بعبوديَّتي، وهنذا يشمل المؤمن، والعاصي، وكذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى.
قال قتادة: بلغنا أن نبيَّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَو يَعْلمشُ العَبدُ قَدْرِ عَفْوِ الله لمَا تورَّع عن حرامٍ، ولوْ عَلِمَ قدر عِقابِهِ لبَخَعَ نَفْسَهُ» أي: قتلها.
وعن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه مرَّ بِنفَرٍ من أصحابه، وهم يضحكُون، فقال: أتَْضحَكُون وبيْنَ أيديكمُ النَّارُ «فنزَل جِبريلُ صلوات الله وسلامه عليه بِهذِهِ الآية، وقال:» يقول لك يا محمَّد: لِمَ تقنط عِبادِي «.
وقال بان عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معنى: {أَنَا الغفور الرحيم} لمن تاب منهم.(11/466)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} القصَّة: لما قرَّر أمر النبوة، أردفه بدلائل(11/466)
التوحيد، ثمَّ عقبه بذكر أحوال القيامةِ، وصفة الأشقياء، والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ليكن سماعها مرغِّباً للعبادة الموجبة للفوز بدرجاتِ الأولياءِ، ومحذراً عن المعصية الموجبةِ لاستحقاقِ دركاتِ الأشقياءِ.
فقوله: «ونَبِّئْهُم» ، هذا الضمير راجعٌ إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: عِبَادِي «، أي: ونبِّىء عبادي، يقال: أنْبأتُ القوم إنباءً ونَبَّأتهُم تَنْبئةً إذا أخبرتهم.
قوله:» عَن ضَيْفِ «، أي [أضياف إبراهيم] ، والضَّيْفُ في الأص مصدر ضَافَ يضيفُ: إذا أتى إنساناً يطلب القوى، وهو اسمٌ يقع على الواحدِ، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنَّث.
فِإن قيل: كيف سمَّاهم ضيفاً، مع امتناعهم من الأكلِ؟ .
فالجواب: لمن ظنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنَّهم إنَّما دخلوا عليه لطلب الضِّيافة، جاز تسميتهم ذلك.
وقيل: من دخل [دار] إنسان، والتجأ إليه سمِّي ضيفاً، ون لم يأكل، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه علثيه يكنَّىأبا الضيفان، كان لقصره أربعة أبوابٍ، لكي لا فوته أحدٌ.
وسمِّي الضيف ضيفاً؛ لإضافته إليك، ونزوله عليك.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ:» ضَافهُ مَالَ إليه، وأضَافهُ: [أماله] ، ومنه الحديث: حِينَ تضيفلإ الشَّمسُ للغُروبِ. وضَيفُوفَةُ السَّهم، والإضافةُ النَّحوية «.
قوله: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} في» إذْ «وجهان:
أحدهما: أنه مفعول لفعل مقدر، أي: اذكر إذ دخلوا.
والثاني: أنه ظرف على بابه، وفي العامل فيه وجهان:
أحدهما: أنه محذوف، تقديره: خبر ضيف.
والثاني: أنه نفس» ضَيْفِ «، وفي توجيه ذلك وجهان:
أحدهما: أنه لما كان في الأصل مصدراً اعتبر ذلك فيه، ويدلُّ على اعتبار مصدريته بعد الوصف به: عدم مطابقته لما قبله تثنية، وجمعاً وتأنيثاً في الأغلب، ولأنه قائم مقام وصفه، والوصف يعمل.
والثاني: أنه على حذف مضاف، أي: أصحاب ضيف إبراهيم، أي: ضيافته، فالمصدر باقٍ على حاله، فلذلك عمل.(11/467)
قال أبو البقاء بعد أن قدر أصحاب ضياتفه: والمصدر على هذا مضاف إلى المفعول.
قال شهابُ الدِّين: وفيه نظر، إذ الظَّاهر إضافته لفاعله؛ لأنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله تعالى: {فَقَالُواْ سَلاماً} ، أي نُسلِّم لك سلاماً أو سلَّمتُ سلاماً، أو سلمُوا سَلاماً، قاله القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
قال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي: خائفون؛ لأنهم لم يأكلوا طعامه، وقيل: لأنهم دخلوا بغير إذن، وبغير وقت.
قوله:» لا تَوجَلْ «العامة على فتح التاء من» وجِلَ «ك:» شَرِبَ «يَشربُ، والفتح قياس» فَعِلَ «إلا أن العرب آثرت [يفعل بالكسر] في بعض الألفاظ إذا كانت واواً، نحو:» نَبِقَ «وقرأ الحسن:» لا تُوجَل «مبنياً للمفعول من الإيجال.
وقرىء: «لا تَأجَلْ» ، والأصل: «تَوْجل» كقراءة العامة، إلاَّ أبدل من الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها، وإن لم تتحرَّك كقولهم: «تَابةٌ» ، و «صَامةٌ» في «تَوْبة» ، و «صَوْمة» وسمع: اللَّهُم تقبَّل تَابتِي، وصَامتِي. وقرىء أيضاً: «لا تُواجِل» من المواجلة.
ومعنى الكلام: لاتخف؛ «إنَّا نَبشِّرُكَ» ، قرأ حمزة: «إنَّا نَبْشُركَ» بفتح النون وتخفيف الباء، والباقون بضم النون، وفتح الباء، و «إنَّا نُبشِّركَ» استئناف بمعنى التعليل للنهي عن الوجل، والمعنى إنَّك بمثابة الآمن المبشر فلا توةجل.
واعلم أنَّهم بشروهن بأمرين:
أحدهما: أنَّ الولد ذكرٌ، والثاني: أنه عليمٌ.
فقيل: بشَّروه بنبوته بعده، وقيل: عليم بالدِّين، فعجب إبراهيم أمره و {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} قرأ الأعرج: «بشَّرتُمونِي» بإسقاط أداة الاستفهام، فيحتمل الأخبار، ويحتمل الاستفهام، وإنما حذفت أدلته للعلم به.
وِ «على أنْ مسَّنيَ» في محل نصبٍ على الحال.
وقرأ ابن محيصن: «الكُبْر» بزنة «فُعْقولهخ:» فبمَ تبشّرون «» بِمَ «متعلقٌ ب» تُبشِّرُون «، وقدم وجوباً؛ [لأنه] استفهام وله صدر الكلام.(11/468)
وقرأ العامة: بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع؟ ولم يذكر مفعنول التبشير، وقرأ نافع بكسرها، والأصل: تبشروني فحذف الياء مجتزئاً عنها بالكسرة.
وقد غلطه أبو حاتم، وقال: هذا يكون في الشعر اضطراراً.
وقال مكي:» وقد طعن في هذه القراءة قومٌ لبُعدِ مخرجِها في العربيَّة؛ لأنَّ حذف النون التي تصحبُ الياء لا يحسنُ إلاَّ في الشِّعر، وإن قُدِّر حذف النون الأولى حذفت [علم] الرفع من غير ناصب، ولا جازم؛ ولأنَّ نون الرفع كسرها قبيحٌ، إنَّما حقُّها الفتح «.
وهذا الطعن لا يتلفت إليه، لأنَّ ياء المتكلم قد كثر حذفها مجتزءاً عنها بالكسرة، وقد قرىء بذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا} [الزمر: 64] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ووجهه: أنَّه لما اجتمع نونان أحدهما نون الرفع، والأخرى نون الوقاية استثقل اللفظ، فمنهم من أدغم، ومنهم من حذف، ثم اختلف في المحذوفة، هل هي الأولى، أو الثانية، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام [الأنعام: 80] .
وقرأ ابن كثير بتشديدها مكسورة، أدغم الأولى في الثانية، وحذف ياء الإضافة، والحسن: أثبت الياء مع تشديد النون، ورجح قراءة من أثبت مفعول:» يُبشِّرُون «وهو الياء.
قوله: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق} » بَشَّرناكَ «، و» بالحقِّ «متعلق بالفعل قبله، وضعف أن يكون حالاً، أي: قالوا بَشَّرنَاكَ.
ومعنى:» بالحَقِّ «هنا استفهام بمعنى التعجُّب، كأنه قيل: بأيَّ أعجوبةٍ تبشروني؟ .
فِإن قيل: كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلقِ الولدِ منه في زمانِ الكبرِ؟ وما فائدة هذا الاستفهام مع أنهم قد بينوا ما بشَّروا به؟ .
فِأجاب القاضي: بأنه أراد أن يعرف أنه تعالى هل يعطيه الولد مع أنه يبقيه على سفة الشيخوخة، أو يقلبه شابًّا، ثم يعطيه الولد؟ .
وسبب هذا الاستفهام: أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامَّة، وإنما يحصل في حال الشَّبابِ.
فإن قيل: فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم، فلم قالوا: {بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} ؟ .(11/469)
قلنا: إنهم بيَّنوا أنه تعالى بشَّرهُ بالولد مع إبقائه على صفة الشَّيخوخَةِ، وقولهم {بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} لايدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرَّح في جوابهم بما يدلُّ على أنَّه ليس كذلك فقال: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون} .
وأجاب غيره: بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيءٍ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنِّه حصول المراد فيه، فإذا بشِّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه، وسروره، ويصير ذلك الفرحُ القويُّ كالمدهش له، والمزيل لقوَّة فهمه، وذكائه، فربَّما تكلم بكلماتٍ مضطربة في ذلك الوقت.
وقيل أيضاً: إنه يستطيب تلك البشارة، فربَّما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرَّة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة، أو طلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق، كقوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وقيل أيضاً: استفهم: أبأمرِ الله تبشروني، أم من عند أنفسكم، واجتهادكم.
قوله: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق} قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يريد بما قضى الله تعالى.
وقوله: {فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} نهي لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن القنوطِ، وقد تقدَّم أنَّ النهي لإنسان عن الشَّيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهيّ عنه، كقوله جلَّ وعزَّ {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 48] {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [القصص: 78] .
قوله: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ} هذا استفهام معناه النفي، ولذلك وقع بعد الإيجاب ب «إلاَ» .
وقرأ أبو عمرو، والكسائي: «يَقْنِطُ» بكسر عين هذا المضارع حيث وقع، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها، وفي الماضي لغتان «قنط» بكسر النون، «يَقنَطُ» بفتحها، وقنط «يقْنطُ» بكسرها، ولولا أن القراءة سنة متبعة، لكان قياس من قرأ {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} [الشورى: 28] وافلتح في الماضي هو الأكثر، ولذلك أجمع عليه.
قال الفارسي: فتح النون في الماضي، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات، ويرجحُ قراءة «يَقْنَطُ» بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات «فلا تكن من القنطين» كفَرِحشَ يفرح فهو فَرِحٌ.(11/470)
والقُنُوط: شدَّة اليأسِ من الخَيرٍ، وحكى أبو عبيدة: «قَنُطَ» يَقْنُطُ بضمِّ النون.
قال ابن الخطيب: «وهذا يدلُّ على أنَّ» قَنَطَ «بفتح النون أكثر؛ لأن المضارع من» فَعَل «يجيء على» يَفْعِلُ ويَفْعُل «مثل: فَسقَ: ويَفْسُقُ، لا يجيء مضارع فَعَلَ على يَفْعَلُ» .
فصل
جواب إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حق؛ لأنَّ الفنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلاَّ عند الجهل بأمور:
أحدها: أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه.
وثانيها: أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياج ذلك العبد إليه.
وثالثها: أ، يحجهل كونه تعالى، منزّهاً عن البخل، والحاجة.
والجهل بكلِّ هذه الأمور سبب للضَّلالِ، القُنوط من رحمة الله كبيرة، كالأمن من مكرهِ.
قوله تعالى: {فَمَا خَطْبُكُمْ} الخطب: الشأن، والأمر، سألهم عمَّا لأجله أرسلهم الله تعالى.
فِإن قيل: إنَّ الملائكة لما بشَّروه بالولد الذَّكر العليمِ، كيف قال لهم بعد ذلك «فَمَا خَطْبُكمُ» ؟ .
فالجواب: قال الأصم: معناه: ما الذي وجتهم له سوى البُشْرَى؟ .
وقال القاضي: إنه علم أنه لو كان المقصود أيضاً البشارة، لكان الواحد من الملائكة كافياً، فلمَّا رأى جمعاً من الملائكة؛ علم أنَّ لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة، فلا جرم قال: «فَما خَطْبكُمْ» ؟ .
قيل: إنَّهم قالوا: إنَّا نُبشِّركَ بغُلامٍ عَليم لإزالة الخوف، والوجل، ألا ترى أنّه لما قال: {إنا منكم وجلون} قالوا له: {لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم} ، فلو كان المقصود من المجيء هو البشارة؛ كانوا ذكروا البشارة في أوَّل دخولهم، فلمَّا لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم صلوات الله وسلام عليه أنَّ مجيئهم ما كان لمجرَّد البشارة، بل لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض، قال: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} مشركين، وإنَّما اقتصوار على هذا القدر، لعلم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بأنَّ الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين، كان ذلك لأهلاكهم.
ويدل ع لى ذلك قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} قوله «إلا آل لُوطٍ» فيه وجهان:(11/471)
أحدهما: أنه استثناء متصل علىأنه مسثنى من الضمير المستكن في: «مُجرمِينَ» بمعنى أجرموا كلهم إلاَّ آل لوطٍ؛ فإنَّهم لم يجرموا، ويكون قولهم «إنَّا لمنجوهم» استئناف إخبار بنجاتهم، لكنهم لم يجرموا ولكن الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لإهلاك أولئك وأنجاء هؤلاء.
والثاني: أنه اسثناء منقطع؛ لأن آل لوط لم يندرجوا في المجرمين آلبتَّة.
قال أبو حيان: وإذا كان استثناء منقطعاً، فهو مما يجبُ فيه النصب؛ لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن توجيه العامل إلى المستثنى منه؛ لأنهم لم يرسوال إليهم، إنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصَّة، ويكون قوله: «إنَّ لمُنجَّوهُمْ» جَرَى مَجْرى خبر لكن في اتِّصاله ب «آل لوطٍ» ؛ لأن المعنى: لكنَّ آل لوط منجوهم، وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدَّر بلكن، إذ لم يكن بعده ما يصحُّ أن يكون خبراً: أنَّ الخبر محذوف، وأنه في موضع رفع لجريان: «إلاَّ» ، وتقديرها ب «لَكِن» .
قال شهابُ الدِّين: «وفيه نظرٌ؛ لأن قوله لا يتوجه إليه العامل أيك لا يمكن، نحو: ضحك القوم إلا حمارهم، وصهلت الخيلُ إلا الإبل. أمَّا هذا، فيمكن الإرسال إليهم من غير منع، وأمَّا قوله: لأنهم لم يرسلوا إليهم فصحيح؛ لأنَّ حكم الاستثناء كلَّه هكذا، وهو أن يكون خارجاً عمَّا حكم به على الأوَّل، لكنَّه لو سلط عليه لصحَّ ذلك بخلاف ما تقدَّم من أمثلتهم» .
قوله: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} قرأ الأخوان: «لمُنْجُوهمْ» مخففاً؛ وكذلك خففا أيضاً فعل هذه الصيغة في قوله تعالى في العنكبوت {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] ؛ وكذلك خففا أيضاً قوله فيها: {إِنَّا مُنَجُّوكَ} [العنكبوت: 33] فهما جاريتان على سننٍ واحدٍ.
وقد وافقهما ابن كثير، وأبو بكر على تخفيف: «مُنجوكَ» كأنهما جمعا بَيْنَ اللغتين، وباقي السبعة بتشديد الكل. والتخفيف والتشديد لغتان مشهورتان من: نَجَّى وأنْجى، وأنزلَ، ونزَّل، وقد نطق بفعلهما، قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} [العنكبوت: 65] وفي موضع {أَنجَاهُمْ} [يونس: 23] .
قوله: {امرأته} فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء من «آل لُوطٍ» . قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «والاستنثاء إذا جاء عبد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافاً إلى المبتدا كقولك:» لهُ عِندِي عشرةٌ إلا(11/472)
أربعة إلا درهماً «فإن الدرهم يستثنى من الأربعة، فهو مضاف إلى العشرة، فكأنك قلت: أحد عشرة إلاَّ أربعة، أوعشرة إلاَّ ثلاثة» .
والثاني: أنها مستثناةٌ من الضمير المجرور في قوله «لمُنَجوهمْ» .
وقد منع الزمخشري رحمهن الله الوجه الأول، وعيَّن الثاني فقال: «فإن قلت: قوله:» إلا امرأتهُ «مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناء نم استثناء؟ .
قلت: مستثنى من الضمير المجرور في قوله:» لمُنَجُّوهم «، وليس من الاستثناء في شيء؛ لأن الاستثناء م الاستثناء إنَّما يكون فيما اتَّحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأتهُ، كما اتَّحد في قول المطلِّق: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنين إلا واحدة، وقول المقرّ: لفلان علي عشرة درارهم إلا ثلاثة إلا درهماً، اما الآية فقد اختلف الحكمان؛ لأنّ:» آل لوطٍ «متعلق ب» أرْسَلْنَا «أوة ب» مُجرمِينَ «، و» إلاَّ امْرأتهُ «قد تعلَّق بقوله:» لمُنجوهم «فأنَّى يكون استثناء من استثناء» .
قال أبو حيَّان: ولما استسلف الزمخشري أنَّ «امرأتهُ» استثناء من الضمير في لمُنجُّوهم «أبى أن يكون استثناء من استثناء، ومن قال: إنه استثناء من استثناء، فيمكن [تصحيح قوله] بأحد وجهين:
أحدهما: أنه لما كان امرأته مستثنى من الضمير في» لمُنَجوهُم «، وهو عائدٌ على» آل لوطٍ «صار كأنَّه مستثنى من:» آل لوطٍ «؛ لأنَّ المضمر هو الظاهر.
والوجه الآخر: أن قوله «إلاَّ آل لوطٍ» لمَّا حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين، اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} تأكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى: إلا آل لوط لم نرسل إليهم بالعذاب، وجاتهم مرتبة على [عدم] الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير ذلك: قام القومُ إلاَّ زيداً لم يقم أو إلاَّ زيداً فإنه لم يقم، فهذه الجملة تأكيدٌ لما تضمَّنهُ الاستثناء من الحكم على ما بعد إلاَّ بضدِّ الحكم السَّابق على المستثنى منه، ف: «إلاَّ امْرَأتهُ» على هذا التدقير الذي قرَّرناه مستثنى من: «آلَ لُوطٍ» ؛ لأنَّ الاستثناء ممَّا جيء به للتَّأسيس أولى من الاستثناء ممَّا جيء به للتأكيد.
قوله «قدَّرْنَا» قرأ أبو بكر ههنا، وفي سورة النمل بتخفيف الدَّال، والباقون بتشديدها، وهما لغتان: قَدَّر، وقَدَر.
قوله: «إنَّها» كسرت من أجل اللاّم في خبرها، ولولا [لَفُتِحَتْ] ، وهي معلقة(11/473)
لما قبلها؛ لأنَّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمَّا لكونه بمعناه، وإمَّا لأنه مترتب عليه.
قال الزمخشري: «فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله: {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} ، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمن فعل التقدير معنى العلم» .
قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى «وكسرت» إِنَّها «إجراء لفعل التقدير مجرى العلم» .
وهذا لا يصحُّ علة لكسرها، إنَّما يصحُّ علةً لتعليقها الفعل قبلها.
فصل
معنى التقدير في اللغة: جعل الشيء على مقدار غيره، يقال: قدر هذا الشيثء بهذا، أي: اجعله على مقداره، وقدَّر الله سبحانه الأقوات، أي: جعلها على مقدار الكفاية، ثمَّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال: قضى الله عليه، وقَدرَ عليه، أي: جعله على مقدار ما يكفي في الخير، والشر. وقيل: معنى: «قَدَّرْنَا» كتبنا. وقال الزجاج: دبرنا. فإن [قيل] لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عزَّ وجلَّ؟
فالجواب: إنَّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله، كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا [وأمرنا بكذا] ، والمدبر، والآمر هو الملك لا هم، وإنَّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك، فكذا هنا.
قوله تعالى: {إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} في موضع مفعول، التقدير: قضينا أنها تتخلف، وتبقى مع من يبقى حتَّى يهلك، فتلحق بالهالكين.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون} القصة لما بشروا إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بالولد، وأخبروه بأنهم مرسلون بالعذاب إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط عليه السلام، وإلى آله، وإنَّ لوطاً، وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة لله.
فقالوا: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ؛ لأنهم لما هجموا عليه؛ استنكرهم، وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه.
وقيل: خاف؛ لأنهم كانوا شبايا مرداً حسان الوجوه، فخاف أن يهجم قومه عليهم لطلبهم، فقال هذه الكلمة.
وقيل: إنَّ النكرة ضدّ المعرفة، فقوله: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ، أي: لا أعرفكم، وأعرف أنكم من أي الأقوام، ولأي غرض دخلتم عليّ، فقال: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} .(11/474)
قوله: {بَلْ جِئْنَاكَ} إضراب عن الكلام المحذوف، تقديره: ما جئناك بما ينكر، {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا [كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} ] .
وقد تقدَّم الخلاف في قوله: «فأسْرِ» قعاً ووصلاً في هود: [81] .
وقرأ اليماني فيما نقل ابن عطية، وصاحب اللوامح: «فَسِرْ» من السير. وقرأت فرقة بفتح الطاء، وقد تقدَّم في يونس أنَّ الكسائي، وابن كثير قرآه بالسكون في قوله «قِطْعاً» والباقون بالفتح.
قوله: قالت الملاكئة {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} يشكون أنه نازلٌ بهم، وهو العذاب؛ لأنه كان يوعدهم بالعذاب، فلا يصدقونه، ثمَّ أكدوا ذلك بقولهم: {وَآتَيْنَاكَ بالحق} قال الكلبيُّ: بالعذاب، [وقيل] باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو العذاب] ثم أكدوا هذه التَّأكيد بقولهم {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} .
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} والقِطْعُ والقَطع: آخر الليل؛ قال: [الخفيف]
3280 - افْتَحِي البَابَ وانظُرِي في النُّجُومِ ... كَم عليْنَا مِن قِطْعِ ليْلٍ بَهِيمِ
{واتبع أَدْبَارَهُمْ} ، أي سر خلفهم {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} لئلا ترتاعوا من أمر عظيم فأنزل بهم من العذاب.
وقيل: معناه الإسراع، وترك الاهتمام لما خلف وراءه، كما يقول: امض لشأنك، ولا تعرج على شيءٍ.
وقيل: المعنى لو بقي [منه] متاعٌ في ذلك الموضع، فلا يرجعن بسببه ألبتَّة.
وقيل: جعل الكله ذلك علامة لمن ينجو من آل لوطٍ.
{وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يعني «الشَّام» .
وقال المفضل: حيث يقول لكم جبريل. وقال مقاتل: يعني زغر. وقيل: «الأرْدن» .
قوله: {حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} «حَيْثُ» على بابها من كونها ظرف مكان مبهمٍ، ولإبهامها(11/475)
تعدي إليها الفعل من غير واسطةٍ، على أنه قد جاء في الشِّعر تعديته إليها ب «في» كقوله: [الطويل]
3281 - فَأصْبحَ في حَيْثُ التَقيْنَا شَردُهمْ ... طَليقٌ ومكْتوفُ اليَديْنِ ومُزْعِفُ
وزعم بعضهم أنها هنا ظرف زمانٍ، مستدلاً بقوله: {بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} ثم قال {وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي: في ذلك الزَّمان.
وهو ضعيف، ولو كان كما قال، لكان التركيب وأمضوا حيث أمرتهم على أنه لو جاء التَّركيب كذا لم يكن فيه دلالة.
قوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} ضمَّن القضاء معنى الإيجاء؛ فلذلك تعدَّى تعيدته «إلى» ، ومثله {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] .
و «ذَلكَ الأمْرَ» «ذَلِكَ» مفعول القضاءِ، والإشارة به إلى ما وعد من إهلاكِ قومه، و «الأمْرَ» إمَّا بدلٌ منه، أو عطف بيانٍ له.
قوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ} العامة على فتح «أنَّ» وفيها أوجه:
أحدها: أنها بدل من «ذَلِكَ» إذا قلنا: «الأمْرَ» عطف بيان.
الثاني: أنَّها بدلٌ من «الأمْرَ» سواء قلنا: إنه بيان أو بدل مما قبله.
الثالث: أنه على حذف الجار، أي: بأنَّ دابر، ففيه الخلاف المشهور.
وقرأ زيد بن علي، والأعمش بكسرها؛ لأنه بمعنى القول.
وعلَّله أبو حيان: بأنه لمَّا علق ما هو بمعنى العلم؛ كسر.
وفيه النظر المتقدم.
ويؤيِّد إضمار القول قراءة ابن مسعودٍ: وقلنا إنَّ دابر هؤلاء.
ودابرهم: آخرهم «مَقطوعٌ» مستأصل، يعني مستأصلون عن آخرهم؛ حتى لا يبقى منهم أحد «مُصْبحينَ» ، أي في حال ظهور الصبح، فهو حال من الضمير المستتر في: «مَقطُوعٌ» ، وإنَّما جمع حملاً على المعنى، وجعله الفرَّاء، وأبو عبيدة خبراً لكان المضمرة، قالا: تقديره: إذا كانوا مصبحين، نحو «أنْتَ مَاشِياً أحسنُ مِنْكَ رَاكِباً» .
وهو تكلفٌ، و «مُصْبحِينَ» داخلين في الصَّباحِ.
قوله: {وَجَآءَ أَهْلُ المدينة} ، أي: مدينة لوط، يعني: «سدُوم» «يَسْتبشِرُونَ» حالٌ، أي: يستبشرون بأضياف لوطٍ، يبشر بعضهم بعضاً في ركوب الفاحشة منهم.(11/476)
قيل: إنَّ الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم.
وقيل: أخبرتهم امرأة لوطٍ بذلك؛ فذهبوا إلى دارِ لوطٍ؛ طلباً منهم لأولئك المردِ.
فقال لهم لوط صلوات الله وسلامه عليه: «هَؤلاءِ ضَيْفِي» وحق على الرجل إكرام ضيفه، «فلا تَفْضحُونِ» فيهم.
يقال: فَضحَهُ يَفضحُه فَضْحاص، وفَضِيحَةً، إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار، والفَضِيحُ والفَضِيحةُ: البيان، والظُّهورُ، ومنه: فَضِيحَةُ الصُّبْحِ؛ قال الشاعر: [البسيط]
3282 - وَلاحَ ضَوءُ هِلالِ اللَّيْلِ يَفْضحُنَا ... مِثْلَ القُلامَةِ قَدْ قُصَّتْ مِنَ الظُّفُرِ
إلا أنَّ الفضحية اختصت بما هو عارٌ على الإنسان عند ظهوره.
ومعنى الآية: أن الضيف يجب إكرامه، فإذا قصدتموه بالسُّوءِ كان ذلك إهانة بي، ثمَّ أكد ذلك بقوله: {واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ} ولا تخجلون، فأجابوه بقولهم: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} ، أي: عن أن تضيِّف أحداً من العالمين.
وقيل: ألم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة؛ فإنا نركبُ منه الفاحشة.
قوله: {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} يجوز فيه أوجه:
أحدها: أ، يكون {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} مفعولاً بفعل مقدرٍ، أي: تزوَّجُوا هؤلاء، و «بَناتِي» بدلٌ، أو بيانٌ.
الثاني: أن يكون {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} مبتدأ وخبراً، ولا بدَّ من شيء محذوف تتمُّ به الفائدة، أي: فتزوَّجُوهنَّ.
الثالث: أن يكون «هَولاءِ» مبتدأ، و «بَناتِي» بدلٌ، أو بيان والخبر محذوف، أي: هُنَّ أطهر لكم كما جاء في نظيرتها.
وتقدَّم الكلام على هذه المعاني في هود.
قوله {لَعَمْرُكَ} مبتدأ محذوف الخبر وجوباً، ومثله: لايْمُن الله، و «إنَّهُمْ» ، وما في حيزه جواب القسم، تقديره: لعمرك قسمي، أو يميني إنهم، والعُمُرُ والعَمْر بالفتح والضم هو البقاء، إلا أنَّهم التزموا الفتح في القسم.
قال الزجاج: لأنه اخفُّ عليهم، وهم يكثرون القسم ب «لعَمْرِي ولعَمْرُكَ» .
وله أحكام كثيرة:
منها: أنه متى اقترن بلام الابتداء؛ ألزم فيه الرفع بالابتداء، وحذف خبره لسد جواب القسم مسدَّه.(11/477)
ومنها: أنه يصير صريحاً في القسم، أي: يتعيَّن فيه، بخلاف غيره نحو: عَهْدُ اللهِ ومِثَاقُه.
ومنها: أنه يلزم فتح عينه.
فإن لم يقترن به لام الابتداء، جاز نصبه بفعلٍ مقدرٍ، نحو: عَمْرُ اللهِ لأفعلنَّ، ويجوز حينئذٍ في الجلالة وجهان:
النَّصبُ والرفع فالنصب على أنه مصدرٌ مضاف لفاعله، وفي ذلك معنيان:
أحدهما: أن الأصل: أسألك بعمرك الله، أي: بوصفك الله تعالى بالبقاء، ثم حذف زوائد المصدر.
والثاني: أن المعنى: بعبادتك الله، والعَمْرُ: العِبادةُ.
حكى ابن الأعرابي: إنِّي عمرتُ ربِّي، أي: عبدته، وفلان عامر لربِّه، أي: عابده.
وأمَّا الرفع: فعلى أنه مضاف لمفعوله.
قال الفارسي رَحِمَهُ اللَّهُ: معناه [عَمَّرك] الله تعميراً، وقال الأخفش: أصله: أسْألك بِيُعمرك الله، فحذف زوائد المصدر، والفعل، والياء، فانتصب، وجاز أيضاً ذكر خبره، فتقول: عمرك قسمي لأقومن، وجاز أيضاً ضمُّ عينه، وينشد بالوجهين قوله: [الخفيف]
3283 - أيُّهَا المُنْكِحُ الثُريَّا سُهَيلاً ... عَمركَ الله كيْفَ يَلتقِيَانِ
هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا ما استقلَّتْ ... وسُهَيْلٌ إذا اسْتقل يَمانِي
ويجوز دخول باء الجر عليه؛ نحو: بعمرك لأفعلنَّ؛ قال: [الوافر]
3284 - رُقيَّ بِعمْرِكُم لا تَهْجُرينَا ... ومَنِّينَا المُنَى ثُمَّ امْطُلينا
وهو من الأسماء اللازمة للإضافة، فلا يقطع عنها، ويضاف لكل شيء، وزعم بعضهم: أنه لا يضاف إلى الله تعالى.
قيل: كان هذا يوهم أنه لا يستعمل إلا شفي الانقطاع، وقد سمع إضافته للباري تعالى. قال الشاعر: [الوافر]
3285 - إذَا رَضِيَتْ عليَّ بَنُو قُشيْرٍ ... لعَمْرُ الله أعْجَبنِي رِضَاهَا
ومنع بعضهم إضافته إلى ياء المتكلِّم، قال لأنه حلف بحياة المقسم، وقد ورد ذلك، قال النابغة: [الطويل](11/478)
3286 - لعَمْرِي وما عمْرِي عليَّ بِهيِّنٍ ... لقد نَطقَتْ بُطلاً عليَّ الأقَارعُ
وقد قلبته العرب لتقديم رائه على لامه، فقالوا: وعملي، وهي رديئة.
«إنَّهُمْ» العامة على كسر «إنَّ» لوقوع اللام في خبرها، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي له «أنَّ» فتحها، وتخريجها على زيادة اللام، وهي كقراءة ابن جبيرٍ (ألا أنهم ليأكلون الطعام] بالفتح.
وقرأ الأعمش: «سَكْرهُمْ» بغير تاء، وابن أبي عبلة «سَكرَاتهِمِ» جمعاً، والأشهب: «سُكْرتِهِم» بضم السين.
و «يَعْمَهُونَ» حال إمَّا من الضمير المستكن في الجار، وإمَّا من الضمير المجرور بالإضافة، والعامل إمَّا نفس سكرة، لأنَّها مصدر، وإمَّا معنى الإضافة.
فصل
قيل: إن الملائكة عليهم السلام قالت للوطٍ صلوات الله وسلامه عليه «لعَمُركَ إنَّهم لَفِي سَكرتِهمْ يَعْمَهُونَ» : يتحيَّرون.
وقال قتادة: يلعبون فكيف يعقلون قولك ويتلفتون إلى نصيحتك؟ .
وقيل: إنَّ الخطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنَّه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحدٍ.
روى أبو الجوزاء عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال ما خلقَ الله نفساً أكرم على الله من محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وما أقْسمَ بحياةِ أحدٍ إلاَّ بحياتهِ.
قال ابن العربي: قال المفسرون بإجماعهم: أقسم الله تعالى ها هنا بحياةِ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(11/479)
تشريفاً له، أنَّ قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حريتهم يترددون، وقال القاضي عياضٌ: اتفق أهل التفسير في هذا: أنَّه قسم من الله تعالى بمدة حياة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصله ضمُّ العين من العمر، ولكنها فتحت بكثرة.
قال ابن العربي: ما الذي يمنعُ أن يقسم الله تعالى بحياة لوطٍ، ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكلُّ ما يعيطه الله للوطٍ من فضل، يعطي ضعفه لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّه أكرم على الله منه؛ أو لات تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلَّة، وموسى التكليم، وأعطلى ذلك لمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإذا أقسم بحياة لوطٍ، فحياة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرفعُ، ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكرٌ لغير ضرورةٍ.
قال القرطبيُّ: ما قاله حسنٌ، فإنَّه كان يكون قسمة سبحانه بحياة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كلاماً معترضاً في قصَّة لوط.
قال القشيريُّ: يحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوطٍ؛ أي كانوا في سكرتهم يعمهون، أي لمَّا وعظ لوطٌ قومه وقال: هؤلاء بناتي، قالت الملائكة: يا لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون، ولا يدرون ما يحلُّ بهم صباحاً.
فإن قيل: فقد أقسم الله تعالى بالتِّين، والزَّيتونِ، وطور سنين، وما في هذا من الفضل؟ قيل له: ما من شيء أقسم الله به، إلاّ وفي ذلك دلالة على فضل على ما يدخل في عداده، فكذلك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ثم قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} ، ولم يذكر في الآية صيحة من هي فإن ثبت بدليل قوي أن تلك صيحة جبريل قيل به وإلا فليس في الآية دليلٌ على أنه جاءتهم صيحة مهلكة.
قوله «مُشْرقينَ» «حال من مفعول» أخَذتْهُمْ «، أي داخلين في الشروق، أي: بزوغِ الشَّمسِ.
يقال: شَرَق الشارق يَشْرُق شُرُوقاً لكل ما طلع من جانب الشرع، ومنه قوله: ما ذرَّ شَارِقٌ، أي طلع طَالعٌ فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا وتمامه حين أشرقوا.
والضمير في:» عَاليهَا وسَافِلهَا «للمدينة. وقال الزمخشريُّ:» لقرى لقوم لوط «.
ورجح الأول بأنه تقدَّم ذكر المدينة في قوله {وَجَآءَ أَهْلُ المدينة} فعاد الضمير إليها بخلاف الثاني، فإنه لم يتقدَّم لفظ القرى.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} تقدم الكلام على ذلك كله في هود: [82] .
قوله {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} متعلق بمحذوف على أنه صفة ل» آيَاتٌ «وأجود أن يتعلق بنفس» آيَاتٌ «؛ لأنَّها بمعنى العلامات.(11/480)
والتوسُّم: تفعل من الوسم، والوسمُ أصله: التَّثبت، والتَّفكر مأخوذ من الوسمِ، وهو التَّأثير بحديد في جلد البعير، أو غيره.
وقال ثعلب: الوَاسِمُ النَّاظر إليك من [قرنك] إلى قدمك، وفيه معنى التَّثبيت.
وقال الزجاج: حقيقة المتوسِّمين في اللغة: المثبتون في نظرهم حتَّى يعرفوا سمة الشيء، وصفته وعلامته وهو استقصاءُ وجوه التَّعرف قال: [الكامل]
3287 - أوَ كُلما وردَتْ عُكاظَ قَبيلَةٌ ... بَعَثَتْ إليَّ عَريفَهَا يَتوسَّم
وقيل: هو تفعُّل من الوسمِ، وهو العلامة، توسَّمتُ فيك خيراً، أي: ظهر لي مِيسَمُهُ عليك.
قال ابن رواحة يمدحُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [البسيط]
3288 - إنِّي تَوسَّمْتُ فِيكَ الخَيرَ أعْرفهُ ... واللهُ يَعْلمُ أنِّي ثَابتُ البَصرِ
وقال آخر: [الطويل]
3289 - تَوسَّمْتهُ لمَّا رَأيْتُ مَهَابَةٌ ... عَليْهِ، وقُلْتُ المَرْءُ مِنْ آلِ هَاشمِ
ويقال: اتَّسمَ الرَّجلُ، إذا اتَّخذَ لِنفْسِه عَلامةً يُعرف بِهَا، وتوسَّم: إذا طلبَ كلأ الوسمي، أي: العُشْبَ النَّابت في أوَّل المطر.
واختلف المفسِّرون: فقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما للنَّاظرين.
وقال مجاهدٌ للمتفرِّسين، وقال قتادة للمعتبرين، وقال مقاتلٌ للمتفكرين.(11/481)
قوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} الظاهر عود الضمير على المدينة، أو القرى وقيل على الحجارة وقيل: على الآيات، والمعنى: بطريقٍ قال مجاهد هذا طريق معلم، وليس بخفيّ، ولا زائلٍ.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} ، إي: كل من آمن بالله، ويصدق بالأنبياء، والرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم؛ عرف أنَّما كان انتقامُ الله من الجُهَّال لأجل مخالفتهم، وأمَّا الذين لا يؤمنون؛ فيحملونه على حوادث [العالم] ، وحصول القرانات الكوكبية، والاتصالات الفلكية.(11/482)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
قوله تعالى: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ} «إنْ» هي المخففة، واللم فارقة وهي للتأكيد، وقد تقدَّم حكم ذلك [البقرة: 143] .
و «الأيْكَة» : الشَّجرة الملتفَّّة، واحدة الإيْكِ. قال: [الكامل]
3290 - تَجْلُو بِقَادمتَي حَمامَةِ أيْكَةٍ ... بَرَاداً أسِفَّ لِثاتهُ بالإثْمِدِ
ويقال: لَيْكَة، وسيأتي بيانه عند اختلاف القرَّاء فيه الشعراء: [176] إن شاء الله تعالى.
وأصحاب الأيكة: قوم شعيب كانوا أصحاب غياضٍ، وشجرٍ متلفٍّ.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: وكان عامة شجرهم الدوم، وهو المقل.
{فانتقمنا مِنْهُمْ} بالعذاب.
روي أنَّ الله تعالى سلَّط عليهم الحر سبعة أيَّام، مفبعث الله سبحانه سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الرَّوْحَ؛ فبعث الله عليهم ناراً، فأحرقتهم، فهو عذابُ يوم الظُّلة.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} في ضمير التثنية أقوال:
أرجحها: عوده على [قريتي] قوم لوطٍ، وأصحاب الأيكةِ، وهم: قوم شعيبٍ؛ لتقدُّمها ذكراً.(11/482)
وقيل: يعود على لوطٍ وشعيبٍ، [وشعيبٌ] لم يجر له ذكر، ولكن دلَّ عليه ذكر قومه.
وقيل: يعود على الخبرين: خبر هلاك قوم لوطٍ، وخبر إهلاك قوم شعيبٍ.
وقيل: يعود على أصحاب الأيكةِ، وأصحاب مدين؛ لأنه مرسلٌ إليهما، فذكر أحدهما يشعر بالأخرى.
وقوله جل ذكره {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} أي: بطريق واضح، والإمام [اسم لما] يؤتمُّ به.
قال الفراء، والزجاج: «إنَّما جعل الطَّريقُ إماماً؛ لأنه يؤمُّ، ويتبع» .
قال ابن قتيبة: لأنََّ المسافر يأتمُّ به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده.
وقوله: «مُبينٍ» يحتمل أنه مبين في سنفسه، ويحتمل أنه مبين لغيره، لأن الطريق تهدي إلى المقصد.(11/483)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
قوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين} . قال صاحبُ «ديوان الأدبِ» الحِجْر: بكسر الحاء المهملة، وتسكين الجيم له ستَّة معانٍ:
فالحِجْر: منازل ثمود، وهو المذكور هاهنا، والحِجْرُ: الأنثى من الخيل. والحِجْرُ: الكعهبة. والحِجْرُ: لغة في الحجرِ، هو واحد الحجور في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] والحِجْرِ: العَقْلُ، قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} [الفجر: 5] ، والحِجْرُ: الحرامُ في قوله تعالى: {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 53] أي: حراماً محرماً.
فصل
قال «المُرْسلينَ» ، وإنَّما كذبوا صالحاً وحده؛ لأنَّ من كذَّب نبيًّا؛ فقد كذَّب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ملأنهم على دين واحد ولا يجوز التَّفرييقُ بينهم.
وقيل: كذَّبُوا صالحاً، وقيل: كذَّبوا صالحاً ومن تقدمه من النَّبيين أيضاً، والله تعالى أعلم.
قال المفسرون: والحِجْرُ: اسم وادٍ كان يسكنه ثمود قوم صالحٍ، وهو بين المدينة، والشام، والمراد ب «المُرْسلينَ» صالحٌ وحده.(11/483)
قال ابن الخطيب: «ولعلَّ القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل» .
{وَآتَيْنَاهُمْ} يعني النَّاقة، وولدها، والبئر، والآيات في النَّاقة: خروجها من الصَّخرة، وعظم خلقها، وظهور نتاجها عند خروجها، وقُرب ولادتها، وغزارة لبنها، وأضاف الإيتاء إليهم، وإن كانت النَّاقة آية صالحٍ؛ لأنَّها آيات رسولهم، فكانوا عنها معضرين؛ فذلك يدلُّ على أنَّ النَّظر، والاستدلال واجب، وأنَّ التقليد مذموم.
{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} تقدَّم كيفيَّة النَّحت في الأعراف: [74] ، وقرأ الحسن، وأبو حيوة: بفتح الحاءِ.
«ءَامِنينَ» من عذاب الله.
وقيل: آمنين من الخرابِ، ووقوع السَّقف عليهم.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} ، أي: صيحة العذاب «مُصْبِحينَ» ، أي وقت الصُّبح.
قوله: «فَمَا أغْنَى» يجوز أني تكون نافية، أو استفهامية فيها [معنى] التعجب، وقوله: «مَا كَانُوا» يجوز أن تكون «مَا» مصدرية، أي: كسبهم، أو موصوفة، أو بمعنى «الَّذي» ، وةالعائد محذوف، أي: شيء يكسبونه، أو الذي يكسبونه.
فصل
وروى البخاري عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا نزل الحجر في غزوة تبوك، أمرهم ألاَّ يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقال واحدٌ: عَجَنَّا، وأسْتقَيْنَا، فأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يهريقوا ذلك الماء، وا، يطرحوا ذلك العجين» ، وفي رواية: «وأ، ْ يَعْلِفُوا الإبل العجِين» .
وفي هذا دليل على كراهة دخول تلك المواضع، وعلى كراهةِ دخول مقابر الكفار، وعلى تحريم الانتفاع بالماء المسخوط عليه؛ لأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمرهم بإهراقه وطرح العجين، وهكذا حكم الماء النَّجسِ، ويدلُّ على أنَّ ما لا يجوز استعماله من الطعام، والشراب، يجز أن يعلفه البهائم.
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} الآية. لما ذكر أهلاك الكفَّار، فكأنه قيل: كيف يليق الإهلاك بالرحيم؟ .
فأجاب: بأني ما خلقت الخلق إلا ليشتغلوا بعبادي، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فإذا تركوها، وأعرضوا عنها؛ وجب في الحكمة إهلاكهم، وتظهير وجه الأرض منهم.(11/484)
وهذا النَّظم حسنٌ، إلا أنَّه إنما يستقيمُ على قوله المعتزلة، وفي النظم وجه آخر: وهو أنه تعالى إنَّما هذه القصَّة تسلية لنبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن يصبره على سفاهة قومه، فإنه إذا سمع [أنَّ] الأمم السَّالفة كانوا يعاملون بمثل هذه المعاملات؛ سهُل تحمُّل تلك السَّفاهات على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم: إنَّه تعالى لما بيَّن أنه أنزل العذاب على الأمم السَّالفة، قال لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ السَّاعةَ لآتيِةٌ» ، وإنَّ الله لينتقم لك من أعدائك، ويجازيهم، وإيَّاك، فإنه ما خلق السماوات، والأرض، وما بينهما إلا بالحق، والعدل والإنصاف، فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك؟ .
ثم إنَّه تعالى لما صبَّره على أذى قومه، رغَّبة بعد ذلك في الصَّفح عنهم، فقال: {فاصفح الصفح الجميل} .
قوله:: إلاَّ بالحقِّ «نعت لمصدر محذوف، أي: ملتسبة بالحقِّ.
قال المفسِّرون: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وهو بعيد؛ لأنَّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن، والعفوا، والصفح، فكيف يصير منسوخاً؟ .
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم} ، أي خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم، وتفاوت أحوالهم، مع علمه بكونهم كذلك وإذا كان كذلك، فإنَّما خلقهم مع هذا التَّفاوت، ومع العلم بذلك التَّفاوت، أمَّا على قول أهل السنة فلمخض مشيئته، وإرادته، وعلى قول المعتزلة: لأجل المصلحة، والحكمة.
وقرأ زيد بن علي، والجحدري:» إنَّ ربَّك هُو الخَالِقُ «، وكذا هي في مصحف أبيّ وعثمان.(11/485)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني} يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات، وأن يكون سبعاً من السُّورِ، وأن يكون سبعاً من الفوائد، وليس في اللفظ ما يدلُّ على التَّعيين.(11/485)
والثاني: صيغة جمع، واحدة مثناةُ، والمثناةُ: كل شيءٍ يُثَنَّى، وأي: يجعل اثنين من قولك: ثَنَيْت الشَّيء ثَنْياً، أي: عَطفْتهُ، أو ضممت إليه آخر، ومنه يقال لرُكْبتَي الدَّابة ومِرْفقَيْهَا مثانِي؛ لأنها تثنى بالفخذ، والعضد؛ ومثاني الوادي معاطفه.
وإذا عرف هذا، فقوله: {سَبْعاً مِّنَ المثاني} مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى، وهذا القدر مجملٌ، ولا سبيل إلى تعيينه، إلا بدليلٍ منفصلٍ، وللنَّاس فيه أقوال:
أحدها: قال عمرُ، وعليٌّ، وابن مسعودٍ، وأبو هريرة، والحسن، وأبو العالية، ومجاهدٌ والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: إنه فاتحة الكتاب.
روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ فاتحة الكتاب، وقال:» هِيَ السَّبْعُ المَثانِي «.
وإنَّما سمِّيت بالسَّبع؛ لأنها سبعُ آياتٍ، وفي تمسيتها بالمثاني وجوه:
أولها: قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما والحسن، وقتادة لا، ها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كلِّ ركعةٍ.
ثانيها: قال الزجاج: لأنَّها تثنى مع ما يقرأ معها.
وثالثها: لأنها قسمت قسمين: نصفها ثناءُ، ونصفها دعاءٌ، كما ورد في الحديث المشهور.
ورابعها: قال الحسين بن الفضل: لأنَّها نزلت مرَّتين، مرة بمكَّة، ومرة بالمدينة.
وخامسها: لأنَّ كلماتها مثناة، مثل: {الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 37] .
وفي قراءة عمر: (غير المغضوب عليهم وغير الضالين) .
نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنَّه قال: كان ابن مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب؛ رأى أنَّها ليست من القرآن.
قال ابن الخطيب:» لعلَّ حجَّته أنه عطف السَّبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه؛ فوجب أن تكون غير القرآن العظيم «، ويشكل هذا بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] ، وكذلك قوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] .(11/486)
وللخَصْم أن يجيب بأنه يجوز أن يذكر الكلَّ، ثمَّ يعطف عليه ذكر بعض أقسامه لكونه أشرف الأقسام، وأمَّا إذا ذكر شيءٌ ِآخر كان المذكور أولاً مغايراً للمذكور ثانياً، وها هنا ذكر سبع المثاني. ثم عطف عليه القرآن فوجب التغاير.
ويجاب عليه: بأنَّ بعض الشَّيء مغاير لمجموعه، فلم لا يكفكي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف؟ .
واعلم أنَّه لمَّا كان المراد بالسَّبع المثاني هو الفاتحة؛ دلَّ على أنَّها أفضل سور القرآن، لأن إفرادها بالذِّكر مع كونها جزءاً من القرآن؛ يدلُّ على مزيد اختاصها بالفضلية، وأيضاً: لما أنزلها مرَّتين دلَّ ذلك على أفضليتها، وشرفها، ولما واظب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على قرءاتها في جميع الصلوات طول عمره، وما أقام [سورة أخرى] مقامها في شيءٍ من الصلوات، دل على على وجوب قراءتها، وألاَّ يقوم شيء من القرآن مقامها.
القول الثاني: السَّبع المثاني: هي السبع الطوال، قاله ابن عمر، وسعيد بن جبيرٍ في بعض الروايات عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وإنما سميت السبع الطوال مثاني؛ لأنَّ الفرائض، والحدود، والأمثال والخبر، والعبر ثنيت فيها.
وأنكر الربيع هذا القول، وقال: الآيةُ مكية، وأكثر هذه السورة مدنيَّة، وما نزل منها من شيءٌ في مكَّة، فكيف تحمل هذه الآية عليها؟ .
وأجاب قومٌ عن هذا بأنه تعالى جلَّ ذكره أنزل القرآن كلَّه إلى سماءِ الدنيا، ثم أنزل على نبيه منه نجوماً، فلمَّا أنزله إلى سماءِ الدُّنيا، وحكم بإنزاله عليه فهو جملة من آتاه، وإن لم ينزل عليه بعدُ.
وفي هذا الجواب نظرٌ، فإن قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني} ذكره في [معرض] الامتنان، وهذا الكلامُ إنَّما يصدق، إذا وصل ذلك إلى محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه فأمَّا ما لم يصله بعد، فلا يصدق ذلك عليه.
وأما قوله: إنه لما حكم بإنزاله على محمد، كان ذلك جارياً مجرى ما نزل عليه، فضعيف؛ لأنَّ إقامة مالم ينزل عليه مقام النَّازل عليه مخالف للظَّاهرِ.
القول الثالث: أنَّ السَّبع المثاني: هون القرآن، وهو منقولٌ عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ(11/487)
عَنْه في بعض الروايات، وهوق ول طاوس رضي الكله عنه لقوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ} [الزمر: 23] فوصف كلَّ القرآن بكونه مثاني؛ لأنه كرَّر فيه دلائل التَّوحيدِ، والنبوَّة، والتَّكاليف.
قالوا: وهو ضعيف؛ لأنه لو كان المراد بالسَّبع المثاني القرآن لكان قوله: {والقرآن العظيم} ، عطفاً على نفسه، وذلك غير جائزٍ.
وأجيب عنه: بأنه إنَّما حسن العطف فيه لاختلاف اللفظين؛ كقول الشاعر:
3291 - إلى المْلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ... وليْثِ الكَتِيبَةِ في المُزدحَم
واعلم أن هذا، وإن كان جائزاً إلا أنَّهم أجمعوا على أن الأصل خلافه.
القول الرابع: أنه يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة، وبالمثاني كل القرآن، ويكون التقدير: ولقد آتيناك سبع آياتٍ هي الفاتحة، وفي من جملة المثاني الذي هو القرآن، وهذا عين الأول.
و «مِن» في قوله: «مِنَ المثَانِي» .
قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون للتبعيض من القرآن، أي: ولقد آتيناك سبع آياتٍ من جملة الآيات التي يثنى بها على الله، وآتيناك القرآن العظيم.
ويجوز أن تكون «مِن» صفة، والمعنى: أتيناك سبعاً هي المثاني، كقوله تعالى:
{فاجتنبوا
الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ، أي اجتنبوا الأوثان؛ لان بعضها رجس.
قوله: «والقرآن» فيه أوجه:
أحدها: أنه من عطف بعض الصفات على بعض، أي: الجامع بين هذه النعتين.
الثاني: أنه من عطف العام على الخاص، إذ المراد بالسَّبع: إمَّا الفاتحة، أو الطوال، فكأنه ذكر مرتين بجهة الخصوص، ثم باندراجه في العموم.
الثالث: أنَّ الواو مقحمة، وقرىء «وَالقُرآنِ» بالجر عطفاً على: «المَثَانِي» .
قوله تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا} الآية لما عرف رسوله عظيم نعمه عليه فما يتعلق بالدِّين، وهو أنه تعالى آتاه سبعاً من المثاني، والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ، أي لا تشتغل سرك، وخاطرك بالالتفات إلى الدينا، وقد أوتيت القرآن العظيم.
قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «مَنْ أوتِي القرآن فرَأى أنَّ أحَداً أوتِي مِنَ الدنيَا أفضل(11/488)
ممَّا أوتِي، فقَد صَغَّرَ عَظِيماً وعَظَّمَ صَغِيراً» . وتأوَّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ليْسَ مِنَّا من لمْ يتغنَّ بالقُرآنِ» أي لم يستغن.
وقال ابن [عبَّاسٍ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» ، أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدُّنيا.
وقرَّر الواحديُّ هذا المعنى فقال: «إنَّما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء، إذا أدام النَّظر نحوه، وإدامةٌ النَّظر إلى الشَّيء تدلُّ على استحسانه، وتمنِّيه، وكان النبي صلى لله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا» .
وروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نظر إلى نَعَم بَنِي المُصطلقِ، وقد [عَبِسَتْ] في أبْوالِهَا، وأبْعارِهَا؛ فَتٌنَّعَ في ثَوْبهِ؛ وقَرأ هذِه الآية» .
قوله: «عَبِستْ في أبْوالِهَا وأبْعَارِهَا» هون أن تجف أبعارها، وأبوالها على أفخاذها، إذا تركت من العمل أيَّام الربيع؛ فيكثر شحومها، ولحومها، وهي أحسن ما تكون.
قوله: {أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} .
قال ابن قتيبة: أي أصنافاً من الكُفَّار، والزَّوْجُ في اللغة: الصِّنف {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ؛ لأنهم لم يؤمنوا لم يؤمنوا، فيتقوى بإسلامهم، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
الخفض: معناه في اللغة: نقيض الرفع، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} [الواقعة: 3] ، أي: أنَّها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطَّاعة، وجناح الإنسان: يدهُ.
قال الليثُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يد الإنسان: جناحه، قال تعالى: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} [القصص: 32] ، وخفض الجناح كناية عن اللِّين، والرّفقِ، والتَّواضع، والمقصود: أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، وأمره بالتَّواضع لفقراءِ المؤمنين [ونظيره] {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] ، وقوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
قوله: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} لما أمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالزُّهدِ في الدنيا، وخفض الجناح للمؤمنين، أمره أن يقول للقوم: {أَنَا النذير المبين} ، وهذا يدخل تحته كونه مبلغاً لجميع التَّكاليف، وكونه [شارحاً لمراتب] الثَّواب والعقاب، والجنَّة والنَّار،(11/489)
ومعنى «المَبِين» الآتي بجميع البيِّنات الوافية.
قوله
: {الذين
جَعَلُواْ
القرآن
عِضِينَ
} فيه أقوال:
أحدها: أنََّ الكاف [تتعلق] ب «آتَيْنَاكَ» ، وإليه ذهب الزمشخريُّ فإنه قال: «أنزلنا عليك» ، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} .
الثاني: أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب «آتَيْنَاكَ» تقديره: آتيناك إتياناً كما أنزلنا.
الثالث: أنه منصوب نعت لمصدر محذوف، ولكنَّه ملاق ل «آتيْنَاكَ» ومن حيث المعنى لا من حيث اللفظ، تقديره: أنزلنا إليك إنزالاً كما أنزلنا؛ لأنَّ «آتَيْنَاكَ» بمعنى أنزلنا إليك.
الرابع: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، والعامل فيه مقدَّر أيضاً، وتقديره: ومتعناهم تمتيعاً كما أنزلنا، والمعنى: نعمنا بعضهم كما عذَّبنا بعضهم. الخامس: أنه صفة لمصدر دلَّ عليه التقدير، والتقدير: أنا النَّذير إنذاراً كما أنزلنا، أي: مثل ما أنزلنا.
السادس: أنه نعتٌ لمفعول محذوف، النَّاصب له: «النَّذيرُ» ، تقديره: النَّذيرُ عذاباً {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} وهم قوم صالح؛ لأنهم قالوا: «لنُبَيتنَّه» وأقسموا على ذلك، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحرٍ، وشعرٍ، وافتراءٍ.
وقد ردَّ بعضهم هذا: بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفاً، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين، فلو عمل ثمًَّ وصف جاز عند الجمعي.
السابع: أنَّه مفعول به ناصبه: «النَّذيرُ» أيضاً.
قال الزمخشريُّ: «والثاني: أن يتعلق بقوله: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} ، أي: وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين، يعني اليهود، وما جرى على بني قريظة، والنضيرِ» .
وهذا مدرودٌ بما تقدَّم من إعمال الوصف موصوفاً.
قال ابن الخطيب: وهذا الوجه لا يتمُّ إلاَّ بأحد أمرين: إمَّا التزامُ إضمارٍ، ِأو التزام حذفٍ.
أمَّا الإضمار فهو أن يكون التقدير: إني أنا النذير [المبين] عذاباً، كما أنزلنا على المقتسمين، وعلى هذا الوجه: المفعول محذوف، وهو المشبه، ودلَّ عليه المشبه به، كما(11/490)
تقول: رأيت كالقمر في الحسن، أي: رأيت إنساناً كالقمرِ في الحسن، وأمَّا الحذف، فهو أن يقال: الكاف زائدة محذوفة، والتقدير: إني أنا النذير [المبين ما] أنزلناه على المقتسمين، وزيادة الكاف له نظير، وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .
الثامن: أنه منصوب نعتاً لمفعولٍ به مقدرب، والناصب لذلك المحذوف مقدرٌ أيضاً لدلالة لفظ «النَّذِير» عليه، أي: أنذركم عذاباً مثل العذاب المنزَّل على المقتسمين، وهنم قوم صالحٍ، أو قريش، قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ وكأنه فرَّ من كونه منصوباً بلفظ «النَّذير» كما تقدَّم من الاعتراض البصريّ.
وقد ردَّ ابن عطية على القول السادس بقوله: والكاف في قوله: «كَمَا» متعلقة بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: وقل إنِّي أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلنا، فالكاف: اسم في موضعِ نصبٍ، هذا قول المفسِّرين.
وهو غير صحيح؛ لأنَّ: «كما أنزلنا» ليس ممَّا يقوله محمد صلوات الله وسلامه عليه بل هو من كلام الله تعالى فيفصل الكلام، وإنَّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله تعالى قال له: أنذر عذاباً كما.
والذي أقول في هذا المعنى: «وقل إنّي أنا النذيرُ المبين كما قال قلبك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك» .
ويحتمل أن يكون المعنى: وقل: إنِّي أنا النذيرُ المبينُ، كما قد أنزلنا في الكتب أنَّك ستأتي نذيراً على أن المقتسمين، هم أهل الكتاب، وقد اعتذر بعضهم عمَّا قاله أبو محمد فقال: الكاف متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى، تقديره: أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا، وإن كان المنزل الله، كما تقول بعض خواصِّ الملكِ: أ/رنا بكذا، وإن كان الملك هو الآمرُ.
وأما قول أبي محمدٍ: «وأنزلنا عليهم، كما أنزلنا عليك» ؛ كلامٌ غير منتظم، ولعلَّ أصله: وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم:، كذا أصلحه أبو حيان. وفيه نظر، كيف يقدر ذلك، والقرآن ناطق بخلافه، وهو قوله: {عَلَى المقتسمين} .
التاسع: أنه متعلق بقوله: «لنَسَألنَّهُمْ» تقديره: لنسألنَّهم أجمعين، مثل ما أنزلنا.
العاشر: أنَّ الكاف مزيدة، تقديره: أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين.
ولا بد من تأويل ذلك على أنَّ «ما» معفولٌ ب «النذير» عند الكوفيين، فإنَّهم يعملون الوصف للموصوف، أو على إضمار فعل لائقٍ أي: أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين.(11/491)
الحادي عشر: أنه متعلق ب «قل» ، التقدير: وقيل قولاً كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم، فالقول للمؤمنين في النَّذارةِ كالقول للكفَّار المقتسمين؛ لئلا يظنُّوا أنَّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة، تنذر المؤمن، كما تنذر الكافر، كأنه قال: أنا النذيرُ لكم، ولغيركم.
فصل
قال ابن عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المقتسمون: هم الَّذين اقتسموا طرق مكَّة يصدُّون النَّاس عن الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقرب عددهم من أربعين.
وقال مقاتل بن سليمان رَحِمَهُ اللَّهُ: كانوا ستَّة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيَّام الموسم، فاقتسموا شعاب مكَّة، وطرقها يقولون لمن سلكها: لا تغتروا بالخارج منَّا، والمدعي للنبوَّة، فإنه مجنونٌ، وكانوا ينفِّرُونَ النَّاس عنه بأنه ساحرٌ، أو كاهنٌ، أو شاعرٌ، فطائفة منهم تقول: ساحرٌ،، وطائفة تقول: إنه كاهنٌ، وطائفة تقول: إنه شاعرٌ، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ بهم خزياً؛ فماتوا أشدَّ ميتة.
وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنهم اليهود، والنصارى {جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} جزءوه أجزاء، فآمنوا بما وافق التَّوراة، وكفروا بالباقي.
وقال مجاهد: قسموا كتاب الله تعالى ففرقوه، وبدلوه.
وقيل: قسَّموا القرآن، وقال بعضهم: سحر، وقال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: كذبٌ، وقال بعضهم: ِأساطير الأولين.
وقيل: الاقتسام هو أنهم فرَّقوا القول في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال بعضهم: شاعرٌ، وقال بعضهم: كاهنٌ.
قوله: {الذين جَعَلُواْ} فيه أوجه:
أظهرها: أنه نعت ل «المٌقْتَسمِينَ» .
الثاني: أنه بدلٌ منه.
الثالث: أنه بيانٌ.(11/492)
الرابع: أنه منصوبٌ على الذَّمِّ.
الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمرٍ.
السادس: أنه منصوب ب «النَّذيرُ المبِينُ» كما قاله الزمخشريُّ.
وهو مردود بإعمال الوصف بالموصوف عند البصريين كما تقدَّم.
و «عِضِينَ» جمع عِضَة، وهي الفرقة، والعِضِين: الفِرَق، وتقدم معنى جعله القرآن كذلك، ومعنى العِضَة: السِّحر بلغة قريش، يقولون: هو عَاضهُ، وهي عَاضِهَة، قال: [المتقارب]
3292 - أعُودذُ بِربِّي مِنَ النِّافِثَاتِ ... في عٌقَدِ العَاضِهِ المُعْضهِ
وفي الحديث: «لَعنَ اللهُ العَاضِهةً والمُسْتعضِهَة» ، أي السَّاحربة، والمسُتسْحِرَة وقيل: هو من العضه، وهو: الكذب، والبهتان، يقال: عَضَهُ عَضْهَاً، وعضيهةً، أي: رماه بالهتان، وهذا قول الكسائي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
وقيل: هو من العِضَاه، وهو شجر له شوكٌ مؤذٍ، قاله الفرَّاء.
وفي لام «عِضَة» قولان يشهد لكلِّ منهنما التصريف:
الاول: الواو، لقولهم: عِضَوات، وعَاضَة، وعَاضِهَة، وعِضَة، وفي الحديث «لا تَعْضِية في مِيراثٍ» ، وفسِّر: بأ، لا تفريق فيما يضر بالورثة تفريقه كسيفٍ يكسر نصفين فينقص ثمنه.
وقال الزمخشريُّ: «عِضِينَ» : أجزاء، جمع عِضَة، وأصلها عِضْوَة، فعلة من عضَّى الشاة، إذا جعلها أعضاءِ؛ قال: [الزاجر]
3293 - وليْسَ دِينُ اللهِ بالمُعَضَّى ... وجمع «عِضَة» على «عِضِين» ، كما جمع سنة، وثبة، وظبة وبعضهم يجري النون بالحركات مع التاء، وقد تقدم تقرير ذلك، وحينئذ تثبت نوه في الإضافة، فيقال: هذه عضينك.
وقيل: واحد العِضِين: عِضَةٌ، وأصلها: عِضْهَةٌ، فاستثقلوا الجمع بين هاتين،(11/493)
فقالوا: عِضَةٌ، كما قالوا: شَفَةٌ، والأصل: شَفْهَةٌ، بدليل قولهم: شافهنا.
قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يحتمل أن يعود الضمير إلى المقتسمين؛ لأن الأقرب، ويحتمل أن يعود إلى جميع المكلفين، لأنَّ ذكرهم تقدَّم في قوله تعالى: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} أي: لجميع [الخلائق] .
{عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال القرطبي: في البخاري: قال عدَّة من أهل العلم في وقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} عن لا إله إلا الله.
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وبين قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ}
[الرحمن: 39] .
فأجابوا بوجوه:
أولها: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لا يسألون سؤال استفهامٍ؛ لأنه تعالى عالم بكلِّ أعمالهم، بل سؤال تقريع، فيقال لهم: لم فعلتم كذا؟ .
وهذا ضعيد؛ لأنه لو كان المراد من قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ} [الرحمن: 39] سؤال استفهام، لما كان في تخصيص هذا النفي بقولهم «يَومئِذٍ» فائدة؛ لأنَّ مثل هذا السؤال على الله محالٌ في كلِّ الأوقات.
وثانيها: أنه يصرف للنفي إلى بعض الأوقات، والإثبات إلى وقت آخر؛ لأنَّ يوم القيامة، يوم طويل، وفيه مواقف يسألون في بعضها، ولا يسألون في بعضها، قاله عكرمة عن ابن عباس ونظيره قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35] ، وقال في آية أخرى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] .
ولقائلٍ ِأن يقوله: قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ} [الرحمن: 39] الآية: تصريحٌ بأنه لايحصل السؤال في ذلك اليوم، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء اليوم، لحصل التَّناقض.
وثالثها: أن قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ} [الرحمن: 39] تفيد الآية النَّفي، وفي قوله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} يعود إلى المقتسمين، وهذا خاص فيقدم على العام.
قوله: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} أصل الصَّدع: الشَّقُّ، صدعته فانصدع، أي: شَقَقتهُ، فانْشَقّ.
قال ابن السكِّيت: الصَّدعُ في اللغة: الشَّقٌّ، والفصل؛ وانشد لجرير: [البسيط]
3294 - هذَا الخَليفَةُ فارضَوْا ما قَضَى لَكُمُ ... بالحَقِّ يَصْدعُ ما فِي قَولهِ جَنَفُ(11/494)
ومنه التفرقة أيضاً؛ كقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] وقال: [الوافر]
3295 - ... ... ... ... ... ... ... ... كَأنَّ بَياضَ غُرَّتهِ صَدِيعُ
والصَّديعُ: ضوءُ الفجر لانشقاقِ الظُّلمةِ عنه، يقال: انْصدعَ، وانْفلقَ، وانْفجرَ، وانْفطرَ الصُّبحُ، ومعنى «فَاصدَعْ» فرق بني الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما.
وقال الراغب: الصَّدعُ: الشقُّ في الأجسام الصَّلبةِ كالزجاج، والحديد، وصدّعته بالتشديد، فتصدع وصَدعتهُ بالتخفيف، فانْصَدعَ، وصَدْعُ الرأس لتوهُّم الانشقاق فيه، وصدع الفلاة، أي: قطعها، من ذلك، كأنَّه تونهم تفريقها.
ومعنى «فاصْدَعُ» اقل ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أظهر.
وقال الضحاك: أعلم. وقال الأخفش: فرِّق بين الحقِّ والباطل، وقال سيبويه: اقْضِ.
و «مَا» في قوله «بِمَا تُؤمَرُ» مصدرية، أو بمعنى الذي، والأصل تؤمر به، وهذا الفعل يطرد حذف الجار معه، فحذف العائد فيصح، وليس هو كقولك: جَاءَ الذي مررتُ، ونحوه: [البسيط]
3296 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
والأصل: بالخَيْرِ.
وقال الزمخشريُّ: «ويجوز أن تكون» مَا «مصدرية، أي: بأمرك مصدر مبنيّ للمعفول» انتهى.
وهو كلامٌ صحيحٌ، والمعنى: فاصدع بأمرك، وشأنك.
قالوا: وما زال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مستخفياً حتى نزلت هذه الآية.
ونقل أبو حيَّان عنه أنه قال: ويجوز أن يكون المصدر يراد به «أنْ» ، والفعل المبني للمفعول.
ثم قال أبو حيان: «والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز» . قال شهابُ الدين: الخلاف إنَّما هو في المصدر، والمصرح به هل يجوز أن ينحل بحرف مصدري، وفعل مبني للمفعول أم لا يجوز.
خلاف المشهور، أمَّا أنَّ الحرف المصدري هل يجوز فيه أن يوصل بعفلٍ مبني للمفعولٍ، نحو: يعجبني أن يكرم عمرو أم لا يجوز؟ فليس محل النِّزاع.(11/495)
ثم قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} ، أي لا تبال عنهم، ولا تلتفت إلى لومهم إيَّاك على إظهار الدَّعوة.
قال بعضهم: هذا منسوخٌ بآية القتال، وهو ضعيف؛ لأنَّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة، فلا يكون منسوخاً.
قوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين} يقول الله لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} ، ولا تخف أحداً غير الله، فإن الله كافيك ِأعداءك كما كفاك المستهزيئن، وهم خمسة نفرٍ من رؤساء قريش: الوليد بن المغيرة المخزوميُّ، وكان رأسهم، والعاص بن وائلٍ [السهمي] ، والأسود بن عبد المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى أبو زمعة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد دعا عليه، فقال: «اللَّهُمَّ أعْمِ بصَرهُ، وأثْكلهُ بِولَدهِ» ، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد منافٍ بن زهرة، والحررث بن قيس بن الطلالة؛ فأتى جبريل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمستهزءون يطوفون بالبيت، فقام جبريل صلوات الله وسلامه عليه وقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى جنبه، فمرّ به الوليد بن المغعيرة، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد: كيف تجدُ هذا؟ قال: «بئس عبد الله» قال: قد كَفَيْتُكَه، وأؤْمَأ إلى ساق الوليد، فمرَّ برجلِ من خزاعة نبَّال يَرِيشُ نَبْلاً، وعليه برد يمان، وهو يهز إزاره، فتعلَّقت شظية نبلٍ بإزاره، فمنعه الكبرُ أن يتطامن، فينزعها، وجعلت تضربُ ساقه؛ فخدشته فمرض منها حتَّى مات. ومرَّ به العاس بن وائلٍ، فقال جبريلُ: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال: بِئْسَ عبد الله، فأشار جبريل عليه السلام إلى أخْمَصِ رجليه، وقال: قد كفيتكه، فخرج على راحلته، ومعه ابنان له يتنزَّه؛ فنزل شِعْباً من تلك الشِّعاب، فوطىء على شبرقة، فدخلت شوكة في أخمص رجله، فقال: لُدِغْتُ لُدِغْتُ؛ فطلبوا، فلم يجدوا شيئاً، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه.
ومرّ به مربد بن الأسود بن المطلب، فقال جبريل: كيف تجدُ هذا يا محمَّد؟ قال: «عَبْدُ سوءٍ» ، فأشار بيده إلى عينيه، وقال: قد كَفَيْتُكَهُ، فعمي.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: رماه جبريل بورقةٍ خضراء؛ فذهب بصره، ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتَّى هلك، ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث، فقال جبريل عليه السلام: كَيْفَ تَجِدُ هذا يا محمد؟ قال: بئس عبد الله على أنه [ابن] خالي، فقال جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: قد كفيتكه فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات، ومرَّ به الحارث بن قيسٍ، فقال جبريل عليه السلام كيف تجد هذا يا محمَّد؟ صلوات الله وسلامه عليك، قال: عَبدُ سُوءٍ فأومأ، فامتخط قيحاً؛ فمات.
قيل: استهزاؤهم، وااقتسامهم أنَّ الله تعالى لمّا أنزل في القرآنِ سورة البقرةِ،(11/496)
وسورة النحل، وسورة العنكبوت، كانوا يجتمعون، ويقولون استهزاء، يقول هذا إلى سورة البقرة، ويقول هذا إلى سورة النحل، ويقول هذا إلى سورة العنكبوت فأنزل الله تعالى: {نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} .
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: فصلّ بأمر ربك: «وكُنْ مِنَ السَّاجدِينَ» المصلين [المتواضعين] .
قال بان العربي «ظنَّ بعضه الناس أنَّش المراد هنا بالسجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس ظهره الله تعالى يسجدُ في هذا الموضع، وسجدت معه فيها، ولم يره [جماهير] العلماء» .
قال [القرطبي] ، وقد ذكر أبو بكر النقاش أنَّ ههنا سجدة عند أبي حذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ويمان بن رئاب، ورأى أنها واجبة، قال العلماء: إذا أنزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى [الطاعات] وروي أن رسول الله صلى لله عليه وسلم «كَانَ إذا حَزبه أمْرٌ فَزع إلى الصَّلاةِ» .
{واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد الموت؛ لأنه أمر متيقن.
فإن قيل: فأيُّ فائدة لهذا التَّوقيت مع أنَّ كلَّ واجد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟ .
فالجواب: المراد: «واعبد ربَّك» في جميع زمان حياتك، ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة.
روى أبيُّ بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة الحِجْرِ كان لَهُ مِنَ الأجْرِ عَشْرُ حَسناتٍ بِعدَدِ المُهَاجرِينَ والأنصَارِ والمُسْتَهزِئينَ بمُحمَّدٍ» صلى الله عليه وسلّم وشرَّف، وبجَّل، ومجَّد، وعظَّم.(11/497)
سورة النحل(12/3)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
مكية إلا قوله - سبحانه وتعالى - {وإن عاقبتم} [الآية: 126] إلى آخر السورة وحكى الأصم رحمه الله عن بعضهم أنها كلها مدنية. وقال آخرون: من أولها إلى قوله {كن فيكون} مدني، وما سواه فمكي، وعن قتادة: بالعكس، وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من النعم على عباده. وهي مائة وثمانية وعشرون آية، وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة، وعدد حروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {أتى أَمْرُ الله} في «أتَى» وجهان:
أشهرهما: أنه ماضٍ لفظاً مستقبل معنى، إذ المراد به يوم القيامة، وإنَّما أبرز في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به.
والثاني: أنَّه على بابه.
والمراد به مقدماته وأوائله، وهو نصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: جاء أمر الله ودنا وقرب.
وقال ابن عرفة: «تقول العرب: أتاك الأمرُ وهو متوقَّع بعد أي: أتى امر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً» .
وقال قومٌ: المراد بالأمر ههنا عقوبة المكذِّبين والعذاب بالسيف وذلك أنَّ النَّصر بن الحارث قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية، وقتل النضر يوم بدر صبراً.(12/3)
وقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: قوله تعالى: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] قال الكفار بعضهم لبعض: إنَّ هذا يزعمُ أنَّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتَّى [ننظر] ما هو كائن، فلما لم ينزل، قالوا: ما نرى شيئاً، [فنزل قوله تعالى] {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] فأشفقوا، فلما امتدَّت الأيام، قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به، فنزل قوله تعالى {أتى أَمْرُ الله} فوثب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورفع الناس رءوسهم وظنُّوا أنها قد أتت حقيقة، فنزل قوله {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فاطمأنُّوا.
والاستعجال: طلب الشيء قبل حينه. واعلم أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - لمَّا كثر تهديده بعذاب الدنيا والآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب فأجابهم الله - تعالى - بقوله {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} وتقرير هذا الجواب من وجهين:
أحدهما: أنه وإن لم يأتِ العذاب ذلك الوقت إلاَّ أنه واجب الوقوعِ، والشيءُ إذا كان بهذه الحالة والصِّفة فإنه يقال في الكلام المعتاد: إنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع، يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها جاء الفوت.
والثاني: أن يقال: إنَّ أمر الله بذلك وحكمه قد أتى وحصل ووقع، فأمَّا المحكوم به فإنَّما لم يقع، لأنَّ الله - تعالى - حكم بوقوعه في وقتٍ معينٍ فلا يخرج إلى الوجود قبل مجيء ذلك الوقت، والمعنى: أن أمر الله وحكمه بنزولِ العذاب قد وجد من الأزلِ إلى الأبدِ إلاَّ أنَّ المحكومَ إنَّما لم يحصل، لأنَّه - تعالى - خصَّص حصوله بوقتٍ معيَّنٍ {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} قبل وقته، فكأنَّ الكفار قالوا: سلَّمنا لك يا محمد صحة ما تقول: من أنَّه - تعالى - حكم بإنزال العذاب علينا إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة، إلاَّ أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله فنتخلص من العذاب المحكوم به فأجابهم الله - تعالى - بقوله {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} يجوز أن تكون «ما» مصدرية فلا عائد لها عند الجمهور أي: عن إشراكهم به غيره، وأن تكون موصولة اسمية.
وقرأ العامة {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين وقرأ ابن جبير بالياء من تحت عائداً على الكفار أو على المؤمنين.
وقرأ الأخوان «تُشْرِكُونَ» بتاء الخطاب جرياُ على الخطاب في «تَسْتَعْجِلُوهُ»(12/4)
والباقون بالياء عوداً على الكفار، وقرأ الأعمش وطلحة والجحدري وجم غفير بالتاء من فوق في الفعلين.
قوله {يُنَزِّلُ الملاائكة} قد تقدم الخلاف في «يُنَزِّلُ» بالنسبة إلى التشديد والتخفيف في البقرة.
وقرأ زيد بن عليٍّ والأعمش وأبو بكر عن عاصم «تُنَزَّلُ» [مشدداً] مبنيًّا للمفعول وبالتاء من فوق. «المَلائِكَةُ» رفعاً لقيامه مقام الفاعل، وقرأ الجحدري: كذلك إلا أنه خفَّف الزَّاي.
وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو العالية - رحمهم الله - عن عاصم بتاء واحدة من فوق، وتشديد الزاي مبنياً للفاعل، والأصل تتنزل بتاءين.
وقرأ ابن أبي عبلة: «نُنَزِّلُ» بنونين وتشديد الزَّاي «المَلائِكةَ» نصباً، وقتادة كذلك إلاَّ أنَّه بالتخفيف.
قال ابن عطية: «وفيهما شذوذٌ كبيرٌ» ولم يبين وجه ذلك.
ووجهه أنَّ ما قبله وما بعده ضمير غائبٌ، وتخريجه على الالتفات.
قوله: «بِالرُّوحِ» يجوز أن يكون متعلقاً بنفس الإنزالِ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الملائكة، أي: ومعهم الروحُ.
قوله «مِنْ أمْرهِ» حال من الروح، و «مِنْ» إمَّا لبيانِ الجنس، وإما للتبعيض.
قوله «أنْ أنْذِرُوا» في «أنْ» ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها المفسرة؛ لأن الوحي فيه ضرب من [القول] ، والإنزال بالروح عبارةٌ عن الوحي؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وقال: {يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] .
الثاني: أنها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، تقديره: أنَّ الشأن أقول لكم: أنه لا إله إلا أنا، قاله الزمخشري.
الثالث: أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع، ووصلت بالأمر؛ كقولهم: كتبت إليه بأن قُمْ، وتقدم البحث فيه.(12/5)
فإن قلنا: إنَّها المفسرة فلا محلَّ لها، وإن قلنا: إنها المخففة، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها مجرورة المحل بدلاً من «الرُّوحِ» لأنَّ التوحيد روحٌ تحيا به النفوس.
الثاني: أنَّها في محل جرٍّ على إسقاطِ الخافض؛ كما هو مذهب الخليل.
الثالث: أنَّها في محلِّ نصبٍ على إسقاطه؛ وهو مذهب سيبويه.
والأصل: بأن أنذروا؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور.
قوله: {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ} هو مفعول الإنذار، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام؛ يقال: أنْذرتهُ، وأنْذَرتهُ بكذا، أي: أعلموهم بالتوحيد.
وقوله: «فاتَّقُونِ» التفاتٌ إلى التكلم بعد الغيبة.
فصل
وجه النَّظم: أنَّ الله - تعالى - لما أجاب الكفار عن شبهتهم؛ تنزيهاً لنفسه - سبحانه وتعالى - عما يشركون؛ فكأنَّ الكفار قالوا: هب أنَّ الله قضى على بعض عبيده بالشرّ، وعلى آخرين بالخير، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟ .
فأجاب الله - تعالى - بقوله: {يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون} وتقرير هذا الجواب: أنَّه - تعالى - ينزل الملائكة على من يشاء من عباده، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد، وبالعبادة، وبين لهم أنَّهم إن فعلوا، فازوا بخيرِ الدنيا والآخرة، فهذا الطريق ضربٌ مخصوصٌ بهذه المعارف من دون سائر الخلق.
فصل
روى عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: يريد ب «المَلائِكة» جبريل وحده.
وقال الواحديُّ: يسمَّى الواحد بالجمع؛ إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدَّماً جائز، كقوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا} [القمر: 19] ، و {إنَّآ أَنزَلْنَا} [النساء: 105] ، و {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الحجر: 9] .
والمراد بالروح الوحي كما تقدم، وقيل: المراد بالروح هنا النبوة، وقال قتادة رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: الرحمة، وقال أبو عبيدة: إنَّ الروح ههنا جبريل عليه السلام.(12/6)
والباءُ في قوله «بِالرُّوحِ» بمعنى «مع» كقولهم: «خَرجَ فلانٌ بِثيَابهِ» أي: ومعه ثيابهُ.
والمعنى: نُنزِّلُ الملائكة مع الروح؛ وهو جبريل، وتقرير هذا الوجه: أنَّه - تعالى - ما أنزل على محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - جبريل وحدهُ في أكثر الحوالِ؛ بل كان يُنزِّلُ مع جبريل - عليه السلام - أقواماً من الملائكة؛ كما في يوم بدرٍ، وفي كثيرٍ من الغزواتِ، وكان ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تارة ملك الجبال، وتارة ملك البحار، وتارة رضوان، وتارة غيرهم.
وقوله «مِنْ أمْرهِ» أي أنَّ ذلك النُّزُولَ لا يكون إلا بأمر الله؛ كقوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] وقوله تعالى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] ، وقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] .
وقوله: {على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} يريد الأنبياء المخصوصين برسالته: «أنْ أنْذِرُوا» قال الزجاج: «أنْ» بدلٌ من «الرُّوحِ» .
والمعنى: ينزِّل الملائكة بأن أنذروا، أي: أعلموا الخلائق، أنَّه لا إله إلا أنا، والإنذار هو الإعلامُ مع التخويف.
«فاتَّقُون» فخافون. يروى أن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - نزل على آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مراتٍ، وعلى نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خمسين مرَّة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات، وعلى عيسى عشر مراتٍ، وعلى محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى سائر الأنبياء أربعة وعشرين ألف مرَّةٍ.(12/7)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
قوله: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى} ارتفع {عَمَّا يُشْرِكُونَ} اعلم أنَّ دلائل الإلهيات وقعت في القرآن على نوعين:
أحدهما: أن يتمسَّك بالأظهر مترقياً إلى الأخفى، فالأخفى كما ذكره في سورة البقرة في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] فجعل تغير أحوال الإنسان دليلاً على احتياجه إلى الخالق.
ثم استدل بتغير أحوال الآباءِ، والأمهاتِ؛ قال تعالى: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] .(12/7)
ثم استدلَّ بأحوال الأرض؛ فقال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} [البقرة: 22] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء.
ثُمَّ استدلَّ بأحوال السماء بعد الأرض؛ فقال تعالى: {والسماء بِنَآءً} [البقرة: 22] .
ثم استدلَّ بالأحوال المتولدة من تركيب السماء، والأرض؛ فقال سبحانه: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} [البقرة: 22] .
النوع الثاني: أن يستدل بالأشرف، فالأشرف نازلاً إلى [الأدون فالأدون] ؛ كما ذكر في هذه الآية، فاستدل على وجود الإله المختار بذكر الأجرام الفلكية العلوية، فقال: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقد تقدم الكلام على الاستدلال بذلك أول الأنعام، ثم استدل ثانياً بخلق الإنسان، فقال عَزَّ وَجَلَّ: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} .
واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ.
وعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ، فقوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {خَصِيمٌ مُّبِينٌ} إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول: إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم.
الثالث: أنَّ الغذاء يحصل له: في المعدةِ هضم أولٌ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ، وفي العروق هضم ثالثٌ، وعند وضوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ.
ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ، وظهر فيه أثرٌ من [الطبيعة] العظيمة، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ، وغيرها.
ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء؛ وذلك هو النطفة، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع.
وإذا عُرف هذا، فالنطفةُ: إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ، والماهيةِ، أو مختلف الأجزاءِ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره.(12/8)
وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم: البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة؛ بل فاعل مختار، وهو يخلق بالتَّدبير، والحكمة، والاختيار، وإن قلنا: إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ، فنقول: بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم، وبيانه من وجهين:
الأول: أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة، وإذا كان كذلك؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار.
الوجه الثاني: أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً.
وإذا كان كذلك، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض.
وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ.
قوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ} متعلق ب «خَلَقَ» و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ.
والنُّطفَةُ: القطرة من الماءِ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً، أي: قطر، وقيل: هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماءِ الرجل، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ، ومنه: صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة، ويقال: ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر، والنَّاطفُ: ما سال من المائعات يقال: نَطَفَ يَنطفُ، أي: سال فهو نَاطِف، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ.
قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} عطف هذه الجملة على ما قبلها، فإن قيل: الفاءُ تدل على التعقيب، ولا سيَّما وقد وجد معها «إذا» التي تقتضي المفاجأة، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه، كقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] .
والثاني: أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم.(12/9)
وقيل: ثمَّ وسائط محذوفة.
والذي يظهر أن قوله «خَلقَ» عبارة عن إيجاده، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين.
و «خَصِيمٌ» : فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم، كالخَليطِ والجَليسِ، ومعنى «خَصِيمٌ» جدولٌ بالبَاطلِ.
فصل
اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] الآيات إلاَّ أنِّه - تعالى - اختصرها ها هنا استغناء بذكرها هناك.
قال الواحديُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الخصيمُ بمعنى المخاصم. وقال أهل اللغة: خصِيمُكَ الذي يُخاصِمُك، وفعيل بمعنى مفاعل معروف، كالنَّسيبِ والعَشيرِ.
ووجه الاستدلال بكونه خصيماً على وجود الإله المدبِّر الحكيم: أنَّ [النفوس] الإنسانيَّة في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاةءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ التصديق والعدوَّ، ويهرب من الهرَّةِ، ويلتجيءُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق، والغذاء الذي لم يوافق.
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع، فظهر أن الإنسان في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ الصديق والعدوَّ، ويهرب من الهرَّةِ، ويلتجئُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق، والغذاء الذي لم يوافق.
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع، فظهر أنَّ الإنسان في أول الحدوثِ أنقص حالاً، وأقلُّ فطنة من سائر الحيوانات.
ثم إنَّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض، وقوى على معرفة الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله - تعالى - والخصومات الشديدة في كل المطالب، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بدَّ وأن يكون بتدبير مدبر مختارٍ حكيم بنقل الأرواحِ من نقصانها إلى كمالاتها، ومن جهالاتها غلى معارفها بحسب الحكمةِ والاختيارِ فهذا هو المراد من قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} .
الأول: أنه يجادل عن نفسه منازعاً للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً، لا حسَّ فيه ولا حركة، والمقصود منه أنَّ الانتقال من تلك الحالةِ الخسيسة إلى هذه الحالةِ العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبرٍ حكيم.(12/10)
والثاني: فإذا هو خصيمٌ لربِّه، منكر على خالقه، قائل: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة.
كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ، فقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذه بعدما قد رُمّ؟ .
والصحيح أنَّ الآية عامة؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران.
قوله تعالى: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} الآية هذه الدلالة الثالثة؛ لأنَّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليِّ بعد الإنسان سائرُ الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة، وهي الحواسُّ الظاهرة والباطنة والشهوةُ والغضب.
قوله
: {والأنعام خَلَقَهَا} العامة على النصب، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليَّة.
والثاني: أنه نصب على عطفه على «الإنْسانَ» ، قاله الزمخشريُّ، وابن عطيَّة فيكن «خَلقَهَا» على هذا مؤكداً، وعلى الأول مفسراً.
وقرئ شاذًّا «والأنْعَامُ» رفعاً وهي مرجوحةٌ.
قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} يجوز أن يتعلق «لكم» ب «خلقها» ، أي: لأجلكم ولمنافعكم، ويكون «فيها» خبراً مقدماً، و «دفء» مبتدأ مؤخرٌ، ويجوز أن يكون «لَكُمْ» هو الخبر، أو يكون حالاً من «دفء» قاله أبو البقاء.
وردَّه أبو حيَّان: بأنَّه إذا كان العاملُ في الحال معنويًّا، فلا يتقدم على الجملة بأسرها، ولا يجوز «قَائماً في الدَّارِ زيْدٌ» فإن تأخَّرت نحو «زَيْدٌ في الدَّارِ قَائِماً» جاز بلا خلافٍ، أو توسَّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره.
ولقائل أن يقول: لما تقدم العامل فيها، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول: لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح.
وقال أبو البقاء أيضاً: «ويجوز أن يرتفع» دِفْءٌ «ب» لَكُمْ «أو ب» فِيهَا «والجملة كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب» .
قال أبو حيان «ولا يسمَّى جملة، لأنَّ التقدير: خلقها كائنٌ لكم فيها دفءٌ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفءٌ» .(12/11)
قال شهابُ الدِّين: «قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالاً أو صفة أو خبراص، هل يقدر فعلاً أو اسماً، ولعلَّ أبا البقاءِ نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيحٌ على هذا» .
والدِّفءُ: اسم لما يدفأ به، أي: يسخنُ.
قال الأصمعيُّ: ويكون الدفءُ السخونة، يقال: اقعد في دفء هذا الائط، أي: في كنفه، وجمعه أدفَاء، ودَفِئَ يومنا فهو دَفيءٌ، ودَفِئَ الرَّجُل يَدْفأ فهو دَفْآنُ، وهي دَفْأى، كَسَكْران، وسَكْرَى.
والمُدفِّئَةُ بالتخفيف والتشديد، الإبل الكثيرة الوبر الكثيرة الوبر والشَّحم، وقيل: الدِّفْءُ: نِتاجُ الإبل وألبَانُهَا وما ينتفعُ به منها.
وقرأ زيد بن علي: «دِفٌ» بنقل حركة الهمزة إلى الفاءِ، والزهريُّ: كذلك إلاَّ أنَّه شدَّد الفاء، كأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف، نحو قولهم: هذا فرخٌّ بالتشديد وقفاً.
وقال صاحب اللَّوامحِ: «ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدِّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيبٍ وقفاً» .
قال شهابُ الدِّين: والتشديد وقفاً: لغة مستقلة وإن لم يكن ثمَّ حذف من الكلمة الموقوف عليها.
قوله «ومَنافِعُ» أراد النَّسْل، والدَّرَّ، والركوب، والحملَ، وغيرها، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة؛ لأنَّه الأعمُّ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب، وسائر الضَّرورياتِ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل.
فصل
الحيوانات قسمان:
منها ما ينتفع به الإنسان، ومنها ما لا يكون كذلك، والقسم المنتفع به [أفضل] من الثاني، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته، والأول أشرف وهو الأنعام، فلهذا يدأ بذكره فقال: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} وهي عبارة عن الأزواج الثمانية، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل.
قال الواحديُّ: تمَّ الكلام عند قوله: {والأنعام خَلَقَهَا} ثم ابتدأ وقال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} .
قال صاحبُ النَّظم: أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: «خَلَقَهَا» ؛ لأنه عطف عليه {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} والتقدير: لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ.(12/12)
ولما ذكر الأنعام، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها، وهي إما ضرورية، أو غير ضرورية، فبدأ بذكر المنافع الضرورية؛ فقال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى، فقال سبحانه: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ} [النحل: 80] .
والمعنى: ملابسُ ولحفاءُ يستدفئون بها، ثم قال: «ومَنافِعُ» والمراد ما تقدم من نسلها ودرِّها.
ثم قال: {وَمِنْهَا تَكُلُونَ} ، «مِنْ» ها هنا لابتداء الغاية، والتبعيض هنا ضعيفٌ.
قال الزمخشري: «فإن قلت: تقديم الظرف مؤذنٌ بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها، قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس، وأمَّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصَّيد، فكغير المعتد به؛ بل جارٍ مجرى التَّفكُّهِ» .
قال ابن الخطيب: «ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها؛ لأنَّكم تحرثون بالبقر، والحب والثّمار التي تأكلونها، وتكتسبون بها، وأيضاً بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها، وألبانها، وجلودها، وتشترون بها جميع أطعمتكم» .
فإن قيل: منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللَّبس، فلم أخَّر منفعة الأكْلِ في الذكر؟ .
فالجواب: أنَّ الملبوس أكثر من المطعوم؛ فلهذا قدِّم عليه في الذِّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام، وأمَّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمورٌ:
الأول: قوله {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} كقوله {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} .
و «حِينَ» منصوب بنفس «جمالٌ» أو بمحذوفٍ، على أنه صفة له، أو معمولٌ لما عمل في «فِيهَا» أو في «لَكُمْ» .
وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري - رحمهم الله -: «حِيناً» بالتنوين؛ على أنَّ الجملة بعده صفة له، والعائد محذوف، أي: حيناً تريحون فيه وحيناً تسرحون فيه، كقوله: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ} [البقرة: 281] وقدِّمت الإراحة على [السرح] ؛ لأنَّ الأنعام فيها أجمل لملءِ بطونها وتحفُّل ضروعها، بخلاف التسريح؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللَّبن ثم تتفرق وتنتشر.
فصل
قد ورد الحين على أربعة أوجهٍ:
الأول: بمعنى الوقت كهذه الآية.(12/13)
الثاني: منتهى الأجل، قال: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [يونس: 98] ، أي: إلى منتهى آجالهم.
الثالث: إلى ستة اشهر، قال تعالى: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] .
الرابع: أربعون سنة، قال تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} [الإنسان: 1] .
أي: أربعون سنة، يعني آدم - صلوات الله وسلامه عليه - حين خلقه من طينٍ قبل أن ينفخ فيه الروح.
والجمالُ: مصدر جَمُلَ بضمِّ الميم يجمُل فهو جَمِيلٌ وهي جَمِيلةٌ، وحكى الكسائي: جَمْلاء كحَمْرَاء؛ وأنشد: [الرمل]
3297 - فَهْيَ جَمْلاءُ كَبَذرٍ طَالعٍ ... بذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعاً بالجَمالِ
ويقال أراح الماشية وهراحها بالهاء بدلاً من الهمزة، وسرح الإبل يسرحها سرحاً، أي: أرسلها، وأصله أن يرسلها لترعى، والسَّرحُ: شجرٌ له ثمرٌ، الواحدة سرحةٌ، قال أبيّ: [الطويل]
3298 - أبَى الله إلاَّ أنَّ سَرحَة مَالكٍ ... عَلي كُلِّ أفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ
وقال: [الكامل]
3299 - أ - بَطلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ في سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليْسَ بِتَوْءَمِ
ثم أطلق على كلِّ إرسالٍ، واستعير أيضاً للطلاق، يقال: سَرحَ فلانٌ امْرأتهُ كما استعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإبل من عقلها، واعتبر من السَّرح المضي فقيل: ناقة [سرحٌ] ، أي: سريعة، وقيل: [الكامل]
3299 - ب - سُرُحُ اليَديْنِ كَانَّهَا ... ..... ... ... ... ... ... ... . .
وحذف مفعولي «تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ» مراعاة للفواصل مع العلم بها.
فصل
الإراحةُ: ردُّ الإبل بالعشيّ إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً، وسرح القوم إبلهم سرحاً، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى.
قال أهل اللغة: هذه الإراحةُ أكثر ما تكون أيَّام الربيع إذا سقط الغيث، وكثر الكلأُ، وخرجت العرب للنّجعةِ، وأحسن ما يكون النعمُ في ذلك الوقت.(12/14)
ووجهُ التجملِ بها أنَّ الراعيَ إذا روحها بالعشيَّ وسرَّحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية، وكثر فيها النفاء والرغاء، وعظم وقعهم عند الناس لكونهم مالكين لها.
والمنفعة الثانية قوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ} .
الأثقالُ: جمع ثِقَل، وهو متاع السَّفر إلى بلدٍ. قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «يريد من مكة إلى [المدينة] والشام ومصر» .
وقال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «والمراد كلُّ بلدٍ لو تكلفتم بلوغه على غير إبلٍ لشقَّ عليكم» .
وخصَّ ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه البلاد لأنَّها متاجر أهل مكة.
قوله {لَّمْ تَكُونُواْ} صفة ل «بَلدٍ» ، و «إلاَّ بشقِّ» حال من الضمير المرفوع في «بَالغِيهِ» ، أي: لم تبلغوه إلا ملتبسين بالمشقةِ.
والعامة على كسر الشِّين. وقرأ أبو جعفر ورويت عن نافع، وأبي عمرو بفتحها؛ فقيل: هما مصدران بمعنى واحد، أي: المشقَّة فمن الكسرِ قول الشاعر: [الطويل]
3300 - رَأى إبلاً تَسْعَى ويَحْسِبُهَا لَهُ ... أخِي نَصبٍ مِنْ شِقِّهَا ودُءُوبِ
أي: من مشقّتها.
وقيل: المفتوح المصدر، والمكسور الاسم.
وقيل: بالكسر نصف الشيء. وفي التفسير: إلاَّ بنصف أنفسكم، كما تقول: لَمْ تَنلهُ إلا بقطعه من كيدك على المجاز.
فصل
أذا حملنا الشقَّ على المشقَّةِ كان المعنى: لم تكونوا بالغيه إلاَّ بالمشقَّة، وإن حملناها على نصف الشيء كان المعنى: لم تكونوا بالغيه إلا عند ذهاب نصف قوتكم ونقصانها.
قال بعضهم: المراد من قوله تعالى {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} الإبل فقط، لأنه(12/15)
وصفها في آخر الآية بقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} وهذا لا يليق إلاَّ بالإبل فقط.
والجواب: أنَّ هذه الآيات وردت لتعديدِ منافع الأنعام، فبعض تلك المنافع حاصل في الكلِّ، وبعضها يختص بالبعض، لأنَّ قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} حاصل في البقر والغنم أيضاً.
{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع.
فصل
احتجَّ منكرو كرامات الأولياءِ بهذه الآية، لأنَّ هذه الآية دلت على أنَّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ إلا بشقِّ الأنفس، وحملِ الأثقالِ على [الجمال] ، فيكون الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ بعيدٍ في ليلةٍ واحدةٍ من غير تعبٍ، وتحمُّل مشقة خلاف هذه الآية، فيكون باطلاً.
ولمَّا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة، بطل القول بها في سائر الصُّورِ؛ لأنه لا قائل بالفرق.
والجواب: أنَّا نَخُصُّ هذه الآية بالأدلَّة الدالة على وقوع الكرامات.
قوله: {والخيل والبغال والحمير} العامة على نصبها؛ نسقاً على الأنعام، وقرأ ابن أبي عبلة برفعها على الابتداء، والخبر محذوف، أي: مخلوقةٌ ومعدَّة لتركبوها، وليس هذا ممَّا ناب فيه الجارُّ مناب الخبر لكونه كوناً خاصًّا.
قال القرطبي: «وسُمِّيت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل، كضَائن واحد ضأن. وقيل: لا واحد له، ولما أفرد - سبحانه وتعالى - الخيل، والبغال، والحمير، بالذكر؛ دلَّ على أنَّها لم تدخل في لفظ الأنعام. وقيل: دخلتْ؛ ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب، فإنَّه يكثر في الخيل والبغال والحمير» .
قوله: «وَزِينَةً» في نصبها أوجهٌ:
أحدها: أنه مفعولٌ من أجله وإنَّما وصل الفعل إلى الأول باللام في قوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا} وإلى هذا بنفسه لاختلاف الشَّرط في الأول، وعدم اتحاد الفاعل، وأنَّ الخالق الله والراكب المخاطبون.
الثاني: أنَّها منصوبة على الحال، وصاحبُ الحال إمَّا مفعول «خَلَقَهَا» وإمَّا مفعول «لِترْكَبُوهَا» فهو مصدر، وأقيم مقام الحالِ.(12/16)
الثالث: أن ينتصب بإضمار فعلٍ، فقدره الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وخلقها زينة.
وقدره ابن عطيَّة وغيره: وجعلها زينةً.
الرابع: أنَّه مصدرٌ لفعلٍ محذوف أي: «ولتتَزيَّنُوا بِهَا زينةً» .
وقرأ قتادة عن ابن أبي عامر: «لتَرْكَبُوهَا زِينَةً» بغير واوٍ، وفيها الأوجه المتقدمة؛ ويريد أن يكون حالاً من فاعل «لِترْكبُوهَا» متزينين.
فصل
لمَّا ذكر منافع الحيوان التي ينتفع بها من المنافع الضرورية، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ليست بضرورية فقال: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ، والخيل اسم جنسٍ لا واحد له من لفظه كالإبل.
واحتجَّ القائلون بتحريمِ لحومِ الخيلِ؛ وهو قول ابن عباسٍ، والحكم، ومالك، وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - بهذه الآيةِ، قالوا: منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً؛ لكان هذا المعنى أولى بالذِّكر، وحيث لم يذكره الله - تعالى - علمنا تحريم أكله.
ويقوِّي هذا الاستدلال: أنَّه قال - تعالى - في صفة الأنعام {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وهذه الكلمة تفيد الحصر، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعامِ فوجب أن يحرَّم أكل لحوم الخيل بمقتضى هذا الحصرِ.
ثمَّ إنَّه - تعالى - ذكر بعد هذا الكلام الخيل والبغال والحمير، وذكر سبحانه أنها مخلوقة للركوب، وهذا يقتضي أن منفعة الأكلِ مخصوصة بالأنعام.
وأيضاً قوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا} يقتضي أنَّ تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة، هو الركوبُ والزينةُ، ولو حلَّ أكلها لما كان تمامُ المقصود من خلقها هو الركوب، بل كان حلُّ أكلها أيضاً مقصوداً؛ وحينئذٍ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصودِ؛ بل يصير بعض المقصودِ.
وأجاب الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بأنَّه لو دلَّت هذه الآية على تحريم أكل الخيل؛ لكان تحريم أكلها معلوماً في مكَّة؛ لأنَّ هذه السورة مكية.
ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدِّثين إنَّ تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر باطلاً؛ لأنَّ التحريم لما كان حاصلاًُ قبل هذا اليوم، لم يبق لتخصيص هذا التَّحريم بهذه [السنة] فائدة.
وأجاب غيره: بأنه ليس المراد من الآية بيان التَّحليل والتحريم؛ بل المراد منه أن(12/17)
يعرِّف الله - تعالى - عباده نعمه، وتنبيههم على كمالِ قدرته وحكمته.
واحتجُّوا بقولِ جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «نَهَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْمَ خَيْبرٍ عَنْ لَحومِ الحُمرِ ورخَّصَ في لُحومِ الخَيْلِ» .
ولمَّا ذكر - تعالى - أصناف الحيوانات المنتفع بها، ذكر بعده الأشياء التي لا ينتفع غالباً بها فذكرها على سبيل الإجمال.
فقال سبحانه وتعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وذلك لأنَّ أنواعها وأصنافها خارجة عن الإحصاء؛ فذكر ذلك على سبيل الإجمال.
وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: «إنَّ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ نَهْراً مِنْ نُورٍ مِثلَ السَّمواتِ السَّبْع والبِحار السَّبعَة والأرضين السبع يَدخُل فيه جِبْريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كُلَّ سحرٍ فيزْدادُ نُوراً إلى نُورهِ وجَمالاً إلى جَمالهِ، ثُمَّ ينتفِضُ فيَخْلقُ الله - سبحانه وتعالى - مِنْ كُلِّ نُقْطَة تقع مِن رِيشهِ كذا وكذا ألْفَ مَلك، يَدخلُ مِنهُم كُلَّ يَومٍ سَبعُونَ ألفاً البيتَ المَعْمُورَ، وفي الكَعْبةِ أيضاً سَبْعُون ألفاً لا يعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» .
قوله: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} الآية والمعنى: إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها؛ إزاحةً للعذرِ؛ وإزالة للعلَّة {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] .
قوله: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} الضمير يعود على السبيل؛ لأنَّها تؤنث {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] أو لأنَّها في معنى سُبلٍ، فأنَّث على معنى الجمع، والقَصْدُ مصدرٌ يوصف به فهو بمعنى قاصد، يقال: سبيلٌ قصدٌ وقاصدٌ، أي: مستقيمٌ، كأنه يَقْصِدُ الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه.
وقيل: الضمير يعود على الخلائق؛ ويؤيده قراءة عيسى، وما في مصحف عبد الله: «ومِنْكُمْ جَائِرٌ» ، وقراءة عليّ: «فَمِنكُْ جَائِرٌ» بالفاء.
وقيل: «ألْ» في «السَّبيلِ» للعهد؛ وعلى هذا يعود الضمير على السبيل التي تتضمنها معنى الآية؛ لأنَّه قيل: ومن السبيل فأعاد عليها، وإن لم يجر له ذكر؛ لأنَّ مقابلها يدلُّ عليها، وأما إذا كانت «ألْ» للجنس فيعود على لفظها.(12/18)
والجَوْرُ: العدول عن الاستقامة؛ قال النابغة: [الطويل]
3301 - ... ... ... ... ... ... ... ... يَجُورُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَدِي
وقال آخر: [الكامل]
302 - ومِنَ الطَّريقَةِ جَائِرٌ وهُدًى ... قَصْدُ السَّبيلِ ومِنْهُ ذُو دَخْلِ
وقال أبو البقاء: و «قَصْدُ» مصدرٌ بمعنى إقامة السَّبيل، أو تعديل السبيل، وليس مصدر قصدته بمعنى أتَيْتهُ.
فصل
قوله: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} يعني بيان طريق الهدى من الضَّلالة، وقيل: بيان الحقِّ من الباطل بالآيات والبراهين، والقصد: الصراط المستقيم.
{وَمِنْهَا جَآئِرٌ} يعني: ومن السَّبيل جائر عن الاستقامة معوجّ، والقصد من السبيل دينً الإسلامِ، والجائر منها: اليهوديَّة والنَّصرانيةُ وسائر مللِ الكفرِ.
قال جابر بن عبد الله: «قَصْدُ السَّبيلِ» بيانُ الشَّرائع والفرائض.
وقال ابن المبارك وسهل بن عبد الله: «قَصْدُ السَّبيلِ» السنة، «ومِنْهَا جَائِرٌ» الأهواء والبدع؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} [الأنعام: 153] .
فصل
قالت المعتزلة: دلت الآية على أنَّه يجب على الله الإرشاد والهداية إلى الدِّين وإزالةُ العلل [والأعذار] ؛ لقوله {وعلى الله قَصْدُ السبيل} وكلمة «عَلَى» للوجوب، قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضلُّ أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه، لأنه لو كان - تعالى - فاعلاً للضَّلال؛ لقال {وعلى الله قَصْدُ السبيل} وعليه جائرها، أو قال: وعليه الجائر فلمَّا لم يقل ذلك، بل قال في قصد السبيل أنه عليه، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه، بل قال: «ومِنْهَا جَائِرٌ» دلَّ على أنَّه - تعالى - لا يضلُّ عن الدينِ أحداً.
وأجيب: بأنَّ المراد على أنَّ الله - تعالى - بحسب الفضلِ والكرمِ؛ أن يبين الدِّين(12/19)
الحق، والمذهب الصحيح، فأما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال؛ فذلك غير واجب.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يدل على أنَّه - تعالى - ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، أي: ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين، وذلك يفيد أنه - تعالى - ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هذاهم.
وأجاب الأصمُّ: بأنَّ المراد: لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم، وهذا يدل على أنَّ مشيئة الإلجاءِ لم تحصل.
وأجاب الجبائيُّ: بأنَّ المعنى: ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة وإلى نيل الثواب؛ لكنَّه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان؛ لأنَّه مقدور جميع المكلَّفين.
وأجاب بضعهم؛ فقال المراد: ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة ابتداء على سبيل التفضل، إلاَّ أنَّه - تعالى -[عرَّفكمُ] للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبيَّن، فمن تمسَّك بها فاز، ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب. وتقدم الجواب عن ذلك مراراً.(12/20)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
قوله تعالى: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً} لمَّا استدلَّ على وجود الصانع الحكيم بأحوال الحيوان، أتبعه بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات.
واعلم أنَّ الماء المنزَّل من السماء هو المطر وهو قسمان:
أحدهما: الذي جعله الله شراباً لنا، ولكل حيٍّ.(12/20)
فإن قيل: دلت الآية على أنَّ شراب الخلق ليس إلاَّ من المطرِ، ومن المعلوم أنَّ الخلق يشربون من المياه التي في قعر الأرض؛ وأجاب القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بأنه تعالى بين أنَّ المطر شرابنا، ولم ينفِ أن نشرب من غيره.
وأجاب غيره: بأنه لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ما ينزل من السماء؛ لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] ولا يمتنع أيضاً في العِذاب من الأنهار أن يكون أصلها من المطر.
والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات، وهو قوله {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} .
قوله: «لَكُمْ» يجوز أن يتعلق ب «أنْزَلَ» ويجوز أن يكون صفة ل «مَاءً» فيتعلق بمحذوفٍ، فعلى الأول يكون [ «شراب» مبتدأ، و «منه» خبره مقدم عليه، والجملة ايضاً صفة ل «ماء» ، وعلى الثاني يكون «شراب» فاعلاً] بالظرف، و «مِنْهُ» حال من «شَرابٌ» ، و «مِنَ» الأولى للتبعيض، وكذا الثانية عند بعضهم، لكنَّه مجازٌ؛ لأنَّه لما كان سقاه بالماء جعل كأنه من الماء؛ كقوله: [الرجز]
3303 - أسْنِمَةُ الآبَالِ في رَبَابَهْ ... أي: في سحابة، يعني به المطر الذي ينبت به الكلأ الذي تأكله الإبل فتسمن أسنمتها.
وقال ابنُ الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «هو على حذف مضافٍ إمَّا من الأول؛ يعني قبل الضمير، أي: ومن جهته أو سقيه شجر، وإمَّا من الثاني، يعني قبل شجر، أي: شربُ شجرٍ أو حياة شجر» .
وجعل أبو البقاءِ: الأولى للتبعيض، والثانية للسببية؛ أي: وبسببه غنباتُ شجرٍ، ودل عليه قوله - سبحانه وتعالى - {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع} .
والشجر ها هنا: كلُّ نباتٍ من الأرض حتَّى الكلأ، وفي الحديث: «لا تَأكلُوا ثمنَ الشَّجرِ فإنَّهُ سُحْتٌ» يعني: الكلأ ينهى عن تحجر المباحاتِ المحتاج إليها، وأنشدوا شعراً: [الرجز]
3304 - نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إذَا عَزَّ الشَّجَرْ ... يريد: يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، قاله الزجاج.
وقال ابن قتيبة في هذه الآية: المراد من الشجر: الكلأ.(12/21)
فإن قيل: قال المفسرون في قوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] : إن المراد بالنجم: ما ينجم من الأرض ممَّا ليس له ساق، ومن الشجر ما له ساق، وأيضاً: عطف الشجر على النَّجم؛ فيوجب مغايرة الشجر للنجم.
فالجواب: أنَّ عطف الجنس على النع وبالضدِّ مشهور وأيضاً: فلفظ الشجرِ يشعر بالاختلاط، يقال: تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض، وتشاجرتِ الرِّماح إذا اختلطت، وقال تعالى: {حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب، والكلأ؛ فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه.
وقيل المراد بالشجر ما له ساقٌ؛ لأنَّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وإطلاق الشجر على الكلأ مجازٌ.
قوله: {فِيهِ تُسِيمُونَ} هذه صفة أخرى ل «مَاءً» ، والعامة على «تُسِيمُونَ» بضم التاء من أسام، أي: [أرسلها] لترعى.
وقرأ زيد بن علي بفتحها، فيحتمل أن يكون متعدياً، ويكون فعل وأفْعَل بمعنى، ويحتمل أن يكون لازماً على حذف مضافٍ، أي: تُسِيمُ مَواشِيكُمْ.
يقال: أسمت الماشية إذا خلَّيتها ترعى، وسامت هي تسُومُ سَوْماً، إذا رعتْ حيثُ شاءتَ فهي سَوام وسَائِمَة.
قال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أخذ ذلك من السومةِ وهي العلامة؛ لأنَّها تؤثر في الأرض برعيها علاماتٍ» .
وقال غيره: لأنها تعلَّم الإرسال والمرعى، وتقدم الكلام في هذه المادة في آل عمران عند قوله تعالى: {والخيل المسومة} [الآية: 14] .
قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ} تحتمل هذه الجملة الاستئناف والتبعيَّة، كما في نظيرتها، ويقال: أنْبتَ الله الزَّرْعَ فهو منبُوت، وقياسه: مُنْبَت. وقيل: أنْبتَ قد يجيء لازماً، ك «نَبَتَ» ؛ وأنشد الفراء: [الطويل]
3305 - رَأيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حولَ بُيوتِهِمْ ... قَطِيناً لهُمْ حتَّى إذَا أنْبتَ البَقْلُ
وأباه الأصمعيُّ؛ والبيت حجة عليه، وتأويله: ب «أنبت» البقل نفسه على المجاز بعيد جدًّا.(12/22)
وقرأ أبو بكر «نُنْبِتُ» بنون العظمة، والزهري «تنَبِّتُ» بالتشديد، والظاهر أنَّهُ تضعيف التَّعدي، وقيل: بل للتَّكرير، وقرأ أبي: «تُنْبُتُ» بفتح الياء وضمِّ الباءِ. «الزَّرْعَ» وما بعده رفع بالفاعلية، وتقدم خلافُ القراء في رفع «الشَّمْس» وما بعدها ونصبها، وتوجيه ذلك في سورة الأعراف.
فصل
النبات قسمان:
أحدهما: لرعي الأنعام؛ وهو المراد من قوله «تُسِيمُونَ» .
والثاني: المخلوق لأكل الإنسانِ؛ وهو المراد من قوله: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب} .
فإن قيل: إنه - تعالى - بدأ في هذه الآية بذكر مأكول [الحيوان] وأتبعه بذكر مأكولِ الإنسانِ، وفي ىية أخرى عكس الترتيب؛ فقال: {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُم} [طه: 54] فما الفائدة فيه؟ .
فالجواب: أنَّ هذه الآية مبنيَّةٌ على مكارم الأخلاق؛ وهو أن يكون اهتمام الإنسانِ بمن يكون تحت يده، أكمل من اهتمامه بنفسه، وأمَّا الآية الأخرى، فمبنيةٌ على قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ابْدَأ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» .
فصل
اعلم أنَّ الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء، والغذاء، إمَّا من الحيوانات، وإمَّا من النبات، والغذاء الحيوانيُّ أشرف من الغذاء النباتي؛ لأنَّ تولد أعضاءِ الإنسانِ من [أكل] أعضاء الحيوان أسهل من تولدها من غذاء النبات؛ لأنَّ المشابهة هناك أكمل وأتم، والغذاء الحيواني إنما يحصل من إسامةِ الحيواناتِ وتنميتها بالرعي؛ وهو الذي ذكره الله في الإسامةِ.
وأمَّا الغذاء النباتيُّ، فقسمان: حبوب، وفواكه: أمَّا الحبوب، فإليها الإشارة بقوله: «الزَّرْعَ» ، وأما الفواكه، فأشرفها: الزيتونُ، والنَّخيلُ، والأعناب أما الزيتون؛ فلأنه فاكهة من وجه، وإدامٌ من وجه آخر؛ لما فيه من الدهنِ، ومنافع الهنِ كثيرة: للأكلِ، والطلاءِ، وإشعالِ السِّراج.
وأما امتياز النَّخيل والأعناب من سائر الفواكه، فظاهر معلوم، وكما أنَّه - تعالى - لما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل، ثم وصف البقية بقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ(12/23)
تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] فكذلك ههنا، لمَّا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، قال في وصف البقية: {وَمِن كُلِّ الثمرات} تنبيهاً على أن تفصيل أنواعها، وأجناسها، وصفاتها، ومنافعها، ما لم يكن ذكره، فالأولى أن يقتصر فيه على الكلام المجملِ، ثم قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
واعلم أن وجه الدَّلالة من هذه الآية على وجود الله - تعالى -: هو أنَّ الحبة الواحدة تقع في الطين، فإذا مضى عليها زمنٌ معينٌ، نفذت في تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض؛ فتنتفخ وتنشقُّ أعلاها وأسفلها؛ فيخرج من أعلاها شجرة صاعدة إلى الهواء، ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في [قعرِ] الأرض؛ وهي عروقُ الشجرِ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة لا تزال تزدادُ، وتنمو وتقوى، ثم يخرج منها الأوراق، والأزهارُ، والأكمام، والثمار، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع؛ كالعنب فإنَّ قشوره وعجمه باردان يابسان كثيفان، ولحمه وماؤه حارٌ رطبٌ، فنسبة هذه الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة، ونسبة التأثيرات الفلكية، والتحريكات الكوكبيَّة إلى الكلِّ متشابهة، فمع تشابه هذه الأشياء، ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع، والطَّعم، واللَّون، والرائحة، والصفة؛ فدلَّ صريح العقل على أنَّ ذلك ليس إلا بفعل فاعل قادرٍ حكيمٍ رحيمٍ.
وختم هذه الآية بقوله: {يَتَفَكَّرُونَ} لأنه تعالى ذكر أنَّه أنزل من السماءِ ماء، فأنبت به الزرع، والزيتون، والنخيل، والأعناب، فكأنَّ قائلاً قال: لا نسلِّم أنه - تعالى - هو الذي أنبتها، بل يجوز أن يكون حدوثها لتعاقبِ الفصولِ الأربعةِ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب، فما لم يقُم الدليل على فساد هذا الاحتمالِ لا يكون هذا الدليل وافياً بإفادة هذا المطلوب، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً، فلهذا ختم الآية بقوله: {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر} الآية وهذه الآية هي الجواب عن السؤال المتقدم تقريره من وجهين:
الأول: أن يقول: هبْ أن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مستندة إلى الاتِّصالات الفكليَّة إلاَّ أنه لا بدَّ لحركتها واتصالاتها من أسباب، وأسباب تلك الحركات: إما ذواتها، وإمَّا أمورٌ مغايرةٌ لها، والأول باطل من وجهين:
الأول: أنَّ الأجسام متماثلةٌ، فلو كان الجسم علَّة لصفة، لكان كل جسمٍ واجب الاتصاف بتلك الصفةِ؛ وهو محالٌ.
والثاني: أنَّ ذات الجسم لو كانت علَّة لحصول هذه الحركة، لوجب دوامُ هذه الحركة بدوام تلك الذات، ولو كان كذلك لوجب بقاءُ الجسم على حالةٍ واحدةٍ من غير تغيير أصلاً؛(12/24)
وذلك يوجبُ كونه ساكناً لذاته، وما أفضى ثبوته إلى عدمه، كان أصلاً باطلاً.
فثبت أنَّ الجسم يمتنع أن يكون متحرِّكاً لكونه جسماً، فبقي أن يكون متحركاً لغيره، وذلك الغير: إمَّا أن يكون سارياص فيه، أو مبايناً عنه، والأول باطلٌ لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام؛ فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً، عاد التقسيم الأول فيه، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً، فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً، والأول باطل لأنَّ نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على التسوية؛ فلم يكن بعض الأجسام بقبولِ بعض الآثار المعينة أولى من بعض؛ فثبت أنَّ محرك تلك الأفلاك والكواب هو الفاعل القادر المختار المنزَّهُ عن كونه جسماً، وجسمانيًّا؛ وذلك هو الله - تعالى -.
فالحاصل أنَّا وإن حكمنا باستثناء حوادث العالم السفليِّ إلى الحركات الفلكية والكوكبية، فهذه الحركاتُ الفلكية لا يمكن إسنادها إلى [أفلاكٍ أخرى] ؛ وإلاَّ لزم التَّسلسلُ؛ وهو محالٌ؛ فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله - تعالى - وإذا كان كذلك، كان هذا اعترافاً بأنَّ الكُلَّ من الله - تبارك وتعالى - وبإحداثه وتخليقه، وهذا هو المراد من قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر} يعني: أنَّ تلك الحوادث كانت لأجل تعاقبِ الليل والنَّهار، وحركاتِ الشَّمس والقمر، فهذه الأشياء لا بدَّ وأن يكون حدوثها بتخليق الله - تعالى - وتسخيره؛ قطعاً للتسلسل.
ولمَّا تم هذا الدليل، ختم الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: كلّ عاقل يعلم أنَّ القول بالتسلسل باطل، وأنه لا بدَّ من الانتهاءِ إلى الفاعل المختار.
والجواب الثاني عن ذلك السؤال: أنَّ تأثير الطبائع، والأفلاك، والكواكب؛ بالنسبة إلى الكلِّ واحد، ثمَّ إنَّا نرى تولد العنب: قشره على طبع، وعجمه على طبعٍ، ولحمه على طبع ثالثٍ، وماؤه على طبع رابع، ونرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصُّفرةِ، والوجه الثاني من تلك الورقةِ في غاية الحمرة، وتلك الورقة في غاية الرقة واللَّطافة، ونعلم بالضرورة أنَّ نسبة الأنجم، والأفلاكِ، إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة، والطبيعة الواحدة هي المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً؛ ألا ترى أنهم قالوا: شكل البسيط هو الكرة؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة، وأيضاً إذا أضأنا الشمع، فإذا استضاء خمسة أذرع من ضوء ذلك الشمع من أحد الجوانب، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب؛ لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب، وإذا ثبت هذا، فنسبة الشمس، والقمر، والأنجم، والأفلاك، والطبائع(12/25)
إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة، وثبت أنَّ الطبيعة المؤثرة، متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً، وثبت أنَّ الأثر غير متشابهٍ؛ لأنَّ أحد وجهي تلك الورقة في غاية الصفة، والوجه الثاني منها في غاية الحمرة، وهذا يفيد القطع بأنَّ المؤثِّر في حصول تلك الصفات، والألوان، والأحوال - ليس هو الطبيعة؛ بل الفاعل فيها هو الفاعل المختار الحكيم، وهو الله - تعالى - وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} .
ولما كان مدار هذه الحجَّة على أنَّ المؤثر الموجب بالذاتِ وبالطبيعةِ، يجب أن تكون نسبته إلى الكل متشابهة - لا جرم ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} فلمَّا دلَّ الحسُّ في هذه الأحكام النباتيَّة على اختلاف صفاتها، وتنافر أحوالها - على أنَّ المؤثِّر فيها ليس هو الطبيعة - ظهر أنَّ المؤثر فيها ليس موجباً بالذاتِ؛ بل الفاعل المختار - سبحانه وتعالى -.
فإن قيلك لا يقال: سخَّرتُ هذا الشيء مسخَّراً.
فالجواب: أنَّ المعنى: أنه - تعالى - سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرةً تحت قدرته وإذنه.
فإن قيل: التسخيرُ عبارة عن القهر والقسر، ولا يليق ذلك إلاَّ بمن هو قادر يجوز أن يقهر؛ فكيف يصحُّ ذلك في اللَّيل والنهار، وفي الجمادات؛ كالشمس والقمر؟ .
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - لما دبَّر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد، صارت شبيهة بالعبدِ المنقادِ المطواع؛ فلهذا المعنى أطلق على هذا النَّوع من التَّدبير لفظ التَّسخيرِ.
والجواب الثاني: لا يستقيمُ إلاَّ على مذهب علماء الهيئة؛ لأنهم يقولون: الحركة الطبيعية للشمس والقمر، هي الحركة من المغرب إلى المشرقِ، والله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب، فكانت هذه الحركة قسرية؛ فلذلك أطلق عليها لفظ التسخير.
فإن قيل: إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس؛ كان ذكر الليل والنهار مغنياً عن ذكر الشمس، فالجواب: حدوث النهار واللّيل ليس بسبب [حدوث] حركةِ الشمس؛ بل حدوثهما سبب حركة الفلك الأعظم الذي دلَّ الدليل على أن حركته ليست إلا بتحريكِ الله - تعالى - وأما حركةُ الشمسِ، فَإنَّها علة لحدوث السنة، لا لحدوث اليومِ.(12/26)
فإن قيل: المؤثر في التسخير هو القدرة، لا الأمر؛ فكيف قال الله: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} ؟ .
فالجواب: هذه الآية مبنيّة على أنَّ الأفلاك والكواكب جماداتٌ، أم لا، وأكثر المسمين على أنَّها جمادات؛ فلهذا حملوا الأمر في هذه الآيةِ على الخلق [والتقدير] ، ولفظ الأمر بمعنى الشَّأنِ والفعل كثيرٌ؛ قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] .
ومنهم من قال: إنها ليست بجماداتٍ، فههنا يحمل الأمر على الإذنِ والتكليفِ.
قوله: {وَمَا ذَرَأَ} عطف على الليل والنهار؛ قاله الزمخشري؛ يعني: ما خلق فيها من حيوانٍ وشجر.
وقال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ؛ أي: وخلق، أو أنبت» .
كأنه استبعد تَسلطَ «وسَخَّرَ» على ذلك؛ فقدَّر فعلاً لائقاً، و «مُخْتلِفاً» حال منه، و «ألْوانهُ» فاعل به.
وختم الآية الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأملٍ ونظر، والثانية بالعقل؛ لأنَّ مدار ما تقدم عليه، والثالثة بالتذكر؛ لأنه نتيجة ما تقدم.
وجمع «آيَاتٍ» في الثانية دون الأولى والثالثة؛ لأنَّ ما يناط بها أكثر؛ ولذلك ذكر معها الفعل.
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا} الآية لما استدلَّ على إثباتِ الإله أولاً بأجرامِ السَّمواتِ، وثانياً ببدن الإنسان، وثالثاً بعجائبِ خلق الحيوانات، ورابعاً بعدائب النبات - ذكر خامساً عجائب العناصرِ فبدأ بالاستدلال بعنصر الماءِ.
قال علماء الهيئةِ: ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة بالماءِ، وذلك هو البحر المحيط، وحصل في هذا الرابع المسكون سبعة أبحرٍ؛ قال تعالى: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر} [لقمان: 27] والبحر الذي سخره الله للناس هو هذه البحار، ومعنى تسخيرها للخلق: جعلها بحيث يتمكن [الناس] من الانتفاع بها: إمَّا بالركوبِ، أو بالغوصِ.
واعلم أنَّ منافع البحارِ كثيرةٌ، فذكر منها - تعالى - هنا ثلاثة أنواعٍ:
الأول: قوله تعالى {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا} يجوز في «منهُ» تعلقه ب «لِتَأكُلوا» وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من النكرة بعده، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية أو للتبعيض، ولا بدَّ من حذف مضافٍ، أي: من حيوان، و «طَريًّا» فعيلٌ من: طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً؛ ك «سَرُوَ يَسْرُو سَرَاوَة» .(12/27)
وقال الفراء: [بل يقال:] «طَرِيَ يَطْرَى طَرَاءً ممدوداً وطَراوَةً؛ كما يقال: شَقِيَ يَشْقَى شَقاءً وشَقاوةً» .
والطَّراوَةُ ضد اليُبوسَةِ أي: غضًّا جديداً، ويقال: طَريْتُ كذا، أي: جدَّدْتهُ، ومنه الثياب المُطرَّاة، والإطْراءُ: مدحٌ تجدَّد ذكرهُ؛ وأمَّا «طَرَأ» بالهمز، فمعناه: طَلَعَ.
قال ابن الأعرابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لحمٌ طَريٌّ غير مهموز، وقد طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً.
فصل
اعلم أنَّه - تعالى - لما أخرج من البحر الملح الزُّعاقِ الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة، علم أنَّه إنَّما حدث لا بحسبِ الطب؛ بل بقدرة الله - تعالى - وحكمته بحيث أظهر الضد من الضدِّ.
فصل
لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السَّمك، قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا يحنثُ؛ لأنَّ لحم السَّمك ليس بلحم. وقال آخرون: يحنثُ لأنَّ الله - تعالى - نصَّ على تسميته لحماً، وليس فوق بيان الله بيانٌ.
روي أنَّ أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما قال بهذا، وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك محتجاً بهذه الآية؛ فبعث إليه أبو حنيفة رجلاً وسأله عن رجلٍ حلف لا يصلِّي على البساطِ فصلَّى على الأرضِ، هل يحنث أم لا؟ .
فقال سفيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحنثُ، فقال السائل: أليس أنَّ الله - تعالى - قال: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطا} [نوح: 19] قال: فعرف سفيان أنَّ ذلك بتلقين أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قاله ابن الخطيب.
وهذا ليس بقويِّ؛ لأنَّ أقصى ما في الباب أنَّا تركنا العمل بظاهرِ القرآنِ في لفظ البساط لدليل قام، فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى من غير دليل، والفرق بين الصورتين من وجهين:
الأول: أنه لما حلف لا يصلِّي على البساط، فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساطِ؛ لزمنا أن نمتعه من الصلاة؛ لأنه إن صلَّى على الأرض حنث، وإن صلَّى على البساط حنث، بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظِ اللحم؛ لأنه ليس في منعه من أكل اللَّحم على الإطلاق محذورٌ.
الثاني: أنَّا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة، أنَّ وقوع اسم البساط على الأرض مجازٌ ولم نعرف أن وقوع اسم اللحم على لحم السمك مجاز وحجة أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّ الأيمان مبناها على العرف؛ لأن الناس إذا ذكروا اللحم على الإطلاقِ، لا(12/28)
يفهم منه لحم السَّمك؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه: «اشْترِ بهذا الدِّرهمِ لحماً» فجاء بلحمِ سمكٍ استحق الإنكار.
والجواب: أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ، وتارة تعتبرون المعنى، وتارة تعتبرون العرف، وليس لكم ضابط؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه: اشتر بهذا الدرهم لحماً فجاء بلحم العصفور استحق الإنكار، مع أنَّكم تقولون: إنه يحنث بأكل لحم العصفور؛ فثبت أنَّ العرف مضطربٌ، والرجوع إلى نصِّ القرآن متعين.
النوع الثاني من منافع البحر: قوله: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} «الحليةُ: اسم لما يتحلَّى به، وأصلها الدَّلالةُ على الهيئة؛ كالعِمَّة والخِمرة» .
«تَلْبَسُونهَا» صفة، و «مِنْهُ» يجوز فيه ما جاز في «مِنْهُ» قبل، والمراد بالحلية: اللؤلؤ والمرجان.
فصل
المراد: يلبسهم لبس نسائهم؛ لأنَّهن من جملتهم، ولأنَّ تزينهنَّ لأجلهم فكأنها زينتهم، وتمسك بعض العلماءِ في عدم وجوب الزكاةِ في الحليِّ المباح لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«لا زَكَاةَ في الحُلِيّ» .
ويمكن أن يجاب على تقدير صحَّة الحديث: بأنَّ لفظ «الحُلِيّ» مفرد محلى بالألف واللام؛ فيحمل على المعهود السابق، وهو المذكور في هذه الآية، فيصير تقدير الحديث: لا زكاة في اللآلئ، وحينئذٍ يسقط الاستدلال بالحديث.
النوع الثالث من منافع البحر: قوله تعالى: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} قال أهل اللغة: مَخْرُ السَّفينةِ شقُّها الماء بصدرها. وعن الفراء: أنه صوتُ جَرْي الفلك بالرِّياحِ.
إذا عرفت هذا، فقول ابن عبَّاسٍ: «مَواخِرَ» أي: جَوارِي، إنما حسن التفسير به؛ لأنها لا تشقُّ الماء إلاَّ إذا كانت جارية. وقوله تعالى: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} يعني: لتركبوه للتجارة؛ فتطلبوا الريح من فضل الله، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه؛ فلعلكم تقدمون على شكره.
قال القرطبي: «امتنَّ الله على الرِّجالِ والنساء امتناناً عامًّا بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنَّما حرَّم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير.
قال - صلوات الله وسلامه عليه - في الحرير والذهب:» هَذا حَرامٌ على ذُكورِ أمَّتِي حلٌّ لإنَاثهَا «.(12/29)
وروى البخاريُّ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اتَّخذَ خاتماً من فضَّة ونقش فيه محمَّد رسول الله» .
فصل
من حلف لا يلبس حلياً، فلبس لؤلؤاً لم يحنث، وهو قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
وقال بعض المالكية: «هذا، وإن كان الاسم اللغويُّ يتناوله فلم يقصده باليمين، والأيمان مبنية على العرف، ألا ترى أنه لو حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث وكذلك لو حلف لا يستضيء بسراج، وجلس في ضوء الشمس لا يحنث، وإن كان الله سمى الأرض فراشاً والشمس سراجاً» .
قوله: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} ، «تَرَى» جملة معترضة بين التعليلين: وهما «لِتأكُلوا» ، «ولِتَبْتغُوا» ، وإنما كانت اعتراضاً، لأنه خطاب لواحدٍ بين خطابين لجمعٍ.
و «فِيهِ» يجوز أن يتعلَّق ب «تَرَى» وأن يتعلق ب «مَوَاخِرَ» لأنها بمعنى شواقٍّ، وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من «مَواخِرَ» أو من الضمير المستكنِّ فيه.
و «مَواخِرَ» جمع مَاخِرَة، والمَخْرُ: الشقُّ، يقال: مَخرتِ السَّفينةُ البَحْرَ، أي: شقَّتهُ، تَمْخرُه مَخْراً ومُخوراً، ويقال للسُّفنِ: بَناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ، بالميم والباء بدل منها.
وقال الفراء: هُوَ صوتُ جري الفلك، وقيل: صوتُ شدَّة هُبوبِ الرِّيح، وقيل بنات مَخْر لسحاب [ينشأ] صيفاً، وامْتخَرْتَ الرِّيحَ واسْتَخْرْتَهَا: إذا استقبلتها بأنفك.(12/30)
وفي الحديث: «اسْتَمخِرُوا الرِّيحَ وأعِدُّوا النبْلَ» يعني في الاستنجاءِ، اي: ينظر أين مجراها وهبوبها؛ فليستدبرها؛ حتَّى لا يرد عليه البول.
والمَاخُورُ: الموضع الذي يباع فيه الخمر، و «تَرَى» هنا بصرية فقط.
قوله {وَلِتَبْتَغُواْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: عطفٌ على «لِتَأكُلوا» وما بينهما اعتراضٌ كما تقدم، وهذا هو الظاهر.
وثانيها: أنه عطفٌ على علَّةٍ محذوفةٍ، تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، ذكره ابن الأنباري.
وثالثها: أنه متعلق بفعلٍ محذوفٍ، أي: فعل ذلك لتبتغوا. وفيهما تكلُّف لا حاجة إليه.
ومعنى {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} يعني: لتركبوها للتجارة؛ لتطلبوا الرِّبْحَ من فضلِ الله، فإذا وجدتم فضل الله فلعلكم تشكرونه.
قوله تعالى: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُم} والمقصود منه: ذكرُ بعض النعم التي خلقها الله في الأرض، وتقدم ذكر الرواسي.
قوله {أَن تَمِيدَ بِكُم} أي: كراهة أن تميدَ، أو لئلاَّ تميد، أي: تتحرَّك، والميدُ: هو الاضطرابُ [والتكفؤ] ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحرِ: ميدٌ.
قال وهب: «لما خلق الله الأرض جعلت تمورُ؛ فقالت الملائكة: إنَّ هذه غير مقرَّة أحدٍ على ظهرها، [فأصبحت] وقد أُرسيتْ بالجبالِ، فلم تدر الملائكة ممَّ خلقت الجبال؛ كالسفينة إذا ألقيت في الماءِ، فإنها تميل من جانب إلى جانب، وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة فيها، استقرت على وجه الماء» .
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا مشكلٌ من وجوهٍ:
الأول: أنَّ هذا التعليل؛ إمَّا أن يكون مع القولِ بأن حركاتِ هذه الأجسام بطبعها، أو ليست بطبعها؛ بل هي واقعةٌ بتحريكِ الفاعل المختارِ، أمَّا على التقدير الأول فمشكلٌ؛ لأن الأرض أثقل من الماءِ، والأثقل من الماء يغوص في الماءِ، ولا يبقى طافياً عليه، وإذا لم يبق طافياً، امتنع أن يقال: إنَّها تميلُ، وتميدُ وتضطرب، وهذا بخلاف السفينة؛ لأنها متخذة من الخشب، وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء، فلهذا السَّبب تبقى الخشبةُ طافية على الماء، [فحينئذ] تميل وتميد وتضطرب على وجه الماء، فإذا أرسيت بالأجرام الثقيلة، استقرت وسكنت؛ فافترقا.(12/31)
وأمَّا على التقدير الثاني: وهو أنَّه ليس للأرض والماء طبع يوجب الثقل والرسوب، وإنَّما - الله تعالى - أجرى عادته بجعلها كذلك، وصار الماء محيطاً بالأرض لمجردِ إجراءِ العادة، وليس ههنا طبيعة للأرض، ولا للماء، توجب حالة مخصوصة، فعلى هذا التقدير؛ علَّة سكون الأرض: هي أنَّ الله - تعالى - خلق فيها السكون.
وعلة كونها مائدة مضطربة: هي أنَّ الله يخلق فيها الحركة، وعلى هذا، فيفسد القول بأنَّ الأرض كانت مائدة مائلة، فخلق الله تعالى الجبال وأرساها بها؛ لتبقى ساكنة؛ لأنَّ هذا إنما يصح إذا كانت طبيعة الأرض توجبُ الميلان، وطبيعة الجبال توجبُ الإرساء، والثبات، ونحن نتكلم على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال، فثبت أن هذا التعليل مشكلٌ على كلِّ تقديرٍ.
الثاني: أنَّ إرساء الأرض بالجبال إنَّما كان؛ لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء ساكنة من غير أن تميد وتميل، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً.
فنقول: فما المقتضي لسكونه في ذلك الحيِّز المخصوص؟ فإن كان طبعه المخصوص أوجب وقوفه في ذلك الحيز المعين، فلم لا نقولُ مثله في الأرض؟ وهو أنَّ طبيعة الأرض المخصوصة أوجبت وقوفها في ذلك الحيِّز المعيَّن، وحينئذٍ يفسد القول بأنَّ الأرض إنما وقفت؛ بسبب أنَّ الله أرساها بالجبال، وإن كان المقتضي لسكون الماء في حيِّزه المعين، هو أنَّ الله - تعالى - سكَّن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص، فلم لا نقول مثله في سكون الأرض؟ وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً.
الثالث: أنَّ الأرض كلها جسم، فبتقدير أن تميل وتضطرب على وجه البحر المحيط، فلم لم تظهر تلك الحالة للناس؟ .
فإن قيل: أليس أنَّ الأرض تحرِّكها البخارات المحتبسة في داخلها عند الزلزال، وتظهر تلك الحركات للناس، فبم تنكرون على من يقول: إنه لولا الجبال لتحركت الأرض، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما أرساها بالجبال الثقالِ، لم تقو الريحُ على تحريكها؟ .
قلنا: تلك البخارات احتبست في [داخل] قطعة صغيرة من الأرض، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة، ظهرت تلك الحركة، فظهور تلك الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضوٍ معينٍ من بدن الإنسانِ، أما لو تحركة كلية الأرض لم تظهر تلك الحركةُ؛ ألا ترى أنَّ الساكن في السفينة لا يحسُّ بحركة كليةِ السفينة، وإنْ كانت على أسرع الوجوه، وأقواها، فكذا ها هنا.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والذي عندي ههنا أن يقال: ثبت بالدلائل اليقينية(12/32)
أنَّ الأرض كرة، وثبت أنَّ الجبال على سطح الكرة جاريةٌ مجرى خشوناتٍ تحصل على وجه هذه الكرة.
وإذا ثبت هذا فنقول: لو فرضنا أنَّ هذه الخشوناتِ ما كانت حاصلة؛ بل كانت الأرض كرة حقيقية، خالية عن الخشونات، والتضريسات - لصارت بحيث تتحركُ بالاتسدارة بأدنى سبب؛ لأنَّ الجرم البسيط المستدير: إمَّا ن يجب كونه متحركاً بالاستدارة؛ وإن لم يجب ذلك عقلاً، إلاَّ أنَّها بأدنى سبب تتحركُ على [هذا الوجه] ، فلما حصل على ظاهر سطح الكرة من الأرض هذه الجبال، وكانت الخشونات الواقعة على وجهِ الكرةِ، فكل واحدٍ من هذه الجبال إنَّما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم، وتوجُّه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم، وقوته الشديدة، يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة، فكان تخليقُ هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتادِ المغروزةِ في الكرة المانعة من الحركة المستديرة، فكانت مانعة للأرض من المَيْدِ، والمَيْلِ، والاضطراب، بمنى أنها منعت الأرض من الحركةِ المستديرة والله أعلم.
قوله: «وأنْهَاراً» عطف على «رَواسِيَ» ؛ لأنَّ الإلقاء بمعنى الخلقِ، وادَّعى ابن عطيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّه منصوب بفعلٍ مضمرٍ، أي: وجعل فيها أنهاراً.
وليس كما ذكر.
وقيل: الإلقاءُ معناه الجعلُ، قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} [فصلت: 10] وقدره أبو البقاء: «وشقَّ فيها أنْهاراً» وهو مناسبٌ.
واعلم أنَّه ثبت في العلوم العقليَّة، أنَّ أكثر الأنهار إنما يتفجرُ منابعها في الجبال، فلهذا [السبب] لمَّا ذكر الجبال، أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار.
قوله «وسُبُلاً» أي: وذلَّل، أو وجعل فيها طرقاً؛ لتهتدوا بها في أسفاركم؛ كقوله تعالى: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} [طه: 53] إلى ما تريدون.
وقوله: {وَعَلامَاتٍ} أي: وضع فيها علاماتٍ.
قوله: «وبِالنَّجْمِ» متعلق ب «يَهْتَدُون» والعامة على فتح النون، وسكون الجيم، بالتوحيد، فقيل: المراد به: كوكب بعينه وهو الجَدْي أو الثُّريَّا.
وقيل: بل هو اسم جنس، وقرأ ابنُ وثَّاب: بضمهما، والحسن: بضمِّ النون فقط، وعكس بعضهم النقل عنهما.
فأمَّا قراءة الضمتين، ففيها تخريجان:
أظهرهما: أنه جمع صريح؛ لأنَّ فعلاء يجمع على فعل؛ نحو: «سَقْقٌ وسُقُف، وزَهْر وزُهُر» .(12/33)
والثاني: أنَّ أصله النجوم، وفعل يجمع على فعول؛ نحو: فَلْس وفُلُوس، ثم خفِّف بحذف الواو، كما قالوا: أسُد وأسُود وأسْد.
قال أبو البقاء؛ «وقالوا في» خِيَام: خُيُم «يعني أنَّه نظيرهُ من حيث حذفوا فيه حرف المدِّ.
وقال ابن عصفورٍ:» إنَّ قولهم: «النُّجُم» من ضرورات الشِّعر «وأنشد: [الرجز]
3306 - إنَّ الذي قَضَى بِذَا قاضٍ حِكمْ ... أن تَرِدَ الماءَ إذَا غَابَ النُّجُمْ
يريد النجوم. كقوله: [الرجز]
3307 - حَتَّى إذَا بُلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ ... يريد الحُلُوق.
وأمَّا قراءة الضمِّ، والسكون، ففيها وجهان:
أحدهما: أنها تخفيف من الضمِّ.
والثاني: أنها لغة مستقلة. وتقديم كلِّ من الجارِّ، والمبتدأ، يفيد الاختصاص، قال الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» فإن قلت: قوله تعالى: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} مختصٌّ بسفرِ البحر؛ لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر، ومنافعه، بيَّن أنَّ من يسير فيه يهتدون بالنجم.
وقال بعضهم: هو مطلقٌ في سفر البحر والبرِّ.
فصل في المراد بالعلامات
المراد بالعلاماتِ: معالمُ الطريق، وهي الأشياء التي يهتدى بها، وهذه العلامات هي الجبالُ والرياحُ.(12/34)
قال ابنُ الخطيب: «ورايتُ جماعة يشمُّون التراب؛ فيعرفون الطرقان بشمِّه» .
قال الأخفش - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تم الكلام عند قوله: «وعَلامَاتٍ» ثم ابتدأ: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} .
وقال محمد بن كعبٍ القرظيِّ، والكلبيُّ - رحمهما الله -: الجبالُ علاماتُ النَّهار، والنجوم علامات الليل.
قال السديُّ: أراد بالنجم: الثُّريَّا، وبنات نعش، والفرقدين، والجدي، يهتدى بها إلى الطرق، والقبلة.
قال القرطبيُّ: سأل ابنُ عباس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم - عن النَّجم؛ فقال - صلوات الله وسلامه عليه -:
«هُوَ الجَديُ عليْهِ قِبْلتكُمْ وبِهِ تَهْتَدونَ في بَرِّكُمْ وبَحْرِكُمْ» ، وذلك أنَّ آخر الجدي بناتُ نعشٍ الصغرى، والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينهما.
قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} الآية لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدالة على وجود الإله القادر الحكيم، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله - تعالى - والمقصود أنَّه لما دلت الدلائل [القاهرة] على وجود إله قادرٍ حكيم، وثبت أنَّه هو المُولِي لجميع هذه النعم، والمعطي لكلِّ هذه الخيراتِ، فكيف يحسنُ في العقولِ الاشتغال بعبادة غيره، لا سيَّما إن كان غيره جماداً لا يفهم، ولا يعقل؟ .
فلهذا قال تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه الأشياء التي ذكرناها {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} ، أي كمن لا يقدر على شيء ألبتة؛ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فإنَّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبُّر، ونظر؛ بل يكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم، من أنَّ العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعم العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنَّ عبادته تقبح، فهذه الأصنام جمادات محضة، ليس لها فهمٌ، ولا قدرة ولا غحساس، فكيف تعبدونها؟ .
قوله {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} إن أريد ب {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} جميع ما عبد من دون الله، كان ورود «مَنْ» واضحاً؛ لأنَّ العاقل يغلب على غيره، فيعبر عن الجميع ب «مَنْ» ولو جيء أيضاً ب «ما» لجاز، وإن أريد به الأصنام، ففي إيقاع «مَنْ» عليهم أوجهٌ:(12/35)
أحدها: إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيَّاها، واعتقادِ أنَّها تضرُّ، وتنفع كقول الشاعر: [الطويل]
3308 - بَكيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي ... فقُلْتُ: ومِثْلِي بالبُكَاءِ جَدِيرُ
أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ؟ ... لَعلِّي إلى مَنْ قَدْ هَويتُ أطِيرُ
فأوقع «مَنْ» على السرب، لمَّا عاملها معاملة العقلاء.
الثاني: المشاكلة بينه وبين «مَنْ يَخْلقُ» .
[الثالث: تخصيصه بمن يعلم، والمعنى: أنه إذا حصل التباين بين من يخلق] وبين «مَنْ لا يخلقُ» من أولي العلم، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم؛ كقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} [الأعراف: 195] إلى آخره؛ وأمَّا من يجيز إيقاع «مَنْ» على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل.
قال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن قلت: هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان، ونحوها؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق.
قلت: حين جعلوا غير الله مثل الله عَزَّ وَجَلَّ، بتسميتهم والعبادة له، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات، وتشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} .
فصل في الاحتجاج بالآية
احتجَّ أهل السنَّة بهذه الآية على أنَّ العبد غير خالقٍ لأفعالِ نفسه؛ لأنَّه سبحانه - عَزَّ وَجَلَّ - ميَّز نفسه عن الأشياءِ التي يعبدونها بصفة الخالقية؛ لأنَّ الغرض من قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} بيان تميُّزه عن الأصنام بصفة الخالقية، وأنَّه إنَّما يستحق الإلهية، والمعبوديَّة؛ لكونه خالقاً، وهذا يقتضي أنَّ العبد لو كان خالقاً لشيءٍ؛ وجب أن يكون إلهاً معبوداً، ولما كان ذلك باطلاً، علمنا أنَّ العبد لا يقدر على الخلق، والإيجاد.
أجاب المعتزلة من وجوه:
الأول: المراد من قوله تعالى {أَفَمَن يَخْلُقُ} ما تقدم ذكره من السماوات والأرض، والإنسان، والحيوان، والنبات، والبحار، والنجوم، والجبال، كمن لا يقدر على خلق(12/36)
شيءٍ أصلاً، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً لهذه الأشياءِ؛ فإنه يكون إلهاً، ولم يلزم منه أنه إن قدر على خلق أفعال نفسه أن يكون إلهاً.
الثاني: أنَّ معنى الآية: أنَّ من كان خالقاً كان أفضل ممَّن لا يكون خالقاً، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهيَّة، والمعبوديَّة، وهذا القدر لا يدلُّ على انَّ كلَّ من كان خالقاً؛ فإنَّه يجب أن يكون إلهاً؛ لقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} [الأعراف: 195] .
ومعناه أنَّ الذي له رجلٌ يمشي بها يكون أفضل من الذي له رجلٌ لا يمشي بها، وهذا يوجب كون الإنسان أفضل من الصَّنم، والأفضل لا يليقُ به عبادة الأخسِّ.
فهذا هو المقصود من هذه الآية، ثم إنها لا تدل على أن من له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً، فلذلك ها هنا المقصود من هذه الآية: أنَّ الخالق أفضل من غير الخالق، فيمتنع التسويةُ بينهما في الإلهية والمعبودية، ولا يلزم منه أنَّه بمجرَّد حصول صفة الخالقيَّة يكون إلهاً.
الثالث: أنَّ كثيراً من المعتزلةِ لا يطلقون لفظ الخالق على العبد. قال الكعبيُّ في تفسيره: إنا لا نقول: إنا لا نخلق أفعالنا، ومن أطلق ذلك ققد أخطأ؛ إلاَّ في مواضع ذكرها الله تعالى؛ كقوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} [المائدة: 110] ؛ وفي قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] واعلمْ أنَّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حقيقة؛ حتَّى إنَّ أبا عبد الله البصري بالغ وقال: إطلاق لفظ الخالق حقيقة على العبد، وعلى الله مجاز؛ لأنَّ الخلق عبارةٌ عن التقدير، وذلك عبارة عن الظنِّ، والحسبان، وهو في حقِّ العبد حاصلٌ، وفي حق الله تعالى محالٌ.(12/37)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} لمَّا بيَّن أنَّ الاشتغال بعبادة غير الله باطلٌ، بيَّن ههنا أنَّ العبد لا يمكنه الإتيانُ بعبادة الله، وشكر نعمه على سبيل التَّمامِ، والكمال، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعاتِ، والعبادات، وبالغ في شُكْرِ نعم الله؛ فإنه يكون مقصِّراً؛ لأنَّ الاشتغال بشكر النِّعم مشترطٌ بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل، فإنَّ من لا يكون متصوراً، ولا مفهوماً بمتنع الاشتغال بشكره، والعلم بنعمة الله على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد؛ لأنَّ نعم الله كثيرة، وأقسامها عظيمة، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمبادئها فضلاً عن غايتها، لكنَّ الطريق إلى ذلك أن يشكر الله على جميع نعمه مفصَّلها، ومجملها.
ثم قال - جلَّ ذكره -: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، «لَغَفُورٌ» لتقصيركم في شكر نعمه، «(12/37)
رَحِيمٌ» بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم لتقصيركم. قال بعضهم: إنَّه ليس لله على [الكافر] نعمةٌ. وقال الأكثرون: لله على الكافر والمؤمن نعمٌ كثيرةٌ؛ لأنَّ الإنعامَ بخلق السمواتِ، والأرض، وخلق الإنسان من نطفةٍ، والإنعام بخلق الخيلِ، والبغال والحمير، وجميع المخلوقات المذكورة للإنعام يشترك فيها المؤمن، والكافر.
قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} قرأ العامة «تُسِرُّونَ» و «تُعْلِنُونَ» بناء الخطاب، وأبو جعفرٍ، وشيبة بالياء من تحت، وقرأ عاصم وحده: «يَدْعُونَ» بالياء، والباقون بالتاء من فوق، وقراءة «يُدْعَونَ» مبنيًّا للمفعول، وهن واضحات، والمعنى: أنَّ الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرُّون ضروباً من المكر بمكايد الرسول؛ فذكر هذا زجراً لهم عنها.
قوله تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} تكريرٌ؛ لأن قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ} يدلُّ على أنَّ الأصنام لا تخلق شيئاً.
فالجواب: أنَّ الأول أنَّهم لا يخلقون شيئاً، وههنا أنَّهم لا يخلقون شيئاً، وأنهم مخلوقون كغيرهم؛ فكان هذا زيادة في المعنى.
قوله «أمْوات» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، أي: وهم يخلقون وهم أمواتٌ، ويجوز أن يكون «يُخْلَقُونَ» ، و «أمْواتٌ» كلاهما خبر من باب: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ ذكره أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم أمواتٌ.
قوله: {غَيْرُ أَحْيَآءٍ} يجوز فيه ما تقدم ويكون تأكيداً.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون قصد بها أنهم في الحال غير أحياء؛ ليدفع به توهُّم أنَّ قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ} فيما بعد، إذ قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] .
قال شهابُ الدِّين: «وهذا لا يخرجه عن التأكيد الذي ذكره قبل ذلك» .
فصل في وصف الأصنام
اعلم أنه - تعالى - وصف الأصنام بصفات:
أولها: أنها لا تخلق شيئاً.
وثانيها: أنها مخلوقة.(12/38)
وثالثها: أنهم أموات غير أحياءٍ، أي: أنها لو كانت آلهة حقيقية؛ لكانت أحياء غير أموات، أي: لا يجوز عليها الموت، كالحيِّ الذي لا يموت - سبحانه - وهذه الأصنام بالعكسِ.
فإن قيل: لما قال «أمْواتٌ» علم أنَّها «غَيْرُ أحياءٍ» ، فما فائدة قوله تعالى: {غَيْرُ أحْيَاءٍ} ؟ .
والجواب: أنَّ الإله هو الحيُّ الذي لا يحصل عقيب حياته موتٌ، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها حياة، وأيضاً: فهذا الكلام مع عبدة الأوثان، وهم في نهاية الجهالة، ومن تكلَّم مع الجاهل الغرِّ الغبي، فقد يعبر عن المعنى الواحد، بعباراتٍ كثيرة، وغرضه الإعلام بأنَّ ذلك المخاطب في غاية الغباوة، وإنما يعيد تلك الكلمات؛ لأنَّ ذلك السامع في نهاية الجهالة، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة.
ورابعها: قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} والضمير في قوله: «يَشْعرُونَ» عائد على الأصنام، وفي الضمير في قوله: «يُبْعَثُونَ» قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى العابد للأصنام، أي: ما يدري الكفار عبدةُ الأصنام متى يبعثون.
الثاني: أنه يعود إلى الأصنام، أي: الأصنام لا يشعرون متى يبعثها الله تعالى.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إنَّ الله - تعالى - يبعث الأصنام لها أرواحٌ، ومعها شياطينها، فتتبرَّأ من عابديها، فيؤمرُ بالكلِّ إلى النَّارِ.
فصل هل توصف الأصنام بموت أو حياة
الأصنام جمادات، والجمادات لا توصف بأنها أمواتٌ، ولا توصف بأنها لا تشعر بكذا وكذا.
فالجواب من وجوه:
الأول: أنَّ الجماد قد يوصف بكونه ميتاً؛ قال تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [الأنعام: 95] .
الثاني: أنهم لما وصفوا بالإلهيَّة قيل لهم: ليس الأمر كذلك؛ بل هي أمواتٌ، لا يعرفون شيئاً، فخوطبوا على وفق معتقدهم.
الثالث: أنَّ المراد بقوله تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [الملائكة] وكان أناسٌ من الكفَّار يعبدونهم؛ فقال الله تعالى: إنهم «أمْواتٌ» أي: لا بدَّ لهم من الموت «غَيْرُ أحْيَاءٍ» أي: غير باقيةٍ حياتهم، {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي لا علم لهم بوقت بعثهم. انتهى.(12/39)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
قوله تعالى: «أيَّانَ» منصوب بما بعده لا بما قبله؛ لأنَّه استفهام، وهو معلق ل «مَا يَشْعرُونَ» فجملته في محل نصب على إسقاطِ الخافض، هذا هو الظاهر.
وقيل: إن «أيَّانَ» ظرف لقوله {إلهكم إله وَاحِدٌ} [النحل: 22] يعني: أنَّ الإله واحدٌ يوم القيامة، ولم يدَّع أحد [تعدُّد] الآلهةِ في ذلك اليوم، بخلاف أيَّام الدنيا، فإنه قد وجد فيها من ادَّعى ذلك، وعلى هذا فقد تم الكلام على قوله «يَشْعُرونَ» إلاَّ أنَّ هذا القول مخرجٌ ل «أيَّانَ» عن [موضوعها] ، وهو إمَّا الشرط، وإمَّا الاستفهام إلى محضِ الظرفية، بمعنى وقت مضاف للجملة بعده؛ كقولك «وقْتَ يَذهَبُ عَمرٌو مُنْطلِقٌ» ف «وَقْتَ» : منصوبٌ ب «مُنْطَلِقٌ» مضاف ل «يَذْهَبُ» .
قوله
تعالى
: {إلهكم
إله
وَاحِدٌ} لما زيف طريقة عبدة الأصنام وفساد مذاهبهم، قال {إلهكم إله وَاحِدٌ} ثمَّ ذكر ما لأجله أصرَّ الكفار على الشركِ؛ فقال: {فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} جاحدة {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} مستعظمون أي: إنَّ المؤمنين في الآخرة يرغبون بالفوز في الثواب الدائم، ويخافون العقاب الدائم، فإذا سمعوا الدلائل خافوا، وتأملوا، وتفكروا فيما يسمعون، فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل، ويرجعون إلى الحقِّ.
وأمَّا الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها، فإنهم لا يرغبون في الثواب ولا يرهبون عن الوقوع في العقاب، فيبقون منكرين لكلِّ كلامٍ يخالف قولهم، ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم، فيبقون مصرِّين على الجهل والضلال.
قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} .
قد تقدم الكلام على لفظة «لا جَرمَ» في سورة هودٍ - عليه السلام - والعامة على فتح الهمزة من «أن اللهَ» ، وكسرها عيسى الثقفي رَحِمَهُ اللَّهُ، وفيها وجهان:
أظهرهما: الاستئناف.
والثاني: جريان «لا جرمَ» مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به.
وقال بعض العرب: «لا جَرمَ واللهِ لا [فَارَقْتَُ] » وهذا يضعف كونها للقسم؛ لتصريحه بالقسم بعدها، وإن كان أبُو حيَّان أتى بذلك مقوِّياً لجريانها مجرى القسم.
قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} ، أي: أنَّ إصرارهم على الكفر ليس لأجل شبهة تصوروها، بل لأجل التقليد لأسلافهم، والتَّكبُّر؛ قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يَدْخُل(12/40)
الجَنَّة مَنْ كَانَ في قَلْبهِ مِثْقَالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْر، ولا يدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِه مِثقَالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ، فقال رجُلٌ: يا رسُولَ الله - صلّى الله عَليْكَ - إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يكُونَ ثَوْبهُ حَسناً، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ الله - تعَالَى - جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ: بَطرُ الحقِّ، وغَمْطُ البَاطلِ» .(12/41)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} الآيات.
لمَّا قرر دلائل التوحيد، وأبطل مذاهب عبدة الأصنام، ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها.
فالشبهة الأولى: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما احتجَّ على صحة بعثته بكون القرآن معجزة؛ طعنوا فيه، وقالوا: إنه أساطير الأولين، واختلفوا في هذا القول.
فقيل: هو كلام بعضهم لبعض.
وقيل: قول المسلمين لهم.
وقيل: قول المقتسمين الذين اقتسموا [مكَّة] ومداخل مكة؛ ينفِّرون عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا سألهم وفود الحاجِّ عمَّا أنزل الله على رسوله.
قوله: «مَاذَا» تقدم الكلام عليها أول البقرة.
وقال الزمخشريُّ: «أو مرفوعٌ بالابتداءِ، بمعنى أي شيء أنزله ربُّكم» .(12/41)
قال أبو حيَّان: «وهذا غيرُ جائزٍ عند البصريِّين» . يعني: من كونه حذف عائده المنصوب، نحو «زَيْدٌ ضَربْتُ» وقد تقدم خلاف النَّاس في هذا، والصحيح جوازه، والقائم مقام الفاعل، قيل: الجملة من قوله {مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} لأنها المقولة، والبصريون يأبون ذلك، ويجعلون القائم مقامه ضمير المصدر؛ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلة، ولا قائمة مقام الفاعل، والفاعل المحذوف: إمَّا المؤمنون، وإما بعضهم، وإمَّا المقتسمون.
وقرئ «أسَاطيرَ» بالنصب على تقدير: أنزل أساطير، على سبيل التهكُّم، أو ذكرتم أساطير.
والعامة برفعه على أنَّه خبر مبتدأ مضمر فاحتمل أن يكون التقدير: المنزَّل أساطير على سبيل التَّهكُّم، أو المذكور أساطير، وللزمخشريُّ هنا عبارة [فظيعة] .
قوله «لِيَحملُوا» لمَّا حكى شبهتهم قال: «لِيَحْمِلُوا» وفي هذه اللام ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها لامُ الأمر الجازمة على معنى الحتم عليهم، والصغار الموجب لهم، وعلى هذا فقد تمَّ الكلام عند قوله: «الأوَّلِينَ» ثم استؤنف أمرهم بذلك.
الثاني: أنها لام العاقبة، أي: كان عاقبة [قولهم] ذلك؛ لأنَّهم لم يقولوا أساطير ليحملوا؛ فهو كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] .
قال: [الوافر]
3309 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرابِ..... ... ... ... ... ...
الثالث: أنها للتعليل، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه تعليل مجازي.
قال الزمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: واللام للتعليل من غير أن تكون غرضاً؛ نحو قولك «خَرجْتُ مِنَ البَلدِ مَخافَةَ الشَّرِّ» .
والثاني: أنه تعليلٌ حقيقة.
قال ابن عطيَّة بعد حكاية وجه لامِ العاقبةِ: «ويحتمل أن يكون صريح لام كي؛ على معنى قدِّر هذا؛ لكذا» انتهى.
لكنه لم يعلِّقها بقوله «قَالُوا» إنما قدَّر لها عاملاً، وهو «قدَّر» هذا.
وعلى قول الزمخشري يتعلق ب «قَالُوا» لأنها ليست لحقيقة العلَّة، و «كَامِلةً» حالٌ، والمعنى لا يخفَّف من عقابهم شيءٌ، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم، وهذا يدل على أنَّه - تعالى - قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً(12/42)
للكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفَّار بهذا التكميل فائدة.
قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أيُّمَا دَاعٍ دَعَى إلى الهُدَى، فاتُّبعَ، كَانَ لهُ مِثْلُ أجْرِ مَن اتَّبعَهُ لا يَنقصُ مِنْ أجُورِهِمْ شيءٌ، وأيُّمَا داعٍ دَعَى إلى الضَّلالِ فاتُّبعَ؛ كَان عَليْهِ وِزْرُ من اتَّبعَه لا ينقص مِنْ آثامهمْ شيءٌ» .
قوله: {وَمِنْ أوْزَارِ} فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ «مِنْ» مزيدة، وهو قول الأخفش، أي: وأوزار الذين، على معنى: ومثل أوزار؛ كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «كَانَ عَليْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ منْ عَمِلَ بِهَا» .
الثاني: أنها غير مزيدة، وهي للتبعيض، أي: وبعض أوزار الذين، وقدَّر أبو البقاءِ: مفعولاً حذف، وهذه صفته، أي: وأوزار من أوزار، ولا بد من حذف «مثل» أيضاً.
ومنع الواحديُّ أن تكون «مِنْ» للتبعيض، قال: «لأنَّهُ يستلزم تخفيف الأوزار عن الأتباع، وهو غير جائز، لقوله - صلوات الله وسلامه عليه -:» مِنْ غَيْرِ أن يَنقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شيء «لكنها للجنس، أي: ليحملوا من جنس أوزار الأتباع» .
قال أبو حيان: «والتي لبيان الجنس لا تقدَّر هكذا؛ وإنَّما تقدر الأوزار التي هي أوزارُ الذين يذلونهم فهو من حيث المعنى موافق لقول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير» .
قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه مفعول يُضِلُّونَ «أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضلالٌ؛ قاله الزمخشريُّ.
والثاني: أنه الفاعل، ورجَّح هذا بأنَّه المحدث عنه، وتقدم الكلام في إعراب نحو:» سَاء مَا يَزرُونَ «وأنَّها قد تجري مجرى بِئْسَ، والمقصود منه المبالغة في الزَّجْرِ.
فإن قيل: إنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة عنهم، ولم يجب عنها، بل اقتصر على محض الوعيد، فما السبب فيه؟ .
فالجواب: أنه - تعالى - بين كون القرآن معجزاً بطريقين:(12/43)
الأول: أنه - صلوات الله وسلامه عليه - تحدَّاهم تارة بكل القرآن، وتارة بعشر سورٍ، وتارة بسورةٍ واحدةٍ، وتارة بحديثٍ واحدٍ، وعجزوا عن المعارضة؛ وذلك يدل على كون القرآن معجزاً.
الثاني: أنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة بعينها في قوله: {اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] ، وأبطلها بقوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات} [الفرقان: 6] أي: أنَّ القرآن مشتملٌ على الإخبارِ عن الغيوب، وذلك لا يتأتَّى إلا ممَّن يكون عالماً بأسرار السماوات، والأرض، ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين، وتكرر شرحهما مراراً؛ لا جرم اقتصر ههنا على مجرد الوعيد.
قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} ذكر هذه الآية مبالغة في وصف أولئك الكفار.
قال بعض المفسرين: المراد بالذين من قبلهم نمرودُ بن كنعان بنى صَرْحاً عظيماً بِبَابلَ طوله خمسة آلافِ ذراع، وعرضه ثلاثة آلافِ ذراع - وقيل: فرسخاً - ورام منه الصُّعودَ إلى السماء؛ ليقاتل أهلها، فَهَبَّتْ ريحٌ وألقت رأسها في البحر، وعزَّ عليهم الباقي وهم تحته، ولما سقط الصَّرحُ تبلبلت ألسن النَّاس من الفزع يومئذ؛ فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً؛ فلذلك سمِّيت بابل، وكانوا يتكلمون قبل ذلك بالسريانية؛ فذلك قوله تعالى: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} أي: قصد تخريب بنيانهم من أصولها.
والصحيح: أنَّ هذا عامٌّ في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضَّرر والمكر بالمحقِّين.
واعلم أنَّ الإتيان ها هنا عبارةٌ عن إتيان العذاب، أي: أنهم لمَّا كفروا؛ أتاهم الله بزلزال تقلقلتْ منها بنيانهم من القواعد، والأساس؛ والمراد بهذا محض التَّمثيلِ والمعنى: أنَّهم رتبوا منصوباتٍ؛ ليمكروا بها أنبياء الله؛ فجعل هلاكهم مثل قوم بنوا بنياناً، وعمدوه بالأساطين، فانهدم ذلك البناءُ، وسقط السقف عليهم؛ كقولهم: «مَنْ حَفَرَ بِئْراً لأخِيهِ أوْقعَهُ اللهُ فِيهِ» .
وقيل: المراد منه ما دل عليه الظاهر.
قوله تعالى: {مِّنَ الْقَوَاعِدِ} «مِن» لابتداءِ الغايةِ، أي: من ناحية القواعد، أي: أتى أمر الله وعذابه.
قوله «مِنْ فَوقِهِمْ» يجوز أن يتعلَّق ب «خَرَّ» ، وتكون «مِن» لابتداءِ الغاية، ويجوز يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «السَّقف» وهي حال مؤكدة؛ إذ «السَّقفُ» لا يكون تحتهم.
وقيل: ليس قوله: «مِنْ فَوقِهِمْ» تأكيدٌ؛ لأنَّ العرب تقول: «خَرَّ عَليْنَا سَقفٌ، ووقَعَ عَليْنَا حَائِطٌ» إذا كان عليه، وإن لم يقع عليه، فجاء بقوله «مِنْ فَوْقِهِم» ليخرج به هذا الذي في كلام العرب، أي: عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا.(12/44)
وهذا غير طائل، والقول بالتوكيد أظهر.
وقرأ العامة: «بُنْيَانَهُمْ» ، وقوم: بُنْيَتَهُمْ، وفرقة منهم أبو جعفر: بَيْتَهُم. والضحاك: بُيوتَهُم.
والعامة: «السَّقْفُ» أيضاً مفرداً، وفرقة: بفتح السِّين، وضمِّ القاف بزنة «عَضُد» وهي لغة في «السَّقفِ» ولعلَّها مخففة من المضموم، وكثر استعمال الفرع؛ لخفَّته، كقولهم في لغة تميم «رَجُلٌ» ولا يقولون: رجَُلٌ.
وقرأ الأعرج: «السُّقُف» بضمتين، وزيد بن علي: بضم السين، وسكون القاف، وقد تقدم مثل ذلك في قراءة {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ثم قال: {وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} إن حملنا الكلام على محض التمثيل؛ فالمعنى: أنَّهُمْ اعتمدوا على منصوباتهم، ثم تولَّد البلاء منها بأعيانها، وإن حملناه على الظاهر، فالمعنى: أن السَّقف نزل عليهم بغتة.
ثم بين - تعالى - أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذه القدر، بل الله - تعالى - يخزيهم [يومَ] القيامة، والخِزْيُ: هو العذاب مع الهوانِ؛ فإنه يقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} .
قال أبو العبَّاس المقريزيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ورد لفظ «الخِزْي» في القرآن على أربعة [معانٍ] :
الأول: بمعنى العذاب؛ كهذه الآية؛ وكقوله تعالى: {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] أي: لا تُعذِّبني.
الثاني: بمعنى القَتْلِ؛ قال تعالى: {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا} [البقرة: 85] ، أي: القتلُ.
قيل: نزلت في بني قريظة، ومثله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ} [الحج: 9] أي: فضيحة. قيل: نزلت في النضر بن الحارث.
الثالث: بمعنى الهوان، قال تعالى: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ} [يونس: 98] أي الهوان.(12/45)
الرابع: بمعنى الفضيحة قال تعالى: {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] أي فضحته، ومثله: {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] ومثله: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78] ومثله: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذلك لَهُمْ خِزْيٌ} [المائدة: 33] .
قوله: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} مبتدأ وخبر، والعامة على «شُركَائِيَ» مدوداً، مهموزاً، مفتوح الياءِ، وفرقة كذلك تسكنها فتسقط وصلاً؛ لالتقاء الساكنين، وقرأ البزي - بخلاف عنه - بقصره مفتوح الياء، وقد أنكر جماعة هذه القراءة، وزعموا أنها غير مأخوذ بها؛ لأنَّ قصر الممدود لا يجوز إلاَّ ضرورة.
وتعجب أبو شامة من أبي عمرٍو الدانيِّ، حيث ذكرها في كتابه؛ مع ضعفها، وترك قراءاتٍ شهيرة واضحة.
قال شهاب الدِّين: «وقد روى ابن كثيرٍ - أيضاً - قصر التي في القصص، وروي عنه - أيضاً - قصرُ» وَرائِي «في مريم، وروي عنه أيضاً قَصْرُ: {أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 7] في سورة العلق، فقد روى عنه قصر بعض الممدودات، فلا يبعد رواية ذلك هنا عنه» .
وبالجملة: قصر الممدود ضعيفٌ؛ ذكره غير واحدٍ؛ لكن لا يصلُ به على حدِّ الضرورة.
قوله: «تُشَاقُّون» قرأ نافع: بكسر النن خفيفة، والأصل: تُشاقُّونِّي فحذفها مجتزئاً عنها بالكسرة.
والباقون: بفتحها، خفيفة، ومفعوله محذوف، أي: تشاقُّون المؤمنين، أو تشاقُّون الله؛ بدليل القراءة الأولى.
وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة؛ أعني: قراءة نافع، وقرأت فرقة: بتشديدها مكسورة، والأصل: تُشَاقُّوننِي؛ فأدغم، وقد تقدم تفصيل ذلك في: {أتحاجواني} [الأنعام: 80] و {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] وسيأتي في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا} [الزمر: 64] .
فصل
قال الزجاج: قوله {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} ، أي: في زعمكم، واعتقادكم، ونظيره: {أَيْنَ(12/46)
شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] وحسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سببٍ؛ كما يقال لمن يحمل خشبة: «خُذْ طَرفَكَ، وآخُذُ طَرفِي» فأضاف الطَّرفَ إليهِ.
ومعنى «تُشَاقُّونَ» أي: تعادون، وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، والمشاقَّة: عبارة عن كون أحد الخصمين في شقٍّ، والخصم الآخر في الشق الآخر.
ثم قال تعالى: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} قال ابن عباسٍ: يريد الملائكة، وقال آخرون: هم المؤمنون الذين يقولون حين يرون خزي الكفار في القيامة: {إِنَّ الخزي اليوم والسواء} العذاب {عَلَى الكافرين} وفائدة هذا الكلام: أنَّ الكفار كانوا يتكبَّرون على المؤمنين في الدنيا، فإذا ذكر المؤمنون هذا الكلام يوم القيامة؛ كان هذا الكلام في إيذاء الكفار أكمل وحصول الشماتة أقوى.
فصل في احتجاج المرجئة بالآية
احتج المرجئة بهذه الآية على أنَّ العذاب مختصٌّ بالكافرين، [قالوا:] فإن قوله تعالى: {إِنَّ الخزي اليوم والسواء} في يوم القيامة مختص بالكافرين، ويؤكد هذا قول موسى - عليه السلام -: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] .
قوله: «اليَوْمَ» منصوب ب «الخِزْيَ» وعمل المصدر فيه «ألْ» وقيل: هو منصوب بالاستقرار في {عَلَى الكافرين} إلاَّ أنَّ فيه فصلاً بالمعطوف بين العامل ومعموله؛ واغتفر ذلك؛ لأنهم يتوسَّعون في الظروف.
قوله: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ} يجوز أن يكون الموصول مجرور المحلِّ؛ نعتاً لما قبله، أو بدلاً منه، أو بياناً له، وأن يكون منصوباً على الذم أو مرفوعاً عليه، أو مرفوعاً بالابتداء، والخبر قوله {فَأَلْقَوُاْ السلم} والفاء مزيدة في الخبر؛ قاله ابن عطية.
وهذا لا يجيء إلاَّ على رأي الأخفش؛ في إجازته زيادة الفاء في الخبر مطلقاً؛ نحو: «زيْدٌ فقامَ» ، أي: قام، ولا يتوهم أنَّ هذه الفاء هي التي تدخل مع الموصول المضمَّن معنى الشَّرط؛ لأنَّه لو صرَّح بهذا الفعل مع أداة الشرط، لم يجز دخول الفاء عليه؛ فما ضمِّن معناه أولى بالمنع؛ كذا قاله أبو حيان، وهو ظاهر.
وعلى الأقوالِ المتقدمة، خلا القول الأخير يكون «الَّذينَ» وصلته داخلاً في القول، وعلى القول الأخير، لا يكون داخلاً فيه، وقرأ «يَتوفَّاهُمُ» بالياءِ في الموضعين حمزة، والباقون: بالتاء من فوق؛ وهما واضحتان مما تقدم في قوله: {فَنَادَتْهُ الملاائكة} [آل عمران: 39] وناداه، وقرأت فرقة: بإدغام إحدى التاءين في الأخرى، وفي مصحف عبد(12/47)
الله: «تَوفَّاهمُ» بتاء واحدة، وهي محتملة للقراءةِ بالتشديد على الإدغام، وبالتخفيف على حذف إحدى التَّاءين.
و {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} حالٌ من مفعولٍ «تَتوفَّاهُمُ» ، و «تَتوفَّاهُمُ» يجوز أن يكون مستقبلاً على بابه؛ إن كان القول واقعاً في الدنيا، وإن كان ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامةِ.
قوله «فألْقوا» يجوز فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه خبر الموصول، وقد تقدم فساده.
الثاني: أن يكون عطفاً على «قَالَ الَّذِينَ» .
الثالث: أن يكون مستأنفاً، والكلام قد تمَّ عند قوله: «أنْفُسهمْ» ثمَّ عاد بقوله: «فألْقَوا» إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة؛ فعلى هذا يكون قوله: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} إلى قوله «أنْفُسهِمْ» جملة اعتراضٍ.
الرابع: أن يكون معطوفاً على «تَتوفَّاهُم» قاله أبو البقاءِ.
وهذا إنَّما يتمشى على أنَّ «تَتوفَّاهُم» بمعنى المضيِّ؛ ولذلك لم يذكر أبو البقاء في «تَتوفَّاهُم» سواه. قوله {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} فيه أوجهٌ:
أحدها: أن يكون تفسيراً للسلم الذي ألقوه؛ لأنَّه بمعنى القول؛ بدليل الآية الأخرى: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} [النحل: 86] قاله أبو البقاء، ولو قال: يُحْكى بما هو بمعنى القول؛ لكان أوفق لمذهبِ الكوفيِّين.
الثاني: أن يكون منصوباً بقولٍ مضمرٍ، ذلك القول منصوبٌ على الحالِ، أي: فألقوا السَّلم قائلين ذلك.
و «مِنْ سُوءٍ» مفعول «نَعْملُ» زيدت فيه «مِنْ» ، و «بَلَى» جوابٌ ل «مَا كُنَّا نعمل» فهو إيجابٌ له.
فصل
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: استسلموا، وأقرُّوا لله بالعبودية عند الموت، وقالوا {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} ، والمراد من هذا السوء الشِّرك، فقالت الملائكة تكذيباً لهم {بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من التكذيب، والشرك، وقيل: تمَّ الكلام عند قوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ثم عاد إلى حكايةِ كلام المشركين إلى يوم القيامة، والمعنى: أنَّهم يوم القيامة ألقوا السَّلم؛ وقالوا: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} على سبيل الكذب، ثمَّ ههنا(12/48)
اختلفوا: فالذين جوَّزوا الكذب على أهلِ القيامة قالوا: إنَّ قولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} لغاية الخوف، والَّذينَ لم يجوِّزوا الكذب عليهم قالوا: المعنى: ما كنَّا نعمل مِنْ سُوءٍ عند أنفسنا وفي اعتقادنا، وقد تقدَّم الكلام في قوله الأنعام: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] هل يجوز الكذب على أهل القيامة، أم لا؟ .
وقوله: {بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يحتمل أن يكون من كلام الله أو بعض الملائكة.
ثم يقال لهم: {فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} وهذا يدلُّ على تفاوت منازلهم في العقاب، وصرَّح بذكر الخلود؛ ليكون الغمُّ [والحزن] أعظم.
قوله: «فَلَبِئْسَ» هذه لام التأكيد؛ وإنما دخلت على الماضي لجموده وقربه من الأسماء، والمخصوص بالذم محذوفٌ، أي: جهنَّم.
قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} الآية.
لما بين أحوال الكافرين، أتبعه ببيان أحوال المؤمنين.
قال القاضي [المتقي هو:] تارك جميع المحرَّمات وفاعل جميع الواجبات.
وقال غيره: المتَّقي: هو الذي يتَّقي الشرك.
قوله: «خَيْراً» العامة على نصبه، أي: أنزل خيراً.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لِمَ رفع» أسَاطِيرُ الأولين «ونصب هذا؟ .
قلت: فصلاً بين جواب المقر، وجواب الجاحد، يعني: أنَّ هؤلاء لما سئلوا لم يَتَلعْثَمُوا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيِّناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال ف» قَالُوا خَيْراً «أي: أنزل خيراً وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا: هو أساطير الأوَّلين، وليس هو من الإنزال في شيءٍ» .
وقرأ زيد بن عليٍّ: «خَيْرٌ» بالرفع، أي: المُنزَّلُ خيرٌ، وهي مُؤيِّدة لجعل «مَاذَا» موصولة، وهو الأحسن؛ لمطابقة الجواب لسؤاله، وإن كان العكس جائزاً، وقد تقدم تحقيقه في البقرة.
قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} هذه الجملة يجوز فيها أوجه:
أحدها: أن تكون منقطعة عما قبلها استئناف إخبار بذلك.
الثاني: أنَّها بدلٌ من «خَيْراً» . قال الزمخشري: «هو بدلٌ من» خَيْراً «؛ حكاية لقول» الَّذينَ اتَّقوا «، أي: قالوا هذا القول فقدَّم تسميته خبراً ثمَّ حكاه» .(12/49)
الثالث: أنَّ هذه الجملة تفسير لقوله: «خَيْراً» ، وذلك أنَّ الخير هو الوحيُ الذي أنزل الله فيه: من أحسن في الدنيا بالطاعةِ؛ فله حسنةٌ في الدنيا، وحسنةٌ في الآخرة.
وقوله: {فِي هذه الدنيا} الظاهر تعلقه ب «أحْسَنُوا» ، أي: أوقعوا الحسنة في دار الدنيا، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حكاية حالٍ من «حَسنةً» ، إذ لو تأخر؛ لكان صفة لها، ويضعف تعلقه بها نفسها؛ لتقدمه عليها.
فصل
قال المفسرون: إنَّ أحياء من العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا جاء [سائل] المشركين الذين قعدوا على الطريق عن محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقولون: ساحر، وكاهن، وشاعر وكذاب، كذبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيأتي المؤمنين فيسألهم عن محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما أنزل عليه؛ فيقولون «خَيْراً» ، أي أنزل خيراً، ثم ابتدأ فقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} أي كرامة من الله.
قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هي تضعيفُ الأجر إلى العشرة. وقال الضحاك: هي النصرة والفتح. وقال مجاهدٌ: هي الرزقُ الحسن، ويحتمل أن يكون الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خيرٌ.
وقولهم «خَيْراً» جامع لكونه حقاً وصواباً، ولكونهم معترفين بصحته، ولزومه وهذا بالضدِّ من قول الذين لا يؤمنون: إن ذلك أساطير الأولين. وتقدم الكلام على «خَيْرٌ» في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَلَلدَارُ الآخرة خَيْرٌ} [الأنعام: 32] .
ثم قال تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ} ، أي ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة فحذفت؛ لسبق ذكرها.
هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها، فإن وصلتها بما بعدها قلت: {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ} برفع «جَنَّاتُ» على أنها اسم ل «نِعْمَ» كما تقول: نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزلُهَا زَيْدٌ.
قوله {جَنَّاتُ عَدْنٍ} يجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح؛ فيجيء فيها ثلاثة أوجهٍ:
رفعها بالابتداءِ، والجملة المتقدمة خبرها.
أو رفعها بالابتداءِ، والخبر محذوف؛ وهو أضعفها، وقد تقدم تحقيق ذلك.
ويجوز أن يكون «جَنَّاتُ عَدنٍ» خبر مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدم، بل يكون المخصوص [بالمدح] محذوفاً؛ تقديره: ولنعم دارُ المتقين دارهم هي جنات.(12/50)
وقدره الزمخشري: {ولنِعْمَ دارُ المتَّقِينَ دَارُ الآخرة} «ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر جملة، من قوله» يَدْخُلونهَا «ويجوز أن يكون الخبر مضمراً، تقديره: لهم جنَّات عدنٍ، ودلَّ على ذلك قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} .
والعامة على رفع» جَنَّات «على ما تقدم، وقرأ زيد بن ثابت، والسلميُّ» جَنَّاتِ «نصباً على الاشتغالِ بفعلٍ مضمرٍ، تقديره: بدخُلونَ جنَّاتِ عدْنٍ يَدخُلونهَا، وهذا يقوي أن يكون» جَنَّاتُ «مبتدأ، و» يَدْخُلونهَا «الخبر في قراءةِ العامَّة، وقرأ زيد بن عليٍّ:» ولنِعْمَتْ «بتاءِ التأنيث، مرفوعة بالابتداء و» دَارِ «خفض بالإضافة، فيكون» نِعْمَت «مبتدأ و» جَنَّات عَدْنٍ «الخبر. و» يدخلونها «في جميع ذلك نصب على الحال، إلا إذا جعلناه خبراً ل» جنات «، وقرأ نافع في رواية:» يُدخَلُونهَا «بالياء من تحت؛ مبنياً للمفعول.
وقرأ أبو عبد الرحمن:» تَدْخُلونهَا «بتاء الخطاب مبنياً للفاعل.
قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} يجوز أن يكون منصوباً على الحال من» جَنَّاتُ «قاله ابن عطيَّة، وأن يكون في موضع الصفة ل» جنَّات «قاله الحوفيُّ، والوجهان مبنيَّان على القول في» عَدْنٍ «هل هي معرفة؛ لكونه علماً، أو نكرة؟ فقائل الحال: لحظ الأول، وقائل النَّعتِ: لحظ الثاني.
قوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ} الكلام في هذه الجملة، كالكلام في الجملة قبلها، والخبر إمَّا» لَهُمْ «وإمَّا» فِيهَا «.
قوله:» كَذلِكَ «الكاف في محل نصب على الحال من ضمير المصدر؛ أو نعتاً لمصدرٍ مقدَّر، أو في محل رفع خبر المبتدأ مضمر، أي: الأمر كذلك و {يَجْزِي الله المتقين} مستأنف.
فصل
قال الحسن: دار المتقين هي الدُّنيَا؛ لأنَّ أهل التَّقوى يتزوَّدون فيها للآخرة.
وقال أكثرُ المفسرين: هي الجنَّة، ثم فسرها فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} فقوله» جَنَّاتُ عدْنٍ «يدلُّ على القصور، والبساتين، وقوله:» عَدْنٍ «يدل على الدَّوامِ، وقوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها، والأنهار جارية من تحتهم، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ} من كلِّ الخيراتِ، {كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين} أي: هذا جزاء التَّقوى.(12/51)
ثم وصف المتقين فقال: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ} وهذا مقابلٌ لقوله {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28] .
وقوله:» طَيِّبِينَ «كلمة مختصرة جامعة لمعان كثيرة؛ فيدخل فيها إتيانهم بالمأموراتِ، واجتنابهم عن المنهيات، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة، وبراءتهم عن الأخلاق المذمومة.
وأكثر المفسرين يقول: إن هذا التَّوفي قبض الأرواح.
وقال الحسن: إنه وفاةُ الحشر؛ لقوله بعد {ادخلوا الجنة} واحتج الأولون بأن الملائكة لما بشروهم بالجنة، صارت الجنة كأنها دارهم، فيكون المراد بقوله: {ادخلوا الجنة} أي: خاصة لكم، «يَقُولونَ» يعني الملائكة: «سَلامٌ عَلَيْكُم» وقيل: يُبلِّغونَهم سلام الله.
قوله: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ} يحتمل ما ذكرناه فيما تقدم، وإذا جعلنا «يَقُولون» خبراً فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، أي: يقولون لهم، وإذا لم نجعله خبراً، كان حالاً من الملائكة؛ فيكون «طَيِّبينَ» حالاً من المفعول، و «يَقُولُونَ» حالاً من الفاعل، وهي يجوز أن تكون حالاً مقارنة، أي: كان القول واقعاً في الدنيا، ومقدرة إن كان واقعاً في الآخرة.
ومعنى «طَيِّبينَ» ، أي ظاهرين من الشرك، وقيل: صالحين، وقيل: زاكية أعمالها وأقوالهم، وقيل: طيِّبي الأنفس؛ ثقة بما يلقونه من ثواب الله - تعالى - وقيل: طيبة نفوسهم، بالرجوع إلى الله، وقيل: طيِّبين، أي: يكون وفاتهم طيبة سهلة.
و «ما» في «بِمَا» مصدرية، أو بمعنى الذي؛ فالعائد محذوف.(12/52)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} الآية.
هذه شبهة ثانية لمنكري النبوة؛ فإنهم طلبوا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينزل الله ملكاً من(12/52)
السماء؛ يشهد على صدقه في ادِّعاء النبوة؛ فقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ} في التصديق بنبوتك {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة} شاهدين بذلك، ويحتمل أنَّ القوم لما طعنوا في القرآن بقولهم: {أَسَاطِيرُ الأولين} وذكر أنواع التهديد، والوعيد، ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً، عاد إلى بيان أنَّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم، وأقوالهم الباطلة بالبيانات التي ذكرناها، إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد، أو أتاهم أمر ربِّك، وهو عذاب الاستئصال، وعلى كلا التقديرين قال تعالى: {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} ، أي: أفعال هؤلاء، وكلامهم يشبهُ كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم، وتقدم الكلام على قوله: {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملاائكة} [الأنعام: 158] في آخر الأنعام، وأنَّ الأخوين يقرآن بالياء من تحت، والباقين بالتاء من فوق، وهما واضحتان؛ لكونه تأنيثاً مجازيًّا.
قوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بتعذيبه إياهم، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم {ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكنهم ظلموا أنفسهم؛ بكفرهم، وتكذيبهم الرسل.
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي: عقاب سيئات ما عملوا، فقوله: «فأصَابَهُمْ» عطف على «فَعلَ الَّذينَ» وما بينهما اعتراضٌ، «وَحَاقَ» نزل «بِهِمْ» على وجه الإحاطة بجوانبهم، {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: عقاب استهزائهم.
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا} الآيات.
هذه شبهة ثالثة لمنكري النبوة لأنهم تمسكوا بالقول بالجبر على الطَّعن في النبوة؛ فقالوا: لو شاء الله الإيمان، لحصل لنا سواء جئت، أو لم تجئ، ولو شاء الكفر لحصل الكفر، جئت أو لم تجئ، فالكلُّ من الله، ولا فائدة في مجيئك ولا في إرسالك وهذا غير ما حكاه الله عنهم في سورة الأنعام في قوله: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} [الأنعام: 148] .
واستدلال المعتزلة به، مثل استدلالهم بتلك الآية، والكلام فيه استدلال واعتراض عين ما تقدم هناك، فلا فائدة، ولا بأس بأن نذكر منه القليل، فنقول: الجواب عن هذه الشبهة هي: أنَّهم قالوا: لما كان الكل من الله - تعالى - كانت بعثة الأنبياء عبثاً؛ فنقول: هذا اعتراضٌ - على الله - تعالى فإن قولهم: إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان، ودفع الكفر؛ كانت بعثة الأنبياءِ غير جائزة من الله - تعالى -.
فهذا القول جارٍ مجرى طلب العلةِ في أحكام الله - تعالى - وفي أفعاله، وذلك باطل؛ بل الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا يعترض عليه في أفعاله.
وقال بعضُ المتكلمين والمفسرين: إنهم ذكروا هذا الكلام استهزاء؛ كقول قوم شعيبٍ: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] ولو قالوا ذلك اعتقاداً لكانوا مؤمنين.
قوله: {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} قالت المعتزلة: إنه - سبحانه وتعالى - ما منع أحداً من الإيمان، وما أوقعه في الكفر، والرسل ليس عليهم إلا التبليغُ.(12/53)
وأهل السنة قالوا: معناه أنه - تعالى - أمر الرسول بالتبليغ فوجب عليهم، فأمَّا أن الإيمان هل يحصل، أو لا يحصل؟ فذلك لا يتعلق بالرسولِ - صلوات الله وسلامه عليه - ولكنه تعالى يهدي من يشاءُ بإحسانه، ويضل من يشاء بخذلانه، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} فإنه يدلُّ على أنه - تعالى - كان أبداً في جميع الأمم؛ آمراً بالإيمان، وناهياً عن الكفر.
ثم قال: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} أي: فمنهم من هداه الله إلى الإيمان، ومنهم من أضله عن الحق، وأوقعه في الكفر، وهذا يدلُّ على أنَّ أمر الله لا يوافق إرادته؛ بل قد يأمر بالشيء ولا يريده، وينهى عن الشيء وييده، وقد تقدم تأويلات المعتزلةِ، وأجوبتهم مراراً.
والطاغوتُ: كل معبودٍ من دون الله، وقيل: اجتنبوا الطَّاغوت: أي طاعة الشيطان.
قوله: {أَنِ اعبدوا الله} يجوز في «أنْ» أن تكون تفسيرية؛ لأنَّ البعث يتضمن قولاً، وأن تكون مصدرية، أي: بعثناه بأن اعبدوا.
قوله: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} يجوز في «مَنْ» الأولى أن تكون نكرة موصوفة، والعائد على كلا التقديرين محذوف من الأول، وقوله «حقَّتْ» يدل على صحة مذهب أهل السنةِ؛ لأنَّه تعالى لمَّا أخبر عنه أنَّه حقت عليه الضلالة، امتنع أن لا يصدر منه الضلالة، وإلاَّ لانقلب خبر الله تعالى الصدق كذباً، وهو محال؛ ويؤيده قوله: {فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} [الأعراف: 30] ، وقوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96] وقوله: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} [يس: 7] ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} أي: مآل أمرهم، وخراب منازلهم بالعذاب، والهلاك؛ فتعتبروا، ثم أكد أنَّ من حقت عليه الضلالة؛ فإنه لا يهتدي؛ فقال تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} أي: تطلب بجهدك ذلك؛ {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} .
قوله {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} قرأ العامة بكسر الراء، مضارع حرص بفتحها، وهي اللغة الغالبة لغة الحجاز.
وقرأ الحسن، وأبو حيوة: «تَحْرَص» بفتح الراء، مضارع حرص بكسرها، وهي لغة لبعضهم، وكذلك النخعيُّ: إلاَّ أنه زاد واواً قبل: «إنْ» فقرأ: «وإنْتحرصْ» .
قوله: «لا يَهْدِي» قرأ الكوفيون بفتح الياءِ، وكسر الدَّال، وهذه القراءة تحتمل وجهين:(12/54)
أحدهما: أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله - تعالى - أي: لا يهدي الله من يضله؛ ف «مَنْ» مفعول «يَهْدِي» ؛ ويؤيده قراءة أبي: «فإنَّ الله لا هَادِي لمَنْ يضلُّ ولمَنْ أضلَّ» وأنه في معنى قوله:
{مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] .
والثاني: أن يكون الموصول هو الفاعل، أي: لا يهدي المضلين، و «يَهْدي» يجيء في معنى يهتدي، يقال: هداهُ فهدى، أي: اهتدى.
ويؤيد هذا الوجه: قراءة عبد الله «يَهِدِّي» بتشديد الدال المكسورة، والأصل يهتدي؛ فأدغم.
ونقل بعضهم في هذه القراءة كسر الهاء على الإتباع، وتحقيقه ما تقدم في يونس، والعائد على «مَنْ» محذوف، أي: الذي يضله الله.
والباقون «لا يُهْدَى» بضمِّ الياء، وفتح الدال، مبنيًّا للمفعول، و «مَنْ» قائم مقام فاعله، وعائده محذوف أيضاً.
وجوَّز أبو البقاء: أن تكون «مَنْ» مبتدأ، و «لا يَهْدِي» خبره - يعني - تقدم عليه.
وهذا خطأ؛ لأنه متى كان الخبر فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخيرهُ نحو: «زيْدٌ لا يَضْرِب» ، ولو قدمت لالتبس بالفاعل.
وقرئ «لا يُهْدِي» بضم الياء وكسر الدال.
قال ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهي ضعيفة» .
قال ابن حيَّان: «وإذا ثبت أن» هَدَى «لازم بمعنى اهتدى، لم تكن ضعيفة؛ لأنه أدخل همزة التعدية على اللازم، فالمعنى لا يجعل مهتدياً من أضله الله» .
وقوله تعالى: «ومَا لَهُمْ» حمل على معنى «مَنْ» فلذلك جمع.
وقرئ: «مَنْ يَضِلُّ» بفتح الياء من «ضَلَّ» أي: لا يهدي من ضل بنفسه {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} ، أي: [ما يقيهم] من العذاب.(12/55)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة، وهو قولهم: بأنَّ الحشر، والنشر، باطلٌ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها، وتفرقت أجزاؤه، امتنع عوده بعينه، وإذا بطل القول بالبعث، بطل القول بالنبوة من وجهين:
الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى تقرير القول بالمعاد، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً.
والثاني: أنه يقرر نبوة نفسه، ووجوب طاعته؛ بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب، وإذا بطل ذلك، بطلت نبوته.
فقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} .
معناه: أنهم كانوا يدعون العلم الضروريَّ بأن الشيء إذا فني وعدم، فإنه لا يعود بعينه، وأن عوده بعينه محال في بديهة العقل.
وأمَّا بيان أنَّه لما أبطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة، فلم يصرِّحوا به، فتركوه، لأنَّه كلام متبادر إلى العقول، ثمَّ إنه تعالى بيَّن أنَّ القول بالبعث ممكن؛ فقال: «بَلَى وعْداً عليْهِ حَقًّا» أي حق على الله التمييز بين المطيع، والعاصي، وبين المحق، والمبطل، وبين المظلوم، والظالم؛ وهو قوله تعالى:
{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} وسيأتي بيان تقرير هذه الطريقة في سورة «يس» إن شاء الله تعالى، ثم بين إمكان الحشر، والنشر؛ بأن كونه - تعالى - موجداً للأشياء، لا يتوقف على سبق مادة، ولا مدة، ولا آلة؛ وهو تعالى إنما يكونها بقوله: «كُنْ» .
فقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وكما أنه قدر على ابتداء إيجاده؛ وجب أن يكون قادراً على إعادته.
قوله: «وأقْسَمُوا» ظاهره أنه استئناف خبر، وجعله الزمخشريُّ نسقاً على «وقَالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا» إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان، وقوله «بَلَى» إثبات لما بعد النفي. قوله «وعْداً عَليْهِ حقًّا» هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد، أي: وعد ذلك وعداً وحق حقًّا.
وقيل: «حقًّا» نعت ل «وعْداً» والتقدير: بلى يبعثهم، وعد بذلك وعداً حقًّا.
وقرأ الضحاك: «وعْد عَليْهِ حَقٌّ» برفعهما؛ على أنَّ «وعْدٌ» خبر مبتدأ مضمر، أي: بلى يبعثهم وعد على الله، و «حَقٌّ» نعت ل «وعْدٌ» .(12/56)
قوله: «لِيُبَيِّنَ» هذه اللام متعلقة بالفعل المقدَّر بعد حرف الإيجاب، أي: بلى يبعثهم، ليبيَّن، وقوله «كُنْ فَيكُونُ» تقدم في البقرة، «واللام» في «لِشيْءٍ» وفي «لَهُ» لام التبليغ؛ كهي في قوله قلت لهُ قُمْ فقَامَ، وجعلها الزجاج للسبب فيهما، أي: لأجل شيء أن يقول لأجله، وليس بواضح.
وقال ابن عطية: «وقوله» أنْ نَقُولَ «ينزَّل منزلة المصدر، كأنه قال: قولنا؛ ولكن» أنْ «مع الفعل تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلب أمرها، وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن؛ كهذه الآية؛ وكقوله - سبحانه وتعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] إلى غير ذلك» .
قال أبو حيَّان: وقوله: «ولكن» أنْ «مع الفعل يعني المضارع» وقوله: «في أغلب أمرها» ليس بجيدٍ؛ بل تدل على المستقبل في جميع أمورها، وقوله: «قد تجيء ... إلى آخره» لم يفهم ذلك من دلالة «أنْ» وإنما فهم من نسبة قيام السماءِ، والأرض بأمر الله؛ لأنه يختصُّ بالمستقبل دون الماضي في حقه - تعالى -.
ونظيره: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 5] فكان تدلُّ على اقتران مضمون الجملة بالمزمن الماضي، وهو - سبحانه وتعالى - متَّصف بذلك في كل زمان.
قوله «قَولُنَا» مبتدأ، و «أن نقُول» خبره، و «كُنْ فَيكُونُ» : «كُنْ» من «كَانَ» التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أي: إذا أردنا حدوث شيء، فليس إلاَّ أن نقول له احدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقفٍ.
وقرأ ابن عامر، والكسائي «فيكون» بنصب النون، والباقون بالرفع.
قال الفراء: ولقراءة الرفع وجهها: أن يجعل قوله «أن نقُول له» كلاماً تاماً، ثم يخبر عنه بأنه سيكون، كما يقال: «إنَّ زَيْداً يَكْفيهِ إنْ أمِرَ فيَفْعَلُ» برفع قولك «فَيَفْعَلُ» على أن تجعله كلاماً مبتدأ.
وأما وجه القراءة الأولى: فأن تجعله عطفاً على «أن نَقُول» والمعنى: أن نقول كن فيكون. هذا قول الجمهور.
وقال الزجاج: «ويجوز أن يكون نصباً على جواب» كُنْ «» .
ويجاب بأن قوله كُنْ وإن كانت على لفظ الأمر، فليس القصد به ههنا الأمر، إنما هو - والله أعلم - الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإذا كان كذلك بطل قوله: إنه نصب على جواب «كُنْ» .(12/57)
فإن قيل: قوله «كُنْ» إن كان خطاباً مع المعدون؛ فهو محالٌ، وإن كان خطاباً مع الموجود، كان أمراً بتحصيل الحاصل؛ وهو محالٌ.
فالجواب: أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كُلِّ حالٍ، وعلى ما أراده من الإسراعِ، ولو أراد خلق الدنيا، والآخرة بما فيهما من السماوات، والأرض، في قدر لمحِ البصر لقدر على ذلك؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون.
فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله
دلت هذه الآية على قدم القرآن؛ لأنَّ قوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فلو كان قوله حادثاً؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له: كن فيكون، وذلك يوجب التسلسل؛ وهو محال؛ فثبت أنَّ كلام الله قديمٌ.
قال ابن الخطيب: وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه:
أحدها: أنَّ كلمة «إذَا» لا تفيد التكرار؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته: «إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ» فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له: كن فيكون، فلم يلزم التَّسلسلُ.
وثانيها: أن هذا الدليل إن صح، لزم القول بقدم لفظ «كُنْ» وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأنَّ لفظة «كُنْ» مركبة من الكاف والنُّون، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة، وعند مجيء النون تفوت الكاف، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة «كُنْ» يمتنع كونها قديمة، وإنَّما الي يدعي أصحابنا قدمه صفة [مغايرة] للفظ: «كُنْ» فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية؛ فسقط التمسك به.
ثالثها: أنَّ الرجل إذا قال: إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ، ولا على فعل، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف؛ فكذلك ما قالوه.
ورابعها: أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه:
الأول: أن قوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ} يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة؛ فيكون محدثاً.
الثاني: أنه علق القول بكلمة «إذَا» وهي إنَّما تدخل للاستقبال.
الثالث: أن قوله تعالى: {أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال.(12/58)
الرابع: أن قوله «كن فَيكُونُ» كلمة مقدمة على حدوثِ الكونِ بزمان واحدٍ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد؛ يجب أن يكون محدثاً.
الخامس: أنه معارض بقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37] و {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب: 38] و {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] و {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} [الطور: 24] و {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً} [الأحقاف: 12] فإن قيل: فهب أنَّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنَّها تدل على حدوث الكلام، فما الجواب عنه؟ .
قلنا: نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف، والأصوات، ونحن نقول بكونه محدثاً.
قوله: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} الآية.
لما حكى عن الكفَّار أنَّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، على إنكار البعث، دلَّ ذلك على تماديهم في الغيِّ والجهل، ومن هذا حاله، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين؛ بالضَّرب، وغيره من العقوبات؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم، ومساكنهم فذكر - تعالى - في هذه الآية حكم تلك الهجرة، وبيَّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة؛ من حيث هاجر، وصبر، وتوكَّل على الله - عَزَّ وَجَلَّ - وذلك ترغيبٌ لغيرهم في طاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: نزلت هذه الآية في صهيب، وبلال، وعمار، وخبَّاب، وعابس، وجبير، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم؛ ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبيرٌ إن كنت لكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم؛ فافتدى منهم بماله، فلما رآه أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: رَبِحَ البيعُ يا صهيب، وقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «نِعْمَ الرَّجلُ صهيبٌ، لوْ لَمْ يَخفِ الله لَمْ يَعْصِه» ، يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه.
وقال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هم أصحاب النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ظلمهم أهل مكة، وأخرجوهم من ديارهم؛ حتَّى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوَّأهم الله المدينة بعد ذلك؛ فجعلها لهم دار هجرة، وجعلهم أنصاراً للمؤمنين، وبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام، كما أن نصرة الأنصار قوَّت شوكتهم، ودل عليه قوله تعالى: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله} على أنَّ الهجرة إذا لم تكن لله، لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلدٍ إلى بلد.
قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة، وهو قولهم: بأنَّ الحشر، والنشر، باطلٌ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها، وتفرقت أجزاؤه، امتنع عوده بعينه، وإذا بطل القول بالبعث، بطل القول بالنبوة من وجهين:
الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى تقرير القول بالمعاد، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً.
وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار.
قوله: «حَسنَةً» فيها أوجه:
أحدها: أنها نعتٌ لمصدر محذوف، أي: تبوئة حسنة.
الثاني: أنها منصوبة على المصدر الملاقي لعامله في المعنى؛ لأنَّ معنى {لَنُبَوِّئَنهُمْ «لنحسنن إليهم.
الثالث: أنها مفعول ثانٍ؛ لأن الفعل قبلها مضمن لمعنى لنعطينهم، و» حَسَنةً «صفة لموصوف محذوفٍ، أي: داراً حسنة؛ وفي تفسير الحسن: دار حسنة وهي المدينة على ساكنها - أفضل الصلاة والسلام -.
وقيل: تقديره: منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل المشرق.
وقيل: حسنة بنفسها هي المفعول من غير حذف موصوف.
وقرأ أمير المؤمنين، وابن مسعود، ونعيم بن ميسرة:» لنُثوينَّهُمْ «بالثاء المثلثة والياء، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من» ثَوَى بالمكان «أقام فيه وسيأتي أنَّه قرئ بذلك في السبع في العنكبوت، و» حَسنَةً «على ما تقدم.
ويريد أنه يجوز أن يكون على نزع الخافض أي «في حَسَنة» والموصول مبتدأ، والجملة من القسم المحذوف وجوابه خبره، وفيه ردٌّ على ثعلب؛ حيث منع وقوع جملة القسم خبراً.
وجوَّز أبو البقاء في: «(12/59)
الَّذينَ» النصب على الاشتغالِ بفعلٍ مضمر، أي: لنبوأنَّ الذين.
ورده أبو حيان: بأنه لا يجوز أن يفسر عاملاً، إلا ما جاز أن يعمل، وإن قلت «زَيْداً لأضْربنَّ» لم يجز، فكذا لا يجوز «زَيْداً لأضْربنَّه» .
قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يجوز فيه أن يعود الضمير على الكفار، أي: لو كانوا يعلمون ذلك لرجعوا مسلمين.
أو على المؤمنين، أي: لاجتهدوا في الهجرة والإحسان كما فعل غيرهم.
فصل: الإحسان عند الإعطاء
روي أنَّ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول: خُذه بَاركَ الله لَكَ فِيهِ، هذا ما وَعدكَ الله في الدُّنيَا وما ادَّخرَ لَكَ في الآخرةِ أفضلُ، ثم تلا هذه الآية.(12/60)
وقيل: المعنى: لنحسنن إليهم في الدنيا. وقيل: الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية.
قوله تعالى: {الذين صَبَرُواْ} محلُّه رفعٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم الذين صبروا، أو نصب على تقدير أمدح، ويجوز أن يكون تابعاً للموصول قبله نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً فمحله محله.
والمعنى: أنَّهم صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، وعلى الجهاد، وبذل الأموال، والأنفس في سبيل الله.
قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} الآية هذه الآية شبهة خامسة لمنكري النبوة، كانوا يقولون: الله أعلى، وأجلُّ من أن يكون رسوله واحداً من البشر؛ بل لو أراد بعثة رسولٍ غلينا كان يبعث ملكاً، وتقدم تقريرُ هذه الشبهة في سورة الأنعام؛ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: {نوحي إِلَيْهِمْ} والمعنى: أنَّ عادة الله من أول زمان التكليف لم يبعث رسولاً إلاَّ من البشر، وهذه العادة مستمرةٌ، فلا يلتفت إلى طعن هؤلاء الجهال.
ودلت هذه الآية على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ، ودلت على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ، ودلت على أنه - تعالى - ما أرسل ملكاً، إلاَّ أن ظاهر قوله تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} [فاطر: 1] يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ثم قال الله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يريد أهل التوراة، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} [الأنبياء: 105] يعني التوراة. وقال الزجاج: معناه سلوا كلَّ من يذكر بعلم وتحقيق.
واختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد؟ منهم من أجازه محتجاً بهذه الآية؛ فقال: لمَّا لم يكن أحد المجتهدين عالماً، وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم؛ لقوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فإن لم يجب؛ فلا أقل من الجواز.
واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة، فإن كان عالماً بحكمها، لم يجز له القياس، وإن لم يكن عالماً بحكمها، وجب عليه سؤال من كان عالماً بها؛ لظاهر هذه الآية، ولو كان القياس حجة، لما وجب عليه سؤال العالم؛ لأنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية؛ فوجب أن لا يجوز.
والجواب: أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فالإجماع أقوى من هذا الدليل.(12/61)
قوله «بِالبَيِّناتِ» فيه ثمانية أوجه:
أحدها: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل «رِجَالاً» فيتعلق بمحذوفٍ، أي رجالاً ملتبسين بالبينات، أي: مصاحبين لها وهو وجه حسنٌ لا محذور فيه، ذكره الزمخشريُّ.
الثاني: أنه متعلق ب «أرْسَلْنَا» ذكره الحوفي، والزمخشريُّ، وغيرهما، وبه بدأ الزمخشريُّ، فقال: «يتعلق ب» أرْسَلْنَا «داخلاً تحت حكم الاستثناء مع» رِجَالاً «أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك: ما ضَربْتُ إلاَّ زيْداً بالسَّوطِ؛ لأن أصله: ضَربتُ زَيْداً بالسَّوطِ» .
وضعفه أبو البقاء: بأن ما قبل «إلاَّ» لا يعمل فيما بعدها، إذا تم الكلام على «إلا» وما يليها، قال: إلا أنه قد جاء في الشعر: [البسيط]
3310 - نُبِّئْتهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جَارتَهُم ... ولا يُعَذِّبُ إلاَّ الله بالنَّارِ
وقال أبو حيَّان: «وما أجازه الحوفي، والزمخشري، لا يجيزه البصريون؛ إذ لا يجيزون أن يقع بعد» إلاَّ «إلاَّ مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابع لذلك، وما ظن بخلافه قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يليها معمول ما بعدها مرفوعاً، أو منصوباً أو مخفوضاً، نحو: ما ضَربَ إلا عمراً زيدٌ، وما ضَربَ إلاَّ زيْدٌ عَمْراً، وما مرَّ إلاَّ زيْدٌ بِعَمْرٍو» .
ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش، في الظرف، وعديله؛ فما قالاه يتمشَّى على قول الكسائي، والأخفش.
الثالث: أنه يتعلق ب «أرْسَلْنَا» أيضاً؛ إلاَّ أنه على نية التقديم قبل أداة الاستثناء تقديره: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً؛ حتى لا يكون ما بعد «إلاَّ» معمولين متأخرين لفظاً ورتبة داخلين تحت الحصر لما قبل «إلاَّ» ، حكاه ابن عطية.
وأنكر الفراء ذلك وقال: «إنَّ صلة ما قبل» إلاَّ «لا يتأخر إلى ما بعد» إلا «لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل» إلاَّ «مع صلته، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه؛ امتنع إدخال الاستثناء عليه» .
الرابع: أنه متعلق ب «نُوحِي» كما تقول: أوحى إليه بحق. ذكره الزمخشري، وأبو البقاء.
الخامس: أنَّ الباء مزيدة في «بالبَيِّناتِ» وعلى هذا؛ فيكون «البَيِّنَات» هو القائم مقام الفاعل؛ لأنها هي الموحاة.(12/62)
السادس: أن الجارَّ متعلق بمحذوف؛ على أنَّه حالٌ من القائم مقام الفاعل، وهو «إليْهِمْ» ذكرهما أبو البقاء. وهما ضعيفان جدًّا.
السابع: أن يتعلَّق ب «لا تَعْلَمُون» على أنَّ الشرط في معنى: التبكيت والإلزام؛ كقول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقِّي.
قال الزمخشريُّ: وقوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} اعتراضٌ على الوجوه المتقدمة، ويعني بقوله: «فاسْئَلُوا» الجزاء وشرطه، وأما على الوجه الأخير، فعدم الاعتراض واضحٌ.
الثامن: أنه متعلق بمحذوف جواباً لسؤالٍ مقدرٍ؛ كأنه قيل: بِمَ أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا بالبينات، والزُّبرِ، كذا قدره الزمخشري. وهو أحسن من تقدير أبي البقاءِ: بعثوا لموافقته للدالِّ عليه لفظاً ومعنى.
فصل في تأويل «إلا»
قال البغوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «إلاَّ» بمعنى «غَيْرَ» ، أي: وما أرسلنا قبلك بالبينات، والزبر، غير رجالٍ يوحى إليهم، ولو لم نبعث إليهم ملائكة.
وقيل: تأويله: وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر، والبينات والزبر: كل ما يتكامل به الراسالة؛ لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق مدعي الرسالة، وهي البينات على التكاليفِ، التي يبلغها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - إلى العباد، وهي الزبر.
ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أراد بالذكر الوحي وكان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مبيناً للوحي، وبيان الكتاب يطلب من السنة. انتهى.
فصل القرآن ليس كله مجملاً بل منه المجمل والمبين
ظاهر هذه الآية يقتضي أن هذا الذكر مفتقر على بيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمفتقر إلى [البيان] مجملٌ، فهذا النص يقتضي أنَّ هذا القرآن كله مجمل؛ فلهذا قال بعضهم: متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجمل؛ فلهذا قال بعضهم: متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجملٌ بنص هذه الآية، والخبر مبين لهذه الآية، والمبين مقدم على المجمل. وأجيب: بأن القرآن منه محكمٌ، ومنه متشابه، والمحكم يجب كونه مبيناً؛ فثبت أن القرآن كله ليس مجملاً، بل فيه المجمل.
فقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} محمول على تلك المجملات.(12/63)
فصل هل الرسول مبين لكلم ما أنزل الله
ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو لمبين لكلِّ ما أنزل الله على المكلفين، وعند هذا قال نفاة القياس: لو كان القياس حجة، لما وجب على الرسول بيانُ كلِّ ما أنزل الله تعالى على المكلفين من الأحكام؛ لاحتمال أن يبين لمكلف ذلك الحكم بطريق القياس، ولما دلت هذه الآية على أنَّ المبين للتكاليف، والأحكام؛ هو الرسول، علمنا أنَّ القياس ليس بحجةٍ.
وأجيب عنه: بأنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بين أنَّ القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس؛ كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قالوا: لو كان البيان بالقياس من بيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما وقع فيه اختلافٌ.
قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} الآية في «السَّيِّئاتِ» ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها نعت لمصدر محذوف، أي: المكرات السيئات.
الثاني: أنه مفعول به على تضمين: «مَكرُوا» عملوا وفعلوا، وعلى هذين الوجهين، فقوله {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} مفعولٌ ب «أمِنَ» .
الثالث: أنه منصوب ب «أمن» ، أي: أمنوا العقوبات السيئات، وعلى هذا فقوله {أَن يَخْسِفَ الله} بدل من «السَّيِّئات» .
والمكرُ في اللغة: هو السعي بالفسادِ خفية، ولا بد هنا من إضمارٍ، تقديره المكرات السيئات، والمراد أهل مكة، ومن حول المدينة.
قال الكلبيُّ: المراد بهذا المكر: اشتغالهم بعبادة غير الله - تعالى - والأقربُ أن المراد سعيهم في إيذاءِ الرسول، وأصحابه على سبيل الخفيةِ، أي: يخسف الله بهم الأرض؛ كما خسف بالقرون الماضية.
قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم؛ فيهلكهم بغتة؛ كما فعل بالقرون الماضية.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي: أسفارهم {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} [آل عمران: 196] .
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في اختلافهم. وقال ابن جريج: في إقبالهم وإدبارهم.(12/64)
وقيل: في حال تلقُّبهم في أمكارهم، فيحول الله بينهم، وبين إتمام تلك الحيل.
وحمل التقلُّب على هذا المعنى، مأخوذ من قوله تعالى: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} [التوبة: 48] . {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} هذا الجارُّ متعلق بمحذوفٍ؛ فإنه حال، إمَّا من فاعل «يَأخُذهُمْ» وإما من مفعوله، ذكرهما أبو البقاء.
والظاهر كونه حالاً من المفعول دون الفاعل.
والتَّخَوُّفُ: تفعُّلٌ من الخَوفِ، يقال: خِفْتُ الشَّيء، وتخَوَّفتهُ.
والتَّخوُّفُ: التَّنقُّص، أي: نقص من أطرافهم، ونواحيهم، الشيء بعد الشيء حتًّى يهلك جميعهم، يقال: تخوَّفته الدَّهرَ؛ وتخوفه، إذا نقصه، وأخذ ماله، وحشمه، ويقال: هذه لغة بني هذيل.
وقال الأعرابيِّ: تخوَّفتُ الشَّيءَ وتخيَّفتهُ إذا تنقَّصتهُ.
حكى الزمخشريُّ أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سألهم على المنبر عن هذه الآية فسكتوا، فقام شيخٌ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخَوُّف التنقُّص، فقال عمر: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ .
قال: نعم، قال شاعرنا: [البسيط]
3311 - تخوَّف الرَّحلُ منهَا تَامِكاً قَرِداً ... كمَا تَخوَّفَ [عُودَ] النَّبْعةِ السَّفن
فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أيُّها الناس عليكم بديوانكم لا تضلُّوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية؛ فإنَّ فيه تفسير كتابكم، وكان الزمخشري نسب البيت قبل ذلك لزهير، وكأنه سهوٌ؛ فإنه لأبي كبير الهذلي؛ ويؤيد ذلك قول الرجل: قال شاعرنا، وكان هذيلياً كما حكاه هو، فعلى هذا يكون المراد ما يقع في أطراف بلادهم، كما قال تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} [الأنبياء: 44] أي: لا نعاجلهم بالعذاب، ولكن ننقص من أطراف بلادهم حتى يصل إليهم فيهلكهم.
ويحتمل أن النَّقص من أموالهم وأنفسهم يكون قليلاً قليلاً حتى يفنوا جميعهم.
وقال الضحاك، والكلبيُّ: من الخوف، أي: لا يأخذهم بالعذاب، أولاً؛ بل يخيفهم، أو بأن يعذب طائفة؛ فتخاف التي يليها.(12/65)
ثم قال: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أي يمهل في أكثر الأمر؛ لأنه رءوف رحيم، فلا يعاجل بالعذاب.(12/66)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} الآية قرأ الأخوان: «تَرَوْا» بالخطاب جرياً على قوله: «فإنَّ ربّكُمْ» .
والباقون: بالياء جرياً على قوله: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ} [النحل: 45] .
وأما قوله {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير} [الملك: 19] فقراءة حمزة أيضاً بالخطاب، ووافقه ابن عامر فيه؛ فحصل من مجموع الآيتين: أنَّ حمزة بالخطاب فيهما، والكسائي بالخطاب في الأولى، والغيبة في الثانية، وابن عامر بالعكس، والباقون: بالغيبة فيهما.
وأما توجيهُ الأولى فقد تقدم، وأما الخطاب في الثانية؛ فجرياً على قوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النحل: 78] وأمَّا الغيبة؛ فجرياً على قوله تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [النحل: 73] إلى آخره، وأمَّا تفرقة الكسائي، وابن عامرٍ بين الموضعين؛ فجمعاً بين الاعتبارين، وأنَّ كلاًّ منهما صحيح.
فصل
لمَّا خوَّف المشركين بأنواع العذاب المتقدمةِ، أردفه بما يدلُّ على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي، والسفلي؛ ليظهر لهم أنَّ مع كمال هذه القدرة القاهرة والقوة الغير متناهية، كيف يعجز عن إيصال العذاب إليهم؟ وهذه الرؤية لما كانت بصرية وصلت ب «غلى» ؛ لأن المراد بها الاعتبارُ، والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية، حتى يكون مع النظر غلى الشيء الكامل في أحواله.(12/66)
قوله: {مِن شَيْءٍ} هذا بيان ل «مَا» في قوله: {مَا خَلَقَ الله} فإنها موصولة بمعنى الذي.
فإن قيل: كيف يبين الموصول وهو مبهم ب «شيء» وهو مبهم؛ بل أبهم ممَّا قبله؟ .
فالجواب: أن شيئاً قد اتضح، وظهر بوصفه بالجملة بعده؛ وهي: «يَتفيَّؤ ظِلالهُ» .
قال الزمخشري: و «مَا» موصولة ب «خَلقَ الله» وهو مبهمٌ؛ بيانه في قوله {مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} .
وقال ابن عطية: «مِنْ شيءٍ» لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله: «يتَفيَّؤُ ظِلالهُ» .
قال الزمخشري: و «مَا» موصولة ب «خَلقَ الله» وهو مبهمٌ؛ بيانه في قوله {مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} .
وقال ابن عطية: «مِنْ شيءٍ» لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله: «يتَفيَّؤُ ظِلالهُ» .
فظاهر هاتين العبارتين: أن جملة «يَتَفيَّؤ ظِلالهُ» صفة ل «شَيءٍ» فأما غيرهما؛ فإنه قد صرح بعدم كون الجملة صفة؛ فإنه قال: والمعنى: من كل شيءٍ له ظلٌّ من جبل، وشجر، وبناء، وجسم قائم، وقوله «يَتفيَّؤُ ظِلالهُ» إخبار من قوله «مِنْ شَيءٍ» ليس بوصف له، وهذا الإخبار يدلُّ على ذلك الوصف المحذوف الذي تقديره: هو له ظل. وفيه تكلف لا حاجة إليه، والصفة أبين و «مِنْ شيءٍ» في محل نصبٍ على الحالِ من الموصول، أو متعلق بمحذوف على جهة البيان؛ أعني: من شيء.
والتَّفَيُّؤ: تَفعُّلٌ من فَاءَ يَفِيءُ، أي: رَجَعَ، و «فاء» : قاصر فإذا أريد تعديته عدِّي بالهمزة كقوله {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ} [الحشر: 7] أو بالتضعيف نحو: فَيَّأ الله الظِّلَ فتَفيَّأ، وتَفيَّأ: مطاوع فَيَأ، فهو لازم، ووقع في شعر أبي تمَّامٍ متعدِّياً في قوله: [الكامل]
3312 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وتَفَيَّأتْ ظِلاَلَهَا مَمْدُودَا
واختلف في الفيء، فقيل: هو مطلق الظل، سواء كان قبل الزوالِ، أو بعده، وهو الموافق لمعنى الآية ههنا.
وقيل: ما كان قبل الزوال فهو ظلٌّ فقط، وما كان بعده فهو ظل وفيءٌ، فالظل أعم. يروى ذلك عن رؤبة بن العجَّاج، وأنكر بعضهم ذلك، وأنشد أبو [زيد] للنَّابغة الجعدي: [الخفيف]
3313 - فَسلامُ الإلهِ يَغْدُو عَليْهِمْ ... وفُيُوءُ الفِرْدَوْسِ ذَاتِ الظِّلالِ(12/67)
فأوقع لفظ «الفَيءِ» على ما لم تنسخه الشمس؛ لأن ظلَّ الجنة ما حصل بعد أن كان زائلاً بسبب ضوء الشمس.
وقيل: بل تختصُّ الظلُّ: بما قبل الزوال، والفيء: بما بعده.
قال الأزهري: تَفيُّؤ الظِّلال: رُجوعُهَا بعد انتِصَافِ النَّهارِ، فالتفيؤ: لا يكون إلا بالعشيِّ بعدما انصرفت عنه الشمس، والظل ما يكون بالغداةِ، وهو ما لم تنله الشمس؛ قال الشاعر: [الطويل]
3314 - فَلا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعهُ ... ولا الفَيءُ مِنْ بَرْدِ العَشيِّ تَذُوقُ
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
3315 - تَيَمَّمتِ العَيْنَ الَّتي عِندَ ضَارجٍ ... يَفِيءُ عليْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ
وقد خطأ ابن قتيبة الناس في إطلاقهم الفيء على ما قبل الزوال وقال: إنما يطلق على ما بعده؛ واستدل بالاشتقاق؛ فإن الفيء هو الرجوع، وهو متحقق بما بعد الزَّوال [قال: وإنما يطلق على ما بعده] ، فإن الظل يرجع إلى جهة المشرق بعد الزوال بعد ما نسخته الشمس قبل الزوالِ.
وتقول العربُ في جمع فَيء: «أفْيَاء» للقليل، و «فُيُؤٌ» للكثير؛ كالبيوت، والعيون، وقرأ أبو عمرو «تَتفَيَّؤُ» بالتاء من فوق مراعاة لتأنيث الجمع، وبها قرأ يعقوب، والباقون بالياء لأنه تأنيث مجازي.
وقرأ العامة: «ظِلاله» جمع ظلٍّ، وعيسى بن عمر «ظِلَلُه» جمع ظِلَة؛ ك «غُرْفَة، وغُرَف» .
قال صاحب اللَّوامح في قراءة عيسى «ظِلَلُه» : والظَّلَّة: الغَيْمُ: وهو جسم، وبالكسر: الفيء، وهو عرض فرأى عيسى: أنَّ التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى منه بالإعراض، وأما في العامة فعلى الاستعارةِ.(12/68)
قال الواحدي: «ظِلالهُ» أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال، وإنما حسن هذا؛ لأنَّ الذي يرجع إليه الضمير، وإن كان واحداً في اللفظ، وهو قوله تعالى {إلى مَا خَلَقَ الله} إلاَّ أنه كثير في المعنى؛ كقوله تعالى {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ}
[الزخرف: 13] فأضاف الظُّهور، وهو جمع إلى ضمير مفرد؛ لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة في المعنى، وهو قوله تعالى: {مَا تَرْكَبُونَ} انتهى.
قوله تعالى: {عَنِ اليمين} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «يَتفيَّؤُ» ومعناها المجاوزة أي: يتجاوز الظلال عن اليمين إلى الشمائل.
الثاني: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من «ظِلالهُ» .
الثالث: أنها اسم بمعنى جانب، فعلى هذا يبنتصب «إلى» على الظرف.
وقوله: {عَنِ اليمين والشمآئل} فيه سؤالان:
أحدهما: ما المراد باليمين والشمائل؟ .
والثاني: كيف أفرد الأول، وجمع الثاني؟ .
وأجيب عن الأول بأجوبة:
أحدها: أنَّ اليمين يمين الفلك؛ وهو المشرق، والشمائل شماله، وهو المغرب، وخصَّ هذان الجانبان؛ لأنَّ أقوى الإنسان جانباه؛ وهما يمينه وشماله، وجعل المشرق يميناً؛ لأن منه تظهر حركة الفلك اليومية.
الثاني: البلدة التي عرضها أقلُّ من الميل تكونُ الشمس صيفاً عن يمين البلد فيقع الظل عن يمينهم.
الثالث: أن المنصوب للعبرة كلُّ جرمٍ له ظلٌّ، كالجبل، والشجر، والذي يترتب فيه الأيمان، والشمائلن إنما هو البشر فقط، ولكن ذكر الأيمان، والشمائل، هنا على سبيل الاستعارة.
الرابع: قال الزمخشريُّ: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله} من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها، وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقَّيه استعارة من يمين الإنسان، وشماله لجانبي الشيء، أي: يرجع من جانب إلى جانب.
وهذا قريب ممَّا قبله، وأجيب عن الثاني بأجوبة:
أحدها: أن الابتداء يقع من اليمين، وهو شيءٌ واحدٌ؛ فلذلك وحد اليمين، ثم ينتقص شيئاً فشيئاً وحالاً بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمائل؛ فتعدُّد بتعدُّد الحالات، وإلى قريب منه نحا أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(12/69)
والثاني: قال الزمخشريُّ: واليمين بمعنى الأيمان، يعني أنَّه مفرد قائم مقام الجمع، وحينئذ فهما في المعنى جمعاً؛ كقوله تعالى {وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] أي الأدبار.
الثالث: قال الفراء: لأنه إذا وحَّد ذهب إلى واحد من ذوات الظِّلال، وإذا جمع ذهب إلى كلِّها؛ لأن قوله تعالى {مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} لفظه واحد، ومعناه الجمع، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد؛ كقوله تعالى {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] .
الرابع: أنَّا إذا فسَّرنا اليمين بالمشرق؛ كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها، فكانت اليمين واحدة، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض، وهي كثيرة؛ فلذلك عبَّر عنها بصيغة الجمع.
الخامس: قال الكرمانيُّ: «يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال، والخلف، والقُدَّام؛ لأنَّ الظل يفيء من الجهات كلها، فبدأ باليمين؛ لأنَّ ابتداء الفيء منها، أو تيمُّناً بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظة الشمال؛ لما بين اليمين، والشمال من التضادِّ، ونزَّل القدَّام والخلف منزلة الشمال؛ لما بينهما وبين اليمين من الخلاف» .
السادس: قال ابن عطية: «وما قال بعض الناس من أنَّ اليمين أول وقعةٍ للظل بعد الزوالِ، ثم الآخر إلى الغروب، هي عن الشمائلِ؛ ولذلك جمع الشمائل، وأفرد اليمين؛ لتخليطٌ من القول، ومبطل من جهات» .
وقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «إذا صليتَ الفجر كان ما بين مطلع الشمس، ومغربها ظلاَّ، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً؛ فقبض إليه الظِّلَّ؛ فعلى هذا فأول دورة الشمس فالظلُّ عن يمين مستقبل الجنوب، ثم يبدأ الانحرافُ، فهو عن الشمائل؛ لأنه حركاتٌ كثيرة، وظلالٌ منقطعة، فهي شمائلُ كثيرة؛ فكان الظل عن اليمين متصلاً واحداً عامًّا لكل شيءٍ» .
السابع: قال ابن الضائع رَحِمَهُ اللَّهُ: «وجمع بالنظر إلى الغايتين؛ لأنَّ ظل الغداة يضمحلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ، فكأنه في جهة واحدة، وهي بالعشيِّ - على العكس - لاستيلائه على جميع الجهات، فلحظت الغايتان في الآية، هذا من جهة المعنى، وأما من جهة اللفظ، ففيه مطابقة؛ لأنَّ» سُجَّداً «جمع، فطابقه جمع الشَّمائل؛ لاتصاله به؛ فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى، ولحفظهما معاً؛ وتلك الغاية في الإعجاز» .
قوله «سُجَّداً» حال من «ظِلالهُ» ، وسُجَّداً جمع ساجدٍ، كشَاهِدٍ وشُهَّد ورَاكِع ورُكَّع.
والسجودُ: الميل، يقال: سَجدتِ النَّخلةُ إذا مالتْ، وسَجدَ البَعيرُ إذَا طَأطَأ رأسه؛ وقال الشاعر: [الطويل]
3316 - ... ... ... ... ... ... ... ... ...(12/70)
تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوافرِ
فالمراد بهذا السجود التواضعُ.
واعلم أن انتقاص الظلِّ بعد كماله إلى غاية محدودة ثمَّ ازدياده بعد غاية نقصانه، وتنقله من جهة إلى أخرى على وفقِ تدبير الله، وتقديره بحسب الاختلافاتِ اليوميَّة الواقعة في شرق الأرض، وغربها، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة على وجه مخصوصٍ، وترتيب معيِّنٍ لا يكون إلا لكونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره؛ فكان السجود عبارة عن تلك الحال.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: اختلاف هذه الظلال معلَّلٌ باختلاف سير الشمس لا لأجل تقدير الله؟ .
فالجوابُ: أنَّا وإن سلمنا ذلك، فمحرك الشمس بالحركة الخاصَّة ليس إلاَّ الله - تعالى - فدل على أنَّ اختلاف أحوال هذه الظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى، وقيل: هذا سجود حقيقة؛ لأن هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد، قال أبو العلاء المعرِّي، في صفة وادٍ: [الطويل]
3317 - بِخَرْقٍ يُطِيلُ الجُنْحَ فِيهِ سُجودَهُ ... وللأرْضِ زِيّ الرَّاهبِ المُتعبِّدِ
فلمّا كان شكل الأظلال يشبه شكل الساجدين، أطلق عليه السجود، وكان الحسنُ يقول: أما ظلُّلك، فسجد لربِّك، وأما أنت، فلا تسجد له؛ بئسما صنعت.
وعن مجاهدٍ: ظلُّ الكافر يصلِّي، وهو لا يصلِّي، وقيل: ظلُّ كلِّ شيءٍ يسجد لله، سواء كان ذلك ساجداً لله، أم لا.
قوله: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها حال من الهاء في «ظِلالهُ» . قال الزمخشريُّ: «لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق الله من كلِّ شيءٍ له ظل، وجمع بالواو والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصاف العقلاء، أو لأنَّ في جملة ذلك من يعقل فغلب» .
وقد ردَّ أبو حيَّان هذا بأن الجمهور لا يجيزون مجيء الحالِ من المضاف إليه، وهو نظير جَاءنِي غُلامُ هِندٍ ضَاحِكَةً، قال: «ومن أجاز مجيئها منه إذا كان المضاف جزءاً، أو كالجزءِ جوز الحالية منه هنا؛ لأنَّ الظل كالجزء؛ إذ هو ناشئ عنه» .
الثاني: أنها حال من الضمير المستتر في «سُجَّدًا» فهي حال متداخلة.
الثالث: أنها حال من «ظِلالهُ» فينتصب عنه حالان، ثم لك في هذه الواو اعتباران:(12/71)
أحدهما: أن تجعلها عاطفة حالاً على مثلها، فهي عاطفة، وليست بواو حالٍ، وإن كان خلو الجملة الاسميَّة الواقعة حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأي، وممن صرح بأنها عاطفة: أبو البقاءِ.
والثاني: أنها واوُ الحال، وعلى هذا فيقال: كيف يقتضي العامل حالين؟ .
فالجواب: أنه جاز ذلك؛ لأن الثانية بدلٌ من الأولى، فإن أريد بالسجود التَّذلل والخضوع، فهو بدل كل من كل، وإن أريد به [حقيقته] ، فهو بدل اشتمالٍ، إذ السجود مشتمل على الدخور.
ونظير ما نحن فيه: «جَاءَ زيْدٌ ضَاحِكاً وهو شاك» فقولك: «وهو شاك» يحتمل الحاليَّة من «زَيْدٍ» أو ضمير «ضَاحِكاً» ، والدُّخورُ: التواضع؛ قال الشاعر: [الطويل]
3318 - فَلمْ يَبْقَ إلاَّ دَاخِرٌ في مُخَيَّسٍ ... ومُنْجَحِر في غَيْرِ أرْضِكَ في جُحْرِ
وقيل: هو القهر والغلبة، ومعنى «داخرون» أذلاَّء صاغرين.
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} الآية قد تقدم أن السجود على نوعين:
سجود كسجود الصلاة بوضع الجبهة على الأرض، وسجود هو انقياد وخضوع؛ فلهذا قال بعضهم: المراد بالسجود ههنا: الانقيادُ والخضوع؛ لأنه اللائق بالدابة.
وقيل: السجود حقيقة؛ لأنه اللائق بالملائكة عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: السجود لفظ مشتركٌ بين المعنيين، وحمل اللفظ المشترك [على إفادة مجموع معنيين جائز، فيحمل لفظ السجود ههنا على المعنيين معاً، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع، وأما في حق الملائكة فبمعنى السجود الحقيقي؛ وهذا ضعيف؛ لأن استعمال اللفظ المشترك] في جميع مفهوماته معاً غير جائز.
قوله تعالى: {مِن دَآبَّةٍ} يجوز أن يكون بياناً ل {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ويكون لله تعالى في سمائه خلق؛ يدبون كما يدبُّ الخلق الذي في الأرض، ويجوز أن يكون بياناً ل {مَا فِي الأرض} فقط.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هلاَّ جيء ب» مَنْ «دون» ما «تغليباً للعقلاءِ على غيرهم؟ .(12/72)
قلت: إنه لو جيء ب «مَنْ» لم يكن فيه دليلٌ على التغليب، بل كان متناولاً للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء، وغيرهم؛ إرادة للعموم «.
قال أبو حيَّان:» وظاهر السؤال تسليم أنَّ مَنْ قد تشتمل العقلاء، وغيرهم على جهة التغليب، وظاهر الجواب تخصيص «مَنْ» بالعقلاءِ، وأنَّ الصالح للعقلاء ما دون «مَنْ» ، وهذا ليس بجوابٍ لأنه أورد السؤال على التسليم، ثمَّ أورد الجواب على غير التسليم، فصار المعنى أنَّ من يغلب بها؛ والجواب لا يغلب بها، وهذا في الحقيقة ليس بجواب «.
فصل
قال الأخفش: قوله:» مِنْ دَابَّةٍ «يريد من الدَّواب، وأخبر بالواحدِ؛ كما تقول: ما أتَانِي من رجلٍ مثله، وما أتَانِي من الرِّجالِ مثلهُ.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -:» يريد كل دابَّة على الأرضِ «.
فإن قيل: ما الوجه في تخصيص الملائكة، والدواب بالذكر؟ .
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّه تعالى بيَّن في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله - سبحانه وتعالى - وبين بهذه الآية أنَّ الحيوانات بأسرها منقادة لله - تعالى - لأن أخسَّها الدوابُّ، وأشرفها الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - فلما بين في أخسها، وفي أشرفها كونها منقادة خاضعة لله - تعالى - كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى.
الثاني: قال حكماءُ الإسلام: الدابَّةُ: اشتقاقها من الدَّبيب، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانيَّة؛ فالدابة اسمٌ لكلِّ حيوان يتحرك ويدبُّ، فلما ميَّز الله الملائكة عن الدابة؛ علمنا أنَّها ليست مما يدبُّ؛ بل هي أرواحٌ محضةٌ مجردة، وأيضاً فإن الطيران بالجناح مغاير للدبيب؛ لقوله {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] .
{وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يجوز أن تكون الجملة استئنافاً أخبر عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من فاعل» يسجد «.
قوله» يَخَافُونَ «فيها وجهان:
أن تكون مفسرة لعدم استكبارهم، كأنه قيل: ما لهم يستكبرون؟ فأجيب بذلك، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل» لا يَسْتَكْبِرُونَ «، ومعنى» يَخافُونَ ربَّهُمْ «، أي: عقابه.
قوله:» مِنْ فَوْقِهِمْ «يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه ينعلق ب» يَخَافُونَ «، أي: يخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم فقوله» مِنْ فوقِهِمْ «صفة للمضاف، وهو عذابٌ، وهي صفة كاشفةٌ؛ لأن العذاب إنَّما ينزل من فوق.(12/73)
الثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من» رَبِّهمْ «، أي: يخافون ربَّهم عالياً عليهم علوَّ الرتبة والقدرة قاهراً لهم، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ}
[الأنعام: 18] .
فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة
دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب؛ لأن قوله {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يدلُّ على أنهم منقادون لخالقهم، وأنهم ما خالفوه في أمرٍ من الأمور، كقوله {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] ، وقوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] ، وكذلك قوله - جل وعز -: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلَّ ما أمروا به، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب.
فإن قيل: هب أن الآية دلت على أنَّهم فعلوا كلَّ ما أمروا به، فلم قلتم: إنها تدلُّ على أنهم تركوا كل ما نُهوا عنه؟ .
فالجواب: أنَّ كلَّ من نهى عن شيءٍ، فقد أمر بتركه؛ وحينئذ يدخل في اللفظ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلِّ الذنوب، وثبت أنَّ إبليس ما كان معصوماً من الذنوب، بل كان كافراً؛ لزم القطع بأنَّ إبليس ما كان من الملائكةِ، وأيضاً: فإنه - تعالى - قال في صفة الملائكة: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} ، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ لإبليس {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] وقال: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13] وثبت أنَّ الملائكة لا يستكبرون، وثبت أنَّ إبليس تكبَّر، واستكبر، فوجب أن لا يكون من الملائكة.
وللخصم أن يجيب بأن إبليس لو لم يكن من الملائكة، لما ذمَّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمرِ، ومن الاستكبار، فلما خالف الأمر، واستكبر، خرج من حيّز الملائكة، ولعن، وطرد؛ لأنه خالف المعهود من حاله.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - «ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة، ثبت أنَّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقِّ هاروت وماروت باطلة، فإن الله - تبارك وتعالى - وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنبٍ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة» .
واحتجَّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا: إنَّ الله - تعالى - وصفهم بالخوف، ولولا أنهم يجوِّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب، وإلاَّ لم يحصل الخوفُ والجواب من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - حَذَّرهم من العقاب؛ فقال {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] فللخوف من العذاب يتركون الذنب.(12/74)
الثاني: أن ذلك الخوف خوف الإجلال؛ هكذا نقل عن ابن عباس؛ كقوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] وكقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنِّي لأخْشَاكُم للهِ» حين قالوا له وقد بكى: أتَبْكِي وقد غَفرَ الله لَكَ مَا تقدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأخَّر؟ .
وهذا يدلُّ على أنه كلَّما كانت معرفة الله أتمَّ، كان الخوف منه أعظم. وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء.
فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم
استدل المشبهة بقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} على أنه - تعالى - فوقهم بالذات.
والجواب: أن معناه: يخافون ربَّهم؛ من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم، وإذا احتمل اللفظ هذا المعنى؛ سقط استدلالهم، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة، والقهر والغلبة؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]
ويقوِّي هذا الوجه أنه تعالى قال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} فوجب أن يكون المقتضي لخوفهم هو كون ربِّهم فوقهم؛ لأنَّ الحكم المرتب على وصف يشعر بكون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف، وهذا التعليل، إنَّما يصدح إذا كان المراد بالفوقية، القهر والقدرة؛ لأنَّها هي الموجبة للخوف، وأما الفوقية بالجهة، والمكان، فلا توجب الخوف؛ لأنَّ حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنَّه أخسُّ عبيده.
فصل في أن الملك أفضل من البشر
تمسك قومٌ بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملاائكة} وقد تقدم أنَّ تخصيص هذين النوعين بالذكر، إنَّما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخسَّ المراتب، وكان الطرف الثاني أشرفها، حتَّى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
الثاني: أن قوله {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يدلُّ على أنه ليس في قلوبهم تكبر، وترفع، وقوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يدل على أنَّ أعمالهم خالية عن الذنب، والمعصية، فمجموع هذين الكلامين يدلُّ على أنَّ بواطنهم، وظواهرهم، مبرأةٌ عن الأخلاق الفاسدة، والأفعال الباطلة، وأما البشر، فليسوا كذلك ويدلُّ عليه القرآن والخبر.
أما القرآن فقوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] وهذا الحكم عامٌّ في الإنسان، وأقلُّ مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذَّميمة.(12/75)
وأما الخبر، فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَا منَّأ إلاَّ وقدْ عصى أو هَمَّ بِمعْصِيةٍ غير يَحْيَى بن زكريَّا» .
ونعلم بالضرورة أن المبرَّأ عن المعصية، ومن لم يهمَّ بها أفضل ممَّن عصى، أو همَّ بها.
الثالث: أنَّ الله - تعالى - خلق الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قبل البشر بأدوار متطاولة، وأزمان ممتدة، ثم إنه - تعالى - وصفهم بالطاعة، والخضوع، والخشوع طول هذه المدَّة، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين:
الأول: قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «الشَّيخ في قَومِه كالنَّبيِّ في أمَّتهِ» فضَّل الشيخ على الشابّ؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّه لما كان عمره أطول، فالظاهر أنَّ طاعته أكثر؛ فكان أفضل.
والثاني: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسنةً فلهُ أجْرهَا وأجْرُ من عَملَ بها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها، لزم أن يقال: إنهم هم الذين سنُّوا هذه السنة، وهي طاعة الخالق، والبشر إنما جاءوا بعدهم، واستنُّوا بسُنَّتهِم؛ فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كلَّ ما حصل للبشر من الثواب،(12/76)
فقد حصل مثله للملائكةِ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة؛ فوجب كونهم أفضل.
قوله تعالى: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} الآية لمَّا بين أن كلَّ ما سوى الله فهو منقادٌ لجلاله وكبريائه، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك، وبأن كل ما سواه، فهو ملكه؛ وأنه غنيٌّ عن الكل.
قوله تعالى: «اثْنَيْنِ» فيه قولان:
أحدهما: أنه مؤكد ل «إلهَيْنِ» وعليه أكثر الناس، و «لا تتَّخِذُوا» على هذا يحتمل أن تكون متعدية لواحدٍ، وأن تكون متعدية لاثنين، والثاني منهما محذوف، أي: لا تتخذوا اثنين إلهين، وفيه بعدٌ.
وقال أبو البقاءِ: «هو مفعولٌ ثانٍ» . وهذا كالغلط؛ إذ لا معنى لذلك ألبتة.
وكلام الزمخشريِّ هنا يفهم أنَّه ليس بتأكيد؛ فإنه قال: طفإن قلت: إنَّما جمعوا بين العدد، والمعدود؛ فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا: عندي رجال ثلاثة، وأفراسٌ أربعةٌ؛ لأنَّ المعدود عارٍ عن الدَّلالةِ عن العدد الخاص، فأمَّا رجلٌ ورجلان، وفرسٌ وفرسان؛ فمعدودان فيهما دلالة على العدد؛ فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد، ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى: {إلهين اثنين} ؟ .
قلت: الاسم الحامل لمعنى الإفراد، والتثنية دال على شيئين، على الجنسية، والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أنَّ المعنيَّ به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكد العدد، فدلَّ به على القصد إليه، والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت: «إنَّما هُوَ إلهٌ» ، ولم تؤكده بواحدٍ لم يحسن، وخُيِّلَ أنك أثبت الإلهية، لا الواحدانيَّة «.
وقال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ:» لما كان الاسمُ الموضوع للإفراد، والتثنية قد يتجوَّز فيه؛ فيراد به [الجنس] ؛ نحو: نِعْمَ الرَّجلُ زَيْدٌ، ونِعْمَ الرَّجلانِ الزيدان. وقول الشاعر: [الوافر]
3319 - فإنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى ... وإنَّ الحَرْبَ أوَّلُهَا الكَلامُ
أكد الوضوع لهما بالوصف، فقيل: إلهَيْنِ اثْنَينِ، وقيل: إلهٌ واحدٌ «.
فصل
قال ابن الخطيب: الفائدة في قوله:» اثْنَيْنِ «: أن الشيء إذا كان ميتنكراً(12/77)
مستقبحاً، فإذا أريد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على قبحه، والقول بوجودِ إلهين مستقبحٌ في العقول؛ فإنَّ أحداً من العقلاءِ لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجودِ، والعدمِ، وصفات الكمال فالمقصود من تكرير» اثْنَيْنِ «تأكيدُ التنفير عنه، وتوقيف العقل على ما فيه من القبح، وأيضاً فقوله» إلهَيْنِ «لفظ واحد يدل على أمرين: ثُبوتِ الإلهِ، وثبوتِ التعددِ.
فإذا قيل: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين} لم يفهم من هذا اللفظ أنَّ النهي، وقع عن إثبات الإله، وعن إثبات التعدد، وعن مجموعهما، فلما قال: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} ظهر أن قوله:» لا تَتَّخِذُوا «نهيٌ عن إثبات التعدد فقط، وأيضاً فإنَّ التثنية منافية للإلهية، وتقريره من وجوه:
الأول: أنَّا لو فرضنا موجودين، يكون كل واحدٍ منهما واجباً لذاته؛ لكانا مشتركينِ في الوجوب البالتعيين، وما به المشاركة، غير ما به المباينة؛ فكلُّ واحدٍ منهما مركبٌ من جزءين، وكل مركَّب فهو ممكنٌ؛ فثبت أنَّ القول بأن واجب الوجود أكثر من واحدٍ ينفي القول بكونهما واجبي الوجودِ.
الثاني: أنَّا لو فرضنا إلهين، وحاول أحدهما تحريك جسم، والآخر تسكينه؛ امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني؛ لأنَّ الحركة الواحدة والسكون الواحد، لا يقبل القسمة أصلاً، ولا التفاوت أصلاً؛ وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني؛ وإذا ثبت هذا، امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية، وإذا ثبت هذا، فإمَّا أن يحصل مراد كل منهما، وهو محال، أو لا يحصل مراد كلِّ واحدٍ منهما ألبتَّة؛ وحينئذٍ يكون كل واحدٍ منهما عاجزاً؛ والعاجز لا يكون إلهاً. فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً.
الثالث: لو فرضنا غلهين اثنين، لكان إمَّا أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر، أو لا يقدر، فإن قدر؛ فذلك الآخر ضعيفٌ، وإن لم يقدر، فهو ضعيفٌ.
الرابع: أن أحدهما: إمَّا أن يقوى على مخالفة الآخر، أو لا يقوى عليه، فإن لم يقو عليه، فهو ضعيف، وإذا قوي عليه، فالأول المغلوبُ ضعيف؛ فثبت أنَّ الاثنينيَّة والإلهية متضادان.
فالمقصود من قوله {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} هو التنبيه على حصول المنافاة، والمضادة بين الإلهية، وبين الاثنينية.
ولما ذكر هذا الكلام قال: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} ، أي: إنه لمَّا دل الدليل على أنَّه لا بد للعالم من الإله، وثبت أنَّ القول بوجود إلهين محالٌ؛ ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد.
ثم قال {فَإيَّايَ فارهبون} وهذا رجوعٌ من الغيبة إلى حضور، والتقدير: أنه لما ثبت(12/78)
أنَّ الإله واحد، وأنَّ المتكلم بهذا الكلام إلهٌ؛ ثبت حينئذٍ أنَّه لا إله للعالم إلاَّ المتكلم بهذا الكلام، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور؛ ويقول: {فَإيَّايَ فارهبون} .
قوله تعالى: { {فَإيَّايَ} منصوب بفعلٍ مضمرٍ مقدَّر بعده، يفسره هذا الظاهر، أي: إيَّاي ارهبوا فارهبون، وقدَّرهُ ابن عطيَّة: ارهبوا إيَّاي، فارهبون.
قال أبو حيَّان: وهو ذهولٌ عن القاعدة النحوية؛ وهي أنَّ المفعول إذا كان ضميراً متصلاً، والفعل متعدِّ لواحدٍ، وجب تأخيرُ الفعل؛ نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ولا يجوز أن يتقدم إلاَّ في ضرورة؛ كقوله: [الرجز}
3320 - إليْكَ حَتَّى بَلغَتْ إيَّاكا ... وقد مرَّ تقريره أول البقرة.
وقد يجابُ عن ابن عطيَّة: بأنه لا يقبحُ في الأمور التقديريَّة ما يقبحُ في اللفظيَّة.
وفي قوله: «إيَّاي» التفاتٌ من غيبة؛ وهي قوله «وقَالَ اللهُ» إلى تكلم، وهو قوله «فإيَّاي» ثم التفت إلى الغيبة أيضاً، في قوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض} .
فصل
قوله «فارْهَبُونِ» يفيد الحصر، وهو أنَّه لا يرهب الخلق إلاَّ منه، ثم قال: {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض} .
قال ابن عطية: «والواو في قوله: {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض} عاطفة على قوله» إلهٌ واحدٌ «، ويجوز أن تكون واو ابتداءٍ» .
قال أبو حيَّان: «ولا يقال: واو ابتداءٍ إلاَّ لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال» .
قال شهابُ الدين: وقد يطلقون واو ابتداء، ويريدون بها واو الاستئناف؛ أي: التي لم يقصد بها عطف ولا تشريك، وقد نصُّوا على ذلك؛ فقالوا: قد يؤتى بالواو أول الكلام، من غير قصدٍ إلى عطفٍ، واستدلوا على ذلك بإتيانهم بها في أول اشعارهم وهو كثيرٌ جدًّا.
ومعنى قوله: «عاطفة على قوله: إلهٌ واحدٌ» أي: أنها عطفت جملة على مفرد، فيجب تأويلها بمفردٍ؛ لأنها عطفت على الخبر؛ فيكون خبراً، ويجوز - على كونها عاطفة - أن تكون عاطفة على الجملة بأسرها، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} .(12/79)
وكأن ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ - قصد بواو الابتداء هذا؛ فإنَّها استئنافيةٌ.
فصل
قال أهل السنة: هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنَّها من جملة ما في السماوات والرض، وليس المراد من كونها لله، أنَّها مفعولة لأجله، ولطاعته؛ لأنَّ فيها المباحاتِ، والمحظورات التي يؤتى بها، لغرضِ الشَّهوةِ، واللَّذةِ، لا لغرضِ الطاعة؛ فوجب أن يكون المراد من كونها لله تعالى أنَّها واقعة بتكوينه وتخليقه.
قوله: {وَلَهُ الدين وَاصِباً} حال من «الدِّينُ» والعامل فيها الاستقرار المتضمن الجارَّ الواقع خبراً، والواصبُ: الدَّائمُ؛ قال حسَّان: [المديد]
3321 - غَيَّرتهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِ ... وهَزِيمٌ رَعْدهُ وَاصِبُ
وقال ابو الأسود: [الكامل]
3322 - لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَليلَ بَقاؤهُ ... يَوْماً بِذمِّ الدَّهْرِ أجْمعَ وَاصِبَا
والواصب: العليل لمداومةِ السقم له؛ قال تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] أي: دائمٌ، وقيل: من الوصبِ، وهو التَّعب؛ ويكون حينئذٍ على النسب، أي: ذا وَصَبٍ؛ لأنَّ الدِّين فيه تكاليف، ومشاقٌّ على العباد؛ فهو كقوله: [المتقارب]
3323 - ... ... ... ... ... ... ... ..... أضْحَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا
أي: ذا فُتونٍ، وقيل: الواصب: الخالص، ويقال: وصَب الشَّيءُ، يَصِبُ وصُوباً، إذا دام، ويقال واظَبَ على الشَّيءِ، وَواصَبَ عليه إذا دَامَ، ومَفازَةٌ واصِبَةٌ، أي: بعيدة، لا غاية لها.
وقال ابن قتيبة: ليس من أحدٍ يدان له، ويطاع إلاَّ انقطع ذلك بسبب في حال الحياة، أو بالموتِ إلا الحقَّ - سبحانه وتعالى - فإنَّ طاعته دائمة لا تنقطع.
قال ابنُ الخطيب: وأقولُ: الدين قد يعنى به الانقياد؛ يقال: يا من دَانتْ لهُ الرِّقَابُ، أي: انقادت لذاته، أي: وله الدينُ واصِباً، أي: انقياد كل ما سواه له لازمٌ أبداً؛(12/80)
لأنَّ انقياد غيره له معلَّل، بأنَّ غيره ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته يلزم أن يكون محتاجاً إلى السبب، في طرفي الوجود، والعدمِ، فالماهيَّات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتيًّا والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتيًّا، ينتج أنَّ الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثِّر لزوماً ذاتيًّا، فهذه [الماهيات] موصوفة بالانقياد لله - تعالى - اتصافاً، دائماً، واجباً، لازماً، ممتنع التَّغير.
ثم قال {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} ، أي: تخافون؛ استفهام على طريق الإنكارِ، أي: أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد، وأن كلَّ ما سواه محتاجٌ إليه، في حدوثه وبقائه، فبعد العلم بهذه الأصول، كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله أو رهبة من غير الله؟! .
قوله تعالى: {وَمَا بِكُم} يجوز في «مَا» وجهان:
أحدهما: أن تكون موصولة، والجارُّ صلتها، وهي مبتدأ، والخبر قوله: «فَمِنَ اللهِ» والفاء زائدة في الخبر؛ لتضمن الموصول معنى الشرط، تقديره: والذي استقرَّ بكم، و «مِنْ نِعْمَةٍ» بيانٌ للموصولِ.
وقدَّر بعضهم متعلق «بِكُمْ» خاصًّا، فقال: «ومَا حَلَّ بِكُمْ أو نَزلَ بِكُمْ» .
وليس بجيِّد؛ إذ لا يقدر إلاَّ كوناً مطلقاً.
الثاني: أنها شرطية، وفعل الشرط بعدها محذوف، وإليه نحا الفراء، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء.
قال الفرَّاء: التقدير «وما يكن بكم» . وقد ردَّ هذا؛ بأنَّه لا يحذف فعلٌ إلا بعد «إنْ» خاصَّة في موضعين:
أحدهما: أن يكون من باب الاشتغال؛ نحو {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] لأن المحذوف في حكم المذكور.
الثاني: أن تكون «إن» متلوة ب «لا» النافية، وأن يدلَّ على الشرط ما تقدَّمه من الكلام؛ كقوله: [الوافر]
3324 - فَطلِّقْهَا فَلسْتَ لهَا بِكُفءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مَفرِقكَ الحُسَامُ
أي: وإلا تطلقها، فحذف؛ لدلالة قوله «فَطلِّقُهَا» عليه.(12/81)
فإن لم توجد «لا» النافية، أو كانت الأداة غير «إنْ» لم تحذف إلا ضرورة، مثال الأول قول الشاعر: [الرجز]
3325 - قَالتْ بَناتُ العَمِّ: يَا سَلمَى وإنْ ... كَانَ فَقِيراً مُعْدماً؛ قالتْ: وإنْ
أي: وإن كان فقيراً راضية؛ ومثال الثاني قول الشاعر: [الرمل]
3326 - صَعْدَةٌ نَابتَةٌ في حَائرٍ ... ايْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلهَا تَمِلْ
وقول الآخر: [الخفيف]
_3327 - فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وتُعْطَفْ عَليْهِ كَأسُ السَّاقِي
فصل
لما بيَّن أنَّ الواجب على العاقل أن لا يتَّقي غير الله، بين ههنا أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى؛ لأنَّ الشكر إنما يلزم على النعمةِ، وكلُّ نعمةٍ تحصل للإنسانِ، فهي من الله تعالى، لقوله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} .
واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية؛ فقالوا: الإيمانُ نعمة وكلُّ نعمة فهي من الله، فالإيمان من الله تعالى، وأيضاً: فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ، وكل نعمة فهي من الله؛ لقوله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} وهذا اللفظ يفيد العموم، وأيضاً: فالموجود إمَّا واجب لذاته، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته، لا يوجد إلا لمرجح؛ إن كان واجباً لذاته، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل؛ وهو محال، فلا بدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله.
واعلم أنَّ النعم: إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة، أما النعمُ الدينية: فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاه، وإما معرفة الخير؛ لأجل العمل به، وأما النعمُ الدنيوية فهي: إمَّا نفسانية، وإما بدنيةٌ، وإما خارجية، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد؛ كما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] انتهى.
قوله: {إِذَا مَسَّكُمُ الضر} قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد الأسقام، والأمراض، والقحط، والحاجة.(12/82)
[قوله] : {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} الفاء جواب «إذَا» والجُؤارُ: رفع الصَّوت؛ قال رؤبة يصف راهباً: [المتقارب]
3328 - يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيكِ ... طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار
ومنهم من قيَّده بالاستغاثة؛ وأنشد الزمخشريُّ: [الكامل]
3329 - ... - جَأَّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ
... ... ... ... ... . ... وقيل: الجُؤارُ: كالخُوارِ، جَأرَ الثَّوْرُ، وخَارَ: واحِدٌ، إلاَّ أنَّ هذا مهموز العين، وذلك مُعتلها.
وق لالراغب: «جَأرَ إذا أفْرطَ في الدُّعاءِ، والتَّضرُّعِ تَشْبِيهاً بجُؤارِ الوحشيات» وقرأ الزهري: «تَجَرُونَ» محذوف الهمزة، وإلقاء حركتها على الساكن قبلها، كما قرأ نافع: «رِداً» في {رِدْءاً} [القصص: 34] .
ومعنى الآية: أنَّه - تعالى - بيَّن أن جميع النِّعم من الله، ثم إذا اتفق لأحدٍ مضرةٌ تزيل تلك النعم؛ فإلى الله يستغيث؛ لعلمه بأنَّه لا مفزع للخلق إلا الله، فكأنه - تعالى - قال لهم: فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاءِ، والسلامة.
قوله: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر} «إذَا» الأولى شرطية، والثانية: فجائية جوابها، وفي الآية دليل على أنَّ «إذَا» الشرطية لا تكون معمولة لجوابها؛ لأنَّ ما بعد «إذَا» الفجائية لا يعمل فيما قبلها.
[وقرأ قتادة] : «كَاشِفٌ» على فاعل. قال الزمخشريُّ: «بمعنى» فعل «وهو أقوى من» كَشَف «لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة» .
قوله: «مِنْكُمْ» يجوز أن يكن صفة ل «فَرِيقٌ» ، و «مِنْ» للتبعيض، ويجوز أن يكون للبيان، قال الزمخشريُّ: «كأنه قال: إذا فريقٌ كافرٌ، وهم أنتم» .
فصل
بين - تعالى - أنَّ عند كشف الضرِّ، وسلامة الأحوال، يفترقون: فريق منهم يبقى على ما(12/83)
كان عليه عند الضَّراء، أي: لا يفزع إلاَّ إلى الله، وفريق منهم يتغيَّرون فيشركون بالله - تعالى - غيره؛ وهذا جهلٌ وضلالٌ؛ لأنَّه لما شهدت فطرته الأصليَّة عند نزول البلاءِ، والضرِّ في ألاَّ يفزع إلا إلى الله، ولا يستغاث إلا بالله - فعند زوال البلاءِ يجب ألاَّ يزول عن ذلك الاعتقاد؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: 13] .
قوله: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} في هذه اللام ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون لام كي، وهي متعلقة ب «يُشْرِكُونَ» ، أي: أن إشراكهم سببه كفرهم به.
الثاني: أنَّها لام الصَّيرورةِ، أي: صار أمرهم إلى ذلك.
الثالث: أنَّها لام الأمر، وإليه نحا الزمخشريُّ.
وقرأ ابو العالية، ورواها مكحول عن أبي رافع مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فيُمْتَعُوا» بضمِّ الياءِ من تحت، ساكن الميم، مفتوح الياء مضارع «مُتِعَ» مبنيًّا للمفعول، «فسَوْفَ يَعْلمُونَ» بالياء من تحت أيضاً، وهذا المضارع في هذه القراءة، يجوز أن يكون حذف منه النون فيه؛ إما للنصب، عطفاً على «لِيَكْفُروا» وإن كانت لام «كي» ، أو للصيرورة، وإما لنصب أيضاً، ولكن على جواب الأمر إن كانت اللام للأمر، ويجوز أن يكون حذفها للجزم؛ عطفاً على «لِيَكْفرُوا» وإن كانت للأمر أيضاً.
فصل
قال بعض المفسرين: هذه لام العاقبة؛ كقوله تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] يعني: أنَّ عاقبته تلك التضرعات، ما كانت إلا هذا الكفر.
والمراد بقوله: «بِمَاءَاتَيْناهُمْ» كشف الضرِّ، وإزالة المكروه، وقيل: لمراد به القرآن وما جاء به محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من النبوة والشرائع.
ثمَّ توعَّدهم فقال: «فتَمتَّعُوا» ، [والمراد منه التهديد] ؛ كقوله {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أمركم، وما ينزل بكم من العذاب.(12/84)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً} الآية لما بيَّن فساد قول أهل الشرك بالدلائل القاهرة، شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم.
قوله: {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} الضمير في قوله: «يَعْلمُونَ» يجوز أن يعود للكفار، أي: لما يعلم، ومعنى «لا يَعْلمُونَ» أنهم يسمُّونها آلهة، ويعتقدون أنَّها تضرُّ، وتنفع، وتشفع؛ وليس الأمر كذلكز
ويجوز أن تكون للآلهة، وهي الأصنام، أي: الأشياء غير موصوفةٍ بالعلمز
قال باضهم: والأوَّل أولى؛ لأنَّ نفي العلم عن الحي حقيقةٌ، وعن الجمادِ مجازٌ، وأيضاً: الضمير في «ويَجْعَلُونَ» عائدٌ غلى المشركين، فكذلك في قوله {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} ، وأيضاً فقوله: {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} جمعٌ بالواو والنون؛ وهو بالعقلاءِ أليق منه بالأصنام.
وقيل: الثاني أولى؛ لأنَّا إذا أعدناه إلى المشركين؛ افتقرنا إلى إضمار؛ فإن التقدير: ويجعلون لما لا يعلمون إلهاً، أو لما لا يعلمون كونه نافعاً ضارًّا، وإذا اعدناه إلى الأصنام، لم نفتقر إلى الإضمار؛ لأن التقدير: ويجعلون لما لا علم لها.
وأيضاً: لو كان هذا العلم مضافاً إلى المشركين، لفسد المعنى؛ لأنه من المحال أن يجعلوا نصيباً مما رزقهم، لما لا يعلمونه.
فإذا قلنا بالقول الأول، احتجنا إلى الإضمار، وذلك يحتمل وجوهاً:
أحدها: ويجعلون لما لا يعلمون له حقًّا، ولا يعلمون في طاعته [نَفْعاً] ، ولا في الإعراضِ عنه ضُرًّا.
قال مجاهدٌ: يعلمون أنَّ الله خلقهم ويضرُّهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنَّه ينفعهم، ويضرُّهم نصيباً.
وثانيها: ويجعلون لما لا يعلمون إلهيَّتها.
وثالثها: ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها ىلهة معبودة.(12/85)
قوله «نَصِيباً» هو المفعول الأول للجعل، والجارُّ قبله هو الثاني، أي: ويصيِّرون الأصنام.
[وقوله:] {مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} يجوز أن يكون نعتاً ل «نَصِيباً» وأن يتعلق بالجعل؛ ف «مِنْ» على الأول للتبعيض، وعلى الثاني للابتداء.
فصل
في المراد بالنصيب احتمالات:
أحدها: أنهم جعلوا لله نصيباً من الحرثِ، والأنعامِ؛ يتقرَّبون به إلى الله، ونصيباً للأصنام؛ يتقربون به إليها، كما تقدم في آخر سورة الأنعام.
والثاني: قال الحسنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المراد بهذا النصيب: البَحِيرةُ، والسَّائبةُ، والوَصِيلةُ، والحَامِ.
والثالث: ربما اعتقدوا في بعض الأشياء، أنَّه لما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام، كما أنَّ المنجمين يوزِّعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة، فيقولون: لرجلٍ كذا وكذا من المعادن، والنبات، والحيوان، وللمشتري أشياء أخرى.
ثمَّ لمَّا حكى عن المشركين هذا المذهب، قال: {تالله لَتُسْأَلُنَّ} وهذا في هؤلاء الاقوام خاصة بمنزلة قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] ، فأقسم الله سبحانه وتعالى - جل ذكره - على نفسه أنَّه يسسألهم، وهذا تهديد شديد؛ لأن المراد من هذا أنه يسألهم سؤال توبيخٍ، وتهديدٍ، وفي وقت هذا السؤال احتمالان:
الأول: أنه يقع هذا السؤال عند قرب الموت، ومعاينة ملائكة العذاب، وقيل: عند عذاب القبر، وقيل: في الآخرةِ.
الثاني: أنه يقع ذلك في الآخرة، وهذا أولى؛ لأنه - تعالى - قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة، فهو إلى الوعيد أولى.
النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة: قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} ونظيره قوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] كانت خزاعة، وكنانة تقول: الملائكة بنات الله.
قال ابن الخطيب: «أظنُّ أنَّ العرب إنَّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة؛ لأن الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما كانوا مستترين عن العيون، أشبهوا النساء في الاستتار، فأطلقوا عليهم البنات» .
وهذا الذي ظنَّه ليس بشيءٍ، فإن الجنَّ أيضاً مستترون عن العيون، ولم يطلقوا عليها لفظ البنات.(12/86)
ولمَّا حكى عنهم هذا القول قال: «سُبْحَانهُ» والمراد: تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه.
وقيل: تعجيب الخلق من هذا الجهل الصَّريح، وهو وصف الملائكة بالأنوثةِ، ثم نسبتها بالولدية إلى الله - سبحانه وتعالى - والمعنى: معاذ الله.
قوله: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن هذا الجملة من مبتدأ، وخبر، أي: يجعلون لله البنات، ثمَّ أخبر أنَّ لهم ما يشتهون.
وجوَّز الفرَّاء، والحوفيُّ، والزمخشري، وأبو البقاء - رحمهة الله عليهم - أن تكون «مَا» منصوبة المحلّ؛ عطفاً على «البَناتِ» و «لَهُمْ» عطف على الله، أي: ويجعلون لهم ما يشتهون.
قال أبو حيَّان: وقد ذهلوا عن قاعدةٍ نحويَّة، وهو أنه لا يتعدَّى فعل المضمر إلى ضميره المتَّصلِ، إلاَّ في باب «ظنَّ» وفي «عَدمَ» و «فَقَد» ولا فرق بين أن يتعدى الفعل بنفسه، أو بحرف الجرِّ؛ فلا يجوز: زَيْدٌ ضربه، أي: ضرب نفسهُ، ولا «زَيْدٌ مَرَّ بِِهِ» ، أي: مر بنفسه، ويجوز: «زيد ظنه قائماً» ، و «زيد فقده وعدمه» أي: [ظن نفسه قائماً، وفقد] نفسه، وعدمها. إذا تقرَّر هذا، فجعل «مَا» منصوبة عطفاً على «البَناتِ» يؤدِّي إلى تعدِّي فعل الضمير المتَّصل، وهو واو «يَجْعلُونَ» إلى ضميره المتَّصل، وهو «هُمْ» في «لَهُمْ» انتهى.
وهذا يحتاجُ إلى إيضاح أكثر من هذا، وهو أنَّه لا يجوز تعدي فعل الضمير المتصل، ولا فعل الظاهر إلى ضميرها المتصل، إلا في باب «ظنَّ» وأخواتها من أفعال القلوب، وفي «فَقَد» و «عَدمَ» فلا يجوز زيدٌ ضربهُ زيدٌ، أي: ضَربَ نفسه، ويجوز: زَيْدٌ ظنَّه قَائماً، وظنَّه زَيْدٌ قَائِماً، وزيْدٌ فقَدهُ وعدمهُ، وفقَدهُ وعَدمهُ زَيْدٌ، ولا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهر، في باب من الأبواب، لا يجوز: زيدٌ ضربَ نَفسَهُ، وفي قولنا «غلى ضميرها المتصل» قيدان:
أحدهما: كونه ضميراً، فلو كان ظاهراً كالنَّفس لم يمتنع، نحو: زَيْدٌ ضرب نفسهُ وضَرَب نفسه زيد.
والثاني: كونه متَّصلاً، فلو كان منفصلاً؛ جاز، نحو: زيدٌ ما ضرب إلاَّ إيَّاه، وما ضَربَ زيْدٌ إلاَّ إياه، وأدلَّة هذه المسألة مذكورة في كتب النَّحو.
وقال مكي: «وهذا لا يجوز عند البصريين، كما لا يجوز: جعلت لي طعاماً إنَّما يجوز جعلت لنفسي طعاماً، فلو كان لفظ القرآنِ: ولأنفسهم ما يشتهون، جاز ما قال الفرَّاء عند البصريين، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليل، وبسطٍ كثيرٍ» .(12/87)
وقال أبو حيَّان - بعدما حكى أنَّ «مَا» في موضع نصبٍ عن الفرَّاء، ومن تبعه -: وقال أبو البقاءِ، وقد حكاهُ؛ وفيه نظرٌ.
قال شهابُ الدِّين: «وأبو البقاء لم يجعل النَّظر في هذا الوجه، إنَّما جعله في تضعيفه، بكونه يؤدِّي غلى تعدي فعل المضمر المتَّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني، فإنه قال:» وضعَّف قومٌ هذا الوجه، وقالوا: لو كان كذلك لقال: ولأنفسهم، وفيه نظرٌ «فجعل النظر في تضعيفه لا فيه» .
وقد يقال: وجه النَّظر أنَّ الممتنع تعدى ذلك الفعل، أي: وقوعه على ما جر بالحرف، نحو: «زيد مرَّ بِهِ» فإن المرور واقعٌ ب «زيدٍ» ، وأمَّا ما نحن فيه، فليس الجعل واقعاً بالجاعلين، بل ما يشتهون.
وكان أبو حيَّان يعترض دائماً على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25] {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} [القصص: 32] .
والجواب عنهما ما تقدَّم، وهو أنَّ الهزَّ، والضَّم ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدَّم لنا هذا البحث في مكانٍ آخر، وإنَّما أعدته لصعوبته، وخصوصيته، هذا بزيادة فائدة، وأراد بقوله: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] أي: الشيء الذي يشتهونه، وهو السَّترُ.
ثمَّ إنه - تعالى - ذكر أنَّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت لنفسه فالذي لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله - تعالى - فقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى} .
التَّبْشيرُ في عرف اللغة: مختصٌّ بالخبر الذي يفيد السرور، إلا أنَّ أصله عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغيير بشرة الوجه، ومعلومٌ أن السُّرورَ كما يوجب تغير البشرة، فكذلك الحزن يوجبه؛ فوجب أن يكون التَّبشيرُ حقيقة في القسمين، ويؤكِّده قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] . وقيل: المراد بالتَّبشير ههنا الإخبار.
قوله: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} يجوز أن تكون «ظلَّ» ليست على بابها من كونها تدلُّ على الإقامة نهاراً على الصِّفة المسندة إلى اسمها، وأن تكون بمعنى: «صَارَ» وعلى التقديرين هي ناقصة، و «مُسْودًّا» خبرها.
وأما «وجهه» ففيه وجهان:
أشهرهما، وهو المتبادر إلى الذّهن أنه اسمها.
والثاني: أنه بدلٌ من الضمير المستتر في «ظلَّ» : بدل بعضٍ من كلٍّ، أي: ظلَّ أحدهم وجهه، أي: ظل وجه أحدهم.
قوله: «كَظِيمٌ» يجوز أن يكون بمعنى فاعل، وأن يكون بمعنى مفعول كقوله: {وَهُوَ(12/88)
مَكْظُومٌ} [القلم: 48] ، والجملة حالٌ، وبجوز أن يكون: «وهُوَ كَظيمٌ» حالاً من الضَّمير في «ظلَّ» أو من «وَجْههِ» أو من الضمير في: «مُسْودًّا» .
وقال أبو البقاءِ: «فلو قرئ هنا» مُسْوَدٌّ «يعني بالرفع، كلان مستقيماً على أن يجعل اسم» ظل «مضمراً فيها، والجملة خبرها» .
وقال في سورة الزخرف [الآية: 17] : «ويقرآن بالرفع على أنه مبتدأ، وخبر في موضع خبر ظلَّ» .
قوله: {يتوارى} يحتمل أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً ممَّا كانت الأولى حالاً منه إلا «وجْههُ» فإنه لا يليق ذلك به، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في: «كَظِيمٌ» .
قوله {مِنَ القوم مِن سواء} تعلق هنا جاران بلفظ واحد لاختلاف معناهما فإنَّ الأولى للابتداء، والثانية للعلَّة، أي: من أجل سوء ما بشِّر به.
قوله: «أيُمْسِكهُ» قال أبو البقاء: «في موضع الحال، تقديره: يتوارى، أي: مُتردِّداً هل يمسكه أم لا؟» .
وهذا خطأٌ عند النحويين؛ لأنهم نصوا على أنَّ الحال، لا تقع جملة طلبيَّة، والذي يظهر أن هذه الجملة الاستفهامية معمولة لشيءٍ محذوف هو حال من فاعل «يَتوارَى» ، ليتم الكلام، أي: يتوارى ناظراً، أو متفكِّراً: «أيُمسِكهُ على هُونٍ ... أمْ يدُسُّه» على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ «مَا» .
وقرأ الجحدريُّ: أيُمْسِكُها، أم يدسُّها مراعاة للأنثى، أو لمعنى «مَا» .
وقرئ: أيمسكهُ أم يدسُّها، والجحدري، وعيسى - رحمهما الله - على «هَوان» بزنة فدان، وفرقة على «هَوْنٍ» وهي قلقة؛ لأنَّ الهون بفتح الهاء: الرِّفقُ، واللينُ، ولا يناسب معناه هنا، وأمَّا الهوان فمعنى «هُونٍ» المضموم.
قوله: {على هُونٍ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من الفاعل، وهو مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فإنه قال: أيمسكه مع [رضاء] بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه.
والثاني: أنه حالٌ من المفعول، أي: يمسكها ذليلة مهانة.
والدَّس: إخفاء الشيء، وهو هنا عبارة عن الوَأدِ.
فصل
معنى الآية: أنَّ وجهه يتغير تغير المغموم، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه(12/89)
غمًّا، وحزناً، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمِّ؛ لأنَّ الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره، وانبسط روح قلبه من داخل البدن، ووصل إلى الأطراف، ولا سيَّما إلى الوجه لما بين القلب، والدِّماغ من التَّعلق الشَّديد، وإذا وصل الرُّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه، وتلألأ، واستنار، وإذا قوي غمُّ الإنسان احتقن الروحُ في داخل القلب، ولم يبق منه أثرٌ قويٌّ في ظاهر الوجه، فلا جرم يصفرُّ الوجه، ويسودُّ، ويظهر فيه أثر الأرضية، والكآبة؛ فثبت أنَّ من لوازم الفرح استنارة الوجه، وإشراقه، ومن لوازم الغمِّ كمودة الوجه، وغبرته، وسواده، فلهذا قال: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} أي ممتلئ غمًّا «يتوارى» به من القوم يتنحى عنهم ويتغيَّب من سوء ما بشِّر.
قال المفسِّرون: كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكراً؛ ابتهج به وإن كان أنثى حزن، ولم يظهر أياماً يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها؟ وهو قوله: {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ} ، أي: أيحتبسه؟ والإمساك هنا: الحبس، كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] والهُونُ: الهَوان.
قال النضر بن شميلٍ: يقال: إنه أهون عليه هوناً، وهَواناً، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {عَذَابَ الهون} [الأنعام: 93] .
{أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} والدَّسُ: إخفاءُ الشيء في الشيء، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ.
قال قيس بن عاصم: يا رسول الله: «إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة، فقال - صلوات الله وسلامه عليه -: أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة» ، فقال: يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً» .
وروي «أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها، فأخْرَجتْهَا إليّ فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ، فقالت: يا أبَتِ قَتَلتَنِي، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ «.
واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات، فمنهم من يذبحها، ومنهم من يحفر الحفيرة، ويدفنها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ، ومنهم من يغرقها، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة، وتارة للحميَّة، وتارة خوفاً من الفقر، والفاقة، ولزومِ النَّفقةِ.(12/90)
وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحسَّ شيئاً من ذلك، وجه إلى والد البنت إبلاً يستحييها بذلك، فقال الفرزدق مفتخراً به: [المتقارب]
3330 - وعَمِّي الذي مَنعَ الوَائِداتِ ... وأحْيَا الوئِيدَ فَلمْ تُوءَدِ
{أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} ؛ لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات.
أولها: أنه يُسوِّدُّ وجهه.
ثانيها: أنَّه يختفي عن القوم من شدَّة نفرته عنها.
وثالثها: يقدم على قتلها مع أنَّ الولد محبوبٌ بالطبع، وذلك يدلُّ على أنَّ النفرة من البنت تبلغ مبلغاً لا مزيد عليه، فالشيء الذي يبلغ الاستنكاف عنه إلى هذا الحدِّ العظيم، كيف يليقُ بالعاقل أن ينسبه لإله العالم القديم المقدَّس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات؟ .
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21، 22] .
فصل
قال القرطبيُّ: ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من ابتُلِي من البَناتِ بشيءٍ، فأحْسنَ إليْهِنَّ كُنَّ لهُ سِتْراً من النَّارِ» .
وعن أنس بن مالكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ عَالَ جَارِيتيْنِ حتَّى تَبلُغَا، جَاء يَوْمَ القِيامةِ أنَا وهُوَ كهَاتيْن، وضمَّ أصَابعهُ» أخرجهما مسلم.
فصل
قال القاضي: «دلَّت هذه الآية على بطلانِ الجبر؛ لأنَّهم يضيفون إلى الله - تعالى - من الظُّلمِ، والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه، والتَّباعد عنه، فحكمهم في ذلك مشابهٌ لحكم هؤلاء المشركين، بل أعظم؛ لأنَّ إضافة البنات إلى الله إضافة قبح واحد، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله - تعالى -» .
وجوابه: لما ثبت بالدَّليل استحالة الصاحبة والولد على الله أردفه الله - تعالى - بذكر هذا الوجه الإقناعي، وإلا فليس كل ما قبح في العرف قبح من الله - تعالى - ألا ترى أنَّه لو زيَّن رجلٌ إماءه، وعبيده، وبالغ في تحسين صورهم، ثمَّ بالغ في تقوية الشَّهوةِ فيهم(12/91)
وفيهن، ثم جمع بين الكل، وأزال الحائل، والمانع، فإنَّ هذا بالاتِّفاقِ حسن من الله - تعالى - وقبيح من كلِّ الخلق، فعلمنا أنَّ التعويل بالوجوه المبنية على العرف إنَّما تحسن إذا كانت مسبوقة بالدَّلائل القطعيَّة اليقينيَّة، وقد ثبت بالبراهين القطعيَّة امتناع الولد على الله، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية.
وأمَّا أفعال العباد فقد ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أنَّ خالقها هو الله سبحانه وتعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر.
ثم قال: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء} والمثلُ السُّوءِ: عبارة عن الصِّفةِ السوء، وهي احتياجهم إلى الولدِ، وكراهيتهم الإناث خوفاً من الفقر والعار {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} ، أي: الصِّفة العالية المقدسة، وهي كونه تعالى منزّهاً عن الولد.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: مثل السُّوءِ: النَّار، والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله {وَهُوَ العزيز الحكيم} .
فإن قيل: كيف جاء {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} مع قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} [النحل: 74] .
فالجواب: أنَّ المثل الذي يضربهُ الله حقٌّ وصدقٌ، والذي يذكره غيره باطل.
قال القرطبي في الجواب: «إن قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} ، أي: الأمثال التي توجب الأشباه، والنَّقائص، أي: لا تضربوا لله مثلاً يقتضي نقصاً وتشبهاً بالخلق، والمثل الأعلى: وصفه بما لا شبيه له ولا نظير» .
قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} الآية لما حكى عن القوم عئم كفرهم، وقبيح قولهم، بين أنه يمهل هؤلاء الكفار، ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل، والرحمة، والكرمِ.
قالت المعتزلة: هذه الآية دالَّة على أنَّ الظلم والمعاصي ليست فعلاً لله تعالى، بل تكون أفعالاً للعباد؛ لأنه - تعالى - أضاف ظلم العباد إليهم، فقال - عزَّ وجلَّ - {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} ، وأيضاً: لو كان خلقاً لله لكانت مؤاخذتهم بها ظلماً من الله، ولما منع الله - تعالى - العباد من الظلم، فبأن يكون منزّهاً عن الظلم أولى؛ ولأنَّ قوه تعالى: «بِظُلمهِمْ» الباء فيه تدلُّ على العليَّة، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} [الحشر: 4] . وقد تقدَّم الجواب مراراً.
فصل
ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ إقدام الناس على الظُّلم؛ يوجب إهلاك جميع الدَّواب، وذلك غير جائزٍ؛ لأن الدَّابَّة لمَّا لم يصدر عنها ذنبٌ، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم النَّاس؟ .(12/92)
وأجيب بوجهين:
أحدهما: أنَّا لا نسلم أن قوله: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} يتناول جميع الدَّوابِّ.
قال الجبائي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر، ومعصية لعجَّل هلاكهم، وحينئذ لا يبقى لهم نسلٌ، ومن المعلوم أنه لا أحد إلاَّ وفي أحد آبائه من يستحق العذاب، وإذا هلكوا؛ فقد بطل نسلهم، فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من النَّاس، وإذا [هلكوا] ، وجب ألا يبقى أحد من الدَّواب أيضاً، لأن الدَّواب مخلوقةٌ لمنافع العباد، وهذا وجهٌ حسن.
الثاني: أنَّ الهلاك إذا ورد على الظَّلمةِ، ورد أيضاً على سائر النَّاس والدَّواب، فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذاباً، وفي حق [غيرهم امتحاناً] ، وقد وقعت هذه الواقعة في زمن نوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
الثالث: أنه تعالى لو أخذهم لانقطع القطر، وفي انقطاعه انقطاع النَّبْت، فكان لا يبقى على ظهرها دابَّة.
عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سمع رجُلاً يقول: إن الظَّالمَ لا يضُرُّ إلاَّ نفسه فقال: «لا والله، بل إنَّ الحبارى لتموتُ في وكْرِهَا بظلم الظالم» .
وعن ابن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كَادَ الجُعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم؛ فهذه الوجوه الثَّلاثة مبنيةٌ على أنَّ لفظ الدابة يتناول جميع الدَّواب.
والجواب الثاني: أنَّ المراد بالدَّابة الكافر، قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] .
قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} ، أي: البنات التي يكرهونها لأنفسهم ومعنى: «(12/93)
ويجعلون» : يصفون الله بذلك، ويحكمون به له، كقولك: جعلتُ زيداً على النَّاس، أي: حكمت بهذا الحكم.
وتقدَّم معنى الجعل عند قوله تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] .
قوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} بسكون التَّاء تخفيفاً، وهي تشبه تسكين لام {بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] ، وهمزة {بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ونحوه.
والألسنةُ: جمع لسان مراداً به التذكير، فجمع كما جمع فعال المذكر نحو: «حِمَار وأحْمِرَة» ، وإذا أريد به التَّأنيث جمع جمع أفعل، كذِرَاعٍ، وأذْرُع.
وقرأ معاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «الكُذُبُ» بضم الكافِ والذَّال، ورفع الباء، على أنَّه جمع كذُوب، كصَبُور وصُبُر، وهو مقيسٌ.
وقيل: هو جمع كاذب، نحو «شَارِف وشُرُف» ؛ كقول الشاعر: [الوافر]
3331 - ألاَ يَا حَمْزَ للشَّثرفِ النِّواءِ..... ... ... ... . .
وهو حينئذٍ صفة ل: «ألْسِنتُهمُ» ، وحينئذ يكون «أنَّ لهُم الحُسْنَى» مفعولاً به والمراد بالحسن: البَنُونَ.
وقال يمانُ: يعني بالحسنةِ: الجنة في المعادِ.
فإن قيل: كيف يحكمُون بذلك، وهم منكُرونَ القيامة؟ .
فالجواب: أنَّ جميعهم لم ينكر القيامة، فقد قيل: إنَّه كان في العرب جمعٌ يقرُّونَ بالبعثِ، ولذلك كانوا يربطون البعير النَّفيسَ على قبرٍ، ويتركنه إلى أن يموت ويقولون: إنَّ ذلك الميت إذا حشر؛ يحشر معه مركوبه.
وقيل: إنهم كانوا يقولون: إن كان محمداً صادقاً في قوله بالبعث، تحصل لنا الجنَّة بهذا الدين الذي نحن عليه.
قيل: وهذا القول أولى، لقوله بعد: «لا جَرمَ أنَّ لهُم النَّارَ» فردّ عليهم قولهم، وأثبت لهم النَّار؛ فدلَّ على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنَّة.
قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} ، أي: حقًّا. قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - نعم إن لهم النَّار.(12/94)
قال الزجاج: «لا» رد لقولهم، أي: ليس الأمر كما وصفوا، «جرم» [فعلهم] أي: كسب ذلك القول لهم النار، فعلى هذا اللفظ «أنَّ» في محلِّ نصبٍ بوقوع الكسب عليه.
وقال قطربٌ: «أنَّ» في موضع رفع، والمعنى: وجب أن لهم النَّار، وكيف كان الإعراب، فالمعنى: أنه يحق لهم النَّار، ويجبُ.
قوله: {وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} قرأ نافعٌ بكسر الراء، اسم فاعل من أفرط، إذا تجاوز فالمعنى: أنهم متجاوزون الحد في معاصي الله - تعالى - أو في الإفراط، فأفعل هنا قاصر.
وقال الفارسيُّ: كأنه من أفرط، أي: صار ذا فرطٍ، مثل: أجرب، أي: صار ذا جرب، والمعنى: أنَّهم ذُو فرطٍ إلى النَّار كأنَّهم قد أرْسِلُوا إلى من يُهَيِّئُ لهُم مواضع إلى النَّار.
والباقون بفتحها، اسم مفعولٍ من: أفرطته، وفيه معنيان:
أحدهما: أنه من أفرطته خلفي، أي: تركته ونسيته، حكى الفراء أنَّ العرب تقول أفرطتُ منهم ناساً، أي: خلفتهم، والمعنى: أنَّهم مَنْسيُّونَ مَترُوكونَ في النَّار.
والثاني: أنه من أفرطته، أي: قدمته إلى كذا، وهو منقولٌ بالهمزة من فرط إلى كذا، أي: تقدَّم إليه، كذا قاله ابو حيان، وأنشد للقطامي: [البسيط]
3332 - واسْتَعْجلُونَا وكَانُوا مِنْ صَحابَتِنَا ... كَمَا تعجَّل فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
فجعل «فَرَطَ» قاصراً، و «أفْرَطَ» منقولاً.
وقال الزمخشريُّ: «بمعنى مقدَّمُون إلى النَّار معجَّلون إليها، من أفرطت فُلاناً وفرَّطتهُ، إذا قدَّمتهُ إلى المَاءِ» .
فجعل «فَعَلَ» ، و «أفْعَل» بمعنى؛ لأنَّ «أفْعَلَ» منقولٌ من «فَعَل» والقولان محتملان، ومنه الفرطُ، أي: المتقدم، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنَا فَرطُكمْ على الحَوْضِ» ، أي: سابقكم، ومنه «جَعَلهُ فَرطاً لأبويه وذُخْراً» ، أي: متقدماً بالشَّفاعة، وبتثقيل الموازين، والمعنى على هذا: أنهم قدموا إلى النَّار، وأنهم فرط الذين يدخلون بعدهم.(12/95)
وقرأ أبو جعفر في رواية «مُفرِّطُونَ» بتشديد الرَّاءِ مكسورة من فرَّط في كذا، أي: قصَّر، وفي رواية مفتوحة من فرَّطتهُ معدى بالتَّضعيف؛ أي من «فرط» بالتخفيف أي: تقدَّم، وسبق.
وقرأ عيسى بن عمر والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «لا جَرمَ إنَّ لهم النار وإنهم» بكسر «إن» فيهما على أنهما جواب قسم، أغنت عنه: «لا جرم» .
ثم بين - تعالى - أن هذا الصُّنع الذي صدر من مشركي قريش، قد صدر عن سائر الأمم السَّابقة في حق أنبيائهم - صلوات الله وسلامه عليهم -.
فقال: {تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي: كما أرسلنا إلى هذه الأمَّة، وهذا تسليةٌ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم.
قالت المعتزلة: هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة من وجوهٍ:
أحدها: أنَّه إذا كان خالقُ أعمالهم هو الله - تعالى -، فلا فائدة في التَّزيينِ.
والثاني: أنَّ ذلك التزيين لما كان بخلق الله - تعالى - لم يجز ذمُّ الشيطان بسببه.
والثالث: أنَّ ذلك التزيين هو الذي يدعو الإنسان إلى الفعل، وإذا كان حصول الفعل بخلق الله - تعالى - كان ضرورياً، فلم يكن التَّزيينُ داعياً.
والرابع: أنَّ على قولهم: الخالق لذلك العمل، أجدر بأن يكون ولياً لهم من الدَّاعي إليه.
الخامس: أنه - تعالى - أضاف التزيين إلى الشَّيطان، ولو كان ذلك المزيِّن هو الله - تعالى - لكانت إضافته إلى الشَّيطان كذباً.
والجواب: إنْ كان مزين القبائح في أعين الكفَّار هو الشيطان، فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطاناً آخر؛ لزم التَّسلسل، وإن كان هو الله - تعالى - فهو المطلوبُ.
قوله: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} يجوز أن تكون هذه الجملة حكاية حال ماضية، أي: فهو ناصرهم، أو آتية.
ويرادُ باليوم يوم القيامةِ، والمعنى: فهو وليّ أولئك الذين زيِّن لهم أعمالهم يوم القيامةِ، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامةِ لشهرته، والمقصود أنَّهُ لا وليَّ لهم، ولا ناصر لهم؛ لأنهم إذا عاينوا العذاب، وقد نزل بالشَّيطان كنزوله بهم، رَأوْا أنه لا مخلِّص له منه كما لا مخلص لهم منه؛ جاز أن يوبَّخوا بأن يقال لهم: «هذا وليُّكم اليوم» على وجْه السُّخريةِ.(12/96)
وجوَّز الزمخشري أن يعود الضمير على قريشٍ، فيكون حكاية حال في الحال لا ماضية، ولا آتية، والمعنى: أنَّ الشيطان يتولى إغواءهم، وصرفهم عنك كما فعل بكفَّار الأمم قبلك، فعلى هذا رجع عن الإخبار عن المم الماضية إلى الإخبار عن كفَّار مكَّة، وسمَّاه ولياً لهم؛ لطاعتهم له، ولهم عذاب أليم في الآخرة.
وجوَّز الزمخشري أيضاً أن يكون عائداً على «أممٍ» ، ولكن على حذف مضاف تقديره: فهو ولي أمثالهم اليوم.
واستبعده أبو حيان، وكأن الذي حمله على ذلك قوله: «اليَوْمَ» فإنه ظرف خالٍ، وقد تقدَّم أنه على حكاية الحال الماضية، أو الآتية.
ثمَّ ذكر - تعالى - أنه مع هذا الوعيد الشَّديد، قد أقام الحجَّة، وأزاح العلَّة فقال تعالى: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ} ، أي وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين بواسطة بيانات القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها يعني أهل الملل، والنحل، والأهواء، مثل التوحيد، والشرك، والجبر، والقدر، وإثبات المعاد ونفيه، ومثل: تحريمهم الحلال كالبحيرة والسائبة وغيرهما، وتحليلهم أشياء محرمة كالميتة.
فصل
قالت المعتزلة: واللام في «لتُبَيِّنَ» تدلُّ على أنَّ أفعال الله معللة بالأغراض، كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس} [إبراهيم: 1] وقوله عزَّ وجلَّ {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
والجواب: أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل، وجب صرفه إلى التَّأويل.
قوله: {وَهُدًَى وَرَحْمَةً} فيه وجهان:
أحدهما: أنهما انتصبا على أنهما مفعولان من أجلهما؛ والناصب: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} ولما اتحد الفاعل في العلَّة، والمعلول؛ وصل الفعل إليهما بنفسه، ولما لم يتَّحد في قوله: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ} ، أي: لأن تبين على أنَّ هذه اللاَّم لا تلزم من جهة أخرى، وهي كون مجرورها «أنْ» ، وفيه خلاف في خصوصية هذه المسألةِ، وهذا معنى قول الزمخشري فإنه قال: «معطوفان على محل» لتُبيِّنَ «إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول بهما؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب، ودخلت اللام على:» لتُبيِّنَ «؛ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفعل المعلل» .
قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «قوله: معطوفان على محل» لتُبيِّنَ «ليس بصحيح؛ لأنَّ محلَّه ليس نصباً، فيعطف منصوب، ألا ترى أنَّه لو نصبه لم يجز لاختلافِ الفاعل» .(12/97)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
قال شهابُ الدِّين: «الزمخشريُّ لم يجعل النَّصب لأجل العطفِ على محلِّه إنَّما جعله بوصول الفعل إليهما لاتِّحادِ الفاعل، كما صرح به فيما تقدَّم آنفاص، وإنما جعل العطف لأجل التشريك في العلَّة لا غير، يعني: أنهما علَّتان، كما أنَّ» لتُبيِّنَ «علة، ولئن سلمنا أنه نصب عطفاً على المحل، فلا يضر ذلك، وقوله:» لأنَّ محله ليس نصباً «ممنوع، وهذا ما لا خلاف فيه من أن محل الجار، والمجرور النصب؛ لأنه فضلة، إلا أن تقوم مقام مرفوع، ألا ترى إلى تخريجهم قوله:» وأرْجُلكُمْ «في قراءة النصب على العطف على محل» برءُوسِكمْ «، ويجيزون: مررت بزيد وعمرو على خلاف في ذلك بالنسبة إلى القياس، وعدمه لا في أصل المسالة، وهذا بحقُ حسنٌ» .
فصل
قال الكلبيُّ: وصف القرآن بكونه هدى، ورحمة لقوم يؤمنون، يدل على أنَّه ليس كذلك في حق الكلِّ، لقوله في أوَّل البقرة: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، وإنَّما خص المؤمنين بالذ1كر؛ لأنهم هم المنتفعون به، كقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] ؛ لأنَّ المنتفع بالإنذار هؤلاء القوم فقط.
قوله
تعالى
: {والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} الآية اعلم أنَّ المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول اربعة: الإلهيَّات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة: تقرير الإلهيَّات، فلهذا السَّبب كلَّما امتد الكلام في فصل من الفصول، عاد إلى تقرير الإلهيَّات، فههنا لمَّا امتد الكلام في وعيد الكفار، عاد إلى تقرير الإلهيَّات، فقال: {والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وقد تقدَّم تقرير هذه الدَّلائلِ.
وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع إنصاف وتدبُّر؛ والمراد: سماع القلوب لا سماع الآذان.
والنوع الثاني من الدَّلائلِ: الاشتدلالُ بعجائب أحوالِ الحيواناتِ.
قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ} والعِبرةُ: العِظةُ.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي «نُسْقِيكمْ» بضمِّ(12/98)
النون هنا، وفي المؤمنين، والباقون بفتح النون فيهما.
وهذه الجملة يجوز أن تكون مفسِّرة للعبرة، كأنه قيل: كيف العبرة؟ فقيل: نسقيكم من بين فرثٍ، ودم لبناً خالصاً، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ، [مضمر] ، والجملة جواب لذلك السؤال، أي: هي، أي: العبرة نسقيكم، ويكون كقوله: «تَسْمعُ بالمُعيْديِّ خَيرٌ مِنْ أن تَراهُ» .
واختلف النَّاس: هل سَقَى، وأسْقَى لغتان بمعنى واحدٍ، أم بينهما فرقٌ؟ .
خلافٌ مشهورٌ، فقيل: هما بمعنى واحد، وأنشد جمعاً بين اللغتين فقال: [الوافر]
3333 - سَقَى قَومِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْراً والقَبائِلَ من هِلال
دعى للجميع بالسقي، والخصب، و «نُمَيْراً» هو المفعول الثاني، أي: ما نميراً، وللداعي لأرض بالسقيا وغيرها: أسقى فقط.
وقال الأزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: العرب تقول لكلِّ ما كان من بطُونِ الأنعام، ومن السَّماء، أو نهر يجري أسقيته، أي: جعلته شرباً له، وجعلت له منه مسقى، فإذا كان للمنفعة قالوا: «سَقَى» ، ولم يقولوا: «أسْقَى» .
وقال الفارسيُّ: «سقيْتهُ حتَّى رَوِيَ، وأسْقَيتهُ نَهْراً جَعَلتهُ لَهُ شرباً» .
وقيل: سقاهُ إذا ناوله الإناء؛ ليشرب منه، ولا يقال من هذا أسقاه.
وقرأ أبو رجاء «يُسْقِيكُمْ» بضمِّ الياء من أسفل، وفي فاعله وجهان:
أحدهما: هو الله - تعالى -.
والثاني: أنه ضمير النَّعم المدلول عليه بالأنعام، أي: نعماً يجعل لكم سقياه.
وقرئ: «تَسْقِيكُمْ» بفتح التاء من فوق. قال ابن عطيَّة: وهي ضعيفةز
قال أبو حيَّان: «وضعفها عنده - والله أعلم - أنه أنَّث في:» نُسقِيكُم «وذكر في(12/99)
قوله:» ممَّا في بطُونهِ «، ولا ضعف من هذه الجهة؛ لأنَّ التَّذكير، والتَّأنيث باعتبارين» .
قال شهابُ الدِّين: وضعفها عنده من حيث المعنى، وهو أنَّ المقصود الامتنان على الخلقِ، فنسبة السقي إلى الله هو الملائمُ لا نسبته إلى الأنعام.
قوله: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} يجوز أن تكون «مِنْ» للتبعيض، وأن تكون لابتداء الغاية وعاد الضمير ها هنا على الأنعام مفرداً مذكراً.
قال الزمخشريُّ: ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم «ثَوْب أسْمَال» ، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً، وأمَّا {فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] في سورة المؤمنين، فلأنَّ معناه الجمع، ويجوز أن يقال في «الأنعام» وجهان:
أحدهما: أن يكون جمع تكسير: «نَعَم» كأجْبَال في جَبَل.
وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمعِ، فإذا ذكر، فكما يذكر «نَعَم» في قوله: [الرجز]
3334 - في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ يَحْوُونَهُ ... يُلْقِحهُ قَومٌ ويَنتِجُونَهُ
وإذا أنَّث ففيه وجهان: أنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع.
قال أبو حيَّان: أمَّا ما ذكرهُ عن سيبويه، ففي كتابه في هذا الباب، ما كان على مثال مفاعل، ومفاعيل ما نصُّه: «وأمَّا أجمال، وفلوس فإنَّها تنصرف، وما أشبهها؛ لأنها ضارعت الواحد، ألا ترى أنك تقول: أقْوَال، وأقَاوِيل، وأعْرَاب، وأعَارِيب، وأيْدٍ، وأيَادٍ فهذه الأحرف تخرج إلى مثال: مفَاعِل، ومفَاعِيل كما يخرج إليه الواحد، إذا كسر الجمع، وأما مفاعل، ومفاعيل، فلا يكسر؛ فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا البناء؛ لأنَّ هذا البناء هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت» .
ثمَّ قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس؛ لأن يجمع جمعاً لأخرجته إلى فَعائِل كما تقول: جَدُود، وجَدائِد، ورَكُوب، ورَكائِب، وركاب.
ولو فعلت ذلك بمفاعل، ومفاعيل، لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أنَّ بعض العرب تقول: «أُتي» للواحد فيضم الألف، وأمَّا أفعال؛ فقد تقع للواحد، من العرب من يقول: «هو الأنعامُ» ، قال - الله عزَّ وجلَّ -: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} . وقال أبو الخطَّاب:(12/100)
سمعت من العرب من يقول: هذا ثوب أكياش.
قال: والذي ذكره سيبويه: هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل، وبين أفعال وفُعول وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث إنَّ مفاعل، ومفَاعِيل لا يجمعان، وأفعالٌ وفعولٌ قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل، أو مفاعيل فلما كانا قد يخرجان إلى ذلك انصرفا، ولم ينصرف «مفاعل» و «مفاعيل» لشبه ذينك بالمفرد من حيث إنه يمكن جمعها وامتناع هذين من الجمع، ثمَّ قوي شبههما بالمفرد بأن بعض العرب يقول في «أَتى» «أُتى» بضم الهمزة، يعني أنه قد جاء نادراً فعول، من غير المصدر للمفرد، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضمير فيقول: هو الأنعامُ، وإنَّما ذلك على سبيل المجاز؛ لأنَّ الأنعام في معنى النعم والنَّعَم يفرد؛ كحما قال الشاعر: [الوافر]
3335 - تَركْنَا الخَيْلَ والنَّعََ المفدَّى ... وقُلْنَا للنِّساءِ بها: أقِيمِي
ولذلك قال سيبويه: طوأمَّا أفعال فقد يقع للواحد «فقوله:» قد يقع للواحد «دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضع، فقول الزمخشريُّ:» إنَّه ذكره في الأسماءِ المفردةِ على أفعال «تحريف في اللفظ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده، ويدلُّ على ما قلناه: أنَّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أنَّ أفعالاً ليس من أبنيتها.
قال سيبويه في باب ما لحقته الزِّيادة من بنات الثلاثة:» وليس في الكلام أفعيل، ولا أفْعَول، ولا أُفْعَال، ولا أفْعِيل، ولا أفعالُ إلا أن تكسِّر عليه اسماً للجمع «، قال:» فهذا نصٌّ منه على أنَّ أفعالاً لا يكون في الأسماء المفردة «.
قال شهاب الدِّين: الَّذي ذكره الزمخشريَّ، وهو ظاهر عبارة سيبويه، وهو كافٍ في تسويغ عودِ الضمير مفرداً، وإن كان أفعالاً قد يقع موقع الواحد مجازاً، فإنَّ ذلك ليس بصائرٍ فيما نحن بصدده، ولم يحرِّف لفظه، ولم يفهم عنه غير مراده لما ذكرناه من هذا المعنى الذي قصده.
وقيل: إنَّما ذكر الضمير؛ لنه يعود على البعض، وهو الإناثُ؛ لأنَّ الذُّكور لا ألبان لها، والعبرة إنَّما هي في بعض الانعام.
وقال الكسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» أي في بطون ما ذُكِر «.
قال المبرِّد: وهذا سائغ في القرآن، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11، 12] اي: هذا الشيء الطَّالع، ولا يكون هذا إلاَّ في التَّأنيث المجازي.(12/101)
ولا يجوز: جاريتك ذهب، وغلامك ذهبت، وعلى هذا خرج قوله: [الرجز]
3336 - فِيهَا خَطوطٌ من سَوادٍ وبَلقْ ... كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوليعُ البَهَقْ
أي: كأن المذكور.
وقيل: جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة، ومعاملة الجمع.
ففي هذه السورة اعتبر معنى الجمع، وفي سورة المؤمنين، اعتبر معنى الجماعة، ومن الأوَّل قول الشَّاعر: [الرجز]
3337 - مِثْلُ الفِراخِ نُتفَتْ حَواصِلُه ... وقيل: لأنه يسدُّ مسدَّ الواحد يُفهم الجمع فإنه يسد مسده نعم، ونعم يفهم الجمع؛ ومثله قول الشاعر: [الرجز]
3338 - وطَابَ ألبَانُ اللِّقاحِ وبَرَد ... لأنه يسد مسدَّها» لبن «.
ومثله قولهم هو أحسن الفتيان، وأجمله أي: أحسن فتى إلاَّ أنَّ هذا لا ينقاس عند سيبويه وأتباعه.
وذكر أبو البقاء ستَّة أوجهٍ تقدم منها في غضون ما ذكر خمسة، والسادس: أنه يعود على الفحل؛ لأنَّ اللبن يكون من طرق الفحلِ الناقة، فأصل اللَّبن من الفحل.
قال:» وهذا ضعيف؛ لأنَّ اللبن، وإن نسب إلى الفحل، فقد جمع البطون وليس في فحل الأنعام إلاَّ واحداً، ولا للواحد بطون، فإن قيل: أراد الجنس، فقد ذكر «.
يعني أنه قد تقدَّم أنَّ التَّذكير باعتبار جنس الأنعام، فلا حاجة إلى تقدير عوده على فحلٍ المراد به الجنس، وهذا القول نقله مكي عن إسماعيل القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يعقبه بنكير.
قال القرطبي: واستنبط القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير أن لبن الفحل يقبل التَّحريم.
وقال: إنَّما جيءَ به مذكَّراً؛ لأنَّه راجع إلى ذكر النِّعم؛ لأنَّ اللَّبن للذَّكرِ محسوب(12/102)
ولذلك قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنَّ اللبن محرِّمٌ حين أنكرته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - في حديث: «أفْلحَ أخي أبِي القعيس فلِلمَرْأةِ السَّقيُ وللرَّجُلِ اللِّقاحُ» .
أحدها: أنَّه متعلق بالسّقي على أنَّها لابتداء الاية، فإن جعلنا ما قبلها كذلك، تعين أن يكون مجرورها بدلاً من مجرور «من» الأولى، لئلا يتعلَّق عاملان متَّحدان لفظاً ومعنى [بمعمول] واحد، وهو ممتنع إلا في بدل الاشتمال؛ لأنَّ المكان مشتملٌ على ما حلَّ فيه، وإن جعلتها للتَّبعيض هان الأمر.
الثاني: أنَّها في محل نصبٍ على الحالِ من «لَبناً» ، إذ لو تأخَّرت، لكانت مع مجرورها نعتاً. قال الزمخشريُّ: «وإنَّما قدِّم؛ لأنه موضع العِبرة، فهو قمنٌ بالتَّقدم» .
الثالث: أنَّها مع مجرورها حالٌ من الضمير الموصول قبلها.
والفَرْثُ: فضالة ما يبقى من العلفِ في الكرشِ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في الأمعاء، ويقال: فرث كبده، أي: فتَّتها، وأفرث فلانٌ فلاناً؛ أونقعه في بليَّة يجرى مجرى الفرث.
روى الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه قال: «إذا استقرَّ العلف في الكرش، صار أسفله فرثاً، وأعلاه دماً، وأوسطه لبناً، فيجري الدَّمُ في العروقِ واللبن في الضَّرع، ويبقى الفرث كما هو» .
قوله: «لَبَناً» هو المفعول الثاني للسَّقي.
وقرئ: «سَيِّغاً» بتشديد الياءِ، بزنة «سَيِّد» وتصريفه كتصريفه. وخفف عيسى بن عمر، نحو «مَيْتٍ» ، و «هَيْنٍ» ، ولا يجوز أن يكون فعلاً، إذ كان يجب أن يكون سوغاً كقول.
ومعنى: «سَائغاً للشَّاربينَ» ، أي هنيئاً يجري بسهولة في الحلق، وقيل: إنه لم [يشرق] أحدٌ باللَّبن قطُّ.
فصل
قال ابن الخطيب: اللَّبنُ والدَّم لا يتولدان ألبتَّة في الكرشِ، والدَّليلُ عليه الحسُّ، فإنَّ هذه الحيوانات تذبحُ ذبحاً متوالياً، وما رأى أحدٌ في كرشها لا دماً، ولا لبناً، ولو كان تولد الدَّم، واللَّبن في الكرش؛ لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال، والشيء الذي دلَّت المشاهدة على فساده؛ لم يجز المصير إليه، بل الحق أنَّ الحيوان إذا(12/103)
تناول الغذاء، ووصل ذلك العلف إلى معدته إن ك ان إنساناً، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها، فإذا طبخ، وحصل الهضمُ الأول فيه، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً، نزل إلى الأمعاء، ثمَّ ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها، ويصير دماً، وذلك هو الهضم الثاني، ويكون ذلك الدم مخلوطاً بالصَّفراءِ، والسَّوداء، وزيادة المادة المائية، أمَّا الصفراء، فتذهب إلى المرارة، والسَّوداءُ إلى الطحالِ، والماء إلى الكلية، ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة، وهي العروقُ النابتة من الكبدِ، وهناك يحصل الهضمُ الثالث، وبين الكبد، وبين الضَّرع عروق كثيرة، فينصبُّ الدَّم من تلك العروق إلى الضَّرع والضرع لحمٌ غدديٌّ رخو أبيض، فيقلب الله - تعالى - الدم عند إصبابه إلى ذلك اللَّحم الغددي الرَّخو الأبيض، من صورة الدَّم إلى صورة اللَّبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن.
فإن قيل: هذه المعاني حاصلةٌ في الحيوان الذَّكر، فلم لم يحصل منه اللَّبنُ؟ قلنا: الحكمة الإلهيَّة قد اقتضت تدبير كلِّ شيءٍ على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته، فمزاج الذَّكر من كلِّ حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً، ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً، والحكمة فيه أنَّ الولد إنَّما يتكوَّن في داخل بدن الأنثى؛ فوجب أن يكون بدن الأنثى مختصاً بمزيد الرطوبات لوجهين:
الأول: أنَّ الولد إنما يتولَّد من الرطوبات، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة لتولد الولد.
والثاني: أنَّ الولد إذا كبر، وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتَّمدد؛ حتى يتسع لذلك الولد، فإذا كانت الرُّطوبات غالبة على بدنِ الأم، كان بدنها قابلاً للتَّمدد؛ فيتسع للولد، فثبت بما ذكرنا أنه - تعالى - خصَّ بدن الأنثى من كل حيوانٍ بمزيد الرُّطجوبات لهذه الحكمة، ثم إنَّ تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم، فعند انفصال الجنين، تنصب إلى الثَّدي، والضرع، ليصير مادَّة لغذاءِ ذلك الطفل الصَّغير، فظهر أنَّ السبب الذي لأجله يتولَّد اللَّبن من الدَّم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذَّكر، فظهر الفرقُ.
وقد تقدَّم ما نقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أنَّ الفرث يكون في أسفل الكرش، والدم يكون في أعلاه، واللبن يكون في الوسطِ، وبيَّنَّا أنَّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة.
واعلم أنَّ حدوث اللَّبن في الثدي، واتِّصافه بالصِّفات الموافقة لتغذية الطفل مشتمل على حكم عجيبة، يشهد صريح العقل بأنَّها لا تحصل إلاَّ بتدبير الفاعل الحكيمِ والمدبر الرحيم، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه - تعالى - خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاءِ فإذا تناول(12/104)
الإنسان غذاء، أو شربة رقيقة؛ انطبق ذلك المنفذُ انطباقاً كليًّا، لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول، والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد، ويبقى الثقل هناك، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ، وينزل منه ذلك الثقل، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصل الانطباق تارة، والانفتاح أخرى، بحسب الحاجة، وتقدير المنفعة ممَّا لا يتأتَّى إلا بتدبير الفاعل الحكيم.
الثاني: أنه - تعالى - أودع في الكبدة قوةً، تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول، والمشروب، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة، وخلق في الأمعاءِ قوَّة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل، ولا تجذب الأشياء اللطيفة ألبتَّة، ولو كان الأمر بالعكس، لاختلفت مصلحة البدن، ولفسد نظامُ هذا التركيب.
الثالث: أنه - سبحانه وتعالى - أودع في الكبد قوَّة هاضمة طابخة، حتَّى إنَّ تلك الأجزاء اللطيفة؛ تنطبخُ في الكبد، وتنقلب دماً، ثمَّ إنه - تعالى - أودع في المرارة قوَّة جاذبة للصَّفراء، وفي الطحال قوَّة جاذبة للسَّوداء، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائيَّة، حتى يبقى الدم الصَّافي الموافق لتغذية البدن، وتخصيص كلِّ واحد من هذه الأعضاء بتلك القوَّة الحاصلة، لا يمكن إلا بتدبير الحكيم العليم.
الرابع: أنَّ في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة تنمي أعضاء ذلك الولد، وازدياده، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرَّحم ينصب ذلك النَّصيب إلى جانب الثَّدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له، فإذا كبر ذلك الولد لم ينصب ذلك النَّصيب لا إلى الرَّحم، ولا إلى الثدي، بل ينصبُّ على مجموع بدن المتغذي، فانصبابُ ذلك الدَّم في كلِّ وقتٍ إلى عضوٍ آخر انصباباً موافقاً للمصلحة، والحكمة لا يتأتَّى إلاَّ بتدبير الفاعل المختار الحكيم.
الخامس: أنَّ عند تولد اللَّبن في الضرع أحدث - تعالى - في حلمة الثَّدي ثُقوباً صغيرة ومسامًّا ضيِّقة، ولما كانت هذه المسامُّ ضيِّقة جدًّا، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصَّفاء، واللَّطافة، وأمَّا الأجزاء الكثيفة فإنَّه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيِّقة فتبقى في الدَّاخل، والحكمة في إحداث تلك الثُّقوب الصَّغيرة والمنافذ الضيِّقة في رأسِ الحلمة؛ لكي تكون كالمصفاة، فكل ما كان لطيفاً خرج، وما كان كثيفاً؛ احتبس في الدَّاخلِ، فبهذا الطريق يصير ذلك اللَّبن خالصاً موافقاً لبدن الصَّبي «سَائِغاً للشَّاربين» .
السادس: أنه - تعلى - ألهم ذلك الصبي إلى المص؛ فإنَّ الأم إذا ألقت حلمة الثَّدي في فم الصبي، فذلك الصبيُّ في الحال يأخذ في المص، ولولا أنَّ الفاعل المختار الرحيم قد ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص، وإلا لم يحصل تخليق ذلك اللبن في الثَّدي.(12/105)
السابع: أنَّا بيَّنا أنه - تعالى - إنَّما خلق اللَّبن من فضلة الدَّم، وإنما خلق الدَّم من الغذاء الذي يتناوله الحيوان، فالشَّاة لمَّا تناولت العشب، وتولَّد منه الدم، وتولَّد اللبن من بعض أجزاء ذلك الدَّم، ثمَّ إنّ اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة، فما فيه من الدهن يكون حاراً رطباً، وما فيه من المائيَّة يكون بارداً رطباً، وما كان فيه من الجبنية يكون بارداً يابساً، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في العشب الذي تناولته الشَّاة، فظهر بهذين أنَّ هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة غلى صفة، ومن حالة إلى حالة، مع أنَّه لا يناسب بعضه بعضاً، ولا يشاكل بعضه بعضاً، وعند ذلك فإنَّ هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل مختار حكيم رحيم، يدبِّر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العبادِ.
قال المحققون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: اعتبار حدوث اللَّبن كما يدلُّ على وجود الصَّانع المختار، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر؛ لأنَّ العشب الذي يأكله الحيوان إنَّما يتولد من الماء والأرض، فخالق العالم دبَّر تدبيراً آخر، فقلب ذلك العشب دماً، ثم دبَّر تدبيراً آخر فقلب ذلك الدَّم لبناً خالصاً، ثمَّ أحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن، وهذا الاستقرار يجل على أنه - تعالى - قادرٌ على تقليب هذه الأجسام من صفة إلى صفة، ومن حالة غلى حالة، وإذا كان كذلك، لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على قلب أجزاء ابدان الموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك، فبهذا الاعتبار يدلُّ من هذا الوجه على أنَّ البعث والقيامة أمرٌ ممكنٌ غير ممتنع.
قوله: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه متعلق بمحذوف، فقدَّره الزمخشري: ونسقيكم من ثمرات النَّخيل والأعناب، أي: من عصيرها؛ وحذف لدلالة «نُسْقِيكُمْ» قبله عليه قال: «وتتَّخِذون بيان وكشف عن كيفية الإسقاء» .
وقدَّره ابو البقاء: خلق لكم أو جعل لكم وما قدَّره الزمخشري أليقُ.
لا يقال: لا حاجة إلى تقدير نسقيكم، بل قوله: «ومِنْ ثَمراتِ» عطف على قوله: «ممَّا في بُطونهِ» فيكون عطف بعض متعلقات الفعل الأوّل على بعض؛ كما تقول: سَقيْتُ زيْداً من اللَّبنِ ومن العسَلِ، فلا يحتاج إلى تقدير فعل قَبْل قولك: من العسل.
لا يقال ذلك؛ لن «نُسْقِيكُمْ» الملفوظ به وقع تفسير ل «عِبْرَة» الأنعام، فلا يليق تعلُّق هذا به؛ لأنه ليس من العبرة المتعلِّقة بالأنعام.
قال أبو حيان: وقيل: متعلق ب «نُسْقِيكُمْ» فيكون معطوفاً على ممَّا في بُطونهِ «أو: ب» نسقيكم «محذوفة دلَّ عليها» نُسْقِيكُمْ «انتهى.
ولم يعقبه تنكير، وفيه ما تقدَّم.(12/106)
الثاني: أنه متعلق ب» تتَّخذُونَ «، و» مِنْهُ «تكرير للظرف توكيداً؛ نحو: زيْدٌ في الدَّار فيها، قاله الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وعلى هذا فالهاء في» مِنْهُ «فيها ستَّة أوجه:
أحدها: أنها تعود على المضاف المحذوف الذي هو العصير؛ كما رجع في قوله تعالى:
{أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] إلى الأهل المحذوف.
الثاني: أنها تعود على معنى الثمرات؛ لأنها بمعنى الثَّمر.
الثالث: أنها تعود على النَّخيل.
الرابع: أنها تعود على الجنس.
الخامس: أنها تعود على البعض.
السادس: أنها تعود على المذكور.
الوجه الثالث من الأوجه الأول: أنه معطوف على قوله: «فِي الأنعَام» فيكون في المعنى خبراً عن اسم إنَّ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} التقدير: وإن لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لعبرة، ويكون قوله: «تَتَّخِذُون» بياناً وتفسيراً للعبرة، كما وقع «نُسْقِيكُمْ» تفسيراً لها أيضاً.
الرابع: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، فقدَّره الطبري: ومن ثمرات النَّخيل والأعناب ما تتَّخذون.
قال أبو حيان: «وهو لا يجوز على مذهب البصريِّين» .
قال شهاب الدين: وفيه نظر؛ لأنَّ له أن يقول: ليست «ما» هذه موصولة، بل نكرة موصوفة، وجاز حذف الموصوف والصِّفة جملة؛ لأنَّ في الكلام «مِنْ» ، ومتى كان في الكلام «مِنْ» اطرد الحذف، نحو: «مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ» ؛ ولهذا نظَّره مكيٌّ بقوله - تعالى -: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] ، أي: إلاَّ من له مقام معلوم، قال: فحذفت «مَنْ» لدلالة «مِنْ» عليها في قوله: «ومَا منَّا إلاَّ لهُ» .
ولمَّا قدَّر الزمخشري الموصوف، قدره: «ثمر تتَّخذون منه» ؛ ونظَّره بقول الشاعر: [الرجز]
3339 - يَرْمِي بكفَّي كان مِنْ أرْمَى البَشرْ ... تقديره: بكفَّي رجلٍ، إلا أنَّ الحذف في البيت شاذٌّ؛ لعدم «مِنْ» .
ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه؛ قال: «وقيل: هو صفة لمحذوفٍ تقديره: شيئاً تتخذون منه بالنصب، أي: وإن من ثمرات النَّخيل وإن شئت» شيءٌ «- بالرفع - على الابتداء، و» مِنْ ثمراتِ «خبره» .(12/107)
قال الواحدي: «و» الأعْنابِ «عطف على الثَّمرات لا على» النَّخيل «؛ لنَّه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب، والعنب نفسه ثمرة وليس له ثمرة أخرى» .
والسَّكرُ: بفتحتين فيه أقوال:
أحدها: أنه من أسماء الخمر؛ كقول الشاعر: [البسيط]
3340 - بِئْسَ الصُّحَاةُ وبِئْسَ الشَّرْبُ شَرْبُهُم ... إذَا جَرَى فِيهِمُ المُزَّاءُ والسَّكرُ
الثاني: أنه في الأصل مصدر، ثم سمِّي به الخمر، يقال: سَكرَ يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً؛ نحو: رَشِد يَرشَدُ رُشْداً ورَشَداً؛ قال الشاعر: [الوافر]
3341 - وجَاءُونَا بِهمْ سَكَرٌ عَليْنَا ... فأجْلَى اليَومُ والسَّكرانُ صَاحِي
قاله الزمخشري.
الثالث: أنه اسم للخلِّ بلغة الحبشة؛ قاله ابن عبَّاس.
الرابع: أنه اسم للعصير ما دام حلواً؛ كأنَّه سمِّي بذلك لمىله لذلك لو ترك.
الخامس: أنه اسم للطعم، قاله ابو عبيدةح وأنشد: [الرجز}
3342 - جَعَلتُ أعْراضَ الكِرامِ سَكَرَا ... أي: تنقلتُ بأعراضهم.
وقيل في البيت بأنه من الخمر، وأنه إذا انتهك أعراض النَّاس كان يخمر بها.
وقال الضحاك والنَّخعي ومن يبيحُ شرب النبيذ: السَّكر هو النبيذ؛ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتدَّ، والمطبوخ من العصير.
ومن حرَّمه يقول: المراد من الآية: الإخبار لا الإحلال.
قوله: {وَرِزْقًا حَسَنًا} يجوز أن يكون من عطف المتغايرات، وهو الظاهر؛ كما قال المفسرون: إنه كالزَّبيب والخلِّ والدِّبس ونحو ذلك وأن يكون من عطف الصِّفات بعضها على بعضٍ، أي: تتَّخذون منه ما يجمع بين السَّكر والرِّزق الحسن؛ كقوله: [المتقارب]
3343 - ... -(12/108)
إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام
... ... ... ... ... ... . ... فصل
ذهب ابن مسعود، وابن عمر، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد إلى أن السَّكر الخمر، والرزق الحسن الخلُّ والربُّ والتَّمر والزَّبيب.
قالوا: وهذا قبل تحريم الخمر؛ لأن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة.
قال بعضهم: ولا حاجة إلى التزام النَّسخ؛ لأنه - تعالى - ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع، وخاطب المشركين بها؛ لأنها من أشربتهم، فهي منفعة في حقِّهم.
ثم إنه - تعالى - نبَّه في هذه الآية أيضاً على تحريمها؛ لأنه ميَّز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أنَّ السَّكر لا يكون رزقاً حسناً؛ وهو حسن بحسب الشَّهوة، فوجب أن يقال: بأن الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشَّريعة، وإنَّما يكون كذلك إذا كانت محرَّمة.
ثم إنه - تعالى - لمَّا ذكر هذه الوجوه الَّتي هي دلائل على التَّوحيد من وجه، وتعديد للنِّعم العظيمة من وجه آخر - قال - جل ذكره -: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: من كان عاقلاً، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى -، فيحتجُّ بأصولها على وجود الإله القادر الحكيم.(12/109)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
قوله تعالى {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} الآية لما بيَّن أن إخراج الألبان من النَّعم، وإخراج السَّكر من ثمرات النَّخيل والأعناب دلائلٌ قاهرة على أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً(12/109)
مختاراً حكيماً فكذلك إخراج العسل من النحل دليلٌ قاطع على إثبات هذا المقصود.
اعلم أنه - تعالى - قال: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} يقال: وحَى وأوْحَى وهو هنا الإلهام، والمعنى: أنَّه - تعالى - قرَّر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وبيانه من وجوه:
الأول: أنها تبني البيوت مسدَّسة من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض بمجرَّد طبائعها، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل: المسطرة والبيكار.
الثاني: أنه ثبت في الهندسة أنَّ تلك البيوت لو كانت مشكلة باشكال سوى المسدَّسات، فإنه يبقى بالضَّرورة فيما بين تلك البيوت فرجٌ خالية ضائقة أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة، فإنه لا يبقى فيها فرج خالية ضائقة فاهتداء ذلك الحيوان الضَّعيف إلى تلك الحكمة الخفيَّة الدَّقيقة اللَّطيفة من الأعاجيب.
الثالث: أن النَّحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرَّئيس للبقيَّة، وذلك الواحد يكون أعظم جثَّة من الباقي، ويكون نافذ الحكم على البقيَّة وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه، وذلك أيضاً من الأعاجيب.
الرابع: أنها إذا نفرت وذهبت من وكرها مع الجماعة إلى موضع آخر، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها، ضربوا الطبول وآلات الموسيقى، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردِّها إلى أوكارها، وهذه أيضاً حالةٌ عجيبةٌ، فلمَّا امتاز هذا الحيوان بهذه الخواصِّ العجيبة الدالَّة على مزيد الذَّكاء والكياسة، ليس إلا على سبيل الإلهام، وهي حالة شبيهة بالوحي، لا جرم قال - سبحانه وتعالى - في حقِّها: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} .
فصل
قال أبو العباس أحمد بن علي المقري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الوحي يردُ على ستَّة أوجه:
الأول: الرِّسالة؛ قال - تعالى -: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} [النساء: 163] ، أي: أرسلنا إليك.
الثاني: الإلهام؛ قال - تعالى -: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] .
الثالث: الإيماءُ، قال - تعالى -: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ} [مريم: 11] أي: أومأ إليهم.
الرابع: الكتابة، قال - تعالى -: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] أي: يكتبون إليهم.
الخامس: الأمر، قال - تعالى -: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] ، أي: أمرها.
السادس: الخلق، قال - تعالى -: {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] ، أي: خلق.(12/110)
قال القرطبي: الإلهام هو ما يخلقه الله - تعالى - في القلب ابتداء من غير سبب ظاهرٍ؛ قال - تعالى -: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] ومن غير ذلك البهائم وما يخلقه الله فيها من إدراك منافعها، واجتناب مضارِّها، وتدبير معاشها، وقد أخبر الله - تعالى - عن الأرض فقال:
{تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 4، 5] .
واعلم أن الوحي قد ورد في حقِّ الأنبياء؛ قال - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] ، وفي حقِّ الأولياء؛ قال - تعالى -: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} [المائدة: 111] وبمعنى الإلهام في حقِّ بقية البشر؛ قال - تعالى -: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] وفي حقِّ سائر الحيوانات بمعنى خاصّ.
قال الزجاج: يجوز أن يقال: سمِّي هذا الحيوان نحلاً؛ لأن الله - تعالى - نحل النَّاس العسل الذي يخرج من بطونها.
وقال غيره: النَّحل يذكَّر ويؤنث على قاعدة أسماء الأجناس، فالتأنيث فيها لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله - تعالى - وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلاَّ الهاء.
وقرأ ابن وثَّاب: «النَّحَل» بفتح الحاء، فيحتمل أن يكون لغة مستقلة، وأن يكون إتباعاً.
قوله «أن اتَّخذِي» يجوز أن تكون مفسِّرة، وأن تكون مصدريَّة.
واستشكل بعضهم كونها مفسِّرة، قال: لأنَّ الوحي هنا ليس فيه معنى القول؛ إذ هو الإلهام لا قول فيه.
وفيه نظر؛ لأن القول لكل شيء بحسبه.
و «مِنَ الجِبَالِ» «من» فيه للتبعيض؛ إذ لا يتهيَّأ لها ذلك في كل جبلٍ ولا شجر، وتقدَّم القول في «يَعْرِشُون» ومن قرأ بالكسر والضم في الأعراف.
والمراد ب «ممَّا يَعْرِشُونَ» ما يبنون لها من الأماكن التي تأوي إليها، وقرئ: «بِيُوتاً» بكسر الباء.
فصل
اعلم أن النَّحل نوعان:
أحدهما: ما يسكن الجبال والغياض ولا يتعهَّدها أحد من النَّاس.
والثاني: ما يسكن البيوت ويتعهَّدها الناس، فالأول هو المراد بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر} .(12/111)
والثاني هو المراد بقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وهو خلايا النحل، واختلفوا فيه.
فقال بعضهم: لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول مخصوصة، بحيث يمكن أن يتوجَّه عليها أمر الله ونهيه.
وقال آخرون: المراد منه أنه - تعالى - خلق غرائز وطبائع توجبُ هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك في قوله - تعالى -: {يا أيها النمل} [النمل: 18] إن شاء الله - تعالى -.
ثم قال - تعالى -: {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات} «مِنْ» هنا للتبعيض؛ لأنها لا تأكل من كلِّ الثمرات؛ فهو كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 23] أو لابتداء الغاية.
قال ابن الخطيب: رأيتُ في كتب الطبِّ أن الله - تعالى - دبًَّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلٌّ لطيف في الليل، ويقع ذلك الطّلُّ على أوراق الأشجار، وقد تكون الأجزاء الطليَّة لطيفة صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين، فإنه طلٌّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشَّجر في بعض البلدان، وذلك محسوس، فالقسم الأول: هو الذي الهم الله - تعالى - هذا النَّحل، حتى أنَّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها، وتأكلها وتتغذى بها، فإذا شبعت، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء، ثم تذهبُ بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدَّخر لنفسها غذاءها، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل.
ومنهم من يقول: إنَّ النَّحل تأكل من الزهار الطَّيبة والأوراق العطرة أشياء، ثم إنه - تعالى - يقلِّب تلك الأجسام في داخل أبداناه عسلاً، ثمَّ إنها تقيء مرَّة أخرى؛ فذلك هو العسل.
والأول أقربُ، ولا شكَّ أنه طلٌّ يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار، فكذلك ههنا، ونحن نشاهد أن النَّحل إنَّما يتغذَّى بالعسل؛ ولذلك إذا أخرجوا العسل من بيوت النَّحل تركوا لها بقية من العسل لأجل أن يتغذى بها، فعلمنا أنها تتغذَّى بالعسل، وأنَّها إنما تقع على الأشجار والأزهار؛ ليتغذى بتلك الأجزاء الطلِّية العسليَّة الواقعة من الهواء، وإذا كان ذلك، فقوله: «مِنْ كلِّ الثَّمراتِ» أن «مِنْ» هنا لابتداء الغاية لا للتبعيض.
قوله: {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ} أي: إذا أكلت من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو اسلكي في طلب تلك الثَّمرات سبل ربك.
قوله تعالى: «ذُلُلاً» جمع ذَلُول، ويجوز أن يكون حالاً من السبل، أي: ذلَّلها لها(12/112)
الله - تعالى -؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} [الملك: 15] وأن يكون حالاً من فاعل «اسْلُكِي» ، أي: مطيعة منقادة، بمعنى أنَّ أهلها ينقلونها من مكانٍ إلى مكانٍ ولها يعسوب إذا وقف وقفت وإذا سار سارت.
وانتصاب «سُبُل» يجوز أن يكون على الظرفية، أي: فاسْلُكِي ما أكلت في سبل ربك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النوار ونحوه عسلا، وأن يكون مفعولاً به أي: اسلكي الطُّرق التي أفهمك وعلَّمك في عمل العسل.
قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} التفات وإخبار بذلك، والمقصود منه أن يحتجَّ المكلف به على قدرة الله وحكمته وحسن تدبيره.
واعلم أنَّا إذا حملنا الكلام على أنَّ النَّحل تأكل الأوراق والثَّمرات ثم تتقيَّأ، فذلك هو العسل فظاهرٌ، وإذا ذهبنا إلى أنَّ النحل يلتقط الأجزاء الطلية بفمه، فالمراد من قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} ، أي: من أفواهها، فكل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً، كقولهم: بُطونُ الدِّماغِ، أي: تجاويف الدماغ، فكذا قوله - تعالى - {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} أي: من أفواهها.
قوله: {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أنَّه تارة يشرب وحده، وتارة نتَّخذ منه الأشربة، و {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أبيض وأحمر وأصفر.
وقوله - تعالى -: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} ، أي: في العسل.
روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «جَاءَ رجلٌ إلى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إنَّ أخِي اسْتطلقَ بَطْنهُ، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اسْقِه عَسَلاً، فَسَقاهُ، ثمَّ جَاءَ فقال: إني سَقيْتهُ فَلمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطلاقاً، رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» صَدَقَ الله وكَذبَ بَطْنُ اخِيك، فَسقاهُ فَبَرأ «.
وقال عبد الله بن مسعود:» العَسلُ شِفاءٌ من كُلِّ داءٍ «.
فإن قيل: كيف يكون شفاء للناس وهو يضرُّ بالصفراء ويهيج المرار؟ .
فالجواب: أنه - تعالى - لم يقل: إنه شفاءٌ لكلِّ الناس وشفاء لكل داءٍ في كلِّ حال، بل لمَّا كان شفاء للبعض ومن بعض الأدواء، صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاءٌ؛ والذي يدل على أنه شفاء في الجملة: أنه قلَّ معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما(12/113)
يحصل بالعجن بالعسل، والأشربة المتَّخذة منه في الأمراض البلغميَّة عظيمة النَّفع.
وقال مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المراد بقوله - تعالى -: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} القرآن؛ لقوله - تعالى -: {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] .
وقال - صلوات الله وسلامه عليه -:» عَلَيكُم بِالشِّفاءَيْنِ: العَسلِ والقُرآنِ «.
وعلى هذا تمَّ الكلام عند قوله: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} ، ثم ابتدأ وقال: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} أي: في هذا القرآن.
وهذا القول ضعيف؛ لما تقدم من الحديث؛ ولأنَّ الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وهو الشَّراب، وأما عوده إلى غير مذكور، فلا يناسب.
فإن قيل: ما المراد بقوله - صلوات الله وسلامه عليه -:» وكَذبَ بَطْنُ أخِيكَ «
؟ . فالجواب: لعلَّه - صلوات الله وسلامه عليه - علم بالوحي أنَّ ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلمَّا لم يظهر نفعه في الحال - مع أنه - عليه الصلاة والسلام - كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك - كان هذا جارياً مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ.
ثم إنه - تعالى - ختم الآية بقوله - تعالى -: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: ما ذكرنا من اختصاص النَّحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة؛ مثل بناء البيوت المسدَّسة واهتدائها إلى جمع تلك الأجزاء الواقعة من جو الهواء على أطراف أوراق الأشجار بعد تفرُّقها، فكل ذلك أمور عجيبة دالَّة على أنَّ إله هذا العالم رتَّبه على رعاية الحكمة والمصلحة.
قوله - تعالى -: {والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} الآية لمَّا ذكر - تعالى - عجائب أحوال الأنهار والنَّبات والأنعام والنَّحل، ذكر بعض عجائب أحوال الناس في هذه الآية.
واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع مراتب:
أولها: سنُّ النشوء والنَّماء.
وثانيها: سن الوقوف وهو سنُّ الشباب.
وثالثها: سن الانحطاط القليل، وهو سنُّ الكهولة.(12/114)
ورابعها: الانحطاط الكبير، وهو سن الشيخوخة.
فاحتجَّ - تعالى - بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض، على أن ذلك النَّاقل هو الله - تعالى - ثم قال: {ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} عند قضاء آجالكم صبياناً، أو شباباً، أو كهولاً أو شيوخاً.
{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} ، أي: أردأه لقوله - عزَّ وجلَّ -: {واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] وقوله - تعالى -: {إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] .
قال مقاتل: يعني الهرم. وقال قتادة: تسعون سنة.
وقيل: ثمانون سنة.
قيل: هذا مختصٌّ بالكافر؛ لأن المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله، ولا يجوز أن يقال إنه رده إلى أرذل العمر؛ لقوله - تعالى -: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [التين: 5، 6] ، فبيَّن أن الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات ما ردُّوا إلى أسفل سافلين.
وقال عكرمة: من قرأ القرآن، لم يردَّ إلى ارذل العمر.
قوله: «لِكَيْلا» في هذه اللاَّم وجهان:
أحدهما: أنَّها لام التعليل، و «كَيْ» بعدها مصدرية ليس إلا وهي ناصبة بنفسها للفعل بعدها، وهي منصوبة في تأويل مصدر مجرور باللام، واللام متعلقة ب «يُرَدُّ» .
قال الحوفيُّ: إنها لام «كَيْ» ، و «كَيْ: للتأكيد.
وفيه نظر؛ لأنَّ اللام للتَّعليل و» كَيْ «بعدها مصدريَّة لا إشعار لها بالتَّعليل والحالة هذه، وأيضاً فعملها مختلف.
والثاني: أنها لام الصَّيرورة.
قوله:» شَيْئاً «يجوز فيه التنازع؛ لأنه تقدمه عاملان: يعلمُ وعِلْم، أي: الفعل والمصدر، فعلى رأي البصريِّين - وهو المختار - يكون منصوباً ب» عِلْمٍ «وعلى رأي الكوفيين يكون منصوباً ب» يَعْلمَ «.
وهو مردود؛ إذ لو كان كذلك لأضمر في الثاني، فيقال: لكيلا يعلم بعد علم إيَّاه شيئاً.
ومعنى الآية: لا يعقل بعد عقله الأوَّل شيئاً، إن الله عليم قدير.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه،» قَدِيرٌ «على ما يريد.(12/115)
فصل
هذه الآية كما دلَّت على وجود الإله العالم القادر الفاعل المختار، فهي أيضاً تدلُّ على صحَّة البعث والقيامة؛ لأنَّ الإنسان كان معدوماً محضاً، ثمَّ أوجده الله، ثم أعدمه مرَّة ثانية، فدلَّ على أنَّه لمَّا كان معدوماً في المرة الأولى، وكان عوده إلى العدم في المرَّة الثانية جائزاً؛ فلذلك لمَّا صار موجوداً ثم عدم، وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرَّة الثانية جائزاً، وأيضاً: كان ميّتاً حين كان نطفة، ثم صار حيًّا، ثمَّ مات فلما كان الموت الأوَّل جائزاً، كان عود الموت جائزاً؛ وكذلك لمَّا كانت الحياة الأولى جائزة، وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرَّة الثانية، وأيضاً الإنسان في أول طفولته جاهلٌ لا يعرف شيئاً، ثم صار عالماً عاقلاً، فلما بلغ أرذل العمر، عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولة؛ وهو عدم العقل والفهم فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر، فكذلك العقل الذي حصل ثمَّ زال، وجب أن يكون جائز العود في المرَّة الثانية، وإذا ثبتت هذه الجملة، ثبت أنَّ الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده، وعود حياته، وعود عقله مرَّة أخرى، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنَّشر حقٌّ.
قوله
: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} الآية هذا اعتبار بحال أخرى من أحوال الإنسان؛ لأنَّا نرى أكيس النَّاس وأكثرهم عقلاً يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسَّر له ذلك، ونرى أجلاف النَّاس وأقلهم عقلاً وفهماً ينفتح عليه أبواب الدنيا، وكلُّ شيءٍ خطر بباله أو دار في خياله، فإنه يحصل له في الحال، ولو كان السَّببُ هو جهد الإنسان وعقله، لوجب أن يكون العاقل أفضل في هذه الأحوال، فلمَّا رأينا أن الأعقل الأفضل أقلُّ نصيباً، والأجهل الأخس أوفر نصيباً - علمنا أنَّ ذلك بسبب قسمة القسام؛ كما قال - تعالى -: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا} [الزخرف: 32] وهذا التفاوت غير مختصٌّ بالمال، بل حاصل في الذَّكاء والبلادة، والحسن والقبح، والعقل والحمق والصحة والسقم وغير ذلك.
قوله: {فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فيه قولان:
الأول: أنَّ المراد من هذا الكلام تقرير ما تقدَّم من أن السَّعادة والنُّحوسة لا يحصلان إلا من الله - تعالى -، والمعنى: إنا رزقنا الموالي والمماليك جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا يحسبنَّ الموالي أنَّهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً، وإنما ذلك رزقي أجريته على أيديهم إلى مماليكهم.
والحاصل: أن الرَّزاق هو الله - تعالى -، وأن المالك لا يرزق العبد؛ وتحقيق القول فيه: أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً، وأقوى جسماً، وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى؛ وذلك يدلُّ على أن ذلَّة العبد وعزة ذلك المولى من الله؛ كما قال(12/116)
جل ذكره -: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} [آل عمران: 26] .
الثاني: أن المراد من الآية: الرد على من أثبت شريكاً لله - عزَّ وجلَّ -، وعلى هذا القول ففيه وجهان:
الأول: أن يكون هذا ردًّا على عبدة الأصنام؛ كأنه قيل: إنَّه - تعالى - فضَّل الملوك على مماليكهم، فجعل المملوك لا يقدر على ملكٍ مع مولاه، فإذا لم يكن عبيدكم معكم سواءً في الملك، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في العبودية.
والثاني: قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «نزلتْ هذه الآية في نصارى نجران، حين قالوا: إنَّ عيسى ابن مريم ابن الله» ، والمعنى: أنكم لا تشركوني عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء، فكيف جعلتم عبدي ولداً وشريكاً لي في هذه الألوهية؟ .
قوله: {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} في هذه الجملة أوجه:
أحدها: أنَّها على حذف أداة الاستفهام، تقديره: أفهم فيه سواء، ومعناه النفي، أي: ليسوا مستوين فيه.
الثاني: أنها إخبار بالتَّساوي، بمعنى أنَّ ما يطعمونه ويلبسونه لمماليكهم، إنَّما هو رزقي أجريته على أيديهم فهم فيه سواءٌ.
الثالث: قال ابو البقاء: إنَّها واقعة موقع الفعل، ثم جوز في ذلك الفعل وجهين:
أحدهما: أنه منصوب في جواب النَّفي، تقديره: فما الَّذين فضَّلوا برادِّي رزقهم على ما ملكتْ أيمانهم، فيستووا.
الثاني: أنه معطوفٌ على موضع «بِرَادِّي» فيكون مرفوعاً، تقديره: فما الذين فضِّلوا يردُّون، فما يستوون.
قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} [فيه وجهان:
أحدهما: لا شبهة في أن المراد من قوله {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم.
الثاني] : الباء في قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ الله} يجوز أن تكون زائدة؛ لأنَّ الجحود لا يتعدَّى بالباء؛ كما تقول: خُذِ الخِطامَ وبالخِطَام، وتعلَّقت زيداً وبِزَيْدٍ، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر، فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «تَجْحَدُونَ» بالخطاب؛ لقوله: «بَعضَكُم»(12/117)
و «خَلقَكُمْ» ، والباقون بالغيبة؛ مراعاةً لقوله - عزَّ وجلَّ -: {فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ} وقوله: {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم؛ لقرب المخبر عنه، وأيضاً فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين، والمسلمون لا يخاطبون بجحد النّعمة، وهذا إنكار على المشركين.
فإن قيلك كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام؟ .
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّه لمَّا كان المعطي لكل الخيرات هو الله - تعالى -، فالمثبت له شريكاً، فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات، فكان جاحداً لكونها من عند الله، وأيضاً فإنَّ أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النِّعم إلى الطبائع وإلى النُّجوم، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من عند الله.
الثاني: قال الزجاج: إنه - تعالى - لمَّا بين الدلائل، وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق، فعند ذلك قال: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} في تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه البينات «يَجْحدُونَ» .
قوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} الآية هذا نوع آخ رمن أحوال الناس استدلَّ به على وجود الإله المختار الحكيم، وتنبيهاً على إنعام الله على عبيده بمثل هذه النعم، وهذا الخطاب للكلِّ، فتخصيصه بآدم وحوَّاء - صلوات الله وسلامه عليهما - خلافٌ للدَّليل، والمعنى: أنه - تعالى - خلق النِّساء ليتزوج بها الذُّكور، ومعنى «مِنْ أنْفُسِكُمْ» كقوله - تعالى -:
{فاقتلوا
أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقوله: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61] ، أي: بعضكم بعضاً؛ ونظيره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم: 21] .
قال الأطباء وأهل الطبيعة: المنيُّ إذا انصبَّ إلى الخصية اليمنى من الذَّكر، ثم انصبَّ منه إلى الجانب الأيمن من الرَّحم، كان الولدُ ذكراً تامًّا، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى، ثمَّ انصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم، كان الولد أنثى تامًّا في الأنوثة، وإن انصبَّ منها إلى الخصية اليمنى، وانصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم، كان ذكراً في طبيعة الإناث، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى، ثم انصبَّ إلى الجانب الأيمن من الرَّحم، كان هذا الولدُ أنثى في طبيعة الذُّكور.
وحاصل كلامهم: أن الذُّكور الغالب عليها الحرارة واليبوسة، والغالب على الإناثِ البرودة والرطوبة، وهذه العلَّة ضعيفة، فإنَّا رأينا في النِّساء من كان مزاجه في غاية السُّخونة، وفي الرِّجالِ من كان مزاجه في غاية البرودة، ولو كان الموجب للذُّكورة والأنوثة ذلك، لامتنع ذلك؛ فثبت أنَّ خالق الذَّكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم.
قوله: «وَحفَدةً» فيه أوجه:
أظهرها: أنه معطوف على «بَنِينَ» بقيد كونه من الأزواج، وفسِّر هذا بأنَّه أولاد الأولاد.(12/118)
الثاني: أنه من عطف الصفات لشيء واحد، أي: جعل لكم بنين خدماً، والحفدة: الخدم.
الثالث: أنه منصوب ب «جَعَلَ» مقدَّرة، وهذا عند من يفسِّر الحفدة بالأعوان والأصهار، وإنما احتيج إلى تقدير «جَعَلَ» ؛ لأن «جَعَلَ» الأولى مقيَّدة بالأزوا، والأعوانُ والأصهارُ ليسوا من الأزواج، والحفدة: جمع حافدٍ؛ كخادمٍ وخَدم.
قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ويقال في جمعه: الحفد بغير هاءٍ؛ كما يقال: الرَّصد، ومعنى الحفدة في اللغة: الأعوان والخدم» .
وفيهم للمفسِّرين أقوال كثيرة، واشتقاقهم من قولهم: حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْداً وحُفُوداً وحَفَداناً، أي: أسرع في الطَّاعة، وفي الحديث: «وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ» ، أي: نُسرع في طَاعتِكَ؛ وقال الآخر: [الكامل]
3344 - حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلهُنَّ وأسْلِمَتْ ... بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمالِ
ويستعمل «حَفَدَ» أيضاً متعدياً؛ يقال: حَفدنِي فهو حافدٌ؛ وأنشد أيضاً: [الرمل]
3345 - يَحْفدُونَ الضَّيْفَ في أبْيَاتِهِمْ ... كَرماً ذلِكَ مِنهُمْ غَيْرَ ذُلْ
وحكى أبو عبيدة أنه يقال: أحفد رباعيًّا، وقال بعضهم: الحَفدةُ الأصهارُ؛ وأنشد: [الطويل]
3346 - فَلوْ أنَّ نَفْسِي طَاوعَتْنِي لأصْبحَتْ ... لهَا حَفدٌ ممَّا يُعَدُّ كَثِيرُ
ولَكنَّهَا نَفْسٌ عليَّ أبيَّةٌ ... عَيُوفٌ لإصْهَارِ اللِّئامِ قَذُورُ
ويقال: سَيفٌ مُحْتَفِدٌ، أي: سريعُ القطع؛ وقال الأصمعي: أصل الحفد مقاربة الخُطَى.
قوله: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات} ولمَّا ذكر إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح، ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطبية، و «مِنْ» في «مِنَ الطَّيباتِ» للتبعيض.
ثم قال {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يعني: بالأصنام وقال(12/119)
مقاتل: يعني: بالشيطان، وقال عطاء: يصدِّقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً.
{وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ} أي: بأن يضيفوها إلى غير الله ولا يضيفونها إلى الله، وقيل: يكفرون بالتَّوحيد والإسلام.
وقيل: يحرِّمون على أنفسهم طيِّباتٍ أحلَّها الله لهم؛ مثل: البَحيرَة والسَّائبةِ والوَصِيلَة والحَامِ، ويبيحون لأنفسهم محرَّمات حرمها الله عليهم، وهي الميتة ولحم الخنزير {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] ، أي: يجحدون ويكفرون إنعام الله في تحليل الطيِّبات وتحريم الخبائث، ويحكمون بتلك الأحكام الباطلة.
قوله - تعالى -: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً} الآية لمَّا شرح الدَّلائل الدالة على صحَّة التَّوحيد، وأتبعها بذكر أقسام النِّعم العظيمة، أتبعها بالردِّ على عبدة الأصنام؛ قال {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات} يعني: المطر والأرض، ويعني النَّبات والثِّمار.
قوله تعالى: {مِّنَ السماوات} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق ب «يَمْلِكُ» ، وذلك على الإعرابين الأولين في نصب «شَيْئاً» .
الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «رِزْقاً» .
الثالث: أن يتعلق بنفس «رِزْقاً» إن جعلناه مصدراً.
وقال ابن عطية - بعد أن ذكر إعمال المصدر منوناً -: والمصدر يعمل مضافاً باتِّفاق؛ لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف واللاَّم؛ لأنه قد توغَّل في حال الأسماء وبعد عن الفعليَّة، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله؛ وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر: [المتقارب]
3347 - ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعْدَاءَهُ..... ... ... ... ... ... . .
وقوله: [الطويل]
3348 - ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... . . فَلمْ أنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا(12/120)
قال أبو حيَّان: أما قوله: «باتِّفاقٍ» إن عنى به من البصريين، فصحيحٌ، وإن عنى به من النَّحويين، فليس بصحيح؛ إذْ قد ذهب بعضهم غلى أنَّه وإن أضيف لا يعمل، فإن وجد بعده منصوب أو مرفوع قدَّر له عاملاً، وأما قوله: «في تقدير الانفصال» فليس كذلك، إلا أن تكون إضافته غير محضة؛ كما قال به ابن الطراوة وابن برهان، ومذهبهما فاسد؛ لأن هذا المصدر قد نعت وأكد بالمعرفة، وقوله: «لا يعمل ... إلى آخره» ناقضه بقوله: «وقد جاء عاملاً ... إلى آخره» .
قال شهاب الدِّين: فغاية ما في هذا أنَّه نحا إلى أقوال قال بها غيره، وأمَّا المناقضة، فليست صحيحة؛ لأنه عنى أولاً أنَّه لا يعمل في السَّعة، وثانياً أنه قد جاء عاملاً في الضرورة، ولذلك قيَّده فقال: «في قول الشَّاعر» .
قوله: «شَيْئاً» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: انه منصوبٌ على المصدر، أي: لا يملك لهم ملكاً، أي: شيئاً من الملك.
والثاني: أنه بدلٌ من «رِزْقاً» أي: لا يملك لهم رزقاً شيئاً، وهذا غير مقيَّد؛ إذ من المعلوم أن الرزق شيء من الأشياء، ويؤيِّد ذلك أن اببدل يأتي لأحد معنيين: البيان أو التَّأكيد، وهذا ليس فيه بيان؛ لأنه أعمٌّ، ولا تأكيد.
الثالث: أنه منصوب ب «رِزْقاً» على أنه اسمُ مصدر، واسم المصدر يعمل عمل المصدر، على خلاف في ذلك.
ونقل مكِّي: أن اسم المصدر لا يعمل عند البصريين إلا في شعر، وقد اختلف النقلة عن البصريِّين؛ فمنهم من نقل المنع، ومنهم من نقل الجواز.
وقد ذكر الفارسي انتصابه ب «رِزْقاً» كما تقدَّم.
ورد عليه ابن الطراوة: بأن الرِّزق اسم المرزوق، كالرِّعي، والطحن. وردَّ على ابن الطراوة؛ بأنّ الرزق بالكسر أيضاً مصدر، وقد سمع فيه ذلك، وظاهر هذا أنه مصدر بنفسه لا اسم مصدر.
قوله تعالى: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} يجوز في الجملة وجهان:
العطف على صلة «مَا» ، والإخبار عنهم بنفي الاستطاعة على سبيل الاستئناف، ويكون قد جمع الضمير العائد على «مَا» باعتبار معناها؛ إذ المراد بذلك آلهتهم.
ويجوز أن يكون الضمير عائداً على العابدين.
فإن قيل: قال - تعالى -: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ} فعبَّر عن الأصنام بصيغة «ما» وهي لغير العاقل، ثم جمع بالواو والنون فقال: «ولا يَسْتَطِيعُون» ، وهو مختص بأولي العلم.(12/121)
فالجواب: أنه عبَّر عنها بلفظ «مَا» اعتباراً باعتقادهم أنَّا آلهة، والفائدة في قوله: «ولا يَسْتَطِيعُونَ» أنَّ من لا يملك شيئاً قد يوصف باستطاعته أن يمتلكه بطريقٍ من الطرق فبيَّن - تعالى - أنَّ هذه الأصنام لا تملك وليس لها استطاعة تحصيل الملك.
ثم قال - تعالى -: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} يعني: الأشباه فتشبهونه بخلقه وتجعلون له شريكاً؛ فإنه واحد لا مثل له - سبحانه وتعالى -.
ثم قال: {إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} يعني: أن الله يعلم ما عليكم من العقاب العظيم، وأنتم لا تعلمون خطأ ما تضربون من الأمثال، وحذف مفعول العلم اختصاراً أو اقتصاراً.(12/122)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
ثم ضرب مثلاً للمؤمن والكافر؛ فقال - تعالى -: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} ، هذا مثل الكافر رزقه الله مالاً فلم يقدم فيه خيراً.
قوله: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} يجوز في «مَنْ» هذه أن تكون موصولة، وأن تكون موصوفة، واختاره الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ، قال: «كأنه قيل: وحرًّا رزقناه ليطابق عبداً» ومحلها النصب على «عَبْداً» ، وقد تقدَّم الكلام [إبراهيم: 24] في المثل الواقع بعد «ضَرَب» .
وقوله: {سِرّاً وَجَهْراً} يجوز أن يكون منصوباً على المصدر، أي: إنفاق سرْ وجهر، ويجوز أن يكون حالاً.
وهذا مثل المؤمن من أعطاه الله مالاً، فعمل فيه بطاعةِ الله وأنفقه في رضاه سرًّا وجهراً، فأثابه الله عليه الجنَّة.
قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} إنَّما جميع الضمير وإن تقدَّمه ثنان؛ لأنَّ المراد: جنس العبيد والأحرار المدلول عليهما ب «عَبْداً» وب «مَن رزقنَاهُ» .
وقيل: على الأغنياء والفقراء المدلول عليهما بهما أيضاً، وقيل: اعتباراً بمعنى «مَنْ» فإنَّ معناها جمع فراعى معناها بعد أن راعى لفظها.
فصل
قيل: المراد بقوله: {عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} هو الصَّنم؛ لأنَّه عبد بدليل(12/122)
قوله: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً} [مريم: 93] وهو مملوك لا يقدر على شيء، والمراد بقوله: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} : عابد الصَّنم؛ لأن الله - تعالى - رزقه المال، فهو ينفقُ منه على نفسه وعلى أتباعه سرًّا وجهراً فهما لا يتساويان في بديهة العقل، بل صريح العقل شاهدٌ بأن عابد الصَّنم أفضل من الصَّنم، فكيف يجوز الحكم بأنه مساوٍ لربِّ العالمين في المعبوديَّة؟ .
وقيل: المراد بالعبد: المملوك عبد معيَّن، قيل: أبو جهل، وب {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
وقيل: عامٌّ في كل عبد بهذه الصفة، وفي كل حرٍّ بهذه الصفة.
فصل
دلَّت هذه الآية على أن العبد لا يملك شيئاً.
فإن قيل: دلَّت الآية على أنَّ عبداً من العبيد لا يقدر على شيءٍ، فلم قلتم: إن كل عبد كذلك؟ .
فالجواب: أنه ثبت في أصول الفقه: أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدلُّ على كون ذلك الوصف علَّة لذلك الحكم، وكونه عبداً وصفٌ مشعرٌ بالذلِّ والمقهورية وقوله: {لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} حكم مذكور عقيبه، وهذا يقتضي أنَّ العلَّة لعدم القدرة على شيءٍ، هو كونه عبداً، وأيضاً قال بعده: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} [فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول، وهو العبد بهذه الصفة، وهو أنه رزقه رزقاً حسناً] فوجب ألا يحصل هذا الوصف للعبد، حتَّى يحصل الامتيازُ بين الثاني وبين الأوَّل، ولو ملك العبد، لكان الله قد آتاهُ رزقاً حسناً؛ لن الملك الحلال رزق حسن.
ثم اختلفوا؛ فروي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وغيره التشدد في ذلك، حتى قال: لا يملك الطَّلاق أيضاً.
وأكثر الفقهاء على أنَّه يملك الطلاق، واختلفوا في أنَّ المالك إذا ملكه شيئاً، هل يملكه ام لا؟ وظاهر الآية ينفيه.
فإن قيل: لم قال: {عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} وكل عبدٍ فهو مملوك وغير قادر على التصرُّف؟ .
فالجواب: ذكر المملوك ليحصل الامتياز بينه وبين الحرِّ؛ لأنَّ الحر قد يقال: إنه عبد الله، وأما قوله: {لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} للتَّمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون؛ لأنهما يقدران على التصرُّف.
قوله {الحمد لِلَّهِ} قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتَّوحيد.(12/123)
وقيل: المعنى أنَّ الحمد كلّه لله، وليس شيءٌ من الحمد للأصنام؛ لأنها لا نعمة لها على أحدٍ.
وقوله عزَّ وجلَّ -: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ، أي: أنهم لا يعلمون أنَّ كل الحمد لي، وليس شيء منه للأصنام.
وقال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال للرَّسُول - صلوات الله وسلامه عليه -: {قُلِ الحمد لِلَّهِ} [النمل: 59] .
وقيل: هذا خطاب لمن رزقه الله رزقاً حسناً أن يقول: الحمد لله على أن ميَّزه في هذه القدرة على ذلك العبد الضعيف.
وقيل: لما ذكر هذا المثل مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود، قال بعده: {الحمد لِلَّهِ} يعني: الحمد لله على قوَّة هذه الحجَّة وظهور هذه البيِّنة.
ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ، أي: أنَّها مع غاية ظهورها ونهاية وضوحها، لا يعلمونها هؤلاء الجهَّال.
قوله - تعالى -: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} الآية وهذا مثل ثانٍ لإبطالِ قول عبدة الأصنام؛ وتقريره: أنَّه لما تقرَّر في أوائل العقول أنَّ الأبكم العاجز لا يساوي في الفضل والشَّرف النَّاطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية فلأن يحكم بأنَّ الجماد لا يكون مساوياً لربِّ العالمين في المعبوديَّة أولى.
قال الواحدي: قال أبو زيد: الأبكم هو العَيِيُّ المفحم، وقد بكم بكماً وبكامةً وقال أيضاً: الأبكمُ: الأقطع اللسان، وهو الذي لا يحسن الكلام.
روى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأبكم الذي لا يعقل. وقال الزجاج: الأبكم المطبق الذي لا يسمعُ ولا يبصر.
ثم قال: {لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} إشارة إلى العجز التَّام والنُّقصان الكامل.
وقوله: {كَلٌّ على مَوْلاهُ} الكلُّ الثَّقيلُ، والكلُّ العيال، والجمع: كلُول، والكلُّ: من لا ولد لهُ ولا وَالِد، والكلُّ أيضاً: اليَتيمُ. سمِّي بذلك؛ لثقله على كافله؛ قال الشاعر: [الطويل]
3349 - أكُولٌ لمَالِ الكُلِّ قَبْلَ شبَابهِ ... إذَا كانَ عَظْمُ الكَلِّ غَيْرَ شَديدِ
قال أهل المعاني: «أصل الكلِّ من الغلط الذي هو نقيضُ الحدَّة، يقال كلَّ السِّكينُ: إذا غلظت شفرته فلم تقطع، وكلَّ اللسانُ: إذا غلظ فلم يقدر على الكلام، وكلَّ(12/124)
فلانٌ عن الأمْرِ: إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، فمعنى» كلٌّ على مولاهُ «، أي: غليظٌ وثقيلٌ على مولاه أهل ولايته» .
قوله: {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ} شرط وجزاؤه، وقرأ ابن مسعود، وابن وثَّاب، وعلقمة: «يُوَجِّهْ» بهاء واحدة ساكنة للجزم، وفي فاعله وجهان:
أحدهما: ضمير الباري - تعالى -، ومفعوله محذوف؛ [تقديره كقراءة العامة] .
والثاني: أنه ضمير الأبكم، ويكون «يُوجِّهْ» لازماً بمعنى «يَتوَجَّهُ» .
يقال: وجَّه وتوجَّهَ بمعنًى، وقرأ علقمة أيضاً وطلحة كذلك، إلاَّ أنه بضم الهاءِ، وفيها أوجه:
أحدها: أنَّ «أيْنَمَا» ليست هنا شرطيَّة، و «يُوَجِّهُ» خبر مبتدأ مضمر، أي: أيْنَمَا هو يوجه، أي: الله - تعالى -، والمفعول محذوف، وحذفت الياء من قوله: «لا يَأتِ» تخفيفاً؛ كما حذفت في قوله: {يَوْمَ يَأْتِ} [هود: 105] و {إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] .
والثاني: أن لام الكلمة حذفت تخفيفاً لأجل التضعيف، وهذه الهاء هي الضمير، فلم يحلها جزم، ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرَّازي.
الثالث: أن «أيْنَمَا» أهملت حملاً على «إذَا» ؛ لما بينهما من الأخُوَّةِ في الشرط؛ كما حملت «إذا» عليها في الجزم في بعض المواضع، وحذفت الباء من «يَأتِ» تخفيفاً أو جزم على التوهُّم، ويكون «يُوجِّهُ» لازماً بمعنى: «يَتوجَّهُ» كما تقدَّم.
وقرأ عبد الله أيضاً: «تُوَجِّههُ» بهاءين بتاء الخطاب، وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة -: «إنَّ هذها لقراءة ضعيفة؛ لأن الجزم لازم» وكأنه لم يعرف توجيهها، وقرأ علقمة وطلحة أيضاً: «يُوجَّهْ» بهاء واحدة ساكنة للجزم، والفِعْل مبني للمفعول؛ وهي واضحة.
وقرأ ابن مسعود أيضاً: «تُوَجِّههُ» كالعامة إلا أنه بتاء الخطاب، وفيه التفاتٌ، وفي الكلام حذف وهو حذف المقابل؛ لقوله: {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} كأنه قيل: والآخر ناطقٌ متصرف في ماله، وهو خفيف على مولاه {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} ، ودلَّ على ذلك {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} .
ونقل أبو البقاءِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قرئ: «أيْنَمَا تَوجَّه» بالتَّاء وفتح الجيم والهاء فعلاً ماضياً فاعله ضمير الأبكم.(12/125)
قوله: {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} الرَّاجح أن يكون مرفوعاً؛ عطفاً على الضمير المرفوع في «يَسْتَوِي» ، وسوَّغه الفصل بالضمير، والنصب على المعيَّة مرجوح، والجملة من قوله: {وَهُوَ على صِرَاطٍ} إمَّأ استئنافٌ أو حال.
فصل
لمَّا وصف الله أحد الرَّجُليْن بهذه الصِّفات الأربع، وهذه صفات الأصنام وهو أنَّه أبكم لا يقدر على شيءٍ، أي: عاجز كلٌّ على مولاه، ثقيل، أينما يرسله لا يأت بخير؛ لأن أبكم لا يفهم، قال: هل يستوي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع، وهذه صفات الأصنام لا تسمع ولا تعقل ولا تنطق، وهو كلٌّ على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويخدمه ويضعه، {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} يعني: الله قادر متكلِّم يأمر بالتَّوحيد، {وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
قال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم.
وقيل: هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: كِلا المثلين للمؤمن والكافر، يرويه عطيَّة عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قال عطاء: الأبكم: أبيُّ بن خلف، {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} : حمزة، وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
وقال مقاتل: نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي، وكان قليل الخير، يعادي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: نزلت في عثمان بن عفَّان ومولاه، كان مولاه يكره الإسلام.
وقيل: المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات الذَّميمة، وكل حرٍّ موصوف بتلك الصفات الحميدة، وهذا أولى من القول الول؛ لأن وصفه - تعالى - إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن، وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله - تعالى -.
قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} الآية لما مثَّل الكافر بالأبكم العاجز، ومثَّل نفسه بالذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ومعلومٌ أنه لا يكون آمراً بالعدل وهو على صراط مستقيم إلاّ إذا كان كاملاً في العلمِ والقدرةِ فذكر في هذه الآية بيان كونه كاملاً في العلم والقدرة.(12/126)
أمَّا بيان كمال العلم، فقوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} أفاد الحصر بأنَّ العلم بهذه الغيوب ليس إلا لله - تعالى -.
وأما بيان كمال القدرة، فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} والسَّاعة: هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سمِّيت ساعة؛ لأنَّها تفجأ الإنسان في ساعة يموت الخلق كلهم بصيحة واحدة أي إذا قال له: {كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] والمراد ب «لَمْحِ البَصرِ» : طرفةُ العين وهو النظر بسرعة، يقال: لَمحَهُ بِبصَرِه لَمْحاً ولَمحَاناً، وقيل: أصله من لَمحَانِ البَرْق، وقولهم: لأرينَّك لَمْحاً بَاصِراً، أي: أمْراً وَاضِحاً، والمراد بيان كمال القدرة.
وقوله: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} ليس المراد منه الشَّك، بل المراد: بل هو أقرب.
قال الزجاج: المراد به: الإبهام على المخاطبين أنه - تعالى - يأتي بالسَّاعة إما بقدر لمح البصر، أو بما هو أسرع؛ لأنَّ لمح البَّصر عبارة عن انتقال الطَّرف من أعلى الحدقةِ إلى أسفلها، والحَدقةُ مركبة من أجزاء لا تتجزَّأ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة أجزاءِ الحدقةِ، ولا شكَّ أنَّ تلك الأجزاء كثيرة، والزَّمانُ الذي يحصل فيه لمحُ البصر مركب من أزمانٍ متعاقبةٍ، والله - تعالى - قادرٌ على إقامة القيامة في زمان واحد من تلك الأزمان؛ فلهذا قال - تعالى -: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} تنبيهاً على ذلك، فقوله: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} ، أي: أمره، فالضمير للأمر، والتقدير: أو أمر الساعة أقرب من لمح البصر.
{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} نزلت في الكفَّار الذين استعجلوا القيامة استهزاءً.
قوله(12/127)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
- تعالى
-: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} لما بين كمال القدرة والعلم، عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار، فقال: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} .
قرأ حمزة والكسائي: «إمَّهاتِكُمْ» بكسر الهمزة، والباقون بضمِّها، وأصل «(12/127)
أمَّهاتِكُم» : إمَّاتكُم، إلا أنه زيدت الهاء فيه كما زيدت في «أراق» فقيل: أهراق، وشذَّت زيادتها في الواحدة في قوله: [الرجز]
3350 - أمَّهَتِي خِندِفُ واليَاسُ أبِي ... والجملة من قوله: {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} حالٌ من مفعول «أخْرَجَكُمْ» غير عالمين و «شَيْئاً» إمَّا مصدر، أي: شيئاً من العلم، وإمَّا مفعول به والعلم هنا العرفان، وتقدَّم الكلام في «أمَّهَاتِكُمْ» في النِّساء.
فصل
خلق الإنسان في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء.
ثم قال تعالى -: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} والمعنى: أن النَّفس الإنسانية ك انت في أول الخلقةِ خالية عن المعارف والعلوم ثم إن الله تعالى أعطاها هذه الحواس؛ لتستفيد بها المعارف والعلوم، وتحقيق الكلام فيه أن يقال: التَّصوُّرات والتَّصديقات إمَّا أن تكون كسبيَّة أو بديهيَّة؛ والكسبيَّة لا يمكن حصولها إلا بواسطة تركيبات البديهيَّات، فلا بد من سبق العلوم البديهيَّة.
فإن قيل: هذه العلوم البديهية إمَّا أن يقال: كانت حاصلة منذ خلقنا، أو ما كانت حاصلة؛ ولأول باطل؛ لأنا بالضرورة نعلمُ أنَّا حين كنَّا جنيناً في رحم الأمِّ ما كنَّا نعرفُ ن النَّفي والإثبات لا يجتمعان، وما كنَّا نعرف أن الكلَّ أعظم من الجزء.
وأما القسم الثاني: فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنَّها ما كانت حاصلة، وحينئذٍ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب، وكلُّ ما كان كسباً فهو مسبوق بعلوم أخرى إلى غير نهاية، وذلك محال.
فالجواب: أن هذه العلوم البديهيَّة ما كانت حاصلة في نفوسنا أولاً، ثم إنها حدثت، وحصلت، أما قوله: فيلزم أن تكون كسبية، فهذه المقدمة ممنوعة، بل نقول: إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها، بواسطة إعانة الحواسِّ التي هي السَّمع والبصر، فإن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم، إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر فإذا أبصر الطفل شيئاً أو سمعه مرة بعد أخرى، ارتسم في خياله ماهيَّة ذلك المبصر والمسموع؛ وكذلك القول في سائر الحواسِّ، فيصير حصول الحواسِّ سبباً لحضور ماهيَّات المحسوسات في النَّفس والعقل.(12/128)
ثم إنَّ تلك الماهيَّات على قسمين:
أحدهما: ما يكون حضوره مزجباً تاماً في جرم الذِّهن، بإسناد بعضها إلى بعض بالنَّفي أو الإثبات، مثل أنه إذا حضر في الذِّهن أن الواحد ما هو؟ وأن نصف الاثنين ما هو؟ كان حضور هذين التَّصوُّرين في الذهن علَّة تامة في جرم الذِّهن؛ بأنَّ الواحد محكوم عليه بأنَّه نصلف الاثنين، وهذا القسم هو العلوم البديهيَّة.
والقسم الثاني: ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النَّظريَّة؛ مثل أنَّه إذا حضر في الذِّهن بأنَّ الجسمَ ما هو؟ والمحدث ما هو؟ فإن مجرَّد هذين التصوُّرين في الذِّهْن لا يكفي في جزم الذهن بأنَّ الجسم محدث، بل لا بدَّ فيه من [دليل] منفصل وعلوم سابقة.
والحاصل أن العلوم الكسبيَّة إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهيَّة، وحدوث العلوم البديهيَّة إنما تكون عند حدوث تصوُّر موضوعاتها، وتصوُّر محمولاتها، وحدوث التَّصورات إنَّما كان بسبب إعانة هذه الحواس على إحداثها؛ فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النُّفُوس والعقول هو أنَّه - تعالى - أعطى هذه الحواس.
فلهذا قال - تعالى -: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} ليصير حصول هذه الحواس سبباً لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطَّريق المذكور.
وقال المفسرون: «وجَعلَ لَكُمُ السَّمْعَ» لتسمعوا مواعظ الله تعالى، «والأبْصَارَ» لتبصروا دلائل [آلاء] الله، «والأفْئِدةَ» لتعقلوا عظمة الله.
و «الأفْئِدَة» جمع فُؤادِ؛ نحو: أغْرِبة وغُراب، قال الزجاج: ولم يجمع «فُؤاد» على أكثر العددِ، وما قيل: «فِئْدَان» كما قيل: «غُرَاب وغِرْبَان» .
ولعلَّ الفؤاد إنَّما جُمِع على جمع القلَّة؛ تنبيهاً على أنَّ السَّمع والبصر كثيران، وأن الفؤاد قليلٌ؛ لأن الفؤاد إنَّما خلق للمعارف الحقيقيَّة، والعلوم اليقينيَّة، وأكثر الخلق ليسوا كذلك، بل يكونوا مشغولين بالأفعال البهيميَّة والصِّفات السبعية، فكأن فؤادهم ليس بفؤادٍ؛ فلهذا جمع جمع القلَّة قاله ابن الخطيب.
وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «إنَّه من الجموع التي استعملت للقلَّة والكثرة، ولم يسمع فيها غير القلَّة، نحو:» شُسُوع «، فإنَّها للكثرة، وتستعمل في القلَّة، ولم يسمع غير شسوع. كذا قال وفيه نظر فقد سمع فيهم» أشساع «فكان ينبغي أن يقال: غلب» شسوع «.
فإن قيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار} ، عطف على قوله:»(12/129)
أخْرَجَكُم «وهذا يقتضي أن يكون جعل السَّمع والبصر متأخِّراً عن الإخراج من البطن؛ وليس كذلك.
فالجواب: أنَّ حرف الواو لا يوجب التَّرتيب، وأيضاً إذا حملنا السمع على الإسماع والبصر على الرؤية، زال السؤال، هذا إذا جعلنا قوله - تعالى -:» وجَعلَ «معطوفاً على» أخْرَجَكُم «فيكون داخلاً فيما أخبر به عن المبتدأ ويجوز أن يكون مستأنفاً.
فصل
قيل: معنى الكلام: لا تعلمون شيئاً ممَّا أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، وقيل: لا تعلمون شيئاً ممَّا قضى عليكم به من السَّعادة والشقاوة، وقيل: لا تعلمون شيئاً، أي: من منافعكم.
قال البغوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «تمَّ الكلام عند قوله - تعالى -: {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} ثمَّ ابتدأ فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} ؛ لأنَّ الله - تعالى - جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمَّهات، وإنَّما أعطاهم العلم بعد الخروج» .
وسيأتي الكلام في حكمة ذكره السمع بلفظ المصدر، والأبصار والأفئدة بلفظ الاسم في سورة السَّجدة إن شاء الله - تعالى -.
وقوله - تعالى -: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع} ، أي لتسمعوا به الأمر والنهي، «والأبْصَارَ» أي: لتبصروا بها آثار منفعة الله، «والأفْئِدةَ» لتصلوا بها إلى معرفته - سبحانه وتعالى - وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، أي: نِعَمه.
قوله - تعالى -: {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ} الآية هذا دليلٌ آخر على كمال قدرة الله وحكمته.
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: «ألَمْ تَروْا» بالتاء من فوق، والباقون: بالياء على الحكاية لمن تقدَّم ذكره من الكفَّار.
قوله: {مَا يُمْسِكُهُنَّ} يجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير المستتر في «مُسخَّراتٍ» ، ويجوز أن تكون حالاً من الطير، ويجوز أن تكون مستأنفة.
ومعنى «مُسخَّراتٍ» : مذللات، «في جوِّ السَّماءِ» وهو الهواءُ بين السَّماء والأرض؛ قال: [الطويل]
3351 - فَلسْتُ لإنْسيٍّ ولكِنْ لمَلأكٍ ... تَنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ
وقيل: الجوُّ ما يلي الأرض في سمت العلوِّ واللوح والسُّكاك أبعد منه.(12/130)
قال كعب الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إنَّ الطير يرتفع اثنا عشر ميلاً ولا يرتفع فوق هذا، وفوق الجوِّ السُّكاك، وفوق السُّكاك السماء، و {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله} تعالى، أي: في حال القبض، والبسط، والاسطفاف ينزلهم كيف يعتبرونها في وحدانيَّته.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خصَّ هذه الآيات بالمؤمنين؛ لأنَّهم هم المنتفعون بها.
فصل
جسد الطائر جسم ثقيل، يمتنع بقاؤه في الجوِّ معلَّقاً بلا علاقة ولا دعامة، فوجب أن يكون الممسك له في الجوِّ هو الله - تعالى -، والظاهر أن إبقاءه في الجوِّ فعله باختياره، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق الله - تعالى -.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّما أضاف - تعالى - هذا الإمساك إلى نفسه؛ لأنه - تعالى - هو الذي أعطى الآلات التي يمكن الطير بها من تلك الأفعال، فلما كان - تعالى جلَّ ذكره - هو المسبب لذلك، صحَّت هذه الإضافة.
والجواب: هذا تركٌ للظاهر من غير دليل.
قوله - تعالى -: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} الآية وهذا نوعٌ آخر من دلائل التوحيد.
قوله: «سَكَناً» يجوز أن يكون مفعولاً أولاً، على أنَّ الجعل تصيير والمفعول الثاني أحد الجارين قبله، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلقِ فيتعدَّى لواحدٍ، وإنَّما وحد السكن؛ لأنه بمعنى ما يسكنون فيه، قاله أبو البقاء.
وقد يقال: إنه في الأصل مصدر، وإليه ذهب ابن عطية، فتوحيده واضح إلا أن أبا حيَّان منع كون مصدراً ولم يذكر وجه المنع، وكأنه اعتمد على قول أهل اللغة: إن السكن «فَعْل» بمعنى «مَفْعُول» : كالقَبْضِ والنقْضِ بمعنى المَنْقُوض والمَقْبُوض؛ وأنشد الفراء فقال: [البسيط]
3352 - جَاءَ الشِّتاءُ ولمَّا أتَّخِذْ سَكَناً ... يَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ حَفْرِ القَرامِيصِ
والسَّكنُ: ما سكنتَ إليه وما سَكنْتَ فيه، قال الزمخشري: «السَّكن ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلفٍ» .(12/131)
واعلم أنَّ البيوت الَّتي يسكن فيها الإنسان على قسمين:
أحدهما: البيوت المتَّخذة من الحجر والمدر، وهي المرادة من قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه.
والثاني: البيوت المتَّخذة من القباب والخيام والفساطيط، وهي المرادة بقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا} وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان.
قوله: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بفتح العين، والباقون بإسكانها، وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر.
وزعم بعضهم أن الأصل الفتح، والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق؛ كالشَّعْر والشعَر «.
والظَّعنُ مصدر ظعن، أي: ارتحل، والظَّعينةُ: الهوجد فيه المرأة وإلا فهو محمل، ثم كثر حتى قيل للمرأة: ظعينة.
فصل
والمعنى: جعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً، يعني: الخِيَام، والقِبَاب والأخبية، والفَساطِيط من الأنطاع والأدم:،» تَسْتَخِفُّونَها «أي: يخف عليكم حملها {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} رحلتكم في سفركم، والظَّعْنُ: سير [البادية] لنجعة أو لحضور ماء أو طلب مرتع، والظَّعْنُ أيضاً: الهَوْدَج؛ قال: [الهزج]
3353 - ألاَ هَلْ هَاجكَ الأظْعَانُ إذ بَانُوا ... وإذْ جَادتْ بِوشْكِ البَيْنِ غِرْبَانُ
{وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} في بلدكم لا يثقل عليكم في الحالتين، و» مِنْ «راجعة إلى الحالتين {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} يعني: أصواف الضَّأن، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، والكنايات راجعة إلى الأنعام، وذكر الأصواف والأوبار ولم يذكر القطن والكتاب؛ لأنهما لم يكونا ببلاد العرب.
قوله:» أثَاثاً «فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب عطفاً على» بُيُوتًا «أي: وجعل لكم من أصوافها أثاثاً، وعلى هذا يكون قد عطف مجروراً على مجرورٍ، ومنصوباً على منصوب، ولا فصل هنا بين حرف العطف والمعطوف حينئذ.
وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» وقد فصل بينه وبين حرف العطف بالجار(12/132)
والمجرور، وهو قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} وهو ليس بفصل مستقبح كما زعم في الإيضاح؛ لأنَّ الجارَّ والمجرور مفعول، وتقديم مفعول على مفعول قياس «.
وفيه نظر؛ لأنه عطف مجروراً على مثله، ومنصوباً على مثله.
والثاني: أنه منصوب على الحال، ويكون قد عطف مجروراً على مثله تقديره: وجعل لكم من جلود الأنعام، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً حال كونها أثاثاً، ففصل لالمفعول بين المتعاطفين، وليس المعنى على هذا، إنما هو على الأول.
والأثاث: متاع البيت إذا كان كثيراً، وأصله: مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ؛ إذا كشفا وتكاثرا؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
3354 - وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسْودَ فَاحمٍ ... أثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخلَةِ المُتعَثْكِلِ
ونساءٌ أثائِثُ، أي: كثيرات اللحم كأنّ عليهن أثاثاً، وفلان كثر أثاثهُ. وقال الزمخشري: الأثاث ما جدَّ من فرش البيت، والخُرثيُّ: ما قدم منها؛ وأنشد: [البسيط]
3355 - تَقادمَ العَهْدُ من أمِّ الوليدِ بِنَا ... دَهْراً وصَارَ أثَاثُ البيتِ خُرثِيَّا
وهل له واحدٌ من لفظه؟ فقال الفراء: لا، وقال أبو زيد: واحده أثاثة وجمعه في القلَّة: أثثة؛ ك «بَتَات» و «أبتَّة» ، وقال أبو حيَّان: وفي الكثير على أثث، وفيه نظر؛ لأن «فعالاً» المضعَّف يلزم جمعة على أفعلة في القلَّة والكثرة، ولا يجمع على «فُعُل» إلا في لفظتين شذَّتا، وهما: عُيُن وحُجُج جمع عيَّان وحجَّاج، وقد نص النحاة على منع القياس عليهما، فلا يجوز: زمام وزُمُم بل أزمَّة وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد، وجمع بينهما لاختلاف لفظهما؛ كقوله: [الوافر]
3356 - ... ... ... ... ... ... ... وألْفَى قَوْلهَا كَذِباً ومَيْنَا
وقوله: [الطويل]
3357 - ... ... ... ... ... ... ... وهِنْدٌ أتَى من دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقيل: متاعاً: بلاغاً ينتفعون به، «إلى حين» يعني: الموت، وقيل: إلى حين البِلَى.
قوله - تعالى -: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً} الآية فالإنسانُ إما أن يكون مقيماً أو مسافراً، والمسافر إمَّا أن يكون غنيًّا يستصحب معه الخيام أو لا.
فالقسم الأول أشار إليه بقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} ، وأشار إلى القسم(12/133)
الثاني بقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً} وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً} فإن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها، فإنَّه لا بد وأن يستظلَّ إما بجدار أو شجرٍ أو بالغمامِ؛ كما قال - سبحانه -: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام} [الأعراف: 160] .
قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} جمع «كِنّ» ؛ وهو ما حفظ من الرِّيحِ والمطرِ، وهو في الجبل: الغار، وقيل: كلُّ شيءٍ وقَى شيْئاً، ويقال: اسْتكن وأكَنّ، إذا صار في كنٍّ.
واعلم أبلاد العرب شديدة الحرِّ، وحاجتهم إلى الظلِّ ودفع الحرِّ شديدة؛ فلهذا ذكر الله - تعالى - هذه المعاني في معرض النِّعمة العظيمة، وذكر الجبال ولم يذكر السهول وما جعل لهم من السهول أكثر؛ لأنهم كانوا أصحاب جبال، كما قال - تعالى -: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} ؛ لأنَّهم كانوا أصحاب وبر وشعر، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] وما أنزل من الثلج أكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثَّلج. وقال {تَقِيكُمُ الحر} وما يَقِي من البرد أكثر؛ لأنهم كانوا أصحاب حرٍّ.
ولمَّا ذكر الله - تعالى - أمر المسكن، ذكر بعده أمر الملبُوسِ؛ فقال - جل ذكره -: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} والسَّرابيل: القُمص واحدها سربال.
قال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «كل ما لبسته فهو سِرْبال، من قميصٍ أو دِرْعٍ أو جَوشنٍ أو غيره» ؛ وذلك لأن الله - تعالى - جعل السَّرابيل قسمين:
أحدهما: ما يقي الحرَّ والبرد. والثاني: ما يتقى به من البأسِ والحروب.
فإن قيل: لم ذكر الحرَّ ولم يذكر البرد؟ .
فالجواب من وجوه:
أحدها: قال عطاء الخراساني: المخاطبون بهذا الكلام هم العرب، وبلادهم حارَّة [يابسة] ، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحرَّ أشدَّ من حاجتهم إلى ما يدفع البرد: كما قال - سبحانه وتعالى - {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} وسائر أنواع الثياب أشرف، إلا أنه - تعالى - ذكر هذا النَّوع؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر.
والثاني: قال المبرِّد: ذكر أحد الضِّدَّين تنبيه على الآخر؛ كقوله: [الطويل]
3358 - كَأنَّ الحَصَى من خَلْفِهَا وأمَامِهَا ... إذَا حَذفَتْهُ رجْلُهَا خَذفُ أعْسَرَا
لمَّا ثبت في العلوم العقليَّة أن العلم بأحد الضِّدين يستلزم العلم بالضدِّ الآخر، فإنَّ(12/134)
الإنسان إذا خطر بباله الحر، خطر بباله البرد أيضاً وكذا القول في النُّور والظلمة، والسَّواد والبياض.
الثالث: قال الزجاج: «وما وقَى من الحرِّ وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن الآخر» .
فإن قيل: هذا بالضدِّ أولى؛ لأن دفع الحرِّ يكفي فيه السَّرابيل التي هي القُمص دون تكلُّف زيادة، أما البرد فإنَّه لا يندفع إلا بزيادة تكلُّف.
فالجواب: أن القميص الواحد لمَّا كان دافعاً للحر، كانت السَّرابيل التي هي الجمع دافعة للبرد.
قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ} ، أي: مثل ذلك الإتمام السابق، {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} في المستقبل.
وقرأ ابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «تَتِمُّ» بفتح التاء الأولى، «نِعْمَتُهُ» بالرفع على الفاعلية، وقرأ أيضاً: «نِعَمَهُ» جمع نعمة مضافة لضمير الله - تعالى -، وقرأ أيضاً: «لعلكم تَسْلَمُونَ» بفتح التاء واللام مضارع سَلِمَ من السلامة، وهو مناسب لقوله: «تَقِيكُم بَأسكُمْ» ؛ فإنَّ المراد به الدُّروع الملبوسة في الحبب، أو تؤمنوا فتسلموا من عذاب الله.
قوله: «فإنْ تَولَّوا» يجوز أن يكون ماضياً، ويكون التفاتاً من الخطاب المتقدِّم، وأن يكون مضارعاً، ولأصل: تتولَّوا، قحذف نحو: «تَنزَّلُ وتَذَّكرُونَ» ولا التفات على هذا، بل هو جارٍ على الخطاب السَّابق.
ومعنى الكلام: فإن أعرضوا، فلا يلحقك في ذلك عتب ولا تقصير، وليس عليك إلاَّ ما فعلت من التَّبليغ التَّام.
قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} هو جواب الشَّرط، وفي الحقيقة جواب لشرط محذوف، أي: فأنت معذور، وأتى ذلك على إقامة السَّبب مقام المسبب؛ وذلك لأن تبليغه سبب في عذره، فأقيم السَّبب مقام المسبب، ثمَّ ذمَّهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وذلك نهاية في كفران النِّعمة، وجيء ب طثُمَّ «هنا للدَّلالة أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة؛ لأنَّ من عرف النِّعمة حقُّه أن يعترف لا أن ينكر، وفي المراد بالنِّعمة وجوه:
قال القاضي: هي جميع ما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدِّمة، ومعنى إنكارهم:(12/135)
أنهم ما أفردوه - تعالى - بالشُّكر والعبادة، بل شكروا غيره وقالوا: إنما حصلت هذه النعمة بشفاعة الأصنام.
وقيل: المراد بالنِّعمة هنا: نُبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عرفوا أنَّها حق ثمَّ أنكروها، ونبوته نعمة عظيمة؛ كما قال - تعالى -: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
وقيل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} ، أي: لا يستعملونها في طلب رضوان الله، ثم قال جل ذكره: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} .
فإن قيل: ما معنى قوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} مع أنَّهم كلهم كافرون؟ .
فالجواب من وجوه:
الأول: إنما قال - عَزَّ وَجَلَّ - {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} ؛ لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجَّة؛ كالصَّبي وناقص العقل، فأراد بالأكثر؛ البالغين الأصحاء.
والثاني: أن المراد بالكافر: الجاحد المعاند، فقال: «وأكْثَرهُم» ؛ لأنه كان فيهم من لم يكن معانداً، بل جاهلاً بصدق الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يظهر له كونه نبيًّا حقًّا من عند الله.
الثالث: ذكر الأكثر وأراد الجميع؛ لأن أكثر الشيء، يقوم مقام الكل؛ كقوله: {الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25] .(12/136)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} الآية لما بيَّن أنهم عرفوا نعمة الله ثمَّ أنكروها، وذكر أن أكثرهم كافرون أتبعه بذكر الوعيد؛ فذكر حال يوم القيامة.
قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ} فيه أوجه:
أحدها: منصوب بإضمار «اذْكُرْ» .
الثاني: بإضمار «خوفهم» .
الثالث: تقديره: ويوم نبعث، وقعوا في أمر عظيم.
الرابع: أنه معطوف على ظرف محذوف، أي: ينكرونها اليوم ويوم نبعث.
والمراد بأولئك الشهداء: الأنبياء - صلوات الله عليهم؛ كما قال - سبحانه(12/136)
وتعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] .
قوله: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى» ثُمَّ «هذه؟ قلت: معناه: أنهم يُمْنَعُونَ بعد شهادة الأنبياء عليه السلام بما هو أطمّ منه، وهو أنهم يمنعون الكلام، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا [إدلاء] حجة:. انتهى.
ومفعول الإذن محذوف، أي: لا يؤذن لهم في الكلام؛ كما قال - تعالى -: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] أي: في الرُّجوع إلى الدنيا.
وقيل: لا يؤذنُ لهم في الكلام أصلاً، {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا تزال عتابهم وهي ما يعتبون عليها ويلامون؛ يقال: اسْتَعْتَبْتُ فلاناً بمعنى: أعْتَبْتُه، أي: أزلت عُتْبَاه، و» اسْتَفْعَل «بمعنى:» أفْعَلَ «غير مستنكرٍ، قالوا: اسْتدنَيتُ فلاناً وأدْنَيتهُ بمعنًى واحد.
وقيل: السِّين على بابها من الطَّلب، ومعناه: أنهم لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدُّنيا، فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم.
وقال الزمخشري» ولا هم يسترضون، أي: لا يقال لهم: أرضوا ربكم؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل «. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله - تعالى - في سورة حم السجدة؛ لأنه أليق لاختلاف القراء فيه. ثم إنَّه - تعالى - أكَّد هذا الوعيد فقال: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} أي: أن هؤلاء المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه، فعند ذلك {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} ولا يؤخِّرون ولا يمهلون؛ لأن التوبة هناك غير موجودة.
قوله:» فَلا يُخَفَّفُ «هذه الفاء وما حيِّزها جواب» إذَا «، ولا بدَّ من إضمار مبتدأ قبل هذه الفاء، أي: فهو لا يخفف؛ لأن جواب» إذا «متى كان مضارعاً، لم يحتج إلى فاء سواء كان موجباً؛ كقوله - تعالى -: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ} [الحج: 72] أم منفيًّا؛ نحو:» إذَا جَاءَ زَيْدٌ لا يكرمك «.
قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} وهذا من بقيَّة وعيد المشركين، وفي الشركاء قولان:
الأول: أن الله - تعالى -: يبعث الأصنام فتكذِّب المشركين، ويشاهدونها في غاية الذُّلِّ والحقارة، وكل ذلك مما يوجب زيادة الغمِّ والحسرة في قلوبهم.
والثاني: أن المراد بالشركاء: الشَّياطين الذين دعوا الكفَّار إلى الكفر؛ قاله الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وإنَّما ذهب إلى هذا القول؛ - لأنه - تعالى - حكى عن الشركاء أنَّهم كذَّبوا الكفار، والأصنام جمادات فلا يصحُّ منهم هذا القول.
وهذا بعيد؛ لأن الله - تعالى - قادرٌ على خلق الحياة في الأصنام وعلى خلق العقل والنُّطق فيها.(12/137)
قوله: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} العامة على فتح السين واللام.
وقرأ أبو عمرو في رواية بسكون اللام، ومجاهد بضمِّ السين واللام، وكأنَّه جمع سلام؛ نحو: قُذال وقُذُل، والسَّلَمُ واحد، وقد تقدَّم الكلام عليهما في سورة النساء.
فصل
والمعنى: أن المشركين إذا رأوا تلك الشُّركاء، {قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِك} ، وفائدة هذا القول من وجهين:
الأول: قال أبو مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «مقصود المشركين إحالةُ الذَّنب على الأصنام؛ ظنًّا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله، أو ينقص من عذابهم، عند هذا تكذِّبهم تلك الأصنام» .
قال القاضي: «هذا بعيدٌ؛ لأن الكفار يعلمون علماً ضروريًّا في الآخرة أنَّ العذاب ينزل بهم، ولا ينفعهم فدية ولا شفاعة» .
والثاني: أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجُّباً من حضور تلك الأصنام، مع أنه لا ذنب لها، واعترافاً بأنَّهم كانوا مخطئين في عبادتها.
ثم حكى - تعالى - انَّ الأصنام يكذبونهم، فقال: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} ، والمعنى: أنه - تعالى - يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام فيلقوا إليهم، أي: يقولون لهم: «إنَّكُم لكَاذِبُونَ» .
فإن قيل: إن المشركين لم يقولوا، بل أشاروا إلى اًنام، فقالوا: هؤلاء شركاؤنا الذين كنَّا ندعو من دونك، وقد كانوا صادقين في كلِّ ذلك، فكيف قالت الأصنام طإنَّكم لكَاذبُونَ «؟ .
فالجواب من وجوه:
أصحها: أن المراد من قولهم:» هؤلاء شُركاؤنَا «، أي: أنَّ هؤلاء هم الَّذين كنَّا نقول: إنهم شركاء الله في المعبودية، فالأصنام كذَّبوهم في إثبات هذه الشركة.
وقيل: المراد: إنَّهم لكاذبون في قولهم: إنَّا نستحقُّ العذاب بدليل قوله - تعالى - {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريم: 82] .
ثم قال: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} قال الكلبي: استسلم العابد والمعبود، وأقرُّوا لله بالرُّبوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد.(12/138)
وقيل: استسلم المشركون يومئذ إلى الله تعالى وإنفاذ الحكمة فيهم ولم تغنِ عنهم آلهتهم شيئاً، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} : زال عنهم ما كانوا يفترون من أنَّها تشفع لهم عند الله، وقيل: ذهب ما زيَّن لهم الشيطان من أن لله صاحبة وشريكاً.
وقوله: {الذين كَفَرُواْ} يجوز أن يكون مبتدأ، والخبر» زِدنَاهُم «وهو واضح، وجوَّز ابن عطية أن يكون» الَّذينَ كَفروا «بدلاً من فاعل» يَفْترُونَ «، ويكون» زِدْناهُم «مستأنفاً.
ويجوز أن يكون «الَّذينَ كَفرُوا» نصباً على الذَّمِّ أو رفعاً عليه، فيضمر النَّاصب والمبتدأ وجوباً.
فصل
لما ذكر وعيد الذين كفروا، أتبعه ب «وعيد» من ضمَّ إلى كفره صدَّ الغير عن سبيل الله، وهو منعهم عن طريق الحقِّ.
وقيل: صدهم عن المسجد الحرام، {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} ؛ لأنهم زادوا على كفرهم صَدَّ الغير عن الإيمان.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ من عَمِلَ بِهَا
» . «قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -[ومقاتل] :» المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من صفر مذابٍ؛ تسيل من تحت العرش، يعذَّبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنَّهار «.
وقال سعيد بن جبير: زدناهم عذاباً بحيّات كالبخت، وعقارب كالبغال تلسعهم، وقيل: يخرجون من حرِّ النار إلى زمهرير.
وقيل: يضعَّف لهم العذاب بما كانوا يفسدون، أي: بذلك الصَّد.(12/139)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية.(12/139)
وهذا نوع آخر من التَّهديد، والأمة عبارة عن القرن والجماعة، والمراد أن كلَّ نبيٍّ شاهدٌ على أمَّته؛ لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم من أنفسهم لا من غيرهم.
وقيل: المراد أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا، فلا بدَّ وأن يحصل فيهم واحداً يكون شهيداً عليهم، أمَّا الشَّهيد على الذين كانوا في عصر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - فهو الرسول؛ لقوله - تعالى -: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] وقوله: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء} .
وقال الأصم: المراد بالشَّهيد هو أنَّه - تعالى - ينطق عشرة من أعضاء الإنسان تشهد عليه، وهي: الأذنان، والعينان، والرجلان، واليدان، والجلد واللسان.
قال: والدَّليل عليه أنه قال في صفة الشّهيد أنَّه من أنفسهم، وهذه الأعضاء لا شكَّ أنها من أنفسهم.
وأجاب القاضي عنه: بأنه - تعالى - قال: {شَهِيداً عَلَيْهِمْ} ، أي: على الأمَّة، فيجب أن يكون غيرهم، وأيضاً قال: «مِنْ كل أمةٍ» فيجب أن يكون ذلك الشَّهيد من الأمَّة، وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها أنها من الأمة، وأما حمل الشهداء على الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - فبعيد؛ لأن كونهم مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضَّرورة، فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه.
قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً} يجوز أن يكون «تِبْيَاناً» في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله، وهو مصدر ولم يجئ من المصادر على هذه الزِّنة إلا لفظتان: هذا والتِّلقاء، وفي الأسماء كثيراً، نحو «التِّمساح والتِّمثال» وأما المصادر فقياسها فتح الأول؛ دلالة على التكثير ك «التَّطوافِ» و «التَّجْوالِ» .
وقال ابن عطية: إنَّ «التِّبْيَان» اسمٌ وليس بمصدر والنحويُّون على خلافه.
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد رَوَى الواحديُّ بإسناده، عن الزجاج أنه قال: «التِّبيان» اسمٌ في ممعنى البيان.
وجه تعلُّق هذا الكلام بما قبله: أنه - تعالى - قال: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء} أي: أنه أزاح علتهم فميا كلِّفوا، فلا حجَّة لهم ولا معذرة.
وقال نفاةُ القياس: دلَّت هذه الآية على أنَّ القرآن تبْيَانٌ لكل شيءٍ، والعلوم إمَّا دينية، أو غير دينية، فالتي ليست دينية، لا تعلُّق لها بهذه الآية؛ لأنَّا نعلمُ بالضرورة أنه تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين، وأمَّا غير ذلك، فلا التفاتَ إليه، وأما علومُ الدِّين: فإمَّا الأصول، وإما الفروع.(12/140)
فأما علم الأصول: فهو بتمامه موجوٌ في القرآن.
وأما علم الفروع: فالأصل براءة الذِّمَّة، إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب، وذلك يدلُّ على أنه لا تكليف من الله إلاَّ ما ورد في هذا القرآن، وإذا كان كذلك، كان القول بالقياس باطلاً، وكان القرآن وافياً بتبيان كل الأحكام.
قال الفقهاء: إنَّما كان القرآن «تِبياناً لكل شَيْءٍ» ؛ لأنه دلَّ على أنَّ الإجماع حجةٌ، وبر الواحد، والقياس حجة، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأصولِ، كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن، وقد تقدمت هذه المسألة في سورة الأعراف.
قال المفسرون: «تِبْياناً لكُلِّ شَيْءٍ» يحتاج إليه الأمرِ، والنهيِ والحلالِ، والحرامِ، والحدودِ، والأحكامِ، «وهُدًى» من الضَّلالةِ، «ورحْمَةٌ» و «بشرى» وبشارة «للمسلمين» ، قوله: «للمسلمين» متعلق ب «بشرى» ، وهو متعلق من حيث المعنى ب «هدى ورحمة» أيضاً.
وفي جواز كون هذا من التنازع، نظر، من حيث لزوم الفصل بين المصدر، ومعموله بالظرف، حال إعمالك غير الثالث؛ فتأمَّلهُ.
وقياس من جوَّز [التنازع] في فعل التعجب، والتزام إعمال الثاني؛ لئلاَّ يلزم الفصل أن يجوم هذا على هذه الحالة.(12/141)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية لما شرح الوعد، والوعيد، والتَّرغيب، والتَّرهيب، أتبعه بقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} فجمع في هذه الآية ما(12/141)
يتصل بالتكاليف؛ فرضاً، ونفلاً، وما يتصل بالأخلاق، والآداب: عموماً وخصوصاً.
روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أن عثمان بن مظعون الجمحيَّ قال: ما أسلمتُ أولاً إلاَّ حياء من محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم، فبينما هو يحدِّثني، إذ رأيت بصره شخص إلى السماءِ، ثم خفضه عن يمينه، ثم عاد لمثل ذلك؛ فسألته - صلوات الله وسلامه عليه - فقال: «بينما أنا أحدِّثك إذ بجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - ينل عن يميني، فقال: يا محمد، إنَّ الله - تعالى - يأمرك بالعدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان: القيام بالفرائض، وإيتاء ذي القربى، أي: صلة القربى، وينهى عن الفحشاء: الزِّنا، والمنكرِ: ما لا يعرف في شريعة، ولا سنة، والبغي: الاستطالة» . قال عثمان: فوقع الإيمان في قلبي، فأتيت أبا طالب؛ فأخبرته، فقال: يا معشر قريش، أتَّبعُوا ابن أخي؛ ترشدوا، ولئن كان صادقاً أو كاذباً، فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق، فلما رأى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عمه اللِّين قال: يا عمَّاه، أتأمر الناس أن يتَّبعوني، وتدع نفسك! وجهد عليه؛ فأبى أن يسلم؛ فنزل: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] .
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «إنَّ أجمع آيةٍ في القرآن لخيرٍ وشرٍّ هذه الآية» .
وعن قتادة: ليس في القرآن من خلقٍ حسنٍ، كان في الجاهلية يعمل، ويستحسن، إلاَّ أمر الله - تعالى - به في هذه الآية، وليس من خلقٍ سيِّءٍ، إلاَّ نهى عنه في هذه الآية.
وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: طأمر الله - تعالى - نبيَّهُ أن يعرض نفسه على قبائل العرب؛ فخرج، وأنا معه وأبو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فوقفنا على مجلسٍ عليهم الوقارُ، فقال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ممَّن القوم؟ فقالوا: من شيبان، فدعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الشهادتين إلى أن ينصروه؛ فإنَّ قريشاً كذَّبوه، فقال مقرون بن عمرو: إلام تدعونا، أخا قريش؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية فقال(12/142)
مقرون: دعوت والله، إلى مكارم [الأخلاق] ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قومٌ كذَّبوك، وظاهروا عليك «.
فصل
قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: العدلُ: التوحيدُ، والإحسانُ: أداءُ الفرائضِ، وعنه: العدلُ: الإخلاصُ في التوحيد، وهو معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّكَ تَراهُ» وسمِّي هذا إحساناً؛ لأنه محسن إلى نفسه.
وقيل: العدلُ: في الأفعال، والإحسان: في الأقوال؛ فلا تفعل إلاَّ ما هو عدلٌ، ولا تقل إلاَّ ما هو إحسانٌ.
قوله: {وَإِيتَآءِ ذِي القربى} مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، ولم يذكر متعلقات العدلِ والإحسان والبغي؛ ليعمَّ جميع ما يعدل فيه، ويحسن به وإليه ويبغي فيه، ولذلك لم يذكر المفعول الثاني للإيتاء، ونصَّ على الأول حضًّا عليه؛ لإدلائه بالقرابة، فإنَّ إيتاءه صدقة وصلة. قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «إنَّ أعجلَ الطَّاعةِ ثَواباً صِلةُ الرَّحمِ» .
وقوله: {وينهى عَنِ الفحشاء} قيل: الزِّنا، وقيل: البُخل، وقيل: كل [ذنب] صغيرة كانت أو كبيرة، وقيل: ما قبح من القول أو الفعل، وأما المنكر فقيل: الكفر بالله، وقيل: ما لا يعرف في شريعة ولا سنة، والبغي: التَّكبر والظُّلم.
فصل
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - كلاماً حاصله: «إنَّ في المأمورات كثرة، وفي المنهيَّات كثرة، وإنتما يحسن في تفسير لفظ بمعنًى إذا كان بين ذلك اللفظ والمعنى مناسبة، وألا يكون ذلك التفسير فاسداً، فإذا فسَّرنا العدل بشيء مثلاً، وجب أن يتبيَّن مناسبة العدل لذلك المعنى، وألاَّ يكون مجرَّد تحكم، فنقول: إنه - تعالى - أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء؛ وهي: العدل والإحسان وإيتاءِ ذي القربى، ونهى عن ثلاثة أشياء؛ وهي: الفحشاء والمنكر والبغي، فوجب أن يكون كل ثلاثة منها متغايرة؛ لأن العطف(12/143)
يوجب المغايرة، فنقول: العدل عبارة عن الأمور المتوسِّطة بين طرفي الإفراط والتَّفريط، وذلك واجب الرِّعاية في جميع الأشياء، فنقول: التَّكليف إمَّا في الاعتقادات وإما في أعمال الجوارح.
أما الاعتقاد فنذكر منه أمثلة:
أحدها: ما قاله ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إن العدل هو قولنا: لا إله إلاَّ الله، وتحقيقه: أنَّ نفي الإله تعطيلٌ محضٌ، وإثبات أكثر من إله واحد إشراك وتشبيه، وهما مذمومان، والعدل هو إثبات إلهٍ واحد.
وثانيها: أن القول بأنَّ الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محضٌ، والقول بأنه جسم مركب ومتحيِّز تشبيه محضٌ، والعدل: إثبات إلهٍ واحدٍ موجودٍ منزَّه عن الجسميَّة والأجزاء والمكان.
وثالثها: أن القول بأنَّ الإله غير موصوف بالصِّفات من العلم والقدرة تعطيل محضٌ، والقول بأنَّ صفاته حادثة متغيِّرة تشبيه محض، العدل: إثبات أن الإله عالم قادرٌ حيٌّ، وأن صفاته ليست محدثة ولا متغيرة - سبحانه وتعالى -.
ورابعها: أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محضٌ، والقول بأن العبد مستقلٌّ بأفعاله قدر محضٌ؛ وهما مذمومان، والعدل أن يقال: إن العبد يفعل الفعل بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله فيه.
وأما رعاية العدل في أفعال الجوارح فنذكر منه أمثلة:
أحدها: قال قوم: لا يجب على العبد شيء من الطَّاعات، ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي، ونفورا التَّكاليف أصلاً.
وقال المانويَّة وقوم من الهند: إنه يجب على الإنسان أن يجتنب الطيِّبات، ويحترز عن كل ما يميل الطَّبع إليه، ويبالغ في تعذيب نفسه، حتى إن المانويَّة يخصُّون أنفسهم ويحترزون عن التزوج، ويحترزون عن أكل الطَّعام الطيِّب، والهند يحرقون أنفسهم، ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل، فهذان الطريقان مذمومان، والعدل هو شرعنا.
وثانيها: قيل: إنه كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - في القتلِ العمد استيفاءُ القصاص لا محالة، وفي شرع عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - العَفو، وأمَّا في شرعنا: فإن شاء استوفى القصاص، وإن شاء عفا عن الدِّية، وإن شاء عفا مطلقاً.
وقيل: كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - الاحتراز العظيم عن الحائض؛ حتَّى إنَّه يجب إخراجها من الدَّار، وفي شرع عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حلُّ وطئها، والعدل ما حكم به شرعنا؛ وهو تحريم وطئها فقط.
وثالثها: قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقال - جل(12/144)
ذكره -: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] وقال - جل ذكره -: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خَيْرُ الأمُورِ أوْسَطُهَا» .
ورابعها: أن شريعتنا أمرت بالختان، والحكمة فيه: أن رأس الذَّكر جسم شديد الإحساس، فلو بقيت القلفة، لبقي العضو على كمال قوَّته، فيعظم الالتذاذ، أمَّا إذا قطعت الجلدة، بقي العضو عارياً، فيلقى الثياب وسائر الأجسام، فيتصلب فيضعف حسُّه ويقل شعوره، فيقلُّ الالتذاذُ بالوقاع، فتقلُّ الرغبة فيه، فأمرت الشريعة بالختان؛ سعياً في تقليل تلك اللذة، حتَّى يصير ميلُ الإنسان إلى الوقاع معتدلاً، وألاّ تصير الرَّغبة فيه داعية غالبة على الطَّبع.
فالذي ذهب إليه المانويَّة من الإخصاء وقطع الآلات مذموم؛ لأنه إفراطٌ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة، والعدل الوسط هو الختانُ.
واعلم أن الزِّيادة على العدل قد تكون إحساناً، وقد تكون إساءة؛ فالعدل في الطاعات هو أداءُ الواجبات، والزيادة على الواجبات طاعاتٌ، فهي من جملة الإحسانِ؛ ولهذا قال - صلوات الله وسلامه عليه - لجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - حين سأله عن الإحسان: «أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّك تَراهُ فإن لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ» .
وسمِّي هذا المعنى بالإحسان؛ لأنه بالمبالغة في الطاعة، كأنه يحسن إلى نفسه بإيصالِ الخير والفعل الحسن، ويدخل في الإحسان التعظيم لأمر الله، والشَّفقة على خلق الله، ويدخل في الشَّفقة على خلق الله أقسامٌ كثيرة، وأعظمها: صلة الرحم؛ فلهذا أفرده - تعالى - بالذِّكر، فقال - تعالى -: {وَإِيتَآءِ ذِي القربى} وأما الثَّلاثة التي نهى الله عنها؛ وهي: «الفحشاء والمنكر والبغي» فنقول: إنه - تعالى - أودع في النَّفس البشرية قوى اربعة؛ وهي: الشَّهوانيَّة البهيميَّة، والغضبية والسبعيَّة، والوهميَّة الشيطانية، والعقلية الملكية.
فالعقلية الملكيَّة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها؛ لأنه من جوهر الملائكة.
وأما القوَّة الشهوانية فرغبتها في تحصيل اللذَّات الشهوانية، وهذا النَّوع مخصوص بالفحشاءِ، ألا ترى أنه - تعالى - سمى الزنا فاحشة؛ فقال - جل ذكره -: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ، وقوله - تعالى -: {وينهى عَنِ الفحشاء} المراد منه: المنع من تحصيل اللذات الشهوانيَّة.
وأما القوَّة الغضبية السبعية: فهي أبداً تسعى في إيصال الشرور والأذى إلى سائر النَّاس، وهذا ممَّا ينكره الناس، فالمنكر عبارةٌ عن الإفراطِ الحاصل من آثار القوَّة الغضبيَّة.
وأما القوة الوهمية الشيطانية: فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس، والترفع(12/145)
وإظهار الرِّياسة والتكبُّر، وذلك هو المراد من البغي؛ فإنه لا معنى للبغي إلا التَّطاول على الناس والترفُّع عليهم.
قوله: «يَعِظُكمْ» يجوز أن يكون مستأنفاً في قوَّة التعليل للأمر بما تقدم، أي: أن الوعظ سبب في أمره لكم بذلك، وجوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في «يَنْهَى» .
وفي تخصيصه الحال بهذا الفاعل فقط نظر؛ إذ يظهر جعله حالاً من فاعل «يَأمرُ» أيضاً، بل أولى؛ فإنَّ الوعظ يكون بالأوامر والنَّواهي، فلا خصوصية له بالنَّهي.
ثم قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال الكعبي: دلَّت الآية على أنَّه - تعالى - لا يخلق الجور والفحشاء من وجوه:
الأول: أنه - تعالى - كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم، وكيف ينهى ويريد تحصيله فيهم؟ ولو كان الأمر ما قالوه، لكان كأنَّه - تعالى - قال: إنَّما يأمركم بخلاف ما خلقه فيكم، وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم، وذلك باطلٌ في بديهة العقل.
الثاني: أنه - تعالى - أمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنهكر والبغي، فلو أنَّه - تعالى - أمر بتلك الثلاثة، ثم إنه - تعالى - ما فعلها، لدخل تحت قوله - تعالى -: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] .
الثالث: أن قوله - تعالى -: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ليس المراد منه الترجِّي والتَّمني؛ فإن ذلك محالٌ على الله - تعالى -، فوجب أن يكون معناه: أنه - تعالى - يعظكم لإرادة أن يذكروا طاعته، وذلك يدلُّ على أنه يريد الإيمان من الكلِّ.
الرابع: أنه - تعالى - لو صرَّح وقال: إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ولكنَّه يمنع منه ويصدُّ عنه، ولا يمكن العبد منه، ثم قال - تعالى -: {وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي} ، ولكنَّه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى، وأراده منه ومنعه من تركه، ومن الاحتراز عنه؛ لحكم كل واحدٍ عليه بالرَّكاكة وفساد النظم والتركيب، وذلك يدلُّ على كونه - تعالى - منزَّهاً عن فعل القبائح.
والمعتمد في الجواب مسألة العلم والدَّاعي.
فصل
اتَّفق المتكلِّمون من أهل السنَّة ومن المعتزلة على أن تذكُّر الأشياء من فعل الله - تعالى - لا من فعل العبد؛ لأنَّ التذكُّر عبارة عن طلب المتذكر، فحال الطَّلب إمَّا أن يكون لديه شعور أو لا يكون؛ فإن كان له شعور به، فذلك الذِّكر حاصلٌ، والحاصل لا يطلب تحصيله، وإن لم يكن له به شعور، فكيف يطلبه بعينه؛ لأنَّ توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون بعينه متصوراً محال.(12/146)
إذا ثبت هذا، فقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} معناه: أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكُّر، فإذا لم يكن التذكر فعلاً له، فكيف طلب منه تحصيله؟ وهذا هو الذي يحتجُّ به أهل السنَّة على أنَّ قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لا يدلُّ على أنه - تعالى - يريد ذلك منه.
قوله - تعالى -: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} الآية لما جمع المأمورات والمنهيَّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد.
قال الزمخشري: عهد الله: هي البيعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإسلام؛ لقوله - تعالى -: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] ، {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وقيل: كل عهدٍ يلتزمه الإنسان باختياره. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: والوَعْدُ من العهد.
وقال ميمون بن مهران: من عاهدته، أوْفِ بعهده مسلماً كان أو كافراً، فإنَّماوفاء العهد لله - تعالى -.
وقال الأصم: المراد منه الجهاد، وما فرض الله في الأموال من حق، وقيل: عهد الله هو اليمين بالله.
قال الشعبي: العهد يمين الله، وكفَّارته كفارة يمين، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ حَلفَ علَى يَمِينٍ فَرَأى غَيْرهَا خَيْراً مِنْها فلْيَأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ وليكفرْ عن يَمينهِ» .
واعلم أن قوله - تعالى -: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} يجب أن يكون مختصًّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه، ويؤيِّده قوله - عَزَّ وَجَلَّ - بعد ذلك: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} ، وأيضاً: يجب ألا يحمل العهد على اليمين؛ لأنَّا لو حملناه على اليمين، لكان قوله بعد ذلك: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} تكرار؛ لأنَّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النَّهي عن التَّرك؛ إلاَّ إذا قلنا: إن الوفاء بالعهد عامٌّ يدخل تحته اليمين، ثم إنَّه تعالى - خصَّ اليمين بالذِّكر؛ تنبيهاً على أنَّه أولى أنواع العهد على ما اتقدَّم، يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه عهد الجهاد، وعهد الوفاءِ بالملتزمات من المنذورات والمؤكدات بالحلف.
قوله: «بَعْدَ تَوكِيدهَا» متعلق بفعل النَّهي، والتَّوكيد مصدر وكَّد يُوكِّدُ بالواو وفيه لغة أخرى: أكَّد يُؤكِّدُ بالهمز، ومعناه: التقوية؛ وهذا كقولهم: أرَّخْتُ الكتابَ ووَرَّخْتهُ،(12/147)
وليست الهمزة بدلاً من واو كما زعم أبو إسحاق؛ لأن الاستعمالين في المادَّتين متساويان، فليس ادِّعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر، وتبع مكي الزجاج - رحمهما الله تعالى - في ذلك، ثم قال: طولا يحسن أن يقال: الواو بدل من الهمزة، كما لا يحسن أن يقال ذلك في «أحد» ، إذ أصله «وحَد» فالهمزة بدلٌ من الواو «يعني: أنه لا قائل [بالعكس] .
وكذلك تبعه في ذلك الزمخشري أيضاً، و» تَوْكيدِهَا «مصدر مضافٌ لمفعوله، وأدغم أبو عمرو الدَّال في التَّاء، ولا ثاني له في القرآن، أعني: أنه لم يدغم دال مفتوحة بعد ساكنٍ إلاَّ في هذا الحرف.
قوله تعالى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله} الجملة حال: إمَّا من فاعل» تَنْقضُوا «، وإمَّا من فاعل المصدر وإن كان محذوفاً.
فصل
المعنى: ولا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها فتحنثوا فيها، و {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} : شهيداً عليكم بالوفاء.
{إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قالت الحنفيَّة: يمين اللَّغو هي يمين الغموس؛ لقوله - تعالى -: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} فنهى عن نقض الأيمان فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث، فوجب ألا يكون من الأيمان.
وقال غيرهم: هي قول الإنسان في معرض حديثه: لا والله، وبلى والله؛ لأن قوله - تعالى - {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} إنما تقال للفرق بين الأيمان المؤكَّدة بالعزم وبالعقد، وبين غيرها.
واعلم أن قوله - تعالى -: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} عامٌّ دخله التخصيص؛ لما تقدَّم من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» مَنْ حَلفَ على يمينٍ فَرأى غَيْرهَا خيْراً منهَا، فليَأتِ الَّذِي هو خَيْرٌ وليُكفر عن يَمينهِ «.
ثم إنه - تعالى - ضرب مثلاً لنقض العهد، فقال - جل ذكره -: {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} ، أي: من بعد إبرامه وإحكامه.
قال الكلبيُّ ومقاتل - رحمهما الله تعالى -: هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش، يقال لها: ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زبد مناة بن تميم، وتلقب ب» جعراء «، وكانت بها وسوسة وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع، وصنَّارة مثل الأصبع، وفلكة عظيمة(12/148)
على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر والوبر هي وجواربها، فكُنَّ يغزلنَ إلى نصف النَّهار، فإذا انتصف النَّهار، أمرتهنَّ بنقض جميع ما غزلن، فكان هذا دأبها.
والمعنى: أنَّها لم تكلَّ عن العمل، ولا حين عملت كفَّت عن النقض، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد لا كفَّيتم عن العهد، ولا حين [عهدتم] وفيتم به.
وقيل: المراد بالمثل: الوصف دو التَّعيين؛ لأن القصد بالأمثال صرف المكلَّف عن الفعل إذا كان قبيحاً، والدُّعاء إليه إذا كان حسناً، وذلك يتم دون التَّعيين.
قوله تعالى: «أنكاثاً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه حال من «غَزلِهَا» ، والأنْكَاثُ: جمع نِكْث بمعنى منكُوث، أي: منقوض.
والثاني: أنه مفعول ثان لتضمين «نَقضَتْ» معنى صيَّرت؛ كما تقول: فرقته أجزاء.
وجوَّز الزجاج فيه وجهاً ثالثاً، وهو النصب على المصدرية؛ لأنَّ معنى نكثت: نقضت، ومعنى نقضت: نكثت؛ فهو ملاق لعامله في المعنى.
قيل: وهذا غلط منه؛ لأنَّ الأنكاث جمع نكث، وهو اسمٌ لا مصدر، فكيف يكون قوله: «أنْكَاثاً» بمعنى المصدر؟ .
والأنْكَاث: الأنقاض، واحدها نِكْث؛ وهو ما نقض بعد الفتل غزلاً كان أو حبلاً.
فصل
قال ابن قتيبة: هذه الآية متَّصلة بما قبلها، والتقدير: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، فإنَّكم إن فعلتم ذلك، كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته، فلما استحكم، نقضته فجعلته أنكاثاً.
قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ} يجوز أن يكون الجملة حالاً من واو «تكونوا» ، أو من الضمير المستتر في الجارِّ؛ إذ المعنى: تكونوا مشبهين كذا حال كونكم متَّخذين، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.
قوله: «دَخَلاً بَيْنكُمْ» هو المفعول الثاني ل «تَتَّخِذُونَ» ، والدَّخلُ: الفساد والدَّغل.
وقيل: «دَخَلاً» مفعول من أجله، وقيل: الدَّخل: الدَّاخل في الشيء ليس منه.
قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «الدَّخلُ والدَّغلُ: الغِشُّ والخِيانةُ» .
وقيل: الدَّخل: ما أدخل في الشيء على فسادٍ، وقيل: الدَّخل والدَّغل: أن يظهر الوفاء به ويبطن الغدر والنقض.(12/149)
وقوله تعالى: «أنْ تَكُونَ» أي: بسبب أن تكون، أو مخافة أن تكون، و «تكون» يجوز أن تكون تامة؛ فتكون «أمَّةٌ» فاعلها، وأن تَكُونَ ناقصة، فتكون «أمَّةٌ» اسمها وهي مبتدأ، و «أرْبَى» خبره، والجملة في محلِّ نصب على الحال على الوجه الأول، وفي موضع الجر على الوجه الثاني، وجوَّز الكوفيون أن تكون «أمَّةٌ» اسمها، و «هِيَ» عماد، أي: ضمير فصل، و «أرْبَى» خبر «تَكونُ» ، والبصريُّون لا يجيزون ذلك؛ لأجل تنكير الاسم، فلو كان الاسم معرفة، لجاز ذلك عندهم.
فصل
قال مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كانوا يحالفون الحلفاء، فإذا وجدوا قوماً أكثر منهم وأعزَّ، نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا الأكثر، فالمعنى: طلبتم العز بنقص العهدِ؛ بأن كانت أمة أكثر من أمةٍ، فنهاهم الله - تعالى - عن ذلك.
ومعنى «أرْبَى من أمَّةٍ» ؛ أي: أزيدُ في العدد، والقوَّة، والشَّرف.
ثم قال - جل ذكره -: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} ، أي يختبركم الله بأمره إيَّاكم بالوفاءِ بالعهد.
والضمير في «به» يجوز أن يعود على المصدر المنسبك من «أنْ تَكُونَ» ، تقديره: إنَّما يَبلُوكمُ الله بكون أمَّة، أي: يختبركم بذلك.
وقيل: يعود على الرِّبا المدلول عليه بقوله: «هي أرْبَى» .
وقيل: على الكثرة؛ لأنَّها في معنى الكثير.
قال ابن الأنباري رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: ملا كان تأنيثها غير حقيقي، حملت على معنى التَّذكير؛ كما حملت الصَّيحة على الصِّياح ولم يتقدم للكثرة للفظ، وإنما هي مدلول عليها بالمعنى من قوله تعالى: {هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} .
ثم قال: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدُّنيا، فيميِّز المحقَّ من المبطل.
قوله - تعالى -: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية لما أمر القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه - تعالى - قادرٌ على أن يجمعهم على هذا الوفاء، وعلى سائر أبواب الإيمان، ولكنَّه - سبحانه وتعالى جل ذكره - بحكم الألوهية يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء.
والمعتزلة حملوا ذلك على الإلجاء، أي: لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى(12/150)
الكفر، لقدر عليه، إلاَّ أنَّ ذلك يبطل التَّكليف، فلا جرم ما ألجأهم إليه، وفوَّض الأمر إلى اختيارهم، وقد تقدَّم البحث في ذلك.
وروى الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ عزيراً قال: ربِّ، خلقت الخلق فتضلُّ من تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزير، أعرض عن هذا، فأعاده ثانياً، فقال: يا عزير أعرض عن هذا، فأعاده ثالثاً، فقال: أعرض عن هذا وإلا محوتُ اسمك من [ديوان] النبوَّة.
قالت المعتزلة: ومما يدلُّ على أن المراد من هذه المشيئة مشيئته الإلجاء أنه - تعالى - قال بعده: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فلو كانت أعمال العباد بخلق الله - تعالى -، لكان سؤالهم عنها عبثاً، وتقدَّم جوابه.
قوله تعالى -: {وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} وليس المراد منه التَّحذير عن نقض مطلق الأيمان، وإلاَّ لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أو أقدموا عليها.
فلهذا قال المفسرون: المراد: نهي الذين بايعوا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عن نقض عهده؛ لأن قوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} لا يليق بنقض عهد قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإيمان به وبشرائعه.
وقوله - تعالى -: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} منصوب بإضمار «أنْ» على جواب النهي.
وهذا مثل يذكر لكل من وقع في بلاءٍ بعد عافيةٍ، أو سقط في ورطة بعد سلامة، أو محنة بعد نعمة.
قوله: {بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله} «مَا» مصدرية، و «صَددتُّمْ» يجوز أن يكون من الصُّدود، وأن يكون من الصدِّ، ومفعوله محذوف، ونكِّرت «قدم» ؛ قال الزمخشري «فإن قلت: لِمَ وحِّدث القدم ونكِّرت؟ .
قلت: لاستعظام أن تزلَّ قدم واحدة عن طريق الحقِّ بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة؟» .
قال أبو حيَّان: «الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد، فإذا لوحظ فيه المجموع، كان الإسناد معتبراً فيه الجمعيَّة، وإذا لوحظ فيه كل فردٍ فردٍ، فإنَّ الإسناد مطابق للفظ الجمع كثيراً، فيجمع ما أسند إليه، ومطابق لكل فردٍ فرد فيفرد؛ كقوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ} [يوسف: 31] لما كان(12/151)
لوحظ في قوله:» لَهُنَّ «معنى لكل واحدة، ولو جاء مراداً به الجمعيَّة أو على الكثير في الوجه الثاني، لجمع المتَّكأ؛ وعلى هذا يحمل قول الشاعر: [الطويل]
3359 - فإنِّي رأيْتُ الضَّامرينَ مَتاعهُمْ ... يَموتُ ويَفْنَى فَارضِخِي مِنْ وِعَائيَا
أي: رأيت كلَّ ضامرٍ، ولذلك أفرد الضمير في» يَموتُ ويَفْنَى «، ولمَّا كان المعنى: لا يتخذ كل واحدٍ منكم جاء» فتَزلَّ قدَمٌ «مراعاةً لهذا المعنى.
ثم قال:» وتَذُوقُوا السوء «مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير، إذا قلنا: إنَّ الإسناد لكل فرد فرد، فتكون الآية قد تعرَّضت للنَّهي عن اتِّخاذ الأيمان دخلاً باعتبار المجموع، وباعتبار كل فرد فرد، ودلَّ على ذلك بإفراد» قَدمٌ «وبجمع الضمير في» وتَذُوقُواْ «.
قال شهاب الدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وبهذا التقدير الذي ذكره أبو حيان يفوت المعنى الجزل الذي اقتنصه الزمخشري من تنكير» قَدمٌ «وإفرادها، وأمَّا البيت المذكور، فإن النحويين خرَّجوه على أن المعنى: يَموتُ من ثم ومن ذكر، وأفرد الضمير لذلك لا لما ذكر.
فصل
المعنى: وتذوقوا العذاب بصدِّكم عن سبيل الله، وقيل: معناه: سهَّلتم نقض العهد على النَّاس بنقضكم العهد، {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، أي: ذلك السوء الذي تذوقونه» عَذابٌ عَظيمٌ «.
ثم أكَّد هذا التَّحذير فقال - جل ذكره -: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} أي: لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً قليلاً من الدنيا، ولكن أوفوا بها فإنَّ ما عند الله من الثَّواب لكم على الوفاء {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فضل ما بين العوضين.
ثم ذكر الدَّليل القاطع على أنَّ ما عند الله خير فقال: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} ، أي الدنيا وما فيها تفنى، {وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} فقوله: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ} مبتدأ وخبر، والنَّفادُ: الفَناءُ والذهاب، يقال:» نَفِدَ «بكسر العين» يَنْفَدُ «بفتحها نفَاداً ونُفوداً، وأما نقذَ بالذَّال المعجمة ففعله نَفَذَ الفتح ينفذُ بالضمِّ، وسيأتي.
ويقال: أنفد القوم إذا فَنِيَ زادهم، وخَصْمٌ مُنافِدٌ لينفد حجة صاحبه، يقال: نافدته فنفدته.
وقوله: «بَاقٍ» تقدَّم الكلام عليه في الوقف في سورة الرعد، وهذه الآية حجة عليه.(12/152)
قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا} قرأ ابن كثيرٍ، وعاصم وابن ذكوان: «وَلنَجْزينَّ» بنون العظمة التفاتاً من الغيبة إلى التكلُّم، وتقدم تقرير الالتفات.
والباقون بياء الغيبة رجوعاً إلى الله - تعالى -؛ لتقدم ذكره العزيز في قوله: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} .
قوله: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ} يجوز أن يكون [ «أفعل» ] على بابها من التفضيل، وإذا جازاهم بالأحسن، فلأن يجازيهم بالحسن أولى.
وقيل: ليست للتَّفضيل، وكأنهم فرُّوا من مفهوم أفعل؛ إذ لا يلزم من المجازاة بالأحسن المجازاة بالحسن، وهو وهمٌ، لما تقدَّم من أنَّه من مفهوم الموافقة بطريق الأولى، والمعنى: ولنجزين الذين صبروا على الوفاءِ في السَّراء والضَّراء {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
ثم إنه رغَّب المؤمنين في الإتيان بكلِّ ما كان من شرائع الإسلام؛ فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وفيه سؤالٌ: وهو أن لفظة «مَنْ» في قوله: «مَن عَملَ» تفيد العموم، فما الفائدة في ذكر الذَّكر والأنثى؟ .
والجواب: أن هذه الآية للوعد بالخيراتِ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرَّحمة، فأتى بذكر الذَّكر والأنثى للتأكيد، وإزالة الوهم بالتخصيص.
قوله: «مِنْ ذَكرٍ» «مِنْ» للبيان، فتتعلق بمحذوف، أعني: من ذكرٍ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «عَمِلَ» ، وقوله: «وهُوَ مُؤمِنٌ» جملة حاليَّة أيضاً.
وهذه الآية تدلُّ على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح؛ لأنه - تعالى - جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصَّالح موجباً للثَّواب، وشرط الشيء مغاير لذلك الشيشء.
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أنَّ الإتيان بالعمل الصَّالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان، وظاهر قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو عدمه.
فالجواب: أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان، أمَّا إفادته لأثرٍ غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العذاب؛ فإنَّه لا يتوقف على الإيمان.
فصل
قال سعيد بن جبير - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعطاء: «الحياة الطَّيِّبة: هي الرِّزقُ الحلال»(12/153)
وقال الحسن: هي القناعة، وقال مجاهد وقتادة: هي الجنة.
قال القاضي: الأقرب أنها تحصل في الدنيا؛ لقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} والمراد: ما [لا] يكون في الآخرة.
قوله: «ولنَجْزِينَّهُمْ» راعى معنى «مَنْ، فجمع الضمير بعد أن راعى لفظها، فأفرد في» لنحيينه «وما قبله، وقرأ العامة:» ولنجزينه «بنون العظمة؛ مراعاة لما قبله، وقرأ ابن عامر في رواية بياء الغيبة، وهذا ينبغي أن يكون على إضمار قسم ثان، فيكون من عطف جملة قسميَّة على جملة قسمية مثلها، حذفتا وبقي جوابهما، ولا جائز أن يكون من عطف جواب على جواب؛ لإفضائه إلى [إخبار] المتكلم عن نفسه إخبار الغائب، ولا يجوز؛ لو قلت:» زيد قال: والله لأضربن هِنْداً وليَنْفِينَّهَا زَيْدٌ «لم يجز، فإن أضمرت قسماً آخر، جاز، أي: وقال: والله لينفينَّها فإن لك في مثل هذا التركيب أن تحكي لفظه، ومنه {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} [التوبة: 107] وأن يحكي معناه، ومنه {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} [التوبة: 74] ولو جاء على اللفظ، لقيل ما قلنا.(12/154)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
قوله - تعالى - {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} الآية لما قال - تعالى -: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ، أرشد إلى العمل الذي به يخلِّص أعماله من الوساوس، فقال - جل ذكره -: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} أي: فإذا أردت، فأضمر الإرادة.
قال الزمخشري: «لأنَّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة من غير فاصل، على حسبه، فكان منه بسببٍ قويٍّ وملابسة ظاهرة» .
وقال ابن عطيَّة: «» فإذَا «وصلة بين الكلامين، والعرب تستعملها في هذا، وتقدير الآية: فإذا أخذت في قراءة القرآن، فاستعذ» .
وهذا مذهب الجمهور من القرَّاء والعلماء، وقد أخذ بظاهر الآية - فاستعاذ بعد أن قرأ - من الصحابة - أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ومن الأئمة: مالكوابن سيرين وداود، ومن القرَّاء حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم؛ قالوا: لأنَّ الفاء في قوله: {فاستعذ بالله} للتعقيب، والفائدة فيه: أنه إذا قرأ القرآن يستحقُّ به ثواباً عظيماً، فإذا لم يأت بالاستعاذة، وقعت الوسوسة في قلبه، وذلك الوسواس يحبط ثواب القراءة، فإذا استعاذ بعد القراءة، اندفعت تلك الوساوس، وبقي الثَّواب مصوناً عن الانحطاط.
وذهب الأكثرون: إلى أنَّ الاستعاذة مقدمة على القراءة، والمعنى: إذا أردت أن تقرأ القرآن، فاستعذ؛ كقوله: إذَا أكلت، فقل: بِسْم الله، وإذا سافرت، فتأهَّب، وقوله - تعالى - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وأيضاً: قد ثبت أن الشَّيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرَّسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ بدليل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] ، ومن الظاهر أنه - تعالى - إنما أمر الرَّسول - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة عند القراءة؛ لدفع تلك الوساوس، وهذا المقصود إنَّما يحصل عند تقديم الاستعاذة.
وذهب عطاء إلى أنَّ الاستعاذة واجبة عند قراءةِ القرآن، كانت في الصَّلاة أو غيرها.
ولا خلاف بين العلماء في أن التَّعوذ قبل القراءة في الصَّلاة أوكد.
واعلم أنَّ هذا الخطاب للرسول - صلوات الله وسلامه عليه -، والمراد منه الكلُّ؛ لأن الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا كان محتاجاً للاستعاذة عند القراءةِ، فغيره أولى، والمراد بالشيطان في هذه الآية: قيل: إبليس، وقيل: الجنس؛ لأنَّ جميع المردة لهم حظٌّ في الوسوسة.(12/155)
ولما أمر رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنَّ للشيطان قدرة على التصرُّف في أبدان النَّاس، فأزال الله تعالى هذا الوهم وبيَّن أنه لا قدرة له ألبتَّة على الوسوسة؛ فقال - تعالى -: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ويظهر من هذا أنَّ الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً، وأنَّه لا يمكنه التحفُّظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى، ولا قوَّة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، والتَّفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به.
ثم قال: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «يطيعونه، يقال: توليته، أي: أطعته، وتولَّيت عنه، أي: أعرضت عنه.
قوله: {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} الضمير في» بِهِ «الظاهر عوده على الشيطان، لتتحد الضمائر، والمعنى: والذين هم به مشركون بسببه؛ كما تقول للرجل إذا تكلَّم بكلمة مؤدِّية إلى الكفر: كفرت بهذه الكلمة، أي: من أجلها؛ فكذلك قوله: {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} والمعنى: من أجل حمله إيَّاهم على الشِّرك صاروا مشركين.
وقيل: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله، ويجوز أن يعود على» ربِّهِمْ «.
قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} والتَّبدِيل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وهو هنا النسخ.
قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها اعتراضٌ بين الشرط وجوابه.
والثاني: أنَّها حاليَّة؛ فعلى الأول يكون المعنى: والله أعلم بما ينزِّل من الناسخ والمنسوخ، والتغليظ والتخفيف، أي: هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، وهذا توبيخٌ للكفار على قولهم:» إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ «، أي: إذا كان هو أعلم بما ينزِّل، فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء؛ لأجل التَّبديل والنسخ، وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون حقيقة القرآن، وفائدة النسخ والتبديل، وأن ذلك لمصالح العباد، وقولهم:» إنَّما أنْتَ مُفتَرٍ «نسبوا إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الافتراء بأنواع من المبالغات وهي الحصر(12/156)
والخطاب، واسم الفاعل الدال على الثُّبوت والاستقرار، ومفعول» لا يعلمون «محذوف للعلم به، أي: لا يعلمون أنَّ في نسخ الشَّرائع وبعض القرآن حكماً بالغة.
قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} تقدَّم تفسيره في البقرة.
قال الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ:» رُوحُ القدس: جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - أضيف إلى القدس وهو الطُّهْر؛ كما تقول: حاتم الجُودِ، وزيد الخَيْرِ، والمراد: الرُّوح المقدس، وحاتم الدواد، وزيد الخيِّر «.
و» مِنْ «في قوله:» مِن رَّبِّكَ «صلة للقرآن، أي أن جبريل نزَّل القرآن من ربك؛ ليثبِّت الذين آمنوا، أي: ليبلوهم بالنسخ، حتَّى إذا قالوا فيه: هو الحقُّ من ربِّنا، حكم لهم بثبات القدم في الدِّين، وصحَّة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب.
قوله تعالى: {وَهُدًى وبشرى} يجوز أن يكون عطفاً على محلِّ» لِيُثبِّتَ «فينصبان، أو على لفظه باعتبار المصدر المؤوَّل؛ فيجران، والتقدير: تثبيتاً لهم، وإرشاداً وبشارة، وقد تقدم كلام الزمخشري في نظيرهما وما ردَّ به أبو حيَّان عليه وجوابه.
وجوَّز أبو البقاء ارتفاعهما خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو هدى، والجملة حال وقرئ: «لِيُثبتَ» مخففاً من «أثْبَت» .
فصل
قد تقدَّم أن أبا مسلم الأصفهاني ينكر النسخ في هذه الشريعة، فقال: المراد ههنا: وإذا بدَّلنا آية مكان آية، أي: في الكتب المتقدمة؛ مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الككعبة، قال المشركون: أنت مفترٍ في هذا التبديل، وأكثر المفسرين على خلافه، وقالوا: إن النسخ واقعٌ في هذه الشريعة.
فصل
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: القرآن لا ينسخ بالسنة؛ لقوله - تعالى -: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} وهذا يقتضي أن الآية لا تنسخ إلا بآية أخرى، وهذا ضعيف؛ لأن هذه الآية تدلُّ على أنَّه - تعالى - يبدِّل آية بآيةٍ أخرى، ولا دلالة فيها على أنه - تعالى - لا يبدِّل آية إلا بآيةٍ، وأيضاً: فجبريل - عليه السلام - قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية.
قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} الآية هذه حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وذلك لأنهم ك انوا يقولون: إن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - إنَّما يذكر هذه القصص، وهذه الكلمات إنما يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمُّها منه.(12/157)
واختلفوا في ذلك البشر: فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلِّم فتى بمكة اسمه «بلْعَام» ، وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان يقال له: أبو ميسرة، وكان يتكلم بالروميَّة، فكان المشركون يرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدخل عليه ويخرج، فكانوا يقولون: إنما يعلمه «بلعام» .
وق لعكرمة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقرئ غلاماً لبني المغيرة، يقال له: «يَعِيش» ، وكان يقرأ الكتب، فقالت قريش: إنما يعلمه «يَعِيش» .
وقال الفراء: كان اسمه «عائش» مملوك لحويطب بن عبد العزى، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وكان أجميًّا، وقيل: اسمه «عدَّاس» غلام «عتبة بن ربيعة» .
وقال ابن إسحاق: كان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام روميٍّ نصراني عبد لبني الحضرمي، يقال له: «جَبْر» ، وكان يقرأ الكتب، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا عبدان من أهل عين التَّمر، يقال لهما: يسار ويكنى: أبا فكيهة، وجبر، وكانا يصنعان السيوف بمكَّة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهما يقرآن، فيقف ويسمع.
قال الضحاك: وكان - صلوات الله وسلامه عليه - إذا آذاه الكفَّار يقعد إليهما، فيستروح بكلامهما، فقال المشركون: إنما يتعلَّم محمد منهما فنزلت الآية.
وقيل: سلمان الفارسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فكذبهم الله - تعالى - بقوله: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} .
قوله تعالى: {لِّسَانُ الذي} العامة على إضافة «لِسانُ» إلى ما بعده، والمراد باللسان هنا: القرآن، والعرب تقول للغة: لسان.
وقرأ الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: اللِّسان معرفاً ب «أل» ، و «الَّذِي» نعت له وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، قاله الزمخشري.
والثاني: أنَّها حال من فاعل «يَقُولونَ» ، أي: يقولون ذلك والحال هذه؛ أي: علمهم بأعجميَّة هذا البشر، وإبانة عربيَّة هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم من تلك(12/158)
المقالة؛ كقولك: تَشْتمُ فلاناً وهُو قَدْ أحْسنَ إليْكَ، أي: وعلمك بإحسانه إليك كان يمنعك من شتمه، قاله أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثم قال: «وإنَّما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف لا إلى الحال؛ لأن من مذهبه أنَّ مجيء الحال جملة اسميَّة من غير واو شاذٌّ، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء» .
و «أعجَميٌّ خبر على كلتا القراءتين، والإلحاد في اللغة: الميل، يقال: لَحَدَ وألْحَدَ؛ إذا مال عن القصد، ومنه يقال للعادل عن الحقِّ: مُلِْد.
وقرأ حمزة والكسائي:» يَلْحَدُونَ «بفتح الايء والحاء، والباقون بضم الياء وكسر الحاء.
قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والألى ضم الياء؛ لأنه لغة القرآن، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25] وتقدَّم خلاف القراء في المفتوح في الأعراف.
والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة؛ ومنه يقال: الْحَدت له لَحْداً؛ إذا حفرت له في جانب القبر مائلاً عن الاستواء، وقبر مُلْحَد ومَلْحُود، ومنه المُلْحِد؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلِّها، لم يمله عن دينٍ إلى دينٍ، وفسِّر الإلحاد في هذه الآية بالقولين.
قال الفراء: يَمِيلُون من المَيْلِ. وق لالزجاج: يَمِيلُونَ من الإمالةِ، أي: لسان الذي يميلون القول إليه أعجمي.
والأعجمي: قال أبو الفتح الموصلي:» تركيب «» ع ج م «وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء، وضدُّه البيان والإيضاح؛ ومنه قولهم: رَجُلٌ أعجم وامْرأةٌ عَجماء؛ إذا كانا لا يفصحان، والأعجمي: من لم يتكلم بالعربية. وقال الراغب: العجم خلاف العرب، والعجم منسوب إليهم، والأعجم: من في لسانه عجمه عربيًّا كان أو غير عربي؛ اعتباراً بقلَّة فهمه من العجمة.
والأعجمي منسوب إليه، ومنه قيل للبهيمة: عجماء؛ لأنها لا تفصح عما في نفسها، وصلوات النَّهار عجماء، أي: لا يجهر فيها، والعجَمُ: النَّوى لاختفائه.
قال بعضهم: معناه أن الحروف المجرَّدة لا تدلُّ على م اتدلُّ عليه الموصولة وأعْجَمتُ الكتابَ ضد أعربتهُ، وأعجمتهُ: أزلت عمتهُ؛ كأشْكَيتهُ: أزلتُ شِكايَتهُ.
قال الفراء وأحمد بن يحيى: الأعجم: هو الذي في لسانه عجمة، وإن كان من العرب، والأعجمي والعجمي: الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي: الذي لا(12/159)
يفصح سواءٌ كان من العرب أو من العجم؛ ألا ترى أنهم قالوا: زياد الأعجم؛ لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنَّه كان عربيًّا؟ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في «الشعراء» ، و «حم السجدة» .
وق لبعضهم: العجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحاً.
فصل
المعنى: إنَّ لسان الذي ينسبون التعلّم منه أعجمي، وهذا القرآن عربي فصيح، فتقرير هذا الجواب كأنه قال: هب أنه يتعلَّم المعاني من ذلك الأعجمي، إلا أنَّ القرآن إنَّما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة، فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل، إلا أن ذلك لا يقدح في المقصود؛ لأن القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته اللفظيَّة.
ولما ذكر - تعالى - هذا الجواب، أردفه بالتهديد؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله} قال القاضي: لا يهديهم إلى طريق الجنَّة لقوله بعده: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: أنهم لما تركوا الإيمان بالله، لا يهديهم الله إلى الجنَّة، بل يسوقهم إلى النَّار، ثم إنه - تعالى - بين كونهم كاذبين في ذلك القول، فقال - تعالى -: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وأولئك هُمُ الكاذبون} والمقصود منه أنه - تعالى - بيَّن في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح في المقصود، ثم بين في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصحَّ، وهم كذبوا فيه، والدليل على كذبهم وجوه:
أحدها: أنهم لا يؤمنون بآيات الله تعالى وهم كافرون، وإذا كان الأمر كذلك، كانوا أعداء للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وكلام العدو ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتَّهم.
وثانيها: أن التعلُّم لا يتأتَّى في جلسه واحدة ولا يتم بالخفية، بل التعلُّم إنما يتمُّ إذا اختلف المتعلِّم إلى المعلِّم أزمنة متطاولة، وإذا كان كذلك، اشتهر فيما بين [الخلق] أن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - يتعلم العلوم من فلان ومن فلان.
وثالثها: أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة، وتعلُّمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في العلم والتحقيق إلى هذا الحد، لكان مشاراً إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية الشريفة والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان؟
وإذا كان الأمر كذلك، فالطَّعن في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمثال هذه الكلمات الرَّكيكة يدلُّ(12/160)
على أن الحجة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت ظاهرة باهرة، وهذه الآية تدلُّ على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش؛ لأن كلمة «إنَّما» للحصر، والمعنى: أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله - تعالى -.
فإن قيل: قوله {لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} فعل، وقوله تعالى: {وأولئك هُمُ الكاذبون} اسم وعطف الجملة الاسميَّة على الجملة الفعلية قبيح فما السَّبب في حصولها ههنا؟ .
فالجواب: الفعل قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاص، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] ذكره بلفظ الفعل تنبيهاً على أن ذلك الحبس لا يدوم.
وقال فرعون لموسى: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29] ذكره بصيغة الاسم تنبيهاً على الدَّوام، وقالوا في قوله - تعالى -: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] لا يجوز أن يقال: إن آدم - صلوات الله وسلامه عليه - عاصٍ وغاوٍ؛ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدَّوام، وصيغة الاسم تفيده.
إذا عرفت هذه المقدمات، فقوله - تعالى -: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} تنبيه على أنَّ من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر.
ثم قال - جل ذكره - {وأولئك هُمُ الكاذبون} ؛ تنبيهاً على أن صفة [الكذب] فيهم ثابتة [راسخة] دائمة؛ كما تقول: كذبت، وأنت كاذب، فيكون قولك: «وأنت كاذب» زيادة في الوصف بالكذب، ومعناه: إنَّ عادتك أن تكون كاذباً.
واعلم أن الآية تدلُّعلى ان الكاذب المفتري هو الذي لا يؤمن بآيات الله، والأمر كذلك؛ لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهيَّة ونبوَّة الأنبياء، ولا معنى لهذا الإنكار.
روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قيل له: هَلْ يَكْذبُ المُؤمِنُ؟ قال: «لاَ» ثم قرأ هذه الآية.
قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بالله} يجوز فيه أوجه:
أحدهما: أن يكون بدلاً من «الَّذينَ لا يُؤمِنُونَ» ، أي: إنَّما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره، فلم يدخل تحت الافتراء.
الثاني: أنه بدل من «الكَاذبُونَ» .
الثالث: أنه بدلٌ من «أوْلئِكَ» ، قاله الزمخشري.
فعلى الأول يكون قوله: {وأولئك هُمُ الكاذبون} جملة معترضة بين البَدَل والمُبْدَل منه.(12/161)
واستضعف ابو حيَّان الأوجه الثلاثة؛ فقال: «لأن الأوَّل يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أن المفتري هو الذي لا يؤمن بالله سواء كان ممن كفر بعد إيمانه أو كان ممن لم يؤمن قطّ؛ بل الأكثر الثاني، وهو المفتري.
قال: وأما الثاني: فيؤول المعنى إلى ذلك؛ إذ التقدير: وأولئك، أي: الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون.
وأما الثالث: فكذلك؛ إذ التقدير: أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه، مخبراً عنهم بأنهم الكاذبون «.
الوجه الرابع: قال الزمخشري:» أن ينتصب على الذَّمِّ «.
قال ابن الخطيب: وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها من التَّعسُّف.
الخامس: أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر على الذَّمِّ.
السادس: أن يرتفع على الابتداء، والخبر محذوف، تقديره: فعليهم غضب؛ لدلالة ما بعد» مَنْ «الثانية عليه.
السابع: أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها وخبر» مَنْ «الثانية قوله:» فَعَليْهم غَضب «.
قال ابن عطية رَحِمَهُ اللَّهُ:» إذ هو واحد بالمعنى؛ لأنَّ الإخبار في قوله - تعالى -: {مَن كَفَرَ بالله} إنَّما قصد به الصنف الشارح بالكفر «.
قال أبو حيَّان:» وهذا وإن كان كما ذكر، إلا أنَّهما جملتان شرطيتان، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك، فلا بدَّ لكل واحدة منهما على انفرادها من جواب لا يشتركان فيه، فتقدير الحذف أجرى على صناعة الإعراب، وقد ضعَّفوا مذهب الأخفش في ادِّعائه أن قوله - تعالى -: {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 91] وقوله - جل ذكره -: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] جواب ل «أمَّا» و «إنْ» ، هذا، وهما أداتا شرط وليست إحداهما الأخرى «.
الثامن: أن تكون» مَنْ «شرطية، وجوابها مقدَّر، تقديره: فعليهم غضبٌ؛ لدلالة ما بعد» مَنْ «الثانية عليه، وقد تقدَّم أن ابن عطيَّة جعل الجزاء لهما معاً، وتقدم الكلام معه فيه.
قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} فيه أوجه:
أحدها: أنه مستثنى مقدم من قوله:» فأولئك عليهم غضب «وهذا يكون فيه منقطعاً؛ لأن المكره لم يشرح بالكفر صدراً.
وقال أبو البقاء: وقيل: ليس بمقدَّم؛ فهو كقول لبيد: [الطويل](12/162)
3360 - ألاَ كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطلُ..... ... ... ... ... ... .
فظاهر كلامه يدلُّ على أن بيت لبيد لا تقديم فيه، وليس كذلك؛ فإنه ظاهر في التقديم جدًّا.
الثاني: أنه مستثنى من جواب الشرط، أو من خبر المبتدأ المقدَّر، تقديره: لعليهم غضب من الاه إلا من أكره، ولذلك قدر الزمخشري جزاء الشَّرط قبل الاستثناء وهو استثناء متصل؛ لأنَّ الكفر يكون بالقول من غير اعتقاد كالمكره، وقد يكون - والعياذ بالله - باعتقاد، فاستثنى الصنف الأول.
{وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} جملة حاليَّة {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} في هذه الحالة، وهذا يدلُّ على أن محلَّ الإيمان القلب، والذي [محله] القلب إما الاعتقاد، وإما كلام النَّفس؛ فوجب أن يكون الإيمان عبارة: إما عن المعرفة، وإما عن التصديق بكلام النَّفس.
قوله تعالى: {ولكن مَّن شَرَحَ} الاستدراك واضح؛ لأن قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقاً، فاستدرك هذا، وقوله: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} لا ينفي ذلك الوهم، و» مَنْ «إما شرطية أو موصولة، ولكن متى جعلت شرطية، فلا بدَّ من إضمار مبتدأ قبلها، لأنه لا يليها الجمل الشرطيَّة، قاله أبو حيَّان؛ ثم قال: ومثله: [الطويل]
3361 - ... ... ... ... ... ... ..... ولكِنْ مَتى يَسْترفِدِ القَوْمُ أرْفدِ
أي: ولكن أنا متى يسترفد القوم.
وإنَّما لم تقع الشرطية بعد «لكِنْ» ؛ لأنَّ الاستدراك لا يقع في الشروط، هكذا قيل، وهو ممنوع.
وانتصب «صَدْراً» على أنه مفعول للشرح، والتقدير: ولكن من شرح بالكفر صدره، وحذف الضمير؛ لأنه لا يشكل بصدر غيره؛ إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره، فهو نكرةٌ يراد بها المعرفة، والمراد بقوله: {مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} ، أي: فتحه ووسعه لقبُول الكفر.
فصل
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: نزلت هذه الآية في عمَّار بن ياسر؛ وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمَّه سميَّة وصهيباً وبلالاً وخبَّاباً وسالماً فعذبوهم.
وأما سميَّة: فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ في قُبُلها بحربة، فقتلت وقتل زوجها، وهما أول قتيلين في الإسلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.(12/163)
وقال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر، وخبَّاب، وصهيب، وبلال، وعمَّار، وسميَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
أما الرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فمنعه قومه، وأخذ الآخرون، وألبسوا الدروع الحديد، ثم أجلسوهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد لحرِّ الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويشتم سميَّة، ثم طعنها في فرجها بحربة.
وقال آخرون: ما نالوا منهم غير بلال؛ فإنهم جعلوا يعذِّبونه، ويقول: أحَدٌ أحَدٌ، حتى ملوه فتركوه.
وقال خبَّاب: ولقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري، وقال مقاتل: نزلت في جبر مولى عامر الحضرمي، أكرهه سيِّده على الكفر، فكفر مكرهاً وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامهما، وهاجر جبر مع سيِّده.
فصل
الإكراه الذي يجوز عنده التلفُّظ بكلمة الكفر: هو أن يعذِّب بعذابٍ لا طاقة له به؛ مثل: التَّخويف بالقتل؛ ومثل الضَّرب الشَّديد، والإتلافات القويَّة، وأجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرئ قلبه عن الرِّضا، وأن يقتصر على التَّعريضات؛ مثل أن يقول: إن محمداً كذَّاب، ويعني عند الكفار أو يعني به محمَّداً آخر، أو يذكره على نيَّة الاستفهام بمعنى الإنكار، وهنا بحثان:
الأول: أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النيَّة، أو لأنه لمَّا عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النيَّة كان ملوماً وعفو الله متوقَّع.
البحث الثاني: لو ضيَّق المكره الأمر عليه وشرح له أقسام التَّعريضات، وطلب منه أن يصرِّح بأنه ما أراد شيئاً منها، وما أراد إلاَّ ذلك المعنى - فههنا يتعيَّن إما التزام الكذب، وإما تعريض النفس للقتل، فمن الناس من قال: يباح له الكذب ههنا، ومنهم من قال: ليس له ذلك، وهو الذي اختاره القاضي؛ قال: لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً، فوجب أن يقبح على كل حال، ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح، لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح، وحينئذٍ لا يبقى وثوق بوعد الله ولا وعيده؛ لاحتمال أنَّه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله - تعالى -.
فصل
أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن بلالاً صبر على العذاب، وكان يقول: أحد أحد، ولم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(12/164)
بئس ما صنعت، بل عظَّمه عليه، فدل ذلك على أنه لا يجب التكلُّم بكلمة الكفر.
وثانيها: ما روي أن مسيلمة الكذَّاب أخذ رجلين، فقال لأحدهما: ما تقول في محمَّد؟ فقال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: ما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضاً فتركه، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، فقال: ما تقول فيَّ؟ قال: أنا أصمُّ، فأعاد عليه ثلاثاً، فأاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني: فقد صدع بالحقِّ، فهنيئاً له فسمَّى التلفظ بكلمة الكفر رخصة، وعظَّم حال من أمسك عنه حتى قتل.
وثالثها: أن بذل [النفس] في تقرير الحق أشق، فوجب أن يكون أكثر ثواباً؛ لقوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «أفْضَلُ العِبادَاتِ أحْمزُهَا» أي: أشقُّها.
ورابعها: أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهَّر قلبه ولسانه عن الكفر، وأمَّا الذي تلفَّظ بها فهب أن قلبه طاهرٌ، إلا أنَّ لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة؛ فوجب أن يكون حال الأول أفضل.
فصل
الإكراه له مراتب:
أحدها: أن يجب الفعل المكروه عليه؛ كما لو أكره على شرب الخمر، وأكل الخنزير، وأكل الميتة، فإذا أكره عليه بالسَّيف فهاهنا، يجب الأكل؛ وذلك لأن صون الرُّوح عن الفواتِ واجبٌ، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بالأكل، وليس في هذا(12/165)
الأكل ضررٌ على حيوان، وإلا إهانةٌ لحقِّ الله، فوجب أن يجب؛ لقوله - تعالى -: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] .
المرتبة الثانية: أن يصير ذل كالفعل مباحاً ولا يصير واجباص؛ كما لو أكره على التلفُّظ بكلمة الكفر، فههنا يباح له ذلك، ولكنه لا يجب.
المرتبة الثالثة: أنه لا يجب ولا يباح، بل يحرم؛ كما لو أكرهه إنسان على قتل إنسان، أو على قطع عضو من أعضائه، فههنا يبقى الفعل على الحرمةِ الأصلية، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا؟ .
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أحد قوليه: يجب القصاص؛ لأنَّه قتله عمداً عدواناً، فوجب عليه القصاص؛ لقوله - تعالى -: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] ، وأيضاً: أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنَّ له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل، فلما كان يوهم إقدامه على القتل، أوجب إهداء دمه، فلأن يكون عند صدور القتل عنه حقيقة يصير دمه مهدراً أولى.
فصل
من الأفعال ما يمكن الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر، ومنها ما لا يقبل الإكراه، قيل: وهو الزِّنا؛ لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد، وذلك يمنعُ من انتشار الآلة، فحيث دخل الزِّنا في الوجود، دل على أنَّه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه.
وقيل: الإكراه على الزِّنا مقصور؛ كما لو انتشر ذكره وهو نائمٌ فاستدخلته المرأة في تلك الحالة، أو كان به مرض الانتصاب، فلا يزال منتشراً، أو علم أنَّه لا يخلص من الإكراه إلا باستحضار الأسباب الموجبة للانتشار.
فصل
قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ذهب بعض العلماء إلى أنَّ الرُّخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه؛ مثل أن يكره على السُّجود لغير الله تعالى أو الصَّلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم، أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزِّنا، أو شرب الخمر، أو أكل الرِّبا، روي ذلك عن الحسن البصري، وهو قول الأوزاعي والشافعي وبعض المالكيَّة - رضي الله تعالى عنهم -.
فصل
قال القرطبي: وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان:
الأول: أن يبيع ماله في حق وجوب عليه، فذلك ماضٍ سائغ لا رجوع فيه؛ لأنَّه(12/166)
يلزمه أداء الحقِّ من غير المبيع، وأما بيع المكره ظلماً أو قهراً، فذلك لا يجوز عليه، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثَّمن ذلك الظالم فإنْ فات المتاع، رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم لظلمه، وأما يمين المكره فغير لازمةٍ عند مالك والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وأكثر العلماء، قال ابن العربي: «واختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع أم لا؟» .
قال ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ: «وأي فرقٍ بين الإكراه على اليمين في أنَّها لا تلزم، وبين الحنث في أنه لا يقع» .
فصل
إذا أكره الرَّجل على أن يحلف وإلاَّ أخذ ماله، فقال مالك: لا تقيَّة في المال، فإنَّما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه.
وقال ابن الماجشون: «لا يحنث وإن درأ عن ماله أيضاً» .
قال القرطبي: وأجمع العلماء على أنَّ من أكره على الكفر فاختار القتل، أنَّه يكون أعظم أجراً عند الله ممَّن اختار الرخصة «.
فصل
قال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لا يقع طلاق المكره، وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يقع.
واستدلَّ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بقوله - تعالى -: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته؛ لأن ذاته موجودة؛ فوجب حمله على نفي آثاره، أي: لا أثر له ولا عبرة به، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «رُفِعَ عن أمَّتي الخَطأ والنِّسيَانُ وما اسْتكْرِهُوا عليْهِ» .
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا طَلاقَ في إغلاقٍ» ، أي: إكراه.
فإن قالوا طلقها، فيدخل تحت قوله - تعالى -: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 230] .
فالجواب: لمَّا تعارضت الدلائل، وجب أن يبقى ما كان على ما كان هو لنا.
فصل
قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وأما نكاح المكره: فقال سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة وقالوا: لا يجوز المقام عليه؛ لأنَّه لم ينعقد، فإن وطئها المكره على النِّكاح، لزمه المسمَّى من الصَّداق ولا حد عليه» .(12/167)
قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله} أي: إنه - تعالى - حكم عليهم بالعذاب، ثم وصف ذلك العذاب فقال - تعالى -: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
قوله: {ذلك بِأَنَّهُمُ} مبتدأ وخبره؛ كما تقدم، والإشارة ب «ذلك» إلى ما ذكر من الغضب والعذاب؛ ولذلك وحَّد، كقوله: «بين ذلك» و: [الرجز]
3362 - كَأنَّهُ في الجِلْدِ..... ... ... ... ...
قوله: {استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} أي: ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر؛ لأجل أنَّهم رجَّحوا الدنيا على الآخرة، {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي: ذلك الارتداد إنما حصل لأجل أنه - تعالى - ما هداهم إلى الإيمان، وما عصمهم عن الكفر.
قال القاضي: المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنَّة، وهذا ضعيف؛ لأن قوله - تعالى -: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} معطوف على قوله: {ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} فوجب أن يكون قوله: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} علَّة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد ولا علَّة، بل كسباً عنه ولا معلولاً له، فبطل هذا التَّأويل.
ثم أكد أنه - تعالى - صرفهم عن الإيمان؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} قال القاضي: الطبع ليس يمنع من الإيمان لوجوه:
الأول: أنه - تعالى - أشرك ذكر ذلك في معرض الذَّم، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذَّم بتركه.
الثاني: أنه - تعالى - أشرك بين السَّمع، والبصر، والقلب في هذا الطبع، ومعلوم أن مع فقد السمع والبصر قد يصحُّ أن يكون مؤمناً، فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب.
الثالث: وصفهم بالغفلة، ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه، فثبت أن المراد بهذا الطَّبع السِّمة والعلامة التي يخلقها في القلب، وتقدَّم الجواب في أول سورة البقرة.
ثم قال - تعالى -: {وأولئك هُمُ الغافلون} قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أي: عما يراد بهم في الآخرة.
ثم قال: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} ، أي: المغبونون، والموجب لهذا الخسران أنه - تعالى - وصفهم بصفاتٍ ستة:(12/168)
أولها: أنهم استوجبوا غضب الله.
وثانيها: أنَّهم استحقُّوا العذاب الأليمَ.
وثالثها: أنَّهم استحبُّوا الحياة الدُّنيا على الآخرة.
ورابعها: أنه - تعالى - حرمهم من الهِدايةِ.
وخامسها: أنه - تعالى - طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
وسادسها: أنه - تعالى - جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة، فكل واحد من هذه الصِّفات من أعظم الموانع عن الفوز بالسعادات والخيرات، ومعلوم أنه - تعالى - إنما أدخل الإنسان في الدنيا؛ ليكون كالتَّاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة، عظم خسرانه؛ فلهذا قال - تعالى -: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} أي هم الخاسرون لا غيرهم.
قوله - تعالى -: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ} الآية لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحال من أكره على الكفر ذكر [بعده] حال من هاجر من بعد ما فتن.
في خبر «إنَّ» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: قوله - تعالى -: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، و «إنَّ ربَّكَ» الثانية، واسمها تأكيد للأولى واسمها؛ فكأنه قيل: ثمَّ إنَّ ربّك إنَّ ربَّك لغفور رحيم، وحينئذ يجوز في قوله: «للَّذِينَ» وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بالخبرين على سبيل النتازع، أو بمحذوف على سبيل البيان؛ كأنه قيل: الغفران والرحمة للَّذين هاجروا.
الثاني: أن الخبر هو نفس الجار بعدها؛ كما تقول: إنَّ زيداً لك، أي: هو لك لا عليك، بمعنى: هو ناصرهم لا خاذلهم، قال معناه الزمخشري، ثم قال: «كما يكون الملك للرجل لا عليه، فيكون محميًّا منفُوعاً غير مضرورٍ» .
قال شهاب الدِّين: «قد يتوهَّم أن قوله:» مَنْفُوعاً «استعمال غير جائز؛ لما قاله الأهوازي عليه رحمة الله في شرح موجز الرماني: إنَّه لا يقال: مَنْفُوع» اسم مفعول من نفعته، فإن الناس قد ردُّوا على الأهوازي «.
الثالث: أن خبر الأولى مستغنًى عنه بخبر القانية، يعني: أنه محذوف لفظاً؛ لدلالة ما بعده عليه، وهذا معنى قول أبي البقاء:» وقيل: لا خبر ل «إنَّ» الأولى في اللَّفظ؛ لأنَّ خبر الثانية أغنى عنه «.
وحينئذ لا يحسن ردُّ أبي حيَّان عليه بقوله: «وهذا ليس بجيّد؛ لأنه ألغى حكم الأولى، وجعل الحكم للثانية، وهو عكس ما تقدَّم، وهو لا يجوز» .(12/169)
قوله: {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} قرأ ابن عامر: «فَتَنُوا» مبنيًّا للفاعل، أي: فتنوا أنفسهم فإن عاد الضمير على المؤمنين، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهراً، أو أنهم صبروا على عذاب المشركين، فكأنهم فتنوا أنفسهم.
وإن عاد على المشركين، فهو واضح، أي: فتنوا المؤمنين.
والباقون «فُتِنُوا» مبنياً للمفعول، والضمير في «بَعْدهَا» للمصادر المفهومة من الأفعال المتقدمة، أي: من بعد الفتنة، والهجرة، والجهاد.
وقال ابن عطيَّة: «عائدٌ على الفتنة، أو الفتنة والهجرة أو الجهاد أو التوبة» .
فصل
وجه القراءة الأولى أمور:
الأول: أن يكون المراد أنَّ أكابر المشركين - وهم الذين آذوا فقراء المسلمين - لو تابوا وهاجروا وصبروا، فإنَّ الله يقبل توبتهم.
والثاني: أن «فَتَن» و «أفْتنَ» بمعنى واحد؛ كما يقال: مَانَ وأمَان بمعنى واحد.
والثالث: أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقيَّة؛ فكأنهم فتنوا أنفسهم؛ لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت.
وأما وجه القراءة الثانية فظاهر؛ لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم المشركون على الرجوع عن الإيمان، فبين - تعالى - أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا، فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم كلمة الكفر.
فصل
يحتمل أن يكون المراد بالفتنةِ: هو وأنهم عذِّبوا، وأنهم خوِّفوا بالتَّعذيب، ويحتمل أن يكون المراد: أن أولئك المسلمين ارتدُّوا.
وقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكَّة، فعرضت لهم فتنة فارتدُّوا، وشكُّوا في الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ثم أسلموا وهاجروا، ونزلت هذه الآية فيهم.
وقيل: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان يكتب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاستزلَّه الشيطان فلحق بالكفَّار، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم فتح مكَّة بقتله، فاستجار له عثمان، وكان أخاهُ(12/170)
لأمه، فأجاره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم إنه أسلم وحسن إسلامه فأنزل الله هذه الآية؛ قاله الحسن وعكرمة.
وهذه الرِّواية إنا تصحُّ إذا جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنيَّة، ويحتمل أن يكون المراد: أنَّ أولئك الضعفاء المعذَّبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقيَّة، فقوله: {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} يحتمل كلَّ واحدٍ من هذه الوجوه، وليس في اللفظ ما يدل على التَّعيين.
وإذا كان كذلك، فهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره، وإن كانت نازلة فيمن ارتدَّ، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب، ويحصل له الغفران والرحمة.
قوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} يجوز أن ينتصب «يَوْمَ» ب «رَحِيمٌ» ولا يلزم من ذلك [تقييد] رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رحم في هذا اليوم، فرحمته في غيره أحرى وأولى.
وأن ينتصب ب «اذكُر» مقدَّرة، وراعى معنى «كل» فأنث الضمائر في قوله «تُجَادلُ ... إلى آخره» ؛ ومثله قوله: [الكامل]
3363 - جَادَتْ عَليْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتركْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كالدَّرهَمِ
إلا أنه زاد في البيت الجمع على المعنى، وقد تقدَّم أول الكتاب.
وقوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} حملاً على المعنى؛ فلذلك جمع.
فإن قيل: النَّفس لا تكون لها نفس أخرى، فما معنى قوله: «تُجادِلُ عن نَفْسِهَا» ؟ .
فالجواب: أن النَّفْس قد يراد بها بدن [الإنسان] الحيّ، وقد يراد بها ذات الشيء وحقيقته، فالنفس الأولى هي الجثَّة والبدن، والثانية: عينها وذاتها؛ فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، ولا يهمه شأن غيره، قال - تعالى -: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] .
روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال لكعب الأحبار: خوِّفنا، قال يا أمير المؤمنين: والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيًّا، لأتت عليك تارات وأنت لا يهمُّك إلا نفسك، وإن لجهنَّم زفرة ما يبقى ملك مقرَّب، ولا نبي مرسلٌ غلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتَّى إن إبراهيم خليل الرحمن - صلوات الله وسلامه عليه - ليدلي بالخلَّة فيقول: يا ربِّ، أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا نفسي، وأن تصديق(12/171)
ذلك الذي أنزل عليكم: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار؛ كقولهم: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار؛ كقولهم: {هؤلاء أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38] ، وكقولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] .
{وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} فيه محذوف، أي: جزاء ما عملت من غير بخسٍ ولا نقصان، {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا ينقصون.
روى عكرمة عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في هذه الآية قال: «ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تخاصم الرُّوح الجسد، فتقول الرُّوح: يا رب، لم تكن لي يدٌ أبطش بها، ولا رجلٌ أمشي بها، ولا عينٌ أبصر بها، ولا أذن أسمع بها، ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعِّف عليه أنواع العذاب، ونجِّني، ويقول الجسد: يا ربِّ، أنت خلقتني بيدك، فكنت كالخشبة، وليس لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عينٌ أبصر بها، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشُعَاع النُّور، فيه نطق لساني، وأبصرت عيني، ومشت رجلي، وسمعت أذني، فضعِّف عليه أنواع العذاب، ونجِّني منه، قال: فيضرب الله لهما مثلاً؛ أعمى ومقعداً دخلا [بستاناً] فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثَّمر، والمقعد لا يتناوله، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر، [فغشيهما] العذاب» .(12/172)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
قوله - تعالى -: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} الآية.
اعلم أنه - تعالى - هدَّد الكفار بالوعيد الشَّديد في الآخرة، وهدَّدهم أيضاً بآفاتِ الدنيا، وهي الوقوع في الجوع والخوف؛ كما ذكر - تعالى - في هذه الآية.
واعلم أن المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معيَّنة، سواءٌ كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن، وقد يضرب بشيء موجود معيَّن، فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة.
فعلى الأول، قيل: إنها مكَّة، كانت آمنة، لا يهاجُ أهلها ولا يغار عليها، مطمئنة(12/172)
قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتجاع كما يفعله سائر العرب، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ} يحمل إليها من البرِّ والبحر، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} جمع النِّعمة، وقيل: جمع نُعمى، مثل: بؤسَى وأبؤس فأذاقهم لباس الجوع، ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين، وقطعت العرب عنهم المِيرة بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة، والجيف، والكلاب الميَّتة والعلهز: وهو الوبر يعالج بالدَّم.
قال ابن الخطيب: والأقرب أنَّها غير مكَّة؛ لأنها ضربت مثلاً لمكَّة، ومثل مكَّة يكون غير مكَّة.
وهذا مثل أهل مكة؛ لأنَّهم كانوا في الطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنِّعمة العظيمة، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكفروا به، وبالغوا في إيذائه، فسلَّط الله عليهم البلاء، وعذَّبهم بالجوع سبع سنين، وأمَّا الخوف فكان يبعث إليهم السَّرايا فيغيرون عليهم. وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أنه - تعالى - وصف القرية بصفات:
أحدها: كونها آمنة، والمراد: أهلها، لأنها مكان الأمن، ثم قال «مُطْمَئنَّةٌ» ، والاطمئنان هو الأمن، فلزم التَّكرار.
والجواب: أن قوله: «آمِنَ"ً» إشارة إلى الأمن، وقوله: «مُطْمَئِنَّةً» إشارة إلى الصحَّة؛ لأن هواء هذه البلد لمَّا كان ملائماً لأمزجتهم، فلذلك اطمأنُّوا واستقرُّوا فيه؛ قال العقلاء: [الرجز]
3364 - ثَلاثَةٌ ليْسَ لهَا نِهايَهْ ... الأمْنُ والصِّحَّةُ والكِفايَهْ
السؤال الثاني: الأنعم جمع قلَّة، فكان المعنى: أنّ أهْلَ تلك القريةِ كفرت بأنواعٍ قليلة من نعم الله، فعذبها الله، وكان اللائقُ أن يقال: إنهم كفروا بنعم عظيمة لله تعالى، فاستوجبوا العذاب، فما السَّبب في ذكر جمع القلَّة؟ .
والجواب: أن المقصود التَّنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني: أنَّ كفران النِّعم القليلة لما أوجب العذاب، فكفران النِّعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب.
و «أنْعُم» فيها قولان:
أحدهما: أنها جمع «نِعْمة» ؛ نحو: «شِدَّة وأشُدّ» . قال الزمخشري: «جمع نِعْمَة على ترك الاعتداد بالتاء؛ كدِرْع وأدْرُع» .
وقال قطرب: هي جمع «نُعْم» ، والنُّعم: النَّعيم؛ يقال: «هذه أيَّام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُومُوا» .(12/173)
السؤال الثالث: نقل أن ابن الرَّاونْدِي قال لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللِّباس؟ قال ابن الأعرابي: لا باس ولا لباس؛ يا أيُّها النِّسْنَاس، هب أنَّك تشكُّ أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نبيًّا أَوَما كان عربيًّا؟ وكان مقصود ابن الرَّاوندِي الطَّعنَ في هذه الآية، وهو أن اللِّباس لا يذاق بل يلبس، فكان الواجب أن يقال: فكساهم الله لِبَاس الجوع، أو يقال: فأذاقهم الله طعم الجوع.
والجواب: من وجوه:
الأول: أن ما أصابهم من الهزال والشحوب، وتغيير ظاهرهم عمَّا كانوا عليه من قبل كاللِّباس لهم.
الثاني: أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان:
أحدهما: المذوق هو الطَّعام، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع.
والثاني: أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً، فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهاتِ، فأشبه اللِّباس.
فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر تعالى كلا الاعتبارين، فقال: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} .
الثالث: أن التقدير: عرفها الله لباس الجوع والخوف، إلا أنه - تعالى - عبَّر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذَّوق بالفم، ثم يستعار فيوضع موضع التعريف والاختيار الذَّواق بالفم، تقول: ناظر فلاناً وذُقْ ما عنده؛ قال الشاعر: [الطويل]
3365 - ومَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فإنِّي طَعِمْتُها ... وسِيقَ إليْنَا عَذْبُهَا وعَذابُهَا
ولباس الجوع والخوف: ما ظهر عليهم من الضمور، وشحوب اللون، ونهكة البدن وتغيُّر الحال؛ كما تقول: تعرَّفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان، فكذقتُ لباس الجوع والخوف على فلان.
الرابع: أن يحمل لفظ اللباس على المماسَّة، فصار التقدير: فأذاقها الله مساس الجوع والخوف.
ثم قال - تعالى -: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد تكذيبهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإخراجه من مكَّة وهمهم بقتله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الفراء: ولم يقل بما صنعت، ومثله في القرآن كثير؛ كقوله: {فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] ولم يقل: قائلة.
وتحقيق الكلام: أنه - تعالى - وصف القرية بأنَّها مطمئنَّة يأتيها رزقها رغداً فكفرت(12/174)
بأنعم الله، فكلّ هذه الصِّفات وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية، إلا أن المراد في الحقيقة أهل القرية، فلذلك قال: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} .
قوله: «والخَوْفِ» العامة على جرِّ «الخَوْفِ» نسقاً على «الجُوعِ» ، وروي عن أبي عمرو نصبه، وفيه [أوجه] :
أحدها: أنه يعطف على «لِباسَ» .
الثاني: أنه يعطف على موضع الجوع؛ لأنه مفعول في المعنى للمصدر، التقدير أي: ألبسهم الجوع والخوف، قاله أبو البقاء.
وهو بعيد؛ لأن اللباس اسم ما يلبس وهو استعارة بليغة.
الثالث: أن ينتصب بإضمار فعل؛ قاله أبو الفضل الرَّازي.
الرابع: أ، يكون على حذف مضافٍ، أي: ولباس الخوف، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، قاله الزمخشري.
ووجه الاستعارة ما قال الزمخشري: «فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحَّتهما والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحَّة إيقاعها عليه؟ .
قلت: الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة؛ لشيوعها في البلايا، والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلانٌ البؤس والضر وإذاقة العذاب شبَّه ما يُدْرك من أثر الضَّرر والألم، بما يُدْرَك من طعم المُرّ والبشع، وأما اللِّباس فقد شُبِّه به؛ لاشتماله على اللاَّبس ما غشي الإنسان، والتبس به من بعض الحوادث، وأمَّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنَّه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس؛ فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في هذا طريقان:
أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظروا إليه ههنا؛ ونهحوه قول كثيرة عزَّة: [الكامل]
3366 - غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبسَّمَ ضَاحِكاً ... غَلقَتْ لِضَْكتِهِ رِقَابُ المَالِ
استعار الرداء للمعروف، لأه يصون عرض صاحبه صون الرِّداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنَّوال لا وصف الرداء؛ نظراً إلى المستعار له.
والثاني: أن ينظر فيه إلى المستعار؛ كقوله: [الوافر](12/175)
3367 - يُنَازِعُنِي رِدائِي عَبْدُ عَمرٍو ... رُوَيْدكَ يا أخَا عَمْرِو بِنِ بَكْرِ
لِيَ الشَّطْرُ الذي مَلكَتْ يَمِينِي ... ودُونكَ فاعْتَجِرْ مِنْهُ بشَطْرِ
أراد بردائه: سيفه، ثم قال:» فاعْتَجْرْ منهُ بِشطْرٍ «فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال: فكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير: صافي الرِّداء إذا تبسَّم ضاحكاً» انتهى.
وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة.
وقال ابن عطية: لمَّا باشرهم، صار ذلك كاللِّباس؛ وهذا كقول الأعشى: [المتقارب]
3368 - إذَا ما الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدهَا ... تَثَنَّتْ عَليْهِ فَكانَتْ لِبَاسَا
ومثله قوله - تعالى -: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] ؛ ومثله قول الشاعر: [الطويل]
3369 - وَقَدْ لَبِستْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجاشِعٌ ... لِباسَ الَّتي حَاضَتْ ولمْ تَغْسل الدِّمَا
كأن العار لما باشرهم ولصق بهم، كأنهم لبسوه.
وقوله: «فأذَاقَهَا» نظير قوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] ؛ ونظيره قول الشاعر: [الرجز]
3370 - دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فاحْسُ وذُقْ ... وفي قراءة عبد الله: «فأذاقها الله الخوف والجوع» وفي مصحف أبيّ: «لِبَاسَ الخَوفِ والجُوعِ» .
قوله: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} يجوز أن تكون «مَا» مصدريَّة أو بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: بسبب صنعهم، أو بسبب الذي كانوا يصنعونه.
والواو في «يَصْنعُونَ» عائدة على «أهْل» المقدَّر قبل «قَرْيةٍ» ، ونظيره قوله: {أَوْ هُمْ(12/176)
قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] بعد قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] .
قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ} الآية لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال: «ولقَدْ جَاءَهُم» يعني: أهل مكة، «رسُولٌ مِنهُمْ» ، أي: من أنفسهم يعني: محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب} قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يعني الجوع.
وقيل: القتل يوم بدر، والأول أولى؛ لقوله - تعالى - بعده: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واشكروا نِعْمَةَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، أي: إنَّ ذلك الجوع بسبب كفرهم، فاتركوا الكفر حتى تأكلوا.
وقوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} [المائدة: 88] ، أي من [الغنائم] ؛ قاله ابن عبَّاس - رضي اله عنه -.
وقال الكلبي: «إن رؤساء مكَّة كلَّموا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين جهدوا، وقالوا: عاديت الرِّجال، فما بال النِّساء والصِّبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأذن بحمل الطعام إليهم» .
قوله تعالى: {واشكروا نِعْمَةَ الله} صرَّح هنا بالنِّعمة؛ لتقدم ذكرها مع من كفر بها، ولم يجئ ذلك في البقرة، بل قال: {واشكروا للَّهِ} [البقرة: 172] لما تقدَّم ذلك، وتقدَّم نظير ما هنا.(12/177)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
قوله - تعالى -: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} الآية وقد تقدَّم الكلام عليها في سورة البقرة، وحصر المحرَّمات في هذه الأشياء الأربعة مذكور عليها في سورة الأنعام؛ عند قوله - تعالى -: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: 145] ، وفي سورة المائدة في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] ، وأجمعوا على أن المراد بقوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} هو قوله - تعالى - في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 173] وقوله - تعالى -: {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فهذه الأشياء داخلة في الميتة. ثم قال - تعالى -: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] وهذا أحد الأقسام الداخلة تحت قوله {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 173] ، فثبت أن هذه السُّور الأربعة دالَّة على حصر المحرَّمات، فيها سورتان مكِّيتان، وسورتان مدنيَّتان، فإن البقرة مدنيّة، وسورة المائدة(12/177)
من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة، إلا ما خصَّه الإجماع والدلائل القاطعة ك ان في محلِّ أن يخشى عليه؛ لأن هذه السورة دلَّت على أن حصر المحرَّمات في هذه الأربعة كان مشروعاً ثابتاً في أول زمان مكَّة وآخره، وأول زمان المدينة وآخره وأنه - تعالى - أعاد هذا البيان في هذه السورة، قطعاً للأعذار وإزالة للرِّيبة.
قوله - تعالى -: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} الآية لما حصر المحرَّمات في تلك الأربعة، بالغ في تأكيد زيادة الحصر، وزيف طريقة الكفَّار في الزِّيادة على هذه الأشياء الأربعة تارة، وفي النُّقصان عنها أخرى؛ فإنَّهم كانوا يُحرِّمُونَ البَحيرةَ والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَام، وكانوا يقولون: {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَ} [الأنعام: 139] فقد زادوا في المحرَّمات وزادوا أيضاً في المحلَّلات؛ لأنهم حلَّلوا الميتة، والدَّم، ولحم الخنزير، وما أهلَّ به لغير الله، فبيَّن - تعالى - أن المحرَّمات هذه هي الأربعة، وبيَّن أن الأشياء التي يقولون: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، كذبٌ وافتراء على الله تعالى، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب.
قوله: «الكَذِبَ» العامة على فتح الكاف، وكسر الذَّال، ونصب الباء، وفيه أربعة أوجه: أظهرها: أنه منصوب على المفعول به، وناصبه: «تَصِفُ» ، و «مَا» مصدرية ويكون معمول القول الجملة من قوله: {هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} ، و «لِمَا تَصفُ» علّة للنَّهْي عن قول ذلك، أي: ولا تقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ؛ لأجل وصف ألسنتكم بالكذب، وإلى هذا نحا الزجاج [رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى] والكسائي.
والمعنى: لا تحلِّلُوا ولا تحرِّمُوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجَّة.
فإن قيل: حمل الآية عليه يؤدِّي إلى التِّكرار؛ لأن قوله: {لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} ليحصل فيه هذا البيان الزَّائد؛ ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاماً، ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة.
الثاني: أن ينتصب مفعولاً به للقول، ويكون قوله: «هذَا حَلالٌ» بدلاً من «الكَذِب» ؛ لأنه عينه، أو يكون مفعولاً بمضمر، أي: فيقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، و «لِمَا تَصِفُ» علَّة أيضاً، والتقدير: ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم، وهل يجوز أن تكون المسألة من باب التَّنازع على هذا الوجه؛ وذلك أن القول يطلب الكذب، و «تَصِفُ» أيضاً يطلبه، اي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه السنتكم، وفيه نظر.
الثالث: أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على «مَا» ، إذا قلنا: إنَّها بمعنى(12/178)
الذي، والتقدير: لما تصفه، ذكر ذلك الحوفي وأبو البقاء رحمهما الله تعالى.
الرابع: أن ينتصب بإضمار أعني؛ ذكره أبو البقاء، ولا حاجة إليه ولا معنى عليه.
وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة: «الكَذبِ» بالخفض، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه بدلٌ من الموصول، أي: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذب، جعله نفس الكذب؛ لأنَّه هو.
والثاني: - ذكره الزمخشري -: أن يكون نعتاً ل «مَا» المصدرية.
ورده أبو حيَّان: بأن النُّحاة نصُّوا على أن المصدر المنسبك من «أنْ» والفعل لا ينعت؛ لا يقال: يُعْجِبني أن تخرج السريع، ولا فرق بين باقي الحروف المصدرية وبين «أنْ» في النَّعت.
وقرأ ابن أبي عبلة، ومعاذ بن جبل - رحمهما الله -: بضمِّ الكاف والذَّال، ورفع الباء صفة للألسنة، جمع كذوب؛ كصَبُور وصُبُر، أو جمع كَاذِب، كشَارِف وشُرُف، أو جمع كَذَّاب؛ نحو «كتَّاب وكُتُب» ، وقرأ مسلمة بن محارب فيما نقله ابن عطيَّة كذلك، إلا أنه نصب الباء، وفيه ثلاثة أوجهٍ ذكرها الزمخشري:
أحدها: أن تكون منصوبة على الشَّتم، يعني: وهي في الأصل نعت للألسنة؛ كما في القراءة قبلها.
الثاني: أن تكون بمعنى الكلم الكواذب، يعني: أنها مفعول بها، والعامل فيها إما «تَصِفُ» ، وإمَّا القول على ما مرَّ، أي: لا تقولوا الكلم الكواذب أو لما تصف ألسنتكم الكلم الكواذب.
الثالث: أن يكون جمع الكذاب، من قولك: كذب كذاباً، يعني: فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه من معنى وصف الألسنة، فيكون نحو: كُتُب في جمع كِتَاب.
وقد قرأ الكسائي: «ولا كِذَاباً» بالتخفيف، كما سيأتي في سورة النبأ إن شاء الله - تعالى -.
واعلم أن قوله: {تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} من فصيح الكلام وبليغه، كأن ماهيَّة الكذب وحقيقته مجهولة، وكلامهم الكذب يكشف عن حقيقة الكذب، ويوذِّح ماهيته، وهذه مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذباً؛ ونظيره قول ابي العلاء المعريِّ: [الوافر]
3371 - سَرَى بَرْقُ المَعرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ ... فَباتَ بِرامَةٍ يَصِفُ الكَلالا(12/179)
المعنى: إذا سرى ذلك البرق يصف الكلال، فكذا هاهنا.
فصل
وروى الدَّارمي بإسناده عن الأعمش قال: «ما سمعت إبراهيم قط يقول: حلالاً ولا حراماً، ولكن كان يقول: كانوا يتكرَّهون، وكان يستحبُّون» وقال ابن وهب: قال مالك: لم يكن من فتيا النَّاس أن يقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، ولكن يقولوا: إيَّاكم كذا وكذا، لم أكن لأصنع هذا، ومعنى هذا: أن التَّحليل والتَّحريم إنَّما هو لله - عَزَّ وَجَلَّ - وليس لأحد أن يقول أو يصرِّح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون الباري - سبحانه وتعالى - فيخبر بذلك عنه، فأما ما يئول إليه اجتهاده، فإنه يحرم عليه أن يقول ذلك، بل يقول: إني أكره كما كان مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يفعل.
قوله: «لِتَفْتَرُوا» في هذه اللاَّم ثلاثة أوجه:
أحدها: قال الواحدي: إنه بدلٌ من «لِما تَصِفُ» ؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراءٌ [على الله] .
قال أبو حيَّان: «وهو على تقدير جعل» ما «مصدرية، أما إذا كانت بمعنى الذي، فاللاَّم فيها ليست للتَّعليل، فيبدل منها ما يفهم التعليل، وإنَّما اللام في» لِمَا «متعلِّقة ب» لا تَقُولوا «على حدِّ تعلقها في قولك: لا تقولوا لما أحل الله هذا حرام، أي: لا تسمُّوا الحلال حراماً، وكما تقول: لا تقل لزيد: عمرو أي: لا تطلق عليه هذا الاسم» .
قال شهاب الدين: وهذا وإن كان ظاهراً، إلا أنه لا يمنع من إرادة التعليل وإن كانت بمعنى الذي.
الثاني: أنها للصَّيرورة؛ إذ لم يفعلوه لذلك الغرض؛ لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم.
والمعنى: أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله - تعالى - ويقولون: إن الله أمرنا بذلك.
قال ابن الخطيب: فعلى هذا تكون لام العاقبة؛ كقوله - تعالى -: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنا} [القصص: 8] .
الثالث: أنها للتعليل الصريح، ولا يبعد أن يصدر عنهم مثل ذلك. ثم إنَّه - تعالى - أوعد المفترين فقال: {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} ثم بيَّن أن ما هم فيه من [متاع] الدنيا يزول عنهم عن قربٍ، فقال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} قال الزجاج: معناه: متاعهم(12/180)
قليلٌ. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: بل متاع كلِّ الدنيا متاع قليل، ثم يردُّون إلى عذاب أليم.
وفي «متاعٌ» وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ، و «قَليلٌ» خبره.
وفيه نظر؛ للابتداء بالنَّكرة من غير مسوِّغ، فإن ادُّعي إضافة نحو: متاعهم قليلٌ، فهو بعيد جدًّا.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: بقاؤهم، أو عيشهم، أو منفعتهم فيما هم عليه.(12/181)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
قوله تعالى -: {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} الآية لما بيَّن ما يحلُّ وما يحرم لأهل الإسلام، أتبعه ببيان ما خصَّ اليهودية من المحرَّمات، فقال: {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} وهو المذكور في سورة الأنعام عند قوله - تعالى -: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] .
وقوله: «مِنْ قَبْلُ» متعلق ب «حَرَّمْنَا» أو ب «قَصَصْنَا» والمضاف إليه قبل تقديره: من قبل تحريمنا على أهل ملتك.
«ومَا ظَلمْنَاهُمْ» بتحريم ذلك عليهم {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فحرَّمنا عليهم ببغيهم، وهو قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} [النساء: 160] .
قوله - تعالى -: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ} الآية بين ههنا أن الافتراء على الله ومخالفة أمره، لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة، ولفظ «السُّوء» يتناول كل ما لا ينبغي، وهو الكفر والمعاصي، وكل من يفعل السوء فإنما يفعله جهلاً، أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً؛ لأنه لو لم يعتقد كونه حقًّا، فإنَّه لا يختاره ولا يرتضيه، وأما المعصية، فلأن العالم لم تصدر عنه المعصية ما لم تصر الشَّهوة غالبة للعقل، فثبت أن كلَّ من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك، أي: من بعد تلك السَّيئة.
وقيل: من بعد تلك الجهالة، ثم إنَّهم بعد التوبة عن تلك السَّيِّئات أصلحوا، أي: آمنوا وأطاعوا الله.
قوله: «من بعدها» أي: من بعد عمل السوء والتوبة، والإصلاح، وقيل: على الجهالة، وقيلك على السوء، لأنه في معنى المعصية.
«بجهالة» حال من فاعل «عملوا» ، ثم أعاد قوله: «إن ربك من بعدها» على سبيل(12/181)
التأكيد، «لغَفُورٌ رَّحيمٌ» لذلك السوء الذي صدر عنه بسبب الجهالة.(12/182)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
قوله - تعالى -: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} الآية.
لما زيَّف مذاهب المشركين في مواضع من هذه السورة، وهب إتيانهم الشُّركاء والأنداد لله تعالى، وطعنهم في نبوَّة الأنبياء عليهم السلام، وقولهم: لو أرسل الله إليهم رسولاً، لكان من الملائكة، وتحليل الأشياء المحرَّمة، وتحريم الأشياء المحللة، وبالغ في إبطال مذاهبهم، وكان إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - رئيس الموحِّدين، وهو الذي دعا النَّاس إلى التوحيد والشرائع، وإبطال الشرك، وكان المشركون يفتخرون به ويعترفون بحسن طريقته، [ويقرون] بوجوب الاقتداء به، لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة، وحكى على طريقته بالتوحيد؛ ليصير ذلك حاملاً لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك.
قوله تعالى: «أمَّةً» تطلق الأمة على الرَّجل الجامع لخصالٍ محمودة؛ قال ابن هانئ: [السريع]
3372 - ولَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمعَ العَالمَ في واحِدِ
وقيل: «فُعْلَة» تدلُّ على المبالغة، «فُعْلَة» بمعنى المفعول، كالدُّخلة والنُّخبة، فالأمة: هو الذي يؤتم به؛ قال - تعالى -: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] قال مجاهد: كان مؤمناً وحده، والنَّاس كلهم كانوا كفَّاراً، فلهذا المعنى كان وحده أمَّة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول في زيد بن عمرو بن نفيل: «يَبْعثهُ الله أمَّةً وحْدَهُ» .
وقيل: إنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - هو السَّبب الذي لأجله جعلت أمَّته ممتازين عمَّن سواهم بالتَّوحيد والدِّين الحقِّ، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سمَّاها الله تعالى بالأمة إطلاقاً لاسم المسبب على السَّبب.
وعن شهر بن حوشب: لم تبق أرض إلاَّ وفيها أربعة عشر، يدفع الله بهم البلاء عن أهل الأرض، إلاَّ زمن إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - فإنَّه كان وحده.(12/182)
والأمة تطلق على الجماعة؛ لقوله - تعالى -: {أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ} [القصص: 23] وتطلق على أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، كقولك: نحن من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتطلق على الدِّين والملَّة؛ كقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 23] وتطلق على الحين والزمان؛ كقوله - تعالى -: {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] وقوله - جل ذكره -: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي: بعد حين، وتطلق على القامة، يقال: فلانٌ حسن الأمة، أي: حسن القامة، وتطلق على الرجل المنفرد بدين لا يشرك فيه غيره؛ كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «يُبْعَثُ زيْدُ بنُ عَمْرو بْنِ نُفيْلٍ يَوْمَ القِيامَةِ أمَّة وحْدَهُ» .
وتطلق على الأم، يقال: هذه أمة فلان يعني: أمَّه، وتطلق أيضاً على كل جنس من أجناس الحيوان؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَوْلاَ أنَّ الكِلابَ أُمَّةٌ من الأمَمِ لأمَرْتُ بِقتْلِهَا» .
وقال ابن عباس: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خلق الله ألف أمة ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر.
قوله تعالى: {قَانِتاً لِلَّهِ} القانت: هو القائم بأمر الله تعالى. وقال ابن عبَّاس: مطيعاً لأمر الله تعالى.
قوله تعالى: «حَنِيفاً» : [مائلاً] إلى ملَّة الإسلام ميلاً لا يزول عنه، وقيل حنيفاً: مستقيماً على دين الإسلام. وقيل: مخلصاً.
قال ابن عباس: إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج، وهذه صفة الحنيفيَّة.
{وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} أي: أنَّه كان من الموحِّدين في الصِّغر والكبر، أما في حال صغره: فإنكاره بالقول للكواكب على عدم ربوبيتها، وأما في كبره: فمناظرته لملك زمانه، وكسر الأصنام حتى آل أمره أنه ألقي في النار.
قوله تعالى: «شَاكِراً» يجوز أن يكون خبراً ثالثاً، أو حالاً من أحد الضميرين في «قَانِتاً» و «حَنِيفاً» .(12/183)
قوله: «لأنْعُمِهِ» يجوز تعلقه ب «شَاكِراً» أو ب «اجْتَبَاهُ» ، و «اجْتَبَاهُ» إما حال وإما خبر آخر ل «كان» و «إلى صِراطٍ» يجوز تعلقه ب «اجْتَبَاهُ» وب «هَدَاهُ» على [قاعدة] التنازع.
فإن قيل: لفظ الأنعم جمع قلَّة، ونعم الله على إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كانت كثيرة فلم قال: «شَاكِراً لأنْعُمِهِ» ؟ .
فالجواب: أنه كان شاكراً لجميع نعم الله سبحانه وتعالى القليلة، فكيف الكثيرة؟ .
ومعنى «اجْتبَاهُ» : اختاره واصطفاه للنبوة، والاجتباء: هو أن يأخذ الشيء بالكليَّة، وهو «افْتِعَال» من «جَبَيْتُ» وأصله جمع الماء في الحوض، والجابية هي الحوض، {وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} إلى دين الحقِّ.
{وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً} يعني: الرِّسالة والخلَّة. وقيل: لسان صدق، وقال مقاتل بن حيان: هو قول المصلي: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ مُحمَّدٍ، كما صلَّيْتَ على إبْراهِيمَ.
وقال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إن الله حبَّبه إلى كل الخلق. وقيل: أولاداً أبراراً على الكبر. {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} : في أعلى مقامات الصَّالحين في الجنة.
قوله - تعالى -: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الآية.
لما وصف إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - بهذه الصِّفات العالية الشريفة، قال - جل ذكره - {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} . قال الزمخشري في «ثُمَّ» هذه: إنها تدلُّ على تعظيم منزلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإجلال محله، والإيذان بأن الشَّرف ما أوتي خليل الرحمن من الكرامةِ، وأجل ما أولي من النِّعمة: اتباع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ملَّته، من قبل أنَّها دلت على تباعد هذا النَّعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله - سبحانه وتعالى - عليه بها.
قوله تعالى: {أَنِ اتبع} يجوز أن تكون المفسرة، وأن تكون المصدرية، فتكون مع منصوبها مفعول الإيحاء.
قوله تعالى: «حَنِيفاً» حال، وتقدم تحقيقه في البقرة [الآية: 135] .
وقال ابن عطية: قال مكِّي: ولا يكون - يعني: «حَنِيفاً» - حالاً من «إبْراهِيمَ» عليه السلام؛ لأنه مضاف إليه.
وليس كما قال؛ لأن الحال قد يعمل فيها حروف الجرِّ، إذا عملت في ذي الحال؛ كقولك: مَرَرْتُ بهِ قَائِماً.(12/184)
وما ذكره مكِّي من امتناع الحال من المضاف إليه، فليس على إطلاقه؛ كما تقدم تفصيله في البقرة.
وأما قول ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن العامل الخافض، فليس كذلك؛ إنما العامل ما تعلق به الخافض، وكذلك إذا حذف الخافض، نصب مخفوضه.
فصل
قال قوم: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان على شريعة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - وليس له شرعٌ معيَّن، بل المقصود من بعثته: إحياء [شرع] إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذه الآية، وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - وصف إبراهيم - عليه السلام - في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال {أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ، كان المراد ذلك.
فإن قيل: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد؛ بناء على الدَّلائلِ القطعية، وإذا كان كذلك، لم يكن متابعاً له، فيمتنع حمل قوله: «أن اتَّبعْ» على هذا المعنى؛ فوجب حمله على الشَّرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.
فالجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد بمتابعته في كيفيَّة الدَّعوة إلى التوحيد؛ وهي أن يدعو بطريق الرفق، والسهولة، وإيراد الدلائل مرَّة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.
قال القرطبي: وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول؛ لما يؤدِّي إلى الثواب، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقد أمر بالاقتداء بهم؛ فقال - تعالى -: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] ، وقال - تعالى - هنا: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} .(12/185)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
قوله - تعالى -: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} الآية.
لما أمر محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - بمتابعة إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة(12/185)
وَالسَّلَام ُ - وكان محمَّد اختار يوم الجمعة، وهذه المتابعة إنَّما تحصل إذا قلنا: إن إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة، وعند هذا القائل أن يقول: فلم اختار اليهود يوم السبت؟ .
فأجاب الله - تعالى - عنه بقوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} ، وفي الآية قولان:
الأول: روى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: «أمرهم موسى - صلوات الله وسلامه عليه - بالجمعة، وقال: تفرَّغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً، وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم، فأبوا أن يفعلوا ذلك، وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق، وهو يوم السبت، فجعل الله - تعالى - السبت لهم، وشدَّد عليهم فيه، ثمَّ جاءهم عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أيضاً بالجمعة، فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، واتخذوا الأحد» .
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال «إنَّ الله كَتَبَ يَوْمَ الجُمعَةِ عَلَى مَنْ قَبْلنَا، فاخْتلَفُوا فِيهِ وهَدَانَا الله إلَيْهِ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبعٌ، اليَهُود غَداً والنَّصارَى بَعد غدٍ» .
واعلم أن أهل الملل اتَّفقوا على أنه - تعالى - خلق العالم في ستَّة أيام، وبدأ - تعالى - بالخلق والتكوين في يوم الأحد، وتمَّ في يوم الجمعة، وكان يوم السبت يوم الفراغ، فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال، فعيَّنوا يوم السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد، فنجعل هذا اليوم عيداص لنا.
وأما وجه جعل يوم الجمعة عيداً؛ فلأنه يوم كمال الخقل وتمامه، وحصول التَّمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسُّرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى.
والقول الثاني: اختلافهم في السبت هو أنهم أحلُّوا الصيد فيه تارة وحرَّموه [تارة] .
قوله - تعالى -: {إِنَّمَا جُعِلَ} العامة على بنائه للمفعول، وأبو حيوة على بنائه للفاعل، و «السَّبْتُ» مفعول به.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، أي: يحكم للمحقِّين بالثواب، وللمبطلين بالعقاب.
قوله - تعالى -: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} الآية لما أمر محمداً -(12/186)
صلوات الله وسلامه عليه - باتِّباع إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة ا} .
واعلم أنه - تعالى - أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدعو النَّاس بأحد هذه الطرق الثلاثة، وهي: {بالحكمة والموعظة الحسنة} ، والمجادلة بالطريق الأحسن، وذكر - تعالى - هذا الجدل في آية أخرى، فقال - تعالى -: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] ولمَّا ذكر الله - تعالى - هذه الطرق الثلاثة، وعطف - تعالى - بعضها على بعض وجب أن تكون طرقاً متغايرة.
واعلم أن الدَّعوة إلى المذاهب لا بد وأن تكون مبنيَّة على حجة وبينة، والمقصود من ذكر تلك الحجة: إما تقرير ذلك المذهب، وذلك على قسمين: لأن تلك الحجة إما أن تكون حجة قطعية مبرَّأة عن احتمال النقيض، أو لا تكون كذلك، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر، والإقناع الكامل، فظهر بهذا التقسيم انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة:
أولها: الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينيّة، وذلك هو المسمَّى بالحكمة.
وثانيها: الأمارات الظنية، والدلائل الإقناعية، وهي الموعظة الحسنة.
وثالثها: الدلائل التي يكون المقصود منها: إلزام الخصوم وإقحامهم، وذلك هو الجدل، ثم هذا الجدل على قسمين:
أحدهما: أن يكون دليلاً مركباً من مقدِّمات مسلمة عند الجمهور، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك الخصم، وهذا هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن.
والقسم الثاني: أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات فاسدة باطلة، إلاَّ أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين، بالسَّفاهة والشَّغب، والحيل الباطلة، والطرق الفاسدة، وهذا القسم لا يليق بأهل [الفضل] ، إنما اللائق بهم القسم الأول، وهو المراد بقوله: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} .
فصل
قال المفسرون: قوله: «بالحِكْمَةِ» أي: بالقرآن، «والمَوْعِظَةِ الحَسنَةِ» يعني: مواعظ القرآن. وقيل «المَوعِظَة الحَسنَة» هو الدعاء إلى الله - تعالى - ب التَّرغيب والتَّرهيب، وقيل: بالقول اللَّين من غير غِلَظٍ ولا تعنيف.
{وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} ناظرهم بالخصومة، «الَّتي هِيَ أحْسَنُ» أي: أعرض عن(12/187)
أذاهم، أي: ولا تقصِّر في تبليغ الرسالة، والدعاء غلى الحقِّ، والآية نسختها آية القتال.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} ، أي: إنَّك يا محمد مكلَّف بالدعوة إلى الله، وأما حصول الهداية فلا يتعلق بك، فهو أعلم بالضَّالين وأعلم بالمهتدين.
قوله - تعالى -: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ} العامة على «المُفَاعلة» وهي بمعنى: «فَعَلَ» ؛ كَسافَرَ، وابن سيرين: «عَقَّبْتُم» بالتشديد بمعنى: قَفَّيْتُمْ [بالانتصار فقفُّوا] بمثل ما فعل بكم.
وقيل: تتبَّعتم، والباء معدِّية، وفي قراءة ابن سيرين إمَّا للسببية وإما مزيدة.
فصل
قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: هذه الآية فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب والشعبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا رأى حمزة وقد مثَّلوا به، قال:
«والله لأمثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنهُمْ مَكانَكَ» فنزل جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - بخواتيم سورة النحل، فكفَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمسك عما أراد؛ وعلى هذا قالوا: سورة النحل مكيَّة إلا هذه الثلاث آيات.
والقول الثاني: أن هذا كان قبل الأمر بالسَّيف والجهاد، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا} [البقرة: 190] وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا، فلمَّا أعزَّ الله الإسلام وأهله، نزلت «براءة» وأمروا بالجهاد، ونسخت هذه الآية، قاله ابن عبَّاس والضحاك.
والقول الثالث: أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم، وهذا قول مجاهد، والنخعي، وابن سيرين.
وقال ابن الخطيب: وحمل هذه الآية على قصَّة لا تعلق لها بما قبلها، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - وهو في غاية البعد، بل الأصوب عندي أن يقال: إنه - تعالى - أمر محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بدعوة الخلق إلى الدين الحقِّ بأحد الطرق الثلاثة، وهي الحكمة، والموعظة، والجدال بالطريق الأحسن، ثم إن تلك الدعوة تتضمَّن أمرهم(12/188)
بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم، والحكم عليهم بالكفر والضلالة، وذلك مما يشوش قلوبهم، ويوحش صدورهم، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الدَّاعي بالقتل تارة، وبالضرب ثانياً، وبالشَّتْم ثالثاً، ثم إنَّ ذلك الدَّاعي المحقَّ إذا تسمَّع تك السَّفاهات، لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء؛ تارة بالقتل، وتارة بالضرب، فعند هذا أمر المحقِّين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف، وترك الزيادة، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل: فكيف تقدحون فيما روي أنه - صلوات الله وسلامه عليه - ترك العزم على المثلة، وكفَّر عن يمينه بسبب هذه الآية؟ .
قلنا: لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية؛ لأنا نقول: تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية، فيمكن التمسُّك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله - تعالى -.
فصل
في هذه الآية دليلٌ على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدٍ قتل بمثلها، ومن قتل بحجرٍ، قتل بمثله، ولا يتعدى قدر الواجب، واختلفوا فيمن ظلمه رجل فأخذ ماله، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز للمظلوم خيانة الظالم في القدر الذي ظلمه؟ .
فقال ابن سيرين، والنخعي، وسفيان، ومجاهد: له ذلك لعموم هذه الآية.
وقال مالك وجماعة: لا يجوز؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ»
رواه الدارقطني.
وقال القرطبي: «ووقع في مسند ابن إسحاق: أنَّ هذا الحديث إنَّما ورد في رجل زنا بامرأة ىخر، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأمرِ، فقال له:» أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ «وعلى هذا يقوى قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك» .(12/189)
فصل
اعلم أنه - تعالى - أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتَّب ذلك على أربع مراتب:
الأولى: قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} يعني: إن رغبتم في استيفاء القصاص، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه؛ فإن استيفاء الزِّيادة ظلمٌ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته، وفي قوله - تعالى -: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} دليل على أن الأولى ألاّ يفعل؛ كما يقول الطبيب للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة، فكل التفاح، فإن معناه: الأولى بك ألاّ تأكله، فذكر - تعالى - بطريق الرَّمز والتعريض [على] أن الأولى تركه.
والمرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التَّصريح، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} وهذا تصريح بأنَّ الأولى ترك ذلك الانتقام؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة، والانتفاع أفضل من الإيلام.
المرتبة الثالثة: وهو الأمر بالجزم بالتَّرك، وهو قوله: «واصْبِرْ» ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التَّرك خيرٌ وأولى، وفي هذه المرتبة الثالثة صرَّح بالأمر بالصَّبر في هذا المقام، ولمَّا ك ان الصبر في هذا المقام شديداً شاقًّا، ذكر بعده ما يفيد سهولته؛ فقال - تعالى -: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} أي: بتوفيقه ومعونته، وهذا هو السب الكلي الأصلي في حصول جميع أنواع الطاعات.
ولما ذكر هذا السبب الكليَّ الأصلي، ذكر بعده ما هو السببُ الجزئي القريب؛ فقال - جل ذكره -: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ؛ وذلك لأنَّ إقدام الإنسان على الانتقام، وعلى [إنزال] الضرر بالغير لا يكون إلا من هيجان الغضب، وشدَّة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين:
أحدهما: فوات نفع كان حاصلاً في الماضي، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} قيل: معناه: ولا تحزن على قتلى «أحدٍ» ، أي: ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء وقيل: ولا تحزن عليهم في إعراضهم عنك، ويرجع حاصله إلى فوات النفع.
والسبب الثاني: أن شدَّة الغضب قد تكون لتوقع ضرر في المستقبل، وإليه الإشارة بقوله: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ، ومن وقف على هذه اللَّطائف، عرف أنَّه لا يمكن كلام [أدخل] في الحسن والضبط من هذا الكلام.
قوله: «للصَّابِرينَ» يجوز أن يكون عامًّا، أي: الصبر خير لجنس الصَّابرين، وأن(12/190)
يكون من وقوع الظَّاهر موقع المضمر، أي: صبركم خير لكم.
قوله: «إلاَّ بالله» أي: بمعونته، فهي للاستعانة.
قوله: «في ضَيْقٍ» قرأ ابن كثير هنا وفي النَّمل: بكسر الضاد، والباقون: بالفتح، فقيل: هما لغتان بمعنًى في هذا المصدر؛ كالقول والقِيل.
وقيل: المفتوح مخفَّف من «ضَيِّق» ؛ ك «مَيْت» في «مَيِّت» ، أي: في أمر ضيِّق، فهو مثل هَيْن في هيِّن، و «لَيْن» في «لَيِّن» ، قاله ابن قتيبة.
وردَّه الفارسي: بأن الصفة غير خاصة بالموصوف، فلا يجوز ادِّعاء الحذف ولذلك جاز: مررت بكاتب، وامتنع بآكلٍ.
وأما وجه القراءة بالفتح، قال أبو عبيدة الضيِّقُ بالكسر في قلَّة المعاش والمساكن، وما كان في القلب، فإنه الضَّيْق.
وقال أبو عمرو: «الضِّيقُ بالكسر: الشدَّة، والضَّيقُ بالفتح: الغمُّ» .
قوله تعالى: {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} متعلق ب «ضَيْقٍ» و «مَا» مصدرية، أو بمعنى الذي، والعائد محذوف.
فصل
هذا من الكلام المقلوب؛ لأن الضَّيق صفة، والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة، فيكون المعنى: فلا يكن الضيق فيك؛ لأن الفائدة في قوله: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} هو أنَّ الضِّيق إذا عظم وقوي، صار كالشيء المحيط بالإنسان من الجوانب، وصار كالقميص المحيط به، فكانت الفائدة في هذا اللفظ هذا المعنى.
المرتبة الرابعة: قوله: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} المناهي، {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} وهذا يجري مجرى التهديد؛ لأنه في المرتبة الأولى: رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي الثانية: عدل عن الرمز إلى التصريح، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ، وفي المرتبة الثالثة: أمر بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة: كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام، فقال: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} عن استيفاء الزيادة، {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} : في ترك أصل الانتقام؛ فكأنه قال: إن أردت أن أكون(12/191)
معك، فكن من المتَّقين ومن المحسنين، وهذه المعيَّة بالرحمة والفضل والتربية.
وقوله - تعالى -: {الذين اتقوا} إشارة غلى التعظيم لأمر الله، وقوله - جل ذكره - {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} إشارة إلى الشفقة على خلق الله، وذلك يدلُّ على أن كمال سعادة الإنسان في التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله - تعالى -.
قيل لهرم بن حيَّان عند قرب وفاته: أوص، فقال: إنما الوصيَّة في المال ولا مال لِي، ولكن أوصيك بخواتيم سورة النحل، قال بعضهم: إن قوله - جل ذكره -: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} منسوخ بآية السيف، وهذا في غاية البعد؛ لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفيَّة الدَّعوة إلى الله - سبحانه وتعالى -، وترك التَّعدي وطلب الزيادة، ولا تعلق بهذه الأشياء بآية السيف والله أعلم بمراده.
روى أبو أمامة، عن أبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ النَّحل، لم يُحاسِبْه الله - تعالى - بالنَّعِيم الذي أنْعَم عليه في دَارِ الدُّنيَا، وأعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كالذي مات فأحْسَن الوصيَّة» .(12/192)
سورة الإسراء(12/193)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
روي عن ابن عباس أنها مكية غير قوله تعالى: {وإن كانوا ليستفزونك من الأرض} [آية: 76] إلى قوله: {واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا} [آية: 80] فإنها مدنيات حين جاء وفد ثقيف. وهي مائة وإحدى عشرة آية، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وعدد حروفها ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} الآية.
قال النحويُّون: «سُبْحَانَ» اسم علم للتَّسبيح يقال: سبحت تسبيحاً فالتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم على للتسبيح؛ كقوله: «كَفَّرتُ اليمينَ تَكْفيراً وكُفْراناً» ، وتقدَّم الكلام عليه في أول البقرة، ومعناه تنزيه الله عن كلِّ سوء.
والنصبُ على المصدر، كأنه وضع موضع «سبَّحت الله تسبيحاً» وهو مفرد، إذا أفرد، وفي آخره زائدتان: الألف والنون، فامتنع من الصرف؛ للتقدير والزيادتين.
وعن سيبويه أنَّ من العرب من ينكِّرهُ؛ فيقول: «سُبْحَاناً» بالتنزيه.
وقال أبو عبيدٍ: لا ينتصب على النِّداء، فكأنه قال: «يا سُبْحانَ الله، يا سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبدِه» .
قال القرطبي: سُبْحانَ، اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنَّه لا يجري بوجوه الإعراب، ولا يدخل فيه الألف واللام، ولم يجر منه فعلٌ، ولم ينصرف؛ لأنَّ في ىخره زائدتين، ومعناه التنزيهُ، والبراءة لله، فهو ذكر؛ فلا يصلح لغيره، فأمَّا قول من قال: [السريع](12/193)
3373 - أقُولُ لمَّا جَاءنِي فَخرُهُ ... سُبحَانَ مِنْ عَلْقمَةَ الفَاخِرِ
فإنما ذكره على طريق النَّادر.
روى طلحة بن عبيد الله أنه قال للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما مَعْنَى سبحان لله» فقال: «تَنْزيهُ الله عن كُلِّ سُوءٍ» .
وقال صاحبُ النظم: «السَّبح في اللغة التباعد؛ قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} [المزمل: 7] أي: تباعداً طويلاً فمعنى» سَبح «: تنزيهه عمَّا لا ينبغي» .
وللتَّسبيح معانٍ أخر؛ قد يكون بمعنى الصلاة؛ كقوله: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} [الصافات: 143] أي المصلِّين والسبحة: صلاة النافلة، وإنما قيل للمصلِّي: «مُسَبِّح» ؛ لأنه معظم لله بالصلاة، ومنزِّهٌ له عمَّا لا ينبغي.
وقد يرد التسبيح بمعنى الاستثناء؛ كقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] أي تستثنون.
وتأويله أيضاً يعود إلى تعظيم الله في الاستثناء بمشيئته، وجاء في الحديث: «لأحْرقَتْ سُبحَاتُ وجْهِه» قيل: معناه: وجهه وقيل: معناه: نور وجهه الذي إذا رآه الرّائي، قال: «سبحان الله» . ويكون «سُبْحَانَ الله» بمعنى التعجُّب.
وقوله: «أسْرَى» و «سَرَى» لغتان، وتقدَّم الكلام عليهما في سورة هود [آية: 81] ، وأن بعضهم خصَّ «أسْرَى» باللَّيل.
قال الزمخشريُّ هنا: فإن قلت: الإسراء لا يكون إلاَّ ليلاً؛ فما معنى ذكر الليل؟ .
قلت: أراد بقوله «ليلاً» بلفظ التنكير، تقليل مدَّة الإسراءِ، وأنه أسْرِي به في بعض(12/194)
الليل، من «مكَّة» إلى «الشام» مسيرة أربعين ليلة؛ وذلك أنَّ التنكير دلَّ على البعضيَّة، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة «من اللَّيل» ، أي: بعضه؛ كقوله:
{وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] . انتهى.
فيكون «سَرَى» و «أسْرَى» ك «سَقَى» و «أسْقَى» والهمزة ليست للتعدية؛ وإنما المعدَّى الباء في «بعبده» ، وقد تقدَّم أنها لا تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول عند الجمهور، في البقرة، خلافاً للمبرِّد.
وزعم ابن عطية أنَّ مفعول «أسْرَى» محذوف، وأن التعدية بالهمزة؛ فقال: «ويظهر أنَّ» «أسْرَى» معدَّاةٌ بالهمزة إلى مفعول محذوف، أي: أسرى الملائكة بعبده؛ لأنه يقلقُ أن يسند «أسْرَى» وهو بمعنى «سَرَى» إلى الله تعالى؛ إذ هو فعلٌ يقتضي النَّقلة؛ ك «مَشَى، وجرى، وأحضر، وانتقل» فلا يحسن إسناد شيء من هذا مع ودجود مندوحةٍ عنه، فإذا وقع في الشريعة شيء من ذلك، تأوَّلناهُ؛ نحو: أتَيْتهُ هَرْولةً «.
وهذا كلُّه إنما بناهُ؛ اعتقاداً على أن التعدية بالباء تقتضي مضاحبة الفاعل للمفعول في ذلك، وتقدَّم الردُّ على هذا المذهب في أوَّل البقرة في قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] .
ثم جوَّز أن يكون» أسْرَى «بمعنى» سَرَى «على حذف مضافٍ؛ كقوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] يعني: فيكون التقدير: الذي أسْرِى ملائكته بعبده، والحامل له على ذلك ما تقدَّم من اعتقاد المصاحبة. والعبد هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله:» لَيْلاً «منصوب على الظرف، وقد تقدم فائدة تنكيره. و» مِنَ المسجد «» مِنْ «لابتداء الغاية.
فصل في وقت الإسراء
قال مقاتل:» كان قبل الهجرة بستَّة عشر شهراً «، ونقل الزمخشري عن أنس والحسين: كان قبل البعثة، واختلفوا في المكان الذي أسْرِي به منه، فقيل: هو المسجد الحرامُ بعينه؛ لظاهر القرآن، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» بَيْنَا أنَا في المَسْجدِ الحَرامِ عِندَ البَيْتِ بيْنَ النَّائمِ واليَقْظَانِ، إذْ أتَانِي جِبْريلُ عليه السلام بالبراقِ «.
وقيل: أسري به من دار أمِّ هانئ بنت أبي طالبٍ، وعلى هذا، فالمراد بالمسجد الحرام الحرمُ.(12/195)
قال ابن عبَّاس:» الحرم كلُّه مَسْجِدٌ «، وهذا قول الأكثرين. وقوله: {إلى المسجد الأقصى} .
اتفقوا على أنه بيتُ المقدس، وسمي بالأقصى؛ لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام.
وقوله: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} .
قيل: بالأزهار والثمار.
وقيل: لأنه مقرُّ الأنبياء، ومهبطُ الملائكةِ.
واعلم أنَّ كلمة:» إلى «لانتهاء الغاية، فمدلول قوله: {إلى المسجد الأقصى} أنه وصل إلى ذلك، فأما أنه دخل المسجد أم لا، فليس في اللفظ دلالةٌ عليه، إلاَّ أنه ورد الحديثُ أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلَّى فيه.
قوله:» حولَه «فيه وجهان: أظهرهما: أنه منصوبٌ على الظَّرفِ، وقد تقدَّم في تحقيق القول فيه أوَّل البقرة.
والثاني: أنه مفعولٌ. قال أبو البقاء: «أي: طيَّبْنَا ونَمَّيْنَا» .
يعني ضمَّنه معنى ما يتعدَّى بنفسه، وفيه نظرٌ؛ لأنه لا يتصرَّفُ.
قوله: «لِنُريَهُ» قرأ العامة بنون العظمة؛ جرياً على «بَارَكْنَا» وفيهما التفات من الغيبة في قوله «الَّذي أسْرَى بعبده» إلى التكلُّم في «بَاركْنَا» و «لنُرِيَهُ» ، ثم التفت إلى الغيبة في قوله: «إنه هُوَ» إن أعدنا الضمير إلى الله تعالى، وهو الصحيح، ففي الكلام التفاتان.
وقرأ الحسن «لِيُريَهُ» بالياء من تحت، أي: الله تعالى، وعلى هذه القراءة يكون في هذه الآية أربعةُ التفاتات: وذلك أنَّه التفت أوَّلاً من الغيبة في قوله «الَّذي اسْرَى بعبْدهِ» إلى التكلم في قوله «بَاركْنَا» ثم التفت ثانياً من التكلُّم في «باركْنَا» إلى الغيبة في «ليُرِيَهُ» على هذه القراءة، ثم التفت ثالثاً من هذه الغيبة إلى التكلم في «آيَاتِنَا» ، ثم التفت رابعاً من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله «إنَّهُ هُو» على الصحيح في الضمير؛ أنه لله، وأمَّا على قول نقله أبو البقاء أنَّ الضمير في «إنَّه هُو» للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا يجيء ذلك، ويكون في قراءة العامة التفاتٌ واحدٌ، وفي قراءة الحسنِ ثلاثةٌ. وأكثر ما ورد الالتفاتُ فيه ثلاث مراتٍ على ما قاله الزمخشريُّ في قول امرئ القيس: [المتقارب]
3374 - تَطَاولَ لَيْلُكَ بالأثْمُدِ..... ... ... ... ... ... .
الأبيات. وتقدَّم النزاعُ معه في ذلك، وبعض ما يجابُ به عنه أوَّل الفاتحة.(12/196)
ولو ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ ها هنا خمسة التفاتاتٍ لاحتيج في دفعه إلى دليلٍ واضحٍ، والخامس: الالتفاتُ من «إنَّهُ هُوَ» إلى التكلُّم في قوله {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب} [الإسراء: 2] الآية.
والرؤيةُ هنا بصرية. وقيل: قلبية، وإليه نحا ابن عطيَّة، فإنه قال: «ويحتمل أن يريد: لنُرِيَ محمداً للنَّاس آية، أي: يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آية في أن يصنع الله ببشرِ هذا الصنيع» فتكون الرؤية قلبية على هذا.
فصل في معنى «لِنُريَهُ»
معنى الرُّؤية هو ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات الدالَّة على قدرة الله تعالى.
فإن قيل: قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} يدلُّ على أنَّه تعالى ما أراه إلاَّ بعض الآيات؛ لأن كلمة «مِنْ» للتبعيض وقال في حقِّ إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75] فيلزم أن يكون معراج إبراهيم - عليه السلام - أفضل من معراج محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قلنا: فالجواب أن الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض، والذي رآه محمد بعض آياتِ الله، ولا شكَّ أن آيات الله أفضلُ.
ثم قال: {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} أي: السميعُ لأقوال محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: المجيبُ لدعائهِ البصير: أي: لأفعاله العالم بكونها خالصة عن شوائب الرياءِ، مقرونة بالصِّدق والصَّفاء.
فصل في كيفية الإسراء
اختلفوا في كيفيَّة ذلك الإسراء، فالأكثرون على أنه أسْرِي بجسد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وروي عن عائشة وحذيفة: أن ذلك كان رُؤيا، قالا: ما فُقِد جَسَدُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولكنَّ الله أسْرَى برُوحهِ. فالكلامُ في هذا الباب في مقامين.
الأول: في غثبات الجوازِ العقليِّ.
والثاني: في الوُقوعِ.
فالمقام الأول؛ وهو الجواز العقليُّ: فنقول: الحركة الواقعة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ ممكنةٌ في نفسها، والله - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات، والدليل على أنَّ هذه الحركة السَّريعة ممكنة غير ممتنعةٍ تفتقر إلى مقدِّمتين:
الأولى: أنَّ الحركة الواقعة إلى هذا الحدِّ يدلُّ عليها وجوهٌ:(12/197)
الأول: أنَّ الفلك الأعظم يتحرَّك من أوَّل الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدَّور، وثبت في الهندسة أنَّ نسبة القطر إلى الدَّور نسبة الواحد إلى ثلاثةٍ وسبعة فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلاى ثلاثة وسبعة فبتقدير أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم، فهو لم يتحرَّك إلا مقدار نصف القطر، فلمَّا حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدَّور، كان حصول الحركةِ بمقدار نصفِ القطر أولى بالإمكان، فهذا برهانٌ قاطعٌ على أنَّ الارتفاع من مكَّة إلى ما فوق العرشِ في مقدار ثلث اللَّيل أمرٌ ممكنٌ في نفسه، وإذا كان كذلك، كان حصوله في كلِّ الليل أولى بالإمكان.
الثاني: ثبت في الهندسة أنَّ قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين مرَّة، وكذا وكذا وكذا، ثم إنا نشاهد أنَّ طُلوعَ القرص يحصل في زمان لطيفٍ سريعٍ، فدلَّ على أنَّ بلوغ الحركة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ أمرٌ ممكنٌ في نفسهِ.
الثالث: أنه كما يستبعدُ في العقلِ صعود الجسم الكثيف عن مركز العالم إلى ما فوق العرش، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللَّطيف الرُّوحانِي من فوق العرش إلى مركز العالم، فإن كان القولُ بمعراج محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الليلة الواحدة ممتنعاً في العقول، فإن القول بنزول جبريل - عليه السلام - من العرشِ إلى مكَّة في اللحظة الواحدة ممتنعاً، ولو حكمنا بهذا الامتناع، كان ذلك طعناً في نُبوَّة جميع الأنبياء - عليهم السلام - والقول بثبوتِ المعراج فرعٌ على تسليم جواز أصل النبوة؛ فيلزم القائل بامتناع حصول حركةٍ سريعةٍ إلى هذا الحدِّ، القول بامتناع جبريل - عليه السلام - من الانتقال في اللَّحْظَة من العَرْشِ إلى مكة، ولمَّا كان ذلك باطلاً، كان ما ذكروا أيضاً باطلاً.
فإن قالوا: نحن لا نقول: إنَّ جبريل - عليه السلام - جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، وإنما نقول: المراد من نزول جبريل - عليه السلام - هو زوالُ الحجبِ الجسمانيةَ عن جسمِ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتَّى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضراً متجلِّياً في ذات جبريل - عليه السلام -.
قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، أمَّا جمهور المسلمين فيقولون: إنَّ جبريل - عليه السلام - جسمٌ، وأنَّ نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك [إلى مكَّ’] ، وإذا كان كذلك، كان الإلزام المذكور قويًّا.
رُوِيَ أنه - عليه السلام - لما ذكر قصَّة المعراجِ كذَّبه الكلُّ، وذهبوا إلى أبي بكرٍ، وقالوا له: «إنَّ صاحبك يقول كذا وكذا» ، فقال أبو بكرٍ: «إنْ كَانَ قد قال ذلك، فهو صادقٌ» ، ثم أتى إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكر الرسول له تلك التفاصيل، وكلَّما ذكر شيئاً، قال أبو(12/198)
بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «صَدَقْتَ» ، فلمَّا تمَّ الكلام، قال أبو بكرٍ: «أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله حقًّا» ، فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وأشْهَدُ أنَّك صدِّيقٌ حقًّا» .
وحاصل الكلام أنَّ أبا بكرٍ كأنه قال: لمَّا سلمتُ رسالته فقد صدَّقتهُ فيما هُو أعْظَمُ من هذا، فكَيْفَ أكذِّبه في هذا؟! .
الرابع: أكثر أرباب الملل والنِّحل يُسلِّمُونَ وجود إبليس، ويسلّمون أنه هو الذي يلقي الوسوسة في قلوب بني آدم، فلما جوَّزوا مثل هذه الحركة السريعة في حقِّ إبليس ويسلِّمون، فلأن يسلِّموا جوازها في حقِّ أكابرِ الأنبياءِ أولى، وهذا الإلزام قوي على من يسلِّم أنَّ إبليس جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ.
وأمَّا من يقول: «إنه من الأرواحِ الخبيثة الشِّرِّيرة، وأنَّه ليس بجسم، ولا جسمانيٍّ، فلا يرد عليهم هذا الإلزامُ إلا أن أكثر أرباب الملل والنِّحل يوافقون على أنه جسمٌ لطيفٌ ينتقل.
فإن قالوا: إنَّ الملائكة والشياطين يصحُّ في حقِّهم مثل هذه الحركة السَّريعة، إلاَّ أنهم اجسامٌ لطيفةٌ، فلا يمتنع حصُولُ مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها، أمَّا الإنسان فإنَّه جسم كثيف، وكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة فيه؟ قلنا: نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشَّياطين على أن حصول حركةٍ منتهية في السُّرعة إلى هذا الحدِّ ممكن في نفس الأمر.
فأمَّا بيانُ أنَّ هذه الحركة، لمَّا كانت ممكنة الوجود في نفسها، كانت أيضاً ممكنة الحصول في جسم البدن الإنسانيِّ، فذاك مقام آخر يأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
الخامس: أنه جاء في القرآن أنَّ الرياح كانت تسير بسليمان - صلوات الله عليه - إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة؛ قال تعالى:
{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] بل نقول: الحسُّ يدل على أنَّ الرياح تنتقل عند شدَّة هبوبها من مكانٍ إلى مكانٍ في غاية البعد في اللَّحظة الواحدة، وذلك أيضاً يدلُّ على أنَّ مثل هذه الحركةِ السريعة في نفسها ممكنةٌ.
السادس: أن القرآن يدلُّ على أنَّ الذي عنده علمٌ من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمنِ إلى أقصى الشَّام في مقدار لمحِ البصر، قال تعالى: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] .
وإذا كان ذلك ممكناً في حقِّ بعض النَّاس، علمنا أنه في نفسه ممكنٌ.(12/199)
السابع: أن من الناس من يقول: إنَّ الحيوان إنما يُبْصِرُ المرئيَّات لأجل أن الشُّعَاع يخرج من عينيه ويتَّصِل بالمرئيَّات، فإذا فتحنا العين، ونظرنا إلى شخصٍ، رأيناه، فعلى قولِ هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى الشخص في تلك اللحظة اللَّطيفة، وذلك يدلُّ على أنَّ الحركة الواقعة على هذا الحدِّ من السرعة من الممكنات لا من الممتنعات، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحدِّ أمرٌ ممكن الوجود في نفسه.
المقدمة الثانية: في بيان أنَّ هذه الحركة، لمَّا كانت ممكنة الوجود في نفسها، وجب ألاَّ يمتنع حصولها في جسم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّه ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أن الأجسام متماثلةٌ في تمام ماهيَّتها، فلما صحَّ حصول مثل هذه الحركة في حقِّ بعض الأجسام، وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام، وذلك يوجب القطع بأنَّ حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر ممكن الوجود في نفسه.
وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت بالدَّليل أنَّ خالق العالم قادرٌ على كلِّ الممكنات، وثبت أنَّ حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحدِّ في جسد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ممكنٌ؛ فوجب كونه تعالى قادراً عليه، فلزم من مجموع هذه المقامات: أن القول بثبوت هذا المعراج أمرٌ ممكن الوجود في نفسه، أقصى ما في الباب أنَّه يبقى التعجُّب، إلاَّ أن التعجُّب غير مخصوص بهذا المقام، بل هو حاصلٌ في جميع المعجزات، فانقلابُ العصا ثعباناً يبلع سبعين ألف حبلٍ من الحبالِ والعصيِّ، ثم تعودُ في الحال عصاً صغيرة، كما كانت أمرٌ عجيبٌ، وخروج الناقة من الجبلِ الأصمِّ أمرٌ عجيبٌ، وإظلال الجبل في الهواء أمرٌ عجيبٌ، وكذا سائر المعجزات، فإن كان مجرَّد التعجب يوجبُ الإنكار والدفع، لزم الجزم بفساد القول بنبوة كل الأنبياء عليهم السلام، لكن القول بإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة، وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال، فكذا هنا.
فصل في ترجيح القول بالإسراء بالجسد والروح
قال المحقِّقُون: إنه تعالى أسْرَى بروح محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجسده من مكَّة إلى المسجد الأقصى؛ ويدلُّ عليه القرآن والخبر: أما القرآن، فهذه الآية؛ وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والرُّوح، قال تعالى:
{أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} [العلق: 9 - 10] وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} [الجن: 19] .
وأما الخبرُ، فما روى أنس بن مالكٍ: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «فُرِجَ عَن سَقْفِ بَيْتِي وأنَا بِمكَّة، فَنزَلَ جِبْريلُ - عَليْهِ السَّلامُ - فَفُرِجَ صَدْري، ثُمَّ غَسلَهُ بِمَاءِ زَمْزَم، ثُمَّ جَاءَ بِطسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتلِئٍ حِكْمةً وإيماناً، ففرَّغهُ فِي صَدْرِي، ثمَّ أطْبَقهُ» .(12/200)
وروى مالك بن صعصعة أنَّ نبيَّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حدثهم عن ليلة الإسراء به قال: «بَيْنَا أنَا فِي الحطِيم - ورُبَّما قال:» في الحِجْرِ - بَيْنَ النَّائمِ واليَقْظانِ، فأتيتُ بِطسْتٍ من ذَهب مَمْلُوءةٍ حِكمةً وإيماناً، فشُقَّ من النَّحْرِ إلى مراق البَطْن واسْتُخرجَ قَلْبي، فغُسِلَ، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أعِيدَ «.
وفي رواية سعيد وهشام:» ثُمّ غُسلَ البَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ إيماناً وحِكْمَةً، ثُمَّ أتِيتُ بالبُراقِ، وهو دَابَّةٌ أبْيضُ طَويلٌ فوقَ الحِمارِ، ودُونَ البَغْلِ، تقَعُ حَافِرهُ عند مُنْتهَى طَرْفهِ، فَرَكبْتهُ فانْطَلقْتُ مَعَ جِبْريل عليه السلام، حتَّى أتيت البيْتَ المقدس قال: فَربَطْتهُ في الحَلْقةِ الَّتِي تَرْبطُ بِهَا الأنْبِيَاءُ «قال:» ثُمَّ دخلتُ المسجدَ، فَصلَّيْتُ فِيهِ ركْعَتينِ، ثمَّ خَرجْتُ، فجَاءَنِي جِبريلُ بإنَاءٍ مِنْ خَمْر وإنَاءٍ من لبَنٍ، فأخَذْتُ اللَّبنَ، فقال جِبْريلُ: أخَذْتَ الفِطْرَة، فانْطلقَ بِي جِبْريلُ؛ حتَّى أَتَى السَّماء الدُّنْيَا. . «الحديث.
واحتجَّ المنكرون بوجوهٍ عقليَّةٍ ونقليَّةٍ:
أما العقلية: فأوَّلها: أن الحركة البالغة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ غيرُ معقولةٍ.
وثانيها: أنَّ صعود الجرمِ الثقيل إلى السَّموات غير معقول.
وثالثها: أنَّ صعودهُ إلى السماوات يوجب انخراق الأفلاك، وذلك محالٌ، ولأنَّ هذا المعنى، لو صحَّ، لكان أعظم من سائر معجزاته، فكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع النَّاس حتَّى يستدلُّوا به على صدقه في ادعاء النبوَّة، فأما أن يحصل ذلك في وقتٍ لا يراه أحدٌ، ولا يشاهده يكون عبثاً؛ وذلك لا يليق بالحكيم.
وأمَّا النقل: فقوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} [الإسراء: 1] وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء: 60] وما تلك الرؤيا إلاَّ حديث المعراج، والرؤيا لما في المنام، وإنما كانت فتنة للنَّاس؛ لأنَّ كثيراً ممَّن آمن به، لمَّا سمع هذا الكلام كذَّبهُ وكفر، وكان حديث المعراج سبب فتنة الناس.
وأيضاً: فحديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة.
منها: ما رُوِيَ من شقِّ بطنه وتطهيره بماءِ زَمْزَم، وهو بعيد؛ لأن الذي يمكن غسله بالماءِ هو النَّجاسات العينيَّة، ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة، والأخلاق الذَّميمة.(12/201)
وأيضاً: فما رُوِيَ من ركوب البُراق - وهو بعيد - لأنَّه تعالى، لمَّا سيَّره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك، فأيُّ حاجةٍ إلى البراق.
وما رُوِيَ أنه تعالى أوجب خمسين صلاة، ثم إنَّ محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا زال يتردَّد بين يدي الله، وبين موسى عليه السلام.
قال القاضي: وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته، فإنه يوجبُ البداء، وذلك على الله محالٌ؛ فثبت أنَّ ذلك الحديث مشتملٌ على ما لا يدوز قبوله، فكان مردوداً.
فالجواب عن الوجوه العقليَّة قد سبق.
وأمَّا قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} ، فهذا كلام مجمل، وفي شرحه وجوه:
الأول: أن خيرات الجنَّة عظيمة، وأهوال النَّار شديدة، فلو أنه - عليه السلام - ما شاهدهما في الدنيا، ثمَّ شاهدهما في ابتداء يوم القيامة، فربَّما رغب في خيرات الجنة، أو خاف من أهوال النَّار، أمَّا لمَّا شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج، فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة، فلا يبقى مشغول القلب بهما، وحينئذ يتفرّغ للشَّفاعة.
الثاني: لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة سبباً لتكامل مصلحته أو مصلحتهم.
الثالث: لا يبعد أنه إذا صعد الفلك، وشاهد أحوال السماوات، والكرسيِّ، والعرش، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه، فيحصل له زيادة قوَّةٍ في القلب، باعتبارها يكون شروعه في الدعوةِ إلى الله تعالى أكمل، وقلَّة التفاته إلى أعداء الله أقوى، يبين ذلك أنَّ من عاين قدرة الله في هذا الباب لا يكون حاله في قوَّة النَّفسِ وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما بكون لمن لم يعاين، فقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} كالدَّلالة على أن فائدة ذلك الإسراء مختصَّة به، وعائدة إليه؛ على سبيل التعيين وأما قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] فيأتي الجواب عند تفسير تلك الآية في هذه السورة، ونبيِّن أن تلك الرؤيا رؤيا عيانٍ لا رؤيا منامٍ.
وأما حديث المعراج، فلا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
واعلم أن العروج إلى السَّماء، وإلى ما فوق العرش، فهذه الآية لا تدلُّ عليه، ومنهم من استدلَّ عليه بأوَّل سورة النجم، ومنهم من استدل عليه بقوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} [الانشقاق: 19] وسيأتي تفسيرها في موضعه إن شاء الله تعالى.(12/202)
فصل
رُوِيَ لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسري به فكان ب «ذِي طُوًى» قال: «يا جبريل: إنَّ قَوْمِي لا يُصدِّقُونَني، قال: يُصدِّقُكَ أبو بكرٍ، وهُو الصِّدِّيقُ
» . «قال ابن عبَّاس وعائشة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لمَّا كَانتْ لَيْلة أسْرِي بِي، فأصْبَحْتُ بِمكَّةَ، فضِقْتُ بأمْرِي، وعَرفْتُ النَّاس مُكذِّبينَ «، فروي أنه - عليه السلام - قعد مُعتزِلاً حزيناً، فمرَّ به أبو جهلِ بنُ هِشام، فجَلسَ إليْهِ، فقال كالمُستهزئ: هَل اسْتفَدت مِنْ شَيْءٍ؟ قال: نَعَمْ، أسْرِي بِي اللَّيلةَ، قَالَ: إلى أيْنَ؟ قال: إلى بَيْتِ المقْدسِ، قال: ثُمَّ أصْبَحْتَ بين ظهْرَانيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قال أبُو جهْلٍ: يا مَعْشرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤيٍّ هَلُمَّ، فانفَضَّتْ إليه المجَالِسُ، فَجَاءُوا حتَّى جحَلسُوا إليْهمَا قَالَ: قحَدِّثْ قوْمَكَ ما حدَّثْتَنِي، قَالَ: نَعَمْ، إنِّي أسْرِي بِي اللَّيْلةَ، قَالُوا: إلى أيْنَ؟ قَالَ: إلى بَيْتِ المقْدسِ، قالُوا: ثُمَّ أصْبَحْتَ بيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: نعم قَالَ: فمن بَيْن مُصفِّقٍ، ومِنْ بَينِ واضعِ يدَهِ على رَأسهِ مُتعجِّباً، وارْتَدَّ ناسٌ ممَّنْ كان آمَنَ بِهِ وصَدَّقهُ، وسَعَى رجُلٌ من المُشْركينَ إلى أبِي بَكْرٍ، فقَالَ: هَلْ لَكَ في صَاحِبكَ يَزْعمُ أنَّهُ أسْرِي به إلى بَيْتِ المَقْدسِ؟ قال: أو قَدْ قَالَ؟ قَالُوا: نَعمْ، قَالَ: لَئِن قَالَ ذلِكَ، لقَدْ صَدقَ، قَالُوا: وتُصدِّقهُ أنَّه ذهَبَ إلى بَيْتِ المَقدِسِ في لَيْلةٍ، وجَاءَ قَبْلَ أنْ يُصْبحَ؟ قَالَ: نَعَمْ إنِّي لأصَدِّقهُ بِمَا هُوَ أبْعَدُ من ذلِكَ، أصَدِّقهُ بِخبَرِ السَّماءِ بغُدْوةٍ أو رَوْحَةٍ، ولِذلِكَ سُمِّي أبُو بكرٍ» الصِّديق «، قال: وفِي القوْمِ مَنْ قَدْ أتَى المَسْجدَ الأقْصَى، فقَالُوا: هَلْ تَسْتَطيعُ أنْ تَنْعَتَهُ لَنَا؟ قَالَ: نَعمْ، قَالَ: فَذهَبْتُ أنْعَتُ وأنْعَتُ وأنْعَتُ، فمَا زِلتُ أنْعَتُ حتَّى التبسَ عليَّ، فَجيءَ بالمسْجِدِ، وأنَا أنْظرُ إليْهِ، فقَالَ قَوْمٌ: أمَّا النَّعْتُ فواللهِ لَقدْ أصَابَ، ثُمَّ قالوا: يا مُحمَّد، أخبرنا عن عيرنَا، فَهِيَ أهَمُّ إلَيْنَا، هَلْ لَقيتَ مِنْهَا شَيْئاً؟ قَالَ: نَعمْ، مَررْتُ عَلى عِير بَنِي فُلانٍ، وهِيَ بالرَّوحَاءِ، وقَدْ أضلُّوا بَعِيراً لهُم، وهُمْ فِي طَلبهِ، وفي رِحَالهِمْ قَدحٌ مِنْ ماءٍ، فَعطِشْتُ فأخَذتهُ فَشربْتهُ، ثُمَّ وضَعْتهُ، فَسَلوهُمْ: هَلْ وجَدُوا المَاء فِي القَدحِ حِينَ رَجعُوا إليْهِ، قالوا: هَذهِ آيةٌ.
قَالَ: ومررْتُ بِعير بَنِي فُلانٍ وفُلانٍ وفُلانٍ رِاكِبانِ قَعُوداً لهُمَأ بِذي مَوضعٍ، فنَفرَ بعَيرهُمَا منِّي فَرمَى فُلاناً، فانْكَسرَتْ يَدهُ، فسَلُوهُمَا عَنْ ذلِكَ قالوا: وهَذهِ آيةٌ.
قَالُوا: فأخْبِرْنَا عَنْ عِيرنَا، قَالَ: مَررْتُ بِهَا بالتَّنعِيم، قالوا: فمَا عِدَّتُهَا وأحْمالُهَا، وهَيْئَتُهَا، ومَنْ فِيهَا؟ فقال: نعم هَيْئَتُهَا كَذَا وكذَا، وفِيهَا فُلانٌ، يَقدمُهَا جملٌ أوْرقُ، عليهِ غِرارتَان مَخِيطتَانِ، تَطْلعُ عَليْكُم عِند طُلُوعِ الشَّمْسِ، قالوا: وهذه آيةٌ أخرى، ثمَّ خَرجُوا(12/203)
يَشْتدُّونَ نحو الثَّنيَّةِ يقولون: لقَدْ قَصَّ مُحمَّد بَيْننا وبَيْنهُ، حتَّى أتَوْا كُدًى فجلسُوا عليْهَا، فجَعلُوا يَنْتظرُون مَتَى تَطلعُ الشَّمسُ فيُكَذِّبُونَهُ، إذ قال قَائلٌ منهم:» والله «هذه الشَّمسُ قد طَلعَتْ»
وقال آخرون: والله، هذه الإبلُ قد طلعتْ، يَقْدمُها بعيرٌ أورق، وفيها فلانٌ كما قال لهُم فلمْ يُؤمِنُوا، وقالوا: «إنْ هذَا إلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ» .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَقَدْ رَأيْتُني فِي الحِجْرِ، وقُريْشٌ تَسْألُنِي عَنْ مَسْرايَ، فَسألَتْنِي عَنْ أشْياءَ مِنْ بَيتِ المقْدسِ، لَمْ أثْبِتْهَا فَكرِبْتُ كَرَباً ما كَربْتُ مِثْلهُ قَطُّ، قَالَ: فَرفَعهُ الله إليَّ أنْظرُ إليْهِ، مَا يَسْألُونني عَنْ شَيءٍْ إلاَّ أنْبَأتُهمْ بِهِ، وقَدْ رَأيْتُني في جَماعَةٍ مِنَ الأنْبِياءِ، فإذا مُوسَى قَائمٌ يُصلِّي، فَإذا رَجلٌ بثَوْبٍ جَعْدٌ، كأنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءة، وإذَا عيسَى قائمٌ يُصلِّي، أقْربُ النَّاس بِهِ شَبَهاً عُروَةُ بنُ مسْعُودٍ الثَّقفيُّ، وإذا إبْراهيمُ قَائمٌ يصلِّي، أشبهُ النَّاس به شبهاً صَاحِبكُمْ - يَعْنِي نَفسَهُ - فحَانَتِ الصَّلاة، فأممْتُهُمْ فلمَّا فَرغْتُ مِنَ الصَّلاة، قَال لِي قَائِلٌ: هَذَا مَالكٌ صَاحبُ النَّار، فَسلِّمْ عَليْهِ، فالتَفَتُّ إليْهِ فَبَدأنِي بالسَّلام» .
فصل
اختلفوا في الرؤية، فقال ابن عباس: رآهُ بفؤاده مرَّتين، وأبو هريرة أطلق الرؤية، وصرَّح ابن خزيمة وآخرون بالرُّؤية بالعينين، وهو اختيار أبي الحسن الأشعريِّ والنَّوويِّ في فتاويه، واستدلَّ من منع ذلك بما روى مسلم عن أبي ذرٍّ قال: قُلت: يا رسول الله، هَلْ رَأيْتَ ربَّك قال: «نُورٌ» وفي رواية: «رأيْتُ نُوراً» .
وقالوا: لم يمكن رؤية الباقي بالعين الفانية، ولهذا قال تعالى لموسى فيما رُوِيَ في الكتب الإلهية: «يا مُوسَى، إنَّه لا يَرانِي حيٌّ إلاَّ مَاتَ ولا يابس إلا تَدَهْدَهَ» .
قالت عائشة وجماعة: «إنَّ ذلك كان رُؤيا منامٍ» .(12/204)
وقال غيرهما من الصحابة: إنَّ ذلك كان ف ياليقظة، فإنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يرى رؤيا إلاَّ جَاءتْ مثلَ فلقِ الصُّبْحِ.
واختلف العلماءُ في أنَّ الإسراء والمعراج، هل كانا في ليلةٍ واحدةٍ، وأو كل واحدٍ في ليلةٍ؟ فمنهم من زعم أن الإسراء في اليقظة، والمعراج في المنام، وذهب آخرون إلى أنَّ الإسراء كان مرتين، مرَّة بروحه مناماً، ومرة بروحه يقظة، وذهب آخرون إلى تعدُّد الإسراء في اليثظة، وقالوا: «إنَّها أربع إسراءات» لتعدُّد الروايات في الإسراء، واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئاً لم يذكره الآخر، وبعضهم يذكر شيئاً ذكره الآخر، وهذا لا يدلُّ على التعدُّد؛ لأنَّ بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر؛ للعلم به، أو ينساهُ، أو يذكر ما هو الأهمُّ عنده، أو يبسطُ تارة، فيسوقه كلَّه، وتارة يحدث المخاطب بما هو الأنفع له، ومن جعل كلَّ رواية إسراء على حدةٍ، فقد أبعد هذا؛ لأنَّ كل السياقات فيها السلام على الأنبياء، وفي كلِّ منها تعريفه بهم، وفي كلِّها تفرض عليه الصلوات، فكيف يمكنُ أن يدعى تعدد ذلك؛ وما عدد ذلك؟ هذا في غاية البعد والاستحالة، والله أعلم، ذكر هذا الفصل ابن كثير.(12/205)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
قوله تعالى: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب} الآية.
لما ذكر الله - تعالى - في الآية الأولى إكرامه محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه أسرى به، ذكر في هذه الآية إكرام موسى - عليه السلام - قبله بالكتاب الذي آتاهُ.
وفي «آتيْنَا» ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تعطف هذه الجملة على الجملة السابقة من تنزيه الربِّ تبارك وتعالى، ولا يلزمُ في عطف الجمل مشاركة في خبر ولا غيره.
الثاني: قال العسكريُّ: إنه معطوف على «أسْرَى» واستبعده أبو حيَّان.
ووجه الاستبعادِ: أن المعطوف على الصِّلة صلةٌ، فيؤدِّي التقدير إلى صيرورة التركيب: سبحان الذي اسْرَى وآتينا، وهو في قوة: الذي آتينا موسى، فيعود الضمير على الموصول ضمير تكلُّمٍ من غير مسوِّغٍ لذلك.
والثالث: أنه معطوف على ما في قوله «أسْرَى» من تقدير الخبر، كأنه قال: أسْرَيْنا بعبدنا، أرَيْناهُ آيَاتنَا وآتَيْنَا، وهو قريبٌ من تفسير المعنى لا الإعراب.(12/205)
قوله: «وجَعلْنَأهُ» يجوز أن يعود ضميرُ النَّصب للكتاب، وهو الظاهر، وأن يعود لموسى - عليه السلام -.
وقوله: لألبَنِي إسْرائِيلَ «يجوز تعلقه بنفس» هُدًى «كقوله: {يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35] ، وأن يتعلق لالجعل، أي: جعلناه لأجلهم، وأن يتعلق بمحذوف نعتاً ل» هُدًى «.
قوله:» ألاَّ تَتَّخِذُوا «يجوز أن تكون» أنْ «ناصبة على حذف حرف العلَّة، أي: وجعلناه هدًى لئلاَّ تتخذوا. وقيل:» لا «مزيدة، والتقدير: كراهة أن تتخذوا، وأن تكون المفسرة بمعنى» أي «و» لا «ناهية، فالفعل منصوب على الأوَّل، مجزوم على الثاني، وأن تكون مزيدة عند بعضهم، والجملة التي بعدها معمولة لقولٍ مضمرٍ، أي: مقولاً لهم: لا تتخذوا، أو قلنا لهم: لا تتخذوا، قاله الفارسيُّ. وهذا ظاهر في قراءة الخطاب. وهذا مردودٌ بأنه ليس من مواضع زيادة طأنْ» .
وقرأ أبو عمرو «ألاَّ يَتَّخِذُوا» بياء الغيبة؛ جرياً على قوله «لبَنِي إسْرائِيلَ» والباقون بالخطاب التفاتاً. ومعنى الآية: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} ؛ لئلاَّ يتخذوا من دوني وكيلاً أي: ربًّا يكلون إليه أمورهم.
و «أنْ» في قراءة من قرأ بالياء في «ألاَّ يَتَّخِذُوا» في موضع نصب على حذف الخافض، أي: لئلاَّ يتَّخذوا، ومن قرأ بالتاء فتحتمل «أنّ» ثلاثة أوجهٍ:
أن تكون لا موضع لها، وهي التفسيرية.
وأن تكون زائدة، ويكون الكلام خبراً بعد خبر؛ على إضمار القول.
وأن تكون في موضع نصبٍ و «لا» زائدة، وحرف الجرِّ محذوفٌ مع «أن» قاله مكيٌّ.(12/206)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
قوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} .
العامَّة على نصب «ذريَّة» وفيها أوجه:
أحدها: انها منصوبةٌ على الاختصاص، وبه بدأ الزمخشري.
الثاني: أنَّها منصوبة على البدل من «وكيلاً» ، أي: ألاَّ تتخذوا من دوني ذرية من حملنا.
الثالث: أنها منصوبة على البدل من «مُوسَى» ذكره أبو البقاء، وفيه بعدٌ.(12/206)
الرابع: أنها منصوبة على المفعول الأول ل «تتخذوا» والثاني هو «وكيلاً» فقدِّم، ويكون «وكيلاً» ممَّا وقع مفرد اللفظ، والمعنيُّ به جمعٌ، أي: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلاً كقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً} [آل عمران: 80] .
الخامس: أنها منصوبة على النداء، أي: يا ذرية من حملنا، وهو قول مجاهد وخصَّ الواحديُّ هذا الوجه بقراءة الخطاب في «تتَّخذوا» وهو واضحٌ عليها، إلا أنه لا يلزم، وإن كان مكيٌّ قد منع منه؛ فإنه قال: «فأمَّا من قرأ» لا يتخذوا «بالياء ف» ذرية «مفعول لا غير، ويبعد النداء؛ لأن الياء للغيبة، والنداء للخطاب، فلا يجتمعان إلا على بعدٍ» وليس كما زعم؛ إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصاً، ويخبر عن آخر، فيقول: «يَا زيْدُ، يَنلِقُ بَكْرٌ، وفعَلتَ كذا» و «يَا زَيْدُ لِيفْعَلْ عَمرٌو كَيْتَ وكَيْتَ» .
السادس: قال مكيٌّ: وقيل: نصب على إضمار «أعْني» . وقرأت فرقة ذُريَّةُ «بالرفع، وفيها وجهان:
أحدهما: أنها خبر مبتدأ مضمرٍ تقديره: هم ذريَّة، ذكره أبو البقاء وليس بواضحٍ.
والثاني: أنها بدل من واو» تتخذوا «قال ابن عطية:» ولا يجوز ذلك في القراءة بالتاء، لأنك لا تبدل من ضمير المخاطب، لو قلت: «ضَربْتُكَ زيداً» على البدل، لم يجزْ «.
وردَّ عليه أبو حيَّان هذا الإطلاق، وقال:» ينبغي التفصيل، وهو إن كان بدل بعض أو اشتمال، جاز، وإن كان كلاًّ من كلٍّ، وأفاد الإحاطة؛ نحو: «جِئْتُم كَبِيرُكم وصَغِيركُمْ» جوَّزه الأخفش والكوفيون «.
قال:» وهو الصحيح «.
قال شهاب الدين: وتمثيل ابن عطيَّة بقوله» ضَربْتُكَ زيْداً «قد يدفع عنه هذا الرَّد.
وقال مكيٌّ:» ويجوز الرفع في الكلام على قراءة من قرأ بالياء على البدل من المضمر في «يَتَّخذوا» ولا يحسن ذلك في قراءة التاء؛ لأنَّ المخاطب لا يبدل منه الغائب، ويجوز الخفض على البدل من بني إسرائيل «.
قال شهاب الدِّين: أمَّا الرفع، فقد تقدَّم أنه قرئ به، وكأنه لم يطَّلعْ عليه، وأمَّا الجرُّ فلم يقرأ به فيما علمت، ويرد عليه في قوله» لأنَّ المخاطب لا يبدل منه الغائب «ما ورد على ابن عطيَّة، بل أولى؛ لأنه لم يذكر مثالاً يبيّن مراده، كما فعل ابن عطيَّة.(12/207)
قوله: {مَنْ حَمَلْنَا} : يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة.
قال قتادة: النَّاسُ كلُّهم ذ رية نوح - عليه السلام - لأنَّه كان معه في السَّفينةِ ثلاث بنينَ: سَام وحَام ويَافث، والناس كلُّهم من ذريَّة أولئك، فكأن قوله: يا ذرية من حَملْنَا مَع نُوحٍ قام مقام {يَاأَيُّهَا الناس} [البقرة: 21] .
وهذا يدلُّ على أنه ذهب إلى أنه منصوبٌ على النداء، وقد تقدَّم نقله عن مجاهدٍ أيضاً.
ثم إنه تعالى أثنى على نوح، فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} أي: كثير الشُّكرِ، روي أنه - عليه السلام - كان إذا أكل قال: «الحَمْدُ للهِ الَّذي أطْعَمنِي، ولو شَاءَ لأجَاعَنِي» ، وإذَا شَرِبَ، قَالَ «الحَمْدُ للهِ الَّذي أسْقانِي ولَوْ شَاءَ لأظْمَانِي» ، وإذا اكتسى، قال: «الحَمدُ للهِ الَّذي كَسانِي، ولو شَاءَ أعْرَانِي» ، وإذا احْتَذَى، قال: «الحَمْدُ للهِ الَّذي حَذانِي، ولوْ شَاءَ أحْفَانِي» ، وإذَا قَضَى حاجَتهُ، قال: «الحَمْدُ للهِ الَّذي أخْرجَ عنِّ الأذى في عَافيةٍ، ولوْ شَاءَ حَبَسهُ» .
ورُوِيَ أنه كان إذا أراد الإفطار، عرض طعامهُ على من آمن به فإن وجده محتاجاً، آثرهُ به.
فإن قيل: ما وجه ملائمةِ قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} بما قبله؟ فالجواب: التقدير: كأن قيل: لا تَتَّخذُوا من دوني وكيلاً، ولا تشركوا بي؛ لأنَّ نوحاً - عليه السلام - كان عبداً شكوراً، وإنما يكون شكوراً، إذا كان موحِّداً لا يرى حصول شيءٍ من النعم إلاَّ من فضل الله، وأنتم ذرية قومه، فاقتدوا بنوحٍ، كما أن آباءكم اقتدوا به.(12/208)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزالِ التوراة، وبأنه جعل التوراة هدًى لهم، بيَّن أنهم ما اهتدوا بهداه، بل وقعوا في الفساد، فقال: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} والقضاء في اللغة عبارةٌ عن وضع الأشياء عن إحكام، ومنه قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] .
وقول الشاعر: [الكامل]
3375 - وعَليْهِمَا مَسْرُودَتانِ قَضاهُمَا..... ... ... ... ... ... ... . .(12/208)
ويكون أمراً؛ كقوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] .
ويكون حكماً؛ كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} [يونس: 93] ويكون خلقاً؛ كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ومعناه [في] الآية: أعْلَمنَاهُم، وأخْبرنَاهُم فيما آتيْناهُم مِنَ الكُتبِ أنه سَيُفسِدُونَ.
وقال ابن عباس وقتادة: «وقَضَيْنَا عليهم» .
و «إلى» بمعنى «على» والمراد بالكتاب اللَّوح المحفوظ.
و «قَضَى» يتعدَّى بنفسه: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} [الأحزاب: 37] {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29] ، وإنما تعدَّى هنا ب «إلى» لتضمُّنه معنى: أنْفَذْنَا وأوْحَينَا، أي: وأنفذنا إليهم بالقضاء المحتومِ. ومتعلق القضاء محذوفٌ، أي: بفسادهم.
وقوله «لتُفْسِدُنَّ» جواب قسمٍ محذوف تقديره: والله لتُفسدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتينِ وهذا القسم مؤكدٌ لمتعلق القضاء.
ويجوز أن يكون «لتُفْسِدُنَّ» جواباً لقوله: «وقَضيْنَا» ، لأنه ضمِّن معنى القسم، ومنه قولهم: «قضَاءُ الله لأفعلنَّ» فيجرُون القضاء والنَّذرَ مجرى القسمِ، فيُتلقَّيان بما يُتَلقَّى به القسمُ.
والعامة على توحيد «الكِتابِ» مراداً به الجنس، وابن جبيرٍ وأبو العالية «في الكُتُب» جمعاً، جَاءُوا به نصًّا في الجمع.
وقرأ العامة بضمِّ التاء وكسر السِّين مضارع «أفْسَدَ» ، ومفعوله محذوف تقديره: لتُفْسِدنَّ الأديان، ويجوز ألا يقدَّر مفعولٌ، أي: لتُوْقعُنَّ الفساد.
وقرأ ابن عبَّاس ونصرُ بن عليٍّ وجابر بن زيد «لتُفْسَدُنَّ» ببنائه للمفعولِ، أي: ليُفْسِدنَّكُمْ غَيرُكم: إمَّا من الإضلال أو من الغلبة. وقرأ عيسى بن عمر بفتحِ التَّاء وضمِّ السين، أي: فَسدتُمْ بأنفسكم.
قوله: «مرَّتينِ» منصوب على المصدر، والعامل فيه «لتُفْسِدُنَّ» لأن التقدير: مرتين من الفساد.
وقوله: «عُلُوًّا» العامة على ضمِّ العين واللام مصدر علا يعلو، وقرأ زيد بن عليٍّ «(12/209)
عِلياً» بكسرهما والياء، والأصل الواو، وإنما أعِلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعولاً المصدر، الأكثر فيه التصحيح؛ نحو: عَتَا عُتُواً، والإعلال قليلٌ؛ نحو {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} [مريم: 69] على أحد الوجهين؛ كما سيأتي، وإن كان جمعاً، فالكثير الإعلال، نحو: «جِثِيًّا» وشذَّ: بَهْوٌ وبُهُوٌّ، ونَجْوٌ ونُجُوٌّ، وقاسه الفراء.
فصل
معنى {وَقَضَيْنَآ} : أوحينا {إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض} ، أي بالمعاصي وخلاف أحكام التوراة.
{فِي الأرض} يعني أرض الشَّام وبيت المقدس.
{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} أي: يكون استعلاؤكم على النَّاس بغير الحقِّ استعلاءاً عظيماً؛ لأنَّه يقال لكلِّ متكبِّر متجبِّر: قد علا وتعظَّم.(12/210)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
قوله: {وَعْدُ} أي: موعود، فهو مصدر واقع موقع مفعول، وتركه الزمخشريُّ على حاله، لكن بحذف مضافٍ، أي: وعدُ عقاب أولاهما. وقيل: الوعدُ بمعنى الوعيد، وقيل: بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت، فهذه أربعة أوجهٍ، والضمير عائدٌ على المرَّتينِ.
قوله: «‘ِبَاداً لَنَا» العامة على «عِبَاد» بزنة فِعَال، وزيد بن عليٍّ والحسن «عَبِيداً» على فعيل، وتقدَّم الكلام على ذلك.
وقوله: «فَجاسُوا» عطف على «بَعثْنَا» ، أي: ترتَّب على بعثنا إياهم هذا. وجُوس بفتح الجيم وضمها مصدر جاسَ يَجُوسُ، أي: فتَّش ونقَّب، قاله أبو عبيدٍ، وقال الفراء: «قَتلُوا» قال حسان: [الطويل]
3376 - ومِنَّا الَّذي لاقَى بِسيْفِ مُحمَّدٍ ... فَجَاسَ بِهِ الأعْداءُ عَرْضَ العَساكرِ
وقال أبو زيد: «الجُوسُ والجَوْسُ والحَوْسُ والهَوْسُ طلب الطَّوف باللَّيْلِ» . وقال قطربٌ: «جَاسُوا: نَزلُوا» . وأنشد: [المتقارب]
3377 - فَجُسْنَا دِيَارهُمْ عَنْوَةً ... وأبْنَا بِسَاداتِهمْ مُوثَقِينَا(12/210)
وقيل: «جَاسُوا بمعنى دَاسُوا» ، وأنشد: [الرجز]
3378 - إلَيْكَ جُسْنَا اللَّيْلَ بالمَطِيِّ ... وقيل: الجَوْسُ: التردُّد. ق لالليث: الجَوْس، والجوسان: التردُّد وقيل: طلب الشيءِ باستقصاءٍ، ويقال: «حَاسُوا» بالحاءِ المهملة، وبها قرأ طلحةُ وأبو السَّمَّال، وقُرِئ «فجُوِّسُوا» بالجيم، بزنة نُكِّسُوا.
و «خلال الدِّيارِ» العامة على «خِلال» وهو محتملٌ لوجهين:
أحدهما: أنه جمعُ خللٍ؛ كجِبال في جبل، وجمال في جَمل.
والثاني: أنه اسمٌ مفردٌ بمعنى وسطٍ، ويدل له قراءة الحسن «خَلَلَ الدِّيارِ» .
قوله: «وكان وعْداً» ، أي: وكان الجوسُ، أو وكان وعْدُ أولاهما، أو وكان وعدُ عقابهم.
قوله تعالى: {الكرة} : مفعول «رَدَدْنَا» وهي في الأصل مصدر كرَّ يكُرُّ، اي: رجع، ثم يعبَّر بها عن الدَّولةِ والقهر.
قوله: «عَليْهِم» يجوز تعلُّقه ب «رَدَدْنَا» ، أو بنفس الكرَّة؛ لأنه يقال: كرَّ عليه، فتتعدَّى ب «عَلَى» ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «الكرَّة» .
قوله: «نَفِيراً» منصوبٌ على التمييز، وفيه أوجهٌ:
أحدها: أنه فعيلٌ بمعنى فاعل، أي: أكثر نافراً، أي: من يَنْفِرُ معكم.
الثاني: أنه جمع نفرٍ؛ نحو: عَبْدٍ وعبيدٍ، قاله الزجاج؛ وهم الجماعة الصَّائرُون إلى الأعداء.
الثالث: أنه مصدر، أيك أكثر خروجاً إلى الغزو؛ قال الشاعر: [المتقارب]
3379 - فَأكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والِدٍ ... وحِمْيَرَ اكْرِمْ بقَوْمٍ نَفِيرَا
والمفضل عليه محذوفٌ، فقدره بعضهم: أكثر نفيراً من أعدائكم، وقدَّره الزمخشريُّ: أكثر نفيراً ممَّا كنتم.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} يعني أوَّل المرَّتين.(12/211)
قال قتادة: «إفسادهم في المرَّة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم» .
وقال ابن إسحاق: «إفسادهم في المرَّة الأولى قتل شعيا في الشجرة، وارتكابهم المعاصي» .
{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} .
قال قتادة: «يعني جالوت وجنوده، وهو الذي قتلهُ داود، فذاك هو عودُ الكرَّة» .
وقال سعيد بن جبيرٍ: «سنحاريب من أرض نينوى» وقال ابن إسحاق: «بُخْتَنصَّر البابليّ وأصحابه» وهو الأظهر، فقتل منهم أربعين ألفاً ممَّن يقرأ التوراة، وذهب بالبقيَّة إلى أرضه، فبقوا هناك في الذلِّ إلى أن قيَّض الله ملكاً آخر من أهل بابل، واتَّفق أن تزوَّج بامرأةٍ من بني إسرائيل، فطلبت تلك المرأةُ من ذلك الملك أن يردَّ بني غسرائيل غلى بيت المقدس، ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء، ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، وهو قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} .
وقال آخرون: يعني بقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} هو أنه تعالى ألقى الرُّعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم، أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس، فقصدوهم، وبالغوا في قتلهم، وإفنائهم، وإهلاكهم.
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرضٍ في معرفة الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لمَّا أكثروا من المعاصي، سلَّط الله عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم.
فصل في الاحتجاج على صحة القضاء والقدر
احتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القضاء والقدر من وجهين:
الأول: أنه تعالى قال: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} ، وهذا القضاءُ أقلُّ احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم، فثبت أنَّه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً وجزماً، حتماً، لا يقبل النَّسخ؛ لأنَّ القضاء معناه الحكم الجزم، ثم إنه الله تعالى أكَّد القضاء بقوله: {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} .
فنقول: عدم وقوع ذلك الفساد منهم يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وانقلاب حكمه الجازم باطلاً، وانقلاب علمه الحقِّ جهلاً، وكل ذلك محال، فكان عدم إقدامهم(12/212)
على ذلك الفساد محالاً، وكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً، لا يقبل النَّسخ والرفع، مع أنَّهم كلِّفُوا بتركه، ولعنوا على فعله؛ وذلك يدل على أن الله قد يأمر بالشيء ويصدُّ عنه وقد ينهى عن الشيء ويسعى فيه.
الثاني: قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} والمراد به الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنَّهب والأسر، فبيَّن تعالى أنَّه هو الذي بعثهم على بعثهم على بني إسرائيل، ولا شكَّ أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكبير والمعاصي العظيمة.
ثم إنه تعالى أضاف كلَّ ذلك إلى نفسه بنفسه بقوله: ثم {بَعَثْنَا} وذلك يدلُّ على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى. أجاب الجبائيُّ عنه من وجهين:
الأول: قوله: «بَعَثْنَا» هو أنَّه تعالى أمر أولئك القوم بغزو بني إسرائيل؛ لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى الله من حيث الأمرُ.
والثاني: أنَّ المراد: خَلَّيْنَا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم، فالمراد من هذا البعث التخليةُ وعدم المنع.
والجواب الأوَّل ضعيفٌ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس، وإحراق التوراة، وقتل حفَّاظ التوراة لا يجوز أن يقال: إنهم فعلوا ذلك بأمر الله.
والجواب الثاني أيضاً ضعيفٌ؛ لأنَّ البعث عبارةٌ عن الإرسال، والتخلية عبارةٌ عن عدم المنع، فالأول فعلٌ، والثاني تركٌ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدَّين بالآخر، وإنه لا يجوز، فثبت صحَّة ما ذكرناه.(12/213)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} الآية لما حكى تعالى عنهم بأنَّهم لما عصوا، سلَّط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنَّهب، فعند ذلك ظهر أنههم أطاعوا، فقال تعالى: إن أطاعوا، فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصرُّوا على المعصية، فقد أساءوا إلى أنفسهم، وقد تقرَّر في العقول أن الإحسان إلى النَّفْس حسنٌ مطلوبٌ، وأن الإساءة إليها قبيحةٌ، فلهذا المعنى قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} .
قوله تعالى: {فَلَهَا} : في اللام أوجه: أحدها: أنها بمعنى «على» أي: فعليها كقوله: [الطويل]
3380 - ... ... ... ... ... ... . ...(12/213)
فَخَرَّ صَرِيعاً لليَدَيْنِ وللْفَمِ
أي: على اليدين. وحروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعضٍ؛ كقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي: إليها.
والثاني: أنها بمعنى «إلى» .
قال الطبريُّ: «أي: فغليها ترجعُ الإساءة» .
الثالث: أنها على بابها، وإنما أتى بها دون «على» للمقابلة في قوله: «لأنْفُسكُمْ» فأتى بها ازدواجاً.
وهذه اللام يجوز أن تتعلق بفعل مقدرٍ كما تقدَّم في قول الطبريِّ، وإمَّا بمحذوف على أناه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فلها الإساءةُ لا لغيرها.
قال الواحدي: «لا بُدَّ في الآية من إضمارٍ؛ والتقدير: وقلنا:» إنْ أحسَنْتُم، أحسنتم لأنفُسِكُمْ «والمعنى: إنْ أحْسَنْتُمْ بفعل الطاعات، فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن تفعلوا تلك الطاعة يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات وإن أسأتم بفعل المحرَّمات، أسأتم إلى أنفسكم من حيث إنَّ شُؤم تلك المعاصي يفتحُ الله عليكم أبواب العقوبة.
قال أهل المعاني:» هذه الآيةُ تدلُّ على أن رحمة الله تعالى غالبةٌ على غضبه؛ بدليل أنَّه لما حكى عنهم الإحسان، أعاده مرتين؛ فقال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} ولما حكى عنهم الإساءة، اقتصر على ذكرها مرة واحدة، فقال: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ولولا أن جانب الرحمة غالبٌ، وإلاَّ لما كان ذلك «.
قوله:» فإذا جَاءَ وعدُ الآخِرةِ «، اي: المرَّة الآخرة، فحذفت» المرَّةُ «للدلالة عليها، وجواب الشرطِ محذوفٌ، تقديره: بَعَثْناهُم، ليَسًوءوا وُجُوهَكمْ، وإنما حسُن هذا الحذف لدلالة ما تقدَّم عليه من قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} [الإسراء: 5] والمرةُ الآخرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - وقصدهم قتل عيسى حين رفع.
قال الواحديُّ:» فبعث الله عليهم بختنصَّر البابليَّ المجوسيَّ، فسبى بني إسرائيل، وقتل، وخرَّب بيت المقدس، وسلَّط عليهم الفرس والرُّوم: خردوش وطيطوس؛ حتَّى قتلوهم، وسبَوْهُم، ونَفوهُمْ عن ديارهم «.
قال ابن الخطيب:» والتواريخُ تشهد أنَّ يختنصر كان قبل بعث عيسى وزكريَّا بسنين متطاولةٍ، ومعلوم أنَّ الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملكٌ من الرُّوم، يقال له: قُسطَنْطِينُ «.(12/214)
قوله: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} متعلق بالجواب المقدر.
يقال: سَاءَهُ يَسُوءهُ، أي: أحْزَنَهُ وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه؛ لأنَّ آثار الأعراض الفسانيَّة الحاصلة في القلب إنَّما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النُّضرة والإشراق والإسفار في الوجه، وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسَّواد في الوجه، فلهذا عزيت الإساءة غلى الوجوه في هذه الآية، ونظير هذا المعنى في القرآن كثيرٌ.
وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر «لِيَسًوءَ» بالياء المفتوحة وهمزة مفتوحة آخراً.
والفاعل: إما الله تعالى، وإمَّا الوعد، وإمَّا البعثُ، وإمَّا النَّفيرُ، والكسائي بنون العظمة، أي: لِنَسُوء نحنُ، وهو موافقٌ لما قبله من قوله {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} و «وَدَدْنَا» و «أمْدَدْنَا» وما بعده من قوله: «عُدْنَا» و «جَعَلْنَا»
وقرأ الباقون «لِيَسًوءُوا» مسنداً إلى ضمير الجمع العائد على العباد أو أولي البأسِ، أو على النَّفير؛ لأنه اسم جمعٍ، وهو موافقٌ لما بعده من قوله {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ} وفي عود الضمير على النفير نظر؛ لأن النفير المذكور من المخاطبين، فكيف يوصف ذلك النفير بأنه يسوءُ وجوههم؟ اللهم إلا أن يريد هذا القائلُ أنه عائدٌ على لفظه، دون معناه؛ من بابِ «عِندِي دِرْهمٌ ونِصْفهُ» .
وقرأ أبيٌّ «لِنَسُوءَنْ» بلام الأمر ونون التوكيد الخفيفة ونون العظمة، وهذا جواب ل «إذا» ولكن على حذف الفاء، أي: فَلِنَسُوءَنْ، ودخلت لامُ الأمر على فعل المتكلِّم؛ كقوله تعالى {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] .
وقرأ ابنُ أبي طالبٍ «لَيسُوءَنَّ» و «لَنَسُوءَنَّ» بالياء والنون التي للعظمة، ونون التوكيد الشديدة، واللام التي للقسم، وفي مصحف أبيِّ «لِيَسُوءُ» بضم الهمزة من غير واوٍ، وهذه القراءة تشبه أن تكون على لغةِ من يجتزئُ عن الواو بالضمة؛ كقوله: [الوافر]
3381 - فَلوْ أنَّ الأطبَّا كَانُ حَوْلِي..... ... ... ... ... ...
يريد: «كَانُوا حَوْلِي» وقول الآخر: [الكامل]
3382 - ... ... ... ... ... ... ... . ..... . . إذَا مَا النَّاسُ جَاعُ وأجْدَبُوا(12/215)
يريد «جَاعُوا» ، فكذا هذه القراءة، أي: لِيَسُوءوا، كما في القراءةِ الشهيرة، فحذف الواو.
وقرئ «لِيُسِيءَ» بضمِّ الياء وكسر السين وياء بعدها، أي: ليُقَبِّحَ الله وجوهكم، أو ليقبِّح الوعد، أو البعث. وفي مصحف أنس «وَجْهَكُمْ» بالإفراد؛ كقوله: [الوافر]
3383 - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكمُ تَعِفُّوا..... ... ... ... ... ... ... . .
وكقوله: [الرجز]
3384 - ... ... ... ... ... ... ... ..... في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقَدْ شَجِينَا
وكقوله:
3385 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
قوله: «وليَْخُلوا» من جعل الأولى لام «كَيْ» كانت هذه أيضاً لام «كَيْ» معطوفة عليها، عطف علة على أخرى، ومن جعلها لام أمرٍ كأبيٍّ، أو لام قسم؛ كعلي بن أبي طالب، فاللام في «لِيدْخُلوا» تحتمل وجهين: الأمر والتعليل، و «كَمَا دَخلُوهُ» نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضميره، كما يقول سيبويه، أي: دخولاً كما دخلوه، و «أوَّل مرَّةٍ» ظرف زمانٍ، وتقدَّم الكلام عليها في براءة.
والمراد بالمسجد بيت المقدس ونواحيه.
قوله: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} التتبير الهلاك، يقال: تبر الشيء تبراً وتباراً وتبرية إذا هلك، وتبَّرهُ: أهلكه، وكلُّ شيء جعلته مكسَّراً مفتَّتا، فقد تبَّرتهُ، ومنه قيل: تب رالزجاج، وتبر الذَّهب لمكسره، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} [الأعراف: 139] ، وقوله: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} [نوح: 28] وقوله: «ما عَلَوْا» يجوز في «ما» أن تكون مفعولاً بها، أي: ليهلكوا الذي عَلوْهُ، أي: غلبوا عليه وظفروا وقيل: لِيهْدمُوه: كقوله: [الطويل]
3386 - ومَا النَّاسُ إلاَّ عَامِلانِ، فعَاملٌ ... يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وآخَرُ رَافِعُ
ويحتمل: «ويُتَبِّرُوا ما داموا غالبين» أي: ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل، وعلى هذا تكون ظرفية، أي: مدَّة استعلائهم، وهذا يحوجُ إلى حذف مفعولٍ، اللهم إلا أنْ يكون القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعل؛ نحو: هو يعطي ويمنع.
وقوله: «تَتْبيراً» ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر، وإزالة الشكِّ في صدقه كما في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] أي حقًّا، والمعنى ليُدمِّرُوا ويخرّبوا ما غلبوا عليه.(12/216)
ثم قال: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} والمعنى: لعلَّ ربَّكم أن يرحمكم، ويعفُوَ عَنْكُم يا بني إسرائيل بعد انتقامهِ منكم بردِّ الدَّولة إليكم.
{وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} أي: إن عدتم إلى المعصية، عدنا إلى العقوبة، قال القفال: «وإنَّما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا؛ لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب} [الأعراف: 167] ثم قال: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي، وهو التكذيب بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب، فجرى على بني النضير، وقريظة وبني قينقاع، ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية، لا ملك لهم ولا سلطان. ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} .
يجوز أن تكون» حصيراً «بمعنى فاعل، أي: حاصرة لهم، محيطة بهم، وعلى هذا: فكان ينبغي أن تؤنَّث بالتاء كجبيرة. وأجيب: بأنها على النَّسب، أي ذات حصرٍ؛ كقوله: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] ، أي ذات انفطارٍ، وقيل: الحصيرُ: الحبسُ، قال لبيد: [الكامل]
3387 - ومَقامَةٍ غُلْبٍ الرِّجالِ كَأنَّهم ... جِنٌّ لَدى بَابِ الحَصِير قِيَام
وقال أبو البقاء:» لم يؤنثه؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعلٍ «وهذا منه سهوٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى أن تكون الصفةُ التي على فعيلٍ، إذا كانت بمعنى فاعل، جاز حذف التاء منها، وليس كذلك لما تقدَّم من أن فعيلاً بمعنى فاعل يلزمُ تأنيثه، وبمعنى مفعول يجب تذكيره، وما جاء شاذًّا من النوعين يؤوَّلُ.
وقيل: إنما لم يؤنَّث لأنّ تأنيث «جهنَّم» مجازيٌّ.
وقيل: لأنها في معنى السِّجْن والمحبس، وقيل: لأنها بمعنى فراشٍ.
ويجوز أن تكون بمعنى مفعول أي: جعلناها موضعاً محصوراً لهم، والمعنى: أنَّ عذاب الدنيا، وإن كان شديداً إلا أنه قد يتفلَّت بعض النَّاس عنه، والذي يقع فيه يتخلَّص عنه إمَّا بالموت، أو بطريق آخر، وأما عذاب الآخرة، فإنَّه يكون محيطاً به، لا رجاء في الخلاص منه.(12/217)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الآية.(12/217)
لما شرح فعله في حقِّ عباده المخلصين، وهو الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإيتاء التَّوراة لموسى - عليه السلام، وما فعله في حقِّ العصاة، وهو تسليطُ البلاء عليهم - كان ذلك تنبيهاً على أنَّ طاعة الله توجب كلَّ خيرٍ، ومعصيته توجب كلَّ بلية، ولا جرم أثنى على القرآن، فقال تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
قوله تعالى: {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} : نعتٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: للحالةِ، أو للملَّة، أو للطريقة قال الزمخشريُّ: «وأيّتما قدَّرتَ؛ لمْ تَجِدْ مَعَ الإثباتِ ذَوْقَ البلاغة الذي تَجدهُ مع الحذفِ؛ لِما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامةٍ تفقد مع إيضاحه» .
قال ابن الخطيب: وقولنا: هذا الشَّيء أقومُ من ذاك إنما يصح في شيئين اشتركا في معنى الاستقامة، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين، أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية، وهذا هنا محال؛ فكان وصفه بأنه أقوم مجازاً، إلا أن لفظ «أفْعَل» قد جاء بمعنى الفاعل، كقولنا: «اللهُ أكْبَرُ» ، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن؛ كقوله تعالى: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] أي بالخصلة التي هي أحسنُ.
ومعنى «هِيَ أقْومُ» أي: إلى الطريقة التي هي أصوبُ.
وقيل: إلى الكلمة التي هي أعدلُ وهي شهادة أن لا إله إلا الله {وَيُبَشِّرُ} - يعني القرآن - {المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ} أي: بأنَّ لهم {أَجْراً كَبِيراً} وهو الجنَّة.
قوله تعالى: {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} : فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون عطفاً على «أنَّ» الأولى، أي: يُبشِّرُ المؤمنين بشيئين: بأجرٍ كبيرٍ، وبتعذيب أعدائهم، ولا شكَّ أنَّ ما يصيب عدوَّك سرورٌ لك، وقال الزمخشري: «ويحتمل أن يكون المراد: ونخبر بأنَّ الَّذينَ» .
قال أبو حيّان: «فلا يكون إذ ذاك داخلاً تحت البشارةِ» . قال شهابُ الدِّين: قول الزمخشريُّ يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون قوله «ويحتمل أن يكون المراد: ويخبر بأنَّ» من باب الحذف، أي: حذف «ويُخْبِرُ» وأبقى معموله، وعلى هـ1ذا فيكون «أنَّ الَّذينَ» غير داخلٍ في حيِّز البشارة بلا شكٍّ، ويحتمل أن يكون قصده: أنه يريد بالبشارة مجرَّد الإخبار، سواءٌ كان بخيرٍ أم بشرٍّ، وهل هو فيهما حقيقةٌ أو في أحدهما، وحينئذ يكون جمعاً بين الحقيقة والمجاز؛ أو استعمالاً للمشترك في معنييه؛ وفي المسألتين خلافٌ مشهورٌ، وعلى هذا: فلا يكون قوله «وأنَّ الَّذينَ لا يؤمِنُونَ» غير داخلٍ في حيِّز البشارةِ، إلاَّ أنَّ الظاهر من حالِ(12/218)
الزمخشريِّ: أنَّه لا يجيزُ الجمع بين الحقيقةِ والمجازِ، ولا استعمال المشتركِ في معنييه.
فصل
اعلم أن العمل الصَّالحَ، كما يوجب لفاعله النَّفع الأكمل الأعظم، كذلك تركه يوجب الضَّرر الأكمل الأعظم، فإن قيل: كيف يليقُ لفظ البشارة بالعذاب؟ .
فالجواب: هذا مذكورٌ على سبيل التهكُّم، أو من باب إطلاق أحد الضِّدَّين على الآخر؛ كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] وتقدَّم الكلام عليه قبل الفصل، فإن قيل: هذه الآية [واردة] في شرح أحوالِ اليهود، وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة، فكيف يليق بهذا الموضع قوله تعالى: {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ؟ .
فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنَّ أكثر اليهود ينكرُون الثواب والعقاب الجسمانيين.
والثاني: أن بعضهم قال: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] فهم بهذا القول صاروا كالمنكرينَ للآخرةِ.(12/219)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
في الباءين ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهما متعلقتان بالدُّعاء على بابهما؛ نحو: «دَعوْتُ بكذا» والمعنى: أنَّ الإنسان في حال ضجره قد يدعو بالشَّر، ويلحُّ فيه، كما يدعو بالخير ويلحُّ فيه.
والثاني: أنهما بمعنى «في» بمعنى أنَّ الإنسان إذا أصابه ضرٌّ، دعا وألحَّ في الدعاءِ، واستعجل الفرجَ؛ مثل الدعاءِ الذي كان يحبُّ أن يدعوهُ في حالة الخير، وعلى هذا: فالمدعوُّ به ليس الشرَّ ولا الخير، وهو بعيدٌ.
الثالث: أن تكون للسَّبب، ذكره أبو البقاء، والمعنى لا يساعده، والمصدر مضافٌ لفاعله.
وحذفت الواو ولفظها الاستقبال بللاَّم الساكنة؛ كقوله تعالى: {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] وحذف في الخط أيضاً، وهي غير محذوفة في المعنى.
فصل في نظم الآية
وجه النَّظم: أن الإنسان بعد أن أنزل الله - تعالى - عليه هذا القرآن، وخصه بهذه(12/219)
النعم العظيمة، قد يعدل على التمسُّك بشرائعه، والرُّجوع إلى بيانه، ويقدم علىما لا فائدة فيه، فقال: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} .
واختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشرِّ، فقيل: المراد منه النضر بن الحارث، حيث قال: اللهُم، إن كان هذا هو الحقَّ من عندكَ. فأجاب الله دعاءه، وضُربَتْ رَقَبتهُ، وكان بعضهم يقول: ائْتِنَا بعذابِ الله، وآخرون يقولون: مَتَى هذا الوعد إن كنتم صَادقِينَ، وإنَّما فعلوا ذلك؛ للجَهْلِ، ولاعتقادِ أن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - كاذبٌ فيما يقول.
وقيل: المراد أنَّ الإنسان في وقت الضجر يلعنُ نفسه، وأهله وولده، وماله؛ كدعائه ربَّه أن يهب له النعمة والعافية، ولو استجاب الله دعاءه على نفسه في الشرِّ، كما يستجيب له في الخير، لهلك، ولكنَّ الله لا يستجيبُ؛ لفضله.
رُوِيَ أن النبي المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - «دفع إلى سودةَ بنت زَمْعةٍ أسيراً، فاقبل يَئِنُّ باللَّيْلِ، فقالت له: مَا لَكَ تَئِنُّ؟ فَشَكَى ألم القدِّ، فأرْخَتْ لهُ مِنْ كتافه، فلمَّا نَامَتْ أخرجَ يدهُ، وهَربَ فلمَّا أصْبحَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا بِهِ، فأعْلمَ بِشأنهِ، فقال صلوات الله وسلامه عليه: اللَّهُمَّ اقطعْ يَدهَا، فَرفَعتْ سَوْدَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - يَدهَا تتَوقَّعُ أن يَقْطعَ الله يَدهَا، فقَال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنِّي سَألتُ الله أنْ يَجْعلَ دُعائِي على مَنْ لا يَسْتحقُّ عَذاباً مِنْ أهْلِي رَحْمةً؛ لأنِّي بَشرٌ أغْضَبُ كَمَا تَغْضَبُونَ» .
وقيل: يحتمل أن يكون المرادُ أنَّ الإنسان قد يبالغُ في الدُّعاء طلباً للشَّيء، يعتقد أنَّ خيره فيه، مع أنَّ ذلك الشيء منبع لشرِّه وضرره، وهو يبالغ في طلبه؛ لجهله بحال ذلك الشَّيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل؛ لكونه عجولاً مُغْتَرًّا بظواهر الأمور غير متفحِّصٍ عن حقائقها، وأسرارها.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} .
وقيل: المراد الجنس؛ لأنَّ أحداً من النَّاس لا يعرى عن عجلةٍ، ولو تركها، لكان تركها أصلح له في الدِّين والدُّنيا، ومعنى القولين واحدٌ؛ لأنَّا إذا حملنا الإنسان على آدم - صلوات الله وسلامه عليه - فهو أبُو البشر وأصلهم، فإذا وصف بالعجلة، كانت الصفة لازمةً لأولاده.
وقال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «عَجُولاً» ضَجُوراً لا صبر له على سرَّاء ولا ضرَّاء.(12/220)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
قوله: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} الآية.
في تقرير النظم وجوهٌ:
أحدها: أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدِّين، وهو القرآن، أتبعه بما أوصله إليهم من نعم الدُّنيَا، فقال عزَّ وجلَّ: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} فكما أنَّ القرآن ممتزجٌ من المحكم والمتشابه، فكذلك الزَّمان مشتمل على الليل والنهار، فالمحكم كالنهار، والمتشابه كاللَّيل، وكما أن المقصود من التكليف لا يتمُّ إلاَّ بذكر المحكم والمتشابه، فكذلك الوقت والزَّمان لا يكمل الانتفاع به إلاَّ باللَّيل والنَّهار.
وثانيها: أنه تعالى لما بيَّن أن هذا القرآن يهدي للَّتي هي أقومُ، وليس الأقومُ إلاَّ ذكر الدَّلائلِ الدَّالة على التَّوحيد والنبوَّة، لا جرم أردفهُ بذكر دلائلِ التَّوحيد، وهو عجائبُ العالم العلويِّ والسفليِّ.
وثالثها: أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولاً، أي: متنقلاً من صفةٍ إلى صفةٍ، ومن حالةٍ غلى حالةٍ بيَّن أن أحوال كلِّ هذا الالم كذلك، وهو الانتقال من النُّورِ غلى الظلمة وبالضِّد، وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصانِ.
قوله تعالى: {آيَتَيْنِ} : يجوز أن يكون هو المفعول الأوَّل، و «اللَّيْلَ والنَّهارَ» ظرفان في موضع الثاني، قدِّما على الأول، والتقدير: وجعلنا آيتين في اللَّيل والنَّهار، والمراد بالآيتين: إمَّا الشمسُ والقمر، وإمَّا تكوير هذا على هذا، وهذا على هذا، ويجوز أن يكون «آيَتَيْن» هو الثاني، و «اللَّيل والنَّهار» هما الأول، ثم فيه احتمالان:
أحدهما: أنه على حذف مضافٍ: إمَّا من الأول، أي: نيِّري الليل والنهار، وهما القمرُ والشمس، وإمَّا من الثاني، أي: ذوي آيتين.
والثاني: أنه لا حذف، وأنهما علامتان في أنفسهما، لهما دلالة على شيء آخر. قال أبو البقاء: طفلذلك أضاف في موضعٍ، ووصف في آخر «يعني أنه أضاف الآية إليهما في قوله» آيَة اللَّيلِ «و» آيَة النَّهارِ «ووصفهما في موضع آخر بأنَّهما آيتان؛ لقوله: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} هذا كلُّه إذا جعلنا الجعل تصييراً متعدِّياً لاثنين، فإن جعلناه بمعنى» خَلَقْنَا «كان» آيَتَيْنِ «حالاً، وتكون حالاً مقدَّرة.
واستشكل بعضهم أن يكون» جَعلَ «بمعنى صيَّر، قال:» لأنَّه يَستَدْعِي أن يكون الليلُ والنهارُ موجودين على حالةٍ، ثم انتقل عنها إلى أخرى «.(12/221)
فصل في المقصود ب:» آيتين «
ومعنى» آيَتَيْنِ «أي: علامتين دالَّتيْنِ على وجودنا، ووحدانيتنا، وقُدْرتِنَا.
قيل: المراد من الآيتين نفس الليل والنهار، أي أنَّه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدِّين والدنيا.
أمَّا في الدِّين فلأنَّ كلَّ واحد منهما مضادٌّ للآخر، مغاير له، مع كونهما متعاقبين على الدَّوام من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودتين بذاتيهما، بل لا بُدَّ لهما من فاعل يدبِّرهما، ويقدِّرهما بالمقادير المخصوصة.
وأما في الدنيا؛ فلأنَّ مصالح الدنيا لا تتمُّ إلا باللَّيل والنَّهار، فلولا الليل، لما حصل السُّكون والرَّاحة، ولولا النهار، لما حصل الكسب والتَّصرُّف.
ثم قال تعالى: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل} وعلى هذا تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين، والتقدير: فمحونا الآية الَّتي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهارُ مبصرة، ونظيره قولنا: نفس الشيء وذاته، فكذلك آيةُ الليل هي نفس الليل، ومنه يقال: «دَخلتُ بلادَ خُراسَان» أي: دخلت البلاد الَّتي هي خُراسَانَ، فكذا ها هنا.
وقيل: على حذف مضاف، أي: وجعلنا نيِّري اللَّيل والنهار، وقد تقدَّم.
وفي تفسير «المَحْوِ» قولان:
الأول: ما يظهر في القمر من الزيادة والنُّقصان، فيبدو في أوًّل الأمْرِ في صورة الهلالِ، ثمَّ يتزايدُ نورهُ، حتَّى يصير بدراً كاملاً، ثم ينقص قليلاً قليلاً، وذلك هو المحوُ، إلى أن يعود إلى المحاقِ.
والثاني: أنَّ نور القمر هو الكلفُ الذي يظهر في وجهه، يروى أن الشمس والقمر كانا سواءً في النُّور.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «جَعلَ الله تعالى نُور الشَّمس سبعينَ جُزْءاً، ونُورَ القمر سبْعينَ جُزْءاً، فمحا من نور القمر تسعة وستِّين جزءاً، فجعلها مع نُور الشمس، فأرسلَ الله تعالى جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فأمرَّ جناحه على وجه القمر، فطمس عنه الضَّوء» .
ومعنى «المَحْوِ» في اللغة: إذهاب الأثرِ، تقول: مَحوْتهُ أمْحوهُ، وانْمَحَى، وامْتَحَى: إذا ذَهبَ أثره.
وحمل المَحْوِ ها هنا على الوجه الأوَّل أولى؛ لأنَّ اللام في قوله: {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} متعلق بالوجه الأول، وهو محوُ آية الليل، وجعل آية(12/222)
النهار مبصرة؛ لأنَّ بسبب اختلاف أحوال نور القمر تعرف السِّنون والحساب، ويبتغى فضل الله تعالى.
وأهلُ التجارب بيَّنوا أنَّ اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه، مثل أحوال البحار ف يالمدِّ والجزرِ، ومثل أحوال التجربات على ما يذكره الأطباء في ك تبهم، وبسبب زيادة نُور القمر ونقصانه تحصل الشهور، وبسبب معاودة الشُّهور تحصل السِّنون العربية المبنية على رؤية الهلالِ.
ويمكن أيضاً إذا حملنا المحو على الكلف أن يكون برهاناً قاهراً على صحَّة قول المسلمين في المبدأ والمعاد؛ لن جرم القمر بسيطٌ عند الفلاسفة، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدلُّ على أنه ليس بسبب الطبيعة، بل لأجل أن الفاعل المختار خصَّص بعض أجزائه بالنُّور الضعيف وبعض اجزائه بالنور القوي، وذلك يدل على أن مدبِّر العالم فاعلٌ مختارٌ بالذَّات، واعتذر الفلاسفة عنه بأنَّه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز وجه الكواكب في أجرام الأفلاك، فلمَّا كانت تلك الأجرام أقلَّ ضوءاً من جرم القمر، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر، كالكلف في وجه الإنسان، وهذا ليس بشيء؛ لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء، فحصول تلك الأجرام الظلمانيَّة في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء ليس إلاَّ لمخصِّصٍ حكيم، وكذلك القولُ في أحوال الكواكب؛ لأنَّ الفلك جرمٌ بسيطٌ متشابه الأجزاء، فلم يكَن حصول جرم الكواكب ف يبعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب، وذلك يدلُّ على أنَّ اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعيَّن من الفلك لأجلِ تخصيص العالم الفاعل المختار.
روي أن ابن الكواء سأل عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن السَّواد الذي في القمر، فقال: هو أثَرُ المَحْوِ.
قوله: «مُبْصِرةً» فيه أوجه:
أحدها: أنه من الإسناد المجازيِّ؛ لأنَّ الإبصار فيها لأهلها؛ كقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] لمَّا كانت سبباً للإبصار؛ لأن الإضاءة سببٌ لحصول الإبصار، فأطلق الإبصار على الإضاءة إطلاقاً لاسم المسبِّب على السَّبب.
وقيل: «مُبْصِرة» : مضيئة، وقال أبو عبيدة: قد أبصر النهار، إذا صار الناس يبصرون فيه، فهو من باب أفعل، والمراد غير من أسند الفعل إليه؛ كقولهم: «أضْعفَ الرَّجلُ» أي: ضَعُفتْ ماشيته، و «أجْبَنَ الرَّجلُ» إذا كان أهله جبناء، فالمعنى أنَّ أهلها بصراءُ.(12/223)
وقرأ علي بن الحسين وقتادة «مَبْصَرة» بفتح الميم والصاد، وهو مصدر أقيم مقام الاسمِ، وكثر هذا في صفات الأمكنة نحو: «مَذْأبَة» .
ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} أي لتبصروا كيف تتصرَّفون في أعمالكم، {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أي لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما، لم يعرف الليل من النهار؛ ولم يدر الصائم متى يفطر، ولم يدر وقت الحجِّ، ولا وقت حلول الآجالِ، ولا وقت السكون والرَّاحة.
واعلم أن الحساب مبنيٌّ على أربع مراتب: الساعات، والأيام، والشُّهور، والسِّنون، فالعدد للسنين، والحساب لما دون السنين، وهي الشُّهور، والأيَّام، والسَّاعات، وبعد هذه المراتب الأربعة لا يحصل إلاَّ التكرار؛ كما أنَّهم رتَّبوا العدد على أربع مراتب: الآحاد، والعشرات، والمئات، والألوف، وليس بعدها إلا التكرار.
قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على الاشتغال، ورجَّح نصبه؛ لتقدم جملة فعلية؛ وكذلك «وكُلَّ إنسانٍ ألْزمْنَاه» .
والثاني - وهو بعيد: - أنه منصوب نسقاً على «الحِسابَ» ، أي: لتعلموا كل شيء أيضاً، ويكون «فصَّلناهُ» على هذا صفة.
والمعنى: أنه تعالى لمَّا ذكر أحوال آيتي اللَّيل والنَّهار، وهما من وجهٍ: دليلان قاطعان على التَّوحيد، ومن وجهٍ آخر: نعمتان عظيمتان من الله على الخلق، فلما شرح الله تعالى حالهما، وفصَّل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق؛ ومن وجوه النِّعم العظيمة على الخلق، كان ذلك تفصيلاً نافعاً وبياناً كاملاً، فلا جرم قال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ} أي: فصَّلنا لكم كلَّ ما تحتاجون إليه في مصالح دينكم ودنياكم، فهو كقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وإنما ذكر المصدر، وهو قوله: «تَفْصِيلاً» لأجل تأكيد الكلامِ وتقريره، فكأنه قال: «وفَصَّلنَاهُ حقًّا على الوجهِ الذي لا مزيد عليه» .(12/224)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} الآية.
في كيفية النَّظم وجوهٌ:
أولها: أنه تعالى لمَّا قال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء: 12] كان معناه أن ما يحتاج إليه من شرح دلائلِ التَّوحيد، والنُّبوَّة، والمعاد، فقد صار مذكوراً وأن كلَّ ما يحتاج إليه من شرح(12/224)
أحوال الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فقد صار مذكوراً، وإذا كان الأمر كذلك، فقد أزيحت الأعذار، وأزيلت العلل، فلا جرم: كل من ورد عرصة القيامة، ألزمناه طائره في عنقه، ونقول له: {اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} .
وثانيها: أنه تعالى، لمَّا بيَّن أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدِّين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار، وغيرهما، كان منعماً عليهم بجميع وجوه النِّعم، وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته، فلا جرم: كلُّ من ورد عرصة القيامة، فإنه يكون مسئولاً عن أعماله وأقواله.
وثالثها: أنه تعالى بيَّن أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل، كان المعنى: إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها، فتصيروا متمكِّنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي، وإذا كان كذلك، فكل من ورد عرصة القيامة، سألته، هل أتى بتلك الخدمة والطَّاعة، أو تمرَّد وعصى.
وقرئ «في عُنْقهِ» بإسكان النون وهو تخفيف ٌ شائعٌ.
فصل
اختلفوا في الطائر، فقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «عمله، وما قدر عليه من خير أو شرٍّ، فهو ملازمه، أينما كان» .
وقال الكلبي ومقاتل: «خيره وشره معه لا يفارقه حتَّى يحاسبه» ، وقال الحسن: يمنه وشؤمه، وعن مجاهد: «ما من مولود إلاَّ في عنقه ورقة، مكتوب فيها شقيٌّ أو سعيدٌ» .
وقال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، سمِّي طائراً على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها، فكانوا غذا أرادوا الإقدام على عملٍ من الأعمال، وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خيرٍ أو إلى شرٍّ، اعتبروا أحوال الطَّير، وهو أنه يطير بنفسه، أو يحتاج إلى إزعاجه، وإذا طار، فهو يطير متيامناً أو متياسراً، أو صاعداً إلى الجوّ، أإلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها، ويستدلّون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر بالطائر، فلما كثر ذلك منهم، سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18] وقوله عزَّ وجلَّ: {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} [يس: 19] فالمعنى: أنَّ كلَّ إنسان ألزمناه عمله في عنقه.(12/225)
وقال أبو عبيدة والقتيبيُّ: الطائر عند العرب الحظّ، وتسمِّيه الفرس البخت، فالطائر ما طار له من خيرٍ وشرٍّ من قولهم: طار سهمُ فلانٍ بكذا، وخصَّ العنق من سائر الأعضاء؛ لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزينُ، أو يشينُ، فما يزين، فهو كالتطوُّق والحليِّ، وما يشين، فهو كالغُلِّ، فعمله إن كان خيراً فهو زينة كالتطوق، أو كان شرًّا، فهو شينٌ كالغلِّ في رقبته، فقوله: «في عُنقهِ» كناية عن اللُّزوم؛ كما يقال: جعلت هذا في عنقك أي: قلَّدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به، ويقال: قلَّدتك كذا، وطوَّقتك كذا، أي: صرفته إليك، وألزمتك إياه، ومنه «قلَّدهُ السُّلطانُ كذا» أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادةِ، ومكان الطوقِ، ومنه يقال: فلانٌ يقلِّدُ فلاناً أي: جعل ذلك الاعتقاد كالقلادةِ المربوطةِ في عنقه.
وهذه الآية أدلُّ دليلٍ على أنَّ كلَّ ما قدَّره الله - تعالى - على الإنسان، وحكم به عليه في سابق علمه، فهو واجب الوقوع، ممتنع العدمِ؛ لأنه تعالى بيَّن أن ذلك العمل لازمٌ له، وما كان لازماً للشيء؛ كان ممتنع الزَّوال عنه، واجب الحصول له، وأيضاً: فإن الله - تعالى - أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه بقوله: «ألْزَمنَاهُ» ، وذلك تصريحٌ بأنَّ الإلزام إنما صدر منه كقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «جفَّ القَلمُ بِمَا هُو كَائِنٌ إلى يَومِ القِيامَةِ» .
قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً} .
العامة على «نُخْرِجُ» بنون العظمة مضارع «أخْرجَ» ، و «كِتاباً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به.
والثاني: أنه منصوب على الحال من المفعول المحذوف؛ إذ التقدير: ونخرجه له كتاباً، أي: ونخرج الطائر.
ويُرْوَى عن أبي جعفرٍ: «ويَخْرَجُ» مبنياً للمفعول، كتاباً نصب على الحال، والقائم مقام الفاعل ضمير الطائر، وعنه أنَّه رفع «كتاباً» وخُرِّج على أنه مرفوعٌ بالفعل المبنيِّ للمفعول، والأولى قراءة قلقة.
وقرأ الحسن: «ويَخْرُجُ» بفتح الياء وضمِّ الراءِ، مضارع «خَرجَ» «كتابٌ» فاعل الطائر، أي: ويخرجُ له طائره في هذا الحال، وقرئ «ويُخْرِجُ» بضمِّ الباؤ وكسر الراء، مضارع «أخرجَ» والفاعل ضمير الباري تعالى، «كتاباً» مفعولٌ.(12/226)
قوله تعالى: «يَلْقاهُ» صفةٌ ل «كتاباً» ، و «مَنْشُوراً» حالٌ من هاء «يَلْقَاهُ» وجوَّز الزمخشري وأبو البقاء وأبو حيَّان أن يكون نعتاً لِ «كِتَاباً» ، وفيه نظر؛ من حيث إنه يلزم تقدم الصفة غير الصَّريحةِ، على الصَّريحةِ، وقد تقدَّم ما فيه.
وقرأ ابن عامرٍ وأبو جعفر «يُلقَّاهُ» بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف، مضارع لُقِّي بالتشديد قال تعالى:
{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11] والباقون بالفتح والسكون والتخفيف مضارع «لَقِيَ» .
فصل
قال الحسن: بسطنا لَكَ صحيفةً، ووُكِّل بك ملكانِ، فهما عن يمينك، وعن شمالِكَ، فأمَّا الذي عن يمينك، فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك، فيحفظ سيِّئاتك؛ حتَّى إذا متَّ طُويَتْ صحيفتك، وجعلت معك في قبرك؛ حتى تخرج لك يوم القيامة، فقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ} أي: من قبره.
قوله تعالى: {اقرأ كَتَابَكَ} : على إضمار القول، أي: يقال له: اقرأ، وهذا القول: إمَّا صفةٌ أو حالٌ، كما في الجملة قبله. وهذا القائل هو الله تعالى.
قال الحسن: «يَقْرءُوهُ أمِّيًّا كان، أو غير أمِّيٍّ» .
وقال أبو بكر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يؤتى المؤمنُ يوم القيامةِ بصحيفته، وحسناته في ظهرها، يغبطه الناس عليها، وسيئاته في جوف صحيفته، وهو يقرؤها، حتَّى إذا ظنَّ أنها قد أوبقته، قال الله له: «قَدْ غَفَرْتُ لَكَ فِيمَا بَينِي وبَينكَ» فيعظم سروره ويصير من الَّذين قال الله - عزَّ وجلَّ - في حقهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39] .
قوله تعالى: {كفى بِنَفْسِكَ} فيه ثلاثة أوجه:
المشهور عند المعربين: أنَّ «كَفَى» فعل ماضٍ، والفاعل هو المجرور بالباء، وهي فيه مزيدة، ويدلُّ عليه أنها إذا حذفت ارتفع؛ كقوله: [الطويل]
3388 - ويُخْبِرنِي عَن غَائبِ المَرْءِ هَديهُ ... كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرءُ مُخْبِرا
وقوله: [الطويل]
3389 - ... ... ... ... ... .....(12/227)
كَفَى الشَّيْبُ والإسلامُ للمَرْءِ نَاهِيَا
وعلى هذا؛ فكان ينبغي أن يؤنَّث الفعل؛ لتأنيث فاعله، وإن كان مجروراً؛ كقوله {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} [المؤمنون: 6] {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} [الأنعام: 4] . وقد يقال: إنه جاء على أحد الجائزين؛ فإن التأنيث مجازيٌّ.
والثاني: أن الفاعل ضمير المخاطب، و «كفى» على هذا اسم فعل أمر، أي: اكتفِ، وهو ضعيف؛ لقبولِ «كَفَى» علاماتِ الأفعالِ.
الثالث: أن فاعل «كََفَى» ضمير يعود على الاكتفاء، وتقدَّم الكلام على هذا. و «اليَوْمَ» نصبٌ ب «كَفَى» .
قوله: «حَسِيباً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه تمييزٌ، قال الزمخشريُّ: «وهو بمعنى حاسبٍ؛ كضريب القداح؛ بمعنى ضاربها، وصريم بمعنى صارم، ذكرهما سيبويه، و» على «متعلقة به من قولك: حَسِبَ عليه كذا، ويجوز أن يكون بمعنى الكافي ووضع موضع الشَّهيد، فعدِّي ب» عَلَى «لأنَّ الشاهد يكفي المدَّعي ما أهمَّه، فإن قلت: لِمَ ذكر» حَسِيباً «؟ قلت: لأنه بمنزلةِ الشاهد، والقاضي، والأمين، وهذه المور يتولاَّها الرجال؛ فكأنَّه قيل: كفى بنفسك رجلاً حسيباً، ويجوز أن تتأوَّل النفس بمعنى الشخص، كما يقال: ثلاثةُ أنفسٍ» . قلت: ومنه قول الشاعر: [الوافر]
3390 - ثَلاثةُ أنْفُسٍ وثَلاثُ ذَودٍ ... لقَد جَارَ الزَّمانُ على عِيَالِي
والثاني: أنه منصوب على الحال، وذكر لما تقدم، وقيل: حسيبٌ بمعنى محاسب؛ كخليطٍ وجليسٍ بمعنى: مخالطٍ ومجالسٍ.
قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «عَدلَ، والله، في حقّك من جعَلكَ حَسِيبَ نَفْسكَ» .
وقال السديُّ: «يقول الكافر يومئذٍ: إنَّك قَضيْتَ أنَّك لست بظلام للعبيد، فاجعلني أحاسِبُ نفسِي فيقال له: اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً» .(12/228)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
هذه الآية تدلُّ على أنَّ ثواب العمل الصَّالح مختصٌّ بفاعله، وعقاب الذنب مختصٌّ(12/228)
بفاعله، لا يتعدَّى منه إلى غيره، كقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} [النجم: 39، 40] .
قال الكعبيُّ: «الآية دالةٌ على أنَّ العبد متمكِّن من الخير والشَّر، وأنه غير مجبورٍ على فعل بعينه أصلاً؛ لأنَّ قوله تعالى جلَّ ذكرهُ: {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكِّن منه، كيف شاء وأراد، وأمَّا المجبور على أحد الطَّرفين، الممنوع من الطَّرف الثاني، فهذا لا يليق بهذه الآية» وتقدَّم الجواب. ثم إنه تعالى أعاد تقرير أنَّ كلَّ أحدٍ مختصٌّ بعمل نفسه، فقال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} .
قال الزجاج: يقال: وَزَرَ يَزرُ، فهو وَازِرٌ وَوَزِرٌ وِزْراً وَزِرَة، ومعناه: أثِمَ يَأثمُ إثماً.
وقال: في تأويل الآية وجهان:
الأول: أنَّ المذنب لا يؤاخذُ بذنبِ غيره، بل كلُّ أحدٍ مختصٌّ بذنب نفسه.
والثاني: أنَّه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم؛ لأنَّ غيره عمله كقول الكفَّار: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] .
فصل
دلَّت هذه الآية على أحكام:
الأول: قال الجبائيُّ: في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذِّب الأطفال بكفر آبائهم، وإلاَّ لكان الطفل يؤاخذ بذنب أبيه. وذلك خلافُ ظاهر الآية.
الثاني: روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّ المَيِّتَ ليُعذّبُ بِبُكاءِ أهلهِ عَليْهِ» .
وطعنت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - في صحَّة هذا الخبر بهذه الآية. فإن تعذيب الميت ببكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره، وهو خلاف هذه الآية.
والحديث لا شكَّ في صحَّته؛ لأنَّه في الصحيحين.
وفي الصحيحين أيضاً عن عمر بنِ الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ الميِّت يُعذَّبُ بِبُكاءِ الحيِّ» .(12/229)
وفي صحيح البخاريِّ: «المَيِّتُ يُعذَّبُ في قَبْره بِمَا نِيحَ عَليْهِ» .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنَّهُ مَنْ نِيحَ عليهِ يُعذَّبُ بِمَا نِيحَ عَليْهِ» .
وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «الميِّتُ يُعذَّبُ بِبُكاءِ الحيِّ، إذا قَالتِ النَّائِحَةُ: واعَضُداهُ، ونَاصِراهُ، وكَاسِيَاهُ حَبَّذا الميِّتُ، قيل لهُ: أنْتَ عَضُدهَا، أنْتَ نَاصرُهَا، أنْتَ كَاسِيهَا» .
وفي رواية: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَموتُ فَيقُومُ بَاكيهم، فيقُول: واجَبلاهُ، وسنداه وأنْسَاهُ، ونحو ذلك، إلاَّ وكِّلَ به ملكان يلهَذانهِ أهكذا كُنت» اللَّهْذُ واللَّهْزُ مثل اللَّكْز والدفع.
وروى البخاريُّ عن النعمان بن بشير، قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أختهُ عمرة تبكي، وتقول: واجبلاهُ واكذا واكذا، تُعدِّدُ عليه، فقال حينَ أفَاقَ: ما قُلْت شَيْئاً إلاَّ قِيل لِي: أنْتَ كذلِكَ؟ فلمَّا مَاتَ لم تَبْك عَليْهِ.
فإن قيل: أنكرتْ عائشة وغيرها ذلك، وقالت لما ذكر لها حديث ابن عمر: يغفر الله لأبي عبد الرَّحمن، أما إنَّهُ لمْ يكذبْ ولكنَّه نَسِيَ أو أخطأ إنَّما مَرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على يهودية يبكى عليها، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّهُمْ لَيبْكُونَ عَليْهَا وإنَّها لتُعذَّبُ في قَبْرهَا» متَّفقٌ عليه.
ولمُسْلم: إنَّما مرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على قبرِ يهوديٍّ، فقال: «إنَّه ليُعذَّبُ بِخَطيئَتِه أو بِذنْبهِ، وإنَّ أهلَهُ ليَبْكُونَ عليْهِ الآنَ» .
وفي رواية متَّفق عليها: إنما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الله ليَزيدُ الكافر عذاباً بِبُكاءِ أهْلهِ عليْهِ» وقالت: حسبكمُ القُرآنُ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الإسراء: 15] وقال(12/230)
بعض العلماء: إنَّما هذا فيمن أوصى أن يناح عليه كما كان أهل الجاهليَّة.
والجواب أنه يجب قبول أن الحديث لا يمكن ردُّه؛ لثبوته وإقرار أعيان الصَّحابة له على ظاهره.
وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لم تخبر أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نفى ذلك، وإنَّما تأوَّلتْ على ظاهر القرآن، ومن أثبت وسمع حجة على من نفى وأنكر.
وظاهر القرآن لا حجَّة فيه؛ لأنَّ الله - تعالى - نفى أن يحمل أحد من ذنب غيره شيئاً، والميِّتُ لا يحمل من ذنب النائحة شيئاً، بل إثمُ النَّوح عليها، وهو قد يعذَّب من جهة أخرى بطريق نوحها، كمن سنَّ سنَّة سيئة، مع من عمل بها، ومن دعا إلى ضلالة، مع من أجابه.
والحديث الذي روتهُ حديثٌ آخر لا يجوز أن يردَّ به خبر الصَّادق؛ لأنَّ القوم قد يشهدون كثيراً ممَّا لا تشهد، مع أنَّ روايتها تحقِّق ذلك الحديث؛ فإنَّ الله - تعالى - إذا جاز أن يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله، جاز أن يعذِّب الميت ابتداء ببكاء أهله.
ثم في حديث ابن رواحة وغيره ممَّا تقدَّم ما ينصُّ على أن ذلك في المسلم؛ فإنَّ ابن رواحة كان مسلماً، ولم يوص بذلك، ثمَّ إنَّ الصحابة الذين رووه، لو فهموا منه الموصي، لما عجبوا منه، وأنكره من أنكره؛ فإنَّ من المعلوم أنَّ من أمر بمنكرٍ، كان عليه إثمه، ولو كان ذلك خاصًّا بالموصِي، لما خص بالنَّوح، دون غيره من المنكراتِ، ولا بالنَّوح على نفسه، دون غيره من الأموات.
وق لبعض العلماء: لمَّا كان الغالب على النَّاس النَّوح على الميِّت، وهو من أمور الجاهليَّة التي لا يدعونها في الاسلام، ولا يتناهى عنها أكثر النَّاس خرِّج الحديث على الأعمِّ الأغلب فيمن لم ينه عن النَّائحة، وهي عادة النَّاس، فيكون تركهُ للنَّهي مع غلبةِ(12/231)
ظنِّه بأنَّها تفعل إقراراً للمنكرِ وتركاً لإنكاره، فيعذب على ما تركه من الإنكار، ورضي به من المنكر، وأما من نهى عنه، وعصي أمره، فالله أكرم من أن يعذِّبه.
قال ابن تيمية: وهذا قريبٌ. وأجود منه، إن شاء الله - تعالى - أن العذاب على قسمين:
أحدهما: ألمٌ وأذى يلحقُ الميِّت بسبب غيره، وإن لم يكن من فعله؛ كما يلحق أهل القبُور من الأذى بمجاورة الجارِ السيّئ، وبالأعمال القبيحة عند القبور، والجلوس على القبر، أو التغوُّط عليه، إلى غير ذلك من الأشياء التي يتألَّم الإنسانُ بها حيًّا وميتاً، وإن لم تكن من فعله. فهذا الميِّت لما عصي الله بسببه، ونيح عليه، لحقهُ عذابٌ وألمٌ من هذه المعصية.
قال القاضي: سُئِلتُ عن ميِّتٍ دفن في داره، وبقُربِ قبره أولاد يشربون ويستعملون آلة اللَّهْو، هل يتأذَّى الميِّت؟ .
فأجبت: أنَّه يتأذَّى.
وروى بإسناده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ المَيِّتَ يُؤذِيهِ في قَبْرهِ ما يُؤذِيهِ في بَيْتهِ» .
وعن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إذا مات لأحدكم الميِّت، فأحسنوا كفنه، وعجَّلوا إنفاذ وصيته، وأعمقوا له في قبره، وجنِّبُوهُ جار السَّوءِ.
قيل: يا رسُول الله: وهَلْ يَنفَعُ الجَارُ الصَّالحُ في الآخرة؟ قال: وهَلْ يَنْفَعُ في الدُّنيا؟ قالوا: نَعَمْ، قال: وكَذلِكَ يَنْفَعُهُ في الآخِرَةِ.
الثاني: أنَّ طبع البشر يُحِبُّ في حياته أن يبكى عليه بعد موته؛ لما فيه من الشَّرف والذِّكر، كما يحبُّ أن يثنى عليه، ويذكر بما يحبُّ، وكما يحبُّ أن يكون المالُ والسلطان لعقبه، وإن أيقن أنَّه لا لذَّة له بذلك بعد الموت، فعوقب بنقيض هذه الإرادة من عذاب(12/232)
النَّوح والبكاء؛ ليعلم النَّاس بذلك، فيتناهون عن هذه أو يكرهونه، فمن لم يكره النَّوح والبكاء، فهو باقٍ على موجب طبعه، ومن كرهه، كانت تلك الكراهةُ مانعة من لُحوقِ الذمِّ به.
الثالث: قال القاضي: دلَّت هذه الآية على أنَّ الوزْرَ والإثم ليس من فعل الله - تعالى -، وذلك من وجوهٍ:
أحدها: أنه لو كان كذلك، لامتنع أن يؤاخذ العبد به، كما لا يؤاخذ بوزْرِ غيره.
وثانيها: أنَّه كان يحبُّ ارتفاع الوِزْرِ أصلاً؛ لأنَّ الوزر إنَّما يصحُّ أن يوصف بذلك، إذا ك ان مختاراً يمكنه التحرُّز، ولهذا المعنى لا يوصف الصَّبيُّ بذلك.
الرابع: أن جماعة من الفقهاء المتقدِّمين امتنعوا من ضرب الدِّية على العاقلة، قالوا: لأنَّ ذلك يفضي إلى مؤاخذة الإنسان بفعل الغير، وذلك مضادٌ لهذه الآية.
ونجيب عنها بأنَّ المخطئ [غير مؤاخذٍ] على ذلك الفعل، فكيف يصير غيره مؤاخذاً بسبب ذلك الفعل، بل ذلك تكليفٌ واقعٌ ابتداءً من الله تعالى.
ثم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} .
إقامة للحجَّة وقطعاً للعذر.
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ وجوب شكر النِّعم لا يثبت بالعقل، بل بالسمع؛ كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} .
وذلك لأنَّ الوجوب لا يتقرَّر إلاَّ بترتيب العقاب على التَّرك، ولا عقاب قبل الشَّرع بهذه الآية، وبقوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] .
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134] .
ولقائل أن يقول: هذا الاستدلالُ ضعيف من وجهين:
الأول: أنه لو لم يثبت الوجوب العقليُّ، لم يثبت الوجوب الشرعيُّ ألبتة، وهذا باطل.
فذلك باطل، وبيان الملازمة من وجوهٍ:
أنه إذا جاء الشَّارع، وادعى كونه نبيًّا من عند الله - تعالى - وأظهر المعجزة، فهل يجب على المستمع استماعُ قوله، والتأمُّل في معجزاته، أو لا يجب؟ .
فإن وجب بالعقل، فقد ثبت الوجوب العقليُّ، وإن وجب بالشَّرع، فهو باطلٌ؛ لأنَّ(12/233)
ذلك الشارع إمَّا أن يكون هو ذلك المدَّعي أو غيره، والأول باطلٌ؛ لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أنَّ ذلك الرجل يقول: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقوله. وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان الشَّارع غيره، كان الكلام كما في الأول، ولزم الدَّور والتَّسلسل، وهما محالان.
وثانيها: أنَّ الشَّارع، إذا جاء، وأوجب بعض الأفعال، وحرَّم بعضها، فلا معنى للإيجاب أو التَّحريم إلا أن يقول: إن تركت كذا، أو فعلت كذا، عاقبتك، فنقول: إمَّا أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب، وذلك الاحترازُ إمَّا أن يجب بالعقل، أو بالسَّمع، فإن وجب بالعقل، فهو المقصود، وإن وجب بالسَّمع، لم يتقرَّر معنى هذا الوجوب إلاَّ بسبب ترتيب العقاب عليه، وحينئذٍ يعود التقسيمُ الأول، ويلزم التسلسل.
وثالثها: أنَّ مذهب أهل السنَّة أنه يجوز من الله - تعالى - أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب، وإذا كان كذلك ماهية الوجوب حاصلة، مع عدم العقاب، فلم يبق إلاَّ أن يقال: ماهية الوجوب إنَّما تتقرَّر بسبب حصول الخوف من الذَّم والعاقب؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّ الوجوب العقلي لا يمكن دفعه، وإذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان:
الأول: أن نجري الآية على ظاهرها، ونقول: العقل هو رسول الله إلى الخلق، بل هو الرسول الذي لولاه، لما تقررت رسالةُ أحدٍ من الرُّسل.
فالعقل هو الرسول الأصليُّ، فكان معنى الآية: حتى نبعث رسولاً؛ أي رسول العقل.
والثاني: أن نخصِّص عموم الآية، فنقول: المراد وما كنا معذِّبين حتَّى نبعث رسولاً أي رسول العقل في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلاَّ بالشَّرع لا بعد مجيء الشرع، وتخصيص العموم وإن كان عدولاً عن الظاهر إلاَّ أنه يجب المصير إليه عند قيام الدَّلالة، وقد بينا قيام الدلائل الثلثة على أنا لو نفينا الوجوب العقلي، لزمنا نفي الوجوب الشرعيِّ.
قال ابن الخطيب: والذي نذهبُ إليه: أن مجرَّد العقل يدلُّ على أنه يجب علينا فعل ما ينتفع به، وتركُ ما يتضرَّر به؛ لأنَّا مجبولون على طلب النفع، والهرب من الضَّرر، فلا جرم: كان العقل وحده كافياً في الوجوب في حقِّنا، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء، وذلك لأنه منزَّه عن طلب النفع، والهرب من الضَّرر، فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعلٍ أو تركه.(12/234)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
قرأ العامَّةُ «أمَرْنَا» بالقصر والتخفيف، وفيه وجهان:(12/234)
أحدهما: أنه من الأمرِ الذي هو ضدُّ النهي، ثم اختلف القائلون بذلك في متعلق هذا لأمر، فعن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في آخرين: أنه أمرناهم بالطاعة، ففسقوا، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ ردًّا شديداً، وأنكره إنكاراً بليغاً في كلام طويل، حاصله: أنه حذف ما لا دليل عليه، وقدَّر هو متعلق الأمر: الفسق، أي: أمرناهم بالفسق، قال: «أي: أمرناهم بالفسق، فعملوا، لأنه يقال: أمَرْتهُ، فقام، وأمرته، فقرأ، وهذا لا يفهم منه إلا أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءة، فكذا هاهنا، لمَّا قال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} .
وجب أن يكون المعنى: أمرناهم بالفسق، ففسقوا، ولا يقال: هذا يشكل بقوله: أمرتهُ فعصَانِي، أو فَخالفَنِي؛ فإنَّ هذا لا يفهم منه إلاَّ أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ، فكذا هاهنا، كما قال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيهَا} . وجب أن يكون المعنى: أمرناهُمْ بالفسق، ففسقُوا، ولا يقال: هذا يُشكل بقوله: أمرتُهُ فعصاني، أو فخالفني؛ فإنَّ هذا لا يُفهم منه أنِّي امرتُهُ بالمعصية، والمخالفةِ؛ لأنَّ المعصية مُخَالفةٌ للأمْرِ، ومُناقِضَةٌ له، فيكونُ كونها مأموراً بها محالاً.
فلهذا الضرورة تركنا هذا الظَّاهر، وقلنا: الأمر مجازٌ؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازاً، ووجه المجازِ: أنه صبَّ عليهم النعمة صبًّا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي، واتِّباع الشَّهوات، فكأنَّهم مأمورون بذلك؛ لتسبُّبِ إيلاءِ النِّعمةِ فيه، وإنما خوَّلهم فيها ليشكروا» .
ثم قال: «فإن قلت: فهلاَّ زعمت أنَّ معناه: أمرناهم بالطَّاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائزٍ، فكيف حذف ما الدليل قائمٌ على نقيضه؟ وذلك أنَّ المأمور به، إنَّما حذف لأنَّ» فَفَسقُوا «يدلُّ عليه، وهو كلامٌ مستفيضٌ؛ يقال:» أمَرْتُه، فقَامَ «و» أمَرتهُ فَقَرأ «لا يفهم منه إلاَّ أن المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ، ولو ذهبت تقدِّر غيره، رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم [على] هذا قولهم: أمَرتهُ، فعصَانِي» أو فَلمْ يَمْتثِلْ «لأنَّ ذلك منافٍ للأمر مناقضٌ له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به، فكان محالاً أن يقصد أصلاً؛ حتّى يجعل دالاًّ على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير منويٍّ، ولا مراد؛ لأن من يتكلَّم بهذا الكلام لا ينوي لأمره مأموراً به؛ فكأنَّه يقول: كان منِّي أمر، فكان منه طاعة، كما أنَّ من يقول:» فلانٌ يأمر وينهى، ويعطي ويمنع «لا يقصد مفعولاً.
فإن قلت: هلاَّ كان ثبوت العلم بأنَّ الله لا يأمر بالفحشاءِ دليلاً على أن المراد: أمرناهم بالخيرِ؟ .
قلت: لأنَّ قوله «فَفسَقوا» يدافعه؛ فكأنك أظهرت شيئاً، وأنت تضمر خلافه، ونظير «أمَرَ» : «شاء» في أن مفعوله استفاض حذف مفعوله؛ لدلالةِ ما بعده عليه؛ تقول: لو شاء، لأحسن إليك، ولو شاء، لأساء إليك، تريد: لو شاء الإحسان، ولو شاء الإساءة، ولو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت، وقلت: قد دلَّتْ حال من أسندت إليه المشيئةُ أنه من(12/235)
أهلِ الإحسان، أو من أهل الإساءةِ، فاتركِ الظاهر المنطوق، وأضمر ما دلت عليه حالُ المسند إليه المشيئةُ، لم تكن على سدادٍ «.
وتتَّبعه أبو حيَّان في هذا، فقال: أمَّا ما ارتكبه من المجاز، فبعيد جدًّا، وأما قوله:» لأنَّ حذف ما لا دليل عليه غير جائزْ «فتعليلٌ لا يصح فيما نحن بسبيله، بل ثمَّ ما يدل على حذفه، وقوله:» فكيف يحذف ما الدليل على نقيضه قائمٌ «إلى» علم الغيب «فنقول: حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه، ومنه ما مثَّل به في قوله» أمَرْتهُ، فقَامَ «، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضدِّه، أو نقيضه؛ كقوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} [الأنعام: 13] أي: ما سكن وتحرَّك، وقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، أي: والبرد، وقول الشاعر: [الوافر]
3391 - ومَا أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرْضاً ... أريدُ الخَيْرَ أيُّهُمَا يَلِينِي
أألْخَيْرُ الَّذي أنَا أبْتَغيهِ ... أم الشَّرُّ الذي هُوَ يَبْتَغينِي
أي: وأجْتنِبُ الشَّر، وتقول:» أمَرتهُ، فلمْ يُحْسِنْ «فليس المعنى: أمرته بعدم الإحسان، بل المعنى: أمرته بالإحسانِ، فلم يحسِن، والآية من هذا القبيل، يستدلُّ على حذف النَّقيضِ بنقيضه، كما يستدلُّ على حذلف النظير بنظيره، وكذلك:» أمَرْتهُ، فأسَاءَ إليَّ «ليس المعنى: أمَرْتهُ بالإساءة، بل أمرته بالإحسان، وقوله:» ولا يَلزَمُ هذا قولهم:
أمَرْتهُ فعَصانِي «نقول: بل يلزمُ، وقوله» لأنَّ ذلك منافٍ «أي: لأنَّ العصيانَ منافٍ، وهو كلامٌ صحيح، وقوله:» فكان المأمورُ به غير مدلُولٍ عليه ولا مَنْوي «لا يسلَّم بل مدلولٌ عليه ومنويٌّ لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض؛ كما بيَّنا، وقوله:» لا يَنوِي مأموراً به «لا يلسَّم، وقوله» لأنَّ «فَفَسقُوا» يدافعه، إلى آخره «قلنا: نعم، نوى شيئاً، ويظهر خلافه؛ لأنَّ نقيضه يدل عليه، وقوله: ونظير» أمَرَ «» شَاءَ «ليس نظيره؛ لأن مفعول» أمَرَ «كثر التصريح به. قال سبحانه جل ذكره: {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} [الأعراف: 28] {أَمَرَ رَبِّي بالقسط} [الأعراف: 29] {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ} [الطور: 32] ، وقال الشاعر: [البسيط]
3392 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ..... ... ... ... ... ... ... .
قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: والشيخ ردَّ عليه ردَّ مستريحٍ من النَّظرِ، ولولا خوفُ السآمةِ على الناظرِ، لكان للنظر في كلامهما مجالٌ.
قال ابن الخطيب: ولقائلٍ أن يقول: كما أنَّ قوله: «أمَرْتُهُ» ، فَعصَانِي «يدلُّ على أن المأمور به شيءٌ غير المعصية من حيث إنَّ المعصية منافية للأمر مناقضةٌ له، فكذلك قوله: أمرته ففسق يدلُّ أنَّ المأمور به شيء غير الفسقِ؛ لأن الفسقَ عبارةٌ عن الإتيان(12/236)
بضدِّ المأمور به، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به، كما أنَّ كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها؛ فوجب أن يدلَّ هذا اللفظ على أنَّ المأمور به ليس بفسقٍ، وهذا في غاية الظهور.
الوجه الثاني: أنَّ» أمَرْنَا «بمعنى كَثَّرْنَا قال الواحديُّ: العرب تقول: أَمِرَ القومُ: إذا أكثروا. ولم يرض به الزمخشريُّ في ظاهر عبارته، فإنه قال: وفسَّر بعضهم» أمَرْنَا «ب» كَثَّرْنَا «وجعله من باب:» فعَّلتُه، فَفَعَلَ «ك» ثَبَّرْتُهُ فَثَبَر «. وفي الحديث:» خَيْرُ المَالِ سكَّة مَأبورةٌ، ومُهرةٌ مَأمُورةٌ «، أي: كثيرة النِّتاجِ. وقد حكى أبو حاتم هذه اللغة، يقال: أمِرَ القوم، وأمرهم الله، ونقله الواحديُّ عن أهل اللغة، وقال أبو عليٍّ:» الجيِّدُ في «أمَرْنَا» أن يكون بمعنى «كَثَّرْنَا» واستدلَّ أبو عبيدة بما جاء في الحديث، فذكره؛ يقال: أمر الله المهرة، أي: كثَّر ولدها، قال: «ومَنْ أنكر» أمَرَ الله القومَ «أي: كثَّرهم [لم يلتفت إليه؛ لثبوت ذلك لغة» ويكونُ ممَّا لزم وتعدى بالحركةِ المختلفة؛ إذ يقال: أمر القوم، كثروا، وأمرهم الله: كثَّرهُمْ] ، وهو من باب المطاوعة: أمرهم الله، فأتمروا، كقولك: شَتَرَ اله عينهُ، فَشتِرَتْ، وجدعَ أنْفَهُ فجَدِعَ، وثلمَ سنَّهُ، فثَلِمَتْ.
وقرأ الحسن، ويحيى بن يعمر، وعكرمة «أمِرْنَا» بكسر الميم؛ بمعنى «أمَرْنَا» بالفتح، حكى أبو حاتم، عن أبي زيدٍ: أنه يقال: «أمَرَ الله [مالهُ،] وأمِره» بفتح الميم وكسرها، وقد ردَّ الفراء وهذه القراءة، ولا يلتفت لردِّه؛ لثبوتها لغة بنقل العدولِ، وقد نقلها قراءة عن ابن عبَّاس أبو جعفر، وأبو الفضل الرازيُّ في «لَوامحهِ» فكيف تردُّ؟ .
وقرأ عليُّ بن أبي طالب، وابن أبي إسحاق وأبو رجاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في آخرين «آمَرْنَا» بالمدِّ، ورُويتْ هذه قراءة عن ابن كثير وأبي عمرو، وعاصم ونافع، واختارها يعقوب، والهمزة فيه للتعدية.
وقرأ عليٌّ أيضاً، وابن عباس، وأبو عثمان النهديُّ: «أمَّرْنَا» بالتشديد، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّ التضعيف للتعدية، عدَّاه تارة بالهمزة، وأخرى بتضعيف العين، كأخرجته وخرَّجته.
والثاني: أنه بمعنى جعلناهم أمراء، واللازم من ذلك «أمِّرَ» ق لالفارسي: «لا وجه(12/237)
لكون» أمَّرنَا «من الإمارة؛ لأنَّ رئاستهم لا تكون إلاَّ لواحد بعد واحد، والإهلاكُ إنَّما يكون في مدَّة واحدةٍ» . ورُدَّ على الفارسي: بأنَّا لا نسلم أنَّ الأمير هو الملكُ؛ حتى يلزم المترف إذا ملك، ففسق، ثم كذلك، كثر الفساد، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم العذاب، واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال: فإنَّ المعاني الثلاثة تجتمع فيها، يعني: المر، والإمارة، والكثير.
المترف في اللغة: المُنَعَّم، والغنيُّ: الَّذي قد أبطرته النِّعمة، وسعةُ العيش.
قوله تعالى: {فَفَسَقُواْ فِيهَا} أي: خرجوا عمَّا أمرهم الله.
{فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} : أي: وجب عليها العذاب.
{فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي: خرَّبناها، وأهلكنا من فيها، وهذا كالتقرير، لقوله - تعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] . وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً} [القصص: 59] .
فصل في الاحتجاج لأهل السنة
استدلَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم من وجوه:
الأول: أنَّ ظاهر الآية يدل على أنَّه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء، ثم توسَّل إلى إهلاكهم بهذا الطريق؛ وهذا يدلُّ على أنَّه - تعالى - إنما خصَّ المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنَّهم يفسقون، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى أراد منهم الفسقَ.
الثالث: أنه - تعالى - قال: {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} أي: حقَّ عليها القول بالتَّعذيب والكفر، ومتى حقَّ عليها القول بذلك، امتنع صدور الإيمان منهم؛ لأنَّ ذلك لا يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وذلك محالٌ، والمفضي إلى المحال محالٌ.
قال الكعبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ سائر الآيات دلَّت على أنَّه - تعالى - لا يبتدئ بالتعذي والإهلاك؛ لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . وقوله عزَّ وجلَّ: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وقوله - عز ذكره: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] .
وكلُّ هذه الآيات تدل على أنَّه لا يبتدئ بالإضرار، وأيضاً: ما قبل هذه الآية يدلُّ على هذا المعنى، وهو قوله - تعالى -: {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الإسراء: 15] .(12/238)
ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض؛ فثبت أنَّ هذه الآيات محكمة، والآيات التي نحن في تفسيرها مجملة؛ فيجب حمل هذه الآية علىتلك الآيات.
واعلم أنَّ أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة: «القَفَّالُ» - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - فإنه ذكر وجهين:
الأول: أنه - تعالى - أخبر أنَّه لا يعذِّب أحداً بما يعلمه منه، ما لم يعمل به أي: لا يجعل علمه حجَّة على من علم أنَّه إذا أمره عصاه، بل يأمره، فإذا ظهر عصيانه للنَّاس، فحينئذٍ يعاقبه.
وقوله - تعالى -: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} .
معناه: وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم بظهور معاصيهم، فحينئذ {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} . أي: أمرنا المنعَّمينَ فيها المتعزّزين الظَّانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم تردُّ عنهم بأسنا بالإيمان والعمل بشرائع ديني، على ما يبلّغهم عنّي رسولي، ففسقوا، فحينئذ يحقُّ عليهم القضاء السابق بإهلاكهم، لظهور معاصيهم، فحينئذ أدمِّرُها.
والحاصل: أن المعنى: وإذا اردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف [في تحقيق] ذلك الإهلاك بمجرَّد ذلك العلم، بل أمرنا مترفيها، ففسقوا، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق، فحينئذ نوقع العذاب الموعود به.
الوجه الثاني: أنَّ التأويل: وإن أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها، لم نعاجلهم بالعذاب في أوَّل ظهور المعاصي بينهم، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي.
وإنَّما خصَّ المترفين بذلك الأمر؛ لأنَّ المترف هو المنعَّم، ومن كثرت نعمة الله عليه، كان قيامه بالشُّكر أوجب، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع عن المعاصي مرة بعد أخرى، مع أنه لا يقطع عنهم تلك النِّعم، بل يزيدها حالاً بعد حالٍ، فحينئذ يظهر عنادهم وتمرُّدهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحقِّ، فحينئذ يصبُّ الله البلاء عليهم صباً. ثم قال القلال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذان التأويلان راجعان إلى أنَّ الله - تعالى - أخبر عن عباده أنَّه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة؛ حتى يعذر إليهم غاية الإعذار، الذي يقع منه اليأس من إيمانهم، كما قال - تعالى - في قوم نوح - عليه السلام -: {وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27] ، وقال عزَّ وجلَّ: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وقال تعالى في غيرهم: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} [الأعراف: 101] فأخبر الله تعالى عنهم أولاً أنَّه لا يظهر العذاب إلاَّ بعد بعثة الرسل، ثم أخبر ثانياً في هذه الآية: أنه - تعالى - إذا بعث الرسل أيضاً، فكذِّبوا، لم يعاجلهم بالعذاب، بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ، فإن بقوا مصرِّين، فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال.(12/239)
وأجاب الجبائيُّ فقال: ليس المراد من الآية أنَّه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقُّوا ذلك؛ لأنَّه لا يظلم، وهو على الله محالٌ، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة، فكان التقدير: وإذا قرب وقت إهلاكِ قريةٍ أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، وهو كقول القائل: إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدَّة، وإذا أراد التَّجر أن يفتقر أتاه الخسران من كلِّ جهةٍ، وليس المراد أنَّ المريض يريدُ أن يموت على الذُّنوب، والتَّاجر يريد أن يفتقر، وإنَّما يعنون أنه سيصير كذلك؛ فكذا هاهنا.
واعلم أنَّ هذه الوجوه جواب عن الوجه الأوَّل من الوجوه الثلاثة المتقدمة في التمسُّك بهذه الآية، وكلها عدول عن ظاهر اللفظ، وأما الوجه الثاني والثالث فبقي سليماً عن الطَّعن.(12/240)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
والمراد منه أنَّ الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون، ويتمرَّدون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح؛ حادٍ وثمود، وغيرهم، ثم إنه - تعالى - خاطب رسوله - صلوات الله عليه - بما يكون خطاباً وردعاً وزجراً للكُلِّ، فقال جلَّ ذكره: {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} وهذا تخويف لكفَّار «مكَّة» .
و «كَمْ» نصب بأهلكنا، و «مِنَ القُرونِ» تمييزٌ ل «كَمْ» و «مِن بَعدِ نُوح» : «مِنْ» لابتداء الغاية، والأولى للبيان، فلذلك اتَّحدَ متعلقهما، وقال الحوفيُّ: «الثانية بدلٌ من الأولى» ، وليس كذلك؛ لاختلاف معنييهما، والباء بعد «كَفَى» تقدم الكلام عليها، وقال ابن عطيَّة: «إنما يجاءُ بهذه الباء في موضع مدحٍ أو ذمٍّ» والباء في «بِذنُوب» متعلقة ب «خَبِيراً» وعلَّقها الحوفيُّ ب «كَفَى» .
قال افراء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو ألغيت الباء؛ من قوله: «بربِّكَ» جاز، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدحٌ به أو يذمُّ؛ كقولك: كفاك به، وأكرم به رجلاً، وطاب بطعامك طعاماً، وجاد بثوبك ثوباً.
أما إذا لم يكن مدحاً أو ذمًّا، لم يجز دخولها، فلا يجوز أن يقال: «قَامَ بِأخيكَ» وأنت تريد: «قَامَ أخُوكَ» .
فصل في مقدار القرن
قال عبد الله بن أبي أوفى: القرنُ: عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوَّل قرنٍ، وكان آخره يزيد بن معاوية، وقيل: مائة سنة.(12/240)
رُوِيَ عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسرٍ المازنيّ: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وضع يده على رأسه، وقال: «سَيعيشُ هذا الغُلام قَرْناً» وقال محمد بن القاسم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: فما زلنا نعدُّ له؛ حتَّى تمت له مائة سنة، ثمَّ مات.
وقال الكلبيُّ: ثمانون سنة.
وقيل: أربعون سنة.(12/241)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
قوله - تعالى -: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ} الآية.
«مَنْ» شرطية، و «عَجَّلنا» جوابها، و «ما يشاءُ» مفعولها، و «لِمنْ نُريد» بدل بعضٍ من كلٍّ، من الضمير في «لَهُ» بإعادة العامل، و «لِمَنْ نُريد» تقديره: لمن نريد تعجيله له.
[قوله:] «ثُمَّ جَعلنَا لهُ جهنَّم» «جَعلَ» هنا تصييرية.
وقوله: «يَصْلاهَا» الجملة حال: إمَّا من الضمير في «لَهُ» وإمَّا من «جَهَنَّم» و «مَذمُوماً» حال من فاعل «يَصْلاها» قيل: وفي الكلام حذف، وهو حذف المقابل؛ إذ الأصل: من كان يريد العاجلة، وسعى لها سعيها، وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه، وقيل: بل الأصل: من كان يريد العاجلة بعمله للآخرة كالمنافق.
ومعنى «يَصْلاهَا» : يدخلها.
«مَذمُوماً» : مطروداً، «مَدْحُوراً» : مُبْعَداً.
وقوله: «سَعْيَهَا» : فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به؛ لأنَّ المعنى: وعمل لها عملها.
والثاني: أنه مصدر، و «لهَا» أي: من أجلها.
والجملة من قوله: «وهو مُؤمِنٌ» هذه الجملة حال من فاعل «سَعَى» .
قوله تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ} : «كُلاًّ» منصوب ب «نُمِدُّ» و «هؤلاء» بدل، «وهؤلاءِ: عطف عليه، أي: كلَّ فريق نمدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة، وهؤلاء الساعين للآخرة، وهذا(12/241)
تقدير جيدٌ، وقال الزمخشري في تقديره:» كلَّ واحدٍ من الفريقين [نُمِدُّ] «. قال أبو حيان:» كذا قدَّره الزمخشري، وأعربوا «هؤلاءِ» بدلاً من «كُلاًّ» ولا يصح أن يكون بدلاً مِنْ «كل» على تقدير: كلَّ واحدٍ؛ لأنَّه إذ ذاك بدل كلٍّ من بعضٍ، فينبغي أن يكون التقدير: كل الفريقين «.
و» مِنْ عطاءِ «متعلقٌ ب» نُمِدُّ «والعطاء اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول.
والمحظور: الممنوعُ، وأصله من الحظر، وهو: جمعُ الشيء في حظيرة، والحظيرة: ما يعمل من شجرٍ ونحوه؛ لتأوي إليه الغنم، والمحتظرُ: من يعمل الحظيرة.
فصل
قال القفال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذه الآية داخلة في معنى قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] : ومعناه: أن العمَّال في الدنيا قسان:
منهم من يريد بعمله الدنيا والرياسة، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، والدخول في طاعتهم؛ خوفاً من زوال الرِّياسة عنهم، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً؛ لأنه في قبضة الله؛ فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان، بل كما يشاء الله.
بل إن عاقبته جهنَّم يدخلها فيصلاها بحرِّها مذموماً ملوماً، مدحوراً مطروداً من رحمة الله.
وفي لفظ هذه الآية فوائد:
أحدها أنَّ العقاب عبارة عن مضرَّة مقرونةٍ بالإهانة بشرط أن تكون دائمة خالية عن المنفعة.
وثانيها: أن من الجهَّال من إذا ساعدته الدنيا اغترَّ بها، وظنَّ أن ذلك لأجل كرامته على الله - تعالى - فبيَّن - تعالى - بهذه الآية أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدلَّ بها على رضا الله تعالى لأنَّ الدنيا قد تصلح مع أنَّ عاقبتها المصير إلى العذاب والإهانة، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السُّوء في لزومها له، وكونها سائقة له إلى أشدِّ العذاب.
وثالثها: قوله: {لِمَن نُّرِيدُ} يدلُّ على أنَّه لا يحصل الفوز بالدنيا لكلِّ أحدٍ، بل كثيرٌ من الكفَّار يعرضون عن الدِّين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا، وعن الدِّين، فهؤلاء هم الأخسرون أعمالاً الذي ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وأما القسم الثاني: وهو قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فشرط تعالى فيه ثلاثة شروطٍ «(12/242)
أحدها: أن يريد بعمله الآخرة أي: ثواب الآخرة، فإنه إن لم ينو ذلك، لم ينتفع بذلك العمل؛ لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 37] وقوله - صلوات الله وسلامه عليه -:» إنَّما الأعمَالُ بالنِّيَّاتِ «.
والثاني: قوله جلَّ ذكره: {وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ، وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطَّاعات، وكثير من الضُّلال يتقرَّبون بعبادة الأوثان، ولهم فيها تأويلان:
أحدهما: أنهم يقولون: إله العالم أجلُّ وأعظم من أن يقدر الواحد منَّا على إظهار عبوديته، وخدمته، ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبوديَّة بعض المقربين من عباد الله، مثل أن نشتغل بعبادة الكواكب، أو ملكٍ من الملائكةِ، ثمَّ إنَّ الملك أو الكواكب يشتغلون بعبادة الله - تعالى -.
فهؤلاء يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بهذا الطريق، وهذه طريق فاسدة، فلا جرم لم ينتفع بها.
والتأويل الثاني: أنَّهم قالوا: اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء، والمراد من عبادتها أن يصير أولئك الأنبياء والأولياء شعفاءنا عند الله - تعالى -، وهذا الطريق أيضاً فاسد؛ فلا جرم لم ينتفع بها.
وأيضاً: نقل عن الجنيد أنَّهم يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بقتل أنفسهم تارة، وبإحراق أنفسهم أخرى، وهذا الطريق أيضاص فاسد، فلا جرم لم ينتفع بها، وكذا القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بمذاهبهم الباطلة.
والشرط الثالث: قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} .
وهذا الشرط معتبرٌ؛ لأنَّ الشرط في كون أعمال البرِّ موجبة للثواب هو الإيمان، فإذا لم يوجد، لم يحصل المشروط، ثمَّ إنه - تعالى - أخبر أنَّ عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً، والعمل مبروراً.
واعلم أن الشُّكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة:
اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال، والثناء عليه بالقول، والإتيان بأفعال تدلُّ على كونه معظماً عند ذلك الشَّاكر، والله - تعالى - يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة، فإنَّه تعالى عالمٌ بكونهم محسنين في تلك الأعمال، وإنه تعالى يثني عليهم بكلامه؛ وإنَّه تعالى يعاملهم بمعاملة دالَّة على كونهم مطيعين عند الله - تعالى -.
وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً، كانوا مشكورين على طاعتهم من قبل الله - تعالى -.
يروى في كتب المعتزلة: أنَّ جعفر من حربٍ حضر عنده رجل من أهل السنَّة،(12/243)
وقال: الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى: أنا نشكر على الإيمان، ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده، لامتنع أن نشكره عليه؛ لأنَّ مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيحٌ. قال الله - تعالى -: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} [آل عمران: 188] .
فعجز الحاضرون على الجواب، فدخل ثمامة بن الأشرسِ، وقال: إنَّا نمدحُ الله - تعالى - ونشكره على ما أعطانا من القدرة، والعقل، وإنزال الكتب، وإيضاح الدلائل، والله - تعالى - يشكرنا على فعل الإيمان، قال الله - تعالى -: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} قالوا: فضحك جعفر بن حربٍ وقال: صعبت المسألة، فسهلت.
واعلم أن قولنا: مجموع القدرة مع الداعي يوجبُ الفعل كلامٌ واضح؛ لنه «تعالى» هو الذي أعطى الموجب التَّام لحصول الإيمان، فكان هو المستحقَّ للشُّكر، ولما حصل الإيمان للعبد، وكان الإيمان موجباً للسَّعادة التَّامَّة، صار العبدُ أيضاً مشكوراً، ولا منافاة بين الأمرين.
فصل
اعلم أنَّ كلَّ من أتى بفعلٍ، فإمَّا أن يقصد به تحصيل خيراتِ الدنيا، أو تحصيل الآخِرة، أو يقصد به مجموعهما، أو لم يقصد به واحد منهما.
فإن قصد به تحصيل خيراتِ الدنيا فقط، أو تحصيل الآخرة فقط، فالله - تعالى - ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية، وأما القسمُ الثالث فينقسمُ ثلاثة أقسامٍ: إمَّا أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً، أو يكون الطلبان متعادلين.
فإن كان طلب الآخرة راجحا، فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى بحيث يحتمل أن يقال: إنه غير مقبولٍ؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاكياً عن الله - تعالى - أنه قال: «أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عَملَ عَملاً أشْركَ فِيهِ غَيْرِي تَركْتهُ وشَريكَهُ
.» وأيضاً: طلب رضوان الله - تعالى - إما أن يكون سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل، وداعياً إليه، وإمَّا ألا يكون. فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخلٌ في ذلك البعث والدعاء؛ لأنَّ الحكم إذا أسند إلى سبب كامل تامٍّ، امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه، وإن كان الثاني، فيكون الدَّاعي إلى ذلك الفعل هو المجموع، وذلك المجموع ليس هو طلب الرضوان من الله - تعالى -؛ لأنَّ المجموع الحاصل من الشَّيء ومن غيره يجب أن يكون مغايراً لطلب رضوان الله؛ فوجب ألا يكون مقبولاً، ويحتمل أن يقال: لما كان(12/244)
طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثلُ بالمثلِ، فيبقى القدر الزائدُ داعية خالصة لطلب الآخرة؛ فوجب كونه مقبولاً.
وأمَّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين، أو كان طلبُ الدنيا راجحاً، فقد اتفقوا على أنه غيرُ مقبولٍ، إلاَّ أنه على كلِّ حالٍ خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكليَّة عن طلب الآخرة.
وأما القسم الرَّابع، وهو الإقدام على الفعل من غير داع، فهو مبنيٌّ على أنَّ صدور الفعل من القادر، هل يتوقَّف على حصول الدَّاعي أم لا؟ .
فالذين يقولون: إنَّه متوقِّف على حصول الداعي، قالوا: هذا القسم ممتنع الحصول، والَّذين قالوا: إنَّه لا يتوقَّف، قالوا: هذا الفعل لا أثر له في الباطن، وهو محرَّم في الظاهر؛ لأنه عبثٌ.
فصل في معنى الآية
معنى الآية أنه تعالى يمدُّ الفريقين بالأموال، ويوسِّع عليهما في الرِّزق، والعزِّ والزينة في الدنيا؛ لأنَّ عطاءه ليس بضيِّقٍ على أحدٍ مؤمناً كان أو كافراً؛ لأنَّ الكلَّ مخلوق في دار العمل؛ فوجب إزاحةُ العذر وإزالة العلَّة عن الكلِّ.
والتنوين في «كُلاًّ» عوضٌ من المضاف إليه، أي كلَّ واحد من الفريقين.(12/245)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
«كيف» نصب: إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على الحال، وهي معلقة ل «انْظُرْ» بمعنى فكِّر، أو بمعنى أبصرْ.
والمعنى: أنا أوصلنا إلى مؤمنٍ، وقبضنا عن مؤمنٍ آخر، وأوصلنا إلى كافرٍ، وقبضنا عن كافرٍ آخر، وقد ببيَّن - تعالى - وجه الحكمة في هذا التفاوت، فقال جلَّ ذكره: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] .
وقال تعالى في آخر سورة الأنعام: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] الآية.
ثم قال تعالى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أي: من درجات الدنيا، ومن تفضيل الدنيا، والمعنى: أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا.
أي: أن المؤمنين يدخلون الجنَّة، والكافرين يدخلون النَّار، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين، ونظيره قوله - تعالى -: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] .(12/245)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
لما بيَّن تعالى أن النَّاس فريقان؛ منهم: من يريد بعمله الدنيا فقط، وهم أهل(12/245)
العذاب، ومنهم: من يريد طاعة الله، وهم أهل الثواب، ثم شرط في ذلك ثلاثة شروط: أن يريد الآخرة، وأن يعمل عملاً، ويسعى سعياُ موافقاً لطلب الآخرة، وأن تكون مؤمناً لا جرم فصَّل في هذه الآية تلك المجملات، فبدأ أوَّلاً بشرحِ حقيقة الإيمان، وأشرفُ أجزاء الإيمان هو التوحيد، ونفي الشِّرك، فقال عزَّ وعلا: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} .
ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكونُ المشتغلُ بها ساعياً سعي الآخرة.
قال المفسِّرون: الخطاب مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره كقوله تعالى: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] وقيل: الخطاب للإنسان، وهذا أولى؛ لأنَّه تعالى عطف عليه قوله - تعالى -: وقيل: الخطاب للإنسان، وهذا أولى؛ لأنَّه تعالى عطف عليه قوله تعالى -:
{وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] إلى قوله تعالى: {إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} [الإسراء: 23] .
وهذا لا يليق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه - لأنَّ أبويه ما بلغا الكبر عنده.
الأول: أنَّ المشرك كاذب، والكاذب يستوجب الذمَّ، والخذلان.
الثاني: أنَّه لما ثبت بالدَّليل: أنه لا إله ولا مدبِّر إلاَّ الواحد الأحد، فحينئذ: يكون جميع النِّعم حاصلة من الله - تعالى -، فمن أشرك بالله، فقد أضاف بعض تلك النِّعم إلى غير الله، مع أن الحقَّ أن كلَّها من الله، فحينئذ يستحقُّ الذمَّ؛ لأنَّ المستحقَّ للشُّكر على تلك النعم هو الخالقُ لها، فلمَّا جحد كونها من الله - تعالى - فقد قابل إحسان الله - تعالى - بالإساءة والجحود، فاستوجب الذمَّ، ويستحقُّ الخذلان؛ لأنَّه لما أثبت لله شريكاً، استحقَّ أن يفوض أمره إلى ذلك الشَّريك، ولمَّا كان ذلك الشريكُ معدوماً، بقي بلا ناصرٍ ولا حافظٍ ولا معينٍ، وذلك عينُ الخذلان.
الثالث: أنَّ الكمال في الوحدة، والنقصان في الكثرة، فمن أثبت الشَّريك، فقد وقع في جانب النقصان.
قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ} : يجوز أن تكون على بابها، فينتصب ما بعدها على الحال، ويجوز أن تكون بمعنى «صار» فينتصب على الخبريَّة، وإليه ذهب الفراء والزمخشريُّ، وأنشدوا في ذلك.
3393 - لا يُقْنِعُ الجَارِيةَ الخِضَابُ ... ولا الوِشَاحَانِ ولا الجِلْبَابُ
مِن دُون أن تَلتَقِيَ الأرْكابُ ... ويَقْعُدَ الأيْرُ لهُ لُعَابُ
أي: ويصير، والبصريُّون لا يقيسون هذا، بل يقتصرون به على المثل في قولهم: «شَحَذَ شفرته؛ حتَّى قعَدتْ كأنَّها حَربَةٌ» .(12/246)
وقال الواحديُّ: «فَتَقْعد» : انتصب؛ لأنَّه وقع بعد الفاء؛ جواباً للنهي، وانتصابه بإضمار «أن» كقولك: لا تنقطع عنَّا، فنجفوك، والتقدير: لا يكن منك انقطاعٌ؛ فيحصل أن نجفوك، فما بعد الفاء متعلَّق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء، وإنَّما سمَّاه النحويون جواباً؛ لكونه مشابهاً للجزاءِ في أنَّ الثاني مسبَّب عن الأول؛ ألا ترى أنَّ المعنى: إن انقطعت جفوتك، كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر، قعدت مذموماً مخذولاً.
فصل في معنى القعود في الآية
ذكروا في هذا القعود وجوهاً:
أحدها: أن معناه المكث أي: فتمكُث في النَّاس مذموماً مخذولاً، وهذه اللفظة مستعملةٌ في لسان العرب والفرس في هذا المعنى، إذا سأل الرجلُ غيره: ما يصنعُ فلانٌ في تلك البلدة؟ فيقول المجيب: هو قاعدٌ بأسوأ حالٍ.
معناه: المكث، سواء كان قائماً أو قاعداً
وثانيها: أنَّ من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه.
وثالثها: أنَّ المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها، والسَّعي إنما يتأتى بالقيام، وأما العاجزُ عن تحصيلها، فإنَّه لا يسعى، بل يبقى جالساً قاعداً عن الطَّلب، فلمَّا كان القيام على الرَّجلِ أحد الأمور التي يتمُّ بها الفوز بالخيرات، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة، لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات، والقعود كناية عن العجز والضعف.(12/247)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} .
لما ذكر في الآية المتقدمة ما هو الركن الأعظم في اللإيمان، أتبعه بذكر ماهو من شعائر الإيمان وشرائعه، وهي أنواع:
الأول: أن يشتغل الإنسان بعبادة الله سبحانه وتعالى، ويتحرَّز عن عبادة غير الله تعالى.
والقضاءُ: الحكم الجزم البتُّ الذي لا يقبل النسخ؛ لأنَّ الواحد منا، إذا أمر غيره بشيءٍ لا يقال: قضى عليه، فإذا أمره أمراً جزماً، وحكم عليه بذلك على سبيل البتِّ والقطع، فها هنا يقال: قضى عليه، وروى ميمون بن مهران عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ(12/247)
عَنْه - أنه قال في هذه الآية: كان الأصلُ: «ووصَّى ربُّكَ» ، فالتصقت إحدى الواوين بالصَّاد، فصارت قافاً فقرئ «وقَضَى ربُّكَ» .
ثم قال: ولو كان على القضاء ما عصى الله أحدٌ قط؛ لأنَّ خلاف قضاء الله ممتنعٌ، هذا رواه عنه الضحاك بنُ مزاحم، وسعيد بن جبيرٍ، وهو قراءة عليٍّ وعبد الله.
وهذا القول بعيدٌ جدًّا؛ لأنه يفتح باب أنَّ التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن، ولو جوَّزنا ذلك، لارتفع الأمانُ عن القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجَّة، وذلك طعنُ عظيمٌ في الدِّين.
وقرأ الجمهور «قَضَى» فعلاً ماضياً، فقيل: هي على موضوعها الأصلي؛ قال ابن عطية: «ويكون الضمير في» تَعْبدُوا «للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة» .
وقال ابن عبَّاس وقتادة والحسن بمعنى: أمَرَ.
وقال مجاهد: بمعنى: أوصى.
وقال الربيع بن أنسٍ: أوجب وألزم.
وقيل بمعنى: حكم.
وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل: «وقضاءُ ربِّك» اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء، و «ألاَّ تَعْبدُوا» خبره.
قوله تعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} : يجوز أن تكون «أنْ» مفسرة؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول، و «لا» ناهية، ويجوز أن تكون الناصبة، و «لا» نافية، أي: بأن لا، ويجوز أن تكون المخففة، واسمها ضمير الشأن، و «لا» ناهية أيضاً، والجملة خبرها، وفيه إشكال؛ من حيث وقوع الطَّلب خبراً لهذا الباب، ومثله في هذا الإشكال قوله: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] ، وقوله: {أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ} [النور: 9] لكونه دعاء، وهو طلبٌ أيضاً، ويجوز أن تكون الناصبة، و «لا» زائدة. [قال أبو البقاء: «ويجوز أن(12/248)
يكون في موضع نصب، [أي:] ألزم ربُّك عبادته و» لا «زائدة» ] . قال أبو حيَّان: «وهذا وهمٌ؛ لدخول» إلاَّ «على مفعول» تَعْبدُوا «فلزم أن يكون نفياً، أو نهياً» .
قوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} قد تقدم نظيره في البقرة.
وقال الحوفي: «الباء متعلقة ب» قَضَى «ويجوز أن تكون متعلقة بفعلٍ محذوف تقديره: وأوصى بالوالدين إحساناً، و» إحساناً «مصدر، أي: يحسنون بالوالدين إحساناً» .
وقال الواحديُّ: «الباءُ من صلة الإحسان، فقدِّمت عليه؛ كما تقول: بزيدٍ فانزل» وقد منع الزمخشري هذا الوجه؛ قال: «لأنَّ المصدر لا يتقدَّم عليه معموله» . قال شهاب الدين: والذي ينبغي أن يقال: إنَّ هذا المصدر إن عنى به أنَّه ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍّ، وفعلٍ، فالأمر على ما ذكر الزمخشريُّ، وإن كان بدلاً من اللفظ بالفعل، فالأمرُ على ما قال الواحديُّ، فالجوازُ والمنع بهذين الاعتبارين.
وقال ابن عطية: «قوله {وبالوالدين إِحْسَاناً} عطف على» أنْ «الأولى، أي: أمر الله ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاه، وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً» . واختا رأبو حيَّان أن يكون «إحْسَاناً» مصدراً واقعاً موقع الفعل، وأنَّ «أنْ» مفسرة، و «لا» ناهية، قال: فيكون قد عطف ما هو بمعنى الأمر على نهيٍ؛ كقوله: [الطويل]
3394 - ... ... ... ... ... ..... يقُولُونَ: لا تهْلِكَ أسًى وتَجمَّلِ
قلت: و «أحْسنَ» و «أسَاءَ» يتعدَّيان ب «إلى» وب «الباء» . قال تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي} [يوسف: 100] وقال كثير عزَّة: [الطويل]
3395 - أسِيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا مَلُومَة..... ... ... ... ... ... . .
وكأنه ضُمِّن «أحْسنَ» لمعنى «لَطُفَ» فتعدَّى تعديته.
فصل في نظم الآية
لماأمر بعبادة نفسه أتبعه ببرِّ الوالدين، ووجه المناسبة بين الأمرين أمورٌ:
أوَّلها: أنَّ السبب الحقيقيَّ لوجود الإنسان هو تخليق الله وإيجاده، والسبب الظاهريّ هو الأبوان، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري.
وثانيها: أنَّ الموجود: إما قديمٌ، وإما محدث، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية، ومع المحدث بإظهار الشفقة، وهو المراد من قوله - صلوات الله البرِّ الرَّحيم وسلامه عليه -: «والتعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله»(12/249)
وأحقُّ الخلق بالشفقة الأبوان؛ لكثرة إنعامهما على الإنسان. فقوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} إشارة إلى التَّعظيم لأمر الله تعالى، وقوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} إشارة إلى الشَّفقة على خلق الله.
وثالثها: أنَّ الاشتغال بشكر المنعم واجبٌ، ثمَّ المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى جلَّ ذكره لا إله إلا هو، وقد يكون بعض المخلوقين منعماً عليك، وشكره أيضاً واجبٌ؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ لمْ يشكُر النَّاس، لمْ يشكُر الله» ، وليس لأحدٍ من الخلائق نعمةٌ على الإنسان مثل ما للوالدين، وتقريره من وجوه:
أحدها: أن الولد قطعةٌ من الوالدين؛ قال - عليه السلام -: «فَاطِمةُ بضَعةٌ منِّي يُؤذِينِي ما يُؤذيها» .
وأيضاً شفقة الوالدين على الولد عظيمة، وجدهما في إيصال الخير إلى الولد أمرٌ طبيعيٌّ، واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعيٌّ أيضاً؛ فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة، بل هي أكثر من كلِّ نعمة تصل من إنسانٍ إلى إنسانٍ.
وأيضاً: حال ما يكون الإنسان في غاية الضَّعفِ ونهاية العجز يكون جميعُ أصناف نعم الأبوين في ذلك الوقت واصلة إلى الولدِ، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه، كان موقعه عظيماً.
وأيضاً: فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض، فكان الإنعام فيه أتمَّ وأكمل، فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحدٍ من المخلوقين نعمةٌ على غيره مثل ما للوالدين على الولدِ، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق؛ فقال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين، فقال تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} . فإن قيل: إنَّ الوالدين إنَّما طلبا تحيل اللذَّة لأنفسهما؛ فلزم منه دخول الولد في الوجود، ودخوله في عالم الآفات والمخافات، فأيُّ إنعامٍ للأبوين على الولد.
يحكى أن بعض المنتسبين للحكمة كان يضربُ أباه، ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد، وعرَّضني للموت، والفقر، والعمى، والزَّمانة.(12/250)
وقيل لأبي العلاء المعرِّي: ماذا تكتب على قبرك؟ فقال اكتبوا عليه: [الكامل]
3396 - هَذَا جَناهُ أبِي عَلَيْ ... يَ وما جَنَيْتُ عَلى أحَدْ
3397 - وتَركْتُ فِيهِمْ نِعْمةَ الْ ... عدم التي سبقت نعيم العاجل
ولوْ أنَّهُمْ ولَدُوا لعَانَوا شِدَّة ... تَرْمِي بِهمْ في مُوبِقاتِ الآجلِ
وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم ملَّة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منَّة؛ لأنَّه تحمَّل أنواع الشَّدائد عند تعليمي وأوقفني في نور العلم، وأمَّا الوالدُ فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه، فأخرجني إلى آفاتِ عالمِ الكون والفساد. ومن الكلمات المشهورة المأثورة: «خَيْرُ الآبَاءِ من عَلَّمكَ» والجواب:
هبْ أنَّه في أوَّل الأمر طلب لذة الوقاع، إلاَّ أن الاهتمام بإيصال الخيراتِ إليه، ودفع الآفاتِ من أوَّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر، أليس أنَّه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهاتِ الخيرات والميرات؟ فسقطت هذه الشبهات.
واعلم أن لفظ الآية يدلُّ على معانٍ كثيرة، كل واحدٍ منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين، منها أنه تبارك وتعالى قال في الآية المتقدمة: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] ، ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي يحصل بها الفوز بسعادة الآخرة. وذكر من جملتها البرَّ بالوالدين، وذلك يدلُّ على أن هذه الطاعة من أصول الطَّاعات التي تفيد سعادة الآخرة.
ومنها أنَّه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتَّوحيد، وثنَّى بطاعة الله، وثلَّث ببرِّ الوالدين، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطَّاعة.
ومنها: أنه تعالى لم يقل: «وإحْسَاناً بالوَالِديْنِ» ، بل قال: {وبالوالدين إِحْسَاناً} ، فتقديم ذكرهما يدل على شدَّة الاهتمام.
ومنها: أنه تعالى قال: «إحْسَاناً» بلفظ التنكير، والتنكير يدلُّ على التعظيم، أي: إحساناً عظيماً كاملاً؛ لأنَّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة؛ فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك، وإن لم تحسن إليهما كذلك، فلا تحصل المكافأة؛ لأنَّ إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداءِ، وفي الأمثال المشهورة: «إنَّ البَادِئ بالبرِّ لا يُكَافأ» .
قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} قرأ الأخوان «يَبْلغانِّ» بألف التثنية قبل نون التوكيد(12/251)
المشددة المكسورةِ، والباقون دون ألف وبفتحِ النون، فأمَّا القراءة الأولى، ففيها أوجه:
أحدها: أن الألف ضمي رالوالدين؛ لتقدُّم ذكرهما، و «أحَدُهمَا» بدلٌ منه، و «أو كلاهما» عطف عليه، وإليه نحا الزمخشريُّ وغيره، واستشكله بعضهم بأنَّ قوله «أحَدهُمَا» بدل بعضٍ من كلٍّ، لا كل من كلٍّ؛ لأنه غير وافٍ بمعنى الأول، وقوله بعد ذلك «أو كلاهما» عطف على البدل، فيكون بدلاً، وهو من بدل الكلِّ من الكلِّ؛ لأنه مرادف لألف التثنية، لكنه لا يجوز أن يكون بدلاً؛ فعروِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألف التثنية هو المستفاد من «كِلاهمَا» فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه.
قال شهاب الدين: هذا معنى قول أبي حيَّان، وفيه نظر؛ إذ لقائلٍ أن يقول: مسلَّمٌ أنَّه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه، لكنه لا يضرُّ؛ لأنه شأن التأكيد، ولو أفاد زيادة أخرى غير مفهومة من الأول كان تأسيساً لا تأكيداً، وعلى تقدير تسليم ذلك، فقد يجاب عنه بما قال ابن عطيَّة؛ فإنه قال بعد ذكره هذا الوجه: وهو بدلٌ مقسِّم؛ كقول الشاعر: [الطويل]
3398 - وكُنْتُ كَذِي رجْليْنِ رجٍلٍ صَحِيحَةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى فيها الزَّمانُ فشَلَّتِ
إلا أنَّ أبا حيَّان تعقَّب كلامه، فقال: «أمَّا قوله: بدلٌ مقسم؛ كقوله:
3399 -» وكُنْتُ..... ... ... . . «
فليس كذلك؛ لأنَّ شرطه العطف بالواو، وأيضر فشرطه: ألاَّ يصدق المبدل منه على أحد قسميه، لكن هنا يصدق على أحد قسميه؛ ألا ترى أنَّ الألف، وهي المبدل منه يصدق على أحد قسميها، وهو» كلاهما «فليس من البدلِ المقسِّم» . ومتى سلِّم له الشرطان، لزم ما قاله.
الثاني: أن الألف ليست ضميراً، بل علامة تثنية، و «أحَدُهمَا» فاعل بالفعل قبله، و «أو كِلاهُمَا» عطف عليه، وقد ردَّ هذا الوجه: بأنَّ شرط الفعل الملحقِ به علامة تثنية: أن يكون مسنداً لمثنى؛ نحو: قَامَا أخواك، أو إلى مفرَّق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه؛ نحو: «قَامَا زيدٌ وعمرٌو» ، لكنَّ الصحيح جوازه؛ لوروده سماعاً كقوله: [الطويل]
3400 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وقَدْ أسْلمَاهُ مُبعدٌ وحَمِيمُ(12/252)
والفعلُ هنا مسندٌ إلى «أحدهما» وليس مثنًّى، ولا مفرَّقاً بالعطف بالواو.
الثالث: نقل عن الفارسي أن «كلاهما» توكيد، وهذا لا بد من إصلاحه بزيادة، وهو أن يجعل «أحدهما» بدل بعضٍ من كلٍّ، ويضمر بعده فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية، ويقع «كلاهما» توكيداً لذلك الضمير تقديره: أو يبلغا كلاهما، إلا أنه فيه حذف المؤكد وإبقاء التوكيد، وفيها خلاف، أجازها الخليل وسيبويه نحو: «مَررْتُ بزَيْدٍ، ورَأيْتُ أخَاكَ أنْفُسَهُمَا» بالرفع والنصب، فالرفع على تقدير: هما أنفسهما، والنصب على تقدير أعينهما أنفسهما، ولكن في هذا نظرٌ؛ من حيث إنَّ المنقول عن الفارسي منع حذف المؤكَّد وإبقاء توكيده، فكيف يخرَّجُ قوله على أصلٍ لا يجيزه؟ .
وقد نصَّ الزمخشريُّ على منع التوكيدِ، فقال: «فإن قلت: لو قيل:» إمَّا يَبْلغانِّ كلاهما «كان» كِلاهما «توكيداً لا بدلاً، فما لك زعمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت: لأنه معطوفٌ على ما لا يصحُّ أن يكون توكيداً للاثنين، فانتظم في حكمه؛ فوجب أن يكون مثله» قلت: يعني أنَّ «أحدهما» لا يصلح أن يكون توكيداً للمثنى، ولا لغيرهما، فكذا ما عطف عليه؛ لأنه شريكه.
ثم قال: «فإن قلت: ما ضرَّك لو جعلته توكيداً مع كونِ المعطوف عليه بدلاً، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية، لقيل:» كِلاهُمَا «فحسب، فلما قيل:» أحَدهُمَا أو كِلاهُمَا «علم أنَّ التوكيد غير مرادٍ، فكان بدلاً مثل الأول» .
الرابع: أن يرتفع «كِلاهُمَا» بفعل مقدرٍ تقديره: أو يبلغُ كلاهما، ويكون «أحدهما» بدلاً من الفالضمير بدل بعضٍ من كلٍّ، والمعنى: إمَّا يبلغنَّ عندك أحد الوالدين أو يبلغ كلاهما.
قال البغوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فعلى قراءة حمزة والكسائي قوله: «أحَدهُمَأ أو كِلاهُمَا» كلام مستأنف؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71] وقوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] فقوله: {الذين ظَلَمُواْ} ابتداء.
وأما القراءة الثانية فواضحة، و «إمَّا» هي «إنْ» الشرطية زيدتْ عليها «ما» توكيداً، فأدغم أحد المتقاربين في الآخر بعد أن قلب إليه، وهو إدغام واجب، قال الزمخشريُّ: «هي إن الشرطية زيدت عليها» ما «توكيداً لها؛ ولذلك دخلت النون، ولو أفردت» إنْ «لم يصحَّ دخولها، لا تقول: إن تُكرمنَّ زيداً، يُكرمْكَ، ولكن: إمَّا تُكرِمنَّهُ» .
وهذا الذي قاله الزمخشريُّ نصَّ سيبويه على خلافه، قال سيبويه:
وإنْ شِئْتَ، لم تُقْحمِ النون، كما أنك، إن شئت، لم تجئ ب «مَا» قال أبو حيَّان: «يعني مع النون وعدمها» وفي هذا نظر؛ لأنَّ سيبويه، إنما نصَّ على أنَّ نون التوكيد لا(12/253)
يجب الإتيان بها بعد «أمَّا» وإن كان أبو إسحاق قال بوجوب ذلك، وقوله بعد ذلك: كما أنَّك إن شِئْتَ لم تجئ ب «مَا» ليس فيه دليلٌ على جواز توكيد الشَّرط مع «إنْ» وحدها.
و «عِندكَ» ظرفٌ ل «يَبْلغَنَّ» و «كِلا» مثناةٌ معنى من غير خلاف، وإنما اختلفوا في تثنيتها لفظاً: فمذهب البصريِّين: أنها مفردة لفظاً، ووزنها على فعل؛ ك «مِعَى» وألفها منقلبة عن واوٍ، بدليل قلبها تاء في «كِلْتَا» مؤنث «كِلا» هذا هو المشهور، وقيل: ألفها عن ياءٍ، وليس بشيءٍ، وقال الكوفيُّون: هي مثناة لفظاً؛ وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله: [الرجز]
3401 - في كِلْتِ رِجْليْهَا سُلامَى وَاحِده..... ... ... ... ... ...
فنطق بمفردها؛ ولذلك تعربُ بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً، فألفها زائدة على ماهية الكلمة كألف «الزيدان» ÷ ولامها محذوفة عند السهيليِّ، ولم يأت عن الكوفيين نصٌّ في ذلك، فاحتمل أن يكون الأمر كما قال السهيليُّ، وأن تكون موضوعة على حرفين فقط، لأنَّ مذهبهم جواز ذلك في الأسماءِ المعربة.
قال أبو الهيثن الرَّازيُّ وأبو الفتح الموصليُّ، وأبو عليٍّ الجرجانيُّ إن «كلا» اسم مفرد يفيد معنى التثنية، ووزنه فعل، ولامه معتلٌّ بمنزلة لام «حِجَى ورِضَى» وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة، ولا تكون إلا مضافة؛ لأنَّها لو كانت تثنية، لوجب أن يقال في النَّصب والخفض: «مَرَرْتُ بِكلَي الرَّجليْنِ» بكسر الياء، كما يقال: «بَيْنَ يَدي الرَّجُل: و» مِنْ ثُلُثي اللَّيْلِ «و» يَا صَاحِبَي السِّجْنِ «و» طَرفي النَّهارِ «، ولما لم يكن كذلك، علمنا أنَّها ليست تثنية، بل هي لفظة مفردة، وضعت للدلالة على التثنية، كما أنَّ لفظة» كُل «اسمٌ واحدٌ موضوع للجماعة، فإذن أخبرت عن لفظه، كما تخبر عن الواحد؛ كقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} [مريم: 95] ، فكذا إن أخبرت عن» كِلاَ «أخبرت عن واحدٍ، فقلت: كلا أخويك كان قائماً.
قال الله تعالى: {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] . ولم يقل:» آتَنَا «.
وحكمها: أنَّها متى أضيفت إلى مضمرٍ أعربت إعراب المثنى، أو إلى ظاهر، أعْرِبت إعراب المقصور عند جمهور العرب، وبنو كنانة يعربونها إعراب المثنى مطلقاً، فيقولون: رأيت كِلَى أخوَيْكَ، وكونها جرتْ مجرى المثنى مع المضمر، دون الظاهر يطول ذكره.(12/254)
ومن أحكامها: أنَّها لا تضافُ إلاَّ إلى مثنى لفظاً [ومعنى نحو:» كلا الرَّجليْنِ «] ، أو معنى لا لفظاً؛ نحو:» كِلانَا «ولا تضاف إلى مفرَّقين بالعطف نحو» كِلا زَيْدٍ وعمرٍو «إلا في ضرورةٍ؛ كقوله: [الطويل]
3402 - إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مَدًى ... وكِلاَ ذلِكَ وجْهُ وقَبَلْ
والأكثر مطابقتها فيفرد خبرها وضميرها؛ نحو: كلاهما قائم، وكلاهما ضربته، ويجوز في قليل: قائمان، وضربتهما؛ اعتباراً بمعناهما، وقد جمع الشاعر بينهما في قوله: [البسيط]
3404 - كِلاهُمَأ حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنهُمَا ... قَد أقْلعَا وكِلاَ أنْفَيهِمَا رَابِي
وقد يتعيَّن اعتبارُ اللفظ؛ نحو: كلانا كفيل صاحبه، وقد يتعيَّن اعتبارُ المعنى، ويستعمل تابعاً توكيداً، وقد لا يتبع، فيقع مبتدأ، ومفعولاً به، ومجرورواً، و «كِلْتَا» في جميع ما ذكر ك «كِلا» وتاؤها بدل عنواو، وألفها للتأنيث، ووزنها فعلى؛ كذكرى، وقال يونس: ألفها أصلٌ، وتاؤها مزيدة، ووزنها فعتلٌ، وقد ردَّ عليه الناس، والنسب إليها عند سيبويه: «كِلْوِي» كمذكرها، وعند يونس: كِلْتَوِيّ؛ لئلا تلتبس، ومعنى الآية أنَّهما يبلغان إلى حالة الضَّعف والعجز، فيصيران عندك في ىخر العمر، كما كنت عندهما في أوَّل العمر.
قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} قوله: أفّ: اسم فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثر باب أسماء الأفعال أوامر، وأقل منه اسم الماضي، وأقلُّ منه اسم المضارع؛ ك «أف» وأوَّه، أي: أتوجَّع، وويْ، أي: أعجبُ، وكان من حقِّها أن تعرب؛ لوقوعها موقع معربٍ، وفيها لغاتٌ كثيرة، وصلها الرُّماني إلى تسع وثلاثين، وذكر ابنُ عطيَّة لفظة، بها تمَّت الأربعون، وهي اثنتان وعشرون مع الهمزة المضمومة: أفُّ، أفَّ، أفِّ، بالتشديد مع التنوين وعدمه، أفُ، أفَ، أفِ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد، أفُّهْ، أُفَّهْ، أفِّهْ، أفَّا من غير إمالة، وبالإمالة(12/255)
المحضة، وبالإمالة بين بين، أفُّو أفِّ] : بالواو والباء، وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزة: إفَّ، إفِّ: بالتشديد مع التنوين وعدمه، أَفَ، إفِ بالتخفيف مع التنوين وعدمه، إفًّا بالإمالة، وست مع فتح الهمزة: أفَّ أفِّ؛ بالتشديد مع التنوين وعدمه، أفْ بالسكون، أفا بالألف، فهذه تسعٌ وثلاثون لغة، وتمام الأربعين «» أفاهُ «بهاء السكت، وفي استخراجها بغير هذا الضَّابط الذي ذكرته عسر ونصب، يحتاج في استخراجه من كتب اللغة، ومن كلام أهلها، إلى تتبُّعٍ كثيرٍ، وأبو حيان لم يزدْ على أن قال:» ونحنُ نسردها مضبوطة كما رأيناها «، فذكرها، والنُّسَّاخ خالفوه في ضبطه، فمن ثمَّ جاء فيه الخللُ، فعدلنا إلى هذا الضَّابط المذكور، ولله الحمد والمنة.
وقد قرئ من هذه اللغات بسبعٍ: ثلاثٍ في المتواتر، وأربعٍ في الشاذ، فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين، وابن كثيرٍ، وابن عامرٍ بالفتح دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين، ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء، وقرأ نافع في رواية: أفٌ بالرفع والتنوين، وأبو السًّمال بالضمِّ من غير تنوين، وزيد بن عليِّ بالنصب والتنوين، وابن عبَّاسٍ:» أفْ «بالسكون.
قال ابن الخطيب: والبحث المشكل ها هنا أنا لما نقلنا أنواعاً من اللغات في هذه اللفظة، فما السَّبب في أنَّهم تركوا أكثر تلك اللُّغاتِ في قراءةِ هذه اللفظة، واقتصروا على وجوه قليلة منها؟ .
فصل
في تفسير هذه اللفظة وجوهٌ:
أحدها: قال الفراء: تقول العرب: «لعلَّ فلاناً يَتأفَّفُ من ريحٍ وجدها» معناه: يقول: أفٍّ أفٍّ.
والثاني: قال الأصمعي: الأفُّ: وسخُ الآذانِ، والتُّفُّ: وسخُ الأظفار، يقال ذلك عند استقذار الشيء، ثم كثر، حتَّى استعملوه عند محلِّ ما يتأذُّون.
الثالث: قال أبو عبيدة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أصل الأفِّ والتُّفِّ: الوسخُ على الأصابع إذا فَتلْتَها.
الرابع: الأفُّ: ما يكون في المغابن من الوسخِ، والتُّفُّ ما يكون في الأصابع من الوسخ.
الخامس: الأفُّ: وسخ الأظافرِ، والتُّفُّ ما رفعت بيدك من الأرْضِ من شيءٍْ حقيرٍ.
السادس: قيل: أفٍّ: معناه قلًّة، وهو مأخوذ من الأفيفِ، وهو الشيء القليل، وتُفّ: إتباعٌ له؛ كقولهم شيطانٌ ليطانٌ، خبيثٌ نبيثٌ.(12/256)
السابع: روى يعلبٌ عن ابن الأعرابيّ: الأفُّ: الضجر.
الثامن: قال القتبيُّ: أصل هذه الكلمة أنَّه إذا سقط عليك ترابٌ أو رمادٌ، نفخت فيه لتزيله؛ والصَّوْت الحاصل عند تلك النفخةِ هو قولك: أفٍّ، ثم إنَّهم توسَّعوا، فذكروا هذه اللفظة عند كلِّ مكروه يصل إليهم.
قال مجاهدٌ: معنى قوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} أي: لا تتقذَّرهما: كما أنَّهما لم يتقذَّراك حين كنت تخرى وتبول.
وروي عن مجاهد أيضاً: إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك، فلا تقل لهما: أفٍّ.
فصل في دلالة الأفّ
قول القائل: «لا تقلْ لفلانٍ: أفٍّ» مثل يضرب للمنعِ من كل مكروهٍ وأذيَّةٍ، وإن خفَّ وقلَّ.
واختلف الأصوليُّون في أنَّ دلالة هذا اللفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالةٌ لفظيةٌ، أو دلالة مفهومة بالقياس، فقيل: إنها دلالة لفظية، لأنَّ أهل العرف، إذا قالوا: لا تقل لفلانٍ أفٍّ، عنوا به أنَّه لا يتعرض له بنوعٍ من أنواع الأذى، فهو كقوله: فلانٌ لا يملكُ نقيراً ولا قطْمِيراً فهو بحسب العرف يدلُّ على أنه لا يملك شيئاً.
وقيل: إنَّ هذا اللفظ، إنَّما دلَّ على المنعِ من سائر أنواعِ الأذى بالقياس الجليِّ.
وتقريره: أنَّ الشَّرع، إذا نصَّ على حكمٍ في صورةٍ، وسكت عن حكم في صورةٍ أخرى، فإذا أردنا إلحاق الصُّورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها، فهذا على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محلِّ السكوت أولى من ثبوته في محلِّ الذِّكر كهذه الصورة؛ فإنَّ اللفظ إنما دلَّ على المنع من التأفيف، والضَّرب أولى بالمنع.
وثانيها: أن يكون الحكم ف يمحلِّ السكوت مساوياً للحكم في محلِّ الذِّكر، وهذا يسمِّيه الأصوليُّون: «القياس في معنى الأصل» كقوله صلوات الله وسلامه عليه: «مَنْ أعْتقَ شِركاً لهُ في عَبْدٍ، قُوِّمَ عليه البَاقِي» فإنَّ الحكم في الأمَةِ وفي العبد سواء.
وثالثها: أن يكون الحكم في محلِّ السكوت أخفى من الحكم في محلِّ الذِّكرِ، وهو أكثر القياساتِ.(12/257)
إذا عرف هذا، فالمنع من التأفيف، إنما دلَّ على المنع من الضرب بالقياس الجليِّ من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى؛ لأنَّ التأفيف غير الضرب، فالمنع من التأفيف لا يكون منعاً من الضرب، وأيضاً: المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلاً؛ لأنَّ الملك الكبير، إذا أخذ ملكاً عظيماً، كان عدُوًّا له، فقد يقول للجلاَّد: إيَّاك أن تستخفَّ به أو تشافهه بكلمة موحشةٍ، لكن اضرب رقبته، وإذا كان هذا معقولاً في الجملة، علمنا أنَّ المنع من التأفيف يغاير المنع من الضرب، وغير مستلزم للمنع من الضرب في الجملة إلاَّ أنَّا علمنا في هذه الصورة: أنَّ المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين، لقوله تعالى: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} .
فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب بالقياس من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى.
قوله: «ولا تَنْهَرْهُمَا» أي: لا تَزْجُرهما، والنَّهْرُ: الزَّجْرُ بصياحٍ وغلظة وأصله الظهور، ومنه «النَّهْر» لظهوره، وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ أخَواتٌ» .
ويقال نهرهُ وانتهره، إذا استقبله بكلامٍ يزجره، قال تعالى: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 10] .
فإن قيل: المنع من التأفيف يدلُّ على المنع من الانتهار؛ بطريق الأولى، فلما قدم المنعه من التأفيف، كان المنع من الانتهار بعده عبثاً، ولو فرضنا أنه قدَّم المنع من الانتهار على المنع من التأفيف، كان مفيداً؛ لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف، فما السَّبب في رعاية هذا التَّرتيب؟ .
فالجواب: أن المراد من قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} المنع من إظهار الضَّجر بالقليل والكثير، والمراد من قوله {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردِّ عليه.
قوله تعالى: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} لمَّا منعه من القول المؤذي، وذلك لا يكون أمراً بالقول الطَّيب، فلا جرم: أردفه بأن أمره بالقول الحسن، فقال: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} .
قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هو أن يقول له: يا أبتَاهُ يا أمَّاهُ، وقال عطاء: هو أن تتكلَّم معهما بشرط ألاَّ ترفع إليهما بصرك.
وقال مجاهد: لا تُسمِّهِمَا ولاتكنِّهما، فهو كقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.(12/258)
فإن قيل: إنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كان أعظم النَّاس حلماً وكرماً وأدباً، فكيف قال لأبيه: «يا آزرُ» على قراءة «لأبِيهِ آزَرُ» بالضمِّ {إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 74] فخاطبه بالاسم، وهو إيذاءٌ له، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال، وعو أعظم أنواع الإيذاء.
فالجواب أن قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَانا} يدلُّ على أنَّ حقَّ الله متقدِّم على حقِّ الأبوين، فإقدام إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - على ذلك الإيذاء، إنَّما كان تقديماً لحق الله تعالى على حقِّ الأبوين.
قوله تعالى: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} .
والمقصود المبالغة في التواضع، وهذه استعارة بليغة.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وفي تقريره وجهان:
الأول: أنَّ الطائر، إذا أراد ضمَّ فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنَّه قال للولد: اكفل والديك؛ بأن تَضمَّهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني: أنَّ الطائر، إذا أراد الطَّيران، نَشرَ جناحيه، ورفعهما؛ ليرتفع، وإذا أراد ترك الطيران، خفض جناحيه، فجعل خفض الجناحِ كناية عن التواضع واللِّين.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى جناح الذلِّ؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المعنى: واخفض لهما جناحك، كما قال: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] فأضافه إلى الذُّلِّ [أو الذِّلِّ] ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى: واخفض لهما جناحك الذَّليل أو الذَّلول.
والثاني: أن تجعل لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً؛ كما جعل لبيد للشَّمال يداً، وللقرَّة زماماً، في قوله: [الكامل]
3405 - وغَداةِ رِيح قد كَشفْتُ وقَرَّةٍ ... إذْ أصَبْحَتْ بِيدِ الشَّمالِ زِمامُهَا
مبالغة في التذلُّل والتواضع لهما» انتهى، يعني أنه عبَّر عن اللين بالذلِّ، ثم استعار له جناحاً، ثم رشَّح هذه الاستعارة بأن أمره بخفض الجناح.
ومن طريف ما يحكى: أن أبا تمامٍ، لمَّا نظم قوله: [الكامل]
3406 - لا تَسْقِني مَاءَ المَلامِ فإنَّني ... صبٌّ قد اسْتعذَبْتُ مَاء بُكائِي(12/259)
جاءه رجل بقصعةٍ، وقال له: أعطني شيئاً من ماءِ الملامِ، فقال: حتى تأتيني بريشةٍ من جناح الذلِّ؛ يريد أن هذا مجاز استعارةٍ كذاك، وقال بعضهم: [الطويل]
3407 - أرَاشُوا جَناحِي ثُمَّ بلُّوه بالنَّدى ... فلمْ أسْتطِعْ من أرْضهِمْ طَيرانَا
وقرأ العامة «الذُّلِّ» بضم الذال، وابن عبَّاسٍ في آخرين بكسرها، وهي استعارةٌ؛ لأن الذلَّ في الدوابِّ؛ لأنَّه ضدُّ الصعوبة، فاستعير للأناسيِّ، كما أنَّ الذل بالضم ضدُّ العزِّ.
قوله: «من الرَّحمة» فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنها للتعليل، فتتعلق ب «اخفِضْ» ، أي: اخفض من أجل الرَّحمة.
والثاني: أنها لبيان الجنس؛ قال ابن عطيَّة: «أي: إنَّ هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنَّة في النَّفس» .
الثالث: أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «جَنَاح» .
الرابع: أنها لابتداء الغاية.
قوله: «كَمَا ربَّيانِي» في هذه الكاف قولان:
أحدهما: أنها نعتٌ لمصدر محذوف، فقدَّره الحوفيُّ: «ارحمهما رحمة مثل تربيتهما [لي] » . وقدَّره أبو البقاء: «رحمة مثل رحمتهما» كأنَّه جعل التربية رحمة.
والثاني: أنها للتعليل، أي: ارحمهما؛ لأجل تربيتهما؛ كقوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] .
قال القرطبيُّ: ولا يختصُّ برُّ الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرُّهما، ويحسن إليهما.
قال القفال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّه لم يقتصر في تعليم البرِّ بالوالدين على تعليم(12/260)
الأفعال، بل أضاف إليه تعليم الأقوال، وهو أن يدعو لهما بالرَّحمة، فيقول: ربِّ ارحمهما، ولفظة الرحمة جامعة لكلِّ الخيرات في الدِّين والدنيا، ثم يقول: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} يعني: ربِّ افعل بهما هذا النوع من الإحسان، كما أحسنا إليَّ في تربيتهما، والتربية هي التَّنْميَةُ من قولهم: ربَا الشَّيء، إذا انتفخ قال تعالى: {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5] .
واختلف المفسرون في هذه الآية، فقا لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إنها منسوخة بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين، ولا يقول: ربِّ ارحمهما.
وقيل إنها مخصوصة بالمسلمين غير منسوخة، وهذا أولى من القول الأول؛ لأنَّ التخصيص أولى من النَّسخ.
وقيل: لا نسخ، ولا تخصيص؛ لأنَّ الوالدين، إذا كانا كافرين، فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان.
فصل في أنّ الأمر يفيد التكرار أم لا؟
قوله جلَّ ذكرهُ: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما} أمرٌ، وظاهر الأمر لا يفيد التَّكرار، فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرَّة واحدة.
سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة، أو في الشهر، أو في السَّنة؟ فقال: نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات؛ كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبيِّ - صلوات الله وسلامه عليه -.
وكقوله تعالى: {واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] فهم يكرِّرون في أدبار الصلاة.(12/261)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
قال تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} من برِّ الوالدين وعقوقهما {إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} ، أي: إنَّا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله، وبالإحسان بالوالدين،(12/261)
ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص وعدم الإخلاص، فالله تعالى مطلع على ما في نفوسكم.
{إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} أي: إن كنتم برآء عن جهة الفساد في أحوال قلوبكم، وكنتم أوَّابين، أي: راجعين إلى الله، فإنَّ حكم الله في الأوَّابين أنَّه غفورٌ لهم، يكفِّر عنهم سيئاتهم.
والأوَّابُ: على وزن فعَّال، وهو يفيد المداومة والكثرة؛ كقولهم: قتَّال، وضرَّاب.
قال سعيد بن المسيِّب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الأوَّاب الذي يذنب، ثم يتوب. وقال سعيد بن جبيرٍ: هو الرجَّاع إلى الخير.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هو الرجَّاع إلى الله تعالى فيما ينوبه. وعنه أيضاً قال: هم المسبِّحون؛ لقوله تعالى: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] .
وقال قتادة: المصلُّون.
وقيل: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه، لا يريد بذلك الخير، فإنَّه لا يؤخذ به.
وقال عونٌ العقيلي: هم الذين يصلُّون صلاة الضحى؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج إلى أهل قباء، وهُم يُصلُّونَ الضحى، فقال: صلاةُ الأوَّابين إذا رمضت الفصال من الضحى.
ورُوِيَ عن ابن عبَّاس أنه قال: إنَّ الملائكةَ لتحفُّ بالذين يصلُّون بين المغرب والعشاء، وهي صلاة الأوَّابين.(12/262)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
قيل: هذا خطاب للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بأن يؤتي أقاربهُ الحقوق التي وجبت لهم في الفيءِ والغنيمة، وإخراج حقِّ المساكين وأبناء السَّبيل من هذين المثالين.
وقال الأكثرون: إنه عامٌّ، لأنه عطفهع لى قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ(12/262)
إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] والمعنى أنَّك بعد فراغك من برِّ الوالدين يجب عليك أن تشتغل ببرِّ سائر الأقاربِ، الأقرب فالأقرب، ثم بإصلاح أحوال المساكين، وأبناء السَّبيل، واعلم أنَّ قوله تعالى: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} مجملٌ، ليس فيه بيان أنَّ ذلك الحقَّ ما هو، فذهب الشافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إلى أنَّه لا يجب الإنفاقُ إلاَّ على الولدِ والوالدين، وقال غيره: يجب الإنفاق على المحارم بقدر الحاجة، واتفقوا على أنَّ من لم يكن من المحارم كأبناء العمِّ، فلا حقَّ لهم إلاَّ الموادَّة والمؤالفة في السَّراء والضَّراء، وأما المسكين وابن السَّبيل، فتقدَّم وصفهما في سورة التوبة في آية الزَّكاة.
قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} : التَّبذِيرُ: التفريق ومنه «البَذْرُ» لأنه يفرقُ في الأرض للزِّراعة، قال: [الوافر]
3408 - تَرائِبُ يَسْتَضِيءُ الحليُ فِيهَا ... كجَمْرِ النَّار بُذِّرَ بالظَّلامِ
ثم غلب في الإسراف في النَّفقة.
قال مجاهد: لو أنفق الإنسان ماله كلَّه في الحقِّ، ما كان تبذيراً.
وسئل ابن مسعود عن التبذير، فقال: إنفاقُ المالِ في غير حقِّه وأنشد بعضهم: [الوافر]
3409 - ذَهابُ المَالِ في حَمْدٍ وأجْرٍ ... ذَهابٌ لا يُقَالُ لهُ ذَهابُ
وقال عثمان بن الأسود: كنت أطوفُ مع مجاهد حول الكعبة، فرفع رأسه إلى أبي قبيسٍ، وقال: لو أنَّ رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله، لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله، كان من المسرفين.
وعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - مرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بسعدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وهو يتَوضَّأ، فقال: مَا هَذَا السَّرف يا سعدُ؟ فقال: أفِي الوَضُوءِ سرفٌ؟ قال: «نعم، وإنْ كُنْتَ على نَهْرٍ جارٍ» .(12/263)
ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إيَّاه إلى أفعال الشياطين، فقال - جلَّ ذكره -: {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} والمراد من هذه الأخوة التشبيه بهم في هذا الفعل القبيح؛ لأنَّ العرب يسمُّون الملازم للشيء أخاً له، فيقولون: فلانٌ أخو الكرم والجود، وأخو السَّفر، إذا كان مواظباً على هذه الأفعال.
وقيل: قوله: {إِخْوَانَ الشياطين} أي: قرناءهم في الدنيا والآخرة كقوله تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] .
وقال تعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] أي: قرناءهم من الشياطين، ثم قال تعالى: {وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً} أي: جحوداً للنِّعمة؛ لأنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض، والإضلال للنَّاس، وكذلك من رزقه الله مالاً أو جاهاً، فصرفه إلى غير مرضاة الله، كان كفوراً لنعمة الله؛ لأنَّه موافق للشياطين في الصِّفة والفعل، ثم إن الشياطين كَفُورُونَ بربهم، فكذلك المبذِّر أيضاً كفورٌ بربه.
قال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفقِ عادة العرب؛ لأنَّهم كانوا يجمعون الأموال بالنَّهب والغارة، ثم ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر، وكان المشركون من قريشٍ وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه، فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أفعالهم.(12/264)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
نزلت في مهجع، وبلال، وصهيب، وسالم، وخبَّاب، وكانوا يسألون النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأحايين ما يحتاجون إليه، ولا يجد، فيعرض عنهم حياء منهم، ويمسك ن القول، فنزلت: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} أي: وإن أعرضت عنهم عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم {ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} انتظار رزق من الله ترجوه، أي: يأتيك {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} ليِّناً، وهو العدةُ، أي: عدهم وعداً جميلاً.
قوله تعالى: {ابتغآء رَحْمَةٍ} : يجوز أن يكون مفعولاً من أجله، ناصبه «تُعرضنَّ» وهو من وضع المسبَّب موضع السبب، وذلك أنَّ الأصل: وإمَّا تعرضنَّ عنهم لإعسارك، وجعله الزمخشريُّ منصوباً بجواب الشرط، أي: فقل لهم قولاً سهلاً؛ ابتغاء رحمة، وردَّ عليه أبو حيَّان: بأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها؛ نحو: «إن يقُم زيدٌ عمراً فاضْرِبْ» فإن حذفت الفاء جاز عند سيبويه والكسائيِّ؛ نحو: «إنْ يقُمْ زيدٌ عمراُ يَضْرِبْ» فإن كان الاسمُ مرفوعاً؛ نحو «إنْ تَقُمْ زيدٌ يَقُمْ» جاز ذلك عند سيبويه على أنَّه مرفوع بفعلٍ مقدَّرٍ يفسِّره الظاهر بعده، أي: إن تقم، يَقُم زيدٌ يَقُمْ. ومنع من ذلك الفراء وشيخه.
وفي الردِّ نظر؛ لأنَّه قد ثبت ذلك؛ لقوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9](12/264)
الآية؛ لأنَّ «اليتيمَ» وما بعده منصوبان با بعد فاءِ الجوابِ.
وقيل: إنه في موضع الحالِ من فاعل «تُعرِضنَّ» .
قوله تعالى: {مِّن رَّبِكُمْ} يجوز أن يكون صفة ل «رحمةٍ» ، وأن يكون متعلقاً ب «تَرْجُوها» أي: ترجُوهَا «يجوز أن يكون حالاً من فاعل» تُعرِضنَّ «، وأن يكون صفة ل» رَحمةٍ «.(12/265)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} الآية.
لمَّا أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة، علَّمه في هذه الآية أدب الإنفاق.
واعلم أنه تعالى وصف عباده المؤمنين، فقال تعالى {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] .
فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف، فقال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} أي لا تمسك عن الإنفاق، بحيث تضيف على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرَّحم، أي: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط، {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} أي: ولا تتوسَّع في الإنفاق توسُّعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيءٌ.
والحكماءُ ذكروا في كتب الأخلاق أنَّ لكلِّ خلق طرفي إفراطٍ وتفريطٍ، وهما مذمومان، والخلق الفاضل هو العدل والوسط، فالبخل إفراطٌ في الإمساك، والتبذير إفراطٌ في الإنفاقِ، وهما مذمومان، والمعتدل الوسطُ.
روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «أتى صبي فقال: يا رسول الله، إنَّ أمِّي تَسْتَكسِيكَ دِرْعاً، ولم يكُنْ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ قميصهُ، فقال للصبيِّ: من ساعةٍ إلى ساعةٍ يظهرُ كذا فعدِّ وقتاً آخر، فعاد إلى أمِّه فقالت: قل له: إنَّ أمِّي تَسْتكسِيكَ الدِّرع الذي عليك، فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دَارهُ، ونزعَ قَمِيصهُ، فأعطاهُ، فقعد عُرياناً، فأذَّنَ بلالٌ بالصَّلاةِ، فانتظره، فلم يخرج، فشغل قُلوبَ أصحابه، فدخل عليه بعضهم فَرآهُ عُرْيَاناً» ، فأنزلَ الله تعالى {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} يعني لا تمسك يدك عن النفقةِ في الحقِّ كالمغلولة يده، ولا يقدر على مدِّها، «ولا تَبْسُطهَا» بالعطاء «كُلَّ البَسْطِ» فتعطي جميع ما عندك.
و {كُلَّ البسط} : نصب على المصدر؛ لإضافتها إليه، و «فَتقْعُدَ» نصب على جواب(12/265)
النهي وتقدَّم الكلام عليه، و «مَلُوماً» إمَّا حالٌ، وإمَّا خبر كما تقدَّم؛ ومعنى كونه ملوماً أنه يلومُ نفسه، وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المالِ وإبقاءِ الأهل في الضَّرر والمحنة، أو يلومونه بالإمساك إذا سألوه ولم يعطهم، وأمَّا كونه محسوراً، فقال الفراء: العرب تقول للبعير: محسورٌ، إذا انقطع سيره، وحسرت الدابَّة، إذا سيَّرتها حتى ينقطع سيرها، ومنه قوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] .
وقال قتادة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: محسوراً نادماً على ما فرط منك ويجمع الحسيرُ على حَسْرَى، مثل: قَتْلَى وصَرْعَى.
قال الشاعرك [الطويل]
3410 - بِهَا جِيَفُ الحَسْرى، فأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وأمَّا جِلدُهَا فَصلِيبُ
وحسر عن كذا، كشف عنه كقوله [الطويل]
3411 - ... ... ... . يَحْسُرِ المَاءَ تَارةً..... ... ... ... ... ... . .
والمحسور: المنقطع السَّير، ومنه حسرت الدَّابة، قطعت سيرها، وحسير أي: كالٌّ: تعبان بمعنى: محسور.
قال القفال: شبَّه حال من أنفق كلَّ ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته؛ لأنَّ ذلك المقدار من المال، كأنَّه مطيَّة تحمل الإنسان إلى آخر السَّفر، كما أن ذلك البعير يحمله إلى آخر منزله، فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطَّريق عاجزاً متحيِّراً، فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدَّة شهر، بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً، ومن فعل هذا، لحقه اللَّوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره، وترك الحزم في مهمَّات معاشه.
ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق} أي يوسِّعه على البعض «ويَقْدرُ» ، أي: يضيِّق على البعض بحسبِ ما يعلم من المصالح.
قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} [الشورى: 27] والقدر في اللغة التَّضييقُ. قال تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] . {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] أي: ضيَّق.(12/266)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} الآية في تقرير النظم وجوه:(12/266)
الأول: أنه لما بيَّن في الآية الأولى: أنَّه المتكفِّل بأرزاق العباد؛ حيث قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30] قال عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} .
الثاني: أنه تعالى، لمَّا علم كيفية البرِّ بالوالدين في الآية المتقدمة، علم في هذه الآية كيفية البرِّ بالأولاد، ولهذا قيل: إنَّ الأبرار إنما سمُّوا بذلك؛ لأنهم برُّوا الآباء والأبناء؛ فوجب برُّ الآباء مكافأة على ما صدر منهم من أنواع البرِّ؛ ووجب برُّ الأولاد، لأنَّهم في غاية الضعف والاحتياج ولا كافل لهم غير الوالدين.
الثالث: أنَّ امتناع الأولاد من برِّ الآباء يوجب خراب العالم؛ لأنَّ الآباء، إذا علموا ذلك، قلت رغبتهم في تربية الأولاد؛ فيلزم خراب العالم، وامتناع الآباء من البرِّ أيضاً كذلك.
الرابع: أنَّ قتل الأولادِ، إن كان لخوفِ الفقر، فهو سوء الظنِّ بالله تعالى، وإن كان لأجل الغيرة على البناتِ فهو سعيٌ في تخريب العالم، فالأوَّل ضدُّ التعظيم لأمر الله تعالى، والثاني ضدُّ الشفقةِ على خلق الله، وكلاهما مذمومان.
الخامس: أنَّ قرابة الأولاد قرابةُ الجزئيَّة والبعضيَّة، وهي من أعظم الموجبات للمحبَّة، فلو لم تحصل المحبَّة دلَّ ذلك على غلظٍ شديد في الرُّوح، وقسوة في القلب، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة، فرغَّب الله في الإحسان إلى الأولاد؛ إزالة لهذه الخصلة الذميمة.
فصل
قرأ العامة «تَقْتلُوا» بالتخفيف، وقرأ ابن وثاب والأعمش «تُقتِّلُوا» بالتشديد و «خِشْيَة» بكسر الخاء.
قال المفسِّرون: إنَّ العرب كانوا يقتلون البنات؛ لعجز البنات عن الكسب، وقدرة البنين عليه؛ بسبب إقدامهم على النَّهب والغارة، وأيضاً: كانوا يخافون أن ينفر الأكفاء عنها، وعن الرغبة فيها، فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء، وفي ذلك عارٌ شديدٌ.
واعلم أن قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ} عامٌّ في الذكور والإناث، أي: أنَّ الموجب للشَّفقة والرحمة هو كونه ولداً، وهذا الوصف يشترك فيه الذكور والإناث، وأما ما يخاف من الفقر في البنات، فقد يخاف أيضاً في العاجز من البنين، ثم قال تعالى: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} أي أنَّ الأرزاق بيد الله، فكما يفتحُ أبواب الرِّزق على الرِّجال، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النِّساء.
قوله تعالى: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} .(12/267)
قرأ ابن ذكوان: «خَطَأ» بفتح الخاء والطاء من غير مدٍّ، وابن كثيرٍ بكسرِ الخاءِ والمدِّ، ويلزم منه فتح الطاء، والباقون بكسر الخاء وسكون الطاء.
فأمَّا قراءة ابن ذكوان، فخرَّجها الزجاج على وجهين:
أحدهما: أن يكون اسم مصدر؛ من أخطأ يخطئ خطأً، أي: إخطاءً، إذا لم يصبْ.
والثاني: أن يكون مصدر خطئ يَخطأ خطأ، إذا لم يصب أيضاً، وأنشد: [الكامل]
3412 - والنَّاسُ يَلحَوْنَ الأميرَ إذَا هُمُ ... خَطِئُوا الصَّوابَ ولا يُلامُ المُرشِدُ
والمعنى على هذين الوجهين: أنَّ قتلهم كان غير صوابٍ، واستبعد قوم هذه القراءة قالوا: لأنَّ الخطأ ما لم يتعمَّد، فلا يصحُّ معناه.
وخفي عنهم: أنه يكون بمعنى أخطأ، أو أنه يقال: «خَطِئَ» إذا لم يصب.
وأمَّا قراءة ابن كثير، فهي مصدر: خَاطَأ يُخاطِئُ خطاءً؛ مثل: قاتل يُقاتلُ قتالاً، قال أبو عليٍّ: «هي مصدر خَاطَأ يُخاطِئُ، وإن كنَّا لم نجد» خَاطَأ «ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع» خَاطَأ «فدلَّنا عليه، ومنه قول الشاعر: [المتقارب]
3413 - تَخاطَأتِ النَّبلُ أحْشاءَهُ ... وأخَّرَ يَومِي فَلمْ يَعْجلِ
وقال الآخر: [الطويل]
3414 - تَخاطَأهُ القنَّاصُ حتَّى وجَدتُهُ ... وخُرطُومهُ في مَنْقعِ المَاءِ رَاسِبُ
فكأنَّ هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحقَّ والعدل» .
وقد طعن قومٌ على هذه القراءة حتَّى قال أبو جعفرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «لا أعرفُ لهذه القراءة وجهاً» ولذلك جعلها أبو حاتمٍ غلطاً.
قال شهاب الدين: قد عرفهُ غيرهما، ولله الحمد.
وأما قراءة الباقين فواضحة؛ لأنَّها من قولهم: خَطِئَ يَخطَأ خِطئاً، كأثِمَ يَأثمُ إثماً، إذا تعمَّد الكذب.(12/268)
وقرأ الحسن: «خَطَاء» بفتح الخاء والمدِّ، وهو اسم مصدر «أخْطَأ» كالعطاءِ اسم للإعطاء.
وقرأ أيضاً «خطَا» بالقصر، وأصله «خَطَأ» كقراءةِ ابن ذكوان، إلاَّ أنه سهَّل الهمزة بإبدالها ألفاً، فحذفت كعصا.
وأبو رجاءٍ والزهريُّ كذلك، إلاَّ أنهما كسرا الخاء ك «زِنَى» وكلاهما من خَطِئ في الدين، وأخطأ في الرَّأي، وقد يقام كلٌّ منهما مقام الآخر.
وقرأ ابن عامرٍ في رواية «خَطْئاً» بالفتح والسكون والهمز، مصدر «خَطِئ» بالكسر. قال المفسِّرون: معنى الكلِّ واحدٌ، أي: إثماً كبيراً.(12/269)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
لمَّا أمره بالأشياء الخمسة المتقدِّم ذكرها، وحاصلها يرجع إلى شيئين: التعظيم لأمر الله تعالت، والشَّفقة على خلق الله سبحانه - جلَّ ذكره - لا إله إلاَّ هو، أتبعها بالنَّهي عن أشياء أخر.
أولها: أنه تعالى نهى عن الزّنا.
والعامة على قصره، وهي اللغة الفاشية، وقرئ بالمدِّ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه لغة في المقصور.
والثاني: أنه مصدر زانى يُزانِي؛ كقاتل يقاتل قتالاً؛ لأنه يكون بين اثنين، وعلى المدِّ قول الفرزدق: [الطويل]
3415 - أبَا خَالدٍ من يَزْنِ يُعرَفْ زِنَاؤهُ ... ومَنْ يَشرَبِ الخُرطُومَ يُصبِكْ مُسَكَّرا
وقول الآخر: [الكامل]
3416 - كَانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كَمَا ... كَانَ الزِّناءُ فَريضةَ الرَّجْمِ
وليس ذلك على باب الضرورة، فثبوته قراءة في الجملة.
وقوله تعالى: {وَسَآءَ سَبِيلاً} . قال ابن عطيَّة: «وسبيلاَ: نصبٌ على التمييز، أي: وسَاءَ سَبِيلاً سَبِيلهُ» . وردَّ أبو حيَّان هذا: بأنَّ قوله نصبٌ على التَّمييز يقتضي أن يكون(12/269)
الفاعل ضميراً مفسَّراً بما بعده من التمييز؛ فلا يصح تقديره: سَاءَ سبيلهُ سَبِيلاً؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم الجنسِ.
فصل
قال القفال: إذا قيل للإنسان: لا تقرب هذا، فهو آكد من أن تقول: لا تفعله، ثم علَّل هذا النَّهي بكنه {فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} .
واعلم أنَّ الزِّنا اشتمل على أنواع من المفاسد.
أولها: اختلاط الأنساب واشتباهها، فلا يعرف الإنسان أنَّ الولد الذي أتت به الزانية منه أو من غيره، فلا يقوم بتربيته، وذلك يوجب ضياع الأولاد، وانقطاع النَّسل، وخراب العالم.
وثانيها: أنه إذا لم يوجد سبب شرعيٌّ يوجب اختصاص هذا الرجل بهذه المرأة، لم يبق إلاَّ التوائب والتقاتل، وقد وجد وقوع القتل الذَّريع بسبب زنا المرأة الواحدة.
وثالثها: أنَّ المرأة، إذا زنت وتمرَّنت عليه، يستقذرها كل ذي عقل سليم، وحينئذٍ: لا تحصل الألفة والمحبَّة، ولا يتم السَّكن والازدواج، وينفر طباعُ أكثر الخلق عن مقاربتها.
ورابعها: أنَّه إذا انفتح باب الزِّنا، لا يبقى لرجلٍ اختصاص بامرأةٍ، بل كل رجل يمكنه التوائب على أيِّ امرأة أرادت، وحينئذ: لا يبقى بين نوع الإنسان وسائر البهائم فرقٌ في هذا.
وخامسها: أنه ليس المقصود من المرأة مجرّد قضاء الشهوة، بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهمَّاته من المطعوم والمشروب والملبوس، وحفظ البيت، والقيام بأمُور الأولاد والخدم، وهذه المهماتُ لا تتم إلاَّ إذا كانت المرأة مقصورة الهمَّة على هذا الرجل الواحد، منقطعة الطَّمع عن سائر الرِّجال، وذلك لا يحصل إلاَّ بتحريم الزِّنا، وسدّ هذا الباب.
وسادسها: أنَّ الوطس يوجب الذلَّ الشديد، ويدلُّ على ذلك وجوهٌ:
الأول: أن أعظم أنواع الشَّتم عند النَّاس ذكر ألفاظ الوقاع، ولولا أن الوطء يوجبُ الذلَّ وإلاَّ لما كان الأمر كذلك.
الثاني: أنَّ جميع العقلاء يستنكفُون من ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم، ولولا أن الوطء ذلٌّ، وإلاَّ لما كان كذلك.
الثالث: أن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا خفية في الأوقات التي لا يطَّلع(12/270)
عليهم أحدٌ، ولولا أنه موجبٌ للذلِّ، وإلا لما كان الأمر كذلك، فلما كان الوطء ذلاًّ، كان السَّعي في تقليله موافقاً للعقول، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعيٌ في تقليل ذلك العمل، وما فيه ن الذلِّ يجبر بالمنافع الحاصلة.
وأمَّا الزِّنا، فإنه فتح لباب العمل القبيح، ولا يجبر بشيءٍ من المنافع، فيبقى على أصل المنع.
وإذا ثبت ذلك، فنقول: إنه تعالى وصف الزِّنا بصفاتٍ ثلاثة: كونه {فَاحِشَةً وَمَقْتاً} [النساء: 22] في آية أخرى {وَسَآءَ سَبِيلاً} أما كونه فاحشة؛ فلاشتماله على الأمور المذكورة، وأمَّا المقت فلأنَّ الزانية تصير ممقوتة مكروهة؛ لما ذكرنا.
وأما كونه ساء سبيلاً: فهو ما ذكرنا من أنَّه لا يبقى فرقٌ بين الإنسان وبين البهائن في عدم اختصاص الذكران بالإناث، وبقاء الذلِّ والعيب والعارِ على المرأة من غير أن يجبر بشيءٍ من المنافع.(12/271)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
فقوله جلَّ ذكره: {إِلاَّ بالحق} أي: إلا بسبب الحقِّ، فيتعلق ب «لا تَقْتلُوا» ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «لا تَقْتلُوا» أو من مفعوله، أي: لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحقِّ أو إلاَّ ملتبسة بالحقِّ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إلاَّ قتلاً ملتبساً بالحقِّ.
فصل
والحقُّ المبيح للقتل هو قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاثٍ: رجُلٌ كفر باللهِ بعد إيمانه، أو زنى بعد أحصانهِ، أو قَتلَ نفساً بِغيْرِ نَفْسٍ» .
فإن قيل: إنَّ أكبر الكبائر بعد الكفر بالله سبحانه وتعالى هو القتل، فما السبب في أنه تعالى بدأ بالنَّهي عن الزنا، ثم نهى بعده عن القتل.
فالجواب: أنَّا بيَّنا أنَّ فتح باب الزِّنا يمنعُ دخول الإنسان في الوجود، والقتل يدلُّ على إعدامه، ودخوله ف يالوجود مقدَّم على إعدامه بعد وجوده؛ فلهذا ذكر الزِّنا أولاً، ثم ذكر بعده القتل.(12/271)
واعلم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم، والحلُّ إنما ثبت بسببٍ عارضٍ؛ فذلك نهى عن القتل بناء على حكم الأصل، ثم استثنى منه الحالة التي يباح فيها القتل، وهو عند حصول الأسباب العرضيَّة، فقال: {إِلاَّ بالحق} ويدل على أنَّ الأصل في القتل التحريم وجوهٌ:
أحدها: أن القتل ضررٌ، والأصل في المضارِّ الحرمة، قال - صلوات الله وسلم عليه -: «لا ضَررَ، ولا ضِرارَ» .
وثانيها: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الآدَمِيُّ بُنيَانُ الربِّ، مَلعُونٌ من هَدمَ بُنْيانَ الربِّ» .
وثالثها: أن الآدميَّ خلق للعبادة، لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] والعبادة لا تتمُّ إلاَّ بعدم القتل.
ورابعها: أنَّ القتل إفساد، فحرم؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ} [الأعراف: 56] .
وخامسها: إذا تعارض دليل تحريم القتل، ودليل إباحته، فالإجماع على أنَّ جانب الحرمة راجح، ولولا أنَّ مقتضى الأصل هو التحريمُ، وإلاَّ لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجحٍ، وهو محالٌ.
وإذا علم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم، فقوله: «ولا تَقْتلُوا» نهيٌ وتحريمٌ. وقوله: «حَرَّمَ الله» إعادة لذكر التحريم على سبيل التاكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضيَّة، فقال: إلاَّ بالحقِّ، وها هنا طريقان:
الطريق الأول: أن قوله «إلاَّ بالحقِّ» مجمل ليس فيه بيان أن ذلك الحقَّ ما هو، ثم قال تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} أي: في حقِّ استيفاء القصاص؛ فوجب أن يكون المراد من الحقِّ هذه الصورة فقط، فتكون الآية نصًّا صريحاً في تحريم القتل، إلا بهذا السبب الواحد.
الطريق الثاني: أن نقول: دلَّت السنة على أنَّ ذلك الحقَّ هو أحد الأمور الثلاثة المتقدَّمة في الخبر.
واعلم أن الخبر من باب الآحادِ، فإن قلنا: إنَّ قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} بيان لذلك الحقِّ، كانت الآية صريحة في أنه لا يحلُّ القتل إلاَّ بهذا السبب الواحد، وحينئذٍ: يصير الخبر مخصِّصاً للآية، ويصير فرعاً لقولنا بصحَّة تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وإن قلنا بأن قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} ليس بياناً لذلك الحقِّ، فحينئذ يصير الخبر مفسِّراً للحقِّ المذكور في الآية، وعلى هذا لا يصير فرعاً على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهو تنبيهٌ حسنٌ.(12/272)
فصل في ظاهر الآية
ظاهر الآية يقتضي أنَّه لا سبيل لحلِّ القتل إلاَّ قتلُ المظلوم، وظاهر الخبر يقتضي ضمَّ شيئين آخرين إليه، وهو الكفر بعد الإيمان، والزِّنا بعد الإحصان، ودلَّت آية أخرى على حصول سبب رابع، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] ودلَّت آية أخرى على سبب خامسٍ، وهو الكفر الأصلي، قال الله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [التوبة: 29] .
وقال تعالى: {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [النساء: 89] .
واختلف الفقهاء في أشياء أخرى:
منها: تاركُ الصلاة، فعند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا يقتل، وعند الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يقتل.
وثانيها: اللاَّئط: فعند الشافعيِّ: يقتل، وعند بعضهم: لا يقتل.
وثالثها: السَّاحر، إذا قال: قتلتُ بسحري فلاناً، فعند أبي حنيفة: لا يقتل، وعند بعضهم: يقتل.
ورابعها: القتل بالمثقَّل عند الشافعيِّ: يوجب القصاص، وعند أبي حنيفة: لا يوجب.
وخامسها: الانتماع من أداء الزَّكاة، اختلفوا فيه في زمان أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
وسادسها: إتيانُ البهيمة أوجب فيه بعضهم القتل، ولم يوجبه الباقون، وحجَّة القائلين بعدم وجوب القتل في هذه الصورة هو أنَّ هذه الآية صريحة في تحريم القتل على الإطلاق إلاَّ لسببٍ واحدٍ، وهو قتل المظلوم، ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم.(12/273)
وأيضاً: فالخبر المذكور يوجب حصر أسباب الحلِّ في تلك الثلاثة، ففيما عداها يجبُ البقاء على أصل الحرمة، ثم قالوا: وبهذا النصِّ قد تأكَّد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدَّم على الإطلاق، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارضٍ، وذلك المعارض: إمَّا أن يكون نصّاً متواتراً أو نصّاً من باب الآحادِ، أو قياساً، والنص المتواترُ مفقودٌ، وإلاَّ لما بقي الخلافُ.
وأما النصُّ من باب الآحادِ، فهو مرجوحٌ بالنسبة غلى هذه النصوص الكثيرة؛ لأنَّ الظنَّ المستفاد من النصوصِ الكثيرة أعظم من الظنِّ المستفاد من خيرٍ واحدٍ.
وأما القياسُ: فلا يعارض النصَّ، فثبت بمقتضى هذا الأصل القويِّ: أنَّ الأصل في الدماءِ الحرمةُ إلاَّ في الصور المعدودة.
قوله سبحانه وتعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} فيه بحثان:
البحث الأول: هذه الآية تدلُّ على أنَّه أثبت لوليِّ الدم سلطاناً.
فأمَّا بيان هذه السلطنة فيماذا، فليس في قوله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} فلا ينبغي أن يسرف ذلك القاتل الظالمُ في ذلك القتل؛ لأنَّ ذلك المقتول منصورٌ؛ لثبوت السَّلطنة لوليه.
والطريق الثاني: أن تلك السلطنة مجملة، ثم فسِّرت بالآية والخبر.
أما الآية: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] .
وقد بينَّا على أنَّها تدل على أن الواجب تخيير الوليِّ بين القصاص والدية.
وأمَّا الخبر: فقوله - صلوات الله وسلامه عليه - يوم الفتح «مَن قُتِلَ لَهُ قَتيلٌ، فهو بِخَيْرِ النَّظرينِ: إمَّا أن يُقتلَ، وإمَّا أن يُفْدَى» .
فعلى هذا: فمعنى قوله: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص، وسلطنة استيفاء الدِّية، إن شاء، قال بعده {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} أي أنَّ الأولى ألاَّ يقتصّ، ويكتفي بأخذ الدية أو يعفو، كقوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] .(12/274)
والبحث الثاني: ذكر كونه مظلوماً بصيغة التنكير، والتنكير يدلُّ على الكمالِ، فما لم يكن المقتول كاملاً في وصف المظلوميَّة لم يدخل تحت هذا النصِّ، فالمسلمُ إذا قتل الذميَّ، لم يدخل تحت هذه الآية؛ لأنَّ الذميَّ مشركٌ، والمشرك يحلُّ دمه.
ويدلُّ على أن الذمِّي مشركٌ قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 116] .
حكم بأنَّ ما سوى الشِّرك يغفر في حقِّ البعض، فلو كان كفر اليهوديِّ والنصرانيِّ مغايراص للشِّرك، وجب أن يغفر في حقِّ بعض الناس لهذه الآية، فلما لم يغفر في حقِّ أحد، دلَّ على أنّ كفرهم شركٌ، ولأنه تعالى قال: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] فهذا التثليثُ الذي قال به هؤلاء: إمَّا أن يكون تثليثاً في الصفات، وهو باطلٌ؛ لأنَّ ذلك هو الحق، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، فلا يمكنُ جعله سبباص للكفر، وإمَّا أن يكون تثليثاً في الذَّوات، وذلك هو الشرك، فثبت أن الذميَّ مشركٌ، والمشرك يجب قتله؛ لقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ المشركين} [التوبة: 36] فاقتضى هذا الدليل إباحة دمِ الذميِّ، فإن لم تثبت الإباحة، فلا أقلَّ من حصول شبهة الإباحة.
وإذا ثبت هذا، ثبت أنه ليس كاملاً في المظلوميَّة، فلم يندرج تحت قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} .
وأما الحرُّ، إذا قتل عبداً، فيدخل تحت هذا، إلاَّ أنَّا بيَّنا أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد} [البقرة: 178] يدلُّ على المنع من قتل الحرِّ بالعبد، وتلك الآية أخص من قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} والخاصُّ مقدَّم على العام؛ فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسُّك بها في مسألة أنَّ موج بالعمد هو القصاص، ولا في وجوب قتل المسلم بالذميِّ، ولا في وجوب قتل الحرِّ بالعبد.
فصل في المراد بالإسراف
في معنى الإسراف وجوهٌ:
الأول: أن يقتل القاتل وغير القاتل، وذلك أنَّ أولياء المقتول كانوا إذا قتل واحدٌ من قبيلة شريفةٍ، قتلوا خلقاً من القبيلة الدنيئة، فنهى الله عنه وحكم بقتل القاتل وحده.
الثاني: أنَّ الإسراف هو ألا يرضى بقتل القاتل؛ فإنَّ أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشرف القبائل، ثمَّ يقتلون منه قوماً معيَّنين، ويتركون القاتل.
والثالث: الإسرافُ هو ألاَّ يكتفي بقتل القاتل، بل يقتله ثم يمثِّل به، ويقطع أعضاءه.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يبعد حمله على الكلِّ، لأنَّ جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافاً.(12/275)
فصل
قرأ حمزة والكسائي: «تُسْرِفْ» بالخطاب، وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: الخطاب للوليِّ، أي: لا تقتل الجماعة بالواحدِ، أو السلطان، رجع إلى مخاطبته بعد أن أتى به عامًّا.
والثاني: أن يكون الخطابُ للمبتدئ القتل، أي: لا تسرف أيُّها الإنسان؛ لأنَّ إقدامه على ذلك القتلِ ظلمٌ محضٌ، وهو إسرافٌ.
والباقون بالغيبة، وهي تحتمل ما تقدم في قراءةِ الخطاب.
وقرأ أبو مسلم برفع الفعل على أنَّه خبر في معنى النهي؛ كقوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ} [البقرة: 197] . وقيل: «في» بمعنى الباء، أي: بسبب القتلِ.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} .
قال مجاهدٌ: الهاءُ راجعةٌ إلى المقتول في قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً} أي: أنَّ المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القودِ على قاتله، وفي الآخرة بتكفير خطاياه، وإيجاب النَّار لقاتله.
وقال قتادة: الهاء راجعةٌ إلى وليِّ المقتول، أو إلى السلطان، أي أنَّه منصورٌ على القاتل باستيفاء القصاص، أو الدِّية، فلكيتفِ بهذا القدر، ولا يطمع في الزيادة.
وقيل: الهاءُ راجعة إلى القاتل الظالم، أي أنَّ القاتل يكتفى منه باستيفاء القصاص، ولا يطلب منه زيادة؛ لأنَّه منصورٌ من الله تعالى في تحريم طلب الزيادة منه، أو أنَّه إذا عوقب في الدنيا، نُصِرَ في الآخرةِ.
وقيل: الهاء راجعةٌ إلى الذَّم، أو قيل: إلى الحقِّ، روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قلت لعليِّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وأيْمُ الله ليَظْهرنَّ عَليْكُم ابنُ أبي سفيان؛ لأنّ الله تعالى يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} فقال الحسنُ: والله، ما نُصِرَ معاوية على عليٍّ إلاَّ بقولِ الله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} .(12/276)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} الآية.
اعلم أنه تعالى نهى عن الزِّنا، وقد ذكرنا أنه يوجب اختلاط الأنساب، وذلك يوجبُ منع تربية الأولاد، ويوجب انقطاع النَّسل، وذلك مانع من دخول الناس في الوجود، فالنَّهيُ عن الزِّنا وعن القتل يرجع حاصله إلى النَّهي عن إتلاف النفوس، فلمَّا ذكره تعالى أتبعه بالنَّهي عن إتلاف الأموال؛ لأنّ أعزَّ الأشياء بعد النفوس الأموال، وأحق الناس بالنَّهي عن إتلافِ أموالهم هو اليتيمُ؛ لأنَّه لصغره، وضعفه، وكمالِ عجزه يعظم ضرره بغتلاف ماله؛ فلهذا خصَّهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم، فقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} نظيرهُ قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
المراد بالأشدّ ها هنا بلوغهُ إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالحِ ماله، فحينئذ تزولُ ولاية غيره عنه، فإن بلغ غير كامل العقل، لم تزل الولاية عنه.
قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} الآية.
اعلم أنَّه تعالى أمر بخمسة أشياء أوَّلاً، ثم نهى عن ثلاثةِ أشياء، وهي الزِّنا، والقتلُ، وأكل مالِ اليتيم، ثمَّ أتبعه بهذه الأوامِرِ الثلاثة، فالأول قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} .
واعلم أنَّ كلَّ عقدٍ يعقد لتوثيق أمرٍ وتوكيده، فهو عهدٌ؛ كعقد البيع والشَّركة، وعقد اليمين والنَّذر، وعقد الصلح، وعقد النِّكاح، فمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ عهدٍ وعقدٍ يجري بين إنسانين، فإنَّه يجبُ عليهما الوفاءُ بذلك العقد والعهد، إلاَّ إذا دلَّ دليل منفصلٌ على أنه لا يجب الوفاء به، فمقتضاه الحكم بصحَّة كل بيع وقع التراضي عليه، وتأكَّد هذا النصُّ بسائر الآياتِ الدالة على الوفاء بالعهود والعقود؛ كقوله عزَّ وجلَّ: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} [البقرة: 177] {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8](12/277)
{وَأَحَلَّ الله البيع} [البقرة: 275] {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} [النساء: 29] {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] . {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] .
وقوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ بطيبِ نَفسٍ منهُ» .
وقوله: «إذَا اختلف الجِنْسَانِ، فَبِيعُوا كيف شِئتُمْ يداً بيدٍ» .
وقوله: «مَن اشْتَرى مَا لَمْ يَرهُ، فلهُ الخيارُ إذا رَآهُ» .
فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أنَّ الأصل في البياعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام.
فإذا وجدنا نصًّا أخصَّ من هذه النصوصِ يدلُّ على البطلان والفساد، قضينا به؛ تقديماً للخاصِّ على العام، وإلا قضينا بالصحة على الكلّ، وأما تخصيص النصِّ بالقياس، فباطلٌ، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملاتِ جميعها مضبوطة معلومة بهذه الىية الواحدة، ويكون المكلَّف مطمئن القلب والنَّفس في العمل؛ لأنَّ هذه النصوص دلَّت على الصحَّة، وليس بعد بيان الله تعالى بيانٌ.
قوله تعالى: {إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} عن الوفاء بعهده؛ كقوله عزَّ وجلَّ: {واسأل القرية} [يوسف: 82] .
والثاني: أنَّ الضمير يعود على العهد، ونسب السؤال إليه مجازاً؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9] .
أي: يقال للعهد عن صاحب العهد: لم نقضت، وهلاَّ وفَّى بك؛ تبكيتاً للنَّاكث كقوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} [المائدة: 116] ، فالمخاطبة لعيسى - صلوات الله وسلامه عليه - والإنكار على غيره.
وقال السديُّ: {كَانَ مَسْؤُولاً} ، أي مطلوباً يطلب من المعاهد ألا يضيِّعه ويفي به.(12/278)
وقيل: المراد بوفاء العهد: الإتيان بما أمر الله - تعالى - به، والانتهاءُ عمَّا نهى الله عنه.
قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ} الآية، لما أمر تعالى بإتمام الكيل، ذكرالوعيد الشديد في نقصانه كما في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1 - 3] .
ثم قال تعالى: {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} .
وهذا هو النوع الثالث من الأوامر المذكورة ها هنا، فالآية المتقدمة في إتمام الكيل، وهذه في إتمام الوزن، ونظيره قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 9] {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} [هود: 85] .
قرأ الأخوان وحفص بكسر القاف ها هنا وفي سورة الشعراء، والباقون بضمها فيهما، وهما لغتان مشهورتان، فقيل: القسطاس في معنى الميزان، إلاَّ أنَّه في العرف أكبر منه، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنَّه القبَّان، وقيل: إنه بلسانِ الرُّوم أو السرياني، والأصح أنه لغة العرب، وقيل أيضاً القرسطون. وقيل: هو كل ميزان، صغر أم كبر، أي: بميزان العدل.
قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو عربيٌّ مأخوذٌ من القسطِ، وهو العدل، أي: زنوا بالعدل المستقيم، واللفظة للمبالغة من القسط، وردَّه أبو حيَّان باختلاف المادَّتين، ثم قال: «إلاَّ أن يدَّعي زيادةَ السِّين آخراً كقدموس، وليس من مواضع زيادتها» ويقال بالسِّين والصَّاد.
فصل
اعلم أنَّ التفاوت الحاصل بنقصان الكيل والوزن قليل، والوعيد عليه شديد عظيم، فيجب على العاقل الاحتراز منه، وإنَّما عظم الوعيد فيه؛ لأنَّ جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، فبالغ الشَّرع في المنع من التطفيف والنقصان؛ لأجل إبقاء الأموال؛ ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقةِ ذلك المقدار الحقير، ثم قال: «ذلك خير» ، أي الإيفاء بالتَّمام والكمال خير من التطفيف بالقليل؛ لأنَّ الإنسان يتخلَّص بالإيفاء عن ذكر القبيح في الدنيا، والعقاب الشديد في الآخرة.
{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} منصوب على التفسير، والتأويل ما يئولُ غليه الأمر؛ كقوله تعالى: {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} [مريم: 76] ، {وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] {وَخَيْرٌ عُقْباً} [الكهف: 44] ، وإنما حكم الله تعالى بأنَّ عاقبة هذا الأمر أحسنُ العواقب؛ لأنه إذا اشتهر في الدنيا بالاحتراز عن التطفيف، أحبَّه الناس، ومالت القلوبُ إليه، واستغنى في الزَّمنِ القليل.(12/279)
وأمَّا في الآخرة: فيفوزُ بالجنَّة والثوابِ العظيمِ، والخلاصِ من العقاب الأليم.(12/280)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
لمَّا شرح الأوامر الثلاثة، عاد بعده إلى ذكرِ النَّواهي، فنهى عن ثلاثةِ أشياء، أولها: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} العامَّة على هذه القراءة، أي: لا تتَّبعْ، من قفاه يقفوه إذا تتبَّع أثره، قال النابغة: [الطويل]
3417 - ومِثلُ الدُّمى شمُّ العرانينِ ساكنٌ ... بِهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
وقال الكميت: [الوافر]
3418 - فَلا أرْمِي البَرِيءَ بِغيْرِ ذَنبٍ ... ولا أقًفُو الحَواصِنَ إنْ قُفينَا
وقرأ زيد بن عليٍّ: «ولا تَقْفُو» بإثبات الواو، وقد تقدَّم في قراءة قنبل في قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} [يوسف: 90] أن إثبات حرف العلَّة جزماً لغة قومٍ، وضرورة عند غيرهم، كقوله:
3419 - ... ... ... ... ... ... . ... مِنْ هَجْوِ زبَّان لمْ تَهْجُو ولمْ تَدعِ
وقرأ معاذ القارئ «ولا تَقُفْ» بزنةِ تقلْ، من قاف يقُوفُ، أي: تتبَّع أيضاً، وفيه قولان:
أحدهما: أنه مقلوبٌ؛ من قَفَا يَقْفُو.
والثاني: وهو الأظهر -: أنه لغة مستقلة جيدة؛ كجبذ وجذبَ؛ لكثرة الاستعمالين؛ ومثله: قعا الفحل الناقة وقاعها.
والباء في «به» متعلقةٌ بما تعلَّق به «لَكَ» ولا تتعلق ب «عِلمٌ» لأنه مصدر، إلا عند من يتوسَّع في الجارِّ.
قوله تعالى: {والفؤاد} قرأ الجرَّاحُ العقيلي بفتح الفاء واوٍ خالصةٍ، وتوجيهها: أنه أبدل الهمزة واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدل، لأنَّها لغة في الفؤاد، يقال: فؤاد وفآدٌ، وأنكر أبو حاتمٍ هذه القراءة، وهو معذور.(12/280)
فصل
يقال: قَفَوْتُ أثر فلانٍ أقْفُو قَفْواً، إذا تتبَّعتَ أثره، وسُمِّيت قافية الشِّعر قافية؛ لأنَّ البيت يقفو البيت، وسمِّيت القبيلة المشهورة بالقافة؛ لأنَّهم يتَّبعون آثار أقدام النَّاسِ، ويستدلُّون بها على أحوال الإنسان.
وقال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا} [الحديد: 27] .
وسمِّي القفا قفاً؛ لأنه مؤخر بدنِ الإنسان ووراءه، كأنه شيء يتبعه ويقفوه.
فقوله: «ولا تَقْفُ» أي: لا تتَّبعْ ما لا علم لك به، من قول أو فعلٍ، فهو نهيٌ عن الحكم مبا لا يكون معلوماً، وهذه قضية كليةٌ يندرجُ تحتها أنواعٌ كثيرةٌ، وكل واحدٍ من المفسِّرين حمله على واحدٍ من تلك الأنواع، فقيل: المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم؛ لأنَّه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتِّباع الهوى، فقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم: 23] .
وقال في إنكارهم البعث {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66] .
وحكى عنهم أنَّهم قالوا: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] .
وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله} [القصص: 50] .
وقال عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} [النحل: 116] .
وقال: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [الأنعام: 148] .
وقال محمد ابن الحنفيَّة: المراد منه شهادة الزُّور.
وقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا تشهد إلاَّ بما رأته عيناك، وسمعته أذناك، ووعاهُ قلبك.
وقيل: المراد النَّهيُ عن القذف، وقيل: المراد النهي عن الكذبِ.
قال قتادة: لا تقل: سمعت، ولم تسمعْ، ورأيتُ، ولم تَرَ، وعلمتُ، ولم تعلمْ.(12/281)
وقيل: القَفْوُ: هو البهت، وأصله من القَفَا؛ كأنه يقال: خلفه، وهو في معنى الغيبة. واللفظ عامٌّ يتناولُ الكلَّ، فلا معنى للتقييد.
فصل في الرد على نفاة القياس
احتجَّ نفاةُ القياسِ بهذه الآية، قالوا: القياسُ لا يفيدُ إلاَّ الظنَّ، والظَّن مغاير للعلم، فالحكم في دين الله تعالى بالقياس حكمٌ بغير العلم؛ فوجب ألا يجوز لقوله تعالى {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .
وأجيب عنه بوجوه:
الأول: أن الحكم في الدِّين بمجرَّد الظنِّ جائزٌ بإجماع الأمَّة في صورٍ كثيرةٍ:
منها: العمل بالفتوى عملٌ بالظنّ.
ومنها: العمل بالشهادة عملٌ بالظَّنِّ.
ومنها: الاجتهاد في القبلة عمل بالظنِّ.
ومنها: قيم المتلفات، وأروش الجنايات عملٌ بالظنِّ.
ومنها: الفصدُ، والحجامةُ، وسائر المعالجات؛ بناءً على الظنِّ.
ومنها: كون هذه الذَّبيحةِ ذبيحة مسلمٍ مظنون.
ومنها: الحكمُ على الشَّخص المعيَّن بكونه مؤمناً مظنونٌ، ثم يبنى على هذا الظنِّ أحكام كثيرة، كالتوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرهما.
ومنها: الأعمال المعتبرةُ في الدنيا من الأسفار، وطلب الأرباح، والمعاملات إلى الآجالِ المخصوصة، والاعتماد على صداقةِ الأصدقاء، وعداوة الأعداء كلِّها مظنونةٌ، وبناء الأمر على هذه الظنون جائزٌ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «نَحْنُ نَحْكمُ بالظَّاهر والله يتولَّى السَّرائِر»(12/282)
وذلك تصريح بأنَّ الظنَّ معتبر في هذه الأنواع، فبطل القول بأنه لا يجوز العمل بالظنِّ.
الثاني: أنَّ الظنَّ قد يسمَّى بالعلم؛ قال تعالى: {إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} [الممتحنة: 10] .
ومن المعلوم أنَّه إنما يمكن العلم بإيمانهنَّ؛ بناء على إقرارهن، وهذا لا يفيد إلاَّ الظنَّ، وقد سمَّى الله تعالى الظنَّ ها هنا علماً.
الثالث: أنَّ الدليل القاطع، لما دلَّ على وجوب العمل بالقياس، كان ذلك الدليل دليلاً على أنَّه متى حصل ظنُّ أنَّ حكم الله في هذه الصُّورة يساوي حكمه في محلِّ النصِّ، فأنتم مكلَّفُون بالعمل على وفق ذلك الظنِّ، فها هنا الظن وقع في طريق الحكم، فأمَّا الحكم، فهو معلومٌ متيقَّن.
أجاب نفاةُ القياس عن الأول؛ فقالوا:
قوله عزَّ وعلا: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} دخله التخصيصُ في الصُّور العشرة المذكورة، فيبقى العموم حجة فيما وراءها، ثم نقول: الفرق بين هذه الصور وبين محلِّ النِّزاع أنَّ هذه الصور العشر مشتركة في أنَّ تلك الأحكام مختصَّة بأشخاصٍ معينين في أوقات معيَّنة؛ فإنَّ الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعيَّن إلى الفتى المعيَّن واقعة متعلقة بذلك الشخص المعيَّن، وكذا القول في الشَّهادة وفي طلب القبلة، وفي سائر الصور؛ والتنصيص على وقائع الأشخاص المعنيين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له، فلهذه الضرورة؛ اكتفينا بالظنِّ، أما الأحكام المثبتة، فهي أحكامٌ كليةٌ معتبرةٌ في وقائعِ كلية، وهي مضبوطة، والتنصيص عليها مكنٌ، ولذلك فإنَّ الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها، وذكروها في كتبهم.
إذا عرف هذا، فنقول: التنصيصُ على الأحكام في الصُّور العشر التي ذكرتموها غير ممكنٍ، فلا جرم: اكتفى الشَّارع فيها بالظنِّ، أما المسائلُ المثبتة بالطرق القياسيَّة فالتنصيصُ عليها ممكنٌ، فلا يجوز الاكتفاءُ فيها بالظنِّ، فظهر الفرقُ.(12/283)
وقولهم: الظنَّ قد يسمَّى علماً، فهذا باطلٌ؛ فإنه يصحُّ أن يقال: هذا مظنونٌ، وغير معلوم، وهذا معلومٌ، وغير مظنونٍ، فدلَّ على حصول المغايرة، فيدلُّ عليه قوله تعالى: {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [الأنعام: 148] نفى العلم، وأثبت الظنَّ، وذلك يدلُّ على المغايرة.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] فالمؤمن هو المقر، وذلك الإقرار معلوم.
وأمَّا الجوابُ عن الثالث، فنقول: الكلام إنَّما يتمُّ لو ثبت أن القياس حجَّة بدليل قاطع، وذلك باطل؛ لأنَّ القياس وهو الذي يفيد الظنَّ لا يجب عقلاً أن يكون حجة؛ لأنه لا نزاع أنَّه يصحُّ من الشَّرع أن يقول: نهيتكم عن الرجوع إلى القياسِ، ولو كان كونه حجَّة أمراً عقلياً، لامتنع ذلك.
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ الدليل النقليَّ في كون القياس حجَّة، إنما يكون قطعيًّا؛ إذ لو كان منقولاً نقلاً متواتراً، كانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعيَّة غير محتملة للتخصيص، ولو حصل مثل هذا الدليل، لوصل إلى الكلِّ، ولعرفه الكلُّ، ولارتفع الخلاف، وحيث لم يكن كذلك، علمنا أنَّه لم يحصل في هذه المسألة دليلٌ سمعيٌّ قاطعٌ، فثبت أنَّه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطعٌ ألبتة، فبطل قولكم: كون الحكم المثبتِ بالقياس حجَّة معلومٌ لا مظنونٌ.
قال ابن الخطيب: وأحسن ما يمكن أن يجاب عنه أن يقال: التمسُّك بهذه الآية الَّتي عولتم عليها تمسُّك بعامٍّ مخصوص، والتمسُّك بالعامِّ المخصوصِ لا يفيد إلاَّ الظنَّ، فلو دلَّت هذه الآية على أنَّ التمسُّك بالظنِّ غير جائز، لدلَّت على أن التمسُّك بهذه الآية غير جائز، فالقول بكون هذه الآية حجَّة يفضي ثبوته إلى نفيه، فكان تناقضاً، فسقط الاستدلال به.
وللمجيب أن يجيب عنه، فيقول: نعلم بالتواتر الظَّاهر من دين محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أنَّ التمسُّك بآياتِ القرآنِ حجَّة في الشريعة، ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العامِّ المخصوص حجَّة غير معلومٍ بالتواتر.
قوله تعالى: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
قوله تعالى: «أولئك» إشارة إلى ما تقدَّم من السمع، والبصر، والفؤاد؛ كقوله: [الكامل]
3420 - ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بعْدَ أولئِكَ الأيَّامِ(12/284)
ف «أولئكَ» يشارُ به إلى العقلاء وغيرهم من الجموع، واعتذر ابن عطيَّة عن الإشارة به لغير العقلاءِ، فقال: وعبَّر عن السَّمعِ، والبصرِ، والفؤاد ب «أولئك» لأنها حواسٌّ لها إدراكٌ، وجعلها في هذه الآية مسئولة؛ فهي حالة من يعقل؛ ولذلك عبَّر عنها بكناية من يعقل، وقد قال سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله تعالى: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] إنما قال «رَأيْتهُم» في نجوم؛ لأن لمَّا وصفها بالسجود - وهو فعلُ من يعقِلُ - عبَّر عنها بكناية من يعقل، وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّرُ عمَّن يعقلُ وعمَّن لا يعقل ب «أولئك» وأنشد هو والطبريُّ: [الكامل]
3421 - ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بعْدَ أولئكَ الأيَّامِ
وأمَّا حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأمَّا البيت فالرواية فيه «الأقوامِ» ولا حاجة إلى هذا الاعتذار لما عرفت، وأما قوله: «إنَّ الرواية: الأقوَامِ» فغير معرنوفةٍ والمعروفُ إنما هو «الأيَّامِ» .
قوله: «كُلُّ اولئِكَ» مبتدأ، والجملة من «كَانَ» خبره، وفي اسم «كان» وجهان:
أحدهما: أنه ضمير عائد على «كلُّ» باعتبار لفظها، وكذا الضمير في «عَنْهُ» و «عَنْهُ» متعلق ب «مَسْئُولاً» و «مَسْئولاً» خبرها.
والثاني: أنَّ اسمها ضمير يعود على القافي، وفي «عَنْه» يعود على «كُلُّ» وهو من الالتفات؛ إذ لو جرى على ما تقدَّم، لقيل: كُنْتَ عنه مسئولاً، وقال الزمخشري: و «عَنْهُ» في موضع الرفعِ بالفاعلية، أي: كل واحدٍ كان مَسْئولاً عنه، فَمسئُول مسند إلى الجار والمجرور؛ كالمغضوب في قوله {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] انتهى. وفي تسميته مفعول ما لم يسمَّ فاعله فاعلاً خلاف الاصطلاح.
وقد ردَّ أبو حيَّان عليه قوله: بأنَّ القائم مقام الفاعل حكمه حكمه، فلا يتقدَّم على رافعه كأصله، وليس لقائلٍ أن يقول: يجوز على رأي الكوفيِّين؛ فإنهم يجيزون تقديم الفاعل؛ لأن النحَّاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل، إذا كان جارًّا أو مجروراً، فليس هو نظير وله {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} فحينئذٍ يكون القائم مقام الفاعل الضمير المستكنَّ العائد على «كُلُّ» أو على القافي.
فصل في ظاهر الآية
ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ الجوارح مسئولةً، وفيه وجوهٌ:(12/285)
الأول: معناه أنَّ صاحب السَّمع، والبصر، والفؤاد هو المسئُول؛ لأنَّ السؤال لا يصحُّ إلاَّ من العاقل، وهذه الجوارح ليست كذلك، بل العاقل الفاهم هو الإنسان: لم سمعت ما لا يحلُّ سماعه، ولم نظرت إلى ما لا يحلُّ لك نظره، ولم عزمت على م الا يحلُّ لك العزم عليه.
والثاني: أن أولئك الأقوام كلهم مسئولون عن السمع، والبصر، والفؤاد، فيقال لهم: استعملتم السمع فيماذا، أفي الطاعة، أو في المعصية؟ وكذلك القولُ في بقيَّة الأعضاء، وذلك؛ لأنَّ الحواسَّ آلاتُ النَّفس، والنَّفسُ كالأمير لها، والمستعمل لها في مصالحها، فإن استعملها في الخيرات، استوجب الثواب، وإذا استعملها في المعاصي، استحقَّ العقاب.
والثالث: أنه تعالى يخلقُ الحياة في الأعضاء، ثمَّ إنها تسألُ؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل، والحياة، والنطق في هذه الأعضاء، ثمَّ إنَّها تسال.
رُوي عن شكل بن حميدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: «أتَيْتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقلت: يا رسُول الله، علِّمْنِي تعويذاً، أتعوَّذ به، فأخذ بيدي، ثم قال:» قُل اللهُمَّ؛ أعُوذُ بِكَ من شرِّ سمعي، وشرِّ بصري، وشرِّ لسَانِي، وشرِّ قلبي، وشرِّ مَنِيِّي «قال فحفظتها.
قال سعيد: والمنيُّ ماؤه.(12/286)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
وهذا هو النهي الثاني.
قوله تعالى: «مَرَحاً» : العامة على فتحِ الراء، وفيه أوجه:
أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال، أي: مرحاً بكسر الراء، ويدل عليه قراءة بعضهم فميا حكاه يعقُوب «مَرِحاً» بالكسرِ.
قال الزجاج: «مرَحاً» مصدر، ومرِحاً: اسم الفاعل، وكلاهما جائز، إلا أن المصدر هنا أحسن وأوكد، تقول: جاء زيد ركضاً وراكضاً، وآكد؛ لأنه يدل على توكيد الفعل.
الثاني: أنه على حذف مضافٍ، أي: ذا مرحٍ.(12/286)
الثالث: أنه مفعولٌ من أجله.
والمَرحُ: شدَّة السرورِ والفرح؛ مَرِحَ يمْرحُ مرحاً، فهو مَرحٌ؛ كفَرِحَ يَفْرحُ فرحاً، فهو فَرِحٌ.
قوله: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} الآية.
قرأ أبو الجرَّاح «لن تَخرُق» بضم الراء، وأنكرها أبو حاتم وقال: لا نعرفها لغة البتَّة.
والمراد من الخرقِ ها هنا نقب الأرض، وذكروا فيه وجوهاً:
الأول: أنَّ الشيء إنما يتمُّ بالارتفاع والانخفاض، فكأنه قال إنَّك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رءوس الجبال، والمعنى: أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً، كمن يريد خرق الأرض، ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء.
والمراد التنبيهُ على كونه ضعيفاً عاجزاً، فلا يليقُ به التكبُّر.
الثاني: أنَّ تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها، فأنت محاطٌ بك من فوقك، ومن تحتك بنوعين من الجماد، وأنت أضعف منهما بكثيرٍ، والضعيف المحصور لا يليق به التكبُّر، فكأنه قيل له: تواضع، ولا تتكبَّر؛ فإنَّك خلقٌ ضعيفٌ من خلق الله، محصورٌ بين حجارةٍ وترابٍ، فلا تفعل فعل القويِّ المقتدر.
الثالث: أنَّ من يمشي مختالاً يمشي مرَّة على عقبيه، ومرَّة على صدور قدميه، فقيل له: إنَّك لن تنقب الأرض، إن مشيت على عقبيك، ولن تبلغ الجبال طولاً، إن مشيت على صدور قدميك.
قال عليٌّ - كرَّم الله وجهه -: كَان رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا مَشَى تَكَفَّأ تَكفُّؤاً؛ كأنَّما ينحطُّ من صَبَبٍ.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «ما رأيْتُ شَيْئاً أحْسنَ من رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كأنَّ الشَّمسَ تَجْري في وجْههِ، وما رأيتُ أحداً أسرعَ مِشْيةً من رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَأنَّما الأرضُ تطوى له، إنَّا لنَجْهدُ أنْفُسنَا وهُو غَيْرُ مُكْترِثٍ» .(12/287)
قوله تعالى: «طُولاً» يجوز أن يكون حالاً من فاعل «تَبلُغ» أو من مفعوله، أو مصدراً من معنى «تبلغ» أو تمييزاً، أو مفعولاً له، وهذان ضعيفان جدًّا؛ لعدمِ المعنى.(12/288)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
قرأ ابن عامر والكوفيُّون بضمِّ الهمزة والهاء، والتذكير، وتركِ التنوين، والباقون بفتح الهمزة، وتاءِ التأنيث منصوبة منونة، فالقراءة الأولى أشير فيها بذلك غلى جميع ما تقدم، ومنه السَّيئ والحسنُ، فأضاف السيِّئ إلى ضمير ما تقدَّم، ويؤيِّدها ما قرأ به عبد الله: «كلُّ ذلك كان سيِّئاتهُ» بالجمع، مضافاً للضمير، وقراءة أبيّ «خَبِيثهُ» والمعنى: كل ما تقدم ذكره ممَّا أمِرتُمْ به ونهيتم عنه كان سيِّئهُ - وهو ما نهيتم عنه خاصة - أمراً مكروهاً، هذا أحسنُ ما يقدِّر في هذا المكانِ.
وأمَّا ما استشكله بعضهم من أنَّه يصير المعنى: كل ما ذكر كان سيئة، ومن جملة كلِّ ما ذكر: المأمورُ به، فيلزمُ أن يكون فيه سيِّئٌ، فهو استشكالٌ واهْ؛ لما تقدم من تقرير معناه.
و «مَكْرُوهاً» خبر «كان» وحمل الكلامُ كله على لفظ «كلُّ» فلذلك ذكَّر الضمير في «سَيِّئهُ» والخبر، وهو: مكروهٌ.
وأمَّا قراءة الباقين: فيحتمل أن تقع الإشارة فيها ب «ذلِكَ» إلى مصدري النَّهيينِ المتقدِّمين قريباً، وهما:
قَفْوُ ما ليس به علمٌ، والمشيُ في الأرض مرحاً.
والثاني: أنه أشير به إلى جميع ما تقدَّم من المناهي.
و «سيِّئةً» خبر «كان» وأنِّثَ؛ حملاً على معنى «كلُّ» ثم قال «مَكْرُوهاً» حملاً على لفظها.
وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً، وهو: أنَّ «السَّيِّئة في حكم الأسماءِ: بمنزلة الذَّنبِ والإثم، زال عنه حكم الصفات، فلا اعتراب بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ» سيئة «ومن قرأ» سيِّئاً «ألا ترى أنَّك تقول: الزِّنى سيِّئةٌ، كما تقول: السَّرقة سيِّئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث» .
وفي نصب «مكروهاً» أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه خبر ثانٍ ل «كان» وتعدادُ خبرها جائز على الصَّحيح.
الثاني: أنه بدلٌ من «سَيِّئةٍ» وضعف هذا؛ بأنَّ البدل بالمشتقِّ قليلٌ.
الثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في «عند ربِّك» لوقوعه صفة ل «سيئة» .(12/288)
الرابع: أنه نعتٌ ل «سَيِّئةً» ، وإنما ذكر لأن «سيِّئةً» تأنيث موصوفه مجازي؛ وقد ردَّ هذا؛ بأن ذلك إنًَّما يجوز حيث أسند إلى المؤنث المجازيِّ، أمَّا إذا أسند إلى ضميره، فلا؛ نحو: «الشَّمسُ طَالعةٌ» لا يجوز: «طَالعٌ» إلا في ضرورةٍ كقوله:
3422 - ... ... ... ... ... ..... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقالهَا
وهذا عند غير ابن كيسان، وأمَّا ابن كيسان فيجيز في الكلام: «الشَّمسُ طَلع، وطَالعٌ» .
وقيل: إنما ذكَّر سيِّئةً وهي الذنب، وهو مذكر [لأن التقدير: كل ذلك كان مكروهاً وسيئة عند ربك] وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، أي كل ذلك كان مكروهاً سيئة.
فصل
وأمَّا قراءة عبد الله فهي ممَّا أخبر فيها عن الجمع إخبار الواحد؛ لسدِّ الواحد مسدَّه؛ كقوله:
3423 - فَإمَّا تَريْنِي ولِي لمَّةٌ ... فإنَّ الحَوادِثَ أوْدَى بِهَا
لو قال: فإنَّ الحدثان، لصحَّ من حيثُ المعنى، فعدل عنه؛ ليصحَّ الوزنُ.
وقرأ عبد الله أيضاً «َان سَيِّئاتٍ» بالجمع من غير إضافةٍ، وهو خبر «كان» وهي تؤيِّد قراءة الحرميَّين، وأبي عمرو.
فصل
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دلَّت هذه الآية على أنَّ هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى، والمكروهُ لا يكون مراداً، فهذه الأعمال غير مرادِ الله، فبطل قول من يقول: كل ما دخل في الوجود، فهو مراد الله تعالى، وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى، وجب ألاَّ تكون مخلوقة - لله تعالى -؛ لأنَّها لو كانت مخلوقة لله تعالى، لكانت مرادة، لا يقال: المراد من كونها مكروهة: أنَّ الله تعالى نهى عنها.
وأيضاً: معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها، وعلى هذا التقدير: فهذا لا يمنع أنَّ الله تعالى أراد وجودها، لأنَّ الجواب أنه عدولٌ عن الظاهر.
وأيضاً: فكونها سيِّئة عند ربِّك يدلُّ على كونها منهيًّا عنها، فلو حملت المكروه على النَّهي، لزم التَّكرار.
والجواب عن الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال، ولا يليقُ بهذا الموضع أن يقال: إنه تعالى يكرهُ وقوعها.(12/289)
وأجيب بأنَّ المراد من المكروه المنهيُّ عنه، ولا باس بالتَّكرير، لأجل التأكيد.
فصل
قال القاضي دلَّت هذه الآية على أنه تعالى كما أنَّه موصوف بكونه مريداً، فكذلك أيضاً موصوفٌ بكونه كارهاً.
وأجيب بأنَّ الكراهية في حقِّه تعالى محمولة إمَّا على النهي، [وإمَّا هي] إرادة العدم.(12/290)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة} : [مبتدأ أو خبر] ، اعلم أن قوله «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدَّم من التكاليف، وهي خمسةٌ وعشرون نوعاً، أولها قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} [الإسراء: 22] .
وقوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] .
وهذا مشتملٌ على تكليفين:
الأمر بعبادةِ الله تعالى، والنهي عن عبادة غير الله، فكان المجموع [ثلاثة] .
والرابع: قوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] وقوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: 23] وقوله {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَقُل رَّبِّ ارحمهما} [الإسراء: 23، 24] {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26] وقوله: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} [الإسراء: 28] {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا} [الإسراء: 29] {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ} [الإسراء: 31] {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس} [الإسراء: 33] {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33] {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] وقوله: {وَأَوْفُوا الكيل} [الإسراء: 35] {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} [الإسراء: 35] وقوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} [الإسراء: 37] {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ} فهذه خمسةٌ وعشرون تكليفاً، بعضها أوامر وبعضها نواهٍ، جمعها الله تعالى في هذه الآيات، وجعل فاتحتها قوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} [الإسراء: 22] ، وخاتمتها قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} وإنَّما سمَّاها حكمة؛ لوجوه:
الأول: أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتَّوحيد، وأنواع الطَّاعات والخبرات والإعراض عن الدنيا، والإقبال على الآخرة، والعقول تدلُّ على صحَّتها، فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان، بل الفطرة الأصليَّة تشهد بأنَّه يكون داعياً إلى دبن الرَّحمن.
الثاني: أنَّ هذه الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع(12/290)
الأديان والملل، ولا تقبل النَّسخ والإبطال، فكانت محكمة وحكمة من هذه الاعتبارات.
الثالث: أنَّ الحكمة عبارةٌ عن معرفة الحقِّ لذاته، والخير لأجلِ العمل به؛ فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأوَّل، وسائر التكاليف عبارة عن تعلُّم الخيرات؛ لأجل العمل بها.
روي عن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ هذه التكاليف المذكورة كانت في ألواح موسى - صلوات الله عليه - أولها «لا تَجْعلْ مع الله إلهاً آخر» .
قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً} [الأعراف: 145] .
فكلُّ ما أمر الله به أو نهى عنه، فهو حكمةٌ.
قوله تعالى: «مِنَ الحكمةِ» يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف، تقديره: من الذي أوحاه حاك كونه من الحكمة، أو حال من نفس الموصول.
الثاني: أنه متعلق ب «أوْحَى» ، و «مِنْ» إمَّا تبعيضيةٌ؛ لأنَّ ذلك بعض الحكمة، وإمَّا للابتداء، وإما للبيان.
وحينئذٍ تتعلق بمحذوفٍ.
الثالث: أنها مع مجرورها بدل من «ممَّا أوْحَى» .
فصل
ذكر في الآية أنَّ المشرك يكون مذموماً مخذولاً.
وذكر ها هنا أنَّ المشرك يلقى في جهنَّم ملوماً مدحوراً، فاللَّوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤهُ في جهنَّم يحصل يوم القيامة، والفرقُ بين الملوم والمدحُور، وبين المذموم والمخذول: أنَّ معنى كونه مذموماً: أن يذكر له أنَّ الفعل الذي أقدم عليه قبيحٌ ومنكرٌ، وإذا ذكر له ذلك، فعند ذلك يقال له: لم فعلت هذا الفعل؟ وما الذي حملك عليه؟ وما استفدت من هذا العمل، إلاَّ إلحاق الضَّرر بنفسك؟ وهذا هو اللَّوم.
وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور، فهو أنَّ المخذول هو الضعيف، يقال: تخاذلت أعضاؤه، أي: ضعفت، والمدحور هو المطرود، والطَّرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة، فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته، وتفويضه إلى نفسه، وكونه مدحوراً عبارةٌ عن إهانته، فيصير أوَّل الأمر مخذولاً وآخره يصير مدحوراً.(12/291)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} : ألفُ «أصْفَى» عو واوٍ؛ لأنه من «صَفَا يَصْفُو» وهو استفهام إنكارٍ وتوبيخٍ.(12/291)
ويقال: أصفاهُ بالشَّيء، إذا آثرهُ به، ويقال للضِّياعِ التي يستخصُّها السلطان لخاصَّته الصَّوافِي.
قال أبو عبيدة - رحنه الله - في قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} : أفخصّكم وقال المفضل: أخلصكم.
قال النحويون: هذه الهمزة همزة تدلُّ على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهبٍ ظاهر الفساد، لا جواب لصاحبه، إلاَّ بما فيه أعظمُ الفضيحةِ.
واعلم أنَّه تعالى، لما نبَّه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً، أتبعه بفسادِ طريقة من أثبت الولد لله تعالى، ثم نبه على كمال جهل هذه الفرقة وهو أنَّ الولد على قسمين، فأشرف القسمين: البنون، وأخسُّها: البنات، ثمَّ إنَّهم أثبتوا البنين لأنفسهم، مع علمهم بنهاية عجزهم، وأثبتوا البنات لله تعالى مع علمهم بأنَّ الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، وذلك يدلُّ على نهاية جهل القائلين بهذا القول؛ ونظيره قوله تعالى: {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} [الطور: 39] وقوله جلَّ ذكرهُ: {وَلَهُ الأنثى} [النجم: 21] .
ومعنى الآية أنه اختاركم، فجعل لكم الصَّفوة، ولنفسه ما ليس بصفوة، يعني اختاركم {بالبنين واتخذ مِنَ الملاائكة إِنَاثاً} ؛ لأنَّهم كانوا يقولون: إنَّ الملائكة بنات الله تعالى.
قوله تعالى: «واتَّخَذَ» يجوز أن تكون المتعدية لاثنين، فقال أبو البقاء: «إنَّ ثانيهما محذوف، أي: أولاداً، والمفعول الأوَّلُ هو إناثاً» وهذا ليس بشيءٍ، بل المفعول الثاني هو «مِنَ المَلائكةِ» قدِّم على الأوَّل، ولولا ذلك لزم أن يبتدأ بالنَّكرةِ من غير مسوغٍ؛ لأنَّ ما صلح أن يكون مبتدأ صلح أن يكون مفعولاً أوَّل في هذا الباب، وما لا، فلا، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ، كقوله: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116] ، و «مِنَ الملائكة» متعلق ب «اتَّخذ» أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النَّكرة بعده.
ثم قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} وهذا خطابٌ لمشركي «مَكَّة» وبيان كون هذا القول عظيماً: أنَّ إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركَّباً من الأجزاء والأبعاض، وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجوب لذاته، وذلك عظيم من القول، وأيضاً: فبتقدير ثبوت الولد، فقد جعلوا أشرف القسمين لأنفسهم، وأخسَّ القسمين لله تعالى، وهذا جهلٌ عظيمٌ.(12/292)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} : العامة على تشديد الراء، وفي مفعول «صرَّفنا» وجهان:(12/292)
أحدهما: أنه مذكورٌ، و «في» مزيدة فيه، أي: ولقد صرفنا هذا القرآن؛ كقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان: 50] ، ومثله: [الطويل]
3424 - ... ... ... ... ... ..... يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلِي
وقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتيا} [الأحقاف: 15] أي: يجرح عراقيبها، وأصلح لي ذريتي، وردَّ هذا بأنَّ «في» لا تزاد، وما ذكر متأوَّل، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى في الأحقاف.
الثاني: أنه محذوفٌ تقديره: ولقد صرَّفنا أمثاله، ومواعظه، وقصصه، وأخباره، وأوامره.
وقال الزمخشريُّ في تقدير ذلك: «ويجوز أن يراد ب» هَذَا القرآنِ «إبطال إضافتهم إلى الله البنات؛ لأنه ممَّا صرفه، وكرَّر ذكره، والمعنى: ولقد صرَّفنا القول في هذا المعنى، وأوقعنا التصريف فيه، وجعلناه مكاناً للتكرير، ويجوز أن يريد ب» هَذا القُرآنِ «التنزيل، ويريد: ولقد صرَّفناهُ، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل، فترك الضمير؛ لأنَّه معلوم» ، وهذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري أحسنُ؛ لأنه مناسب لما دلَّت عليه الآية وسيقت لأجله، فقدَّر المفعول خاصًّا، وهو: إمَّا القولُ، وإمَّا المعنى، وهو الضمير الذي قدَّره في «صَرَّفناه» بخلاف تقدير غيره، فإنه جعله عامًّا.
وقيل: المعنى: لم نُنَزِّلهُ مرةً واحدة، بل نجوماً، والمعنى: أكثرنا صرف جبريل إليك، فالمفعول جبريل - عليه السلام -.
وقرأ الحسن بتخفيفِ الرَّاء، فقيل: هي بمعنى القراءةِ الأولى، وفعَل وفعَّل قد يشتركان، وقال ابن عطيَّة: «أي: صرفنا النَّاس فيه إلى الهدى» .
والصَّرْفُ في اللغة: عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة؛ نحو: تصريف الرياح، وتصريف الأمور، هذا هو الأصل في اللغة، ثم جعل لفظ التَّصريف كناية عن التَّبيين؛ لأنَّ من حاول بيان شيءٍ، فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر، ومن مثالٍ إلى مثالٍ آخر؛ ليكمل الإيضاح، ويقوي البيان، فقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي: بيَّنَّا.
قوله: «لِيَذَّكَّرُوا» متعلق ب «صَرَّفْنَا» وقرأ الأخوان هنا، وفي الفرقان بسكون(12/293)
الذَّال، وضمِّ الكاف مخففة مضارع «ذكر» من الذّكر أو الذُّكر، والباقون بفتح الذال، والكاف مشددة، والأصل: يتذكَّروا، فأدغم التاء في الذَّال لقرب المخرج وهو من الاعتبار والتَّدبُّر.
قال الواحديُّ: والتذكُّر هنا أشبه من الذِّكر؛ لأنَّ المراد منه التدبُّر والتفكُّر، وليس المراد منه الذِّكر الذي يحصل بعد النسيان، ثم قال: وأمَّا قراءة حمزة والكسائي، ففيها وجهان:
الأول: أنَّ الذكر قد جاء بمعنى التَّأمُّل والتدبُّر؛ كقوله سبحانه جلَّ ذكره: {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] . والمعنى: وافهموا ما فيه.
والثاني: أن يكون المعنى: صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن؛ لتذكروه بألسنتكم؛ فإنَّ الذكر بألسنتكم قد يؤدِّي إلى تأثر القلب بمعناه.
فصل
قال الجبائيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ} يدل على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراضٍ حكميةٍ، ويدلُّ على أنَّه تعالى أراد الإيمان من الناس، سواءٌ آمنوا، أو كفروا.
قوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ} ، أي: التصريفُ، و «نُفوراً» مفعول ثانٍ وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى ما أراد الإيمان من الكفَّار؛ لأنَّه تعالى عالمٌ بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً، فلو أراد الإيمان منهم، لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة عنه؛ لأنَّ الحكيم، إذا أراد تحصيل أمرٍ من الأمور، وعلمَ أنَّ الفعل تلفلاميَّ يصير سبباً للعسر والتعذُّر والنفرة؛ فإنَّه عند محاولة تحصيل ذلك المقصود يحترزُ عما يوجب النُّفرة، فلمَّا أخبر تعالى أنَّ هذا التصرُّف يزيدهم نفُوراً، علمنا أنَّه ما أراد الإيمان منهم.(12/294)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
قوله تعالى: {كَمَا يَقُولُونَ} : الكافُ في موضع نصبٍ، وفيها وجهان:
أحدهما: أنها متعلقة بما تعلَّقت به «مع» من الاستقرار، قاله الحوفيُّ.
والثاني: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: كوناً كقولكم؛ قاله أبو البقاء.
وقرأ ابن كثير وحفص «يقولون» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، وكذا(12/294)
قوله تعد هذا {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ} [الإسراء: 43] ، قرأه بالخطاب الأخوان، والباقون بالغيبة فتحصَّل من مجموع الأمر؛ أنَّ ابن كثير وحفصاً يقرآنهما بالغيبة، وأن الأخوين قرءوا بالخطاب فيهما، وأن الباقين قرءوا بالغيبة في الأول، وبالخطاب في الثاني.
فوجه قراءة الغيب فيهما أنه: حمل الأوَّل على قوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [الإسراء: 41] ، وحمل الثاني عليه، ووجه الخطاب فيهما: أنه حمل الأوَّل على معنى: قل لهم يا محمد لو كان معه آلهةٌ كما تقولون، وحمل الثاني عليه.
ووجه الغيب في الأول: أنه حمله على قوله «ومَا يَزِيدهُمْ» والثاني التفت فيه إلى خطابهم.
قوله: «إذَنْ» حرف جوابٍ وجزاءٍ، قال الزمخشريُّ: وإذن دالَّة على أنَّ ما بعدها، وهو «لابتَغَوا» جواب لمقالةِ المشركين، وجزاءٌ ل «لَوْ» .
وأدغم أبو عمرٍو الشين في السين، واستضعفها النحاة؛ لقوَّة الشَّين.
فصل في معنى الآية
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ} لطلبوا - يعني الآلهة - {إلى ذِي العرش سَبِيلاً} بالمغالبة والقهر؛ ليزيلوا ملكه؛ كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض، وهذا يرجع إلى دليل التمانع، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - عند قوله - عزَّ وجلَّ - في سورة الأنبياء - صلوات الله عليهم - {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقيل: المعنى: لطلبوا - يعني الآلهة - {إلى ذِي العرش سَبِيلاً} بالتقرُّب إليه، لأنَّ الكفار كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] .
فقال تعالى: لو كانت هذه الأصنام تقربكم إلى الله زلفى، لطلبت لأنفسها أيضاً القرب غلى الله تعالى، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله، ثم نزَّه نفسه فقال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} .
قوله تعالى: {وتعالى} : عطف على ما تضمَّنه المصدر، تقديره: تنزَّه وتعالى. و «عن» متعلقة به، أو ب «سبحان» على الإعمال لأنَّ «عَنْ» تعلقت به في قوله {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] و «عُلُوًّا» مصدر واقع موقع التعالي؛ لأنَّه كان يجب أن يقال: تعالياً كبيراً، فهو على غير المصدر كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] [في كونه على غير الصدر] . والتَّسبيحُ عبارة عن تنزيه الله تعالى عمَّا لا يليقُ به.
والفائدة في وصف ذلك العلوِّ بالكبر: أن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصَّاحبة، والولد، والشُّركاء، والأضداد، والأنداد، منافاة بلغت في القوَّة والكمال غلى حيث لا تعقل الزيادة عليها؛ لأنَّ المنافاة بين الواجب لذاته، والممكن لذاته، وبين القديم والمحدث، وبين الغنيِّ والمحتاج منافاة لا يعقل الزيادة عليها، فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبر.(12/295)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
قوله تعالى: {تُسَبِّحُ} قرأ أبو عمرو والأخوان، وحفص «تُسَبِّحُ» بالتاء، والباقون بالياء من تحت، وهما واضحتان؛ لأن التأنيث مجازي، ولوجود الفصل أيضاً بين الفعل والتأنيث.
وقال ابن عطيَّة: «ثم أعاد على السَّموات والأرض ضمير من يعقل، لمَّا أسند إليها فعل العاقل، وهو التسبيح» وهذا بناءً على أنَّ «هُنَّ» مختصٌّ بالعاقلات، وليس كما زعم، وهذا نظيرُ اعتذاره عن الإشارة ب أولئك «في قوله» كُلُّ أولئكَ «وقد تقدَّم. وقرأ عبد الله والأعمش» سَبّضحَتْ «ماضياص بتاء التأنيث.
فصل
قال ابن عطيَّة: يقال: فَقِهَ، وفَقَهَ، وفَقُهُ؛ بكسر القاف، وفتحها، وضمها، فالكسر إذا فهم، وبالفتح إذا سبق غيره للفهم، وبالضمِّ إذا صار الفقه له سجيَّة، فيكون على وزن» فَعُلَ «بالضَّم؛ لأنَّه شأنُ أفعال السجايا الماضية نحو: ظَرُفَ فو ظريفٌ، وشرُف فهو شريفٌ، وكرُم فهو كريم، واسم الفاعل من الأوليين فاعل؛ نحو: سَمِعَ، فهو سَامعٌ، وغلب فهو غالبٌ، ومن الثالث: فعيلٌ؛ فلذلك تقول فَقُهَ فهو فَقِيهٌ.
فصل
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: وإن من شيء حيٍّ إلا يُسبح بحمدهِ
وقال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يعني الحيوانات والنَّاميات.
وقال عكرمةُ: الشجرة تسبِّح، والأسطوانة تسبِّح.
وعن المقدام بن معدي كرب، قال:» إنَّ التُّرابَ يُسَبِّح مَا لمْ يبْتَلَّ، فإذا ابتلَّ ترك التَّسبيحَ، وإنَّ الخرزة تُسَبِّحُ، مَا لَمْ تُرفَعْ من موضعها، فإذا رفعتْ تركت التَّسبيح، وإنَّ الورقة تُسبِّح ما دامت على الشَّجرة، فإذا سقطت، تركت التَّسبيح، وإنَّ الماء يسبِّح ما دام جارياً، فإذا أركد، ترك التَّسبيح، وإنَّ الثوب يسبِّح ما دام جديداً، فإذا وسخ، ترك(12/296)
التسبيح، وإن الطير والوحش تسبِّح، إذا صاحتْ، فإذا سكنت، تركت التَّسبيح.
وقال إبراهيم النخعيُّ: وإن من شيءٍ جمادٍ وحيٍّ إلا يسبِّح بحمده، حتَّى صرير الباب، ونقيض السقف.
وقال مجاهدٌ: كل الأشياء تسبِّح لله، حيًّا كان أو ميتاً، أو جماداً، وتسبيحها: سبحان الله وبحمده.
قال أهلُ المعاني: تسبيحُ الحيِّ المكلَّف بالقول، كقول اللسان: سبحان الله، وتسبيح غير المكلَّف كالبهائم، ومن لا يكون حيًّا، كالجمادات ما دلَّت بلطيفِ تركيبها، وعجي هيئتها على خالقها؛ لأنَّ التسبيح باللسان لا يحصُل إلاَّ مع الفهم، والعلم، والإدراك، والنُّطق، وكل ذلك في الجمادات محالٌ.
قالوا: فلو جوَّزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلِّماً، لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى قادراً عالماً على كونه حيًّا، وحينئذٍ: يفسد علينا باب العلم بكونه حيًّا، وذلك كفر؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته، وتسبيحه، مع أنَّها ليست بأحياء؛ فحينئذ: لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا، وذلك كفر؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته، وتسبيحه، مع أنَّها ليست بأحياء؛ فحينئذ: لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا، فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حيًّا، وذلك جهلٌ وكفر، ومن المعلوم بالضَّرورة أنَّ من ليس بحيٍّ لم يكن عالماً قادراً متكلِّماً.
واحتج القائلون بأنَّ الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلُّها تسبِّح لله تعالى بهذه الآية، ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته؛ لأنَّه تعالى قال: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا، ودلالتها على وجود قدرة الله تعالى وحكمته معلومةٌ لنا، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه.
فأجاب أهل المعاني بوجوه:
أولها: أنَّك إذا أخذت تفاحة واحدة، فتلك التفاحة مركبة من أشياء كثيرة، لا تتجزَّأ، وكلُّ واحدٍ من تلك الاجزاء دليلٌ تامٌّ مستقلٌّ على وجودِ الإله، ولكلِّ واحد من تلك الأجزاء صفات مخصوصة من الطَّبع، والطَّعم، واللَّون، والرائحة، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات، ولا يحصل ذلك إلا بتخصيص مخصِّص قادر حكيم.
إذا عرف هذا ظهر أنَّ كلَّ واحدٍ من أجزاء تلك التفاحة دليل تامٌّ على وجود الإله، وكل صفة من تلك الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد أيضاً دليل تامٌّ على وجود الإله،(12/297)
ثم عدد تلك الأجزاء غي رمعلومٍ، وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا قال تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} .
وثانيها: أن الكفَّار، وإن كانوا يقرُّون بإثبات إله العالم إلاَّ أنهم ما كانوا يتفكَّرون في أنواع الدَّلائلِ، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] .
فكان المراد من قوله: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} هذا المعنى.
وثالثها: أنَّ القوم، وإن كانوا مقرِّين بألسنتهم بإثبات إله العالم، إلاَّ أنَّهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته، ولذلك استبعدوا كونه قادراً على الحشر والنشر، فكان المراد ذلكز
ورابعها: قوله لمحمدٍ: «قُلْ» لهم: {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] ، فهم ما كانوا عالمين بهذه الدلائل، فلما قال: {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} بصحَّة هذا الدليل وقوَّته، وأنتم لا تفقهون هذا الدليل، ولا تعرفونه، بل القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والنبوَّة والمعاد، فقال تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} ، فذكر الحليم الغفور ها هنا يدلُّ على كونهم لا يفقهون ذلك التَّسبيح، وذلك جرم عظيمٌ صدر عنهم، وهذا إنما يكن جرماً، إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالَّة على كمال قدرة الله وحكمته، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم، ما عرفوا وجه تلك الدلائل، ولو حملنا هذا التسبيح على تسبيح الجمادات بأنواعها، لم يكن عدم الفقه لذلك التسبيح جرماً، ولا ذنباً، وإذا لم يكن جرماً، ولا ذنباً، لم يكن قوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} لائقاً بهذا الموضع.
واعلم أنَّ القائلين بأن الجمادات والحيوانات غير الناطقة تسبِّح بألفاظها، أضافوا إلى كلِّ حيوانٍ نوعاً من التسبيح، وقالوا: إنَّها غذا ذبحتْ لم تسبِّح، مع قولهم بأنَّ الجماداتِ تسبِّح، فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبِّحاً، فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التَّسبيح؟! .
وقالوا: إن عصا الشَّجرة إذا كسرت، لم تسبِّح، وإذا كان كونه جماداً، لم يمتنع من كونه مسبِّحاً، فكيف يمنع ذلك من تسبيحها بعد الكسر؟ وهذه كلمات ضعيفة.
فصل في تسبيح السماوات والأرض
دلَّت هذه الآية على أنَّ السماوات والأرض ومن فيهن يسبِّح الله تعالى، فتسبيح السماوات والأرض ليس إلاَّ بمعنى تنزيه الله، وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجازٌ، وأما تسبيح المكلَّفين فهو قول: «سُبحَانَ الله» ، وهذا حقيقة، فيلزم أن يكون قوله «تُسبِّحُ» لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً، وهو باطل لم يثبت في أصول الفقه، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على المجاز في حقِّ العقلاء وغيرهم؛ لئلاَّ يلزم هذا المحذورُ.(12/298)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
لمَّا تكلَّم في الآية المتقدمة في إثبات الإلهيَّة، تكلَّم في هذه الآية في تقرير النبوَّة، وفيها قولان:
الأول: أنَّ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه - عليه السلام - كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيٍّ يصفقون، ويصفِّرون، ويخلطون عليه بالأشعار.
وروى سعيد بن جبير عن أسماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «كَانَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالساً، ومعه أبُو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، فنزلت سورة {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] فجاءت امرأة أبي لهبٍ، ومعها حجرٌ، تريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي تقول: [الرجز]
3425 - مُذمَّماً أبَيْنَا _ _ ودِينَهُ قَلَيْنَا_ _ _ _وأَمْرَهُ عَصَيْنَا_ _ ولم تَرهُ فقال أبو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يا رسول الله معها حجرٌ، أخشى عليك، فتلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية، فقالت لأبي بكرٍ: قد علمت أنِّي ابنة سيِّد قريش، وأنَّ صاحبك هجاني، فقال ابو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: والله، ما ينطق بالشِّعر، ولا يقوله، فرجعت، وهي تقول: قد كنتُ جئت بهذا الحجر؛ لأرضخ رأسه. فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما رأتك يا رسول الله؟ قال: لا، لم يزل ملك بيني وبينها يسترني» .
وروى ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم، كانوا يجالسون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويستمعون إلى حديثه، فقال النَّضر يوماً: ما أدري ما يقول محمجٌ، غير أنِّي أرى شَفَتيْهِ تتحركان بشيءٍ، فقال أبو سفيان: إنِّي أرى بعض ما يقوله حقًّا.
وقال أبو جهلٍ: هو مجنونٌ.
وقال أبو لهبٍ: كاهنٌ، وقال حويطب بن عبدِ العزَّى: هو شاعرٌ، فنزلت هذه الآية، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد تلاوة القرآن، قرأ قبلها ثلاث آياتٍ، وهي قوله في سورة الكهف {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25] .(12/299)
وفي النحل: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108] .
وفي الجاثية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الجاثية: 23] .
فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات، عن عيون المشركين، فكانوا يمرُّون به، ولا يرونه.
قوله تعالى: {مَّسْتُوراً} أنَّ الله تعالى يخلق حجاباً في عيونهم يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو شيء لا يرى، فكان مستوراً من هذا الوجه.
واحتجُّوا بهذه الآية على أنَّه يجوز أن تكون الحاسَّة سليمة، ويكون المرثيُّ حاضراً، مع أنَّه لا يراه الإنسان؛ لنَّ الله تعالى يخلق في عينه مانعاً يمنعه عن رؤيته، قالوا: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان حاضراً، وكانت حواس الكفَّار سليمة، ثمَّ إنهم كانوا لا يرونه، وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أن جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً، ولا معنى للحجاب المستور إلاَّ ما يخلقه الله في عيونهم بمنعهم من رؤيتهز
وقيل: مستور على النسب، أي: ذو سترٍ، كقولهم: مكانٌ مهولٌ، وجارية مغنوجة، أي: ذو هولٍ، وذات غنج، ولا يقال فيهما: هلت المكان، ولا غنجت الجارية.
وقيل: وكذلك قولهم: رجُلٌ مرطوبٌ: أي ذو رطوبةٍ، ولا يقال: رطبة، هو وصف على جهة المبالغة؛ كقولهم: «شعرٌ شاعرٌ» ورد هذا: بأنَّ ذلك إنَّما يكون في اسم الفاعل، ومن لفظ الأول.
وقال الأخفش وآخرون: المستورُ ها هنا بمعنى السَّاتر والمفعول قد يرد بمعنى الفاعل؛ كقولهم: مشئوم وميمون بمعنى: شائم ويامن، وهذا كما جاء اسم الفاعل بمعنى مفعول كماءٍ دافقٍ.
القول الثاني: أنَّ الحجاب هو الطَّبع الذي على قلوبهم والطبع المنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده، فالمراد من الحجاب المستورِ ذلك الطبع الذي خلقه في قلوبهم.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} وهذه الآية مذكورة بعيناه في سورة الأنعام.
قوله: «وحدهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على الحال، وإن كان معرفة لفظاً، لأنه في قوة النكرة غذ هو ف يمعنى منفرداً، وهل هو مصدر، أو اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فوحده وضِعَ مَوْضِعَ إيحَادٍ، وإيحادٌ وضعَ مَوْضِعَ موحدٍ. وهو مذهب سيبويه، أو هو مصدر على حذف الزوائد، إذ يقال: أوْحدهُ يُوحِدهُ إيحَاداً، أو هو مصدر بنفسه ل «وَحَد» ثُلاثِياً «.(12/300)
قال الزمخشري:» وحَدَ يَحِدُ وحْداً وحِدَة، نحو: وعَدَ يَعِدُ وعْداً وعِدَة، و «وحْدَهُ» من باب «رَجَعَ عودهُ على بَدْئهِ» ، و «افعله جهدك وطاقتك» في أنه مصدر سادٌّ مسدَّ الحال، أصله: يَحِدُ وحْدَهُ، بمعنى واحِداً «. قلت: وقد عرفت أنَّ هذا ليس مذهب سيبويه.
والثاني: أنه منصوب على الظرف وهو قول يونس، واعلم أن هذه الحال بخصوصها، أعني لفظة» وحْدهُ «، إذا وقعت بعد فاعل ومفعول، نحو:» ضَربَ زيدٌ عمراً وحْدَهُ «، فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل، أي: موحداً له بالضرب، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعول. قال أبو حيان:» فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير: وإذا ذكرت ربك موحداً لله تعالى.
قال المفسرون: معناه: إذا قلت: لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه. وعلى مذهب المبرد يجوز أن يكون التقدير: موحداً بالذكر «.
ثم قال:» ولَّوا على أدبارهم نفوراً «وفي» نفوراً «وجهان:
أحدهما: أنه مصدر على غير المصدر، لأن التولّي والنفور بمعنى.
قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ: بمعنى ولوا كافرين نفوراً.
والثاني: أنه حال من فاعل «ولَّوا» وهو حينئذ جمع نافرٍ، ك «قَاعدٍ» ، وقُعودٍ، وجَالسٍ، وجُلوسٍ. والضمير في «ولَّوا» الظاهر عوده على الكفار، وقيل: يعود على الشَّياطين، وإن لم يجْرِ لهُم ذِكرٌ.
قال المفسرون: إن القوم كانوا في استماع القرآن على حالتين، سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر لله تعالى فبقوا مبهوتين متحيرين؛ لا يفهمون منه شيئاص وإذا سمعوا آيات فيها ذكر لله تعالى، وذم المشركين ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس.(12/301)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
قوله تعالى: {بِمَا يَسْتَمِعُونَ} : الباء في «بما» متعلق ب «أعْلَمُ» . وما كان من باب العلم والجهل في أفعل التفضيل، وأفعل في التعجب تعدَّى بالباء؛ نحو: أنت أعلمُ به، وما أَعلمك به! {وهو أجهل به، وما أجهله به} ! ومن غيرهما يتعدَّى في البابين باللام؛ نحو: أنت أكسى للفقراء، و «مَا» بمعنى الذي، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإعراض، فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف، والاستهزاءِ الذي يستمعون به، قاله ابن عطيَّة.
قوله: «به» فيه أوجه:(12/301)
أحدها: أنه حال، فيتعلق بمحذوف.
قال الزمخشري: «وبه في موضع الحالِ، كما تقول: يستمعون بالهزءِ، أي: هازئين» .
الثاني: أنها بمعنى اللامِ، أي: بما يستمعون له.
الثالث: أنها على بابها، أي: يستمعون بقلوبهم أو بظاهر أسماعهم، قالهما أبو البقاء.
الرابع: قال الحوفيُّ: «لم يقلْ يستمعونه، ولا يستمعونك؛ لمَّا كان الغرضُ ليس الإخبار عن الاستماعِ فقط، وكان مضمَّناً أنَّ الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا: مجنونٌ أو مسحورٌ، جاء الاستماع بالباء وإلى، ليعلم أنَّ الاستماع ليس المراد به تفهُّم المسموعِ دون هذا المقصد» فعلى هذا ايضاً تتعلَّق الباء ب «يَسْتمِعُونَ» .
قوله تعالى: {إِذْ يَسْتَمِعُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه معمولٌ ل «أعْلَمُ» . قال الزمخشري: «إذ يستمعون نصب ب» أعْلَمُ «أي: أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون، وبما يتناجون؛ إذ هم ذوو نجوى» .
والثاني: أنه منصوبٌ ب «يَسْتمِعُونَ» الأولى.
قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «والعامل في» إذ «الأولى، وفي المعطوف» يَسْتمِعُونَ «الأولى» .
وقال الحوفيُّ: و «إذ» الأولى تتعلق ب «يَسْتمِعُونَ» وكذا «وإذْ هُمْ نجْوَى» لأن المعنى: نحن أعلم بالذي يستمعون إليك، وإلى قراءتك وكلامك، إنما يستمعون لسقطك، وتتبُّع عيبك، والتماسِ ما يطعنون به عليك، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتهُ بالباء و «إلى» . قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: «نَجْوَى» يجوز أن يكون مصدراً، فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة، أو على حذف مضاف، أي: ذوو نجوى، كما قاله الزمخشري، ويجوز أن يكون جمع نجيِّ، كقتيلٍ وقتلى، قاله أبو البقاء.
قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ} بدل من «إذ» الأولى في أحد القولين، والقول لآخر: أنَّها معمولة ل «اذْكُرْ» مقدَّراً.
قوله تعالى: «مَسْحُوراً» الظاهر أنَّه اسم مفعول من «السِّحرِ» بكسر السين، أي: مخبول العقل، أو مخدوعه، وقال أبو عبيدة: معناه أنَّ له سَحْراً، أي: رئة بمعنى أنه لا يستغني عن الطَّعام والشَّراب، فهو بشرٌ مثلكم، وتقول العرب للجبان: «قد انتفخَ سَحرهُ» بفتح السين، ولكلِّ من أكل وشرب: مسحورٌ، ومسحرٌ، فمن الأول قول امرئ القيس: [الوافر]
3426 - أرَانَا مُوضَعِينَ لأمْرِ غَيْبٍ ... ونُسْحِرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ
أي: نُغذَّى ونُعَلَّلُ، ومن الثاني قول لبيدٍ: [الطويل](12/302)
3427 - فَإنْ تَسْألِينَا فيمَ نَحْنُ فَإنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هذا الأنَامِ المُسحَّرِ
وردَّ الناس على أبي عبيدة قوله؛ لبعده لفظاً ومعنًى. قال ابن قتيبة: «لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التَّفسير المستكرهِ مع ما فسَّره السَّلف بالوجوهِ الواضحة» .
قال شهاب الدين: وأيضاً فإن «السَّحْر» الذي هو الرِّئة لم يضرب له فيه مثلٌ؛ بخلاف «السِّحْر» فإنهم ضربوا له فيه المثل، فما بعد الآية من قوله {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} [الإسراء: 48] لا يناسب إلا «السِّحْر» بالكسرِ.
فصل في معنى قوله: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} .
قال المفسرون: معنى الآية {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي يطلبون سماعه، {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} وأنت تقرأ القرآن، {وَإِذْ هُمْ نجوى} يتناجون في أمرك، فبعضهم يقول: هذا مجنونٌ، وبعضهم يقول: شاعرٌ {إِذْ يَقُولُ الظالمون} يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} مطبوباً.
وقال مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مخدوعاً؛ لأنَّ السِّحر حيلة وخديعة، وذلك لأنَّ المشركين حانوا يقولون: إنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعلَّم من بعض النَّاس هذه الكلمات، وأولئك النَّاس يخدعونه بهذه الكلمات، فلذلك قالوا: «مَسْحُوراً» أي: مخدوعاً.
وأيضاً: كانوا يقولون: إنَّ الشيطان يتخيَّل له، فيظنُّ أنه ملكٌ، فقالوا: إنه مخدوع من قبل الشَّيطان.
وقيل: مصروفاً عن الحقِّ، يقال: ما سحرك عن كذا، اي: ما صرفك، وقيل: المسحور هو الشَّيء المفسود، يقال: طعام مسحور، إذا فسد، وأرض مسحورة، إذا أصابها من المطر أكثر ممَّا ينبغي فأفسدها.
فإن قيل: إنَّهم لم يتبعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف يصحُّ أن يقولوا: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} .
فالجواب أنَّ معناه: إن اتَّبعْتُموهُ، فقد اتَّبعْتُمْ رجلاً مسحوراً. ثم قال تعالى: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} ، أي: كلُّ أحد شبَّهك بشيءٍ، فقالوا: كاهنٌ، وساحرٌ، وشاعرٌ، ومعلَّمٌ، ومجنونٌ، فضلُّوا عن الحقِّ، فلا يستطيعون سبيلاً، اي: وصولاً إلى طريق الحقِّ.(12/303)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} الآيات.
لما تكلَّم أوَّلاً في الإلهيَّاتِ، ثمًَّ أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوَّات، ذكر في هذه الآيات شبهاتهم في إنكار المعاد، والبعث، والقيامة، وقد تقدَّم أنَّ مدار القرآن على هذه الأربعة، وهي الإلهيَّات، والنبوّات، والمعاد، والقضاء والقدر، وأيضاً فالقوم وصفوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكونه مسحوراً فاسد العقل، فذكروا أن من جملة ما يدلُّ على فساد عقله: أن يدعي أنَّ الإنسان بعدما يصير عظاماً ورفاتاً يعود حيًّا، كما كان.
قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا} : قد تقدم خلاف القرَّاء في مثل هذين الاستفهامين في سورة الرعد، والعامل في «إذَا» محذوفٌ [تقديره:] أنبعثُ أو أنحشر، إذا كُنَّا، دلَّ عليه «المَبْعُوثُونَ» ولا يعمل فيها «مَبعُوثُونَ» هذا؛ لأنَّ ما بعد «إنَّ» لا يعمل فيما قبلها، وكذا ما بعد الاستفهام، لا يعمل فيما قبله، وقد اجتمعا هنا، وعلى هذا التقدير: تكون «إذَا» متمحِّضة للظرفية، ويجوز أن تكون شرطية، فيقدَّر العامل فيها جوابها، تقديره: أإذا كنَّا عظاماً ورفاتاً نبعث أو نعاد، ونحو ذلك، فهذا المحذوف جواب الشَّرط عند سيبويه، والذي انصبَّ عليه الاستفهام عند يونس.
والرُّفات: ما بولغَ في دقِّه، وتفْتِيتِه، وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيء المفتت، وقال الفراء: «هو التُّرَابُ» وهو قول مجاهدٍ ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن «تراباً وعظاماً» . يقال: رَفَتَهُ يَرْفِتُهُ بالكسرِ [أي: كسره] .
وقيل: حطاماً قال الواحدي: الرفت: كسر الشيء بيدك؛ كما يرفت المدر والعظم البالي، يقال: رفت عظام الجَزُورِ رفتاً، إذا كسرها، ويقال للتبن: الرفت؛ لأنَّه دقاق الزَّرْع.
قال الأخفش: رفت رفتاً، فهو مَرفُوتٌ، نحو حطم حَطْماً، فهو مَحْطُوم.
والفعال يغلب في التفريق كالرُّفات والحطامِ والعظام والدقاق والفتات، والجذاذَ والرضاض.
قوله تعالى: «خَلْقاً» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدرٌ من معنى الفعل، لا من لفظه، أي: نبعثُ بعثاً جديداً.
والثاني: أنه في موضع الحال، أي: مخلوقين.(12/304)
فصل
تقرير شبهة القوم: هو أنَّ الإنسان، إذا جفَّت أعضاؤه، وتناثرت وتفرَّقت في جوانب العالم، واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم، فالأجزاء المائيَّة تختلط بمياه العالم، والأجزاء الترابيَّة تختلط بالتُّراب، والأجزاء الهوائيَّة تختلط بالهواء، وإذا كان كذلك، فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرَّة أخرى، وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى؟! هذا تقرير شبهتهم.
والجواب عنها: أن هذا الإشكال لا يتمُّ إلاَّ بالقدح في كمال علم الله تعالى، وفي كمال قدرته.
أمَّا إذا سلَّمنا كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات، فحينئذٍ، هذه الأجزاء، وإن اختلطت بأجزاء العالم، إلاَّ أنها متميِّزة في علم الله تعالى، ولما سلَّم كونه - تعالى - قادراً على كلِّ الممكنات، كان قادراً على إعادة التأليف والتركيب، والحياة، والعقل، إلى تلك الأجزاء بأعيانها، فمتى سلم كمال علم الله تعالى، وكمال قدرته، زالت هذه الشبهة بالكليَّة.
ثم قال تعالى: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} وذلك أنَّهم استبعدوا أن يردَّهم أحياءً بعد أن صاروا عظاماً ورفاتاً، فإنَّها صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر، فقال: ولقد قدرتم أنَّ هذه الأجسام بعد الموت تصير إلى صفة أخرى أشدَّ منافاة لقبول الحياة من كونها عظاماً ورفاتاً؛ مثل أن تصير حجارة أو حديداً؛ فإنَّ المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة اشدُّ من المنافاة بين العظميَّة وبين قبول الحياة؛ لأنَّ العظم كان جزءاً من بدن الحيِّ، وأمَّا الحجارة والحديد، فما كانا ألبتَّة موصوفين بالحياة، فبتقدير أن تصير أبدان الناس حجارة أو حديداً بعد الموت، فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها، ويجعلها حية عاقلة، كما كان، والجليل على صحَّة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل؛ إذ لو لم يكن القبول حاصلاً، لما حصل العقل والحياة لها في أوَّل الأمر، وإله العالم عالمٌ بجميع الجزئيَّات، فلا يشتبه عليه أجزاء بدنِ زيد المطيع بأجزاء بدن عمرو العاصي، وقادرٌ على كل الممكنات.
وإذا ثبت أنَّ عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكنٌ في نفسه، وثبت أنَّ إله العالم عالمٌ بجميع المعلومات، قادرٌ على كلِّ الممكنات، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكناً قطعاً سواءٌ صارت عظاماً ورفاتاً أو أشياء أبعد من العظم في قبول الحياة، مثل أن تصير حجارة أو حديداً، وهذا ليس المراد منه الأمر، بل المراد أنَّكم لو كنتم كذلك، لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة؛ كقول القائل للرجل: أتطمع فيَّ، وأنا ابنُ فلانٍ؟!! فيقول: كُنْ من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقِّي. ثم قال تعالى: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا(12/305)
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أي: لو فرضتم شيئاً آخر أبعد من قبولِ الحجر والحديد للحياة، بحيث يستبعد عقلكم قبوله للحياة، ولا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء؛ لأنَّ المراد أنَّ أبدان النَّاس، وإن انتهت بعد موتها إلى أيِّ صفة فرضت، وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة، فإنَّ الله قادرٌ على إعادة الحياة إليها.
قال ابن عبَّاس، ومجاهد، وعكرمة، وأكثر المفسِّرين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: إنَّه الموت؛ فإنَّه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت، أي: لو كنتم الموت بعينه، لأميتنَّكم، ولأبعثنكم، وهذا إنَّما يحسنُ ذكره على سبيل المبالغة، أما نفس الأمر بهذا، فهو محالٌ؛ لأن أبدان النَّاس أجسامٌ، والموت عرضٌ، والجسم لا ينقلب عرضا، وبتقدير أن ينقلب عرضاً، فالموت لا يقبل الحياة؛ لأن أحد الضِّدين يمتنع اتصافه بالضدِّ الآخر.
وقال بعضهم: يعني السَّماء والأرض.
ثم قال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} ، أي: من الذي يقدر على إعادة الحياة، فقال تعالى: {قُلْ} يا محمد: {الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: خلقكم أوَّل مرة، ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة.
قوله تعالى: {الذي فَطَرَكُمْ} : فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي: الذي فطركم يعيدكم، وهذا التقدير فيه مطابقة بين السؤال والجواب.
والثاني: أنه خير مبتدأ محذوف، أي: معيدكم الذي فطركم.
الثالث: أنه فاعل بفعل مقدَّر، أي: يعيدكم الذي فطركم، ولهذا صرِّح بالفعل في نظيره عند قوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9] .
و «أوَّل مرَّةٍ» ظرف زمانٍ ناصبه «فَطرَكُمْ» .
قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} ، أي: يحرِّكونها استهزاء، يقال: أنغض رأسه ينغضها، أي: يحركها إلى فوق، وإلى أسفل إنغاضاً، فهو منغضٌ، قال: [الرجز]
3428 - أنْغضَ نَحْوي رَاسهُ وأقْنَعا ... كَأنَّهُ يَطلبُ شيئاً أطْمعَا
وقال آخر: [الرجز]
3429 - لمَّا رَأتْنِي أنغضَتْ لِي الرَّأسَا ... وسمي الظليم نغضاً لأنه يحرك رأسه وقال أبو الهيثم: «إذا أخبر الرجلُ بشيءٍ، فحرَّك رأسه؛ إنكاراً له، فقد أنغضَ» .(12/306)
قال ذو الرُّمَّة:
3430 - ظَعائِنُ لمْ يَسْكُنَّ أكْنافَ قَرْيةٍ ... بِسيفٍ ولَمْ تَنْغُضْ بهنَّ القَناطِرُ
أي: لم تحرَّك، وأمَّا نغض ثلاثيًّا، ينغَض وينغُض بالفتح والضمِّ، فبمعنى تحرَّك، لا يتعدَّى يقال: نغضتْ سنُّه، أي: تحرَّكتْ، تَنغِضُ نغضاً، ونغوضاً. قال: [الرجز]
3431 - ونَغَضتْ مِنْ هَرمٍ أسْنانُهَا ... ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هُوَ} ، أي: البعث والقيامة، وهذا سؤالٌ فاسدٌ؛ لأنَّهم منعوا الحشر والنشر كما تقدَّم؛ ثمَّ بين تعالى بالبرهان القاطع كونه ممكناً في نفسه، فقولهم «مَتَى هُوَ» كلام لا يتعلق بالبعث؛ فإنَّه لما ثبت بالدليل العقليِّ كونه ممكن الوجود في نفسه، وجب الاعتراف بإمكانه، فإنه متى يوجد، فذاك لا يمكن إثباته بالعقل، بل إنما يمكن إثباته بالدَّليل السمعي، فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعيَّن، عرف، وإلا فلا سبيل إلى معرفته.
وقد بين الله تبارك وتعالى في القرآن؛ أنَّه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعيَّن، فقال جلَّ ذكره: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] وقال: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] وقال تعالى: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] فلا جرم قال تعالى: {عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} .
قال المفسِّرون: «عَسَى» من الله واجبٌ، معناه: أنه قريبٌ، فإن قيل: كيف يكون قريباً، وقد انقرض سبعمائة سنة، ولم يظهر.
فالجواب: قال ابن الخطيب: إن كان معنى: «أكثر مَّا بَقِيَ» كان الباقي قليلاً، ويحتمل أن يريد بالقرب أن إتيان السَّاعة متناهٍ، وكل ما كان متناهياً من الزَّمان فهو قليلٌ، بل أقلُّ من القليل بالنسبة إلى الزَّمان الذي بعده؛ لأنَّه غير متناهٍ؛ كنسبة العدد المتناهي إلى العدد المطلقِ؛ فإنَّه لا ينسب إليه بجزءٍ من الأجزاء، ولو قلَّ.
ويقال في المثل «كل آت قريب» .
قوله تعالى: {عسى أَن يَكُونَ} يجوز أن تكون الناقصة، واسمها مستتر فيها يعود على البعث والحشر المدلول عليهما بقوَّة الكلام، أو لتضمُّنه في قوله «مَبُْعُوثُونَ» و «أنْ يَكُونَ» خبرها، ويجوز أن تكون التامة مسندة إلى «أنّ» وما في حيزها، واسم «يكون» ضمير البعث؛ كما تقدَّم.(12/307)
وفي «قريباً» وجهان:
أحدهما: أنه خبر «كَانَ» وهو وصفٌ على بابه.
والثاني: أنه ظرف، أي: زماناً قريباً، و «أنْ يَكُونَ» على هذا تامة، أي: عسى أن يقع العود في زمانٍ قريبٍ.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} : فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من «قريباً» ، إذا أعربنا «قريباً» ظرف زمان، كما تقدَّم.
والمعنى: عَسَى أن يكون يوم البعث يوم يدعوكم، أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] .
الثاني: أنه منصوب ب «يكُونَ» قاله أبو البقاء. وهذا عند من يجيز إعمال الناقصة في الظرف، وإذا جعلناها تامة، فهو معمولٌ لها عند الجميع.
الثالث: أنه منصوب بضمير المصدر الذي هو اسم «يكُون» أي: عسى أن يكون العود يوم يدعوكم، وقد منعه أبو البقاء قال: «لأنَّ الضمير لا يعملُ» يعني عند البصريِّين، وأمَّا الكوفيون، فيعملون ضمير المصدر، كمظهره، فيقولون: «مُرُوري بزيدٍ حسنٌ، وهو بعمرٍو قبيحٌ» ف «بِعَمْرٍو» عندهم متعلق ب «هُوَ» لأنه ضمير المرور، وأنشدوا قول زهير على ذلك: [الطويل]
3432 - ومَا الحَرْبُ إلاَّ ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُم ... ومَا هُو عَنْهَا بالحدِيثِ المُرجَّمِ
ف «هُوَ» ضمير المصدرِ، وقد تعلق به الجار بعده، والبصريُّون يؤوِّلونه.
الرابع: أنه منصوب بفعل مقدَّر، أي: اذكر يوم يدعوكم.
الخامس: أنه منصوبٌ بالبعث المقدر، قالهما أبو البقاء.
قوله تعالى: «بِحَمدِه» فيه قولان:
أحدهما: أنها حالٌ، أي: تستجيبون حامدين، أي: منقادين طائعين.
وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث؛ كقولك لمن تأمرهُ بعمل يشقُّ عليه: ستأتي به، وأنت حامدٌ شاكرٌ، أي: ستأتي إلى حالة تحمدُ الله وتشكر على أن اكتفى منك بذلك العمل، وهذا يذكر في معرض التهديد.
والثاني: أنها متعلقة ب «يَدْعُوكُم» قاله أبو البقاء، وفيه قلقٌ.
قوله تعالى: {إِن لَّبِثْتُمْ} «إنْ» نافية، وهي معلقة للظنِّ عن العمل، وقلَّ من يذكر «(12/308)
إن» النافية، في أدواتِ تعليق هذا الباب، و «قليلاً» يجوز أن يكون نعت زمانٍ أو مصدرٍ محذوفٍ، أي: إلا زماناً قليلاً، أو لبثاً قليلاً.
فصل في معنى النداء والإجابة
المعنى: «يَوْمَ يَدْعوكم» بالنِّداء من قبوركم إلى موقف القيامة، «فتَسْتَجِيبُونَ» أي: تجيبون، والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه، وهي الإجابة، إلاَّ أنَّ الاستجابة تقتضي طلب الموافقةِ، فهي أوكد من الإجابة.
وقوله «بِحَمْدهِ» قال ابن عباس: بأمره.
وقال قتادة: بطاعته؛ لأنَّهم لما أجابوه بالتَّسبيح والتَّحميد، كان ذلك معرفة منهم وطاعة، ولكنَّهم لا ينفعنم ذلك في ذلك اليوم.
وقيل: يُقِرُّون بأنَّه خالقهم وباعثهم، ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد، وهذا خطاب للكفّار.
وقيل: هذا خطابٌ للمؤمنين.
قال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم، وينفضون التُّرابَ عن رءوسهم، ويقولون: سبحانك وبحمدك، وهو قوله: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} .
وقال أهل المعاني: أي تستجيبون حامدين؛ كما تقول: جاء بغضبه، أي: جاء غضبان، وركب الأمير بسيفه، أي: وسيفه معه، ثم قال: {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: إن لبثتم في الدنيا، أو في القبور {إِلاَّ قَلِيلاً} لأنَّ الإنسان لو مكث ألوفاً من السِّنين في الدنيا أو في القبور، عُدَّ ذلك قليلاً في مدَّة القيامة والخلود.
وقال ابن عباسٍ: يريد بين النفختين الأولى والثانية، فإنه يزال عنهم العذاب في هذا الوقت، ويدلُّ عليه قوله تعالى في سورة يس {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] وذلك ظنُّهم بأنَّ هذا اللبث قليل، أي: لبثهم فيما بين النَّفختين.(12/309)
وقيل: المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة؛ لأنَّه لما كان عاقبة أمرهم الدُّخول في النَّار، استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة.(12/310)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
تقدم إعراب قوله تعالى {وَقُل لِّعِبَادِي} في سورة إبراهيم [31] . وفي العباد ها هنا قولان:
الأول: المراد به المؤمنون؛ لأنَّ لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختصٌّ بالمؤمنين. قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول} [الزمر: 17، 18] {فادخلي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] .
وإذا عرف هذا، فإنه تعالى لمَّا ذكر الحجج القطعيَّة في صحَّة المعاد، وهو قوله تعالى: {قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] قال ها هنا: قل، يا محمد لعبادي: إذا أردتم الاستدلال على المخالفين، فاذكروا تلك الدلائل بطريق الأحسن من غير شتم، ولا سبٍّ، ونظيره قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] وذلك لأنَّ ذكر الحجَّة، إذا اختلط به سبٌّ أو شتمٌ، لقابلوكم بمثله، كما قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ويزداد الغضب، وتكمل النُّفرة، ويمتنع المقصود، وإذا ذكرت الحجة بالطَّريق الأحسن، أثَّر في القلب تأثيراً شديداً، ثم نبَّه تعالى على وجه المنفعة، فقال تعالى: {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} أي: يفسد بينهم، ويغري بينهم.
قال الكلبي: كان المشركون يؤذون المسلمين، فشكوا إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي} المؤمنين يقولوا للمشركين التي هي أحسنُ، ولا يكافئوهم بسفههم.
قال الحسن: يقول له: يهديك الله، وكان هذا قبل الإذن في الجهاد.
وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - شتمة بعض الكفَّار، فأمره الله تعالى بالعفو.
وقيل: أمر المؤمنين بأن يقولوا، ويفعلوا الخلَّة التي هي أحسن.
وقيل: الأحسن قول: لا إله إلا الله.(12/310)
قوله تعالى: {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يجوز أن تكون هذه الجملة اعتراضاً بين المفسَّر والمفسِّر؛ وذلك أن قوله تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} [الإسراء: 54] وقع تفسيراً لقوله {بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] وبياناً لها، ويجوز ألاَّ تكون معترضة، بل مستأنفة.
وقرأ طلحة «ينْزغُ» بكسر الزاي، وهما لغتان، كيَعْرِشُون ويَعرُشُونَ، قاله الزمخشري. قال أبو حيان: ولو مثَّل ب «يَنطَحُ» و «يَنْطِحُ» كأنَّه يعني من حيث إنَّ لامَ كلِّ منهما حرف حلقٍ، وليس بطائلٍ.
والمعنى: أنَّ الشيطان يلقي العداوة بينهم {إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} ظاهر العداوة.(12/311)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
قوله تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} يوفِّقكُمْ، فتؤمنوا {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} يميتكم على الكفر، فيعذِّبكم، قاله ابن جريح.
وقال الكلبيُّ: إن يشأ يرحمكم، فينجيكم من أهل مكَّة، وإن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم.
{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} حفيظاً، وكفيلاً، والمقصود إظهار اللِّين والرِّفقِ لهم عند الدَّعوة؛ فإنَّ ذلك هو المؤثِّرُ في القلبِ قيل: نسختها آية القتالِ.(12/311)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض} : في هذه الباءِ قولان:
أشهرهما: أنها تتعلق ب «أعْلَمُ» كما تعلَّقت الباء ب «أعْلَمُ» قبلها، ولا يلزمُ من ذلك تخصيص علمه بمن في السماوات والأرض فقط.
والثاني: أنها متعلقة ب «يَعْلَمُ» مقدَّراً، قاله الفارسيُّ، محتجًّا بأنَّه يلزمُ من ذلك تخصيصُ علمه بمن في السماوات والأرض، وهو وهمٌ؛ لأنَّه لا يلزمُ من ذكر الشيء نفيُ(12/311)
الحكم عمَّا عداه، وهذا هو الذي يقول الأصوليُّون: إنه مفهوم اللَّقبِ، ولم يقل به إلاَّ أبو بكرٍ الدَّقَّاق في طائفة قليلة.
فصل
معنى الآية أنَّ علمه غير مقصورٍ عليكم، ولا على أحوالكم، بل علمه متعلِّق بجميع الموجودات والمعدودات، وبجميع ذرَّات الأرضين، والسَّموات، فيعلم حال كلِّ أحد، ويعلم ما يليقُ به من المصالح والمفاسد، ولهذا جعلهم مختلفين في صورهم، وأحوالهم، وأخلاقهم، وفضَّل بعض النبيين على بعضٍ، وآتى موسى التوراة، وداود الزَّبُور، وعيسى الإنجيل، ولم يبعد أيضاً أن يؤتي محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القرآن مع تفضيله على الخلق.
فإن قيل: ما السَّبب في تخصيص داود بالذكر هاهنا؟ .
فالجواب من وجوهٍ:
الأول: أنَّه تعالى ذكر أنَّه فضَّل بعض النَّبيِّينَ على بعض، ثم قال: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} يعني أنَّ داود آتاه ملكاً عظيماً، ثم إنَّه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك، وذكر ما آتاه من الكتب؛ تنبيهاً على أنَّ التفضيل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدِّين، لا بالمال.
والثاني: أنَّ تخصيصه بالذِّكر أنَّه تعالى كتب في الزَّبور أن محمَّداً خاتم الأنبياء، وأنَّ امَّة محمد خيرُ الأمم - صلوات الله وسلامه عليه -.
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105] وهم محمد وأمته.
فإن قيل: هلا عرفه كقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} .
فالجواب أن التنكير ها هنا يدل على تعظيم حاله؛ لأن الزبور عبارة عن المزبور، فكان معناه الكتاب، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً.
ويجوز أن يكون «زبور» علماً، فإذا دخلت عليه «أل» كقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} كانت للمْحِ الأصل كعبَّاس والعباس، وفضل والفضل.
وقيل: نكَّره هنا دلالة على التبعيض، أي: زبُوراً من الزُّبر، أو زبوراً فيه ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأطلق على القطعة منه زبورٌ، كما يطلق على بعض القرآن، قرآن.
الثالث: أنَّ السَّبب في تخصيص داود - صلوات الله عليه - أنَّ كفار قريش ما كانوا أهل نظرٍ وجدلٍ، بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشُّبهات، واليهود كانوا يقولون: لا نبيَّ بعد موسى، ولا كتاب بعد التَّوراة، فنقض الله عليهم كلامهم بإنزالِ الزَّبور على داود، وتقدَّم خلافُ القراء في الزبور في آخر سورة النساء.
قوله تعالى: {الذين زَعَمْتُم} : مفعولا الزَّعم محذوفان؛ لفهم المعنى، أي:(12/312)
زعمتموهم آلهة، وحذفهما اختصاراً جائزاٌ، واقتصاراً فيه خلاف.
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون: إن المشركين أصابهم قحطٌ شديدٌ؛ حتَّى أكلوا الكلاب والجيفَ واستغاثوا بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليدعو لهم، قال الله تعالى {قُلِ} للمشركين {ادعوا الذين زَعَمْتُم} أنها آلهة من دونه.
واعلم أنه ليس المراد الأصنام؛ لأنَّه تعالى قال في صفتهم:
{أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 57]
وابتغاءُ الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتَّة، وإذا ثبت هذا، فنقول: إنَّ قوماً عبدوا الملائكة، فنزلت هذه الآية فيهم.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ومجاهدٌ: إنَّها نزلت في الذين عبدوا المسيح، وعزيراً، والملائكة، والشمس، والقمر، والنجوم.
وقيل: إنَّ قوماً عبدوا نفراً من الجنِّ، فأسلم النَّفر، وبقي أولئك الناس متمسِّكين بعبادتهم، فنزلت فيهم الآية.
قال ابن عباس: كل موضعٍ في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم، فهو كذبٌ. ثم إنَّه تعالى احتجَّ على فساد مذهب هؤلاء بأنَّ الإله المعبود هو القادر على إزالةِ الضرر، وإيصال النفع وهذه الأشياء التي يعبدونها، وهي الملائكة، والجنُّ، والمسيحُ، وعزيرٌ لا يقدرون على كشف الضرِّ، ولا على تحصيل النَّفع، فما الدليل على أنَّ الأمر كذلك؟ فإن قلتم: لأنَّا نرى أولئك الكفَّار يتضرَّعون إليها، ولا تحصل الإجابة. قلنا: ونرى أيضاً المسلمين يتضرَّعون إلى الله تعالى، ولا تحصل الإجابة والمسلمون يقولون بأجمعهم: إنَّ القدرة على كشف الضرِّ، وتحصيل النفع ليست إلاَّ لله تعالى، وعلى هذا التقدير، فالدليل غير تامٍّ.
فالجواب: أنَّ الدليل تامٌّ كاملٌ؛ لأنَّ الكفار كانوا مقرِّين بأنَّ الملائكة عباد الله تعالى، وخالق الملائكة، وخالق العالم لا بدَّ وأن يكون أقدر من الملائكة، وأقوى منهم، وأكمل حالاً منهم.
وإذا ثبت هذا، فنقول: كمال قدرة الله معلوم متفقٌ عليه، وكمال قدرة غير الله غير معلوم، ولا متفقٍ عليه، بل المتَّفق عليه أنَّ قدرتهم بالنِّسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرةٌ، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة(12/313)
الملائكة؛ لأنَّ استحقاق الله العبادة معلومٌ، وكون الملك كذلك مجهولٌ؛ والأخذ بالمعلوم أولى، وسلك المتكلِّمون من أهل السنَّة طريقة أخرى، وهو أنَّهم أقاموا الحجة العقليَّة على أنَّه لا موجد إلاَّ الله تعالى، ولا يخرج الشيء من العدم إلى الوجود إلا الله، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا ضارّ ولا نافع إلا الله تعالى، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة، لأنهم لما جوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة - عليهم السلام - لا قدرة لها على الإحياء والإماتة، وخلق الجسم، وإذا عجزوا عن ذلك، لا يتمُّ لهم هذا الدليلُ، فهذا هو الدليل القاطع على صحَّة قوله: {فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} ، والتحويلُ عبارة عن النَّقل من حالٍ إلى حالٍ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ، يقال: حوَّله، فتحوَّل.
قوله
تعالى
: {أولئك
الذين يَدْعُونَ} : «أولئك» مبتدأ، وفي خبره وجهان:
أظهرهما: أنّه الجملة من «يَبْتَغُونَ» ويكون الموصولُ نعتاً، أو بياناً أو بدلاً، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله، والمراد بالواو العبَّاد لهم، ويكون العائدُ على «الَّذينَ» محذوفاً، والمعنى: أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون، لكشف ضرِّهم - أو يدعونهم آلهة، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يبتغون.
ويجوز أن يكون المراد بالواو ما أريد بأولئك، أي: أولئك الأنبياء الذين يدعون ربَّهم أو النَّاس إلى الهدى يبتغون، فمفعول «يَدْعُونَ» محذوف.
والثاني: أن الخبر نفسُ الموصول، و «يَبْتَغُون» على هذا حالٌ من فاعل «يَدْعُون» أو بدلٌ منه. وقرأ العامة «يَدعُونَ» بالغيب، وقد تقدَّم الخلاف في الواو؛ هل تعود على الأنبياء أو على عابديهم، وزيد بن عليٍّ بالغيبة أيضاً، إلا أنه بناه للمفعول، وقتادة، وابن مسعود بتاء الخطاب، وهاتان القراءتان تقوِّيان أنَّ الواو للمشركين، لا للأنبياء في قراءة العامة.
فسل
إذا أعدنا «يَدْعُونَ» للعابدين، و «يَبْتَغُونَ» للمعبودين، فالمعنى: أولئك المعبودون يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة؛ لأنَّ الملائكة يرجعون غلى الله في طلب المنافع، ودفع المضارِّ، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، وإذا كانوا كذلك، كانوا عاجزين محتاجين، والله - تعالى أغنى الأغنياء، فكان الاشتغال [بعبادته] أولى.
فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ الملائكة محتاجون إلى رحمة الله تعالى، وخائفون من عذابه.(12/314)
فالجواب: أنَّ الملائكة: إمَّا أن يقال: إنَّها واجبة الوجود لذواتها، أو يقال: إنَّها ممكنة الوجود لذواتها، والأول باطلٌ؛ لأن جميع الكفَّار كانوا معترفين بأن الملائكة عبادُ الله، ومحتاجون إليه.
وأما الثاني: فهو يوجب القول بأنَّ الملائكة محتاجون في ذواتها، وفي كمالاتها إلى الله تعالى، فكان الاشتغالُ بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادةِ الملائكة.
وإن أعدنا «يَدْعُونَ» إلى الأنبياء - عليهم السلام - المذكورين في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} فالمعنى هو أنَّ الذي عظمت منزلتهم - وهم الأنبياء - لا يعبدون إلا الله تعالى، ولا يبتغون الوسيلة إلاَّ إليه، فأنتم بالاقتداءِ بهم أحق، فلا تعبدوا غير الله - عزَّ وجلَّ - والمراد بالوسيلةِ: الدَّرجة العليا.
وقيل: كل ما يتقرَّب إلى الله تعالى.
واحتجُّوا على صحَّة هذا القول بأنَّ الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، فلا يخافون عذابه، فثبت أنَّ هذا غير لائقٍ بالملائكةِ، وإنما هو لائقٌ بالأنبياء - صلوات الله عليهم -.
وأجيب بأنَّ الملائكة يخافون من عذاب الله، لو اقدموا على الذنب، قال تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] ثم قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} أي من حقِّه أن يحذر، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله، فإنَّه لا يخرج عن كونه يجب الحذر عنه.
قوله تعالى: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} في «أيُّ» هذه وجها:
أحدهما: أنها التفهامية.
والثاني: أنها موصولة بمعنى «الَّذي» وإنما كثر كلام المعربين فيها من حيث التقدير، فقال الزمخشريُّ: «وأيُّهم بدلٌ من واو» يَبْتَغُونَ «و» أيُّ «موصولة، أي: يبتغي من هو أقربُ منهم وأزلفُ، أو ضمِّن» يَبْتغُونَ الوسيلة «معنى يحرصون، فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب» . فجعلها في الوجه الأول موصولة، وصلتها جملة من مبتدأ وخبر، حذف المبتدأ، وهو عائدها، و «أقْرَبُ» خبرٌ. واحتملت «أيُّ» حينئذٍ أن تكون مبنية، وهو الأكثر فيها، وأن تكون معربة، وسيأتي موضعه في مريم: [69] إن شاء الله تعالى وفي الثاني جعلها استفهامية؛ بدليل أنه ضمَّن الابتغاء معنى شيء تعلق، وهو يحرصون، فيكون «أيُّهُمْ» مبتدأ و «أقربُ» خبره، والجملة في محلِّ نصب على إسقاط الخافض؛ لأنَّ «تحْرِصُ» يتعدَّى ب «على» قال تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} [النحل: 37] ، {أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96] .
وقال أبو البقاء: «أيُّهُمْ» مبتدأ، و «أقْرَبُ» خبره، وهو استفهامُ في موضع نصبٍ(12/315)
ب «يَدْعُونَ» ، ويجوز أن يكون «أيُّهُمْ» بمعنى الذي، وهو بدلٌ من الضمير في «يَدعُونَ» .
قال أبو حيان: «علَّق» يَدْعُونَ «وهو ليس فعلاً قلبيًّا، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحاليَّة، ولا يضرُّ ذلك، لأنَّها معمولة للصِّلة» . قال شهاب الدين: أمَّا كون «يَدْعُونَ» لا يعلق، هو مذهب الجمهور، وقال يونس: يجوز تعليق الأفعال مطلقاً، القلبية وغيرها، وأمَّا قوله «فصل بالجملة الحالية» يعني بها «يَبْتَغُونَ» فصل بها بين «يَدْعُونَ» الذي هو صلة «الَّذينَ» وبين معموله، وهو «أيُّهم أقْرَبُ» لأنه معلَّقٌ عنه، كما عرفته، إلا أنَّ الشيخ لم يتقدَّم في كلامه إعرابُ «يَبْتغُونَ» حالاً، بل لم يعربها إلاَّ خبراً للموصول، وهذا قريبٌ.
وجعل أبو البقاء أيًّا الموصولة بدلاً من واو «يَدْعُونَ» ، ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك، بل كلُّهم يجعلونها من واو «يَبْتَغُونَ» وهو الظاهر.
وقال الحوفي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أيُّهم أقربُ» ابتداء وخبر، والمعنى: ينظرون أيُّهم أقرب، فيتوسَّلون به، ويجوز أن يكون «أيهم أقرب» بدلاً من واو «يَبْتَغُون» .
قال شهاب الدين: فقد أضمر فعلاً معلقاً، وهو ينظرون فإن كان من نظر البصرِ، تعدَّى ب «إلى» وإن كان من نظر الفكر، تعدَّى ب «في» فعلى التقديرين: الجملة الاستفهامية في موضع نصبٍ بإسقاطِ الخافض، وهذا إضمارُ ما لا حاجة إليه.
وقال ابن عطية: «وأيُّهُمْ ابتداء، و» أقْرَبُ «خبره، والتقدير: نظرهم ووكدهم أيهم أقرب، ومنه قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» فبات النَّاس يدُوكُونَ أيُّهمْ يُعطَاهَا «، أي: يتبارون في القرب» . قال أبو حيان: «فَجَعلَ المحذوف» نظرُهمْ ووكْدهُمْ «وهذا مبتدأ، فإن جعلت» أيُّهمْ أقربُ «في موضع نصب ب» نَظرُهُمْ «بقي المبتدأ بلا خبر، فيحتاج إلى إضمار خبر، وإن جعلت» أيُّهم أقربُ «الخبر، لم يصحَّ؛ لأنَّ نظرهم ليس هو» أيُّهم أقربُ «وإن جعلت التقدير:» نَظرهُمْ في أيهم أقربُ «أي: كائنٌ أو حاصلٌ، لم يصحَّ ذلك؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يعلَّق» .
فقد تحصَّل في الآية الكريمة ستَّة أوجه:
أربعة حال جعل «أيّ» استفهاماً:
الأول: أنها معلِّقة للوسيلة، كما قرَّره الزمخشريُّ.
الثاني: أنها معلّقة ل «يَدعُونَ» كما قاله أبو البقاء.
الثالث: أنها معلقة ل «يَنْظُرونَ» مقدراً، كما قاله الحوفيُّ.
الرابع: أنها معلقة ل «نَظرُهمْ» كما قدَّره ابن عطيَّة.
واثنان حال جعلها موصولة:
الأول: البدل من واو «يَدعُونَ» كما قاله أبو البقاء.(12/316)
الثاني: أنها بدلٌ من واو «يَبْتغُونَ» كما قاله الجمهور.(12/317)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
قوله تعالى: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ} الآية.
فلمَّا قال: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 57] بيَّن أنَّ كلَّ قرية مع أهلها، فلا بدَّ وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين: إمَّا الإهلاك، وإمَّا التَّعذيب.
قال مقاتلٌ: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة، فبالعذاب.
وقيل: المعنى: وإن من قريةٍ من قرى الكفَّار، فلا بدَّ وأن يكون عاقبتها إمَّا بالاستئصال بالكلِّيَّة، وهو الهلاك، أو بعذاب شديدٍ من قتل كبرائهم، وتسليط المسلمين عليهم بالسَّبي، واغتنام الأموالِ، وأخذ الجزية {كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} في اللَّوح المحفوظ.
قال صلوات الله وسلامه عليه: «أوَّل ما خلق الله تعالى القلم قال: أكتُبْ، قال: ما أكْتبُ؟ قال: القَدَر، وما هُو كَائِنٌ إلى الأبدِ» .
و «إنْ» نافية و «مِنْ» مزيدة في المبتدأ، لاستغراق الجنس. وقال ابن عطيَّة: هي لبيان الجنس، وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: قال أبو حيَّان: «لأنَّ التي للبيان، لا بدَّ أن يتقدَّمها مبهم ما، تفسِّره؛ كقوله تعالى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] ، وهنا لم يتقدم شيء مبهم» ثم قال «ولعلَّ قوله» لبيان الجنس «من الناسخ، ويكون هو قد قال: لاستغراقِ الجنس؛ ألا ترى أنه قال بعد ذلك:» وقيل: المراد الخصوص «.
وخبر المبتدأ الجملة المحصورة من قوله: {إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} .
والثاني: أنَّ شرط ذلك أن يسبقها محلَّى بأل الجنسيَّة، وأن يقع موقعها» الذي «كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] .(12/317)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
لما استدلَّ على فساد قول المشركين، وأتبعه بالوعيد، أتبعه بذكر مسألة النبوة، واعلم أنَّ الكفَّار كانوا يقترحون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إظهار المعجزات، كما حكى الله(12/317)
تعالى عنهم ذلك في قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} [الأنبياء: 5] .
وقال آخرون: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] الآيات.
وقال سعيد بن جبيرٍ: إنَّهم قالوا إنَّك تزعمُ أنَّه كان قبلك أنبياءُ منهم من سخِّرت له الريحُ، ومنهم من أحيا الموتى، فأتنا بشيءٍ من هذه المعجزات، فأجابهم الله تعالى بهذه الآية.
وفي تفسير هذا الجواب وجوهٌ:
الأول: أن المعنى أنِّي إن أظهرتُ تلك المعجزاتِ، ثم لم يؤمنوا بها، بل بقوا مصرِّين على الكفر، فحينئذ: يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال، لكنَّ إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمَّة غير جائزٍ؛ لأن الله تعالى علم [أن] فيهم من سيؤمن أو يؤمن من أولادهم، فلهذا لم يظهر تلك المعجزات.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - إنَّ أهل مكَّة سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجعل لهم الصَّفا ذهباً، وأن يزيل عنهم الجبال، حتَّى يزرعوا تلك الأرض، فطلب الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ذلك من الله تعالى، فقال سبحانه جلَّ ذكره: إن شئت أن أستأني فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما شاءوا فعلت لكن بشرط؛ أنهم إن لم يؤمنوا، أهلكتهم، قال: لا أريد ذلك، فنزلت هذه الآية.
الثاني في تفسير هذا الجواب: أنَّا لا نظهر المعجزاتِ؛ لأن آباءكم رأوها، ولم يؤمنوا بها، وأنتم مقتدون بهم، فلو رأيتموها، لم تؤمنوا بها أيضاً.
الثالث: أنَّ الأوَّلين رأوا هذه المعجزات، وكذَّبوا بها، فعلم الله منكم أيضاً: أنَّكم لو شاهدتموها، لكذَّبتم بها، فكن إظهارها عبثاً، والحكيم لا يفعل العبث.
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ} : «أن» الأولى وما في حيزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على اختلاف القولين؛ لأنها على حذف الجارِّ، أي: من أن نرسلَ، والثانية وما في حيِّزها في محلِّ رفع بالفاعليَّة، أي: وما منعنا من إرسال الرسل بالآيات إلا تكذيب الأوَّلين، أي: لو أرسلنا الآيات المقترحة لقريشٍ، لأهلكوا عند تكذيبهم؛ كعادة من قبلهم، لكن علم الله سبحانه أنَّه يؤمن بعضهم،(12/318)
ويكذِّبُ بعضهم من يؤمنُ، فلذلك لم يرسل الآيات لهذه المصلحة.
وقدَّر أبو البقاء رحمة الله مضافاً قبل الفاعل، فقال: «تقديره: إلاَّ إهلاكُ التكذيب» . كأنَّه يعني أنَّ التكذيب نفسه لم يمنع من ذلك، وإنَّما منع منه ما يترتَّب على التَّكذيب، وهو الإهلاك، ولا حاجة إلى ذلك؛ لاستقلالِ المعنى بدونه.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً} .
قرأ العامة بنصب «مُبْصِرةً» على الحال، وزيدُ بن عليٍّ يرفعها على إضمار مبتدأ، أي: هي، وهو إسناد مجازي، إذ المراد إبصار أهلها، ولكنها لمَّا كانت سبباص في الإبصار، نسب إليها، وقرأ قومٌ بفتح الصَّاد، مفعولٌ على الإسناد الحقيقيِّ، وقتادة بفتح الميم والصَّاد، أي: محل إبصارٍ، كقوله - عليه السلام -: «الولدُ مَبْخَلةٌ مَجْبَنةٌ» ، وكقوله: [الكامل]
3433 - ... ... ... ... ... ..... والكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لنَفْسِ المُنْعمِ
أجرى هذه الأشياء مجرى الأمكنة؛ نحو: أرضٌ مسبعةٌ ومذأبةٌ.
قوله تعالى: {إِلاَّ تَخْوِيفاً} يجوز أن يكون مفعولاً له، وأن يكون مصدراً في موضع الحال: إمَّا من الفاعل، أي: مخوِّفين أو من المفعول، اي: مخوَّفاً [بها] .
فصل
المعنى أنَّ الآية التي التمسوها مثل آية ثمود، وقد آتينا ثمود النَّاقة مبصرة، اي: واضحة بيِّنة، ثم كفروا بها، فاستحقُّوا بها عذاب الاستئصال، فكيف يتمنَّاها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتَّحكُّم.(12/319)
قال الفراء: مبصرة: مضيئة.
قال تعالى: {والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] أي: مضيئاً، وقيل: مبصرة أي: ذات إبصار، أي: فيها إبصارٌ لمن تأمَّلها ببصر بها رشده، ويستدلُّ بها على صدق ذلك الرسول - صلوات الله عليه -.
{فَظَلَمُواْ بِهَا} أي: ظلموا أنفسهم بتكذيبها، أي: فعاجلناهم بالعقوبة.
وقال ابن قتيبة: ظلموا بها، أي: جحدوا بأنَّها من الله تعالى، ثم قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} قيل: لأنه لا آية إلاَّ وتتضمَّن التخويف عند التكذيب، إمَّا من العذاب المعجَّل، أو من العذاب المؤجَّل عذاب الآخرة.
فإن قيل: المقصود الأعظم من إظهار الآياتِ أن يستدلَّ بها على صدق المدَّعى؛ فكيف حصر المقصود من إظهارها في التَّخويف؟ .
فالجواب: أن مدَّعي النبوّة، إذا أظهر الآية، فإذا سمع الخلق منه ذلك، فهم لا يعلمون أنَّ تلك الآية معجزةٌ، أو غير معجزةٍ، إلاَّ أنَّهم يجوزون كونها معجزة، وبتقدير أن تكون معجزة، فلو لم يتفكَّروا فيها، ولم يستدلُّوا على الصِّدق، لاستحقوا العذاب الشديد، فهذا الخوف هو الذي يحملهم على التفكُّر والتأمل في تلك المعجزات، فهذا هو المراد من قوله: {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} .(12/320)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} الآية.
اعلم أنَّ القوم، لمَّا طالبوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمعجزاتِ القاهرة، وأجاب الله بأنَّ إظهارها ليس بمصلحةٍ، صار ذلك سبباً لجرأة أولئك الكفار بالطَّعن فيه، وأن يقولوا له: لو كنت رسُولاً حقًّا من عند الله تعالى، لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها، كما أتى به موسى وغيره من الأنبياء - صلوات الله عليهم -، فعند هذا قوَّى الله قلبه، وبيَّن له أنَّه ينصرهُ، ويؤيِّده، فقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} أي: هم في قبضته لا يقدرون على الخروج عن مشيئته، فهو حافظك منهم، فلا تهبهم، وامضِ لما أمرك به من تبليغ الرِّسالة، كقوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] .
وقيل: المراد بالنَّاسِ أهلُ مكَّة، وإحاطة الله بهم هو أنَّه تعالى يفتحها للمؤمنين؛ فيكون المعنى: وإذ بشَّرناكَ بأنَّ الله أحَاطَ بأهل مكَّة؛ بمعنى أنَّه ينصرك، ويظهر دولتك عليهم؛ كقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] وقوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ(12/320)
سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} [آل عمران: 12] ، ولما كان كلّ ما أخبر الله عنه وقوعه، فهو واجبُ الوقوع، فكان من هذا الاعتبار كالواقع، فلا جرم قال: {أَحَاطَ بالناس} .
وروي أنَّه لما تزاحف الفريقانِ يوم بدرٍ، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في العريشِ، مع أبي بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان يدعُو، ويقول: اللَّهُمَّ، إنِّي أسألك عهدك ووعدك لي، ثمَّ خرج، وعليه الدِّرْع يحرضُ النَّاس ويقول: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] .
ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} .
والأكثرون على أنَّ المراد منه ما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة المعراجِ من العجائب والآيات.
قال ابن عباسٍ: هي رؤيا عين أريها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قولُ سعيد بن جبيرٍ، والحسن، ومسروقٍ، وقتادة، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريحٍ والأكثرين.
ولا فرق بين الرُّؤية والرُّؤيا في اللغة، يقال: رأيتُ بعيني رؤية ورُؤيا.
وقال بعضهم: هذا يدلُّ على أن قصَّة الإسراء إنما حصلت في المنامِ، وتقدَّم بيان ضعف هذا في أوَّل السورة، وقيل: إنَّه تعالى اراه في المنام مصارعَ قريشٍ، فحين ورد ماء بدر، قال: والله، لكَأنِّي أنظر غلى مصارع القومِ، ثمَّ أخَذ يقول: هذا مصرعُ فلانٍ، هذا مصرعُ فلانٍ، فلما سمعوا قريش ذلك، جعلوا رؤياه سخرية، وكانوا يستعجلون بما وعده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: المراد رؤياه التي رآها؛ أنَّه يدخل مكَّة، وأخبر بذلك أصحابه، وعجل السَّير قبل الأجل إلى مكة فصدَّه المشركون، فرجع إلى المجينة، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية، ورجع، كان ذلك فتنة لبعض القوم، وق لعمر لأبي بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أليس قد أخبرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أليس قد أخبرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أليس قد أخبرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إنَّه لم يخبر بأنّا نفعل ذلك في هذه السَّنة، فسنفعل ذلك في سنةٍ أخرى، فلمَّا جاء العام المقبل، دخلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنزل الله تعالى:
{لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق} [الفتح: 27] واعترضُوا على هذين القولين بأنَّ هذه السورة مكيَّة، وهاتان الواقعتان مدنيتان، وهو اعتراضٌ ضعيفٌ؛ لأن هاتين الوقعتين، وإن كانتا مدنيتين، فرؤيتهما في المنام لا تبعد أن تكون مكيَّة.(12/321)
وقال سعيد بن المسيَّب: رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بني أميَّة ينزون على منبره، [نَزْوَ القردة] ، فساءه ذلك، وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء، وفيه الاعتراض المذكور؛ لأنَّ هذه الآية مكيَّة، وما كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكَّة منبرٌ.
ويمكنُ أن يجاب عنه بأنَّه لا يبعد أن يرى بمكة أنَّ له بالمدينة منبراً يتداوله بنُو أميَّة.
قوله: «والشَّجرةَ» : العامة على نصبها نسقاً على «الرُّؤيا» و «المَلعُونَة» نعتٌ، قيل هو مجازٌ؛ إذ المراد: الملعون طاعموها؛ لأن الشجرة لا ذنب لها، وهي شجرةُ الزقُّوم، وقيل: بل على الحقيقة، ولعنها: إبعادها من رحمة الله؛ لأنَّها تخرج في أصلِ الجحيم، وقرأ زيد بن عليٍّ برفعها على الابتداء، وفي الخبر احتمالان:
أحدهما: هو محذوفٌ، أي: فتنة.
والثاني: - قاله أبو البقاء - أنه قوله «في القُرآنِ» وليس بذاك.
فصل
قال المفسِّرون: هذا على التَّقديم والتَّأخير، والتقدير: وما جعلنا الرؤيا الَّتي أريناك والشَّجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للنَّاس.
وقيل: المعنى: والشجرة الملعُونة في القرآن كذلكن وهي شجرة الزقُّوم، والفتنة في الشجرة الملعونة من وجهين:
الأول: أن ابا جهلٍ، قال: زعم صاحبكم أنَّ نار جهنَّم تحرق الحجر، حيث قال تعالى: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] ثم يقول: إنَّ في النَّار شجراً، والنَّار تأكلُ الشَّجر، فكيف تولَّد فيها الشَّجر.
والثاني: قال ابنُ الزبعرى: إن محمداً يخوفنا بالزقُّوم، وما نعلم الزقُّوم إلاَّ التَّمر والزُّبد، فتزقَّموا منه، فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63] .(12/322)
فإن قيل: ليس في القرآنِ لعن هذه الشجرة.
فالجواب من وجوهٍ:
الأول: المراد لعن الكفَّار الذين يأكلونها.
الثاني: أنَّ العرب تقول لكلِّ طعام ضارٍّ: إنَّه ملعونٌ.
الثالث: أنَّ اللَّعن في اللغة: هو الإبعاد، فلما ك انت هذه الشجرةُ مبعدة عن صفات الخير، سمِّيت ملعونة.
وقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الشجرة الملعونةُ في القرآن: بنو أميَّة، يعني: الحكم بن أبي العاص، قال: رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المنامِ أنَّ ولد مروان يتداولون منبرهُ، فقصَّ رؤياه على أبي بكرٍ وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في خلوة من مجلسه، فلمَّا تفرَّقُوا، سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحكم يخبر برؤيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاشتدَّ ذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واتَّهم عمر في إفشاء سرِّه، ثم ظهر لهُ أنَّ الحكم كان يستمعُ إليهم، فنفاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذه القصَّة كانت في المدينة، والسورة [مكية] ، فيبعد هذا التفسير، إلاَّ أن يقال: هذه الآية مدنية، ولم يقل به أح\ٌ، ويؤكِّد هذا التَّأويل قول عائشة - رضي الله تعالى عنها - لمروان: لعن الله أباك، وأنت في صلبه، فأنت بعض من لعنة الله.
وقيل: الشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود؛ لقوله تعالى: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ} [المائدة: 78] .
وقيل: الشَّجرة الملعونة هي الَّتي تلتوي على الشَّجر، فتخنقه، يعني «الكشوث» .
فإن قيل: إنَّ القوم طلبوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الإتيان بالمعجزاتِ القاهرة، فأجاب بأنَّه لا مصلحة في إظهارها؛ لأنَّها لو ظهرت، ولم يؤمنوا، نزل عليهم عذاب الاستئصال، وذلك غير جائزٍ، فأيُّ تعلقٍ لهذا الكلام بذكرِ الرؤيا التي صارت فتنة للنَّاس وبذكر الشجرة [التي صارت فتنة للنَّاس] .
فالجواب: أنَّ التقدير كأنَّه قيل: إنَّهم لما طلبوا هذه المعجزات، ثم إنَّك لم تظهرها، صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنَّك لست بصادق في دعوى النبوَّة، إلاَّ أنَّ وقوع هذه الشبهة لا يضيق صدرك، ولا يوهنُ أمرك، ولا يصير سبباً لضعف حالك؛ ألا ترى أنَّ تلك الرؤيا صارت سبباً لوقوع الشبهة العظيمة عندهم، ثم إنَّ قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفاً في أمرك، فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا يوجبُ فتوراً في حالك، ولا ضعفاً في أمرك.(12/323)
ثم قال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ} أي التخويف {إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} ، أي: تمرُّداً وعتُواً عظيماً، والمقصود من ذلك وجهٌ آخر في أنَّه ما أظهر المعجزات التي اقترحوها؛ لأنَّ هؤلاء خوفوا بأشياء كثيرة من الدنيا والآخرة، وبشجرة الزَّقوم، فما زادهم هذا التخويفُ إلاَّ طغياناً كببيراً؛ وذلك يدلُّ على قسوة قلوبهم، وتماديهم في الغيِّ والطُّغيان.
وإذا كان كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها، لم ينتفعوا بها، ولم يزدادوا إلاَّ تمادياً ف يالجهل والعناد، وإذا كان كذلك، وجب في الحكمة ألاَّ يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات.
قرأ العامة «ونُخوِّفهُم» بنون العظمة، والأعمش بياء الغيبة.(12/324)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
في النظم وجوهٌ:
أولها: أنه تعالى، لمَّا ذكر أنَّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - كان في محنةٍ عظيمة من قومه، بيَّن أنَّ حال جميع الأنبياءِ مع أهل زمانهم كذلك؛ ألا ترى أنَّ الأول منهم آدمُ - صلوات الله وسلامه عليه - ثمَّ إنه كان في محنة من إبليس.
وثانيها: أنَّ القوم، إنَّما نازعُوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعاندوه، واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين: الكبر والحسد، فبيَّن سبحانه وتعالى أنَّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الكفر، والخروج من الإيمان، فهذه بليَّةٌ عظيمةٌ قديمةٌ.
وثالثها: أنَّهم لما وصفهم الله تعالى بقوله: {فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء: 60] بيَّن ما هو السبب لحصُول هذا الطُّغيان، وهو قول إبليس «لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلاً» فلهذا المقصود ذكر الله تعالى قصَّة آدم وإبليس.
واعلم أنَّ هذه القصَّة ذكرها الله تعالى في سبع سورٍ؛ البقرةِ، والأعراف، والحجر، وهذه السورة، والكهف، وطه، وص، وقد تقدم الاستقصاء عليها في البقرة، فليلتفت إليه. وقوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} استفهامٌ بمعنى الإنكار، معناه: أنَّ أصلي أشرفُ من أصله؛ فوجب أن أكون أشرف منه، والأشرف لا يخدم الأدنى.
قوله تعالى: «طيناً» : فيه أوجه:
أحدها: أنه حال من «لِمَنْ» فالعامل فيها «أأسجدُ» أو من عائد هذا الموصول، أي: خلقتهُ طيناً، فالعامل فيها «خَلقْتَ» وجاز وقوع طينٍ حالاً، وإن كان جامداً، لدلالته على الأصالة؛ كأنه قال: متأصِّلاً من طين.(12/324)
الثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ الخافض، أي: من طينٍ، كما صرَّح به في الآية الأخرى: {وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] .
الثالث: أنه منتصبٌ على التمييز، قاله الزَّجَّاجِ، وتبعه ابن عطيَّة، ولا يظهر ذلك؛ إذ لم يتقدَّم إبهامُ ذاتٍ ولا نسبةٍ.(12/325)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ} : قد تقدم مستوفى في الأنعام [الآية: 40] . وقال الزمخشريُّ: «الكافُ للخطاب، و» هذا «مفعولٌ به، والمعنى: أخبرني عن هذا الذي كرَّمته عليَّ، أي: فضَّلته، لِمَ كرَّمتهُ، وأنا خيرٌ منه؟ فاختصر الكلام» . وهذا قريبٌ من كلام الحوفيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال ابن عطيَّة: «والكاف في» أرَايْتَكَ «حرف خطابٍ، لا موضع لها من الإعراب، ومعنى» أرَأيْت «أتأمَّلت ونحوه، كأنَّ المخاطب يُنبِّه المخاطب؛ ليستجمع لما ينصُّ عليه بعد. وقال سيبويه:» هي بمعنى أخبرني «، ومثل بقوله:» أرَأيْتكَ زيداً، أبو من هُوَ؟ «وقول سيبويه صحيحٌ؛ حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأمَّا في الآية فهو كما قلت، وليست التي ذكر سيبويه» قلت: وهذا الذي ذكره ليس بمسلَّم، بل الآية كمثاله، غاية ما في الباب: أنَّ المفعول الثاني محذوفٌ، وهو الجملة الاستفهامية المقدَّرة؛ لانعقادِ الكلام من مبتدأ وخبر، لو قلت: هذا الذي كرَّمته عليَّ، لم كرَّمته؟ .
وقال الفرَّاء: «الكاف في محلِّ نصبٍ، أي: أرَأيْتَ نفسك؛ كقولك: أتدبَّرْتَ آخِرَ أمرك، فإني صانعٌ فيه كذا، ثم ابتدأ: هذا الذي كرَّمت عليَّ» .
وقال ابن الخطيب: يمكن أن يقال: «هذا» مبتدأ محذوف عنه حرفُ الاستفهام، و «الَّذي» مع صلته خبره، تقديره: أخبرني، أهذا الذي كرَّمتهُ عليَّ؛ وهذا على وجه الاستصغار، والاستحقار، وإنَّما حذف حرف الاستفهام؛ لأنَّه حصل في قوله: «أرَأيْتكَ» . فأغنى عن تكريره.
وقال أبو البقاء: «والمفعول الثاني محذوفٌ، تقديره: تفضيله أو تكريمه» . قال شهاب الدين: وهذا لا يجوز؛ لنَّ المفعول الثاني في هذا الباب لا يكون إلا جملة مشتملة على استفهام.
قال أبو حيَّان: «ولو ذهب ذاهبٌ غلى أنَّ الجملة القسميَّة هي المفعول الثاني، لكان(12/325)
حسناً» . قال شهاب الدين: يردُّ ذلك التزامُ كون المفعولِ الثاني جملة مشتملة على استفهامٍ، وقد تقرَّر جميع ذلك في الأنعام، فعليك باعتباره ههنا.
قوله: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} قرأ ابن كثيرٍ بإثبات ياءِ المتكلِّم وصلاً ووقفاً، ونافعٌ وأبو عمرو بإثباتها وصلاً، وحذفها وقفاً، وهذه قاعدةُ من ذكر في الياءاتِ الزائدةِ على الرَّسم، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، وكل هذا في حرف هذه السورة، أمَّا الذي في المنافقين [الآية: 10] في قوله {لولاا أخرتنيا} فأثبته الكلُّ؛ لثبوتها في الرسم الكريم.
قوله «لأحْتَنِكَنَّ» جواب القسم الموطَّأ له باللام، ومعنى «لأحْتَنِكَنَّ» لأستولينَّ عليهم استيلاء من جعل في حنكِ الدَّابة حبلاً يقودها به، فلا تأبى ولا [تشمسُ] عليه، يقال: حَنكَ فلانٌ الدَّابة، واحتنكها، أي: فعل بها ذلك، واحْتَنكَ الجرادُ الأرض: أكل نباتها، قال: [الرجز]
3434 - نَشْكُو إليْكَ سَنةً قَدْ أجْحَفتْ ... جَهْداً إلى جَهْدٍ بِنَا فأضْعَفتْ
واحْتَنكَتْ أمَوالنَا وجلَّفَتْ
وحكى سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أحْنَكُ الشَّاتينِ» ، أي: آكلهما، أي: أكثرهما [أكْلاً] .
وذكر المفسرون في الاحتناك قولين:
أحدهما: أنه عبارةٌ عن الأخذِ بالكليَّة، يقال: احتنك فلانٌ مال فلانٍ: إذا استقصاه، فأخذهُ الكلِّيَّة، واحتنك الجراد الزَّرع: إذا أكلهُ بالكليَّة.
والثاني: أنه من قول العرب: حنَّك الدابَّة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به.
فعلى الأوَّل معناه: لأستأصلنهم بالإغواء.
وعلى الثاني: لأقُودنَّهم إلى المعاصي، كما تقادُ الدَّابة بحبلها.
ثم قال: «إلاَّ قليلاً» وهم المعصومون الذين استثناهم الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] .
فإن قيل: كيف ظنَّ إبليسُ اللَّعين هذا الظنَّ الصَّادق بذريَّة آدم - صلوات الله عليه -؟ .
قيل: فيه وجهان:(12/326)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
الأول: أنه سمع الملائكة يقولون: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء} [البقرة: 30] فعرف ذلك.
والثاني: أنه وسوس إلى آدم - صلوات الله عليه - فلم يجدْ له عزماً، فقال: الظاهر أنَّ أولاده يكونون مثله في ضعف العزم.
وقيل: لأنه عرف أنه مركب من قوَّة بهيمية شهوانية، وقوَّة وهميَّة شيطانية، وقوة عقليَّة ملكيَّة، وقوَّة سبعيَّة غضبيَّة، وعرف أنَّ بعض تلك القوى تكون هي المستولية في أوَّل الخلقة، ثم غنَّ القوَّة العقلية إنما تكمل في ىخر الأمر، ومتى كان الأمر كذلك، كان ما ذكره إبليس لازماً.
قوله
تعالى
: {اذهب
فَمَن} : تقدَّم أن الباء تدغم في الفاء في ألفاظٍ منها هذه، عند أبي عمرو، والكسائي، وحمزة في رواية خلادٍ عنه؛ بخلاف في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك} [الحجرات: 11] .
وهذا ليس من الذَّهاب الذي هو ضدُّ المجيء، وإنما معناه: امضِ لشأنك الذي اخترته، والمقصود التخلية، وتفويض المر إليه، كقول موسى - صلوات الله عليه -: {فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} [طه: 97] ثم قال عزَّ وجلَّ: {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} .
فإن قيل: الأولى أن يقال: فإن جهنَّم جزاؤهم؛ ليعود الضمير إلى قوله: {فَمَن تَبِعَكَ} ؟ فالجواب من وجوهٍ:
الأول: تقديره: جزاؤهم وجزاؤكم؛ لأنه تقدَّم غائب ومخاطب في قوله: {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} فغلَّب المخاطب على الغائب، فقيل: جزاؤكم.
والثاني: يجوز أن يكون الخطاب مراداً به «مَنْ» خاصة، ويكون ذلك على طريق الالتفات.
والثالث: أنه - صلوات الله وسلامه عليه - قال: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيِّئةً فَعليْهِ وِزْرُهَا ووِزْرُ مِنْ عَمِلَ بِهَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزْرِ ذلك العامل، فلما كان إبليس هو الأصل في كلِّ المعاصي، صار المخاطب بالوعيد هو إبليس.
قوله تعالى: «جَزَاءً» في نصبه أوجهٌ:
أحدها: أنّه منصوبٌ على المصدر، الناصب له المصدر قبله، وهو مصدر مبين لنوع المصدر الأول.(12/327)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
الثاني: أنه منصوب على المصدر ايضاً، لكن بمضمرٍ، أي: يجازون جزاء.
الثالث: أنه حالٌ موطئة ك «جَاءَ زيدٌ رجُلاً صَالحاً» .
الرابع: أنه تمييزٌ، وهو غير متعقَّل.
و «مَوفُوراً» اسم مفعولٍ، من وفرته، ووفر يستعمل متعدِّياً، ومنه قول زهير: [الطويل]
3435 - ومَنْ يَجْعَلِ المعرُوفَ من دُونِ عِرْضهِ ... يَفِرهُ ومَنْ لا يتَّقِ الشَّتمَ يُشتمِ
والآية الكريمة من هذا، ويستعمل لازماً، يقال: وفرَ المالُ يَفِرُ وفُوراً، فهو وَافِرٌ، فعلى الأول: يكون المعنى جزاء موفَّراً، وعلى الثاني: يكون المعنى جزاء وافراً مكمَّلاً يقال: وفرتهُ أفرهُ وفْراً.
قوله
تعالى
: {واستفزز
} : جملة أمرية عطفت على مثلها من قوله «اذهَبْ» . و «من اسْتطَعْتَ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنها موصولة في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز، أي: استفزز الذي استطعت استفزازه منهم.
والثاني: أنها استفهامية منصوبة المحلِّ ب «استطعت» قاله أبو البقاء، وليس بظاهرٍ؛ لأن «اسْتفْزِزْ» يطلبه مفعولاً به، فلا يقطع عنه، ولو جعلناه استفهاماً، لكان معلقاً له، وليس هو بفعلٍ قلبيٍّ [فيعلقُ] .
والاسْتِفْزازُ: الاستخفاف، واستفزَّني فلانٌ: استخفَّني حتى خدعني لما يريده. قال: [الطويل]
3436 - يُطِيعُ سَفيهَ القَومِ إذ يَسْتفِزُّهُ ... ويَعْصِي حَليماً شَيَّبتهُ الهَزاهِزُ
ومنه سمِّي ولد البقرة «فزًّا» . قال الشاعر: [البسيط]
3437 - كَمَا اسْتغَاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ ... خَافَ العُيونَ ولمْ يُنْظرْ بِهِ الحَشَكُ(12/328)
وأصل الفزِّ: القطعُ، يقال: تفزَّز الثَّوب، أي: تقطَّع.
ويقال: أفزَّه الخوف، واستفزَّه، أي: أزعجه، واستخفَّه.
واعلم أنَّ إبليس، لمَّا طلب من الله تعالى الإمهال إلى يوم القيامة؛ لأجل أن يحتنك ذريَّة آدم - صلوات الله وسلامه عليه - ذكر الله تعالى أشياء:
أولها: قوله عزَّ وجلَّ: {اذْهَبْ} أي: أمهلتك هذه المدَّة.
وثانيها: قوله تعالى: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ} .
وتقدَّم أن الاستفزاز: الاستخفاف، وقيل: اسْتَنْزَلَ واستجهد.
وقوله: «بِصَوْتِكَ» .
قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقتادة: بدعائك غلى معصية الله.
وقال الأزهريُّ: ادعهم دعاء تستخفُّهم به إلى إجابتك.
وقال مجاهدٌ: بصوتك، أي: بالغناءِ واللَّهو.
وهذا أمرُ تهديد، كما يقال: اجتهد جهدك؛ فسترى ما ينزل به:
وثالثها: قوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم} أي: اجمع عليهم الجموع من جندك، يقال أجلب عليه وجلب، أي: جمع عليه الجموع.
قال الفرَّاء: هو من الجَلبةِ، وهو الصِّياح.
وقال أبو عبيدة: أجْلبُوا وجَلبُوا: من الصِّياح.
وقال الزجاج في «فَعَل، وأفْعَلَ» : أجلب على العدوِّ وجلب، إذا جمع عليه الخيل.
وقال ابن السِّكيت: يقال: هم يجلبون عليه؛ لمعنى أنهم يعينون عليه.
وروى ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ: أجلب الرجل على الرجل، إذا توعَّده بالشرِّ، وجمع عليه الجمع، فعلى قول الفرَّاء معنى الآية: صح عليهم بخيلك ورجلك، وعلى قول الزجاج: اجمع عليهم كلَّ ما تقدر عليه من مكائدك، وعلى هذا تكون الباء في قوله: «بخيلك» زائدة.
وعلى قول ابن السِّكيت: معناه: أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف، تقديره: استعن على إغوائهم بخيلك ورجلك، وهو يقرب من قول ابن الأعرابيِّ.(12/329)
والمراد بالخيل والرجل: قال ابن عباس: كلُّ راكبٍ أو راجلٍ في معصية الله، فهو من خيل إبليس وجنوده.
وقال مجاهدٌ وقتادة: إن لإبليس جنداً من الشياطين بعضهم راكبٌ، وبعضهم راجلٌ.
وقيل: المراد ضرب المثل؛ كما يقال للرجل المجدِّ في الأمر: جئت بالخيل والرجل، وهذا الوجه أقرب، والخيل يقع على الفرسان، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«يا خَيْلَ الله، اركبي» .
وقد يقع على الأفراس خاصة.(12/330)
قوله: «ورجلك» قرأ حفص بكسر الجيم والباقون بسكونها، فقراءة حفص «رَجِل» فيها بمعنى «رَجُل» بالضم بمعنى: راجل، يقال: رَجِل يَرْجِل: إذا صار راجلاً، مثل: حَذِر وحَذْر، ونَدِس ونَدْس، وهو مفرد أريد به الجمع.
وقال ابن عطية: هي صفة، يقال: فلان يمشي راجلاً، إذا كان غير راكب، ومنه قول الشاعر:
3438 - ... ... ... ... ....... ... ... ... ... . رجلاً إلا بأصحاب
يشير إلى البيت المشهور، وهو: [البسيط]
أما أقاتل عن ديني على فرس ... ولا كذا رجلاً إلا بأصحابِ
اراد فارساً ولا راجلاً.
وقال الزمخشري: إن «فَعِلاً» بمعنى «فاعل» ، نحو: تَعِب وتاعب، ومعناه: جمعك الرجل، وبضم جيمه أيضاص فيكون مثل: حَذِرَ وحَذُرَ ونَدِسَ ونَدُسَ، وأخوات لهما.
وأما قراءة الباقين، فتحتمل أن تكون تخفيفاً من «رَجُل» بكسر الجيم أو ضمها، والمشهور: أنه اسم جمع لراجلٍ، كرَكْبٍ وصَحْبٍ في راكبٍ وصاحبٍ، والأخفش يجعل هذا النحو جمعاً صريحاً.
وقرأ عكرمة «ورِجَالِكَ» جمع رجلٍ بمعنى راجل، أو جمع راجل كقائم وقيام. وقرئ «ورُجَّالِكَ» بضم الراء وتشديد الجيم، وهو جمع راجل، كضاربٍ وضُرَّاب.
وقال ابن الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخبرنا ثعلبٌ عن الفراء، قال: يقال: راجلٌ ورَجِلٌ ورَجْلٌ ورَجْلان بمعنى واحد.
والباء في «بخَيْلِكَ» يجوز أن تكون الحالية، أي: مصاحباص بخيلك، وأن تكون مزيدة كما تقدم، قال:
3439 - ... ... ... ... ... ... . ..... ... . . لا يَقْرَأنَ بالسُّورِ
ورابعها: قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد} والمشاركة في الأنوال، قال(12/331)
مجاهدٌ، والحسن، وسعيد بن جبيرٍ: كل ما أصيب من حرامٍ، أو أنفق في حرامٍ.
وقال قتادة: هو جعلهم البحيرة والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَامَ.
وقال الضحاك: هو ما يذبحونه لآلهتهم.
وقال عكرمة: هو تبكيتهم آذان الأنعام.
وقيل: هو جعلهم من أموالهم شيئاً لغير الله، كقولهم: {هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: 136] والأوَّل أظهر، قاله القاضي. وأما المشاركة في الأولاد، فقال عطاء عن ابن عباسٍ: هو تسمية الأولاد ب «عَبدِ شمسٍ، وعَبْدِ العُزَّى، وعَبْدِ الحَارثِ، وعَبْد الدَّار ونحوها» .
وقال الحسن وقتادة: هو أنَّهم هوَّدُوا أولادهم، ونصَّروهم ومجّسُوهم.
وقيل: هو إقدامهم على قتل الأولاد.
وروي عن جعفر بن محمدٍ، أن الشَّيطان يقعد على ذكر الرَّجل فإذا لم يقل: بسم الله، أصاب معه امرأته، وأنزل في فرجها كما ينزل الرَّجل وروي في بعض الأخبار «إنَّ فيكم مُغربِينَ، قيل: وما المُغرِبُونَ؟ قال: الذين يشارك فيهم الجنّ» . وروي أنَّ رجلاً قال لابن عبَّاس: إنَّ امراتِي استيقظت وفي فرجها شعلةُ نَارٍ، اقل: ذلِكَ من وطْءِ الجِنِّ.
وفي الآثار: إنَّ إبليس، لمَّا أخرج إلى الأرض، قال: يا ربِّ، أخْرَجتَنِي من الجنَّة؛ لأجل آدم فسلِّطنِي عليه، وعلى ذُرِّيته، قال: أنت مسلَّطٌ، قال: لا أستطيعه إلا بكا فزدني، قال: استفزز من استطعت منهم بصوتك.
قال آجم: يا ربِّ، اسلَّطت إبليس عليَّ، وعلى ذُريَّتي، وإنَّني لا أستطيعهُ إلاَّ بك، قال: لا يُولَدُ لك ولدٌ إلاَّ وكَّلتُ بِهِ مَنْ يَحْفظونهُ.
قال: زِدْنِي! قال: الحسنةُ بعشرِ أمثالها، والسَّيئةُ بمثلها، قال: زدْنِي، قال: التَّوبةُ معروضةٌ ما دَامَ الرُّوحُ في الجسدِ، قال: زدْنِي، فقال: {قُلْ ياعبادي الَّذِينَ أَسْرَفُواْ} [الزمر: 53] .(12/332)
وخامسها: قوله تعالى {وَعِدْهُمْ} .
قيل: معناه: قل لهم: لا جنَّة، ولا نار، ولا بعث.
وقيل: [خذ] منهم الجميل في طاعتك، أي بالأمانِي الباطلة؛ كقوله لآدم - صلوات الله عليه -: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20] .
وقيل: عدهم بشفاعةِ الأصنامِ عند الله، والأنساب الشريفة، وإيثار العاجل على الآجل.
واعلم أنَّ مقصود الشيطان الترغيب في اعتقاد الباطل، وعمله، والتَّنفير عن اعتقاد الحقِّ، ومعلومٌ أنَّ الترغيب في الشيء لا يمكن إلاَّ بأن يقرر عنده ألاَّ بأن يقرَّر عنده أنه لا فائدة في فعله، ومع ذلك يفيد المضارَّ العظيمة، وإذا ثبت هذا، فالشيطان إذا دعا إلى معصيةٍ، فلا بدَّ وأن يتقرَّر أولاً: أنَّه لا مضرَّة في فعله ألبتَّة، وذلك لا يمكن إلا إذا قال: لا معاد، ولا جنَّة ولا نار، ولا حياة غير هذه الحياة الدنيا، فإذا فرغ من هذا المقام، قرَّر عنده أنَّ هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللَّذة والسُّرور، ولا حياة للإنسان في هذه الحياة الدنيا إلاَّ به، فتفويتها غبنٌ وخسران؛ كقوله: [الطويل]
3440 - خُذُوا بِنَصِيبٍ مِنْ نَعيمٍ ولَذَّةٍ ... فَكُلٌّ وإنْ طَالَ المَدَى يَتَصَرَّمُ
فهذا هو طريقُ الدَّعوة إلى المعصية، وأمَّا طريقُ التنفير من الطاعات، فهو أن يقرِّر عنده أوَّلاً أنه لا فائدة فيها للعبادِ والمعبود، فكانت عبثاً، وأنَّها توجبُ التَّعب والمحنة، وذلك أعظم المضارِّ.
فقوله: {وَعِدْهُمْ} يتناول جميع هذه الأقسام.
قوله تعالى: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان} من باب الالتفات، وإقامة الظاهر مقام المضمر؛ إذ لو جرى على سننِ الكلامِ الأوَّل، لقال: وما تعدهم، بالتاء من فوق.
قوله تعالى: {إِلاَّ غُرُوراً} فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه نعت مصدر محذوف وهو نفسه [مصدر] ، الأصل: إلا وعداً غروراً، فيجيء فيه ما في «رجلٌ عدلٌ» [أي] : إلاَّ وعداً ذا غرورٍ، أو على المبالغةِ، أو على: وعداً غارًّا، ونسب الغرور إليه مجازاً.
الثاني: أنه مفعول من أجله، أي: ما يعدهم ممَّا يعدهم من الأماني الكاذبة إلاَّ لأجل الغرور.
الثالث: أنه مفعولٌ به على الاتِّساعِ، أي: ما يعدهم إلا الغرور نفسه.
والغرورُ: تزيينُ الباطل مما يظنُّ أنه حقٌّ.
فإن قيل: كيف ذكر الله هذه الأشياء، وهو يقول: إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء.(12/333)
قيل: هذا على طريق التهديد؛ كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وكقول القائل: اعمل ما شئت؛ فسترى.
ولما قال تعالى له: افعل ما تقدر عليه، قال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} .
قال الجبائي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: المراد كلُّ عباد الله تعالى من المكلَّفين؛ [لأن الله] تعالى استثنى منه في آياتٍ كثيرةٍ من تبعه بقوله: {إِلاَّ مَنِ اتبعك} [الحجر: 42] ثم استدلَّ بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع النَّاس، وتخبيط عقولهم، وأنه لا قدرة له إلاَّ على الوسوسة، وأكَّد ذلك بقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] .
وأيضاً: لو قدر على هذه الأفعال، لكان يجب أن يخبط أهل الفضل والعلم، دون سائر النَّاس؛ ليكون ضرره أتمَّ، ثم قال: وإنَّما يزولُ عقله؛ لأنَّ الشيطان يقدم عليه، فيغلب الخوف عليه، فيحدثُ ذلك المرض.
وقيل: المراد بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي} أهل الفضل والإيمان؛ لما تقدَّم من أنَّ لفظة العباد في القرآن مخصوصةٌ بالمؤمنين؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100] .
ثم قال: {وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي: حافظاً، ومن توكل الأمور إليه، وذلك أنَّه تعالى، لمَّا وكل إبليس بأن يأتي بأقصى ما يقدر عليه من الوسوسةِ، وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان، قال: {وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} ، أي أنَّ الشيطان، وإن كان قادراً؛ فإنَّ الله تعالى أقدر منه، وأرحم بعباده، فهو يدفع عنهم كيد الشيطان.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ المعصوم من عصمه الله تعالى، وأنَّ الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الإضلال لأنَّه لو كان الإقدامُ على الحقِّ، والإحجام عن الباطلا إنما يحصل للإنسان من نفسه، لوجب أن يقال: وكفى للإنسان بنفسه في الاحتراز عن الشَّيطان، فلمَّا لم يقل ذلك، بل قال: {وكفى بِرَبِّكَ} علمنا أنَّ الكل من الله تعالى، ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلاَّ بعصمته، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيقه.
فصل
قال ابن الخطيب: في الآية سؤالان:(12/334)
الأول: أن إبليس، هل كان عالماً بأن الذي تكلم معه بقوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ} هو إله العالم، أو لم يعلم ذلك؟ فإن علم ذلك، ثم إنه تعالى قال: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعاً له من المعصية، مع أنَّه سمعه من الله تعالى من غير واسطة؟ وإن لم يعلم أنَّ هذا القائل هو إله العالم، فكيف قال: «أرأيتك هذا الذي كرمت علي» ؟! .
والجواب: لعلَّه كان شاكًّا في الكلِّ أو كان يقول في كلِّ قسم ما يخطر بباله على سبيل الظنِّ.
والسؤال الثاني: ما الحكمة في كونه أنظره إلى يوم القيامة، ومكَّنه من الوسوسة، والحكيمُ إذا أراد أمراً، وعلم أنَّ شيئاً من الأشياء يمنع من حصوله، فإنَّه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع؟ .
والجوابُ: أمَّا مذهبنا، فظاهر في هذا الباب، وأمَّا المعتزلة، فقال الجبائيُّ: علم الله أن الذين كفروا عند وسوسته يكفرون، بتقدير ألا يوجد إبليس، وإذا كان كذلك، لم يكن في وجوده مزيد مفسدة.
وقال أبو هاشم: لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة، إلاَّ أنه تعالى أبقاه تشديداً للتَّكليف على الخلق؛ ليستحقُّوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثَّواب، وقد تقدَّم الكلام على ذلك في الأعراف والحجر.(12/335)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
قوله: تعالى: {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك فِي البحر} الآية.
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته، وقد تقدم أن المقصود في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد، فإذا امتدَّ الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد، فذكر ها هنا وجوه الإنعامات في أحوال ركوب البحر، فأوَّل كيفية حركة الفلك على وجه البحر، فقال جلَّ ذكره: {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك فِي البحر} والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حالٍ، وقد تقدَّم في تفسير قوله تعالى: {بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} [يوسف: 88] أي: ربكم الذي يسير لكم الفلك على وجه البحر؛ {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} في طلب التجارة {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ، والخطاب في قوله: «ربُّكُمْ» وفي قوله «بِكُمْ» للكلِّ، والمراد من الرحمة: منافع الدنيا ومصالحها.
والثاني: قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر} أي: خوف الغرق «ضَلَّ» ، بطل {مَن(12/335)
تَدْعُونَ} من الآلهة {إِلاَّ إِيَّاهُ} إلا الله، فلم تجدوا مغيثاً سواه، {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} من الغرق، والشدة، وأهوال البحر، وأخرجكم {إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} عن الإيمان، والإخلاص، والطاعة؛ كفراً منكم لنعمه، {وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} .
قوله تعالى: {إِلاَّ إِيَّاهُ} : فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنه لم يندرج فيما ذكر، إذ المراد به آلهتهم من دون الله.
والثاني: متصلٌ؛ لأنهم كانوا يلْجَئُونَ إلى آلهتهم، وإلى الله تعالى.
والثالث: {أَفَأَمِنْتُمْ} بعد ذلك {أَن يَخْسِفَ بِكُم} ربُّكم يغوِّر بكم [جانب] البرِّ.
قال الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الخسفُ والخسوف دخُولُ الشيءِ في الشَّيء، يقال عينٌ خاسفةٌ التي غابت حدقتها في الرَّأس، وعينٌ من الماس خاسفةٌ، أي: غائرة الماءِ، وخسفتِ الشَّمس أي: احتجبت، وكأنَّها وقعت تحت حجابٍ، أو دخلت في جحر، فقوله: {يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} أي: يغيبكم في جانب البرِّ، وهو الأرض، وإنما قال: جانب البرِّ؛ لأنَّه ذكر البحر أولاً، فهو جانب، والبر جانبٌ، فأخبر الله سبحانه وتعالى؛ أنه كما كان قادراً على أن يغيبهم في الماءِ، فهو قادر على أن يغيبهم في الأرض، فالغرق تغييبٌ تحت الماء، كما أنَّ الخسف تغييبٌ تحت التُّراب.
وتقرير الكلام أنَّه تعالى ذكر أولاً أنَّهم كانوا خائفين من هول البحر، فلمَّا نجَّاهم منه آمنوا، فقال: هَبْ أنَّكم نجوتم من هول البحر، فكيف أمنتم من هو البرِّ؛ فإنَّه قادرٌ على أن يسلِّط عليكم آفاتِ البرِّ من جانب التَّحتِ، أو من جانب الفوق، فأما من جانب التَّحت، فالخسف، وأما من جانب الفوق، فإمطاركم الحجارة، وهو المراد من قوله {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} فكما يتضرعون إلى الله تعالى عند ركوب البحر فكذا يتضرَّعون إليه في كل الأحوال، والحَصَبُ في اللغة: المرمى، يقال: خصبته أحصبه، إذا رميته والحَصْبُ: الرَّميُ ومنه قوله تعالى:
{حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ، أي: يُلقَوْنَ فيها، ومعنى قوله «حَاصِباً» أي عذاباً يحصبهم، أي: يرميهم بحجارةٍ.
قال أبو عبيدة والقتيبيُّ: الحاصبُ: الرِّيحُ التي ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصِّغار؛ قال الفرزدق:
3441 - مُسْتَقْبِلينَ شَمالَ الشَّامِ تَضْرِبُهمْ ... حَصْبَاءُ مِيْلُ نَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
ويسمَّى السَّحاب الذي يرمي بالبرد والثَّلج حاصباً، لأنه يرمي بهما رمياً، ولم يؤنثه: إمَّا لأنه مجازيٌّ، أو على النسب، أي: ذات حصبٍ.(12/336)
وقال الزجاج: الحاصب التُّراب الذي فيه الحصباء، فالحاصب على هذا هو ذُو الحصباء، مثل اللاَّبن والتَّامر.
{ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} قال قتادة: مَانِعاً.
قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ} : استفهام توبيخ وتقريع، وقدَّر الزمخشريُّ على قاعدته معطوفاً عليه، أي: أنجوتم، فأمنتم.
وقوله تعالى جلَّ ذكره ولا إله إلا هو: {جَانِبَ البر} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوبٌ على الظرف. و «بِكُمْ» [يجوز] أن [تكون] حالية، أي مصحوباً بكم، وأن تكون للسببية.
قيل: ولا يلزم من خسفه بسببهم أن يهلكوا.
وأجيب بأنَّ المعنى: جانب البرِّ الذي أنتم فيه، فيلزم بخسفه هلاكهم، ولولا هذا التقدير، لم يكن في التوعُّد به فائدة.
قوله: «أن نخسف» «أو نُرسِلَ» «أو نُعِيدكم» «فَنُرْسِلَ» [ «فنُغْرِقكم» ] قرأها بنون العظمة ابن كثير، وأبو عمرو، والباقون بالياء فيها على الغيبة، فالقراءة الأولى على سبيل الالتفات من الغائب في قوله «ربُّكم» إلى آخره، والقراءة الثانية على سننِ ما تقدَّم من الغيبة.(12/337)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ} : يجوز أن تكون المتصلة، أي: أيُّ الأمرين كائن؟ ويجوز أن تكون المنقطعة، و «أن يعيدكم» مفعول به.
قوله «تَارةً» بمعنى مرَّة، وكرَّة، فهي مصدرٌ، ويجمع على تيرٍ وتاراتٍ، قال الشاعر: [الطويل]
3442 - وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارةً فَيَبْدُو، وتَاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ(12/337)
وألفها تحتمل أن تكون عن واوٍ أو ياءٍ، وقال الراغب: «وهو فيما قيل: [مِنْ] تار الجرحُ: التأمَ» .
قوله تعالى: «قَاصِفاً» القاصِفُ يحتمل أن يكون من «قَصَفَ» متعدِّياً، يقال: قصفت الرِّيحُ الشجر تقصفها قصفاً؛ قال أبو تمَّام: [البسيط]
3443 - إنَّ الرِّياحَ إذَا مَا أعْصفَتْ قَصفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولمْ يَعْبَأنَ بالرَّتمِ
فالمعنى: أناه لا تلفي شيئاً إلا قصفته، وكسرته.
والثاني: أن يكون من «قَصِفَ» قاصراً، أي: صار له قصيفٌ، ياقل: قَصِفتِ الرِّيحُ، تقصفُ، أي: صوَّتتْ، و «مِنَ الرِّيحِ» نعتٌ.
قوله تعالى: «قَاصِفاً» القاصِفُ يحتمل أن يكون من «قَصَفَ» متعدِّياً، ياقل: قصفت الرِّيحُ الشجر تقصفها قصفاً؛ قال أبو تمَّام: [البسيط]
3443 - إنَّ الرِّيَاحَ إذَا مَا أعْصفَتْ قَصفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولمْ يَعْبَأنَ بالرَّتمِ
فالمعنى: أنها لا تلفي شيئاً إلا قصفته، وكسرته.
والثاني: أن يكون من «قَصِفَ» قاصراً، أي: صار له قصيفٌ، يقال: قَصِفتِ الرِّيحُ، تقصفُ، أي: صوَّتتْ، و «مِنَ الرِّيحِ» نعتٌ.
قوله تعالى: {بِمَا كَفَرْتُمْ} يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى «الذي» والباء للسببية، أي: بسبب كفركم، أو بسبب الذي كفرتم به، ثم اتُّسعَ فيه، فحذفت الباءُ، فوصل الفعل إلى الضمير، وإنَّما احتيج إلى ذلك؛ لاختلافِ المتعلق.
وقرأ أبو جعفرٍ، ومجاهدٌ: «فتُغْرِقَكُم» بالتاء من فوق أسند الفعل لضمير الرِّيح، وفي كتاب أبي حيَّان: «فتُغْرِقَكُمْ» بتاء الخطاب مسنداً إلى «الرِّيح» والحسن وأبو رجاء بياء الغيبة، وفتح الغين، وتشديد الراء، عدَّاه بالتضعيف، والمقرئ لأبي جعفر كذلك إلاَّ أنه بتاء الخطاب. قال شهاب الدين: هو إمَّا سهوٌ، وإمَّا تصحيفٌ من النساخ عليه؛ كيف يستقيم أن يقول بتاءِ الخطاب، وهو مسندٌ إلى ضمير الرِّيحِ، وكأنه أراد بتاء التأنيث، فسبقه قلمه أو صحَّف عليه غيره.
وقرأ العامة «الرِّيحِ» بالإفراد، وأبو جعفرٍ: «الرِّياح» بالجمع.
قوله: «به تَبِيعاً» يجوز في «بِهِ» أن يتعلَّق ب «تَجِدُوا» وأن يتعلق ب «تَبِيعاً» ، وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لنه حالٌ من «تبيعًا» والتَّبِيعُ: المطالب بحقِّ الملازمُ، قال الشَّماخ: [الوافر]
3444 - ... ... ... ... ... . كمَا لاذَ ... الغَريمُ مِنَ التَّبيعِ
وقال آخر: [الطويل](12/338)
3445 - غَدَوْا وغَدتْ غِزلانُهمْ فَكأنَّهَا ... ضَوَامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهُنَّ تَبِيعُ
فصل
ومعنى الآية {أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ} ، يعني في البحر {تَارَةً أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً} .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أي عاصفاً، وهي الرِّيح الشديدة وقال أبو عبيدة: هي الرِّيح التي تقصف كلَّ شيءٍ، أي: تدقٌّه وتحطمه {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} ناصراً ولا ثائراً، وتبيع بمعنى تابعٍ، أن تابعاً مطالباً بالثَّأر.
وقال الزجاج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: من يتبعنا بإنكارِ ما نزل بكم، ولا من يتتبّعنا بأن نصرفه عنكم.(12/339)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
وهذه نعمة أخرى عظيمة من نعم الله - تعالى - على الإنسان، وهي تفضيل الإنسان على غيره.
واعلم أنه ليس المراد من الكرمِ في المالِ. وعدَّاه بالتضعيف، وهو من كرم بالضَّم ك «شَرُفَ» ، قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كلُّ شيءٍ يأكل بفيه إلاَّ ابن آدم يأكل بيديه.
وروي عنه أنه قال: بالعقل.
وقال الضحاك: بالنُّطق والتَّمييز.
وقال عطاء: بتعديل القامة، وامتدادخا.
وينبغي أن يشترط مع هذا شرطٌ، وهو طول العمر، مع استكمال القوَّة العقليَّة والحسيَّة والحركيَّة، وإلاَّ فالأشجار أطول قامة من الإنسانِ، والدَّوابُّ منكبَّة على وجوهها.(12/339)
وقيل: بحسنِ الصورة؛ كقوله تعالى: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] ولما ذكر خلقه للإنسان، قال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] وقال جلَّ ذكره {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} [البقرة: 138] .
وتأمَّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان، وهو العين، فخلق الحدقة سوداء، ثم أحاط بذلك السَّواد بياض العين، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار، ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان، ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين، ثم خلق فوق سواد الحاجببين بياض الجبهة، ثمَّ خلق فوق بياض الجبهة سواد الشَّعر.
وقيل: الرِّجال باللحى، والنِّساء بالذَّوائب.
وقيل: بأن سخَّر لهم سائر الأشياء.
وقال بعضهم: من كرامات الآدميِّ أن آتاه الله الخطَّ.
وتحقيق الكلام: أن العلم الذي يقدر الإنسانُ على استنباطه يكون قليلاً، فإذا أودعه في كتابٍ، جاء الإنسان الثاني، واستعان بذلك الكتاب، ضمَّ إليه من عند نفسه آخر، ثم لا يزالون يتعاقبون، ويضمُّ كلُّ متأخرٍ مباحث كثيرة إلى علم المتقدِّمين، فكثرت العلومُ، وانتهتِ المباحثُ العقليَّة، والمطالب الشرعيَّة إلى أقصى الغايات، وأكمل النهايات، وهذا لا يتأتَّى إلا بواسطةِ الخطِّ، ولهذه الفضيلة؛ قال تعالى: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3 - 5] .
وقال بعضهم: إنَّ المخلوقاتِ أربعة أقسامٍ:
قسم حصلت له القوَّة العقليَّة الحكميَّة، ولم تحصل له القوَّة الشهواتيَّة، وهم الملائكة - صلوات الله عليهم - وقسمٌ بالعكس، وهم البهائم، وقسم خلا عن القسمين، وهم النباتُ والجمادات، وقسم حصل النوعان فيه، وهو الإنسان، ولا شكَّ أنَّ الإنسان؛ لكونه مستجمعاً للقوَّة العقلية، والقوى الشهوانيَّة، والبهيميَّة والنفسيَّة والسبعيَّة يكون أفضل من البهيمة والسَّبع، وهو أيضاً أفضل من الخالي عن القوتين؛ كالنبات والجمادات، وإذا ثبت ذلك، ظهر أنَّ الله تعالى فضَّل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات.
وأيضاً: الموجود: إمَّا أن يكون أزليًّا وأبدياً معاً، وهو الله تبارك وتعالى.
وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا ولا أبديًّا، وهم عالم الدنيا مع ما فيه من المعادن، والنبات، والحيوان، وهذا أخسُّ الأقسام، وإمَّا أن يكون أزليًّا، ولا يكون أبديًّا، وهو الممتنعُ الوجود؛ لأنَّ ما ثبت قدمه، امتنع عدمهُ، وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا، ولكنَّه يكون أبديًّا، وهو الإنسان، والملك، وهذا القسمُ أشرف من الثاني والثالث، وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات.
ثمَّ قال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر} .(12/340)
قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في البرِّ على الخيل والبغالِ والحميرِ والإبلِ، وفي البحر على السُّفُن.
{وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} يعني لذيذ الطَّعام والمشارب، {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} .
واعلم أنَّه قال في أوَّل الآية {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} .
وقال في آخرها: {وَفَضَّلْنَاهُمْ} ولا بدَّ من الفرق بين التكريم والتفضيل، وإلا لزم التَّكرار، والأقرب أن يقال: إنه تعالى فضَّل الإنسان على سائرِ الحيوانات بأمور خلقيَّة طبعيَّة ذاتيَّة؛ كالعقل، والنطق، والخطِّ، والصورة الحسنة، والقامة المديدة، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقَّة، والأخلاق الفاضلة، فالأول: هو التكريم، والثاني: هو التفضيل.
فصل
ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّه فضَّلهم على كثيرٍ من خلقه، لا على الكلِّ، فقال قومٌ: فضِّلوا على جميع الخلق، لا على الملائكة، وهذا قول ابن عباس، واختيارُ الزجاج على ما رواهُ الواحديُّ في «البسيط» .
وقال الكلبيُّ: فضِّلوا على جميع الخلائف كلِّهم، إلاَّ على طائفةٍ من الملائكة: جبريل، ميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت - صلوات الله عليهم أجمعين - وأشباههم.
وقال قوم: فضِّلوا على جميع الخلق، وعلى الملائكةِ كلِّهم، وقد يوضع الأكثر موضع الكلِّ؛ كقوله سبحانه {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} [الشعراء: 221] إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 223] أي: كلُّهم.
وروى جابرٌ يرفعه: قال «لمَّا خلق الله - عزَّ وجلَّ - آدم، وذريَّته، قالت الملائكة: يا ربُّ، خلقتهم يَأكلُونَ، ويَشْرَبُونَ، ويَنكِحُونَ، فاجعلْ لهمُ الدُّنْيَا، ولنَا الآخِرةَ، فقال تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له: كن فكان» .(12/341)
والأولى أن يقال: عوامُّ الملائكة أفضل من عوامِّ المؤمنين، وخواصُّ المؤمنين أفضل من خواصِّ الملائكة، قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية} [البينة: 7] .
ورُوِيَ عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «المُؤمِنُ أكْرَمُ على الله مِنَ المَلائِكَةِ الَّذينَ عِندَهُ» رواه البغويُّ وأورده الواحدي في «البسيط» .
واحتجَّ القائلون بتفضيل الملائكة على البشر على الإطلاق بهذه الآية.
قال ابن الخطيب: وهو في الحقيقة تمسُّكٌ بدليل الخطاب، وتقريره أن يقال: تخصيص الكثير بالذكر يدلُّ على أنَّ الحال في القليل بالضدِّ، وذلك تمسُّك بدليل الخطاب.(12/342)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
لما ذكر كرامات الإنسان في الدُّنيا، شرح درجات أحواله في الآخرة.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ} : فيه أوجه:
أحدها: أنه منصوبٌ على الظرفية، والعامل «فضَّلنَاهُمْ» أي: فضَّلناهم بالثواب يوم ندعُو، قال ابن عطيَّة في تقريره: وذلك أنَّ فضل البشر على سائر الحيوان يوم القيامة بيِّنٌ، إذ هم المكلَّفون المنعَّمون المحاسبون الذين لهم القدرُ؛ إلا أنَّ هذا يردُّه أنَّ الكفار [يومئذٍ] أخسرُ مِنْ كلِّ حيوانٍ؛ لقولهم: {ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] .
الثاني: أنه منصوبٌ على الظرف، والعامل فيه «اذكُرْ» قاله الحوفيُّ وابن عطيَّة، وهذا سهوٌ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً؟ بل هو مفعولٌ.
الثالث: أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وإنما بُنِيَ لإضافته إلى الجملة الفعلية، والخبر الجملة بعده، قال ابن عطيَّة في تقريره: ويصحُّ أن يكون «يوم» منصوباً على البناء، لمَّا أضيف إلى غير متمكِّنٍ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء، وخبره في التقسيم الذي أتى بعده في قوله «فَمنْ أوتِي كِتابَهُ» إلى قوله «ومَنْ كَانَ» قال أبو حيان: قولهُ «منصوبٌ على البناء» كان ينبغي أن يقول: مبنياً على الفتح، وقوله «لمَّا أضيف إلى غير متمكِّن» ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ المتمكِّن وغير المتمكِّن، إنما يكون في الأسماءِ، لا في الأفعالِ، وهذا أضيف إلى فعلٍ مضارع، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ، والكوفيون يجيزون بناءه، وقوله: « [والخبر] في التقسيم» إلى آخره، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملة التقسيم بالابتداء. قال شهاب الدين: الرابط محذوفٌ للعلم به، أي: فمن أوتي كتابه فيه.(12/342)
الرابع: أنه منصوب بقوله «ثُمَّ لا تجِدُوا» قاله الزجاج.
الخامس: أنه منصوب ب «يُعِيدكُمْ» مضمرة، أي: يعيدكم يوم ندعو.
السادس: أنه منصوبٌ بما دلَّ عليه «ولا يُظلَمُونَ» بعده، أي: لا يظلمون يوم ندعو، قاله ابن عطية وأبو البقاء.
السابع: أنه منصوب بما دلَّ عليه «متى هو» .
الثامن: أنه منصوبٌ بما تقدَّمه من قوله تعالى: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52] .
التاسع: أنه بدلٌ من «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ» . وهذان القولان ضعيفان جدًّا؛ لكثرة الفواصل.
العاشر: أنه مفعول به بإضمار «اذكر» وهذا - وإن كان أسهل التقادير - أظهر ممَّا تقدَّم؛ إذ لا بعد فيه ولا إضمار كثيرٌ.
وقرأ العامة «نَدْعُو» بنون العظمة، ومجاهدٌ «يَدعُو» بياء الغيبة، أي: الله تعالى أو الملك، و «كُلَّ» نصْبٌ مفعولاً به على القراءتين.
وقرأ الحسن فميا نقله الدَّانيُّ عنه «يُدعَى» مبنيًّا للمفعول «كُلُّ» مرفوعٌ؛ لقيامه مقام الفاعل، وفيما نقله عنه غيره «يُدْعَوْ» بضم الياء، وفتح العين، بعدها واوٌ، وخرجت على وجهين:
أحدهما: أن الأصل: «يُدْعَوْنَ» فحذفت نون الرفع، كما حذفت في قوله - صلوات الله وسلامه عليه -:
«لا تَدْخُلُوا الجَنَّة حتَّى تُؤمِنُوا، ولا تُؤمِنُوا حتَّى تَحابُّوا» وقوله: [الرجز]
3446 - أبِيتُ أسْرِي وتَبِيتِي تَدْلُكِي ... وجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكِي
و «كلُّ» مرفوع بالبدلِ من الواو التي هي ضميرٌ، أو بالفاعلية، والواو علامة على لغة «يَتعاقَبُون فِيكُمْ مَلائِكةٌ» .
والتخريج الثاني: أنَّ الأصل «يُدْعَى» كما نقله عنه الدَّاني، إلاَّ أنه قلب الألف واواً وقفاً، وهي لغة قومٍ، يقولون: هذه أفْعَوْ وعَصَوْ، يريدون: أفْعى وعَصَا، ثم أجري الوصل مجرى الوقفِ. و «كُلُّ» مرفوعٌ لقيامه مقام الفاعل على هذا، ليس إلا.
قوله تعالى: {بِإِمَامِهِمْ} يجوز أن تكون الباء متعلقة بالدعاء، أي: باسم إمامهم، قال مجاهدٌ: بِنَبِيِّهِمْ.(12/343)
ورواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مرفوعاً، فيقال: يا أمَّة فلانٍ، وقال أبو صالحٍ والضحاك: بِكتَابهمْ.
وقال الحسنُ وأبو العاليةِ: بأعمَالِهمْ.
وقال قتادة: بكتابهم الذي فيه أعمالهم؛ بدليل سياق الآية. وقوله تعالى: {أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12] .
وعن انب عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وسعيد بن جبيرٍ: بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالٍ أو هدًى.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41] .
وقيل: بمعبودهم.
وأن تكون للحالِ، فيتعلق بمحذوفٍ، أي: ندعوهم مصاحبين لكتابهم، والإمامُ: من يقتدى به، وقال الزمخشريُّ: «ومن بدعِ التفاسير: أن الإمام جمع» أمٍّ «وأنّ الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم، وأن الحكمة فيه رعايةُ حقِّ عيسى - صلوات الله عليه -، وإظهار شرف الحسن والحسين، وألاَّ يفضح أولادُ الزِّنى» قال: وليت شعري أيُّهما أبدعُ: أصحَّة لفظه، أم بهاءُ حكمته؟ «.
وهو معذورٌ لأنَّ» أم «لا يجمع على» إمام «هذا قول من لا يعرف الصناعة، ولا لغة العرب، وأمَّا ما ذكروه من المعنى، فإنَّ الله تعالى نادى عيسى - صلوات الله عليه - باسمه مضافاً لأمِّه في عدَّة مواضع من قوله {ياعيسى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 110] ، وأخبر عنه عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرَّم وجهه.
قوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} يجوز أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة، والفاء لشبهه بالشرط، وحمل على اللفظ أولاً في قوله {أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} فأفرد، وعلى المعنى ثانياً في قوله:» فأولَئِكَ «فجمع. لأن من أوتي كتابه في معنى الجمع.(12/344)
ثم قال: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} .
الفَتِيلُ: القشرة التي في شقِّ النَّواة، وسمِّي بذلك؛ لأنَّه إذا رام الإنسان إخراجهُ انفتل، وهذا مثلٌ يضرب للشَّيء الحقير التَّافهِ، ومثله: القطميرُ والنَّقير.
والمعنى: لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيلٍ ونظيره {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم: 60] وروى مجاهدٌ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: الفتيلُ هو الوسخُ الذي يفتلهُ الإنسانُ بين سبَّابته وإبهامه.
وهو فعيلٌ بمعنى مفعولٍ.
فإن قيل: لم خصَّ أصحاب اليمين بقراءة كتابهم، مع أنَّ أهل الشِّمال يقرءونه؟! فالجواب: الفرق بينهما أنَّ أهل الشِّمال، إذا طالعوا كتابهم، وجدوه مشتملاً على المهلكاتِ العظيمة، والقبائح الكاملة، والمخازِي الشديدة، فيستولي الخوف والدهشة على قلبهم، ويثقل لسانهم، فيعجزوا عن القراءةِ الكاملة، وأما أصحاب اليمين، فعلى العكس، فلا جرم أنَّهم يقرءون كتابهم على أحسن الوجوه، ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم، بل يقولون لأهل المحشر: {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] فظهر الفرق.(12/345)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه} : يجوز في «مَنْ» ما جاز في «مَنْ» قبلها، وأمال الأخوان وأبو بكر «أعْمَى» في الموضعين من هذه السورة، وأبو عمرو أمال الأول، دون الثاني، والباقون فتحوهما، فالإمالة؛ لكونهما من ذوات الياء، والتفخيمُ؛ لأنه الأصل، وأمَّا أبو عمرو، فأمال الأول؛ لأنه ليس أفعل تفضيلٍ، فألفه متطرفةٌ لفظاً وتقديراً، والأطرافُ محل التغيير غالباً، وأمَّا الثاني، فإنه للتفضيلِ، ولذلك عطف عليه «وأضلُّ» فألفه في حكم المتوسطة؛ لأنَّ «مِن» الجارَّة للمفضولِ، كالملفوظ بها، وهي شديدة الاتصال بأفعلِ التفضيلِ، فكأنَّ الألف وقعت حشواً، فتحصَّنتْ عن التغيير.
كذا قرَّره الفارسي والزمخشري، وقد ردَّ هذا بأنهم أمالوا {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ} [المجادلة: 7] مع التصريح ب «مِنْ» فلأن يميلوا «أعْمَى» مقدراً معه «مِنْ» أولى وأحرى.
وأمَّا «أعْمَى» في طه [الآية: 124] فأماله الأخوان، وأبو عمرو، ولم يمله أبو بكر، وإن كان يميله هنا، وكأنه جمع بين الأمرين، وهو مقيَّد باتِّباع الأثر، وقد فرَّق بعضهم:(12/345)
بأنَّ «أعمى» في طه من عَمَى البصر، وفي الإسراء من عمى البصيرة؛ ولذلك فسَّروه هنا بالجهل فأميل هنا، ولم يملْ هناك؛ للفرق بين المعنيين، والسؤال باقٍ؛ إذ لقائلٍ أن يقول: فَلِمَ خُصِّصَتْ هذه بالإمالةِ، ولو عكسَ الأمر، لكان الفارقُ قائماً.
ونقل ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي عليٍّ الفارسيِّ، قال: الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أنَّ المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى، وبهذا التفسير تكون هذه الكلمة تامَّة، فتقبل الإمالة، وأما في الكلمة الثانية، فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل، وبهذا التقدير: لا تكونُ تامة؛ فلم تقبل الإمالة.
فصل
قال عكرمة: جاء نفرٌ من أهل اليمن إلى ابن عبَّاس، فسأله رجلٌ عن هذه الآية، فقال: اقْرَأ ما قبلها، فقرأ {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ} [الإسراء: 66] إلى قوله {تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70] .
فقال ابن عباس: من كان أعمى في هذه النِّعمِ المذكورة في الآيات المتقدمة.
روى الضحاك عن ابن عباس: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرة الله تعالى، وعن رؤية الحقِّ، فهو في الآخرة أعمى أشدُّ عمًى {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ، أي: أخطأ طريقاً وعلى هذا؛ فالإشارة ب «هذه» إلى الدنيا.
وعلى هذين القولين: فالمراد من كان أعمى عن معرفة الدلائل، والنِّعمِ، فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى.
وقال الحسن: من كان في الدنيا ضالاً كافراً، فهو في الآخرة أعمى، وأضلُّ سبيلاً؛ لأنَّه في الدنيا؛ تقبل توبته، وفي الآخرة، لا تقبل توبته، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر، ويكون التقدير: فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} [طه: 124 - 126] .
وقال جلَّ ذكره: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء: 97] .
وهذا العمى زيادة في عقوبتهم.(12/346)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه، وأتبعها بذكر درجاتِ الخلق في الآخرة، أردفه بما يجري مجرى تحذير الناس عن الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكرِ والتَّلبِيس، فقال عزَّ وجلَّ: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} .
روى عطاءٌ عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في وفد ثقيفٍ أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصالٍ، قال: وما هُنَّ؟ قالوا: ألاَّ نَحني في الصَّلاة أيْ لا نَنْحَنِي ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وأن تُمتِّعنا باللاَّت سنة، من غير أن نعبدها، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا خَيْرَ في دينِ لا رُكوعَ فيه ولا سُجودَ، وأمّا أن تَكسِرُوا أصْنامَكُم بأيْدِيكُمْ فذلك لَكُم، وأمَّا الطَّاغيةُ يعني اللاَّت فإنَّني غير ممتِّعكُمْ بها» وفي رواية: «وحرِّم وادينا، كما حرَّمت مكَّة شَجرهَا، وطَيْرهَا، ووَحْشهَا، فأبى ذلكَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولَمْ يُجبْهُم، فقالوا: يا رسول الله إنَّا نُحِبُّ أنْ تَسْمعَ العربُ أنَّك أعْطَيتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرنَا، وإنّي خَشِيتُ أن تقُول العربُ: أعْطَيتَهُم ما لَمْ تُعْطِنا، فقل: الله أمَرنِي بذلكَ، فَسكتَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فطمع القومُ في سُكوتهِ أنْ يُعْطِيَهُمْ، فَصاحَ عليهم عليٌّ وعمرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وقالوا: أما تَروْنَ أنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَدْ أمْسََ عَنِ الكلامِ؛ كَراهِيَةً لما تَذْكرُونَه، فأنْزلَ الله تعالى هذه الآية» .
وقال سعيد بن جبيرٍ: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريشٌ، وقالوا: لا نَدعُكَ، حتَّى تلم بآلهتنا وتمسَّها، فحدَّث نفسه؛ ما عليَّ إذا فعلتُ ذلك، والله يعلم أنِّي لها كارهٌ، بعد أن يدعوني، حتَّى أستلمَ الحجر، فأنزل الله هذه.
وروى الزمخشريُّ أنَّهم جاءُوا بكتابهم، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كِتَابٌ مِنْ محمَّد رسول الله إلى ثقيفٍ: لا يعشرون، ولا يحشرون، فسكت رسُول الله، ثم قالوا للكاتب: اكْتُبْ ولا يُجْبَون والكَاتبُ ينظرُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقامَ عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وسلَّ سيفه، وقال: أسعرتم قَلْبَ نَبيِّنا يا ثقيفُ، أسْعَر الله قُلوبَكُمْ ناراً، فقالوا: لَسْنَا نُكلِّمُك، إنَّما نكلِّم محمداً، فنزلت الآية، وهذه القصَّة إنما وقعت بالمدينة؛ فلهذا قيل: إنَّ هذه الآيات مدنيةٌ.(12/347)
وروي أنَّ قريشاً قالت: اجْعَلْ آية رحمةٍ آية عذابٍ، وآية عذابٍ ىية رحمة؛ حتَّى نُؤمِنَ بك، فنزلت الآية.
قال القفال: ويمكن تأويل الآية من غير تقييد بسبب يضاف إلى نزولها فيه؛ لأنَّ من المعلوم أنَّ المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بأقصى ما يقدرون عليه، فتارة كانوا يقولون: إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك، فأنزل الله تعالى:
{قُلْ
يا
أيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1، 2] . {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] .
وعرضوا عليه الأموال الكثيرة، والنِّسوان الجميلة؛ ليترك غدِّعاء النبوة، فأنزل الله - تعالى -: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} [طه: 131] .
ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] .
ودعوه إلى طرد الذين يدعون ربَّهم، فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب، وذلك أنَّهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه، وأن يزيلوه عن منهجه، فبيَّن الله - تعالى - أنَّه يثبته على الدِّين القويمِ، والمنهج المستقيم، وعلى هذا الطريق، فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيءٍ من تلك الرِّوايات.
قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} : «إنْ» هذه فيها لمذهبان المشهوران: مذهب البصريين: أنها مخففة، واللام فارقة بينها وبين طإن «النافية، ولهذا دخلت على فعلٍ ناسخٍ، ومذهب الكوفيين أنها بمعنى» ما «النافية، واللام بمعنى» إلاَّ «وضمِّن» يَفْتِنُونَكَ «معنى» يَصْرفُونكَ «فلهذا عدِّي ب» عَنْ «تقديره: ليصرفونك بفتتنتهم، و» لِتَفْترِي «متعلق بالفتنة.
قوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ} » إذَنْ «حرف جواب وجزاء؛ ولهذا تقع أداةُ الشرط موقعها، و» لاتَّخذُوكَ «جواب قسمٍ محذوفٍ، تقديره: إذن، والله لاتخذوك، وهو مستقبل في المعنى؛ لأنَّ» إذَنْ «تقتضي الاستقبال؛ إذ معناها المجازاة، وهو كقوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ} [الروم: 51] أي: ليظلنَّ، وقول الزمخشريِّ:» أي: ولو اتَّبعتَ مرادهم، لاتَّخذوكَ «تفسير معنى، لا إعرابٍ، لا يريد بذلك أنَّ» لاتَّخَذُوك «جوابٌ ل» لو «محذوفة؛ إذ لا حاجة إليه.
فصل في معنى الآية
قال الزجاج: معنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت» إنْ «و» اللام «للتأكيد، و» إنْ «مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية.
والمعنى: الشَّأن أنَّهم قاربوا أن يفتنوك، أي: يخدعوك فاتنين، وأصل الفتنة: الاختبار.(12/348)
يقال: فتن الصَّائغُ الذَّهب، إذا أدخلهُ النَّار، وأذابهُ؛ ليميِّز جيِّده من رديِّيه، ثم استعمل في كلِّ ما أزال الشيء عن حدِّه وجهته، فقالوا: فتنة، فقوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} . أي: يزيلونك، ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك، وهو القرآن، أي: عن حكمه؛ وذلك لأنَّ في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن.
وقوله: {لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} أي غير ما أوحينا إليك، وقوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي لو فعلت ذلك ما أرادوا لاتخذوك خليلا، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراضٍ بشركهم، ثم قال: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} يعني على الحق، بعصمتنا إياك {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} أي تميل إليهم شيئاً قليلاً.
قرأ العامة بفتح كاد تركن مضارع رَكِن بالكسر، وقتادة، وابن مصرف، وابن أبي إسحاق «تَرْكُن» بالضم مضارع «رَكَن» بالفتح، وهذا من التداخل، وقد تقدم تحقيقه في أواخر «هود» و «شيئاً» منصوب على المصدر، وصفته محذوفة، أي شيئاً قليلاً من الركون، أو ركوناً قليلاً.
قال ابن عباس: يريد حيث سكوتك عن جوابهم.
قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» .
ثم توعد في ذلك أشد التوعد، فقال: {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة} أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله لأذقناك عذاب الحياة، وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان عذاب في الممات، وهو عذاب القبر وعذاب في الحياة الآخرة، وهو عذاب النار، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار} [الأعراف: 38] يعني عذاباً مضاعفاً، فكان أصل الكلام: لأذقناك عذاباً ضعفاً عذاباً ضعفاً في الحياة، وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف، فأثبت الصفة مقامه وو الضعف، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف، فقيل: ضعف الحياة، وضعف الممات، لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله: {مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار} [ص: 61] وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك، وعقدت على الركون إليه لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا وفي الآخرة، وصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم، وكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر، ونظيره قوله تعالى: {يانسآء النبي مَن(12/349)
يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] .
فإن قيل: قال عليه السلام: «من سن سنة سيئة فعلية وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو عمل بما قالوه، لكان وزره مثل وزر كل واحد من أولئك الكفار، وعلى هذا التقدير فكان عقابه زائداً على الضعف.
فالجواب: إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب، وهو دليل ضعيف، ثم قال تعالى: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} يعني: إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا.
فإن قيل: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معصوماً، فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه، وما طلبوه كفر؟ .
قيل: كان ذلك خاطر قلب لم يكن عزماً، وقد عفا الله عَزَّ وَجَلَّ عن حديث النفس.
والجواب الصحيح هو أن الله تعالى قال: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} .
وقد ثبته الله، فلم يركن إليهم، وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} [النساء: 83] وقد تفضل فلم يتبعوا.
فصل
احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء - عليهم السلام - بهذه الآية، فقالوا: هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم منهم من وجوه:
الأول: أن الآية دلت على أنه - عليه السلام - قرب من أن يفتري على الله الكذب، وذلك من أعظم الذنوب.
الثاني: تدلُّ على أنَّه لولا أنَّ الله - تعالى - ثبَّته وعمه؛ لقرب من أن يركن إلى دينهم.
الثالث: لولا أنَّه سبق جرمٍ وجناية، وإلاَّ فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشَّديد.
والجواب عن الأوَّل: أنَّ «كاد» معناه المقاربة، أي: أنه قرب وقوعه في الفتنة، وهذا لا يدلُّ على الوقوع في تلك الفتنة، بل يدلُّ على عدم الوقوع؛ كقولك: «كادَ الأميرُ أن يَضْربَ فُلاناً» لا يدلُّ على أنَّه ضربه.
والجواب عن الثاني: أنَّ «لَوْلاَ» تفيد انتفاء الشيء؛ لثبوت غيره؛ تقول: لولا عليٌّ، لهلك مرٌو؛ إذ وجود عليٍّ منع من حصول الهلاك لعمرو، فكذلك ها هنا.
فقوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} .
معناه: أنَّه لولا حصل تثبيتُ الله لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان حصول ذلك التَّثْبِيت معانعاً من حصول ذلك الرُّكون.
والجواب عن الثالث: أنَّ التهديد على المعصية لا يدلُّ على الإقدام عليها؛ لقوله -(12/350)
تعالى - {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 - 46] .
وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] .
وقوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] .
فصل في ألا عصمة من المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى
احتجَّ أهلُ السنة على أنه لا عصمة من المعاصي إلاَّ بتوفيقِ الله تعالى؛ بقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} الآية، فبيَّن أنَّه لولا تثبيت الله تعالى له، لمال إلى طريقةِ الكفَّار، ولا شكَّ أنَّ محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - كان أقوى من غيره في قوة الدِّين، وصفاء القلب واليقين، فلما بيَّن الله تعالى له أنَّ بقاءهُ معصوماً عن الكفر والضلال، لم يحصل إلاَّ بإعانة الله تعالى وتوفيقه، كان حصول هذا المعنى في حقِّ غيره أولى.
قالت المعتزلة: المراد بهذا التَّثبيتِ: الألطاف الصَّارفة عن ذلك، وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده، ومن ذكر أنَّ كونه نبيًّا من عند الله يمنع من ذلك.
والجواب: لا شكَّ أنَّ التثبيت عبارة عن فعل فعلهُ الله تعالى، يمنع الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك الوقوع في ذلك المحذور، فنقول: لم يوجد المقتضي للإقدام على ذلك العمل المحذور في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ملا كان لإيجاد هذا المنع حاجةٌ، وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أنَّ ذلك المقتضي قد حصل في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وأنَّ هذا المانع الذي فعله الله تعالى لمنع ذلك المقتضي من العمل، وهذا لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا: إنَّ القدرة مع الدَّاعي توجب الفعل، فإذا حصلت داعية أخرى معارضةٌ للداعي الأوَّل، اختلَّ المؤثِّر، فامتنع الفعل، ونحن لا نريدُ إلاَّ إثبات هذا المعنى.(12/351)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
قال مجاهد، وقتادة: الأرض: أرض مكة، والآية مكيَّةٌ. هَمَّ المشركون في أن يخرجوه منها، فكفَّهم الله عنه؛ حتَّ أمره بالهجرة، فخرج بنفسه، وهذا أليق بالآية؛ لأنَّ ما قبلها خبر عن أهل مكَّة، وهذا اختيار الزجاج.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لمَّا هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة حسدته اليهود، وكرهوا قربه منهم، ومقامه بالمدينة، فأتوهُ، وقالوا: يا أبا القاسم، لقد علمت ما هذه بدارِ الأنبياءِ، وأنَّ أرض الأنبياء بالشَّام، وهي الأرض المقدسة، وبها كان إبراهيم(12/351)
والأنبياء - صلوات الله عليهم - فإن كنت نبيًّا مثلهم، فأت الشَّام، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم، وإنَّ الله يمنعك من الرُّوم، إن كنت نبيًّا، فعسكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ثلاثة أميالٍ من المدينة، وقيل: بذي الحليفة؛ حتَّى يجتمع إليه أصحابه، ويراه النَّاس عازماً على الخُروج إلى الشَّام، فيدخلون في دين الله - سبحانه وتعالى - فأنزلت هذه الآية، وهذا قول الكلبيِّ، وعلى هذا، فالآية مدنية، والمراد بالأرض: أرض المدينة، وكثر في التنزيل ذكر الأرض، والمراد منها مكانٌ مخصوصٌ؛ كقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} [المائدة: 33] أي: من مواضعهم.
وقوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} [يوسف: 80] .
يعني: التي كان يقصدها؛ لطلب الميرة.
فإن قيل: قال الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] . يعني: «مكَّة» ؟! .
فالجواب: أنَّهم همُّوا بإخراجه، وهو - صلوات الله وسلامه عليه - ما خرج بسبب إخراجهم، وإنَّما خرج بأمر الله تعالى؛ فزال التَّناقضُ، والاستفزازُ: هو الإزعاج بسرعة.
{وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ} : قرأ العامة برفع الفعل بعد «إذَنْ» ثابت النون، وهي مرسومةٌ في مصاحف العامة، ورفعه وعدم إعمال «إذن» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها توسَّطت بين المعطوف، والمعطوف عليه، قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ما وجهُ القراءتين؟ قلت: أمَّا الشائعة - يعني برفع الفعل - فقد عطف فيها الفعل على الفعل، وهو مرفوع لوقوعه خبر» كاد «وخبر» كاد «واقعٌ موقع الاسم» قلت: فيكون «لا يَلْبَثُونَ» عطفاً على قوله «ليَيْتَفِزُّونكَ» .
الثاني: أنها متوسطة بين قسم محذوف وجوابه، فألغيت لذلك، والتقدير: وواللهِ، إذن لا يلبثون.
الثالث: أنها متوسطة بين مبتدأ محذوف وخبره، فألغيت لذلك، والتقدير: وهم إذن لا يلبثون.
وقرأ أبيٌّ بحذف النون، فنصبه ب «إذَنْ» عند الجمهور، وب «أنْ» مضمرة بعدها عند غيرهم، وفي مصحف عبد الله «لا يَلبَثُوا» بحذفها، ووجه النصب: أنه لم يجعل الفعلُ معطوفاً على ما تقدَّم، ولا جواباً، ولا خبراً، قال الزمخشريُّ: وأمَّا قراءة أبيِّ،(12/352)
ففيها الجملة برأسها التي هي: إذن لا يلبثوا، عطجف على جملة قوله «وإنْ كادُوا ليَسْتفزُّونكَ» .
وقرأ عطاء «لا يُلبَّثُونَ» بضمِّ الياء، وفتح اللام والباء، مشددة مبنيًّا للمفعول، من «لبَّثَهُ» بالتشديد، وقرأها يعقوب كذلك، إلا أنه كسر الباء، جعله مبنياً للفاعل.
قوله تعالى: «خِلافَكَ» قرأ الأخوان، وابن عامرٍ، وخفص: «خِلافكَ» بكسر الخاء، وألف بعد اللام، والباقون بفتح الخاءِ، وسكون اللام، والقراءتان بمعنى واحدٍ.
قال الأخفش: خلافك: بمعنى: خلفك.
وروى ذلك يونس عن عيسى، وهذا كقوله: {بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله} [التوبة: 81] .
وأنشدوا في ذلك: [الكامل]
3447 - عَفتِ الدِّيارُ خِلافَهُم فكأنَّما ... بَسطَ الشَّواطِبُ بَينهُنَّ حَصِيرا
والمعنى: بعد خروجك، وكثر إضافة «قَبْل» و «بَعْدُ» ونحوهما إلى أسماء الأعيان؛ على حذف مضاف، فيقدَّرُ من قولك: جاء زيدٌ قبل عمرو، أي: قبل مجيئه.
قوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً} يجوز أن تكون صفة لمصدر، أو لزمانٍ محذوف، أي: إلا لبثاً قليلاً، أو إلاَّ زماناً قليلاً؛ أي: حتَّى يهلكوا، فالمراد بالقليل: إمَّا مدَّة حياتهم، وإما ما بين خروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة إلى حين قتلهم ببدرٍ.(12/353)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
قوله تعالى: {سُنَّةَ} : فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن ينتصب على المصدر المؤكِّد، أي: سنَّ الله ذلك سنة، أو سننَّا ذلك سُنَّة.
الثاني: - قاله الفراء - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه على إسقاط الخافض، أي: كسُنَّةِ الله تعالى، وعلى هذا لا يوقف على قوله «إلاَّ قليلاً» .
الثالث: أن ينتصبَ على المفعول به، أي: اتَّبعْ سُنَّة.
فصل في سنة الله في رسله
سنة الله في الرُّسل، إذا كذَّبتهم الأممُ: ألا يعذِّبهم، ما دام نبيُّهم بين أظهرهم، فإذا(12/353)
خرج نبيهم من بين أظهرهم، عذَّبهم {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي: إَّ ما أجرى الله به العادة، لم يتهيَّأ لأحدٍ أن يقلب تلك العادة؛ لأنَّ اختصاص كلِّ حادثٍ بوقته المعيَّن، وصفته المعينة ليس أمراً ثابتاً له لذاته، وإلا لزم أن يدوم أبداً على تلك الحالة، وألاَّ يتميَّز الشيء عمَّا يماثلهُ في تلك الصِّفات، بل إنَّما يحصل ذلك التخصيص بتخصيص المخصِّص، وهو الله تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقتِ، ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت، فنقول: هذه الصفات الثلاث المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص، إن كانت حادثة، افتقر حدوثها إلى مخصِّصٍ آخر، وتسلسل؛ وهو محالٌ، وإن كانت قديمة، فالقديم يمتنع تغيُّره؛ لأنَّ ما ثبت قدمه، امتنع عدمه، ولمَّا كان التغيُّر على تلك الصِّفات المؤثِّرة في ذلك الاختصاص ممتنعاً، كان التغيُّر في تلك الأشياء المقدرة ممتنعاً، فثبت بهذا البرهان صحَّة قوله تعالى: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} .(12/354)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
في النظم وجوهٌ:
أولها: أنه تعالى لمَّا قرَّر الإلهيَّات والمعاد، والنبوة، أردفها بذكر الآية بالطَّاعات، وأشرفُ الطَّاعات بعد الإيمان الصلاة، فلهذا أمر بها.
وثانيها: أنه تعالى، لمَّا قال: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض} [الإسراء: 76] .
أمره تعالى بالإقبال على عبادته؛ لكي ينصره الله، فكأنَّه قيل: لا تبالِ بسعيهم في إخراجك من بلدك، ولا تلتفت إليهم، واشتغل بعبادة الله، والدوام على الصلاة؛ فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرَّهم عنك، ويجعل يدك فوق أيديهم، ودينك عالياً على أديانهم.
نظيره قوله تعالى: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى} [طه: 130] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 97 - 99] .
وثالثها: أنَّ اليهود، لمَّا قالوا له: اذهب إلى الشَّام، فإنه مسكن الأنبياء، وعزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الذَّهاب إليه، فكأنَّه قيل له: المعبودُ واحدٌ في كلِّ البلاد، وما النصر والقوَّة والدولة إلا بتأييده ونصرته، فدوام على الصَّلوات، وارجع إلى مقرِّك ومسكنك، فقل: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] في تقرير دينك، وإظهار شريعتك.
قوله تعالى: {لِدُلُوكِ} : في هذه اللام وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى «بَعْدَ» أي: بعد دلوكِ الشمسِ، ومثله قولُ متمِّم بن نويرة: [الطويل](12/354)
3448 - فَلمَّا تَفرَّقْنَا كأنِّي ومَالِكاً ... لطُولِ اجتِماعٍ لمْ نَبِتْ لَيْلةً مَعَا
ومثله قولهم: «كَتبْتُه لثلاثٍ خَلوْنَ» .
والثاني: أنها على بابها، أي: لأجل دلوك، قال الواحديُّ: «لأنَّها إنَّما تجبُ بزوالِ الشَّمسِ» .
والدُّلُوك: مصدر دلكتِ الشمس، وفيه ثلاثة أقوالٍ:
أشهرها: أنه الزَّوالُ، وهو نصفُ النَّهار. وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابن عمر، وجابر، وعطاء، وقتادة، ومجاهدٍ، والحسنِ، وأكثر التَّابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
روى الواحديُّ في «البسيط» عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: طَعِمَ عندي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، ثم خرجوا حين زالتِ الشمس؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هذا حين دلكت الشَّمسُ» .
ورُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «أتَانِي جِبْريلُ صلوات الله عليه لدُلوكِ الشَّمسِ، حينَ زَالتِ الشَّمْسُ؛ فصّلَّى بِي الظُّهْرَ» .
وقال أهل اللغة: الدُّلوكُ في كلام العرب: الزَّوال، ولذلك قيل للشمس، إذا زالت نصف النهار: دالكة، وقيل لها، إذا أفلت: دالكة؛ لأنها في الحالتين زائلة، قاله الأزهريُّ.
وقال القفال: أصلُ الدُّلُوك: الميل؛ يقال: مالتِ الشمس للزَّوال، ويقال: مالت للغُروب.
وإذا ثبت ذلك، وجب أن يكون المراد من الدلوك ها هنا الزَّوال عن كبد السماء، لأنَّه تعالى علَّق إقامة الصلاة بالدُّلوك، والدُّلوك عبارة عن الميل والزَّوال؛ فوجب أن يقال: إنه أوَّل ما حصل الميل والزَّوال، تعلق به هذا الحكم.
وقال الأزهريُّ: الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النَّهار؛ لأنَّا إذا حملناه(12/355)
عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلِّها؛ فدلوك الشمس يتناول صلاة الظُّهر والعصر إلى غسق الليل، ثم قال: «وقُرْآن الفَجْرِ» وعلى هذا التقدير: يتناول المغرب والعشاء، وقرآن الفجر صلاة الفجر إذا حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات، وهي المغرب والعشاء والفجر، وحمل كلام الله - تعالى - على ما يكون أكثر فائدة أولى، وأيضاً، فالقائلون به أكثر.
القول الثاني: أنَّ الدُّلُوك: هو الغروب، وهو قول ابن مسعود، وبه قال إبراهيم النخعيُّ، ومقاتل بن حيَّان، والضحاك والسديُّ، وهو اختيار الفراء واحتج له بقول الشاعر: [الرجز]
3449 - هَذا مُقامُ قَدمَيْ رَباحِ ... ذبَّبَ حتَّى دَلكَتْ بِرَاحِ
أي: غربت براحِ، وهي الشمسُ، وأنشد ابن قتيبة على ذلك قول ذي الرمَّة: [الطويل]
3450 - مَصابِيحُ ليسَتْ باللَّواتِي تقُودهَا ... نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدَّوالكِ
أي: الغاربات.
وهذا استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الدُّلوك عبارة عن الميل والتغيُّر، وهو حاصل في الغروب، فكان الغروب نوعاً من أنواع الدُّلوك، فكان وقوعُ لفظ الدُّلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزَّوال، كما أنَّ وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس.
القول الثالث: أنه من الزَّوال إلى الغروب، قال الزمخشريُّ: «واشتقاقه من الدَّلكِ» لأنَّ الإنسانَ يدلكُ عينه عند النَّظر إليها «وهذا يفهم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقًّا من المصدرِ؛ واستدلُّوا بهذا على أنَّ الدُّلُوك هو الغروب، قالوا: وهذا إنما يصحُّ في الوقت الذي يمكن النَّظر إليها، أما عند كونها في وسط السَّماء، ففي ذلك الوقت لا يمكن النَّظر إليها، فثبت أن الدلوك هو الغروب.(12/356)
والجواب: أنَّ الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السَّماءِ أتمُّ، فالذي ذكرتم يدلُّ على أنَّ الدُّلوك عبارةٌ عن الزَّوال من وسط السَّماء؛ بطريق الأولى.
وقال الراغب:» دُلوكُ الشمسِ: ميلها للغروب، وهو من قولهم: دَلكْتُ الشَّمسَ: دفعتها بالرَّاح، ومنه: دَلكتُ الشيء في الرَّاحةِ، ودلكتُ الرَّجلَ: ماطلته، والدَّلوكُ: ما دلكته من طيبٍ، والدَّليكُ: طعامٌ يتَّخذُ من زبدٍ وتمرٍ «.
قوله: {إلى غَسَقِ الليل} في هذا الجارُ وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ ب» أقِمْ «فهي لانتهاءِ غاية الإقامة، وكذلك اللام في» لِدُلوكِ «متعلقة به أيضاً.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من» الصَّلاة «أي: أقمها ممدودة إلى غسق الليل، قاله أبو البقاء، وفيه نظر: من حيث إنه قدَّر المتعلق كوناً مقيداً، إلا أن يريد تفسير المعنى، لا الإعراب.
والغسقُ: دخول أوَّل الليل، قاله ابن شميلٍ، وأنشد: [الرجز]
3451 - إنَّ هذا اللَّيلَ قد غَسقَا ... واشْتكيتُ الهَمَّ والأرقَا
وقيل: هو سواد الليل، وظلمتهُ، وأصله من السَّيلان: غسقتِ العينُ، أي: سال دمعُها، فكأنَّ الظُّلمَة تنصبُّ على العالم، وتسيلُ عليهم؛ قال: [البسيط]
34352 - ظَلَّتْ تَجودُ يَداهَا وهي لاهِيَةٌ ... حتَّى إذَا هَجَمَ الإظلامُ والغَسقُ
ويقال: غَسقتِ العينُ: امتلأتْ دمعاً، وغسق الجرحُ: امتلأ دماً؛ فكأنَّ الظُّلمةَ ملأتِ الوجود.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الغَسقُ: بُدُوُّ اللُّيْل
وقال قتادة: وقتُ صلاة المغرب.
وقال مجاهدٌ: غروب الشَّمس.(12/357)
والغاسقُ في قوله: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] قيل: المراد به: القمر، إذا كسف، واسودَّ.
قال - صلوات الله وسلامه عليه - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - حين رأتْ كسوف القمر: «اسْتعِيذِي مِنْ شرِّ الغَاسقِ إذَا وَقبَ» .
وقيل: اللَّيل، والغساقُ، بالتخفيف، والتشديد: ما يسيلُ من صديد أهل النار، ويقال: غَسقَ اللَّيلُ، وأغسقَ، وظَلمَ، وأظْلمَ، ودَجَى، وغَبشَ، وأغْبشَ، نقله الفراءُ.
فصل في معنى الغسق
قال الأزهريُّ: غسق الليل عندي: غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة، واشتدادها، يقال: غسقتِ العين، إذا امتلأت دمعاً، وغسقت الجراحة: إذا امتلأت دماً.
قال: لأنَّا إذا حملنا الشَّفق على هذا المعنى، دخلت الصَّلوات الأربعة فيه، وهي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ولو حملنا الغسق على ظهور أوَّل الظُّلمة، لم يدخل فيه الظهر والعصر؛ فوجب أن يكون الأولى أولى.
واعلم أنَّه يتفرَّع على هذين الوجهين بحثٌ حسنٌ؛ فإن فسَّرنا الغسق بظهور أوَّل الظلمة، كان الغسق عبارة عن أوَّل المغرب، وعلى هذا: يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقاتٍ: وقت الزَّوال، ووقت أوَّل المغرب، ووقت الفجر، وهذا يقتضي أن يكون الزوال: وقتاً للظُّهر والعصر، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين، وأن يكون أوَّل وقت المغرب وقتاً للمغرب والعشاء، فيكن هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء مطلقاً، إلا أنَّه دلَّ الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذرٍ لا يجوز؛ فوجب أن يكون الجمع جائزاً مع العذر.
وإذا فسَّرنا الغسق بالتراكم، فنقول: الظلمة المتراكمة، إنَّما تحصل عند غيبوبة الشَّفق الأبيض، وكلمة «إلى» لانتهاءِ الغاية، والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية؛ فوجب إقامةُ الصلوات كلِّها قبل غيبوبة الشَّفق الأبيض، وهذا إنَّما يصحُّ إذا قلنا: إنَّها تجبُ عند غيبوبة الشَّفق الأحمر.(12/358)
قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفجر} فيه أوجه:
أحدها: أنه عطف على «الصَّلاة» أي: وأقم قرآن الفجرِ، والمراد به صلاة الصبح، عبَّر عنها ببعض أركانهاز
والثاني: أنه منصوبٌ على الإغراء، أي: وعليك قرآن الفجرِ، كذا قدَّره الأخفش وتبعه أبو البقاء، وأصول البصريِّين تأبى هذا؛ لأن أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة.
الثالث: انه منصوب بإضمار فعلٍ، أي: كثِّر قرآن، أو الزم قرآن الفجرِ.
فصل في دلالة الآية
دلَّت هذه الآية على أمور:
منها: أنَّ الصلاة لا تكون إلا بقراءة؛ لقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة} .
ومنها: أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر، والتقدير: وأقم الفجرِ.
ومنها: أنه علَّق القراءة بحصول الفجر، وفي أوَّل طلوعه، إلاَّ أنَّ الإجماع على أنَّ هذا الوجور غير حاصل؛ فوجب أن يبقى على النَّدب؛ لأنَّ الوجوب عبارةٌ عن رجحانٍ مانعٍ من التَّرك، فإذا منع مانع من تحقُّق الوجوب، وجب أن يرتفع المنع من التَّرك، وأن يبقى أصل الرُّجحان؛ حتَّى تنقل مخالفة الدليل؛ فثبت أنَّ هذه الآية تقتضي أنَّ إقامة الفجر في أوَّل الوقت أفضل؛ وهذا يدلُّ على أن التغليس أفضل من التَّنوير.
ومنها أن القراءة تكون في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات؛ لأنَّ المقصود من قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} الحثُّ على طول القراءة في هذه الصلاة؛ لأن التخصيص بالذِّكر يدلُّ على أنه أكملُ من غيره.
ومنها: قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} .
ومعناه: أنَّ ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصُّبح خلف الإمام، تنزلُ ملائكة النَّهارعليهم، وهم في الصَّلاة؛ قبل أن تعرج ملائكة اللَّيل، وإذا فرغ الإمام من الصلاة، عرجت ملائكة الليل، ومكثت ملائكة النَّهار، ثمَّ إن ملائكة الليل إذا صعدت، قالت: يا ربِّ، إنَّا تركنا عبادك يصلُّون لك، وتقول ملائكة النَّهارِ: ربَّنا، أتينا عبادك يصلُّون لك، فيقول الله تعالى لملائكته: اشهدوا أنِّي قد غفرت لهم.
وهذا يدل على أنَّ التغليس أفضل من التنوير، لأنَّ الإنسان، إذا شرع فيها من [أوَّل] الصُّبح، ففي ذلك الوقت: الظلمة باقية، فتكون ملائكة الليل حاضرين، ثمَّ إذا(12/359)
امتدَّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة، وتكثيرها، زالت الظلمة، وظهر الضوء، وحضرت ملائكةُ النهار، وأمَّا إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التَّنوير، فهناك لم يبق أحدٌ من ملائكة الليل؛ فلا يحصل المعنى المذكور، فقوله جلَّ ذكره: {كَانَ مَشْهُوداً} . يدلُّ على أنَّ التغليس أفضلُ.
قوله تعالى: {وَمِنَ الليل} : في «مِنْ» هذه وجهان:
أحدهما: أنها متعلقة ب «تَهجَّد» أي: تهجَّد بالقرآن بعض الليل.
والثاني: أنها متعلقة بمحذوفٍ، تقديره: وقم قومة من الليل، أو: واسهر من الليل، ذكرهما الحوفيُّ، وقال الزمخشريُّ: «وعليك بعض الليل، فتهجَّد به» فإن كان أراد تفسير المعنى، فقريبٌ، وإن أراد تفسير الإعراب، فلا يصحُّ؛ لأنَّ المغرى به لا يكون حرفاً، وعله «مِنْ» بمعنى «بعضٍ» لا يقتضي اسميَّتها؛ بدليل أنَّ واو «مََ» ليست اسماً بإجماع، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو «مَعَ» .
والضمير في «به» :
الظاهر: عوده على القرآن؛ من حيث هو، لا بقيد إضافته إلى الفجر.
والثاني: أنها تعود على الوقت المقدر، أي: وقُم وقتاً من الليل، فتهجَّد بذلك الوقت، فتكونُ الباء بمعنى «في» .
قوله «نَافِلةً» فيها أوجه:
أحدها: أنها مصدرٌ، أي: تنفَّل نافلة لك على الصَّلوات المفروضة.
والثاني: أنها منصوبة ب «تهجَّد» لأنه في معنى «تنفَّل» فكأنه قيل: تنفَّل نافلة، والنَّافلةُ، مصدر؛ كالعاقبة، والعافية.
الثالث: أنها منصوبة على الحال، أي: صلاة نافلةٍ، قاله أبو البقاء، وتكون حالاً من الهاء في «به» إذا جعلتها عائدة على القرآن، لا على وقتٍ مقدر.
الرابع: أنها منصوبة على المفعول بها، وهو ظاهر قولِ الحوفيِّ، فإنه قال: «ويجوز أن ينتصب» نَافلةً «بتهجَّد، إذا ذهبت بذلك إلى معنى: صلِّ به نافلة، أي: صلِّ نافلة لك» .
والتهَجُّدُ: ترك الهجود، وهو النُّومُ، «وتفَعَّل» يأتي للسَّلب، نحو: تحرَّج، وتأثَّم، وفي الحديث: «كَان يتحَنَّثُ بغارِ حراءٍ» وفي الهجود خلافٌ بين أهل اللغة، فقيل: هو النَّومُ؛ قال: [الطويل](12/360)
3453 - وبَرْك هُجودٍ قد أثَارتْ مَخافتِي..... ... ... ... ... ...
وقال الآخر: [الطويل]
3454 - ألا طَرقَتْنَا والرِّفاقُ هُجودُ..... ... ... ... ... ... . .
وقال آخر: [الوافر]
3455 - ألا زَارتْ وأهْلُ منًى هجودُ ... وليْتَ خَيالهَا بِمِنًى يَعودُ
فَهجودٌ: نيامٌ، جمع «هاجدٍ» كساجد، وسجُودٍ، وقيل: الهجود: مشتركٌ بين النَّائم والمصلِّي، قال ابن الأعرابي: «تهجَّد: صلَّى من الليل، وتهجد: نام» وهو قول أبي عبيدة والليث - رحمهما الله تعالى -.
قال الواحديُّ: الهُجودُ في اللغة: النومُ، وهو كثيرٌ في الشِّعر.
يقال: أهجدتُّه وهجدتُّه، أي: أنَمْتهُ ومنه قول لبيد [الرمل]
3456 - قَالَ: هَجِّدْنَا فَقدْ طَالَ السُّرَى..... ... ... ... ... ... .
كأنه قال: نوِّمنا؛ فقد طال السُّرى؛ حتى غلب علينا النَّوم، وقال الأزهري: المعروف في كلام العرب: أنَّ الهاجد هو النَّائم، ثم رأينا في الشَّرع أنَّ من قام إلى الصَّلاة من النَّوم يسمَّى هاجداً أي متهجِّداً؛ فيحمل هذا على أنَّه سمِّي متهجّداً؛ لإلقائه الهُجُود عن نفسه؛ كما ياقل للعابد: «مُتحَنِّثٌ» ؛ لإلقائه الحنث عن نفسه، وروي أن الحجَّاج بن عمرو المازنيَّ قال: أيَحسبُ أحدكم، إذا قام من اللَّيلِ، فصلَّى حتَّى يصبح أنَّه قد تهجَّد، إنَّما التهجُّد الصلاة بعد الرقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، هكذا كتنت صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دائماً عليه.(12/361)
والنافلةُ في اللغة: الزيادة على الأصل، وقد تقدَّم في الأنفال، وفي تفسير كونها زيادة ها هنا قولان مبنيَّان على أنَّ صلاة الليل، هل كانت واجبة على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أم لا؟ .
فقيل: إنَّها واجبة عليه؛ لقوله سبحانه وتعالى: {يا أيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل: 1، 2] ثم نسخت، فصارت نافلة، أي: تطوُّعاً وزيادة على الفرائض.
وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها نافلة وجهاً حسناً، قالا: إنَّ الله قد غفر للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما تقدَّم من ذنبه، وما تأخَّر، فكلُّ طاعةٍ يأتي بها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سوى المكتوبةِ لا تؤثر في كفَّارة الذنب، بل تؤثر في زيادة الدَّرجاتِ، وكثرة الثَّواب؛ فكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب، فلهذا سمِّي نافلة؛ بخلاف الأمة؛ فإنَّ لهم ذنوباً محتاجة إلى التكفير، فهذه الطاعة يحتاجون إليها؛ لتكفير السَّيئات عنهم؛ فثبت أنَّ هذه الطاعات إنَّما تكون زوائد ونوافل في حقِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا في حقِّ غيره، فلهذا قال: «نَافلةً لكَ» ، فهذا معنى يخصِّصهُ.
وأمَّا من قال: إنَّ صلاة الليل كانت واجبة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: معنى كونها نافلة له على التخصيص، يعني: أنَّها فريضةٌ لك، زائدة على الصَّلوات الخمس، خصِّصت بها من دون أمَّتك؛ ويدلُّ على هذا القولِ قوله تعالى: {فَتَهَجَّدْ} والأمر للوجوب، ويرد هنا قوله: {نَافِلَةً لَّكَ] ، لأنَّه لو كان المراد الوجوب، لاقل: «نَافِلةً عليك» .
واعلم أنَّ قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر} وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصًّا بالرسول - صلوات الله عليه وسلامه - إلا أنَّه في المعنى عامٌّ في حقِّ الأمَّة؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} بيَّن أن الأمر بالتهجد يختصُّ بالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - والأمر بالصَّلوات الخمس غير مخصوصٍ بالرسول - صلوات عليه - وإلاَّ لم يكن لتقييد المر بالتهجُّد بهذا القيد فائدةٌ.
قوله تعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} في نصب «مقاماً» أربعة أوجه:
أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، أي: يبعثك في مقام.
الثاني: أن ينتصب بمعنى «يَبْعثكَ» ؛ لأنه في معنى «يُقِيمكَ» ؛ يقال: أقيم من قبره، وبعث منه، بمعنًى، فهو نحو: قعد جلوساً.
الثالث: أنه منصوبٌ على الحال، أي: يبعثك ذا مقامٍ محمود.
الرابع: أنه مصدر مؤكد، وناصبه مقدر، أي: فيقوم مقاماً.
و «عَسَى» على الأوجه الثلاثة دون الرابع يتعيَّن فيها أن تكون التامة؛ فتكون مسندة إلى «أنْ» وما في حيِّزها؛ إذ لو كانت ناقصة على أن يكون «أنْ يَبْعثكَ» خبراً مقدَّماً، و «ربُّكَ» اسماً مؤخراً؛ لزمَ من ذلك محذورٌ: وهو الفصل بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولها، فإنَّ «مَقاماً» على الأوجه الثلاثة الأول: منصوبٌ ب «يَبْعثكَ» ، وهو صلة ل «أنْ» ، فإذا جعلت «ربُّكَ» اسمها، كان أجنبيًّا من الصلة، فلا يفصل به، وإذا جعلته فاعلاً، لم يكن أجنبيًّا، فلا يبالي بالفصل به.(12/362)
وأمَّا على الوجه الرابع: فيجوز أن تكون التامة والناقصة بالتقديم والتأخير؛ لعدم المحذور؛ لأنَّ «مقاماً» معمولٌ لغير الصلة.
وقوله: «محموداً» في انتصابه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على الحال من قوله: يَبْعثكَ، أي: يبعثك محموداً.
والثاني: أن يكون نعتاً للمقام.
فصل في معنى «عسى» من الله
اتفق المفسرون على أنَّ كلمة «عسى» من الله واجبٌ.
قال أهل المعاني: لأنه لفظ يفيد الإطماع، ومن أطمع إنساناً في شيء، ثم حرمه، كان عاراً، والله تعالى أكرم من أن يطمع واحداً في شيء، ثم لا يعطيه.
وفي تفسير المقام المحمود أربعة أقوالٍ:
الأول: أنه الشَّفاعة.
قال الواحدي: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة؛ كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه الآية: «هو المقام الذي أشفعُ لأمَّتِي فيه» .
قال ابن الخطيب: واللفظ مشعر به؛ لأنَّ الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامدٌ، والحمد، إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحموج يجب أن يكون مقاماً أنعم فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على قوم، فحمدوه على ذلك الإنعام، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون تبليغ الدِّين، وتعليم الشرائع؛ لأنَّ ذلك كان حاصلاً في الحال، وقوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} تطميعٌ، وتطميع الإنسان في الشيء الذي حصل له وعده محالٌ؛ فوجب أن يكون ذلك الإنعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً يصل منه بعد ذلك إلى النَّاس، وما ذاك إلاَّ شفاعته عند الله تعالى.
وأيضاً: التنكيرُ في قوله: {مَقَاماً مَّحْمُوداً} يدل على أنه يحصل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك المقامِ حمدٌ بالغٌ عظيمٌ كاملٌ، ومن المعلوم أنَّ حمد الإنسان على سعيه في التخليص من العذاب أعظم من حمده في السَّعي في زيادة الثَّواب؛ لأنَّه لا حاجة به إليها؛ لأنَّ حاجة الإنسان في رفع الآلام العظيمة عن النَّفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها، وإذا(12/363)
ثبت هذا، وجب أن يكون المراد من قوله تعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} هو الشَّفاعة في إسقاط العقاب؛ على ما هو مذهب أهل السنة.
ولمَّا ثبت أن لفظ الآية مشعرٌ بهذا المعنى إشعاراً قويًّا، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى، وجب حمل اللفظ عليه، ومما يؤكِّد ذلك الدعاء المشهور عنه في إجابة المؤذِّن: «وابعثه المقام المحمود الذي وعدته» .
واتَّفق النَّاس على أنَّ المراد منه الشَّفاعة.
والقول الثاني: قال حذيفة: يجمع الناس في صعيدٍ، فلا تتكلَّم نفسٌ، فأوَّل من يتكلَّم محمدٌ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقول: لَبَّيكَ، وسَعْديْكَ، والشَّرُّ ليس إليك، والمهديُّ من هَديْتَ، والعَبْدُ بين يَديْكَ، وبِكَ وإلَيْكَ، لا مَنْجَى ولا مَلْجَأ مِنْكَ إلاَّ إليكَ، تَباركتَ، وتَعاليْتَ، سُبحانَكَ ربَّ البيتِ «.
قال: فهذا هو المراد من قوله عزَّ وجلَّ: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} .
والقول الأول أولى؛ لأنَّ سعيه في الشَّفاعة يفيد إقدام الناس على حمده، فيصير محموداً، وأمَّا ذكر هذا الدعاء، فلا يفيد إلا الثواب، أمَّا الحمد، فلا.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال: إنَّه تعالى يحمده على هذا القول؟ .
فالجواب: أنَّ الحمد في اللغة: مختصٌّ بالثناءِ المذكور ف يمقابلة الإنعام بلفظٍ، فإن ورد لفظ «الحمد» في غير هذا المعنى، فعلى سبيل المجاز.
القول الثالث: المراد مقامٌ تحمد عاقبته، وهذا ضعيفٌ؛ لما ذكرنا.
القول الرابع: قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ(12/364)
عَنْه - أنه قال: يقعدُ الله محمداً على العرشِ، وعن مجاهد أنَّه قال: يجلسه معه على العرشِ.
قال الواحدي: وهذا قولٌ رذلٌ موحشٌ فظيعٌ، ونص الكتاب يفسد هذا التفسير من وجوه:
الأول: أن البعث ضدُّ الإجلاس، يقال: بعثتُ النَّاقة، وبعث الله الميت، أي: أقامه من قبله، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضدِّ بالضدِّ؛ وهو فاسدٌ.
والثاني: أنه تعالى، لو كان جالساً على العرشِ، بحيث يجلس عنده محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لكان محدوداً متناهياً، ومن كان كذلك، فهو محدثٌ.
الثالث: أنه تعالى قال: {مَقَاماً مَّحْمُوداً} ولم يقل: مقعداً، والمقام: موضع القيام، لا موضع القعود.
الرابع: أن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزازٍ؛ لأن هؤلاء الحمقاء يقولون: إنَّ أهل الجنة كلهم يجلسون معه ويرونه، وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكلِّ المؤمنين، لم يكن في تخصيص محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك مزيد شرفٍ ومرتبةٍ.
الخامس: أنه إذا قيل: السلطان بعث فلاناً، فهم منه أنَّه أرسله لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم أنه أجلسه مع نفسه؛ فثبت أن هذا القول كلام رذلٌ، لا يميل إليه إلاَّ قليل العقل، عديم الدِّين.(12/365)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الآية.
يحتمل أن يكون «مدخل» مصدراً، وأن يكون ظرف مكانٍ، وهو الظاهر، والعامة على ضمِّ الميم فيهما؛ لسبقهما بفعل رباعيٍّ، وقرأ قتادة، وأبو حيوة، وإبراهيم بن أبي عبلة، وحمسدٌ بفتح الميم فيهما: إمَّا لأنهما [مصدران على حذف الزوائد؛ ك {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ؛ وإمَّا لأنهما] منصوبان بمقدر موافق لهما، تقديره: فادخل(12/365)
مدخل، واخرج مخرج، وقد تقدَّم هذا مستوفًى في قراءةِ نافع في سورة النساء [الآية: 31] ، وأنه قرأ كذلك في سورة الحجِّ [الآية: 59] .
و «مُدخلَ صِدقٍ» ، و «مُخرجَ صِدقٍ» من إضافة التبيين، وعند الكوفيين من إضافة الموصوف لصفته؛ لأنه يوصف به مبالغة.
و «سلطاناً» هو المفعول الأول للجعلِ، والثاني أحدُ الجارَّين المتقدمين، والآخر متعلِّقٌ باستقراره، وقوله «نَصِيراً» يجوز أن يكون محولاً من «فاعلٍ» للمبالغة، وأن يكون بمعنى مفعول.
فصل في معنى «مُدخَلَ صِدقٍ» و «مُخْرَجَ صِدْقٍ»
قد تقدَّم في قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض} [الإسراء: 76] قولان:
أحدهما: أن يكون المراد منه سعي كفَّار مكَّة في إخراجه منها.
والثاني: المراد منه اليهود؛ قالوا له: الأولى أن تخرج من المدينة إلى الشَّام، ثم قال: «أقم الصَّلاة» واشتغل بعبادة الله تعالى، ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهَّال، فإنَّ الله تعالى يعينك، ثمَّ عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة من أن كفَّار مكَّة أرادوا إخراجه، فأراد الله تعالى هجرته إلى المدينة، وقال له: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} ، وهو المدينة، {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} ، وهو مكَّة، وهذا قول ابن عبَّاس، والحسن، وقتادة.
وعلى التفسير الثاني، وهو أنَّ المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذَّهاب إلى الشَّام، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثمَّ أمر بأن يرجع إليها، فلمَّا عاد إلى المدينة، قال: «ربِّ أدخلْنِي مُدخلَ صدقٍ» وهي المدينة، «وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدقٍ» يعني: إلى مكة؛ [بالفتح] ، أي: افتحها.
وقال الضحاك: «أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ» ظاهراً على مكة بالفتح «وأخْرِدنِي مُخرجَ صِدْقٍ» من مكة، آمناً من المشركين.
وقال مجاهد: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة، والقيام بمهمات أداء شريعتك، «وأخْرِجْنِي» من الدنيا، وقد قمت بما وجب عليَّ من حقِّها «مُخرجَ صِدقٍ» أي: إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ.(12/366)
وعن الحسن: «أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ» الجنة، «وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدْقٍ» أي: إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ من مكة.
وقيل: أدخلني في طاعتك، وأخرجني من المناهي.
وقيل: أدخلني القبر مدخل صدقٍ، وأخرجني منه مخرج صدقٍ، وقيل: أدخلني حيثُ ما أدخلتني بالصِّدق، وأخرجني بالصِّدق، أي: لا تجعلني ممَّن يدخل بوجهٍ، ويخرج بوجهٍ، فإنَّ ذا الوجهين لم يكن عند الله وجيهاً.
ووصف الإدخال والإخراج بالصِّدقِ؛ لما يئول غليه الدُّخولُ والخروج من النصر، والعزِّ، ودولة الدِّين، كما وصف القدم بالصِّدق؛ فقال: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [المائدة: 67] .
وقال: {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} [المجادلة: 22] .
وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] .
ولما سأل الله تعالى النُّصرة، بيَّن أنَّه أجاب دعاءه؛ فقال: {وَقُلْ جَآءَ الحق} . وهو دينه وشرعه.
قوله: {وَزَهَقَ الباطل} . وهو كل ما سواه من الأديان، والشَّرائع، قاله السديُّ.
وقيل: جاء الحقُّ، أي: القرآن. وزهق الباطل، أي: ذهب الشيطان، قاله قتادة.
وقيل: الحقُّ: عبادة الله تعالى، والباطل عبادة الأصنام.
وعن ابن مسعودٍ: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل مكَّة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائةٍ وستُّون صنماً، فجعل يضربها بعودٍ في يده، وجعل يقول: {جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل}(12/367)
[أي: ذهب الشيطان] كان الصَّنمُ ينكبُّ على وجهه.
قوله: {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} . أي: إنَّ الباطل، وإن كان له دولةٌ، لا يبقى، بل يزول بسرعة.
والزُّهوقُ: الذِّهاب، والاضمحلال؛ قال: [الكامل]
3457 - ولقَدْ شَفَى نَفْسِي وأبْرَأ سُقمهَا ... إقْدامهُ بِمزَالةٍ لمْ يَزْهقِ
يقال: زهقت نفسي تزهقُ زهوقاً بالضمِّ، وأمَّا الزُّهوقُ، بالفتح، فمثال مبالغة؛ كقوله: [الطويل]
3458 - ضَرُوبٌ بِنصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها..... ... ... . .
قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن} : في «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها لبيان الجنس، قاله الزمخشري، وابن عطيَّة، وأبو البقاء، وردَّ عليهم أبو حيان: بأنَّ التي للبيان، لا بد وأن يتقدَّمها ما تبينه، لا أن تتقدم هي عليه، وهنا قد وجد تقدُّمها عليه.
الثاني: أنها للتبعيض، وأنكره الحوفي؛ قال: «لأنه يلزم ألاَّ يكون بعضه شفاء» وأجيب عنه: بأنَّ إنزاله إنَّما هو مبعضٌ، وهذا الجواب ليس بظاهرٍ، وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يشفي من المرض. وهذا يؤيده الدَّليلُ المتقدِّم، وأجاز الكسائيُّ: «ورَحْمةً» بالنصب عطفاً على ما تظاهر وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيِّد الحيِّ الذي لدغ، بالفاتحة؛ فشفي.
الثالث: أنها لابتداءِ الغاية، وهو واضحٌ.
والجمهور على رفع «شفاء ورحمةٌ» خبرين ل «هُوَ» ، والجملة صلة ل «مَا» وزيد بن عليٍّ بنصبهما، وخرِّجت قراءته على نصبهما على الحال، والخبر حينئذ «لِلمُؤمنينَ» وقدِّمت الحال على عاملها المعنوي، كقوله تعالى: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ} [الزمر: 67] في قراءة من نصب «مَطْويَّاتٍ» ، وقول النابغة:
3459 - رَهْطُ ابنِ كُوزٍ مُحقِبِي أدْرَاعهُمْ ... فِيهمْ ورَهْطُ رَبيعَة بْنِ حُذارِ
وقيل: منصوبان بإضمار فعلٍ، وهذا عند من يمنع تقديمها على عاملها المعنوي، وقال أبو البقاء: وأجاز الكسائي: «ورحْمَةً» بالنصب عطفاً على «مَا» فظاهر هذا أن(12/368)
الكسائيَّ [بقَّى] «شِفاءٌ» على رفعه، ونصب «رَحْمةً» فقط عطفاً على «ما» الموصولة؛ كأه قيل: ونُنزِّل [من القرآن رحمة، وليس في نقله ما يؤذن بأنه تلاها قرآناً، وتقدَّم الخلاف في] «ونُنزِّلُ» تخفيفاً وتشديداً، والعامة على نون العظمة.
ومجاهد «ويُنزِلُ» بياء الغيبة، أي: الله.
فصل في المراد ب «مِنْ» في الآية
قال المفسِّرون: إنَّ «من» هنا للجنسِ؛ كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] .
أي: ونُنزِّل من هذا الجنس الذي هو قرآنٌ ما هو شفاءٌ، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، أي: بيانٌ من الضلالة والجهالة يتبيَّن به المختلف، ويتَّضح به المشكل، ويستشفى به من الشُّبهة، ويهتدى به من الحيرة، وهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها.
واعلم أنَّ القرآن شفاء من المراض الرُّوحانيَّة، والأمراض الجسمانية.
أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية؛ لأنَّ المرض الروحانيَّ قسمان:
أحدهما: الاعتقادات الباطلة، وأشدُّها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيَّات، والنبوَّات، والمعاد، والقضاءِ، والقدر؛ والقرآن كلُّه مشتملٌ على دلائل الحقِّ في هذه المطالب.
والثاني: الأخلاق المذمومة؛ والقرآن مشتمل على تفاصيلها، وتعريف ما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة، وكان القرآن شفاء من الأمراض الروحانيَّة.
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية؛ فلأنَّ التبرُّك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض؛ ويؤيده ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «مَنْ لَمْ يَستشْفِ بالقرآنِ، فلا شَفاهُ الله تعالى» .
وما ورد في حديث الرقية بالفاتحة.
ثم قال: {ولا يَزيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً} المراد بالظالمين ها هنا: المشركون؛ لأنَّ سماع القرآن يزيدهم غضباً، وغيظاً، وحقداً، وكلَّما نزلت آيةٌ يتجدَّد تكذيبٌ؛ فتزداد خسارتهم.
قال مجاهد وقتادة: لم يجالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان: قضاء الله الذي قضاه شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين، ولا يزيد الظَّالمين إلا خساراً.(12/369)
ثم إنه تعالى ذكر السَّبب الأصلي في وقوع هؤلاء الجهَّال في أودية الضَّلال، وهو حبُّ الدنيا، والرغبة في المال والجاه، واعتقادهم أن ذلك إنَّما يحصل بجدِّهم واجتهادهم، فقال: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} .
قال ابن عباس: الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة.
والأوْلى أنَّ كل إنسان من شأنه إذا فاز بمقصوده، غترَّ وصار غافلاً عن عبادة الله - تعالى - وتمرَّد على طاعته؛ كما قال: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6، 7] .
قوله تعالى: {وَنَأَى} : قرأ العامة بتقديم الهمزة على حرف العلة؛ من النَّأي، وهو البعدُ، وابن ذكوان - ونقلها أبو حيان وابن الخطيب عن ابن عامر وأبو جعفر: «نَاءَ» مثل «جَاءَ» بتقديم الألف على الهمزة، وفيها تخريجان: أحدهما: أنها من: نَاءَ، يَنُوء، أي: نَهضَ؛ قال: [الرجز]
3460 - حتَّى إذا مَا التَأمَتْ مَفاصِلُه ... ونَاءَ في شقِّ الشِّمالِ كَاهِلُه
والثاني: أنه مقلوبٌ من «نَأى» ، ووزنه «فَلعَ» كقولهم في «رَأى» : «رَاءَ» إلى غير ذلك فيكونان بمعنى، ولكن متى أمكن عدم القلب، فهو أولى، وهذا الخلافُ أيضاً في حم السجدة [فصلت: 51] .
وأمال الألف إمالة محضة الأخوان، وأبو بكرٍ، عن عاصمٍ، وبين بين؛ بخلاف عنه، السوسيُّ، وكذلك في فصِّلت، إلا أبا بكرٍ؛ فإنه لم يمله.
وأمال فتحة النون في السورتين خلفٌ، وأبو الحارث والدُّوري عن الكسائيِّ.
ثم قال: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر} ، أي: الشِّدة، والضر {كَانَ يَئُوساً} أيساً قنوطاً.
وقيل: معناه: أنَّه يتضرَّع، ويدعو عند الضُّرِّ والشدَّة، فإذا تأخَّرت الإجابة، أيس، ولا ينبغي للمؤمن أن يَيْئَسَ من الإجابة، وإن تأخَّرت، فيدع الدعاء.
قوله تعالى: {على شَاكِلَتِهِ} : متعلق ب «يَعْمَلُ» ، والشَّاكلةُ: أحسنُ ما قيل فيها ما قاله الزمخشريُّ والزجاج: أنها مذهبه الذي يشاكلُ حاله في الهدى والضلالة؛ من قولهم: «(12/370)
طريقٌ ذو شَواكلَ» ، وهي الطرقُ التي تَشعَّبتْ منه؛ والدليل عليه قوله تعالى: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} ، وقيل: على دينه، وقيل: خلقه، وقال ابن عباسٍ: «جانبه» وقال الحسن، وقتادة: على نيَّته. وقال الفراء: «على طَريقتهِ، والمذهب الذي جبل عليه» .
[وهو] من «الشَّكلِ» وهو المثل؛ يقال: لست على شكْلِي، ولا شَاكلتي، وأمَّا «الشَّكلُ» بالكسر فهو الهيئة؛ يقال: جاريةٌ حسنة الشِّكلِ، وقال امرؤ [القيس] في «الشَّكل» بالفتح: [الكامل]
3461 - حَيِّ الحُمولَ بِجانبِ العَزْلِ ... إذْ لا يُلائِمُ شَكلُهَا شَكْلِي
أي: لا يلائم مثلها مثلي.
قال ابن الخطيب: والذي يقوى عندي: أنَّ المراد من المشاكلة ما قاله الزجاج، والزمخشريُّ؛ لقوله بعد ذلك: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} [الإسراء: 84] .
وفيه وجه آخر: وهو أنَّ المراد: أن كلَّ أحد يفعل على وفق ما يشاكله جوهر نفسه، ومقتضى روحه، فإن كانت مشرقة، ظاهرة، علوية، صدرت منه أفعالٌ فاضلةٌ، وإن كانت نفسه كدرة خبيثة [مضلَّةً ظُلمانيَّة، صدرت عنه أفعال خسيسة] فاسدةٌ.
وأقول: اختلف العقلاء في أنَّ النفوس الناطقة البشريَّة، هل هي مختلفةٌ بالماهيَّة، أم لا؟ .
منهم من قال: إنَّها مختلفةٌ بالماهيَّة، وإنَّ اختلاف أحوالاه وأفعالها لاختلاف امزجتها.
والمختار عندي: هو القسم الأوَّل، والقرآن يشعر به؛ لأنه تعالى بيَّن في الآية المتقدمة: أنَّ القرآن بالنِّسبة إلى البعض يفيد الشِّفاء، والرحمة، وبالنِّسبة إلى الآخرين يفيد(12/371)
الخسار، والخزي، ثم أتبعه بقوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} .
ومعناه: أن اللائق بتلك النُّفوس أن يظهر فيها القرآن الخير وآثار لاذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار، وتسوِّد وجهه، وهذا الكلام لا يتم المقصود به، إلاَّ إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة ماهيَّاتهان فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار، وتسوِّد وجهه، وهذا الكلام لا يتم المقصود به، إلاَّ إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة ماهيَّاتها، فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نورٌ على نورٍ، وبعضها كدرةٌ ظلمانية، ويظهر فيها من القرآن ضلال عل ضلالٍ، ونكالٌ على نكالٍ. قوله: «أهْدَى» يجوز أن يكون من «اهْتدَى» ؛ على حذف الزوائد، وأن يكون من «هَدَى» المتعدِّي، وأن يكون من «هَدَى» القاصر، بمعنى «اهتدى» . وقوله «سَبِيلاً» تمييزٌ.
[والمعنى:] فربُّكم أعلم بمن هو أوضح طريقاً.(12/372)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} الآية.
رُوِثَ أن اليهود قالوا لقريشٍ: اسألوا محمداً عن ثلاثةِ أشياء، فإن أجاب عن كلِّها، أو لم يجب عن شيءٍ، فليس بنبيٍّ، وإن أجاب عن اثنين، وأمسك عن الثَّالِث، فهو نبيٌّ؛ فاسألوا عن فتيةٍ فقدوا في الزَّمنِ الأوَّل، فما كان أمرهم؛ فإنهم كان لهم حديثٌ عجيبٌ؟ وعن رجلٍ بلغ مشرق الشَّمسِ، ومغربها، ما خبره؟ وعن الرُّوحِ؛ فسأله، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «غداً أخبركم» ولم يقل: إن شَاءَ الله، فانقطع عنه الوحي.
قال مجاهدٌ: اثنتي عشرة ليلة، وقيل: خمسة عشر يوماً، وقال عكرمة: أربعين يوماً، وأهل مكَّة يقولون: وعدنا محمد غداً، وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيءٍ، حتَّى حزن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكث الوحي، وشقَّ عليه ما يقول أهل مكَّة، ثم نزل الوحي بقوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23، 24] .
ونزل في الفتية: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف: 9] .
ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} [الكهف: 83] .(12/372)
ونزل في الرُّوح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} .
قال ابن الخطيب: ومن النَّاس من [طعن] في هذه الرواية؛ من وجوه:
أولها: قالوا: ليس الروح أعظم شأناً، ولا أعلى درجة من الله تعالى، فإن كانت معرفة الله تعالى حاصلة ممكنة، فأي مانعٍ يمنع من معرفة الروح؟ {.
وثانيها: أن اليهود قالوا: إن أجاب عن قصَّة أهل الكهف، وقصَّة ذي القرنين، ولم يجب عن الروح، فهو نبيٌّ، وهذا كلامٌ بعيد عن العقلاء؛ لأن قصَّة أصحاب الكهف، وقصَّة ذي القرنين ليست إلا حكاية، والحكاية لا تكون دليلاً على النبوة.
وأيضاً: فالحكاية التي يذكرها: إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته، أو بعد العلم بنبوته.
فإن كانت قبل العلم بنبوته، كذَّبوه فيها، وإن كانت بعد العلم بنبوته، فحينئذٍ: نبوَّتهُ معلومة؛ فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية وأما عدم الجواب عن حقيقةِ الروح، فهذا يبعد جعله دليلاً على صحَّة النبوة.
وثالثها: أنَّ مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة، وأراذل المتكلِّمين، فلو قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي لا أعرفُها» لأورث ذلك ما يوجبُ التَّحقيرَ، والتَّنفيرَ؛ فإنَّ الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أيِّ إنسانٍ كان، فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماءِ، وأفضل الفضلاء؟} .
رابعها: أنه تعالى قال في حقِّه {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1، 2] .
وقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] .
وقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] .
وقال في [حقِّه، أي القرآن، وصفته] : {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] .
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:
«أرني الأشياء كما هي» .
فمن هذا حاله وصفته، أيليق به أن يقول: أنا لا أعرف هذه المسألة، مع أنَّها من المسائل المشهورة المذكورة عند جمهور الخلق؟ {.
بل المختار عندنا: أنَّهم سألوه عن الروح، وأنه - صلوات الله عليه - أجابهم على أحسن الوجوه، وتقريره أن المذكور في الآية، أنهم سألوه عن الروح، والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة.(12/373)
أولها: أن يقال: ماهية الروح، هل هي متحيِّز أو حالٌّ في المتحيِّز.
وثانيها: أن يقال: الروح قديمة، أو حادثة؟ .
وثالثها: أن يقالك الروح، هل تبقى بعد الأجسام، أو تفنى؟ .
ورابعها: أن يقال: ما حقيقة سعادة الأرواح، وشقاوتها؟ .
وبالجملة: فالمباحثُ المتعلقة بالروح كثيرة.
وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} ليس فيه ما يدلُّ على أنَّهم سألوه عن أيِّ المسائل، إلا أنه تعالى ذكر في الجواب عن هذا السؤال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وهذا الجواب لا يليقُ إلا بمسألتين من هذه المسائل التي ذكرناها:
إحداهما: السؤال عن ماهية الروح.
والأخرى: عن قدمها، أو حدوثها.
أما البحث الأول: فهم قالوا: ما حقيقة الروح وماهيته؟} أهو أجسامٌ موجودة داخلة في البدنِ مولدةٌ من امتزاجِ الطبائع والأخلاط؟ أو هو عبارة عن نفس هذا المزاجِ والتركيب؟ أو هو عبارة عن عرض قائم بهذه الأجسام؟ أو هو عبارة عن موجودٍ يغاير هذه الأجسام، والأعراض؟ فأجاب الله عنه بأنَّه موجودٌ مغايرُ لهذه الأجسام، ولهذه الأعراض؛ وذلك لأن لهذه الأجسام، ولهذه الأعراض أشياء تحدثُ عن امتزاجِ الأخلاط والعناصر.
وأمَّا الروح، فإنه ليس كذلك، بل هو جوهرٌ، بسيطٌ، مجردٌ، ولا يحدث إلا بمحدثٍ يقول له: «كن فيكون» ، فأجاب الله عنه بأنه موجود محدث بأمر الله وتكوينه، وتأثيره في إفادة الحياة بهذا الجسدِ، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه؛ فإنَّ أكثر حقائقِ الأشياءِ، وماهيَّاتها مجهولة؛ فإنَّا نعلم أنَّ السكنجبين له خاصيةٌ في قطع الصفراء؛ فأمَّا إذا أردنا أن نعرف ماهيَّة تلك الخاصِّيَّة، وحقيقتها المخصوصة، فذلك غير معلوم؛ فثبت أنَّ أكثر الحقائق مجهولةٌ، ولم يلزم من كونها مجهولة بعينها عدمُ العلم بخاصِّيَّتها، فكذا ها هنا؛ وهذا المراد بقوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} .
وأما البحثُ الثاني: فهو أنَّ لفظ الأمرِ قد جاء بمعنى الفعل؛ قال تعالى: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] .
وقال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 82] أي: فعلنا.
فقوله تعالى: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} . أي: من فعل ربِّي.
وهذا الجواب يدلُّ على أنَّهم سألوه عن الروح، قديمة أو حادثة، فقال: بل حادثة، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه.(12/374)
ثم احتجَّ على حدوثِ الرُّوحِ بقوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} .
ثم استدلَّ بحدوثِ الأرواح بتغيُّرها من حال إلى حالٍ، وهو المراد بقوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} .
وأما أقوال المفسِّرين في الروح المذكورة ها هنا:
فقيل: الروح: القرآن؛ لأن الله تعالى سمَّى القرآن في هذه الآية، وفي كثيرٍ من الآيات روحًا؛ قال تعالى: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] .
{يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2] .
ولأنَّ القرآن تحصل به حياة الأرواح والعقول؛ لأنَّ به تحصل معرفة الله تعالى، ومعرفة ملائكته، وكتبه، ورسله، والأرواح إنَّما يحصلُ إحياؤها بهذه المعارف، وتقدم قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .
وقال بعده: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] .
إلى قوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] .
فلما كان ما قبل هذه الآية في وصف القرآن، وما بعدها كذلك، وجب أن يكون المراد بالروح القرآن؛ حتَّى تكون آيات القرآن كلها متناسبة؛ لأن القوم استعظموا أمر القرآن، فسألوا: هل هو من جنس الشِّعر، أو من جنس الكهانة؟ فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر، وإنما هو كلامٌ ظهر بأمر الله، ووحيه، وتنزيله، فقال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، أي: القرآن إنما ظهر بأمر الله ربِّي، وليس من جنس كلامِ البشر.
ورُوِيَ عن ابن عباس: أنه جبريل، وهو قول الحسن وقتادة؛ لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] ؛ وقوله: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17] .
ويؤكده: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} .
وقال جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] .
فسالوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كيف جبريل في نفسه؟ وكيف يأتيه؟ وكيف يبلغ الوحي إليه؟ .
وقال مجاهد: الرُّوحُ: خلق ليسوا من الملائكة، على صور بني آدم يأكلون، ولهم أيدٍ، وأرجلٌ، ورءوسٌ.
وقال أبو صالحٍ: يشبهون الناس، وليسوا من النَّاس.(12/375)
فصل
قال ابن الخطيب: ولم أجِدْ في القرآن، ولا في الأخبار الصحيحة شيئاً يمكنُ التمسُّك به بهذا القول.
ورُوِيَ عن عليٍّ: أنَّه ملكٌ له سبعون ألف وجهٍ، لكلِّ وجهٍ سبعون ألف لسانٍ، لكلِّ لسانٍ سبعون ألف لغةٍ، يسبِّح الله تعالى بتلك اللغات، ويخلق الله تعالى من كلِّ تسبيحةٍ ملكاً يطير مع الملائكة، قالوا: ولم يخلق الله خلقاً أعظم من الروحِ غير العرشِ، ولو شاء أن يبتلع السَّموات السَّبع، والأرضين السبع، وما فيها بلقمةٍ واحدةٍ لفعله، صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة الآدميين، يقوم يوم القيامة عن يمين العرش، وهو أقرب الخلق إلى الله عزَّ وجلَّ اليوم عند الحجب السَّبعين، ويقرب إلى الله يوم القيامة، وهو يشفع لأهل التوحيد، ولولا أنَّ بينه وبين الملائكة ستراً من نورٍ، لاحترق أهل السموات من نوره.
فصل في ضعف هذا القول
قال ابن الخطيب: ولقائلٍ أن يقول: هذا القول ضعيفٌ؛ لوجوهٍ:
الأول: أنَّ هذا التفصيل، إذا عرفه عليٌّ، فالنبي أولى بأن يعرفه، ويخبر به، وأيضاً: فإنَّ الوحي لم يكن ينزل على عليٍّ؛ فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فَلِمَ ذكر النبي هذا الشَّرح لعليٍّ، ولم يذكره لغيره؟! .
الثاني: أنَّ ذلك الملك، إن كان حيواناً واحداً، وعاقلاً واحداً، فلا فائدة في تكثير تلك اللغات، وإن كان المتكلِّم بكلِّ لغةٍ ملكاً؛ فهذا مجموعُ ملائكة.
الثالث: أنَّ هذا شيء مجهول الوجود، فكيف يسال عنه؟ أما الروح الذي هو سبب الحياة، فهو شيء تتوفَّر دواعي العقلاء على معرفته؛ فصرف هذا السؤال إليه أولى.
وقيل: الرُّوحُ: عيسى؛ فإنَّه روح الله، وكلمته، والمعنى: أنَّه ليس كما يقوله اليهود، ولا كما يقوله النصارى.
وقال قومٌ: هو الرُّوحُ المركَّب في الخلق الذي يحيا به الإنسان، وهو الأصحُّ.
واختلفوا فيه؛ فقال بعضهم: هو الدم؛ ألا ترى [أنَّ الإنسان] ، إذا مات لا يفوتُ منه إلا الدمُ.
وقال قومٌ: هو نفس الحيوان؛ بدليل أنَّه يموت باحتباس النفس.
وقال قومٌ: هو عرضٌ.(12/376)
وقال قومٌ: هو جسم لطيف.
وقال بعضهم: الروح معنى اجتمع فيه النُّور، والطِّيب، والعلوُّ، والعلم، والبقاء؛ ألا ترى أنه إذا كان موجوداً، يكون الإنسان موصوفاً بهذه الصفات [جميعها] ، وإذا خرج ذهب الكلُّ؟! .
فصل
في شرح مذاهب القائلين بأنَّ الإنسان جسم موجود، روح في داخل البدن.
قال ابن الخطيب: اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفليِّ: إما أن تكون أحد العناصر الأربعة، أو ما يكون متولِّداً من امتزاجها، ويمتنع أن يحصل في البدنِ الإنسانيِّ جسمٌ عنصريٌّ خالصٌ، بل لا بدَّ وأن يكون الحاصل جسماً متولِّداً من امتزاجات هذه الأربعة.
فنقول: أمَّا الجسم الذي تغلب عليه الأرضية: فهو الأعضار الصُّلبة الكثيفة؛ كالعظم، والعروق، والغُضروف، والعصب، والوتر، والرِّباطاتِ لهذا الجسم، واللَّحم والجلد، ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا: إنَّ الإنسان بمعنى: روح مغاير لهذا الجسد، بأنَّه عبارة عن عضوٍ معيَّن من هذه الأعضاء؛ وذلك لأنَّ هذه الأعضاء ثقيلة، كثيفة، ظلمانيَّة، لم يقل أحد من العقلاء بأنَّ الإنسان عبارةٌ عن أحد هذه الأعضاء.
وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية؛ فهو الأخلاط الأربعة ولم يُقَلْ في شيءٍ منها: إنَّه الإنسان إلاَّ في الدَّم؛ فإنَّ فيهم من قال: هو الرُّوح؛ بدليل أنَّه، إذا خرج، لزم الموت.
وأمَّا الجسم الذي تغلب عليه الهوائية، والنارية؛ فهو الأرواح: وهي نوعان: أجسامٌ هوائية مخلوطة بالحرارةِ الغريزيّة، متولِّدة: إمَّا في القلب، أو في الدِّماغ، وقالوا: إنما هي الروح الإنسانيُّ، ثمَّ اختلفوا.
فمنهم من يقول: هو الرُّوح الذي في القلب.
ومنهم من يقول: إنَّه جزءٌ لا يتجزَّأ في الدِّماغ.
ومنهم من يقول: الرُّوحُ عبارة عن أجزاءٍ ناريَّة مختلطة بهذه الأرواح القلبيَّة، والدِّماغيَّة، وتلك الأجزاء النارية: هي المسمَّاة بالحرارة الغريزيَّة، وهي الإنسان.
ومن النَّاس من يقول: الروح عبارةٌ عن أجسام نورانيَّةٍ، سماويةٍ، لطيفة الجوهر، على طبيعة ضوءِ الشَّمس، وهي لا تقبلُ التحلُّل، والتبدُّل، ولا التفرُّق، والتمزُّق؛ وهو المراد بقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] نفذت تلك الأجسام الشَّريفة السماوية الإلهيَّة في داخل أعضاء البدنِ نفاذ النَّار في الفحم، ونفاذ دهن السِّمسم في السِّمسم، ونفاذ دهن الورد في جسمِ الورد؛ وهو المراد من قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] .
ثم إنَّ البدن ما دام سليماً، قابلاً لنفاذ تلك الأجسام الشريفة، بقي حيًّا، فإذا تولَّد(12/377)
في البدن أخلاطٌ غليظةٌ، منعت من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها، فانفصلت عن هذا البدن؛ فحينئذ: يعرض الموت.
قال: فأمَّا أنَّ الإنسان جنسٌ موجودٌ خارج البدن، فلا أعرف أحداً ذهب إلى هذا القول.
فصل في الاحتجاج على أن الروح ليست بجسم ولا عرض
احتجَّ ابن الخطيب لمسمَّى الروح بأنها ليست بجسمٍ، ولا عرضٍ، وأنها غير البدن؛ بوجوه كثيرة عقليَّة ونقليَّة.
قال ابن الخطيب: منها أنَّ العلم البديهيَّ حاصل بأن أجزاء هذه الجثَّة متبدلة بالزِّيادةِ والنُّقصانِ، والمتبدل مغاير للثَّابت.
ومنها: أنَّ الإنسان حال كونه مشتغلاً بفكره في شيءٍ معيَّن، فإنه في تلك الحالة يكونُ غافلاً عن جميع أجزاء بدنه، وغير غافل عن نفسه؛ فوجب أن يكون الإنسان مغايراً لبدنه.
ومنها: قول الإنسان: رأسي، وبدني، وعيني، ويضيف كل عضو إلى نفسه، والمضاف غير المضاف إليهز
فإن قيل: قد يقول: نفسي وذاتي فيضيف الذات والنفس إلى [نفسه] ؛ فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه، وهو محالٌ، قلنا: قد يريد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كلُّ أحدٍ بقوله: أنا فلانٌ، فغذا قال: نفسي، وذاتي، كان المراد البدن، وهو مغاير للإنسان، أمَّا إذا أريد بالنَّفس والذَّات الحقيقة المخصوصة المشار إليها بقوله: أنا فلانٌ، ثم إنَّ الإنسان يكنه أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله: إنَّه لي.
ومنها: أنَّ الإنسان قد يكون حيًّا، حال موت البدن؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] .
والحِسُّ يرى الجسد ميِّتاً.
وقال تعالى: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] .
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: « [» أنبياء الله لا يموتون «] » .
وقال - عليه السلام -: «إذَا حُمِلَ الميِّتُ على نعشِه، [رفرف] روحه فوق النَّعشِ، ويقول: يا أهْلِي، ويَا ولَدِي» .
وقال تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر، 27، 28] .
ومنها: أن الإنسان، إذا قطعت يداه ورجلاه، لم ينقص من عقله، وفهمه شيء.
ومنها: الذين مسخهم الله قردة وخنازير؛ فإن لم يكن ذلك الإنسان حيًّا، وإلاَّ لكان(12/378)
ذلك المسخُ إماتة لذلك الإنسان، وخلقاً لذلك الخنزير.
ومنها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يرى جبريل في صورة دحية، ويرى إبليس في صورة الشَّيخِ النجديِّ.
ومنها: العضو، وهذا يدل على أن الإنسان شيء غير الجسد، وأنَّ الزَّاني يزني بفرجه؛ فيضرب على ظهره؛ فيلزم أن يكون الإنسانُ شيئاً آخر، سوى الفرج، وسوى الظَّهر، وهو شيء يستعمل الظهر في عمل، والفرج في عمل؛ فيكون المتلذذ المتألم هو ذلك الشيء بواسطة ذلك العضو، وكل هذا يدل على أن الإنسان شيء غير الجسد.
ثم قال: واحتج المنكر بثلاثة أوجه:
الأول: لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية، وذلك محال.
الثاني: قوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 17 - 22] .
وهذا تصريحٌ بأنَّ الإنسان شيء مخلوق من النُّطفة، وأنه يموت، ويدخل القبر، ثم إنَّه تعالى يخرجه من القبر، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثَّة، وإلاَّ لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة.
الثالث: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} [آل عمران: 169] إلى قوله: {فَرِحِينَ} [آل عمران: 170] .
وهذا يدلُّ على أنَّ الروح جسم؛ لأنّ الارتزاق والفرح من صفات الأجسام.
والجواب عن الأوَّل: أنَّ المساواة في أنَّه ليس بمتحيِّز، ولا حالٍّ في المتحيِّز مساواةٌ في صفةٍ سلبيةٍ، والمساواة في الصِّفة السلبيَّة لا توجبُ المماثلة.
واعلم: أنَّ جماعة من الجهَّال يظنُّون أنَّه لما كان الروح موجوداً ليس بمتحيِّز، ولا حالٍّ في المتحيز، وجب أن يكون مثلاً للإله، أو جزءاً له، وذلك جهلٌ فاحشٌ، وغلطٌ قبيحٌ.
وتحقيق القولك ما ذكرناه من أنَّ المساواة في السُّلوب، لو أوجبت المماثلة، لوجب القول باستواءِ كلِّ المخالفات؛ فإنَّ كل ماهيَّتينِ مختلفتين، لا بدَّ وأن يشتركا في سلب ما عداهما عنهما، فليتفكر في هذه الدقيقة؛ فإنَّها مغلطةٌ عظيمةٌ للجهَّال.
والجوابُ عن الثاني: أنه لمَّا كان الاتِّصافُ في العرف والظَّاهر عبارة عن هذه الجثَّة أطلق عليه اسم الإنسان.(12/379)
وأيضاً: لقائل أن يقول: هَبْ أنَّا نجعلُ اسم الإنسان عبارة عن هذه الجثَّة، إلاَّ أنَّ قد دلَّلنا أنَّ محلَّ العلم والقدرة ليس هو الجثَّة.
والجواب عن الثالث: أنَّ الرِّزْقَ المذكور في الآية محمولٌ على ما يقوِّي حالهم ويكمل كمالهم، وهو معرفةُ الله ومحبَّته.
بل نقول: هذا من أدلِّ الدلائلِ على صحَّة قولنا؛ لأنَّ أبدانهم قد بليت في التُّراب، والله يقول: «إنَّ أرواحهم تأوي في قناديل معلقة تحت العرش» وهذا يدلُّ على أنَّ الروح غير البدن.
قوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} .
أي: في جنب علم الله تعالى.
قال المفسِّرون: هذا خطابٌ لليهود، وذلك أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا قال لهم ذلك، قالوا: نحن مختصُّون بهذا الخطاب، أم أنت معنا؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً» ، فقالوا ما أعجب شأنك، يا محمد؛ ساعة تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] . وساعة تقول هذا، فنزل قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} [لقمان: 27] .
وما ذكروه ليس بلازمٍ؛ لأنَّ الشيء قد يكون قليلاً بالنِّسبة إلى علم الله تعالى، وبالنسبة غلى حقائق الأشياء، ولكنَّها كثيرة بالنسبة إلى الشَّهوات الجسمانيَّة، واللذَّات الجسدانية.
وقيل: هذا خطابٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم معنى الرُّوح، ولم يخبرْ به أحداً؛ لأنَّ ترك إخباره كان علماً لنُبوَّتهِ، وقد تقدَّم الكلام على ذلك، قال البغوي: الأصحُّ: أن الله تعالى استأثر بعلمه.
قوله: {مِّن العلم} : متعلق ب «أوتيتم» ، ولا يجوز تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه ح ال من «قَلِيلاً» ؛ لأنَّه لو تأخَّر، لكان صفة؛ لأنَّ ما في حيِّز «إلاَّ» لا يتقدَّم عليها.
وقرأ عبد الله، والأعمش «ومَا أوتُوا» بضمير الغيبة.
قوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية.
لما ذكر أنَّه ما آتاهم من العلم إلاَّ قليلاً، قال ها هنا: إنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل، لقدر عليه، وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب، وكتابته من الكتب، والمراد بالذي أوحينا إليك القرآن.(12/380)
واحتج الكعبي بهذه الآية الكريمة بأنَّ القرآن مخلوقٌ؛ فقال: الذي يقدر على إزالته والذَّهاب به يستحيل أن يكون قديماً، بل يجب أن يكون محدثاً.
وأجيب بأن يكون المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب، وإزالة النَّقش الدَّال عليه من المصحف؛ وذلك لا يوجبُ كون ذلك المصكوكِ المدلول محدثاً.
فصل في كيفية رفع القرآن آخر الزمان
قال عبد الله بن مسعود: اقرءوا القرآن قبل أن يرفع؛ فإنَّه لا تقوم الساعة حتَّى يرفع، قيل: هذه المصاحف ترفع، فكيف بما في صدور النَّاس؟ قال: يسري عليه ليلاً، فيرفع ما في صدورهم، فيصبحون لا يحفظون شيئاً، ولا يجدون ف يالمصاحف شيئاً، ثم يفيضون في الشِّعر.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: لا تقوم السَّاعة حتَّى يرفع القرآن من حيثُ نزل، لهُ دويٌّ حول العرشِ، كدويِّ النَّحلِ؛ فيقول الربُّ: ما لك؟ فيقول: يا ربِّ، أتلى، ولا يعمل بي.
ثم قال: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي: لا تجدُ من تتوكَّل عليه في ردِّ شيءٍ منه.
قوله تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً} : قيل: استثناء متصل؛ لأنها تندرج في قوله «وَكِيلاً» والمعنى: إلاَّ أن يرحمك ربُّك؛ فيردَّه عليك. وقيل: إنه استثناء منقطع، فتتقدر ب «لَكِنْ» عند البصريين، و «بَلْ» عند الكوفيين.
والمعنى: إلا رحمة من ربِّك؛ إذ كل رحمة من ربِّك تركته غير مذهوب به، أي: لكن لا يشاء ذلك رحمة من ربِّك، وهذا امتنانٌ من الله؛ وهو نوعان:
الأول: تسهيل ذلك العلم عليه.
والثاني: إبقاء حفظه عليه.
قوله «مِنْ ربِّكَ» يجوز أن يتعلق ب «رَحْمةً» وأن يتعلق بمحذوفٍ، صفة لها.
ثم قال: {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} .
بسبب إبقاء العلم والقرآنِ عليك، وقيل: بسببِ أنَّه جعلك سيِّد ولد آدم، وختم بك النَّبيِّين، وأعطاك المقَام المحمود، فلما كان كذلك، لا جرم أنعم عليك بإبقاء العلم والقرآن عليك.(12/381)
قوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن} الآيات، وقد تقدَّم الكلام على مثلِ هذه الآية.
فصل
قال بعضهم: هب أنَّه ظهر عجز الإنسانِ عن معارضته؛ فكيف عرفتُم عجز الجنِّ؟ وأيضاً: فلم لا يجوز أن يقال: إن هذا الكلام نظم الجنِّ، ألقوهُ على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وخصُّوه به على سبيل السَّعي في إضلال الخلق؟ فعلى هذا: إنَّما تعرفون صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا عرفتم أنَّ محمَّداً صادق في قوله: إنَّه ليس من كلام الجنِّ، بل من كلامِ الله تعالى؛ وحينئذٍ: يلزم الدور، وليس لأحدٍ أن يقول: كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجنِّ؛ لأنا نقول: إنَّ هذه الآية دلَّت على وقوعِ التحدِّي من الجنِّ، وإنما يحسن وقوعُ هذا التحدِّي، لو كانوا فصحاء بلغاء، ومتى كان الأمرُ كذلك، كان الاحتمال المذكور قائماً.
فالجواب عن الأوَّل: بأنَّ عجز البشر عن معارضته يكون في إثبات كونه معجزاً.
وعن الثاني: أنَّ ذلك، لو وقع، لوجب في حكمة الله: أن يظهر ذلك التَّلبيسُ، وحيث لم يظهر ذلك، دلَّ على عدمه، وعلى أنَّ الله تعالى أجاب عن هذه الأسئلةِ بالأجوبة الشَّافية في آخر سورة الشعراء؛ في قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222] وسيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -.
قالت المعتزلة: هذه الآية تدلُّ على أنَّ القرآن مخلوقٌ؛ لأنَّ التحدِّي بالقديم محالٌ، وقد تقدَّمت هذه الآية في سورة البقرة.
قوله: {لاَ يَأْتُونَ} : فيه وجهان:
أظهرهما: أنه جوابٌ للقسمِ الموطَّأ له باللام.
والثاني: أنه جواب الشرط، واعتذروا به عن رفعه بأنَّ الشرط ماضٍ؛ فهو كقوله: [البسيط]
3462 - وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقولُ لا غَائبٌ مَالِي ولا حَرِم
واستشهدوا عليه بقول الأعشى: [البسيط]
3463 - لَئِنْ مُنِيتَ بِنَا عَنْ غِبِّ مَعْركةٍ ... لا تُلْفِنَا مِنْ دِمَاءِ القَوْمِ نَنْتَفِلُ
فأجاب الشرط مع تقدُّمِ لام التوطئة، وهو دليلٌ للفراء، ومن تبعه على ذلك، وفيه ردٌّ على البصريِّين، حيث يحتَّمون جواب القسمِ عند عدمِ تقدم ذي خبرٍ.(12/382)
وأجاب بعضهم أنَّ اللام في البيت ليست للتوطئةِ، بل مزيدةٌ؛ وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا دليل عليه، وقال الزمخشريُّ: «لولا اللام الموطِّئةُ؛ لجاز أن يكون جواباً للشرط؛ كقوله: [البسيط]
3464 - ... ... ... ... ... ... ... . ... يَقُولُ لا غَائِبٌ ... ... ... ...
لأنَّ الشرط وقع ماضياً «. وناقشه أبو حيَّان: بأنَّ هذا ليس مذهب سيبويه، ولا الكوفيين والمبرِّد؛ لأنَّ مذهب سيبويه في مثله: أن النية به التقديم، ومذهب الكوفيين، والمبرِّد: أنه على حذف الفاء، وهذا مذهب ثالثٌ، قال به بعضُ الناس.
قوله:» ولَوْ كَانَ «جملةٌ حاليةٌ، وتقدَّم تحقيق هذا، وأنه كقوله - عليه السلام -:» أعطُوا السَّائل، ولو جَاء على فَرسٍ «، و» لبَعْضٍ «متعلقٌ ب» ظَهِيراً «.
فصل في معنى الآية
والمعنى: لو كان بعضهم لبعض عوناً، ومظاهراً، نزلت حين قال الكفَّار: ولو شئنا لقلنا مثل هذا، فكذَّبهم الله - عَزَّ وَجَلَّ َّ - فالقرآن معجزٌ في النَّظم، والتَّأليف، والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة، لا يشبه كلام الخلق؛ لأنَّه غير مخلوقٍ، ولو كان مخلوقاً، لأتوا بمثله.(12/383)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} الآية.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} : مفعول محذوف، وقيل: «مِنْ» زائدة في «مِنْ كلِّ مَثلٍ» وهو المفعول، قاله ابن عطية، وهو مذهب الكوفيين والأخفش.
وقرأ الحسن: «صَرَفْنَا» بتخفيف الراء، وتقدَّم نظيره.
فصل في ذكر الوجوه المحتملة في هذا الكلام
هذا الكلام يحتمل وجوهاً:(12/383)
احدها: أنه وقع التحدِّي بكلِّ القرآن؛ كما في هذه الآية، ووقع التحدِّي بسورة واحدة؛ كما في قوله: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} [الطور: 34] فقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} يحتمل أن يكون المراد منه التحدِّي؛ كما شرحناه، ثم إنهم مع ظهور عجزهم عن جميع هذه المراتب، صاروا مصرِّين على كفرهم.
وثانيها: أن يكون المراد من «من كُلِّ مثلٍ» : أنَّا أخبرناهم بأنَّ الذين بقوا مصرِّين على الكفر؛ مثل قوم نوحٍ، وعادٍ، وثمود - ابتلاهم الله بأنواع البلاء - وشرحنا هذه الطريقة منراراً - ثم إنَّ هؤلاء الأقوام - يعني أهل مكَّة - لم ينتفعوا بهذا البيان، بل اصرُّوا على الكفر.
وثالثها: أن يكون المراد من «مِنْ كلِّ مثلٍ» : مِنْ كلِّ وجهٍ من العبر، والأحكام والوعد، والوعيد، وغيرها.
ورابعها: أن يكون المراد ذكر دلائل التوحيد، ونفي الشركاء في هذا لقرآن مراراً كثيرة، وذكر شبهات منكري النبوَّة، والمعاد؛ وأجاب عنها، ثمَّ أردفها بذكر الدَّلائل القاطعة على صحَّة النبوة، والمعاد، ثم إنَّ هؤلاء الكفَّار لم ينتفعوا بسماعها، بل بقوا مصرِّين على الشِّرك، وإنكار النُّبوَّة.
قوله: «إلاَّ كُفوراً» مفعول به، وهو استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّه في قوة: لم يفعلوا إلاَّ الكفور.
والمعنى: {فأبى أَكْثَرُ الناس} يعني: أهل مكَّة، {إِلاَّ كُفُوراً} أي: جحوداً للحقِّ.
فإن قيل: كيف جاز: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} ولا يجوز أن يقال: ضربتُ إلا زيداً؟ .
فالجواب: إنَّ لفظة: «أبَى» تفيد النَّفي؛ كأنه قيل: فلم يؤمنوا إلا كفوراً.
قوله: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} الآية.
قرأ الكوفيُّون [ «تَفْجُرَ» ] بفتح التَّاء، وسكون الفاء، وضم الجيم خفيفة، مضارع «فَجَرَ» واختاره أبو حاتم؛ قالوا: لأنّ الينبوع واحدٌ، والباقون، بضمِّ التاء، وفتح الفاء، وكسر الجيم شديدة، مضارع «فجَّر» ، للتكثير، ولم يختلفوا في الثانية: أنَّها بالتثقيل للتصريح بمصدرها، وقرأ الأعمش «تُفْجِرَ» بضمِّ التاء، وسكون الفاء، وكسر الجيم خفيفة، مضارع «أفْجرَ» بمعنى «فَجرَ» فليس التضعيفُ، ولا الهمزة معدِّيينِ.
فمن ثقَّل، أراد كثيرة الانفجار من الينبوع، وهو وإن كان واحداً، فلكثرة الانفجار فيه سحين أن يثقَّل؛ كما تقول: ضرَّب زيدٌ، إذا كثر الضَّربُ منه؛ لكثرة فعله، وإن كان الفاعل واحداً، ومن خفَّف؛ فلأن الينبوع واحدٌ.(12/384)
و «يَنْبُوعاً» مفعول به، ووزنه «يَفعُولٌ» ؛ لأنه من النَّبعِ، واليَنبُوعُ: العين تفور من الأرض.
فصل فيما يثبت صدق النبوة
اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن بالدليل كون القرآن معجزاً، وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فحينئذٍ: تمَّ الدليل على كونه نبيًّا صدقاً؛ لأنَّا نقول: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ادَّعى النبوة، وأظهر المعجزة على وفق دعواه، وكلُّ من كان كذلك، كان نبيًّا صادقاً؛ فهذا يدلُّ على أنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صادقٌ، وليس من شرط كونه نبيًّا صادقاً تَواترُ المعجزات الكثيرة، وتواليها؛ لأنَّا لو فتحنا هذا الباب، للزم ألاَّ ينقطع فيه، وكلما أتى الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بمعجز، اقترحوا عليه معجزاً آخر، ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدِّ ينقطع عنده عناد المعاندين؛ لأنَّه تعالى حكى عن الكفَّار: أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزاً، التمسُوا من الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ستَّة أنواعٍ من المعجزات الباهرات، كما روى عكرمة، عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أنَّ رؤساء أهل مكَّة، سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم جلوسٌ عند الكعبة، فقالوا: يا محمد، إنَّ أرض مكَّة ضيقةٌ، فسير جبالها؛ لننتفع فيها، وفجِّر لنا ينبوعاً، أي: نهراً، وعيوناً نزرع فيها، فقال:» لا أقدر عليه «.
فقال قائلٌ منهم: أو يكون لك جنّة من نخيل وعنبٍ فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً، فقال:» لا أقْدرُ عَليْهِ «فقيل: أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ، اي: من ذهبٍ، فيُغْنِيكَ عَنَّا، فقال:» لا أقدِرُ عَليْهِ «فقيل له: أما تَسْتطِيعُ أن تَأتي قوْمكَ بِمَأ يسْألُونكَ؟ فقال: لا أسْتطِيعُ، فقالوا: فإذا كنت لا تَسْتطِيعُ الخير، فاسْتطعِ الشَّر، فأرسل السَّماء؛ كما زَعمْتَ، عَليْنَا كِسَفاً» .
قرأ العامة «تُسْقِطَ» بإسناد الفعل للمخاطب، و «السَّماء» مفعول بها، ومجاهد على إسناده إلى «السَّماء» فرفعها به.
وقرأ نافع، وابن عامرٍ، وعاصم «كِسَفاً» هنا، بفتح السِّين، وفعل ذلك حفصٌ في الشعراء [الآية: 187] وفي سبأ [الآية: 9] ، والباقون يسكنونها في المواضع الثلاثة، وقرأ ابن ذكوان بسكونها في الروم [الآية: 48] ؛ بلا خلافٍ، وهشام عنه الوجهان، والباقون بفتحها.(12/385)
فمن فتح السين، جعله جمع كسفةٍ؛ نحو: قِطعَةٍ وقِطَع، وكِسْرةٍ وكِسرٍ، ومن سكَّن، جعله جمع كسفة أيضاً على حدِّ: سِدْرةٍ وسِدْرٍ، وقِمْحَةٍ وقِمَحٍ.
وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين:
أحدهما: أنه جمعٌ على «فَعَلٍ» بفتح العين، وإنما سكِّن تخفيفاً، وهذا لا يجوز؛ لأنَّ الفتحة خفيفة يحتملها حرف العلة، حيث يقدر فيه غيرها، فكيف بالحرف الصحيح؟ .
قال: والثاني: أنه «فَعْلٌ» بمعنى «مَفْعُولٍ» ؛ ك «الطحْن» بمعنى «مَطْحُون» ؛ فصار في السكون ثلاثة أوجهٍ.
وأصل الكسفِ: القطع، يقال: كسَفْتُ الثَّوبَ قطعته؛ وفي الحديث في قصَّة سليمان مع الصَّافناتِ الجياد: أنه «كَسَفَ عَراقِيبهَا» ، أي: قطعها.
فصل في معنى الكسف
قال اللَّيثُ: الكسف: قطع العرقوب، قال الفرَّاء: وسمعتُ أعرابيًّا يقول لبزَّاز: أعطني كسفةً، وقال الزجاج: «كَسفَ الشيء بمعنى غَطَّاهُ» ، قيل: ولا يعرفُ هذا لغيره.
وانتصابه على الحال في القراءتين فإن جعلناه جمعاً، كان على حذفِ مضاف، أي: ذات كسفٍ، وإن جعلناه «فِعْلاً» بمعنى «مَفعُول» لم يحتج إلى تقدير، وحينئذ: فإن قيل لِمَ لمْ يُؤنَّث؟ فالجواب: لأنَّ تأنيثه أعني: السَّماء غير حقيقيٍّ، أو بأنها في معنى السَّقف.
قوله: «كَمَا زعَمْتَ» : نعت لمصدر محذوف، أي: إسقاطاً مثل مزعومك؛ كذا قدَّره أبو البقاء.
فصل في المراد بالآية
قال عكرمة: {كَمَا زَعَمْتَ} ، يا محمد: أنَّك نبيٌّ، «فأسْقِط» السماء علينا كسفاً.
وقيل: كما زعمت أن ربَّك إن شاء فعل، وقيل: المراد قوله: {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الإسراء: 68] .
فقيل: اجعل السَّماء قطعاً متفرقة؛ كالحاصب، وأسقطها علينا.
قوله: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملاائكة قَبِيلاً} .
القَبِيلُ: بمعنى: المقابل؛ كالعشير، بمعنى: المُعاشِر.
وقال ابن عباس: فوجاً بعد فوجٍ. وقال الليث: كلُّ جندٍ من الجنِّ والإنسِ قبيلٌ، وقيل: كفيلاً، أي ضامناً.(12/386)
قال الزجاج: يقال: قبلتُ به أقبل؛ كما يقال: كفلت به أكفل، وعلى هذا: فهو واحدٌ أريد به الجمعُ؛ كقوله: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] ، وقال أبو عليِّ: معناه المعاينة؛ كقوله تعالى: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] .
قوله: «قَبِيلاً» [حالٌ من «الله، والمَلائِكَةِ» أو من أحدهما، والآخر محذوفة حاله، أي: بالله قبيلاً، والملائكة قبيلاً؛] كقوله: [الطويل]
3465 - ... ... ... ... . كُنْتُ مِنهُ ووالِدي ... بَرِيئاً ... ... ... ... ...
وكقوله: [الطويل]
3466 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... فَإنِّي وقيَّارٌ بِهَا لغَرِيبُ
ذكره الزمخشريُّ، هذا إذا جعلنا «قَبِيلاً» بمعنى كفيلاً، أي: «ضَامِناً» أو بمعنى «معاينة» كما قاله الفارسي، وإن جعلناه بمعنى «جَماعَة» كان حالاً من «المَلائِكَة» .
وقرأ الأعرج «قِبَلاً» من المقابلة.
قوله {ترقى} : فعل مضارع [منصوبٌ] تقديراً؛ لأنه معطوفٌ على «تَفْجُرَ» ، أي: أو حتَّى ترْقَى في السَّماء، [أي:] في معارجها، والرقيُّ: الصعود، يقال: رَقِيَ، ببالكسر، يرقى، بالفتح، رقيًّا على فعولٍ، والأصل: «رُقُوي» فأدغم بعد قلب الواو ياء، ورقياً بزنة ضربٍ، قال الراجز: [الرجز]
3467 - أنْتَ الَّذي كَلَّفتَنِي رقْيَ الدَّرجْ ... عَلى الكَلالِ والمَشِيبِ والعَرجَ
قوله تعالى: {نَّقْرَؤُهُ} يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون نعتاً ل «كتاباً» .
والثاني: أن يكون حالاً مِنْ «نَا» في «عَليْنَا» ؛ قاله أبو البقاء، وهي حال مقدرة؛ لأنهم إنما يقرؤونه بعد إنزاله، لا في حال إنزاله.
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون: لمّا قال المشركون: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا} الآيات، قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقام معهُ عبدُ الله بن أميَّة، وهو ابنُ عمَّته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمد، عرض عليك قومُك ما عرضُوا، فلم تقبلهُ منهم، ثمَّ سألوكَ لأنفسهم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله تعالى، فلم تفعل، ثمَّ سألوك أن تعجِّل ما تُخوِّفهم به، فلم تفعل، فوالله لا أومن بك حتَّى تتَّخذ إلى السَّماء سلَّماً ترقى فيه، وأنا أنظر حتَّى تأتيها، وتنزل بنُسخةٍ منشورةٍ، ومعك نفرٌ من الملائكةِ يشهدون لك بما تقولُ. وأيم الله، لو فعلت ذلك،(12/387)
لظننتُ أنِّي لا أصدِّقك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسل حزيناً لما يرى من مباعدتهم.
ثم قال تعالى: قل، يا محمد: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} أمره بتنزيهه، وتمجيده، أي: أنَّه لو أراد أن ينزل ما طلبوا، فلعل، ولكن لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر.
واعلم أنَّه تعالى قد أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الآياتِ والمعجزات ما يغني عن هذا كلِّه مثل القرآن، وانشقاق القمر، وتفجير العيون من بين الأصابع، وما أشبهها، والقوم عامَّتهم كانوا متعنِّتين، لم يكن قصدهم طلب الدَّليل؛ ليؤمنوا، فردَّ الله عليهم سؤالهم.
قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} قرأ ابن كثير، وابن عامرٍ «قال» فعلاً ماضياً؛ إخباراً عن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بذلك، والباقون «قُلْ» على الأمر أمراً منه تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك، وهي مرسومة في مصاحف المكيين والشاميين: «قال» بألف، وفي مصاحف غيرهم «قل» بدونها، فكل وافق مصحفه.
قوله: {إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} يجوز أن يكون «بَشَراً» خبر «كُنْتُ» و «رَسُولاً» صفته، ويجوز أن يكون «رَسُولاً» هو الخبر، و «بَشَراً» حال مقدمة عليه.
فصل في استدلالهم بهذه الآية
استدلُّوا بهذه الآية على أن المجيء على الله والذهاب محالٌ؛ لأنَّ كلمة «سبحان» للتنزيه عمَّا لا ينبغي.
فقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي} : تنزيه لله تعالى عن شيءٍ لا يليقُ به، وذلك تنزيهُ الله عما نسب إليه ممَّا تقدَّم ذكره، وليس فيما تقدَّم ذكره شيء مما لا يليقُ بالله إلا قولهم: أو تأتي بالله، فدلَّ على أنَّ قوله: «سُبحانَ ربِّي» تنزيهٌ لله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في الإتيان، والمجيء؛ فدلَّ ذلك على فساد قول المشبهة.
فإن قالوا: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في اقتراح الأشياء؟ .
فالجواب: أنَّ القوم لم يتحكَّموا على الله، وإنما قالوا للرسول: إن كنت نبيًّا صادقاً، فاطلب من الله أن يشرِّفك بهذه المعجزات، فالقوم إنَّما تحكَّموا على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا على الله، فلا يليقُ حمل قوله: {سُبْحَانَ رَبِّي} على هذا المعنى، فيجب حمله على قولهم {أَوْ تَأْتِيَ بالله} .(12/388)
فصل في تقرير هذا الجواب
اعلم أنَّ تقرير هذا الجواب: أن يقال: إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنَّكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء، أو طلبتم منِّي أن أطلب من الله إظهارها على يديَّ؛ لتدلَّ لكم على كوني رسولاً حقًّا من عند الله.
والأول باطلٌ؛ لأنِّي بشر، والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء.
والثاني أيضاً: باطل؛ لأنِّي قد أتيتكم بمعجزة واحدة، وهي القرآن، فطلب هذه المعجزات طلبٌ لما لا حاجة إليه، وكان طلبها يجري مجرى التعنُّت والتحكُّم، وأنا عبدٌ مأمورٌ ليس لي أن أتحكَّم على الله؛ فسقط هذا السؤال؛ فثبت كونُ قوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} جواباً كافياً في هذا الباب.(12/389)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
قوله: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا} الاية.
لمَّا حكى الله تعالى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزَّائدة، وأجاب عنها حكى شبهة أخرى وهي أنهم استبعدوا أن يبعث الله للخقل رسولاً من البشرِ، بل اعتقدوا أنَّ الله تعالى، لو أرسل رسولاً إلى الخلق، لكان ذلك الرسول من الملائكةِ، وأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بوجوهٍ:
أحدها: قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} .
وتقرير هذا الجواب: أنَّ بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق، فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله؛ لأجل قيام المعجزات الدالة على صدقه؛ وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة صدق ذلك الملك في ادِّعاء رسالته، فالمراد من قوله: {إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} هو المعجز، [وإذا كان كذلك، فنقول: لما كان الدليل على(12/389)
الصِّدق هو المعجز] فقط فهذا المعجو سواءٌ ظهر على الملكِ، أو على البشرِ، وجب الإقرارُ برسالته، فقولهم: «لا بُدَّ وأن يكون الرسول من الملائكة» : تحكم فاسد باطل.
والجواب الثاني عن شبهتهم، وهي أنَّ أهل الأرض لو كانوا ملائكة، لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة؛ لأنّ الجنس إلى الجنس أميل، فلما كان [أهل الأرض] من البشر، فوجب أن يكون رسولهم من البشر؛ وهذا هو المراد من قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِي الأرض ملاائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] .
الجواب الثالث: قوله تعالى: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .
وتقريره أنَّ الله تعالى، لمَّا أظهر المعجزة على وفق دعواى، كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقاً، ومن شهد الله على صدقه، فهو صادق، فقولكم بأنَّ الرسول يجب أن يكون ملكاً، فذلك تحكُّم فاسدٌ؛ لا يلتفت إليه. ولمَّا ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة، أردفها بما يجري مجرى التهديد، والوعيد؛ فقال: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء: 96] . أي: يعلم ظواهرهم وبواطنهم، ويعلم أنَّهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد، وحبِّ الرياسة.
قوله: {أَن يؤمنوا} : مفعولٌ ثانٍ ل «مَنَع» ، أي: ما منعهم إيمانهم؛ و «أن قالوا» هو الفاعل، و «إذْ» ظرف ل «مَنعَ» ، والتقدير: وما منع الناس من الإيمان وقت مجيء الهدى إيَّاهم إلا قولهم: أبعث الله.
وهذه الجملة المنفيَّة يحتمل أن تكون من كلام الله، فتكون مستأنفة، وأن تكون من كلام الرسول، فتكون منصوبة المحلِّ؛ لاندراجها تحت القول في كلتا القراءتينز
قوله: {بَشَراً رَّسُولاً} تقدَّم في نظيره وجهان، وكذلك قوله {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} .
قوله تعالى: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض} : يجوز في «كَانَ» هذه التمام، أي: لو وجد، وحصل، و «يَمشُونَ» صفة ل «مَلائِكَة» و «في الأرض» متعلِّق به، «مُطْمئنينَ» حال من فاعل «يَمشُونَ» ، ويجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها أوجه، أظهرها: أنه الجار، و «يَمشُون» و «مُطمَئنِّينَ» على ما تقدم.
وقيل: الخبر «يمشُون» و «في الأرض» متعلق به.
وقيل: الخبر «مُطمئنِّينَ» و «يمشُونَ» صفة، وهذان الوجهان ضعيفان؛ لأنَّ المعنى على الأول.
فإن قيل: إنَّه تعالى لو قال: قل لو كان في الأرض ملائكة، لنزَّلنا عليهم من السَّماء ملكاً رسولاً كان كافياً في هذا المعنى. فما الحكمة في قوله: {يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} ؟! .(12/390)
فالجواب: أن المراد بقوله: {يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} أي: مستوفين مقيمين.
قوله: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} الآية.
لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة، وأردفها بالوعيد بقوله: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} على الإجمال، ذكر بعده الوعيد الشديد على التَّفصيل، فقال: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ} .
المراد تسليةُ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو أنَّ الذين حكم لهم بالإسلام والهداية سابقاً، وجب أن يصيروا مؤمنين، ومن سبق لهم حكم الله بالضَّلال والجهل، استحال أن ينقلبوا عن ذلك.
واحتجَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم في الهدى والضَّلال، والمعتزلة حملوا هذا الضلال تارة على طريق الجنَّة؛ وتارة على منع الألطاف، وتارة على التَّخلية، وعدم التعرُّض لهم بالمنع. والواو مندرجة تحت القول، فيكون محلُّها نصباً، وأن يكون من كلام الله، فلا محلَّ لها؛ لاستئنافها، ويكون في الكلام التفاتٌ؛ إذ فيه خروجٌ من غيبة إلى تكلُّم في قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ} .
وحمل على لفظ «مَنْ» في قوله «فَهُوَ المُهتدِ» فأفرد، وحمل على معنى «من» الثانية في قوله «ومَن يُضلِلْ، فلنْ تَجدَ لَهُم» ، [فجمع] .
ووجه المناسبة في ذلك - والله أعلم -: أنه لمَّا كان الهدي شيئاً واحداً غير متشعِّب السبل، ناسبه التوحيد، ولمَّا كان الضلال له طرقٌ متشعبةٌ؛ نحو: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام 153] ناسب الجمع الجمع، وهذا الحمل الثاني مما حمل فيه على المعنى، وإن لم يتقدمه حمل على اللفظ، قال أبو حيان: «وهو قليل في القرآن» ، يعني: بالنسبة إلى غيره، ومثله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] ويمكن أن يكون المحسِّن لهذا هنا كونه تقدَّم حمل على اللفظ، وإن كان في جملة أخرى غير جملته.
وقرأ نافعٌ، وأبو عمرو بإثبات ياء «المهتدي» وصلاً، وحذفها وقفاً، وكذلك في التي تحت هذه السورة، وحذفها الباقون في الحالتين.
قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} يجوز أن يتعلق الجار في قوله {على وُجُوهِهِمْ} بالحشر، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول، أي: كائنين ومسحوبين على وجوههم.
فإن قيل: كيف يمكنهم المشي على وجوههم؟ .
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّهم يسحبون على وجوههم، قال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] .(12/391)
والثاني: قال أبو هريرة: قيل: يا رسول الله، كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «الذي يُمشِيهمْ على أقْدامِهمْ قَادرٌ أن يُمشِيهُمْ على وُجوهِهمْ» .
قوله: «عُمْياً» يجوز أن تكون حالاً ثانية من الضمير، أو بدلاً من الأولى، وفيه نظر؛ لأنه لا يظهر فيه أنواع البدل، وهي: كلٌّ من كلٍّ، ولا بعض من كلٍّ، ولا اشتمال، وأن تكون حالاً من الضمير المرفوع [في الجارِّ] لوقوعه حالاً، وأن تكون حالاً من الضمير المجرور في «وُجوهِهمْ» .
فصل في توهم الاضطراب بين بعض الآيات والجواب عنه
قال رجل لابن عباس: أليس أنه تعالى يقول: {وَرَأَى المجرمون النار} [الكهف: 53] .
وقال: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] .
وقال: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] .
وقال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] .
وقال حكاية عن الكفَّار: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] .
وأثبت لهم الرؤية، والكلام، والسَّمع، فكيف قال ههنا: «عُمياً وبُكماً وصُماً» ؟ .
فأجاب ابن عباس وتلامذته من وجوه:
الأول: قال ابن عباس: «عُمْياً» : لا يرون شيئاً يسرهم، و «صُمًّا» : لا يسمعون شيئاً يسرهم، و «بُكْماً» لا ينطقون بحجَّة.
والثاني: في رواية عطاء: «عُمْياً» عن النَّظر إلى ما جعله الله إلى أوليائه، و «بُكْماً» عن مخاطبة الله تعالى، ومخاطبة الملائكة المقرَّبين.
الثالث: قال مقاتلٌ: حين قال لهم: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] يصيرون صمًّا بكماً، أما قبل ذلك، فهم يرون، ويسمعون، وينطقون.
الرابع: أنَّهم يكونون رائين، سامعين، ناطقين في الموقف، ولولا ذلك، لما قدروا على مطالعة كتبهم، ولا سمعوا إلزام حجة الله تعالى عليهم، إلا أنَّهم إذا ذهبوا من الموقف إلى النَّار، صاروا صمًّا، وبكماً، وعمياً.
وقيل: يحشرون على هذه الصفة.
قوله: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يجوز في هذه الجملة الاستئناف، والحالية إمَّا من الضمير المنصوب أو المجرور.(12/392)
قوله: "كُلَّما خَبتْ «يجوز فيها الاستئناف، والحالية من» جهنَّم «، والعامل فيها معنى المأوى.
وخَبتِ النَّار تَخْبُوا» إذا سكن لهيبها؛ قال الواحدي: خبت سكنت، فإذا ضعف جمرها، قيل: خمدتْ، فإذا طفئت بالجملة، قيل: همدتْ؛ قال:
3468 - وَسْطهُ كاليَراعِ أوْ سُرجِ المِجْ ... دَلِ طَوْراً يَخْبُو وطَوْراً يُنِيرُ
وقال آخر: [الهزج]
3469 - لمن نَارٌ قُبَيْلَ الصُّبْ ... حِ عند البَيتِ ما تَخْبُو
إذا مَا أخمدَتْ ألْقِي عَليْهَا المَندلُ الرَّطْبُ
وأدغم التاء في زاي «زِدْنَاهُمْ» أبو عمرو، والأخوان، وورش، وأظهرها الباقون.
قوله: {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} .
قال ابن قتيبة: زدناهم تلهُّباً.
فإن قيل: إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب. وقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} يدلُّ على أنَّ العذاب محققٌ في ذلك الوقت.
فالجواب: أن قوله «كُلَّما خَبَتْ» يقتضي سكون لهب النار، أما أنه يدل على تخفيف العذاب، فلا؛ لأنَّ الله تعالى قال: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف: 75] .
وقيل: معناه: «كلَّما خبت» [أي:] كلما أرادت أن تخبو {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} أي: وقوداً.
وقيل: المراد من قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} أي: نضجت جلودهم، واحترقت، أعيدوا إلى ما كانوا عليه.
قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ} يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً، و «بأنهم» متعلق بالجزاء، أي: «ذلك العذاب المتقدم جزاؤهم بسبب أنَّهم» ويجوز أن يكون «جَزاؤهُمْ» مبتدأ ثانياً، والجار خبره، والجملة خبر «ذلك» ، ويجوز أن يكون «جَزاؤهُمْ» بدلاً، أو بياناً، و «بِأنَّهُم» الخبر.(12/393)
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العمل علَّة الجزاءِ.
قوله: {وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} .
لمَّا أجاب عن شبهات منكري النبوة، عاد إلى حكاية شبهة منكري المعاد.
وتلك الشبهة: هي أنَّ الإنسان بعد أن يصير رفاتاً، ورميماً، يبعد أن يعود هو بعينه، فأجاب الله عنه: بأنَّ من بدر على خلق السموات والأرض في عظمتها وشدَّتها قادر على أن يخلق مثلهم في سغرهم، وضعفهم؛ نظيره قوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 75] .
وفي قوله: {قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} قولان:
الأول: [معناه] قادر على أن يخلقهم ثانياً، فعبَّر عن خلقهم بلفظ «المثل» ؛ كقوله المتكلِّمين: إنَّ الإعادة مثل الابتداء.
والثاني: قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحِّدونه، ويقرُّون بكمال حكمته وقدرته، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة؛ وعلى هذا، فهو كقوله تعالى: {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] وقوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39] .
قال الواحديُّ: والأول أشبه بما قبله.
ولمَّا بيَّن الله تعالى بالدَّليل المذكور: أنَّ البعث يمكنُ الوجود في نفسه، أردفه بأنَّ لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً معلوماً عند الله تعالى؛ وهو قوله: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ} أي: جعل لهم وقتاً لا ريب فيه، {فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُوراً} أي: الظالمون إلا الكفر والجحود.
قوله: {وَجَعَلَ لَهُمْ} : معطوف على قوله «أو لَمْ يَروْا» ؛ لأنه في قوة: قد رأوا، فليس داخلاً في حيِّز الإنكار، بل معطوفاً على جملته برأسها.
وقوله: {لاَّ رَيْبَ فِيهِ} صفة ل «أجلاً» ، أي: أجلاً غير مرتابٍ فيه، فإن أريد به يوم القيامة، فالإفرادُ واضحٌ، وإن أريد به الموت، فهو اسم جنسٍ؛ إذ لكلِّ إنسانٍ أجلٌ يخصه.
وقوله: {إَلاَّ كُفُوراً} قد تقدَّم.(12/394)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
اعلم أنَّ الكفار، لما قالوا: لن نؤمن لك؛ حتَّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً وطلبوا إجراء الأنهارِ، والعيون في بلدهم لتكثر أموالهم؛ بين أنَّهم لو ملكوا خزائن رحمة الله،(12/394)
لبقوا على بخلهم وشحهم، ولا أقدموا على إيصال النفع إلى أحدٍ، وعلى هذا التقدير: فلا فائدة في إسعافهم لما طلبوه.
قوله: {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} : فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: - وإليه ذهب الزمخشري، والحوفي، وابن عطيَّة، وأبو البقاء، ومكيٌّ -: أن المسألة من باب الاشتغال، ف «أنْتُمْ» مرفوع بفعلٍ مقدر يفسِّره هذا الظاهر، لأنَّ «لَوْ» لا يليها إلا الفعل، ظاهراً أو مضمراً، فهي ك «إنْ» في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين} [التوبة: 6] ، وفي قوله:
3470 - وإنْ هُوَ لمْ يَحْمِلْ على النَّفْسِ ضَيْمهَا ... فَليْسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ
والأصل: لو تملكون، فحذف الفعل؛ لدلالة ما بعده عليه، فانفصل الضمير، وهو الواو؛ إذ لا يمكن بقاؤه متَّصلاً بعد حذف رافعه، ومثله: «وإنْ هو لم يحمل» : الأصل: وإن لم يحمل، فلما حذف الفعل، انفصل ذلك الضميرُ المستتر، وبرز، ومثله فيما نحنُ فيه قول الشاعر:
3471 - «لوْ ذَاتُ سِوارٍ لطَمتْنِي» ... برفع «ذَاتُ» وقول المتلمِّس:
3472 - ولَوْ غَيْرُ أخْوالِي أرادُوا نَقِيصَتِي..... ... ... ... ... ... ... ...
ف «ذَاتُ سوارٍ» مرفوعةٌ بفعل مفسَّر بالظاهر بعده.
الثاني: أنه مرفوع ب «كَانَ» وقد كثر حذفها بعد «لو» والتقدير: لو كنتم تملكون، فحذف «كَانَ» ، فانفصل الضمير، و «تَمْلكُونَ» في محلِّ نصبٍ ب «كَانَ» المحذوفةِ، وهو قولُ ابن الصائغ؛ وقريبٌ منه قوله: [البسيط]
3473 - أبَا خُرَاشةَ أمَّا أنْتَ ذَا نَفرٍ..... ... ... ... ... ... ... . .(12/395)
فإنَّ الأصل: لأن كنت، فحذفت «كَانَ» ، فانفصل الضمير، إلا أنَّ هنا عوِّض من «كَانَ» «ما» ، وفي [ «لَوْ» ] لم يعوَّض منها.
الثالث: أنَّ «أنتم» توكيدٌ لاسم «كانَ» المقدر معها، والأصل «لَوْ كُنتمْ أنْتُم تَمْلكُونَ» فحذفت «كَانَ» واسمها، وبقي المؤكِّدُ، وهو قول ابن فضالٍ المجاشعيِّ، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّا نحذف ما في التَّوكيد، وإن كان سيبويه يجيزه.
وإنما أحوج هذين القائلين إلى ذلك: كون مذهب البصريِّين في «لَوْ» أنَّه لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً، ولا يجوز عندهم أن يليها مضمراً مفسَّراً إلاَّ في ضرورة، أو ندور، كقوله: «لَو ذَات سوارٍ لطَمتْنِي» ، فإن قيل: هذان الوجهان أيضاً فيهما إذمار فعلٍ، قيل: ليس هو الإضمار المعنيَّ؛ فإنَّ الإضمار الذي أبوه هو على شريطة التفسير في غير «كان» ، وأمَّا «كان» فقد كثر حذفها بعد [ «لو» ] في مواضع كثيرة، وقد وقع الاسم الصَّريحُ بعد «لَوْ» غير مذكور بعده فعلٌ؛ وأنشد الفارسيُّ: [الرمل]
3474 - لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرقٌ ... كُنْتُ كالغصَّانِ بالمَاءِ اعْتِصَارِي
إلا أنه أخرجه على أنه مرفوع بفعل مقدَّر يفسِّره الوصف من قوله «شَرِقٌ» ، وقد تقدَّم الكلام في «لَوْ» . قال أهل المعاني: إنَّ التقديم بالذكر يدل على التَّخصيص، فقوله: {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} دليل على أنَّهم هم المختصُّون بهذه الحالة الخسيسة، والشُّحْ الكامل.
واعلم أنَّ خزائن رحمة الله غير متناهية؛ فكان المعنى أنكم لو ملكتم من النِّعم خزائن لا نهاية لها، لتقيمنَّ على الشحِّ، وهذه مبالغة عظيمة في وصفهم بهذه الصفة.
قوله: «لأمْسَكْتُمْ» يجوز أن يكون لازماً؛ لتضمنه معنى «بخِلتمْ» وأن يكون متعدِّياً، ومفعوله محذوف، أي: لأمسكتم المال، ويجوز أن يكون كقوله {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] .
قوله: {خَشْيَةَ الإنفاق} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول من أجله.
والثاني: أنه مصدر في موضع الحال، قاله أبو البقاء، أي: خاشين الإنفاق، وفيه نظر؛ إذ لا يقع المصدر المعرفة موقع الحال، إلا سماعاً؛ نحو: «جَهْدكَ» و «طَاقَتكَ» ، وكقوله:
3475 - وأرْسلَهَا العِراكَ ... ... ... ... ....... ... ... ... ... ... . .(12/396)
ولا يقاس عليه، والإنفاقُ مصدر «أنْفقَ» ، أي: أخرج المال، وقال أبو عبيدة: «هو بمعنى الافتقار، والإقتار» .
قوله: {خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} ، أي: نعمة ربِّي.
{إِذاً لأمْسَكْتُمْ} لبخلتم.
{خَشْيَةَ الإنفاق} : الفاقة.
وقيل: خشية النفاق يقال: أنفق الرجل، أي: أملق، وذهب ماله، ونفق الشَّرُّ، أي: ذهب.
وقيل: لأمسكتم عن الإنفاق؛ خشية الفقر، ومعنى «قَتُوراً» : قال قتادة: بخيلاً ممسكاً.
يقال: أقْتَرَ يُقْتِرُ إقتاراً، وقتَّر تَقْتِيراً: إذا قصَّر في الإنفاق.
فإن قيل: قد حصل في الإنسان الجواد، والكريم.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن الأصل في الإنسان البخلُ؛ لأنَّه خلق محتاجاً، والمحتاج لا بد وأن يحبَّ ما به يدفع الحاجة، وأن يمسكه لنفسه، إلا أنَّه قد يجود به [لأسبابٍ] من خارج، فثبت أنَّ الأصل في الإنسان البخلُ.
الثاني: أنَّ الإنسان إنَّما يبذلُ؛ لطلب الحمدِ، وليخرج من عهدة الواجب، ثم للتَّقرُّب إلى الله تعالى، فهو في الحقيقة إنَّما أنفق ليأخذ العوض، فهو بخيلٌ، والمراد بهذا الإنسان المعهود السَّابق، وهم الذين قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] .(12/397)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الآيات. اعلم أنَّ المقصود من هذا الكلام هو الجواب عن قولهم: لن نؤمن لك؛ حتى تأتينا بهذه المعجزات الباهرة؛ فقال تعالى:(12/397)
ولقد آتينا موسى معجزات مساويات لهذه الأشياء التي طلبتموها، بل أقوى، وأعظم، فلو حصل في علمنا أنَّ جعلها في زمانكم؛ لعلمنا بأنها لا مصلحة في فعلها.
واعلم: أنه [أزال] القعدة في لسانه.
قال المفسرون: أذهب الأعجمية منه، وبقي فصيحاً.
ومنها: انقلاب العصا حيَّة.
ومنها: تلقُّف الحية حبالهم وعصيَّهم، مع كثرتها.
ومنها: اليد البيضاء من غير سوء.
ومنها: الطُّوفان والجراد، والقمَّل، والضَّفادع، والدَّم.
ومنها: شقُّ البحر.
ومنها: ضربه الحجر بالعصا، فانفجر.
ومنها: إظلال الجبل.
ومنها: إنزال المنِّ والسلوى عليه وعلى قومه.
ومنها: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات} [الأعراف: 130] لأهل القرى؛ فهذه آيتان.
ومنها: الطَّمس على أموالهم، فجعلها حجارة من النَّخيلِ، والدَّقيق، والأطعمة، والدَّراهم والدَّنانير.
روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب، عن قوله: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، فذكر محمد بن كعب في جملة التسعة؛ حلَّ عقدة اللِّسان، والطَّمس، فقال عمر بن العزيز: هكذا يجبُ أن يكون الفقيهُ، ثم قال: يا غلامُ، أخرج ذلك الجراب، فأخرجه، فإذا فيه بيضٌ مكسورٌ؛ نصفين، وجوز مكسور، وفول، وحمص، وعدس، كلها حجارة.
وإذا كان كذلك، فإنه تعالى ذكر في القرآن أنَّ هذه المعجزات لموسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال في هذه الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وتخصيص التسعة بالذِّكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه؛ لأنَّه ثبت في أصول الفقه أنَّ تخصيص العدد بالذكر لا يدلُّ على نفي الزائد؛ وهذه الآية دليل على هذه المسألة.
واعلم: أن هذه التسعة قد اتَّفقوا على سبعة منها؛ وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وبقي اثنتان اختلفت أقوال المفسرين(12/398)
فيهما، ولمَّا لم تكن تلك الأقوال مستندة إلى حجَّة ظنيَّة؛ فضلاً عن حجة يقينيَّة، لا جرم تركت تلك الروايات.
فصل في أجود ما قيل في تفسير التسع آيات
في تفسير قوله: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} قول هو أجود ما قيل، وهو ما روي عن صفوان بن عسَّالٍ المراديِّ: أن يهوديًّا قال لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع الآيات، فقال الآخر: لا تقل: نبي؛ فإنه لو سمع، لصارت له أربعة أعين فأتياه، فسألاه عن هذه الآية {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} .
فقال: هِيَ ألاَّ تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النَّفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ، ولا تَزنُوا، ولا تَأكلُوا الرِّبا، ولا تَسْحرُوا، ولا تمشُوا بالبريءِ للسلطان؛ ليقتله، ولا تسرقوا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تَفرُّوا من الزَّحف، وعليكم - خاصة اليهود - ألاَّ تعذوا في السَّبت، فقام اليهوديَّان يقبِّلان يده، ويقولون: نشهدُ أنَّك نبيٌّ، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قال اليهودي: إنَّ داود دعا ربَّهُ ألاَّ يزال في ذُريَّته نبيٌّ، وإنَّا نخافُ إن اتَّبعنَاكَ أن تقْتُلنَا يهُودُ.
قوله تعالى: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} : [يجوز في «بَيِّنات» ] النصب صفة للعدد، والجر صفة للمعدود.
قوله: «إذْ جَاءهُمْ» فيه أوجهٌ:
أحدها: أن يكون معمولاً ل «آتيْنا» ويكون قول÷ «فاسْألْ بَنِي إسْرائيلَ» اعتراضاً، وتقديره: ولقد آتينا موسى تسع آياتٍ بيِّناتٍ؛ إذ جاء بني إسرائيل، فسألهم، وعلى هذا التقدير: فليس المطلوبُ من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود بقول علمائهم صدق ما ذكره الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد.
والثاني: أنه منصوب بإضمار اذكر.
والثالث: أنه منصوبٌ ب «يُخْبرُونكَ» مقدراً.
الرابع: أنه منصوب بقولٍ مضمرٍ؛ إذ التقدير: فقلنا له: سل بني إسرائيل حين جاءهم، ذكر هذه الأوجه الزمخشري مرتبة على مقدمة ذكرها قبلُ [قال:] فاسْأَلْ بنِي إسْرائيلَ، أي: فقلنا له: اسأل بني إسرائيل، أي: اسْألهُم عن فرعون، وقل له: أرسل معي بني إسرائيل، أو اسألهم عن إيمانهم، وحال دينهم، أو اسألهم أن يعاضدوك. ويدل عليه قراءة رسول الله «فَسَألَ» على لفظ الماضي، بغير همزٍ، وهي لغة قريشٍ.(12/399)
وقيل: فَسلْ، يا رسول الله، المُؤمنَ من بني إسرائيل؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات؛ ليزدادوا يقيناً وطمأنينة؛ كقوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] [ثم قال:] فإن قيل بم تعلق «إذْ جَاءهُمْ» ؟ فالجواب:
أمَّا على الوجه الأول: فبالقول المحذوف، [أي] : فقلنا له، سلهم حين جاءهم، أو ب «سَالَ» في القراءة الثانية، وأمَّا على الآخر فب «آتَيْنَا» أو بإضمار «اذكر» أو ب «يُخْبرونَكَ» ومعنى «إذْ جَاءهُمْ» «إذ جاء آباءهم» ، انتهى.
قال أبو حيان: «لا يتأتَّى تعلقه ب» اذْكُر «ولا ب» يُخْبرُونَكَ «؛ لأنه ظرف ماضٍ» .
قال شهاب الدين: إذا جعله معمولاً ل «اذْكُر» ، أو ل «يُخْبرُونكَ» لم يجعله ظرفاً، بل مفعولاً به، كما تقرَّر مراراً.
الوجه الخامس: أنه مفعول به، والعامل فيه «فَسلْ» .
قال أبو البقاء: «فيه وجهان:
أحدهما: هو مفعول به ب» اسْألْ «على المعنى إذ التقدير: اذكر لبني إسرائيل؛ إذ جاءهم، وقيل: التقدير: اذكر إذا جاءهم وهي غير» اذكُر «الذي قدَّرت به» اسْأل «» ، يعني: أن «اذكر» المقدرة غير «اذكُر» التي فسَّرت «اسألْ» بها؛ وهذا يؤيِّد ما تقدَّم من أنهم، إذا قدروا «اذكُر» جعلوا «إدْ» مفعولاً به، لا ظرفاً.
إلا أنَّ أبا البقاء ذكر [حال] كونه ظرفاً، ما يقتضي أن يعمل فيه فعلٌ مستقبل، فقال: «والثاني: أن يكون ظرفاً، وفي العامل وجوه:
أحدها:» آتيْنا «.
والثاني:» قلنا «مضمرة.
والثالث: [» قُل «] ، تقديره: قل لخصمك: سل؛ والمراد به فرعون، أي: قل، يا موسى، وكان الوجه أن يقال: إذ جئتهم بالفتح، فخرج من الخطاب، إلى الغيبة» .
فظاهر الوجه الثالث: أن العامل فيه «قُلْ» وهو ظرف ماض، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيء؛ إذ يرجع إلى: يا موسى، قل لفرعون: يا فرعون سل بني إسرائيل، فيعود فرعون هو السائل لبني إسرائيل، وليس المراد ذلك قطعاً، وعلى التقدير الذي تقدم عن الزمخشري - وهو أن المعنى: يا موسى، سل بني إسرائيل، [أي: اطلبهم من فرعون - يكون المفعول الأول للسؤال محذوفاً، والثاني هو «بني إسْرائيلَ» ] ، والتقدير: سَلْ فرعون بني إسرائيل، وعلى هذا: فيجوز أن تكون المسألة من التنازع، وأعمل الثاني؛ إذ التقدير: سل فرعون، فقال فرعون، فأعمل الثاني، فرفع به الفاعل، وحذف المفعول من الأول، وهو المختار من المذهبين.(12/400)
والظاهر غير ذلك كلِّه، وأن المأمور بالسؤال سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبنو إسرائيل كانوا معاصريه.
والضمير [في] «إذْ جَاءَهُمْ» : إمَّا للآباء، وإمَّا لهم على حذف مضافٍ، أي: جاء آباءهم.
فصل في معنى «واسأل بني إسرائيل»
المعنى: فسَلْ، يا محمد، بني إسرائيل؛ إذ جاءهم موسى، يجوز أن يكون الخطاب معه، والمراد غيره، ويجوز أن يكون خاطبه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأمره بالسؤال؛ ليتبيَّن كذبهم مع قومهم، فقال له فرعون: {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} .
وقوله «مَسْحُوراً» : وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه بمعناه الأصلي، أي: إنك سحرت، فمن ثمَّ؛ اختل كلامك، قال ذلك حين جاءه بما لا تهوى نفسه الخبيثة، قاله الكلبي.
وقال ابن عباس: مخدوعاً، وقال: مصروفاً عن الحقِّ.
والثاني: أنه بمعنى «فاعل» كميمون ومَشْئُوم، أي: أنت ساحرٌ؛ كقوله: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45] . فوضع المفعول موضع الفاعل، قاله الفراء، وأبو عبيدة، وقال ابن جرير: يعطى علم السِّحر؛ فلذلك تأتي بالأعاجيب، يشير لانقلابِ عصاه حيَّة ونحو ذلك.
قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ} : قرأ الكسائي بضمِّ التاء أسند الفعل لضمير موسى - عليه السلام - أي: إنِّي متحققٌ أن ما جئتُ به هو منزَّلٌ من عند الله تعالى، والباقون بالفتح على إسناده لضمير فرعون، أي: أنت متحقِّقٌ أنَّ ما جئت به هو منزَّل من عند الله، وإنَّما كفرك عنادٌ، وعن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه أنكر الفتح، وقال: «ما عَلِمَ عدُو الله قطُّ، وإنَّما علمَ مُوسَى» ، [ولَو عَلِمَ، لآمنَ؛] فبلغ ذلك ابن عباس، فاحتجَّ بقوله تعالى:
{وَجَحَدُواْ
بِهَا
واستيقنتهآ
أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] على أنَّ فرعون وقومه علموا بصحَّة أمر موسى.
فصل في الخلاف في أجود القراءتين
قال الزجاج: الأجودُ في القراءة الفتحُ؛ لأنَّ علم فرعون بأنَّها آياتٌ نازلةٌ من عند الله أوكد في الاحتجاج، واحتجاج موسى على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه.
وأجاب من نصر قراءة عليٍّ عن دليل ابن عباس، فقال قوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} يدلُّ على أنهم استيقنوا أشياء، فأمَّا أنهم استيقنوا كون هذه الأشياء نازلة من عند(12/401)
الله، فليس في الآية ما يدل عليه؛ ويدلُّ بأنَّ فرعون قال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] .
قال موسى: «لقَدْ عَلْمتَ» .
والمعنى: «اعلم أنِّي لستُ بمجنونٍ» ، ولم يثبت عن عليٍّ رفعُ التاء؛ لأنه يروى عن رجلٍ من مرادٍ عن عليٍّ، وذلك الرجل مجهول.
واعلم: أن هذه الآيات من عند الله، ولا تشكَّ في ذلك بسبب سفاهتك والجملة المنفيَّة في محلِّ نصبٍ؛ لأنها معلقة للعلم قبلها وتقدير الآية: ما أنزل هؤلاء «الآيات» ؛ ونظيره قوله: [الكامل]
3476 - ... ... ... ... ... . ... والعَيْشَ بَعْدَ أولئك الأيَّام
أي: للأمام. قوله: «بَصائِرَ» حالٌ، وفي عاملها قولان:
أحدهما: أنه «أنْزلَ» هذا الملفوظ به، وصاحبُ الحال «هؤلاءِ» وإليه ذهب الحوفي، وابن عطيَّة، وأبو البقاء، وهؤلاء يجيزون أن يعمل ما قبل «إلاَّ» فيما بعدها، وإن لم يكن مستثنى، ولا مستثنى منه، ولا تابعاً له.
والثاني: - وهو مذهب الجمهور -: أنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يكون معمولاً لما قبله، فيقدر لها عامل، تقديره: أنزلها بصائر، وقد تقدَّم نظير هذه في «هود» عند قوله {إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي} [هود: 27] .
ومعنى «بَصائِرَ» أي: حججاً بيِّنة؛ كأنها بصائر العقول، والمراد: الآيات التِّسع، ثم قال موسى: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} .
قوله: «مَثبُوراً» مفعول ثانٍ، واعترض بين المفعولين بالنِّداء، والمَثبُورُ: المهلك؛ يقال: ثبرهُ الله، أي: أهلكه، قال ابن الزبعرى: [الخفيف]
3477 - إذْ أجَارِي الشَّيطَانَ في سَننِ الغَيْ ... يِ ومَنْ مَالَ مَيلهُ مَثْبُور
والثُّبورُ: الهلاكُ؛ قال تعالى: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً} [الفرقان: 14] .
وقال ابن عباس: مَثْبُوراً، أي: ملعوناً، وقال الفراء: مصروفاً ممنوعاً عن الخير، والعرب تقول: ما ثبرك عن هذا؟ أي: ما منعك عن هذا، وما صرفك عنه؟ .
قال أبو زيدٍ: يقال ثبرت فلاناً عن الشيء، أثبرهُ، أي رددتُّه عنه.
فصل في جواب موسى لفرعون بكونه مثبوراً
واعلم أنَّ فرعون لمَّا وصف موسى - عليه السلام - بكونه مسحوراً، أجابه موسى(12/402)
بأنَّك مثبورٌ، أي: أنَّ هذه الآيات ظاهراتٌ، ومعجزاتٌ ظاهرةٌ؛ لا يرتاب العاقل في أنَّها من عند الله؛ وأنه أظهرها لأجل تصديقي، وأنت تنكرها حسداً، وعناداً، ومن كان كذلك، كان عاقبته الدَّمار والهلاك.
ثم قال تعالى: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض} .
أي: أراد فرعون أن يخرج موسى - عليه السلام - وبني إسرائيل من الأرض أي: أرض مصر.
قال الزجاج: لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منها بالقتل، أو بالتنحية، وتقدَّم الكلام على الاستفزاز، ثم قال: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً} .
وهو معنى ما ذكره الله في قوله: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ، أي: إنَّ فرعون أراد إخراج موسى من أرض مصر؛ لتخلص له تلك البلاد، فأهلك الله فرعون، وجعل تلك الأرض خالصة لموسى ولقومه، وقال من بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل: اسكنوا الأرض خالصة لكم، خالية من عدوِّكم، يعني: أرض مصر والشام، {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} . يعني: القيامة {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} من ههنا وههنا.
وفي {لَفِيفاً} : وجهان:
أحدهما: أنه حال، وأن أصله مصدر لفَّ يلفُّ لفيفاً؛ نحو: النَّذير والنَّكير، أي: جئنا بكم منضماً بعضكم إلى بعض، من لفَّ الشيء يلفُّه لفًّا، والألفُّ: المتداني الفخذين، وقيل: العظيم البطن.
والثاني: أنه اسم جمع، لا واحج له من لفظه، والمعنى: جئنا بكم جميعاً، فهو في قوة التَّأكيد.
واللَّفيفُ: الجمع العظيم من أخلاطٍ شتَّى من الشريف، والدنيء، والمطيع، والعاصي، والقويّ، والضعيف، وكل شيءٍ خلطته بشيءٍ آخر، فقد لففته، ومنه قيل: لففتُ الجيوش: إذا ضرب بعضها ببعض.(12/403)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
قوله: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} الآية.
لما بيَّن أن القرآن معجز قاهر دالٌّ على الصدق في قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن} [الإسراء: 88] .
ثم حكى عن الكفار أنَّهم لم يكتفوا بهذا المعجز، بل طلبوا أشياء أخر، ثم أجاب تعالى بأنَّه لا حاجة إلى إظهار معجزاتٍ أخر، وبيَّن ذلك بوجوهٍ كثيرةٍ:
منها: أنَّ قوم موسى آتاهم تسع آيات بيِّناتٍ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله، فكذا ههنا، أي: أنَّ المعجزات التي اقترحها قوم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمَّ كفروا بها؛ فوجب إنزال عذاب الاستئصال بهم، وذلك غير جائزٍ في الحكمة؛ لعلمه تعالى أنَّ فيهم من يؤمن، أو من يظهر من نسله مؤمنٌ. لمَّا تمَّ هذا الجواب، عاد إلى حال تعظيم القرآن؛ فقال: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} ، أي: ما أردنا بإنزاله إلاَّ إظهار الحقِّ.
قوله: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} : في هذا الجار ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق ب «أنْزَلْنَاهُ» ، والباء سببية، أي: أنزلناه بسبب الحقِّ.
والثاني: أنه حال من مفعول «أنْزَلنَاهُ» ، أي: ومعه الحقُّ.
فتكون الباء بمعنى «مَعَ» قاله الفارسي؛ كما تقول: نزل بعدَّته، وخرج بسلاحه.
والثالث: أنه حال من فاعله، أي: ملتبسين بالحق، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف.
والضمير في «أنْزلْنَاهُ» الظاهر عوده للقرآن: إمَّا الملفوظ به في قوله قبل ذلك {على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن} [الإسراء: 88] ؛ ويكون ذلك جرياً على قاعدة أساليب كلامهم، وهو أن يستطرد المتكلمُ في ذكر شيءٍ لم يسبق له كلامه أولاً، ثم يعود إلى كلامه الأول. وإمَّا للقرآن غير الملفوظ أولاً؛ لدلالة الحال عليه؛ كقوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] وقيل: يعود على موسى؛ كقوله: {وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25] ، وقيل: على الوعد، وقيل: على الآيات التِّسعِ، وذكر الضمير، وأفرده؛ حملاً على معنى الدليل والبرهان.
قوله: «وبالحقِّ نَزلَ» فيه الوجهان الأولان، دون الثالث؛ لعدم ضميرٍ آخر غير ضمير القرآن لاحتمال أن يكون التقدير: نزل بالحقِّ؛ كما تقول: نزلت بزيدٍ، وعلى هذا التقدير: فالحق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها للتأكيد؛ وذلك أنه يقال: أنزلته، فنزل، وأنزلته فلم ينزل؛ فجيء بقوله «وبالحقِّ نَزلَ» ؛ دفعاً لهذا الوهم، وقيل: لست للتأكيد، والمغايرة تحصل بالتغاير(12/404)
بين الحقَّين، فالحق الأول التوحيد، والثاني الوعد والوعيد، والمر والنهي، وقال الزمخشري: «وما أنزلنا القرآن إلاَّ بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة؛ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خيرٍ، أو ما أنزلناه من المسماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصدِ من الملائكةِ، وما نزل على الرسول إلاَّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين» ، و «مبشِّراً ونذيراً» : حالان من مفعول «أرْسلْنَاكَ» مبشراً للمطيعين، ونذيراً للعاصين، فإن قبلوا الدِّين الحقَّ، انتفعوا به، وإلا فليس عليك من كفرهم [شيءٌ] .
قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} الآية: في نصب «قُرْآناً» أوجه:
أظهرها: أنه منصوب بفعل مقدر، أي: «وآتَيْناكَ قُرآناً» يدل عليه قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى} [الإسراء: 101] .
الثاني: أنه منصوبٌ؛ عطفاً على الكاف في «أرْسَلْنَاكَ» ؛ قال ابن عطية: «من حيثُ كان إرسالُ هذا، وإنزال هذا بمعنى واحدٍ» .
الثالث: أنه منصوب؛ عطفاً على «مُبشِّراً ونذيراً» قال الفراء: «هو منصوبٌ ب» أرْسَلناكَ «، أي: ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً؛ كما تقول: ورحمة يعني: لأن القرآن رحمةٌ» ، بمعنى أنه جعل نفس القرآن مراداً به الرحمة؛ مبالغة، ولو ادَّعى ذلك على حذفِ مضافٍ، كان أقرب، أي: «وذا قرآنٍ» وهذان الوجهان متكلَّفان.
الرابع: أن ينتصب على الاشتغال، أي: وفرقنا قُرآناً فرقناه، واعتذر أبو حيان عن ذلك، أي: عن كونه لا يصحُّ الابتداء به، لو جعلناه مبتدأ؛ لعدم مسوغٍ؛ لأنه لا يجوز الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسم الابتداء، بأنَّ ثمَّ صفة محذوفة، تقديره: وقرآناً أي قرآن، بمعنى عظيم، و «فَرقْنَاهُ» على هذا: لا محل له؛ بخلاف الأوجه المتقدمة؛ فإن محلَّه النصب؛ لأنَّه نعتٌ ل «قُرآناً» .
وقرأ العامة «فَرقْناهُ» بالتخفيف، أي: بيَّنا حلاله وحرامه، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ - كرَّم الله وجهه - وأبيٌّ، وعبد الله، وابن عباس والشعبي، وقتادة، وحميدٌ في آخرين بالتشديد، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّ التضعيف فيه للتكثير، أي: فرَّقنا آياته بين أمرٍ ونهيٍ، وحكمٍ وأحكامٍ، ومواعظ وأمثال، وقصصٍ وأخبار ماضية ومستقبلة.
والثاني: أنه دالٍّ على التفريق والتنجيم.
قال الزمخشريُّ: «وعن ابن عباس: أنه قرأ مشدداً، وقال: لم ينزل في يومين، ولا(12/405)
في ثلاثة، بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة، يعني أنَّ» فرقَ «بالتخفيف يدل على فصل متقاربٍ» .
قال أبو حيان: «وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيم - لم ينزل في يوم، ولا يومين، ولا شهرٍ، ولا شهرين، ولا سنة، ولا سنتين؛ قال ابن عبَّاس: كان بين أوله، وآخره عشرون سنة، كذا قال الزمخشريُّ، عن ابن عباس» .
قال شهاب الدين: ظاهر هذا: أنَّ القول بالتنجيم: ليس مرويًّا عن ابن عباس، ولا سيما وقد فصل قوله «قَالَ ابن عبَّاسٍ» من قوله «وقال بعض من اختار ذلك» ، ومقصوده أنه لم يسنده لابن عباس؛ ليتمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ «فَعَّل» بالتشديد لا يدلُّ على التفريق، وقد تقدم له معه هذا المبحث أوَّل هذا الموضوع.
قال ابن الخطيب: والاختيار عند الأئمة: «فَرقْنَاهُ» بالتخفيف، وفسَّره أبو عمرو: بيَّناه.
قال ابو عبيدة: التخفيف أعجبُ غليَّ؛ لأنَّ معناه: بينَّاه، ومن قرأ بالتشديد، لم يكن له معنًى إلا أنه أنزل متفرِّقاً، [فالتفرُّق] يتضمَّن التَّبيين، ويؤكِّده ما رواه ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ أنه قال: فَرقتُ، أو أفْرَقتُ بين الكلامِ، وفرَّقتُ بين الأجسامِ؛ ويدلُّ عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البَيِّعانِ بالخِيَارِ، ما لمْ يتفرَّقا» ولم يقل: «يَفْترِقَا» .
فصل في نزول القرآن مفرقاً
قال ابن الخطيب: إنَّ القوم قالوا: هَبْ أنَّ هذا القرآن معجز، إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة؛ ليظهر فيه وجه الإعجاز؛ فجعلوا إتيان الرسول به مفرَّقاً شبهة في أنَّه يتفكَّر في فصل فصل، ويقرؤه عليهم، فأجاب الله عن ذلك أنه إنَّما فرَّقه ليكون حفظه أسهل؛ ولتكون الإحاطة والوقوف على دلائله، وحقائقه، ودقائقه أكمل.
قال سعيد بن جبير: نزل القرآن كلُّه في ليلة القدر من السَّماء العليا إلى السَّماء السفلى، ثم فصل في السِّنين التي نزل فيها، ومعنى الآية: قطَّعناه آية آية، وسورة وسورة.(12/406)
قوله: «لتَقْرَأهُ» متعلق ب «فَرقْنَاهُ» ، وقوله «عَلَى مُكْثٍ» فيه ثلاثةُ أوجه:
الأول: أنه متعلِّق بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الفاعل، أو المفعول في «لتَقْرَأهُ» ، أي: متمهِّلاً مترسِّلاً.
الثاني: أنه بدلٌ من «عَلَى النَّاس» قاله الحوفيُّ، وهو وهمٌ؛ لأنَّ قوله «عَلى مُكثٍ» من صفاتِ القارئ، أو المقرُوءِ من وجهة المعنى، لا من صفات الناس؛ حتى يكون بدلاً منهم.
الثالث: أنه متعلق ب «فَرقنَاهُ» .
قال ابو حيان: «والظاهر تعلق» عَلى مُكثٍ «بقوله» لتَقْرأهُ «، ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنسٍ واحدٍ؛ لأنه اختلف معنى الحرفين؛ لأن الأول في موضع المفعول به، والثاني في موضع الحال، أي: متمهِّلاً مترسلاً» .
قال شهاب الدين: قوله أولاً: إنه متعلق بقوله «لِتقْرَأهُ» : ينافي قوله في موضع الحال، لأنه متى كان حالاً، تعلق بمحذوفٍ، لا يقال: أراد التعلق المعنوي، لا الصناعي؛ لأنه قال: ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحد، وهذا تفسير إعراب، لا تفسير معنى.
والمُْثُ: التَّطاولُ في المدة، وفيه ثلاثة لغات: الضمُّ، والفتح - ونقل القراءة بهما الحوفيُّ، وأبو البقاء - والكسر، ولم يقرأ به فيما علمتُ، وفي فعله الفتح والضمُّ وسيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى في النَّمل [الآية: 22] ومعنى «عَلى مُكْثٍ» أي على تؤدةٍ، وترسُّل في ثلاثٍ وعشرين سنة {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} على الحدِّ المذكور.
قوله: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا} : يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة؛ على وجه التَّهديد والإنكار، أي: أنَّه تعالى، أوضح البينات والدلائل، وأزاح الأعذار، فاختاروا ما تريدون.
{إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ} أي: من قبل نزول القرآن، قال مجاهد: هم ناسٌ من أهل الكتاب، كانوا يطلبون الدِّين قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمَّ أسلموا بعد مبعثه؛ كزيد بن عمرو بن نفيلٍ، وسلمان الفارسيِّ، وأبي ذرٍّ، وورقة بن نوفلٍ، وغيرهم.
{إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ} يعني القرآن.
{يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} . يعني: يسقطون للأذقان، قال ابن عباس: أراد به الوجوه.
قوله: {لِلأَذْقَانِ} : في اللام ثلاثة أوجه:(12/407)
أحدها: أنها بمعنى «على» ، أي: على الأذقان؛ كقولهم: خرَّ علىوجهه.
والثاني: أنها للاختصاص، قال الزمخشري: فإن قيل: حرف الاستعلاءِ ظاهر المعنى، إذا قلت: خرَّ على وجهه، وعلى ذقنه، فما معنى اللام في «خرَّ لذقنه، ولوجهه» ؟ قال: [الطويل]
3478 - ... ... ... ... ... . ... فَخرَّ صَرِيعاً للْيَديْنِ وللْفَمِ
قلت: معناه: جعل ذقنهُ، ووجههُ [للخرور] ، قال الزجاج: الذَّقنُ: مجمع اللَّحيين، وكلما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود، فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذَّقنُ.
وقيل: الأذقان اللِّحى؛ فإن الإنسان، إذا بالغ في السجود، والخضوع، ربَّما مسح ليحتهُ على التُّراب؛ فإنَّ اللحية يبالغ في تنظيفها، فإذا عفَّرها بالتُّراب، فقد أتى بغايةِ التعظيم [للخُرور] .
واختصَّ به؛ لأنَّ اللام للاختصاص، وقال أبو البقاء: «والثاني: هي متعلقة ب» يَخِرُّون «، واللام على بابها، أي: مذلُّون للأذقان» .
والأذقانُ: جمعُ ذقنٍ، وهو مجمعُ اللَّحيين؛ قال الشاعر: [الطويل]
3479 - فَخرُّوا لأذقَانِ الوُجوهِ تَنُوشُهمْ ... سِباعٌ من الطَّيْرِ العَوادِي وتَنتِفُ
و «سُجَّداً» حال، وجوَّز أبو البقاء في «للأذقانِ» أن يكون حالاً، قال: «أي: ساجدين للأذقان» وكأنه يعني به «للأذْقانِ» الثانية؛ لأنَّه يصير المعنى: ساجدين للأذقان سجداً؛ ولذلك قال: «والثالث: أنها - يعني اللام -[بمعنى] » على «؛ فعلى هذا يكون حالاً من» يَبْكُونَ «، و» يَبْكُون «حال» .
فإن قيل: لم قيل: يَخرُّون للأذقان سجداً، ولم يقل يسجدون؟
والجواب: أن المقصود من هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك؛ حتَّى أنهم يسقطون.
ثم قال: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} ، أي: كان قولهم في سجودهم: «سبحان ربِّنا» ، أي: ينزِّهونه، ويعظِّمونه {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} أي: بإنزال القرآن، وبعث محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهذا يدلُّ على أنَّ هؤلاء كانوا من أهل الكتاب، لأنَّ الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم، وهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد، ثم قال: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} .(12/408)
والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين، وهما:
خُرورهُمْ في حال كونهم باكين، في حال استماع القرآن، ويدلُّ عليه قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} .
وجاءت الحال الأولى اسماً؛ لدلالته على الاستقرار، والثانية فعلاً؛ لدلالته على التجدُّد والحدوث.
ويجوز أن يكون القول دلالة على تكرير الفعل منهم.
وقوله: «يَبْكُونَ» ، معناه: الحال، {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} ، أي: تواضعاً.
قوله: {وَيَزِيدُهُمْ} : فاعل «يزيدُ» : إمَّا القرآن، أو البكاءُ، أو السُّجودُ، أو المتلوُّ، لدلالة قوله: «إذَا يُتْلَى» .
قوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} الآية.
قال ابن عباس: سجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكَّة ذات ليلة، فجعل يبكي، ويقول في سجوده: (يا الله، يا رحمن) . فقال أبو جهلٍ: إنَّ محمداً ينهانا عن آلهتنا، وهو يدعو إلهين، فأنزل الله هذه الآية، ومعناه: أنَّهما اسمان لواحدٍ، [أي:] أيَّ هذين الاسمين سميتم، فله الأسماءُ الحسنى.
قوله: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} : [ «أيًّ» ] منصوب [ب «تَدْعُوا» ] على المفعول به، والمضاف إليه محذوف، أي: أيَّ الاسمين، و «تَدْعُوا» مجزوم بها، فهي عاملة معمولة، وكذلك الفعل، والجواب الجملة الاسمية من قوله «فلهُ الأسْماءُ الحُسنَى» . وقيل: هو محذوفٌ، تقديره: جاز، ثم استأنف، فقال: فله الأسماء الحسنى، وليس بشيءٍ.
والتنوين في «أيًّا» عوض من المضاف إليه، وفي «ما» قولان:
أحدهما: أنها مزيدة للتأكيد.
والثاني: أنها شرطية جمع بينهما؛ تأكيداً كما جمع بين حرفي الجر؛ للتأكيد، وحسَّنه اختلافُ اللفظ؛ كثوله: [الطويل]
3480 - فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي ... عن بِمَا بِهِ ... ... ... ... . .
ويؤيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرِّفٍ «أيًّا من تدعُوا» فقيل: «مَنْ» تحتمل الزيادة على رأي الكسائيِّ؛ كقوله: [الكامل]
3481 - يَا شَاةَ من قَنصٍ لمَنْ حَلَّتْ لهُ..... ... ... ... ... .(12/409)
واحتمل أن تكون شرطية، وجمع بينهما؛ تأكيداً لما تقدَّم، و «تَدعُوا» هنا يحتمل أن يكون من الدعاء، وهو النداءُ، فيتعدَّى لواحدٍ، وأن يكون بمعنى التسمية، فيتعدَّى لاثنين، إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرف الجرِّ، ثم يتسع في الجارِّ فيحذف؛ كثوله: [الطويل]
3482 - دَعتْني أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو ... ... . ..... ... ... ... ... ...
والتقدير: قل: ادعُوا معبودكم بالله، أو بالرَّحمن، بأيِّ الاسمين سمَّيتموه، وممَّن ذهب غلى كونها بمعنى «سمَّى» الزمخشريز
ووقف الأخوان على طأيًّا «بإبدال التنوين ألفاً، ولم يقفا على» مَا «؛ تبييناً لانفصال» أيًّا «من» مَا «، ووقف غيرهما على» مَا «؛ لامتزاجها ب» أيّ «؛ ولهذا فصل بها بين» أي «، وبين ما أضيفت إليه في قوله تعالى {أَيَّمَا الأجلين} [القصص: 28] ، وقيل:» ما «شرطية عند من وقف على» ايًّا «، وجعل المعنى: أي الاسمين دعوتموه به، جاز، ثم استأنف» مَا تدعوا، فله الأسماء الحسنى «، يعني أنَّ» ما «شرطٌ ثانٍ، و» فَلهُ الأسماءُ «جوابه، وجواب الأول مقدر، وهذا مردودٌ بأنَّ» ما «لا تطلق على آحاد أولي العلم، وبأنَّ الشرط يقتضي عموماً، ولا يصحُّ هنا، وبأن فيه حذف الشرط والجزاء معاً.
فصل
والمعنى: أيًّا ما تدعوا، فهو حسنٌ؛ لأنه إذا حسنت أسماؤه، فقد حسن هذان الاسمان؛ لأنهما منها، ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التَّمجيد والتَّقديس.
واحتجَّ الجبائي بهذه الآية، فقال: لو كان تعالى خالقاً للظُّلم، والجور، لصحَّ أن يقال: يا ظالمُ، حينئذٍ: يبطل ما ثبت بهذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة.
والجواب: أنَّا لا نسلِّم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد، لصحَّ وصفه بأنَّه ظالمٌ، وجائرٌ، كما لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون، والسواد، والبياض أن يقال: ما متحرك، ويا ساكن، ويا أبيض، ويا أسود.
فإن قيل: فيلزم أن يقال: يا خالق الظُّلم والجور.
تقولون: ذلك حقٌّ في نفس الأمر، وإنَّما الأدب أن يقال: يا خالق السَّموات والأرض، فكذا قولنا ها هنا.
ثمَّ قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} .(12/410)
وروى سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبَّاس في هذه الآية، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرفعُ صوته بالقراءة، فإذا سمعه المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} ، أي: بقراءتك، أي: فيسمعك المشركون؛ ليسبُّوا القرآن، ويسبُّوا الله عدواً بغير علم.
قوله: {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} فلا يسمعك أصحابك.
قوله: {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} .
روى أبو قتادة «أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طاف باللَّيل على دور أصحابه؛ فكان أبو بكرٍ يخفي صوته بالقراءة، وكان عمر يرفعُ صوته، فلما جاء النَّهار، وجاء أبو بكرٍ وعمر، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هِيَ لَكَ، مَررْتُ بِكَ، وأنْتَ تَقْرأ، وأنْتَ تخفضُ من صَوتِكَ، فقال: إنِّي سَمِعتُ من نَاجَيتُ، قَالَ: فَارفَعْ قليلاً، وقَالَ لِعُمرَ: مَررْتُ بِكَ، وأنْتَ تَقْرَأ، وأنْتَ تَرْفَعُ مِنْ صَوْتِكَ، فقال: إنِّي أوقظُ الوسْنانَ، وأطردُ الشَّيطَانَ، فقال: اخْفِضْ قليلاً» .
وقيل: المراد (ولا تجهر بصلاتك كلها) ، ولا تخافت بها كلها (وابتغ بين ذلك سبيلا) بأن تجهر بصلاة الليل، وتخافت بصلاة النَّهار.
وقيل: الآية في الدعاء، وهو قول أبي هريرة، وعائشة، والنخعيِّ، ومجاهدٍ، ومكحولٍ، وروي مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في هذه الآية، قال: إنَّما ذلِكَ في الدُّعاءِ والمسالة.
قال عبد الله بن شدَّادٍ: كان أعرابٌ من بني تميم، إذا سلَّم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: اللهم ارزقنا مالاً وولداً يجهرون، فأنزل الله هذه الآية: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} .
أي: لا ترفع صوتك بقراءتك، ودعائك، ولا تخافت بها.
والمُخَافتَةُ: خفض الصَّوت والسُّكوتُ.
يقل: خفت صوته يخفته خفوتاً، إذا ضعف وسكن، وصوتٌ خفيتٌ، أي: خفيضٌ.
ومنه يقال للرجل، إذا مات: قد خفت كلامه، أي: انقطع كلامه، وخفت الزَّرعُ،(12/411)
إذا ذبل، وخفت الرَّجل بقراءته، يتخافتُ بها، إذا لم يبيِّن قراءته برفع الصوت، وقد تخافت القوم، إذا تسارُّوا بينهم.
فصل في المستحب في الدعاء
واعلم أن الجهر بالدعاء منهيٌّ عنه، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة، والمستحبُّ التوسُّط، وهو أن يسمع نفسه؛ كما روي عن ابن مسعود: أنه قال: لم يتخافت من يسمع أذنيه.
واعلم أن العدل هو رعاية الوسط؛ كما مدح الله هذه الأمَّة بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] .
ومدح المؤمنين بقوله: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] .
وأمر الله تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] فكذا ههنا: نهى عن الطَّرفين، وهما الجهر والمخافتة، وأمر بالتوسُّط بينهما، فقال: {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} .
وقال بعضهم: الآية منسوخة بقوله - تعالى -: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] .
وهو بعيدٌ.
واعلم أنه تعالى، لمَّا أمر بأن لا يذكر، ولا ينادى، إلا بأسمائه الحسنى، علَّم كيفيَّة التمجيد؛ فقال:
{وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل} .
فذكر ثلاثة أنواع من صفات التنزيه والجلال:
الأول: أنه لم يتخذ ولداً، والسَّببُ فيه وجوهٌ:
أولها: أنَّ الولد هو الشيء المتولِّد من أجزاء ذلك الشيء، فكلُّ من له ولدٌ، فهو مركبٌ من الأجزاء، والمركَّب محدثٌ، والمحدث محتاجٌ؛ لا يقدر على كمال الإنعامِ؛ فلا يستحقُّ كمال الحمدِ.
وثانيها: أنَّ كل من له ولدٌ، فهو يمسك جميع النِّعم لولده، فإذا يكن له ولدٌ، أفاض كلَّ النِّعم على عبيده.
وثالثها: أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه، فلو كان له ولد، لكان(12/412)
منقضياً فانياً، ومن كان كذلك، لم يقدر على كمال الإنعام في جميع الأوقات؛ فوجب ألاَّ يستحقَّ الحمد على الإطلاق.
وهذه الآية ردٌّ على اليهود في قولهم {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] ، وردٌّ على النصارى في قولهم {المسيح ابن الله} [التوبة: 30] وعلى مشركي العرب في قولهم: «المَلائِكةُ بنَاتُ الله» .
والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله: {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} .
والسَّببُ في اعتبار هذه الصفة: أنَّه لو كان له شريكٌ، فلا يعرف كونه مستحقًّا للحمد والشُّكر.
والنوع الثالث: قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل} .
والسببُ في اعتباره: أنه لو جاز عليه وليٌّ من الذلِّ، لم يجب شكره؛ لتجويز أن يكون غيره حمله على ذلك الإنعام.
أما إذا كان منزَّهاً عن الولد، وعن الشَّريك، وعن أن يكون له وليٌّ يلي أمرهُ، كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد والشُّكر.
قوله: {مَّنَ الذل} : فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها صفة ل «وليّ» ، والتقدير: وليٌّ من أهل الذلِّ، والمراد بهم: اليهود والنصارى؛ لأنهم أذلُّ الناس.
والثاني: أنها تبعيضية.
الثالث: أنها للتعليل، أي: من أجل الذلِّ، وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال: «وليٌّ من الذلِّ: ناصر من الذلِّ، ومانع له منه؛ لاعتزازه به، أو لم يوالِ أحداً لأجل مذلَّة به؛ ليدفعها بموالاته» .
وقد تقدَّم الفرق بين الذُّلِّ والذِّلّ في أول هذه السورة [الآية: 24] .
فصل في معنى قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}
معنى قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ، أي: أنَّ التمجيد يكون مقروناً بالتكبير، والمعنى: عظِّمه عن أن يكون له شريكٌ، أو وليٌّ؛ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى اربع: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمدُ لله لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت» .(12/413)
فصل
روى أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة بني إسرائيل، فَرَقَّ قَلبهُ عِندَ ذِكْر الوالدين أعْطِيَ في الجنَّة قِنْطَاريْنِ مِنَ الأجْرِ، والقِنطَارُ ألْفُ أوقيَّةٍ، ومِائتَا أوقيَّةٍ، كلُّ أوقيَّةٍ خيرٌ من الدُّنْيَا وما فِيهَا» .
وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قول العبد: «الله أكبرُ خيرٌ من الدنيا وما فِيهَا» وهذه الآية خاتمة التَّوراة.
وروى مطرفٌ، عن عبد الله بْنِ كعبٍ، قال: «افتُتِحَتِ التَّوراةُ بفَاتحةِ سُورةِ الأنعامِ، وخُتمَتْ بِخاتمَةِ هذه السُّورةِ» .
وروى عمرُو بنُ شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، قال: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أفْصَحَ الغلام من بني عَبْدِ المطَّلبِ، عَلَّمهُ: الحَمدُ للهِ الَّذي لَمْ يتَّخذْ ولداً الآية.
وقال عبدُ الحميدِ بنُ واصلٍ: سَمعْتُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ قال: مَنْ قَرَأ: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ} الآية، كَتبَ الله لهُ من الأجْرِ مِثلَ الأرْض والجِبالِ؛ لأنَّ الله تعلى يَقُولُ فيمَنْ زَعمَ أنَّ لهُ ولداً: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} [مريم: 90] .(12/414)
سورة الكهف(12/415)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكهف قال ابن عباس مكية غير أربعين آية منها، وهي مائة وعشر آيات، وألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة، وعدد حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا. قال ابن الخطيب: تقدم الكلام في الحمد، والذي أقوله ها هنا: إن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد؛ ألا ترى أنه يقال: «سبحان الله والحمد لله» .
وإذا عرف هذا، فنقول: إنه تعالى - جلَّ جلاله - ذكر التسبيح عندما أخبر أنَّه أسرى بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وذكر التحميد عندما ذكر إنزال الكتاب عليه فقال: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} .
ثم قال: والمشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق.
والجواب عنه مذكور في سورة الأعراف في تفسير قوله {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} [الأعراف: 54] .
واعلم: أنه تعالى أثنى على نفسه بإنعامه على خلقه، وخصَّ رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالذكر؛ لأنَّ إنزال الكتاب القرآن عليه كان نعمةً عليه على الخصوصِ وعلى سائر الناسِ على العمومِ.
أما كونه نعمة عليه؛ فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علم التَّوحيد والتَّنزيه وصفات الجلال وأحوال الملائكة وأحوال الأنبياءِ وأحوالِ القضاء والقدر، وتعلُّق أحوال العالم السفليِّ بأحوال العالم العلوي، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب، وذلك من أعظم النِّعم، وأمَّا كونه(12/415)
نعمة علينا؛ فلأنه مشتملٌ على التكاليفِ والأحكامِ والوعد [والوعيد] والثوابِ والعقاب، فكلُّ واحدٍ ينتفعُ به بمقدار طاقته وفهمه.
قوله: {وَلَمْ يَجْعَل} : في هذه الجملة أوجهٌ، أحدها: أنها معطوفة على الصلة قبلها. والثاني: أنها اعتراضية بين الحال وهي «قَيِّما» وبين صاحبها وهو «الكتاب» . والثالث: أنها حالٌ من «الكتاب» ، ويترتب على هذه الأوجه القول في «قَيِّماً» .
قوله: {قَيِّماً} : فيه أوجه: الأول: أنه حال من «الكتاب» . والجملة من قوله «ولم يجعل» اعتراض بينهما. وقد منع الزمخشري ذلك فقال: «فإن قلت: بم انتصب» قَيِّماً «؟ قلت: الأحسن أن ينتصب بمضمرٍ، ولم يجعل حالاً من» الكتاب «لأن قوله» ولم يجعل «معطوف على» أنْزلَ «فهو داخلٌ في حيِّز الصلةِ، فجاعله حالاً فاصلٌ بين الحالِ وذي الحال ببعض الصلة» ، وكذلك قال أبو البقاء. وجواب هذا ما تقدَّم من أن الجملة اعتراضٌ لا معطوفة على الصِّلة.
الثاني: أنه حالٌ من الهاءِ في «لهُ» . قال أبو البقاءِ: «والحالُ مؤكدة. وقيل: منتقلة» . قال شهاب الدين: القول بالانتقالِ لا يصحُّ.
الثالث: أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ، تقديره: جعله قيِّماً. قال الزمخشري: «تقديره: ولم يجعل له عوجاً، جعله قيِّماً، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة» .
قال: «فإن قلت: ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامةِ وفي أحدهما غِنًى عن الآخر؟ . قلت: فائدته التأكيد فرُبَّ مستقيم مشهودٌ له بالاستقامةِ، ولا يخلو من أدنى عوجٍ عند السَّيرِ والتصفُّح» .
الرابع: أنه حالٌ ثانية، والجملة المنفيَّة قبله حال أيضاً، وتعدد الحال لذي حال واحد جائزٌ. والتقدير: أنزله غير جاعلٍ له عوجاً قيماً.
والخامس: أنه حالٌ أيضاً، ولكنه بدلٌ من الجملة قبله لأنها حال، وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز، وهذا كما أبدلت الجملة من المفرد في قوله: «عَرفْتُ زيداً أبو مَنْ هو» .
والضمير في «لَهُ» فيه وجهان، أحدهما: أنه للكتاب، وعليه التخاريج المتقدمة. والثاني: أنه يعود على «عضبدِه» ، وليس بواضحٍ.
وقرأ العامة بتشديد الياء، وأبانُ بن تغلب بفتحها خفيفة. وقد تقدَّم القولُ فيها.
ووقف حفص على تنوين «عِوَجاً» يبدله ألفاً، ويسكت سكتةً لطيفة من غير قطع نفس، إشعاراً بأنَّ «قيِّماً» ليس متصلاً ب «عوجاً» ، وإنما هو من صفة الكتاب. وغيره لم يعبَأ بهذا الوهم فلم يسكت اتِّكالاً على فهم المعنى.(12/416)
قلت: قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعض مصاحف الصحابة: «ولم يَجْعلْ له عوجاً، لكن جعله قيِّماً» . وبعض القراء يطلق فيقول: يقف على «عِوَجاً» ، ولم يقولوا: يبدل التنوين ألفاً، فيحتمل ذلك، وهو أقرب لغرضه فيما ذكرت.
ونقل أبو شامة عن ابن غلبون وأبي علي الأهوازيِّ، يعني الإطلاق. ثم قال: «وفي ذلك نظرٌ - أي في إبدال التووين ألفاً - فإنه لو وقف على التنوين لكان أدلَّ على غرضه، وهو أنه واقفٌ بنيَّة الوصل» . انتهى.
وقال الأهوازيُّ: «ليس هو وقفاً مختاراً، لأنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، معناه: أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عوجاً» . قال شهاب الدين: دعوى التقديم والتأخير وإن كان قال به غيره كالبغوي والواحدي وغيرهما إلاَّ أنَّها مردودةٌ لأنَّها على خلاف الأصل، وقد تقدَّم تحقيقه.
وفعل حفصٌ في مواضع من القرآن مثل فعله هنا من سكتةٍ لطيفةٍ نافية لوهم مخلٍّ. فمنها: أنَّه كان يقف على «مَرْقدِنا» ، ويبتدئ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} [يس: 52] . قال: لئلاَّ يتوهَّم أنَّ «هذا» صفة ل «مَرْقدِنا» فالوقف يبين أنَّ كلام الكفار انقضى، ثم ابتدئ بكلامِ غيرهم. قيل: هم الملائكة. وقيل: المؤمنون. وسيأتي في يس ما يقتضي أن يكون «هذا» صفة ل «مَرْقدِنا» فيفوتُ ذلك.
ومنها: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة: 27] . كان يقف على نون «مَنْ» ويبتدئ «راقٍ» قال: «لئلاَّ يتوهَّم أنها كلمة واحدة على فعَّال اسم فاعل للمبالغة من مرق يمرُق فهو مرَّاق» .
ومنها: {بَلْ رَانَ} [المطففين: 14] كان يقف على لام بل، ويبتدئ «ران» لما تقدَّم.
قال المهدويُّ: «وكان يلزمُ حفصاً مثل ذلك، فيما شاكل هذه المواضع، وهو لا يفعله، فلم يكن لقراءته وجهٌ من الاحتجاج إلا اتباعُ الأثر في الرواية» . قال أبو شامة: «أولى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} [يونس: 65] ، ينبغي الوقف على» قَولهُم «لئلاَّ يتوهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ» ، وكذا {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار الذين يَحْمِلُونَ العرش} [غافر: 6، 7] ينبغي أن يعتنى بالوقف على «النَّار» لئلا تتوهَّم الصفة.
قال شهابُ الدين: وتوهُّمُ هذه الأشياء من أبعد البعيد. وقال أبو شامة أيضاً: ولو لزم الوقفُ على اللام والنون ليظهرا للزمَ ذلك في كلِّ مدغمٍ «. يعني في» بل رانَ «وفي» مَنْ راقٍ «.
فصل
المعنى: ولم يجعل له عوجاً [قيِّماً] ، أي مختلفاً.(12/417)
قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] .
قال أهل اللغة: العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، فالمراد منه نفيُ التَّناقضِ.
وقيل: معناه لم يجعلهُ مخلوقاً.
روي عن ابن عبَّاس أنَّه قال في قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] أي غير مخلوقٍ.
وقوله:» قيماً «فيما نقل عن ابن عباسٍ أنه قال: يريد مستقيماً [قال ابن الخطيب:] وهذا عندي مشكلٌ؛ لأنَّه لا معنى لنفي الاعوجاج إلاَّ حصول الاستقامةِ، فتفسير القيّم بالمستقيم يوجبُ التكرار، بل الحق أن يقال: المرادُ من كونه قيِّماً سبباً لهداية الخلق، وأنَّه يجري بحذوِ من يكون قيّماً للأطفال، فالأرواح البشرية كالأطفالِ، والقرآن كالقيِّم المشفق القيم بمصالحهم.
قوله:» ليُنْذِرَ «في هذه اللام وجهان، أظهرهما: أنها متعلقة ب» قيِّماً «قاله الحوفيُّ. والثاني: - وهو الظاهرُ - أنَّها تتعلق ب» أنْزلَ «. وفاعل» لِيُنذِرَ «يجوز أن يكون» الكتاب «وأن يكون الله، وأن يكون الرسول.
و» أنْذَرَ «يتعدَّى لاثنين: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ: 40] {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13] . ومفعوله الأول محذوف، يقدره الزمخشري:» ليُنْذِرَ الذين كفروا «، وغيره:» ليُنذِرَ العباد «، أو» ليُنذرَكم «، أو لينذر العالم. وتقديره أحسن لأنه مقابل لقوله» ويُبشِّر المؤمنين «، وهم ضدُّهم.
وكما حذف المنذر وأتى بالمنذر به هنا، حذف المنذر به وأتى بالمنذرِ في قوله {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ} [الكهف: 4] فحذف الأول من الأول لدلالةِ ما في الثاني عليه، وحذف الثاني من الثاني لدلالة ما في الأول عليه، وهو في غاية البلاغة، ولمَّا لم تتكرَّر البشارة ذكر مفعوليها فقال: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} .
قوله: {مِّن لَّدُنْهُ} قرأ أبو بكرٍ عن عاصم بسكون الدَّال مشمَّة الضمَّ وكسر النون والهاء موصلة بياء، فيقرأ «مِنْ لَدْنهِي» والباقون يضمون الدال، ويسكنون النون ويضمون الهاء، وهم على قواعدهم فيها: فابن كثيرٍ يصلها بواوٍ نحو: منهُو وعنهُو، وغيره لا يصلها بشيءٍ.
وجه أبي بكرٍ: أنَّه سكن الدال تخفيفاً كتسكين عين «عَضُد» فالنون ساكنة، فالتقى ساكنان فكسر النون لالتقاءِ الساكنين، وكان حقُّه أن يكسر الأول على القاعدة المعروفة إلا أنه يلزم منه العودُ إلى ما فرَّ منه، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قوله تعالى: {وَيَخْشَ الله(12/418)
وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] في سورة النور، لمَّا كسر النون إتباعاً على قاعدته ووصلها بياء. وأشم الدال إشارة إلى أصلها في الحركة.
والإشمامُ هنا عبارة عن ضمِّ الشفتين من غير نطقٍ، ولهذا يختصُّ به البصير دون الأعمى، هكذا قرَّرهُ القراء وفيه نظر؛ لأنَّ الإشمام المشار إليه إنما يتحقق عند الوقف على آخر الكلمة فلا يليق إلاَّ بأن يكون إشارة إلى حركة الحرفِ الآخر المرفوع إذا وقف عليه نحو: «جاء الرجل» ، وهكذا قدَّره النحويون. وأمَّا كونه يؤتى به في وسط الكلمة فلا يتصوَّر إلا أن يقفالمتكلم على ذلك الساكن ثم ينطق ب «ياء» الكلمة. وإذا جرَّبت نطقك في هذا الحرف الكريم وجدت الأمر كذلك، لا ينطقُ به بالدال الساكنة مشيراً إلى ضمها إلا حتى يقف عليها، ثم يأتي ب «ياء» في الكلمة.
فإن قلت: إنَّما آتي بالإشارة إلى الضمة بعد فراغي من الكلمةِ بأسرها. قيل لك: فاتت الدلالة على تعيين ذلك الحرف المشار إلى حركته.
فالجواب عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته وهو الدال. وقد تقدَّم في «يوسف» أن الإشمام في {لاَ تَأْمَنَّا} [يوسف: 11] إذا فسَّرناه بالإشارة إلى الضمة: منهم من يفعله قبل كمال الإدغام، ومنهم من يفعله بعده، وهذا نظيره. وتقدَّم أنَّ الإشمام يقع بإزاءِ معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقها.
و «مِنْ لدُنه» متعلق ب «ليُنْذِرَ» . ويجوز تعلقه بمحذوفٍ نعتاً ل «بَأساً» ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «شديداً» .
والبأس مأخوذ من قوله: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] و {مِّن لَّدُنْهُ} أي: صادراً من عنده.
فصل
قال الزجاج: وفي «لدُن» لغات يقال: لَدُ، ولدُنْ، ولَدَى بمعنى واحدٍ، وهي لا تتمكن ممكن «عند» ؛ لأنَّك تقول هذا القول الصَّواب عندي، ولا يقال: صوابٌ لدني، ويقال: عندي مالٌ عظيمٌ، [والمال] غائب عنك، ولدني لما يليك لا غير.
وقرئ «ويُبشِّرُ» بالرفع على الاستئناف. والمراد بالأجر الحسن الجنة.
قوله: {مَّاكِثِينَ} : حالٌ: إمَّا من الضمير المجرور في «لهُم» ، أو المرفوع المستتر فيه، أو من «أجراً» لتخصصه بالصفة، غلاَّ أنَّ هذا لا يجيءُ إلاَّ على رأيِ الكوفيين. فإنهم لا يشترطون بروزَ الضمير في الصفة الجارية على غير من هي له إذا أمن اللَّبسُ، ولو كان حالاً منه عند البصريِّين لقال: ماكثين هم فيه. ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون صفة(12/419)
ثانية ل «أجْراً» . قال أبو البقاء: وقيل: هو صفة ل «أجْراً» ، والعائد الهاء في «فيه» . ولم يتعرَّض لبروزِ الضمير ولا لعدمه بالنسبة إلى المذهبين.
و «أبداً» منصوبٌ على الظرف ب «مَاكثِينَ» .
فصل
اعلم أنَّ المقصود من إرسالِ الرسل إنذارُ المذنبين وبشارة المطيعين، ولمَّا كان دفع الضرِّ أهمَّ عند ذوي العقول من إيصال النَّفع، لا جرم قدَّم الإنذار في اللفظ.
قال الزمخشريُّ: قرئ «ويُبشِّرُ» بالتخفيف والتَّثقيل و {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} بمعنى خالدين.
فصل
قال القاضي: دلت الآية على صحَّة قوله في مسائل:
أحدها: أنَّ القرىن مخلوقٌ وبيانه من وجوه:
الأول: أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزولِ، وذلك من صفاتِ المحدثات، فإنَّ القديم لا يجوز عليه التغييرُ.
والثاني: أنَّه وصفه بكونه كتاباً، والكتب هو الجمع، وسمِّي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروفِ والكلماتِ، وما صحَّ فيه [من] التركيب والتأليف فهو محدثٌ.
الثالث: أنَّه تعالى أثبت الحمد لنفسه، على إنزالِ الكتاب، والحمد إنَّما يستحقُّ على النعمةِ، والنعمةُ محدثة [مخلوقة] .
الرابع: أنَّه وصفهُ بأنه غير معوجٍّ وبأنَّه مستقيمٌ، والقديم لا يمكن وصفه بذلك، فثبت أنَّه محدثٌ مخلوقٌ.
وثانيها: خلق الأعمال؛ فإنَّ هذه الآية تدلُّ على قولنا في هذه المسألة من وجوهٍ:
الأول: نفس الأمر بالحمد؛ لأنَّه لو لم يكن للعبد فعلٌ لم ينتفع بالكتاب، إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر أن يفعل ما دلَّ الكتاب على أنه يجب فعله، ويترك ما دلَّ الكتاب على أنه يجب تركهُ، وهذا إنَّما كان يعقل لو كان مستقلاً بنفسه.
أمَّا إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثرٌ في اعوجاج فعله، ولم يكن لكون الكتاب «قيِّماً» أمرٌ في استقامةِ فعله كان العبدُ قادراً على الفعل مختاراً فيه.
والثاني: أنَّه تعالى لو أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض، وأنزل الباقي(12/420)
ليؤمن البعضُ الآخر، فمن أين أن ذلك الكتاب قيمٌ لا عوج فيه؟ لأنه لو كان فيه عوجٌ لما زاد على ذلك.
والثالث: قوله: «لِيُنذِرَ» وفيه دلالة على أنَّه تعالى أراد منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنذارَ الكلِّ وتبشير الكلِّ، وبتقدير أن يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذارِ والتبشير فائدة؛ لأنَّه تعالى إذا خلق الإيمان حصل شاء العبدُ أو لم يشأ، وإذا خلق الكفر [حصل] شاء العبد أو لم يشأ، فيصيرُ الإنذار والتبشيرُ على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذارِ والتبشير على كونه طويلاً وقصيراً وأبيض وأسود ممَّا لا قدرة للعبد عليه.
الرابع: وصفه المفسرون بأنَّ المؤمنين يعملون الصالحاتِ فإن كان خلقاً لله تعالى، فلا علم لهم به ألبتة.
الخامس: إيجابه لهم الأجر الحسن على ما علموا؛ فإن الله تعالى قادرٌ بخلق ذلك فيهم، فلا إيجاب ولا استحقاق.
المسألة الثالثة: دلَّت الآية على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراض صحيحةٍ، وذلك يبطل قول من يقول: إنَّ فعلهُ غيرُ مُعلَّلٍ بالغرضِ.
فصل
واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة.(12/421)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
اعلم أنَّ قوله: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} معطوف على قوله: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] ، والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه، فالأول عام في حقِّ كلِّ من استحقَّ العذاب، والثاني خاصٌّ بمن قال: إنَّ الله اتَّخذ ولداً، والقرآن جارٍ بأنه إذا ذكر الله قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها؛ تنبيهاً على كون ذلك البعض المعطوف أعظم جزئيات ذلك الكلي [أيضاً] ، كقوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فكذا ها هنا يدل على أن أعظم أنواعِ الكفر والمعصيةِ إثباتُ الولد لله تعالى.
فصل
واعلم أنَّ المثبتين لله تعالى الولد ثلاث طوائف:
الأولى: كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بناتُ الله.
الثانية: النصارى قالوا: المسيحُ ابن الله.(12/421)
الثالثة: اليهود، [حيث] قالوا: العزير ابنُ الله.
واعلم أنَّ إثبات الولد لله كفرٌ عظيمٌ، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام في قوله: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] وسيأتي تمامه - إن شاء الله تعالى - في سورة مريم؛ لأنَّه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد من وجهين:
الأول: قوله: {مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ} .
فإن قيل: اتخاذ الله تعالى الولد محالٌ في نفسه، فكيف قيل: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] ؟ .
فالجوابُ أنَّ انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه؛ وقد يكون لأنَّه في نفسه محالٌ، لا يمكن تعلق العلم به، ونظيره قوله: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] .
فصل
تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: دلَّت هذه الآية على أن القول في الدِّين بغير علمٍ باطل، والقول بالقياس الظنيِّ قول في الدِّين بغير علم، فيكون باطلاً.
وجوابه تقدم عند قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] .
وقوله: {وَلاَ لآبَائِهِمْ} أي أحداً من أسلافهم، وهذه مبالغة في كون تلك المقالة فاسدة باطلاة جدًّا.
قوله: {مَّا لَهُمْ بِهِ} : أي: بالولد، أو باتخاذه، أو بالقول المدلول عليه ب «اتَّخَذَ» وب «قَالُوا» ، وبالله.
وهذه الجملة المنفية فيها ثلاثة أوجه:
أظهرها: أناه مستأنفة، سيقت للإخبار بذلك.
والثاني: أنها صفة للولد، قاله المهدويُّ، وردَّه ابن عطية: بأنه لا يصفه بذلك إلاَّ القائلون، وهم لم يقصدوا وصفه بذلك.
الثالث: أنها حالٌ من فاعل «قالوا» ، أي: قالوه جاهلين.
و «مِنْ عِلم» يجوز أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأ، والجارُّ هو الرافع لاعتماده أو الخبر، و «مِنْ» مزيدة على كلا القولين.
قوله: «كَبُرتْ كلمة» في فاعل «كَبُرتْ» وجهان:
أحدهما: أنه مضمرٌ عائد على مقالتهم المفهومة من قوله: {قَالُواْ اتخذ الله} أي: كبر مقالهم، و «كلمة» نصب على التمييز، ومعنى الكلام على التعجُّب، أي: ما أكبرها(12/422)
كلمة، و «تَخرُج» الجملة صفة ل «كَلمةٌ» ويؤذنُ باستعظامها لأنَّ بعض ما يهجس في الخاطر لا يجسر الإنسان على إظهاره باللفظ.
والثاني: أن الفاعل مضمر مفسر بالنكرة بعده المنصوبة على التمييز، ومعناها الذمُّ؛ ك «بِئْسَ رجلاً» فعلى هذا: المخصوصُ بالذمِّ محذوف، تقديره: كبرت هي الكلمة كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاءُ.
وقرأ العامة «كلمة» بالنصب، وفيها وجهان:
النصبُ على التمييز تقديره كبرت الكلمة.
قال الواحديُّ: ومعنى التمييز: أنَّك إذا قلت: كبرت المقالة أو الكلمة، جاز أن يتوهم أنَّها كبرت كذباً، أو جهلاً، أو افتراء، فلما قلت: «كَلِمَة» فقد ميَّزتها من محتملاتها، فانتصبت على التَّمييز، والتقدير: كبرت الكلمة كلمة، فحصل فيه الإضمار.
وأمَّا من رفع «كلمةٌ» فلا يضمر شيئاً.
قال النحويُّون: النصب أقوى وأبلغ.
وقد تقدَّم تحقيقه في الوجهين السابقين.
والثاني: النصب على الحال، وليس بظاهر وقيل: نصباً على حذف حرف الجرّ، والتقدير: «مِنْ كَلمَةٍ» فحذف «مِنْ» فانتصب.
قوله: «تَخرجُ» في الجملة وجهان:
أحدهما: هي صفة لكلمة.
والثاني: أنها صفة للمخصوص بالذَّم المقدر، تقديره: كبرت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً.
وقرأ الحسن، وابن محيصنٍ، وابن يعمر، وابن كثير - في رواية القوَّاس عنه - «كَلمَةٌ» بالرفع على الفاعلية، و «تَخْرجُ» صفة لها أيضاً، وقرئ «كَبْرَتْ» بسكون الباء، وهي لغة تميم.
قوله: «كَذِباً» فيه وجهان:
أحدهما: هو مفعولٌ به؛ لأنه يتضمَّن معنى جملة.
والثاني: هو نعت مصدر محذوف، أي: قولاً كذباً.
فصل في المراد من الكلمة
المراد من هذه الكلمة هو قولهم: {اتخذ الله وَلَداً} فصارت مضمرة في «كَبُرتْ» ، وسمِّيت: «كلمة» كما يسمُّون القصيدة كلمة.(12/423)
وقوله: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: هذا الذي يقولونه، لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتَّة؛ لكنه في غاية الفساد والبطلان، فكأنَّه يجري على لسانهم على سبيل التقليلد {إِن يَقُولُونَ} ، أي: ما يقولون إلاَّ كذباً.
واختلف النَّاس في حقيقة الكذب، فقيل: هو الخبر الذي لا يطابقُ المخبر عنه.
وقيل: قال بعضهم: يشترط علم قائله بأنَّه غير مطابقٍ.
قال ابن الخطيب: وهذا القيد عندنا باطلٌ؛ لأنَّه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً مع أن الكثير منهم يقول ذلك، ولا يعلم كونه كذباً باطلاً، فعلمنا أن كلَّ خبر لا يطابقُ المخبر عنه، فهو كذبٌ، سواءٌ علم القائل بكونه كذباً، أو لم يعلم.
ويمكن أن يجاب بأنَّ الله تعالى، إنما وصف علماءهم المحرِّفين للكلم عن مواضعه، ودخل المقلِّدون على سبيل التَّبع عليه.
فصل في الرد على النّظام
احتجَّ النظَّام على أنَّ الكلام جسمٌ بهذه الآية، قال: لأنَّه تعالى وصف الكلمة بأنَّها تخرجُ من أفواههم، والخروجُ عبارة عن الحركةِ، والحركةُ لا تصحُّ إلاَّ على الأجسام، وأجيب: بأنَّ الحروف والأصوات إنَّما تحدث بسبب خروجِ النفس من الحلق، فلما كان خروج النَّفسِ سبباً لحدوثِ الكلمةِ، أطلق لفظ الخروج على الكلمة.(12/424)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
والمقصود منه أنَّه قيل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا يعظم حزنك وأسفك؛ بسبب كفرهم، فإنَّا بعثناك منذراً ومبشّراً، فأما تحصيلُ الإيمان في قلوبهم، فلا قدرة لك عليه، والغرض منه تسلية الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ومعنى: «بَاخعٌ نَفْسكَ» أي: قاتلٌ نفسك.
قال الليثُ: بخع الرَّجلُ نفيه إذا قتلها غيظاً من شدَّة وجده، والفاء في قوله: (فَلعلَّكَ) قيل: جواب الشرط، وهو قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} قدم عليه، ومعناه التأخير.
وقال الجمهور: جواب الشرط محذوف لدلالة قوله: «فَلعلَّكَ» .
و «لَعلَّكَ» قيل: للإشفاق على بابها. وقيل: للاستفهام، وهو رأيُ الكوفيِّين. وقيل: للنَّهي، أي: لا تَبْخَعْ.(12/424)
والبَخْعُ: الإهلاك، يقال: بَخَع الرجل نفسه يَبخَعُهَا بَخْعاً وبُخُوعاً، أهلكها وجداً. قال ذو الرمة: [الطويل]
3483 - ألا أيُّهذا البَاخِعُ الوجْدُ نفسهُ ... لِشيءٍ نَحَتْهُ عَن يَديْهِ المَقادِرُ
يريد: نحَّته بالتشديد، فخفف، قال الأصمعي: كان ينشده: «الوَجْدَ» بالنصب على المفعول له، وأبو عبيدة رواه بالرَّفع على الفاعلية ب «البَاخِع» .
وقيل: البَخْعُ: أن تضعفَ الأرض بالزِّراعةِ، قاله الكسائي، وقيل: هو جهدُ الأرض وعلى هذا معنى «بَاخعٌ نَفْسكَ» أي ناهكها وجاهدها؛ حتَّى تهلكها، وقيل: هو جهد الأرض في حديث عائشة - رضي اله عنها - عن عمر: «بَخَعَ الأرض» تعني جهدها؛ حتَّى أخذ ما فيها من أموالِ ملوكها، وهذا استعارة، ولم يفسِّره الزمخشري هنا بغير القتل والإهلاك، وقال في سورة الشعراء: «البَخْع» : أن يبلغَ بالذَّبْح البِخَاع بالباء وهو عرقٌ مستبطن الفقار، وذلك أقصى حدِّ الذابح. قال شهاب الدين: وسمعت شيخنا علاء الدين القونيَّ يقول: «تَتبَّعتُ كُتبَ الطبِّ والتشريح، فلم أجد لهذا اصلاً» .
فصل
يحتمل أنه لما ذكروه، سمَّوه باسم آخر؛ لكونه أشهر فميا بينهم.
وقال الرَّاغب: «البَخْعُ: قتلُ النفس غمًّا» ثم قال: «وبَخعَ فلانٌ بالطاعة، وبما عليه من الحق: إذا أقرَّ به، وأذعن مع كراهةٍ شديدةٍ، تجري مجرى بخعِ نفسه في شدَّته» .
قوله: «عَلى آثَارِهمْ» متعلقٌ ب «بَاخِعٌ» أي: من بعد هلاكهم.
يقال: مات فلانٌ على أثر فلانٍ، أي بعده، وأصل هذا أنَّ الإنسان، إذا مات، بقيت علاماتهُ، وآثارهُ بعد موته مدَّة، ثمَّ إنَّها تنمحي وتبطل بالكليَّة، فإذا كان موته قريباً من [موت] الأول، كان موته حاصلاً حال بقاءِ آثار الأول، فصحَّ أن يقال: مات فلانٌ على أثرِ فلانٍ.
قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} يعني القرآن.
قال القاضي: وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديثٌ، وذلك يدلُّ على فساد قول من يقول: إنه قديمٌ.
وأجيب بأنه محمول على الألفاظ، وهي حادثة.
قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} : قرأ العامة بكسر «إنْ» على أنها شرطية، والجواب محذوفٌ(12/425)
عند الجمهور؛ لدلالة قوله: «فَلعلَّكَ» ، وعند غيرهم هو جوابٌ متقدِّم، وقرئ: «أنْ لَمْ» بالفتح؛ على حذف الجارِّ، أي: لأنْ لم يؤمنوا.
وقُرئ «بَاخِعُ نَفْسِكَ» بالإضافة، والأصل النصبُ، وقال الزمخشري «وقرئ طبَاخعُ نَفْسكَ» على الأصل، وعلى الإضافة. أي: قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمن قرأ «إنْ لمْ يُؤمِنُوا» ، وللمضيِّ فيمن قرأ «إنْ لم تُؤمنوا» بمعنى: لأن لم تُؤمِنُوا «يعني أنَّ باخعاً للاستقبال في قراءة كسر» إنْ «فإنها شرطية، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها، وذلك لا يأتي إلا في قراءة الإضافة؛ إذ لا يتصوَّر المضيُّ مع النصب عند البصريين، وعلى هذا يلزم ألاَّ يقرأ بالفتح، إلا من قرأ بإضافة» بَاخِع «، ويحتاج في ذلك إلى نقل وتوقيف.
قوله:» أسفاً «يجوز أن يكون مفعولاً من أجله، والعامل فيه» بَاخعٌ «وأن يكون مصدراً في موضع الحال من الضمير في» بَاخعٌ «.
والأسف: الحزن، وقيل: الغضب، وقد تقدَّم في الأعراف عند قوله: {غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف: 150] وفي يوسف عند قوله: {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ وابيضت} [يوسف: 84] .(12/426)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} الآية.
قال القاضي: وجه النَّظم كأنه يقول: يا محمد، إنِّي خلقتُ الأرض، وزينتها، وأخرجتُ منها أنواع المنافع والمصالح، وأيضاً، فالمقصود من خلقها بما فيها من المصالح ابتلاء الخلق بهذه التكاليف، ثم إنَّهم يكفرون ويتمرَّدون، ومع ذلك، فلا أقطع عنهم موادَّ هذه النِّعم، فأنت أيضاً يا محمد لا يهمُّك الحزن؛ بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدِّين.
قوله: {زِينَةً} : يجوز أن ينتصب على المفعول له، وأن ينتصب على الحال، إن جعلت «جَعلْنَا» بمعنى «خَلقْنَا» ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، إن ك انت «جَعَلَ» تصييرية، و «لها» متعلق ب «زَينةً» على العلَّة، ويجوز أن تكون اللام زائدة في المفعول، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ صفة ل «زينةً» .
وقوله: «لنَبْلُوهُمْ» متعلق ب «جَعلْنَا» بمعنييه.(12/426)
قوله: «أيُّهمْ أحْسنُ» يجوز في «أيُّهُمْ» وجهان:
أحدهما: أن تكون استفهامية مرفوعة بالابتداء، و «أحسنُ» خبرها، والجملة في محلِّ نصب متعلقة ب «نَبْلُوهُمْ» لأنه سببُ العلم، والسؤال، والنظر.
والثاني: أنَّها موصولة بمعنى الذي و «أحْسَنُ» خبر مبتدأ مضمرٍ، والجملة صلة ل «أيُّهمْ» ويكون هذا الموصول في محلِّ نصبٍ بدلاً من مفعول «لنَبْلُوهُمْ» تقديره لِنَبلُو الذي هو أحسنُ؛ وحينئذٍ تحتمل الضمة في «ايُّهم» أن تكون للبناء، كهي في قوله تعالى: {لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] على أحد الأقوالِ، وفي قوله: [المتقارب]
3484 - إذَا مَا أتَيْتَ بَنِي مالكٍ ... فَسلِّمْ عَلى أيُّهُم أفْضَلُ
وشرط البناء موجودٌ، وهو الإضافة لفظاً، وحذف صدر الصلة، وهذا مذهب سيبويه، وأن تكون للإعراب؛ لأنَّ البناء جائزٌ لا واجبٌ، ومن الإعراب ما قُرِئ به شاذًّا {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن} [مريم: 69] وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في مريم.
والضمير في «لِنبلوهُمْ» و «أيُّهم» عائد على ما يفهم من السِّياق، وهم سكان الأرض. وقيل: يعود على ما على الأرض، إذا أريد بها العقلاء، وفي التفسير: المراد بذلك الرُّعاة. وقيل: العلماء والصلحاء والخلفاء.
فصل في المقصود بالزينة
اختلفوا في تفسير هذه الزينة، فقيل: النَّبات، والشجر، والأنهار.
كما قال تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت} [يونس: 24] وضمَّ بعضهم إليه الذَّهب، والفضَّة، والمعادن، وضمَّ بعضهم إلى ذلك جميع الحيوان، فإن قيل: أي زينة في الحيَّات والعقارب [والشياطين] .
فالجواب: فيها زينةٌ؛ بمعنى أنَّها تدلُّ على وحدانيَّة الله تعالى.
وقال مجاهد: أراد الرجال خاصَّة هم زينة الأرض.
وقيل: أراد به العلماء والصلحاء.
وقيل: أراد به الناس.(12/427)
وبالجملة، فليس في الأرض إلاَّ المواليد الثلاثة، وهي المعادن، والنبات، والحيوان، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان.
قال القاضي: الأولى ألاَّ يدخل المكلَّف في هذه الزِّينة؛ لأنَّ الله تعالى قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم} فمن يبلوهم يجب ألاَّ يدخل في ذلك.
وأجيب بأن قوله: {زِينَةً لَّهَا} أي للأرض، ولا يمتنع أن يكون ما تحسن به الأرض زينة لها، كما جعل الله السَّماء مزينة بالكواكب.
وقوله: {لِنَبْلُوَهُمْ} لنختبرهم {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} ، أي: أصلح عملاً.
وقيل: أيُّهم أترك للدُّنيا.
فصل
ذهب هشام بن الحكم إلى أنَّه تعالى لا يعلم الحوادث إلاَّ عند دخولها في الوجود، فعلى هذا: الابتلاءُ والامتحانُ على الله جائز؛ واحتجَّ بأنه تعالى لو كان عالماً بالجزئيَّات قبل وقوعها، لكان كلُّ ماعلم وقوعه واجب الوقوعِ، وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوعِ، وإلاَّ لزم انقلابُ علمه جهلاً، وذلك محالٌ، والمفضي إلى المحال محالٌ، ولو كان ذلك واجباً، فالذي علم وقوعه يجبُ كونه فاعلاً له، ولا قدرة له على التَّرك، والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع، ولا قدرة له على الفعل، وعلى هذا يلزم ألاَّ يكون الله قادراً على شيءٍ أصلاًن بل يكون موجباً بالذَّات.
وأيضاً، فيلزم ألا يكون للعبد قدرة على الفعل، ولا على التركِ؛ لأنَّ ماعلم الله وقوعه، امتنع من العبد تركه، وما علم عدمه، امتنع منه فعله، فالقول بكونه تعالى عالماً بالأشياء قبل وقوعها، يقدح في الربوبيَّة، وفي العبوديَّة، وذلك باطلٌ؛ فثبت أنَّه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها، أي عند ذلك، وعلى هذا التقدير، فالابتلاءُ والامتحانُ والختبار غي رجائز عليه، وعند هذا قال: يجرى قوله: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} على ظاهره.
وأمَّا جمهور علماء الإسلام، فقد استبعدوا هذا القول، وقالوا: إنه تعالى من الأزل إلى الأبدِ عالمٌ بجميع الجزئيَّات، والابتلاءُ والامتحان عليه محال، وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة، لو صدرت عن غيره، لكانت على سبيل الابتلاءِ والامتحانِ.
فصل في تعليل أفعال الله تعالى
قالت المعتزلةُ: دلَّت هذه الآية ظاهراً على أنَّ أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض وقال أهل السنة: هذا محالٌ؛ لأنَّ التعليل بالغرض إنَّما يصحُّ في حقِّ من لا يصحُّ منه(12/428)
تحصيل ذلك الغرض، إلاَّ بتلك الواسطة، وهذا يقتضي العجز، وهو على الله تعالى محالٌ.
قوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} .
والمعنى أنَّه تعالى إنما زيَّن الأرض؛ لأجل الامتحان والابتلاء، لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعِّماً بها لا زاهداً فيها أي: لجاعلون ما عليها من هذه الزِّينة {صَعِيداً جُرُزاً} .
ونظيره: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] .
وقوله: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً} [طه: 106، 107] .
وقوله: {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}
[الانشقاق: 3، 4] .
والمعنى أنَّه لا بدَّ من المجازاةِ بعد إفناء ما على الأرض، وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض، إلا أنَّ سائر الآيات دلَّت أيضاً على أنَّ الأرض لا تبقى، وهو قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] .
قوله: {صَعِيدًا} : مفعول ثانٍ؛ لأنَّ الجعل هنا تصيير ليس إلاَّ، والصعيد: التراب.
وقال أبو عبيدة: الصعيد المستوي من الأرض.
وقال الزجاج: هو الطَّريق الذي لا طين له، أو لا نبات فيهز وقد تقدَّم في آية التيمم. والجُرزُ: الذي لا نيات به، يقال: سَنةٌ جُرُز، وسنُونَ أجرازٌ: لا مطر فيها، وأرضٌ جُرزٌ، وأرضُونَ أجْرازٌ: لا نبات فيها قال الفراء: جَرزَتِ الأرض؛ فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحطٍ أو جرازٍ يقال جرزها الجراد والشياة والإبل إذا أكل ما عليها وامرأة مجروز: إذا كانت أكولة. قال الشاعر: [الرجز]
3485 - إنَّ العَجُوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تَأكلُ كُلَّ لَيْلةٍ قَفِيزا
وسيف جراز، إذا كان مستأصلاً.(12/429)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
قوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} الآية.
معناها: أظننت، يا محمد، أنَّ أصحاب الكهف والرَّقيم كانوا من آياتنا عجباً.(12/429)
وقيل: معناه أنَّهم ليسوا بأعجب من آياتنا؛ فإنَّ ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجبُ منهم، فكيف يستبعدُ من قدرته ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنةٍ وأكثر؟ هذا وجه النظم.
وقد تقدَّم سببُ نزولِ قصَّة أصحاب الكهف عند قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} [الإسراء: 85] .
والكهف هو الغار في الجبل وقيل: مطلق الغار، وقيل: هو ما اتسع ف يالجبل، فإن لم يتَّسِعْ، فهو غارٌ، والجمع «كُهُوف» في الكثرة، و «أكْهُفٌ» في القِلَّةِ.
والرَّقيم: قيل: بمعنى مرقوم.
وعلى هذا قال أهل المعاني: الرَّقيمُ الكتاب.
ومنه قوله: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} [المطففين: 9] أي: مكتوب.
قال الفراء: الرقيم لوحٌ كان فيه أسماؤهم وصفاتهم، وسمِّي رقيماً؛ لأنَّ أسماءهم كانت مرقومة فيه.
قال سعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٌ: كان لوحاً من حجارةٍ، وقيل: من رصاصٍ، كتبنا فيه أسماءهم وصفاتهم، وشدَّ ذلك اللَّوح على باب الكهف، وهو أظهر الأقوال.
وقيل: بمعنى راقم، وقيل: هو اسم الكلب الذي لأصحاب الكهفِ، وأنشدوا لأمية بن أبي الصَّلت: [الطّويل]
3486 - وليْسَ بِهَا إلاَّ الرَّقيمُ مُجاوِراً ... وصِيدَهُمُ، والقَوْمُ بالكهْفِ هُمَّدُ
وروى عكرمة عن ابن عبَّاس أنَّه قال: كلُّ القرآن معلومٌ إلا أربعة: غسلين، وحناناً، والأوَّاه، والرَّقيم.
وروى عكرمة عن ابن عبَّاس أنه سئل عن الرَّقيم فقال: زعم كعبٌ أنَّها القرية التي خرجوا منها، وهو قول السديِّ.
وحكي عن ابن عباس: أنَّه اسمٌ للوادي الذي فيه أصحاب الكهف، وعلى هذا هو من رقمة الوادي، وهو جانبه.(12/430)
وقيل: اسم للجبلِ الذي فيه الكهف.
قوله: {أَمْ حَسِبْتَ} : «أم» هذه منقطعة، فتقدَّر ب «بل» التي للانتقال، لا للإبطال، وبهمزة الاستفهام عند جمهور النحاة، و «بل» وحدها أو بالهمزة وحدها عند غيرهم، وتقدَّم تحقيق القولِ فيها.
و «أنَّ» وما في حيِّزها سادَّةٌ مسدَّ المفعولين، أو أحدهما، على الخلافِ المشهور.
قوله: «عَجَباً» يجوز أن تكون خبراً، و «مِنْ آيَاتِنَا» حالٌ منه، وأن يكون خبراً ثانياً، و «مِنْ آيَاتِنَا» خبراً أوَّل، وأن يكون «عجباً» حالاً من الضمير المستتر في «من آيَاتِنَا» لوقوعه خبراً، ووحَّد، وإن كان صفة في المعنى لجماعة؛ لأن أصله المصدر قال ابن الخطيب: عجباً، و «العجب» ها هنا مصدر، سمِّي المفعول به، والتقدير: «كانوا معجوباً منهم» فسمُّوا بالمصدر. وقالوا: «عَجَباً» في الأصل صفة لمحذوفٍ، تقديره: آية عجباً، وقيل: على حذف مضافٍ، أي: آية ذات عجبٍ.
قوله: {إِذْ أَوَى} : يجوز أن ينتصب ب «عَجَباً» وأن ينتصب ب «اذْكُرْ» ؛ لأنه لا يجوز أن يكون «إذْ» ههنا متعلقاً بما قبله على تقدير «أمْ حَسِبْتَ» ؛ لأنَّه كان بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبينهم مدة طويلة، فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف، بل يتعلق بمحذوفٍ.
والتقدير: اذكر إذ أوى الفتيةُ إلى الكهف، والمعنى صاروا إليه، وجعلوهُ مأواهم، فقالوا: {رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي من خزائن رحمتك.
قوله: «وهَيِّئ» : العامة على همزة بعد الياء المشددة، وأبو جعفر وشيبة والزهريُّ بياءين: الثانية خفيفة، وكأنَّه أبدل الهمزة ياء، وإن كان سكونها عارضاً، ورُوِيَ عن عاصم «وهيِّ» بياءٍ مشددة فقط، فيحتمل أن يكون حذف الهمزة من أول وهلةٍ تخفيفاً، وأن يكون أبدلها؛ كما فعل أبو جعفرٍ، ثم أجرى الياء مجرى حرفِ العلَّة الأصليِّ، فحذفه، وإن كان الكثير خلافه، ومنه:
3487 - جَرِيءٍ مَتَى يُظلمْ يُعَاقِبْ بظُلمهِ سَرِيعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلمِ يَظلِمِ
معنى «هيِّئ لنا» أصلخ من قولك «هيَّأت الأمرَ، فتهيَّأ» .
وقرأ أبو رجاء «رُشداً» ها هنا بضم الراء وسكون الشين، وتقدم تحقيق ذلك في الأعراف، وقراءة العامة هنا أليق؛ لتوافق الفواصل.
والتقدير: هيِّئ لنا أمراً ذا رشدٍ؛ حتَّى نكون بسببه راشدين مهتدين.
وقيل: اجعل أمرنا رشداً كلَّهُ؛ كقولك: رَأيتُ منه رشداً.(12/431)
قوله: {فَضَرَبْنَا} : مفعوله محذوف، أي: ضربنا الحجاب المانع، و «عَلَى آذانِهم» استعارة للزوم النوم؛ كقول الأسود: [الكامل]
3488 - ضَربتْ عَليْكَ العَنْكبُوتَ بِنَسْجِهَا ... وقضَى عَليْكَ بشهِ الكِتابُ المُنزَلُ
ونصَّ على الآذان؛ لأنَّ بالضَّرب عليها خصوصاً يحصل النُّومُ. وأمال «آذانهم» .
قوله: {فِي الكهف} وهو ظرف المكان، ومعنى الكلام: إنَّما هم في الكهف، واسمه خيرم، واسم الجبل الذي هو فيه [مخلوس] .
وقوله: «سِنينَ» ظرف «زمان» ل «ضَربْنَا» و «عَدداً» يجوز فيه أن يكون مصدراً، وأن يكون «فعلاً» بمعنى مفعول، أي من باب تسمية المفعول باسم المصدر، كالقبض والنَّقض.
فعلى الأول: يجوز نصبه من وجهين:
احدهما: النعت ل «سنين» على حذف مضافٍ، اي: ذوات عدد، أو على المبالغة على سبيل التأكيد والنصب بفعلٍ مقدرٍ، أي: تعدُّ عدداً.
وعلى الثاني: نعتٌ ليس إلا، أي: معدودة.
فصل
[اذكر العدد هنا على سبيل التأكيد] قال الزجاج: ذكر العدد ها هنا يفيد كثرة السِّنين، وكذلك كل شيءٍ ممَّا يعدُّ إذا ذكر فيه العددُ، ووصف به، اريد كثرته؛ لأنَّه إذا قلَّ، فهم مقداره بدون التعديد، أمَّا إذا ذكر فيه العددُ، ووصف به، أريد كثرته؛ لأنَّه إذا قلَّ، فهم مقداره بدون التعديد، أمَّا إذا كثر فهناك يحتاج إلى التعديد، فإذا قلت: أقمتُ أيَّاماً عدداً، أردتَّ به الكثرة.
قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ} .
اللام لامُ الغرض؛ فيدل على أن أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض، وقد تقدم الكلام فيه، ونظير هذه الآية في القرآن كثير، منها ما سبق في هذه السورة، وفي سورة البقرة: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ} [البقرة: 143] وفي آل عمران: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} [آل عمران: 142] وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ} [محمد: 31] .
فصل
وقال بعض العلماء: «لِنعلمَ» أي: علم المشاهدة.
وقوله: {لِنَعْلَمَ} : متعلق بالبعث، والعامة على نون العظمة؛ جرياً على ما تقدم(12/432)
وقرأ الزهريُّ «ليَعْلم» بياء الغيبة، والفاعل الله تعالى، وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة، ويجوز أن يكون الفاعل «أيُّ الحِزبينِ» إذا جعلناها موصولة، كما سيأتي.
وقرئ «ليُعلمَ» مبنيًّا للمفعول، والقائم مقام الفاعل، قال الزمخشريُّ: «مضمون الجملة، كما أنه مفعول العلم» . وردَّه أبو حيان بأنه ليس مذهب البصريين، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة.
وللكوفيين في قيام الجملة مقام الفاعل أو المفعولِ الذي لم يسمَّ فاعله: الجواز مطلقاً، والتفصيل بين ما تعلق به؛ كهذه الآية فيجوز، فالزمخشريُّ نحا نحوهم على قوليهم، وإذا جعلنا «أيُّ الحزبَينِ» موصولة، جاز أن يكون الفعل مسنداً إليه في هذه القراءة أيضاً؛ كما جاز إسناده إليه في القراءة قبلها.
وقرئ «ليُعْلِمَ» بضم الياء، والفاعل الله تعالى، والمفعول الأول محذوف، تقديره: ليعلم الله الناس، و «أيُّ الحِزْبيْنِ» في موضع الثاني فقط، إن كانت عرفانية، وفي موضع المفعولين إن كانت يقينيَّة.
وفي هذه القراءة فائدتان:
إحداهما: أنَّ على هذا التقدير: لا يلزم إثبات العلم المتجدَّد لله، بل المقصود أنَّا بعثناهم؛ ليحصل هذا العلمُ لبعض الخالقِ.
والثانية: أنَّ على هذا لتقدير: يجب ظهور النَّصب في قوله «أيُّ» لكن لقائلٍ أن يقول الإشكال باقٍ؛ لأنَّ ارتفاع لفظة «أيُّ» بالابتداء لا بإسناده «ليُعْلِمَ» إليه.
ولمجيبٍ بأن يجيب؛ فيقول: لا يمتنعُ اجتماعُ عاملين على معمولٍ واحدٍ؛ لأنَّ العوامل النحوية علاماتٌ ومعرفاتٌ، ولا يمتنع اجتماع معرفاتٍ كثيرة على شيءٍ واحد.
قوله: «أحْصَى» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه أفعلُ تفضيلٍ، وهو خبر ل «أيُّهُم» و «أيُّهُم» استفهامية، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها، و «لِمَا لَبثُوا» حال من «أمَداً» ، لأنه لو تأخَّر عنه، لكان نعتاً له، ويجوز أن تكون اللامُ على بابها من العلَّة، أي: لأجل، قاله أبو البقاء، ويجوز أن تكون زائدة، و «ما» مفعولة: إمَّا ب «أحْصَى» على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به، وإما بإذمار فعلٍ، و «أمداً» مفول «لبثُوا» أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه أفعل عند الجمهور، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك.(12/433)
والوجه الثاني: أن يكون «أحْصَى» فعلاً ماضياً [أي: أيهم ضبط أمداً لأوقات لبثهم] و «أمداً» مفعوله، و «لما لبثُوا» متعلق به، أو حال من «أمداً» أو اللام فيه مزيدة، وعلى هذا: ف طأمداً «منصوب ب» لبثُوا «و» ما «مصدريَّة، أو بمعنى» الذي «واختار الأول - أعني كون» أحْصى «للتفضيل - الزجاج والتبريزيُّ، واختار الثاني أبو عليٍّ والزمخشري وابن عطية، قال الزمخشري:» فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثيِّ ليس بقياسٍ، ونحو «أعْدَى من الجَربِ» و «أفلسُ من ابنِ المُذلَّقِ» شادٌّ، والقياس على الشاذِّ في غير القرآن ممتنعٌ، فكيف به؟ ولأنَّ «أمَداً» : إمَّا أن ينتصب بأفعل، وأفعلُ لا يعمل، وإمَّا أن ينتصب ب «لَبِثُوا» فلا يسدُّ عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بفعلٍ مضمرٍ، كما أضمر في قوله:
3490 - ... ... ... ... ... ..... وأضْرَبَ منَّا بالسُّيُوفِ القَوانِسَا
فقد أبعدتَّ المتناول؛ حيث أبَيْتَ أن يكون «أحْصَى» فعلاً، ثم رجعت مضطراً إلى تقديره «.
وناقشه أبو حيان فقال:» أمَّا دعواه أنَّه شاذٌّ، فمذهب سيبويه خلافه، وذلك أنَّ أفعل فيه ثلاثةُ مذاهب: الجواز مطلقاً، ويعزى لسيبويه، والمنع مطلقاً، وهو مذهبُ الفارسيِّ، والتفصيل: بين أن يكون همزته للتعديةِ، فيمتنع، وبين ألاَّ تكون، فيجوز، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية، وأما قوله: «أفْعَلُ لا يَعْملُ» فليس بصحيح؛ لأنه يعمل في التمييز، و «أمَداً» تمييزٌ لا مفعولٌ به، كما تقول: زيدٌ أقطع النَّاس سيفاً، وزيدٌ أقطع للْهَامِ سَيْفاً «.
فصل
قال شهاب الدين: الذي أحوج الزمخشريَّ إلى عدمِ جعله تمييزاً، مع ظهوره في بادئ الرأي عدم صحَّة معناه، وذلك: أنَّ التمييز شرطه في هذا الباب: أن تصحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه، ويتَّصف به؛ ألا ترى إلى مثاله في قوله: زَيْدٌ أقطعُ النَّاس سَيْفاً» كيف يصحُّ أن يسند إليه، فيقال: زيدٌ قطع سيفه، وسيفه قاطعٌ، إلى غير ذلك، وهنا ليس الإحصاء من صفة الأمدِ، ولا تصحُّ نسبته إليه، وإنَّما هو من صفات الحزبين، وهو دقيق.
وكان أبو حيان نقل عن ابي البقاء نصبه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله «أحْصَى» أفعل تفضيلٍ، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماضٍ، قال أبو البقاء: في أحصى وجهان:(12/434)
أحدهما: هو فعلٌ ماضٍ، و «أمَداً» مفعوله.
و «لما لبثُوا» نعتُ له، قدِّم، فصار حالاً، أو مفعولاً له، أي: لأجل لبثهم، وقيل: اللام زائدة و «ما» بمعنى «الذي» و «أمداً» مفعول «لَبِثُوا» وهو خطأ، وإنما الوجه أن يكون تمييزاً، والتقدير: لما لبثوهُ.
والوجه الثاني: هو اسم، و «أمداً» منصوب بفعلٍ دلَّ عليه الاسم انتهى، فهذا تصريح بأنَّ «أمَداً» حال جعله «أحْصَى» اسماً، ليس بتمييز بل مفعول به بفعل مقدر، وأنه جعله تمييزاً عن طلبثُوا «كما رأيت.
ثم قال أبو حيَّان:» وأمَّا قوله «وإمَّا أن ينصب ب» لبثُوا «فلا يسدُّ عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديداً، فقد ذهب الطبريُّ إلى أنه منصوب ب» لبِثوا «قال ابن عطيَّة:» وهو غير متَّجهٍ «انتهى، وقد يتَّجه: وذلك أنَّ الأمد هو الغاية، ويكون عبارة عن المدَّة من حيث إنَّ المدَّة غاية هي أمد المدَّة على الحقيقة، و» ما «بمعنى» الذي «و» أمداً «منصوب على إسقاط الحرف، وتقديره: لما لبثوا من أمدٍ، أي: من مدة، ويصير» مِنْ أمدٍ «تفسيراً لما أبهم من لفظ» ما «كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] ولمَّا سقط الحرف، وصل إليه الفعل» .
قال شهاب الدين: يكفيه أنَّ مثل ابن عطيَّة جعله غير متَّجهٍ، وعلى تقدير ذلك، فلا نسلِّم أن الطبري عنى نصبه ب «لَبِثُوا» مفعولاً به، بل يجوز أن يكون عنى نصبه تمييزاً؛ كما قاله أبو البقاء.
ثم قال: وأمَّا قوله: فإنْ زَعَمْتَ إلى آخره، فنقول: لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين في أنَّه ينصب «القَوانِسَ» بنفس «أضْرَبُ» ولذلك جعل بعض النحاة أنَّ «أعْلَمُ» ناصب ل «مَنْ» في قوله: {أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ} [الأنعام: 117] ، وذلك لأنَّ أفعل مضمَّن لمعنى المصدر؛ إذ التقدير: «يزيدُ ضَرْبنَا القَوانِسَ على ضَرْبِ غَيْرنا» .
قال شهاب الدين: هذا مذهبٌ مرجوحٌ، وأفعل التفضيل ضعيف، ولذلك قصر عن الصفةِ المشبهة باسم الفاعل؛ حيث لم يؤنَّث، ولم يثنَّ، ولم يجمع.
وإذا جعلنا «أحْصَى» اسماً فجوَّز أبو حيان في «اي» أن تكون الموصولة، و «أحْصَى» خبر لمبتدأ محذوف، هو عائدها، وأنَّ الضمة للبناء على مذهب سيبويه لوجود شرط البناء، وهو إضافتها لفظاً، وحذف صدر صلتها، وهذا إنما يكون على جعل العلم بمعنى العرفان؛ لأنَّه ليس في الكلام إلا مفعولٌ واحدٌ، وتقدير آخر لا حاجة إليه، إلا أنَّ في إسناد «عَلِمَ» بمعنى عرف إلى الله تعالى إشكالاً تقدَّم تحريره في الأنفالِ وغيرها، وإذا جعلناه فعلاً، امتنع أن تكون موصولة؛ إذ لا وجه لبنائها حينئذ، وهو حسن.(12/435)
فصل في المراد بالحزبين
روى عطاءٌ عن ابن عبَّاس أنَّ المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك، فأصحاب الكهف حزبٌ، والملوك حزبٌ.
وقال مجاهدٌ: «الحزبين» من قوم الفتية؛ لأنَّهم لما انتبهوا، اختلفوا في أنَّهم كم ناموا؛ لقوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] .
وكأنَّ الذين قالوا: «ربُّكُمْ أعلم بِمَا لَبثْتُم» هم الذين علمُوا بطول مكثهم.
وقال الفراء: هم طائفتان من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدَّة لبثهم.
وقولهم: {أحصى لِمَا لَبِثُواْ} أي: أ؛ فظ لما مكثُوا في كهفهم نياماً {أَمَدًا} أي: غاية.
وقال مجاهد: عدداً.(12/436)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق} [أي: نقص عليك نبأهم] على وجه الصدق.
قوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} شبَّان {آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} إيماناً وبصيرة.
وقوله: {آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ} : فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة؛ إذ لو جاء على نسقِ الكلامِ، لقيل: إنَّهم فتيةٌ آمنوا بنا، وقوله: «وَزِدْنَاهُم» التفات من هذه الغيبة إلى التكلم أيضاً.
ومعنى قوله: «ورَبَطْنَا» وشددنا «عَلى قُلوبِهمْ» بالصَّبْر والتثبت، وقوَّيناهم بنور الإيمان، حتَّى صبروا على هجران ديار قومهم، ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش،(12/436)
وفرُّوا بدينهم إلى الكهف، والرَّبطُ: استعارةٌ لتقوية كلمة في ذلك المكان الدَّحض.
قوله: {إِذْ قَامُواْ} : منصوب ب «رَبَطْنَا» . وفي هذا لقيام أقوالٌ:
أحدها: قال مجاهدٌ: كانوا عظماء مدينتهم، فخرجوا، فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعادٍ، فقال أكبرهم: إنِّي لأجد في نفسي شيئاً، إنَّ ربِّي ربُّ السموات والأرض، فقالوا: نحن كذلك نجد في أنفسنا، فقاموا جميعاً، فقالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض} .
والثاني: أنَّهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس، حين عاتبهم على ترك عبادة الصَّنم، {فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها} فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم، حتَّى عصوا ذلك الجبَّار، وأقرُّوا بربوبيَّة الله تعالى.
الثالث: قال عطاءٌ ومقاتلٌ: إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النَّوم، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ الله تعالى استأنف قصَّتهم فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم} .
قوله: {لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} .
«إذن» جواب وجزاء، أي: لقد قلنا قولاً شططاً، إن دعونا من دونه إلهاً، و «شططاً» في الأصل مصدر، يقال: شطَّ شططاً وشُطُوطاً، أي: جار وتجاوز حدَّه، ومنه: شطَّ في السَّوم، وأشطَّ، أي: جاوز القدر حكاه الزجاج وغيره، ومن قوله: «ولا تشطط» وشطَّ المنزلُ: أي بعد، [من ذلك] وشطَّت الجارية شطاطاً أي: طالت، من ذلك.
فصل
قال الفراء: ولم أسمع إلا «أشطَّ يُشطُّ إشطاطاً» فالشطُّ البعد عن الحقِّ.
قال ابن عباس: «شَطَطاً» أي: جوراً.
وقال قتادة: كذباً. وفي انتصابه ثلاثة أوجه:
الأول: مذهب سيبويه النصب على الحال، من ضمير مصدر «قُلْنَا» .
الثاني: نعت لمصدر، أي: قولاً ذا شططٍ، أو هو الشَّططُ نفسه؛ مبالغة.
الثالث: أنه مفعول ب «قُلنا» لتضمُّنه معنى الجملة.
قوله: {هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا} : يجوز في «قَوْمنَا» أن يكون بدلاً، أو بياناً، و «اتَّخذُوا» هو خبر «هؤلاء» ويجوز أن يكون «قَوْمُنا» هو الخبر، و «اتَّخذوا» حالاً،(12/437)
و «اتَّخذ» يجوز أن يتعدى لواحد؛ بمعنى «عملوا» لأنهم نحتوها بأيديهم، ويجوز أن تكون متعدية لاثنين؛ بمعنى «صيَّروا» و «مِن دونه» هو الثاني قدِّم، و «آلهة» هو الأول، وعلى الوجه الأول يجوز في «من دونه» أن يتعلق ب «اتَّخذُوا» وأن يتعلق بمحذوفٍ حالاً من «ىلهة» إذ لو تأخَّر، لجاز أن يكون صفة ل «آلهة» .
قوله: «لَوْلاَ يَأتُونَ» تحضيض فيه معنى الإنكار، و «عَليْهِمْ» أي: على عبادتهم، أو على اتخاذهم، فحذف المضاف للعلم به، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة التحضيضية صفة ل «آلهة» لفساده؛ معنى وصناعة؛ لأنها جملة طلبية.
فإن قلت: أضمر قولاً؛ كقوله: [الرجز]
3491 - جَاءُوا بمَذْقٍ هل رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطْ ... هذا قول أصِحاب الكهف يعنون أهل بلدهم هم الذين كانوا في زمن دقيانوس، عبدوا الأصنام {لَّوْلاَ يَأْتُونَ} هلا يأتون «عَليْهِمْ» على عبادتهم «بسُلْطَانٍ» بحجَّة بينة واضحة، ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدَّليل لا يدلُّ على عدم المدلول، وهذه الآية تدلُّ على صحَّة هذه الطريقة؛ لأنَّه تعالى استدلَّ على عدم الشركاء والأضداد؛ لعدمِ الدَّليل عليه، ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} فزعم أ، َّ له شريكاً، وولداً، يعني أنَّ الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلمٌ وافتراءٌ على الله وكذبٌ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتَّقليد.
قوله: {وَإِذِ اعتزلتموهم} : «إذْ» منصوب بمحذوف، أي: وقال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم، وجوَّز بعضهم أن تكون «إذ» للتعليل، أي: فأووا إلى الكهف؛ لاعتزالكم إيَّاهم، ولا يصحُّ.
قوله: «ومَا يَعبُدُونَ» يجوز في «مَا» ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون بمعنى «الذي» والعائد مقدر، أي: واعتزلتم الذي يعبدونه وهذا واضح. و «إلاَّ الله» يجوز فيه أن يكون استثناء متصلاً، فقد روي أنَّهم كانوا يعبدون الله(12/438)
ويشركون به غيره، ومنقطعاً؛ فقد روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط، والمستثنى منه يجوز أن يكون الموصول، وأن يكون عائدهُ، والمعنى واحد.
والثاني: أن تكون مصدرية، أي: واعتزلتم عبادتهم، أي: تركتموها، و «إلاَّ الله» على حذف مضافٍ، أي: إلاَّ عبادة الله، وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان.
الثالث: أنها نافية، وأنه من كلام الله تعالى، وعلى هذا، فهذه الجملة معترضة بين أثناء القصَّة، وإليه ذهب الزمخشريُّ، و «إلاَّ الله» استثناء مفرَّغٌ، أخبر الله عن الفتيةِ أنهم لا يعبدون غيره، وقال ابو البقاء: «والثالث: أنها حرف نفيٍ، فيخرج في الاستثناء وجهان:
أحدهما: هو منقطعٌ، والثاني: هو متصل، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا الله» .
فظاهر هذا الكلام: أن الانقطاع والاتصال في الاستثناء مترتِّبان على القول يكون «ما» نافية، وليس الأمر كذلك.
فصل في كلام أهل الكهف
قال المفسِّرون: إنَّ أهل الكهف قال بعضهم لبعض: {وَإِذِ اعتزلتموهم} يعني قومكم {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} ، أي: اعتزلتموهم، وجميع ما يعبدون إلا الله، فإنَّكم لم تعتزلوا عبادته، فإنَّهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأوثان.
وقرأ أبو مسعود: «ومَا يعبدون من دون الله، فأووا إلى الكهف» .
قال الفراء: هو جواب «إذْ» كما تقولُ: إذ فعلت كذا فافعل كذا، والمعنى اذهبوا إليه، واجعلوه مأواكم.
{يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} أي يبسطها عليكم، {وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ} يسهِّل لكم {مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} ما يعود إليه رفقكم.
قوله: «مرفقاً» قرأ الجمهور بكسر الميم، وفتح الفاءِ.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية البرجمي وأبو جعفر بالعكس، وفيها خلاف عند أهل اللغة؛ فقيل: هما بمعنى واحد، وهو ما يرتفق به، وليس بمصدر، وقيل: هو بكسر الميم لليد، وبفتحها للأمر، وقد يستعمل كل واحدٍ منهما موضع الآخر، حكاه الأزهريُّ عن ثعلب، وأنشد الفراء جمعاً بين اللغتين في الجارحة: [الرجز]
3492 - بِتُّ أجَافِي مِرْفقاً عن مَرْفقِ ...(12/439)
و [قد] يستعملان معاً في الأمرِ، وفي الجارحة، حكاه الزجاج.
وحكى مكيٌّ، عن الفرَّاء أنه قال: «لا أعرفُ في الأمر، ولا في اليد، ولا في كلِّ شيء إلا كسر الميم» .
قلت: وتواترُ قراءة نافعٍ والشاميين يردُّ عليه، وأنكر الكسائي كسر الميم في الجارحة، وقال: لا أعرفُ فيه إلا الفتح، وهو عكس قول تلميذه، ولكن خالفه أبو حاتم، وقال: «هو بفتح الميم: الموضع كالمسجد، وقال أبو زيد: هو بفتح الميم مصدر جاء على مفعلٍ» وقال بعضهم: هما لغتان فيما يرتفق به، فأمَّا الجارحةُ، فبكسر الميم فقط، وحكي عن الفراء أنه قال: «أهل الحجاز يقولون:» مرفقاً «بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به، ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب بعد يكسرون الميم منهما جميعاً» وأجاز معاذٌ فتح الميم والفاء، وهو مصدر كالمضرب والمقتل.
و «مِنْ أمْرِكُم» متعلق بالفعل قبله، و «مِنْ» لابتداء الغاية، أو للتبعيض.
وقيل: هي بمعنى بدلٍ، قاله ابن الأنباري، وأنشد: [الطويل]
3493 - فَليْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزمَ شَرْبةً ... مُبرَّدةً باتتْ على طَهيَانِ
أي: بدلاً. ويجوز أن يكون حالاً من «مِرْفقاً» فيتعلق بمحذوفٍ.(12/440)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
قوله: {وَتَرَى الشمس} أي: أنت أيُّها المخاطب، وليس المراد أنَّ من خوطب بهذا يرى هذا المعنى، ولكنَّ العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو.
قوله: {إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} .
قرأ ابن عامر ويعقوب «تَزْوَرُّ» بسكون الزاي بزنة تَحْمَرُّ.
والكوفيون «تَزاوَرُ» بتخفيف الزاي، والباقون بتثقيلها، ف «تَزْورُّ» بمعنى «تميلُ» من الزَّورِ، وهو الميل، و «زاره» بمعنى «مال إليه» وقول الزُّور: ميلٌ عن الحق، ومنه الأزورُ، وهو المائلُ بعينه وبغيرها، قال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
3494 - ... ... ... ... ... . ... وجَنْبِي خِيفَةَ القَوْمِ أزْوَرُ(12/440)
وقيل: تَزورُّ بمعنى تنقبضُ من «ازْوَرَّ» أي: انقبض، ومنه قول عنترة: [الكامل]
3495 - فَازْوَرَّ من وقْع القَنا بِلبَانهِ ... وشَكَا إليَّ بِعبْرةٍ وتَحمْحُمِ
وقيل: مال، ومثله قول بشر بن أبي خازم: [الوافر]
3496 - يُؤمُّ بِهَا الحُداةُ مِياهَ نَخْلٍ ... وفِيهَا عن أبَانيْنِ ازْوِرَارُ
أي: ميلٌ.
وأما «تَزاوَرُ» و «تزَّاوَرُ» فأصلهما «تَتزاورُ» بتاءين، فالكوفيون حذفوا إحدى التاءين، وبعضهم أدغم، وقد تقدَّم نظائر هذا في {تَظَاهَرُونَ} [الآية: 85 من البقرة] و {تَسَآءَلُونَ} [النساء: 1] ونحوهما، ومعنى ذلك الميل أيضاً.
وقرأ أبو رجاء، والجحدريُّ، وابن أبي عبلة، وأيوبُ السَّختيانيُّ «تَزوَارُّ» بزنة «تحْمَارُّ» وعبد الله، وأبو المتوكل «تَزوَئِرُّ» بهمزة مكسورة قبل راء مشددة، وأصلها «تَزوَارُّ» كقراءة أبي رجاء، ومن معه، وإنما كرهَ الجمع بين الساكنين، فأبدل الألف همزة على حدِّ إبدالها في {الجآن} [الرحمن: 15] و {الضآلين} [الفاتحة: 7] . وقد تقدم تحقيقه آخر الفاتحة.
و «إذا طلعت» معمول ل «ترى» أو ل «تَزاوَرُ» وكذا «إذا غَربَتْ» معمولٌ للأول، أو للثاني، وهو «تَقْرِضُهمْ» والظاهر تمحّضهُ للظرفيةِ، ويجوز أن تكون شرطية.
ومعنى «تَقْرضُهمْ» : تقطعهم، لا تقربهم؛ إذ القرض القطع؛ من القطيعة والصَّرم، قال ذو الرمَّة: [الطويل]
3497 - إلى ظُعنٍ يَقْرضْن أقْوازَ مُشرِفٍ ... شِمَالاً، وعنْ أيْمانِهنَّ الفَوارِسُ
والقَرْضُ: القطعُ، وتقدم تحقيقه في البقرة، وق لالفارسي: «معنى تقرضهم: تعطيهم من ضوئها شيئاً، ثم تزول سريعاً، كالقرض يستردُّ» وقد ضعِّف قوله؛ بأنه كان ينبغي أن يقرأ «تُقرضُهمْ» بضمِّ التاء، لأنه من أقرضَ.
وقرئ «يَقْرضُهمْ» بالياء من تحت، أي: الكهف، وفيه مخالفةٌ بين الفعلين(12/441)
وفاعلهما، فالأولى أن يعود على الشمس، ويكون كقوله: [المتقارب]
3498 - ... ... ... ... ... . ... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقَالهَا
وهو قول ابن كيسان.
و «ذات اليمينِ» و «ذاتَ الشِّمالِ» ظرفا مكانٍ بمعنى جهة اليمين، وجهة الشِّمال.
فصل
قال المفسرون: «تَزاوَرُ» بمعنى «تَمِيلُ» وتعدل عن كهفهم {ذَاتَ اليمين} ، أي: جهة ذات اليمين، وأصله أنَّ ذات اليمين صفة أقيمت مقام الموصوف؛ لأنَّها تأنيث «ذو» في قولهم: «رجلٌ ذُو مالٍ، وامرأةٌ ذات مالٍ» ؛ فكأنَّه قال: تَزاورُ عن كهفهم جهة ذات اليمين، {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال} .
قال الكسائيُّ: قرضت المكان، أي: عدلتُ عنه.
وقال أبو عبيدة: القرض في أشياء، منها القطع، وكذلك السَّير في البلاد، إذا قطعتها؛ تقول لصاحبك: هل وردتَّ [موضع] كذا؟ فيقول المجيب: إنما قرضتهُ.
فقوله: {تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال} ، أي: تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشِّمال.
ثم ها هنا قولان:
الأول: قال ابن قتيبة وغيره: كان كهفهم مستقبل بناتِ نعشٍ، لا تقع فيه الشمس عند الطُّلوع، ولا عند الغروب، ولا فيما بين ذلك وكان الهواء الطيِّب والنَّسيم الموافقُ يصل إليهم، فلا جرم بقيتْ أجسادهم مصونة عن العفونة والفساد.
والثاني: أن الله تعالى منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم عند طلوعها، وكذا عند غروبها، وكان ذلك فعلاً خارقاً للعادة، وكرامة عظيمة، خصَّ الله بها أصحاب الكهف، قاله الزجاج، واحتجَّ على صحَّته بقوله: {ذلك مِنْ آيَاتِ الله} ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول، لكان ذلك أمراص معتاداً مألوفاً، ولم يكن من آيات الله تعالى.
ثم قال تعالى: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} أي متَّسعٍ من الكهف، وجمعها فجواتٌ.
قال أبو عبيدة: ومنه الحديث: فإذا وجد فجوة نصَّ.
وقال غيره: الفجوة المتَّسع من الفجاء، وهو تباعد ما بين الفخذين، يقال: رجل أفجأ، وامرأةٌ فجواء، وجمع الفجوة فجاء كقصعة وقصاع.
وقوله: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} جملة حالية، أي: نفعل هذا مع اتساع مكانهم، وهو أعجب لحالهم؛ إذ كان ينبغي أن تصيبهم الشمس لاتساع مكانهم.(12/442)
فصل
قال المفسرون: اختار الله تعالى لهم مضجعاً في مقناة لا تدخل عليهم الشمس، فتؤذيهم بحرِّها، وتغيِّر ألوانهم، وهم في متَّسع ينالهم بردُ الرِّيح، ويدفع عنهم كرب الغار.
قوله: «ذلِكَ» مبتدأ أشأر به إلى جميع ما تقدم من قصَّتهم.
وقيل: «ذلِكَ» إشارةٌ إلى الحفظ الذي حفظهم الله تعالى في ذلك الغار تلك المدَّة الطويلة.
قوله: {مِنْ آيَاتِ الله} العجيبة الدَّالة على قدرته، وبدائع حكمته، و {مِنْ آيَاتِ الله} الخبر، ويجوز أن يكون «ذلك» خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، و {مِنْ آيَاتِ الله} حال. ثم بين تعالى أنه كما أبقاهم هذه المدَّة الطويلة مصونينعن الموت والهلاك من لطفه وكرمه، فكذلك رجوعهم أوَّلاً عن الكفر، ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه؛ فقال: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} مثل أصحاب الكهف «ومن يُضْلِل» ، أي: يضلله الله، ولم يرشده؛ ك «دقيانُوس» وأصحابه {فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً} معيناً «مُرْشِداً» .(12/443)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
قوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً} أي: لو رأيتهم، لحسبتهم.
وقال شهبا الدِّين: لا حاجة إلى هذا التقدير.
{أَيْقَاظاً} : جمع «يَقُظٍ» بضم القاف، وبجمع على يقاظٍ، ويقظ وأيقاظ، كعضدٍ وأعضادٍ، ويقظ ويقاظ، كرجلٍ ورجالٍ، وظاهرُ كلام الزمخشريِّ أنه يقال: «يقظٌ» بالكسر؛ لأنه قال: وأيقاظٌ جمع «يقظٍ» كأنكاد في «نكدٍ» .
وقال الخفش، وأبو عبيدة، والزجاج: أيقاظٌ جمع يقظٍ ويقظان.
وأنشدوا [لرؤبة] : [الرجز]
3499 - ووَجدُوا إخْوانَهُم أيْقَاظا..... ... ... ... . .
وقال البغوي: أيقاظاً جمع يقيظ ويقظ، واليقظة: الانتباه عند النَّوم.(12/443)
قال الواحديُّ: وإنما يحسبون أيقاظاً؛ لأنَّ أعينهم مفتحةٌ، وهم نيامٌ.
وقال الزجاج: لكثرة تقلبهم يظنُّ أنهم أيقاظٌ؛ لقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} والرقود جمع راقدٍ، كقاعدٍ وقعود.
فصل في مدة تقليبهم
اختلفوا في مقدار مدَّة التَّقليب:
فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أنَّ لهم في كلِّ عام تَقْليبَتَيْنِ» وعن مجاهدٍ: يمكثون رقوداً على أيمانهم تسع سنينَ، ثم ينقلبون على شمائلهم، فيمكثون رقوداً تسع سنين.
وقيل: لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء.
وقال ابن الخطيب: وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها، والقرآن لا يدل عليها، وما جاء فيه خبر صحيح، فكيف يعرف؟ وقال ابن عباس: فائدة تقليبهم؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم وتبليهم.
قال ابن الخطيب: عجبت من ذلك؛ لأنَّ الله تعالى قدر على أن يمسك حياتهم ثلاثمائة سنة وأكثر، فلم لا يقدر على حفظ أجسامهم من غير تقليب؟! .
قوله: «ونُقلِّبهُم» قرأ العامة «نُقلِّبهُم» مضارعاً مسنداً للمعظِّم نفسه.
وقرئ أيضاً بالياء من تحت، أي: الله أو الملك، وقرأ الحسن: «يُقلِبُهمْ» بالياء من تحت ساكن القاف، مخفف اللام، وفاعله، إمَّا الله أو الملكُ.
وقرأ أيضاً «وتَقَلُّبَهُم» بفتح التاء، وضمِّ اللام مشددة مصدر تقلَّب كقوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} [الشعراء: 219] ونصب الباء، وخرَّجه أبو الفتح على إضمار فعل، أي: ونرى تقلُّبهم، أو نشاهد تقلُّبهم، وروي عنه أيضاً رفع الباء على الابتداءِ، والخبر الظرف بعده،(12/444)
ويجوز أن يكون محذوفاً، أي: آية عظيمة. وقرأ عكرمة «وتقلبُهمْ» بتاء التأنيث مضارع «قَلبَ» مخفَّفاً، وفاعله ضمير الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياق.
وقوله: «ذَاتَ» منصوب على الظَّرف، لأنَّ المعنى: ونُقلِّبُهمْ من ناحية اليمين أو على ناحية «اليمين» كما تقدَّم في قوله: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين} [الكهف: 17] .
وقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} .
قرأ العامة «وكَلْبُهمْ» وقرأ جعفر الصادق «كَالبُهمْ» أي: صاحب كلبهم كلابنٍ وتامر، ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلبٍ «وكَالِئُهُمْ» بهمزة مضمومة اسم فاعل من كَلأ يَْلأُ أي: حفظ يحفظُ.
و «باسطٌ» اسم فاعل ماض، وإنما عمل على حكاية الحال، الكسائي يعمله، ويستشهد بالآية.
والوَصِيدُ: الباب؛ قاله ابن عبَّاس والسديُّ. وقيل: العَتبَةُ.
والكهفُ لا يكون له بابٌ، ولا عتبة، وإنما أراد موضع الباب.
وقال الزجاج: الوصيد فناءُ البيت، وفناء الدَّار.
وقيل: الصَّعيدُ والتُّراب.
قال الشاعر: [الطويل]
3500 - بأرْضِ فَضاءٍ لا يسدُّ وصيدُها ... عَليَّ ومَعرُوفِي بها غَيْرُ مُنْكرِ
وجمعه: وصائد ووصدٌ.
وقيل: الوصيدُ: الصَّعيدُ والتراب.
قال يونس، والأخفش، والفراء: الأصيدُ والوصيدُ لغتان؛ مثل: الوكاف والإكاف.
وقال مجاهدٌ، والضحاك: «الوَصِيدُ» : الكهف.
وأكثر المفسرين على أنَّ الكلب كان من جنس الكلاب.
وروي عن ابن جريج: أنه كان أسداً، وسمِّي الأسد كلباً، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا على عتبة بن أبي لهبٍ، فقال: «اللَّهُم سلِّط عليه كلباً من كِلابِكَ» فافترسه الأسدُ.(12/445)
قال ابن عباس: كان كلباً أغرَّ، واسمه قطميرٌ، وعن عليِّ: اسمه «ريَّان» .
وقال الأوزاعي: يشور قال السدي: يور.
وقال كعبٌ: صهباً.
وقال مقاتل: كان كلباً أصفر.
وقال الكلبيُّ: لونه كالحليج، وقيل غير ذلك.
قال خالد بن معدان: ليس في الجنَّة من الدوابِّ إلاَّ كلب أصحاب الكهف، وحمار بلعام.
قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هربوا من ملكهم فمرُّوا براعٍ، معه كلبٌ، فتبعهم على دينهم، ومعه كلبه.
وقال الكلبيُّ: مرُّوا بكلبٍ فنبح عليهم، فطردوه، فعاد، ففعلوا ذلك مراراً، فقال لهم الكلب: لا تخشوا جانبي؛ فإنِّي أحبُّ أحبَّاء الله، فناموا؛ حتَّى أحرسكم.
فصل
قال عبيد بن عميرٍ: كان ذلك كلب صيدهم، ومعنى {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} ، أي: ألقاها على الأرض مبسوطتين، غي رمقبوضتين.
ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اعتدلوا في السُّجودِ، ولا يَبْسُط أحدكم ذِرَاعيْهِ انْبسَاطَ الكلْبِ» .
قال المفسرون: كان الكلب بسط ذراعيه، وجعل وجهه عليهما.
قوله: {لَوِ اطلعت} العامَّة على كسر الواو من «لَو اطَّلعْتَ» على أصل التقاء الساكنين، وقرأها مضمومة أبو جعفرٍ، وشيبة، ونافع، وابن وثَّاب، والأعمش؛ تشبيهاً بواوِ الضمير، وتقدَّم تحقيقه.
قوله: {لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} لما ألبسهم الله من الهيبة؛ حتَّى لا يصل إليهم أحدٌ؛ حتى يبلغ الكتاب أجله، فيوقظهم الله من رقدتهم.
«فِرَاراً» يجوز أن يكون منصوباً على المصدر من معنى الفعل قبله؛ لأنَّ التولِّي(12/446)
والفرارَ من وادٍ واحدٍ، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، أي: فارًّا، ويكون حالاً مؤكدة، ويجوز أن يكون مفعولاً له.
قوله: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} قرأ ابن كثير، ونافع «لمُلِّئْتَ» بالتشديد على التكثير. وأبو جعفرٍ، وشيبة كذلك، إلا أنه بإبدال الهمزة ياء، والزهري بتخفيف اللام والإبدال، وهو إبدال قياسي والباقون بتخفيف اللام، و «رُعباً» مفعول ثانٍ: وقيل: تمييزٌ.
قال الأخفش: الخفيفة أجود في كلام العربِ.
يقولون: ملأتنِي رعباً، ولا يكادون يعرفون ملأتنِي؛ ويدل على هذا أكثر استعمالهم؛ كقوله: [الوافر]
3501 - فَتَمْلأ بَيْتنَا أقِطاً وسَمْنَا..... ... ... ... ... . .
وقول الآخر: [الطويل]
3502 - أ - ومن مالِئٍ عَيْنَيْهِ مِنْ شيءِ غَيْرِهِ ... إذَا رَاحَ نحو الجمْرَةِ البِيضُ كالدُّمَى
وقال الآخر: [الرجز]
3502 - ب - لا تَمْلأ الدَّلءو وعَرِّقْ فيها
وقال الاخر: [الرجز]
3503 - امْتَلأ الحَوضُ وقَالَ قَطْنِي ... وقد جاء التثقيل أيضاً، أنشدوا للمخبَّل السعديِّ: [الطويل]
3504 - وإذْ قتل النُّعْمانُ بالنَّاسِ مُحرِمَا..... ... ... ... ... . .(12/447)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
وقرأ ابن عامر والكسائي «رُعباً» بضمِّ العين في جميع القرآن، والباقون بالإسكان.
فصل في سبب الرعب
اختلفوا في ذلك الرُّعب كان لماذا؟ فقيل: من وحشة المكان، وقال الكلبي: لأنَّ أعينهم مفتَّحة، كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلَّم، وهم نيامٌ.
وقيل: لكثرة شعورهم، وطول أظفارهم، وتقلُّبهم من غير حسٍّ، كالمستيقظ.
وقيل: إنَّ الله تعالى، منعهم بالرُّعب؛ لئلاَّ يراهم أحدٌ.
ورُوِيَ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاس، قال: غزونا مع مُعاويةَ نحو الرُّوم، فمَررْنَا بالكَهْفِ الذي فِيهِ أصْحابُ الكهفِ، فقال مُعاوِيةُ: لو كُشِفَ لنَا عنْ هؤلاءِ، لنَظَرْنَا إليْهِمْ، فقَال ابْنُ عبَّاسٍ: قَدْ مَنَعَ الله ذلِكَ مَنْ هُو خَيْرٌ مِنْكَ: {لو اطَّلعْتَ عَليْهِم لولَّيتَ مِنهُم فراراً} ، فبعث معاوية ناساً، فقال: اذهبوا، فانظروا، فلمَّا دخلوا الكهف، بعث الله عليهم ريحاً، أخرجتهم.
قوله
: {وكذلك
بَعَثْنَاهُمْ} : الكاف نعت لمصدر محذوف، أي: كما أنمناهم تلك النَّومةَ، كذلك بعثناهم؛ ادِّكاراً بقدرته، والإشارة ب «ذلِكَ» إلى المصدر المفهوم من قوله «فَضرَبْنَا» ، أي: مثل جعلنا إنامتهم هذه المدة المتطاولة آية، جعلنا بعثهم آية، قاله الزجاج والزمخشريُّ.
قوله: {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} متعلقة بالبعث، وقيل: هي للصَّيرورة؛ لأن البعث لم يكن للتساؤل، قاله ابن عطيَّة، والصحيح أنَّها على بابها من السببية.
قوله: {كَم لَبِثْتُمْ} «كم» منصوبة على الظرف، والمميز محذوف، تقديره: كم يوماً؛ لدلالةِ الجواب عليه، و «أوْ» في قوله: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} للشكِّ منه، وقيل: للتفصيل، أي: قال بعضهم كذا، وبعضهم كذا.(12/448)
فصل
المعنى كما أنمناهم في الكهف، وحفظنا أجسامهم من البلى، طول الزمان، فكذلك بعثناهم من النَّوم الذي يشبه الموت؛ {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} ليسأل بعضهم بعضاً، واللام لام العاقبة؛ لأنَّهم لم يبعثوا للسُّؤال.
فإن قيل: هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟ .
فالجواب: لا يبعد ذلك؛ لأنَّهم إذا تساءلوا، انكشف لهم من قدرة الله أمورٌ عجيبةٌ، وذلك أمرٌ مطلوبٌ.
قاله ابن الخطيب.
ثم قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ} وهو رئيسهم، واسمه مكسلمينا: {كَم لَبِثْتُمْ} في نومكم، أي: كم مقدار لبثنا في هذا الكهف {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} .
قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النَّهار؛ فلذلك قالوا: يوماً، فلما رأوا الشمس، قالوا: أو بعض يوم، فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم «قَالُوا» أي: علموا أنَّهم لبثوا أكثر من يوم: {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} .
قيل: إنَّ رئيسهم مكسلمينا، لما [رأى] الاختلاف بينهم قال: دعوا الخلاف.
قوله: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه} يعني يمليخا، قاله ابن عباس.
قوله: «بورِقكُمْ» حال من «أحَدكُمْ» ، أي: مصاحباً لها، وملتبساً بها، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر بفتح الواو وسكون الراء والفكِّ، وباقي السبعة بكسر الراء، والكسر هو الأصل، والتسكين [تخفيف] ك «نَبْق» في نَبِق، وحكى الزجاج كسر الواو، وسكون الراء، وهو نقلٌ، وهذا كما يقال: كَبِدٌ وكَبْدٌ وكِبْدٌ.
وقرأ أبو رجاء، وابن محيصن كذلك، إلاَّ أنه بإدغام الفاق، واستضعفوها من حيث الجمع بين ساكنين على غير حدَّيهما، وقد تقدَّم ذلك في المتواتر ما يشبهُ هذه من نحو {تُسْأَلُونَ عَمَّا} [في الآية: 134 من البقرة] و {لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} [النساء: 154] و {الخُلْدِ جَزَآءً} [فصلت: 38] و {فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29] وروي عن ابن محيصن؛ أنَّه لمَّا أدغم كسر الراء فراراً ممَّا ذكرنا.(12/449)
وقرأ أمير المؤمنين «بوارقكم» اسم فاعلٍ، أي: صاحب ورقٍ، ك «لابنٍ» وقيل: هو اسم جمع كجاملٍ وباقرٍ.
والوَرِقُ: الفضَّة المضروبة، وقيل: الفضَّة مطلقاً مضروبة كانت، أو غير مضروبة؛ ويدلُّ عليه ما رُوي أنَّ عرفجة اتَّخذَ أنفاً من ورقٍ.
فصل في لغات «الوَرِق»
قال الفراء والزجاج: فيه ثلاثُ لغاتٍ: وَرِقٌ، ووَرْقٌ، ووِرْقٌ، ك «كَبِدٍ وكَبْدٍ وكِبْدٍ» وكسر الواو أردؤها يقال لها: «الرِّقةُ» بحذف الواو، وفي الحديث: «في الرِّقةِ ربعُ العُشْرِ» وجمعت شذوذاً جمع المذكر السالم.
فصل
قال المفسرون: كان معهم دراهم عليها صورة الملكِ الذي كان في زمانهم، ثم قال تعالى: {إلى المدينة} وهي الَّتي يقال لها اليوم (طرسوس) ، وكان اسمها في الجاهلية «أفسوس» ، وهذه الآية تدل على أنَّ السَّعي في إمساك الزَّاد أمرٌ مشروعٌ.
قوله: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً} [يجوز في «أي» أن تكون استفهامية، وأن تكون موصولة. قال الزجاج: إنها رفع بالابتداء و «أزكى» خبرها، وتقدم الكلام على نظيره في قوله: {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] ، ولا بد ها هنا من حذف «أيُّ» أي: أيّ أهلها أزكى و «طعاماً» ] تمييزٌ، أي: لا يكون من غصبٍ، أي: سببٍ حرام.
وقيل: لا حذف، والضميرُ عائدٌ على الأطعمة المدلول عليها من السِّياق.
قيل: أمروهُ أن يطلب ذبيحة مؤمنٍ، ولا يكون من ذبيحة من يذبح لغير الله، وكان فيهم مؤمنون ينكرون إيمانهم.
فصل في معنى «أزكى»
قال الضحاك: أزكى طعاماً، أي: أطيب.
وقال مقاتلٌ: أجود.
وقال عكرمة: أكثر.(12/450)
وأصل الزَّكاة النُّمو والزيادة.
وقيل: أرخص طعاماً {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ} أي: قوتٍ وطعامٍ تأكلونه.
قوله: «ولْيَتلَطَّفْ» قرأ العامة بسكون لام الأمر، والحسنُ بكسرها على الأصل، [وقتيبة الميَّال] «وليُتَلَطَّفْ» مبنياً للمفعول، وأبو جعفر وأبو صالحٍ، وقتيبة «ولا يشعُرنَّ» بفتح الياء وضمِّ العين.
فإن قيل: «بكُمْ» «أحدٌ» فاعل به.
فالجواب: معنى «وليَتَلطَّفْ» أي: يكون في سترة، وكتمانٍ في دخول المدينة، قاله الزمخشريُّ، ويجوز أن يعود على قومهم؛ لدلالة السِّياق عليهم.
وقرأ زيدُ بن عليٍّ «يُظْهرُوا» مبنيًّا للمفعول.
فصل
{يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} ، أي: يطَّلعوا عليكم، ويعلموا مكانكم.
وقيل: أو يشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم: ظهرتُ على فلانٍ، إذا علوتهُ، وظهرتُ على السَّطح، إذا صرت فوقه، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] أي عالين.
وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] أي: ليعليه.
قوله: {يَرْجُمُوكُمْ} . قال ابن جريج: يَشْتموكُمْ، ويُؤذُوكم بالقول، وقيل: يقتلوكم بالحجارة، والرجمُ بمعنى القتل كثيرٌ. قال تعالى: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] وقوله: {أَن تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20] والرجم أخبث القتل، قاله الزجاج.
{أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي يردُّوكم إلى دينهم.
قوله: {وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} أي إن رجعتم إلى دينهم، لم تسعدوا في الدنيا، ولا في الآخرة، ف «إذاً» جوابٌ وجزاءٌ، أي: إن يظهروا، فلن تفلحوا.
وقال الزجاج: لن تُفْلِحُوا، إذا رجعتم إلى ملتهم أبداً، فإن قيل: أليس أنَّهم لو أكرهوا على الكفر، حتى أظهروا الكفر، لم يكن عليهم مضرَّة، فكيف قالوا: {وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} ؟ .(12/451)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
فالجواب: يحتمل أن يكون المراد أنَّهم لو ردُّوا إلى الكفر، وبقوا مظهرين له، فقد يميل بهم ذلك غلى الكفر، ويصيروا كافرين حقيقة، فكان تخوُّفهم من هذا الاحتمال.
قوله
: {وكذلك
أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} : أي: وكما أنمناهم، وبعثناهم، لما فيه من الحكم الظاهرة؛ أعثرنا، أي: أطلعنا. وتقدَّم الكلام على مادَّة «عثر» في المائدة.
يقال: عثرتُ على كذا، أي: علمته، وأصله أن من كان غافلاً عن شيءٍ فعثر به، نظر إليه، فعرفه، وكان العثارُ سبباً لحصول العلم، فأطلق اسم السَّببِ على المسبَّب «ليَعْلَمُوا» متعلق ب «أعْثرْنَا» والضمير: قيل: يعود على مفعول «أعْثَرنَا» المحذوف، تقديره: أعثرنا النَّاس، وقيل: يعود على أهل الكهف.
فصل في سبب تعرف الناس عليهم
اختلفوا في السَّبب الذي عرف الناس به واقعة أصحاب الكهف، فقيل: لطول شعورهم، وأظفارهم؛ بخلاف العادة، وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبةٌ يستدلُّ بها على أن مدَّتهم طالت طولاً بخلاف العادة.
وقيل: لأن أحدهم لما ذهب إلى المدينةِ؛ ليشتري الطَّعام، أخرج الدراهم لثمن الطَّعام، فقال صاحب الطعام: هذه النُّقود غير موجودة في هذا الزَّمان، وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدَّة مديدة؛ [فلعلك] وجدتَّ كنزاً، فحملوه إلى ملك تلك المدينة، فقال له الملك: أين وجدتَّ تلك الدَّراهم؟ فقال: بعتُ بها أمس تمراً، وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس، فعرف الملك أنَّه ما وجد كنزاً، وأنَّ الله تعالى بعثه بعد موته.
ومعنى قوله: {ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي: إنما أطلعنا القوم على أحوالهم؛ ليعلم القوم أنَّ وعد الله حقٌّ بالبعث والنَّشر؛ فإنَّ ملكَ ذلك الزَّمان كان منكر البعث، فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملكِ.
وقيل: اختلف أهلُ ذلك الزَّمانِ، فقال بعضهم: الرُّوحُ والجسد يبعثان جميعاً.
وقال آخرون: إنَّما يبعثُ الرُّوح فقط، فكان الملك يتضرَّع إلى الله تعالى أن يظهر له آية يستدلُّ بها على الحقِّ في هذه المسالة، فأطلعه الله تعالى على أصحاب الكهف، فاستدلَّ بهم على صحَّة بعث الأجساد؛ لأنَّ انتباههم بعد ذلك النَّوم الطويل يشبه من يموت، ثم يبعث.(12/452)
قوله: «إذ يَتنازعُونَ» يجوز أن يعمل فيه «أعْثَرنا» أو «لِيعْلمُوا» أو لمعنى «حقٌّ» أو ل «وَعْد» عند من يتَّسعُ في الظرف، وأمَّا من لا يتَّسعُ، فلا يجوز عنده الإخبار عن الموصول قبل تمامِ صلته.
واختلف في هذا التَّنازع، فقيل: كانوا يتنازعون في صحَّة البعث، فاستدلَّ القائلون بصحَّة هذه الواقعةِ، وقالوا: كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدَّة ثلاثمائةٍ وتسع سنين، فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها.
وقيل: إنَّ الملك وقومه، لما رأوا أصحاب الكهف، ووقفوا على أحوالهم، عاد القوم إلى كهفهم، فأماتهم الله، فعند هذا اختلف الناس، فقال قومٌ: إنَّ بعضهم قال: إنهم نيامٌ، كالكرَّة الأولى.
وقال آخرون: بل الآن ماتوا.
وقيل: إن بعضهم، قال: سدّوا عليهم باب الكهف مسجدٌ، وهذا القول يدلُّ على أنَّ هؤلاء القوم كانوا عارفين بالله تعالى، ويعترفون بالعبادة والصلاة.
وقيل: إنَّ الكفار قالوا: إنهم على ديننا، فنتخذ عليهم بنياناً، وقال المسلمون [إنهم] على ديننا، فنتخذ عليهم مسجداً.
وقيل: تنازعوا في مقدار مكثهم.
وقيل: تنازعوا في عددهم، وأسمائهم.
قوله: «بُنْياناً» يجوز أن يكون مفعولاً به، جمع بنيانةٍ، وأن يكون مصدراً.
قوله: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} يجوز أن يكون من كلام الله تعالى، وأن يكون من كلامِ المتنازعين فيهم، ثم قال {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} قيل: هو الملك المسلم، واسمه بيدروس وقيل: رؤساء البلد.
قوله «غلبوا» قرأ عيسى الثقفيُّ، والحسن بضمِّ الغين، وكسر اللام.
قوله: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} يعبد الله فيه، ونستبقي آثار اصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد.(12/453)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} : قيل: إنَّما أتي بالسِّين في هذا؛ لأنَّ في الكلام طيًّا وإدماجاً، تقديره: فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصَّة أهل الكهف، فسلهم عن عددهم، فإنهم سيقولون. ولم يأت بها في باقية الأفعال؛ لأنها معطوفة على ما فيه السين، فأعطيت حكمه من الاستقبال.
وقرأ ابن محيصن «ثلاثٌ» بإدغام الثاء المثلثة في تاء التأنيث؛ لقرب مخرجيهما، ولأنهما مهموسان، ولأنهما بعد ساكن معتل.
{رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الجملة في محل رفع صفة ل «ثَلاثَة» .
قوله: {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ} قرأ ابن كثير في رواية بفتح الميم، وهي لغة كعشرةٍ، وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم، وبإدغام التاء في السين، يعني تاء «خمسةٌ» في سين «سادسهم» وهي قراءة ثقيلة جداً؛ لتوالي كسرتين وثلاث سيناتٍ، قال شهاب الدين ولا أظن مثل هذا إلا غلطاً على مثله، وروي عنه إدغام التنوين في السين من غيرغنَّة.
و «ثَلاثةٌ» و «خَمسةٌ» و «سَبعةٌ» إخبار المبتدأ محذوف مضمرٍ، أي: هم ثلاثة، وهم خمسة، وهم سبعة، وما بعد «ثلاثة» و «خمسة» من الجملة صفة لهما، كما تقدَّم، ولا يجوز أن تكون الجملة حالاً، لعدم عامل فيها، ولا يجوز أن يكون التقدير: هؤلاء ثرثة، وهؤلاء خمسةٌ، ويكون العامل اسم الإشارة أو التنبيه، قال أبو البقاء: لأنَّها إشارةٌ إلى حاضر، ولم يشيروا إلى حاضر «.
قوله: {رَجْماً بالغيب} فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه مفعولٌ من أجله؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغيب.
والثاني: أنه في موضع الحال، أي: ظانِّين.
والثالث: أنه منصوب ب» يَقُولونَ «لأنه بمعناه.
والرابع: أنه منصوب بمقدر من لفظه، أي: يرجمون بذلك رجماً.
والرَّجمُ في الأصل: الرَّميُ بالرِّجامِ، وهي الحجارة الصِّغارُ، ثم عبِّر به عن الظنِّ، قال زهير: [الطويل]
3505 - ومَا الحَربُ إلاَّ ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُم ... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرجَّمِ
أي: المظنون.(12/454)
قوله:» وثامنُهم «في هذه الواو أوجهٌ:
أحدها: أنها عاطفة، عطفت هذه الجملة على جملة قوله» هُم سَبْعةٌ «فيكونون قد أخبروا بخبرين، الأول: أنهم سبعة رجالٍ على البتِّ. والثاني أنَّ ثامنهم كلبهم، وهذا يؤذنُ بأن جملة قوله {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} من كلام المتنازعين فيهم.
الثاني: أن الواو للاستئناف، وأنه من كلام الله تعالى أخبر عنهم بذلك، قال هذا القائل: وجيء بالواو؛ لتعطي انقطاع هذا ممَّا قبله.
الثالث: أنها الواو الداخلة على الصفة؛ تأكيداً، ودلالة على لصق الصفة بالموصوف، وإليه ذهب الزمخشري، ونظره بقوله: {مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] .
وردَّ أبو حيَّان عليه: بأنَّ أحداً من النحاة لم يقله، وقد تقدَّم الكلام عليه في ذلك.
الرابع: أنَّ هذه تسمَّى واو الثمانية، وأنَّ لغة قريشٍ، إذا عدُّوا يقولون: خمسةٌ ستَّة سبعة، وثمانية تسْعةٌ، فيدخلون الواو على عقد الثمانية خاصة، ذكر ذلك ابن خالويه، وأبو بكر راوي عاصم، قلت: وقد قال ذلك بعضهم في قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَ} [الزمر: 73] في الزمر، فقال: دخلت في أبواب الجنة؛ لأنها ثمانية، ولذلك لم يجأ بها في أبواب جهنَّم؛ لأنها سبعة، وسيأتي هذا، إن شاء الله.
قال أصحاب هذا القول: إنَّ السبعة عند العرب أمثل في المبالغة في العدد؛ قال تعالى: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] .
ولما كان كذلك، فلما وصلوا إلى الثَّمانية، ذكروا لفظاً يدلُّ على الاستئناف فقالوا: وثمانية، فجاء هذا الكلام على هذا القانون، قالوا: ويدلُّ عليه قوله تعالى: {والناهون عَنِ المنكر} [التوبة: 112] ؛ لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة.
وقوله: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] لأن أبواب الجنة ثمانيةٌ، وأبواب النَّار سبعة، فلم يأتِ بالواو فيها.
وقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] هو العدد الثامن مما تقدَّم.
قال القفال: وهذا ليس بشيء؛ لقوله تعالى: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} [الحشر: 23] ولم يذكر الواو في النَّعت الثامن.
وقرئ: «كَالبُهمْ» أي: صاحب كلبهم، ولهذه القراءةِ قدَّر بعضهم في قراءة العامة: وثامنهم صاحب كلبهم.(12/455)
وثلاثةٌ وخمسةٌ وسبعةٌ: مضافة لمعدودٍ محذوف، فقدَّره أبو حيان: ثلاثة اشخاص، قال: «وإنَّما قدَّرنا أشخاصاً؛ لأنَّ رابعهم اسم فاعل أضيف إلى الضمير، والمعنى: أنه ربعهم، أي: جعلهم أربعة، وصيَّرهم إلى هذا العدد، فلو قدَّرناه رجالاً، استحال أن يصيِّر ثلاثة رجالٍ أربعة؛ لاختلافِ الجنسين» وهو كلامٌ حسنٌ.
فصل
وقال أبو البقاء: «ولا يعمل اسم الفاعل هنا؛ لأنه ماض» قلت: يعني أنَّ رابعهم فيما مضى، فلا يعمل النصب تقديراً، والإضافة محضة، وليس كما زعم، فإنَّ المعنى على: يصير الكلب لهم أربعة، فهو ناصبٌ تقديراً، وإنما عمل، وهو ماضٍ؛ لحكاية الحال ك «بَاسِطٌ» .
فصل
روي أن السيِّد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران، كانوا عند النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقال السيِّد - وكان يعقوبياً -: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم.
وقال العاقبُ - وكان نُسطوريًّا -: كانوا خمسة سادسهم كلبهم.
وقال المسلمون: ك انوا سبعة، وثامنهم كلبهم، فحقَّق الله قول المسلمين بعدما حكى قول النصارى، فقال: «سَيقُولونَ ثَلاثةٌ رابعهُم كَلْبهُم، ويَقُولونَ خَمسَةٌ سَادسهُمْ كَلبُهمْ رجماً بالغيب ويَقُولونَ: سَبْعةٌ وثَامنهُمْ كَلبُهمْ» .
قوله: {رَجْماً بالغيب} أي: ظنًّا وحدساً من غير يقينٍ، ولم يقل هذا في السبعة، فقال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} .
فصل
قال أكثر المفسرين: هذا هو الحقُّ؛ ويدلُّ عليه وجوهُ:
الأول: أنَّ الواو في قوله: {وَثَامِنُهُمْ} هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنَّكرة، كما تدخل ع لى الجملة الواقعة حالاً عن المعرفة في قولك: «جَاءنِي رجلٌ، ومَعهُ آخَرُ» ومررت بزيدٍ، ومعه سيفٌ، ومنه قوله:
{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] .
وفائدتها: تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أنَّ اتصافه به أمرٌ ثابتٌ مستقرٌّ، فكانت هذه الواو دالة على أنَّ الذين كانوا في الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.
الثاني: أنه تعالى خصَّ هذا الموضع بهذا الحرف الزَّائد وهو الواو؛ فوجب أن(12/456)
يحصل به فائدة زائدة؛ صوناً للفظ عن التعطيل، وليس الفائدة إلاَّ تخصيص هذا القول بالإثبات والتَّصحيح.
الثالث: أنه تعالى أتبع القولين بقوله: {رَجْماً بالغيب} ولم يقله في السَّبعة، وتخصيص الشيء بالوصف يدلُّ على أنَّ الحال في الباقي بخلافه، وأنه مخالف لهما في كونه «رجْماً بالغَيْب» .
الرابع: أنه قال بعده: {رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} فدلَّ على أن هذا القول ممتازٌ عن القولين الأوَّلين بمزيد القوَّة والصَّحة.
الخامس: أنه تعالى قال: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} فدلَّ على أنَّه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل، وكلُّ من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب، قال: إنهم كانوا سبعة، وثامنهم كلبهم؛ فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول، وكان عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول: كانوا سبعة، وثامنهم كلبهم، وأسماؤهم: ميليخا، مكسلمينا، مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك، وعن يساره: مرنوس، ديرنوس، سادنوس، وكان الملكُ يستشير هؤلاء الستَّة، يتصرَّفون في مهمَّاته، والسَّابع هو الرَّاعي الذي وافقهم، لمَّا هربوا من ملكهم، واسم كلبهم قطميرٌ، وروي عن ابن عباس أنه قال: مكسلمينا، ويلميخا، ومرطوس وبينويس، وسارينوس، وذونوانس، وكشفيطيطونونس وهو الراعي، وكان ابن عباس يقول: أنا من أولئك العدد القليل.
السادس: أنه تعالى، لما قال: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} قال: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} .
والظاهر أنَّه لما حكى الأقوال، فقد حكى كلَّ ما قيل من الحقِّ والباطل، ويبعد أنَّه تعالى ذكر الأقوال الباطلة، ولم يذكر ما هو الحقُّ، فثبت أن جملة الأقوال الحقَّة والباطلة ليست إلاَّ هذه الثَّلاثة، ثم خصَّ الأولين بأنه رجمٌ بالغيب؛ فوجب أن يكون الحق هو الثالث.
السابع: أنه قال لرسوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {فَلا تُمارِ فِيهمْ إلاَّ مِراءً ظَاهِراً، ولا تَسْتفْتِ فِيهم مِنهُمْ أحَداً} فمنعه من المناظرة معهم في هذا الباب، وهذا إنما يكون، لو علم حكم هذه الواقعة، ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يحصل للنبيِّ - عليه السلام - فعلمنا أنَّ العلم بهذه الواقعة حصل للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والظاهر أنه لم يحصل ذلك إلاَّ بهذا الوحي؛ لأنَّ الأصل فيما سواهُ العدم، فيكون الأمر كذلك، ويكون الحقُّ قوله: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وهذه الوجوه، وإن كان فيها بعض الضعف إلاَّ أنه لما تقوَّى بعضها ببعضٍ، حصل فيها تمامٌ وكمالٌ.(12/457)
فصل
في هذه الآية محذوفٌ، وتقديره: سيقولون: هم ثلاثة، فحذف المبتدأ؛ لدلالة الكلام عليه، ثم قال تعالى: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} أي: بعددهم {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} ، وهذا هو الحق؛ لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم، وحوادثه في الماضي والمستقبل، لا يحصل إلاَّ عند الله، أو عند من أخبره الله تعالى، ثم لمَّا ذكر تعالى هذه القصَّة، نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المراءِ والاستفتاء، فقال: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} ، أي لا تجادل، ولا تقل في عددهم وشأنهم إلاَّ مراء ظاهراً إلا بظاهر ما قصصنا عليك، فقف عنده، {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً} أي من أهل الكتاب، أي: لا ترجع إلى قولهم بعد أن أخبرناك؛ لأنَّه ليس عندهم علمٌ في هذا الباب إلاَّ رجماً بالغيب.
فصل
واعلم أنَّ نفاة القياس تمسَّكوا بهذه الآية، قالوا: لأن قوله: {رَجْماً بالغيب} قيل: كان ظنًّا بالغيب؛ لأنَّهم أكثروا أن يقولوا رجماً بالظنِّ، مكان قولهم: «ظنَّ» حتى لم يبق عندهم فرقٌ بين العبارتين، كما قال: [الطويل]
3506 - ... ... ... ... ..... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرجَّمِ
أي: المظنون، ثم إنه تعالى، لمَّا ذم هذه الطريقة، رتَّب عليها المنع من استفتاء هؤلاء الظانِّين، فدلَّ على أن الفتوى بالمظنون غير جائزٍ عند الله تعالى، وتقدَّم جوابهم.(12/458)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
وذلك أن أهل مكَّة سألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فقال: أخبركم غداً، ولم يقل: إن شاء الله، فلبث الوحيُ أيَّاماً، ثم نزلت هذه الآية.
فصل
اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين:
الأول: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان عالماً بأنَّه إذا أخبر أنه سيفعل الفعل الفلانيَّ غداً، فربَّما جاءته الوفاة قبل الغد، وربما عاقه عائقٌ عن ذلك الفعل غداً، وإذا كانت هذه الأمور محتملة، فلو لم يقل: إن شاء الله، خرج الكلام مخالفاً لما عليه، وذلك يوجب التنفير عنه.
أما إذا قال: «إن شاء الله تعالى» كان محترزاً عن هذا المحذور المذكور، وإذا(12/458)
كان كذلك، كان من البعيد أن يعد بشيءٍ، ولم يقل: إن شاء الله.
الثاني: أن هذه الآية مشتملةٌ على قواعد كثيرةٍ، وأحكام جمَّة، فيبعد قصرها على هذا السبب، إذ يمكن أن يجاب عن الأول بأنه لا يمتنع أن الأولى أن يقول: «إن شاء الله تعالى» ، إلاَّ أنه ربَّما اتَّفق له نسيان قول «إن شاء الله» لسبب من الأسباب، وكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل، وأنه يجاب عن الثاني بأنَّ اشتماله على الفوائد الكثيرةِ لا يمتنع أن يكون نزوله بسببٍ واحدٍ منها.
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} : قال أبو البقاء: في المستثنى منه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: هو من النَّهي. والمعنى: لا تقولنَّ: افعلُ غداً، إلاَّ أن يؤذن لك في القول.
الثاني: هو من «فاعلٌ» ، أي: لا تقولنَّ إني فاعل غداً؛ حتَّى تقرن به قول «إن شاء الله» .
والثالث: أنه منقطعٌ، وموضع «أن يشاء الله» نصب على وجهين:
أحدهما: على الاستثناء، والتقدير: لا تقولنَّ ذلك في وقتٍ إلاَّ وقت أن يشاء الله، أي: يأذن، فحذف الوقت، وهو المراد.
الثاني: هو حالٌ، والتقدير: لا تقولنَّ: أفعل غداً إلا قائلاً: «إن شاء الله» وحذف القول كثير، وقيل: التقدير إلاَّ بأن يشاء الله، أي: إلاَّ ملتبساً بقول: «إن شاء الله» .
وقد ردَّ الزمخشريُّ الوجه الثاني، فقال: «إلاَّ أن يشاءَ» متعلقٌ بالنهي، لا بقوله «إنِّي فاعلٌ» لأنه لو قال: إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله، كان معناه: إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله، وذلك ممَّا لا مدخل فيه للنهي.
معناه أنَّ النهي عن مثل هذا المعنى، لا يحسن.
ثم قال: «وتعلُّقهُ بالنهي من وجهين:
أحدهما: ولا تقولنَّ ذلك القول، إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه.
والثاني: ولا تقولنَّه إلاَّ بأن يشاء الله، أي: إلاَّ بمشيئته، وهو في موضع الحال، أي: ملتبساً بمشيئة الله، قائلاً إن شاء الله.
وفيه وجه ثالثٌ: وهو أن يكون «إلاَّ أن يشاء» في معنى كلمة تأبيدٍ، كأنَّه قيل: ولا تقولنَّه أبداً، ونحوه: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا} [الأعراف: 89] لأن عودهم في ملتهم ممَّا لم يشأ الله «.
وهذا الذي ذكره الزمخشري قد ردَّه ابن عطيَّة بعد أن حكاه عن الطبري وغيره، ولم يوضِّح وجه الفساد.(12/459)
وقال أبو حيان:» وإلا أن يشاء الله، استثناء لا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه يكون داخلاً تحت القول، فيكونُ من المقول، ولا ينهاه الله أن يقول: إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله؛ لأنه قول صحيحٌ في نفسه، لا يمكن أن ينهى عنه، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقديرٍ، فقال ابن عطيَّة: في الكلام حذف يقتضيه الظاهر، ويحسِّنهُ الإيجاز، تقديره: إلاَّ أن يقول: إلا أن يشاء الله، أو إلاَّ أن تقول: إن شاء الله، والمعنى: إلاَّ أن تذكر مشيئة الله، فليس «إلاَّ أن يشاء الله» من القول الذي نهي عنه «.
فصل
قال كثيرٌ من الفقهاء: إذا قال الرَّجل لزوجته:» أنْتِ طالقٌ، إن شاء الله «لم يقع الطَّلاق؛ لأنه لما علَّق وقوع الطَّلاق على مشيئة الله، لم يقعِ الطَّلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة، ومشيئةُ الله غيبٌ لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها، إلا إذا علمنا أن متعلَّق المشيئة وقع وحصل، وهو هذا الطلاق، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة، إلاَّ إذا وقع الطلاق، ولا يعرف وقوع الطلاق، إلاَّ إذا عرفنا المشيئة، فيوقف كلُّ واحدٍ منهما على العلم بالآخرِ، وهو دورٌ؛ فلهذا لم يقع الطَّلاق.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم شيءٌ، قالوا: لأنَّ الشيء الذي سيفعله غداً سمَّاه الله تعالى في الحال شيئاً، وهو معدومٌ في الحال.
[وأجيب] بأنَّ هذا الاستدلال لا يفيدُ إلاَّ أنَّ المعدوم مسمى بكونه شيئاً، والسبب فيه أنَّ الذي يصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال تسمية للشيء بما يئولُ إليه؛ لقوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] والمراد سيأتي أمر الله.
ثم قال تعالى: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن: معناه: إذا نسيت الاستثناء، ثم ذكرت، فاستثنِ.
وقيَّده الحسن وطاوس بالمجلس.(12/460)
وعن سعيد بن جبيرٍ: بعد سنة، أو شهرٍ، أو أسبوعٍ، أو يوم.
وعن عطاءٍ: بمقدار حلب ناقةٍ غزيرةٍ.
وعند عامة الفقهاء: لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً، وقالوا: لأنا لو جوَّزنا ذلك، لزم ألاَّ يستقرَّ شيءٌ من العهود والإيمان.
[يحكى] أنه بلغ المنصور أنّ أبا حنيفة خالف ابن عبَّاس في الاستثناء المنفصل، فاستحضره؛ لينكر عليه، فقال له أبو حنيفة: هذا يرجع عليك؛ فإنك تأخذ البيعة بالأيمان، أترضى أن يخرجوا من عندك، فيستثنوا، فيخرجوا عليك، فاستحسن المنصور كلامه، ورضي عنه.
واعلم أن هذا تخصيص النصِّ بالقياس، وفيه ما فيه.
وأيضاً فلو قال: «إنْ شَاءَ الله» خفية؛ بحيث لا يسمع، كان دافعاً للحنث بالإجماع، مع أنَّ المحضور باقٍ، فما عوَّلوا عليه ليس بقويٍّ، [والأولى] أن يحتجَّ في وجوب كون الاستثناء متَّصلاً بالآيات الكثيرة الدالة على وجوب الوفىءِ بالعقد والعهد؛ كقوله: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] ، فإذا أتى بعهدٍ، وجب عليه الوفاء بمقتضاه بهذه الآيات.
خالفنا الدليل فيما إذا كان متَّصلاً؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد؛ بدليل أنَّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً، فهو جارٍ مجرى بعض الكلمة الواحدة، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة، وإذا كان كذلك، فإن لم يكن منفصلاً، حصل الالتزام التَّامُّ بالكلام؛ فوجب عليه الوفاء بذلك المتلزم.
وقيل: إن قوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} كلامٌ مستأنفٌ لا تعلّق له بما قبله.
فصل
قال عكرمة: واذكر ربَّك، إذا غضبت.
وقال وهبٌ: مكتوب في الإنجيل «ابن آدمَ، اذكُرنِي حين تغضبُ، أذكرك حينَ أغْضَبُ» .(12/461)
وقال الضحاك، والسديُّ: هذا في الصَّلاة المنسيَّة.
قال ابن الخطيب: وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضيَّة، وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً، وذلك لا يجوز.
ثم قال: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} وفيه وجوهٌ:
الأول: أن ترك قوله: «إنْ شَاءَ اللهُ» ليس بحسن، وذكره أحسن من تركه، وهو قوله: {لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} المراد منه ذكر هذه الجملة.
الثاني: أنَّه لمَّا وعدهم بشيءٍ، وقال معه (إن شاء الله تعالى) فيقول: عسى أن يهديني ربِّي لشيءٍ أحسن وأكمل مما وعدتُّكم به.
الثالث: أن قوله: {عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} إشارة إلى قصَّة أصحاب الكهف، أي: لعلَّ الله يؤتيني من البيِّنات والدلائل على صحَّة نبوَّتي وصدقي في ادِّعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة، وأقرب رشداً من قصَّة أصحاب الكهف، وقد فعل الله ذلك حين آتاهُ من قصص الأنبياء، والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك.(12/462)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
قوله: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} .
قال قتادة: هذا من كلام القوم؛ لأنَّه تعالى قال: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] إلى أن قال: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ} أي: إنَّ أولئك الأقوام، قالوا ذلك، ويؤيِّده قوله تعالى بعده {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} وهذا يشبهُ الردَّ على الكلام المذكور قبله.
ويؤيِّده أيضاً ما ورد في مصحف عبد الله: (وقالوا ولبثوا في كهفهم) .
وقال آخرون: هو كلام الله تعالى أخبر عن كميَّة هذه المدَّة.(12/462)
وأما قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} فهو كلامٌ تقدَّم، وقد تخلَّل بينه وبين هذه الآية ما يوجبُ انقطاع أحدهما عن الآخر، وهو قوله: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} [الكهف: 22] .
وقوله تعالى: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} لا يوجب أنَّ ما قبله حكاية؛ لأنَّه تعالى أراد بل الله أعلم بما لبثوا، فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب، والمعنى أن الأمر في مدَّة لبثهم، كما ذكرنا، فإن نازعوك فيها، فأجبهم فقل: {الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أي: فهو أعلم منكم، وقد أخبر بمدَّة لبثهم.
وقيل: إنَّ أهل الكتاب قالوا: إنَّ المدَّة من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاثمائة وتسع سنين، فردَّ الله عليهم، وقال: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا، لا يعلمه إلاَّ الله.
قوله: {ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ} : قرأ الأخوان بإضافة «مِئةِ» إلى «سنين» والباقون بتنوين «مِئةٍ» .
فأمَّا الأولى: فأوقع فيها الجمع موقع المفرد؛ كقوله: {بالأخسرين أَعْمَالاً} [الكهف: 103] . قاله الزمخشريُّ يعني أنه أوقع «أعْمَالاً» موقع «عملاً» وقد أنحى أبو حاتمٍ على هذه القراءة ولا يلتفت إليه، وفي مصحف عبد الله «سنة» بالإفراد، وبها قرأ أبيّ، وقرأ الضحاك «سِنُونَ» بالواو على أنها خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هي سنُونَ.
وأمَّا الباقون، فلما لم يروا إضافة «مِئَة» إلى جمعٍ، نَوَّنُوا، وجعلوا «سِنينَ» بدلاً من «ثَلاثمائةٍ» أو عطف بيان.
قال البغويُّ: فإن قيل لِمَ قال: «ثلاثمائة سنين» ولم يقل سنة؟ فالجواب، لمَّا نزل قوله تعالى: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ} فقالوا: أيَّاماً، أو شهوراً، أو سنين، فنزلت «سنين» .
وقال الفراء: من العرب من يضع «سنين» موضع سنة.
ونقل أبو البقاء أنها بدل من «مِئَةٍ» لأنها في معنى الجمع. ولا يجوز أن يكون «سِنينَ» في هذه القراءة تمييزاً؛ لأنَّ ذلك إنما يجيء في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز؛ كقوله:
3507 - أ - إذَا عَاشَ الفَتَى مِئَتيْنِ عَاماً ... فَقدْ ذَهبَ اللَّذاذَةُ والفَتَاءُ.(12/463)
فصل
قيل: المعنى: ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة {وازدادوا تِسْعاً} .
قال الكلبيُّ: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة، فقد عرفناها، وأما التسع، فلا علم لنا بها، فنزلت: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} .
روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: عند أهل الكتاب: أنَّهم لبثُوا ثَلاثمائَةٍ شَمْسيَّة، والله تعالى ذَكرَ ثَلاثمَائةِ سنةٍ قمريَّة، والتَّفاوتُ بين الشَّمسية والقمريَّة في كلِّ مائةِ سنةٍ ثلاث سنين، فيكونُ ثَلاثمائَةٍ، وتِسْع سنينَ، فَلذلِكَ قال: «وازْدَادُوا تِسْعاً» .
قال ابن الخطيب: وهذا مشكلٌ؛ لأنه لا يصحُّ بالحساب، فإن قيل: لِمَ لا قيل: ثلاثمائة، وتسع سنين؟ .
وما الفائدة في قوله: «وازْدَادُوا تِسْعاً» ؟ .
فالجواب: أن يقال: لعلَّهم لما استكمل لهم ثلاثمائة سنة، قرب أمرهم من الانتباه، ثمَّ اتفق ما أوجب [بقاءهم في النَّوم] تسع سنين.
قوله: «تِسْعاً» أي: تسع سنين، حذف المميِّز؛ لدلالةِ ما تقدَّم عليه؛ إذ لا يقال: عندي ثلاثمائة درهم وتسعة، إلا وأنت تعني: تسعة دراهم، ولو أردتَّ ثياباً ونحوها، لم يجزْ؛ لأنه إلغازٌ، و «تِسْعاً» مفعولٌ به، وازداد: افتعل، أبدلت التاء دالاً بعد الزاي، وكان متعدِّياً لاثنين؛ نحو: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ، فلما بني على الافتعال، نقص واحداً.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية «تسعاً» بفتح التاء كعشرٍ.
قوله: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدَّة من الناس الذين اختلفوا فيها؛ لأنَّه إله السموات والأرض ومدبِّر العالم له غيبُ السَّموات والأرض.
والغَيْبُ: ما يغيب عن إدراكك، والله - تعالى - لا يغيبُ عن إدراكه شيءٌ، ومن كان عالماً بغيب السموات والأرض، يكون عالماً بهذه الواقعة، لا محالة.
قوله: {أَبْصِرْ بِهِ} : صيغة تعجُّب بمعنى «مَا أبْصرَهُ» على سبيل المجاز، والهاء لله تعالى، وفي مثل هذا ثلاثة مذاهب: الأصح: أنه بلفظ الأمر، ومعناه الخبر، والباء مزيدة(12/464)
في الفاعل؛ إصلاحاً للفظ أي ما أبصر الله بكلِّ موجودٍ، وأسمعه بكلِّ مسموعٍ.
والثاني: أنَّ الفاعل ضمير المصدر.
والثالث: أنه ضمير المخاطب، أي: أوقع أيُّها المخاطب، وقيل: هو أمر حقيقة لا تعجب، وأن الهاء تعود على الهدى المفهوم من الكلام.
وقرأ عيسى: «أسْمعَ» و «أبْصرَ» فعلاً ماضياً، والفاعل الله تعالى، وكذلك الهاء في «به» ، أي: أبصر عباده وأسمعهم.
وتقدَّم الكلام على هذه الكلمة عند قوله: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} [البقرة: 175] .
قوله: {مَا لَهُم} أي: ما لأهلِ السموات والأرض.
قوله: «مِنْ دُونهِ» أي: من دون الله.
قوله: «مِنْ وليٍّ» أي من ناصرٍ.
و «مِنْ وليٍّ» يجوز أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأ.
قوله: «ولا يُشْرِكُ» قرأ ابن عامر بالتاء والجزم [عطفاً على قوله:
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ} [الكهف: 23] وقوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى} ] أي: ولا تشركْ أنت أيها الإنسانُ، والباقون بالياء من تحت، ورفع الفعل، أي: ولا يشرك الله في حكمه أحداً، فهو نفيٌ محضٌ.
فصل في المراد بالحكم في الآية
قيل: الحكم ها هنا علم الغيب، أي: لا يشركُ في علم غيبه أحداً.
وقرأ مجاهد وقتادة: «ولا يُشرِكْ» بالياء من تحت والجزم.
قال يعقوب: «لا أعرف وجهه» . قال شهاب الدين: وجهه أنَّ الفاعل ضميرُ الإنسان، أضمر للعلم به.
والضمير في قوله «مَا لهُمْ» يعود على معاصري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال ابن عطية: «وتكون الآية اعتراضاً بتهديد» كأنَّه يعني بالاعتراض: أنهم ليسوا ممَّن سيق الكلام لأجلهم، ولا يريد الاعتراض الصِّناعي.
فصل
قوله: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ} .(12/465)
قيل: ما لأصحاب الكهف من دون الله وليٌّ؛ فإنَّه هو الذي يتولَّى حفظهم في ذلك النَّوم الطَّويل.
وقيل: ليس لهؤلاءِ القوم المختلفين في مدَّة لبث أصحاب الكهف وليٌّ من دون الله، يتولَّى أمرهم، ويقيم لهم تدبير أنفسهم، فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه، فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه؟! .
فصل
واختلفوا في زمن أصحاب الكهف وفي مكانهم، فقيل: كانوا قبل موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأنَّ موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكرهم في التَّوراة، فلهذا سأل اليهودُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قصَّتهم.
وقيل: دخلوا الكهف قبل المسيح، وأخبر المسيحُ بخبرهم، ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى، وبين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: إنَّهم دخلوا الكهف بعد الميسح، حكى هذا القول القفَّال عن محمد بن إسحاق، وذكر أنهم لم يموتوا، ولا يموتون إلى يوم القيامة.
وأمَّا مكان الكهف، فحكى القفَّال عن محمد بن موسى الخُوارزميِّ المنجم: أن الواثق أنفذه؛ ليعرف حال أصحاب الكهف من ملك الرُّوم، قال: فوجَّه ملكُ الرُّوم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه.
وقيل: إنَّ الرجل قال: إنَّ الرجل الموكَّل بذلك الموضع فزَّعني من الدُّخول عليهم، قال: فدخلت فرأيت الشُّعور على صدورهم.
قال: وعرفت أنَّ ذلك تمويهٌ واحتيالٌ، وأنَّ الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة؛ لتصونها عن البلاء؛ كالتلطيخ بالصَّبر وغيره.
قال القفَّال: والذي عندنا أنَّ موضع أصحاب الكهف لا يعرف، ولا عبرة بقول أهل الرُّوم، وذكر الزمخشري عن معاوية «أنَّه لما غزا الرُّومَ، فمرَّ بالكهف، فقال: لو كشف عن هؤلاء، ننظر إليهم، فقال له ابن عباس: أيُّ شيءٍ لك في ذلك؟ قد منع الله من هو خيرٌ منك، فقال: {لَو اطَّلعتَ عَليْهِمْ، لولَّيتَ مِنهُمْ فِراراً، ولمُلِئْتَ مِنهُمْ رُعْباً} .
فقال: لا أنتهي عن ذلك، حتَّى أعلم حالهم، فبعث أناساً، فقال: اذهبوا، فانظروا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً، [فأخرجتهم] » .
فصل
قال ابن الخطيب: والعلم بذلك الزَّمان، وذلك المكان، ليس للعقل فيه مجالٌ،(12/466)
وإنما يستفاد ذلك من نصٍّ، وهو مفقودٌ؛ فثبت أنَّه لا سبيل إليه.
قال ابن الخطيب: هذه السورة الثلاث اشتملت كلُّ واحدة منها على حصول حالةٍ غريبةٍ عجيبةٍ نادرةٍ في هذا العالم: سورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بالجسد الشريف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى الشَّام، وهي حالة عجيبة، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدَّة ثلاثمائة سنةٍ، وأزيد، وهي أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب، وهي أيضاً حاله غريبة والمعتمد في بيان هذه العجائب، والغرائب المذكورة: أنَّه تعالى قادر على كلِّ الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات من الجزئيات والكليَّات، فإنَّ كلَّ ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات.
وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث، ولما كان قادراً على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن، فكذلك بقاؤهُ مدة ثلاثمائة سنةٍ، يوجب أن يكون ممكناً، بمعنى: أن إله العالم يحفظه عن الآفةِ.
وأما الفلاسفةُ فإنهم يقولون: لا يبعد وقوع أشكالٍ فلكية غريبة توجب في عالم الكون والفساد حصول أحوالٍ غريبة نادرة، وذكر أبو علي بن سفيان في «باب الزَّمان» من كتاب «الشِّفا» أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المباطيل حالةٌ شبيهة بأصحاب الكهف.
قال ابن سينا: ويدلُّ التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف.
قوله تعالى: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} الآية.
اعلم أن كفَّار قريش اجتمعوا، وقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الذين آمنوا بك، فنهاهُ الله عن ذلك، وبيّن في هذه الآيات أنَّ الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً، وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه، ولا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنتهم، فقال: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ} أي التزم قراءة الكتاب الذي أوحي إليك والزم العمل به {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: لا مغيِّر للقرآن، وهذه آية تدل على أنه لا يجوز تخصيص النصِّ بالقياس؛ لأن معنى الكلام: الزم العمل بمقتضى هذا الكتاب، وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره.
فإن قيل: فيجب ألا يتطرَّق النسخ إليه أيضاً.
فالجواب: أن هذا مذهبُ أبي مسلم الأصفهاني، وليس ببعيد، وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديلٍ؛ لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ، فالناسخ(12/467)
كالمغاير، فكيف يكون تبديلاً؟ ثم قال: {ولن تَجدِ مِنْ دُونهِ مُلتحداً} أي: ملجأ، قال أهل اللغة: هو من لحد وألحد: إذا مال، ومنه قوله
{الذين يُلْحِدُونَ} [فصلت: 40] والملحدُ: الماثل عن الدِّين.
قال ابن عباس: حرزاً.
وقال الحسن: مدخلاً.
وقال مجاهد: ملجأ.
وقيل: ولن تجد من دونه ملتحداً في البيان والإرشاد.
قوله: {واصبر نَفْسَكَ} أي: احبسها وثبتها قال أبو ذؤيب: [الكامل]
3507 - ب - فَصَبرْتُ نَفْساً عِنْدَ ذلِكَ حُرَّة ... تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجَبانِ تَطلَّعُ
وقوله: «بالغَداةِ» تقدَّم الكلام عليها في الأنعام.
فصل في نزول الآية
نزلت في عيينة بن حصن الفزاريِّ، أتى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يسلم، وعنده جماعةٌ من الفقراءِ فيهم سلمان، وعليه شملةٌ قد عرق فيها، وبيده خوصةٌ يشقها، ثم ينسجها؛ فقال عيينة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أما يؤذيكَ ريحُ هؤلاء؟ ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا، أسلم الناس، وما يمنعنا من اتِّباعِكَ إلاَّ هؤلاء، حتى نتبعك، واجعل لنا مجلساً، ولهم مجلساً، فأنزل الله تعالى: {واصبر نَفْسَكَ} ، أي: احبسْ يا محمد نفسك {مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} طرفي النَّهار، {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي: يريدون الله، لا يريدون به عرضاً من الدنيا.
وقال قتادة: نزلت في أصحاب الصُّفة، وكانوا سبعمائة رجلٍ فقراء في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يرجعون إلى تجارة، ولا إلى زرع، يصلُّون صلاة، وينتظرون أخرى، فلما نزلت هذه الآية، قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحمد لله الذي جعل في أمَّتي من أمرتُ أن أصبر نفسي معهم» . وهذه القصة منقطعة عما قبلها، وكلامٌ مفيدٌ مستقلٌّ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام، وهو قوله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} [الأنعام: 52] ففي تلك الآية نهى الرسول - عليه السلام - عن طردهم، وفي هذه الآية أمرهُ بمجالستهم والمصابرة معهم.
فصل في قراءات الآية
قرأ ابن عامر بالغداة والعشيّ، بضمِّ الغين، والباقون بالغَداة، وهما لغتان، فقيل:(12/468)
المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كلِّ الأوقاتِ كقول القائل: ليس لفلانٍ عمل بالغداة والعشيِّ إلاَّ شتم الناس، وقيل: المراد صلاة الفجر والعصر.
وقيل: المراد الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النَّوم إلى اليقظة، ومن اليقظة إلى النَّوم.
قوله: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أن مفعوله محذوف، تقديره: ولا تعد عيناك النظر.
والثاني: أ، هـ ضمِّن معنى ما يتعدَّى ب «عَنْ» قال الزمخشريُّ: «يقال: عدَّاه، أي: جاوزه فإنما عدِّي ب» عَنْ «لتضمين» عَدا «معنى نبا وعلا في قولك: نَبتْ عنه عينه، وعلتْ عنه عينه، إذا اقتحمته، ولم تعلق به، فإن قيل: أي غرضٍ في هذا التضمين؟ وهلاَّ قيل: ولا تعدهم عيناك، أو: ولا تعل عيناك عنهم؟ فالجواب: الغرض منه إعطاءُ مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى [فذٍّ] ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك متجاوزتين إلى غيرهم، ونحوه
{وَلاَ
تأكلوا
أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ، أي: لا تضمُّوها إليها آكلين لها «.
وردَّه أبو حيان: بأنَّ مذهب البصريين أن التضمين لا ينقاس، وإنما يصار إليه عند الضرورة، فإذا أمكن الخروج عنه، فلا يصار إليه.
وقرأ لحسن» ولا تُعدِ عَينَيْكَ «من أعدى رباعيًّا، وقرأ هو، وعيسى، والأعمش» ولا تُعدِّ «بالتشديد، من عدَّى يعدِّي مضعفاً، عدَّاه في الأولى بالهمزة، وفي الثانية بالتثقيل؛ كقول النابغة: [البسيط]
3508 - فَعدِّ عَمَّا تَرَى إذْ لا ارتِجاعَ لهُ ... وانْمِ القُتودَ على عَيْرانةٍ أجُدِ
كذا قال الزمخشري، وأبو الفضل، وردَّ عليهما أبو حيان: بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزة، أو التضعيف، لتعدَّى لاثنين؛ لأنه قبل ذلك متعد لواحد بنفسه، وقد أقرَّ الزمخشري بذلك؛ حيث قال:» يقال: عداهُ إذا جاوزه، وإنَّما عدِّي ب «عن» لتضمنه معنى علا، ونبا «فحينئذٍ يكون» أفْعلَ «و» فعَّل «ممَّا وافقا المجرَّد وهو اعتراضٌ حسنٌ.
فصل
يقال: عدَّاه، إذا جاوزه، ومنه قولهم: عدا طورهُ، وجاءني القومُ عدا زيداً؛ لأنَّها تفيد المباعدة، فكأنَّه تعالى نهى نبيَّه عن مباعدتهم، والمعنى: لا تزدري فقراء المؤمنين،(12/469)
ولا تثني عينيك عنهم؛ لأجل مجالسته الأغنياء.
ثم قال:» تُريدُ «جملة حالية، ويجوز أن يكون فاعل» تريدُ «المخاطب، أي: تريد أنت، ويجوز أن يكون ضمير العينين، وإنما وحِّد؛ لأنهما متلازمان يجوز أن يخبرَ عنهما خبر الواحد، ومنه قول امرئ القيس: [الهزج]
3509 - لِمَنْ زُحلوفَةٌ زُلُّ ... بِهَا العَيْنانِ تَنهَلُّ
وقول الاخر: [الكامل]
3510 - وكَأنَّ في العَيْنينِ حبَّ قَنْفُلٍ ... أو سُنْبُلاً كُحلَْ بِهِ فانهَلَّتِ
وفيه غير ذلك، ونسبة الإرادة إلى العينين مجازٌ، وقال الزمخشري:» الجملة في موضع الحال «قال أبو حيان:» وصاحبُ الحال، إن قدِّر «عَيْناكَ» فكان يكون التركيبُ: يريدان «. قال شهاب الدين: غفل عن القاعدة المتقدِّمة: من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يخبر عنهما إخبار الواحد، ثم قال:» وإن قدَّر الكاف، فمجيءُ الحال من المجرورِ بالإضافة نحو هذا فيه إشكالٌ؛ لاختلاف العامل في الحال، وذي الحال، وقد أجاز ذلك بعضهم، إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزءِ، وحسَّن ذلك أنَّ المقصود هو نهيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وإنما جيء بقوله «عَيْناكَ» والمقصود هو؛ لأنَّهما بهما تكونُ المراعاة للشخص والتلفُّتُ له «.
قال شهاب الدين: وقد ظهر لي وجهٌ حسنٌ، لم أر غيري ذكره: وهو أن يكون» تَعْدُ «مسنداً لضمير المخاطب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، و» عَيْناَ «بدلا من الضمير، بدل بعض من كل، و» تُرِيدُ «على وجهيها من كونها حالاً من» عَيْناكَ «أو من الضمير في» تَعْدُ «إلا أن في جعلها حالاً من الضمير في» ولا تعدُ «ضعفاً؛ من حيث إنَّ مراعاة المبدل منه بعد ذكر البدل قليلٌ جدًّا، تقول:» الجاريةُ حسنها فاتنٌ «ولا يجوز» فَاتِنةٌ «إلاَّ قليلاً، كقوله:
3511 - أ - فَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّراة كأنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْهِ مُعيَّنٌ بِسوَادِ
فقال: «مُعيَّنٌ» مراعاة للهاء في «كَأنَّه» وكان الفصيحُ أن يقول: «مُعيَّنانِ» مراعاة لحاجبيه الذي هو البدل.
فصل
{تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} ، أي تطلب مجالسة الأغنياء، والأشراف، وصحبة أهل الدنيا، ولما جاء أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين، نهاه عن الالتفات إلى قول الأغنياء والمتكبرين، فقال: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} يعني عيينة بن حصين، وقيل: أميَّة بن(12/470)
خلف، {واتبع هَوَاهُ} في طلب الشَّهوات {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} قال قتادة ومجاهد: ضياعاً.
وقيل: ندماً، وقال مقاتلٌ: سرفاً.
وقال الفراء: متروكاً.
وقيل: باطلاً.
وقال الأخفش: مجاوزاً للحدِّ.
قوله: «أغْفَلنَا قَلبَهُ» العامة على إسناد الفعل ل «ن» و «قلبهُ» مفعول به.
وقرأ عمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وموسى الأسواري بفتح اللام، ورفع «قَلبهُ» أسندوا الإغفال إلى القلب، وفيه أوجهٌ، قال ابن جنِّي: من ظنَّنا غافلين عنه. وقال الزمخشريُّ: «من حَسِبنَا قلبُه غافلينَ، من أغفلته، إذا وجدته غافلاً» . وقال أبو البقاء: فيه وجهان:
أحدهما: وجدها قلبه معرضين عنه.
والثاني: أهمل أمرنا عن تذكُّرنا.
قوله: «فرطاً» يحتمل أن يكون وصفاً على «فعل» كقولهم: «فَرسٌ فرط» ، أي: متقدِّمٌ على الخيل، وكذلك هذا، أي: متقدِّماً للحقِّ، وأن يكون مصدراً بمعنى التفريط، أو الإفراط، قال ابن عطيَّة: الفرط: يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتَّضييع، أي: أمرهُ الذي يجب أن يلزم، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف.
قال الليث: الفرط: الأمرُ الذي يفرط فيه، يقال: كلُّ أمر فلانٍ فرطٌ، وأنشد: [الهزج]
3511 - ب - لَقدْ كَلَّفْتنِي شَطَطَا ... وأمْراً خائباً فُرُطا
فصل
دلَّت هذه الآية على أنذَه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهَّال.
قالت المعتزلة: المراد بقوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} : وجدنا قلبه غافلاً، وليس المراد منه: خلق الغفلة.
ويدلُّ عليه ما روي عن عمرو بن معدي كرب الزبيديِّ أنَّه قال لبني سليم: «قَاتَلنَاكُمْ فَما أجَبْنَاكُمْ، وسَألناكُمْ فَما أبْخَلْناكُمْ، وهَجرْنَاكُمْ فمَا أفْحَمناكُمْ» أي ما وجدناكم جبناء، ولا بخلاء، ولا مفحمين.(12/471)
وحمل اللفظ على هذا المعنى أولى؛ لوجوه:
الأول: لو كان كذلك، لما استحقُّوا الذمَّ.
الثاني: أنه قال بعد هذه الآية {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه، لما صحَّ ذلك.
الثالث: أنه لو خلق الغفلة في قلبه، لوجب أن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، فاتبع هواهُ؛ لأن على هذا التقدير: يكون ذلك من أفعالش المطاوعة، وهي إنما تعطف بالفاءِ، لا بالواو، يقال: كسرتهُ، فانكسر، ودفعته فاندفع، ولا يقال: وانكسر، واندفع.
الرابع: قوله: {واتبع هَوَاهُ} فلو أغفل قلبهم في الحقيقة، لم يجز أن يضاف ذلك إلى {واتبع هَوَاهُ} .
والجواب عن الأول من وجهين:
الأول: أن الاشتراك خلاف الأصل، فوجب أن يكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر، وجعله حقيقة ف يالتكوين، مجازاً في الوجدان أولى من العكس؛ لوجوه:
أحدها: مجيءُ بناءِ الأفعال بمعنى التَّكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان، والكثرة دليلٌ على الرُّجحان.
وثانيها: أن مبادرة الفهم من هذا البناءِ إلى التَّكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان، ومبادرة الفهم دليل الرجحان.
وثالثها: إنَّ جَعْلَنا إيَّاه حقيقة في التكوين أمكن من جعله مجازاً عن الوجدان؛ لأنَّ العلم بالشيء تابعٌ لحصول المعلوم، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوعِ مجازاً في التَّبع موافقٌ للمعقول، أمَّا لو جعلناه حقيقة ف يالوجدان، مجازاً في الإيجاد، لزم جعله حقيقة في التَّبع مجازاً في الأصل، وهو عكسُ المعقول.
والوجه الثاني من الجواب: سلَّمنا كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان، إلاَّ أنَّا نقول: يجب حمل قوله: «أغْفَلْنَا» على إيجاد الغفلة؛ لأنَّ الدليل دلَّ على أنَّه يمتنع كون العبدُ موجداً للغفلة في نفسه؛ لأنَّه إذا حاول إيجاد الغفلة، فإمَّا أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة، أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معيَّن، والأول باطلٌ، وإلاَّ لم يكن حصول الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن يحصل له الغفلة عن شيءٍ آخر؛ لأنَّ الطبيعة المشتركة فيها بين الأنواعِ الكثيرةِ تكون نسبتها إلى كلِّ تلك [الأنواع] على السويَّة.
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ الغفلة عبارةٌ عن غفلة لا تمتاز عن سائر الأقسام، إلاَّ(12/472)
بكونها منتسبة غلى ذلك الشيء المعيَّن بعينه، فعلى هذا: لا يمكن أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا، إلاَّ إذا تصوَّر العلم أن كون تلك الغفلة غفلة عن كذا، ولا يمكنه أن يتصوَّر تلك الغفلة غفلة عن كذا إلاَّ إذا تصوَّر كذا؛ لأنَّ العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروطٌ بتصوُّر كلِّ واحد من المنتسبين؛ فثبت أنَّه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة، إلاَّ عند الشعور بكذا، لكن الغفلة عن كذا ضدُّ الشعور بكذا؛ فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة إلاَّ عند اجتماع الضدين، وذلك محالٌ، والموقوف على المحال محالٌ، فثبت أنَّ العبد غير قادرٍ على إيجاد الغفلة؛ فوجب أن يكون خالقُ الغفلة وموجدها في العباد هو الله تعالى، وأما المدحُ والذمُّ فمعارضٌ بالعلم والدَّاعي، وقد تقدَّم.
وأما قوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى.
وأما قولهم: لو كان المراد إيجاد الغفلة، لوجب ذكر الفاء، فهذا إنَّما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتِّباع الشَّهوة والهوة، كما أن الكسر من لوازمه حصول الانكسار، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى؛ لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله، ولا يتَّبع الهوى، بل يبقى متوقِّفاً حيراناً مدهوشاً خائفاً.
وذكر القفَّال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً:
أحدها: أنه تعالى، لما صبَّ عليهم الدنيا صبًّا، وأدَّى ذلك إلى حصول الغفلة في قلوبهم، صحَّ أن يقال: إنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم، كقوله تعالى: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَارا} [نوح: 6] .
وثانيها: أن معنى {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} أي: تركناه، فلم نسمهُ بسمةِ أهل الطَّهارة والتقوى.
وثالثها: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} أي خلاَّه مع الشيطان، ولم يمنعه منه. والجواب عن الأول: أنَّ فتح أبواب لذَّات الدنيا عليه، هل يؤثِّر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر؟ فإن أثر، كان أثر إيصال اللذَّات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه، وذلك عينُ القول بأنه فعل الله، أي: فعل ما يوجب الغفلة في قلبه، وإن لم يؤثِّر في حصول الغفلة، فبطل إسناده غليه، وعلى الثاني وهو أنَّه بمعنى تركناه فهو لا يفيدُ إلاَّ ما ذكرناه.
وعن الثالث: إن كانت للتَّخلية؛ بمعنى حصول تلك الغفلة، فهو قولنا، وإلاَّ بطل إسناد تلك الغفلة إلى الله تعالى.
قوله تعالى: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ} الآية.(12/473)
في تقرير النَّظم وجوهٌ:
الأول: أنه تعالى، لمَّا أمر رسوله ألا يلتفت إلى قول الأغنياء، قال: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ} الآية أي: قل لهؤلاء: هذا الدِّين الحق من عند الله تعالى، فإن قبلتموه، عاد النَّفع عليكم، وإن لم تقبلوهُ، عاد الضَّرر إليكم، ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى.
والثاني: أنَّ المراد أنَّ الحقَّ ما جاء من عند الله، والحقَّ الذي جاءنا من عنده أن أصير نفسي مع هؤلاء الفقراء، ولا أطردهم، ولا ألتفت إلى الرؤساء، [ولا أنظر إلى] أهل الدنيا.
والثالث: أن يكون المراد هو أنَّ الحقَّ الذي جاء من عند الله {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} وأنَّ الله تعالى لم يأذن في طرد أحدٍ ممَّن آمن وعمل صالحاً؛ لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار.
فإن قيل: أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهمِّ، وطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلاَّ سقوط حرمتهم، وهذا ضررٌ قليلٌ.
وأما عدم طردهم، فإنَّه يوجبُ بقاء الكفَّار على الكفر] ، لكن من ترك الإيمان؛ حذراً من مجالسة الفقراء، فإنَّ إيمانهُ ليس بإيمان، بل هو نفاقٌ؛ فيجب على العاقل ألاَّ يلتفت إلى من هذا حاله.
الرابع: قل يا محمد للَّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: يا أيُّها الناس، من ربكم الحقُّ، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضَّلال، ليس إليَّ من ذلك شيءٌ، وقد بعثتُ إلى الفقراءِ والأغنياء {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} وهذا على طريق التهديد والوعيد، كقوله {اعملوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40] والمعنى: لست بطارد المؤمنين لهواكم، فإن شئتم، فآمنوا، وإن شئتم، فاكفروا.
قال ابن عبَّاس: معنى الآية: من شاء الله له الإيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر.
فصل
قالت المعتزلة: هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الإيمان والكفر والطاعة والمعصية باختيار العبد.
قال ابن الخطيب: وهذه الآية من أقوى الدَّلائلِ على صحَّة مذهب أهل السُّنَّة؛ لأنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ حصول الإيمان، وحصول الكفر موقوفان على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر، وصريح العقل يدلُّ على أنَّ الفعل الاختياريَّ يمتنع حصوله بدون القصد إليه، وبدون الاختيار.(12/474)
وإذا عرفت هذا، فنقول: حصول ذلك القصد والاختيار، إن كان بقصدٍ آخر يتقدَّمه، لزم أن يكون كلُّ قصدٍ واختيارٍ مسبوقاً بقصدٍ آخر، واختيارٍ آخر إلى غير نهاية، وهو محالٌ؛ فوجب انتهاء ذلك القصد والاختيار إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة، وعند حصول ذلك القصد الضروريِّ، والاختيار الضروريِّ، يجب الفعل؛ فالإنسان شاء أو لم يشأ، فإنه تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعاصي، وإذا حصلت تلك المشيئةُ الجازمةُ، فشاء أو لم يشأ، يجب حصول الفعل، فالإنسان مضطرٌّ في صورة مختار.
فصل
دلَّت الآية على أنَّ صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والدَّاعي محالٌ، وعلى أنَّ صيغة الأمر لا لمعنى الطَّلب في كتاب الله كثيرةٌ.
قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هذه الصيغة تهديدٌ ووعيدٌ، وليست تخييراً.
ودلَّت أيضاً على أنَّه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين، ولا يتضرر بكفر الكافرين، بل نفع الإيمان يعود عليهم، وضرر الكفر يعود عليهم؛ لقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَ} [الإسراء: 7] .
قوله: {وَقُلِ الحق} : يجوز فيه ثلاثة أوجه:
الأول: أنه خبر لمبتدأ مضمرٍ، أي: هذا، [أي] القرآن، أو ما سمعتم الحقُّ.
الثاني: أنه فاعل بفعلٍ مقدرٍ، دلَّ عليه السياقُ، أي: جاء الحق، كما صرَّح به في موضع آخر [في الآية 81 من الإسراء] ، إلاَّ أنَّ الفعل لا يضمر إلاَّ في مواضع تقدَّم التنبيه عليها، منها: أن يجاب به استفهام، أو يردَّ به نفي، أو يقع بعد فعلٍ مبني للمفعول، لا يصلح إسناده لما بعده؛ كقراءة: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36] كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
الثالث: أنه مبتدأ، وخبره الجار بعده.
وقرأ أبو السمال قعنب: «وقُلُ الحقَّ» بضم اللام؛ حيث وقع، كأنه إتباعٌ لحركة القاف، وقرأ أيضاً بنصب «الحقَّ» قال صاحب «اللَّوامح» : «هو على صفة المصدر المقدَّر؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على مصدره، وإن لم يذكر، فينصبه معرفة، كما ينصبه نكرة، وتقديره: وقل القول الحقَّ، وتعلق» مِنْ «بمضمرٍ على ذلك، أي: جاء من ربكم» انتهى.
وقرأ الحسن والثقفي بكسر لامي الأمر، في قوله: «فليُؤمِنْ» و «فَليَكْفُرْ» وهو الأصل.(12/475)
قوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن} يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، والفاء لشبهه بالشرط، وفاعل «شَاءَ» : الظاهر أنه ضمير يعود على «مَنْ» وقيل: ضمير يعود على الله، وبه فسَّر ابن عباس، والجمهور على خلافه.
قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} أعددنا وهيَّأنا، من العتاد، ومن العدَّة {لِلظَّالِمِينَ} للكافرين، أي: لمن ظلم نفسه، ووضع العبادة في غير موضعها.
واعلم أنَّه تعالى، لمَّا وصف الكفر والإيمان، والباطل والحق، أتبعه بذكر الوعيد على الكفر، وبذكر الوعد على الإيمان، والعمل الصَّالح.
قوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} في محل نصبٍ، صفة ل «ناراً» والسُّرادِقُ: قيل: ما أحاط بشيءٍ، كالمضرب والخباءِ، وقيل للحائط المشتمل على شيء: سُرادق، قاله الهوريّ، وقيل: هو الحجرة تكون حول الفسطاطِ، وقيل: هو ما يمدُّ على صحنِ الدار، وقيل: كل بيتٍ من كرسفٍ، فهو سرادق، قال رؤبة: [الرجز - السريع]
3512 - يَا حكمُ بْنَ المُنذِرِ بْنِ الجَارُودْ ... سُرَادِقُ المَجْدِ عَليْكَ مَمدُودْ
ويقال: بيت مسردقٌ، قال الشاعر: [الطويل]
3513 - هو المُدخِلُ النُّعْمانَ بيْتاً سَماؤهُ ... صُدورُ الفُيولِ بعد بيتِ مُسرْدَقِ
وكان أبرويز ملك الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أرجُلِ الفيلةِ، والفيول: جمع فيلٍ، وقيل: السُّرادقُ: الدِّهليزُ، قال الفرزدق: [الطويل]
3514 - تَمنَّيْتهُمْ حتَّى إذا مَا لَقِيتَهُم ... تَركْتَ لَهُم قَبْلَ الضِّرابِ السُّرادِقَا
والسُّرادِقُ: فارسي معرب، أصله: سرادة، قاله الجواليقيُّ، وقال الراغب: «السُّرادِقُ فارسيٌّ معربٌ، وليس في كلامهم اسم مفرد، ثالث حروفه ألفٌ بعدها حرفان» .
فصل
أثبت تعالى للنَّار شيئاً شبيهاً بالسرادقِ تحيط بهم من سائرِ الجهاتِ، والمراد: أنهم لا مخلص لهم فيها، ولا فُرجة، بل هي محيطة بهم من كلِّ الجوانب.
وقيل: المراد بهذا السُّرادق الدخان الذي وصفه الله تعالى في قوله: {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَب} [المرسلات: 30] .(12/476)
وقالوا: هذه الإحاطة بهم إنَّما تكون قبل دخولهم، فيحيط بهم هذا الدخان كالسرادق حول الفسطاط.
وروى أبو سعيد الخدريُّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «سُرادِقُ النَّارِ أربعةُ جُدُرٍ، كِثفُ كلِّ جدارٍ مَسِيرةُ أرْبعِينَ سنةً» .
وقال ابن عبَّاس: السُّرادِقُ حائط.
قوله: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} ، أي: يطلبوا الغوث، والياء عن واوٍ؛ إذ الأصل: يستغوثوا، فقلبت الواو ياء كما تقدم في قوله:
{نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 2] وهذا الكلام من المشاكلة والتَّجانس، وإلاَّ فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم؛ كقوله: [الوافر]
3515 - ... ... ... ... ... ... تَحِيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وجيعُ
وهو كثيرٌ.
وقوله: «كالمُهْل» صفة ل «ماء» والمهلُ: دُرْدِيُّ الزيت، وقيل: ما أذيب من الجواهر كالنحاس والرصاص والذهب والفضة.
وعن ابن مسعود أنَّه دخل بيت المال، وأخرج ذهباً وفضة كانت فيه، وأوقد عليها، حتَّى تلألأتْ، وقال: هذا هو المهل.
وقيل: هو الصَّديد والقيح.
وقيل: ضرب من القطران، والمَهَل بفتحتين: التُّؤدَةُ والوَقارُ، قال: {فَمَهِّلِ الكافرين} [الطارق: 17] .
قوله: «يَشوي الوجوه» يجوز أن تكون الجملة صفة ثانية، وأن تكون حالاً من «ماء» لأنه تخصَّص [بالوصف] ، ويجوز أن تكون حالاً من الجارِّ، وهو الكاف.
والشَّيءُ: الإنضاجُ بالنار من غير مرقةٍ، تكون مع ذلك الشيء المشويِّ.
فصل
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «بِماءِ كالمُهْلِ» قال: كعكر الزَّيت، فإذا(12/477)
قرِّب إليه، سقطت فروة وجهه فيه.
وسئل ابن مسعود عن المهل، فدعا بذهب وفضة، فأوقد عليهما النَّار، حتَّى ذابا، ثم قال: هذا أشبه شيءٍ بالمهل.
قيل: إذا طلبوا ماء للشُّرب، فيعطون هذا المهل.
قال تعالى: {تصلى نَاراً حَامِيَةً تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 4، 5] .
وقيل: إنَّهم يستغيثون من حرِّ جهنَّم، فيطلبون ماء يصبونه على وجوههم للتبريد، فيعطون هذا الماء؛ كما حكى عنهم قولهم: {أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء} [الأعراف: 50] .
قوله: {بِئْسَ الشراب} المخصوص محذوف، تقديره: هو، أي: ذلك الماء المستغاث به.
قوله: {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} «ساءت» هنا متصرفة على بابها، وفاعلها ضمير النار، ومرتفقاً تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية، أي: ساء، وقبح مرتفقها. والمُرتَفقُ: المُتَّكأ ومنه سمي المرفق مرفقاً؛ لأنه يتكأ عليه، وقيل: المنزل قاله ابن عبَّاس.
وقال مجاهد: مجتمعاً للرُّفقة؛ لأنَّ أهل النَّار يجتمعون رفقاء، كما يجتمع أهل الجنَّة رفقاء.
فأمَّا رفقاء أهل الجنَّة، فهم الأنبياءُ والصِّديقُون والشُّهداء والصالحون {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] .
وأما رفقاء النَّار، فهم الكفَّار والشَّياطين، أي: بئسَ الرفقاءُ هؤلاءِ، وبئس موضعُ الترافق النَّار، كما أنه نعم الرفقاءُ أهل الجنَّة، ونعم موضع الرفقاء الجنَّة، قاله ابن عباس وقيل: هو مصدر بمعنى الارتفاق، وقيل: هو من باب المقابلة أيضاً؛ كقوله في وصف الجنة بعد: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 31] ، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري: إلا أن يكون من قوله: [البسيط](12/478)
3516 - إنِّي أرِقْتُ قَبِتُّ اللَّيْلَ مُرتفِقاً ... كَأنَّ عينيَّ فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
فهو يعني من باب التَّهكُّم.(12/479)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
لما ذكر وعيد المبطلين، أردفه بوعد المحقِّين، وهذه الآية تدل على أنَّ العمل الصالح مغايرٌ للإيمان؛ لأنَّ العطف يوجب المغايرة.
قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} : يجوز أن يكون خبر «إنَّ الَّذينَ» والرابط: إمَّا تكرر الظاهر بمعناه، وهو قول الأخفش، ومثله في الصلة جائزٌ، ويجوز أن يكون الرابط محذوفاً، أي: منهم، ويجوز أن يكون الرابط العموم، ويجوز أن يكون الخبر قوله: {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ} ويكون قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} اعتراضاً، قال ابن عطية: ونحوه في الاعتراض قوله: [البسيط]
3517 - إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ الله ألبَسهُ ... سِربَالَ مُلكٍ بهِ تُزْجَى الخَواتِيمُ
قال أبو حيَّان: ولا يتعيَّنُ أن يكون «إنَّ الله ألبسَهُ» اعتراضاً؛ لجواز أن يكون خبراً عن «إنَّ الخليفة» . قال شهاب الدين: وابن عطيَّة لم يجعل ذلك معيَّناً بل ذكر أحد الجائزين فيه، ويجوز أن تكون الجملتان - أعني قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} وقوله {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ} - خبرين ل «إنَّ» عند من يرى جواز تعدد الخبر، وإن لم يكونا في معنى خبر واحد.
وقرأ الثقفيُّ «لا نُضيِّعُ» بالتشديد، عدَّاه بالتشديد، كما عدَّاه الجمهور بالهمزة.
وقيل: ولك أن تجعل «أولئك» كلاماً مستأنفاً بياناً للأجرِ المبهمِ.
فصل
قال ابن الخطيب: قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} ظاهره يقتضي أنَّه(12/479)
استوجب المؤمن على الله بحسن عمله أجراً، وعندنا الاستيجاب حصل بحكم الوعد. وعند المعتزلة: بذات الفعل، وهو باطلٌ؛ لأنَّ نعم الله كثيرةٌ، وهي موجبةٌ للشكر والعبوديَّة، فلا يصير الشُّكر والعبودية بموجبٍ لثوابٍ آخر؛ لنَّ أداء الواجب لا يوجبُ شيئاً آخر.
واعلم أنَّه تعالى، لمَّا أثبت الأجر المبهم، أردفه بالتفصيل، فبيَّن أولاً صفة مكانهم، فقال: {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} والعدنُ في اللغة عبارة عن الإقامة، يقال: عدن بالمكان، إذا أقام به، فيجوز أن يكون المعنى: أولئك لهم جنات إقامة [كما يقال: دار إقامة]
ويجوز أن يكون العدن اسماً [الموضع] معيَّن في الجنَّة، وهو وسطها.
وقوله: «جنَّاتُ» اسم مع، فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ثم قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] ويمكن أ، يكون المراد نصيب كلِّ واحدٍ من المكلَّفين جنَّة على حدةٍ، ثم ذكر أنَّ من صفات تلك الجنات أنَّ الأنهار تجري من تحتها، وذلك لأنَّ أحسن مساكن الدنيا البساتين التي تجري فيها الأنهار، ثمَّ ذكر ثانياً أنَّ لباسهم فيها ينقسم قسمين: لباسُ التستُّر، ولباس التحلِّي.
فأمَّا لباس التحلِّي فقال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} فقيل: على كلِّ واحد منهم ثلاثة أسورة: سوارٌ من ذهبٍ لهذه الآية، وسوار من فضَّة؛ لقوله:
{وحلوا
أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] ، وسوار من لؤلؤ؛ لقوله {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] .
وأمَّا لباسُ التستُّر، فلقوله: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} .
فالأول: هو الدِّيباجُ الرَّقيق.
والثاني: هو الديباجُ الصَّفيق.
وقيل: أصله فارسيٌّ معرَّبٌ، وهو «إستبره» : أي غليظٌ.
قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ} : في «مِنْ» هذه أربعة أوجه:
الأوّل: أنها للابتداءِ.
والثاني: أنها للتبعيض.
والثالث: أنها لبيان الجنس، أي: أشياء من أساور.
والرابع: أنها زائدة عند الأخفش؛ ويدلُّ عليه قوله: {وحلوا أَسَاوِرَ} [الإنسان: 21] . [ذكر هذه الثلاثة الأخيرة أبو البقاء] .
وأساور جمع أسورةٍ، [وأسْوِرَة] جمع سِوار، كحِمار وأحْمِرة، فهو جمع الجمع. وقيل: جمع إسوارٍ، وأنشد: [الرجز](12/480)
3518 - واللهِ لَوْلاَ صِبْيَةٌ صِغَارُ ... كَأنَّمَا وجُوهُهمْ أقْمَارُ
أخَافُ أنْ يُصِيبَهُمْ إقْتَارُ ... أو لاطِمٌ ليْسَ لهُ إسْوَارُ
لمَّا رَآنِي مَلِكٌ جَبَّارُ ... بِبَابهِ مَا طَلَعَ النَّهارُ
وقال أبو عبيدة: هو جمع «إسوارٍ» على حذف الزيادة، وأصله أساوِيرُ.
وقرأ أبان، عن عاصم «أسْوِرَة» جمع سوارٍ، وستأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف [الزخرف: 30] هاتان القراءتان في المتواتر، وهناك يذكر الفرق إن شاء الله تعالى.
والسِّوارُ يجمع في القلَّة على «أسْوِرَةٍ» وف يالكثرة على «سُورٍ» بسكون الواو، وأصلها كقُذلٍ وحُمرٍ، وإنما سكنت؛ لأجل حرف العلَّة، وقد يضمُّ في الضرورة، قال: [السريع]
3519 - عَنْ مُبرِقاتٍ بالبُرِينِ وتَبْ ... دُو في الأكُفِّ اللامعاتِ سُورْ
وقال أهل اللغة: السِّوارُ: ما جعل في الذِّراعِ من ذهبٍ، أو فضَّة، أو نحاسٍ، فإن كان من عاج، فهو قلبٌ.
قوله: «مِنْ ذهبٍ» يجوز أن تكون للبيان، أو للتبعيض، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ؛ صفة لأساور، فموضعه جرٌّ، وأن تتعلق بنفس «يُحلَّوْنَ» فموضعها نصبٌ.
قوله: «ويَلْبَسُونَ» عطف على «يُحلَّوْن» وبني الفعل في التحليةِ للمفعول؛ إيذاناً بكرامتهم، وأنَّ غيرهم يفعل بهم ذلك ويزيِّنهم به، كقول امرئ القيس: [الطويل]
3520 - عَرائِسُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمَةٍ ... يُحلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفقَّرا
اللِّبس، فإنَّ الإنسان يتعاطاه بنفسه، وقدِّم التَّحلِّي على اللباس؛ لأنه أشهى للنَّفس.
وقرأ أبان عن عاصم «ويَلْبِسُونَ» بكسر الباء. {مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} «مِنْ» لبيانِ الجنس، وهي نعتٌ لثياب.
والسُّندسُ: ما رقَّ من الدِّيباج، والإستبرق: ما غلظ منه وعن أبي عمران الجونيِّ اقل: السُّندسُ: هو الديباجُ المنسوج بالذَّهب، وهما جمعُ سندسةٍ وإستَبْرقةٍ، وقيل: ليسا جمعين، وهل «إسْتَبْرق» عربيُّ الأصل، مشتقٌّ من البريق، أو معرب أصله إستبره؟ خلاف بين اللغويين. وقيل: الإستبرق اسم للحرير وأنشد للمرقش: [الطويل](12/481)
3521 - تَراهُنَّ يَلبَسْنَ المشَاعِر مرَّةً ... وإسْتَبْرَقُ الدِّيباجِ طَوراً لِباسُهَا
وهو صالحٌ لما تقدَّم، وقال ابن حجرٍ: «الإستبرقُ: ما نسج بالذَّهب» .
ووزن سُنْدسٍ: فُعْلُلٌ، ونونه أصليةٌ.
وقرأ ابن محيصن «واستبرق» بوصل الهمزة وفتح القافِ غير منونة، فقال ابن جنِّي: «هذا سهوٌ، أو كالسَّهو» قال شهاب الدين: كأنه زعم أنَّه منعه الصَّرف، ولا وجه لمنعه؛ لأنَّ شرط منع الاسم الأعجمي: أن يكون علماً، وهذا اسم جنسٍ، وقد وجَّهها غيره على أنه جعلها فعلاً ماضياً من «البريق» و «استَفْعَلَ» بمعنى «فعل» المجرد؛ نحو: قرَّ، واستقرَّ. وقال الأهوازيُّ في «الإقناعِ» : «واسْتَبْرَقَ بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه» وظاهر هذا أنه اسم، وليس بفعلٍ، وليس لمنعه وجه؛ كما تقدَّم عن ابن جنِّي، وصاحب «اللوامح» لمَّا ذكر وصل الهمزة، لم يزد على ذلك، بل نصَّ على بقائه منصرفاً، ولم يذكر فتح القاف أيضاً، وقال ابنُ محيصنٍ: «واسْتَبْرَق» بوصل الهمزة في جميع القرآن، فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً؛ على غير قياسٍ، ويجوز أنَّه جعله عربيًّا من بَرِق يبرقُ بريقاً، ووزنه استفعل، فلمَّا سمِّي به، عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة، ومعاملة التمكين من الأسماء في الصَّرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنَّه عربية، وليس بمستعربٍ، دخل في كلامهم، فأعربوه «.
قوله:» مُتَّكئين «حالٌ، والأرائِكُ: جمع أريكةٍ، وهي الأسرَّة، بشرط أن تكون في الحجالِ، فإن لم تكن لم تسمَّ أريكة، وقيل: الأرائكُ: الفرشُ في الحجالِ أيضاً، وقال الراغب:» الأريكةُ: حجلة على سريرٍ، فتسميتها بذلك: إمَّا لكونها في الأرض متَّخذة من أراك، أو من كونها مكاناً للإقامة؛ من قولهم: أَرَكَ بالمكانِ أروكاً، وأصل الأروكِ الإقامة على رعي الأرَاكِ، ثم تجوز به في غيره من الإقامات «.
وقرأ ابن محيصن» عَلَّرائِكِ «وذلك: أنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف، فالتقى مثلان: لام» على «- فإنَّ ألفها حذفت؛ لالتقاء الساكنين - ولام التعريف، واعتدَّ بحركة النقل، فأدغم اللام في اللام؛ فصار اللفظ كما ترى، ومثله قول الشاعر: [الطويل]
3522 - فَمَا أصْبحَتْ عَلَّرْضِ نفسٌ بَريئةٌ ... ولا غَيْرُهَا إلاَّ سُليْمَانُ نَالهَا
يريد» عَلَى الأرض «وقد تقدَّم قراءة قريبة من هذه أوَّل البقرة:» بما أنزِلَّيكَ «، أي:(12/482)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
قوله: نعم الثواب» أي: نعم الجزاء.
قوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} مجلساً، ومقرّاً، وهذا في مقابلة قوله: {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29] .
قوله
تعالى
: {واضرب
لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} الآية.
وجه النَّظم أن الكفار، لمَّا افتخرُوا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين، بيَّن الله تعالى أنَّ ذلك ممَّا لا يوجب الافتخار، لاحتمال أن يصير الغنيُّ فقيراً، والفقير غنيًّا، وأما الذي تجبُ المفاخرةُ به فطاعة الله وعبادته، وهي حاصلةٌ لفقراءِ المسلمين، وبيَّن ذلك بضرب هذا المثل؛ فقال: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} أي: مثل حال الكافرين والمؤمنين كحال رجلين، وكانا أخوين في بني إسرائيل: أحدهما: كافرٌ، واسمه [براطوس] ، والآخر: مؤمنٌ، اسمه يهوذا، قاله ابن عباس.
وقال مقاتل: اسم المؤمن تمليخا، واسم الكافر قطروس.
وقيل: قطفر، وهما المذكوران في سورة «الصافات» في قوله تعالى: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} [الصافات: 51، 52] على ما رواه عبد الله بن المبارك عن معمَّرٍ عن عطاءٍ الخراسانيِّ، قال: كانا رجلين شريكين، لهما ثمانية آلافِ دينارٍ.
وقيل: كانا أخوين، وورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينارٍ، فأخذ كلُّ واحدٍ منهما(12/483)
أربعة آلاف دينارٍ، فاشترى الكافر أرضاً بألفٍ، فقال المؤمن: اللَّهم، إنَّ أخي اشترى أرضاً بألف، وإنِّي أشتري منك أرضاً بألف في الجنَّة، فتصدَّق به.
ثم [بنى] أخوه داراً بألف، فقال المؤمن: اللَّهم، إني أشتري منك داراً بألف في الجنَّة، فتصدق به.
ثم تزوج أخوه امرأة بألف، فقال المؤمن: اللَّهم، إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين، وتصدَّق به.
ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف دينار، فقال المؤمن: اللهم، إنِّي اشتريتُ منك الولدان بألف، فتصدَّق به، ثم أحاجه، أي: أصابه حاجةٌ، فجلس لأخيه على طريقه، فمرَّ به في خدمه وحشمه، فتعرَّض له، فقال: فلانٌ؟! قال: نعم، قال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجةٌ بعدك، فأتيتك لتصيبني بخير، قال: ما فعل مالك، وقد اقتسمنا المال [سويَّة] ، فأخذت شطره؟ فقصَّ عليه قصَّتهُ، قال: إنَّك لمن المصدِّقين، اذهب، فلا أعطيك شيئاً.
وقيل: نزلتْ في أخوين من أهل مكَّة من بني مخزوم، أحدهما: مؤمنٌ، وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل، وكان زوج أمِّ سلمة قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والآخر كافرٌ، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل.
قوله: {رَّجُلَيْنِ} : قد تقدم أنَّ «ضرب» مع المثل، يجوز أن يتعدى لاثنين في سورة البقرة، وقال أبو البقاء: التقدير: مثلاً مثل رجلين، و «جَعلْنَا» تفسير ل «مَثَل» فلا موضع له، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً ل «رَجُليْنِ» كقولك: مررتُ برجلين، جعل لأحدهما جنَّةٌ.
قوله: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} يقال: حفَّ بالشيء: طاف به من جميع جوانبه، قال النابغة: [البسيط]
3523 - يَحُفُّهُ جَانِبَا نِيقٍ وتُتْبِعُهُ ... مِثلُ الزُّجاجةِ لمْ تُكْحَلْ من الرَّمدِ
وحفَّ به القوم: صاروا طائفين بجوانبه وحافَّته، وحففته به، أي: جعلته مطيفاً به.
والحِفاف: الجانبُ، وجمعه أحِفَّةٌ، والمعنى: جعلنا حول الأعناب النَّخْل.
قال الزمخشريُّ: وهذه الصفة ممَّا يؤثرها الدَّهاقين في كرومهم، وهو أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة، وهو أيضاً حسنٌ في [المنظر] .(12/484)
قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} قيل: كان الزَّرع في وسط الأعناب، وقيل: كان الزَّرْع بين الجنَّتين، أي: لم يكن بين الجنتين موضعٌ خالٍ.
والمقصود منه أمورق:
الأول: أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه.
والثاني: أن تكون متَّسعة الأطراف، متباعدة الأكناف، ومع ذلك، لم يتوسَّطها ما يقطع بعضها عن بعض.
والثالث: أنَّ مثل هذه الأرض تأتي كلَّ [يوم] بمنفعةٍ أخرى، وثمرة أخرى فكانت منافعها دارّة متواصفة.
قوله: {كِلْتَا الجنتين} : قد تقدَّم في السورة قبلها [الإسراء: 23] حكم «كلتا» وهي مبتدأ، و «آتتْ» خبرها، وجاء هنا على [الكثير: وهو] مراعاةُ لفظها، دون معناها.
وقرأ عبد الله - وكذلك في مصحفه - «كِلا الجنَّتَيْنِ» بالتذكير؛ لأنَّ التأنيث مجازي، ثم قرأ «آتتْ» بالتأنيث؛ اعتباراً بلفظ «الجَنَّتين» فهو نظير «طَلعَ الشَّمسُ، وأشْرقَتْ» . وروى الفراء عنه قراءة أخرى: «كُلُّ الجنَّتينِ أتَى أكُلَهُ» أعاد الضمير على اللفظ «أكل» .
واعلم أنَّ لفظ «كل» اسمٌ مفردٌ معرفة يؤكَّد به مذكَّران معرفتان، و «كِلْتَا» اسمٌ مفردٌ معرفة يؤكَّد به مؤنثان معرفتان، وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة؛ كقولك: «جَاءنِي كِلاَ أخَويْكَ، ورَأيْتُ كِلاَ أخَويْكَ، ومَررْتُ بِكلا أخَويْكَ، وجَاءنِي كِلْتَا أخْتَيْكَ، ورأيْتُ كِلْتَا أخْتَيْكَ، ومَرَرْتُ بِكلْتَا أخْتيْكَ» ، وإذا أضيفا إلى المضمر، كانا في الرَّفع بالألف، وفي الجر والنَّصب بالياءِ، وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً.
فصل
ومعنى {آتَتْ أُكُلَهَا} أعطت كلُّ واحدةٍ من الجنتين {أُكُلَهَا} ثمرها تامًّا، {وَلَمْ تَظْلِمِ} لم تنقص، {مِّنْهُ شَيْئاً} والظُّلم: النقصان، يقول الرَّجُل: ظلمنِي حقِّي، أي: نقصنِي.
قوله: «وفجَّرنَا» العامة على التشديد، وإنما كان كذلك، وهو نهرٌ واحدٌ مبالغة فيه، وقرأ يعقوب، وعيسى بن عمر بالتخفيف، وهي قراءة الأعمش في سورة القمر [القمر: 12] ، والتشديد هناك أظهر لقوله «عُيُوناً» .(12/485)
والعامة على فتح هاء «نهر» وأبو السَّمال والفيَّاض بسكونها.
قوله: {وَكَانَ لَهُ} أي: لصاحب البستان.
قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} : قد تقدَّم الكلام فيه في الأنعام [الأنعام: 99] ، وتقدَّم أنَّ «الثُّمُرَ» بالضمِّ المال، فقال ابن عباس: جميع المال من ذهبٍ، وفضةٍ، وحيوانٍ، وغير ذلك، قال النابغة: [البسيط]
3524 - مَهْلاً فِداءً لَكَ الأقْوامُ كُلُّهمُ ... ومَا أثمِّرُ من مالٍ ومِنْ وَلدِ
وقال مجاهد: هو الذهبُ والفضَّة خاصة.
«فقال» يعني صاحب البستان «لصاحبه» أي المؤمن.
«وهو يُحَاوِرهُ» أي: يخاطبه وهذه جملة حاليَّة مبيِّنةٌ؛ إذ لا يلزم من القول المحاورةُ؛ إذ لمحاورة مراجعة الكلام من حار، أي: رجع، قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الإنشقاق: 14] . وقال امرؤ القيس: [الطويل]
3525 - ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئهِ ... يَحُورُ رَماداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ
ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل، أو من المفعول.
قوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} .
والنَّفَرُ: العشيرة الذين يذبُّون عن الرجل، وينفرون معه، وقال قتادة: حشماً، وخدماً.
وقال مقاتلٌ: ولداً تصديقه قوله: {أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف: 39] .
قوله: {جَنَّتَهُ} : إنما أفرد بعد ذكر التثنية؛ اكتفاء بالواحد للعلمِ بالحال، قال أبو البقاء: كما اكتفى بالواحد عن الجمع في قول الهذليِّ: [الكامل]
3526 - فَالعيْنُ بَعدهُم كَأنَّ حِداقهَا ... سُمِلتْ بِشوْكِ فهي عُورٌ تَدْمَعُ
ولقائلٍ أن يقول: إنما يجوز ذلك؛ لأنَّ جمع التكسير يجري مجرى المؤنَّثة، فالضمير في «سُمِلَتْ» وفي «فهي» يعود على الحداقِ، لا على حدقةٍ واحدة، كما يوهم.(12/486)
وقال الزمخشري: «فإن قلت: لم أفرد الجنَّة، بعد التثنية؟ قلت: معناه: ودخل ما هو جنَّتهُ، ما له جنة غيرها، بمعنى: أنه ليس له نصيب في الجنة الَّتي وعد المتَّقون، فما ملكه في الدنيا، فهو جنَّته، لا غير، ولم يقصد الجنتين، ولا واحدة منهما» .
فصل
قال أبو حيان: «ولا يتصوَّر ما قال؛ لأنَّ قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} إخبار من الله تعالى بأنَّ هذا الكافر دخل جنَّته، فلا بدَّ أن قصد في الإخبار: أنه دخل إحدى جنتيه؛ إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقتٍ واحدٍ» . قال شهاب الدين: من ادَّعى دخولهما في وقتٍ واحدٍ، حتَّى يلزمه بهذا المستحيلِ في البداية؟ وأمَّا قوله «ولم يقصد الجنَّتين، ولا واحدة» معناه: لم يقصد تعيين مفردٍ، ولا مثنى، لا أنه لم يقصد الإخبار بالدخول.
وقال أبو البقاء: «إنما أفرد؛ لأنَّهما جميعاً ملكهُ، فصارا كالشيء الواحد» .
قوله: «وهُو ظَالِمٌ» حال من فاعل «دَخلَ» ، وقوله «لنَفْسهِ» مفعول «ظَالِمٌ» واللام مزيدة فيه؛ لكون العامل فرعاً.
قوله: « {مَآ أَظُنُّ} فيه وجهان:
أحدهما: ان يكون مستأنفاً بياناً لسبب الظلم.
والثاني: أن يكون حالاً من الضَّمير في» ظَالِمٌ «، أي: وهو ظالمٌ في حال كونه قائلاً.
قوله:» أنْ تَبِيدَ «أي: تهلك، قال: [المقتضب]
3527 - فَلئِنْ بَادَ أهْلهُ ... لبِما كَانَ يُوهَلُ
ويقال: بَادَ يَبيدُ بُيُوداً وبَيْدُودة، مثل» كَيْنُونة «والعمل فيها معروفٌ، وهو أنه حذفت إحدى الياءين، ووزنها فيعلولة.
قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} يعني الكافر آخذاً بيد صاحبه المسلم يطوف به فيها، ويريه بهجتها وحسنها، وأخبره بصنوف ما يملكه من المال {وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بكفره، وهذا اعتراضٌ وقع في أثناء الكلام، والمعنى أنه لمَّا اغترَّ بتلك النِّعم، وتوسَّل بها إلى الكفران والجحود؛ لقدرته على البعث، كان واضعاً لتلك النِّعم في غير موضعها، {قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} .
قال أهل المعاني: لما أذاقه حسنها وزهوتها، توهَّم أنها لا تفنى أبداً مطلقاً، {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} فجمع بين كفرين.(12/487)
الأول: قطعه بأنَّ تلك الأشياء لا تبيدُ أبداً.
والثاني: إنكار البعث.
فإن قيل: هب أنَّه شكَّ في القيامة، فكيف قال: ما أظنُّ أن تبيد هذه أبداً، مع أنَّ الحسَّ يدلُّ على أنَّ أحوال الدنيا بأسرها ذاهبةٌ غير باقية؟ .
فالجواب: مراده أنَّها لا تبيد مدَّة حياته، ثم قال: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} أي مرجعاً وعاقبة، وانتصابه على التَّمييز، ونظيره قوله تعالى: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] .
وقوله: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77] .
فإن قيل: كيف قال: ولَئِنْ رددت إلى ربي وهو ينكرُ البعث؟ .
فالجواب: معناه: ولئنْ رددتُّ إلى ربِّي على زعمكَ، يعطيني هنالك خيراً منها.
والسَّبب في وقوعه في هذه الشُّبهة أنَّه تعالى لمَّا أعطاه المال والجاه في الدنيا، ظنَّ أنه إنَّما أعطاه ذلك؛ لكونه مستحقًّا له، والاستحقاقُ باقٍ بعد الموت؛ فوجب حصول الإعطاء، والمقدِّمة الأولى كاذبةٌ؛ فإن فتح باب الدنيا على الإنسان، يكون في أكثر الأمر للاستدراج.
وقرأ أبو عمرو والكوفيون «مِنْهَا» بالإفراد؛ نظراً إلى أقرب مذكورٍ، وهو قوله: «جنَّتهُ» وهي في مصاحف العراق، دون ميم، والباقون «مِنْهُما» بالتثنية؛ نظراً إلى الأصل في قوله: «جَنَّتيْنِ» و «كِلتَا الجنَّتيْنِ» ورُسِمَتْ في مصاحفِ الحرمينِ والشَّام بالميم، فكل قد وافق رسم مصحفه.
قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} أي المسلم.
قوله: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} أي: خلق أصلك من تراب، وهذا يدلُّ على أنَّ الشاكَّ في البعث كافرٌ.
ووجه الاستدلال أنَّه، لمَّا قدر على [الابتداء] ، وجب أن يقدر على الإعادة.
وأيضاً: فإنَّه تعالى، لمَّا خلقك هكذا، فلم يخلقك عبثاً، وإنَّما خلقك لهذا المعنى، وجب أن يحصل للمطيع ثوابٌ، وللمذنب عقابٌ؛ ويدلُّ على هذا قوله: {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي: هيَّأك تهيئة تعقل وتصلح أنت للتكليف، فهل يحصل للعاقل مع هذه الآية إهمال أمرك؟! .(12/488)
قوله: {مِن نُّطْفَةٍ} النُّطفة في الأصل: القطرة من الماء الصافي، يقال: نَظفَ يَنطفُ، أي: قطرَ يَقطُر، وفي الحديث: «فَخرجَ، ورَأسهُ يَنطفُ» وفي رواية: يَقطرُ، وهي مفسِّرةٌ، وأطلق على المنيِّ «نُطفَةٌ» تشبيهاً بذلك.
قوله: «رجُلاً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه حالٌ، وجاز ذلك، وإن كان غير منتقلٍ، ولا مشتقٍّ؛ لأنه جاء بعد «سوَّاك» إذ كان من الجائز: أن يسوِّيهُ غير رجل، وهو كقولهم: «خَلقَ الله الزَّرافةَ يَديْهَا أطْولَ من رِجْلَيْهَا» وقول الآخر: [الطويل]
3528 - فَجاءَتْ بِهِ سَبْطَ العِظامِ كأنَّما ... عِمامَتهُ بيْنَ الرِّجالِ لِوَاءُ
والثاني: أنه مفعول ثانٍ ل «سَوَّاكَ» لتضمُّنه معنى خلقك، وصيَّرك وجعلك، وهو ظاهر قول الحوفيِّ.
قوله: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} : قرأ ابن عامر، ويعقوب، ونافع في رواية بإثبات الألف وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها وصلاً، وبإثباتها وقفاً وهي رواية عن نافعٍ، فالوقفُ وفاقٌ.
والأصل في هذه الكلمة: «لكن أنّا» فنقل حركة همزة «أنَا» إلى نون «لكِنْ» وحذف الهمزة، فالتقى مثلان، فأدغم، وهذا أحسنُ الوجهين في تخريج هذا، وقيل: حذف همزة «أنا» [اعتباطاً] ، فالتقى مثلان، فأدغم، وليس بشيءٍ؛ لجري الأول على القواعد، فالجماعة جروا على مقتضى قواعدهم في حذف ألف «أنّا» وصلاً، وإثباتها وقفاً، وقد تقدم لك: أنَّ نافعاً يثبت ألفه وصلاً قبل همزة مضمومة، أو مكسورة، أو مفتوحة؛ بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة، وهنا لم يصادف همزة، فهو على أصله أيضاً، ولو أثبت الألف هنا، لكان أقرب من إثبات غيره؛ لأنه أثبتها في الوصلِ جملة.
وأمَّا ابن عامرٍ، فإنه خرج عن أصله في الجملة؛ إذ ليس من مذهبه إثبات هذه الألف وصلاً في موضع [ما] ، وإنما اتَّبع الرسم. وقد تقدَّم أنها لغة تميمٍ أيضاً.
وإعراب ذلك: أن يكون «أنَا» مبتدأ، و «هو» مبتدأ ثانٍ، و «هو» ضمير الشأن، و «اللهُ» مبتدأ ثالث و «ربِّي» خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، والرابط [بين الأول] وبين خبره الياء في «ربِّي» ويجوز أن تكون الجلالة بدلاً من «هُوَ» أو نعتاً، أو بياناً، إذا جعل «هو» عائداً على ما تقدَّم من قوله «بالذي خلقك من(12/489)
تراب» لا على أنَّه ضمير الشأن، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك، وليس بالبيِّن.
وخرَّجه الفارسي على وجهٍ غريب: وهو أن تكون «لكِنَّا» «لكنَّ» واسمها وهو «ن» والأصل: «لكنَّنا» فحذف إحدى النونات؛ نحو: {إنَّا نَحْنُ} [الحجر: 9] وكان حق التركيب أن يكون «ربُّنا» «ولا نُشرِكُ بربِّنا» قال: «ولكنه اعتبر المعنى، فأفرد» وهو غريبٌ جدًّا.
قال الكسائي: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، تقديره: «لكنَّ الله هُوَ ربِّي» .
وقرأ أبو عمرو «لكنَّهْ» بهاء السَّكت وقفاً؛ لأنَّ القصد بيان حركة نون «أنَا» فتارة تبيَّن بالألف، وتارة بهاء السكت، وعن حاتم الطائي: [الرمل المجزوء]
3529 - هَكذَا فَرْدِي أَنَهْ ...
وقال ابن عطية عن أبي عمرو: روى عنه هارون «لكنَّه هو الله» بضمير لحق «لكن» قال شهاب الدين: فظاهر هذا أنه ليس بهاء السَّكت، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل «لكِنْ» وما بعدها الخبر ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ، وما بعده خبره، وهو وخبره خبر «لكنَّ» ويجوز أن يكون تأكيداً للاسم، وأن يكون فصلاً، ولا يجوز أن يكون ضمير شأنٍ؛ لأنه حينئذ لا عائد على اسم «لكنَّ» من هذه الجملة الواقعة خبراً.
وأمَّا في قراءة العامة: فلا يجوز أن تكون «لكنَّ» مشددة عاملة؛ لوقوع الضمير بعدها بصيغة المرفوع.
وقرأ عبد الله «لكنْ أنَا هُوَ» على الأصل من غير نقل، ولا إدغامٍ، وروى عنه ابنُ خالويه «لكنْ هُو الله» بغير «أنا» . وقرئ أيضاً «لكننا» .
وقال الزمخشريُّ: «وحسَّن ذلك - يعني إثبات الألف في الوصل - وقوع الألف عوضاً عن حذف الهمزة» ونحوه - يعني إدغام نون «لكن» في نون «نَا» بعد حذف الهمزة - قول القائل:
3530 - وتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أيْ أنْتَ مُذنِبٌ ... وتَقْلِيننِي لكنَّ إيَّاكِ لا أقْلِي
الأصل: لكن أنا، فنقل، وحذف، وأدغم، قال أبو حيان: «ولا يتعيَّن ما قاله في(12/490)
البيت؛ لجواز أن يكون حذف اسم» لكنَّ « [وحذفه] لدليلٍ كثيرٌ، وعليه قوله:
3531 - فَلوْ كُنْتَ ضَبيًّا عَرفْتَ قَرابتِي ... ولكنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ المَشافرِ
أي: ولكنَّك، وكذا ها هنا: ولكنَّني إيَّاك» قال شهاب الدين: لم يدَّع الزمخشري تعين ذلك في البيت؛ حتَّى يردَّ عليه بما ذكره.
ويقرب من هذا ما خرَّجه البصريُّون في بيت استدلَّ به الكوفيون عليهم في جواز دخولِ لام الابتداء في خبر «لكنَّ» وهو: [الطويل]
3533 - ... ... ... ... ..... ولكنَّني من حُبِّهَا لعَمِيدُ
فأدخل اللام في خبر «لكنَّ» وخرَّجه البصريون على أن الأصل: «ولكن من حُبِّها» في قوله: «ولكنَّني من حُبِّها لعمِيدُ» ، فأدغم اللام في خبر «لكنَّ» ، وجوَّزه البصريُّون، وخرَّجه طائفة من البصريِّين على أنَّ الأصل ولكن إنِّي من حُبِّها، ثم نقل حركة همزة «إنِّي» إلى نون «لكن» بعد حذف الهمزة، وأدغم على ما تقدَّم، فلم تدخل اللام إلا في خبر «إنَّ» ، هذا على تقدير تسليم صحة الرواية، وإلا فقالوا: إنَّ البيت مصنوعٌ، ولا يعرف له قائلٌ.
والاستدراك من قوله «أكَفرْتَ» كأنَّه قال لأخيه: أنت كافرٌ؛ لأنَّه استفهام تقرير، لكنَّني أنَّا مؤمنٌ؛ نحو قولك: «زَيْجٌ غَائبٌ، لكنَّ عمراً حاضرٌ» لأنه قد يتوهَّم غيبةُ عمرو أيضاً.
فصل في المقصود بالشرك في الآية
معنى {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} .
ذكر القفال فيه وجهين:
الأول: أنِّي لا أرى الفقر والغنى إلاَّ منه؛ فأحمده إذا أعطى، وأصبر، إذا ابتلى، ولا أتكبَّر عندما ينعم عليَّ، ولا أرى كثرة [المال] ، والأعوان من نفسي، وذلك لأنَّ الكافر، لمَّا [اعتزَّ] بكثرة المال والجاه، فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العزِّ والغنى.
الثاني: أنَّ هذا الكافر، لمَّا أعجز الله عن البعث والحشر، فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز، وإذا أثبت المساواة، فقد أثبت الشَّريك.(12/491)
قوله: {ولولاا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله} : «لولا» تحضيضيَّةٌ داخلة على «قلت» و «إذْ دَخلْتَ» منصوب ب «قُلْتَ» فصل به بين «لوْلاَ» وما دخلت عليه، ولم يبال بذلك؛ لأنه ليس بأجنبيٍّ، وقد عرفت أنَّ حرف التحضيضِ، إذا دخل على الماضي، كان للتَّوبيخ.
ومعنى الكلام: هلاَّ إذا دخلت جنَّتك، قلت: ما شَاءَ الله، أي: الأمر ما شاء الله، وقيل: جوابه مضمرٌ، أي: ما شاء الله كان.
{مَا شَآءَ الله} يجوز في «مَا» وجهان:
الأول: أن تكون شرطية؛ فتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً ب «شاء» أي: أيَّ شيء شاء الله، والجواب محذوف، أي: ما شاء الله، كان ووقع كما تقدم.
والثاني: أنها موصولة بمعنى «الذي» وفيها حينئذ وجهان:
أحدهما: أن تكون مبتدأة، وخبرها محذوف، أي: الذي شاء الله كائنٌ وواقعٌ.
والثاني: أنها موصولة بمعنى «الذي» وفيها حينئذ وجهان:
أحدهما: أن تكون مبتدأة، وخبرها محذوف، أي: الذي شاءه الله، وعلى كل تقدير: [فهذه الجملة] في محل نصبٍ بالقول.
قوله: «إلاَّ الله» خبر «لا» التبرئةِ، والجملة أيضاً منصوبة بالقولِ، أي: هلاَّ قلت هاتين الجملتين.
فإن قيل: معنى {لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} أي: لا أقدرُ على حفظ مالي، ولا دفع شيءٍ عنه إلاَّ بالله.
روى هشامُ بن عروة عن أبيه: «أنَّهُ كان إذَا رأى مِنْ مَالهِ شَيْئاً يُعْجبهُ، أو دَخَلَ حَائِطاً من حِيطانِه قال: مَا شَاءَ الله لا قُوَّة إلاَّ بالله» .
فالجواب: احتجَّ أهل السنَّة بقوله: {مَا شَآءَ الله} على أنَّ كلَّ ما أراده الله واقعٌ، وكلَّ ما لم يقع، لم يرده الله تعالى؛ وهذا يدلُّ على أن الله ما أراد الإيمان من الكافر، وهو صريحٌ في إبطال قول المعتزلة.
فصل في الرد على استدلال المعتزلة بالآية
[ذكر الجبائيُّ] والكعبيُّ بأنَّ تأويل قولهم: «مَا شَاءَ الله» ممَّا تولَّى فعله، لا ما هو فعل العباد، كما قالوا: لا مردَّ لأمر الله، لم يرد ما أمر به العباد، ثم قال: لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريد، كما يحصل فيه ما ينهى عنه.(12/492)
واعلم أنَّ الذي ذكره الكعبيُّ ليس جواباً عن الاستدلال، بل هو التزامٌ لمخالفة ظاهر النصِّ، وقياس الإرادة على الأمر باطلٌ؛ لأنَّ هذا النصَّ دالٌّ على أنَّه لا يوجد إلاَّ ما أراده الله، وليس في النصوص ما يدلُّ على أنَّه لا يدخل في الوجود إلاَّ ما أمر به، فظهر الفرق. وأجاب القفَّال عنه بأن قال: هلاَّ إذا دخلت [جنَّتك] ، قلت: ما شاء الله، أي: هذه الأشياء الموجودةُ في هذا البستان: ما شاء الله؛ كقول الإنسان، إذا نظر غلى شيءٍ عمله زيدٌ: عمل زيدٍ، أي: هذا عمل زيدٍ.
ومثله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، أي: قالوا: ثلاثةٌ، وقوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [الأعراف: 161] أي: وقولوا: هذه حطَّة، وإذا كان كذلك، كان [المراد أن] هذا الشيء الموجود في البستان شيءٌ شاء الله تكوينه، وعلى هذا التقدير: لم يلزم أن يقال: وقع كلُّ ما شاء الله؛ لأنَّ هذا الحكم غير عامٍّ في الكلِّ، بل يختصُّ بالأشياء المشاهدة في البستان، وهذا التأويلُ الذي ذكره القفَّال أحسن مما ذكره الجبائيُّ والكعبيُّ.
فصل
قال ابن الخطيب: وأقول: إنَّه على جوابه لا يندفع الإشكال عن المعتزلة؛ لأنَّ عمارة ذلك البستان، ربَّما حصلت بالغصوب، وبالظُّلم الشديد؛ فلا يصحُّ أيضاً على قول المعتزلة أن يقال: هذا واقعٌ بمشيئةِ الله، اللهم، إلاَّ أن يقال: المراد أنَّ هذه الثمار حصلت بمشيئة الله إلاَّ أنَّ هذا تخصيص لظاهر النصِّ من غير دليل.
وأمَّا أمر المؤمن الكافر بأن يقول: لا قُوَّة إلاَّ بالله، أي: لا قُوَّة لأحدٍ على أمر من الأمور إلاَّ بإعانة الله وإقداره.
ثُمَّ إن المؤمن، لما علَّم الكافر الإيمان، أجابه عن الافتخار بالمال والنَّفر، فقال: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} .
واعلم أن ذكر الولد ها هنا يدلُّ على أنَّ المراد بالنَّفر المذكور في قوله: {وَأَعَزُّ نَفَراً} الأعوان والأولاد.
وقوله: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ} يجوز في «أنا» وجهان:
أحدهما: أن يكون مؤكِّداً لياء المتكلم.
والثاني: أنه ضمير الفصل بين المفعولين، و «أقلَّ» مفعول ثانٍ، أو حال بحسب الوجهين في الرؤية، هل هي بصرية أو علمية؟ إلا أنَّك إذا جعلتها بصرية، تعيَّن في «أنَا» أن تكون توكيداً، لا فصلاً؛ لأنَّ شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر، أو ما أصله المبتدأ والخبر.(12/493)
وقرأ عيسى بن عمر «أقلُّ» بالرفع، ويتعيَّن أن يكون «أنا» مبتدأ، و «أقلُّ» خبره، والجملة: إمَّا في موضع المفعول الثاني، أو في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية.
و «مَالاً وولداً» تمييزٌ، وجواب الشرط قوله «فعَسَى ربِّي» .
قوله: {حُسْبَانًا} : الحسبان مصدر حسب الشيء يحسبه، أي: أحصاهُ، قال الزجاج: «أي عذاب حسبان، أي: حساب ما كسبت يداك» وهو حسن.
فصل في معنى الحسبان
قال الراغب: «قيل: معناه ناراً، وعذاباً، وإنما هو في الحقيقة ما يحاسبُ عليه، فيجازى بحسبه» وهذا موافق لما قاله أبو إسحاق، والزمخشريُّ نحا إليه أيضاً، فقال: «والحُسْبان مصدر؛ كالغفران والبطلان بمعنى الحساب، أي: مقداراً حسبه الله وقدَّره، وهو الحكم بتخريبها» . وهو قول ابن عباس وقيل: جمع حسبانةٍ، وهي السَّهمُ.
وقال ابن قتيبة: مرامي من السَّماء، وهي مثل الصَّاعقة، أي: قطع من النَّار.
قوله: {أَوْ يُصْبِحَ} : عطف على «يُرْسلَ» قال أبو حيَّان: و «أوْ يُصْبِحَ» عطفٌ على قوله: «ويُرْسِلَ» لأن غُؤورَ الماءِ لا يتَسبَّبُ عن الآفةِ السماوية، إلا إن عنى بالحسبان القضاء [الإلهيَّ] ؛ فحينئذ يتسبَّب عنه إصباحُ الجنة صعيداً زلقاً، أو إصباح مائها غوراً.
والزَّلقُ والغَوْرُ في الأصل: مصدران وصف بهما للمبالغة.
والعامة على فتح الغين، غَارَ المَاءُ يَغورُ غَوراً: غَاضَ وذهب ف يالأرض، وقرأ البرجميُّ بضم الغين لغة في المصدر، وقرأت طائفة «غُؤوراً» بضمِّ الغين، والهمزة، وواوٍ ساكنة، وهو مصدر أيضاً، يقال: غار الماء غؤوراً مثل: جلس جلوساً.
فصل في معنى قوله: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}
معنى قوله: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أرضاً جرداء ملساء لا نبات فيها، وقيل: تزلق فيها الأقدام.
وقال مجاهد: رملاً هائلاً، والصعيد وجه الأرض.
{أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً} أي: غائراً منقطعاً ذاهباً لا تناله الأيدي، ولا الدِّلاءُ، والغور: مصدر وقع موقع الاسم، مثل زور وعدل.
قوله: {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} أي: فيصير بحيثُ لا تقدر على ردِّه إلى موضعه.(12/494)
ثمَّ أخبر الله تعالى أنَّه حقَّق ما قدره هذا المؤمن، فقال: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} اي: أحاط العذاب بثمر جنته، وهو عبارة عن إهلاكه بالكليَّة، وأصله من إحاطة العدوِّ؛ لأنَّه إذا أحاط به، فقد استولى عليه، ثمَّ استعمل في كلِّ إهلاكٍ، ومنه قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] .
قوله: {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} : قُرئ «تَقلَّبُ كفَّاهُ» ، أي: تتقلَّب كفَّاه، و «أصْبحَ» : يجوز أن تكون على بابها، وأن تكون بمعنى «صار» وهذا كناية عن الندم؛ لأنَّ النادم يفعل ذلك.
قوله: {عَلَى مَآ أَنْفَقَ} يجوز أن يتعلق ب «يُقلِّبُ» وإنما عدِّي ب «عَلَى» لأنه ضمِّن معنى «يَندَمُ» .
وقوله: «فيها» ، أي: في عمارتها، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من فاعل «يُقلِّبُ» أي: متحسِّراً، كذا قدَّره أبو البقاس، وهو تفسير معنى، والتقدير الصناعي؛ إنما هو كونٌ مطلقٌ.
قوله: «ويَقُولُ» يجوز أن يكون معطوفاً على «يُقلِّبُ» ويجوز أن يكون حالاً.
فصل في كيفية الإحاطة
قال المفسرون: إنَّ الله تعالى أرسل عليها ناراً، فأهلكتها وغار ماؤها، {فَأَصْبَحَ} صاحبها الكافر {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} ، أي: يصفِّق بيديه، إحداهما على الأخرى، ويلقِّب كفَّيه ظهراً لبطن؛ تأسُّفاً وتلهُّفاً {عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ} ساقطة {على عُرُوشِهَا} سقوفها، فتسقَّطت سقوفها، ثمَّ سقطت الجدران عليها.
ويمكن أنَّ يكون المراد بالعروشِ عروش الكرم، فتسقط العروش، ثم تسقط الجدران عليها.
قوله: {وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} .
والمعنى: أن المؤمن، لمَّا قال: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} قال الكافر: يا ليتني قلت كذلك.
فإن قيل: هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنَّته؛ لشؤم شركه، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّ أنواع البلاء أكثرها إنَّما تقع للمؤمنين، قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خُصَّ البَلاءُ بالأنْبِياءِ، ثمَّ الأوْلياءِ، ثُمَّ الأمثلِ فالأمثَلِ» .
وأيضاً: فلما قال: {ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} فقدم ندم على الشِّرك، ورغب في(12/495)
التوحيد؛ فوجب أن يصير مؤمناً، فلم قال بعده: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} ؟ .
فالجواب عن الأوَّل: أنه لمَّا عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا، وكان معرضاً في عمره كلِّه عن طلب الدِّين، فلما ضاعت الدنيا بالكليَّة، بقي محروماً عن الدنيا والدِّين.
والجواب عن الثاني: أنَّه إنَّما نَدِمَ على الشِّرك؛ لاعتقاده أنَّه لو كان موحِّداً غير مشركٍ، لبقيت عليه جنَّته، فهو إنَّما رغب في التوحيد والردَّة عن الشِّرك؛ لأجل [طلب] الدنيا؛ فلهذا لم يقبل الله توحيده.
قوله: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ} : قرأ الأخوان [ «يَكُنْ» ] بالياء من تحت، والباقون من فوق، وهما واضحتان؛ إذ التأنيث مجازيٌّ، وحسن التذكير للفصل.
قوله: «يَنْصُرونَهُ» يجوز أن تكون هذه الجملة خبراً، وهو الظاهر، وأن تكون حالية، والخبر الجار المتقدم، وسوَّغ مجيء الحال من النَّكرة تقدم النفي، ويجوز أن تكون صفة ل «فئةٍ» إذا جعلنا الخبر الجارَّ.
وقال: «يَنْصُرونَهُ» حملاً على معنى «فِئةٍ» لأنَّهم في قوَّة القوم والنَّاس، ولو حمل على لفظها، لأفرد؛ كقوله تعالى: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] .
وقرأ ابن أبي عبلة: «تَنْصرُهُ» على اللفظ، قال أبو البقاء: «ولو كان» تَنْصرهُ «لكان على اللفظ» . قال شهاب الدين: قد قرئ بذلك، كما عرفت.
[قال بعضهم] : ومعنى «يَنْصُرونَهُ» يقدرون على نصرته، ويمنعونه من عذاب الله {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} ممتنعاً متنعماً، أي: لا يقدر على الانتصار لنفسه، وقيل: لا يقدر على ردِّ ما ذهب عنه.
قوله: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ} : يجوز أن يكون الكلام تمَّ على قوله «مُنْتَصِراً» وهذه جملة منقطعة عمَّا قبلها، وعلى هذا: فيجوز في الكلام أوجه:
الأول: أن يكون «هنالك الولايةُ» مقدَّراً بجملة فعلية، فالولاية فاعل بالظرف قبلها، أي: استقرَّت الولاية الله، و «لله» متعلق بالاستقرار، أو بنفس الظرف؛ لقيامه مقام العامل، أو بنفسِ الولاية، أو يمحذوفٍ على أنه حال من «الوَلاية» وهذا إنما يتأتَّى على(12/496)
رأي الأخفش من حيث إنَّ الظرف يرفع الفاعل من غير اعتمادٍ.
والثاني: أن يكون «هُنالِكَ» منصوباً على الظرف متعلقاً بخبر «الولاية» وهو «لله» أو بما تعلق به «لله» أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ منها، والعامل الاستقرارُ في «لله» عند من يجيز تقدم الحال على عاملها المعنوي، أو يتعلق بنفس «الولايةِ» .
والثالث: أن يجعل «هُنالِكَ» هو الخبر، و «لله» فضلةٌ، والعامل فيه ما تقدَّم في الوجه الأول.
ويجوز أن يكون «هُنالِكَ» من تتمَّة ما قبلها، فلم يتمَّ الكلام دونه، وهو معمولٌ ل «مُنْتَصِراً» ، أي: وما كان منتصراً في الدار الآخرة، و «هُنالِكَ» إشارة غليها، وإليه نحا أبو إسحاق. وعلى هذا فيكون الوقف على «هُنالِكَ» تامًّا، والابتداء بقوله «الوَلايَةُ لله» فتكون جملة من مبتدأ وخبر.
والظاهر في «هُنالِكَ» : أنه على موضوعه من ظرفية المكان، كما تقدَّم، وتقدَّم أنَّ الأخوين يقرآن بالكسر، والفرق بينهما وبين قراءة الباقين بالفتح في سورة الأنفال، فلا معنى لإعادته.
وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحنٌ، قالا: لأنَّ «فعالة» إنما تجيء فيما كان صنعة أو ممعنى متقلَّداً، وليس هنالك تولِّي أمورٍ.
فصل في لغات الولاية ومعانيها
قال الزمخشري: الولاية بالفتح: النصر، والتولِّي، وبالكسر: السلطان والملك.
وقيل: بالفتح: الربوبيَّة، وبالكسر: الإمارة.
قوله: «الحَقِّ» قرأ أبو عمرو، والكسائي برفع «الحقُّ» والباقون بجرِّه، فالرفع من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه صفة للولاية وتصديقه قراءة أبيٍّ «هُنالك الوَلايةُ الحق للهِ» .
والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو ما أوحيناه إليك.
الثالث: أنه مبتدأ، وخبره مضمر، أي: الحق ذلك، وهو ما قلناه.
والجر على أنه صفة للجلالة الكريمة؛ كقوله «ثُمَّ ردُّوا إلى الله مَولاهُم الحقِّ» .(12/497)
وقرأ زيد بن عليٍّ، وأبو حيوة، وعمرو بن عبيد، ويعقوب «الحقَّ» نصباً على المصدر المؤكِّد لمضمون الجملة؛ كقولك «هذَا قَوْلُ الله الحق» وهذا عبد الله الحقَّ، لا الباطل.
قوله: «عُقباً» قرأ عاصم وحمزة بسكون القاف، والباقون بضمِّها، فقيل: لغتان؛ كالقُدُسِ والقُدْس، وقيل: الأصل الضمَّ، والسكون تخفيف، وقيل بالعكس؛ كالعُسْر واليُسْر، وهو عكس معهود اللغة، ونصبها ونصب «ثَواباً» و {أَمَلاً} [الكهف: 46] على التمييز لأفعل التفضيل قبلها، ونقل الزمخشريُّ أنه قرئ «عُقْبَى» بالألف، وهي مصدر أيضاً؛ كبُشْرَى، وتروى عن عاصم.
فصل في نظم الآية
اعلم أنَّه تعالى لمَّا ذكر من قصّة الرجلين ما ذكر علمنا أن النُّصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر، وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حقِّ كل مؤمنٍ وكافرٍ، فقال: {هُنالِكَ الوَلايةُ للهِ الحَقِّ} أي: في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام، تكون الولاية لله يوالي أولياءه؛ فيعليهم على أعدائه، ويفوِّض أمر الكفار إليهم.
فقوله: «هُنالِكَ» إشارةٌ إلى الموضع، والوقت الذي يريد إظهار كرامة أوليائه، وإذلال أعدائه.
وقيل: المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولَّى الله، ويلتجئ إليه كلُّ محتاجٍ مضطرٍّ، يعني أن قوله: {ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} فكأنه ألجَ إليها ذلك الكافر، فقالها جزعاً ممَّا ساقهُ إليه شؤمُ كفره، ولولا ذلك، لم يقلها.
وقيل: المعنى: هنالك الولاية لله ينصرُ فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [أعدائهم] ، يعني أنَّه تعالى نصر المؤمنين على الكفرة، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [أعدائهم] ، يعني أنَّه تعالى نصر المؤمن بما فعل [بأخيه الكافر و] بصدق قوله: {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء} .
ويعضده قوله: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} أي: لأوليائه، وقيل: «هُنالِكَ» إشارةٌ إلى الدَّار الآخرةِ، أي: في تلك الدَّار الآخرة الولاية لله كقوله: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] .
وقوله: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} أي: خيرٌ في الآخرة لمن آمن به، والتجأ إليه، {وَخَيْرٌ عُقْباً} أي: هو خيرٌ عاقبة لمن رجاهُ، وعمل لوجهه.(12/498)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
قوله تعالى: {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا} الآية.
أي: واضرب، يا محمد، لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم، وأنصارهم على فقراء المسلمين {مَّثَلَ الحياة الدنيا} ثم ذكر المثل فقال: {كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} .
قوله: {كَمَآءٍ} : فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون خبر مبتدأ محذوف، فقدَّره ابن عطيَّة هي، أي: الحياة الدنيا.
والثاني: أنه متعلق بمعنى المصدر، أي: ضرباً كماء، قاله الحوفيُّ. وهذا بناء منهما على أن «ضرب» هذه متعدية لواحدٍ فقط.
والثالث: أنه في موضع المفعول الثاني ل «اضْرِبْ» لأنها بمعنى طصَيِّرْ «وقد تقدم.
قال أبو حيان بعدما نقل قولي ابن عطيَّة والحوفيِّ:» وأقول: إنَّ «كماءٍ» في موضع المفعول الثاني لقوله «واضْرِبْ» ، أي: وصيِّر لهم مثل الحياة، أي: صفتها شبه ماء «. قال شهاب الدين: وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء.
و» أنْزَلنَاهُ «صفة ل» مَاءٍ «.
قوله:» فاخْتلَطَ به «يجوز في هذه الباء وجهان:
أحدهما: أن تكون سببية.
الثاني: أن تكون متعدِّية، قال الزخشري:» فالتفَّ بسببه، وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً، وقيل: تجمع الماء في النبات؛ حتى روي ورَفَّ رفيفاً، وكان حق اللفظ على هذا التفسير: فاختلط بنباتِ الأرض، ووجه صحته: أنَّ كلَّ مختلطين موصوف كل واحدٍ منهما بصفةِ الآخر «.
قوله: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً} » أصْبَحَ «يجوز أن تكون على بابها؛ فإنَّ أكثر ما يطرقُ من الآفاتِ صباحاً؛ كقوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] ويجوز أن تكون بمعنى»(12/499)
صار «من غير تقييدٍ بصباحٍ؛ كقوله: [المنسرح]
3533 - أصْبَحَتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولاَ ... أمْلِكُ رَأسَ البعيرِ إنْ نَفرَا
والهشيمُ: واحده هشيمة، وهو اليابس، وقال الزجاج وابن قتيبة: كل ما كان رطباً، فيَبِسَ، ومنه {كَهَشِيمِ المحتظر} [القمر: 31] ومنه: حشمتُ الفتَّ والهشيم: المتفتِّت المتكسِّر، ومنه هشمت أنفه، وهشَمَ الثَّريدَ: إذا فتَّه.
قال: [الكامل]
3534 - عَمْرُو الَّذي هَشمَ الثَّريدَ لقَومهِ ... ورِجَالُ مَكَّةَ مُسنتُونَ عِجَاف
قوله:» تَذرُوهُ «صفة ل» هَشِيماً «والذَّرْوُ: التفريق، وقيل: الرفع.
والعامة» تَذْروهُ «بالواو، وقرأ عبد الله» تَذْريه «من الذَّري، ففي لامه لغتان: الواو والياء، وقرأ ابن عبَّاس» تُذْريهِ «بضمِّ التاء من الإذراءِ، وهذه تحتمل أن تكون من الذَّرْوِ، وأن تكون من الذَّري، والعامة على» الرَّياحِ «جمعاً، وزيد بن عليِّ، والحسنُ، والنخعيُّ في آخرين» الرِّيحُ «بالإفراد.
فصل في معنى ألفاظ الآية
و» مَثَل «معنى المثل، قال ابن عباسٍ: يعني بالماءِ المطر، نزل من السماء {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} خرج من كل لون وزهرة،» فأصْبحَ «عن قريب» هَشِيماً «يابساً.
وقال الضحاك: كسيراً.
«تَذْروهُ الرِّياحُ» :
قال ابن عباس: تذريه.
وقال أبو عبيدة: تفرّقه.
وقال القتبي: تنسفه.(12/500)
قوله: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} قادراً بتكوينه أولاً، وتنميته وسطاً، وإبطاله آخراً، فأحوال الدنيا كذلك تظهرُ أولاً في غاية الحسن والنَّضارة، ثم تتزايد قليلاً قليلاً، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء والذَّهاب، ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به.
فصل في حسن ترتيب الآيات
قوله تعالى: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} الآية.
لما بيّن تعالى أنَّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزَّوال والبوار والفناء، بيَّن تعالى أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا، والمقصود منه إدخال هذا الجزئيِّ تحت ذلك الكليِّ، فينعقد به قياسٌ بيِّن الإنتاج، وهو أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وكل ما كان زينة الحياة الدنيا، فهو سريعُ الانقضاءِ والانقراضِ، ومن اليقين البديهيِّ، أن ما كان كذلك، فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به، أو يقيم له في نظره وزناً، فهذا برهان باهرٌ على فساد قول المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والولاد على فقراء [المؤمنين] .
قوله: {زِينَةُ الحياة الدنيا} على التثنية، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين، فيتوهم أنه قرئ بنصب «زينة الحياة» .
فصل في بيان رجحان فقراء المؤمنين على أغنياء الكفار
لما أقام البرهان على فساد قول المشركين، ذكر ما يدلُّ على رجحان أولئك الفقراء على أغنياء الكفَّار، فقال: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ} .
وبيان هذا الدليل: أنَّ خيرات الدنيا [منقرضة] ، وخبرات الآخرة باقيةٌ دائمةٌ، والدائم الباقي خيرٌ من المنقرضِ الزائل، وهذا معلومٌ بالضَّرورة.
قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المال والبنون حرث الحياة الدنيا، والأعمال الصالحة حرث الآخرة، وقد يجمعها الله لأقوامٍ
وقال ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد: الباقيات الصالحات هي قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.(12/501)
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «أفْضَلُ الكلامِ أربعٌ: سُبْحانَ الله، والحَمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبرْ» .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أكثروا من البَاقيَاتِ الصَّالحاتِ قيل: وما هُنَّ يَا رسُول الله؟ قال: الملة. قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التَّكبيرُ، والتَّهليلُ، والتَّسبيحُ، والتَّحميدُ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلِّ العظيم» .
وقال سعيد بن جبير ومسروق وإبراهيم ويروى أيضاً عن ابن عباس: البَاقيَاتُ الصَّالحاتُ: الصلوات الخَمْسُ.
وقال قتادة: ويروى أيضاً عن ابن عبَّاس أنَّها الأعمال الصالحة {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} جزاء {وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي: ما يؤمِّله الإنسان.
قوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} الآية.
لما بيَّن خساسة الدُّنيا، وشرف القيامة، أراد أن يعيِّن أحوال القيامةِ.
قوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ} : «يَوْمَ» منصوب بقولٍ مضمرٍ بعده، تقديره: نقول لهم يوم نسيِّر الجبالك لقد جئتمونا، وقيل: بإضمار «اذْكُرْ» وقيل: هو معطوف على «عِنْدَ ربِّكَ» فيكون معمولاً لقوله «خَيْرٌ» .
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بضمِّ التاء، وفتح الياء مبنياً للمفعول، «الجِبَالُ» بالرفع؛ لقيامه مقام الفاعل، وحذف الفاعل؛ للعلم به، وهو الله، أو من يأمره من الملائكة، وهذه القراءة موافقةٌ لما اتُّفقَ عليه في قوله {وَسُيِّرَتِ الجبال} [النبأ: 20] ، ويؤيِّدها قراءة عبد الله هنا {وَسُيِّرَتِ الجبال} فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول.
والباقون «نُسيِّرُ» بنون العظمة، والياء مكسورة من «سَيَّرَ» بالتشديد؛ «الجبالَ» بالنصب على المفعول به، وهذه القراءة مناسبة لما بعدها من قوله {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} .
وقرأ الحسن كقراءة ابن كثير، ومن ذكر معه إلاَّ أنه بالياء من تحت؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ وقرأ ابن محيصن، ورواها محبوب عن أبي عمرو: [ «تسير» ] بفتح التاء من فوق(12/502)
ساكن الياء، من سارت تسير، و «الجِبَالُ» بالرفع على الفاعلية.
قوله: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} «بَارِزَةً» حالٌ؛ إذ الرؤية بصرية، وقرأ عيسى {وتُرَى الأرضُ} مبنيًّا للمفعول، و «الأرضُ» قائمة مقام الفاعل.
قوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ} فيه ثلاثة أوجه:
الأول: أنه ماضٍ، يراد به المستقبل، أي: ونحشرهم، وكذلك {وَعُرِضُوا} [الكهف: 48] و {وَوُضِعَ الكتاب} [الكهف: 49] .
والثاني: أن تكون الواو للحالِ، والجملة في محلِّ النصب، أي: نفعل التسيير في حال حشرهم؛ ليشاهدوا تلك الأهوال.
والثالث: قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ جيء ب» حَشرْنَاهُمْ «ماضياً بعد» نُسيِّرُ «و» ترى «؟ قلت: للدلالة على أنَّ حشرهم قبل التسيير، وقيل البروز؛ ليعاينوا تلك الأهوال العظام؛ كأنَّه قيل: وحَشرنَاهُم قبل ذلكَ» .
فصل
قال أبو البقاء، وأبو حيان: «والأولى أن تكون الواو للحال» فذكر نحواً ممَّا قدَّمته.
قوله: «فَلمْ نُغادِرْ» عطل على «حَشَرنَاهُمْ» فإنه ماضٍ معنى، والمغادرة هنا: بمعنى «الغَدْر» وهو الترك، أي: فلم نترك، والمفاعلة هنا ليس فيها مشاركة، وسمي الغدر غدراً؛ لأنَّ به ترك الوفاءُ، وغدير الماء من ذلك؛ لأنَّ السيل غادره، أي: تركه، فلم يجئه أو ترك فيه الماء، ويجمع على «غدر» و «غُدرَان» كرغيف ورغفان، واستغدر الغَديرُ: صار فيه الماء، والغديرة: الشَّعرُ الذي ترك حتى طال، والجمع غدائرُ. قال امرؤ القيس: [الطويل]
3535 - غَدائِرُهُ مُسْتشْزِرَاتٌ إلى العُلا..... ... ... ... ... ... ... ... .
وقرأ قتادة «فَلمْ تُغادِرْ» بالتاء من فوقُ، والفاعل ضمير الأرض، أو الغدرة المفهومة من السياق، وأبان: «يُغادَرْ» مبنياً للمفعول، «أحدٌ» بالرفع، والضحاك: «نُغْدِرْ» بضم النون، وسكون العين، وكسر الدال، من «أغْدرَ» بمعنى «غَدرَ» .(12/503)
فصل في المراد بالتسيير
ليس في الآية ما يدلُّ على أنَّ الأرض إلى أين تسير، فيحتمل أن الله يسيِّرها إلى موضع يريده، ولم يبيِّن ذلك الموضع لخلقه.
والحقُّ أنَّ المراد أنَّه يسيِّرها إلى العدم؛ لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً} [طه: 105 - 107] {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} [الواقعة: 5، 6] {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] ، أي: لم يبق عليها شيء من الجبال، والعمران، والشَّجر «بَارِزةً» ظاهرة ليس عليها ما يسترها؛ كما قال: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً} [طه: 106، 107] .
وقال عطاء: «بَارِزةً» أبرزت ما في بطنها، وقذفت الموتى المقبورين فيها، أي بارزة البطن والجوف، فحذف ذكر الجوف، ودليله قوله تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الإنشقاق: 4] {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] وقال: {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً} [إبراهيم: 21] .
{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أي: وحشرناهم أي: وجمعناهم للحساب، فلم نترك من الأوَّلين والآخرين أحداً، إلاَّ وجمعناهم لذلك اليوم.
قوله: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} .
{صَفًّا} : حال من مرفوع «عرضوا» وأصله المصدرية، يقال منه: صفَّ يصفُّ صفًّا، ثم يطلق على الجماعة المصطفِّين، واختلف هنا في «صفًّا» : هل هو مفرد وقع موقع الجمع؛ إذ المراد صفوفاً؛ ويدل عليه الحديث الصحيح: «يجمعُ الله الأوَّلين والآخرينَ في صعيدٍ واحدٍ صفوفاً» وفي حديث آخر: «اهلُ الجنَّة مائةٌ وعشرون صفًّا، أنتم منها ثمانون» .
ويؤيده قوله تعالى: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67] أي أطفالاً. وقيل: ثَمَّ حذف، أي: صفًّا صفًّا، ونظيره قوله في موضع: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] . وقال في آخر: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38] يريد: صفًّا صفًّا؛ بدليل الآية الأخرى، فكذلك هنا، وقيل: بل كل الخلائق تكون صفًّا [واحداً] ، وهو أبلغ في القدرة، وأمَّا الحديثان فيحملان على اختلاف أحوالٍ؛ لأنه يوم طويل، كما شهد له بقوله {كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فتارة يكونون فيه صفًّا واحداً، وتارة صفوفاً.
وقيل: صفًّا أي: قياماً؛ لقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} [الحج: 36] أي قياماً.(12/504)
قوله: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} على إضمار قول، أي: وقلنا لهم كيت وكيت.
وتقدَّم أن هذا القول هو العامل في قوله {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} [الكهف: 47] . ويجوز أن يضمر هذا القول حالاً من مرفوع «عُرِضُوا» ، أي: عرضوا مقولاً لهم كذا وكذا.
قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ} : أي: مجيئاً مشبهاً لخلقكم الأول حفاة، عراة غرلاً، لا مال، ولا ولد معكم، وقال الزمخشري: «لقَدْ بَعثْنَاكُم كَمَأ أنْشَأناكُمْ أوَّل مرَّة» فعلى هذين التقديرين، يكون نعتاً للمصدر المحذوف، وعلى رأي سيبويه: يكون حالاً من ضميره.
قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
ليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه؛ لأنهم خلقوا صغاراً، ولا عقل لهم، ولا تكليف عليهم، بل المراد أنَّه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي حفاة، عراة، بغير أموال، ولا أعوانٍ، ونظيره قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94] .
ثم قال تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أي كنتم مع التعزُّز على المؤمنين بالأموال والأنصار، تنكرون البعث، فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا، وشاهدتم أنَّ البعث والقيامة حقٌّ.
قوله: {أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} «أنْ» هي المخففة، وفصل بينها وبين خبرها؛ لكونه جملة فعلية متصرفة غير دعاءٍ بحرف النفي، و «لكم» يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير، و «مَوْعداً» هو الأول، ويجوز أن يكون معلَّقاً بالجعل، أو يكون حالاً من «مَوعِداً» إذا لم يجعل الجعل تصييراً، بل لمجرد الإيجادِ.
و «بَلْ» في قوله: «بَل زَعَمتُمْ» لمجرَّد الانتقالِ، من غير إبطالٍ.
قوله: {وَوُضِعَ الكتاب} : العامة على بنائه للمفعول، وزيد بن عليٍّ على بنائه للفاعل، وهو الله، أو الملك، و «الكِتاب» منصوب مفعولاً به، و «الكتابُ» جنس للكتب؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً بخصُّه، وقد تقدَّم الوقف على «مَا لهذا الكتابِ» وكيف فصلت لام الجرِّ من مجرورها خطًّا في سورة النساء عند {فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78] .
و «لا يُغَادِرُ» جملة حالية من «الكتاب» . والعامل الجار والمجرور؛ لقيامه مقام الفعل، أو الاستقرار الذي تعلق به الحال.(12/505)
قوله: «إلاَّ أحْصَاهَا» في محل نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة، ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني؛ لأنَّ «يُغَادِرُ» بمعنى «يترك» و «يتركُ» قد يتعدَّى لاثنين؛ كقوله: [البسيط]
3536 - ... ... ... ... ... ..... فَقدْ تَركْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشبِ
في أحد الوجهين.
روى أبو هريرة عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يُحشَرُ النَّاس على ثلاثِ طرائقَ رَاغبينَ رَاهبينَ، فاثْنانِ على بَعيرٍ، وثَلاثةٌ على بَعيرٍ، وأرْبعةٌ على بَعيرٍ، وعَشرةٌ على بَعيرٍ، وتَحشُرَ بقيَّتهُم النَّارُ، تَقيلُ مَعهُمْ، حَيْثُ قَالُوا، وتَبِيتُ معهم؛ حيث باتوا، وتُصْبِحُ معهم، حيث أصبحُوا، وتمسي معهم، حيث أمسوا» .
وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، قالت: «قلت: يا رسول الله كيف يُحْشَر النَّاسُ يوم القِيامة؟ قال: حُفاةً عُراةً، قالت: قلتُ: والنِّساء؟ قال: والنِّساء، قالت: قلت: يا رسول الله، أستحي، قال: يا عائشة، الأمر اشدُّ من ذلك؛ أن يهمهم أن ينظر بعضهم لبعض» .
وقيل: توضعُ بين يدي الله عزَّ وجلَّ، {فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا فِيهِ} في الكتاب من الأعمال الخبيثة، كيف تظهر لأهل الموقف، فيفتضحون {وَيَقُولُونَ} إذا رأوها: {ياويلتنا} يا هلاكنا، والويلُ والويلة: الهلكة، وكأنَّ كلَّ من وقع في مهلكة، دعا بالويل، ومعنى النِّداء تنبيه المخاطبين.
{مَالِ
هذا
الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} من ذنوبنا.
قال ابن عباس: الصَّغيرة: التبسُّم، والكبيرة: القهقهة.
قال سعيد بن جبير: الصغيرة: اللَّمم، [والمسُّ، والقبلة] ، والكبيرة: الزِّنا.
{إِلاَّ أَحْصَاهَا} وهو عبارة عن الإحاطة، أي: ضبطها وحصرها، وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة، على تقدير أنَّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة.(12/506)
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إيَّاكُم ومحقِّرات الذنوب؛ فإنَّما مثلُ محقِّرات الذنوب؛ فإنَّما مثلُ محقِّراتِ الذُّنوب مثل قوم نزلوا ببطنِ وادٍ، فجاء هذا بعودٍ، وجاء هذا بعودٍ، وجاء هذا بعودٍ، حتَّى أنضجوا خبزتهم، وإنَّ محقِّراتِ الذنوب لموبقاتٌ» .
{وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً} مكتوباً في الصَّحيفة.
{وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} لا ينقص ثواب أحدٍ عمل خيراً.
وقال الضحاك: لم يؤاخذ أحداً بجرم لم يعمله.
فصل في الرد على المجبرة
قال الجبائي: هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة في مسائل:
أحدها: أنه لو عذَّب عباده من غير ذنب صدر منهم، لكان ظالماً.
وثانيها: أنه لا يعذِّب الأطفال بغير ذنب.
وثالثها: بطلان قولهم: لله أن يفعل ما شاء، ويعذِّب من غير جرم؛ لأنَّ الخلق خلقه، إذ لو كان كذلك، لما كان لنفي الظلم عنه معنى؛ لأنَّ بتقدير أنه إذا فعل أي شيءٍ، لم يكن ظلماً منه؛ لم يكن لقوله: «إنَّه لا يظلمُ» فائدة.
فإن قيل: أيُّ فائدة في ذلك؟ .
فالجواب عن الأوَّل بمعارضة العلم والدَّاعي.
وعن الثاني: أنَّه تعالى، قال: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] ولم يدلَّ هذا على أنَّ اتخاذ الولد يصحُّ عليه، فكذلك ها هنا.(12/507)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
قوله: {وَإِذَا قُلْنَا للملاائكة اسجدوا لآدَمَ} الآية.
اعلم أنَّ المقصود في الآياتِ المتقدِّمة الردُّ على الذين افتخروا بأموالهم، وأعوانهم(12/507)
على فقراء المسلمين، وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى؛ وذلك: أنَّ إبليس، إنما تكبَّر على آدم؛ لأنَّه افتخر بأصله ونسبه، فقال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 13] فأنا أشرف منه أصلاً ونسباً، فكيف أسجد له، وكيف أتواضع له؟ وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المؤمنين بهذه المعاملة، فقالوا: كيف نجالسُ هؤلاء الفقراء، مع أنَّا من أنساب شريفة، وهم من أنساب نازلة، ونحن أغنياء، وهم فقراء؟ فذكر الله هذه القصة؛ تنبيهاً على أنَّ هذه الطريقة بعينها طريقة إبليس، ثم إنه تعالى حذَّر عنها، وعن الاقتضاء بها في قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ} ، وهذا وجه النظم.
قوله: {وَإِذَا قُلْنَا} : أي: اذكر.
قوله: {كَانَ مِنَ الجن} فيه وجهان:
أحدهما: أنه استئناف يفيد التعليل؛ جواباً لسؤال مقدَّر.
والثاني: أن الجملة حالية، و «قَدْ» معها مرادة، قاله أبو البقاء.
قوله: «فَفسَقَ» السببية في الفاء ظاهرة، تسبَّب عن كونه من الجنِّ الفسقُ، قال أبو البقاء: إنما أدخل الفاء هنا؛ لأنَّ المعنى: «إلاَّ إبليس امتنع ففسق» . قال شهاب الدين. إن عنى أنَّ قوله «كان من الجنِّ» وضع موضع قوله «امْتنعَ» فيحتمل مع بُعده، وإن عنى أنه حذف فعلٌ عطف عليه هذا، فليس بصحيحٍ؛ للاتغناء عنه.
قوله: «عَنْ أمْر» «عَنْ» على بابها من المجاوزة، وهذ متعلقة ب «فَسقَ» ، أي: خرج مجاوزاً أمر ربِّه، وقيل: هي بمعنى الباء، أي: بسبب أمره؛ فإنه فعَّالٌ لما يريدُ.
قوله: «وذُرِّيتهُ» يجوز في الواو أن تكون عاطفة، وهو الظاهر، وأن تكون بمعنى «مع» و «مِنْ دُونِي» يجوز تعلقه بالاتِّخاذ، وبمحذوف على أنَّه صفة لأولياء.
قوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} جملة حالية من مفعول الاتخاذ أو فاعله، لأن فيها مصححاً لكلٍّ من الوجهين، وهو الرابط.
قوله: «بِئْسَ» فاعلها مضمرٌ مفسَّر بتمييزه، والمخصوص بالذمِّ محذوف، تقديره: بِئْسَ البدل إبليس وذرِّيتهُ. وقوله «للظَّالمينَ» متعلق بمحذوفٍ حالاً من «بَدلاً» وقيل: متعلق بفعل الذمِّ.
فصل في الخلاف في أصل إبليس
اعلم أنه تعالى بيَّن في هذه الآية أنَّ إبليس كان من الجنِّ، وللنَّاس في الآية أقوالٌ:
الأول: قال ابن عبَّاس: كان من حيٍّ من الملائكةِ، يقال لهم الحنُّ، خلقوا من(12/508)
نار السَّموم، وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنِّ، لقوله: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] وقوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} [الأنعام: 100] وسمِّي الجن جنًّا؛ لاستتارهم، والملائكة داخلون في ذلك.
وأيضاً: فإنه كان خازن الجنة، فنسب إلى الجنَّة؛ كقولهم: كوفيٌّ، وبصريٌّ.
وعن سعيد بن جبير، قال: كان من الجنَّانين الذين يعملون في الجنان، وهم حيٌّ من الملائكة، يصوغون حلية أهل الجنة منذ خلقوا.
رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبيرٍ.
وقال الحسن: كان من الجنِّ، ولم يكن من الملائكةِ، فهو أصل الجنِّ، كما أنَّ آدم أصل الإنس.
وقيل: كان من الملائكة، فمسخ وغيَّر، وكما يدلُّ على أنه ليس من الملائكة قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي} والملائكة ليس لهم نسلٌ، ولا ذرِّيَّة.
بقي أن يقال: لو لم يكن من الملائكة، لما تناوله الأمر بالسجود، فكيف يصحُّ استثناؤه منهم؟ .
تقدَّم الكلام على ذلك في البقرة.
ثم قال تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} .
قال الفراء: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ، أي: خرج من طاعته، تقول العرب: فسقتِ الرطبة عن قشرها، أي خرجت، وسميت الفأرة فويسقة؛ لخروجها من جحرها.
قال رؤبة: [الرجز]
3537 - يَهْويْنَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِرَا ... فَواسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا
وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه، أنه قال: لما أمر فعصَى، كان سبب فسقه هو ذلك الأمر، والمعنى: أنه لولا ذلك الأمر السابق، لما حصل ذلك الفسق، فلهذا حسن أن يقال: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} كقوله: {واسأل القرية التي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] .
ثم قال: «أفَتَتَّخِذُونَهُ» يعني: يا بني آدم {وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} ، أي: أعداء.(12/509)
روى مجاهد عن الشعبيِّ قال: إنِّي قاعدٌ يوماً؛ إذ أقبل رجل فقال: أخبرني، هل لإبليس زوجة؟ قال: إنَّه لعرسٌ ما شَهدتُّه، ثُم ذكرتُ قول الله عزَّ وجلَّ: {أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي} فعلمت أنَّه لا يكون ذريَّة إلا من زوجة، فقلت، نعم.
وقال قتادة: يتوالدون، كما يتوالد بنو آدم.
وقيل: إنَّه يدخل ذنبه في دبره، فيبيض، فتنفلق البيضة عن جماعة من الشَّياطين.
ثم قال: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} .
قال قتادة: بئس ما استبدلوا طاعة إبليس، وذريته بعبادة ربِّهم.
قوله: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات} : أي: إبليس وذريته، أو ما أشهدت الملائكة، فكيف يعبدونهم؟ أو ما أشهدت الكفار، فكيف ينسبون إليَّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدت جميع الخلقِ.
وقرأ أبو جعفر، [وشيبة] والسختياني في آخرين: «ما أشهدناهم» على التعظيم.
والمعنى: ما أحضرناهم {خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} أي: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، يعني: ما اشهدتهم؛ لأعتضد بهم.
قوله: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} أي: ما كنت متَّخذهم، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ بياناً لإضلالهم؛ وذمًّا لهم وقوله: «عَضُدًا» أي: ما كنت متَّخذهم، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ بياناً لإضلالهم؛ وذمَّا لهم وقوله: «عَضُداً» أي: أعواناً.
قال ابن الخطيب: والأقرب عندي أنه الضمير الرَّاجع على الكفَّار الذين قالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء، لم نؤمن بك، فكأنه - تعالى - قال: إنَّ هؤلاء الذين أتوا بالاقتراح الفاسد، والتعنُّت الباطل، ما كانوا شركاء في تدبير العالم؛ لأنِّي ما أشهدتهم خلق السموات والأرض، ولا خلق أنفسهم، ولا أعتذد بهم في تدبير الدنيا والآخرة، بل هم كسائر الخلق، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ .(12/510)