَأُنْزِلَ» مبنيًّا للمفعول.
وقرأ هارون عن أبي عمرو «وَتُنَزِّلُ المَلاَئِكَةُ» بالتاء من فوق وتشديد الزاي ورفع اللام مضارعاً مبنيًّا للفاعل، «المَلاَئِكَةُ» بالرفعِ مضارع «نَزَّلَ» بالتشديد، وعلى هذه القراءة، فالمفعول محذوف، أي: وتُنَزِّلُ المَلاَئِكَةُ ما أُمِرَتْ أن تُنَزِّله.
وقرأ الخفَّاف عنه، وجناح بن حبيش «وَنَزَلَ» مخففاً مبنيًّا للفاعل، «المَلاَئِكَةُ» بالرفع. وخارحة عن أبي عمرو - أيضاً - وأبو معاذ «ونُزِّلَ» بضم النون وتشديد الزاي، ونصب «المَلاَئِكَةَ» ، والأصل: ونُنْزِلُ بنونين حذفت (إحداهما) وقرأ أبو عمرو(14/517)
وابن كثير في رواية عنهما بهذا الأصل «ونُنَزِّلَ» بنونين وتشديد الزاي.
وقرأ أُبيّ «وَنُزِّلَتْ» بالتشديد مبنيًّا للمفعول، «وَتُنُزِّلَتْ» بزيادة تاء في أوله، وتاء التأنيث (فيهما) .
وقرأ أبو عمرو في طريقة الخفاف عنه «وَنُزِلَ» بضم النون وكسر الزاي خفيفة مبنيًّا للمفعول. قال صاحب اللوامح: فإن صحت هذه القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، تقديره: ونُزِلَ نُزُول الملائكة، فحذف النزول ونقل إعرابه إلى «المَلاَئِكَة» بمعنى: نَزَلَ نَازِلُ الملائكة، لأنَّ المصدر يجيء بمعنى الاسم، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه ترتيب بناء اللازم للمفعول به، لأنَّ الفعل يدل على مصدره. قال شهاب الدين: وهذا تمحُّلٌ كثير دعت إليه ضرورة الصناعة. وقال ابن جني: وهذا غير معروف، لأنَّ (نَزَلَ) لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا للملائكة، ووجهه أن يكون مثل زكم الرَّجُلُ وجنَّ، فإنه لا يقال إلا أزكمه، وأجنّه الله، وهذا باب سماع لا قياس. ونظير هذه القراءة ما تقدم في سورة الكهف في قراءة من قرأ {فَلاَ يَقُومُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً} بنصب الوزن من حيث تعدية القاصر، وتقدم ما فيها.
فصل
الغَمَامُ: هو الأبيض الرقيق مثل الضباب، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم. والألف واللام في «الغمام» ليس للعموم بل للمعهود، وهو ما ذكره في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} [البقرة: 210] قال ابن عباس: تتشقق(14/518)
سماء الدنيا فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، [ثم تشقق السماء ثانية، فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس] ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها، ثم ينزل الكَرُوبِيُّون، ثم حملة العرش.
فإن قيل: ثبت بالقياس أن نسبة الأرض إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة، فكيف بالقياس إلى الكرسي والعرش، فملائكة هذه المواضع (بأسرها، فكيف تتسع الأرض لكل هؤلاء) ؟
فالجواب: قال بعض المفسرين: الملائكة يكونون في الغمام، والغمام يكون) مقرّ الملائكة.
قوله: «المُلْكُ يَوْمَئذٍ» فيها أوجه:
أحدها: أن يكون «المُلْكُ» مبتدأ والخبر «الحَقُّ» و «يَوْمَئِذٍ» متعلق ب «الملك» ، و «للرَّحْمَنِ» متعلق ب «الحَقّ» ، أو بمحذوف على التبيين، أو بمحذوف على أنه صفة للحق.
الثاني: أنَّ الخبر «يَوْمَئِذٍ» ، و «الحَقُّ» نعت للملك، [و «للرحمن» على ما تقدم] .
[الثالث: أنَّ الخبر «للرَّحْمَن» و «يَوْمَئِذٍ» متعلق ب «الملك» ، و «الحَقُّ» نعت للملك] .
قيل: ويجوز نصب الحق بإضمار (أَعْنِي) .(14/519)
فصل
المعنى: أَنَّ الملك الذي هو الملك حقاً ملك الرحمن يوم القيامة.
قال ابن عباس: يريد أَنَّ يوم القيامة لا ملك يقضي غيره. ومعنى وصفه بكونه حقاً: أنه لا يزول ولا يتغير. فإن قيل: مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن، فما الفائدة في قوله: «يَوْمَئِذٍ» ؟ . فالجواب لأَنّ في ذلك اليوم لا مالك له سواه لا في الصورة، ولا في المعنى، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه، وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام. {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً} أي: شديداً، وهذا الخطاب يدلُّ على أنه لا يكون على المؤمنين عسيراً؛ جاء في الحديث «أنه يهوّن يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أَخَفَّ عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا» قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم} يَوْمَ معمول لمحذوف، أو معطوف على «يَوْمَ تَشَقَّقُ» . و «يَعضُّ» مضارع عَضَّ، ووزنه فَعِل بكسر العين بدليل قولهم: عَضِضْتُ أَعَضُّ. وحكى الكسائي فتحها في الماضي، فعلى هذا يقال: أَعِضُّ بالكسر في المضارع. والعَضُّ هنا كناية عن شدة الندم، ومثله: حَرَقَ نَابَهُ، قال:
3873 - أَبى الضَّيْم والنُّعْمَان يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَلَيْهِ فَأَفْضَى والسّيُوفُ مَعَاقِلُه
وهذه الكناية أبلغ من تصريح المكني عنه.
فصل
(أل) في «الظَّالم» تحتمل العهد والجنس على خلاف في ذلك. فالقائلون بالعهد اختلفوا على قولين:
الأول: قال ابن عباس: «أراد بالظالم: عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس، كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً، ودعا إليه جيرته وأشراف قومه، وكان يكثر مجالسة(14/520)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويعجبه حديثه، فقدم ذات يوم من سفر، فصنع طعاماً، ودعا الناس، ودعا الرسول، فلما قرب الطعام قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله «فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أَنّ محمداً رسول الله، فأكل الرسول من طعامه، وكان عقبة صديقاً لأبيّ بن خلف، فلما أتى أُبي بن خلف قال له: يا عقبة صبأت، قال: لا والله ما صبأت، ولكن دخل عليّ فأبَى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له، فطعم. فقال: ما أنا بالذي أرضى منك أبداً إلا أن تأتيه وتبزق في وجهه، وتطأ على عنقه، ففعل ذلك عقبة، فقال عليه السلام: لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوتك بالسيف» ، فقتل عقبة يوم بدر صبراً، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيده يوم أحد.
قال الضحاك: لما بزق عقبةُ في وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عاد بزاقه في وجهه، فاحترق خداه، فكان أثر ذلك فيه حتى الموت.
وقال الشعبي: كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف فأسلم عقبة فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً، فكفر وارتد، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} يعني: عُقبة، يقول: {ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} ، أي: ليتني اتبعت محمداً فاتخذت معه سبيلاً إلى الهدى. وقرأ أبو عمرو {يَا لَيَتَنِي اتَّخَذْتُ} بفتح الياء، والآخرون بإسكانها.
الثاني: قالت الرافضة: الظالم هو رجل بعينه، وإن المسلمين عرفوا اسمه وكتموه، وجعلوا فُلاناً بدلاً من اسمه، وذكروا فاضلين من أصحاب الرسول.
ومن حمل الألف واللام على العموم، لأنها إذا دخلت على الاسم المفرد أفادت العموم بالقرينة، وهي أنَّ ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف، فدلّ على أنَّ المؤثر في العض على اليدين كونه ظالماً، فيعم الحكم لعموم علته.(14/521)
وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة، ونزوله في واقعة خاصة (لا ينافي العموم) ، بل تدخل فيه تلك الصورة وغيرها. والمقصود من الآية زجر الكل عن الظلم، وذلك لا يحصل إلا بالعموم.
فصل
قال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت، ولا يزال هكذا كلما أكلها نبتت وقال المحققون: هذه اللفظة للتحسر والغم، يقال: عَضَّ أنامله، وعضَّ على يديه.
قوله: «يَقُولُ» هذه الجملة حال من فاعل «يَعَضُّ» وجملة التمني بعد القول محكيةٌ به، وتقدم الكلام في مباشرة (يَا) ل «لَيْتَ» في النساء.
قوله: «يَا وَيْلَتَى» . قرأ الحسن «يَا وَيْلَتِي» بكسر التاء وياء صريحة بعدها، وهي الأصل. وقرأ الدَّوْرِيُّ بالإمالة.
قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن، لأن أصل هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفاً فراراً من الياء، فَمَنْ أَمَالَ رجع إلى الذي منه فَرَّ أولاً. وهذا منقوض بنحو (بَاعَ) فإن أصله الياء، ومع ذلك أمالوا، وقد أمالوا {ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ} [الزمر: 56] و «يَا أَسَفَى» وهما ك (ياء) «وَيْلَتِي» في كون ألفهما عن ياء المتكلم. و «فُلاَن» كناية عن عَلَمِ من يعقل، وهو متصرف. و «فُلُ» كناية عن نكرة مَنْ يعقل من الذكور، و «فُلَةُ» عن مَنْ يعقل من الإناث. والفُلاَنُ والفُلاَنةُ بالألف عن غير العاقل، ويختص (فُلُ) ، و (فُلَةُ) بالنداء إلاَّ في ضرورة كقوله:(14/522)
3874 - فِي لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاَناً عَنْ فُلِ ... وليس (فُلُ) مرخماً من (فلان) خلافاً للفراء. وزعم أبو حيان أنَّ ابن عصفور وابن مالك، وابن العلج وهموا في جعلهم (فُلُ) كناية عن عَلَمِ مَنْ يعقل (فلان) . ولام (فُلُ) و (فُلاَنُ) فيها وجهان:
أحدهما: أنها واو.
والثاني: أنها ياء.
فصل
تقدم الكلام في «يَا وَيْلَتَى» في هود. {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يعني أبيّ بن خلف {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر} عن الإيمان والقرآن، {بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي} يعني الذكر مع الرسول «وَكَانَ الشَّيْطَانُ» وهو كل متمرد عاتٍ من الجن والإنس، وكل من صدَّ عن سبيل الله فهو شيطان. وقييل: أشار إلى خليله. وقيل: أراد إبليس، فإنه الذي حمله على أن صار خليلاً لذلك المُضِل، ومخالفة الرسول، ثم خذله، وهو معنى قوله: «للإنْسَانِ خَذُولاً» أي: تاركاً يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب.
وقوله: «وَكَانَ الشَّيْطَانُ» يحتمل أَنْ تكون هذه الجملة من مقول الظالم فتكون منصوبة المحل بالقول. وأن تكون من مقول الباري تعالى فلا محل لها، لاستئنافها.(14/523)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
قوله تعالى: {وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن} .
قال أكثر المفسرين: إنَّ هذا القول وقع مع الرسول. وقال أبو مسلم: بل المراد أنَّ الرسول يقوله في الآخرة كقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] . والأول أولى، لأنَّ قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} تسلية للرسول، ولا يليق ذلك إلا إذا وقع القول منه. و «مَهْجُوراً» مفعول ثان ل «اتَّخَذُوا» ، أو حال. وهو مفعول من الهجر - بفتح الهاء - وهو التَّرْكُ والبُعْدُ. أي: جعلوه متروكاً بعيداً، لم يؤمنوا به، ولم يقبلوه، وأعرضوا عن استماعه. وقيل: هو من الهُجر - بالضم - أي: مهجوراً فيه. ثم حذف الجار بدليل قوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] . وهجرهُم فيه: قولهم فيه: إنه شعر، وسحر، وأساطير الأولين، وكذب وهُجْر، أي: هذيان.
قال عليه السلام: «من تعلم القرآن وعلق مصحفاً، ولم يتعاهده، ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقاً به، يقول: يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه» وجعل الزمخشري «مَهْجُوراً» هنا مصدراً بمعنى الهجر قال كالمَجْلُود والمعقول. قال شهاب الدين: وهو غير مقيسٍ، ضَبَطَهُ أهل اللغة في أُلَيْفاظ فلا يُتعدى إِلاَّ بنقل.
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} الآية. جعل ذكر ذلك تسلية للرسول، وأن له أسوة بسائرة الرسل، فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبر أولُو العزم من الرسل. {وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} .
قال المفسرون: الباء زائدة بمعنى كفى ربك «هَادِياً ونَصِيراً» منصوبان على(14/524)
الحال، وقيل: على التمييز «هَادِياً» إلى مصالح الدين والدنيا، «ونَصِيراً» على الأعداء.
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر، لأنَّ قوله: {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} يدل على أن تلك العداوة من جعل الله تعالى، وتلك العداوة كفر. قال الجبائي: المراد من الجعل التبيين، لأنه تعالى لمَّا بيّن أنهم أعداؤه، فقد جعل أنهم أعداء، كما إذا بيَّن الرجل أَنَّ فلاناً لص، فقد جعله لصاً، وكما يقال في الحاكم: إنه عدّل فلاناً، وفسّق فلاناً، وجرّحه.
وقال الكعبي: إنه تعالى لما أمر (الأنبياء) بعداوة الكفار، وعداوتهم للكفار تقتضي (عداوة الكفار) لهم، فلهذا جاز أن يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} ، لأنه - سبحانه - هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة.
وقال أبو مسلم: يحتمل في العدو أنه البعيد الغريب، إذ المعاداة المباعدة، كما أن النصرة قرب من المظاهرة، وقد باعد الله بين المؤمنين والكافرين. والجواب عن الأول: أنَّ التبيين لا يسمى التيه جعلاً، لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال: إنه جعل الصانع وجعل قدمه.
والجواب عن الثاني: أنَّ الذي أمره الله تعالى (بِهِ) هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم، أو ليس له فيه تأثير؟ .
فإن كان الأول فقد تم الكلام، لأنّ عداوتهم للرسول كفر، فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة، فقد أمر بما له أثر في وقوع الكفر، وإِنْ لم يكن له فيه تأثير ألبتة كان منقطعاً عنه بالكلية، فيمتنع إسناده إليه، وهذا هو الجواب عن أبي مسلم. فإن قيل: قوله - عليه السلام -: ( «يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً» في(14/525)
المعنى كقول نوح - عليه السلام) - {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 5 - 6] فكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا هنا، فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
فالجواب: أن نوحاً - عليه السلام - لما ذكر ذلك دعا عليهم وأما محمد - عليه السلام - لما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر، فلما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} (من المجرمين) كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم (فافترقا) . فإن قيل: قوله: «جعلنا» صيغة تعظيم، والعظيم إذا ذكر نفسه في معرض التعظيم، وذكر أنه يعطي، فلا بد وأن تكون العطية عظيمة كقوله: ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم وقوله: «إنا أعْطَيْنَاكَ» ، فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا؟
فالجواب: خلق العدو تسبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب.(14/526)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن} الآية.
هذه شبهة خامسة لمنكري النبوة؛ فإن أهل مكة قالوا: تزعم أنك رسول من عند الله، فهلا تأتينا بالقرآن جملة (واحدة) ، كما أتي موسى بالتوراة جملة، وكما أتي عيسى بالإنجيل جملة، وداود بالزبور. قال ابن جريج: من أوله إلى آخره في ثنتين أو ثلاث وعشرين سنة. و «جملة» حال من «القرآن» ؛ إذ هي في معنى مجتمعاً.
قوله: «كذلك» الكاف إما مرفوعة المحل، أي: الأمر كذلك، و «لِنُثَبِّتَ» علة(14/526)
لمحذوف، أي: لنثبت فعلنا ذلك. وإما منصوبته على الحال، أي: أنزل مثل ذلك، أو على النعت لمصدر محذوف، و «لنثبت» متعلقة بذلك الفعل المحذوف وقال أبو حاتم: هي جواب قسم. وهذا قول مرجوح نحا إليه الأخفش، وجعل منه «ولتصغى» ، وقد تقدم في الأنعام. وقرأ عبد الله «ليثبت» بالياء أي الله تعالى.
فصل
هذا جواب عن شبهتهم، وبيانه من وجوه:
أحدها: أنه - عليه السلام - لم يكن من أهل الكتابة والقراءة، فلو نزل ذلك عليه جملة واحدة كان لا يضبطه وجاز عليه فيه الخطأ والغلط.
وثانيها: أن من كان الكتاب عنده، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ، فالله تعالى ما أعطاه الكتاب جملة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة، ليكون حفظه له أكمل، فيكون أبعد عن المساهمة وقلة التحصيل.
وثالثها: أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة لنزلت الشرائع بأسرها دفعة على الخلق، فكان يثقل عليهم ذلك فلما نزل مفرقاً منجماً نزلت التكاليف قليلاً قليلاً، فكان تحملها أسهل.
ورابعها: أنه إذا شاهد جبريل حالاً بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته على أداء ما حمل، وعلى الصبر على عوارض النبوة، وعلى احتمال الأذى وعلى التكاليف الشاقة.
وخامسها: أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجماً ثبت كونه معجزاً؛ فإنه لو كان ذلك مقدوراً للبشر لوجب أن يأتوا بمثله منجماً مفرقاً، ولما عجزوا عن معارضة نجومه المفرقة، فعن معارضة الكل أولى.
وسادسها: كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم ووقائعهم، فكانوا يزدادون بصيرة، وكان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب.
وسابعها: أن السفارة بين الله وبين أنبيائه، وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم، فيحتمل أن يقال: إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة لبطل المنصب على(14/527)
جبريل - عليه السلام - فلما أنزله مفرقاً منجماً بقي ذلك المنصب العالي عليه، فلذلك جعلة الله تعالى منجماً.
فصل
قوله: «كذلك» يحتمل أن يكون من تمام كلام المشركين، أي: جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل.
ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ذكره جواباً لهم، أي: كذلك أنزلناه، مفرقاً. فإن قيل: «كذلك» إشارة إلى شيء تقدمه، والذي تقدمه هو إنزالة جملة، (فكيف فسره ب «كَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ» ) مفرقاً؟
فالجواب: أن الإشارة (إلى الإنزال مفرقاً لا إلى جملة. قوله: «ورتلناه ترتيلاً» الترتيل: التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت) يسير دون قطع النفس، ومنه ثغر رَتِلٌ ومُرتل، أي: مفلج الأسنان بين أسنانه فرج يسيرة. قال الزمخشري: ونزل هنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلا تدافعا. يعني أن نزل بالتشديد يقتضي بالأصالة التنجيم والتفريق، فلو لم يجعل بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك، لتدافع مع قوله «جُمْلَةً» لأن الجملة تنافي التفريق، وهذا بناء منه على معتقده، وهو أن التضعيف يدل على التفريق، وقد نص على كذلك في مواضع من الكشاف في سورة البقرة، وأول آل عمران، وآخر الإسراء، وحكى هناك عن ابن عباس ما يقوي ظاهره صحة قوله.(14/528)
فصل
«وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً» قال ابن عباس: بيناه بياناً. والترتيل التبيين في ترسل وتثبيت. وقال السديّ: فصلناه تفصيلا. وقال مجاهد: بعضه في أثر بعض. وقال النخعي والحسن وقتادة: فرقناه تفريقاً آية بعد آية. قوله: «ولا يَأْتُونَك» يعني المشركين «بمثل» يَضربونه في إبطال أمرك {إلا جئناك بالحق} الذي يدفع ما جاءوا به من المثل ويبطله كقوله {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] في ما يريدون من الشبه (مثلاً، وسمى ما يدفع به الشُّبَه) حقاً.
قوله: {إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق} هذا الاستثناء مفرغ، والجملة في محل نصب على الحال، أي: لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك كذا، والمعنى: ولا يأتونك بسؤال عجيب إلا جئناك بالأمر الحق، «وأحْسَنَ تَفْسِيراً» أي: بياناً وتفضيلاً، و «تفسيراً» تمييز. والمفضّل عليه محذوف: تفسيراً من مثلهم.
والتفسير: تفعيل من الفَسْرِ، وهو كشف ما قد غطي.
ثم ذكر مآل المشركين فقال: {الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ} بساقون ويجرُّون إلى جهنم، روي أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم على القفا، وأرجلهم إلى فوق، وقال عليه السلام: «إنّ الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» والأولى أولى، لأنه ورد أيضاً.
قوله: «الّذِينَ يُحْشَرُونَ» يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين ويجوز نصبه على الذم، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة من قوله {أولئك شَرٌّ(14/529)
مَّكَاناً} ، ويجوز أن يكون «أُولَئِكَ» بدلاً أو بياناً للموصول، و «شَرٌّ مَكَاناً» خبر الموصول.
قوله: {أولئك شَرٌّ مَّكَاناً} منزلاً ومصيراً من أهل الجنة «وأضل سبيلاً» وأخطأ طريقاً وههنا سؤال كما تقدم في قوله: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] .
ولما تكلم في التوحيد، ونفي الأنداد وإثبات النبوة وأحوال القيامة شرع في ذكر القصص على الطريقة المعلومة.(14/530)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} الآية. لما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} [الفرقان: 31] وذكر ذلك في معرض التسلية له، ذكر جماعة من الأنبياء، وعرفه تكذيب أممهم، والمعنى: لست يا محمد بأول من أرسلنا فكذب (وآتيناه الآيات فرُدّ) : فقد آتينا موسى الكتاب، وقوينا عضده بأخيه هارون (ومع ذلك فقد رُدّ) . فإن قيل: كون هارون وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً، بل يجب أن يقال: إنه لما صار (شريكاً) خرج عن كونه وزيراً. فالجواب: لا منافاة بين الصنفين، لأنه لا يمنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيراً، وظهيراً، ومعيناً له. ولا وجه لقول من قال في قوله: «فَقُلْنَا اذْهَبا» إنه خطاب لموسى عليه السلام وحده بل يجري مجرى قوله: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 43] .
قوله: «هَارونَ» بدل، أو بيان، أو منصوب على القطع و «وَزِيراً» مفعول ثان، وقيل: حال، والمفعول الثاني قوله «معه» . قال الزجاج: الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويعمل برأيه، والوزر ما يعتصم به، ومنه: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11](14/530)
أي: لا منجى ولا ملجأ. قال القاضي: ولذلك لا يوصف تعالى بأن له وزيراً.
قوله: {فَقُلْنَا اذهبآ إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} يعني القبط.
قوله: «فَدمَّرْنَاهُمْ» . العامة على «فَدَمَّرْنَا» فعلاً ماضياً معطوفاً على محذوف، أي: فذهب فكذبوهما «فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْميراً» أهلكناهم إهلاكاً. وقرأ عليّ - كرم الله وجهه - «فدمِّراهم» أمر لموسى وهارون، وعنه أيضاً: «فَدَمِّرَانِّهِمْ» كذلك أيضاً، ولكنه مؤكد بالنون الشديدة، وعنه أيضاً: «فدمِّرا بِهِم» بزيادة باء الجر بعد فعل الأمر، وهي تشبه القراءة قبلها في الخط، ونقل عنه الزمخشري «فَدَمَّرْتُهم» بتاء المتكلم. فإن قيل: الفاء للتعقيب، والإهلاك لم يحصل عقيب بعث موسى وهارون إليهم بل بعد مدة مديدة.
فالجواب: فاء التعقيب محمولة هنا على الحكم بالإهلاك لا على الوقوع. وقيل: إنه تعالى أراد اختصار القصة فذكر المقصود منها أولها وآخرها، والمراد إلزام الحجة ببعثة الرسل، واستحقاق التدمير بتكذيبهم. واعلم أن قوله: «كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا» إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب الآيات الإلهية فلا إشكال، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة، فاللفظ وإن كان للماضي فالمراد به المستقبل.(14/531)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ} الآية. يجوز أن يكون «قَوْمَ» منصوباً عطفاً على مفعول «(14/531)
دَمَّرْنَاهم» ، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر قوله: «أَغْرَقْنَاهُمْ» وترجح هذا بتقديم جملة فعلية قبله. هذا إذا قلنا: إن «لما» ظرف زمان، وأما إذا قلنا إنها حرف وجوب لوجوب فلا يتأتى ذلك، لأن «أَغْرَقْنَاهُمْ» حينئذ جواب «لما» ، وجوابها لا يفسر، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدر لا على سبيل الاشتغال، أي: اذكر قوم نوح.
فصل
إنما قال: «كذبوا الرسل» إما لأنهم كانوا من البراهمة المنكرين لكل الرسل، أو لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع، لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع الرسل.
وقوله «أَغْرَقْنَاهُمْ» . قال الكلبي: أمطرنا عليهم السماء أربعين يوماً، وأخرج ماء الأرض أيضاً في تلك الأربعين، فصارت الأرض بحراً واحداً. «وَجَعَلْنَاهُمْ» أي: جعلنا إغراقهم وقصتهم «للناس آية» للظالمين أي: لكل من سلك سبيلهم، «وأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمينَ» في الآخرة «عَذَاباً أَلِيماً» .
قوله تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس} الآية، «وعَادَاً» فيه ثلاثة أوجه:
أن يكون معطوفاً على «قَوْمِ نُوح» ، وأن يكون معطوفاً على مفعول «جَعَلْنَاهُمْ» وأن يكون معطوفاً على محل «لِلظَّالِمِينَ» لأنه في قوة وعدنا الظالمين بعذاب. قوله: «وأَصْحَابَ الرَّسِّ» فيه وجهان:(14/532)
أحدهما: (أنه) من عطف المغاير، وهو الظاهر.
والثاني: أنه من عطف بعض الصفات على بعض.
والمراد ب «أَصْحَابَ الرَّسِّ» ثمود، لأن الرّسّ البئر التي لم تطو عن أبي عبيدة، وثمود أصحاب آبار. وقيل: «الرَّسُّ» نهر بالمشرق (وكانت قرى أصحاب الرس على شاطئ فبعث الله إليهم نبياً من أولاد يهودا بن يعقوب فكذبوه، فلبثت فيهم زماناً يشتكي إلى الله منهم، فحفروا بئراً ورسوه فيها، وقالوا: نرجو أن يرضى عنا إلهنا، وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم وهو يقول: إلهي ترى ضيق مكاني، وشدة كربي، وضعف قلبي، وقلة صلتي فجعل قبض روحي حتى مات، فأرسل الله ريحاً عاصفة شديدة الحر، وصارت الأرض من تحتهم كبريتاً متوقداً، وأظلتهم سحابة سوداء، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص) ويقال: إنهم أناس عبدة أصنام قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي؛ دسوه فيها وقال قتادة والكلبي: الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم وهو حنظلة بن صفوان وقيل: هم بقية ثمود قوم صالح، وهم أصحاب البئر التي ذكر الله تعالى في قوله: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45] . وقال كعب ومقاتل والسدي: الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيب النجار، ورسوه في بئر، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة يس.
وقيل: هم أصحاب الأخدود، والرس هو الأخدود الذي حفروه.
وقال عكرمة: هم قوم رسوا نبيهم في بئر. وقيل: الرس المعدن، وجمعه(14/533)
رساس وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة الصَّنَوْبَر وسموا أصحاب الرس؛ لأنهم رسوا نبيهم في الأرض. وروى ابن جرير عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «أن الله بعث نبياً إلى أهل قرية، فلم يؤمن به من أهل القرية أحد إلا عبد أسود، ثم إنهم حفروا للرسول بئراً وألقوه فيها، ثم طبقوا عليها حجراً ضخماً، وكان ذلك الرجل الأسود يحتطب ويشتري له طعاماً وشراباً، ويرفع الصخرة ويدليه إليه، فكان ذلك ما شاء الله فاحتطب يوماً، فلما أراد أن يحملها وجد نوماً، فاضطجع، وضرب الله على أذنه تسع سنين، ثم هَبّ واحتمل حزمته واشترى طعاماً وشراباً، وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحداً، وكان قومه قد استخرجوه فآمنوا به، وصدقوه، وكان ذلك النبي يسألهم عن الأسود، ويقول لهم إنه أول من يدخل الجنة» .
قوله: ( «وقُروناً» ) أي: وأهلكنا قروناً كثيرة بين عاد وأصحاب الرس والقرون: جمع قرن، قال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: القرن أربعون سنة، وهو قول النخعي. وقيل: مائة وعشرون سنة. وقيل غير ذلك. وتقدم الكلام عليه في سورة سبحان عند قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17] .
قوله: «بَيْنَ ذَلك» «ذلك» إشارة إلى من تقدم ذكره، وهم جماعات، فلذلك حسن دخول «بَيْنَ» عليه. وقد يذكر الذاكر بحوثاً ثم يشير إليها بذلك، ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة، ثم يقول: فذلك كيت وكيت، أي ذلك المحسوب أو المعدود.
قوله: «وكُلاً» يجوز نصبه بفعل يفسره ما بعده، أي: وحذرنا أو ذكرنا، لأنها في معنى ضربنا له الأمثال.
ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم، و «ضَرَبْنَا» بيان لسبب إهلاكهم. وأما «كُلاًّ» الثانية فمفعول مقدم.(14/534)
قوله: {ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} أي: الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار. وقيل: بيَّنَّا لهم وأزحنا عللهم فلما كذبوا «تَبَّرْنَاهُمْ تَتْبِيرا» أي: أهلكناهم إهلاكاً. وقال الأخفش: كسرنا تكسيرا.
قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتَّتَّه فقد تَبَّرته.(14/535)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ (مَطَرَ السوء) } الآية. أراد بالقرية قريات لوط، وكانت خمس قرى، فأهلك الله منها أربعاً ونجت واحدة، وهي (صقر) كان أهلها لا يعملون العمل الخبيث. يعني أن قريشاً مَرُّوا مُرُوراً كثيراً إلى الشام على تلك القرى، {التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} أي: أهلكت بالحجارة من السماء، {أفلم يكونوا يرونها} في مرورهم وينظروا إلى آثار عذاب الله ونكاله فيعتبروا ويتذكروا.
قوله: «مَطَرَ السَّوْءِ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مصدر على حذف الزوائد أي: أمطار السوء.
الثاني: أنه مفعول ثان؛ إذ المعنى: أعطيتها وأوليتها مطر السوء.
الثالث: أنه نعت مصدر محذوف، أي: أمطاراً مثل مطر السوء وقرأ زيد بن عليّ «مُطِرَتْ» ثلاثياً مبنياً (للمفعول) ، ومطر متعد قال:
3875 - كَمَنْ بِوَادِيهِ بَعْدَ المَحْلِ مَمْطُورُ ...(14/535)
وقرأ أبو السمال «مطر السُّوء» بضم السين، وتقدم الكلام على السوء والسوء في براءة. وقوله: {أَتَوْا عَلَى القرية} إنما عُدِّي (أتى) ب (على) ، لأنه ضُمِّن معنى مرَّ.
قوله: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} في هذا الرجاء ثلاثة أوجه:
أقواها ما قاله القاضي: وهو أنه محمول على حقيقة الرجاء؛ لأن الإنسان لا يحتمل متاعب التكليف إلا رجاء ثواب الآخرة، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يَرْجُ ثوابها فلا يتحمل تلك المشاق.
وثانيها: معناه لا يتوقعون نشورا، فوضع الرجاء موضع التوقُّع؛ لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن.
وثالثها: معناه: (لا يخافون) على اللغة التهامية. وهو ضعيف.
قوله: «وإذَا رَأَوْكَ» الآية. لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته بإيراد الشبهات بين بعد ذلك أنهم إذا رأوا الرسول اتخذوه هزواً، ولم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار، ويقول بعضهم لبعض: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} .
قوله: «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ» «إنْ» الأولى نافية، والثانية مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينهما، و «هُزُوًّا مفعول ثان، ويحتمل أن يكون التقدير: موضع هُزْءٍ وأن يكون مهزوءاً بك. وهذه الجملة المنفية تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها جواب (إذا) الشرطية، واختصت (إذا) بأن جوابها متى كان منفياً ب (ما) أو (إن) أو (لا) لا تحتاج إلى الفاء بخلاف غيرها من أدوات الشرط فعلى هذا يكون قوله:» أَهَذَا الَّذي «في محل نصب بالقول المضمر، وذلك القول المضمر في محل نصب على الحال، أي: إن يتخذونك قائلين ذلك.(14/536)
والثاني: أنها جملة معترضة بين (إذا) وجوابها. وجوابُها هو ذلك القول المضمر المحكي به» أهذا الذي «والتقدير: وإذا رأوك قالوا أهذا الذي بعث، فاعترض بجملة النفي، ومفعول» بعث «محذوف هو عائد الموصول، أي: بعثه.
و «رسولاً» على بابه من كونه صفة فينتصب على الحال، وقيل: هو مصدر بمعنى رسالة، فيكون على حذف مضاف، أي ذا رسول بمعنى رسالة، أو يجعل نفس المصدر مبالغة، أو بمعنى: مرسل. وهو تكلف.
قوله: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا} تقدم نظيره في سبحان.
قوله: {لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا} جوابها محذوف، أي: لضللنا عن آلهتنا. قال الزمخشري: و «لولا» في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث الصيغة مجرى التقيد للحكم (المطلق) .
فصل
قال المفسرون: إن أبا جهل كان إذا مر بأصحابه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال مستهزءاً: «أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً» «إنْ كَادَ» قد كاد «لَيُضِلُّنَا» أي: قد قارب أن يضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها أي: (أي لو لم نصبر عليها) انصرافا عنها، {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} من أخطأ طريقاً. (واعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أتوا بنوعين من الأفعال. أحدهما: الاستهزاء، فيقولون: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} وذلك جهل عظيم، لأن الاستهزاء إما أن يكون بصورته أو بصفته والأول باطل، لأنه - عَلَيْهِ(14/537)
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أحسن منها صورة وخلقة) ، وبتقدير أنه لم يكن كذلك، لكنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان يدعي التميز عنهم بالصورة بل بالحجة. والثاني باطل، لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ادَّعى التميز عليهم بظهور المعجز عليه دونهم، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية، واستهزءوا بالرسول، وذلك يدل على (أنه ليس للمبطل في كل الأوقات) إلا السفاهة والوقاحة.
والنوع الثاني: قولهم: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} فَسَمُّوا ذلك ضلالاً، وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم، ويدل على جده واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان فلهذا قالوا: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} ، وذلك يدل على أنهم كانوا مقهورين بالحجة، ولم يكن في أيديهم إلا مجرد (الوقاحة) .
قوله: «من أضل» جملة استفهامية معلقة ب «يَعْلَمُون» فهي سادَّةٌ مسدّ مفعوليها إن كان على بابها، ومسدّ واحد إن كانت بمعنى (عرف) . ويجوز في «من» أن تكون موصولة، و «أَضَلَّ» خبر مبتدأ مضمر هو العائد على «من» تقديره: من هو أضل، وإنما حذف للاستطالة بالتمييز، كقولهم: ما أنا بالذي قائل لك سوءاً. وهذا ظاهر إن كانت متعدية لواحد، وإن كانت متعدية لاثنين فيحتاج إلى تقدير ثان ولا حاجة إليه.(14/538)
فصل
لما وصفوه بالإضلال في قولهم: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا} بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه، فقال: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ، وهذا وعيد شديد على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر.(14/539)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} الآية. «أَرَأَيْتَ» كلمة تصلح للإعلان والسؤال، وههنا تعجب ممن هذا وصفه ونعته.
وقوله: {مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} مفعولا الاتخاذ من غير تقديم ولا تأخير، لاستوائهما في التعريف. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم أخر «هَوَاهُ» والأصل قولك: اتخذ الهوى إلهاً. قلت: ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية (به) كما تقول: علمت منطلقاً زيداً لفضل عنايتك بالمنطلق.
قال أبو حيان: وادعاء القلب، يعني: أن التقديم ليس بجيد، لأنه من ضرائر الأشعار. قال شهاب الدين: قد تقدم فيه ثلاثة مذاهب، على أن هذا ليس من(14/539)
القلب المذكور في شيء إنما هو تقديم وتأخير فقط.
وقرأ ابنُ هُرمز «إِلاَهَةً هَوَاهُ» على وزن فعالة، والإِلهة بمعنى المَأْلُوه، والهاء للمبالغة ك «عَلاَّمَة وَنسَّابة) . و» إِلاَهَةً «مفعول ثاني قدم لكونه نكرة ولذلك صرف. وقيل: إلاهة هي الشمس، ورد هذا بأنه كان ينبغي أن يمتنع من الصرف للعلمية والتأنيث. وأجيب بأنها يدخل عليها (أل) كثيراً فلما نزعت منها صارت نكرة جارية مجرى الأوصاف. ويقال: أُلاهة بضم الهمزة للشمس وقرأ بعض المَدَنيِّين» آلِهَةً هَوَاهُ «جمعُ إله، وهو أيضاً مفعول مقدم وجمع باعتبار الأنواع، فقد كان الرجل يعبد آلهة شتى. ومفعول» أَرَأَيْتَ «الأول» مَنْ «والثاني الجملة الاستفهامية.
فصل
قال ابن عباس: الهوى إله يعبد. وقال سعيد بن جبير: كان الرجل من المشركين يعبد الحجر، فإذا رأى حجراً أحسن منه طرح الأول وأخذ الآخر وعبده. {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي: حافظاً تحفظه من اتباع هواه، أي لست كذلك، ونظيره: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] ، قال الكلبي: نسختها آية القتال. {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون} يسمعون ما تقول سماع طالب الإفهام، أو يعقلون ما يعاينون من الحجج والأعلام. و» أم «هنا منقطعة بعنى: بل. {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام} في عدم انتفاعهم بالكلام، وعدم تدبرهم، وتفكرهم، بل هم أضل سبيلاً لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها، وتَنْقَاد لأربابها التي تتعهدها، (وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرها، وقلوب الأنعام خالية عن العلم، وعن الاعتقاد الفاسد، وهؤلاء قلوبهم خالية عن العلم ومليئة من الاعتقاد والباطل، وعدم علم الأنعام لا يضر بأحد، وجهل هؤلاء منشأ للضرر العظيم، لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله، والبهائم لا تستحق عقاباً على عدم العلم، وهؤلاء يستحقون على عدم العلم أعظم العقاب) ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم، ولأن الأنعام تسجد وتسبح الله، وهؤلاء الكفار لا(14/540)
يفعلون فإن قيل: لم قال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ} فحكم بذلك على الأكثر دون الكل؟ فالجواب: لأنه كان فيهم من يعرف الله ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لحبّ الرياسة لا للجهل. فإن قيل: إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين، وكيف بعث الرسول إليهم، فإن من شرط التكليف العقل؟ فالجواب: ليس المراد أنهم لا يعقلون بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم: إنما أنت أعمى وأصم.(14/541)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} الآية. لما بين جهل المعرضين عن دلائل التوحيد، وبين فساد طريقهم ذكر أنواعاً من الدلائل الدالة على وجود الصانع، فأولها الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه، وتغير أحواله قوله: «ألم تر» فيه وجهان:
أحدهما: أنه من رؤية العين.
والثاني: أنه من رؤية القلب، يعني: العلم، فإن حملناه على رؤية العين، فالمعنى: أَلَمْ تَرَ إلى الظل كيف مده ربُّك، وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج، فالمعنى: ألم تعلم، وهذا أولى، لأن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث أن كل مبصر فله مؤثر، فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه. وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للرسول فهو عام في المعنى، لأن المقصود بيان نعم الله تعالى بالظل، وجميع المكلفين مشتركون في تنبيههم لهذه النعمة و «كَيْفَ» منصوبة ب «مَدَّ» ، وهي(14/541)
معلقة ل «تَرَ» فهي في موضع نصب، وقد تقدم القول في «أَلَمْ تَرَ» .
فصل
الظل عبارة عن عدم الضوء مما شأنه أن يضيء، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، جعله ممدوداً، لأنه ظل لا شمس معه، كما قال في ظل الجنة {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] إذ لم يكن معه شمس، {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس.
وقال أبو عبيدة: الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة، والفيء ما نسخ الشمس. سمي فيئاً، لأنه فاء من جانب المغرب إلى جانب المشرق، {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً} ، أي: على الظل دليلاً، ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرفت الظل، ولولا النور ما عرف الظلمة، والأشياء تُعْرَفُ بأضدادها.
قال الزمخشري: فإن قُلتَ: «ثم» في هذين الموضعين كيف موقعها قلت موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاث، كأن الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم منهما تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بينهما في الوقت.
قوله: «ثُمَّ قَبَضْنَاهُ» يعني: الظل {إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} بالشمس التي تأتي عليه، والقبض جمع المنبسط من الشيء، معناه: أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس قبض الله الظل جزءاً فجزءاً «قَبْضاً يَسِيراً» أي: خفياً، وقيل: المراد من قبضها يسيراً قبضها عند قيام الساعة، وذلك قبض أسبابها، وهي الأجرام التي تلقي الظلال. وقوله: «يَسِيراً» كقوله: {حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً} الآية. هذا هو النوع الثاني شبه الليل من حيث يستر الكل ويغطي باللباس الساتر للبدن، ونبه على (ما لنا فيه) من النفع(14/542)
بقوله: «والنَّوْمَ سُباتاً» والسبات: هو الراحة، أي: راحة لأبدانكم، وقطعاً لعملكم، وأصل السبت: القطع، والنائم مسبوت، لأنه انقطع عمله وحركته.
قال أبو مسلم: السبات: الراحة، ومنه يوم السبت، لما جرت به العادة من الاستراحة فيه، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت.
وقال الزمخشري: السبات: الموت، والمسبوت الميت، لأنه مقطوع الحياة، قال: وهذا كقوله: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل} [الأنعام: 60] . وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة، لأن النشور في مقابلته. {وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} قال أبو مسلم: هو بمعنى الانتشار والحركة، كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة فقال: {يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من الموت في التسمية بالنشور.
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَا} الآية. هذا هو النوع الثالث، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في الأعراف. {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} يعني: المطر، {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} قال الزمخشري: فإن قلت: إنزال الماء موصوفاً بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. قلت: لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصف بالطهارة إكراماً لهم، وتتميماً للمنّة عليهم.
وطهور: يجوز أن يكون صفة مبالغة منقولاً من ظاهر، كقوله تعالى: «شَرَاباً طَهُوراً» ، وقال:
3876 - إلى رُجَّحِ الأَكْفَالِ غِيدٌ مِنَ الصِّبَا ... عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ
وأن يكون اسم ما يتطهر به كالسحور لما يتسحَّر به، والفطور لما يتفطَّر به،(14/543)
قال عليه السلام في البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ» أراد به المطهر، فالماء مطهر، لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة، كما قال في آية أخرى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] فثبت أن التطهير مختص بالماء.
(وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور هو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة كالخل وماء الورد، والمرق، ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز رفع الحدث بها. وقال عليه السلام: «التّراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج» ولو كان معنى الطهور هو الطاهر لكان معناه التراب طاهر للمسلم، وحينئذ لا ينتظم الكلام، وكذا قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه أن يغسل سبعاً» ولو كان الطهور هو الطاهر لكان معناه: طاهر إناء أحدكم، وحينئذ لا ينتظم الكلام) .
ويجوز أن يكون مصدراً ك (القبول والولوع) .
وقوله: «لِنُحْيِيَ بِهِ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلق بالإنزال. والثاني: وهو صعب أنه متعلق ب (طهور) .
ووصف «بَلْدَةً» ب «مَيِّت» وهي صفة للمذكر، لأنها بمعنى البلد.
قوله: «وَنُسْقِيَهُ» العامة على ضمّ النون، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما وأبو حيوة وابن أبي عبلة بفتحها، وقد تقدم أنه قرئ بذلك في النحل والمؤمنون وتقدم الكلام (على ذلك) .(14/544)
قوله: «مِمَّا خَلَقْنَا» يجوز أن يتعلق «مِنْ» ب «نُسْقِيَهُ» ، وهي لابتداء الغاية، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من «أَنْعَاماً» ، ونكرت الأنعام والأناسي، (قال الزمخشري) : لأن علية الناس وجلهم مجتمعون بالأودية والأنهار، فيهم غنية عن سقي الماء وأعقابهم وهم كثير منهم لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا (سمائه) .
قوله: «وَأَنَاسِيَّ» فيه وجهان:
أحدهما: وهو مذهب سيبويه أنه جمع إنسان، والأصل إنسان، وأناسين، فأبدلت النون ياء، وأدغمت فيها الياء قبلها نحو ظربان وظرابي.
والثاني: وهو قول الفراء والمبرد والزجاج أنه جمع إنسي. وفيه نظر، لأن فعالي إنما يكون جمعاً لما فيه ياء مشددة لا تدل على نسب نحو كرسي وكراسي، فلو أريد ب (كرسي) النسب لم يجز جمعه على كراسي، ويبعد أن يقال: إن الياء في(14/545)
إنْسِيّ ليست للنسب، وكان حقه أن يجمع على (أناسية) نحو مهالبة في المهلبي، وأزارقة في الأزرقي. وقرأ يحيى بن الحارث الذماري والكسائي في رواية «وأناسِيَ» بتخفيف الياء. قال الزمخشري: بحذف ياء أفاعيل، كقولك (أناعم في أناعيم) . قال الزمخشري: فإن قلت: لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي. قلت: لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم، ولأنهم إذا ظفروا بسقيا أرضهم، وسقي أنعامهم لم يعدموا سقياهم فإن قيل: لم خص الإنسان والأنعام هاهنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء؟ فالجواب: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام، لأن حوائج الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الإنعام عليهم (بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم) بسقيهم. وقال: «أَنَاسِيَّ كَثيراً» ولم يقل: كثيرين، لأنه قد جاء فعيل مفرداً ويراد به الكثرة كقوله: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان: 38] {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] .(14/546)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ» في هذه الهاء ثلاثة أوجه:
أحدها: قال الجمهور: إنها ترجع إلى المطر، ثم هؤلاء قال بعضهم: (المعنى صرفنا نزول الماء من وابل، وطل وجود وطشّ، ورذاذ، وغير ذلك.(14/546)
وقال بعضهم) : «صَرَّفْنَاهُ» أي: أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات وأنواع المعاش به. وقال آخرون: معناه: أنه تعالى ينزله في مكان (دون مكان) في عام ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول، قال ابن عباس: ما عام بأكثر من عام، ولكن الله يصرفه في الأرض. ثم قرأ هذه الآية.
وروى ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «ما من عام بأمطر من عام ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي» .
الثاني: قال أبو مسلم: الضمير راجع إلى المطر والسحاب والإظلال وسائر ما ذكره الله من الأدلة.
الثالث: أي هذا القول صرفناه بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل، وهو ذكر إنشاء السحاب، وإنزال المطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع.
وقرأ عكرمة: «صَرَفْنَاهُ» بتخفيف الراء. وقيل: التصريف راجع إلى الريح.
«ليذكروا» ويتفكروا في قدرة الله تعالى {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} جحوداً، وكفرانهم هو أنهم إذا أمطروا قالوا: أُمْطرنا بنوء كذا، روى زيد بن خالد الجهني قال: «صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال:» هل تدرون ما قال ربكم «قالوا: الله ورسوله أعلم» قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي وكافر بالكواكب، وأما من قال: مُطِرْنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب «.
فصل
قال الجبائي: قوله:» لِيَذَّكَّرُوا «يدل على أنه تعالى يريد من الكل أن يذكروا ويشكرو، ولو أراد أن يكفروا أو يعرضوا لما صح ذلك، وذلك يبطل قول من قال: إن(14/547)
الله مريد لكفر من يكفر قال: ودلَّ قوله: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} على قدرتهم على فعل هذا التذكر؛ إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال: أبوا أن يفعلوه، كما لا يقال في الزمن أبى أن يسعى.
وقال الكعبي: قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} (حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين، وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا، لأن قوله:» ليذَّكَّروا «) عامّ في الكل، وقوله تعالى: {أَكْثَرُ الناس} يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلاً في ذلك العام، لأنه لا يجوز أن يقال أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفوراً.
والجواب قد تقدم مراراً.
قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} رسولاً ينذرهم، والمراد من ذلك تعظيم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وجوه:
أحدها: أنه تعالى بين أنه مع القدرة على بعثه نذيراً ورسولاً في كل قرية خصه بالرسالة وفضّله بها على الكل، ولذلك أتبعه بقوله: {فَلاَ تُطِعِ الكافرين} أي: لا توافقهم.
وثانيها: المراد: ولو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة إلى كل العالمين و {لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} ولكنا قصرنا الأمر عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل، فقابل هذا الإجلال بالتشدُّد في الدين.
وثالثها: أن الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف، لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية نذيراً مثل محمد، وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى محمد البتة.
وقوله: «ولَوْ شِئْنَا» يدل على أنه تعالى لا يفعل ذلك. والمعنى: ولكن بعثناك إلى القُرَى كلها وحمَّلناك ثقل نذارة جميعها لتستوجب بصبرك عليه ما أعتدنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة. {فَلاَ تُطِعِ الكافرين} فيما يدعونك إليه من موافقتهم وهذا يدل على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلاً به.
قوله: «وَجَاهِدْهُمْ بِهِ» أي: بالقرآن، أو بترك الطاعة المدلول عليه بقوله: «فَلاَ تُطِع» ، أو بما دل عليه {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} من كونه نذير كافة القرى، أو بالسيف.
والأقرب الأول؛ لأن السورة مكية، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان، فالمراد بذل الجهد في الدعاء جهاداً كبيراً شديداً.(14/548)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين} الآية. هذا النوع الرابع. في «مَرَجَ» قولان:
أحدهما: بمعنى خلط ومرج، ومنه مرج الأمر أي: اختلط قاله ابن عرفة.
وقيل: «مرج» أجرى، وأمرج لغة فيه.
(و) قيل: مرج لغة الحجاز، وأمْرَجَ لغة نجد، وفي كلام بعض الفصحاء: بحران أحدهما بالآخر مَمْرُوج، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج. وقيل: أرسلهما في مجاريهما وخلاَّهما كما ترسل الخيل في المرج قاله ابن عباس.
وأصل المرج الخلط والإرسال يقال: مرجت الدابة وأمرجتها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء.
قوله {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} هذه الجملة لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لسؤال مقدر كأن قائلاً قال: كيف مرجهما؟ قيل: هذا عذب وهذا ملح.
ويجوز على ضعف أن تكون حالية. والفرات: المبالغ في الحلاوة، والتاء فيه أصلية لام الكلمة، ووزنه فعال. وبعض العرب يقف عليها هاء، وهذا كما تقدم في التابوت. ويقال: سمي الماء الحلو فراتاً، لأنه يفرت العطش أي: يشقه ويقطعه والأُجاج: المبالغ في الملوحة، وقيل: في الحرارة، وقيل في المرارة. وهذا من أحسن المقابلة، حيث قال تعالى: {عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} وأنشد بعضهم:(14/549)
3877 - فَلاَ واللَّهِ لاَ أَنْفَكُّ أَبكي
(إلى أَنْ نَلْتَقِي شُعْثاً عُراتَا)
أَأُلْحَى إنْ نَزَحْتُ أُجَاجَ عَيْنِي ... عَلَى جَدَثٍ حَوَى العَذْبَ الفُرَاتَا
ما أحسن ما كنى عن دمعه بالأجاج، وعن المبكي عليه بالعذب الفرات وكان سبب إنشاد هذين البيتين أن بعضهم لحن قائلهما في قوله: عراتا. كيف يقف على تاء التأنيث المنونة بالألف؟ فقيل له: إنها لغة مستفيضة يجعلون التاء كغيرها فيبدلون تنوينها بعد الفتح ألفاً، حكي عن العرب أكلت تمرتاً نحو أكلت زيتاً. وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي «مَلِح» بفتح الميم وكسر اللام، وكذا في سورة فاطر، وهو مقصور من (مالح) كقولهم: برد في بارد، قال:
3878 - وَصِلْيانا بَرِدا ... وماء مالح لغة شاذة. وقال أبو حاتم: هذه قراءة منكرة.
قوله: «بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً» يجوز أن يكون الظرف متعلقاً بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «بَرْزَخاً» .
والأول أظهر. ومعنى «بَرْزَخاً» أي: حاجزاً بقدرته لئلا يختلط أحدهما بالآخر.(14/550)
قوله: «وَحِجْراً مَحْجُوراً» الظاهر عطفه على «برزخاً» .
وقال الزمخشري: (فإن قلت: «حِجْراً مَحْجُوراً» ) ما معناه؟ قلت هي الكلمة التي يقولها المتعوّذ، وقد فسرناها، وهي هنا واقعة على سبيل المجاز، كأن واحداً من البحرين يقول لصاحبه: حجراً محجوراً كأنه يتعوذ من صاحبه ويقول له: حجراً محجوراً. كما قال: «لا يبغيان» . وهي من أحسن الاستعارات.
فعلى ما قاله يكون منصوباً بقول مضمر.
فإن قيل: لا وجود للبحر العذب، فكيف ذكره الله تعالى هنا؟ لا يقال: هذا مدفوع من وجهين:
أحدهما: أن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون.
الثاني: لعله حصل في البحار موضع يكون أحد جانبيه عذباً والآخر ملحاً، لأنا نقول: أما الأول فضعيف، لأن هذه الأودية ليس فيها ماء ملح، والبحار ليس فيها ماء عذب، فلم يحصل البتة موضع التعجب وأما الثاني فضعيف؛ لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوماً، وأما بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال.
فالجواب: أنا نقول: المراد من البحر العذب هذه الأودية ومن البحر الأجاج البحار الكبار. {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} أي: حائلاً من الأرض، ووجه الاستدلال هاهنا أن العذوبة والملوحة إن كانت بسبب طبيعة الأرض والماء، فلا بد من الاستواء، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة. ويمكن الجواب بطريق آخر، وهو أنا رأينا نيل مصر داخلاً في بحر ملح أبيض لونه مغاير للون بحر الملح، ولا يختلط به ويؤخذ منه ويشرب.(14/551)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً} الآية.
هذا نوع خامس، وفي هذا الماء قولان:
أحدهما: أنه النطفة، والثاني: أنه الماء الذي تسقى به الأرض فيتولد منه الأغذية، ويتولد من الأغذية النطفة، كما تقدم في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .(14/551)
قوله: «مِنَ المَاءِ» يجوز أن يكون متعلقاً ب «خَلَقَ» وأن يتعلق بمحذوف حالاً من ماء، و «مِنْ» لابتداء الغاية، أو للتبعيض.
قوله: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} أي: جعله ذا نسب وصهر قال الخليل: لا يقال لأهل بيت المرأة إلا الأصهار، ولا لأهل بيت الرجل إلا أختان. قال: ومن العرب من يطلق الأصهار على الجميع. وهذا هو الغالب.
وقيل: النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه، والنسب ما يوجب الحرمة، والصهر ما لا يوجبها. والصحيح أن النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح، وقد تقدم أن الله تعالى حرم بالنسب سبعاً وبالسبب سبعاً في قوله عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} حيث خلق من النطفة نوعين من البشر الذكر والأنثى.(14/552)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الآية. لما ذكر دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم فقال «وَيَعْبُدُونَ» أي: هؤلاء المشركون {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ} إن عبدوه «وَلاَ يَضرُّهُمْ» إن تركوه، {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً} أي: معيناً للشيطان على ربه بالمعاصي. قال الزجاج: يعاون الشيطان على معصية الله، لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان. فإن قيل كيف يصح في الكافر أن يكون معاوناً للشيطان على ربه بالعداوة. فالجواب أنه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله فقال: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله} [الأحزاب: 57] . وقيل: معناه: وكان الكافر على ربه هيناً ذليلاً، كما يقول الرجل لمن يستهين به: جعلني بظهر، أي: جعلني هيناً، ويقال: ظهرت به: إذا جعلته خلف ظهرك، كقوله: {واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92] .(14/552)
قال أبو مسلم: وقياس العربية أن يقال: مظهوراً، أي: مستخف به متروك وراء الظهر، فقيل فيه: ظهير بمعنى مظهور، ومعناه: هين على الله أن يكفر الكافر، وهو تعالى مستهين بكفره.
والمراد بالكافر قيل: أبو جهل، لأن الآية نزلت فيه. والأولى حمله على العموم لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ. قيل: ويجوز أن يريد بالظهير الجماعة كقوله: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] كالصديق والخليط، فعلى هذا يكون المراد بالكافر الجنس، وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور الله قال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} [الأعراف: 202] .
قوله: «عَلَى رَبِّهِ» يجوز أن يتعلق ب «ظَهِيراً» ، وهو الظاهر، وأن يتعلق بمحذوف على أنه خبر «كان» و «ظهيراً» حال، والظهير المعاون.
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} أي: منذراً، ووجه تعلقه بما تقدم أن الكفار يطلبون العون على الله ورسوله والله تعالى بعث رسوله لنفعهم، لأنه بعثه ليبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية، فيستحقوا الثواب، ويحترزوا عن العقاب فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرع جهده في إصلاح مهماته ديناً ودنياً، ولا يسألهم على ذلك ألبتة أجراً.
قوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ} فيه وجهان:
أحدهما: وهو منقطع، أي: لكن من يشاء {أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} فليفعل.
والثاني: أنه متصل على حذف مضاف، يعني: إلا أجر من، أي: الأجر الحاصل على دعائه إلى الإيمان وقبوله، لأنه تعالى يأجرني على ذلك. حكاه أبو حيان وفيه نظر، لأنه لم يسند السؤال المنفي في الظاهر إلى الله تعالى إنما أسنده إلى المخاطبين فكيف يصح هذا التقدير.
فصل
المعنى: ما أسألكم على تبليغ الوحي من أجر، فتقولوا إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه.(14/553)
وقوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} استثناء منقطع معناه: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً بإنفاق ماله في سبيله فعل ذلك.
والمعنى: لا أسألكم لنفسي أجراً، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته.
قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} الآية. لما تبين أن الكفار يتظاهرون على إيذائه، وأمره أن لا يطلب منهم أجراً، أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار، وفي جلب جميع المنافع، وإنما قال: {عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} ، لأن من توكل على الحي الذي يموت فإذا مات المتوكَّل عليه صار المتوكِّل ضائعاً، وأما الله تعالى فهو حي لا يموت فلا يضيع المتوكِّل عليه.
«وَسَبِّحْ بَحَمْدِهِ» قيل: المراد بالتسبيح الصلاة. وقيل: قل سبحان الله والحمد لله. {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} عالماً، وهذه كلها يراد بها المبالغة، يقال كفى بالعلم جمالاً، وكفى بالأدب مالاً وهو بمعنى حسبك، أي لا يحتاج معه إلى غيره، لأنه خبير بأحوالهم قادرٌ على مكافأتهم وهذا وعيد شديد.(14/554)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
قوله تعالى: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض} الآية. لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور منها: أنه حي لا يموت، وأنه عالم بجميع المعلومات بقوله {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 58] ومنها أنه قادر على كل الممكنات، وهو قوله: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض} وهذا متصل بقوله: {الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] لأنه سبحانه لما كان خالقاً للسموات والأرض ولكل ما بينهما ثبت أنه القادر على جميع المنافع ودفع المضار، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه. و «الَّذِي خَلَقَ» يجوز أن يكون مبتدأ، و «الرَّحْمَنُ» خبره، وأن يكون خبر مبتدأ مقدر، أي: هو الذي(14/554)
خلق، وأن يكون منصوباً بفعل مضمر، وأن يكون صفة للحي الذي لا يموت، أو بدلاً، أو بياناً هذا على قراءة «الرَّحْمَنُ» بالرفع ومن قرأه بالجر فيتعين أن يكون «الَّذِي خَلَقَ» صفة للحي فقط.
قوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} فيه سؤال، وهو أن الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات فقيل السموات لاً أيام، فكيف قال: خلقها في ستة أيام؟
والجواب: في مدة مقدارها (هذه المدة) ، لا يقال: الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدماً محضاً بل لا بد وأن يكون موجوداً فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان، لأنا نقول: هذا معارض بنفس الزمان، لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل بخمسة أيام والمدة المتوهمة المحتملة لخمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى، فلما لم يلزم من هذا قدم الزمان لم يلزم ما قلتموه، وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولاً ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام. وقيل: في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة. وهو بعيد، لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول. فإن قيل: لم قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار؟
فالجواب على قول أهل السنة المشيئة والقدرة كافية للتخصيص، وقالت المعتزلة: لا بد وأن يكون من حكمة وهو أن التخصيص بهذا المقدار أصلح، وهذا بعيد لوجهين:
الأول: أن حصول تلك الحكمة إما أن يكون واجباً لذاته أو جائزاً، فإن كان واجباً وجب أن لا يتغير فيكون حاصلاً في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سبباً لزمان معين، وإن كان جائزاً افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر، ولزم التسلسل.
والثاني: أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعوراً به كيف يقدح في حصول المصالح.(14/555)
واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة، فإنه بحر لا ساحل له، كتقدير ملائكة النار بتسعة عشر، وحملة العرش بثمانية، والسموات بالسبع، وعدد الصلوات، ومقادير النصب في الزكوات، وكذا في الحدود، والكفارات، فالإقرار بكل ما قال الله حق هو الدين، والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء، وقد نص الله على ذلك في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} [المدثر: 31] ثم قال: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] ، وهو الجواب أيضاً في أنه لِمَ لَمْ يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك. وعن سعيد بن جبير: إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت. وقيل: ثم خلقها في يوم الجمعة فجعله الله عيداً للمسلمين.
قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} لا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة؛ لأن أوصاف الله لم تزل، فلا يصح دخول «ثُمَّ» فيه. ولا على الاستقرار، لأنه يقتضي التغيير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب، وكل ذلك على الله محال، بل المراد أنه خلق العرش ورفعه.
فإن قيل: يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} [هود: 7] .
فالجواب: كلمة «ثُمَّ» ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات.
قوله: «الرَّحْمَنُ» قرأ العامة بالرفع، وفيه أوجه:
أحدها: أنه خبر «الَّذِي» ، أو خبر مبتدأ مضمر، أي: الرحمن، ولهذا أجاز الزجاج وغيره الوقف على العرش ثم يبدأ الرحمن، أي: هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له، أو يكون بدلاً من الضمير في «استوى» أو يكون مبتدأ وخبره(14/556)
الجملة من قوله «فَاسْأَلْ» على رأي الأخفش كقوله:
3879 - وَقَائِلَةٍ خوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... أو يكون صفة الذي خلق، إذا قلنا: إنه مرفوع.
وقرأ زيد بن علي «الرَّحْمَنِ» بالجر فيتعين أن يكون نعتاً للذي خلق و «الَّذِي خَلَقَ» صفة للحي فقط، لئلا يفصل بين النعت ومنعوته بأجنبي.
قوله: «فَاسْأَلْ بِهِ» في الباء قولان: أحدهما: هي على بابها، وهي متعلقة بالسؤال، والمراد ب «الخَبِير» الله تعالى، ويكون من التجريد، كقولك: لقيت به أسداً والمعنى فاسأل الله الخبير بالأشياء.
قال الزمخشري: أو فاسأل بسؤاله خبيراً كقولك: رأيت به أسداً، أي برؤيته انتهى. قال الكلبي: فاسأل خبيراً به، فقوله: «به» يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والاستواء على العرش، والباء من صلة الخبير، وذلك الخبير هو الله تعالى؛ لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق السموات والأرض، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى، ف «خَبِيراً» مفعول «اسْأَل» على هذا، أو منصوب على الحال المؤكدة، واستضعفه أبو البقاء.
قال: ويضعف أن يكون «خَبِيراً» حالاً من فاعل «اسْأَلْ» ؛ لأن «الخبير» لا يسأل إلا على جهة التوكيد كقوله: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً} [البقرة: 91] . ثم قال: ويجوز أن يكون حالاً من «الرَّحْمَنُ» إذا رفعته ب «اسْتَوَى» . والثاني: أن تكون الباء بمعنى «عن» إما مطلقاً وإما مع السؤال خاصة كهذه الآية الكريمة، وكقول علقمة بن عبدة:(14/557)
3880 - فإنْ تَسَْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
والضمير في «به» لله تعالى، و «خَبِيراً» من صفات الملك وهو جبريل قال ابن عباس: إن ذلك الخبير هو جبريل - عليه السلام - وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم وهو قول الزجاج والأخفش. ويجوز على هذا أي: كون «خَبِيراً» من صفات جبريل، أن تكون الباء على بابها، وهي متعلقة ب «خبير» كما تقدم، أي: فاسأل الخبراء به.
وقال ابن جرير: الباء في «بِهِ» صلة، والمعنى: فاسأله خبيراً و «خَبِيراً» نصب على الحال. وقيل: قوله: «بِهِ» يجري مجرى القسم كقوله: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ} [النساء: 1] .
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن} الآية. قال أكثر المفسرين: الرحمن اسم من أسماء الله مكتوب في الكتب المتقدمة والعرب ما عرفوه.
قال مقاتل: «إن أبا جهل قال: إن الذي يقول محمد شعر، فقال عليه السلام:» الشعر غير هذا إن هذا إلا كلام الرحمن «، فقال أبو جهل: بخ بخ لعمري والله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة هو يعلمك، فقال عليه السلام:» الرحمن الذي في السماء ومن عنده يأتيني الوحي «، فقال: يا أبا غالب من يعذرني من محمد يزعم أن الله واحد وهو يقول: الله يعلمني والرحمن، ألستم تعلمون أنهما إلهان» قال القاضي: والأقرب أن مرادهم إنكار الله لا الاسم، لأن هذه اللفظة عربية وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام، ثم إن قلنا: إنهم كانوا منكرين (لله كان قولهم) : «وَمَا الرَّحْمَن» سؤال عن الحقيقة كقول فرعون: {وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] ، وإن قلنا: إنهم كانوا مقرين بالله لكنهم جهلوا كونه تعالى مسمى بهذا الاسم كان قولهم «وَمَا الرَّحْمَن» سؤال عن هذا الاسم.(14/558)
قوله: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} قرأ الأخوان بياء الغيبة، يعنون محمداً كأن بعضهم قال لبعض: أنسجد لما يأمرنا محمدٌ أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو.
والباقون بالخطاب، يعني لما تأمرنا أنت يا محمد.
و «ما» يجوز أن يكون بمعنى (الذي) ، والعائد محذوف لأنه متصل؛ لأن (أمر) يتعدى إلى الثاني بإسقاط الحرف، ولا حاجة إلى التدرج الذي ذكره أبو البقاء وهو أن الأصل: لما تأمرنا بالسجود له، ثم بسجوده، ثم تأمرناه، ثم تأمرنا، كذا قدره، ثم قال: هذا على مذهب أبي الحسن وأما على مذهب سيبويه فحذف ذلك من غير تدريج. قال شهاب الدين: وهذا ليس مذهب سيبويه. ويجوز أن تكون موصوفة، والكلام في شهاب الدين: وهذا ليس مذهب سيبويه. ويجوز أن تكون موصوفة، والكلام في عائدها موصوفة كهي موصولة ويجوز أن تكون مصدرية، وتكون اللام للعلة، أي: أنسجد من أجل أمرك وعلى هذا يكون المسجود له محذوفاً، أي: أنسجد للرحمن لما تأمرنا، وعلى هذا لا تكون «ما» واقعة على العالم، وفي الوجهين الأوليين يحتمل ذلك وهو المتبادر للفهم.
قوله: «وَزَادَهُمْ نُفُوراً» قول القائل لهم اسجدوا للرحمن. نفوراً عن الدين والإيمان. ومن حقه أن يكون باعثاً على الفعل والقبول، قال الضحاك: سجد الرسول وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعثمان بن مظعون وعمرو بن عنبسة، ولما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين من هذا، وهو المراد من قوله «وَزَادَهُمْ نُفُوراً» أي: فزادهم سجودهم نفوراً.(14/559)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً} الآية.
لما حكى مزيد نفور الكفار عن السجود، وذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن فقال: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً} تقدم القول في «(14/559)
تَبَارَكَ» ، قال الحسن ومجاهد وقتادة ورواية عن ابن عباس البروج هي النجوم الكبار سميت بروجاً لظهورها، لأن اشتقاق البرج من التبرج وهو الظهور.
وقال عطية العوفي: البروج هي القصور العالية، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها، وهذا أولى لقوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا} أي: في البروج فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون قوله «فيها» راجعاً إلى السماء دون البروج؟
فالجواب: لأن البروج أقرب، فعود الضمير إليها أولى.
وروى عطاء عن ابن عباس: هي البروج الاثنا عشر.
قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} . قرأ الجمهور بالإفراد، والمراد به الشمس لقوله تعالى: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} [نوح: 16] ، ويؤيده أيضاً ذكر القمر بعده. والأخوان «سُرُجاً» بضمتين جمعاً نحو حُمُر في حِمَار، وجمع باعتبار الكواكب النيرات، وإنما ذكر القمر تشريفاً له كقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بعد انتظامهما في الملائكة. وقرأ الأعمش والنخعي وعاصم في رواية عصمة «وقُمْراً» بضمة وسكون وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْرَاء، والمعنى: وذا ليال قمر منيراً، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ثم التفت إلى المضاف بعد حذفه فوصفه تمييزاً، ولو لم يعتبره لقال: منيرة، ونظير مراعاته بعد حذفه قول حسان:
3881 - يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عَلَيْهِمْ ... بَرَدَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ(14/560)
الأصل: ماء بردى، فحذفه ثم راعاه في قوله: (يصفق) بالياء من تحت ولو لم يكن ذلك لقال: تصفق بالتاء من فوق على أن بيت حسان يحتمل أن يكون كقوله:
3882 - وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَها ... مع أن ابن كيسان يجيزه سعة.
وقال بعضهم: لا يبعد أن يكون القُمْر بمعنى القَمَر كالرُّشد والرَّشد.
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} الآية.
في «خِلْفَةً» وجهان: أحدهما: أنه مفعول ثان. والثاني: أنه حال بحسب القولين في «جعل» . و «خلفة» يجوز أن تكون مصدراً من خلفه يخلفه إذا جاء مكانه، وأن يكون اسم هيئة منه كالرّكبة، وأن يكون من الاختلاف.
كقوله:
3883 - وَلَهَا بِالمَاطِرُونِ إذَا ... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا
خِلْفَةً حَتَّى إذَا ارْتَبَعتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا
في بُيُوتٍ وَسْطَ دَسْكرةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا
ومثله قوله زهير:
3884 - بِهَا العِيْنُ والآرامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وأفرد «خِلْفَةً» قال أبو البقاء: لأن المعنى يخلف أحدهما الآخر، فلا يتحقق هذا إلا منهما.
قال ابن عباس: جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه،(14/561)
فمن فرط في عمل في أحدهما قضاه في الآخر، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال فاتتني الصلاة الليلة فقال: أدرك ما فاتتك من ليلتك في نهارك فإن الله عَزَّ وَجَلَّ جعل الليل والنهار خلفة.
وقال مجاهد وقتادة والكسائي: يقال لكل شيئين اختلفا: هما خلفان، فقوله: «خلفة» أي مختلفين، هذا أسود، وهذا أبيض، وهذا طويل، وهذا قصير. والأول أقرب.
{لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} قراءة العامة بالتشديد، وقرأ حمزة بالتخفيف، وعن أبيّ بن كعب «يتذكر» . والمعنى: لينظر الناظر في اختلافهما، فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال، من ناقل ومغير فيتعظ.
{أو أراد شكوراً} قال مجاهد: أي شكر نعمة ربه عليه فيها. والشُّكُور بالضم مصدر شَكَرَ شُكُوراً بمعنى الشُّكر، وبالفتح صيغة مبالغة.(14/562)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ} {عِبَادُ الرحمن} رفع بالابتداء، وفي خبره وجهان:
أحدهما: الجملة الأخيرة في آخر السورة «أُولَئِكَ يُجْزَونَ» ، وبه بدأ الزمخشري و «الَّذِينَ يَمْشُونَ» وما بعده صفات للمبتدأ.
والثاني: أن الخبر «يَمْشُونَ» . والعامة على «عِبَادِ» ، [واليمانيّ بضم العين وتشديد الباء جمع عابد، والحسن «عُبُد» بضمتين.(14/562)
والعامة «يَمْشُون» بالتخفيف مبنياً للفاعل] ، واليماني والسلمي بالتشديد مبنياً للمفعول.
فصل
هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل وإلا فالخلق كلهم عباد الله.
قوله: «هَوْناً» إما نعت مصدر، أي: مشياً هوناً، وأما حال أي: هَيِّنينَ، والهون: اللين والرفق، أي يمشون بالسكينة والوقار متواضعين، ولا يضربون بأقدامهم أشراً وبطراً ولا يتبخترون خيلاء. وقال الحسن: علماء حكماء.
وقال محمد ابن الحنفية: أصحاب وقار وعفّة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا {وإذا خاطبهم الجاهلون} يعني السفهاء بما يكرهونه «قَالُوا سَلاَماً» . قال مقاتل: قولاً يسلمون فيه من الإثم. وقيل: المعنى: لا نجاهلكم. وقيل: المراد حلمهم في مقابلة الجهل. وقال الأصم: «قَالُوا سَلاَماً» أي: سلام توديع لا محبة، كقول إبراهيم - عليه السلام - لأبيه: «سَلاَمٌ عَلَيْكَ» .
قال الكلبي وأبو العالية: نسختها آية القتال.
قوله: «سَلاَماً» يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر أي: نسلم سلاماً أو نسلم تسليماً منكم لا نجاهلكم فأقيم السلام مقام التسليم، ويجوز أن ينتصب على المفعول به، أي: قالوا هذا اللفظ، قال الزمخشري: أي قالوا سداداً من القول يسلمون فيه من الأذى، والمراد سلامتهم من السفه، كقوله:
3885 - أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
ورجح سيبويه أن المراد بالسلام السلامة لا التسليم، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط(14/563)
بالتسليم على الكفرة، وإنما أمروا بالمسالمة، ثم نسخ ذلك، ولم يذكر سيبويه نسخاً إلا في هذه الآية.
قوله: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} . لما ذكر وصفهم بالنهار من وجهين:
أحدهما: ترك الإيذاء بقوله: {يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} .
والثاني: تحمل الإيذاء بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} شرح صفتهم في الليل. قال الزجاج: كل من أدركه الليل قيل: بات وإن لم ينم كما يقال: بات فلان قلقاً. والمعنى يبيتون لربهم سجداً على وجوههم، وقياماً على أقدامهم قال ابن عباس: من صلى بعد العشاء ركعتين فقد بات ساجداً وقائماً. وروى عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة» .
قوله: «سُجَّداً» خبر «يَبِيتُون» ، ويضعف أن تكون تامة.
أي: دخلوا في البيات، و «سُجَّداً» حال و «لِرَبِّهِمْ» متعلق ب «سُجَّداً» . وقدم السجود على القيام وإن كان بعده في الفعل، لاتفاق الفواصل. و «سُجَّداً» جمع ساجد كضُرَّاب في ضارب.
وقرأ أبو البرهسيم «سُجُوداً» بزنة قعود، ويبيت هي اللغة الفاشية، وأزد السَّراة وبجيلة يقولون: يبات، وهي لغة العوام اليوم.
قوله: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} . قال ابن عباس: يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول.
قوله: «غَرَاماً» أي: لازماً دائماً، وعن الحسن: كل غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنم. وأنشد بشر بن أبي خازم:(14/564)
3886 - وَيَومَ النِّسَار وَيَوْمَ الجِفَا ... رِ كَانَا عَذَاباً وَكَانَ غرَاما
وقول الأعشى:
3887 - إن يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَاماً وإن يُعْ ... طِ جَزِيلاً فإنَّهُ لاَ يُبَالِي
ف (غَرَاماً) بمعنى شر لازم، وقيل: خسراناً ملحّاً لازماً، ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه، ويقال: فلان مغرم بالنساء، إذا كان مولعاً بهن، وسأل ابن عباس نافع بن الأزرق عن الغرام فقال: هو الوجع.
قوله: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} . يجوز أن تكون «ساءت» بمعنى أحزنت، فتكون متصرفة ناصبة المفعول، وهو هنا محذوف، أي: أنها يعني جهنم أحزنت صحابها و «مُسْتَقرًّا» يجوز أن تكون تمييزاً وأن تكون حالاً.
ويجوز أن تكون «سَاءَتْ» بمعنى بئست، فتعطي حكمها، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً، وفي «ساءت» ضمير مبهم يفسره مستقر و «مستقراً» يتعين أن يكون تمييزاً، أي: سَاءَتْ هي، فهي مخصوص وهو الرابط بين هذه الجملة وبين مَا وَقَعَتْ خبراً عنه، وهو «إنَّها كذا قدَّره أبو حيان، وقال أبو البقاء:» مُسْتَقَرًّا «تمييز، و» سَاءَتْ «بمعنى بئْسَ. فإن قيل: يلزم من هذا إشكال، وذلك أنه يلزم تأنيث فعل الفاعل المذكَّر من غير مسوِّغ لذلك، فإنَّ الفاعل في» سَاءَتْ «على هذا يكون ضميراً عائداً على ما بعده، وهو» مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً «، وهما مذكران، فن أين جاء التأنيث؟
والجواب: أن المستقرَّ عبارة عن جهنَّم فلذلك جاز تأنيث فعله، ومثله قوله:(14/565)
3888 - أَوْ حُرَّةٌ عَيْطَلٌ ثَيْجَاءَ مُجْفَرَةٍ ... دَعَائِمَ الزَّوْرِ نِعْمَتْ زَوْرَقُ البَلَدِ
و» مُسْتَقرًّا وَمُقَاماً «قيل: مترادفان، وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما. وقيل: بل هما مختلفا المعنى، فالمستقرُّ للعصاة، فإنهم يخرجون، والمقام للكُفَّار فإنهم مخلدون. فإن قيل: إنهم سألوا الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين: إحداهما: أن عذابها كان غراماً. والثانية: أنها ساءت مستقراً ومقاماً فما الفرق بين الوجهين؟
فالجواب: قال المتكلمون: عقاب الكافر يجب أن يكون مضرّة خالصة عن شوائب النفع (دائمة، فقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} إشارة إلى كونه مضرّة خالصة عن شوائب النفع) وقوله: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} إشارة إلى كونه دائماً، فحصلت المغايرة.
وقرأت فرقة «مَقَاماً» بفتح الميم، أي: مكان قيام.
وقراءة العامة هي المطابقة للمعنى، أي: مكان إقامة وثُوِيٍّ.
وقوله: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً} يحتمل أن يكون من كلامهم، فتكون منصوبة المحل بالقول، وأن يكون من كلام الله تعالى.
قوله: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} .
قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء من يَقْتُرُوا، وابن كثير وأبو عمرو بالفتح والكسر، ونافع وابن عامر بالضم والكسر من أقتر، وعليه {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وأنكر أبو حاتم أقْتَرَ، وقال: لا يناسب هنا، فإن أَقْتَرَ بمعنى افتقر، ومنه {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وردَّ عليه بأن الأصمعي وغيره حكوا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّقَ. وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر(14/566)
التاء مشددة من قَتَّر بمعنى ضيَّق، وكلها لغات، والقَتْر والإقْتَار والتَّقْتير (التضييق الذي هو نقيض) الإسراف، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة.
فصل
المراد من الآية القصد بين الغلو والتقصير، كقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] . وسأل ابن الورد بعض العلماء ما البناء الذي لا سَرَف فيه؟ قال: ما سترك عن الشمس، وأكنَّك من المطر. وقال له ما الطعام الذي لا سرف فيه؟ فقال: ما سد الجوعة، وقال له في اللباس: ما ستر عورتك وأدفأك من البرد.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: الإسراف في النفقة في معصية الله تعالى، والإقتار: منع حق الله تعالى.
قال مجاهد: لو أنفق الرجل مثل (أبي) قبيس ذهباً في طاعة الله لم يكن مسرفاً. وأنشدوا:
3889 - ذِهَابَ المَالِ في حَمْدٍ وَأَجْرٍ ... ذِهَابٌ لاَ يُقَالُ لَهُ ذِهَابُ
وقيل: السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع وإن كان من حلال، لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء.(14/567)
قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} في اسم «كان» وجهان:
أشهرهما: أنه ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله «أَنْفَقُوا» . أي: وكان إِنْفَاقهم مستوياً قصداً لا إسرافاً ولا تقتيراً، وفي خبرها وجهان:
أحدهما: هو «قَوَاماً» و «بَيْنَ ذَلِكَ» إما معمول له، وإما ل «كان» عند من يرى إعمالها في الظرف، وإما المحذوف على أنه حال من «قَوَاماً» ، ويجوز أن يكون {بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ، خبرين ل «كان» عند من يرى ذلك، وهم الجمهور خلافاً لابن درستويه.
والثاني: أن الخبر «بَيْنَ ذَلِكَ» و «قَوَاماً» حال مؤكدة.
والثاني من الوجهين الأولين: أن يكون اسمها «بَيْنَ ذَلِكَ» وبُنِيَ لإضافته إلى غير متمكنٍ، و «قَوَاماً» خبرها قاله الفراء. قال الزمخشري: وهو من جهة الإعراب لا بأس به (ولكنه من جهة المعنى) ليس بقوي؛ لأن ما بين الإسراف والتقتير قَوامٌ لا محالة فليس في الخبر الذي هو مُعْتَمَدُ الفائدة فائدةٌ.
قال شهاب الدين: وهو يشبه قولك: كان سيِّد الجارية مالكها. قال ثعلب: القوام - بالفتح - (العدل والاستقامة، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر.
وقال الزمخشري: القوام) العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما، وبالكسر ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص. وقرأ حسان بن عبد الرحمن «قِوَاماً» يكسر القاف، فقيل: هما بمعنى، وقيل: بالكسر اسم ما يقام به الشيء وقيل: بمعنى سداداً وملاكاً.(14/568)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
قوله: {والذين لاَ يَدْعُونَ} الآية. قال ابن عباس: إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت هذه الآية، ونزل «يَا عِبَادِيَ» {الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} [الزمر: 53] وروي «أن رجلاً قال: يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله؟ قال:» أن تدعو لله نداً وهو خلقك «قال: ثم أي؟ قال:» ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك «قال: ثم أي؟ قال:» أن تُزَاني حليلة جارك «فأنزل الله تصديقها هذه الآية.
فإن قيل: إن الله تعالى ذكر أن من صفات عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل والزنا، فلو كان الترتيب بالعكس كان أولى؟ فالجواب: أن الموصوف بتلك الصفات السالفة قد يكون متمكناً بالشرك تديناً، ويقتل المولود تديناً، ويزني تديناً، فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يتجنب هذه الكبائر. وأجاب الحسن فقال: المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال: وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، وأنتم تدعون،» وَلاَ يَقْتُلُونَ «وأنتم تقتلون الموءودة،» وَلاَ يَزْنُونَ «وأنتم تزنون.
قوله:» إلاَّ بالحَقِّ «يجوز أن تتعلق الباء بنفس» يَقْتلُون «أي: لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، وأن تتعلق بمحذوف على أنها صفة للمصدر، أي: قَتْلاً مُلْتَبِساً بالحق، أو على أنها حال أي: إلاَّ مُلْتَبِسِينَ بالحق.(14/569)
فإن قيل: من حلَّ قتله لا يدخل في النفس المحرمة، فكيف يصحّ هذا الاستثناء فالجواب: أن المقتضي لحرمة القتل قائم أبداً، وجواز القتل إنما ثبت بمعارض، فقوله:» حَرَّمَ اللَّهُ «إشارة إلى المقتضي، وقوله:» إلاَّ بالحَقِّ «إشارة إلى المعارض والسبب المبيح للقتل هو الردة، والزنا بعد الإحصان، وقتل النفس المحرمة.
قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} هذه إشارة إلى جميع ما تقدم، لأنه بمعنى ما ذكر (فلذلك وحِّدَ) .
قوله:» يَلْقَ «قراءة العامة مجزوماً على جزاء الشرط بحذف الألف، وقرأ عبد الله وأبو رجاء» يَلْقَى «بإثباتها كقوله:» فلا تَنْسَى «على أحد القولين، وكقراءة {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} [طه: 77] في أحد القولين أيضاً، وذلك بأن نقدر علامة الجزم حذف الضمة المقدرة. وقرأ بعضهم» يُلَقَّ «بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقاه كذا. والأثام مفعول على قراءة الجمهور، ومفعول ثان على قراءة هؤلاء والأثام العقوبة، قال:
3890 - جَزَى اللَّهُ ابْنَ عُرْوَةَ حَيْثُ أَمْسَى ... عُقُوقاً وَالعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ
أي عقوبةٌ.
وقيل: هو الإثم نفسه، أي: يَلْقَ جَزَاءَ إثْمٍ. قال أبو مسلم: والأثام والإثم واحد، والمراد هاهنا جزاء الأثام، فأطلق اسم الشيء على جزائه.(14/570)
وقال الحسن: الأثام اسم من أسماء جهنم، وقال مجاهد: اسم وادٍ في جهنم وقيل: بئر فيها. وقرأ ابن مسعود: «أَيَّاماً» جمع يومٍ، يعني شدائد، والعرب تعبر عن ذلك بالأيَّام، يقال: يوم ذو أيام لليوم الصعب.
قوله: «يُضَاعَفْ» قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع «يُضَاعَف» و «يَخْلُدُ» على أحد وجهين: إمَّا الحال، وإمَّا على الاستئناف. والباقون بالجزم فيهما بدلاً من «يَلْقَ» بدل اشتمال، ومثله قوله:
3891 - مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا في دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تأَجَّجَا
فأبدل من الشرط كما أبدل هنا من الجزاء. وابن كثير وابن عامر على ما تقدم لهما في البقرة من القصر والتضعيف في العين. ولم يذكر أبو حيان ابن عامر مع ابن كثير وذكره مع الجماعة في قُرَّائهم. وقرأ أبو جعفر وشيبة «نُضَعِّف» بالنون مضمومة وتشديد العين، «العذَابَ» نصباً على المفعول به. وطلحة «يضاعف» مبنياً للفاعل، أي: الله «العذاب» نصباً، وطلحة بن سليمان «وتَخْلُد» بتاء الخطاب على الالتفات، وأبو حيوة «وَيُخَلَّد» مشدداً مبنياً للمفعول. وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنه بالتخفيف.(14/571)
و «مُهَاناً» حال، وهو اسم مفعول من أَهَانَهُ يُهِينُه، أي: أَذَلَّه وأَذَاقَهُ الهَوَانَ.
فصل
قال القاضي: بَيّن الله تعالى (أن) المضاعفة والزيادة يكون حالها في الزيادة كحال الأصل، فقوله: «وَيَخْلُد فِيهِ» أي: ويخلد في ذلك التضعيف، وذلك إنما حصل بسبب العقاب على المعاصي، فوجب أن يكون عقاب هذه المعاصي في حق الكافر دائماً، وإذا كان كذلك وجب أن يكون في حق المؤمن كذلك؛ لأن حاله فيما يستحق به لا يتغير سواء فعل مع غيره، أو منفرداً.
والجواب: لم لا يجوز أن يكون للإتيان بالشيء مع غيره أثر في مزيد القبح، ألا ترى أن الشيئين قد يكون كل واحد منهما في نفسه حسناً وإن كان الجميع قبيحاً، وقد يكون كل واحد منهما قبيحاً، ويكون الجمع بينهما أقبح. وسبب تضعيف العذاب أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك فيعذب على الشرك وعلى المعاصي، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام.
قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ} فيه وجهان:
أحدهما: وهو الذي لم يعرف الناس غيره: أنه استثناء متصل؛ لأنه من الجنس.
والثاني: أنه منقطع. قال أبو حيان: ولا يظهر، يعني الاتصال؛ لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب (فيصير التقدير: إلاَّ مَنْ تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَلاَ يُضَاعَفُ لَهُ العَذَابُ) ، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المُضَعَّف، فالأولى عندي أن يكون استثناءً منقطعاً، أي: لكن مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيّآتِهِمْ حَسَنَاتٍ وإذا كان كذلك فلا يلقى عذاباً ألبتة.
قال شهاب الدين: والظاهر قول الجمهور، وأمَّا ما قاله فلا يلزم إذ المقصود الإخبار بأنَّ من فعل كذا فإنه يحلُّ به ما ذكر إلا أن يتوب، وأمَّا إصابة أصل العذاب وعدمها فلا تعرُّض في الآية له. واعلم أن البحث الذي ذكره أبو حيان ذكره أيضاً ابن الخطيب فقال: دلت الآية على أن التوبة مقبولة، والاستثناء لا يدل على ذلك، لأنه أثبت أنه يضاعف له العذاب ضعفين، فيكفي لصحة الاستثناء أن لا يضاعف للتائب ضعفين،(14/572)
وإنما يدلّ عليه قوله: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} .
فصل
نقل عن ابن عباس أنه قال: توبة القاتل لا تقبل، وزعم أن هذه الآية منسوخة (بقوله تعالى) : {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} [النساء: 93] ، وقالوا: نزلت الغليظة بعد اللينة بمدة يسيرة، وعن الضحاك ومقاتل بثمان سنين، وتقدم في سورة النساء.
فإن قيل: العمل الصالح يدخل في التوبة والإيمان فذكرهما قبل العمل الصالح حَشْوٌ؟ فالجواب: أفردهما بالذكر لعلوّ شأنهما ولما كان لا بدَّ معهما من سائر الأعمال لا جرم ذكر عقيبهما العمل الصالح.
قوله: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} .
قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والسدي ومجاهد وقتادة: التبديل إنما يكون في الدنيا، فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيماناً، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا إحصاناً وعفة. وقيل: يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات.
قال الزجاج: السيئة بعينها لا تصير حسنةً، فالتأويل: أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة، والكافر يُحْبِطُ اللَّه عَمَلَهُ ويثبت عليه السَّيِّئَات.
قوله: «سَيِّئَاتِهِمْ» هو المفعول الثاني للتبديل، وهو المقيد بحرف الجر، وإنما حذف، لفهم المعنى، و «حسنات» هو الأول المسرح، وهو المأخوذ، والمجرور بالباء هو المتروك، وقد صرح بهذا في قوله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] وقال:
3892 - تَضْحَكُ مِنِّي أُخْتُ ذَاتِ النِّحْييْنِ ... أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِلَوْنِ لَوْنَيْنِ ...(14/573)
سَوَادَ وَجْهٍ وَبَيَاضَ عَيْنَيْنِ ... وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} [البقرة: 211] .
قوله: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً} الآية. قال بعض العلماء: هذا في التوبة عن غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا، أي: تاب من الشرك وأدى الفرائض ممن لم يقتل ولم يزن {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله} يعود إليه بعد الموت «مَتَاباً» حسناً يفضل على غيره ممن قتل وزنا. فالتوبة الأولى وهي قوله: «وَمَنْ تَابَ» رجوعٌ عن الشرك، والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
وقيل: هذه التوبة أيضاً عن جميع السيئات، ومعناه من أراد التوبة وعزم عليها فليتب لوجه الله، فقوله: {يَتُوبُ إِلَى الله} خبر بمعنى الأمر، أي: ليتب إلى الله، وقيل: معناه وليعلم أن توبته ومصيره إلى الله.
قوله(14/574)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به، أي: لا يحضرون الزُّور، وفسر بالصَّنم واللهو. وقال أكثر المفسرين: يعني: الشرك.
والثاني: أنه مصدر، والمراد شهادة الزُّور، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قاله علي بن أبي طالب.
وقال ابن جريج: الكذب. وقال مجاهد: أعياد المشركين. وقيل: النوح. وقال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم. وكل هذه الوجوه محتملة.
وأصل «الزُّور» : تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق.
قوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} أي: بأهله. قال مقاتل: إذا سمعوا من الكفار الشتم(14/574)
والأذى أعرضوا وصفحوا كقوله: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] .
وقال الحسن والكلبي: اللغو: المعاصي كلها مما يجب أن يلغى ويتر.
«مَرُّوا كِرَاماً» مسرعين معرضين، يقال: تكرّم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه.
قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} النفي متسلط على القيد، وهو الصمم والعمى، أي: إنَّهم يخرُّون عليها لكن لا على هاتين الصفتين.
قال الزمخشري: فقوله: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا} ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى، كما تقول: لا يلقاني زيد مسلماً. هو نفي للسلام لا للقاء، والمعنى: أنهم إذا ذكروا بها أكبّوا عليها حرصاً على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية ويبصرون بعيون واعية، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها مظهرين الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصُّمِّ والعميان حيث لا يفهمونها، ولا يبصرون ما فيها، وفيه تعريض بالمنافقين.
قوله(14/575)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} .
يجوز أن تكون «من» لابتداء الغاية، أي: هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح، وأن تكون للبيان، قاله الزمخشري وجعله من التَّجريد، أي: هب لنا قُرَّة أعْيُنٍ من أزواجنا كقولك رأيتُ مِنْكَ أسَداً.
وقرأ أبو عمرو والأخوان وأبو بكر «ذُرِّيَّتِنَا» بالتوحيد، والباقون بالجمع سلامة وقرأ أبو هريرة وأبو الدرداء وابن مسعود «قُرَّاتِ» بالجمع، وقال(14/575)
الزمخشري: أتى هنا ب «أَعْيُنٍ» صيغة القلة دون (عُيُونٍ) صيغة الكثرة، إيذاناً بأنَّ عيون المتقين قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم. وردَّه أبو حيان بأن أعيُناً يطلق على العشرة فما دونها، وعيون المتقين كثيرة فوق العشرة. وهذا تحمُّلٌ عليه، لأنَّه إنما أراد القلة بالنسبة إلى كثرة غيرهم، ولم يُرِدْ قَدْراً مخصوصاً.
فصل
أراد قرة أعين لهم في الدين لا في الدنيا من المال والجمال، قال الزجاج: يقال: أقرَّ الله عينك، أي: صادف فؤادك ما يحبه وقال المفضل: في قرة العين ثلاثة أقوال:
أحدها: برد دمعتها، وهي التي تكون مع السرور، ودمعة الحزن حارة.
الثاني: فرحها، لأنه يكون مع ذهاب الحزن والوجع.
الثالث: قال الأزهري: حصول الرضا.
قوله: {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} في «إمَاماً» وجهان:
أحدهما: أنه مفرد، وجاء به مفرداً إرادة للجنس، وجنسه كونه رأس فاصلة. (أو المراد: اجعل كل واحد منا إماماً. كما قال {نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: 5] .
قال الفراء: قال «إِمَاماً» ولم يقل: أئمة. كما قال للاثنين {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] . وقيل: أراد أئمة كقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77] ، وإمَّا لاتحادهم واتفاق كلمتهم، وإمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصل كصيام وقيام.
الثاني: أنه جمع آمٍّ كحالٍّ وحلال، أو جمع إمامة كقلادة وقلاد.
قال القفال: وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل: اجعلنا(14/576)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
حجة للمتقين، ومثله البينة يقال: هؤلاء بينة فلان.
فصل
قال الحسن: نقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون. وقال ابن عباس: اجعلنا أئمة هداة كما قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ} [الأنبياء: 73] ولا تجعلنا أئمة ضلالة، كقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41] . وقيل هذا من المقلوب، أي: واجعل المتقين لنا إماماً واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم قاله مجاهد.
فصل
قيل: نزلت الآية في العشرة المبشرين بالجنة.
قال بعضهم: هذه الآية تدل على وجوب طلب الرياسة في الدين والرغبة فيها، قال إبراهيم - عليه السلام - {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84] واحتج أهل السنة بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، لأن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل، والعلم والعمل إنما يكون بجعل الله وخلقه.
قال القاضي: المراد من هذا السؤال الألطاف التي إذا كثرت صاروا مختارين لهذه الأشياء فيصيرون أئمة.
والجواب: أن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثاً.
واعلم أنه تعالى لما بيَّن صفات المتقين المخلصين بيَّن بعده إحسانه إليهم.
قوله
: {أولئك
يُجْزَوْنَ الغرفة} أي: يثابون الغرفة، وهي الدرجة العالية. و «الغُرْفَة» مفعول ثان ل «يُجْزَونَ» ، والغُرْفَةُ كُلُّ بِنَاء مرتفع، والجمع غُرَفٌ.
قوله: «بِمَا صَبَرُوا» أي بِصَبْرِهم، أي: بِسَببه أو بسبب الذي صبروه، والأصل:(14/577)
صبروا عليه، ثم حذف بالتدريج. والباء للسببية كما تقدم، وقيل: للبدل، كقوله:
3893 - فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْماً ... ... ولا حاجة إلى ذلك. وذكر الصبر ولم يذكر المصبور عنه، ليعمّ جميع أنواع المشاقّ، ولا وجه لقول من يقول: المراد الصبر على الفقر خاصة.
قوله: «وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا» قرأ الأخوان وأبو بكر بفتح الياء وسكون اللام من لَقِيَ يَلْقَى، والباقون بضمها، وفتح اللام وتشديد القاف على بنائه للمفعول، كقوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11] . والتحيّة الدعاء بالتعمير، أي: بقاء دائماً، وقيل: الملك. والسلام الدعاء بالسلامة، أو يسلم بعضهم على بعض. وهذه التحيّة والسلام يمكن أن يكون من الله كقوله {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] . ويمكن أن يكون من الملائكة لقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ} [الرعد: 23 - 24] . ويمكن أن يكون بعضهم على بعض.
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} . وصف ذلك بالدوام بقوله: «خالدين فيها» ، وقوله: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي: موضع قرار وإقامة، وهذا في مقابلة قوله: {سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66] أي: ما أسوأ ذاك وأحسن هذا.
قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} . قال مجاهد وابن زيد: أي: ما يصنع وما يفعل بكم. قال أبو عبيدة: يقال: ما عَبَأْت به شيئاً، أي: لم أُبَالِهِ، فوجوده وعدمه سواء. وقال الزجاج: معناه لا وزن لكم عندي والعبء في اللغة الثقل. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما يبالي ربكم، ويقال: ما عبأت بك، أي: ما اهتممت ولا اكترثت، ويقال: عبأت الجيش وعبأته، أي: هيأته وأعددته. قوله: «لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ»(14/578)
جوابها محذوف لدلالة ما تقدم، أي: لولا دعاؤكم ما أعبأ بكم ولا أكترث، و «ما» يجوز أن تكون نافية، وهو الظاهر، وقيل: استفهام، بمعنى النفي، ولا حاجة إلى التجوز في شيء يصح أن يكون حقيقته بنفسه. و «دُعَاؤُكُمْ» يجوز أن يكون مضافاً للفاعل، أي: لولا تضرّعكم إليه، ويجوز أن يكون مضافاً للمفعول، أي: لولا دعاؤكم إيّاهُ إلى الهدى.
فصل
ومعنى هذا الدعاء وجوه:
الأول: لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65] .
الثاني: لولا شكركم له على إحسانه، لقوله: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ} [النساء: 147] .
الثالث: لولا عبادتكم.
الرابع: لولا إيمانكم.
وقيل المعنى: ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم.
وقيل: المعنى: قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه، يعني أنه خلقكم لعبادته كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: معناه ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة، أو ما يفعل الله بعذابكم لولا شرككم كما قال: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] .
قوله: «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ» أيها الكافرون يخاطب أهل مكة، يعني أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه. وقرئ «فقد كذب الكافرون» قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي: فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم، وهذا عقاب الآخرة،(14/579)
ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه: إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك.
قوله: «لِزَاماً» قرئ بالفتح يعني اللزوم كالثبات والثبوت.
قال ابن عباس: موتاً. وقال أبو عبيدة: هلاكاً. وقال ابن زيد: قتالاً والمعنى: يكون التكذيب لازماً لمن كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله. وقال ابن جريج: عذاباً دائماً لازماً وهلاكاً مُفْنِياً يلحق بعضكم ببعض. قال ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومجاهد ومقاتل: هو يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازماً لهم. وقال عبد الله بن مسعود: خمس قد مضين الدخان والقمر واليوم والبطشة واللزام: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} . روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من قرأ سورة الفرقان بعثه الله يوم القيامة وهو يؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، ودخل الجنة بغير حساب» .(14/580)
سورة الشعراء(15/3)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
مكية إلا قوله: {والشعراء يتبعهم الغاوون} [الشعراء: 224 - 227] إلى آخرها فإنها مدنية وهي مائتان وسبع وعشرون آية، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة، وخمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {طسم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} .
أظهر حمزة نُونَ «سِين» قبل الميم، كأنا ناوٍ الوقف، وإلاّ فإدغام مثله واجب والباقون يدغمون. وتقدم إعراب الحروف المقطعة. وفي مصحف عبد الله: «ط س م» مقطوعة من بعضها. قيل: وهي قراءة أبي جعفر، يعنون أنه يقف على كل حرف وقفة يميز بها كل حرف، وإلا لم يتصور أن يلفظ بها على صورتها في هذا الرسم وقرأ عيسى - وتروى عن نافع - بكسر الميم هنا وفي القصص على البناء. وأمال الطاءَ الأخوان وأبو بكر، وقد تقدم. روى عكرمة عن ابن عباس قال: (طسم) عجزت العلماء عن علم تفسيرها. وروى عليّ بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أنه قسم، وهو من أسماء الله تعالى. وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن. وقال مجاهد: اسم للسورة. وقال محمد بن كعب القرظي: قسمٌ بطوله وسناه وملكه. «تِلْكَ آيَاتُ» أي: هذه الآيات آيات «الكِتَابِ المُبِينِ» قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ(15/3)
نَّفْسَكَ} . قرأ قتادة: «بَاخِعٌ نَفْسِكَ» على الإضافة. والمعنى قاتل نفسك {أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن لم يؤمنوا، وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك، وكان يحرص على إيمانهم، فأنزل الله هذه الآية، وهذا تسليَة للرسول، أي: لا تبالغ في الحزن والأسف، فصبّره وعزَّاه وعرّفه أن غمه وحزنه لا ينفع، كما أن وجود الكتاب ووضحوه لا ينفع.
قوله: {إِنْ نَّشَأْ نُنَزِّلْ} . العامة على نون العظمة فيهما. وروي عن أبي عمرو بالياء فيهما، أي: إِنْ يَشَأ الله يُنزِّل. و «إن» أصلها أن تدخل على المشكوك فيه أو المحقق المبهم زمانه، والآية من هذا الثاني.
قوله: «فَظَلَّتْ» عطف على «نُنَزِّلْ» فهو في محل جزم. ويجوز أن يكون مستأنفاً غير معطوف على الجزاء. ويؤيد الأول قراءة طلحة: «فَتَظْلَل» بالمضارع مفكوكاً. قوله: «خَاضِعِينَ» . فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر عن «أَعْنَاقُهُمْ» . واستُشكِل جمعه جمع سلامة؛ لأنه مختص بالعقلاء. وأجيب عنه بأوجه:
أحدها: أن المراد بالأعناقِ: الرؤساء كما قيل: لهم وجوه وصدور، قال:
3894 - فِي مَحْفِلٍ من نواصِي الخَيْلِ مَشْهُودِ ... الثاني: أنه على حذف مضاف، أي: فظل أصحاب الأعناق، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل حذف المُخْبَرِ عنه مراعاة للمحذوف، وتقدم ذلك قريباً عند قراءة: {وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61] .
الثالث: أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم، كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله:(15/4)
3895 - كَمَا شَرَقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ... الرابع: أن «الأعناق» جمع «عُنُقٍ» من الناس، وهم الجماعة، فليس المراد الجارحة البتة، ومنه قوله:
3896 - أَنَّ العِرَاقَ وأَهْلَهُ ... عُنُقٌ إلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا
وهذا قريب من معنى الأول، إلا أن هذا القائل يطلق «الأعناق» على جماعة الناس مطلقاً، رؤساء كانوا أو غيرهم.
الخامس: قال الزمخشري: أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت «الأعناق» لبيان موضع الخضوع، وترك الكلام على أصله كقولهم: ذهَبَتْ أهل [اليمامة، كأن الأهل غير مذكور. قال شهاب الدين: وفي التنظير بقوله: ذهبت أهل اليمامة] نظر، لأن (أهل) ليس مقحماً البتة، لأنه المقصود بالحكم، وأما التأنيث فلاكتسابه التأنيث (بالإضافة) .
السادس: أنها عوملت معاملة العقلاء لمَّا أُسْنِدَ إليهم ما يكون فِعْل العقلاء، كقوله: «سَاجِدِينَ» و «طَائِعِين» في يوسف وفصلت.
وقيل: إنما قال: «خاضِعِينَ» لموافقة رؤوس الآي.
والثاني: أنه منصوب على الحال من الضمير في «أَعْنَاقُهُم» قال الكسائي وضعفه أبو البقاء، قال: لأن «خاضِعِين» يكون جارياً على غير فاعل «ظَلَّتْ» فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل، فكان يجب أن يكون: خاضعين هم.(15/5)
قال شهاب الدين: ولم يجر «خاضِعِين» في اللفظ والمعنى إلا على من هُوَ له، وهو الضمير في «أَعْنَاقُهُمْ» ، والمسألة التي قالها: هي أن يجري الوصف على غير من هو له في اللفظ دون المعنى، فكيف يلزم ما ألزمه به، على أنه لو كان كذلك لم يلزم ما قاله، لأن الكسائي والكوفيين لا يوجبون إبراز الضمير في هذه المسألة إذا أمن اللبسن فهو (لا) يلتزم ما ألزمه به، ولو ضعف بمجيء الحال من المضاف إليه لكان أقرب، على أنه لا يضعف؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه كقوله: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] .(15/6)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} وعظ وتذكر {مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ} أي: محدث إنزاله فهو محدث في التنزيل. قال الكلبي: «كلما نزل من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول» .
وقوله: «إلاَّ كَانُوا» جملة حالية، وتقدم تحقيق هذا وما قبله في أول الأنبياء. ومعنى «مُعْرِضِينَ» أي: عن الإيمان به.
قوله: «فَقَدْ كَذَّبُوا» أي: بلغوا النهاية في ردّ آيات الله، «فَسَيَأْتِيهِمْ» أي: فسوف يأيتهم «أَنْبَاءُ» : أخبار وعواقب {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وذلك إما عند نزول العذاب عليهم في الدنيا، أو عند المعاينة في الآخرة كقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} [ص: 88] . قوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي: صنف، والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، يقال: «وجه كريم» إذا كان مرضياً في حسنه وجماله. و «كتاب(15/6)
كريم» : إذا كان مرضياً في فوائده ومعانيه. و «النبات الكريم» : هو المرضيّ في منافعه مما يأكل الناس والأنعام يقال: نخلة كريمة: [إذا طاب حملها، وناقة كريمة] : إذا كثر لبنها. قال الشعبي: الناس مثل نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.
قوله: «كَمْ أَنْبَتْنَا» . «كَمْ» للتكثير، فهي خبرية، وهي منصوبة بما بعدها على المفعول به، أي: كثيراً من الأزواج أنبتنا، و {مِن كُلِّ زَوْجٍ} تمييز.
وجوَّز أبو البقاء أن تكون حالاً. ولا معنى له. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الجمع بين «كَمْ» و «كُلِّ» ولو قيل: أنبتنا فيه من زوج كريم. قلت: قد دل «كُلّ» على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و «كَمْ» على أن هذا المحيط مُتَكَاثِرٌ مُفْرِطٌ في الكثرة.
قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكرت «لآيَةً» دلالة على لوجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وقوله: «لِلْمؤْمِنِينَ» كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] لأنهم المنتفعون بذلك {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} : مصدقين، أي: سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون.
وقال سيبويه: (كان) هنا صلة، مجازه: وما أكثرهم مؤمنين. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} وإنما قدم ذكر «العزيز» على ذكر «الرَّحِيم» لأنه لو لم يقدِّمه لكان ربما قيل: إنه رحيم لعجزه عن عقوبتهم، فأزال هذا الوهم بذكر «العزيز» وهو لاغالب القاهر ومع ذلك فإنه رحيم بعباده، فإن الرحمة إذا كانت عن القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً. فإن قيل: حين ذكر الأزواج دلَّ عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة، وكان لا يحصيها إلا عالم الغيب، فكيف قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} ؟ وهلا قال: لآيات؟ . فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك مشاراً به إلى مصدر «أنبتنا» فكأنه قال: إن في ذلك الإنبات لآية.
والثاني: أن يراد: إن في كل واحد من تلك الأزواج لآية.(15/7)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
قوله تعالى: {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} الآية. العامل في «إذْ نَادَى» مضمر، فقدره الزجاج: اتْلُ. وقدره غيره: اذكر. واختلف في النداء الذي سمعه موسى - عليه السلام - من الله تعالى، فقيل: هو الكلام القديم، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الذوات مع أن الدليل دل على أنها معلومة ومرتبة، فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحرف والصوت مع أنه مسموع وقيل: كان نداء من جنس الحروف والأصوات.
وقالت المعتزلة: كان ذلك النداء حروفاً وأصواتاً علم به موسى من قبل الله تعالى فصار معجزاً، علم به موسى أن الله تعالى مخاطب له فلم يحتج مع ذلك إلى واسطة.
قوله: {أَنِ ائت القوم الظالمين} . يجوز أن تكون «أَنْ» مفسِّرة، وأن تكون مصدرية، أي: بأن. قوله: «قَوْمَ فِرْعَوْنَ» . بدل أو عطف بيان ل «القَوْمَ الظَّلِمِينَ» . وقال أبو البقاء: إنه مفعول (تَتَّقُونَ) على قراءة من (تَتَّقُونَ) بالخطاب وفتح النون، كما سيأتي. ويجوز على هذه القراءة أن يكون ماندى. قوله: «أَلاَ يَتَّقُونَ» . العامة على الياء في «يَتَّقُونَ» وفتح النون، والمراد قوم فرعون، والمفعول محذوف، أي: يتقون عقابي، [وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار، وحماد، وشقيق بن سلمة بالتاء من فوق(15/8)
على الالتفات، خاطبهم بذلك توبيخاً] والتقدير: يا قوم فرعون.
وقرأ بعضهم: «يَتَّقُونِ» بالياء من تحت، وكسر النون، وفيها تخريجان:
أحدهما: أن «يَتَّقُونِ» مضارع، ومفعوله ياء المتكلم اجتزئ عنها بالكسرة.
والثاني: جوَّزه الزمخشري، أن تكون «يا» للنداء، و «اتَّقُونِ» فعل أمر، كقوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} [النمل: 25] أي: يا قوم اتقون، أو يا ناس اتقون. وسيأتي تحقيق مثل هذا في السورة تحتها. وهذا تخريج بعيد.
وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
وجوّز الزمخشري أَن تكون حالاً من الضمير في «الظَّالمِينَ» أي: يظلمون غير متَّقين اللَّهَ وعقابَه، فأُدخلت همزةُ الإنكار على الحال. وخطأه أبو حيان من وجهين:
أحدهما: أنه يلزم عنه الفصل بين الحال وعاملها بأجنبي منهما، فإن أعرب «قَوْمَ فِرْعَوْنَ» عطف بيان ل «القَوْمَ الظَّالمينَ» .
والثاني: أنه على تقدير تسليم ذلك لا يجوز أيضاً؛ لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها، قال: وقولك: (جئتُ أمسرعاً) ، إن جعلت (مسرعاً) معمولاً ل (جئت) لم يجز، فإن أضمرت عاملاً جاز. والظاهر أن «أَلاَ» للعرض.
وقال الزمخشري: إنها (لا) النافية، دخلت عليها همزة الإنكار. وقيل: هي للتنبيه.(15/9)
فصل
قوله: {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} حين رأى الشجرة والنار {أَنِ ائت القوم الظالمين} أي: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، فحكم عليهم بالظلم من وجهين:
الأول: ظلموا أنفسهم بكفرهم.
والثاني: ظلمهم بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب. «قَوْمَ فِرْعَوْنَ» عطف «قَوْمَ فِرْعَوْنَ» على «القَوْمَ الظَّالِمينَ» فهما يدلان لفظاً على معنى واحد. «أَلاَ يَتَّقُونَ» أي: يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته. ومن قرأ «تَتَّقُونَ» بالخطاب فعلى الالتفات إليهم وصرف وجوههم بالإنكار والغضب عليهم، كمن يشكو من جناية والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية، وحمي غضبه قطع بأنه يخاطب صاحبه، وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه ويقول له: ألم تتق الله؟ ألم تستحي من الناس؟ فإن قيل: فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى - عليه السلام - في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون؟ . قلنا: أجري ذلك في تكليم المرسل إليهم معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم، لأنه مبلغهم، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية نزلت في الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبراً بها، واعتباراً بمواردها.(15/10)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} لما أمر موسى - عليه السلام - بالذهاب إلى قوم فرعون طلب موسى - عليه السلام - أن يبعث معه هارون - عليه السلام - ثم ذكر الأمور الداعية إلى ذلك السؤال. فقوله: «أَنْ يُكَذِّبُونِ» مفعول «أَخَافُ» أي: أخاف تكذيبهم إياي.(15/10)
قوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ} الجمهور على الرفع، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف، أخبر بذلك.
والثاني: أنه معطوف على خبر «إِنَّ» وقرأ زيدُ بن عليّ، وطلحة، وعيسى، والأعمش بالنصب فيهما. والأعرج بنصب الأول ورفع الثاني. فالنصب عطف على صلة «أَنْ» فتكون الأفعال الثلاثة: «يُكَذَّبُونِ» وَ «يَضِيقُ» ، وَ «لاَ يَنْطَلِقُ» في حيَّز الخوف.
قال الزمخشري: «والفرق بينهما، أي: الرفع والنصب، أَنَّ الرفع يفيد أن فيه ثلاث عللٍ: خوفُ التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصبُ على أنَّ خوفه متلق بهذه الثلاثة. فإن قلت: في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جُمْلَتِهَا نَفْيُ انطلاق اللسان، وحقيقه الخوف إِنَّما يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعاً، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت: قد عَلَّقَ الخوف بتكذيبهم، وبما يحصل له من ضيق الصدر، والحُبْسَة في اللسان زائدة على ما كان به، على أن تلك الحُبْسَة له من ضيق الصدر، والحُبْسَة في اللسان زائدة على ما كان به، على أن تلك الحُبْسَة التي كانت به زالت بدعوته. وقيل: بقيتْ منها بقيَّة يسيرة. فإن قلت: اعتذارك هذا يردّه الرفع، لأنّ المعنى: إِنِّي خائفٌ ضيِّقُ الصدرِ غيرُ مُنْطَلِق اللسان؟ قلت: يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي» .
قوله: «فَأَرْسِلْ» أي: فأرسل جبريلَ أو الملكَ، فحذف المعفول به، أي: ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة. قيل: إن الله تعالى أرسل موسى.
قال السُّدِّيّ: إن موسى - عليه السلام - سار بأهله إلى مصر، والتقى بهارون وهو لا يعرفه، فقال: أنا موسى، فتعارفا، وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة. وقيل: أرسل جبريل إليه كما يرسل إلى الأنبياء - عليه السلام - فلما(15/11)
كان متعيناً لهذا الأمر حذف ذكر المرسل لكونه معلوماً.
قوله: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} . أي: دعوى ذنب، وهو قتله للقبطي، أي: لهم عليَّ ذنب في زعمهم {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} أي: يقتلونني، فقال الله تعالى: «كَلاَّ» أي: لن يقتلوك.
قوله: «فَاذْهَبَا» عطف على ما دل عليه حرف الردع من الفعل، كأنه قيل: ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك {بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} سامعون ما تقولون قال: «مَعكُمْ» بلفظ الجمع، وهما اثنان، أجراهما مجرى الجماعة.
وقيل: أراد معكما ومع بني إسرائيل نسمع ما يجيبكم فرعون، {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولاا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} إنما أفرد «رَسُول» إمَّا لأنه مصدر بمعنى: رسالة والمصدر يُوَحَّدُ، ومن مجيء «رَسُول» بمعنى رسالة قوله:
3897 - لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي برسالة. وإما لأنهما ذَوَا شريعة واحدة فنُزِّلا منزلة رسول.
وإما لأن المعنى: كل واحد منا رسول. وإما لأنه من وضع الواحد موضع التثنية لتلازمهما، فصارا كالشيئين المتلازمين، كالعينين واليدين. وحيث لم يقصد هذه المعاني طابق في قوله: {أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} [طه: 47] . وقال أبو عبيد: يجوز أن يكون «الرسول» بمعنى الاثنين والجمع، تقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، [وهذان رسولي ووكيلي] ، وهؤلاء رسولي ووكيلي، كما قال: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] . قوله: «أَنْ أَرْسِلْ» . يجوز أن تكون مفسِّرة ل «رَسولُ» إذا قيل: بأنه بمعنى(15/12)
الرسالة، شرحا الرسالة بهذا وبيَّناها به. ويجوز أن تكون المصدرية، أي: رسول بكذا، والمراد من هذا الإرسال: التخلية والإرسال: كقولك: أرسل البازي.(15/13)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} . العم أن في الكلام حذفاً، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به، فعند ذلك قال فرعون ما قال. روي أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه، فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى، فعدد عليه نعمه أولاً ثم إساءة موسى إليه. أما النعم فهي قوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} والوليد: الصبي، لقرب عهده من الولادة. وقيل: الغلام، تسيمة له بما كان عليه. و «وَلِيداً» حال من مفعول [نُرَبِّك] ، وهو فعيل بمعنى مفعول. قوله {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} قرا أبو عمرو في رواية بسكون الميم «عُمْرِكَ تخفيفاً ل» فُعُل «، و» مِنْ عُمْرِكَ «حال من» سِنِينَ «.
قيل: لبث عندهم ثلاثين سنة، وقيل: وكَز القبطي، وهو ابن اثنتي عشرة سنة قوله» وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ «. قرا الشعبي:» فِعْلَتَكَ «بالكسر على الهيئة، لأنها نوع من القتل، وهي الوَكْزَةُ {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} . يجوز أن يكون(15/13)
حالاً. قال عباس: أي: وأنت من الكافرين لنعمتي أي: وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة، وقد افترى عليه أو جهل أمره؛ لأنه كان يعاشرهم بالتَّقيَّة، فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة. ويجوز أن يكون مستأنفاً، ومعناه وأنت ممن عادته كفران النعم، ومن كانت هذه حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمه. وقيل:» مِنَ الكَافِرينَ «بفرعون وإلاهيَّته، أو من الذين يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونها بدليل قوله: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] قوله: {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} .» إذاً «هنا حرف جواب فقط. قال الزمخشري: إنها جوابٌ وجزاءٌ معاً قال: فإِنْ قُلْتَ: (إذاً) حرف جواب وجزاءً معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء؟ قلت: قول فرعون:» وفَعَلْتَ فَعْلتكَ «فيه معنى أنك جازيت نعمتي بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازياً لك تسليماً لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تُجَازَى بنحو ذلك الجزاء.
قال أبو حيان: وهذا مذهب سيبويه، يعني: أنها للجزاء والجواب معاً، قال: ولكن شراح الكتاب فهموا أنها قد تتخلف عن الجزاء، والجواب معنى لازم لها.
فصل
واعلم أن فرعون عدد عليه نعمه من تربيته وبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل أجناده، وعظم ذلك بقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} .
ولما ذكر فرعون التربية ذكر القتل، وكانت تربيته معلومة ما أنكرها موسى - عليه السلام - وقد تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجزة وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم ينعم، صار قول فرعون غير مؤثر فالإعراض عنه أولى، ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب، فقال: {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي: من الجاهلين، أي: لم يأتني من عند الله شيء، أو من(15/14)
الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله، لأأنه وكزه تأديباً، ومثل ذلك ربما حَسُن.
وقيل: من المخطئين، فبين أنه فعله على وجه لا تجوز المؤاخذة به، فيعد كافراً لنعمه.
قوله: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} . العامة على تشديد ميم «لَمَّا» وهي «لَمَّا» التي هي حرف وجوب عند سيبويه. أو بمعنى «حِينَ» عند الفارسي. روي عن حمزة بكسر اللام وتخفيف الميم، أي: لِتَخَوُّفِي مِنْكُمْ، و «ما» مصدرية. وهذه القراءة تشبه قراءته في «آل عمران» : {لَمَآ آتَيْتُكُم} [آل عمران: 81] . وقد تقدمت مستوفاة.
(قال الزمخشري: إنما جمع الضمير في «مِنْكُمْ» و «خِفْتُكُمْ» مع إفراده في «تَمُنُّهَا» و «عَبَّدْتَ» ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله لقوله: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] ، وأما الامتنان والتعبد فمنه وحده) .
فصل
والمعنى: إني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً، وكان مني في حكم السهو، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار، ومع ذلك فررت منكم لما خفتكم عن قولكم: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] فبين بذلك ألاّ نعمة له عليه في الفلة، بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب.
فصل
وقد ورد لفظ «الفرار» على أربعة:
الأول: بمعنى الهرب، كهذه الآية، ومثله {لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت} [الأحزاب: 16] .(15/15)
الثاني: بمعنى الكراهية، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} [الجمعة: 8] أي: تكرهونه.
الثالث: بمعنى اشتغال المرء بنفسه، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34 - 35] أي: لا يلتفت إليهم، لاشتغاله بنفسه.
الرابع: بمعنى التباعد، قال تعالى: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 6] أي: تباعداً. ثم بين نعم الله عليه بعد الفرار، فكأنه قال: أسأتم وأحسن الله إليَّ بأن وهب لي حكماً. قرأ عيسى: «حُكُماً» بضم الكاف إتباعاً. والمراد بالحكم: العلم والفهم، قاله مقاتل: وقيل: النبوة. والأول أقرب، لأن المعطوف غير المعطوف عليه، والنبوة مفهومة من قوله: {وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين} .
قوله: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر على سبيل التهكم، أي: إنْ كَانَ ثمَّ نعمة فليست إلاَّ أنك جعلت قومي عبيداً لك. وقيل: «ثَمَّ» حرف استفهام محذوف لفهم المعنى، أي: «أَوَ تِلْكَ» ، وهذا مذهب الخفش، وجعل من ذلك:
3898 - أَفْرَحُ انْ أُرْزَأَ الكِرَامَ ... وقد تقدم هذا مشبعاً في النساء عند قوله: {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] وفي غيره.(15/16)
قوله: «أَنْ عَبَّدْتَ» فيه أوجه:
أحدها: أنه في محل رفع عطف بيان ل «تِلْكَ» كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ} [الحجر: 66] .
الثاني: أنها في محل نصب مفعولاً من أجله.
الثالث: أنها بدل من «نِعْمَة» .
الرابع: أنها بدل من هاء «تَمُنُّهَا» .
الخامس: أنها مجرورة بباء مقدرة، أي: بأَنْ عَبَّدْتَ.
السادس: أنها خبر مبتدأ مضمر، أي: هي أن عَبَّدْتَ.
السابع: أنها منصوبة بإضمار «أعني» والجملة من «تَمُنُّهَا» صفة ل «نِعْمَة» و «تَمُنُّ» يتعدى بالباء، فقيل: هي محذوفة، أي: تَمُنُّ بها.
وقيل: ضُمِّنَ «تَمُنُّ» معنى «تَذْكُرُ» . ويقال: عبّدت الرجل وأعبدته وتعبدته واستعبدته: [إذا اتخذته عبداً] .
فصل
اختلفوا في تأويل «أَنْ عَبَّدْتَ» : فحملها بعضهم على الإقرار، وبعضهم على الإنكار. وعلى كلا القولين فهو جواب لقوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا} [الشعراء: 18] .
فمن قال: هو إقرار، قال: عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل، أي: بلى و {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وتركتني فلم تستعبدني. ومن قال: هو إنكار قال: قوله: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ» هو على طريق الاستفهام، كما تقدم في إعرابها، يعني: أَوَ تِلْكَ نعمة، فحذفت ألف الاستفهام، كقوله: {فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] وقال الشاعر:
3899 - تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا يَضِيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ
أي: أتروح من الحي، وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:(15/17)
3900 - لَمْ أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ وَقْفَتِهَا ... وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غَرِقُ
وَقَوْلَهَا والرِّكابُ واقِفَةٌ ... تَتْرُكُنِي هكَذَا وَتَنْطَلِقُ
أي: أتتركني. يقول: تمنّ عليَّ أن ربيتني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملة القبيحة. أو يريد: كيف تَمُنُّ عليَّ بالتربية، وقد استعبدت قومي؟ ومن أُهين قومه ذلّ، فتعبّدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليّ.
وقال الحسن: إنك استعبدت بني إسرائيل، فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليَّ فلا نعمة لك بالتربية. وقيل: إن الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا نعمة لك عليَّ، لأن التربية كانت من قبل أمي ومن قومي، ليس لك إلا مجرد الاسم، وهذا ما يعدّ إنعاماً. وقيل: معناه: تَمُنَّ عليَّ بالتربية وأنت لولا استعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم لما دُفِعْتُ إليك حتى ربيتني وكفلتني، فإنه كان لي من أهلي من يربِّيني ويكفلني، ولم يلقوني في اليمِّ، فأيّ نعمة لك عليَّ. وقيل: معناه أنك تدَّعي أن بين إسرائيل عبيدك، ولا مِنَّة للمولى على العبد في تربيته.(15/18)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
قوله تعالى: {وَمَا رَبُّ العالمين} إنما أتبى ب «مَا» دون «مَنْ» لأنها يسأل بها عن طلب الماهية، كقولك: ما العنقاء؟ ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن(15/18)
عدل موسى - عليه السلام - إلى جواب ممكن، فأجاب بصفاته تعالى، وخصَّ تلك الصفات لأنه لا يشاركه فيها أحد، وفيه إبطال لدعواه أنه إله.
وقيل: جهل السؤال فأتى ب «ما» دون «مَنْ» . وليس بشيء.
وليس بشيء، لأن أهل البيان نَصُّوا على أنها يطلب بها الماهيات، وقد جاء ب «من» في قوله: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} [طه: 49] .
فصل
اعلم أن فرعون لم يقل: {وَمَا رَبُّ العالمين} إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولاا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] فلا بد من أنهما قالا ذلك قين دخلا عليه، فعند ذلك قال فرعون: {وَمَا رَبُّ العالمين} يقول: أيّ شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله إليّ يستوصفه إلاهه الذي أرسل إليه؟ وهو سؤال عن جنس الشيء، والله منزَّه عن الجنسية. فأجابه موسى - عليه السلام - بذكر أفعاله التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها، فقال: {رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أنه خلقهما.
قال أهل المعاني: كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينوها، فأيثنوا أن إله الخلق هو الله عزَّ وجل.
قوله: «وَمَا بَيْنَهُمَا» عاد ضمير التثنية على جمعين اعتباراً بالجنسين، كما فعل ذلك في قوله:
3901 - بَيْنَ رماحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلٍ ...(15/19)
ولمّا ذكر موسى - عليه السلام - هذا الجواب الحق تحير فرعون في جواب موسى، فقال لمن حوله من أشراف قومه - قال ابن عباس: كانوا خمسمائة -: «ألا تَسْتَمِعُونَ» على سيبل التعجب من جواب موسى، يعني: أنا أطلب منه الماهية وهو يجيبني بالفاعلية. وقيل: استبعد جواب موصى وقال «أَلاَ تَسْتَمِعُونَ» لأنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم، فزادهم موسى بياناً فقال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا، وذلك لأنه يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين واجبة لذواتها، فهي غنية عن الخلق، ولا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده [كونهم واجبين لذواتهم، لأن المشاهدة دلَّت على أنهم وجدوا] بعد العدم، وعدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته، واستحال وجوده إلا بالمؤثر، فكان التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى - عليه السلام - إليه فقال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} يعني: أن المقصود من سؤالنا طلب الماهية والحقيقة، والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فقال موسى - عليه السلام -: {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، وذلك أنه أراد ب «المَشْرِق» كلوع الشمس وظهور النهار، وأراد ب «المَغْرِب» : غروب الشمس وزوالها، والامر ظاهر؛ لأن التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم - عليه السلام - مع نمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة، وهو الذي ذكره إبراهيم - عليه السلام - بقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} فأجابه نمروذ:
{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فقال: {} وهو الذي ذكره موسى - عليه السلام - بقوله: {رَبُّ المشرق والمغرب} .
وأما قوله {إِنْ كَنْتُم تَعْقِلُونَ} فكأنه - عليه السلام - قال: إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته، ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته، ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أُعرِّف حقيقته بآثار حقيقته، وقد عرّفت حقيقته، فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن(15/20)
سؤالك إلا ما ذكرته. واعلم أن حقيقته غير معقولة للبشر، فيستحيل من موسى - عليه السلام - أن يذكر ما تعرف (به تلك) الحقيقة، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق، وعدل إلى التخويف، وقال: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} : المحبوسين. قال الكلبي: كان سجنه أشد من القتل، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فرداً لا يسمع ولا يبصر فيه شيئاً يهوي به في الأرض.
وقال: {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} ولم يقل: «لأَسْجُنَنَّكَ» وهو أخص منه؛ لأن فيه مبالغة ليست في ذاك، أو معناه: لأجعلنك ممن عرفت حاله في سجوني فعند ذلك ذكر موسى كلاماً مجملاً ليعلق قبله به فيعدل عن وعيده، فقال {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} أي: هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بدليلين يدلان على وجوه الله، وعلى أنِّي رسوله. فعند ذلك قال: {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} وإنما قال موسى ذلك لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان فقال فرعون: «فَأْتِ بِهِ» فإنا لن نسجنك حينئذ {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فإن قيل: كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول، وهو قوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} أي: بآيةٍ بيِّنة، والمعجز لا يدل على الله لدلالة سائر ما تقدم؟
فالجواب: بل يدل على ما أراد أن يظهره من انقلاب العَصَا حَيَّةً على الله، وعلى توحيده، وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة، فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم. والواو في قوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ} واو الحال، دخلت عليها همزة الاستفهام، والمعنى: أتفعل بي ذلك ولو جئتُكَ بشيء مبين؟ أي: جائياً بالمعجزة وقال الحوفي: «هي واو العطف» . وقتدم تحرير هذا عند قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} [170] في البقرة، وغالب الجمل هنا تقدم إعرابها.(15/21)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
قوله تعالى: {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} . وعلم أن قوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} الشعراء: 30] دل على أن الله تعالى عرفه قبل إلقاء العصا بأنها تصير ثعباناً، فلذلك قال ما قال، فلما ألقى موسى عصاه وصارت ثعباناً، روي أنها لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون تقول: يا موسى، مرني بما شئت، ويقول فرعون: (يا موسى) أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها فعادت عصا. فإن قيل: كيف قال: «ثُعْبَانٌ مُبِينٌ» وفي آية أخرى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20] وفي آية ثالثة: {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} [القصص: 31] والجانّ مائل إلى الصغر، والثعبان إلى الكبر؟
فالجواب: أن الحية اسم الجنس، ثم لكبرها صارت ثعباناً، وشببها بالجانّ لخفتها، وسرعتها، فصح الكلامان. ويحتمل أنه شببها بالشيطان لقوله: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] . ويحتمل أنها كانت صغيرة كالجانّ ثم عظمت فصارت ثعباناً ثم إن موسى - عليه السلام - لما أراه آية العصا قال فرعون: «هل غيرها» ؟ قال: نعم، فأراه يده، ثم أدخلها جيبه، ثم أخرجها {فَإِذَاْ هِيَ بَيْضَاءُ} تضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس. فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر أموراً:
أحدها: قال لهم: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} وكان زمانهم زمان السحرة، فأوهمهم أن هذا كبير من السحرة.
وثانيها: قال: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} وهذا موجب للتنفير عنه لئا يقبلوا قوله، والمعنى: يفرق جمعكم بما يلقيه من العداوة بينكم، ومفارقة الوطن أصعب الأمور، وهذا نهاية ما يفعله المضل المنفر عن المحق.
وثالثها: قوله: «فَمَاذَا تَأْمُرُونَ» أي: ما رأيكم فيه، فأظهر لهم من نفسه أني متبع لرأيكم، ومثل هذا يوجب جذب القلوب، وانصرافها عن العدو قوله: «حَوْلَهُ» حال من «(15/22)
المَلأ» ، ومفعول القول قوله: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} وقيلك صلة «لِلْملأ» ، فإنه بمعنى «الَّذِي» . وقيل: الموصول محذوف. وهما قولان للكوفيين. قال الزمخشري: «فإِننْ قٌلْتَ: قوله تعالى: (للْمَلأ حَوْلَهُ) فما العامل في (حَوْلَه) ؟ . قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما تقدم في الظرف، ش والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال» .
قوله: «أَرْجِهْ وَأَخَاهُ» . لما قال لهم فرعون تلك الكلمات اتفقوا على جواب واحد، وهو قولهم: «أَرْجِهْ» قرىء: «أَرْجِهْ وَأَرْجِئْهُ وأَرْجِهِ» (بالهمز والتخفيف، وهما لغتان، يقال: أرجأته وأرجيته) إذا أخرته. والمعنى: أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة. وقيل: «احبسه» {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة، ظنّاً منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله.
وعارضوا قوله: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} بقولهم: {بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} فجاءوا بكلمة الإحاطة، وبصيغة المبالغة ليطيِّبوا قبله.(15/23)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قوله تعالى: {فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} . اليوم المعلوم: يوم الزينة.
قال ابن عباس: وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة، وهو يوم النيروز وميقاته: وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقَّت لهم موسى - عليه السلام - من يوم الزينة في قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59] .(15/23)
قوله: {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} . والمعنى: أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين ولمن تكون الغلبة، وكان موسى - عليه السلام - يطلب ذلك ليظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم.
قوله: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة} . أي نرجو أن تكون الغلبة لهم {إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} لموسى. وقيل: إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء. وأرادوا ب «السَّحَرَة» : موسى وهارون وقومهما. {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} . [فابتدءُوا بطلب الجزاء، وهو إما المال وإما الجاه، فبذلك لهم ذلك وأكّده بقوله: {وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} ] لأنَّ نهاية مطلوبهم البذل ورفع المنزلة.(15/24)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
قوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} . اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لا بد من ابتداء موسى أو ابتدائهم، ثم إنهم تواضعوا فقدّموه على أنفسهم، وقالوا له: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 115] فلما تواضعوا له تواضع هو أيضاً لهم فقدمهم على نفسه، وقال: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مَّلْقُونَ} . فإن قيل: كيف جاز لموسى - عليه السلام - أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصيّ، وذلك سحر وتلبيس وكفر، والأمر بمثله لا يجوز؟ فالجواب: ليس ذلك بأمر، لأن مراد موسى - عليه السلام - منهم أن يؤمنوا به، ولا يقدموا على ما يجري مجرى المقاتلة، وإذا ثبت ذلك وجب تأويل صيغة الأمر، وفيه وجوه:
أحدها: أن ذلك الأمر كان مشورطاً، والتقدير: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين، كقوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] أي: إن كنتم قادرين.
وثانيها: لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار جائزاً.
وثالثها: أَنَّ هذا ليس بأمر، بل هو تهديد، أي: إن فعلتم ذلك أتينا بما يبطله، كقول القائل: «لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن» ثم يفوق له السهم فيقول له: «ارم» فيكون ذلك منه تهديداً.(15/24)
ورابعها: أنهم لما تواضعوا (له) وقدموه على أنفسهم فقدمهم على نفسه رجاء أن يصير تواضعه سبباً لقبول الحق، ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب.
قوله: {فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} . روي عن ابن عباس قال: كانت مطلية بالزئبق، والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق، فلما حيمت اشتدت حركتها، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض.
قوله: «بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ» . يجوز أن يكون قَسَماً، وجوابه: {إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} ويجوز أن يتعلق ب «الغَالِبُونَ» لأن ما في حيز «إِنَّ» لا يتقدم عليها.
قوله: {فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} تقدم خلاف القراء في «تَلْقَفُ» وقال ابن عطية هنا: وقرأ البَزِّيُّ وابنُ فُلَيح بشدِّ التَّاء وفتح اللام وشدِّ القاف ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يَجْلِبَ همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين. قال أبو حيان كأنه يُخَيَّلُ إليه أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل، [وهذا ليس بلازم (و) كثيراً ما يكون الوصل] مخالفاً للوقف، والوقف مخالفاً للوصل، ومن له تَمَرُّن في القراءات عرف ذلك. قال شهاب الدين: يريد قوله: {فَإِذَا هِيَ تَلَقَّفُ} فإن البَزِّيّ يشدد التاء، إذ الأصل: «تَتَلَقَّفُ» بتاءين، فأدغم، فإذا وقف على «هِيَ» وابتدأ «تَتَلَقَّفُ» فحقه أن يَفُكَّ ولا يدغم لئلا يُبْتَدأ بساكن وهو غر ممكن، وقول ابن عطية: «ويلزم على هذه القراءة ...
إلى خره «تضعيف للقراءة لما ذكره هو من أن همزة الوصل لا تدخل على الفعل المضارع، ولا يمكن الابتداء بساكن، فمن ثَمَّ ضُعِّفَتْ.(15/25)
وجواب الشيخ بمنع الملازمة حسن إلا أنه كان ينبغي أن يبدل لفظة الوقف بالابتداء لأنه هو الذي وقع الكلام فيه، أعني: الابتداء بكلمة [» تَلَقَّفُ «] .
قوله:» فَأُلْقِيَ «قال الزمخشري:» فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرِّح به؟ قلت هو الله - عَزَّ وَجَلَّ -، ثم قال: ولك ألاَّ تقدِّر فاعلاً، لأن «أَلْقَوْا» بمعنى: خَرُّوا وسقطوا «. قال أبو حيان: وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا يبنى الفعل للمفعول إلاّ وله فاعل ينوب المفعول به عنه، أما أنه لا يقدر له فاعل فقول ذاهبٌ عن الصواب.
فصل
تقدم الكلام على نظير هذه الآية، واعلم أن السحرة لما شاهدوا أمراً خارجاً عن حدّ السحر لما يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين و {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} .
قوله: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} . عطف بيان ل» رَبِّ العَالَمِينَ «لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله. ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام: أنه الذي دعا موسى وهارون - عليهما السلام - إليه.(15/26)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
قوله: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} الآيات. لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول قومه: إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وبصيرتهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى - عليه السلام - فيسلكون طريقهم، فلبَّس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى من وجوه:
أحدها: قوله: {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} . والمعنى: إن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة(15/26)
على ميلكم إليه فتطرَّق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله.
وثانيها: قوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} هذا تصريح بما رمز به أولاً، وتعريض منه بأنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى، وقصروا في السحر ليظهروا أمر موسى، وإلا ففي قوة السحر أن يفعلوا مثل ما فعل، وهذا شبهة قوية في تنفير من قَبِلَ.
وثالثها: قوله: «فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» وهو وعيد وتهديد شديد.
ورابعها: قوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين} وهذا الوعيد المفصل، وليس في الإهلاك أقوى منه، ثم إنهم أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين:
الأول: قوله: {لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} والضير والمضرّة واحد، وليس المراد أن ذلك وقع، وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عفروه من دار الجزاء.
والجواب الثاني: قوله: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ} وهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما. والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين، كقول إبراهيم - عليه السلام -: «وَالَّذِي أَطْمَعُ» . ويحتمل الظن، لأن المرء لا يعلم ما سيختاره من بعد. قوله: «أَنْ كُنَّا» . قرأ العامة بفتح «أَنْ» أي: لأن كُنَّا بينوا القول بالإيمان وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ بكسر الهمزة، وفيه وجهان:
أحدهما: أنها شرطية، والجواب محذوف لفهم المعنى، أو متقدم عند من يجيزه.
نظيره قول القائل: «إنْ كُنْتُ عملتُ فوفِّنِي حَقِّي» مقولة لمن يؤخر جعله.
والثاني: أنها المخففة من الثقيلة، واستغني عن اللام الفارقة لإرشاد المعنى إلى الثبوت دون النص كقوله:(15/27)
3902 - وَإِنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامٌ المَعَادِنِ ... وفي الحديث: «إن كان رسول (الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) - يحبُّ العسل» أي: ليحبُّه.
والمعنى على الأول: لأن كنا أول المؤمنين، من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف، أو يكون المراد: من السحرة خاصة، أو من رعية فرعون، أو من أهل زمانهم.(15/28)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي} . قرىء «أَسْرِ» بقطع الهمزة ووصلها.
لما ظهر من أمر موسى - عليه السلام - ما شاهدوه أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل، لما كان في المعلوم من تدبير الله وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم، ولم يأمن. وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع في فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال، فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل، وهم الذين آمنوا، وكانوا(15/28)
من قوم موسى - عليه السلام -. واعلم أن في الكلام حذفاً، وهو أنه أسرى بهم كما امره الله تعالى، ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون: «إن لنا في هذه الليلة عيدا» ، ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع فرعون ذلك أرسل في المدائن حاشرين يحشرون الناس، يعني الشُّرط ليجمعوا السحرة. وقيل: ليجمعوا له الجيش روي أنه كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية. و «حَاشِرِينَ» مفعول «أَرْسَلَ» ثم إنه قوى نفسه ونفس قومه بأن وصف قوم موسى بالذم، ووصف قوم نفسه بالمدح، أما وصفه قوم موسى - عليه السلام - بالذم، فقال: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ} [معمول لقوم مضمر] أي: قال: إنَّ هؤلاء، وهذا القول يجوز أن يكون حالاً، أي: أرسلهم قائلاً ذلك، ويجوز أن يكون مفسراً ل «أَرْسَلَ» . والشِّرْذِمَةُ: الطائفة من الناس وقيل: كل بقية من شيء خسيس يقال لها: شرذمة. ويقال: ثوب شراذم، أي: أخلاق، قال:
3903 - جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيصِي أَخْلاقْ ... شَرَاذِمُ تَضْحَكُ مِنْهُ الخُلاقْ
وأنشد أبو عبيدة:
3904 - في شراذم النعال ... وجمع الشرذمة: شراذم، فذكرهم بالاسم الدال على القلة، ثم جعلهم قليلاً بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً، واختار جمع السلامة الذي هو جمع القلة.(15/29)
ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة، لا قلة العدو، أي: إنهم لقلتهم لا يبالى بهم.
قال ابن عباس: كان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة، ولا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم، وفرعون يقللهم لكثرة من معه. وهذا الوصف قد استعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حسان وفي عسكره على لون فرسه ثمانمائة ألف.
قوله: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} . يقال: غَاظَهُ وَأَغَظَهُ وَغَيَّظَهُ: غذا أغضبه. والغيظ، الغضب. والمعنى: أنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا. واختلفوا في تلك الأفعال. فقل: أخذهم الحليّ وغيره. وقيل: خروجهم عن عبوديته. وقيل: خروجهم بغير إذنه، وقيل: مخالفتهم له في الدين.
وقيل: لأنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً.
وأما وصفه قومه فهو قوله: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} . قرأ الكوفيون وابن ذكوان: «حاذرون» بألف. والباقون: «حذرون» بدونها. فقال أبو عبيدة والزجاج: هما بمعنى واحد، يقال: رجل حذر وحاذر بمعنى.
وقيل: بل بينهما فرق، فالحذر: المتيقظ. والحاذر: الخائف. وقيل: الحذر: المخلوق مجبولاً على الحذر. والحاذر: ما عرض له ذلك.
وقيل: الحذر: المتسلح الذي له شوكة سلاح، وأنشد سيبويه في إعمال «حَذِر» على أنه مثال مبالغة محول من حاذر قوله:
3905 - حَذِرٌ أُمُوراً لاَ تَضِيرُ وَآمِنٌ ... مَا لَيْسَ مُنْجِيهِ مِنَ الأَقْدَارِ(15/30)
وزعم بعضهم أن سيبويه لمَّا سأله: هل يحفظ شيئاً في إعمال «فَعِل» ؟ صنع له هذا البيت، فعيب على سيبويه: كيف يأخذ الشواهد الموضوعة؟
وهذا غلط، فإن هذا الشخص قد أقر على نفسه بالكذب، فلا يقدح قوله في سيبويه. والذي ادعى انه صنع البيت هو الأخفش. و «حَذِر» يتعدى بنفسه، قال تعالى: {يَحْذَرُ الآخرة} [الزمر: 9] ، وقال العباس بن مرداس:
3906 - ... - وَإِنِّي حَاذِرٌ أَنْمِي سِلاَحِي
إلَى أَوْصَالش ذَيَّالٍ مَنِيع ... وقرأ ابن السميفع وابن أبي عمار: «حَادِرُونَ» بالدال المهملة من قولهم عين حدرة، أي: عظيمة، كقولهم:
3907 - وَعَيْنٌ لَهَا حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ... والمعنى: عظيماً. وقيل: الحادر: القوي الممتلىء، وحكي: رجل حادر، أي: ممتلىء غيظاً، ورجل حادر، أي: أحمق، كأنه ممتلىء من الحمق قال:
3908 - أُحِبُّ الغُلاَمَ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّه ... وَأَبْغَضُهُ مِنْ بَغْضِهَا وَهْوَ حَادِرُ
ويقال أيضاً رجل [حَدُرٌ بزنة يقط مبالغة في (حادر) من هذا المعنى، فصار يقال] حَذِر وحَذُر وحَاذِرِ بالذال المعجمة والمهملة والمعنى مختلف.(15/31)
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهو اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحديث. وإذا لم تكن كذلك وهي المشبهة [أفادت الثبوت. فمن قرأ «حَذِرُونَ» ] ذهب إلى معنى أنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ: «حَاذِرُون» ذهب إلى معنى: إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا. ومن قرأ: «حَادِرُون» بالدال المهملة، فكأنه ذهب إلى نفي أصلاً، لأن الحادر هو السمين، فأراد: إنا قوم أقوياء أشداء، أو أراد: إنا شاكون في السلاح. والغرض من هذه التقادير ألا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى، أو خائف منهم.
قوله: «فَأَخْرَجْنَاهُمْ» . أي: خلقنا في قلوبهم داعية الخروج، فاستلزمت الداعية الفعل، فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة.
وقوله: {مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ} أي: أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة. قال مجاهد: سماها كنوزاً، لأنه لم يعط حق الله منها، وما لم يعط الله منه فهو كنز وإن كان ظاهراً.
قوله: «وَمَقَامٍ» .
قرأ العامة بفتح الميم، وهو مكان القيام. وقتادة والأعرج بضمها وهو مكان الإقامة. والمراد ب «الكَرِيم» : الحسن.
قال المفسرون: هي مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تحفها الأتباع.
وقيل: المواضع التي كانوا [يتنعمون فيها] .
قوله: «كَذَلِكَ» . فيه ثلاثة أوجه: قال الزمخشري: يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف ل «مَقَام» أي: ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك. قال أبو حيان: فالوجه الأول لا يسوغ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه، وكذلك الوجه الثاني؛ لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم، فلا(15/32)
يشبه الشيء بنفسه. قال شهاب الدين: وليس في ذلك تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن المراد في اأول: أخرجناهم إخراجاً مثل الإخراج المعروف المشهور، وكذلك الثاني.
قوله: «وَأَوْرَثْنَاها» عطف على «فَأَخْرَجْنَاهُمْ» أي: وأورثناها بهلاكهم بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصل بعدما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن.
قوله: «فَأَتْبَعُوهُمْ» . قرأ لعامة بقطع الهمزة من «أَتْبعه» أي: ألحقه نفسه، فحذف الثاني. وقيل: يقال: أَتْبعه بمعنى «اتبعه» بوصل الهمزة، أي: لحقه.
وقرأ الحسن والحارث الذَّمَّارِيّ بوصلها وتشديد التاء، وهي بمعنى اللحاق.
وقوله: «مُشْرِقِينَ» أي: داخلين في وقت الشروق من: شَرَقت الشمس شروقاً: إذا طلعت ك «أصبح، وأمسى» : إذا دخل في هذين الوقتين. وقيل: داخلين نحو المشرق ك «أَنْجَد، وأَتْهَم» . و «مُشْرِقِين» منصوب على الحال، والظاهر أنه من الفاعل. وقيل: «مُشْرِقِين» بمعنى: مضيئين. وفي التفسير: أنّ بني إسرائيل كانوا في نور، والقبط في ظلمة، فعلى هذا يكون «مُشْرِقِين» حالاً من المفعول. قال شهاب الدين: وعندي أنه يجوز أن يكون حالاً من الفاعل والمفعول إذا جعلنا «مُشْرِقِين» : داخلين في وقت الشروق، أو في مكان المشرق، لأن كلاً من القبيلين كان داخلاً في ذلك الزمان، أو في ذلك المكان.
قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان} أي: تقابلا ورأى بعضهما بعضاً. قرأ العامة: «تَرَاءَى» بتحقيق الهمزة. وابن وثاب والأعمش من غير همزة، بأن تكون الهمزة مخففة بين بين، لا بالإبدال المحض، لئلا يجتمع ثلاث ألفات، الأولى الزائدة بعد الراء، والثانية المبدلة من الهمزة، والثالثة لام الكلمة، لكن الثالثة لا تثبت وصلاً لحذفها لالتقاء الساكين، ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فنقول: هذا الحرف إما أن يوقف عليه أو لا، فإن وقف(15/33)
عليه فحمزة يميل ألفه الأخيرة؛ لأنها طرف منقبلة عن ياء.
ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الهمزة المسهلة، لأنه إذا وقف على مثل هذه سهلها على مقتضى مذهب، وأمال الألف الأولى إتباعاً لإمالة فتحة الهمزة. ومن شرورة إمالتها إمالة فتحة الراء قبلها، وهذا هو الإمالة لإمالة. وغيره من القراء لا يميل شيئاً من ذلك. وقياس مذهب الكسائي أن يميل الألف الأخيرة، وفتحة الهمزة قبلها، وكذا نقله ابن الباذش عنه وعن حمزة.
وإن وصل فإن الألف الأخيرة تذهب لالتقاء الساكنين، ولذهابها تذهب إمالة فتحة الهمزة، وتبقى إمالة الألف الزائدة، وإمالة فتحة الراء قبلها عنده اعتداداً بالألف المحذوفة، وعند ذلك يقال: حذف السبب وبقي المسبب؛ لأن إمالة الألف الأولى إنما كان لإمالة الألف الأخيرة [كما تقدم تقريره، وقد ذهبت الأخيرة] فكان ينبغي ألا تمال الأولى لذهاب المقتضي لذلك، ولكنه راعى المحذوف وجعله في قوة المنطوق؛ ولذا تجرأ عليه أبو حاتم فقالك وقراءة هذا الحرف بالإمالة محال. وقد تقدم في الأنعام عند «رَأَى القَمَرَ» و «رَأَى الشَّمْسَ» ما يشبه هذا العمل.
قوله: «لَمَدْرَكُونَ» . العامة على سكون الدال، اسم مفعول من «أَدْركَ» أي: لملحقون. وقرأ الأعرج وبيد بن عمرو بفتح الدال مشددة وكسر الراء.(15/34)
قال الزمخشري: المعنى: متتابعون في الهلاك على أيديهم، ومنه بيت الحماسة:
3909 - أَبَعْدَ بَنِي أُمِّي الَّذِينَ تَتَابَعُوا ... أُرَجِّي الحَيَاةَ أَمْ مِنَ المَوْتِ أَجْزَعُ
يعني: أن «ادَّرَك» على «افتعل» لازم بمعنى فني واضمحلّ، يقال: ادَّرَكَ الشيء يدَّرك فهو مدَّرَك، أي: فني متتابعا، ولذلك كسرت الراء. وممن نص على كسرها أبو الفضل الرازي، قال: «وقد يكون» ادَّرَك «على» افتعل «بمعنى» أفعل «متعدياً، ولو كانت القراءة من هذا لوجب فتح الراء ولم يبلغني عنهما - يعني: عن الأعرج وعبيد - إلا الكسر» .
فصل
المعنى {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان} ، أي: رأى كل فريق صاحبه.
وقرىء {فَلَمَّا تَرَاءْتِ الفِئَتَانِ} قال أصحاب موسى: «إنَّا [لَمُدْرَكُونَ» أي] لَمُلْحَقُون، وقالوا: يا موسى {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا} [الأعراف: 129] كانوا يذبحون أبناءنا، {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129] يدركوننا في هذه الساعة فيقتلوننا، ولا طاقة لنا بهم، فعند ذلك قال موسى ثقة بوعد الله إياه «كَلاَ» وذلك كالمنع مما توهموه، أي: لن يدركونا {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} يدلني على طريق النجاة.(15/35)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
قوله: [ {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} . لما قال موسى: {} بين تعالى كيف هداه ونجّاه وأهلك أعداءه، فقال] : {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} ولا بد قبله من جملة محذوفة، أي: فضرب فانفلق. وزعم ابن عصفور ان المحذوف إنما هو: «ضرب» وفاء: «انفلق» . وأن الفاء الموجودة(15/35)
هي فاء «فَضَرَبَ» فأبقى من كل فعل ما يدلّ على المحذوف، أبقى الفاء من «فَضَرَبَ» ليدلّ على «ضَرَبَ» وأبقى «انْفَلَقَ» ليدل على الفاء المتصلة به.
قوله: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} اختلف القراء في ترقيق راء «فرق» فروي عن ورش الترقيق لأجل القاف. وقرىء: «فِلْق» بلام بدل الراء، لموافقة «فانفلق» والطود: الجبل العظيم المتطاول في السماء.
فصل
قال ابن جريرج: لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح والبحر يرمي بموج كالجبال قال يوشع: يا مكلم الله، أين أمرت؟ فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا، فقال موسى: هاهنا. فخاض يوشع الماء وجاز البحر ما يواري حافر دابته الماء، وقال الذي يكتم إيمانه: يا مكلم الله، أين أمرت؟ قال: هاهنا. فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء، وصنع القوم مثل ذلك، فلم يقدروا، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه لا يبتلّ سرجه ولا لبده، وهذا معجز عظيم من وجوه:
أحدها: أن تفرق ذلك الماء معجز.
وثانيها: ثبت في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم، فاحتبسوا القدر الذي يتكامل معه عدد بني إسرائيل، وهذا معجز ثالث.
ورابعها: أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر بعضهم إلى بعض، وهذا معجز رابع.(15/36)
وخامسها: أن بقّى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب آل فرعون فطمعوا أن يتخلّصوا من البحر كما تخلّص موسى - عليه السلام - فهو معجز خامس.
قوله: «وَأَزْلَفْنَا» أي: قربنا من النجاة، و «ثَمَّ» ظرف مكان بعيد، و «الآخرِينَ» هم موسى وأصحابه. وقرأ الحسن وأبو حيوة: «وَزَلَفْنَا» ثلاثياً.
وقال أبو عبيدة: أَزْلَفْنَا: جمعنا، ومنه: ليلة المزدلفة، أي: ليلة الجمع.
وفي القصة أن جبريل كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون، وكان يسوق بني إسرائيل ويقول: ليلحق آخركم بأولكم، ويستقبل القبط، ويقول: رويدكم لكي يلحق آخركم. وقرأ أبيّ وابن عباس وعبد الله بن الحراث بالقاف، أي: أزللنا، والمراد ب «الآخرين» جعله لبني إسرائيل يبساً فيزلقهم فيه.
قوله: {وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} . والمعنى: أنه تعالى جعل البحر يبساً في حق موسى، حتى خرجوا عنه، وأغرق فرعون ومن معه، لأنه لما تكامل دخولهم في البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا.
قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي: إن في الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرة الله تعالى؛ لأن أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته، وكون وقوعه مصلحة في الدين والدنيا، وعلى صدق موسى لكونه معجزة له، وعلى التحذير عن مخالفة أمر الله ورسوله، وفيه تسلية للنبي - عليه السلام - لأنه قد يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه، فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره.
ثم قال: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أي: من أهل مصر. قيل: لم يكن من أهل مصر إلا آسية امرأة فرعون وحزقيل المؤمن، ومريم بنت ناموشا التي دلت على عظام(15/37)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
يوسف - (عليه السلام) - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} في الانتقام من أعدائه «الرَّحيمُ» بعباده، لأنه تعالى أفاض عليهم أصناف نعمه، وكان قادراً على أن [يهلكهم، فدل على كمال رحمته وسعة جوده وفضله.
قوله
تعالى
: {واتل
عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ... الآيات} .
اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة شدة حزن محمد - عليه السلام - ثم ذكر قصة موسى ليعرِّف محمداً أن مثل تلك المحنة كانت حاصلة لموسى، ثم ذكر عقيبها قصة إبراهيم ليعرف محمد أن حزن إبراهيم بهذا السبب كان أشد من حزنه.
قوله: «إذْ قَالَ» العالم في «إِذْ» «نَبأَ» أو «اْتلُ» قاله الحوفي وهذا لا يتأتى إلا على كون «إذْ» مفعولاً به. وقيل: «إذ» بدل من «نبأ» بدا اشتمال، وهو يؤول إلى أن العامل فيه «اتْلُ» بالتأويل المذكور.
قوله: «وَقَوْمِهِ» الهاء تعود على إبراهيم، لأنه المحدث عنه.
وقيل: تعود على «أَبِيهِ» لأن أقرب مذكور، أي: قال لأبيه وقوم أبيه، ويؤيده {إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ} [الأنعام: 74] حيث أضاف القوم إليه.
قوله «مَا تَعْبُدُونَ» أي: أيّ شيء تعبدون؟ وهو يعلم أنهم عبدة الأصنام، ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة، كما تقول (لتاجر الرقيق) : ما مالك؟ وأنت تعلم أن ماله الرقيق، ثم تقول: الرقيق جمال وليس بمال.
قوله: «نَعْبُدُ أَصْنَاماً» أتوا في الجواب بالتصريح بالفعل ليعطفوا عليه قولهم: «(15/38)
فَنَظَلُّ» افتخاراً بذلك، وإلاَّ فكان قولهم: «نَعْبُدُ أَصْنَاماً» كافياً كقوله تعالى: «قُلِ العَفْوَ» ، «قَالُوا خَيْراً» .
قوله: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} . العكوف: الإقامة على الشيء. قال بعض العلماء: إنما قالوا: (فَنَظَلُّ) لأنهم يعبدونها بالنهار دون الليل، يقال: ظل يفعل كذا: إذا فعل بالنهار. فقال إبراهيم - عليه السلام - منبهاً على فساد مذهبهم: «هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ» لا بد من محذوف، أي: يسمعون دعاءكم، أو يسمعونكم تدعون، فعلى الأول هي متعدية لواحد اتفاقاً. وعلى الثاني هي متعدية لاثنين قامت الجملة المقدرة مقام الثاني، وهو قول الفارسي.
وعند غيره: الجملة المقدرة حال. وتقدم تحقيق القولين.
وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضم الياء وكسر الميم، والمفعول الثاني: محذوف، أي: يسمعونكم الجواب.
قوله: «إذْ تَدْعُونَ» منصوب بما قبله، فما قبله وما بعده ماضيان معنى وإن كانا مستقبلين لفظاً لعمل الأول في «إذْ» ولعمل «إذْ» في الثاني.
وقال بعضهم: «إذ» هنا بمعنى: «إذا» وقال الزمخشري: إنه على حكاية الحال الماضية، معناه: استحضروا الأحوال التي كنتم تدعونها فيها، هل سمعوكم إذا سمعوا؟ وهو أبلغ في التبكيت، وقد تقدم أنه قرىء بإدغام ذال «إذْ» وأظهارها في التاء. وقال(15/39)
ابن عطية: ويجوز فيه قياس «مذكر» ونحوه، ولم يقرأ به أحد، والقياس أن يكون اللفظ به «إدَّدْعون» والذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل فكثرت المتماثلات، يعني: فيكون اللفظ بدال مشددة مهملة، ثم بدال ساكنة مهملة أيضاً.
قال أبو حيان: وهذا لا يجوز، لأن هذا الإبدال إنما هو في تاء الافتعال بعد الدال والذال والزاي نحو: ادَّهَن، واذّكر، وازْدَجَر، وبعد جيم شذوذاً نحو: «اجْدَمعوا» في «اجتمعوا» ، وفي تاء الضمير بعد الدال والزاي نحو: «فُزْدَ في فُزْتَ» و «جَلَدُّ في جَلَدْتُ» أو تاء «تَوْلَج» قالوا فيها: «دَوْلَج» وتاء المضارعة، ليس شيئاً مما ذكر وقوله: «والذي منع ... إلى آخره» يقتضي جوازه لو لم يوجد ما ذكر، فعلى مقتضى قوله يجوز أن تقول في «إذْ تَخْرُج» : «إذَّ خْرُج» ولا يقول ذلك أحد، بل يقولون: اتّخرج فيدغمون الذال في التاء.
فصل
تقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم - عليه السلام - أن من عبد غيره لا بد أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده أو يسمع دعاءه، ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة، فقال لهم: إذا كان الذي تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم، ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر، فكيف تعبدون ما هذا صفته؟ فعند هذه الحجة الباهرة لم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد، فقالوا: {وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .
وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال، إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا الاستدلال لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله، وذماً لطريقة إبراهيم التي مدحها الله.
قوله: «كَذَلِكَ» منصوب ب «يَفْعَلُونَ» أي: يفعلون مثل فعلنا، و «يَفْعَلُون» في محل نصب مفعولاً ثانياً ل «وَجَدْنَا» .
قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون} . أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً، ولا بأن يكون في فاعليه كثيرة أو قلة.
قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} اللغة الغالبة إفراد «عَدُوّ» وتذكيره، قال تعالى: {هُمُ العدو} [(15/40)
المنافقون: 4] وإنما فعل به ذلك تشبيهاً بالمصادر نحو: «الوَلُوعُ، والقَبُول» وقد يقال: أعداءٌ، وعَدُوَّةٌ، وقوله: «عَدُوٌّ لي» على أصله من غير تقدير مضاف ولا قلب، لأن العدو والصديق يجيئان في معنى الواحدة والكثرة، قال الشاعر:
3910 - وَقَوْمٌ عَلَى ذَوِي مِئْرَةٍ ... أَرَاهُمْ عَدُوّاً وَكَانُوا صَدِيقَا
وتقدم الكلام في نظيره عند قوله: «إنَّا رَسُولُ» .
وقيل: المعنى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} لو عبدتهم يوم القيامة، كقوله:
{سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82] . (وقيل: الأصنام لا تُعادى لأنها جماد، والتقدير: فإن عبادهم عدو لي) . وقيل: بل في الكلام قلب تقديره: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لهم وهذان مرجوحان لاستقامة الكلام بدونهما، فإن قيل: لم قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} ولم يقل فإنها عدو لكم؟ فالجواب: أنه - عليه السلام - صور المسألة في نفسه، بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها، وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه، فإذا تفكروا وقالوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون أدعى إلى القبول.
قوله: {إِلاَّ رَبَّ العالمين} فيه وجهان:
أحدهما: أنه منقطع، أي: لكن رب العالمين ليس بعدوٍّ لي. وقال الجرجاني: فيه تقديم وتأخير، أي: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا ربّ(15/41)
العالمين فإنهم عدو لي، و «إلاَّ» بمعنى «دُونَ، وسِوَى» .
والثاني: أنه متصل، وهو قول الزجاج، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، فقال إبراهيم: كل من تبعدون أعداء لي إلا رب العالمين.
وقال الحسن بن الفضل: معناه: إلا من عبد رب العالمين. وقيل: معناه: فإنهم غير معبود لي إلا رب العالمين. ثم وصف معبوده، وهو قوله: «الذَّي خَلَقَنِي» يجوز فيه أوجه: النصب على النعت ل «رَبّ العَالَمِينَ» ، أو البدل، أو عطف البيان، أو على إضمار «أعني» . والرفع على خبر مبتدأ مضمر، أي: هو الذي خلقني، أو على الابتداء. و «فَهُوَ يَهْدِين» جملة اسمية في محل رفع خبراً له.
قال الحوفي: ودخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط. وهذا مردود. لأن الموصول معيَّنٌ ليس عاماً، وأن الصلة لا يمكن فيها التجدد، فلم يشبه الشرط وتابع أبو البقاء الحوفيَّ، ولكنه لم يتعرض للفاء، فإن عنى ما عناه الحوفي فقد تقدم ما فيه، وإن لم يفعله فيكون تابعاً للأخفش في تجويزه زياة الفاء في الخبر مطلقا نحو: «زيدٌ فاضربه» وقد تقدم تجويزه.(15/42)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
واعلم أن إبراهيم - عليه السلام - لما استثنى رب العالمين وصفه بما يستحق العبادة لأله بأوصاف:
أحدهما: قوله {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} ، وذلك لأن الله تعالى أثنى عليه(15/42)
نفسه بهذين الأمرين في قوله: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2 - 3] .
وقال: «خَلَقَنِي» بلفظ الماضي، لأن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم.
وقال: «فَهُوَ يَهْدِيْن» بلفظ المستقبل، لأن الهداية مما تتكرر كل حين وأوان، سواء كانت تلك الهداية من المنافع الدنياوية بتمييز الناف عن الضار، أو من المنافق الدينية بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر.
قوله: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} . يجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف وكذلك ما بعده، ويجوز أن تكون أوصافاً ل «الَّذِي خَلَقَنِي» ودخول الواو جائز، وقد تقدم تحقيقه في أول البقرة كقوله:
3911 - إلَى المَلِك القَرْمِ وَابنِ الهَمَامِ ... وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وأثبت ابن إسحاق - وتروى عن عاصم أيضاً - ياء المتكلم في: «يَسْقِينِ، ويَشْفِينِ، ويُحْيِينِ» .
فصل
المعنى: يرزقني ويغدوني بالطعام والشراب، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما.
قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أضاف المرض إلى نفسه، وإن كان المَرض والشفاء كله من الله استعمالاً لحُسن الأدب كما قال الخضر: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [(15/43)
الكهف: 79] ، وقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] .
وأجاب ابن الخطيب بأجوبة أخر، منها: أن أكثر أسباب المرض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قال الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخَم. ومنها: أن الشفاء محبوب، وهو من أصول النعم، والمرض مكروه وليس من النعم وكان مقصود إبراهيم - عليه السلام - تعديد النعم، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله، فإن نقضته بالأمانة فجوابه: أن الموت ليس بضرر، لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به، وحال حصول الموت لا يحصل الإحساس به، إنما الضرر في مقدماته، وذلك هو عين المرض، ولأن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر، وخلاصتها عنها عين السعادة (بخلاف المرض) .
قوله: {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} . والمراد منه: الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها، والمراد من الإحياء: المجازاة، ولذلك أدخل «ثُمَّ» للتراخي، أي يميتني وحيين في الآخرة.
قوله: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} قرأ العامة: «خَطِيئَتِي» بالإفراد. والحسن: «خَطَايَايَ» جمع تكسير. فإن قيل: لم يقال: «والَّذِي أَطْمَعُ» والطمع عبارة ن الظن والرجاء، وهو عليه السلام كان قاطعاً بذلك؟ فالجواب: هذا الكلام يستقيم على مذهب أهل السنة، حيث قالوا: لا يجب على الله لأحد شيء، وأن يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله.
وأجاب الجبائي عنه من وجهين:
الأول: أن قوله: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي} أراد به سائر المؤمنين، لأنهم الذين يطعون ولا يقطعون به.
والثاني: المراد من الطمع: اليقين، وهو المروي عن الحسن.
وأجاب الزمخشري بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً لأمته كيفية الدعاء.
قال ابن الخطيب: وهذه وجوه ضعيفة، أما الأول فإن الله تعالى حكى الثناء أو(15/44)
والمدح ثانياً، ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم - عليه السلام - فجعل الشيء الواحد وهو كقوله: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي يَوْمَ الدين} كلام غيره ممّا يبطل نظم الكلام ويفسده.
وأما قوله: إن الطمع هو اليقين (فهذا) على خلاف اللغة.
وأما الثالث وهو أن المراد تعليم الأمة فباطل أيضاً، لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة، وإنه باطل أيضاً. فإن قيل: لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: قال مجاهد: هي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] وقوله لسارة: «هذه أختي» وزاد الحسن قوله للكوكب: {هذا رَبِّي} [الأنعام: 76] .
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف، لأن نسبة الكذب إليه غير جائز.
وثانيها: أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف، لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال، وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به، وهو منزه عن المعصية.
وقال: وثالثها، وهو الجواب الصحيح: أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى ذلك خطأ، فإن من ملك جوهرة أمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار، فباعها بدينار، وقيل: إنه أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز.
فإن قيل: ما فائدة قوله: «يَغْفِرَ لِي» ؟
فالجواب من وجوه: الأول: أن الأأب إذا عفا عن ولده، والسيد عن عبده، والزوج عن زوجته فإنما يكون ذلك طلباً للثواب، أو لحسن الثناء والمحمدة، أو دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية جانب نفسه، إما لتحصيل ما ينبغي، أو لدفع ما لا ينبغي، وأما الإله سبحانه فإنه كامل بذاته فيستحيل أن(15/45)
تحدث له صفات كمال لم تكن، أو يزول عنه نقصان كان، وإذا كان كذلك لم يكن فعوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه.
فقوله: «يَغْفِر لِي» معناه: أن غفرانه لي ولأجلي، لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة.
وثانيها: كأنه قال: خلقتني لا لي، فإنك حين خلقتني لم أكن موجوداً، فإذا عفوت كان ذلك العفو لأجلي، فلما خلقتني أولاً مع أني ما كنت محتاجاً إلى ذلك الخلق، فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى.
وثالثها: أن إبراهيم - عليه السلام - كان مع شدة استغراقه في المعرفة شديد الفرار عن الوسائط، ولذلك لما قال له جبريل: «ألك حاجة؟» قال: «أما إليك فلا» فهاهنا قال: {أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} أي: بمجرد عبوديتي واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي، لا أن تغفرها بواسطة شفاعة شافع، فإن قيل: لم علق غفران الخطيئة بيوم الدين وإنما تغفر في الدنيا؟
فالجواب: لأن أثرها يظهر يوم الدين، وهو الآن خفي لا يعلم.(15/46)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} . لما حكى عن إبراهيم عليه السلام - ثناءه على الله - ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته، وذلك تبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقتصر إبراهيم على الثناء ولا سيما يروى عنه أنه قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي؟
فالجواب: أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين اشتغاله بدعوة الخلق إلى الحق لأنه قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77] ثم ذكر الثناء، ثم ذكر الدعاء لأن الشارع لا بد له من تعليم الشرع، فأما حين (ما) خلا بنفسه ولم يكن غرضه(15/46)
تعلم الشرع اقتصر على قوله: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» واعلم أن قوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} أجابه الله تعالى بقوله {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} [البقرة: 130] .
والمراد ب «الحكم» : إدراك الحق والعلم، لأن النبوة كانت حاصلة له، وتحصيل الحاصل محال، وهذا قول مقاتل. وقال ابن عباس: معرفة حدود الله وأحكامه.
وقال الكلبي: النبوّة «وَأَلْحِقْنِي بالصَّالِحِينَ» من قبلي من النبيين في المنزلة والدرجة.
قوله: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} . أي: ثناء حسناً، وذكراً جميلاً، وقبولاً عاماً في الأمم التي تجيء بعدي. قال ابن عباس: أعطاه الله بقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} [الصافات: 108] فأهل الأديان يتولونه ويثنون عليه.
قال القتيبي: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به.
وقيل: المراد منه: أن يجعل في ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى وذلك هو محمد - عليه السلام - فالمراد من قوله: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} بعثه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قوله: {واجعلني (مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} «مِنْ وَرَثَةِ» إما أن يكون مفعولاً ثانياً، أي: مستقراً أو كائناً من ورثة. وإما أن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني، أي: وارثاً من ورثة. واعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا.
قوله: {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} . لما فرغ من طلب السعادت الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به، وهو أبوه، وفيه وجهان:
الأول: أن المغفرة مشروط بالإسلام، وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط، فقوله «واغْفِر لأَبِي» كأنه دعاء له بالإسلام.(15/47)
الثاني: أن أباه وعده بالإسلام لقوله: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} [التوبة: 14] فدعا له قبل أن يتبين له (أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّه) ، كما سبق في سورة التوبة.
وقيل: إن أباه قال له: إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقيَّة وخوفاً، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ولذلك قال في دعائه: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك.
قوله: {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (قال الزمخشري) : الإخزاء من الخزي، وهو الهوان، ومن الخزاية، وهي الحياء. وهذه الآية تدل على أنه لا يجب على الله شيء كما تقدم في قوله: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} . فإن قيل: لما قال أولاً: {واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} كان كافياً عن قوله: {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} . وأيضاً فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين} [النحل: 27] فما كان نصيب الكفار فقط كيف يخافه المعصوم؟
فالجواب: أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكذا درجات الأبرار خزي المقربين، وخزي كل واحد بما يليق به.
قال الزمخشري: في (يبعثون) ضمير العباد لأنه معلوم، أو ضمير الضالين.
قوله: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ... الآية} . {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ} بدل من «يوم» قبله وجعل ابن عطية هذا من كلام الله تعالى إلى آخر الآيات مع إعرابه {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ} بدلا من «يَوْمَ يُبَعَثُون» . وردّه أبو حيان بأن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه آو آخر مثله مقدر. وعلى كلا هذين القولين لا يصح لاختلاف المتكلمين. واعلم أن الله تعالى قد أكرمه بهذا الوصف حيث قال: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83 - 84] .
قوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله} فيه أوجه:
أحدها: أنه منقطع، أي {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} فإنه ينفعه ذلك.
وقال الزمخشري: ولا بد مع ذلك من تقدير المضاف، وهو الحال المراد بها سلامة(15/48)
القلب، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن البنين والمال لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل لاستثناء معنى.
قال أبو حاين: ولا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف كما ذكر.
قال شهاب الدين: إنما قدر المضاف ليتوهم دخول المستثنى في المستثنى منه لأنه متى لم يتوهم ذلك لم يقع الاستثناء، ولهذا منعوا: صَهَلَتِ الخَيْلأُ إلاَّ الإِبِلَ. إلاَّ بتأويل.
الثاني: أنه مفعول به قوله: «لاَ يَنْفَعُ» أي: لا ينفع المال والبنون إلا هذا الشخص فإن هينفعه ماله المصروف في وجوه البِرِّ وبنوه الصلحاء، لأنه علَّمهم وأحسن إليهم.
الثالث: أنه بدل من المفعول المحذوف، أو مستثنى منه، (إذ التقدير: لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلا من كانت هذه صفته، والمستثنى منه) يحذف كقوله
3912 - وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنُ سَيْفٍ وَمِئْزَرا ...
أي: ولم ينج بشيء.
الرابع: أنه بدل من فاعل «يَنْفَعُ» فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء: وغلب من يعقل فيكون التقدير: إلاّ مالُ من، أو بنون من فإنه ينفع نفسه وغيره بالشفاعة.
قال شهاب الدين: وأبو البقاء خلط وجهاً بوجه، وذلك أنه إذا أردنا أن نجعله بدلاً من فاعل «يَنْفَعُ» قلنا: فيه طريقتان:
إحداهما: طريقة التغليب، أي: غلَّبنا البنين على المال، فاستثنى من البنين(15/49)
فكأنه قيل: لا ينفع البنون إلا من أتى من البنين بقلب سليم فإنه ينفع نفسه بصلاحه وغيره بالشفاعة.
والطريقة الثانية: أن نقدر مضافاً محذوفاً قيل «من» أي: إلاّ مال من، أو بنو من، فصارت الأوجه خمسة. ووجه الزمخشري اتصال الاستثناء بوجهين:
أحدهما: إلا حالة {مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وهو من قوله:
3913 - تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ... وما ثوابه إلا السيف، ومثاله أن يقال: هل لزيدٍ مالٌ وبنون؟ فيقال: مالُه وبنُوه سلامة قلبِهِ، يريد نَفْيَ المالِ والبنين عنه، وإثبات سلامة قلبه بدلاً عن ذلك.
والثاني: قال: وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا من أتى الله، لأن غنى الرجل في دينه بسلامه قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه.
فصل
وفي «السليم» ثلاثةأوجه:
قال ابن الخطيب: أصحها: أن المراد منه سلامه النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة. وقيل: السليم: الخالص من الشرك والشك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، وهذا قول أكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو الصحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [البقرة: 10] [المائدة: 52] [الأنفال: 49] . وقيل: السليم: هو اللديغ من خشية الله. وقيل: السليم: هو الذي سَلَّم وأَسْلَم وسَالَم واسْتَسْلَم.(15/50)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} أي: أن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها. {وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} أي: أُظْهِرَت.
وقرأ مالك بن دينار: «وبَرَزت» بفتح الباء والراء خفيفة مبنياً للفعل مسنداً ل «الجحيم» ، فلذلك رفع، والمراد ب «الغاوين» الكافرون.
{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ} : يمنعونكم من العذاب بنصرتهم، أو ينفعون أنفسهم بانتصارهم.
قوله: «فَكُبْكِبُوا» أي: أُلْقوا وَقُلِبَ بعضهم على بعض. قال الزمخشري: الكَبْكَبَة. تَكرِير الكبِّ، جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى.
وقال ابن عطية نحواً منه، قال: وهو الصحيح، لأن تكرير الفعل بَيِّنٌ نحو: صَرَّ وَصَرْصَرَ، وهذا هو مذهب الزجاج.
وفي مثل هذا البناء ثلاثة مذاهب:
أحدها: هذا.
والثاني: وهو مذهب البصريين أن الحروف كلها أصول.
والثالث: وهو قول الكوفيين: أن الثالث مبدل من مثل الثاني: فأصل «كَبْكَبَ» : كَبَّبَ، بثلاث باءات، ومثله «لَمْلَمَ، وَكَفْكَفَ» ، هذا إذا صح المعنى بسقوط الثالث،(15/51)
فأما إذا لم يصح المعنى بسقوطه كانت كلها أصولاً من غير خلاف نحو: «سِمْسِم، وخِمْخِم» . وواو «كُبْكِبُوا» قيل: للأَصنام، إجراء لها مجرى العقلاء. وقيل: (لعابديها) .
فصل
قال ابن عباس: جمعوا. وقال مجاهد: دُهْوِرُوا. وقال مقاتل: قذفوا وقال الزجاج: طُرِحَ بعضُهم على (بعض) . وقال القتيبي: أُلْقُوا على رؤوسهم «هُمْ والغَاوُوْن» يعني: الشياطين، قاله قتادة ومقاتل. وقال الكلبي: كَفَرَةُ الجن. {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} أتباعه من الجن والغنس. وقيل: ذريته.
قوله: {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} جملة حالية معترضة بين القول ومعموله ومعمول الجملة القسمية.
قوله: {إِن كُنَّا لَفِي} . مذهب البصريين: أن «إن» مخففة، واللام فارقة. ومذهب الكوفيين: أن «إن» نافية، واللاام بمعنى «إلا» .
فصل
المعنى: قال الغاوون للشياطين والمعبودين {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} مع المعبودين، ويجادل بعضهم بعضا: {تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} يذكرون ذلك حين يروا صورها على وجه الاعتراف (بالخطأ العظيم وعلى) وجه الندامة لا على وجه المخاطبة، لأنها جماد لا تخاطب، وأيضاً فلا ذَنْبَ لها بأن عَبَدها غيرها. ومما يدل على أن ذلك ليس(15/52)
بخطاب لها في الحقيقة قولهم: " وما أضلنا إلا المجرمون " قوله: " إذ نسويكم ". " إذ " منصوب إما ب " مبين "، وإما بمحذوف، أي: ضللنا في وقت تسويتنا لكم بالله في العبادة. ويجوز على ضعف أن يكون معمولا ل " ضلال "، والمعنى عليه إلا أن ضعفه صناعي وهو أن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه.
(فصل)
" نسويكم " نعدلكم " برب العالمين " فنعبدكم، " وما أضلنا ": دعانا إلى الضلال " إلا المجرمون " ". قال مقاتل: يعني: الشياطين.
وقال الكلبي: إلا أولونا الذين اقتدينا (بهم) .
قوله: " فما لنا من شافعين " أي: من يشفع لنا؟ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين والمؤمنين، " ولا صديق " وهو الصادق في المودة بشرط الدين. قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ".
قال الحسن: " استكثروا من الأصدقاء المؤمنين، فإن لهم شفاعة يوم القيامة " والحميم: القريب، من قولهم: حامة فلان، أي: خاصته.
وقال الزمخشري: الحميم: من الاحتمام، وهو الاهتمام أو من الحامة وهي الخاصة، وهو الصديق الخالص والنفي هنا يحتمل نفي الصديق من أصله، أو نفي صفته فقط، فهو من باب: 3914 - على لاحب لا يهتدي بمناره
و" الصديق " يحتمل أن يكون مفردا وأن يكون مستعملا للجمع، كما يستعمل(15/53)
العدو له، فيقال: هم صديق، وهم عدو، وقد تقدم. وإنما جمع " الشافعين " ووحد " الصديق " لكثرة الشفعاء في العادة وقله الصديق.
قوله: " فلو أن لنا كرة ". لو يجوز أن تكون المشربة معنى التمني، فلا جواب لها على المشهور، ويكون نصب " فنكون " جوابا للتمني الذي أفهمته " لو " ويجوز أن تكون على بابها، وجوابه محذوف، أي لوجدنا شفعاء وأصدقاء، أو لعملنا صالحا وعلى هذا فنصب الفعل ب " أن " مضمرة عطفا على " كرة " أي: لو أن لنا كرة (فكونا) كقولها: 3915 - للبس عباءة وتقر عيني
(فصل)
قال الجبائي: قولهم: " فنكون من المؤمنين " ليس بخبر عن إيمانهم، لكنه خير عن عزمهم، لأنه لو كان خبرا عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقا، لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة، وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] وقد تقدم في سور الأنعام بيان فساد هذا الكلام.
قوله: " إن في ذلك لآية " أي: فيما ذكره من قصة إبراهيم - عليه السلام - لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال: " وما كان أكثرهم مؤمنين " حمله أكثر المفسرين على(15/54)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
(قوم إبراهيم، ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به، فيكون هذا تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يجده) من تكذيب قومه. و" إن ربك لهو العزيز الرحيم " أي: أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} الآيات. لما قصَّ على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خبر موسى وإبراهيم - عليهما السلام - تسلية له مما يلقاه من قومه قص عليه أيضاً نبأ نوح، فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره، لأنه دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك كذبه قومه.
قوله: «كَذَّبَتْ» إنما أَنتَ فعل القوم لأنه مؤنث بدليل تصغير «القوم» على (قُوَيْمَة) وقيل: لأن القوم بمعنى أُمَّةٍ، ولما كانت آحاده عقلاء ذكوراً وإناثاً عاد الضمير عليه باعتبار تغليب الذكور، فقيل: لهم أخوهم. وحكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين:
أحدهما: أنهم وإن كذبوا نوحاً لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره، لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف من حيث المعنى؛ لأن كل واحد من المرسلين جاء بما جاء به الآخر، فلذلك حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين.
وثانيهما: أن قوم نوح كذبوا جميع رسل الله، إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة.(15/55)
قوله: «أَخُوهُمْ» لأنه كان منهم، من قول العرب: يا أخا بني تميم. يريدون يا واحداً منهم، فهو أخوهم في النسب لا في الدين «أَلاَ تَتَّقُونَ» أي: عقاب الله، فحذف مفعول (تَتَّقُونَ) .
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي: على الوحي، وكان مشهوراً فيهم بالأمانة كمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قريش، فكأنه قال: كنتُ أميناً من قبل، فكيف تتهمونني اليوم؟ ثم قال: «فاتَّقُوا الله» بطاعته وعبادته «وأَطِيْعُون» فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد، {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي: على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة. لئلا يظن به أنه دعاهم رغبة في الدنيا، ثم قال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} . فإن قيل: فلماذا كرر الأمر بالتقوى؟
فالجواب: لأنه في الأول أراد: ألا تتقون مخالفتي، وأنا رسول الله، وفي الثاني: ألا تتقون مخالفتي ولست آخذاً منكم أجراً، فهو في المعنى مختلف، ولا تكرار فيه، وقد يقول الرجل لغيره: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً، ألا تتقي الله وقد علمتك كبيراً. وإنما قدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله علة لطاعته، فقدم العلة على المعلول.
قوله {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} «وَاتَّبَعَ» جملة حالية من كاف «لك» .
قال الزمخشري: والواو للحال، وحقها أن يضمر بعدها (قد) وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة: «وَأَتْبَاعُكَ» مرفوعاً جمع تابع «كَصَاحِبٍ وَأَصْحَاب» أو تَبيع ك «شَرِيْف وأَشْرَاف» ، أو «تبع» ك (برم وأَبْرام) وفي رفعه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ، و «الأَرْذَلُونَ» خبره، والجملة حالية أيضاً.
والثاني: أنه عطف على الضمير المرفوع في «نُؤْمِنُ» ، وحسَّنَ ذلك الفصل بالجار، و «الأَرْذَلُونَ» صفته.(15/56)
وقرأ اليمانيُّ: «وأَتْبَاعِكَ» بالجر عطفاً على الكاف في «ذَلِكَ» وهو ضعيف أو ممنوع عند البصريين، وعلى هذا فيرتفع «الأَرْذَلُونَ» على خبر ابتداء مضمر، أي: هم الأرذلون وقد تقدم مادّةُ «الأَرْذَلِ» في هود.
فصل
الرذالة: الخِسَّة والذِّلة، وإنما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم وقلة نصيبهم في الدنيا.
وقيل: كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحِجَامَة.
وهذه الشبهة في غاية الركاكة، لأن نوحاً - عليه السلام - بعث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها، فأجابهم نوح عنه بالجواب الحق، وهو قوله: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: ما أعلم أعمالهم وصنائعهم، وليس عليّ من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء، إنما كُلِّفت أن أدعوهم إلى الله ولي منهم ظاهر أمرهم.
قوله: «وَمَا عِلْمِي» يجوز في «مَا» وجهان:
أظهرهما: أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء، و «عِلْمِي» خبرها، والباء متعلقة به.
والثاني: أنها نافية، والباء متعلقة ب «علمي» أيضاً، قاله الحوفي. ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلام به (جملة) .(15/57)
قوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي} «إِنْ» نافية، أي: ما حسابهم إلا على ربي، ومعناه: لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى.
قوله: «لَوْ تَشْعُرُوْن» جوابها محذوف، ومفعول «تشعرون» أيضاً، والمعنى «لَوْ تَشْعُرُونَ» تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم.
قال الزجاج: الصناعات لا تَضُرُّ في الدِّيَانَاتِ. وقيل: معناه: إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم، ويوفقهم ويخذلكم.
وقرأ الأعرج وأبو زُرعة: «لَوْ يَشْعُرُونَ» بياء الغيبة، هو التفات، ولا يحسُنُ عَوْدُه على المؤمنين.
قوله: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم فبيّن أن الدين يمنعه عن طردهم، وقد آمنوا به، وبيَّن أن الغرض من تحمل الرسالة كونه نذيراً: فقال: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: إني أُخَوِّف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد، فلما أجابهم بهذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد فقالوا: {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المجرمين} .
قال مقاتل والكلبي: من المقتولين بالحجارة.
وقال الضحاك: من الشمئومين. فعند ذلك حصل اليأس لنوح من فلاحهم، وقال: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} . وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة، ولكنه أراد: لا أدعوك عليهم لما آذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك: {فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} أي: فاحكم بيني وبينهم.
و «فَتْحاً» يجوز أن يكون مفعولاً به بمعنى المفتوح، وان يكون مصدراً مؤكداً. والفَتَاحَةُ: الحكومة. والفَتَّاح: الحكم، لأنه يفتح المستغلق. والمراد إنزال العقوبة عليهم لقوله عقيبه: «وَنَجِّنِي» ، ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى.(15/58)
قوله: «وَنَجِّنِي» المُنجَّى «منه محذوف لفهم المعنى، أي: مما يَحِلُّ بقومي، و» مِنَ المُؤْمِنِينَ «بيان لقوله:» مَنْ مَعِيَ «.
قوله: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون} .
قال الزمخشري: الفُلك: السفينة، واحدها: فُلْك، قال الله تعالى: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] فالواحد بوزن (قُفْل) والجمع بوزن (أًسْد) وَالمَشْحُون:» المَمْلُوء المُوقَر «، يقال: شَحَنَها عليهم خَيْلاً ورجَالاً أي ملأها والشَّحْنَاء: العداغوة لأنهما تملأ الصدور إحناً. والفُلْك هنا مفرد بدليل وصفه بالمرفد، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة.
فصل
دلَّت الآية على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة، وأن الفك امتلأ بهم وبما صحبهم من الحيوانات، ثم إنه تعالى بعد أن نجاهم أغرق الباقين فقال: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} .(15/59)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} الآية. الكلام في فاتحة هذه القصة كالكلام في فاتحة قصة نوح. وقوله: «تَعْبَثُون» جملة حالية من فاعل «تبنون» . والرِّيعْ - بكسر الراء وفتحها -: جمع «رِيْعَة» وهو في اللغة: المكان المرتفع، قال ذو الرمّة.(15/59)
3916 - طِرَاقُ الخَوَافِي مُشْرِقٌ فَوْقَ رِيْعَةٍ ... نَدَى لَيْلِهِ فِي ريْشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وقال أبو عبيدة: وهو الطريق، وأنشد للمسيَّب بن علس يصف ظعناً:
3917 - فِي الآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرفَعُهَا ... رِيْعٌ يَلُوْحُ كَأَنَّهُ سَحْلُ
والرَّيع - بالفتح -: ما يحصل في الخراج.
فصل
قال الوالبي عن ابن عباس: الرَّيْع: كل شرف. وقال الضحاك ومقاتل: بكل طريق وهو رواية العوفي عن ابن عباس. وعن مجاهد قال: هو الفج بين جبلين وعنه أيضاً أنه المنظر. و «الآية» : العَلَم.
قال ابن عباس: كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبثون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود - عليه السلام -. وقيل: كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم، فنهُوا عنه، ونسبوا إلى العبث. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: هي بروج الحمام، لأنهم كانوا يلعبون بالحمام.
قوله: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} قال مجاهد: قصوراً مُشَيَّدة.
واحدتها مَصْنَعة. «لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون» . العامة على تخفيفه مبنياً للفاعل. وقتادة: بالتشديد مبنياً للمفعول، ومنه قور امرىء القيس:
3918 - وَهَلْ يَنْعَمَنْ إِلاَّ سَعِيْدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيْلُ الهُمُوْم مَا يَبيْتُ بِأَوْجَال(15/60)
و «لَعَل» هنا على بابها. وقيل: للتعليل. ويؤيده قراءة عبد الله: «كَيْ تَخْلِدُون» .
وقيل: للاستفهام، قاله زيد بن عليّ، وبه قال الكوفيون. وقيل: معناه التشبيه، أي: كأنكم تخلدون. ويؤيده ما في حرف أبيّ: «كَأَنَّكم تُخلدون» بضم التاء مخففاً ومشدداً. وقرىء: «كأَنَّكُم خَالِدُونَ» ولم يعلم من نصب عليها أنها تكون للتشبيه. والمعنى: كأنكم تبقون فيها خالدين. قوله: «وَإِذَا بَطَشْتُم» أي: وإذا أردتم، وإنما احتجنا إلى تقدير الإرادة لئلا يتحد الشرط والجزاء، و «جَبَّارِين» حال. واعلم أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب الدنيا، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، وهذه صفات الإِلهية وهي ممتنعة الحصول للعبد ولما ذكر هود هذه الأشياء قال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} زيادة في دعائهم إلى الآخرة، وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالسرف والتجبر، ثم وصل هذا الوعظ بما يؤكد القبول بأن نبههم على نعم الله تعالى عليهم فقال: {واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي: أعطاكم من الخير ما تعلمون، ثم فصل ذلك الإعطاء فقال] : {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي: بساتين وأنها، {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ} .
قال ابن عباس: «إِن عَصَيْتُمُوني» عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم.
قوله: «أَمَدَّكُم بأَنْعَام» فيه وجهان:
أحدهما: أن الجملة الثانية بيان للأولى وتفسير لها.
والثاني: أن «بأنعام» بدل من قوله: «بِمَا تَعْلَمُون» بإعادة العامل، كقوله: {اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ (أَجْراً) } [يس: 20 - 21] .
قال أبو حيان: والأكثرون لا يجعلون هذا بدلاً وإنما يجعلونه تكريراً، وإنما يجعلون بدلاً بإعادة العامل إذا كان حرف جر من غير إعادة متعلقه نحو: «مَرَرْتُ بزيد بأخيك» ولا يقولون: «مررت بزيد مررت بأخيط» على البدل.
قوله: {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين} معادلة لقوله: «أَوَعَظْتَ» . وإنما أتى بالمعادل كذا(15/61)
دون قوله: «أم لم تعظ» لتواخي الفواصل. وأبدى له الزمخشري معنى فقال: وبينهما فرق، لأن المعنى: سواء علينا أفلعت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك: «أم لم تعظ» .
وقرأ العامة: «أَوَعَظْتَ» بإظهار الظاء قبل التاء. وروي عن أبي عمرو والكسائي وعاصم، وبها قرأ الأعمش وابن محيصن بالإدغام. وهي ضعيفة، لأن الظاء أقوى، ولا يدغم الأقوى في الأضعف، على أنه قد جاء من هذا في القرآن العزيز أشياء متواترة يجب قبولها نحو: «زُحْزِحَ عَنْ» و «لَئِنْ بَسَطْتَ» .
فصل
لما وعظهم ورغبهم وخوفهم أجابهوه بقولهم: «سَوَاءٌ عَلَيْنَا» أي: مستو عدنا أوعظت أم لم تكن من الواعظين أظهروا قلة أكتراثهم بكلامه، ثم قالوا: {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} . قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الخاء وسكون اللام، أي: اختلاق الأولين وكذبهم، كقوله: «وَتَخْلُقُونَ إفْكاً» والباقون بضمتين. فقيل: معناهما: الاختلاق، وهو الكذب. وكذا قرأ ابن مسعود. وقيل: عادة الأولين من قبلنا حياة وموت هو خلق الأولين وعادتهم. وروى الأصمعي عن نافع، وبها قرأ أبو قلابة ضم الخاء وسكون اللام، وهي تخفيف المضمومة. ثم قالوا: {وَمَا نَحْنُ(15/62)
بِمُعَذَّبِينَ} أظهروا بذلك تقوية نفسوهم فيما تمسكوا به من إنكار المعاد، فعند هذا بين الله تعالى أنه أهلكهم، وقد سبق بيان كيفية الهلاك.(15/63)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين} تقدم نظيره.
وقُوله: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا [هَاهُنَآ آمِنِينَ} أي: أتظنون أنكم تتركون] في دياركم «آمِنِينَ» وتطعمون في أنه لا دار [للمجازاة] .
وقوله: {فِي مَا هَاهُنَآ} : في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسَّره [بقوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ] .
قوله: «فِي جَنَّاتٍ» بدل في «فِي ما ههُنَا» بإعادة العامل، فصّل بعدما أجمل كما في القصة قبلها، و «ما» موصولة وظرف المكان صلتها.
قوله: «وَنَخْل» يجوز أن يكون من باب ذكر الخاص بعد العام، لأن الجنات تشمل النخل، ويجوز أن يكون تكريراً للشيء الواحد بلفظ آخر، فإنهم يطلقون الجنة ولا يريدون إلا النخيل، قال زهير:(15/63)
3919 - كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ ... مِنَ النَّوَاضِعِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا
و «سُحُقاً» : جمع سَحُوق، ولا يوصف به إلا النخيل. وقيل: المراد ب «الجَنَّات» غيرها من الشجر، لأن اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل. والطلع الكفرى وهو: عنقود التمر قبل خروجه من الكم. وقال الزمخشري: الطلع: هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو والقنو: هو اسم للخارج من الجذع كما هو بِعُرْجُونه، و «الهضيم» : قال ابن عباس: هو اللطيف، ومنه قولهم: كشح هضيم. وروى عطية عنه: يانع. وقال عكرمة: اللين. وقيل: المتراكب. قال الضحاك ومقاتل: قد ركب بعضه بعضاً حتى هضم بعضه بعضاً، أي: كسره.
وقال أهل المعاني: هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر.
وقال الأزهري: الهضيم: هو الداخل بعضه في بعض من النضج والنعامة. وقيل: هضيم، أي: هاضم يهضهم الطعام، وكل هذا للطافته.
قوله: «وَتَنْحَتُونَ» . العامة على الخطاب وكسر الحاء. والحسن وعيسى وأبو حيوة يفتحها. وعن الحسن أيضاً: «تَنْحَاتُونَ» بألف للإشباع. وعنه وعن أبي حيوة «يَنْحِتُونَ»(15/64)
بالياء من تحت، وتقدم ذلك كله في الأعراف.
قوله: «فَارِهِينَ» . قرأ الكوفيون وابن ذكوان: «فارهين» بالألف، كما قرءوا: «حَاذِرُونَ» بها. والباقون: «فَرِهِينَ» بدون ألف، كما قرءوا: «حَذِرُونَ» بدونها.
والفراهة: النشاط والقوة. وقيل: الحذق، يقال دابة فاره، ولا يقال: فارهة، وقد فره يفره فراهة و «فارهين» حال من الناحتين.
فصل
من قرأ: «فرهين» قال ابن عباس: أشِرين بطرين. وقال عكرمة: (ناعمين) . وقال مجاهد: شرهين. وقال قتادة: معجبين بصنيعكم. وقال السدي: متجبرين. وقال الأخفش: فرحين، والعرب تعاقب بين الحاء والهاء مثل: مدحته ومدهته. وقال الضحاك: كيسين. {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين} .
قال ابن عباس: المشركين. وقال مقاتل: هم التسعة الذين عقروا الناقة (وهم الَّذِينَ) يُفْسِدُونَ فِي الأَرْض بالمعاصي «ولا يُصْلِحُونَ» مع قوله: {الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض} ؟ فالجواب: أن فسادهم خالص ليس معه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح. ثم إن القوم أجابوه بقولهم: {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} . قال مجاهد.(15/65)
وقتادة: من المسحورين: من المخدوعين، أي: ممن سحر مرة بعد مرة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أي: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب. قال المؤرج:
المسحَّر: المخلوق بلغة بجيل، يريد: أنك تأكل الطعام والشراب، أي: لست بملك، بل أن تبشر مثلنا.
والمعنى: «من المسحرين» أي: ممن له سحر، وكل دابة تأكل فهي سحرة، والسحر: أعلى البطن. وعن الفراء: المسحَّر: من له جوف، أراد: وإنك تأكل الطعام والشراب {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} فكيف تكون نبياً؟ «فَأْتِ بِآيَةٍ» على صحة ما تقول {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أنك رسول الله إلينا. فقال صالح: {هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ} يجوز أن يكون الوصف وحده الجا روالمجرور، وهو قوله: ( «لَهَا شِرْبٌ» ) و «شِرْبٌ» فاعل به لاعتماده. ويجوز أن يكون «لَهَا شِرْبٌ» صفة ل «ناقة» .
وقرأ ابن أبي عبلة: «شُرْبٌ» بالضم فيهما. والشِّرْب - بالكسر - النصيب من الماء كالسِّقي، وبالضم: المصدر.
فصل
روي أنهم قالوا: نريد ناقة عشراء تخرج من الصخرة فتلد سقباً. فتفكر صالح، فقال له جبريل - عليه السلام - صلِّ ركعتين، وسل ربك الناقة. ففعل، فخرجت الناقة، وبركت بين أيديهم، وحصل سقب مثلها في العظم، ثم قال لهم صالح: {هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ} حظ ونصيب من الماء {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمِ مَعْلُومٍ} . قال قتادة: كانت يوم شربها تشرب ماءهم كلهم وشربهم في اليوم الذي لاَ تشرب هي. {وَلاَ(15/66)
تَمَسُّوهَا بسوء} بعقر أو ضرب أو غيرهما {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} روي أن مسطعاً ألجأها إلى مضيف فرماها بسهم، فسقطت، ثم ضربها قدار. {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ} على عقرها. فإن قيل: لم أخذهم العذاب وقد ندموا؟ فالجواب: أن ندمهم كان عند معاينة العذاب حين لا ينفع الندم. وقيل: لم يكن ندمهم ندم [التائبين، لكن ندم] [الخائفين] من العقاب العاجل. {فَأَخَذَهُمُ العذاب إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} .(15/67)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين} الآيات.
قوله: «مِنَ العالِمينَ» . يحتمل عوده إلى الآتي، أي: أنتم من جملة العالمين مخصوصون بهذه الصفة، وهي إتيان الذكران. [ويحتمل عوده إلى المأتى، أي: أنتم اخترتم الذكران] من العالمين لا الإناث منهم.
قوله: «مِنْ أَزْوَاجِكُمْ» . يصلح أن يكون تبييناً، وأن يكون للتبعيض، ويُراد بِمَا خلق العضو المباح منهن، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} . معتدون مجاوزون الحلال إلى الحرام، والعادي: المعتدي في ظلمه.
والمعنى: أتركبون هذه المعصية على عظمها {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} في جميع المعاصي {قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} أي: من جملة من أخرجناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ الأحوال.(15/67)
قوله: «لِعَمَلِكُمْ» كقوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] وقد تقدم. وقيل: «مِنَ القَالِينَ» صفة لخبر محذوف، هذا الجار متعلق به، أي: إني قال: {لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} المبغضين. والقِلَى: البغض الشديد، كأنه بُغْضٌ يقلي الفؤاد والكبد. وقوله «مِنَ القَالِينَ» أبلغ من أن يقول: إني لعملكم قالٍ، كما تقول: فلان من العلماء، أبلغ من قولك: فلان عالم.
ويجوز أن يراد: من الكاملين في قِلاكم. [والقَالِي: المُبْغِضُ، يقال: قَلاَهُ يَقْلِيهِ قِلًى، وَيَقْلاَهُ، وهي شاذة، قال:
3920 - وَتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ ... وَتقْلِينَنِي لكِنَّ إيَّاكِ لاَ أقْلِي
وقال آخر:
3921 - والله مَا فَارَقْتكُمْ عَنْ قِلَى لكم ... وَلكنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ
واسم المفعول فيه: «مَقْلِيّ» والأصل: «مَقْلُويٌّ» فأدغم ك «مَرْمِيٍّ» قال:
3922 - وَلَسْتُ بِمَقْليِّ الخِلاَلِ ولاَ قَالِي ...(15/68)
وغلط بعضهم فجعل ذلك من قولهم: قَلَى اللَّحْمَ، أي شَوَاهُ، فكأنه قلى كبده بالبغض ووجه الغلط أن هذا من ذوات الياءن وذلك من ذوات الواو.
يقال: قَلَى اللحمِ يَقْلُوه قَلْواً، فهو قال كَغَازٍ، و «مَقْلُوّ» كما تقدم] ، ثم دعا فقال: {رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} من العمل الخبيث.
قال الله تعالى: «فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ» من عقوبة عملهم {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين} وهي امرأة لوط، بقيت في الهلاك والعذاب، فإنْ قيل: «فِي الغَابِرينَ» صفة لها، كأنه قيل: إلاَّ عَجُوزاً [غابرة، وإن لم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم؟ فالجواب: معناه: إلاَّ عجوزاً] مقدراً غبورها. قيل: إنما هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر من الحجارة. {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين} أي: أهلكناهم {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} والمخصوص بالذم محذوف، أي: (مَطَرُهُمْ) قال وهب بن منبه: الكبريت والنار. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} .
فصل
قال القاضي عبد الجبار في تفسير قوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} دليل على بطلان الجبر من وجوه:
الأول: أنه لا يقال: «تَذَرُونَ» إلاَّ مع القدرة على خلافه، ولذلك لا يقال للمرء: لم تذر الصعود إلى السماء، كما يقال: لم تذر (الدخول و) الخروج.
الثاني: أنه قال: {مَا خَلَقَ لَكُمْ} ولو كان الفعل لله تعالى لكان الذي خلقه لهم ما خلقه فيهم ووجبه لا ما لم يفعلوه.
الثالث: قوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} لإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون، فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا؟ وهل يقال للأسود: إنك متعد في لونك؟ وأجيب بأن حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجداً لأفعال نفسه لما(15/69)
توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه، (وليس لهذه) الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة إبراهيم وموسى ونوح وسائر القصص، فكيف خَصَّ هذه القصة بهذه الوجوه دون سائِر القصص. وإذا ثبت أن هذه الوجوه هي ذلك الوجه المشهور فالجواب عنها هما الجوابان المشهوران:
الأول: أنَّ اللَّهَ تعالى لمّا علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال، لأَنّ عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلاً، وهو محال، والمفضي إلى المحال محال، وإن كان عدمها محالاً كان التكليف بالترك تكليفاً بالمحال.
الثاني: أنَّ القادر لما كان قادراً على الضدين امتنع أن يرجح أحد المقدورين على الآخر لا لمرجح، والمرجح: هو الداعي والإرادة، وذلك المرجح مرجح محدث، فله مؤثر، وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل، وهو محال، وإن كان هو الله تعالى فذاك الجبر على قولك، فثبت بهذين البرهانيين القاطعين سقوط ما قاله.(15/70)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين} .
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر: «لَيْكَةَ» بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسماً غير مُعَرَّفٍ ب «أل» مضافاً إليه «أَصْحَاب» هنا وفي «ص» خاصة.
والباقون: «الأَيْكَةِ» معرفاً ب «أل» مُوافقةً لما أُجْمَعَ عليه في الحِجْر وفي «ق» .(15/70)
وقد اضطربت أقوال الناس في القراءة الأولى، وتجرأ بعضهم على قرائها.
ووَجْهُهَا على ما قال أبو عُبَيد: أن (ليكة) اسم للقرية التي كانوا فيها و (الأَيْكَة) .
اسم للبلد كُلِّه. قال أبو عُبَيد: لا أحب مفارقة الخط في شيءٍ من القرآن إلاَّ ما يخرُجُ من كلام العرب وهذا ليس بخارج من كلامها مع صحة المعنى في هذه الحروف، وذلك أَنَّا وجدنا في بعض التفاسير الفرق بين «لَيْكَة» ، و «الأيكة» ، فقيل: «لَيْكَةُ» هو اسمٌ للقرية التي كانوا فيها. والأَيْكَة: البلاد كلها، فصار الفرق بينهما شبيهاً بما بين (مَكَّةَ، وبكَّةَ) ورأيتهن مع هذا في الذي يقال: إنه الإمام - مصحف عثمان - مفترقان، فوجدت التي في «الحِجْر» والتي في «ق» : «الأَيْكَة» ، ووجدت التي في «الشعراء» والتي في «ص» «لَيْكَة» ثم اجتمعت عليها مصاحف الأَمْصَار بعدُ، فلا نعلمها إذاً اختلفت فيها، وقرأ أهل المدينة على هذا اللفظ الذي قَصَصْنا، يعني: بغير ألف ولام، ولا إجراء.
انتهى ما قاله أبو عبيدة. قال أبو شامة بعد نقله كلام أبي عبيدة: هذه عبارته، وليست سديدة، فإن اللام موجودة في «لَيْكَة» وصوابه: بغير ألف وهمزة. قال شهاب الدين: بل هي سديدة، فإنه يعني بغير ألفٍ ولامٍ مُعَرفَةٍ لا مطلق لامٍ في الجملة.
وقد تُعقِّبَ قول أبي عُبيد وأنكروا عليه، فقال أبو جعفر: اجمع القراء على خفض التي في «الحِجر» و «ق» فيجب أن يُرَدَّ ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه إذ كان البلد كله، فشيء لا يثبت ولا يُعْرَفُ مَنْ قاله ولو عُرِف لكان فيه نظر، لأَنَّ أهل العلم جميعاً من المفسرين والعالمين بكلام العرب على خلافه، ولا نعلم خلافاً بين أهل اللغة أن «الأَيْكَة» الشجر المُلْتَفُّ.
فأما احتجاج بعض من احتج لقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح، لأنه في السواد «لَيْكَةَ» فلا حجة فيه، والقول فيه: إن أصله: «الأَيْكَة» ثم خففت الهمزة،(15/71)
فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل، لأَنَّ اللام قد تحركت فلا يجوز على هذا إِلاَّ الخفض، كما تقول: «مَرَرْتُ بِالأَحْمَر» على تحقيق الهمزة ثم تخففها فتقول: «بِلحْمَر» ، فإن شئت كتبته في الخط على كتبته أولاً، وإِنْ شئت كتبته بالحذف، ولم يَجُرْ إلاَّ الخف، فلذلك لا يجوز في «الأَيْكَة» إلاَّ الخَفْض، قال سيبويه: واعلم أَنَّ كل ما لم ينصرف إذا دَخَلَتْهُ الألف واللام أو أضفته (انصرف) .
ولا نعلم أحداً خالف سيبويه في هذا وقال المبرّد في كتاب الخط: كتبوا في بعض المواضع: «كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةَ} بغير ألف، لأن الألف تذهب في الوصل، ولذلك غلط القارىء بالفتح فتوهم أن» لَيْكَة «اسم شيء، وأن اللام أصل فقرأ:» أَصْحَابُ لَيْكَة «.؟
وقال الفراء: نرى - والله أعلم - أنها كتبت في هذين الموضعين بترك الهمز، فسقطت الألفُ لتحريك اللام. قال مكيّ: تعقَّبَ ابن قتيبة على أبي عبيدة فاختار» الأَيْكَة «بالألف والهمزة والخفض، وقال: إِنَّمَا كُتِبَتْ بغير ألف على تخفيف الهمزة، قال: وقد أجمع الناس على ذلك، يعني: في» الحِجْر «و» ق «فوجب أن يُلحَق ما في» الشعراء «و» ص «بما أجمعُوا عليه، فما أجمعوا عليه شاهد لما اختلفوا فيه. وقال أبو إسحاق: القراءة بِجَرِّ لَيْكَةِ وأنت تريد» الأَيْكَةِ «أجود من أن تجعلها» لَيْكَه «وتفتحها؛ لأَنَّها لا تتصرف لأن» لَيْكَة «لا تُعرَّفُ، وإنما هي» أَيْكَة «للواحد،(15/72)
و» أَيكٌ «للجمع، مثل: أَجمة وأَجَم. والأَيْكُ: الشجر الملتف، فأجود القراءة فيها الكسر وإسقاط الهمزة لموافقة المصحف؛ ولا أعلمه إلا قد قرىء به.
وقال الفارسي: قول من قال:» لَيْكَة «بفتح التاء مُشكِلٌ، لأنه فتح مع لحاق اللام الكلمة، وهذا في الامتناع كقول من قال: مَرَرْت بِلَحْمَر. فيفتح الآخر مع لحاق لام المعرفة، وإنما كتبت» لَيْكَة «على تخفيف الهمز، والفتح لا يصح في العربية لأنه فتح حرف الإعراب في موضع الجرّ مع لام المعرفة، فهو على قياس قول من قال: مَرَرْتُ بِلَحْمَر، ويبعد أن يفتح نافع ذلك مع ما قال عنه ورش. يعني أنَّ وَرْشاً نقل عن نافع نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها حيث وُجِدَ بشروط مذكورة، ومن جملة ذلك ما في سورة» الحِجْر «و» ق «لفظ» الأَيْكَة «، فقرأ على قاعدته في السورتين بنقل الحركة وطرح الهمزة وخفض التاء، فكذلك ينبغي أن يكون الحكم في هذين الموضعين أيضاً.
وقال الزمخشري: قرىء» أَصْحَابُ الأَيْكَةِ «بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الإضافة، وهو الوجه، ومن قرأ بالنصب وزعم أنَّ» لَيْكَة «بوزن:» لَيْلَة «- اسم البلد - فتوهُّمٌ قاد إليه خط المصحف. .
وإنما كتبت على حكم لفظ اللافظ، كما يكتب أصحاب (النحو) لان ولاولى على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف. وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة، على «أنَّ لَيْكَةَ» اسم لا يعرف، وروي أَنَّ «أَصْحَابَ الايْكَةِ» كانوا أصحاب شجر مُلْتَفٍّ، وكان شجرهم الدَّوم، وهو شَجَرُ المُقل. يعني أن مادة (ل ي ك) مفقودة في لسان العرب. كذا قال الثقات ممن تتبَّع ذلك.
قال: وهذا كما نصُّوا على أنَّ الخاء والذال المعجمتين لم يجامعا الجيم في لغة(15/73)
العرب، ولذلك لم يذكرها صاحب «الصحصاح» مع ذكره التفرقة المتقدمة عن أبي عبيد، ولو كانت موجودة في اللغة لذكرها مع ذكره التفرقة المتقدمة لشدة الاحتياج إليها. وقال الزجاج أيضاً: أهل المدينة يفتحون على ما جاء في التفسير أنَّ اسم المدينة التي كان فيها شعيب ( «لَيْكَة» ) .
قال أبو علي: لو صح هذا فلم أجمع القراء على الهمز في قوله: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة} [الحجر: 78] ، و «الأَيْكَةُ» التي ذكرت هاهنا هي «الأيْكَة» التي ذكرت هناك، وقد قال ابن عباس: الأَيْكَةُ: الغَيْضَة ولم يفسرها بالمدينة ولا البلد. قال شهاب الدين: وهؤلاء كلُّهم كأنهم زعموا أنَّ هؤلاء الأئمة الأثبات إنما أخذوا هذه القراءة من خط المصاحف دون أفواه الرجال، وكيف يظنُّ بمثل أسنِّ القرّاء وأعلاهم إسناداً، والآخذ القرن عن جملة من (جلّة) الصحابة أبي الدَّرداء وعثمان بن عفان وغيرهما، وبمثل إمام مكّة - شرّفها الله تعالى - وبمثل إمام المدينة، وكيف ينكر على أبي عبيد قوله أو يتَّهم في نقله؟ ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ؛ والتواتر قطعيٌّ فلا يعارض بالظني، وأما اختلاف القراءة مع اتحاد القصة فلا يضر ذلك، عبِّر عنها تارةٌ بالقرية خاصة وتارة بالمصر الجامع للقرى كلها، الشامل هو لها، وأما تفسير ابن عباس فلا ينافي ذلك، لأنَّه عبر عنها بما كثر فيها.
قوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} ولم يقل: أخوهم؛ لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال: «أَخَاهُمْ» لأنه كان منهم، وكأن الله تعالى بعثه إلى قومه - أهل مدين - وإلى أصحاب الأيكة.
وفي الحديث: «إِنَّ شُعَيْباً أَخَا مَدْيَن أرسا إليهم وإلى أصحاب الأيكة» .(15/74)
[قال ابن كثير: ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره أنَّ أصحاب الأيكة أمة أخرى غير أهل مدين فقول ضعيف، وإنما عمدتهم شيئان.
أحدهما: أنه قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} ولم يقل: «أَخُوهُمْ» كما قال: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85] .
والثاني: أنه ذكر عذابهم ب «يَوْم الظُّلَّةِ» وذكر في أولئك «الرجفة والصيحة» والجواب عن الأول: أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله: «أَصْحَابُ الأَيْكَةِ» لأنه وصفهم بعبادة الأيكة، فلا يناسب ذكر الأخوة هاهنا، ولما نسبهم إلى القبيلة ساغ ذكر شعيب بأنه أخوهم.
وأما احتجاجهم ب «يَوْمِ الظُّلَّةِ» فإن كان دليلاً على أنهم أمة أخرى فليكن تعداد «الرجفة، والصيحة» دليلاً على أنهما أمتان، ولا يقول أحد.
وأيضاً فقد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان، فدلّ على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب، وذكر في كل موضع ما يناسب ذلك الخطاب، فاجتمعوا تحت الظلّة، ورجفت بهم الأرض من تحتهم، وجاءتهم صيحة من السماء] .
قوله: {أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} الناقصين لحقوق الناس بالكيل والوزن. واعلم أنَّ الكيل على ثلاثة أضرب: وافٍ، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله: «أَوْفُوا الكَيْلَ» ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} ، ولم يذكر الزائد، لأنه إن فعله فقد أحسن، وإن لمك يفعله فلا إثم عليه. ثم لما أمر بالإيفاء بين كيف يفعل، فقال: {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} . قرىء: «بالقُسْطَاسِ» مضموماً ومكسوراً، وهو: الميزان وقيل: القَرَسْطُون {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} . يقال بخسه حقه: إذا نقصه إياه، وهذا عام في كل(15/75)
حق. {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} وقد تقدم.
قوله: «وَالجِبِلَّةَ» العامة على كسر الجيم والباء وشد اللام. وأبو حصين والأعمش والحسن بضمّهما وشد اللام. والسُّلمي بفتح الجيم أو كسرها مع سكون الباء وهذه لغات في هذه الحرف، ومعناه: الخلق المتَّحد الغليظ، مأخوذٌ من الجبل قال الشاعر:
3923 - وَالمَوْتَ أَعْظَمُ حَادِثٍ ... مِمَّا يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ
وقال الهروي: الجِبِلُّ والجُبُلُّ والجَبْلُ لغات، وهو الجمع الكثير العدد من الناس. وقيل: «الجِبِلَّةُ» من قولهم: جُبِلَ على كذا، أي: خُلِقَ وطُبِعَ عليه.، وسيأتي في «يس» إن شاء الله تعالى تمام الكلام على ذلك عند قوله: «جِبِلاًّ كَثِيراً» . والمراد ب «الجِبِلَّةِ الأَوَّلِينَ» : الأمم المتقدمين، أي: أنه المنفرد بخلقهم وخلق من تقدمهم.
قوله: {قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} . جاء في قصة هود «مَا أَنْتَ» بغير واو، وهاهنا بالواو. فقال الزمخشري: إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مخالف للرسالة عندهم: التَّسحير والبشرية، وأنَّ الرسول لا يجوز أن يكون مُسَحَّراً ولا بَشَراً، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد، وهو كونه مسحَّراً،(15/76)
ثم (قرر) بكونه بَشَراً. ثم قالوا: {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} ومعناه ظاهر. ثم إنَّ شعيباً - عليه السلام - كان يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء} وقد تقدم كلام في «كِسَفاً» والشتقاقه في الإسراء.
وإنما طلبوا ذلك لاسبتعادهم وقوعه فقال شعيب: {ربي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: من نقصان الكيل والوزن، وهو مجازيكم بأعمالكم، وليس العذاب إليَّ، وما عليّ إلا الدعوة. فلم يدع عليهم، بل فوض الأمر فيه إلى الله تعالى.
قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} . وذلك أنَّه أخذهم حرّ شديد، فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حرّاً، فخرجوا، فأظلتهم سحابة، وهي الظُّلَّة، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليها ناراً فاحترقوا. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنَّ العذاب النازل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ما كان بسبب كفرهم، بل بسبب تأثيرات الكواكب واتصالاتها على ما أتفق عليه المنجمون؟ وإذا قام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص، لأنَّ الاعتبار إنما يحصل إذا علمنا أنَّ نزول العذاب كان بسبب كفرهم، وأيضاً فيحتمل أن ينزل العذاب محنة للمكلّفين كما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [محمد: 31] وقد ابتلي المؤمنون بالبلاء العظيم في مواضع كثيرة، وإذا كان كذلك لم يدلّ نزول البلاء بهم على كونهم مبطلين؟ فالجواب: هذا سؤال باطل، لأنه يقال: ما الاتصالات التي أوجبت نجاة بني إسرائيل من البحر وأغرقت فرعون وقومه في ساعة واحدة، وما الاتصالات التي أوجبت الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم على القبط دون بني إسرائيل وهم معهم في بلد واحد، وما الاتصالات التي نجّت لوطاً ومن معه وأهلكت قومه وهم قريب منهم، وما الاتصالات التي أوجبت حمل الطير الأبابيل حجارة من سجيل ورمت بها أصحاب الفيل دون غيرهم، وما الاتصالات التي فرقت البحر اثني عشر فرقاً بعدد أسباق بني إسرائيل، وقلبت العصا حية تسعى، وتلقفت ما صنعته السحرة، ونتقت الجبل فوق بني إسرائيل كأنه ظلّة، وأخرجت الناقة من الحجر، وأطفأت نار إبراهيم، وكل ذلك ثابت بالتواتر لا يمكن إنكاره.(15/77)
وأيضاً فإنَّ الله تعالى أنزل هذه القصص على محمد - عليه السلام - تسلية له وإزالة للحزن عن قلبه. فلما أخبر الله تعالى محمداً أنه هو الذي أنزل العذاب عليهم جزاءً على كفرهم علم أنَّ الأمر كذلك، وحينئذ حصل له التسلي.(15/78)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} . الهاء تعود على القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به. و «تَنْزِيلٌ» بمعنى مُنَزَّلٌ، أو على حذف مضاف أي: ذُو تَنزيل، وقوله: «نَزَلَ» قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص: «نَزَلَ» مخففاً، و «الرُّوحُ الأمينُ» مرفوعان على إسناد الفعل ل «الروج» و «الأمِين» نعته، والمراد به جبريل.
وباقي السبعة: بالتشديد مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى، و «الرُّوح الأَمِين» منصوبان على المفعول به، و «الأَمِين» صفته أيضاً، وقرىء: «نُزِّلَ» مشدداً مبنياً للمفعول، و «الرُّوحُ الأَمِينُ» مرفوعان على ما لم يسم فاعله. و «بِهِ» إمَّا متعلق ب «نَزَل» أو بمحوذف على أنه حال.
قوله: {على قَلْبِكَ لِتَكُونَ} . قال أبو حيان: الظاهر تعلُّق «عَلَى قَلْبِكَ» و «لِتَكُونَ» ب «نَزَل» . ولم يذكر ما يقابل هذا الظاهر. وأكثر ما يتخيَّل أنه يجوز أن يتعلقا ب «تنزيل» أي: وإنه لتنزيل ربِّ العالمين على قلبك لتكون، ولكن فيه ضعفٌ من حبث الفصل بين المصدر ومعموله بجملة: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ» .
وقد يجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أنَّ هذه الجملة اعتراضية، وفيها تأكيد وتشديد، فليست بأجنبية.
والثاني: الاغتفار في الظرف وعديله. وعلى هذا فلا يبعد أن يجيء في المسألة باب الإعمال، فإن كلاًّ من «تَنْزِيل» و «نَزَل» يطلب هذين الجارين.(15/78)
فصل
لما ذكر قصص الأنبياء لمحمد - عليه السلام - أتبعه بما يدل على نبوته فقال: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} لأنه لفصاحته معجز فيكون من رب العالمين. وأيضاً فلأنه إخبار عن الأمم الماضية من غير تعلم ألبتة، وذلك إلاَّ بوحي من الله تعالى. وأيضاً فقوله {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين} مؤكد لما ذكرنا، لأن ذكر هذه القصص على ما هي في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستفادة دليل على أنه ليس إلا من عند الله، {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} عَلَى قَلْبِكَ يا محمد، أي: فهمك إياه وأثبته في قلبك كي لا تنساه كقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] {لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} : المخوِّفين. وسمي جبريل روحاً، لأنه خلق من الروح. وقيل: لأنه نجاة الخلق في باب الدين، فهو كالروح التي تستتبع الحياة. وقيل: لأنه روح كله، لا كالناس في أبدانهم روح. وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه للأنبياء - (عليهم السلام) -.
فصل
روي أنَّ جبريل - عليه السلام - نزل على آدم - عليه السلام - اثنا عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات وعلى محمد - عليه السلام - أربع عشرة ألف مرة.
فإن قيل: لم قال: «عَلَى قَلْبِكَ» وهو إنما أنزل عليه؟
فالجواب: ليؤكد أنّ ذلك المنزل محفوظ للرسول متمكن من قبله لا يجوز عليه التغيير، ولأنَّ القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار، وأما سار الأعضاء فمسخّرة له، ويدل على ذلك القرآن والحديث والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى: {نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} [البقرة: 97] ، {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] واستحقاق الجزاء ليس إلاَّ على ما في القلب، قال تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} [الحج: 37] والتقوى في القلب لقوله تعالى: {أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} [الحجرات: 3] وقوله: {وَحُصِّلَ مَا فِي(15/79)
الصدور} [العاديات: 10] . وحكى عن أهل النار قولهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير} [الملك: 10] والعقل في القلب، والسمع منفذٌ إليه، وقال: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] والسمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب، وقال: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور} [غافر: 19] ولم تخن الأعين إلا بما تضمر القلوب إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الحديث فقوله - عليه السلام -: «أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فسد الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ»
وأما المعقول فإنَّ القلب إذا غشي عليه، فإذا قطع سائر الأعضاء لم يحصل به الشعور، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.
وأيضاً فإذا فرح القلب أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك. وأيضاً فإن القلب منبع المشيئات الباعثة على الأفعال الصادر عن سار الأعضاء.
قوله: «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ» . يجوز أن يتعلق ب «المُنْذِرينَ» أي: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان العربي، وهم: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد - صلى الله عليه وسلّم - (و) يجوز أن يتعلق ب «نَزَلَ» أي: نزل باللسان العربي لتنذر به، لأنه لو نزل بالأعجمي لقالوا: لم نزل علينا ما لا نفهمه؟ وجوز أبو البقاء أن يكون بدلاً من «بِهِ» بإعادة العامل، قال: أي نزل بلسان عربي، أي: برسالة أو لغة. قال ابن عباس: بلسان قريش ليفهموا ما فيه.
قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين} . أي: وإن القرآن. وقيل: وإن محمداً ونعته {لَفِي زُبُرِ الأولين} أي: كتب الأولين. وقيل: المراد وجوه التخويف، لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم، وفيه التفات، إذ لو جرى على ما تقدم لقيل: «وإنك لفي زبر» . وقرأ الأعمش: «زُبْرِ» بسكون الباء، وهي مخففة من المشهور.(15/80)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
قوله: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً} . قرأ ابن عامر «تَكُنْ» بالتاء من فوقه «آيَةٌ» بالرفع. والباقون «يَكُنْ» بالياء من تحت «آيَةً» بالنصب. وابن عباس: «تَكُنْ» بالتاء من فوق «آيَةٌ» بالنصب. فأما قراءة ابن عامر فتكون يحتمل أن تكون تامة، وأن تكون ناقصة. فإن كانت تامة جاز أن يكون «لَهُمْ» متعلقاً بها، و «آيَةٌ» فاعلاً بها، و «أَنْ يَعْلَمَهُ» إما بدل من «آيَةٌ» وإما خبر مبتدأ مضمر، أي: أو لم تحدث لهم علامةُ علم علماء بني إسرائيل. وإن كانت ناقصة جاز فيها أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون اسمها مضمراً فيها بمعنى القصة، و {آيَةً أَن يَعْلَمَهُ} جملة قدم فيها الخبر واقعةٌ موقع خبر «تَكُنْ» .
الثاني: أن يكون امسها ضمير القصة أيضاً و «لَهُمْ» خبر مقدم، و «آيَةٌ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «تَكُنْ» ، و «أَنْ يَعْلَمَهُ» إما بدل من «آيَةٌ» وإما خبر مبتدأ مضمر، أي: أن يعلمه.
الثالث: أن يكون «لَهُمْ» خبر «تَكُنْ» مقدماً على اسمها، و «آيَةٌ» امسها، و «أنْ يَعْلَمَهُ» على الوجهين المتقدمين: البدلية، وخبر ابتداء مضمر.
الرابع: أن تكون «آيَةٌ» اسمها، و «أَنْ يَعْلَمَهُ» خبرها. وقد اعترض هذا بأنه يلزم جعل الاسم نكرة والخبر معرفة وقد نص بعضهم على أنه ضرورة كقوله:(15/81)
3924 - وَلاَ يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا ... وقوله:
3925 - يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ ... وقد اعتذر عن ذلك بأنَّ «آيَةٌ» قد تخصصت بقوله: «لَهُمْ» فإنه حال منها، والحال صفة، وبأن تعريف الخبر ضعيف لعمومه. وهو اعتذار باطل، ولا ضرورة تدعو إلى هذا التخريج، بل التخريج ما تقدم. وأما قراءة الباقين فواضحة جداً، ف «آيَةٌ» خبر مقدم، و «أَنْ يَعْلَمَهُ» اسمها مؤخر، و «لَهُمْ» متعلق ب «آيَةٌ» حالاً من «آية» . وأما قراءة ابن عباس كقراءة: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] ، وكقول لبيد:
3926 - فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً ... مِنْهُ إذَا هِيَ عَرَّدَتْ أَقْدَامُهَا
إما لتأنيث الاسم لتأنيث (الخبر) ، وإما لأنه بمعنى المؤنث، ألا ترى أنَّ «أَنْ يَعْلَمَهُ» في قوة المعرفة، و {إِلاَّ أَنْ قَالُواْ} في قوة مقالتهم، وإِقْدَامُهَا بإقْدَامَتِهَا.
وقرأ الجحدريّ: «أَنْ تَعْلَمَهُ» بالتاء من فوق، شبَّه البنين بجمع التكسير في تغيّر واحده صورةً، فعامل فعله المسند إليه معاملة فعله في لحاق علامة التأنيث، وهذا كقوله:
3927 - قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُوا بَنِي أَسَدٍ ... يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّاراً لأَقْوَامِ(15/82)
وكتبوا في الرسم الكريم: «عُلَمواء» بواو بين الميم والألف. قيل: هو على لغة من يميل الألف نحو الواو، وهذا كما فعل في «الصَّلاة والزَّكْاة» .
فصل
المعنى: أو لم يكن لهؤلاء المنكرين علم بني إسرائيل علامة ودلالة على نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنّ العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل كاناو يخبرون بوجود ذكره في كتبهم، كعبد الله بن سلام، وابن يامين، وثعلبة، وأسد، وأسيد. قال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة فسألوهم عن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: إنَّ هذا لزمانه، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته، فكان ذلك آية على صدقه.
قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين} . قال صاحب التحرير: الأعجمين: جمع أعجمي بالتخفيف، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة.
قال شهاب لادين: وكأنَّ سبب منع جمعه أنه من باب: أفعل فعلاء، ك «أَحْمَرَ حَمْرَاءَ» . والبصريون لا يجيزون جمعه جمع سلامة إلاّ ضرورة، كقوله:
3928 - حَلاَئِلَ أَسْوَدِينَ وَأَحْمَرِينَا ... فلذلك قدره مسنوباً مخفف الياء. وقد جعله ابن عطية «أَعْجَم» فقال: الأعجمون: جمع أعجم، وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب يقال له: أعجم، وذلك يقال للحيوانات، ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «العَجْمَاء جُبَار» وأسند الطَّبريّ عن(15/83)
عبد الله بن مطيع أنه كان واقفاً بعرفة وتحته جمل، فقال: جَمَلِي هذا أَعْجَمٌ، ولو أنَّه أنزل عليه ما كانوا يؤمنون.
والعجميُّ: هو الذي نسبته في العجم وإن كان أفصح الناس.
وقال الزمخشري: الأعجم: الذي لا يفصح، وفي لسانه عجمة واستعجام، والأعجمي مثله لا أنَّ فيه زيادة ياء النسب توكيداً. وقتدم نحو من هذا في سورة النحل وقد صرَّح أبو البقاء يمنع أن يكون «الأعْجَمِينَ» جمع أعجم، وإنما هو جمع أعجمي مخففاً من «أَعْجَمِيّ» «كَالأَشْعَرُون» في الأَشْعَرِيّ. قال: «الأعجمين» الأعجميِّين، فحذف ياء النسب، كما قالوا: (الأَشْعَرُونَ أي) : الأَشْعَرِيُّون، وواحده (أَعْجَمِي) ولا يجوز أن يكون جمع (أَعْجَم) لأنَّ مؤنثه (عَجْمَاء) ، ومثل هذا لا يجمع جمع التصحيح. قال شهاب الدين: وفيما قاله ابن عطية نظر، وأام الزمخشري فليس في كلامه أنه جمع (أَعْجَم) مخففاً أو غير مخفف، وإن كان ظاهره أنه جمع (أعجم) من غير تخفيف، ولكن الذي قاله ابن عطية تبع فيه الفراء فإنَّه قال: الأعجمين: جمع (أَعْجَم) أو (أَعْجَمِي) على حذف ياء النسب، كما قالوا: الأشعرين وواحدهم. (أشعري) وأنشد للكميت:
3929 - وَلَوْ جَهَّزتَ قَافِيةً شَرُوداً ... لَقَدْ دَخَلَتْ بيُوتَ الأَشْعَرِينَا
لكن الفراء لا يضره ذلك، فإنه من الكوفيين، وقد تقدم عنهم أنهم يجيزون جمع ((15/84)
أَفْعَل فَعْلاَء) .
وقرأ الحسن وابن مقسم: «الأَعْجَمِيِّينَ» بياء النسب - وهي مؤيدة لتخفيفه منه في قراءة العامة.
فصل
قوله «وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ» يعني: القرآن على رجل ليس بعربي اللسان «فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ» بغير لغة العرب {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} وقالوا ما نفقه قولك، وجعلوه عذراً لجحودهم، ونظيره: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44] .
وقيل: معنا: ولو أنزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة من اتباعه.
قوله: «كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ» أي: قيل ذلك، أو الأمر كذلك. والضمير في «سَلَكْنَاهُ» عائد على القرآن، وهو الظاهر، أي: سلكناه في قلوب المجرمين (كما سلكناه في قلوب المؤمنين) ، ومع ذلك لم ينجع فيهم. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد: أدخلنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين.
وهذه الآية تدل على أنّ الكل بقضاء الله وخلقه. قال الزمخشري: إراد به أنه صار ذلك التكذيب متمكناً في قلوبهم أشدّ التمكن، فصار ذلك كالشيء الجبلِّي.
والجواب: أنه إما أن يكون قد فعل الله تعالى فيهم ما يقتضي الترجيح أم لا، فإن كان الأول فقد دللنا في سورة الأنعام على أنَّ الترجيح لا يتحقق ما لم يثب إلى حد الوجوب، وحينئذ يحصل المقصود، وإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح البتة امتنع قوله: «كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ» .(15/85)
قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} في الجملة وجهان:
أحدهما: الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبله.
والثاني: أنها حال من الضمير في «سَلَكْنَاهُ» أي: غير مُؤْمِنٍ بِهِ.
ويجوز أن يكون حالاً من «المُجْرِمِينَ» لأنَّ المضاف جزء من المضاف إليه {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} يعني: الموت.
قوله: «فَيَأْتِيَهُمْ» و «فَيَقُولُوا» عطف على «يَرَوا» .
وقرأ العامة بالياء من تحت. والحسن وعيسى بالتاء من فوق.
أنّث ضمير العذاب. لأنه في معنى العقوبة. وقال الزمخشري: أنّثَ على أن الفاعل ضمير الساعة. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله: «فَيَأْتِيَهُمْ» ؟ قُلْت: ليس المعنى التعقيب في الوجود، بل المعنى ترتُّبها في الدشة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب أشدَّ منها، ومثال ذلك أن تقول: إنْ أَسَأتَ مَقَتَكَ الصَّالِحُونَ فمَقَتَكَ اللَّه فإنك لا تقصد أنّ مَقْتَ اللَّهِ بعد مَقْتِ الصَّالِحينَ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة المر على المسيء.
وقرأ الحسن: «بَغَتَةً» بفتح الغين.
فصل
المعنى: يَأْتِيَهُمْ العذاب «بَغْتَةً» أي: فجأة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} به في الدنيا، {فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} أي: لنؤمن ونصدق، يتمنون الرجعة والنظرة، وإنما يقولون ذلك استرواحاً عند تعذر الخلاص، لأنهم يعلمون في الآخرة ألاَّ ملجأ لهم. قال مقاتل: لما وعدهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالعذاب قالوا: إلى متى توعدنا بالعذاب؟ ومتى هذا(15/86)
العذاب؟ قال الله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} .(15/87)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
قوله: «أَفَرَأيْتَ» تقدم تحقيقه وقد تنازع «أَفَرَأَيْتَ» وجَاءَهُمْ «في قوله: {مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} فإن أعملت الثاني وهو» جَاءَهُمْ «رفعت به» مَا كَانُوا «فاعلاً به، ومفعول» أَرَأَيْتَ «الأول ضميره، ولكنه حذف، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية في قوله: {مَآ أغنى عَنْهُمْ} ، ولا بدَّ من رابط بين هذه الجملة وبين المفعول الأول المحذوف، وهو مقدر تقديره: أفرأيت ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم تمتُّعهم حين حلَّ، أي: الموعود به، ودلَّ على ذلك قوة الكلام.
وإن أعملت الأول نصبت به {مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} وأضمرت في» جَاءَهُمْ «ضميره فاعلاً به، والجملة الاستفهامية مفعول ثانٍ أيضاً، والعائد مقدر على ما تقرر في الوجه قبله، والشرط معترض، وجوابه محذوف، وهذا كله مفهوم مما تقدم في سورة الأنعام وإنما ذكرناه هنا لأنه تقديرٌ (عَسِرٌ يحتاج) إلى تأمل. وهذا كله إنما يتأتيى على قولنا:» مَا «استفهامية، ولا يضير تفسيرهم لها بالنفي، فإن الاستفهام قد يرد بمعنى النفي. وأما إذا جعلتها نافية حرفاً، كما قاله أبو البقاء فلا يتأتي ذلك، لأنَّ مفعول» أَرَأَيْتَ «الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كما تقرر. قوله: {أَفَرَأَيْتَ(15/87)
إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} كثيرة في الدنيا، يعني كفار مكة، ولم نهلكهم {ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} يعني: العذاب {مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} في تلك السنين، أي: إنهم وإن طال تمتعهم بنعم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن طول التمتع عنهم شيئاً، ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط.
قوله: {مَآ أغنى عَنْهُمْ} يجوز أن تكون» مَا «استفهامية في محل نصب مفعولاً مقدماً، و» مَا كَانُوا «هو الفاعل، و» مَا «مصدرية بمعنى: أيُّ شَيْءٍ أغنى عنهم كونهم متمتعين. وأن تكون نافية، والمفعول محذوف، أي: لَمْ يُغْنِ عنهم تمتعهم شيئاً. وقرىء» يُمْتَعُونَ «بإسكان الميم وتخفيف التاء من: أمْتَعَ اللَّهُ زَيداً بكذا.
قوله: {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} يجوز أن تكون الجملة صفة ل» قَرْيَةٍ «وأن تكون حالاً منها. وسوغ ذلك سبق النفي. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد» إلاَّ «ولم تعزل عنها في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] ؟ قلت: الأصل عزل الواو، لأنَّ الجملة صفة ل» قَرْيَةٍ «وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] . قال أبو حيان: ولو قدرنا» لَهَا مُنْذِرُونَ «جملة لم يجز أن تجيء صفة بعد (إلاَّ) ، ومذهب الجمهور أنه لا تجيء الصفة بعد» إلاَّ «معتمدة على أداة الاستثناء، نحو: مَا جَاءَنِي أحدٌ إلاَّ رَاكِبٌ، وإذا سمع مثل هذا خرّجوه على البدل، أي: إلاَّ رجل راكب، ويدل على صحة هذا المذهب أنَّ العرب تقول: ما مررت بأحدٍ إلاَّ قائماً ولا يحفظ عنهم» إِلاَّ قَائِم «يعني: بالجر، فلو كانت الجملة صفة بعد» إلاَّ « (لَسُمِعَ الجَرُّ) في هذا.
وأيضاً فلو كانت الجملة صفة للنكرة لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد «إِلاَّ» . يعني نحو: مَا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ إِلاَّ العَاقِلِ.(15/88)
ثم قال: فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد «إلاَّ» نحو: ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمرٍو، والتقدير: ما جاءني أحدٌ خيرٌ من عمرٍو إلاَّ زيدٌ.
وأمَّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف فغير معهود في عبارة النحويين، لو قلت: جاءني رجلٌ وعاقلٌ. لم يجز، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على بعض وتغاير مدلولها، نحو: «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الشجع والشاعر» .
وأما {وثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] فتقدم الكلام عليه.
قال شهاب الدين: أما كون الصفة لا تقع بعد (إلاَّ) معتمدةً فالزمخشري يختار غير هذا، فإنَّها مسألة خلافية، وأما كونه لم يقل (إلاَّ قائماً) بالنصب دون «قَائِم» بالجر فذلك على أحد الجائزين، وليس فيه دليل على المنع من قسيمه. وأما قوله: فغير معهود في كلام النحويين. فممنوع، هذا ابن جنِّي نصَّ عليه في بعض كتبه، وأما إلزامه أنها لوكانت الجملة صفة بعد (إلاَّ) للنكرة، لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد (إلاَّ) فغير لازم، لأنَّ ذلك مختص بكون الصفة جملة، وإذا كانت جملة تعذر كونها صفة للمعرفة، وإنَّما اختص ذلك بكون الصفة جملة، لأنها لتأكيد وصل الصفة والتأكيد لائق بالجمل.
وأمَّا قوله: لو قلت: جاءني رجلٌ وعاقلٌ. لم يجز، فمسلَّم، ولكن إنما امتنع ذلك في الصفة المفردة لئلا يلبس أإن الجائي اثنان: رجدلٌ وآخر عاقلٌ، بخلاف كونها جملة فإنَّ اللبس منتفٍ، وقد تقدم (الكلام في) {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ} الكهف: 22] .
قوله: «ذِكْرضى» يجوز فيها أوجه:
أحدها: أنها مفعول من أجله، وإذا كانت مفعولاً من أجله ففي العامل فيها وجهان: أحدهما: «مُنْذِرُونَ» على أنَّ المعنى: منذرون لأجل الموعظة والتذكرة.
الثاني: «أَهْلَكْنَا» .
قال الزمخشري: والمعنى: وَمَا أَهْلَكْنَا من أهل قريةٍ ظالمين إلاَّ بعد ما ألزمناهم الحجَّة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون تذكرة وعبرةً لغيرهم، فلا يعصون مثل(15/89)
عصيانهم: ثم قال: وهذا الوجه عليه المُعَوَّل. قال أبو حيان: وهذا لا معوَّل عليه، فإنَّ مذهب الجمهور أنَّ ما قبل إلاَّ لا يعمل فيما بعدها إلاَّ أن يكون مستثنى أو مستثنى منه، أو تابعاً له غير معتمدٍ على الأداة نحو: ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمرٍو.
والمفعول له ليس واحداً من هذه.
ويتخرَّج مذهبه على مذهب الكسائي والأخفش، وإن كانا لم ينصَّا على المفعول له بخصوصيته. قال شهاب الدين: والجواب ما تقدم قبل ذلك من أنه يختار مذهب الأخفش.
الثاني من الأوجه الأول: أنها في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هذه ذكرى، وتكون الجملة اعتراضية.
الثالث: أنها صفة ل «مُنْذِرُونَ» إمَّا على المبالغة، وإمَّا على الحذف، أي: مُنْذِرُونَ ذوو ذكرى، أو على وقوع المصدر وقوع اسم الفاعل. أي: منذرون مذكِّرن. وتقدم تقريره.
الرابع: أنها ي محل نصب على الحال، اي: مذكِّرين، أو ذوي ذكرى، أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة.
الخامس: أنها مصنوبة على المصدر المؤكد، وفي العامل فيها حينئذ وجهان:
أحدهما: لفظ «مُنْذِرُونَ» لأنه من معناها، فهما ك (قَعَدْتُ جُلُوساً) .
والثاني: أنه محذوف من لفظها، أي: يُذَكِّرُونَ ذكرى، وذلك المحذوف صفة ب «مُنْذِرُوَن» .
قوله: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} في تعذيبهم، حيث قدمنا الحجة عليهم، وأعذرنا إليه، أو: ما كنا ظالمين فنهلك قوماً غير ظالمين.(15/90)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} . العامة على الياء ورفع النون، وهو جمع تكسير.
وقرأ الحسن البصري وابن السميفع والأعمش بالواو مكان الياء والنون مفتوحة، إجراء له مجرى جمع السلامة وهذه القراءة (قَدْ ردَّها) جمع كثير من النحويين.
قال الفراء: غلط الشَّيخ، ظنَّ أنَّها النون التي على هجائين. فقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتجَّ بقول العجاج ورؤبة فهلا جاز أن يحتجَّ بقول الحسن وصاحبه - يعني: محمد بن السميفع - مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به إلاَّ وقد سمعا فيه. وقال النحاس: هو غلظ عند جميع النحويين.
وقال المهدوي: هو غير جائز في العربية. وقال أبو حاتم: هي غلطٌ منه أو عليه. وقد أثبت هذه القراءة جماعة من أهل العلم ودفعوا عنها الغلط، فإنَّ القارىء بها من العلم بمكان مكينٍ. وأجابوا عنها بأجوبة صالحة.
فقال النضر بن شميل: قال يونس بن حبيب: سمعت أعرابياً يقول: دخلت بساتين من ورائها بَسَاتُون. فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن.
وخرَّجها بعضهم على أنها جمع (شَيَّاطٍ) بالتشديد، مثال مبالغة. مثل: (ضَرَّاب وقَتَّال) على أن يكون مشتقاً من: شَاطَ يَشِيطُ، أي: أُحرق، ثم جُمِع جمع سلامة مع تخفيف الياء، فوزنه: (فَعَالُونَ) مخففا من (فَعَّالِينَ) بتشديد العين.
ويدل على ذلك أنَّهما وغيرهما قرءوا بذلك، أعني: بتشديد الياء، وهذا منقول عن مؤرج السَّدوسيّ. ووجَّهها آخرون بأنَّ (آخره لما) كان يشبه يبرين، وفلسطين، أجري إعرابه تارة على النون، وتارة بالحرف، كما قالوا: هذه يبرين وفلسطين ويبرون وفلسطون، وتقدم القول في ذلك في البقرة. والهاء في «بِه» تعود على(15/91)
القرآن. وجاءت هذه الجمل الثلاثة منفية على أحسن ترتيب، نَفَى أوَّلاً تنزيل الشياطين به، لأنَّ النفي في الغالب يكون في الممكن، وإن كان الإمكان هنا منتفياً ثم نفى ثانياً ابتغاء ذلك، أي: ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلاً له. ثم نفى ثالثاً الاستطاعة والقدرة، ثم ذكر علة ذلك وهي انعازلهم عن السماع من الملأ الأعلى، لأنهم يرجمون بالشهب لو (تَسَمَّعُوا) .
فصل
لما احتج على صدق محمد - عليه السلام - بكون القرآن تنزيل رب العالمين، لوقوعه في الفصاحة القصوى، ولاشتماله على قصص المتقدمين من غير تفاوت، مع أنه - عليه السلام - لم يتعلم من أحد، وكان الكفار يقولون: هذا من إلقاء الجنّ والشياطين كسائر ما ينزل به على الكهنة، فأجاب الله تعالى بأنَّ ذلك لا يستهل للشياطين، لأنهم معزولون عن استماع كلام اهل السماء برجمهم بالشهب. فإن قيل: العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بخبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد - عليه السلام - صادقاً بفصاحة القرآن، وإخباره عن الغيب، ولا يثبت كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك.
(فلزم الدور.
فالجواب: لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك) لا يستفاد إلا من قول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنا نعلم بالضرورة أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يلعن الشياطين، ويأمر الناس بلعنهم، فلو كان ذلك إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم، فيجب أن يكون اقتار الكفار على مثله أولى. ولما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون، لأنهم معزولون عن تعرف الغيوب. ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب خاطب الرسول - عليه السلام - فقال: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين} . قال ابن عباس: يحذر به غيره، يقول: أنت أكرم الخلق عليَّ ولو اتخذت إلهاً غيري لعذبتك. وقوله: «فَتَكُونَ» منصوب في جواب النهي.(15/92)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} . روى عبد الله بن عباس عن علي بن أبي(15/92)
طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} دعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: «يا عليّ، إنَّ اللَّه أمرني أَنْ أنذر عشيرتي الأقربين، وضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال: يا محمد: إلاَّ تفعل ما تؤمر يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عُسَّا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب عت أبلغهم ما أمرت به» . ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وهم يؤمئذٍ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً او ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَذْبَةً من اللحم، فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الحصفة، ثم قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم، ثم قال: اسْقِ القومَ. فجئت بذلك العُسْ فشربوا حتى رووا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يكلمهم بَدَرهُ أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم: فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: الغد يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فأعدّ لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم اجمعهم ففعلت، ثم دعاني بالطعام فقدمته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثم تكلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: يا نبي عبد المطلب: إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فإيكم يؤازرني على أمري ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلت وأنا أحدثهم سنّاً: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عيله، قال: فأخذ برقبتي ثم قال: إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب. قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع «(15/93)
وعن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} » خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى صعد الصفا، فهتف: يا صَبَاحَاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: «أرأيتم إنْ أَخبرتكم أن خَيْلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقِيَّ» ؟ قالوا: ما جَرَّبْنَا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبّاً لك ما جمعتنا إلا لهذا «
، ثم قام، فنزلت {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] .
قوله: {واخفض جَنَاحَكَ} : ألن جانبّك {لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} . واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب.
قوله: «فِإِنْ عَصَوْكَ» : في هذه الواو وجهان:
أحدهما: أنها ضمير الكفار، أي: فإن عصاك الكفار في أمرك لهم بالتوحيد.
والثاني: أنها ضمير المؤمنين، أي: فإن عصاك المؤمنون في فروع الإسلام وبعض الأحكام بعد تصديقك والإيمان برسالتك، وهذا في غاية البعد {إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (من الكفر وعبادة غير الله) .
فصل
قال الجُبَّائيّ: هذا يدل على أنه - عليه السلام - كان بريئاً من معاصيهم، وذلك يوجب أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم كالرسول، وإلا كان مخالفة لله، كما لو رضي عن شخص فإن الله راضٍ عنه، وإذا كان تعالى بريئاً من عملهم فلا يكون فاعلاً له. والجواب: أنه تعالى بريء من المعاصي، بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها، فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم، بدليل انه علم وقوعها، وكل ما كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع، وإلاَّ لانقلب علمه جهلاً، وهو محال، والمفضي إلى المحال محال، وعلم ما هو واجب الوقوع لا يراد عدم وقوعه، فثبت قولنا.
قوله: «وَتَوَكَّلْ» . قرأ نافع وابن عامر بالفاء. والباقون بالواو.(15/94)
فأما قراءة الفاء فإنه جُعِل فيها ما بعد الفاء كالجزاء لما قبلها مترتباً عليه. وقراءة الواو لمجرد عطف جملة على أخرى. والتوكل: عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يكل أمره ويقدر على نفعه وضره. ثم قال: {عَلَى العزيز الرحيم} ليكفيك كيد الأعداء بعزته وينصرك عليهم برحمته.
قوله: «الَّذِي يَرَاَكَ» يجوز أن يكون مرفوع المحل خبراً لمبتدأ محذوف، أو منصوبه على المدح، أو مجرورة على النعت أو البدل أو البيان.
قال أكثر المفسرين: معناه: يراك حين تقوم إلى صلاتك. وقال مجاهد: يراك أينما كنت. وقيل: حين تقوم لدعائهم.
قوله: «وَتَقَلُّبَكَ» . عطف على مفعول «يَرَاكَ» أي: ويرى تَقَلُّبَكَ، وهذه قراءة العامة. وقرأ جماح بن حبيش بالياء من تحت مضمومة، وكسر اللام، ورفع الباء، جعله فعلاً، مضارع (قَلَّبَ) بالتشديد، وعطفه على المضارع قبله، وهو «يَرَاكَ» أي: الذي يُقَلِّبُكَ.
فصل
معنى تقلبه أي: تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك، قال عكرمة وعطية عن ابن عباس: «فِي السَّاجِدِينَ» أي: في المصلين.
وقال مقاتل والكلبي: أي: مع المصلين في الجماعة، أي: يراك حين تقوم وحدك للصلاة، ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة.
وقال مجاهد: يرى تقلب بصرك في المصلين، فإِنَّهُ كان يبصر من خلفه كما يبصر من أمامه. قال عليه السلام: «واللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ ولا رُكُوعُكُمْ، وإِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» وقال الحسن: «تقلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» أي: تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين. وقال سعيد بن جبير: يعني: وتصرّفك في(15/95)
أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك. والسَّاجدون: هم الأنبياء.
وقال عطاء عن ابن عباس: أراد: وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة. {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} السميع لما تقوله، العليم بما تنويه.(15/96)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} الآية. أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين:
الأول: قوله: {تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} كما تقدم من أنَّ الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمد يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة منه.
والثاني: قوله: {يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} ومعناه: أنهم كانوا يقيسمون حال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على حال الكهنة (فكأنه قيل: إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب، فجيب أن تكون حال الرسول كذلك، فلما لم يظهر في إخبار الرسول عن المغيبات إلا الصدق علمنا أنَّ حاله بخلاف حال الكهنة) .
قوله: «عَلَى مَنْ» متعلق ب «تَنَزَّلُ» بعده. وإنما قُدِّم، لأَنَّ له صدر الكلام، وهو مُعلقٌ لما قبله من فِعْل التَّنْبِئَة، لأنها بمعنى العلم.
ويجوز أن تكون هنا متعدية لاثنين، فتسد الجملة المشتملةُ على الاستفهام مسدّ الثاني، لأنَّ الأول ضمير المخاطبين. وأن تكون متعديةً لثلاثة فتسد مسدّ اثنين.
وقرأ البَزِّيُّ: {عَلَى مَنْ تَّنزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَّنَزَّلُ} بتشديد التاء من «تنزل» في الموضعين والأصل: «تَتَنَزَّل» بتاءين فأدغم، والإدغام في الثاني سهل، لتحرك ما قبل المدغم، وفي الأول صُعُوبةٌ لسكون ما قبله وهو نُونُ «مَنْ» . وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] .
قوله: «يُلْقُونَ» . يجوز أن يعود الضمير على «الشَّيَاطِين» فيجوز أن تكون الجملة «يُلْقُونَ» حالاً، وأن تكون مستأنفة. ومعنى إلقائهم السمعَ: إنصاتهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُوا شيئاً، أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة.(15/96)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
ويجوز أن يعود على {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} من حيث إنه جمعٌ في المعنىن فتكون الجملة إما مستأنفة، وأما صفة ل «كُلِّ أَفَّاكٍ» . ومعنى الإلقاء ما تقدم.
وقال أبو حيان: حال عود الضمير على «الشَّيَاطين» ، وبعد ما ذكر المعنيين المتقدمين في إلقاء السمع قال: فعلى معنى الإنصات يكون «يُلْقُونَ» استئناف إخبارٍ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة يحتمل الاستئناف، واحتمل الحال من «الشَّيَاطِينَ» أي: تَنزَّلُ على كُلِّ أفَّاكٍ أثِيمٍ مُلْقِينَ ما سَمِعُوا. انتهى.
وفي تخصيصه الاستئناف بالمعنى الأول وتجويزه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ، لأنَّ جواز الوجهين جارٍ في المعنيين فيحتاج في ذلك إلى دليل، فإن قيل: كيف قال: «وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ» بعد ما حكم عليهم أنَّ كل واحد منهم أفّاك؟
فالجواب: أنَّ الأَفاكين هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني، وأكثرهم يفتري عليه.
قوله
تعالى
: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} . قد تقدم أن نافعاً بتخفيف التاء ساكنة وفتح الباء في سورة الأعراف عند قوله: «لا يَتَّبِعُوكُمْ» والفرق بين المخفف والمثقل. وسكن الحسنُ العينَ، ورويت عن أبي عمرو، وليست ببعيدة عنه ك «يَنْصُرْكُمْ» وبابه وروى هارون عن بعضهم نصب العين، وهي غلط،(15/97)
والقول بأن الفتحة للإتباع خطأ، والعامة على رفع «الشُّعَرَاءُ» بالابتداء، والجملة بعده الخبر. وقرأ عيسى بالنصب على الاشتغال.
فصل
لمّا قال الكفار: لم لا يجوز أن يقالك الشياطين تنزل بالقرآن على محمد، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة، وعلى الشعراء بالشعر؟ ثم إنه تعالى فرق بين محمد - عليه السلام - وبين الكهنة، ذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه وبين الشعراء: بأن الشعراء يتبعهم الغاوون، وهم: الضالون: ثم بيَّن أنَّ ذلك لا يمكن القول به لأمرين:
الأول: {أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} والمراد منه: الطرق المختلفة، كقولك: أنا في يعظمونه بعدما يستحقرونه وبالعكس وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق، بخلاف أمر محمد - عليه السلام - فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحدة، وهو الدعوة إلى الله، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن الدنيا.
والثاني: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} .
وذلك أيضاً من علامات الغواية، فإنهم يرغِّبُون في الجود، ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصيرون إليه، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عنهم وعن واحد من أسلافهم. ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش، وذلك يدل على الغواية والضلالة، وأما محمد - عليه السلام - فإنه بدأ بنفسه {فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين} [الشعراء: 213] ثم بالأقرب فالأقرب فقال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] وكل ذلك خلاف طريقة الشعراء، فظهر بهذا البيان أنَّ حال محمد - عليه السلام - لم يشبه حال الشعراء.
قوله: «يَهِيمُونَ» . يجوز أن تكون هذه الجملة خبر «أَنَّ» وهذا هو الظاهر، لأنه محط الفائدة، و «فِي كُلِّ وَادٍ» متعلق به. ويجوز أن يكون {فِي كُلِّ وَادٍ} هو الخبر، أو نفس الجار كما تقدم في نظيره. ويجوز أن تكون الجملة خبراً بعد خبر عند من يَرَى تَعَدُّد(15/98)
الخبر مطلقاً. وهذا من باب الاستعارة البليغة، والتمثيل الرائع، شبَّه جَوَلاَنَهم في أفانين القول، وطرائق المدح والذم، والتشبيب، وأنواع الشعر بِهَيْمِ الهائم في كل وجهٍ وطريق. وقيل: أراد ب «كُلِّ وَادٍ» أي: على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون (القوافي) .
والهائم: الذي: يَخبِطُ في سَيْرِهِ ولا يقصد موضعاً معيناً، يقال هام على وجهه، أي: ذهب والهائم: العاشق من ذلك، والهَيْمَان: العطشان والهُيَامُ داءٌ يأخذ الإبلَ من العطش، وجَمَلٌ أَهْيَمُ وناقةٌ هَيْمَاءُ والجمع فيهما هِيمٌ قال تعالى: «شُرْبَ الهِيم» من الرمل: اليابس، فإنهم يخيلون فيه معنى العطش.
فصل
قال المفسرون: أراد شعراء الكفار، وكانوا يهجون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذكر مقاتل أسمائهم فقال: منهم عبد الله بن الزِّبعرَى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا: نحن نقول كما قال محمد، وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة من قومهم يشمعون أشعارهم حين يهجون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه، ويروون عنهم ذلك فذلك قوله: «يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ» وهم الرواة الذين يريدون هجاء المسلمين. وقال قتادة: هم الشياطين.
ثم إنه تعالى لما وصف شعراء الكفار بهذه الأوصاف استثنى شعراء المسلمين الذي كانوا يجيبون شعراء الجاهلية، ويهجون الكفار ويكافحون عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه منهم حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} .
روي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنَّ اللَّهَ قد أنزل في الشعراء ما أنزل، فقال: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إِنَّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نصح النبل «وفي رواية قال له:» اهْجُهُمْ فالواذي نفسي بيده هو أشد عليهم من النبل «
وكان يقول لحسان:» قُلْ فإنَّ روح القدس معك «.(15/99)
واعلم أن الله تعالى وصفهم بأمور:
الأول: الإيمان، وهو قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} .
وثانيها: العمل الصالح، وهو قوله:» وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ «.
وثالثها: أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة، ودعوة الحق، وهو قوله: [ {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} ] .
ورابعها: أنْ لا يذكروا هجواً إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم وهو] {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} قال الله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] . وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً «وقالت عائشة: الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح. وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر، [وكان عمر يقول الشعر] ، وكان عليٌّ أشعر الثلاثة. وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده.
وقوله: {وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} أي: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله، {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي: انتصروا من المشركين، لأنهم بدأوا بالهجاء، ثم أوعد شعراء المشركين فقال: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا} أشركوا وهجوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} أيّ مرجع يرجعون بعد الموت.
قال ابن عباس: إلى جهنم والسعير.
قوله: «أَيَّ مُنْقَلَبٍ» منصوب على المصدر، والناصب له «يَنْقَلِبُونَ» وقُدِّم، لتضمنه معنى الاستفهام، وهو معلق ل «سَيَعْلَمُ» سادّاً مسدّ مفعوليها.
وقال أبو البقاء: «أيَّ مُنْقَلَبٍ» صفة لمصدر محذوف، أي: ينقلبون انقلاباً أي منقلب، ولا يعمل في «سَيَعْلَمُ» لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
وهذا مردود بأن أيّاً الواقعة صفة لا تكون استفهامية، وكذلك استفهامية لا تكون صفة لشيء بل كل منهما قسم برأسه.(15/100)
و «أي» تنقسم إلى أقسام كثيرة، وهي: الشرطية، والاستفهامية، والموصولة، والصفة، والموصوفة عند الأخفش خاصة، والمناداة نحو: يا أيهذا والمُوصّلة لنداء ما فيه (أل) نحو: يا أيُّهَا الرجلُ. عند غير الأخفش، والأخفش يجعلها في النداء موصولة.
وقرأ ابن عباس والحسن {أَيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ} بالفاء والتاء من فوق من الانفلات.
روى الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» أُعْطيتُ السورة التي(15/101)
يذكر فيها البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة «
وعن أنس» أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «إنَّ اللَّه تعالى أعطاني السبع مكان التوراة، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل، ما قرأهن نبي قبلي»
وعن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به، وهو: وشعيب، وصالح، وإبراهيم، وبعدد من كذب بعيسى، وصدق بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «(15/102)
سورة النمل(15/103)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
سورة النمل مكية، وهي ثلاث وتسعون آية، وألف ومائة وتسع وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وسبع مائة وتسعة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} . «تلك» إشارة إلى آيات السورة أي: هذه آيات القرآن.
قوله: «وَكِتَابٍ» العامة على جره عطفاً على «القُرْآنِ» ، وهل المراد به نفس القرآن فيكون من عطف بعض الصفات على بعض، والمدلول واحد، أو اللوح المحفوظ، أو نفس السورة، أقوال. وقيل: القرآن والكتاب علمان للمنزل على نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهما كالعباس وعباس، يعني فيكون «أل» فيهما للمح الصفة، وهذا خطأ؛ إذ لو كانا علمين لما وصفا بالنكرة، وقد وصف «قرآن» بها في قوله: {آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 1]- الحجر - ووصف بها «كتاب» كما في هذه الآية الكريمة. والذي يقال إنه نكر هنا لإفادة التفخيم، كقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] .
وقرأ ابن أبي عبلة: «وكِتَابٌ مُبِينٌ» برفعها عطفاً على «آيَاتٌ» المخبر بها عن «تِلْكَ» .(15/103)
فإن قيل: كيف صَحَّ أن يشار لاثنين أحدهما مؤنث، والآخر مذكر باسم إشارة المؤنث.، ولو قلت: تلك هند وزيد لم يجز؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: (أن المراد بالكتاب) هو الآيات، لأن الكتاب عبارة عن آيات مجموعة، فلما كانا شيئاً واحداً، صحت الإشارة إليهما بإشارة الواحد المؤنث.
الثاني: أنه على حذف مضاف، أي: وآيات كتاب مبين.
الثالث: أنه لما ولي المؤنث ما يصح الإشارة به إليه، اكتفى به وحسن، ولو أولي المذكر لم يحسن، ألا تراك تقول: جاءتني هند وزيد، ولو حذفت (هند) أو أخّرتها لم يجز تأنيث الفعل.
قوله: «هُدًى وبُشْرَى» يجوز فيهما أوجه:
أحدها: أن يكونا منصوبين على المصدر بفعل مقدر من لفظهما، أي: يهدي هدى، ويبشر بشرى.
الثاني: أن يكونا في موضع الحال من «آيَات» والعامل فيها ما في «تِلْكَ» من معنى الإشارة.
الثالث: أن يكونا في موضع الحال من «القُرْآن» وفيه ضعف، ومن حيث كونه مضافاً إليه.
الرابع: أن يكونا حالاً من «كِتَاب» ، في قراءة من رفعه، يوضعف في قراءة من جره، لما تقدم من كونه في حكم المضاف إليه، لعطفه عليه.
الخامس: أنَّهما حالان من الضمير المستتر في «مبين» سواء رفعته (أم جررته) .
السادس: أن يكونا بدلين من «آيَاتُ» .
السابع: أن يكونا خبراً بعد خبر.(15/104)
الثامن: أن يكونا خبري ابتداء مضمر، أي: (هي) هُدًى وبُشْرَى للمؤمنين.
فصل
المراد يهديهم إلى الجنة وبشرى لهمن كقوله تعالى: ( {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ) مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [النساء: 175] ، ولهذا خص به المؤمنين، وقيل: إنما تكون للمؤمنين أو لأنهم تمسكوا به، كقوله:
{إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] ، أو أنه يزيد في هداهم، كقوله تعالى: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} [مريم: 76] .
قوله: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} يجوز أن يكون مجرور المحل، نعتاً للمؤمنين، أو بدلاً أو بياناً، أو منصوبة عل المدح، أو مرفوعة على تقدير مبتدأ، أي: هم الذين، والمراد بها: الصلوات الخمس، وكذا القول في الزكاة، فإنها هي الواجبة، لأن التعريف بالألف واللام يقتضى ذلك. وإقامة الصلاة أن يؤديها بشرائطها، والزكاة بوضعها في مواضعها.
قوله: {وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} «هم» الثاني تكرير للأول على سبيل التوكيد اللفظي، وفهم الزمخشري منه الحصر، أي: لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء، المتصفون بهذه الصفات. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية، وكرر فيها المبتدأ الذي هو «هم» حتى صار معناها: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق.
و «بالآخِرَةِ» متعلق ب «يوقنون» ، ولا يضر الفصل بينهما بالتوكيد.
وهذه الجملة يحتمل أن تكون معطوفة على اصلة، داخلة في حيز الموصول، وحينئذ يكون قد غاير بين الصِّلأَتين لمعنى، وهو أنه لما كان إقامة الصلاة، وإيتاه الزكاة مما يتكرَّر ويتجدَّد بالصتين جملة فعلية، فقال: «يُقِيمُونَ» ، وَ «يُؤْتُونَ» .
ولما كان الإيقان بالآخرة أمراً ثابتاً مطلوباً دوامه، أتى بالصلة جملة اسمية، مكرراً فيها المسند إليه، مقدماً الموقن به، الدال على الاختصاص، ليدل على الثبات(15/105)
والاستقرار، وجاء بخبر المبتدأ في هذه الجملة فعلاً مضارعاً، دلالة على أن ذلك متجدد كل وقت، غير منقطع. ويحتمل أن تكون مستأنفة غير داخلة في حيز الموصول. قال الزمخشري: ويحتمل أن تتم الصلة عنده، أي: عند قوله: «وَهُمْ» ، قال: وتكون الجملة اعتراضية.
يريد أن الصلة تمت عند الزكاة، فيجوز فيه ذلك، وإلا فكيف يصح - إذا أخذنا بظاهر كلامه - أن الصلة تمت عند قوله: «وَهُمْ» وتسمية هذا اعتراضاً: يعني من حيث المعنى وسياق الكلام، وإلا فالاعتراض في الاصطلاح: إنما يكون بين متلازمين من مبتدأ أو خبر، وشرط وجزاء، وقسم وجوابه، وتابع ومتبوع، وصلة وموصول، وليس هنا شيء من ذلك.
فإن قيل: إن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة، فما وجه ذكره مرة أخرى؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن الذي يستفاد منه طرق للنجاة هو معرفة المبدأ، ومعفرة المعاد، والعمل الصالح، وأشرفه الطاعة بالنفس والطاعة بالمال، فقوله: «لِلْمُؤْمِنِينَ» ، أي الذين يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وهو إشارة إلى معرفة المبدأ، وقوله: ( {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة} ، إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال، وقوله: {وَهُم) بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} إشارة إلى علم المعاد، فكأنه تعالى جعل معرفة المبدأ طرفاً أولاً، ومعرفة المعاد طرفاً أخيراً، وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطاً بينهما.
الثاثني: أن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة منهم من هو جازم بالحشر والنشر، ومنهم من يكون شاكاً فيه، إلا أنه يأتي بهذه الطاعة احتياطاً، فيقول: إن كنت مصيباً فيها فقد فزت بالسعادة، وإن كنت مخطئاً فيها لم يفتني إلا خيرات قليلة في بالقرآن، (وما من كان جازماً بالآخرة كان مهدياً به) . فلهذا ذكر هذا القيد.(15/106)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
قوله: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} الآية.
لما بيّن ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما للكفار من سوء العذاب، فقال: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} القبيحة، حتى رأوها حسنة، «فهم يعمهون» يترددون فيها متحيرين. فإن قيل: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله {زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] ؟ .
فالجواب: أما أهل السنة فأجروا الآية على ظاهرها، لأن الإنسان لا يفعل شيئاً ألبتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم والاعتقاد، أو الظن بكون الفعل مشتملاً على منفعة، وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين:
الأول: أنه لو كان لافتقر فيه إلى داع آخر، ولزم التسلسل، وهو محال.
الثاني: أن العلم إما أن يكون ضرورياً، أو كسبياً، فإن كان ضرورياً فلا بد من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسباً، لأن المكتسب إن كان شاعراً به، فهو متصور له، وتحصيل الحاصل محال، وإن لم يكن متصوراً، كان غافلاً عنه، والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالباً له. فإن قيل: هو مشعور به من وجه، قلنا: فالمشعور به غير ما هو غير مشعور به، فيعود التقسم المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين.
وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب ألبتة، والعلم الضروري هو الذي يكون مكتسباً، فإن كل واحد من تصوُّريه كاف في حصول التصديق، فالتصورات غير مكتسبة فهي مستلزمة التصديقات، فإذن متى حصلت التصورات البديهية، كان التصديق بها بديهياً فهي مستلزمة التصديقات، فإذن متى حصلت التصورات البديهية، كان التصديق بها بديهياً وليس كسبياً. ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة التصديقات النظرية، كانت كسبية، لأن لازم الضروري ضروري، وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوماً نظرية كذلك، بل هي اعتقادات تقليدية، لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا(15/107)
اعتقاد تحسيني بفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب، فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية، وثبت أن مبادىء الأفعال هي العلوم، وأفعال العباد بأسرها ضرورية فالإنسان مضطر في صورة مختار، فثبت أن الله تعالى هو الذي (زين لكل عامل عمله، والمراد من التزيين هو الذي) المضار والآفات، فثبت بهذه الدلائل العقلية القاطعة وجوب إجراء هذه الآية على ظاهرها. وأما المعتزلة فتأولوها بوجوه:
أحدها: أن المراد بينا لهم أمر الدين، وما يلزمهم أن يتمسكوا به، وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب، لأن التزيين من الله للعمل ليس إلا وصفه بأنه حسن واجب وحميد العاقبة، وهو المراد من قوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}
[الحجرات: 7] .
وقوله: «فَهُمْ يَعْمَهُونَ» يدل على ذلك، إذ المراد: فهم يعدلون ويتخيرون عما زينا من أعمالهم.
وثانيها: أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق، جعلوا إنعام الله عليها بذلك ذريعة إلى اتباع شهواتهم، وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف، فكأنه تعالى زين بذلك أعمالهم، ولذلك أشارت الملائكة عيلهم السلام بقولهم: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ} [الفرقان: 18] {وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ} [الفرقان: 18] {الذكر} [الفرقان: 18] .
وثالثها: أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه.
والجواب عن الأول: أن قوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} صيغة عموم، فوجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسناً أو قبيحاً.
وعن الثاني: أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أثر، وليس لها أُر، وليس لها أثر فيه، فإن كان الأول فقد دللنا على أن التحصيل متى حصل فلا بد أن ينتهي إلى حد الوجودب والاستلزام وحينئذ يحصل الغرض - وإن لم يكن له فيه أُر - صارت هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب، بالنسبة إلى أعمالهم، وذلك يمنع من إسناد فعلهم(15/108)
إليها، وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه.
قوله: {أولئك الذين لَهُمْ سواء العذاب} أي: القتل والأسير يوم بدر، وقيل: المراد مطلق العذاب، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، وسوء العذاب: شدته.
قوله: «الأَخْسَرُونَ» في (أَفَعَلَ) قولان: أظهرهما: أنها على بابها من التفضيل، وذلك بالنسبة إلى الكفار، من حيث اختلاف الزمان والمكان، يعني: أنهم أكثر خسراناً في الآخرة منهم في الدنيا، أي أن خسرانهم في الآخرة أكثر من خسرانهم في الدنيا.
وقال جماعة - منهم الكرماني - هي هنا للمبالغة لا للشَّركة، لأن المؤمن لا يخسران له في الآخرة ألبتة، وقد تقدم جواب ذلك، وهو أن الخسران راجع إلى شيء واحد، باعتبار اختلاف زمانه ومكانه. وقال ابن عطية: «الأَخْسَرُونَ» جمع ( «أَخْسَرَ» ، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف، فتقوى رتبته في الأسماء، وفي هذا نظر. قال أبوحيان: ولا نظر في أنه يجمع جمع سلامة أو جمع تكسير إذا كان ب (ال) ، بل لا يجوز فيه إلا ذلك إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية، فيقول: الزيدون هم الأفضلون والأفاضل، والهندات هنّ الفضليات والفضل، وأما قوله: لا يجمع إلا أن يضاف) فلا يتعين إذ ذاك جمعه، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز جمعه، وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد.(15/109)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
قوله: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى» : (لقي) مخفَّفاً يتعدى لواحد، وبالتضعيف يتعدى لاثنين، فأقيم أولهما هنا مقام الفاعل، والثاني «القرآن» ، وقول من قال: إنَّ أصله (تُلَقَّن) بالنون تفسير معنى، فلا يتعلّق به متعلق بأن النون أبدلت حرف عِلَّة.(15/109)
فصل
المعنى لتؤتاه وتلقنه من عند أي حكيم وأي عليم، وهذا معنى مجيئهما منكرتين، وهذه الآية تمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من القصص كأنه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى، فإن قيل: الحكمة إما أن تكون نفس العلم، وإما أن يكون العلم داخلاً فيها، فبعد ذكر الحكمة لم ذكر العلم؟
فالجواب: أن الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط، والعلم أعم منه؛ لأن العلم قد يكون عملياً وقد يكون نظرياً، والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية، فذكر الحكمة على العموم ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم، وكمال العلم من جهات ثلاثة: وحدتها، وعمون تعلقها بكل المعلومات، وبقاؤها مصونة عن كل التغيرات وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه (سبحانه) .
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ ... } الآيات، يجوز أن يكون «إذْ» منصوباً بإضمار اذكر، أو (يعلم) مقدر مدلولا عليه ب «عليم» ، (أو ب «عليم» ) وفيه ضعف لتقيد الصفة بهذا الظرف.
فصل
{إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ} في مسيره من مدين إلى مصر، قيل: إنه لم يكن مع موسى - عليه السلام - غير امرأته ابنة شعيب - عليه السلام -، وقد كنى الله عنها بالأهل، فتبع لك ورود الخطاب بلفظ الجمع، وهو قوله: {امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً} [طه: 10] : أبصرت ناراً، وذلك أنهما كانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما، والوقت وقت برد، وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار لما يرجى فيها من(15/110)
زوال الحيرة في أمر الطريق، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء، فلذلك بشرها فقال: {إني آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} والخبر: ما يخبر به عن حال الطريق؛ لأنه كان قد ضله. ثم في كلام حذف، وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها، وقال: سآتيكم منها بخبر يعرف به الطريق.
قوله: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} قرأ الكوفيون بتنوين «شِهَاب» ، على أن «قَبَس» بدل من «شِهَابٍ» أو صفة له، لأنه بمعنى مقبوس، كالقبض والنفض، والباقون بالإضافة على البيان، لأنَّ الشِّهاب يكون قبساً وغيره.
والشِّهَابُ: الشُّعلة، والقَبَسُ: القطعة منها يكون في عودٍ وغير عود. و «أو» : على بابها من التنويع، والطاء في «تَصْطَلُونَ» : يدل من تاء الافتعال، لأنه من صَلِيَ بالنار.
فإن قيل: قال هاهنا: {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} ، وفي موضع آخر، {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ} [القصص: 29] وهما كالمتدافعين، لأن أحدهما تَرَجٍّ والآخر تيقن.
فالجواب: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا،(15/111)
مع تجويزه الخيبة. فإن قيل: كيف جاء بسين التسويف؟
فالجواب: عدة لأهله أنه يأتيهم به، وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة، وأدخل «أو» بين الأمرين المقصودين، يعني الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين، ظفر بأحدهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ثقة منه بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده. «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» تستدفئون من البرد.
قوله: «نُودِي» في القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضمير موسى، وهو الظاهر، وفي «أن» حينئذ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها المفسرة، لتقدم ماهو بمعنى القول.
والثاني: أنها الناصبة للمضارع، ولكن وصلت هنا بالماضي، وتقدم تحقيق ذلك، وذلك على إسقاط الخافض، أي: نودي موسى بأن بورك.
الثالث: إنها المخففة، واسمها ضمير الشأن، و «بورك» خبرها، ولم يحتج هنا إلى فاصل، لأنه دعاء، وقد تقدم نحوه في النور، في قوله: {أَنَّ غَضَبَ} [النور: 9]- في قراءته فعلاً ماضياً - قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، اولتقدير: بأنه بورك، والشمير ضمير الشأن والقصة؟
قلت: لا؛ لأنَّه لا بدَّ من (قَدْ) ، فإن قلت: فعلى إضمارها؟
قلت: لا يصحّن لأنها علامة، والعلامة لا تحذف انتهى.
فمنع أن تكون مخففة لما ذكر، وهذا بناء منه على أنَّ «بُورِكَ» خبر لا دعاء، أما إذا قلنا إنه دعاءكما تقدم في النور فلا حاجة إلى (الفاصل كما تقدم، وقد تقدم فيه استشكال، وهو الطلب أن لا يقع خبراً في هذا الباب، فكيف وقع هذا خبراً ل (أن) المخففة، وهو دعاء.
الثاني من الأوجة الأول: انَّ القائم مقام) الفاعل نفس «أَنْ بُورِكَ» على حذف حرف الجرّ، أي: بأن بورك، ف (أَنْ) حينئذ إمّا ناصبة في الأصل، وإمّا مخففة.(15/112)
الثالث: أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل، أي: نودي النِّداء، ثم فسِّر بما بعده ومثله {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] .
قوله: {مَنْ فِي النَّارِ} مَنْ قَائمٌ مقام الفاعل ل «بُورِكَ» ، وبَارَكَ يتعدى بنفسه، ولذلك بُنِيَ للمفعول، يقال: بَارَكك اللَّهُ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وبَارَكَ فِيكَ، وَبَارَكَ لَكَ، وقال الشاعر:
3930 - فَبُورِكْتَ مَولُوداً وبُورِكْتَ نَاشِئاً ... وبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيبِ إذْ أَنْتَ أَشْيَبُ
وقال عبد الله بن الزبير:
3931 - فبُرك في بَنِيكَ وفي بَنِيهِمْ ... إذا ذُكِرُوا ونَحْنُ لَكَ الفِدَاءُ
وقال آخر:
3932 - فَبُورِكَ في المَيتِ الغَرِيبِ كَمَا ... بُورِكَ نبع الرُّمَّانِ والزَّيْتُون
فصل
والمراد ب «مَنْ» إما الباري تعالى، وهو على حذف مضاف، أي من قدرته وسلطانه في النار، وقيل المراد به موسى والملائكة، وكذلك ب «مَنْ حَوْلَهَا» ، وقيل المراد ب «مَنْ» غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها، فالأول من مروي عن ابن عباس، وروى مجاهد عنه أنه قال: معناه بوركت النار. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أيضاً، قال: سمعت أبيّاً يقرأ: {أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا} و «مَنْ» : قد تأتي بمعنى ((15/113)
ما) كقوله: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} [النور: 45] ، و (مَا) قد تكون صلة في الكلام، كقوله: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} [ص: 11] ، ومعناه: بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وفيمَنْ حَوْلَهَا وهم الملائكة وموسى عليهم السلام، وقال الزمخشري: {بُورِكَ مَن فِي النار} : بورك من في مكان النار ومن حولها: مكانها، ومكانها: هي البقعة التي حصلت فيها، وهي البقة المذكورة في قوله تعالى: {مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة} [القصص: 30] وتدل عليه قراءة أبيّ.
قوله: «وَسُبْحَانَ اللَّهِ» فيه أوجه:
أحدها: أنه من تتمّة النداء: أي: نودي بالبركة وتنزيه ربِّ العزَّة، أي: نودي بمجموع الأمرين.
الثاني: أنه من كلام الله تعالى مخاطباً لنبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وهو على هذا اعتراض بين أثناء القصة.
الثالث: أنّ معناه وبُورِكَ من سَبَّحَ اللَّهَ، يعني أنه حذف (مَنْ) وصلتها، وأبقى معمول الصلة، إذ التقدير: بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا، ومن قال: سُبْحَانَ اللَّهِ و «سُبْحَانَ» في الحقيقة ليس معمولاً لقال، بل لفعل من لفظه، وذلك الفعل هو المنصوب بالقول.
فصل
روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله: {بُورِكَ مَن فِي النار} يعني: قُدِّس من في النار، وهو الله، عنى به نفسه على معنى: أنه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من جهتها، كما روي أنه مكتوب في التوراة: «جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فران» ، فمجيئه من سيناء بعثته موسى منها، ومن ساعير(15/114)
بعثته المسيح، ومن جبال فاران بعثته المصطفى منها، وفاران: مكة. وهل كان ذلك نوره عَزَّ وَجَلَّ؟
قال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها، والنار إحدى حجب الله تعال، كما جاء في الحديث: «حجابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليه بَصَرُهُ من خلقه» والسبب الذي لأجله بوركت البقعة، وبورك من فيها وحواليها: حدوث هذا الأمر العظيم فيها، وهو تكليم موسى وجعله رسولاً، وإظهار المعجزات عليه، ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 7] وحقت أن تكون كذلك، فهي مبعث الأنبياء عليهم السلام ومهبط الوحي، وكفاتهم أحياء وأمواتاً.
ولما نزه نفسه، - وهو المنزه من كل سوء وعيب - تعرف إلى موسى بصفاته في قوله: {ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} . في اسم «إنَّ» وجهان: أظهرهما أنَّه ضمير الشأن ( «وَأَنَّا اللَّهُ» مبتدأ) وخبره، و «العزيز الحَكِيمُ» صفتان لله.
والثاني: أنه ضمير راجع إلى دلَّ عليه ما قبله، يعني: إن مكلِّمك أنا، و «الله» بيان ل «أَنَا» ، و «العَزِيزُ الحَكِيمُ» : صفتان للبيان قاله الزمخشري. قال أبو حيان، وإذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فلا يجوز أن يعود الضمير على ذلك المحذوف: إذ قد غيِّر الفعل عن بنائه له وعزم على أن لا يكون محدِّثاً عنه، فعود الضمير إليه ممَّا ينافي ذلك؛ إذ يصير معتنًى به. قال شهاب الدين: وفيه نظر، لأنه قد يلتفت إليه، وقد تقدم ذلك في البقرة عند قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} [البقرة: 178] ، ثم قال: «وَأَدَاءٌ إلَيْهِ» ، قيل: إلا الذي عفي له وهو وليُّ الدم ما تقدم تحريره ولئن سلِّم ذلك، فالزمخشري لم يقل إنه عائد على ذلك الفاعل، إنما قالك راجع إلى ما دل عليه ما قبله يعني من (السِّياق) .(15/115)
وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون ضمير ربِّ: أي: إن الرب أنا الله، فيكون «أنَا» فصلاً أو توكيداً أو خبر إن، والله بدل منه. وقيل: الهاء في قوله «إنَّهُ» عماد، وليست كناية، فإن قيل: هذا النداء قد يجوز أن يكون من عند غير الله، فكيف علم موسى أنه من الله؟
فالجواب: لأهل السنة فيه طريقان: الأول: أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة كلام المخلوقين، فعلم بالضرورة أنه صفة الله.
الثاني: قول أئمة ما وراء النهر، وهو أنه - عليه السلام - سمع الصوت من الشجرة، فنقول: إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور:
أحدها: أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة، علم أنه من قبل الله تعالى: لأن أحداً منا لا يقدر عليه، وهذا ضعيف، لاحتمال أن الشيطان دخل في النار والشجرة، ثم نادى.
والثاني: يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً، وهو أيضاً ضعيف، لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين، فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم.
وثالثها: أنه قد يقترن به معجز دل على ذلك، وقيل: إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق، فصار ذلك لكالمعجزة وهذا أيضاً في غاية الضعف والبعد، لأنه كيف تنادي النار أو الشجرة، وتقول: يا موسى إني أنا ربك، أو إني أنا الله رب العالمين!!(15/116)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
قوله: {وَأَلْقِ} عطف على ما قبله من الجملة الاسمية الخبرية، وقد تقدم أن سيبويه لا يشترط تناسب الجمل، وأنه يجيز: جاء زيدٌ ومن أبوك، وتقدمت أدلته أول البقرة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: «وَأَلْقِ عَصَاكَ» ؟ قلت: على قوله: «(15/116)
بُورِكَ» لأن معنى: نودي أن بورك، وقيل له: ألق عصاك، والدليل على ذلك قوله: {وأن ألق عصاك} ، بعد قوله: أن يا موسى إني أنا الله على تكرير حرف التفسير، كما يقول: كتبت إليه أن حجَّ واعتمر، وإن شئت، أن حجَّ وأن اعتمر. قال أبو حيان: وقوله إنه معطوف على «بُورِكَ» مُنَافٍ لتقديره، وقيل له: ألق عصاك، لأن هذه جملة معطوفة على «بُورِكَ» وليس جزؤها الذي هو معمول، وقيل: معطوفاً على «بُرِكَ» ، وإنما احتاج إلى تقدير: وقيل له: ألق، ليكون جملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها، كأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة. والصحيح أنه لا يشترط ذلك، ثم ذكر مذهب سيبويه.
{فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} ، وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها، سميت جانّاً، لأنها تستر عن الناس. وقرأ الحسن، والزهري، وعمرو بن عبيد «جَأنٌّ» بهمزة مكان الألف، وقد تقدم تقرير هذا عند {وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] على لغة من يهرب من التقاء الساكنين، فيقول شأبَّة ودأبَّة. «وَلَّي مُدْبِراً» هرب من الخوف، و «وَلَمْ يُعَقِّبْ» : لم يرجع، يقال: عقب فلان: إذا رجع، وكل راجع معقب.
وقال قتادة: ولم يلتفت، فقال الله: {ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} ، يريد: إذا أمَّنتهم لا يخافون، وقيل: المراد إذا أرمتهم بإظهار معجز أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك، وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة، لأن الخوف الذي هو شرط الإيمان لا يفارقهم، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أنا أخاشكم لله»
قوله: «تَهْتَزُّ» جملة حالية من (هاء) «رآها» ، لأن الرؤية بصريَّة، وقوله: «(15/117)
كَأنَّهَا جَانٌّ» : يجوز أن تكون حالاً ثانية، وأن تكون حالاً من ضمير «تَهْتَزُّ» ، فيكون حالاً متداخلة، وقوله: «وَلَمْ يُعَقّبْ» يجوز أن يكون عطفاً على «وَلَّى» ، وأن يكون حالاً أخرى، والمعنى: ولم يرجع على عقبه، كقوله:
3933 - فَمَا عَقَّبُوا إذْ قِيلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّب ... وَلاَ نَزلُوا يَومَ الكَرِيهَةِ مَنْزِلا
قوله: {إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ} فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه استثناء منقطع، لأنَّ المرسلين معصومون من المعاصي، وهذا هو الظاهر الصحيح، والمعنى: لكن من ظلم من سائر الناس، فإنه يخاف فإنه تاب وبدل حسناً بعد سوء فإنِّي غفورٌ رحيمٌ.
والثاني: أنَّه متصلٌ، وللمفسرين فيه عبارات، قال الحسن: إنَّ موسى ظلم بقتل القبطي، ثم تاب فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي} [القصص: 22] .
وقال ابن جريح: قال الله لموسى: أخفتك لقتلك النفس، وقال: معنى الآية: لا يخيف الله الأنبياء إلاّ بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يتوب.
وقيل: محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل. وقال بعض النحويين: «إلا» هاهنا بمعنى ولا، يعني: لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون، كقوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 150] . يعني ولا الذين ظلموا. وعن الفراء أنه متصل، لكن من جملة محذوفة تقديره: وإنما يخاف غيرهم إلاَّ من ظلم.(15/118)
وردَّه النحاس: بأنه لو جاز هذا لجاز: لا أضربُ القوم إلاَّ زيداً أي: وإنما أضرب غيرهم إلا زيداً، وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه.
وقدره الزمخشري ب «لكن» ، وهي علامة على أنه منقطع - وذكر كلاماً طويلاً - فعلى الانقطاع يكون منصوباً فقط على لغة الحجاز، وعلى لغة تميم يجوز فيه النصب والرفع على البدل من الفاعل قبله، وأما على الاتصال: فيجوز فيه الوجهان على اللغتين، ويكون الاختيار البدل، لأن الكلام غير موجب.
وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم «أَلاَ» بفتح الهمزة وتخفيف اللام - جعلاها حرف تنبيه - و «مَنْ» شرطية، وجوابها: «فَإِنِّي غَفُورٌ» والعامة على تنوين «حُسْناً» ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني غير منوّن، جعله فعلى مصدراً كرجعى، فمنعها الصَّرف لألف التأنيث، وابن مقسم بضم الحاء والسين منوناً، ومجاهد وأبو حيوة ورويت عن أبي عمرو بفتحهما، وتقدم تحقيق القراءتين في البقرة.
قوله: «تَخْرُجْ» الظاهر أنه جواب لقوله «أَدْخِلْ» أي: إن أدْخلْتها تَخْرُجُ على هذه الصفة، وقيل: في الكلام حذفٌ تقديره: وادْخِلْ يَدَكَ تَدْخُل، وأخرجها تخرج، فحذف من الثاني ما أثبته في الأول، ومن الأول ما أثبته في الثاني، وهذا تقدير ما لا حاجة إليه.
قوله: «بَيْضَاء» حال من فاعل «تَخْرُجْ» ، و «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» يجوز أن يكون حالاً أخرى أو من الضمير في «بَيْضَاءَ» ، أو صفة ل «بَيْضَاءَ» والمراد بالجيب: جيب القميص، قال المفسرون كانت عليه مدرعة من صوف لا كم لها ولا إزار، فأدخل يده في جيبه وأخرجها، فإذا هي تبرق مثل البرق. قوله: «في تِسْعِ» فيه أوجه:
أحدها: أنه حال ثالثة، قاله أبو البقاء يني من فاعل «تخرج» ، أي آية في تسع آيات، كذا قدره.(15/119)
الثاني: أنه متعلق بمحذوف، أي: اذهب في تسع آياتٍ، وقد تقدم اختيار الزمخشري كذلك عند ذكر البسملة، ونظره بقوله الآخر:
3934 - فَقُلْتُ إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ ... وقولهم: بالرَّفاء والبنين وجعل هذا التقدير أقرب وأحسن.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: وألْقِ عَصَاكَ وَأَدْخِلْ يَدَكَ في تِسْع آيَاتٍ، أي: في جملة تسع آياتٍ. ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة منها اثنتان اليد والعصا، والتِّسع الفَلْقُ، والطُّوفان، والجراد، والقُمَّل، والضَّفادع، والدَّم، والطَّمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان من مزارعهم انتهى.
وعلى هذا تكون (في) بمعنى (مَعَ) أي: هذه آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن إلى فرعون وقومه، لأن اليد والعصا حينئذ خارجتان من التسع، وكذا قال ابن عطية، أعني أنه جعل «فِي تِسْعِ» متصلاً ب «أَلْقِ» و «أَدْخِلْ» ، إلا أنه جعل اليد والعصا من جملة التسع، وقال: تقديره: تُمَهِّدُ لك ذلك وتيسِّر في تسع، وجعل في الزجاج (في) بمعنى (من) ، قال كما تقول: خذ لي من الإبل عشراً فيها فحلان، أي منها فحلان.
قوله: «إلَى فِرْعَونَ» هذا يتعلق بما تعلق به «فِي تِسْع» إذا لم نجعله حالاً، فإن جعلناه حالاً علقناه بمحذوف، فقدّره أبو البقاء مرسلاً إلى فرعون. وفيه نظر، لأنه كونٌ مقيَّدٌ، وسبقه إلى هذا التقدير الزجاج، وكأنهما أرادا تفسير المعنى دون الإعراب.(15/120)
وجوَّز أبو البقاء أيضاً أن تكن صفة ل «آيَاتٍ» ، وقدَّره: واصلةً إلى فرعون، وفيه ما تقدم.
قوله: «مُبْصِرَةً» حال، ونسب الإبصار إليها مجازاً، لأن بها يبصر، وقيل: بل هي من أبصر المنقولة بالهمزة من بصر، أي: أنها تبصر غيرها لما فيها من الظهور، ولكنه مجاز آخر غير الأول، وقيل: هو بمعنى مفعول، نحو «مَاءٌ دَافِقٌ» أي: مدفوق.
وقرأ عليّ بن الحسين وقتادة بفتح الميم والصاد، أي: على وزن أرض مسبعةٌ، ذات سباعٍ، ونصبها على الحال أيضاً، وجعلها أبو البقاء في هذه القراءة مفعولاً من أجله، وقد تقدم ذلك. ومعنى «مُبْصِرَةً» : بينة واضحة.
{قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر.
قوله: «وَجَحَدُوا بِهَا» أي: أنكروا الآيات، ولم يقروا أنها من عند الله.
قوله: «وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ» يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل «جَحدُوا» ، وهو أبلغ في الذم، واستفعل هنا بمعنى «تَفَعَّلَ» ، نحو: استعظم واستكبر، والمعنى: أنهم علموا أنها من عند الله، وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوا بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم، والاستيقان أبلغ من الإيقان.
قوله: «ظُلْماً وَعُلُواً» يجوز أن يكونا في موضع الحال، أي: ظالمين عالين، وأن يكونا مفعولاً من أجلهما، أي: الحامل على ذلك الظلم والعلو.
وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة: «وَعِليّاً» بكسر العين واللام وقلب الواو(15/121)
ياء، وتقدم تحقيقه في «عِتِيّاً» في مريم، وروي عن الأعمش وابن وثاب ضم العين كما في «عِتيّاً» .
وقرىء: «وَغُلُوّاً» بالغين المعجمة، وهو قريب من هذا المعنى، وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً؟
والعلو: الترفع عن الإيمان، والشرك وعدم الإيمان بما جاء به موسى، كقوله: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} [المؤمنون: 46] .
{فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} . قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} «كَيْفَ» خر مقدم، و «عَاقِبَةُ» اسمها، والجملة في محل نصب على إسقاط الخافض لأنها معلقة ل «انْظُرْ» بمعنى تَفَكَّرْ.(15/122)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} الآية. . والمراد بالعلم أي: علم القضاء ومنطق الطير والدواب وتسبيح الجبال، والمعنى: طائفة من العلم، او علماً سنياً عزيزاً.
قوله: «وَقَالاَ» ، قال الزمخشري: فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأنَّ ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيءٌ من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد، قال: ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفاه حقَّ معرفته، وقالا الحمد لله، انتهى.(15/122)
وإنَّما نكر «عِلْما» تعظيماً له، أي علماً سنياً، أو دلالة على التبعيض، لأنه قليل جداً بالنسبة إلى علمه تعالى.
فصل
المعنى: {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا} بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين، والجن والإنس {على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} ، ولم يفضلوا أنفسهم على الكل، وذلك يدل على حسن التواضع. قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} ، قال الحسن: المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث، وقال غيره: بل النبوة والعلم والملك دون سائر أولاده، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال لا يورث من الأنبياء، لقوله عليه السلام: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُورَث مَا تَرَكْنَاهُ صدقة» ، وأيضاً فإن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى، ولذلك يرثه الولد إذا كان مؤمناً، ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً، ولا كذلك النبوة، لأن الموتا لا يكون سبباً لنبوة الولد، وكان لداود تسعة عشر ابناً، واعطي سليمان ما أعطي داود من الملك، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين، قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبداً من سليطان، وكان سليمان شاكراً لنعم الله.
{وَقَالَ يا أيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} ، يعني صوته، سمي صوت الطير منطقاً، لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس، روي عن كعب قال: صاح ورشان عند سليمان عليه السلام، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: إنه يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب، وصاحت فاختة، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا لا، قال(15/123)
فإنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح الطاووس فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: كما تدين تدان، قال: وصاح هدهد، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاحت طيطوى، فقال أتدرون ما تقول؟ قالوا لا، قال فإنه يقول: كل حي ميت، وكل جديد بال وصاح خطاف، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى (ملء سمائة وأ {ضه، وصاح قمري، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: سبحان ربي الأعلى) ، قال: والغراب يدعو على العشَّار، والحدأة تقول:
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببعاء: ويلٌ لِمَنِ الدُّنْيَا هَمُّهُ، والضفدع يقول: سبحان ربِّي القدُّوس، والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده. وعن مكحول قال: صاح دُرَّاج عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] .
قوله: {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} تؤتى الأنبياء والملوك، قال ابن عباس: من أمر الدنيا والآخرة. وقال مقاتل: يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين(15/124)
والريح {إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين} ، والمراد بقوله: {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} كثرة ما أوتي، لأن كثرة المشاركة سبب لجواز الاستعارة، فلا جرم يطلق لفظ الكلم على الكثرة، كقوله {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين} ، أي: الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا، روي أن سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة (سنة) وستة أشهر، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع، وأعطي على ذلك منطق كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة.
فقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين} تقرير لقوله: {الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا} والمقصود منه: الشكر والمحمدة، كما قال عليه السلام: «أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ»
فإن قيل: كيف قال «عُلِّمنا» و «أُوتِينَا» ، وهو كلام المتكبر؟ فالجواب من وجهين، الأول: أن يريد نفسه وأباه.
والثاني: أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع، وكان ملكاً مطاعاً.
قوله: «وَحُشرَ لسُلَيْمَانَ» : وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له، فقوله: «مِن الجَنّ» وما بعده بيان ل «جنوده» فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون هذا الجار حالاً، فيتعلق بمحذوف أيضاً.
قوله: «فهم يُوزَعُون» أي: يمنعنون ويكفُّون، والوزع: الكف والحبس، يقال: وزعه يزعه فهو وازع وموزوع، وقال عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ القُرْآنُ» ، وعنه: «لاَ بُدَّ لِلقَاضِي مِنْ وَزَعَةٍ» وقال الشاعر:
3935 - وَمَنْ لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وحَيَاؤُهُ ... فَلَيْسَ لَهْ مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْهِ وَازعُ(15/125)
وقوله: {أوزعني أَنْ أَشْكُرَ} بمعنى ألهمني من هذا، لأنَّ تحقيقه: اجعلني من حيث أزع نفسي عن الكفر فقوله: «فَهُمْ يُوزَعُونَ» معناه: يحبسون، وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع متسلط على من يرده ويكفيه. وقال قتادة: كان كل صنف من جنوده وزعة ترد أولها على آخرها لئلا يتقدمون في المسير، والوازع: الحابس والنقيب، وقال، وقال مقاتل يوزعون يساقون، وقال السدي: يوقفون، وقيل يجمعون.
قوله: «حَتَّى إذَا» في المُغَيَّا ب «حتى» وجهان:
أحدهما: هو «يُوزَعُونَ» ، لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا.
والثاني: أنه محذوف، أي فساروا حتى وتقدم الكلام في حتى الداخلة على إذا، هل هي حرف ابتداء أو حرف جر.
قوله: «عَلَى وَادِي» متعلق ب «أَتَوا» ، وإنما عدِّي ب «عَلَى» ، لأنَّ الواقع كذا، لأنهم كانوا محمولين على الريح، فهم مستعلون. وقي: هو من قولهم: أتيت عليه، أي استقصيته إلى آخره، والمعنى أنهم قطعوا الوادي كله وبلغوا آخره.
ووقف القراء كلهم على «وَادِ» دون ياء اتباعاً للرسم، ولأنها محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين في الوصل، ولأنها قد حذفت حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين (نحو {جَابُواْ الصخر بالواد} [الفجر: 9] فحذفها وقفاً، وقد عهد حذفها دون التقاء الساكنين) ، فحذفها عند التقاء الساكنين أولى، إلا الكسائي، فإنه وقف بالياء، قال: لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل، وقد زال، فعادت اللام، واعتذر عن مخالفة الرسم بقوة الأصل.
والنَّملُ: اسم جنس معروف واحده نملةٌ، ويقال: نُمْلَةٌ ونُمْلٌ بضم النون وسكون الميم، ونُمُلَة ونُمُل بضمّهما، ونَمْلَة بالفتح، والضم بوزن سمرة، ونَمُل بوزن رجل، واشتقاقه من: التَّنمُّل، لكثرة حركته، ومنه قيل للواشي: المُنَمِّل، يقال: أنْمَلَ بين القوم مُنْمِل، أي: وشَى وَنَمَّ، لكثرة تردده، وحركته في ذلك، قال:(15/126)
3936 - وَلَسْتُ بِذِي فِيهِمُ ... وَلاَ مُنْمِشٍ منهم مُنْمِلِ
ويقال أيضاً: نَمِل يَنْمِلُ، فهو نَمِلٌ ونَمَّالٌ، وتَنَمَّلَ القومُ: تفرقوا للجميع تفرُّق النمل، وفي المثل: «أجْمَعُ مِنْ نَمْلَةٍ» والنَّمْلةُ أيضاً: قرحةٌ تخرج في الجنب، تشبيهاً بها في الهيئة، والنملة أيضاً شقٌّ في الحافر، ومنه: فرسٌ منمول القوائم، والأنْمُلة: طرف الإصبع من ذلك؛ لدقتها وسرعة حركتها، والجمع: أنامل.
فصل
قال كعب: كان سليمان إذا سار بعسكره حملته الريح تهوي بهم فسار من اصطخر إلى اليمن، فمرّ على مدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فقال سليمان: هذه دار هجرة نبي الله في آخر الزمان، طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه، ورأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله، فلما جاوز سليمان البيت بكى فأوحى الله إلى البيت: ما يبكيك؟ قال: يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا عليّ فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله إليه، لا تبك، فإني سوف أملأك وجوهاً سجداً، وأنزل فيك قرآناً جديداً، وأبعث منك في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني، وأفرض على عبادي فريضة يزفون إيلك زفيف النسور إلى أوكارها، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان، ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف، فأتى على وادي النمل، هكذا قال كعب إنه واد بالطائف، وقال مقاتل: إنه وادٍ بالشام كثير النمل، وقيل وادٍ كان يسكنه الجن، وأولئك النمل مراكبهم.
قوله: «قَالَتْ نَمْلَةٌ» هذه النملة هنا مؤنثة حقيقة، بدليل لحاق علامة التأنيث فعلها، لأن نملة تطلق على الذكر وعلى الأنثى، فإذا أريد تمييز ذلك قيل: نملة ذكر، ونملة أنثى، نحو: حَمامَة ويَمَامة. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه وقف على قتادة وهو يقول: سلوني، فأمر من سأله عن نملة سليمان: هل كانت ذكراً أو(15/127)
أنثى، فلم يجب، فقيل لأبي حنيفة في ذلك، فقال: كانت أنثى، واستدل بلحق العلامة.
قال الزمخشري: وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على المذكر والمؤنث، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وهو وهي، انتهى.
وقد ردَّ هذا أبو حيان، فقال: ولحاق التاء في «قالت» لا يدلّ على أن الملة مؤنثة، بل يصح أن يقال في المذكر: قالت نملة؛ لأن نملة وإن كانت بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث، وما كان كذلك كاليمامة والقملة ممابينه في الجمع وبين واحدة تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، (ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث) على أنه ذكر أو أنثى، لأن التاء دخلت فيه للفرق لا للدلالة على التأنيث الحقيقي، بل دالة على اواحد من هذا الجنس، قال: وكان قتادة بصيراً بالعربية، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذ علم أن النملة يخبر عناه إخبار المؤنث وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين، ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله، قال: وإنما استنباط تأنيثه من كتاب الله ب «قالت» ، ولو كان ذكراً لقيل: «قال» فكلام النحاة على خلافه، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبارا المؤنث، سواء كان ذكراً أم أنثى.
قال: وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة، فبينهما قدر مشترك يتميز فيهما المذكر من المؤنث فيمكن أن تقول: حمامة ذكر، وحمامة أنثى فتميزه بالصفة، وأما تميزه ب «هو» و «هي» فإنه لا يجوز، لا تقول هو الحمامة، ولا هو الشاة، وأما النملة والقملة فلا يتميز فيه المذكر من المؤنث، ولا يجوز فيه في الإخبار إلا التأنيث وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان نحو: المرأة، أو غير العاقل كالدابة، إلا إن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك، فيجوز أن تلحق العلامة وأن لا تلحقها، على ما تقرر في علم العربية. انتهى.(15/128)
قال شهاب الدين: اما ما ذكره ففيه نظر، من حيث إن التأنيث إما لفظي أو معنوي، واللفظي لا يتبر (في لحاق العلامة) البتة، بدليل أنه لا يجوز (قامت رَبْعَةٌ وأنت تعني رجلاً، وكذلك) لا يجوز: قامت طلحة، ولا حمزة - على مذكر - فتعين أن يكون اللحاق إنما هو للتأنيث المعنوي، وإنما يعتبر لفظ التأنيث والتذكير في بابا العدد على معنى خاص أيضً، وهو أنا ننظر إلى ما عاملت العرب ذلك اللفظ به من تذكير أو تأنيث من غير نظر إلى مدلوله، فهناك له هذا الاعتبار، وتحقيقه هنا يخرجنا عن المقصود وإنما نبهتك على القدر المحتاج إليه.
وأما قوله: وأما النملة والقملة فلا يتميَّز، يعني لا يتوصَّلُ لمعرفة الذكر منهما ولا الأنثى بخلاف الحمامة والشاة، فإن الاطلاع على ذلك ممكن، فهو أيضاً ممنوع إذ قد يمكن الاطلاع على (ذلك، وأن الاطلاع على ذكورية الحمامة والشاة أسهل من الاطلاع على) ذكورية النملة والقملة، ومنعه أيضاً أن يقال هو الشاة وهو الحمامة ممنوع.
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان: «النّمُلُ» و «نَمُلَة» بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة، وسليمان التيمي بضمتين فيهما، وتقدم ان ذلك لغات في الواحد والجمع. قوله «لاَ يَحْطِمَنَّكُم» ، فيه وجهان:
أحدهما: أنه نهي.
والثاني: أنه جواب للأمر.
وإذا كان نهياً ففيه وجهان:
أحدهما: أنه نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله من حيث الإعراب، وإنما هو نهي للجنود في اللفظ، وفي المعنى للنمل، أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم، كقولهم: لا أَرَينَّك ههُنَا.(15/129)
والثاني: أنه بدل من جملة الأمر قبله، وهو «ادْخُلُوا» ، وقد تعرض الزمخشري لذلك، فقال: فإن قلت: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر، والذي جوَّز أن يكون بدلاً منه أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، على طريقة: لاَ أَرَيَنَّكَ ههُنَا، أرادت: لا يحطمنكم جنود شسليمان، فجاءت بما هو أبلغ، ونحوه:
3937 - عَجِبْتُ مِن نَفْسِي وَمِنْ إشْفَاقِهَا ... قال أبو حيان: اما تخريجه على أنه جواب الأمر، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش، فإنه مجزوم مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نهي يعني أن الأعمش قرأ: «لاَ يَحْطَمْكُمْ» بجزم الميم دون نون توكيد، قال: وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا إن كان في شعر، وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر فأحرى أن لا جوز في جواب الأمر إلا في الشعر، وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في علم النحو. ومثال مجيء النون في جواب الشرط قوله الشاعر:
3938 - نَبَتُّمْ نَبَاتَ الخَيْزُرَانَةِ في الثَّرَى ... حَدِيثاً مَتَى مَا يَأْتِكَ الخَيْرُ يَنْفَعَا
وقول الآخر:
3939 - فَمَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تُعْطِكُمْ ... ومَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تَمْنَعَا(15/130)
قال سيبويه: وهو قليل في الشعر شبهوهُ بالنهي حيث كان مجزوماً غير واجب، قال: وأما تخريجه على البدل فلا يجوز، لأن مدلول «لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ» مخالف لمدلول «ادخُلُوا» ، وأما قوله: لأنه بمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، فتفسير معنى لا إعراب، والبدل من صفة الألفاظ، نعم لو كان اللفظ القرآني: لا تكونوا بحيث لا يحطمنكم، لتُخُيِّل فيه البدل، لأن الأمر بدخول المساكين نهي عن كونهم بظاهر الأرض.
وأما قوله: إنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخره، فيسوغ زيادة الأسماء، وهو لا يجوز، بل الظاهر إسناد الحطم إلى جنوده، وهو على حذف مضاف، أي: خيل سليمان وجنوده، إو نحو ذلك مما يصح تقديره، انتهى.
أما منعه كونه جواب الأمر من أجل النون، فقد سبقه إليه أبو البقاء، فقال: وهو ضعيف، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار. وأما منعه البدل بما ذكر فلا نسلم تغاير المدلول بالنسبة لما يؤول إليه المعنى. وأما قوله: فيسوغ زيادة الأسماء فهو لم يسوغ ذلك، وإنما فسر المعنى - وعلى تقدير ذلك - فقد قيل به شائعاً. وجاء الخطاب في قولها «ادخلوا» كخطاب العقلاء لما عوملوا معاملتهم. وقرأ أُبَيّ: {ادْخُلْنَ مَساكِنَكُنَّ لاَ يَحْطمنَّكُن} - بالنون الخفيفة - جاء به على الأصل. وقرأ شهر به حوشب: «مَسْكَنَكم» بالإفراد وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء والنون مضارع حطمه بالتشديد. وقرأ الحسن أيضاً قراءتان: فتح الياء وتشديد الطاء مع سكون الحاء وكسرها والأصل: يَحطمَنَّكُمْ، فأدغم وإسكان الحاء مشكل تقدم نظيره في «لا يَهديِّي» ونحوه، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد. والحطم: الكسرُ،(15/131)
يقال منه: حطمتهُ، ثم استعمل لكل كسر معناه، والحطام: ما تكسر يبساً وغلب على الأشياء التافهة، والحُطَم: السائق السريع، كأنه يحطم الإبل، قال:
3940 - قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بسواقٍ حَطَمْ ... لَيْسَ برَاعِي إبِلٍ وَلاَ غَنَمْ
ولا بِجَزَّارٍ ظَهْرٍ وَضَمْ
والحُطَمَة: من دركات النار، ورجل حُطَمَةٌ للأكول، تشبيهاً لبطنه بالنار، كقوله:
3941 - كَأَنَّمَا فَي جَوْفِهِ تَنُّورُ ... وقوله: «وهُمْ لا يشعُرُونَ» جملة حالية.
فصل
قال الشعبي: كانت تلك النملة ذات جناحين، فنادت {يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} ، ولم تقل: ادخلن، لأنها لما جعلت لهم قولاً كالآدميين خوطبوا بخطاب الآدميين، «لاَ يَحْطِمَنَّكُنمْ» لا يكسرنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فسمع سليمان قولها، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان. فإن قيل: كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده، وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض؟ قيل: كانت جنوده ركباناً وفيهم مشاة على الأرض تطوى بهم، وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الله الريح لسليمان.
وقال المفسرون: علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبرية ولا ظلم، ومعنى الآية: أنكم لو لم تدخلوا(15/132)
مساكنكم وطئوكم ولم يشعروا بكم، وروي أن سليمان لما دخل وادي النمل حبس جنده، حتى دخل النمل بيوتهم. قال أهل المعاني: في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة: نادت، ونبّهت، وسمت، وأمرت، ونصت، وحذرت، وخصت، وعمت، وأشارت، وأعذرت، ووجهه: نادت: «يا» نبهت: «ها» سمت: «النمل» ، أمرت «ادخلوا» ، نصت: «مساكنكم» ، حذرت: «لا يحطمنكم» ، خصت: «سليمان» ، عمت و «جنوده» ، أشارت: «وَهُمْ» ، أعذرت: «لا يشعرون» .
قوله: «ضاحكاً» قيل: هي حال مؤكدة لأنها مفهومة من (تبسم) ، وقيل: بل هي حال مقدرة، فإن التبسم ابتداء الضحك، وقيل: لما كان التبسم قد يكون للغضب، ومنه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الغضبان، أي تضاحكاً مسبباً له، قال عنترة:
3942 - لَمَّا رَآنِي قَدْ قَصَدْتُ أُرِيدُهُ ... أَبْدَى نَوَاجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ
وتبسَّم: تَفَعَّلَ بمعنى بَسَمَ المجرّد، قال:
3943 - وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّراً ... تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ لَهُ نَدِي
وقال بعض المولدين:
3944 - كَأَنَّمَا تَبْسِمُ عَنْ لُؤْلُؤٍ ... مُنَضَّدٍ أَوْ بَرَدِ أَوْ أَقَاح
وقرأ ابن السميفع: «ضحكاً» مقصوراً، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مصدر مؤكد معنى تبسم، لأنه بمعناه.(15/133)
والثاني: أنه في موضع الحال، فهو في المعنى كالذي قبله.
الثالث: أنه اسم فاعل كفرح، وذلك لأن فعله على فَعِل بكسر العين، وهو لازم، فهو كفرح وبطِر. قوله: «أن أشكر» مفعول ثان ل «أوزعني» ، لأن معناه: ألهمني، وقيل معناه: اجعلني أزع شكر نعمتك، أي: أكفه وأمنعه حتى لا ينفلت مني، فلا أزال شاكراً، وتفسير الزجاج له بامنعني أن أكفر نعمتك من باب تفسير المعنى باللازم.
فصل
قال الزجاج أكثر ضحك الأنبياء التبسم، وقوله: «ضاحكاً» أي: مبتسماً، وقيل: كان أوله التبسم وآخره الضحك، قال مقاتل: كان ضحك سليمان من قول النملة تعجباً، لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك، وإنما ضحك لأمرين:
أحدهما: إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وعلى شهرة حاله وحالهم في التقوى، وهو قولها: «وهم لا يشعرون» .
والثاني: سروره بما آتاه الله ما له يؤت أحداً، من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه. ثم حمد سليمان ربه على ما أنعم عليه، فقال: {رَبِّ أوزعني} ألهمني. {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين}
وهذا يدل على أن دخول الجنة ببرحمته وفضله، لا باستحقاق العبد، والمعنى: أدخلني في جملتهم، وأثبت امسي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين. فإن قيل: درجات الأنبياء أفضل من درجات الأولياء والصالحين، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين، فقال يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [يوسف: 101] ، وقال سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} ؟ .
فالجواب: الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية، وهذه درجة عالية.(15/134)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطير} الآية «تَفَقَّدَ الطَّيْرَ» : طلبها وبحث عنها وبحث عنها، والتفقد طلب ما فقد، والمعنى طلب ما فقد من الطير، واختلفوا فيما تفقده من أجله، فقيل: لأنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها، وقيل: لأن هندسة الماء كانت لديه، وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاج وكان يعرف قربه وبعده في عمق الأرض. قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق: يا وصاف، انظر ما يقول: إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ، حتى يقع في عنقه، فقال له ابن عباس: ويحك إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر، وهذا القول فيه نظر، لأن الجن أعرف بالأرض من الهدهد، فإنهم سكانها، وقيل: لأنه كان يظله من الشمس.
قوله: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} ، هذا استفهام توقيف ولا حاجة إلى ادعاء القلب وأن الأصل: ما للهدهد لا أراه؟ إذ المعنى قوي دونه، والهدهد معروف، وتصغيره على هديهد، وهو القياس، وزعم بعض الحويين أنه تقلب ياء تصغيره ألفاً، فيقال: هداهد، وأنشد:
3945 - كَهُدَاهِدٍ كَسَرَ الرُّمَاةُ جَنَاحَهُ ... يَدْعُوا بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ هَدِيلاً
كما قالوا: دُوَابَّة وشُوَابَّة، في: دُوَيْبَة وشُوَيْبَة، ورده بعضهم بأن الهداهد الحمام الكثير ترجيع الصوت. تزعم العرب أن جارحاً في زمن الطوفان اختطف فرخ حمامة(15/135)
تسمى الهديل، قالوا: فكل حمامة تبكي فإنما تبكي على الهديل.
قوله: «أم كان» ، هذه «أم» المنقطعة، وتقدم الكلام فيها، وقال ابن عطية: قوله {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} مقصد الكلام: الهدهد غاب، ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله «مَالِيَ» ناب مناب الألف التي تحتاجها «أم» ، قال أبو حيان: فظاهر كلامه أن «أم» متصلة، وأن الاستفهام الذي في قوله: «مالي» ناب مناب ألف الاستفهام، فمعناه: أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل، ولم أشعر بغيبته؟ .
قال شهاب الدين: ولا يظن بأبي محمد ذلك، فإنه لا يجهل أن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام أو التسوية لا مطلق الاستفهام.
قوله: «عذاباً» ، أي تعذيباً، فهو اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد ك {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، وقد كتبوا: «أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ» بزيادة ألف بين لام ألف والذال، ولا يجوز أن تُقْرَأ بها، وهذا كما تقدم أنهم كتبوا: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} [التوبة: 47] بزيادة ألف بين لام ألف والواو.
قوله: «أو لَيَأْتِينِّي» ، قرأ ابن كثير بنون التوكيد المشددة بعدها نون الوقاية، وهذا هو الأصل، واتبع مع ذلك رسم مصحفه، والباقون بنون مشددة فقط، والأظهر أنها نون التوكيد الشديدة، توُصِّلَ بكسرها لياء المتكلم، وقيل: بل هي نون التوكيد الخفيفة أدغمت في نون الوقاية، وليس بشيء لمخالفة الفعلين قبله، وعيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة لم يصلها بالياء.
فصل
قال المفسرون: معنى الآية: ما للهدهد لا أراه، تقول العرب: مالي أراك كثيباً؟ فقال: ما لي لا أرى الهدهد، على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه، ثم أدركه الشك في غيبته فقال: أم كان من الغائبين، يعني أكان من الغائبين؟ والميم صلة، وقيل: أم(15/136)
بمعنى بل، ثم أوعد على غيبته، فقال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} ، فقيل: بنتف ريشه ووضعه لهوام الأرض، وقيل: بحبسه في القفص، وقيل: بأن يفرق بينه وبين إلفه، وقيل: بحبسه مع ضده، {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} حُجَّة ظاهرة.
قوله: «فَمَكَثَ» قرأ عاصم بفتح الكاف، والباقون بضمها، وهما لغتان، إلا أن الفتح أشهر، ولذلك جاءت الصفة على ماكث، دون كيث، واعتذر عنه بأن فاعلاً قد جاء لفَعُل بالضم، نحو: حَمُضَ فهو حامض، وخَثُر فهو خاثر، وفَرُهَ فهو فاره.
قوله: «غَيْرَ بعِيدٍ» ، يجوز أن يكون صفة للمصدر، أي مكثراً غير بعيد، وللزمان أي: زماناً غير بعيد، وللمكان أي: مكاناً غير بعيد، والظاهر أن الضمير في مكث للهدهد، وقيل: لسليمان - عليه السلام - فقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} ، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، يقول: علمت ما لم تعلم، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك.
قوله: «مِنْ سَبَأ» ، قرأ البزِّيّ، وأبو عمرو بفتح الهمزة، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة، فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث، وعليه قوله:
3946 - مِنْ سَبَأَ الحَاضِرِينَ مَأْربَ إِذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُون سَيْلِهِ العَرِمَا
وقرأ قُنْبُل بسكو الهمزة، كأنه نوى الوقف وأجرى الوصل مجراه، والباقون بالجر والتنوين، جعلوه اسماً للحيِّ او المكان، وعليه قوله:
3947 - الوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الجَوَامِيسِ(15/137)
وهذا الخلاف جارٍ بعينه في سورة سبأ.
وفي قوله: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} فيه من البديع التجانس، وهو: تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف كهذه الآية، ومثله: {تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] .
وفي الحديث: «الخَيْلُ مَعْقُود بِنَواصِيهَا الخَيْرُ» ، وقال آخر:
3948 - لِلَّهِ مَا صَنَعَتْ بِنَا ... تِلْكَ المَعَاجِرُ وَالمَحَاجِرْ
وقال الزمخشري: وقوله {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو يصنعه عالم بجوهر هذا الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هنا زائداً على الصحة، فحسن وبدع لفظاً ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان: «بنبأ» : «بخبر» لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
يريد بالزيادة: أن النبأ أخص من الخبر، لأأنه لا يقال إلا فيما له شأن من الأخبار، بخلاف الخبر، فإنه يطلق على ما له شأن، وعلى ما لا شأن له، فكلّ نبأ خبر من غير عكس. وبعضهم يعبر عن نحو: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} في علم البديع بالترديد، قاله صاحب التحرير، وقال غيره: إن الترديد عبارة عن رد أعجاز البيوت على صدورها، أو ردّ كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، فمثال الأول قوله:
3949 - سَرِيعٌ إِلَى ابْنِ العَمِّ يَلْطمُ وَجْهَهُ ... وَلَيْسَ إلَى دَاعِي الخَنَا بِسَرِيعِ(15/138)
ومثال الثاني قوله:
3950 - وَاللَّيَالِي إِذَا نَأَيْتُمْ طِوَالٌ ... واللَّيَالِي إذَا دَنَوْتُمْ قِصَارُ
وقرأ ابن كثير في رواية: «مِنْ سباً» مقصوراً منوناً، وعنه أيضاً: «مِنْ سَبْأَ» بسكون الباء وفتح الهمزة، جعله على فَعْل ومنعه من الصرف، لما تقدم. وعن الأعمش: «من سَبَإِ» بهمزة مكسورة غير منونة، وفيها إشكال؛ إذ لا وجه للبناء، والذي يظهر أن تنوينها لا بد وأن يقلب ميماً وصلاً، ضرورة ملاقاته للباء، فسمعها الراوي؛ فظن أنه كسر من غير تنوين. وروي عن أبي عمرو: «مِنْ سَبَا» بالألف صريحة، كقولهم: تفرقوا أيدي سبا. وكذلك قرىء «بِنَبَا» بألف خالصة، وينبغي أن يكونا لقارىء واحد وسبأ في الأًل: اسم رجل من قحطان، واسمه: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسبأ لقلب له، وإنما لقلب به: لأنه أول من سبأ.
قوله: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} لما قال الهدهد لسليمان: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} ، قال سليمان: وما ذاك؟ قال: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن من نسل يعرب بن قحطان، وكان ملكاً عظيم الشأن، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها، وفي الحديث: «إن أحد أبوي بلقيس كان جنِّياً» وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس، والضمير في «تملكهم» راجع إلى «سبأ» ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريد المدينة فمعناه: تملك أهلها، قال عليه السلام لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى: «لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة»(15/139)
قوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} يجوز أن يكون معطوفاً على «تَمْلِكُهُمْ» ، وجاز عطف الماضي على المضارع، (لأن المضارع) بمعناه، أي: ملكتهم، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من مرفوع «تملكهم» .
و «قَدْ» معها مضمرة عند من يرى ذلك.
وقوله: {مِن كُلِّ شَيْءٍ} عام مخصوص بالعقل؛ لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان. قوله: «وَلَهَا عَرْشٌ» يجوز أن تكون هذه جملة مستقلة بنفسها سيقت للإخبار بها، وأن تكون معطوفة على «أُوتِيَتْ» ، وأن تكون حالاً من مرفوع «أُوتِيَتْ» ، والأحسن أن يجعل الحالَ الجارُّ، «وعَرْشٌ» مرفوع به، وبعضهم يقف على «عَرْشٌ» ويقطعه عن نعته. قال الزمخشري: ومن نَوْكى القُصَّاصِ من يقف على قوله: «وَلَهَا عَرْشٌ» ، ثم يبتدىء، «عَظِيمٌ وَجَدْتها» ، يريد: أمرٌ عظيم أَنْ وجدتها، فرَّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيم، وهي مسخ كتاب الله.
قال شهاب الدين: النَّوكَى: الحمقى جمع َنْوَك وهذا الذي ذكره من أمر الوقف نقله الدّاني عن نافع وقرره أبو بكر بن الأنباري ورفعه إلى بعض أهل العلم، فلا ينبغي أن يقال (نَوْكَى القُصَّاص) ، وخرجه الداني على أن يكون «عَظِيمٌ» مبتدأ، و «وَجَدْتُهَا» الخبر، وهذا خطأ، كيف يبتدىء بنكرة من غير مسوِّغ، ويخبر عنها بجملة لا رابط بينهما وبينه، والإعراب ما قاله الزمخشري من أن عظيماً صفة لمحذوف خبراً مقدماً، و «وَجَدْتُهَا» مبتدأ مؤخراً مقدراً معه حرف مصدري أي: أمر عظيم وجداني إياها وقومها غير عابدي الله.
قوله: «وَجَدْتُهَا» ، هي التي بمعنى لقيت وأصبت، فيتعدى لواحد، فيكون «يَسْجُدُونَ» حالاً من مفعولها وما عطف عليه، فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان، وأيضاً: فكيف سوَّى بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ .
فالجواب عن الأول: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش ويجوز أن يكون لسليمان - مع جلالته - مثله كما قد يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله للسلطان.(15/140)
وعن الثاني: أنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، وَوَصْفُ عرشِ اللَّهِ بالعظم تعيمٌ له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض.
قال المفسرون: العرش السرير الضخم كان مضروباً من الذهب مكلّلاً بالدرّ والياقوتالأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق.
قال ابن عباس: كان عرشها ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً. واعلم أن قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم} [النمل: 26] إن قلنا: إنه من كلام الهدهد، فالهدهد قد استدرك على نفسه، واستقلّ عرشها بالنسبة إلى عظمة عرش الله، وإن قلنا: إنه من كلام الله تعالى، فالله رد عليه استعظامه لعرشها.
فصل
طعنت الملاحدة في هذه القصة من وجوه:
أحدها: أَنَّ هذه الآيات اشتملت على أنَّ النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك إلاَّ عن العقلاء وذلك يجر إلى السَّفْسَطَة، فإنَّا لوجوَّزنا ذلك لما أمِنّا من النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أَنْ تكون أعلم بالهندسة من إقليدس، وبالنحو من سيبويه، وكذا القول في القملة والضئبان، ولجوزنا أن يكون فيهم الأنبياء والمعجزات والتكاليف، ومعلوم أنَّ مَنْ جوّزه كان إلى الجنون أقرب.
وثانيها: أنَّ سليمان - عليه السلام - كان بالشام، فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن، ثم رجع إليه؟ .
وثالثها: كيف خفي على سليمان (عليه السلام) ؟ تلك المملكة العظيمة مع أنَّ الجن والإنس كانوا في طاعته، وأنه - عليه السلام - كان ملك الدنيا كلها، وكان(15/141)
تحت طاعة بلقيس - على ما يقال - اثنا عشر ألف تحت يد كل واحد منهم مائة ألف، مع ما يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلاَّ مسيرة ثلاثة أيام؟
رابعها: من أين حصل للهدهد إنكار سجودهم للشمس وإضافته للشيطان وتزيينه؟
والجواب عن الأول: أنّ ذلك الاحتمال قائم في أول العقل، وإنما يدفع ذلك بالإجماع. وعن البواقي: أنَّ الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك.
فصل
قالت المعتزلة: قوله {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} يدل على أنَّ فعل العبد من جهته، لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم، وأورده مورد الذم، وبين أنهم لا يهتدون.
والجواب من جوه:
أحدها: أَنَّ هذا قول الهدهد فلا يكون حجة.
وثانيها: أنه متروك الظاهر: فإنه قال: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} ، وعندكم الشيطان، فإنه ما صدّ الكافر عن السبيل، إذ لو صدّه الشيطان عن السبيل لكان معذوراً ممنوعاً، فيسقط عنه التكليف فلم يبق إلاَّ التمسك بالمدح والذم، وجوابه قد تقدم.
قوله: «ألاَّ يَسْجُدُوا» قرأ الكسائي بتخفيف «أَلاَ» ، والباقون بتشديدها، فأمَّا قراءة الكسائي، «أَلاَ» فيها تنبيه واستفتاح، و «يَا» بعدها حرف نداء، أو تنبيه أيضاً على ما سيأتي، و «اسْجُدُوا» : فعل أمرٍ، فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون يَا اسجُدُوا، ولكن الصحابة أسقطوا ألف «يَا» وهمزة الوصل من «اسْجُدُوا» خَطاً لما سقط لَفْظاً، ووصلوا الياء بسين «اسْجُدُوا» ، فصارت صورته «يَسْجُدُوا» كما ترى، فاتحدث القراءتان لفظاً وخطّاً، واختلفا تقديراً. واختلف النحويون في «يَا» هذه، هل هي حرف تنبيه أو للنداء والمنادى محذوف، تقيدره: يَا هَؤُلاَءِ اسْجُدُوا، وقد تقدم ذلك عند قوله في سورة النساء: «يَا لَيْتَنِي» والمُرَجَّحُ أَنْ تكون للتنبيه، لِئَلاَّ يؤدي إلى حذفٍ كثير من غير بقاءِ ما يدلّ على المحذوف، ألا ترى أنَّ جملة النداء حذفت، فلو ادَّعَيْتَ(15/142)
حَّذْفَ المنَادى كَثُرَ الحذف، ولم يبق معمولٌ يدل على عامله؛ بخلاف ما إذا جعلتَها للتنبيه.
ولكن عَارَضنا هنا أَنَّ قبلها حرف تنبيه آخر، وهو «أَلا» وقد اعتُذِر عن ذلك بأنه جُمِعَ بينهما تأكيداً، وإذا كانوا قد جمعوا بين حرفن عاملين للتأكيد، كقوله:
3951 - فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنْنِي عَنْ بِمَا بِهِ ... فغير العاملين أولى، وأيضاً فقد جمعوا بين حرفين عاملين مُتّحدي اللفظ والمعنى كقوله:
3952 - فَلاَ وَاللَّهِ لاَ يُلْفَى لِمَا بِي ... وَلاَ لِلما بِهِمْ أَبَداً دَوَاءُ
فهذا أولى، وقد كثر مباشرة «يا» لفعل الأَمر، وقبلها «أَلاَ» التي للاستفتاح، كقوله:
3953 - أَلاَ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ... ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّمِ
وقوله:
3954 - أَلاَ يَا اسْلَمِي دَارَ مَيٍّ عَلَى البِلَى ... وَلاَ زالَ مُنْهَلاًّ بِجَرْعَائِكَ القَطْرُ
وقوله:
3955 - أَلاَ يا اسْلَمِي ذَات الدَّمَالِيحجِ وَالعُقَد ... وذات اللثاث الحُمِّ والفَاحِمِ الجَعْدِ
وقوله:
3956 - أَلاَ يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ ... وَإِنْ كَانَ حَيَّانا عِدًى آخِرَ الدَّهْرِ(15/143)
وقوله:
3957 - أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ خَيْلِ أَبِي بَكْر ... لَعَلَّ مَنَايانَا قَرُبنَ ولاَ نَدْرِي
وقوله:
3958 - أَلاَ يا اسْقِيانِي قَبْلَ غَارَةٍ سنجال ... [وقوله:
3959 - فَقَالَتْ أَلاَ يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بخطبةٍ ... وقلتُ سمِعْنَا فَانطِقِي وأَصِيبِي]
وقد جاء ذلك وإن لم يكن قبلها «أَلاَ» ، كقوله:
3960 - يا دَارَ هِنْدٍ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ... بِسَمْسَمٍ أَوْ عَنْ يَمِينِ سَمْسَمِ
فعلم أنه قراءة الكسائي قوية، لكثرة دَوْرِها في لغتهم، وقد سمع ذلك في النَّثْر، سُمِعَ بَعْضُهم يقول: أَلاَ يَا ارحَمُوني، أَلاَ يا تصدَّقُوا علينا، وأما قوله:
3961 - يَا لَعْنَةُ اللَّهِ والأَقْوَامِ كُلِّهِم ... والصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جِارِ
فيحتمل أن تكون «يَا» للنداء، والمنادى محذوف، وأن يكون للتنبيه، وهو الأرجح لِمَا مَرَّ. واعلم أَنَّ الوقف عند الكسائي على «يَهْتَدُونَ» تام، وله أن يقف على «أَلاَ يَا» معاً، ويبتدىء «اسْجُدُوا» بهمزة مضمومة. وله أن يقف على «أَلاَ» وحدها، وعلى «يَا»(15/144)
وحدها، لأنهما حرفان منفصلان وهذا الوقفان وقفاً اخْتبارٍ لا اختيار، لأنهما حرفان لا يتم معناهما إلاَّ بما يتصلان به، وإنما فعله القراء امتحاناً وبياناً. فهذا توجيه قراءة الكسائي، والخَطْبُ وفيها سهل. وأما قراءة الباقين فتحتاج إلى إِمْعَان نظرٍ، وفيها أوجه كثيرة:
أحدها: أنَّ «أَلاَّ» أصلها: أَنْ لا، فأَنْ ناصبة للفعل بعدها، ولذلك سقطت نون الرفع، و «لاَ» بعدها حرفُ نَفْي، وأَنْ وما بعدها في موضع مفعول «يَهْتَدُونَ» على إسقاط الخافض أي: إلى أَنْ لا يسجُدُوا، و «لاَ» مزيدة كزيادتها في:
{لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] ، والمعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا.
الثاني: أنه بدل من «أَعْمَالَهُمْ» وما بينهما اعتراض تقديره: وزَيَّنَ لهم الشيطانُ عدم السجود لله.
الثالث: أنه بدل من «السَّبِيلِ» على زيادة «لاَ» أيضاً، والتقدير: فَصَدَّهُمْ عن السجود لله.
الرابع: أَنَّ «أَلاَّ يَسْجُدُوا» مفعولاً له، وفي متعلّقه وجهان:
أحدهما: أنه «زَيَّنَ» أي: زيَّنَ لهم لأجل أَلاَّ يسجدوا.
والثاني: انها متعلق ب «صَدَّهُمْ» ، أي: صَدَّهُمْ لأجل أن لاَ يسجُدُوا، وفي «لاَ» حينئذٍ وجهان:
أحدهما: انها ليست مزيدة (بل باقية على معناها من النفي.
والثاني: أنها مزيدة) والمعنى: وزيَّنَ لهم لأجل توقعه سجودهم، أو لأجل خوفه من سُجُودهم، وعدم الزيادة أظهر.
الخامس: أنه خبرأ مبتدأ مضمر، وهذا المبتدأ إما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على «أَعْمَالَهُمْ» ، والقدير هي ألا يسجدوا، فتكون «لاَ» على بابها من النفي، وإما أن(15/145)
يُقَدَّر ضميراً عائداً على «السَّبِيل» ، التقدير: هو أن لا يسجدوا، فتكون «لاَ» مزيدة - على ما تقدم - ليصح المعنى.
وعلى الأوجه الأربعة المتقدمة لا يجوز الوقفُ على «يَهْتَدُونَ» ، لأنَّ ما بعده إمَّا معمول له أو لِمَا قبله من «زَيَّنَ» وصَدَّ «أو بدل مما قبله أيضاً من» أَعْمَالَهُمْ «أو من» السَّبِيل «على ما قُرِّرَ، بخلاف الوجه الخامس، فإنه مَبنيٌّ على مبتدأ مضمر، وإنْ كان ذلك الضمير مُفَسراً بما سبق قبله، وقد كتبت» أَلاَّ «مصولة غير مفصولة، فلم تُكْتَبْ» أَنْ «منفصلة من» لاَ «، فمن ثَمَّ: امتنع أن يُوقَف هؤلاء في الابتلاء والامتحان على» أَنْ «وحدها، لاتصالها بلا في الكتابة، بل يُوقَف لهم على» أَلاَّ «بجملتها، كذا قال القُرَّاءُ، والنحويون متى سُئِلوا عن مثل ذلك وقفوا لأجل البيان على كل كلمةٍ على حدتها. لضرورة البيان، كونها كُتِبَت متصلة ب» لا «غير مانعٍ من ذلك. ثُمَّ قول القُرَّاءِ: كتبت متصلة فيه تجوُّزٌ وتسامُح، لأَنَّ حقيقة هذا أن يُثْبِتُوا صورة نُونٍ ويصلونها بلاء، فيكتبونها» أَنْلاَ «، ولكن لما أدغمت فيما بعدها لفظاً، وذهب لفظها إلى لفظ ما بعدها قالوا ذلك تسامحاً. وقد رتَّبَ أبو إسحاق على القراءتين حُكْماً، وهو وجوب سجود التلاوة وعدمه، فَأَوْجَبَهُ مع قراءة الكسائي، وكأنه لأجل الأمرِ بِهِ، ولم يوجبه في قراءة الباقين لعدم وجود الأمر فيها، إِلاَّ أَنَّ الزمخشري لم يرتضه منه، فإنه قال: فَإِنْ قُلْتَ: أَسَجدةُ التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً أو في واحدة منهما؟ قُلْتُ: هي واجبة فيهما.
وإحدا القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك، وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد مرجوع إليه.
قال شهاب الدين: وكأن الزجاج أخذ بظاهر الأمر، وظاهره الوجوب وهذا لو خلينا(15/146)
الآية لكان السُّجُودُ واجباً، ولكن دلَّت السنةُ على استحبابه دون وجوبه، على أَنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظر آخر، وهو أَنَّ هذا الأمر من كلام الله تعالى أو من كلام الهدهد محكيّاً عنه، فإن كان من كلام الله تعالى فيقال: يقتضي الوجوب إلاَّ أَنْ يجيء دليل يصرفه عن ظاهره، وإنْ كان من كلام الهدهد - وهو الظاهر - ففي انتهاضة دليلاً نظر، وهذا الذي ذكروه ليس بشيء، لأنَّ المراد بالسجود ههنا عبادة الله لا عبادة الشمس، وعبادة الله واجبة وليس المراد من الآية سجود التلاوة، وأين كانت التلاوة في زمن سليمان عليه السلام ولم يكن ثم قرآن.
وقرأ الأعمش «هَلاَّ» و «هَلاَ» بقلب الهمزة هاء مع تشديد «لاَ» وتخفيفها، وكذا هي في مصحف عبد الله، (وقرأ عبد الله) «تَسْجُدُونَ» بتاء الخطاب ونون الرفع، وقرىء كذلك بالياء من تحت، فَمَنْ أَثْبَتَ نون الرفع ف «أَلاَّ» بالتشديد أو التخفيف للتحضيض، وقد تكون المخففة للعرض أيضاً نحو أَلاَ تنزلُ عندنا فتحدَّثُ، وفي حرف عبد الله أيضاً {أَلاَ هَلْ تَسْجُدُونَ} بالخطاب. قوله: {الذي يُخْرِجُ الخبء} يجوز أن يكون مجرور المحل نعتاً «للَّه» أو بدلاً منه أو بياناً، و «منصوبة على المدح، ومرفوعة على خبر ابتداءٍ مضمر. و» الخَبْءَ «مصدر خَبَأْتُ الشيء أَخْبَؤُهُ خَبْئاً أي: سَتَرَْتُهُ، ثم أطلِقَ على الشيء المَخْبُوءِ وَنَحْوُهُ {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] قال المفسرون: الخَبْء في السَّمواتِ المطر، وفي الأرض النبات، والخَابِيَةُ من هذا إلاَّ أَنَّهُم التزموا فيها ترك الهمزة كالبَريَّة والذّريّة عند بعضهم. وقيل: الخبء الغيب أي: يعلم(15/147)
غيب السموات والأرض، وقرأ أبيّ وعيسى» الخَبَ «بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة فيصير نحو: رأيت لَبَ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار» الخَبَا «بألفٍ صريحةٍ، وجهها أنه أبدل الهمزة ألفاً فلزم تحريك الباء، وذلك على لغة مَنْ يقف من العرب بإبدال الهمزة حرفاً يجانس حركتها، فيقول: هذا الخَبُو، ورأيت الخبا، ومررت بالخبي، ثم أُجْرِي الوَصْلُ مَجْرَى الوقْفِ، وقيل: إنه لمَّا نَقَلَ حركة الهمزة إلى الساكن قبلها لم يحذفها بل تركها، فَسَكَنَتْ بعد فتحةٍ فَدُبِرَتْ بحركة ما قبلها وهي لغة ثابتة، يقولون: المرأة والكماة بألف مكان الهمزة بهذه الطريقة، وقد طعن أبو حاتم على هذه القراءة وقال: لا يجوز في العربية، لأَنَّه إن حذف الهمزة أَلْقَى حركتها على الباء، فقال الخَبَ، وإن حوَّلَها قال الخَبْي، بسكون الباء وياء بعدها.
قال المبرد: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو، لم يَلْحَقْ بهم إلاَّ أنه إذا خرج من بلدهم لم يلق أَعْلَم منه.
قوله: «في السَّماوَاتِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «الخَبْءَ» ، أي؛ المَخْبُوءُ في السموات.
والثاني: أنه متعلق ب «يُخْرِجُ» على أنَّ معنى (في) بمعنى (مِنْ) ، أي: يخرجه من السموات، و «مِنْ» و «فِي» يتعاقبان، يقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم، أي منكم - قاله الفراء -، وقرأ عبد الله: {يُخْرِجُ الخَبْءَ مِنَ السَّماواتِ} .
قوله: «مَا تُخْفُونَ» قرأ الكسائي وحفص بالتاء من فوق فيهما، والباقون بالياء(15/148)
من تحت، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي، لأن ما قبله أَمرهُمْ بالسجود وخطابهم به والغيبة على قراءة الباقين غير حفص ظاهرة أيضاً، لتقدم الضمائر الغائبة في قوله: «لَهُمْ» ، و «أَعْمَالَهُمْ» و «صَدَّهُمْ» و «فَهُمْ» وأما قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أَتَمَّ قصة أهل سبأ، ويجوز أن يكون التفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر، فخاطبه ملتفتاً إليه.
وقال ابن عطية: القراءة بيان الغيبة تُعْطِي أَنَّ الية من كلام الهدهد، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله لأُمّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقد تقدم أن الظاهر أنه من كلام الهدهد مطلقاً.(15/149)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
قوله تعالى: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} هل هو من كلام الهدهد استدراكاً منه لمَّا وصف عرش بلقيس بالعظم، أو من كلام الله تعالى رَدّاً عليه في وصفه عرشها بالعظم. والعامة على جر «العَظِيمِ» تابعاً للجلالة، وابن محيصن، بالرفع وهو يحتمل وجهين: أن يكون نعتاً للربّ، وأن يكون مقطوعاً عن تبعيَّةِ «العرش» إلى الرفع بإضمار مبتدأ.
فصل
دلّ قوله: {يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25] (على كمال القدرة، وسمي المخبوء بالمصدر ليتناول جميع الأرزاق والأموال، فدلَّ قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] على كمال العلم، وإذا كان قادراً على كل المقدرات عالماً بكل المعلومات، وجب أن يكون إلهاً، والشمس ليست كذلك، فلا تكون إلهاً، وإذا لم تكن إلهاً، لم تستحق العبادة. فإن قيل: إنَّ إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق، فإِنَّ إبراهيم قال: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] ، ثم(15/149)
قال: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق} [البقرة: 258] ، وموسى - عليه السلام - قال {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26] ، ثم قال: {رَبُّ المشرق والمغرب} [الشعراء: 28] وههنا قدم خبأ السموات على خبء الأرض، فجوابه، أَن إبراهيم وموسى ناظرا من ادعى إلهية البشر، فابتدءا بإبطال إلهية البشر، ثم انتقلا إلى إلهية السماء، وههنا الكلام مع من ادعى إلهية الشمس، قوله {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} [النمل: 24] فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات، ثم بالأرضيات.
قوله: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ} الجملة الاستفهامية في محل نصب ب «نَنْظُرُ» ، لأنَّها مُعلّقة لها، و «أَمْ» هنا متصلة، وقوله: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} أبلغ من قوله: «أَمْ كَذَبْتَ» - وإن كان هو الأصل - لأنّ المعنى من الذين اتصفوا وانخرطوا في سلك الكاذبين. وقوله: «سَنَنْظُرُ» من النظر الذي هو التأمل. قوله: «هذَا» يجوز أن يكون صفة ل «كِتَابِي» أو بدلاً منه أو بياناً له.
قال المفسرون: إن سليمان - عليه السلام - كتب كتاباً فيه: «من عند سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم، السَّلامُ على من اتَّبع الهُدَى، أما بعد، أَلاَّ تَعْلُوا عليَّ وَأْتُوني مُسلمين» . قال ابن جريرج: لم يزد سليمان على ما قصّة الله في كتابه، ثم ختمه بخاتمه، ثم قال للهدهد: «اذْهَبْ بِكَتَابِي هذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ» .
قوله: «فَأَلْقِهِ» ، قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر بإسكان الهاء، وقالون بكسرها فقط من غير صلة بلا خلاف عنه، وهشام عنه وجهان: القصر والصلة، والباقون بالصلة بلا خلاف، وتقدم توجيه ذلك في «آل عمران» و «النساء» وغيرهما، عند
{يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] و {نُوَلِّهِ مَا تولى} [النساء: 115] . وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء موصولة بواو «فَأَلْقِهُو إِلَيْهِمْ» ، وقد تقدمخ ان الضم الأصل، وقال «إليهم» - على لفظ(15/150)
الجمع - لأنه قال: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} [النمل: 24] والمعنى: فألقه إلى الذين هذا دينهم.
قوله: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} ، زعم أبو علي وغيره أن في الكلام تقديماً، وأن الأصل: فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم. ولا حاجة إلى هذا، لأن المعنى بدونه صحيح، أي: قف قريباً منهم لتنظر ماذا يكون.
قوله: «مَاذَا يَرْجِعُونَ» إن جعلنا (انظر) بمعنى: تأمل وتفكر كانت «ما» استفهامية، وفيها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أن يجعل مع «ذا» بمنزلة اسم واحد، وتكون مفعولة ب «يرجعون» تقديره: أي شيء ترجعون.
والثاني: أن يجعل «ما» مبتدأ، و «ذا» بمعنى الذي، و «يرجعون» صلتها، وعائدها محذوف تقديره: أي شيء الذي يرجعونه، وهذا الموصول هو خبر ما الاستفهامية وعلى التقديرين فالجملة الاستفهامية مُعَلِّقة ل «انظر» فمحلّها النصب على إٍقاط الخافض أي: انظر في كذا وفكر فيه وإن جعلناه بمعنى انتظر من قوله {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13] كانت «مَاذَا» بمعنى الذي، (و «يَرْجعُونَ» صلتها وعائدها محذوف) ، والعائد مقدّر كما تقرر وهذا الموصول مفعول به، أي: انتظر الذي يرجعون. قال أبو حيان: و «ماذا» إن كان معنى «فانظُر» معنى التأمل بالفكر كان انظر معلقاً، و «ماذا» إما أن يكون كلمة استفهام في موضع نصب، وإما أن يكون «ما» استفهاما، و «ذا» موصولة بمعنى الذي، فعلى الأول يكون «يرجعون» خبراً عن «ماذا» ، وعلى الثاني يكون «ذا» هو الخبر، و «يرجعون» صلة انتهى.
وهذا غلط إما من الكاتب، وإما من غيره؛ وذلك أن قوله: «فعلى الأول» يعني به أن «ماذا» كلمة استفهام في موضع نصب يمنع قوله: «يَرْجِعُونَ» خبراً عن «ماذا» ، كيف يكون خبراً عنه وهو منصوب به كما تقرر، وقد صرَّح هو بأنه منصوب يعني(15/151)
بما بعده ولا يعمل فيه ما قبله، وهذا نظير ما تقدم في آخر السورة قبلها في قوله: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] في كون اسم الاستفهام معمولاً لما بعده، وهو معلق لما قبله، فكما حكمت على الجملة من «يَنْقَلِبُونَ» وما اشتملت عليه من اسم الاستفهام المعمول لها بالنصب على سبيل التعليق، كذلك يحكم على «يَرْجِعُونَ» فكيف تقول: إنها خبر؟(15/152)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
قوله: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} العامة على كسر الهمزتين على الاستئناف جواباً لسؤال قومها، كأنهم قالوا: ممن الكتاب؟ وما فيه؟ فأجابتهم بالجوابين. وقرأ عبد الله: {وَإِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} بزيادة واو عاطفة {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} على قوله: {إني أُلْقِيَ إِلَيَّ} [النمل: 29] . وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتح الهمزتين، صرح بذلك الزمخشري وغيره. ولم يذكر أبو البقاء إلا الكسر في {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} وكأنه سكت عن الثانية، لأنها معطوفة على الأولى، وفي تخيرج الفتح فيهما أوجه:
أحدهما: أنه بدل من «كِتَاب» بدل اشتمال، أو بدل كلٍّ من كلّ، كأنه قيل: ألقي إليَّ أنه من سليمان، وأنه كذا وكذا، وهذا هو الأصح.
والثاني: أنه مرفوع ب «كَرِيم» ذكره أبو البقاء.
الثالث: أنه على إسقاط حرف العلة.
قال الزمخشري: ويجوز أن يريد لأنه من سليمان ولأنه، كأنها عللت كرمه بكونه(15/152)
من سليمان وتصديره باسم الله. وقال مكي: وأجاز الفراء الفتح فيهما في الكلام، كأنه لم يطلع على أنها قراءة وقرأ أُبيّ: أنْ من سليمان وأنْ بسم الله بسكون النون فيهما، وفيها وجهان:
أظهرهما: أنها «أن» المفسرة، لتقدم ما هو بمعنى القول.
والثاني: أنها المخففة واسمها محذوف، وهذا لا يتمشى على أصول البصريين؛ لأن اسمها لا يكون إلا ضمير شأن وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها.
فصل
قال المفسرون: أخذ الهدهد هذا الكتاب، وأتى به إلى بلقيس، وكان بأرض يقال لها: «مأرب» من صنعاء، فرمى بالكتاب إليها، فأخذته بلقيس، وكانت قارئة، ومن ثم اتخذ الناس البطائق، فلما رأت الخاتم أرعدت وخضعت، لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها، لطاعة الطير وهيبة الخاتم، فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد، فقعدت على سرير ملكها، وجمعت الملأ من قومها، وقالت لهم: {إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] قال عطاء والضحاك: سمته كريماً، لأنه كان مختوماً.
وروى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «كرمه ختمه» وقال مقاتل والزجاج: كريم أي: حسن ما فيه، وروي عن ابن عباس أي: شريف لشرف صاحبه.
وقيل سمته كريماً، لأنه مصدر ب «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ثم بينت ممن الكتاب، فقالت: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} ، وبينت المكتوب فقالت: {وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} . فإن قيل: لم قد سليمان اسمه على قوله: {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} ؟(15/153)
فالجواب: حاشاه من ذلك، بل ابتدأ الكتاب ب {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} ، وإنما كتب اسمه عنواناً بعد ختمه، لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود، ولذلك قالت: {وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} ، أي: إنّ الكتاب ...
فالتقديم واقع في حكاية الحال. واعلم أن قوله: {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} مشتمل على إثبات الصانع سبحانه، وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً.
فصل
وقد استنبط الشيخ الإمام العالم شرف الدين محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري من أسرار البسملة ما أبطل به مذهب النصارى، فقال: بلغني أن بعض النصارى انتصر لدينه، وانتزع من البسملة الشريفة دليلاً على تقوية اعتقاده في المسيح وصحة يقينه فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدم فيها وأخر وفكّر وقدر فتقل كيف قدر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال: قد انتظم من البسملة: «المسيح ابن الله المحرر» . وظن ذلك سراً في قلب البسملة مضمراً، وعلى جبين الكتاب العزيز مسطراً، فنظرت إلى ما عزاه إلى البسملة واستخرجه من حروفها المستعملة والمهملة فإذا هو: «لا ما المسيح ابن الله محرر» ، فأسقط في يده، ونكص على عقبيه، وقامت حجته من لسانه عليه، ثم عاد إليّ رسوله يخبر أن الذي صح له نظمه وتمت عنده منها حكمه: «ألم المسيح ابن الله محرراً» ، فقلت: ورسل الله كلهم ألموا وأنبياؤه، فأي خصوصية لربك بالنبوة، وأي رتبة زدته بهاعلى النبوة، فقال: أردت بالألم إثبات ما أنكرته من الصلب، ونقيته عنه من ألم الطعن والضرب، وقد شهدت به كتب الله المنزلة، وشافهتك به حروف البسملة، فقلت: وهل شهدت لك إلا بالنقيض، ورحت منها بأخيب قداح المفيض، وحيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكماً وجوزت منها أحكاماً عليك وحكماً، فالتنصرن البسملة الأخيار منا على الأشرار، ولتفضلن أصحاب الجن على أصحاب النار، وحيث كان مقصودك من ذكر الألم الإفصاح عما أردته من الصلب والطعن والضرب والثلب(15/154)
وسقيه من الخل الممزوج بالمرار بئس الشراب فخذ الجواب عنه، والله الموفق للصواب: أما دعواك النبوة فقد قالت لك البسملة بلسان حالها: لا ما المسيح ابن الله محرر، وألحقته بقولها: الحلم ربح رأس المال، لحملة الإيمان، الحلم ربح رأس مال الإيمان، ليس برّاً من أَحَلَّ ما حرم الله، المسلم له نبي حرم الراح لنبيه، سلم بالله من يحرم الراح، لله نبي مسلم حرم الراح، المسلم للرحمانية رابح، لا مرحمة للئام أبناء السحرة، رحم حر مسلم أناب إلى الله، إنما الله رب للمسيح راحم. وزعمت أنه ربك، فقالت: حرم من لا رب له إلا المسيح، وقالت أيضاً: النحر لأمم لها المسيح رب، وقلت: إنه حمل الله، فقالت: أسمي لله ابن المحرر حملاً، وقالت ما أسلم الرب حمله يسخر، وقالت: ألا يحرس الرب حمله من ألم؟ وقلت: إنه ألم، فقالت المحرر من ربه حل الألم، وقالت: سل حمرنا أربهم يحل الألم؟ وقالت: حرم حمار ينسب لله الألم، وقلت: إنه طعن بالحربة مسمراً، فقالت: من رأى المسيح ألم للحربة، وقالت: إن ربّاً حلل مسمره لحليم، وقالت: أحالل ربنا الحليم مسمره؟ وقالت: أمحالل الرب الحي من سمره، وقلت: إنه إله يحلل ويحرم، فقالت: ابن سليل رحم لا غله محرم، وقالت: سل ابن مريم أحل الحرام، وقالت: أمحلل لم حرمه رب الناس، وإن قلت: إنه رسول صدقتك، وقالت: أيل أرسل الرحمة من بلحم ويرحمه؛ أيل اسم من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم «بيت لحم» الذي ولد في المسيح.
وقلت: إنه ركب الحمار، فقالت: سلم أن الرب لا يحمله حمار، وقالت للناس: رب لم يحمله حمار وباهيتها ببسملتك التي لفقها الفلاسفة للأساقفة، فقالت لم نر أحبار الملة المسيح، وقالت: أحبار الملة محل مرسلين، وقال: ما حرر إلا المسيح الأمانة وقلت: إن النصارى لا تمسهم النار، فقالت: حر لهب النار لأمم المسيح، وكهرت الإسلام بإيمان، وقالت: من حرم الإسلام لا ربح له، وقالت: إن المسلم لحري بالرحمة، وقالت: ما برح الله راحم المسلمين، وقالت: إن ملة الإسلامة رحم رحيب، وقالت: لا راحة لمحارب المسلمين، وقالت: إن ملة الإسلام رحم رحيب، وقالت: لا راحة لمحارب المسلمين، وقالت: الإسلام حرم لا رأي لمحاربه. وقالت: المسلم حرب للنار الحامية، وقالت: حن المسلم إلى رحمة الرب، وقالت: الأحبار رحمة للمسلمين، وقالت: المحراب راحة للمسلمين، ونَقِمْتَ قيام الدين بالسيف، فقالت: أم الحسام للنبي الرحمة، وأثنت البسملة على نفسها فقالت: البسملة لأرحم(15/155)
الراحمين، وقالت: الحرُّ ينال الرحمة ما بسمل. فانظر إلى البسملة قد لاحت لك بارقة من أنوارها وحلت لك عقدة من إزار أسرارها تخبر أن من وارء رجلها خيولاً وليوثاً، ومن دون طلبها سيولاً وغيوثاً، وأما بسملتك فلو كان على أصل ثابت، أو لم تغرس من الكفر على أخبث المنابت، لهززت إليك بجذعها، واستدللت عل طيب أصلها بخير فروعها، لكنّي ودتها شجرة خبيثة، وثمرة لا تسوغها القديمة ولا الحديثة، ألفاظها تصم الأسماع ومعانيها تحلّ عقود الإجماع، والنظر فيها يصدىء الأفهام والعقول، ويعلم كل غائب ما يقول، ولذلك ضربت عن ذكرها صفْحاً، وعددت الإعراض عنها غنيمةً وربحاً، فكفرها قائم وقاعد، والمعترف بها سواء والجاحد، والثلاثة الآلهة فيها يوصفون بالواحد، وأما بسملة المسلمين: فإنّ الله أودعها من العلوم والحكم ما فضلهم به على سائر الأمم، وأعلم أنّ منها ألفات اختصرت، وبين الهجاء مواضعها غابت أو حضرت، وقد استعملت بعضها في بعض المواضع؛ لأبين حكمها وأحيي رسمها، وصرفتها للمسألتين، وصارت كعبة فضلها للقبلتين، وتارة توافق حروفها في العدد والعادة، وتارة تقضي على ألفات الوصل بالزيادة، وما أخطأت - بحمد الله - منها واحدة صواباً، ولا عييت جواباً ولا خرجت عن حدها كتابة ولا حساباً، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة، فنسجت على منوالها، وقابلت الواحدة منها بعشر أمثالها، وما كان ذلك الهذيان مما يُجاب، لولا ما يداخلك من التيه والإعجاب، فتظن أنّك جِئْتَ بشيء عُجاب، أو حكمة كلمك الله بها وحياً أو من وراء حجابٍ، وتقول لإخوانك الذين يمدُّونك في الغَيّ ويحسبون أنك على شيء: قد أفحمت بكلمتي المسلمين، وأسكت بمسألتي فُضلاء المتكلمين، فتذر قومك في طغيانهم، وتقرهم على فساد إيمانهم، ولا أنت ممن يجري بمحاكاة كفرك قلمي، ولا أحرّك به لساني، ولا أفغر به فمي، وقد أتيتك بما يتعبك فيبهتك ويسمعك ما يصمّك عن الإجابة، ويصمتك على أسلوب رأيته في كتب أنبيائك، وتفاسير علمائك تعلم به أنّ هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون، ومستودع لجوهر سرِّها المكنون، أَلاَ ترى أَنَّ البسملة إذا حصلت جُمَلها كان عدده سبعمائة وستة وثمانين ب، س، م، ا، ل، ل، هـ، ا، ل، ر، ح، م، ن، ا، ا، ل، ر، ح، ي، م، 2، 60، 40، 1، 30، 30، 5، 1، 30، 200، 8 40، 50، 1، 30، 200، 8، 10، 40 وإذا قُلتَ إِنّ مثل عيسى كآدم وافق(15/156)
جملها سبعمائة وستّة وثمانين، وإنْ باهيتها ببسملتك التي ترعد من كفرها الفرائص، وتجوز بالبهتان ما لا يجوز على الله من النقائص، ردت عليه وقالت: ليس لله من شريك، جملها سبعمائة وستة وثمانين، بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة، وقالت: ولا أشر ربّي أحداً سبعمائة وستة وثمانين، وقالت: ما لِعُلُومِ الفلسفة أنوار هداية، سبعمائة وستة وثمانين، وقالت: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ: سبعمائة وستة وثمانين، بإسقاط ألف الجلالة.
ولو استشهدت ببسملتك لشهدت لي بالحقّ عليك، وشكت إلى الله وإلى النّاس مما نسبت من الإفك والبهتان إليك، إذا ألفاظها - وحاكي الكفر ليس بكافر - تنافي المعقول والمنقول، وتنافر: «بسم الب والابن وروح القدس، إله واحد» ، وباطنها يقول: «ما سبح إلاّ بنور، الإله القدوس واحد» ، وتقول: بسملوا بالقرآن، ووحّدُوا الله بلا جسد، فهي كافرة الظاهرة مؤمنة الباطن، كسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ونظرت في محصلها من العدد، فإذا جملته ستمائة وستة وتسعون، فإذا قلت: أُفٍّ لها بسملة ما نزّل اللَّه بها من سُلطَانٍ، وافقت المعنى وطابقت العدد، وكانت ستمائة وستة وتسعون، وكذلك ما عطفته عليها من الكلام، وهو: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} [الحجرات: 11] موافق للمعنى مطابق للعدد: ستمائة وستة وتسعون، وكذلك قولك: «لا بسملة بحقّ كبسملةِ المسلمين» ستمائة وستة وتسعون، وقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خُبراً، وجاءتك بما لم تستطع عليه صبراً، على الأسلوب الذي تضمنته شريعتكم، فإنّي رأيت في إنجيلك وقد سَأَلَتْ بنو إسرائيل المسيح أن يُرِيهم آية، ليؤمنوا به وهو في بيت المقدس، فقال: تهدمون هذا الهيكل، وأنا أٌقِيمُه في ثلاثة أيام، فقالوا: بيت بني في خمسة وأربعين سنة، يقيمه في ثلاثة أيام!! وعلله في الإنجيل أنه أشار إلى هيكل نفسه الذي هو هيكل آدم، وحمله خمسة وأربعون وفي هذا ردّ عليهم ليس هذا موضعه.
ورأيتُ في التوراة في البشارة بإسماعيل بعد قوله: «وأكبره وأنميه بماد ماد» ومعناه بحد جدلها بل اشار بها إلى اسم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، بطريق الحمل، إذ هو اثنان وتسعون في الموضعين، وفي قصة يعقوبإذ قال لبنيه {مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي} [البقرة: 133] ، فقالوا له: أعلم إسرائيل (الله أحد) فطابت نفسه، وعلم أن بنيه الاثني عشر سبطاً يعبدون الله وحده، لأنّهم عَدَلُوا عن قولهم: «اللَّه واحدٌ» إلى قولهم: «اللَّهُ أَحَدٌ» ، إذ جملها ثلاثة عشر، وهي إشارة إلى أنّ الاثني عشر سبطاً يعبدون الله الواحد. وفيه أنّ المصلّي إذا دخل في الصلاة تكون على رأسه طيلسان يسمى: «صيصيت» ، وفي طرفه خمسة خيوط وثمان عقد ليجتمع له من جمع صيصت وهو ستمائة ومن خمسة(15/157)
خيوط وثمان عقد ثلاثة عشر لتتمة ما عليهم من الفرائض، وهي ستمائة، وثلاث عشرة فريضة، ليذكورا بها ما كتب الله عليهم من الفرائض، والتزموا (بها) . ولنرجع إلى الإعراب والتفسير.
قوله: «أَلاَّ تَعْلوا» فيه أوجه:
أحدها: أن «أَنْ» مفسرة كما تقدم في أحد الأوجه في «أَنْ» قبلها في قراءة عكرمة، ولم يذكر الزمخشري غيره، وهو وجه حسن، لما في ذلك من المشاكلة، وهو عطف الأمر عليه، وهو قوله: «وَأْتُونِي» .
الثاني: أنها مصدرية في محل رفع بدلاً من «كِتَاب» ، كأنّه قيل: ألقي إليَّ أن لا تعلُوا عَلَيَّ.
الثالث: أنها في موضع رفع على خبر ابتداء مضمر، أي هو أن لا تعلوا.
الرابع: أنها على إسقاط الخافض، أي: بأن لا تعلوا، فيجيء في موضعها القولان المشهوران.
والظاهر أن «لا» في هذه الأوجه الثلاثة للنهي، وقد تقدّم أن «أَنْ» المصدرية توصل بالمتصرف مطلقاً. وقال أبو حيان: و «أَنْ» في قوله: {أَن لاَّ تَعْلُواْ} في موضع رفع على البدل من «كتاب» ، وقيل في موضع نصب على: {بأَنْ لاَّ تَعْلُوا} ، وعلى هذين التقديرين تكون «أن» ناصبة للفعل. فظاهر هذا أنّها نافية، إذ لا يتوصر أن تكون ناهية بعد «أن» الناصبة للمضارع، ويؤيّد هذا ما حكاه عن الزمخشري، فإنّه قال: وقال الزمخشري: و «أن» في أن لا تَعْلُوا مفسرة، قال: فَعَلَى هذا تكون «لا» في: «(15/158)
لاَ تَعْلُوا» للنهي، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه فقوله: «فعلى هذا» : إلى آخره صريح بأنّها على غير هذا يعني الوجهين المتقدمين ليس للنهي فيهما، ثم القول بأنّها للنفي لا يظهر، إذ يصير المعنى - على الإخبار منه عليه السلام - بأنّهم لا يعلون عليه، وليس هذا مقصوداً، وإنّما المقصود أن ينهاهم عن ذلك.
وقرأ ابن عباس والعقيلي: «تغلوا» - بالغين المعجمة، من الغلو، وهو مجاوزة الحد.
فصل
قال ابن عباس: «لا تتكبروا عليَّ» ، وقيل: لا تتعظموا ولا ترتفعوا عليَّ أي: لا تمتنعوا من الإجابة، فإنّ ترك الإجابة من العلوّ والتكبر، «وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» : مؤمنين طائعين، قيل: هو من الإسلام، وقيل: من الاستسلام. فإنْ قيل: النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولاً حقاً يدل على الاكتفاء بالتقليد.
فالجواب: معاذ الله أن يكون هناك تقليد؛ وذلك لأنّ رسول سليمان إلى بلقيس الهدهد، ورسالة الهدهد معجزة، والمعجزة تدل على وجود الصانع وصفاته، وتدل على صدق المُدَّعِي للرسالة، فلمَّا كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة، لا جرم لم يذكر في الكتاب دليل آخر.
قوله: {يا أيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي} أشيروا عليَّ فيما عرض لي، وأجيبوني فيما أشاوركم، والفتوى هي الجواب في الحادثة، استفتت، على طريق الاستفادة من الفتي في السن، أي: أجيبوني في الأمر الفتي، وقصدت بذلك استطلاع آرائهم وتطييب قولبهم.
{مَا كُنتُ قَاطِعَةً} قاضية وفاصلة، {حتى تَشْهَدُونِ} تحضرون. «قَالُوا» مجيبين لها، {نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ} في القتال، {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} ، في الحرب، قال مقالت: أرادوا بالقوة كثرة العدد، وأرادوا بالبأس الشديد: الشجاعة، والبأس: النجدة والبلاء في الحرب، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك، ثم قالوا: «وَالأَمْرُ إِلَيْكِ» أيتها الملكة في التقال وتركه.
قوله: «مَذَا تَأْمُرِينَ» ماذا هو المفعول الثاني ل «تأمرين» ، والأول محذوف تقديره: «(15/159)
تأمريننا» ، والاستفهام معلق للنظر، ولا يخفى حكمه مما تقدم قبله، والمعنى: فانظري في الرأي ماذا تأمرين تجدينا لأمرك طائعين. قالت - مجيبة لهم - عن التعريض بالقتال -:(15/160)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
قوله تعالى: {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً} بالقهر «أَفْسَدُوهَا» : خرّبوها، {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} ، فذكرت لهم عاقبة الحرب، وحذرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم.
قوله: «وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» أي: مثل ذلك الفعل يفعلون، وهل هذه الجملة من كلامها - وهو الظاهر - فتكون منصوبة بالقول، أو من كلام الله تعالى، فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب، وهي معترضة بين قولها.
قوله: {وكذلك يَفْعَلُونَ} : ما بعث على وجه الإكرام، وهي اسم للمهدى، فيحتمل أن يكون اسماً صريحاً، ويحتمل أن تكون - في الأصل - (مصدراً أطلق على اسم المفعول، وليست مصدراً قياسياً، لأن الفعل منه: أهدى رباعياً، فقياس) مصدره: إهداء.
فصل
اعلم أنَّ بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ} ، أي: لسليمان وقومه «بِهَديَّةٍ» أصانعه على ملكي وأختبره بها أَمَلِكٌ أَم نبيّ، فإن يكن ملكاً قبل الهديّة وانصرف، وإن يكن نبيّاً لم يقبل الهديّة ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} ، (وهذا الكلام يدل على أنّها لم تثق بالقبول وجوّزت الرد، وأرادت أن ينكشف لها غرض سليمان) .
قوله: «فَنَاظِرَةٌ» عطف على «مُرْسِلَة» ، و «بم» متعلق ب «يرجع» ، وقد وهم(15/160)
الحوفي فجعلها متعلقة ب «نَاظِرَةٌ» ، وهذا لا يستقيم، لأن اسم الاستفهام له صدر الكلام و «بم يرجع» معلق لناظرة.
قوله: {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ} أي: فلما جاء الرسول، أضمره لدلالة قولها «مرسِلة» فإنه يستلزم رسولاً، والمراد به الجنس لا حقيقة رسول واحد، بدليل خطابه لهم بالجمع في قوله: «أَتَمِدُّونَنِي. .» إلى آخره، وكذلك قرأ عبد الل: فلما جاءوا، وقرأ: «فارجعوا إليهم» ، اعتباراً بالأصل المشار إليه.
قوله: «أَتُمِدُونَنِي» استفهام إنكار، وقرأ حمزة بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وأام الياء فإنه يحذفها وقفاً، ويثبتها وصلاً على قاعدته في الزوائد، والباقون بنونين - على الأصل - وأما الياء فإن نافعاً وأبا عمرو كحمزة يثبتانها وصلاً ويحذفانها وقفاً، وابن كثير يثبتها في الحالين، والباقون يحذفونها في الحالين.
وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة، فتكملت ثلاثة قراءات كما في: {تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] .
قال الزمخشري: ما الفرق بين قولك: أتمدونني بمال وأنا أغنى منكم، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى، وهو - مع ذلك - يمدني بالمال، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفي عليه حالي، وإنما أخبره الساعة بما لا أحتاح معه إلى إمداده، كأني أقول له: أنكر عليك ما فعلت فإني غني عنه، وعليه ورد قوله: {فَمَآ آتَانِي الله خَيْرٌ} انتهى.
وفي هذا الفرق نظر، إذ لا يفهم ذلك بمجرد الواو والفاء، ثم إنه لم يجب عن السؤال الأول، وهو أنه: لم عدل عن قوله: وأنا إغنى منكم إلى قوله: {فَمَآ آتَانِي الله} ؟
وجوابه: أنه أسند إيتاء الغنى إلى الله، إظهاراً لنعمته عليه، ولو قال: وأنا أغنَى منكم، كان فيه افتخار من غير ذكر لنعمة الله عليه، فأظهر - بهذا الكلام - قلة(15/161)
الاكتراث بذلك المال. قوله: «بَلْ أَنْتُم» إضراب انتقال، قال الزمخشري: فإن قلت: فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد، وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه، وهو أنهم لا يعرفوهم سبب رضى إلا مما يهدى إليهم من حظوظ الدنيا التي لا يعرفون غيرها، والهدية: يجوز إضافتها إلى المهدي وإلى المهدى إليه، وهي هنا محتملة للأمرين. قال أبو حيان: وهي هنا مضافة للمهدى إليه، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي، أي: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار.
قال شهاب الدين: كيف يجعل الأول هو الظاهر، ولم ينقل أن سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرسل إليهم هدية في هذه الحالة، حتى يضيفها إليهم، بل الذي يتعين إضافتها إلى المهدي. ومعنى الآية: {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} ، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ومكاثرة بها تفرحون بإهداء بعضكم لبعض، وأما أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة. قوله: «ارْجِعْ» الظاهر أن الضمير يعود على الرسول، وتقدمت قراءة عبد الله: «ارجعوا» ، وقيل: يعود على الهدهد. «فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ» وهذا جواب قسم مقدر، وكذلك قوله: «ولَنُخْرَجَنَّهُم» . قوله: «لاَ قِبَلَ» صفة ل «جُنُود» ، أي: فيجري مجرى المؤنثة الواحدة كقولهم: الرِّجَالُ وأعضَادَها. وقرأ عبد الله «بهم» على الأصل. «ولَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا» أي من بلادهم وأرض سبأ «أَذِلَّةً» حال، والذل: أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك. وقله: «وَهُمْ صَاغِرُون» حال ثانية، والظاهر أنها مؤكدة، لأن «أَذِلَّةً» تغني عنها. فإن قيل: قوله «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ» ، و «لَنُخْرِجَنَّهُمْ» قسم، فلا بد أن يقع(15/162)
فالجواب: أنه معلق على شرطٍ حُذِفَ لفهم المعنى، أي: إن لم يأتوني مسلمين، والصغار: أن يقعوا في أسر واستبعاد.
فصل
قال ابن عباس: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان، قالت: قد عرفت والله ما هذا بملك، ولا لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان: إني قادمة عليك بملوك قومي، حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ثم آذنت بالرحيل إلى سليمان، فلما قربت منه على فرسخ، قرأى سليما رهجاً قريباً، فقال ما هذا؟ قالوا بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان. قال ابن عباس: وكان بن الكوفة والحيرة قدر فرسخ، فأقبل سليمان حينئذٍ على جنوده، فقال: {قَالَ يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ؟ .(15/163)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
قال ابن عباس: طائعين، واختلوفا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها، فقال أكثرهم: لأن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليها مالها، فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها، وقيل: ليريها قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها. وقال قتادة: لأنه أعجبه صفته لما وصفه الهدهد، فأحب أن يراه. وقال ابن زيد: أراد أن يأمر بتنكيرها وتغييرها، فيختبر بذلك عقلها، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتديا} [النمل: 41] .
قوله: «قَالَ عِفْرِيتٌ» العامة على كسر العين وسكون الفاء بعدها تاء مجبورة.
وقرأ أبو حيوة: بفتح العين، وأبو رجاء وأبو السمال - ورويت عن أبي بكر الصديق - «(15/163)
عفرية» مفتوحة بعدها تاء التأنيث المنقبلة هاء وقفاً، وأنشدوا على ذلك قول ذي الرمة:
3962 - كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مَصَوَّبٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ
قرأت اطائفة «عِفْر» بحذف الياء والتاء، فهذه أربع قراءات قد قرىء بهن، وفيه لغتان أخريان، وهما: عُفَارِيَّةٌ، وطيّىء وتميم يقولون: عِفْرَى بألف التأنيث كذكرى، واشتقاقه من العفر، وهو التراب، يقال: عافره فعفره أي: صارعه فصرعه وألقاء في العفر وهو التراب. وقيل: من العفر، وهو القوة. والعفريت من الجن المارد الخبيث، ويقال: عفريت نفريت، وهو إتباع كشيطان ليطان، وحسن بسن. ويستعار للعارم من الإنس، ولاشتهار هذه الاستعارة وصف في الآية بكونه من الجن، تمييزاً له. قال ابن قتيبة: العفرية الموثق الخلق. وعفرية الديك والحبارى للشعر الذي على رأسهما. وعَفَرْنَى للقويّ، ورجل عِفِرٌّ - بتشديد الراء - للمبالغة، مثل: شرّ شِمرٌّ. قيل: إِنَّ الشيطان أقوى من الجن، وإن المردة أقوى من الشياطين، وإن العفريت أقوى منهما. قال بعض المفسرين: العفريت من الرجال الخبيث المنكر، وقال ابن عباس: العفريت، الداهية، وقال الربيع: الغليظ، وقال الفراء: القوي الشديد.
قوله: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ} يجوز أن يكون فعلاً مضارعاً، فوزنه أفعل، نحو: أضرب، والأصل: أأتيك - بهمزتين - فأبدلت الثانية ألفاً، وأن يكون اسم فاعل، ووزنه فاعل،(15/164)
والألف زائدة، والهمزة أصلية عكس الأول. وأمال حمزة «آتيك» في الموضعين في هذه السورة بخلاف عن خلاد.
فصل
قوله: {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أي: مجلسك الذي تقضي فيه، قال ابن عباس: كان له في كل غداة مجلس يقضي فيه إلى انتصاف النهار، «وإِنِّي عليهِ» على حمله، «لَقويٌّ أَمين» به على ما فيه من الجواهر، فقال سليمان: أريد أسرع من هذا، ف {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب} ، فقيل: هو جبريل - عليه السلام - وقيل: ملك من الملائكة أيَّد الله به نبيه سلمان - عليه السلام - وقال أكثر المفسرين: هو آصف بن برخياء، وكان وزير سليمان، وكان صدّيقاً يعلم اسم الله الأعظم، إذا دعا به أجيب، وقيل: بل هو سليمان نفسه، والمخاطب هو العفريت الذي كلمه، وأراد سليمان - عليه السلام - إظهار معجزة، فتحداهم أولاً، ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت.
(قال محمد بن المنكدر: إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علماً وفهماً: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ، قال سليمان: هاتِ، قال: أنت النبي ابن النبي، وليس أحد أوجه عند الله منك، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك، قال: صدقت، ففعل ذلك، فجيء بالعرش في الوقت. وضعف السهيلي ذلك بأنه لا يصح من سياق الكلام) ، قال ابن الخطيب: وهذا القول أقرب لوجوه:
الأول: أن لفظة «الذي» موضوعة في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفها بقضية معلومة، والشخص المعروف بأنه عنده علم من الكتاب هو سليمان - عليه السلام - فوجب انصرافه إليه أقصى ما في الباب أن يقال: كان آصف كذلك(15/165)
أيضاً، لكنا نقول: إن سليمان كان أعرف بالكتاب منه، لأنه هو النبي، فكان صرف اللفظ إلى سليمان أولى.
الثاني: أن غحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية، فلو حصلت لآصف دون سليمان، لاقتضى ذلك قصور حال سلميان في أعين الخلق.
الثالث: أن سليمان قال {هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلونيا أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.
فصل
واختلفوا في الكتاب، فقيل: هو اللوح المحفوظ، والذي عنده علم الكتاب جبريل - عليه السلام - وقيل: كتاب سليمان، أو كتاب بعض الأنبياء، وفي الجملة فإنّ ذلك مدح، وإن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش، ولذلك قيل: إنَّه اسم الله الأعظم، وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات.
قوله: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه الجفن عُبِّر به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك: افعل ذلك في لحظة، وهذا قول مجاهد، وقال الزمشخري: وهو تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر.
الثاني: أنه بمعنى المطروف، أي: الشيء الذي تَنْظُره، والأول هو الظاهر، لأن الطرف قد وصف بالإرسال في قوله:
3963 - وَكُنْتَ إَذَا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً ... لِقَلْبكَ يوماً أَتْعَبَتْكَ المَناظِرُ
رَأيتَ الَّذِي لا كلّه أَنْتَ قَادِر ... عَليْه ولاَ عن بعضهِ أَنْتَ صَابِرُ
قال سعيد بن جبير «من قبل أن يرتد» أي: من قبل أن يرجع إليك أقصى (من(15/166)
ترى، وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك.
وقال مجاهد: يعني إدامة النظر) حتى يرتد الطرف خاسئاً. وقال وهب: تمد عينك فلا ينتهي طرفك إلى مداه، حتى أمثله بين يديك. فإن قيل: هذا يقتضي (إما القول بالطفرة) أو حصول الجسم الواحد دفة واحدة ي مكانين.
والجواب: أن المهندسين قالوا: كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة ثم إن زمان طلوعها زمان قصير، فإن زمان طلوع تمام القرص على زمان البعد الذي بين الشام واليمن كانت تلك اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال.
قوله: «فَلَما رآهُ» يعني سليمان، العرش «مستقراً» عنده محمولاً إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف، ف «مُسْتَقِراً» حال، لن الرؤية بصرية، و «عنده» معمول له، لا يقال إذا وقع الظرف حالاً وجب حذف متعلقه، فكيف ذكر هنا؟ لأن الاستقرار هنا ليس هو ذلك الحصول المطلق، بل المراد به هنا الثابت الذي لا يتقلقل، قاله أبو البقاء. وقد جعله ابن عطية هو العامل في الظرف الذي كان يجب حذفه، فقال: وظهر العامل في الظرف من قوله «مُسْتَقِراً» ، وهذا هو المقدر أبداً مع كل ظرف جاء هنا مظهراً، وليس ي كتاب الله مثله، وما قاله أبو البقاء أحسن على أنه قد ظهر العامل المطلق في قوله:
3964 - فَأَنْتَ لَدَى بُحْبوحَةِ الهُونِ كَائِن ...(15/167)
وقد تقدم ذلك محققاً في أول الفاتحة.
قوله «أأشكر» معلق «ليبلوني» ، وأم متصلة، وكذلك قوله: {نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ} [النمل: 41] . قوله: {ومَنْ شَكَر ... ومن كفر} يحتمل أن تكون «من» شرطية، أو موصولة مضمّنة معنى الشرط، فلذلك دخلت الفاء في الخبر، والظاهر أن جواب الشرط: الثاني: أو خبر الموصول قوله: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} ولا بد حينئذ من ضمير يعود على «من» تقديره غني عن شكره، وقيل الجواب محذوف تقديره: فإنما كفر عليه، لدلالة مقابله، وهو قوله {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} عليه.
فصل
تقدم معنى الابتلاء، وقوله: أشكر نعمته أم أكفرها فلا أشكرها، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، أي: يعود نفع شكره إليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها، لأن لاشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة، ومن كفر فإن ربي غني عن شكره كريم بالإفضال لعى من يكفر نعمه.(15/168)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
قوله: {قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} أي: غيّروا لها سريرها إلى حال تُنْكِرُه إذا رأته، وذلك أنه إذا تُرِك على حاله معرفتها لا محالة. وإذا غُيّر دلت معرفتها على فضل عقل.
قوله: «نَنْظُرْ» العامة على جزمه جواباً للأمر قبله، وأبو حيوة بالرفع، جعله استئنافاً.
فصل
روي أنه جعل أسفله أعلاه، وأعلاه أسفله، وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر،(15/168)
ومكان الأخضر أحمر. «نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي» إلى عرشها فتعرفه، أم تكون من الجاهلين الذين لا يهتدون إليه، وقيل: أتعرف به نبوة سليمان ولذلك قال: {أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} إليه، وذلك كالذم، ولا يليق إلا بطريق الدلالة، فكأنه - عليه السلام - أحب أن تنظر فتعرف به نبوته، حيث صار منتقلاً من المكان البعيد إلى هناك، وذلك يدل على كمال قدرة الله تعالى، وعلى صدق سليمان - عليه السلام -. ويعرف بذلك أيضاً فضل عقلها، لأنه روي أنه ألقِي إليه نقصان عقلها، لكي لا يتزوجها - كما ذكر وهب ومحمد بن كعب وغيرهما - أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن، وذلك أن أمّها كانت جنية، وإذا ولدت ولداً لا ينكفون من تسخير سليمان وذريته من بعده، فأساءوا الثناء عليها، ليزهّدوه فيها، وقالوا: إن في عقلها شيئاً، وإن رجلها كحافر الحمار، وإنها شعراء الساقين، فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها، وينظر إلى قدميها ببناء الصرح.
قوله: «أَهَكَذَا» ثلاث كلمات - حرف التنبيه وكأن التشبيه واسم الإشارة - فُصِل (بحرف الجرِّ بيْنَ حرف التنبيه واسم الإشارة، والأصل: أَكَهَذا، أي: (أ) مِثْل هذا عرشُكن ولا يجوز ذلك في غير الكاف لو قُلت: أَبهذا مَرَرْت، وأَلهذا فعلتُ لم يجز أن تفصِل) بحرف الجرّ بين «ها» و «ذا» فتقول: أَهَا بِذَا مَرَرْتُ وأَهَا لِذَا فَعَلْتُ.
قوله: {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} ، قال مقاتل: عرفتْه، ولكنها شبَّهت عليهم كما شبَّهوا عليها، وقال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل، ولكنها شبَّهت من أن تكذب، ولم تقل: لا، خوفاً من التكذيب، قالت كأنه هو، فعرف سليمان كمال عقلها، حيث توقفت في محل التوقف، قيل لها: فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب عليه، وكانت قد أغلقت عليه الأبواب وأخذت مفاتيحها. قوله: {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه من كلام بلقيس، فالضمير في «قَبْلِهَا» راجع للمعجزة والحالة الدَّالة عليها السياق والمعنى: وأُوتينا العلم بنبوة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة، وذلك لِمَا رأَت قبل ذلك من أمر الهُدهد ورد الهدية والرسل «من قَبْلِهَا» من قبل الآية في العرض، «وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» منقادين طائعين لأمر سليمان.
الثاني: أنه من كلام سليمان وأتباعه، فاضمير في قبلها عائد على بلقيس، فكأن سليمان وقومه قالوا: إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة، وقد رزقت الإسلام، ثم(15/169)
عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة مثل علمها، وغرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزيد التقدم في الإسلام، قاله مجاهد.
قوله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} في فاعل «صَدَّ» ثلاثة أوجه:
أحدها: ضمير الباري.
والثاني: ضمير سليمان، أي منعها ما كانت تعبد من دون الله، وهو الشمس، وعلى هذا ف {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ} منصوب على إسقاط الخافض، أي: وصدّها الله أو سليما عما كانت تعبدُ من دون الله، قاله الزمخشري مجوزاً له. وفيه نظر من حيث إن حذف الجار ضرورة، كقوله:
3965 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا ... كذا قاله أبو حيان، وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع.
الثالثك أن الفاعل هو «ما كانت» أي: صدها ما كانت تعبد عن الإسلام، (أي: صدها عبادة الشمس عن التوحيد) . والظاهر أنّ الجملة من قوله: «وصدّها» معطوفة على قوله «وأُوتِينَا» . وقيل: هي حال من قوله: أم تكون من الذين و (قد) مضمرة، وهذا بعيد جداً. وقيل: هو مستأنف إخباراً من الله تعالى بذلك.(15/170)
قوله: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} يعبدون الشمس، والعامة على كسر «إنّها» استئنافاً وتعليلاً: وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوة بالفتح، وفيها وجهان:
أحدهما: أنها بدل من {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ} أي: وصدّها «أنّها كانت» .
والثاني: أنها على إسقاط حرف العلة، أي: لأنّها، فهي قريبة من قراءة العامة.(15/171)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
قوله: {قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح} تقدّم الخلاف في الظرف الواقع بعد «دخل» هل هو منصوب على الظرف، وشذّ ذلك مع دخل خاصة - كما قاله سيبويه - أو مفعول به كَهَديت البيت كما قاله الأخفش. والصَّرحُ: القصر، أو صحن الدار، أو بلاط متخذ من زجاج وأصله من التصريح، وهو الكشف، وكذِبٌ «صُرَاحٌ» ، أي: ظاهر مكشوف ولومٌ صُراحٌ. والصريحُ مقابل الكناية، لظهوره واستتار ضده. وقيل: الصريح الخالص من قولهم: لبنٌ صَرِيحٌ بيّن الصراحة والصروحة. وقال الراغب: الصَّرحُ بيت عالٍ مُزوّق، سمي بذلك اعتباراً بكونه صرحاً عن البيوت، أي: خالصاً.
قوله: «سَاقَيْهَا» العامة على ألف صريحة، وقُنْبُل روى همزها عن ابن كثير، وضعَّفَها أبو علي، وكذلك فعل قنبل في جمع ساق في: ص، وفي الفتح، همز واوه، فقرأ «بالسُّؤْقِ والأَعْنَاق» ، {فاستوى على سُوقِهِ} [الفتح: 29] بهمزة مكان الواو، وعنه وجه آخر: السُّؤوق، وسُؤُوقِهِ - بزيادة واو بعد الهمز -، وروي عنه أنه كان يهمزه مفرداً في قوله: {يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42] فأما همزة الواو ففيها أوجه:(15/171)
أحدها: أن الواو الساكنة المضموم ما قبلها يقلبها بعض العرب همزة، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة عند «يوقِنُونَ» ، وأنشد عليه:
3966 - أَحَبُّ المؤقدينَ إِلَيَّ مُؤْسَى ... وكان أبو حيّة النميري يهمزُ كُلَّ واوٍ في القرآن هذا وصفها.
الثانيك أَنَّ ساقاً على «فَعَل» كأسد، فجمع على «فُعُل» بضم العين، كأسد والواو المضمومة تطلب همزة، نحو: «وُجُوه» ، و «وُقِّتَتْ» ثم بعد الهمزة سكنت.
الثالث: أن المفرد سمع همزه كما سيأتي تقريره، فجاء جمعه عليه.
وأما سؤوق - بالواو بعد الهمزة - فإن ساقاً جمع على سووق بواو، فهمزت الأولى لانضمامها وهذه الرواية غريبة عن قنبل. وأما «ساقها» فوجه الهمزة أحد أوجه: إما لغة من يقلب الألف همزة، وعليه لغة العجاج في: العألم و «الخأتم» ، وأنشد:
3967 - وَخِنْدفُ هَامَة هذَا العَأْلَم ... وسيأتي تقريره في: {مِنسَأَتَهُ} [سبأ: 14]- إن شاء الله - وتقدم طرف منه في(15/172)
الفاتحة، وإما على التشبيه برأس، وكأْسٍ، كما قالوا: حلأْتُ السَّويقَ، حملاً على حلأْته عن الماء، أي: طردته وإما حملاً للمفرد والمثنى على جمعها، وقد تقرر في جمعها الهمز.
فصل
لما حكى تعالى إقامتها على الكفر مع الدلائل المتقدمة، ذكر أنَّ سليمان أظهر أمراً آخر داعياً لها إلى الإسلام، فأمر الشياطين فبنوا صرحاً أي: قصراً من زجاج، كأنه الماء بياضاً وأجري تحته الماء، وألقى فيه كل شيء من دواب البحر من السمك والضفادع وغيرها، ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وقيل: اتخذ صحناً من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع، فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء، فلما جلس على لسرير دعا بلقيس، فلما جاءت قِيل لها: ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وهي معظم الماء، {وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَاَ} لتخوضه، فقيل كان المقصود من بناء الصرح تهويل المجلس وتعظيمه، وحصل كشف الساق على سيبيل التبع، وقيل: إن سليمان أراد أن ينظر إلى ساقيها من غير أن يسألها كشفها لما قالت الشياطين له إن رجلها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً، إلا أنها كانت شعراء الساقين، فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها وناداها أنّه صرح «مُمرَّد» ، أي: مُمَلَّسٌ، ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر وبريَّةٌ مرداء لخلوها من النبات، ورملةٌ مرداء، لا تنبيت شيئاً، والمارد من الشياطين من تَعَرَّى من الخير وتجرد منه.
ومارد حصنّ معروف، وفي أمثال الزَّبَّاء: «تَمَرَّدَ مَارِدٌ وَعَزَّ الأَبْلَقُ» قالتها في حصنين امتنع فتحهما عليها. والقوارير، وهي الزجاج الشفاف، و «مِنْ قَوَارِيرَ» صفة ثانية ل «صرح» .
قوله: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِيَ} قال مقاتل: لما رأت السرير والصرح، علمت(15/173)
أن ملك سليمان من الله، فقالت ربِّ إنِّي ظلمتُ نَفْسِي بعبادة غيرك، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وأخلصت لك التوحيد.
وقيلك إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا، فقولها: «ظَلَمْتُ نَفْسِي» تعني ذلك الظن.
واختلفوا: هل تزوجها سليمان أم لا؟ وأنه تزوجها في هذه الحال، ومن قبل أن يكشف عن ساقيها؟ والأظهر من كلام الناس أنه تزوجها، وروي عن ابن عباس لما أسلمت، قال لها: اختاري من قومك من يتزوجك، فقالت: مثلي لا تنح الرجال - مع سلطاني - فقال: النكاح من الإسلام، فقالت: إن كان كذلك فزوجني لتبع ملك همدان، فزوجها إياه، ثم ردهما إلى اليمن.
وروي أن الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
قوله: «مَعَ سُلَيْمَانَ» متعلق بمحذوف على أنه حال، ولا يتعلق: «أَسْلَمْتُ» ، لأنَّ إسلامه سابق إسلامها بزمان، وهو وجه لطيف، وقال ابن عطية: و «مَعَ» ظرف بُني على الفتح، وأمَّا إذا أسكنت العين، فلا خلاف أنه حرفٌ. وقد تقدم القول في ذلك وقال مكي هنا نحواً من قول ابن عطية.(15/174)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} الآية.
قوله: {أَنِ اعبدوا الله} أي: وحدوه، ويجوز في «أَنْ» أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية، أي بأن اعبدوا فيجيء في محلها القولان.
قوله: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} تقدم الكلام في «إذَا» الفجائية، والمراد بالفريقين قوم صالح، وأنهم انقسموا فريقين: مؤمن وكافر، وقد صرح بذلك في الأعراف في قوله: {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ} [الأعراف: 75] . وجعل الزمخشري الفريق الواحد صالحاً وحده والآخر جميع قومه؛ وحمله على ذلك العطف بالفاء، فإنه يؤذن أنه بمجرد إرسالة صاروا فريقين، ولا يصير قومه فريقين إلا بعد زمان ولو قليلاً.
و «يَخْتَصِمُونَ» صفة ل «فَرِيقَان» على المعنى، كقوله: {هذان خَصْمَانِ اختصموا} [الحج: 19] و {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] واختير هنا مراعاة الجمع، لكونها فاصله.
قوله: {ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ} أي: قال لهم صالح يا قوم لم تستعجلون بالسيئة بالبلاء والعقوبة، أي أن الله قد مكنكم من التوصّل إلى رحمته وثوابه فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه، وقيل: إنّهم كانوا يقولون إن العقوبة التي يعدّها صالح - إن وقعت على زعمه - تُبْنَا حينئذ واستغفرنا فحينئذ يقبل الله توبتنا، ويدفع العذاب عنا، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم، فقال: هلاّ تستغفرون الله قبل نزول العذاب، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، ووصف العذاب بأنّه سيئة مجازاً، إمّا لأنّ العقاب من(15/175)
لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، وأمّا وصف الرحمة بأنّها حسنة، فقيل: حقيقة، وقيل: مجاز. ثم إن صالحاً عليه السلام لما قرّر هذا الكلام الحقّ أجابوه بكلام فاسد، فقالوا «اطّيَّرنَا بِكَ» أي: تشاءمنا بك، لأنّ الذي يصيبنا من شدة وقحط شؤمك وشؤم من معك. وقرىء: «تطيّرنّا بِكَ» ، وهو الأصل، وأدغم، وتقدّم تقريره، قال الزمخشري: كان الرجل يخرج مسافراً فيمرُّ بطائر فيزجره، فإن مرّ سانحاً تيمّن، وإن مرَّ بارحاً تشاءم، فلمّا نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر، وهو قدر الله وقسمته، فأجاب صالح - عليه السلام - بقوله: طائركم عند الله، أي السبب الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، وهو قضاؤه وقدره وهو مكتوب عليكم. سمي طائراً لسرعة نزوله بالإنسان، لأنّه لا شيء أسرع من قضاء محتوم. قال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله بكفركم. وقيل طائركم: عملكم عند الله، سمى طائراً لسرعة صعوده إلى السماء، وقيل: إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم، وقيل: لأنه أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقطحوا.
قوله: «تُفْتَنُونَ» داء بالخطاب مراعاةً لتقدّم الضمير، ولو روعي ما بعده لقيل «يُفْتَنُونَ» بياء الغيبة، وهو جائز ولكنه مرجوح، ويقول: أنت رجل يفعل وتفعل بالباء والياء، ونحن قوم نقرأ ويقرأون.
والمراد من هذا الكلام أن صالحاً - عليه السلام - بين بهذا الكلام جهلهم بقوله: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} ، فيحتمل أن غيرهم دعاءهم إلى هذا القول، ويحتمل أن المراد أن الشيطان يفتنكم بوسوسته.
وقال ابن عباس: يُخْتَبرون بالخير والشر كقوله: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ، وقال محمد بن كعب: يعذبون.(15/176)
قوله: «وكان في المدينة تسعة رهط} يعني: مدينة ثمود، والأكثر أن يتميز، والعدد مجرور ب» من «، كقوله: {أَرْبَعَةً مِّنَ الطير} [البقرة: 260] وفي المسألة مذاهب:
أحدها: أنه لا يجوز إلا في قليل.
الثاني: أنه يجوز ولكن لا ينقاس.
الثالث: التفصيل بين أن تكون للقلة كرهط ونفر، فيجوز، أو للكثرة فقط، أو لها وللقلة فلا يجوز نحو: تسعة قوم. ونصب سيبويه على امتناع ثلاث غنم.
قال الزمخشري: وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط، لأنه في معنى الجمع، كأنه قيل: تسعة أنفس. قال أبو حيان: وتقدير غيره تسعة رجال هو الأولى؛ لأنه من حيث أضاف إلى أنفس كان ينبغي أن يقول: تِسع أنفس - على تأنيث النفس - إذا الفصيح فيها التأنيث، ألا تراهم عدوا من الشذوذ قول الشاعر:
3968 - ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ وثَلاثُ ذَوْدٍ ... قال شهاب الدين: وإنما أراد تفسير المعنى. وقال ابن الخطيب: والأقرب أن يكون المراد تسعة جمع؛ إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد، لاختلاف وصفهم وأحوالهم، لا لاختلاف النسب.
قوله:» يُفْسِدُونَ «يجوز أن يكون نعتاً للمعدود أو العدد، فيكون في موضع جر أو رفع.
قوله:» ولا يصلِحُون «قيل: مؤكد للأول، وقيل: ليس مؤكداً؛ لأن بعض المفسدين قد يصلح في وقت ما، فأخبر عن هؤلاء بانتفاء توهم ذلك، وهم الذي اتفقوا على عقر الناقة، وهم غواة قوم صالح، ورأسهم: قُدَار بن سالف، وهو عاقر الناقة.(15/177)
قوله:» قَالُوا تَقَاسَمُوا «يجوز في» تَقَاسَمُوا «أن يكون أمراً، قال بعضهم لبعض: احلفوا على كذا، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً، وحينئذ يجوز أن يكون مفسراً ل» قَالُوا «كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: تقاسموا. ويجوز أن يكون حالاً على إضمار» قد «، أي: قالوا ذلك متقاسمين، وإليه ذهب الزمشخري، فإنه قال: يحتمل أن يكون أمراً وخبراً في محل الحال بإضمار» قد «. قال أبو حيان: أما قوله: وخبراً. فلا يصح؛ لأن الخبر أحد قِسْمَي الكلام لأنه ينقسم إلى الخبر والإنشاء، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين قال شهاب الدين: ولا أدري عدم الصحة مماذا؟ لأنه جعل الماضي خبراً، لاحتماله الصدق والكذب، مقابلاً للأمر الذي لا يحتملهما، أما كون الكلام لا ينقسم إلا إلى خبر وإنشاء وأن معانيه إذا حققت ترجع إيلهما، فأي مدخل لهذا في الرد على الزمخشري.
ثم قال أبو حيان: والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد، لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد، فإذا أطلق عليها الخبر كان ذلك على تقدير أنها لو لم تكن حالاً لجاز أن تستعمل خبراً، وكذلك قولهم في الجملة الواقعة صلة: هي خبرية، فهو مجاز والمعنى: أنها لو لم تكن صلة لجاز أن تسعتمل خبراً، وهذا فيه عوض.
قال شهاب الدين: مسلم أن الجملة ما دامت حالاً أو صلة لا يقال لها خبرية، بمعنى أنها تستقلّ بإفادة الإسناد، لأنها سيقت مساق القيد في الحال ومساق حد كلمة في الصلة، وكان ينبغي أن يذكر أيضاً الجملة الواقعة صفة، فإن الحكم فيها كذلك، ثم قال: وأما إضمار «قد» فلا يحتاج إليه، لكثرة وقوع الماضي حالاً دون «قد» ، كثرة ينبغي القياس عليها.
قال شهاب الدين: الزمخشري مَشَى مع الجمهور فإنّ مذهبهم أنه لا بدَّ من «قد» ظاهرةً أو مضمرةً لتقرّبه من الحال. وقرأ ابن أبي ليلى: «تَقَسَّمُوا» - دون ألف مع(15/178)