ل «تَزِيدُونَنِي» .
قال أبُو البقاءِ: «الأقْوَى هنا أن تكُون» غير «استثناءً في المعنى، وهو مفعولٌ ثانٍ ل» تَزِيدُونَنِي «، أي: فمَا تَزِيدُونَنِي إلاَّ تَخْسِيراً.
ويجوز أن تكون «غير» صفةً لمفعولٍ محذوفٍ، أي شيئاً غير تخسير، وهو جيد في المعنى.
ومعنى التَّفْعِيل هنا النسبةُ، والمعنى: غير أن أخسركُم، أي: أنسبكم إلى التَّخْسير، قال الزمخشريُّ.
قال الحسنُ بن الفضلِ: لم يكنْ صالح في خسارةٍ حتى قال: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} وإنَّما المعنى: فما تَزِيدُونَنِي بما تقُولُون إلا نسبتي إيَّاكم إلى الخسارةِ.
والتفسيقُ والتَّفْجِيرُ في اللغة: النسبة إلى الفِسْقِ والفُجُور، فكذلك التَّخْسيرُ هو النسبة إلى الخُسرانِ.
وقيل: هو على حذف مضافٍ، أي: غير بضارِّه تخسيركم، قالهُ ابن عبَّاسٍ.
قوله تعالى: {وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} الآية.
«لَكُمْ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «آيةً» ؛ لأنَّهُ لو تأخَّرَ لكان نَعْتاً لها، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً.
قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت: بِمَ تتعلَّقُ «لَكُمْ» ؟ قلتُ: ب «آيَةٌ» حالاً منها متقدمة، لأنَّها لو تأخَّرت لكانت صفة لها، فلما تقدَّمت انتصبت على الحالِ.
قال أبُو حيَّان: وهذا متناقضٌ لأنَّهُ من حيثُ تعلق «لكُم» ب «آية» كان معمولاً ل «آية» وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنَّ الحال تتعلَّقُ بمحذوفٍ.
قال شهابُ الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومثلُ هذا كيف يعترض به على مثلِ الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصود بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟ .
و «آيةً» نصب على الحالِ بمعنى علامة، والنَّاصبُ لها: إمَّا «ها» التَّنبيه، او اسمُ الإشارة، لما تضمَّناهُ من معنى الفعل، أو فعلٍ محذوف.
فصل
اعلم أنَّ العادة فيمن يدَّعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام لا بُدَّ وأن يطلبوا منه معجزة، فطلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من صخرةٍ معينةٍ، فدعا صالحٌ؛ فخرجت ناقة عشراء، وولدت في الحال ولداً مثلها.
وهذه معجزة عظيمة من وجوه:
الأول: خلقُهَا من الصَّخْرة.
وثانيها: خَلْقُها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل.(10/514)
وثالثها: خلقها على تلك الصُّورة دفعة واحدة من غير ولادة.
ورابعها: أنَّهُ كان لها شرب يوم.
وخامسها: أنه كان يحصلُ منها لبنٌ كثير يكفي الخلق العظيم.
ثم قال: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} من العشب، والنبات، فليس عليكم مؤنتها.
وقرىء «تأكلُ» بالرفع: إمَّا على الاستئناف، وإمَّا على الحالِ.
{وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء} ، ولا تصيبوها بعقر «فيَأخُذَكُمْ» إن قتلتموها «عذابٌ قريبٌ» يريد اليوم الثالث.
{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ} لهُم صالح: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ} أي: في دياركم، فالمراد بالدَّار: البلد، وتُسَمَّى البلاد بالدِّيار، لأنَّه يدار فيها، أي: يتصرف، يقال: ديار بكر أي: بلادهم.
وقيل: المراد بالدِّيار: دار الدُّنيا، وقيل: هو جمع «دارة» كساحة وساحٍ وسُوحٍ، وأنشد ابنُ أبي الصَّلْت: [الوافر]
2980 - لَهُ دَاعٍ بِمَكَّة مُشْمَعِلٌّ ... وآخَرُ فوْقَ دَارَتِهِ يُنَادِي
فصل
قال القرطبيُّ: «استدلَّ العلماءُ بتأخير الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أنَّ المسافر إذا لمْ يُجمع على إقامة أربع ليالٍ قصر؛ لأنَّ الثلاثة أيام خارجة عن حكم الإقامة» .
والتَّمتع: التَّلذُّذ بالمنافع والملاذ. {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} ، [أي: غير كذب] .
قوله: «مَكْذُوب» يجُوزُ أن يكون مصدراص على زنة مفعولٍ، وقد جاء منه أليفاظ نحو: المَجْلود والمعقُول والمَيْسُور والمَفْتُون، ويجوزُ أن يكون اسم مفعولٍ على بابه، وفيه حينئذٍ تأويلان:
أحدهما: غير مكذوبٍ فيه، ثم حذف حرف الجر فاتَّصل الضَّمير مرفُوعاً مستتراً في الصِّفة ومثله «يَوْمٌ مَشْهُودٌ» وقول الشاعر: [الطويل]
2981 - ويَوْمَ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ... قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نوافِلُه
والثاني: أنه جُعِل هو نفسُه غير مكذوب؛ لأنَّه قد وُفي به، فقد صُدِّق.(10/515)
فصل
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «لمَّا أمهلهم ثلاثة أيَّام، قالوا وما علامةُ ذلك؟ قال: تصبحوا في اليوم الأوَّلِ وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني مُحْمَرة وفي اليوم الثالث مسودة، ثم يأتيكم العذابُ في اليوم الرَّابع فكان كما قال» .
فإن قيل: كيف يُعقل أن تظهر هذه العلامات مطابقة لقول صالحٍ، ثم يبقون مصرين على الكفر؟ فالجواب: ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حدِّ اليقينِ لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينيَّة قطعيَّة، فقد انتهى الأمرُ إلى حدِّ الإلجاء، والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول.
قوله {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} أي: عذابنا، وتقدَّم الكلامُ على مثله.
قوله: {ومِنْ خِزْيِ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: ونجَّيْنَاهم من خزي. وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: علام عطف؟ قلت: على «نَجَّيْنَا» ؛ لأنَّ تقديره: ونجَّيناهم من خزي يومئذٍ كما قال: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] أي: وكانت التنجيةُ من خزي. وقال غيرهُ: «إنَّه متعلقٌ ب» نَجَّيْنَا «الأول» .
وهذا لا يجُوزُ عند البصريين غير الأخفش؛ لأنَّ زيادة الواو غيرُ ثابتة.
وقرأ نافعٌ والكسائيُّ بفتح ميم «يومئذٍ» على أنَّها حركةُ بناءٍ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله: [الطويل]
2982 - عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبَا ... فقُلْتُ ألمَّا أصْحُ والشَّيبُ وَازعُ
وقرأ الباقون: بخفض الميم.
فمن قرأ بالفتح فعلى أنَّ «يَوْم» مضاف إلى «إذْ» ، و «إذْ» مبني، والمضاف إلى المبني يجوزُ جعله مبنياً، ألا ترى أنَّ المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف فكذا ههنا، وأمَّا الكسرُ: فالسَّبب فيه أنَّهُ يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر، تقولُ: «جئتك إذ الشَّمس طالعة» ، فلمَّا قطع عنه المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثمَّ كسرت الذَّال لسكونها وسكون التنوين.
وأما قراءةُ الكسر فعلى إضافة «الخِزْيِ» إلى «اليوم» ، ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنيّاً لأنَّ إضافته غير لازمة.(10/516)
وكذلك الخلافُ جارٍ في {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 11] .
وقرأ طلحة وأبانُ بن تغلب بتنوين «خِزْي» و «يَوْمَئِذ» نصب على الظَّرف ب «الخِزْي» ، وقرأ الكوفيون ونافع في النَّمل {مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} [الآية: 89] بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين «فَزَعٍ» ونصب «يَومئذ» به.
ويحتملُ في قراءة من نوَّن ما قبل «يومئذ» أن تكون الفتحةُ فتحة إعرابٍ، أو فتحة بناء، و «إذْ» مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض عنها التَّنوينُ تقديره: إذا جاء أمرنا.
وقال الزمخشريُّ: ويجوزُ أن يراد يومُ القيامة، كما فُسِّرَ العذاب الغليظ بعذاب الآخرة.
قال أبُو حيان: وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذكرُ يومِ القيامة، ولا ما يكونُ فيها، فيكون هذا التَّنوين عوضاً عن الجملةِ التي تكون يومَ القيامةِ.
قال شهابُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قد تكونُ الدَّلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً، وهذه من المعنوية.
والخِزْي: الذّل العظيم حتى يبلغ حدَّ الفضيحة كما قال الله تعالى في المحاربين: {ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا} [المائدة: 33] .
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز} وإنَّما حسن ذلكن لأنَّه تعالى بيَّن أنه أوصل العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه، وهذا لا يصحُّ إلاَّ من القادر الذي يقدر على قَهْرِ طبائع الأشياءِ، فيجعل الشَّيء الواحد بالنِّسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً، وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً.
قوله: {وَأَخَذَ الذين} : حُذِفت تاءُ التَّأنيث: إمَّا لكونِ المؤنث مجازياً، أو للفصلِ بالمفعولِ أو لأنَّ الصَّيحة بمعنى الصياح، والصَّيْحةُ: فعله يدل على المرَّة من الصِّياح، وهي الصوتُ الشديدُ: صاح يصيح صِيَاحاً، أي: صوَّت بقوة.
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: المُرادُ الصَّاعقة. وقيل: صحية عظيمة هائلةٌ سمعوها فهلكوا جميعاً فأصبحوا جاثمين في دورهم.
وجثومهم: سقوطهم على وجوههم.
وقيل: الجثومُ: السُّكون، يقالُ للطَّيْرِ إذا باتَتْ في أوكارها إنها جثمت، ثم إنَّ العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموات.(10/517)
فإن قيل: ما السَّببُ في كون الصَّيْحةِ موجبة للموت؟ .
فالجوابُ من وجوه: أحدها: أنَّ الصَّيحة العظيمة إنما تحدثُ عن سببٍ قوي يوجب تموج الهواء، وذلك التموج الشديد ربما يتعدَّى إلى صمخ الإنسان فيُمزق غشاء الدِّماغِ فيورُ الموت.
وثانيها: أنَّه شيء مهب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النَّفسانية إذا قويت أوجبت الموت.
وثالثها: أنَّ الصَّيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برقٌ شديدٌ محرق، وذلك هو الصَّاعقة التي ذكرها ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.
ثم قال تعالى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} كأنَّهُم لم يُوجدوا. والمغنى المقام الذي يقيمُ الحي فيه يقال: غني الرَّجُلُ بمكان كذا إذا أقام به.
قوله: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ} قرأ حمزة وحفص هنا {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ} ، وفي الفرقان: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ} [الآية: 38] وفي العنكبوت: {وَعَاداً وَثَمُودَ} [الآية: 37] ، وفي النجم: {وَثَمُودَ فَمَآ أبقى} [الآية: 51] جميعُ ذلك بمنع الصرف، وافقهم أبو بكر على الذي في النَّجْم.
وقوله: {أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} منعه القراء الصرفَ إلاَّ الكسائيَّ فإنَّهُ صرفه، وقد تقدَّم أنَّ من منع الصرف جعله اسماً للقبيلةِ، ومن صرف جعله اسماً للحيِّ، أو إلى الأبِ الأكبرِ؛ وأنشد على المنع: [الوافر]
2983 - ونَادَى صالحٌ يَا ربِّ أنْزِلْ ... بآلِ ثمُودَ مِنْكَ غداً عَذَابَا
وأنشد على الصَّرف قوله: [الطويل]
2984 - دَعَتْ أمُّ عَمْرٍو أمْرَ شرٍّ عَلِمْتُهُ ... بأرْضِ ثمُودٍ كُلِّهَا فأجَابَهَا
وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورةِ الأعراف.(10/518)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
قوله: {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} القصة.
قال النحويون: دخلت كلمة «قَدْ» ها هنا لأنَّ السَّامع لقصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يتوقع قصة بعد قصة، و «قَدْ» للتوقع، ودخلت اللاَّم في «لَقَدْ» تأكيداً للخبر.
فصل
لفظ «رُسُلُنَا» جمع وأقله ثلاثة، فهذا يدلُّ على أنهم كانوا ثلاثة، والزَّائِدُ على هذا العددِ لا يثبتُ إلاَّ بدليل آخر، وأجمعُوا على أنَّ الأصلَ فيهم كان جبريلُ - عليه السَّلامُ -.
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «كانوا ثلاثة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وهم المذكورون في الذَّاريات {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات: 24] وفي الحجر {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر: 51] .
وقال الضحَّاكُ:» كانوا تسعة «. وقال محمد بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -» كان جبريل ومعه سبعة «وقال السُّديُّ:» أحد عشر ملكاً «وقال مقاتل:» كانوا اثني عشر ملكاً على صور الغلمان الوضاء وجوههم «.
» بالبشرى «بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل: بسلامة لوطٍ، وأهلاك قومه.
قوله: {قَالُواْ سَلاَماً} : في نصبه وجهان:
أحدهما: أنَّه مفعولٌ به، ثم هو محتملٌ لأمرينِ:
أحدهما: أن يراد قالوا هذه اللفظ بعينه، وجاز ذلك لأنَّه يتضمَّن معنى الكلام.
الثاني: أنَّهُ أراد قالوا معنى هذا اللفظ، وقد تقدَّم نحو ذلك في قوله تعالى: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: 58] .
وثاني الوجهين: أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوفٍ، وذلك الفعلُ في محلِّ نصب بالقول، تقديره: قالوا: سَلَّمْنَا سلاماً، وهو من باب من ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه، وهو واجب الإضمار.
قوله:» سَلاَمٌ «في رفعه وجهان:(10/519)
أحدهما: أنَّهُ مبتدأ وخبره محذوفٌ، أي: سلامٌ عليكم.
والثاني: أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي: أمْرِي أو قَوْلِي سلام.
وقد تقدَّم أنَّ الرفع أدلُّ على الثُّبوتِ من النَّصْبِ [الفاتحة: 2] ، والجملة بأسرها - وإن كان أحد جزأيها محذوفاً - في محلِّ نصب بالقول؛ كقوله: [الطويل]
2985 - إذَا ذَقْتُ فَاهَا قُلْتُ: طَعْمُ مُدَامَةٍ..... ... ... ... ... ... ... .
وقرأ الاخوان:» قَالَ سِلْم «هنا وفي سورة الذَّاريات بكسر السين وسكون اللاَّم.
ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف، قال الفرَّاءُ:» هُما لغتان كحِرْم وحَرَامٍ وحِلٍّ وحلالٍ «؛ وأنشد [الطويل]
2986 - مَرَرْنَا فَقُلْنَا: إيهِ سِلْمٌ فَسلَّمْتْ ... كَمَا اكْتَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوَائِحُ
يريد: سلامٌ؛ بدليل: فسلَّمَتْ.
وقال الفارسي:» السِّلْم «بالكسر ضد الحربِ، وناسبَ ذلك لأنَّهم لمَّا امتنعوا من تناول ما قدَّمهُ إليهم، أنكرهم، وأوجس منهم خيفة، فقال: أنا سِلْم، أي: مُسَالمكم غيرُ محارب لكم، فلم تمتنعوا من تناول طعامي؟
قال ابنُ الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلُّم إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا اللفظ بعد إحضار الطَّعام، والقرآن يدل على أنَّ هذا الكلام قبل إحضار الطَّعام؛ لأنَّه تعالى قال: {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} والفاءُ للتَّعقيب، فدلَّ على أنَّ مجيئَهُ بالعجل الحنيذِ بعد السَّلام.
فصل
أكثر ما يستعمل «سلامٌ عليكم» منكّراً؛ لأنَّهُ في معنى الدُّعاءِ كقولهم: خير بين يديك.
فإن قيل: كيف جاز الابتداء بالنَّكرةِ؟ .(10/520)
فالجوابُ: إذا وصفت جاز، فإذا قلت: «سلامٌ عليكم» فالتَّنكير هُنا يدلُّ على الكمال والتَّمام، فكأنه سلام كامل تام عليك، ونظيره قوله تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] وقوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] وقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23، 24] .
وأما قوله: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] فالمراد منه الماهية والحقيقة.
قال ابنُ الخطيب: قوله: «سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ» أكملُ من قوله: «السَّلامُ عليْكُم» ؛ لأنَّ التَّنْكيرَ يُفيدُ المبالغة والتَّمام، والتعريف لا يفيدُ إلاَّ الماهية.
قوله: «فَمَا لَبِثَ» يجُوزُ في «ما» هذه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّها نافيةٌ، وفي فاعل «لَبِثَ» حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أنَّه ضميرُ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي: فَمَا لَبِثَ إبراهيم، وإن جاء على إسقاطِ الخافض، فقدَّرُوه بالباء وب «عَنْ» وب «في» ، أي: فمَا تأخَّر في أنْ، أو بأن، أو عن أن.
والثاني: أنَّ الفاعل قوله: «انْ جَاءَ» ، والتقدير: فَما لبثَ، أي: ما أبْطَأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين.
وثاني الأوجه: أنَّها مصدريةٌ.
وثالثها: أنَّها بمعنى الذي. وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ، وإن جاء خبرهُ على حذفِ مضاف تقديره: فلُبْثُه - أو الذي لبثه - قَدْرَ مجيئه.
قال القرطبيُّ: قوله: «أنْ جَاءَ» معناه: حتَّى جَاءَ.
والحَنِيذُ: المَشْوِيُّ بالرَّضْفِ في أخدود كفعل أهل البادية يشوون في حفرةٍ من الأرض بالحجارة المُحَمَّاة، يقال: حَنَذْتُ الشَّاة أحْنِذُهَا حَنْذاً فهي حَنِيذ، أي: مَحْنُوذة.
وقيل: حَنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم: حَنَذْتُ الفرس، أي: سُقْتُه شَوْطاً أو شَوْطَيْن وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليعرق.
ثم قال: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ} أي: إلى العِجْلِ. وقال الفرَّاءُ: إلى الطَّعامِ وهو العجل.
قوله: «نَكِرَهُمْ» أي: أنكرهم، فهما بمعنى واحد؛ وأنشدوا: [البسيط]
2987 - وأنكَرَتْنِي ومَا كَانَ الذي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا(10/521)
وفرَّق بعضهم بينهما فقال: الثلاثي فيما يُرَى بالبصرِ، والرباعي فيما لا يُرَى من المعاني، وجعل البيت من ذلك، فإنَّها أنكرتْ مودَّتهُ وهي من المعاني التي لا تُرَى، ونكِرَتْ شَيْبَتَهُ وصلعهُ، وهما يُبْصرانِ؛ ومنه قول أبي ذؤيبٍ: [الكامل]
2988 - فَنَكِرْتَهُ فَنَفَرْتُ وامْتَرَسَتْ بِهِ ... هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وهَادٍ جُرْشَعُ
والإيجاس: حديث النَّفس، وأصله من الدُّخُول كأنَّ الخوف داخلهُ.
وقال الأخفش: «خَامَر قلبه» . وقال الفرَّاء: «اسْتَشْعَرَ وأحسَّ» .
والوَجَسُ: ما يَعْتَرِي النفس أوائل الفزع، ووجس في نفسه كذا أي: خطر بها، يَجِسُ وَجْساً ووُجُوساً ووَجِيساً، ويَوْجَسُ ويَجِسُ بمعنى يسمعُ؛ وأنشدوا على ذلك وقله: [الطويل]
2989 - وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوجُّسِ للسُّرَى ... لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ
و «خفية» مفعول به أي: أحس خيفة أو أضمر خيفة.
فصل
اعلم أنَّ الأضياف إنَّما امتنعوا عن الطَّعام؛ لأنهم ملائكةٌ، والملائكةُ لا يأكلون، ولا يشربون، وإنَّما أتوهُ في صورة الأضياف، ليَكونوا على صفة يحبها؛ لأنه كان يحب الضيافة، وأمَّا إبراهيم، فإما أن يقال: إنه ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقدُ أنهم من البشر، أو يقال: إنَّه كان عالماً بأنهم ملائكة، فعلى الأول فسببُ خوفه أمران:
أحدهما: أنَّهُ كان ينزل في طرف من الأرض بعيداً عن النَّاس، فلما امتنعوا عن الأكل، خاف أن يريدوا به مكروهاً.
والثاني: أنَّ من لا يعرفه إذا حَضَر، وقدَّم إليه طعاماً، فإن أكل حصل الأمن، وإن لم يأكل، حصل الخوفُ.
وإن كان عارفاً بأنَّهم ملائكة، فسبب خوفه أمران:
أحدهما: أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه.
والثاني: أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه.
والأول أقرب؛ لأنَّهُ سارع إلى إحضار الطعام، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك، ولما استدلَّ بترك الأكل على حصول الشَّرِّ، وأيضاً: فإنَّهُ رآهم في صورة(10/522)
البشر، قالوا: لا تخف يا إبراهيم، إنَّا ملائكة الله، أرسلنا إلى قوم لوط.
فصل
في هذه القصَّة دليل على تعجيل قرى الضيف، وعلى تقديم ما يتيسَّر من الموجود في الحال، ثم يُتبِعُهُ بغيره، إن كان له جدةٌ، ولا يتكلَّف ما يَضُرُّ به، والضيافة من مكارم الأخلاق، وإبراهيم أوَّل من أضاف، وليست الضيافةُ بواجبة عند عامة أهل العلم؛ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» .
وإكرام الجار ليس بواجب، فكذلك الضَيْفُ، وفي الضيافة الواجبة يقولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ.»
وقال ابن العربيِّ: وقد قال قَوْمٌ: إنَّ الضيافة كانَتْ واجبةً في صدْر الإسلام، ثم نُسِخَتْ.
فصل
اختلفوا في المخاطب بالضِّيافة، فذهب الشافعيُّ، ومحمد بنُ عبد الحكم إلى أنَّ المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالكٌ: ليس على أهل الحضر ضيافة.
قال سُحْنُون: إنَّما الضِّيافةُ على أهْلِ القُرى، وأمَّا أهل الحضر، فالفُنْدُق ينزل فيه المسافرُ؛ لما روى ابنُ عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الضِّيافةُ عَلَى أهْلِ الوَبَرِ، ولَيْسَتْ عَلَى أَهْلِ المَدَرِ» .
قال القرطبيُّ: «قال أبوعمر بن عبد البرِّ: وهذا حديثٌ لا يصحُّ» قال ابنُ العربي: «الضيافة حقيقة فرض على الكفاية» .
فصل
ومن أدب الضيافة أن يبادرَ المضيف بالأكل؛ لأنَّ كرامةَ الضَّيْفِ التعجيل بتقديم الضِّيافة، كما فعل إبراهيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم فإذا أكل المضيف، طاب نفس الضَّيف للأكل.(10/523)
قوله: {وامرأته قَآئِمَةٌ} في محلِّ نصب على الحالِ من مرفوع: «أرْسِلْنَا» .
وقال أبو البقاءِ: من ضمير الفاعل في «أرْسِلْنَا» . وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة، إذ مفعول مَا لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ لا يطلقُ عليه فاعلٌ على المَشْهُورِ، وعلى الجملةِ فجعلها حالاً غير واضح بل هي استئناف إخبار، ويجوزُ جعلها حالاً من فاعل «قالُوا» أي: قالوا ذلك في حال قيام امرأته، وهي ابنة عم إبراهيم.
وقوله: «وَهِي قَائمةٌ» أي تخدمُ الأضياف؛ وإبراهيم جالس معهم، يؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود: «وامرأته قائمةٌ وهو قاعِدٌ» .
قوله: «فَضَحِكَتْ» العامَّةُ على كسر الحاء وقرأ محمد بن زياد الأعرابي - رجل من مكة - بفتحها وهي لغتان، يقال: ضَحِكَ وضَحَكَ، وقال المهدويُّ: «الفتح غير معروف» ، والجمهورُ على أنَّ الضَّحكَ على بابِهِ.
واختلف المفسِّرون في سببه فقال القاضي: إنَّ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما خاف قالت الملائكة {لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} فعظم سرورها بسبب سرورهِ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان، فكان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم «لا تَخَفْ» فكان كالبشارة فقيل لها: نجعل هذه البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أوَّلِ العُمر إلى هذا الزَّمان، وقيل: لمَّا كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لكفرهم وعملهم الخبيث، فلما أخبروا أنهم جاءوا لإهلاكهم، لحقها السُّرور، فضحكت.
وقيل: بشَّرُوها بحصول مطلق الولد فضَحِكَتْ إمَّا تعَجُّباً فإنَّهُ يقالُ: إنَّها كانت في ذلك الوقت بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ابن مائة سنة، وإمَّا على سبيل السُّرور، ثم لمَّا ضحكت بشَّرها الله - تعالى - بأنَّ ذلك الولد هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب.
وقيل: إنَّها ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر حال ما كان معه حشمه وخدمه.
وقيل: هذا على التقديم والتأخير تقديره: وامرأته قائمة فبشَّرناها بإسحاق، فضحكت سروراً بتلك البشارة، فقدَّم الضَّحكَ، ومعناه التَّأخير، يقالُ ضحكت الأرنب، بمعنى: حَاضَتْ.
وقال مجاهدٌ وعكرمة: «ضَحِكَتْ» بمعنى: حَاضَتْ. وأنكره أبو عبيدة، وأبو عبيد، والفرَّاء.(10/524)
قال ابنُ الأنباري: «هذه اللُّغة إن لم يَعْرِفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم، حكى اللُّيثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الآية» فَضَحِكَتْ «طمثت، وحكى الأزهريُّ - عن بعضهم - أنَّ أصلهُ: من ضحاك الطَّلعةِ، يقال: ضَحِكَت الطلعة إذا انشقت، وأنشدوا: [المتقارب]
2990 - وضِحْكُ الأرَانبِ فَوْقَ الصَّفَا ... كَمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا
وقال آخر: [الطويل]
2991 - وعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكاً في لُبانةٍ ... ولَمْ يَعْدُ حقّاً ثَدْيُهَا أن تُحَلَّمَا
أي: حَائِضاً.
وضَحِكت الكافُورَةُ: تَشَقَّقَتْ. وضَحِكَت الشَّجَرةُ: سَالَ صَمْغُهَا، وضَحِكَ الحَوْضُ: امتلأ وفاض وظاهرُ كلام أبي البقاءِ أن «ضَحَكَ» بالفتح مختصٌّ بالحيْضِ فإنَّه قال: «بِمَعْنَى حَاضَتْ يقال: ضَحَكَت الأرنب بفتح الحَاء» .
قوله: {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} قرأ ابنُ عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء، والباقون برفعها.
فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها، هل الفتحةُ علامةُ نصبٍ أو علامة جرٍّ؟ والقائلون بأنَّها علامةُ نصب اختلفوا، فقيل: هو منصوبٌ عطفاً على قوله: «إسْحَاق» . قال الزمخشريُّ: كأنَّهُ قيل: وَوَهَبْنَا لهُ إسحاقَ، ومنْ وراءِ إسْحَاق يعقوب على طريقة قوله: [الطويل]
2992 - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً ... ولا نَاعبٍ ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
يعنى أنَّهُ عطف على التَّوهم فنصب، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر «ليس» فجرَّ، ولكنه لا ينقاس.
وقيل: منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، أي: وَوَهَبْنَا يعقوب وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة ورجَّحه الفارسي.
وقيل: هو منصوبٌ عطفاً على محلِّ «بإسحاقَ» ؛ لأنَّ موضعهُ نصب كقوله: «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب عطفاً على {بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] .
والفرقُ بين هذا والوجه الأول: أنَّ الأول ضمَّن الفعل معنى: «وَهَبْنَا» توهُّماً، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم.(10/525)
ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على «بإسحاقَ» والمعنى: أنَّها بُشِّرت بهما.
وفي هذا الوجه والذي قبله بحثٌ: وهو الفَضْلُ بالظَّرْفِ بين حرف العطف، والمعطوف، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النِّساءِ.
ونسب مكي الخفض للكسائي ثم قال: «وهو ضعيفٌ إلاَّ بإعادة الخافض؛ لأنَّك فصلت بين الجار والمجرور بالظَّرف» . قوله: «بإعادة الخافض» ليس ذلك لازماً، إذ لو قدِّم ولم يفصلْ لم يلتَزِم الإتيان به.
وأمَّا قراءةُ الرَّفْع ففيها أوجه:
أحدها: أنَّه مبتدأ وخبره الظَّرف السَّابق فقدره الزمخشريُّ «موجود أو مولود» وقدَّره غيره ب: كائن ولمَّا حكى النَّحاسُ هذا قال: «الجملة حالٌ داخلةٌ في البشارة أيك فبشَّرناها بإسحاق مُتَّصلاً به يعقُوبُ» .
والثاني: أنَّه مرفوعٌ على الفاعلية بالجارِّ قبله، وهذا يجيء على رأي الأخفش.
والثالث: أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ أي: ويحدث من وراء إسحاق يعقوب، ولا مدخل له في البشارة.
والرابع: أنه مرفوعٌ على القَطْع يَعْنُونَ الاستئناف، وهو راجعٌ لأحَدِ ما تقدَّم من كونه مبتدأ وخبراً، أو فاعلاً بالجارِّ بعدهُ، أو بفعل مقدر.
وفي لفظ «وَرَاء» قولان:
أظهرهما: وهو قولُ الأكثرين أنَّ معناه «بَعْد» أي: بعد إسحاق يعقوب ولا مدخل له في البشارة.
والثاني: أنَّ الوراء: ولد الولد.
فصل
ذكر المفسِّرون أنَّ «إسحاق» ولدَ ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة وكان عمر أمه سارة حين بُشِّرَتْ به تسعين سنة. وذكر أهلُ الكتاب أنَّ إسحاق لمَّا تزوج ربقة بنت شاويل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة، وأنَّها كانت عَاقِراً فدعا الله لها فحملتْ فولدت غلامين تَوْءَمَيْنِ؛ أولهما سمَّوهُ عيصو، وتسمية العرب «العِيصَ» وهو والدُ الرُّوم الثانية، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسمَّوهُ يعقوب، وهو إسرائيل الذي ينسبُ إليه بنو إسرائيل.
قوله: {قَالَتْ ياويلتا} الظَّاهرُ كون الألف بدلاً من ياء المتكلم ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في روايةٍ، وبها قرأ الحسن «يَا وَيْلَتِي» بصريح الياء. وقيل: هي ألف(10/526)
الندبة، ويوقفُ عليها بهاء السَّكْتِ. وكذلك الألف في «يَا وَيْلَتَا» و «يَا عَجَبَا» .
قال القفال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أصلُ الوَيْل هو الخِزْيُ، ويقال: وَيلٌ لفلان، أي الخزي والهلاك.
[قال سيبويه: «وَيْح» زجر لمنْ أشرف على الهلاكِ، و «وَيْل» ] لمن وقع فيه.
قال الخليلُ: ولَمْ أسْمَعْ على مثاله إلاَّ «وَيْح» ، و «وَيْد» ، و «وَيْه» ، وهذه كلمات متقاربة في المعنى.
قوله: «أَأَلِدُ» قرأ ابنُ كثير ونافع وأبو عمر «آلد» بهمزة ومدة، والبقاون: بهمزتين بلا مدٍّ وقوله: {وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً} الجملتان في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل «ألِدُ» أي: كيف تقعُ الولادة في هاتينِ الحالتين المنافيتين لها؟ .
والجمهورُ على نصب «شَيْخاً» وفيه وجهان:
المشهورُ أنَّهُ حالٌ، والعاملُ فيه: إمَّا التَّنْبيهُ وإما الإشارةُ. وإمَّا كلاهما.
والثاني: أنه منصوبٌ على خبر التَّقريب عند الكوفيين، وهذه الحالُ لازمةٌ عند من لا يَجْهَل الخبر، وأمَّا من جهله فهي غير لازمة.
وقرأ ابنُ مسعُود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود «شَيْخٌ» بالرَّفْع، وذكروا فيه أوجهاً: إمَّا خبرٌ بعد خبر، أو خبران في معنى خبر واحد نحو: هذا حلو حامض، أو خبر «هَذَا» و «بَعْلي» بيانٌ، أو بدلٌ، أو «شيخٌ» بدلٌ من «بَعْلي» ، أو «بَعْلِي» مبتدأ و «شَيْخٌ» خبره، والجملة خبر الأول، أو «شَيْخٌ» خبر مبتدأ مضمر أي: هو شيخٌ.
والشَّيْخُ يقابله عجوزٌ، ويقال: شَيْخَة قليلاً؛ كقوله: [الطويل]
2993 - وتَضْحَكُ مِنِّ] شَيْخَةٌ عَبْشمِيَّةٌ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وله جموعٌ كثيرة، فالصَّريحُ منها: أشياخ وشُيُوخ وشِيخان، وشِيخَة عند من يرى أنَّ فعلة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمَة وفِتْيَة.
ومن أسماءِ جمعه: مَشِيخَة وشِيَخَة ومَشْيُوخاً.
وبَعْلُهَا: زوجها، سُمِّي بذلك لأنَّهُ قيِّمُ أمرها.
قال الواحدي: وهذا من لَطِيفِ النَّحو وغامضه فإنَّ كلمة «هذا» للإشارة، فكان قوله {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} قائمٌ مقام أن يقال: أشير إلى بَعْلِي حال كونه شَيْخاً.
والمقصُودُ: تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشَّيْخُوخة.(10/527)
ثم قال: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} .
فإن قيل: كيف تعجَّبَتْ من قُدْرَةِ الله - تعالى - والتَّعجُّبُ من قدرةِ الله يدلُّ على الجهْلِ بقُدْرةِ الله تعالى؛ وذلك يوجبُ الكُفْرَ؟ .
فالجواب: أنَّها إنَّما تعجبت بحسب العُرْفِ والعادة لا بحسب القدرة، فإنَّ الرَّجُلَ المسلم لو أخبره رجلٌ آخرُ صادقٌ بأنَّ الله - تعالى - يقلبُ هذا الجبل إبْرِيزاً، فلا شكَّ أنه يتعجب نظراً إلى العادةِ لا استنكاراً للقدرةِ.
ثم قالت الملائكةُ: {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} أي: لا تعجبي مِنْ أمْرِ الله، فإنَّ الله إذا أراد شيئاً كان.
قوله: {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} أي: بيت إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - والمعنى: رحمةُ الله عليكم متكاثرة، وبركاته عندكم متواليةٌ متعاقبة، وهي النبوة، والمعجزات القاهرةُ، فإذا خرق الله العادةَ في تخصيصكُم بهذه الكراماتِ العاليةِ الرَّفيعةِ، فلا تعجبي من ذلك. وقيل: هذا على معنى الدُّعاءِ من الملائكة.
وقيل: على معنى الخَيْرِ والرَّحْمَةِ والنعمة. و «البركاتُ» جمع البركة وهي ثبوت الخَيْرِ.
فإن قيل: ما الحكمةُ في إفرادِ الرَّحمةِ وجمع البركات، وكذلك إفراد السَّلام في التشهد وجمع البركات؟ .
فالجواب: قد تقدَّم في سورة البقرة عند قوله: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] .
وقال ابن القيِّم - هنا - إنَّ السلام إمَّا مصدرٌ محضٌ، فهو شيءٌ واحدٌ، فلا معنى لجَمْعِهِ، وإمَّا اسمٌ من أسماء الله - تعالى - فيستحيل أيضاً جمعه، وعلى التقديرين لا سبيل لجمعه.
وأمَّا الرَّحمةُ فمصدرٌ كما تقدَّم، وأمَّا البركةُ: فإنها لمَّا كانت تتجدَّدُ شيئاً بعد شيءٍ كان لفظ الجمع أولى بها؛ لدلالتها على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن كهذه الآية، وكذلك السَّلام في التشهُّدِ، وهو قوله: السَّلام عليكم أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته.
وقوله: «عَلَيْكُم» حكى سيبويه «عَلَيْكم» بكسر الكافِ لمجاورتها الياء نقله القرطبي وفيه دليل على أنَّ الأزواجَ من أهلِ البيتِ.
قوله: «أهْلَ البيتِ» في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه مُنَادَى.
والثاني: أنه منصوبٌ على المدح. وقيل: على الاختصاص، وبين النَّصبين فرقٌ:(10/528)
وهو أنَّ المنصوب على المدح لفظٌ والمنصوبُ على الاختصاصِ لا يكونُ إلا لمدحٍ، أو ذمٍّ، لكن لفظه لا يتضمَّنُ بوضعه المدحَ، ولا الذَّم؛ كقوله: [الرجز]
2994 - بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ... كذا قاله أبو حيَّان، واستند إلى أنَّ سيبويه جعلهما في بابين، وفيه نظرٌ. ثم قال: إنه حميدٌ مجيدٌ، فالحميد: المحمود، والمجيدُ: فعيل، مثال مبالغة من مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجَادَة، ويقال: مَجُد ك: شَرُف وأصله: الرِّفْعَة.
وقيل: من مَجَدتِ الإبلُ تَمْجُدُ مَجَادَةً ومَجْداً، أي: شَبِعَتْ؛ وأنشدوا لأبي حيَّة النَّمَيْرِي: [الوافر]
2995 - تَزيدُ على صواحبها وليْسَتْ ... بِمَاجِدةِ الطَّعامِ ولا الشَّرابِ
[أي] : ليست بكثيرة الطَّعام ولا الشَّرابِ.
وقيل: مَجَد الشَّيءُ: أي: حَسُنَتْ أوصافُهُ.
وقال الليثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أمْجَدَ فلانٌ عطاءهُ ومجَّدهُ أي: كثَّرَهُ» .
والمجيدُ: المَاجدُ، وهو ذُو الشَّرفِ والكرمِ.
قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} ، أي: الفزعُ؛ قال الشَّاعرُ: [الطويل]
2996 - إِذَا أخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ أمْسَكَتْ ... بِمَنْكِبِ مِقدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا
يقال: رَاعَهُ يَرُوعُه، أي: أفزعهُ؛ قال عنترةُ: [الكامل]
2997 - ما رَاعَنِي إِلاَّ حَمُولةُ أهْلِهَا ... وسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حبَّ الخِمْخِمِ
وارتاع: افتعل منه؛ قال النابغة: [البسيط]
2998 - فارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كلاَّبٍ فَبَاتَ لَهُ ... طَوْعَ الشَّوامِتِ مِنْ خَوْفٍ ومِنْ صَرَدِ
وأمَّا الرُّوعُ - بالضمِّ - فهي النَّفْسُ لأنَّها محلُّ الرَّوْعِ. ففرَّقُوا بين الحالِّ والمَحَلِّ؛ وفي الحديث: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي» .
قوله: {وَجَآءَتْهُ البشرى} عطف على «ذَهَبَ» ، وجوابُ «لمَّا» على هذا محذوفٌ(10/529)
أي: فلمَّا كان كيت وكيت اجترأ على خطابهم، أو فطن لمجادلتهم، وقوله: «يَجَادِلُنَا» على هذا جملةٌ مستأنفةٌ، وهي الدَّالَّةُ على ذلك الجواب المحذوف.
وقيل: تقديرُ الجواب: أقبل يُجَادلنا، أو أخذ يُجَادلُنَا، ف «يُجَادِلُنَا» على هذا حالٌ من فاعل «أقبل» .
وقيل: جوابها قوله: «يُجَادلُنَا» وأوقع المضارع موقع الماضي.
وقيل: الجوابُ قوله: {وَجَآءَتْهُ البشرى} والواوُ زائدةٌ. وقيل: «يُجَادِلُنَا» حال من «إبراهيم» ، وكذلك قوله: {وَجَآءَتْهُ البشرى} و «قَدْ» مقدرةٌ. ويجُوزُ أن يكون «يُجَادِلُنَا» حالاً من ضمير المفعول في «جَاءءَتْهُ» . و «فِي قَوْمِ لُوطٍ» أي: في شأنهم.
قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} .
هذا أوَّلُ قصة قوم لوط، والمعنى: أنَّهُ لمَّا زال الخوف وحصل السُّرورُ بسبب مجيء البُشْرَى بحصول الولد، أخذ يُجَادلنا أي: رسلنا، بمعنى: يكلمنا؛ لأنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لا يجادل ربه، إنَّما يسأله ويطلب إليه بدليل مدحه عقيب الآية بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} ولو كان جدلاً مذموماً لما مدحه بهذا المَدْح العظيم، وكانت مجادلته أن قال للملائكة: أرأيتم لو كان في مدائنِ لوطٍ خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا: لا.
قال: أو أربعون. قالوا: لا.
قال: أو ثلاثون. قالوا لا. حتَّى بلغ العشرة.
قالوا: لا. قال: أرأيتم لو كان فيها رجلٌ مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته} [العنكبوت: 32] .
ثم قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} .
والحليم: الذي لا يتعجَّلُ بمكافأة من يؤذيه، ومن كان كذلك فإنَّه يتأوَّهُ إذا شاهد وصول الشَّدائد إلى الغير فلمَّا رأي مجيء الملائكة لإهلاك قوم لُوط عظم حزنهُ، وأخذ يتأوَّهُ فوصفه، الله - تعالى - بأنَّهُ مُنِيبٌ؛ لأنَّ من ظهرت منه هذه الشفقة العظيمةُ على الخلق فإنَّهُ يتُوبُ ويرجع إلى الله - تعالى عزَّ وجلَّ - في إزالة ذلك العذابِ، أو يقال: من كان لا يَرْضَى بوقوع غيره في الشَّدائد، فبأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها أولى، ولا طريق لتخليصِ النَّفْسِ من عذاب الله والوقوع فيه إلا بالتوبةِ والإنابةِ، فقالت الرُّسُلُ عند ذلك لإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هاذآ} أي: أعرض عن هذا المقال، ف {إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} ، أي: عذابُ ربِّك وحُكم ربِّك {إِنَّهُمْ آتِيهِمْ} : نازلٌ بهم {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} ، أي: غير مصروف عنهم.
قوله: {آتِيهِمْ عَذَابٌ} يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً ل «إنَّهُمْ» ، ويجوز أن يكون «آتِيهِمْ» الخبر «عَذابٌ» المبتدأ، وجاز(10/530)
ذلك لتخصُّصِه بالوصفِ، ولتنكير «آتِيهِمْ» ؛ لأنَّ إضافته غيرُ محصنةٍ.
ويجُوزُ أن يكون «آتِيهِمْ» خبر «إنَّ» ، و «عذابٌ» فاعلٌ به، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عمرو بن هرم «وإنَّهُمْ أتاهُمْ» بلفظ الفعل الماضي.(10/531)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً} قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: انطلقُوا من عند إبراهيم إلى «لُوطٍ» [و] بين القريتين أربعة فراسخَ، ودخلوا عليه على صورة غلمان مرد حسان الوجوه.
قوله: {سياء بِهِمْ} فعلٌ مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل ضمير «لُوطٍ» من قولك: «سَاءَنِي كَذا» أي: حصل لي سُوءٌ، و «بِهِمْ» متعلقٌ به، أي: بسببهم، يقال: سؤته فسيء كما يقال: سَرَرْتُه فَسُرَّ، ومعناهُ: سَاءَهُ مَجِيئُهم وسَاءَ يَسُوءُ فعل لازم.
قال الزجاجُ: «أصله» سُوىءَ بِهِمْ «إلاَّ أنَّ الواو أسكنت ونقلت كسرتها إلى السين» .
و «ذَرْعاً» نصبٌ على التَّمييز، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير يذرع بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه، اشتقاقاً من الذِّراع، تُوسِّع فيه فوضع موضع الطَّاقة والجهد. فقيل: ضاقَ ذَرْعُه، أي طاقته؛ قال: [البسيط]
2999 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فاقْدِرْ بِذرْعِكَ وانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ
وقد يقعُ الذِّراعُ موقعهُ؛ قال: [الوافر]
3000 - إذَا التَّيَّازُ ذُو العضلاتِ قُلْنَا ... إلَيْكَ إلَيْكَ ضَاقَ بِهَا ذِرَاعا(10/531)
قيل: هو كنايةٌ عن ضيق الصَّدْرِ.
وقوله: «عَصِيبٌ» العَصِبُ والعَصبْصَبُ والعَصُوب: اليومُ الشَّديدُ الكثيرُ الشَّرَّ، الملتفُّ بعضه ببعض قال: [الوافر]
3001 - وكُنْتَ لِزازَ خَصْمِكَ لَمْ أعَرِّدْ ... وَقَدْ سَلكُوكَ في يومٍ عَصِيبِ
وعن أبي عبيدة: «سُمِّي عصيباً؛ لأنَّه يعصبُ النَّاسَ بالشَّرِّ» . كأنَّه عصب به الشَّر والبلاء أي: حشدوا والعِصَابةُ: الجماعةُ من النَّاس سُمُّوا بذلك لإحاطتهم إحاطة العصابة.
والمعنى: أنَّ لوطاً لمَّا نظر إلى حسن وجوههم، وطيب روائحهم، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشةِ، وعلم أنَّه سيحتاجُ إلى المدافعة عنهم، فلذلك ضاق بهم ذَرْعاً أي: قَلْباً.
يقال: ضَاقَ ذَرْعُ فلان بكذا، إذا وقع في مكروهٍ، ولا يطيقُ الخُروج منه.
قوله: {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ} «يُهْرَعُونَ» في محلِّ نصب على الحال. والعامَّةُ على «يُهْرَعُونَ» مبنياً للمفعول. وقرأ فرقة بفتح الياء مبنيّاً للفاعل من لغة «هَرَع» والإهراعُ: الإسْراعُ.
ويقالُ: هو المَشْيُ بين الهرولة والجمز.
وقال الهرويُّ: هَرَعَ وأهرع: استحث.
وقيل: «الإهراعُ: هو الإسْرَاع مع الرّعدة» .
قيل: هذا من باب ما جاء بصيغةِ الفاعلِ على لفظِ المفعولِ، ولا يعرف له فاعل نحو: أولع فلان، وأرْعِدَ زَيْدٌ، وزُهي عمرٌو من الزهو.
وقيل: لا يجوزُ ورود الفاعل على لفظ المفعول، وهذه الأفعالُ عرف فاعلوها. فتأويلُ أولع فلانٌ أي: أولعهُ حبُّه، وأرْعدَ زيدٌ أي: أرعده غضبه، وزُهي عَمْرٌو أي: جعله ما لهُ زاهياً، وأهرع خوفه، أو حرصه.
فصل
روي أنَّه لمَّا دخلت الملائكةُ دار لوط - عليه السلام - مضت امرأته فقالت لقومه: دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن منهم وجوهاً ولا أطيب منهم رائحة ف «جَاءَهُ قَوْمُهُ» مسرعين {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} أي: من قبل مجيئهم إلى لوطٍ كانوا يأتون(10/532)
الرِّجال في أدبارهم، فقال لهم لوطٌ - عليه السلام -: حين قصدوا أضيافه فظنوا أنهم غلمان {ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يعني: بالتزويج.
قوله
: {هؤلاء
بَنَاتِي} جملةٌ برأسها، و {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} جملةٌ أخرى، ويجُوزُ أن يكون «هؤلاءِ» مبتدأ، و «بَنَاتِي» بدلٌ أو عطفُ بيان، وهُنَّ مبتدأ، و «أطْهَرُ» خبره، والجملة خبر الأول. ويجوز أن يكون «هُنَّ» فصلاً، و «أطْهَرُ» خبر: إمَّا ل «هَؤلاءِ» ، وإمَّا ل «بَنَاتِي» والجملةُ خبر الأوَّلِ.
وقرأ الحسنُ وزيدُ بنُ عليّ، وسعيدُ بنُ جبير، وعيسى بن عمر، والسُّدي «أطْهَرَ» بالنَّصْب، وخُرِّجَتْ على الحالِ، فقيل: «هؤلاءِ» مبتدأ، و «بَنَاتِي هُنَّ» جملة في محلِّ خبره، و «أطْهَرَ» حال، والعاملُ: إمَّا التَّنبيهُ وإمَّا الإشارةُ.
وقيل: «هُنَّ» فصلٌ بين الحالِ وصاحبها، وجعل من ذلك قولهم: «أكثر أكْلِي التفاحة هي نضيجةً» ومنعه بعضُ النحويين، وخرج الآية على أنَّ «لَكُم» خبر «هُنَّ» فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنويِّ، وخرَّج المثل المذكور على أنَّ «نَضِيجَةٌ» منصوبة ب «كَانَ» مضمرة.
فصل
قال قتادةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «المرادُ بناته لصلبه» ، وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزاً كما زوَّج النبي - صلوات الله البرّ الرحيم وسلامه عليه دائماً أبداً - ابنته من عُتْبة بن أبي لهبٍ، وزوج ابنته الأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين.
وقال الحسنُ بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام.
وقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير: أراد نساءهم، وأضاف إلى نفسه؛ لأنَّ كُلَّ نبيٍّ أبو أمته وفي قراءة أبي بن كعب « {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وهو أب لهم» وهذا القول أولى؛ لأنَّ إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفُجَّار أمر مستعبدٌ لا يليقُ بأهل المروءةِ، فكيف بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -؟ وأيضاً فبناته من صلبه لا تكفي للجمع العظيم، أمَّا بناتُ أمته ففيهن كفاية للكُلِّ، وأيضاً: فلم يكن له إلاَّ بنتان، وإطلاق البنات على البنتين لا يجوز؛ لما ثبت أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة؛ وقال بعضهم ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق.(10/533)
فإن قيل: ظاهرُ قوله: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يقتضي كون عملهم طاهراً، ومعلوم أنَّهُ فاسدٌ؛ ولأنه لا طهارة في نكاح الرَّجُل.
فالجوابُ: هذا جارٍ مجرى قولنا: الله أكبرُ، والمرادُ: أنَّهُ كبيرٌ، وكقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} [الصافات: 62] ولا خير فيها، ولمَّا قال أبو سفيان يوم أحد اعْلُ هُبَلُ اعلُ هُبَلُ، قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلى وأجلُّ ولا مقاربة بين الله والصنم.
قوله: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} قرأ أبُو عمرو ونافع بإثبات ياء الإضافة في «تُخْزُونِ» على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليها.
والضَّيفُ في الأصل مصدرٌ كقولك: رجالٌ صومٌ، ثم أطلق على الطَّارق لميلانه إلى المُضِيف، ولذلك يقعُ على المفردِ والمذكر وضدِّيهما بلفظٍ واحدٍ، وقد يثنى فيقال: ضيفان، ويجمع فيقال: أضياف وضُيُوف كأبيات وبُيُوت وضيفان كحوض وحِيضان.
والضَّيف قائمٌ هنا مقام الأضياف، كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} [النور: 32] .
فصل
قال ابنُ عباسٍ: المرادُ: خافوا الله، ولا تفضحوني في أضيافي، يريد: أنَّهُم إذا هجمُوا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحةُ.
وقيل: معناه لا تخجلوني فيهم؛ لأنَّ مضيف الضَّيْفِ يلحقهُ الخجلُ من كُلِّ فعل قبيحٍ يتوجه إلى الضَّيف، يقال: خزي الرجل إذا استحيا.
ثم قال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} أي: صالح سديدٌ يقول الحق، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. وقال عكرمةُ: رجل يقول: لا إله إلاَّ الله.
وقال ابن إسحاق: رجل يأمُرُ بالمعروفِ، وينهى عن المنكر.
{قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ} يا لوطُ {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} ، أي: لسن أزواجاً لنا فنستحقهنّ بالنكاح. قيل: ما لنا في بناتك من حاجةٍ، ولا شهوةٍ. وقيل: {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان، ونحنُ لا نجيبك إلى ذلك، فلا يكون لنا فيهن حقٌّ.(10/534)
قوله: «مِنْ حقٍّ» يجوز أن يكون مبتدأ، والجارُّ خبره، وأن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا القولين.
قوله: «ما نُرِيدُ» يجُوزُ أن تكون «ما» مصدرية، وأن تكون موصولة بمعنى «الَّذي» . والعلم عرفانٌ؛ فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي: لتعرف إرادتنا، أو الذي نريده. ويجوزُ أن تكون «ما» استفهامية، وهي معلقة للعلم قبلها.
والمعنى: إنك لتعلم ما نريد من إتيان الرِّجال.
قوله: «لَوْ أنَّ» جوابها محذوفٌ تقديره: لفعلتُ بكم وصنعتُ كقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ} [الرعد: 31] قوله: «أَوْ آوِي» يجوز أن يكون معطوفاً على المعنى، تقديره: أو أنِّي آوي، قاله أبُو البقاءِ ويجوزُ أن يكون معطوفاً على «قُوَّةً» ؛ لأنه منصوبٌ في الأصل بإضمارِ أن فلمَّا حذفت «أنْ» رفع الفعلُ كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] .
واستضعف أبو البقاءِ هذا الوجه بعدم نصبه. وقد تقدَّم جوابه. ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة، وأبي جعفر: «أوْ آوِيَ» بالنصب كقوله: [الطويل]
3002 - ولوْلاَ رجالٌ منْ رِزَامٍ أعِزَّةٍ ... وآلُ سُبَيْعٍ أو أسُوءكَ عَلْقَمَا
وقولها: [الوافر]
3003 - للُبْسُ عَبَاءَةٍ وتقرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ
ويجوز أن يكون عطف هذه الجملةِ الفعلية على مثلها إن قدَّرت أنَّ «أنَّ» مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد «لَوْ» عند المبرد، والتقدير: ول يستقر - أو يثبت - استقرار القوة أوْ آوي، ويكون هذان الفعلان ماضيي المعنى؛ لأنَّهما تقلب المضارع إلى المُضيِّ.
وأمَّا على رأي سيبويه في كون أنَّ «أنَّ» في محلِّ الابتداء، فيكون هذا مستأنفاً.
وقيل: «أوْ» بمعنى «بل» وهذا عند الكوفيين.
و «بِكُمْ» متعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من «قُوَّة» ، إذ هو في الأصلِ صفةٌ للنكرة، ولا يجوزُ أن يتعلق ب «قُوَّةً» لأنها مصدرٌ.
والرُّكْنُ بسكون الكافِ وضمها الناحية من جبلٍ وغيره، ويجمع على أركان وأرْكُن؛ قال: [الرجز]
3004 - وَزَحْمُ رُكْنَيْكَ شَدِيدُ الأرْكُنِ ...(10/535)
فصل
المعنى: لو أنَّ لي قوة البدنِ، أو القوَّة بالأتباع، وتسمية موجب القوة بالقوَّة جائز قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60] والمراد السلاح. {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي: موضع حصين، وقيل: أنضم إلى عشيرةٍ مانعةٍ.
فإن قيل: كيف عطف الفعل على الاسم؟ .
فالجوابُ قد تقدَّم.
قال أبُو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ما بعث الله بعده نبيّاً إلاَّ في منعة من عشيرته» . «وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» يَرْحَمُ اللهُ لُوطاً لقد كَانَ يَأوي إلى رُكْنٍ شديدٍ «.
قال ابنُ عبَّاسٍ والمفسِّرُون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: أغلق لوطٌ بابه، والملائكة معه في الدَّار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراءِ البابِ، وهم يُعَالجُونَ سور الجدار، فلما رأت الملائكةُ ما يلقى لوطٌ بسببهم: {قَالُواْ يالوط} إنَّ ركنك شديدٌ {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} بسوءٍ ومكروه فإنا نحولُ بينهم وبين ذلك، فافتح الباب، ودعنا وإيَّاهم؛ ففتح الباب ودخلوا، واستأذن جبريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ربه - عزَّو جلَّ - في عقوبتهم فأذن لهُ - فقام في الصُّورة اليت يكون فيها؛ فنشر جناحيه، وعليه وشاح من دُرٍّ منظوم، وهو براق الثَّنايا، أجلى الجبين، ورأسه مثل المرجان كأنَّه الثلج بياضاً، وقدماه إلى الخضرة، فضرب بجناحيه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطَّريق، فانصرفوا وهم يقولون: النَّجاة النَّجاة في بيت لوطٍ أسحرُ قوم في الأرض، سحرونا، وجَعلوا يقولون: يا لوطُ كما أنت حتى تصبح، وسترى ما تلقى منَّا غداً، فقال لوطٌ للملائكةِ: متى موعد هلاكهم؛ فقالوا: الصُّبح، قال: أريدُ أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن، فقالوا {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} .
قوله: «فَأَسْرِ» قرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ: (فأسر بأهلك) هنا وفي الحجر، وفي الدخان (فاسر بعبادي) ، وقوله: (أن اسر) في طه والشعراء، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط درجاً وتثبتُ مكسورة ابتداء.
والباقُون: «فأسْرِ» بهمزة القطع تَثْبتُ مفتوحةً درجاً وابتداء، والقراءتان مأخوذتان(10/536)
من لغتي هذا الفعل فإنَّهُ يقال: سَرَى، ومنه {والليل إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] ، وأسْرَى، ومنه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وهل هما بمعنى واحدٍ أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وهو قولُ أبي عبيدٍ.
وقيل: أسْرَى لأولِ الليل، وسرى لآخره، وهو قولُ اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأمَّا «سَارَ» فمختص بالنَّهار، وليس مقلُوباً من «سَرَى» .
فإن قيل «السُّرى» لا يكون إلاَّ بالليل، فما الفائدةُ في قوله: {بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} قال: هو آخر الليل سحر وقال قتادةُ: بعد طائفة من اللَّيلِ.
وتقدم في سورة يونس.
ثم قال: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} في الالتفات وجهان:
أحدهما: نظر الإنسان إلى ما وراءه، فيكونُ المرادُ أنه كان لهم في البلد أموال نهوا عن الالتفات إليها.
والثاني: أنَّ المراد بالالتفات الانصرافُ؛ كقوله تعالى: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} [يونس: 78] أي: لتصرفنا والمراد نهيهم عن التَّخلُّفِ.
قوله: {إِلاَّ امرأتك} قرأ ابنُ كثير، وأبو عمرو برفع «امْرأتُكَ» والباقون بنصبها. وفي هذه الآية كلامٌ كثيرٌ. أمَّا قراءةُ الرَّلإع ففيها وجهان:
أشهرهما - عند المعربين - أنَّه على البدل من «أحد» وهو أحسنُ من النَّصب، لأنَّ الكلام غيرُ موجب.(10/537)
وهذا الوجهُ ردَّهُ أبو عبيد بأنه يلزمُ منه أنَّهُم نُهُوا عن الالتفاتِ إلاَّ المرأة، فإنَّها لم تُنْه عنه، وهذا لا يجُوزُ، ولوْ كان الكلامُ «ولا يَلْتَفِت» برفع «يَلْتَفتْ» يعني على أن تكون «لا» نافيةً، فيكون الكلامُ خبراً عنهم بأنَّهُم لم يلتفتُوا إلاَّ امرأته فإنَّها تلتفتُ لكان الاستثناء بالبدليَّة واضحاً، لكنَّهُ لم يقرأ برفع «يَلْتَفِتُ» أحد.
واستحسن ابنُ عيطة هذا الإلزامَ من أبي عبيدٍ.
وقال: «إنَّه واردٌ على القول باستثناءِ المرأة من» أحد «سواءً رفعت المرأة أو نصبتها» .
وهذا صحيحٌ، فإنَّ أبا عبيد لم يُرد الرفع لخصوصِ كونه رفعاً، بل لفسادِ المعنى، وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من «أحد» ، وأبو عبيد يخرِّجُ النصب على الاستثناء من «بِأَهْلِكَ» ولكنَّهُ يلزمُ من ذلك إبطالُ قراءة الرَّفع، ولا سبيل إلى ذلك لتواتُرها.
وقد انفصل المبرِّدُ عن هذا الإشكال الذي أورده أبو عبيد بأنَّ النَّهْيَ في اللفظ ل «أحَد» وهو في المعنى للوط - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، إذ التقدير: لا تدعْ منهم أحداً يلتفتُ، كقولك لخادمك: «لا يَقُمْ أحَدٌ» النَّهْيُ ل «أحد» وهو في المعنى للخادم، إذ المعنى: لا تدعْ أحداً يقومُ.
فآل الجوابُ إلى أنَّ المعنى لا تدعْ أحداً يلتفتُ إلاَّ امرأتك فدعها تلتفتُ، هذا مقتضى الاستثناء كقولك: «لا تدَعْ أحَداً يقوم إلاَّ زيداً معناه: فدعهُ يقوم. وفيه نظرٌ، إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا.
والثاني: أنَّ الرفع على الاستثناءِ المنقطع.
وقال أبو شامة: قراءةُ النَّصب أيضاً من الاستثناء المنقطع، فالقراءتان عنده على حدِّ سواء، ولنسرُدْ كلامه قال:» الذي يظهرُ أنَّ الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يقصدْ به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الإخبار عنها، فالمعنى: لكن امرأتكَ يجري لها كذا وكذا، ويؤيدُ هذا المعنى أنَّ مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجرِ، وليس فيها استثناءٌ ألبتَّة، قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [الحجر: 65] الآية.
فلم تقع العنايةُ في ذلك إلاَّ بذكر من أنجاهم الله تعالى، فجاء شرح حالِ امرأته في سورة [هود] تبعاً لا مقصوداً بالإخراج ممَّا تقدَّم، وإذا اتَّضح هذا المعنى عُلم أنَّ القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، وفيه النصبُ والرفعُ، فالنَّصب لغةُ أهلِ الحجاز، وعليه الأكثر، والرَّفعُ لغةُ تميم، وعليه اثنان من القراء «.
قال أبُو حيَّان:» هذا الذي طوَّل به لا تحقيق فيه، فإنَّه إذا لم يقصد إخراجها من المأمُور بالإسراء بهم، ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ، وجعل اسثناءً منقطعاً، كان من(10/538)
المنقطع الذي لمْ يتوجَّهْ عليه العاملُ بحالٍ، وهذا النَّوعُ يجبُ فيه النَّصْبُ على كلتا اللغتين وإنَّما تكون اللغتان فيما جاز توُّهُ العامل عليهن وفي كلا النوعين يكون ما بعد «إلاَّ» من غير الجنس المستثنى، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنَّهُ يتوجَّه عليه العاملُ وهو أنه قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ؛ فكان يجبُ فيه إذ ذاك النَّصْبُ قولاً واحداً.
قال شهابُ الدِّين: «أمَّا قوله:» إنَّه لم يتوجَّه عليه العامل «ليس بمسلَّم، بل يتوجَّهُ عليه في الجملة، والذي قاله النُّاة ممَّا لم يتوجَّه عليه العاملُ من حيثُ المعنى نحو: ما زاد إلاَّ ما نقص، وما نفع إلاَّ ما ضرَّ، وهذا ليس من ذاك، فكيف يعترض به على أبي شامة؟» .
وأمَّا النصب ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهُ مستثنى من «بأهلكَ» ، واستشكلُوا عليه إشكالاً من حيث المعنى: وهو أنه يلزمُ ألاَّ يكون سرى بها، لكن الفرض أنه سرى بها يدلُّ عليه أنَّها التفتت، ولو لم تكن معهم لما حسن الإخبار عنها بالالتفات، فالالتفاتُ يدل على كونها سرت معهم قطعاً.
وقد أجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها، ولكن لمَّا سرى هو وبنتاه تبعتهم فالتفتت، ويؤيِّد أنَّه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد الله وسقط من مصحفه، «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقطْعٍ من اللَّيْلِ إلاَّ امرأتك» ولم يذكر قوله {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} .
والثاني: أنَّهُ مستثنى منْ «أحد» وإن كان الأحسنُ الرّفع إلاَّ أنَّهُ جاء كقراءة ابن عامرٍ: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [النساء: 66] ، بالنَّصْبِ مع تقدُّم النفي الصَّريح.
وهناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن هنا.
والثالث: أنه مستثنى منقطعٌ على ما تقدَّم عن أبي شامة.
وقال الزمخشري: «وفي إخراجها مع أهله روايتان، روي أنَّه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحدٌ إلاَّ هي، فلمَّا سمعتْ هدَّة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه، فأدركها حجرٌ فقتلها، وروي أنه أمر بأن يخلِّفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين» .
قال أبُو حيَّان: «وهذا وهمٌ فاحشٌ، إذْ بَنَى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنَّه سرى بها أو لم يسر بها وهذا تكاذبٌ في الإخبار، يستحيلُ أن تكون القراءتان - وهما من كلام الله تعالى - يترتبان على التَّكاذُبِ» .(10/539)
قال شهابُ الدِّين: «وحاش لله أن تترتب القراءتان على التَّكاذُبِ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ، الفرض أنَّهُ قد جاء القولان في التفسير، ولا يلزم من ذلك التَّكاذبُ؛ لأنَّ من قال إنَّه سرى بها يعني أنَّها سرتْ هي بنفسها مصاحبةً لهم في أوائل الأمر، ثمَّ أخذها العذابُ فانقطع سُراها، ومن قال إنَّه لم يسر بها، أي: لَمْ يأمرها، ولم يأخذها، وأنَّهُ لم يدُم سراها معهم بل انقطع فصحَّ أن يقال: إنَّهُ سرى بها ولم يَسْرِ بها، وقد أجاب النَّاسُ بهذا، وهو حسنٌ» .
وقال أبو شامة: «ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبَّه عليه اختلاف القراءتين فكأنَّهث قيل: فأسر بأهلك إلاَّ امرأتك، وكذا روى أبو عبيد وغيره أنها في مصحف عبد الله هكذا، وليس فيها:» ولا يلتفتْ منكمْ أحَدٌ «فهذا دليلٌ على استثنائها من السُّرَى بهم ثم كأنه سبحانه وتعالى قال: فإن خرجتْ معكم وتَبعتْكُم - غير أن تكون أنت سريتَ بها - فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرها، فإنَّها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها، فكانت قراءة النَّصب دالَّة على المعنى المتقدم، وقراءةُ الرَّفعِ دالَّةٌ على المعنى المتأخر، ومجموعهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح» .
وهو كلامٌ حسنٌ شاهدٌ لما ذكرته.
قوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا} الضَّميرُ ضمير الشَّأنِ، «مُصِيبُهَا» خبرٌ مقدَّم، و «مَا أصَابَهُمْ» مبتدأ مؤخَّر وهو موصولٌ بمعنى «الذي» ، والجملة خبرُ «إنَّ» ؛ لأنَّ ضمير الشَّأنِ يُفسَّر بجملةٍ مصرَّحٍ بجزأيها.
وأعرب أبو حيان: «مُصِيبُهَا» مبتدأ، و «مَا أصَابهُمْ» الخبر وفيه نظرٌ من حيثُ الصَّناعة: فإنَّ الموصول معرفة، فينبغي أن يكون المبتدأ: «مُصِيبُهَا» نكرةً؛ لأنه عاملٌ تقديراً فإضافتهُ غير محضةٍ، ومن حيث المعنى: إنَّ المراد الإخبار عن الذي أصابهم أنه مُصيبها من غير عكس ويجوز عند الكوفيين أن يكون «مُصِيبُهَا» مبتدأ، و «ما» الموصولةُ فاعلٌ لأنَّهم يجيزون أن يفسَّر ضميرُ الشَّأن بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو: «إنَّهُ قائمٌ أبواك» .
قوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ} أي: موعد إهلاكهم. وقرأ عيسى بن عمر «الصُّبُح» بضمتين فقيل: لغتان، وقيل: بل هي إتباعٌ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك [الأنعام: 96] .
قوله: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} قيل: المراد حقيقتهُ، وقيل: المرادُ بالأمر العذابُ، قال بعضهم: لا يمكن حملهُ هنا على العذاب؛ لأن قوله: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا} ، فالجعل هو العذاب فكان الأمر شرطاً، والعذاب الجزاءُ، والشرط غير الجزاء، فالأمر غير العذاب، فدلَّ على أن الأمر هو ضدُّ النهي؛ ويدل على ذلك قول الملائكة: {إِنَّا أُرْسِلْنَا(10/540)
إلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] فدل على أنَّهم أمروا بالذهاب إلى قوم لوط بإيصال العذاب إليهم.
فإن قيل: لو كان كذلك، لقال: «فلما جاء أمرنا، جعلوا عاليها سافلها» ، لأن الفعل صدر عن المأمور.
فالجواب: أن فعل العبد فعل الله تعالى، وأيضاً: فالذي وقع إنَّما وقع بأمْر الله، وبأقداره، فلا يمتنع إضافته إلى الله تعالى؛ فكما يحسُنُ إضافتهُ إلى المباشرين، يحسنُ إضافته إلى المسَبِّب.
قوله: {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} مفعولا الجعل الذي بمعنى التَّصْيير، و «سِجِّيلٍ» قيل: هو في الأصل مركَّب من «سنك وكل» وهو بالفارسيَّة حجر وطين فعُرِّب، وغُيِّرت حروفهُ، كما عرَّبُوا الدِّيباج والدِّ] وان والاستبرق. وقيل: «سِجِّيل» اسمٌ للسَّماء، وهو ضعيفٌ أو غلطٌ، لوصفه ب «مَنْضُودٍ» . وقيل: من أسْجَلَ، أي: أرسل فيكون «فِعِّيلاً» ، وقيل: هو من التسجيل، والمعنى: أنه ممَّا كتب الله وأسجل أن يُعذَّب به قوم لوط، وينصرُ الأول تفسيرُ ابن عبَّاسٍ أنَّهُ حجرٌ وطين كالآجر المطبوخ وعن أبي عبيدة هو الحجر الصُّلب. وقيل: «سِجِّيل» موضع الحجارةِ، وهي جبالٌ مخصوصة. قال تعالى: {مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] .
قال الحسن: كان أصل الحجر هو الطين فشددت.
و «مَنضُودٍ» صفةٌ ل «سِجِّيلٍ» . والنَّضد: جعلُ بعضهُ فوق بعضٍ، ومنه {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} [الواقعة: 29] أي: متراكب، والمراد وصفُ الحجارة بالكثرة.
«مُسَوَّمَةً» نعتٌ ل «حِجَارة» ، وحينئذ يلزمُ تقدُّمُ الوصف غير الصَّريح على الصَّريح لأنَّ «مِنْ سِجِّيل» صفةٌ ل «حِجَارة» ، والأولى أن يجعل حالاً من «حِجَارة» ، وسوَّغ مجيئها من النكرة تخصُّص النكرة بالوصف.
والتَّسْويم: العلامةُ. قيل: عُلِّم على كُلِّ حجرٍ اسمُ من يرمي به وتقدَّم اشتقاقُه في آل عمران [14] في قوله: {والخيل المسومة} وقال الحسنُ والسديُّ: كان عليها أمثال الخواتيم. قال أبو صالحٍ: رأيتُ منها عند أم هانىء، وهي حجارة فيها خطوط حمرٌ على هيئة الجَزْع. وقال ابنُ جريجٍ: كان عليها سيماء لا تشبه حجارة الأرض.
و «عِنْدَ» إمَّا منصوبٌ ب «مُسَوَّمَةً» ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ ل «مُسَوَّمَةً» .
وقله: «ومَا هِيَ» الظَّاهرُ عودُ هذا الضمير على القرى المهلكة. وقيل: يعودُ على الحِجَارة وهي أقربُ مذكور. وقيل: يعودُ على العُقوبةِ المفهومة من السِّياقِ، ولَمْ يُؤنِّثْ «(10/541)
بِبَعيدٍ» إمَّا لأنَّهُ في الأصل نعتٌ لمكانٍ محذوف تقديره: وما هي بمكانٍ بعيدٍ بل هو قريبٌ، والمرادُ به السَّماء أو القُرَى المهلكة، أي: وما تلك القرى المهلكة من كفَّار مكة - ببعيدٍ؛ لأنَّ تلك القرى في الشَّام، وهي قريب من مكَّة، وإمَّا لأنَّ العقوبة والعقاب واحدٌ، وإمَّا لتأويل الحجارة بعذابٍ أو بشيءٍ بعيدٍ، والمراد بالآية كفار مكة، أي أنه تعالى يرميهم بهذه الحجارة.
قال أنس بن مالك سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جبريل عن هذا فقال: «مَا مِنْ ظالمٍ إلاَّ وهو بمعرض حجرِ يسقطُ عليه من ساعةٍ إلى ساعةٍ» .
وقال قتادةُ وعكرمةُ: يعنى ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار اللهُ منها ظالماً. روي: أنَّ الحجر اتَّبع شُذَّاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلادِ، ودخل رجلٌ منهم الحرم، فكان الحجرُ معلقاً بين السَّماء والأرض أربعين يوماً حتى خرج؛ فأصابه فأهلكه.(10/542)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
قوله تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} القصة.
أي: وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم - عليه السلام -، ثم صار اسماً للقبيلةِ.
وقال كثير من المفسِّرين: مَدْيَنُ اسم مدينة، وعلى هذا فتقديره: وأرسلنا إلى أهل مدين، فحذف «أهل» ، كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] أي: أهل القرية.
واعلم أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التَّوحيد، ولذلك قال شعيبٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} ثم بعد الدَّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم، فالأهم، ولما كان المتعادُ في أهل مدينَ البَخْسَ في المكيالِ والميزان، دعاهم إلى تركِ هذه العادة، فقال: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} .
قوله: «وَلاَ تَنْقُصُوا» : «نَقَصَ» يتعدَّى لاثنين، إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ؛ وقد يحذفُ؛ تقولُ: نَقَصْتُ زيْداً من حقِّه، وحقَّهُ، وهو هنا كذلك، إذ المرادُ: ولا تنْقصُوا النَّاس من المكيالِ، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى.
والمعنى: لا تُقَلِّلُوا وتُطَفِّفُوا ويجُوز أن يكون «المِكْيَال» مفعولاً أول، والثاني محذوفٌ، وفي ذلك مبالغة، والتقدير: ولا تنقصُوا المكيال والميزان حقَّهما الذي وجب لهما، وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما.
قوله تعالى: {إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} قال ابنُ عبَّاسٍ: موسرين في نعمة. وقال مجاهدٌ: كانوا في خصب وسعةٍ؛ فحذَّرهم زوال النعمة، وغلاء الأسعار، وحلول النقمة إنْ لم يتُوبُوا.
{وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} يحيطُ بكم فيهلككم.
قال ابنُ عبَّاسٍ: أخافُ: أي: أعلم.
وقال غيره: المراد الخوف؛ لأنه يجوز أن يتركُوا ذلك العمل خشية حُصُولِ العذابِ.
قوله: «محيطٍ» صفة لليوم، ووصف به من قولهم: أحاط به العدوُّ، وقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] .
قال الزمخشري: إنَّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغُ من وصفِ العذاب بها قال: لأنَّ(10/543)
اليوم زمانٌ يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمُعَذَّبِ ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه.
وزعم قومٌ: أنه جُرَّ على الجوار؛ لأنَّهُ في المعنى صفةٌ للعذاب، والأصلُ: عذاب يوم مُحيطاً وقال آخرون: التقدير: عذابُ يومٍ محيطٍ عذابُه. قال أبو البقاءِ: وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جرى على غير من هو له، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف.
واختلفوا في المراد بهذا العذاب: فقيل: عذاب يوم القيامةِ. وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا؛ كما هُو في حق سائر الأمم.
والأقربُ دخولُ كل عذاب فيه، وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدَّائرة بما فيها.
قوله: {ويا قوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} أي: بالعدل.
فإن قيل: وقع التَّكرار ههنا من ثلاثة أوجه، فقال: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} ثم قال {أَوْفُواْ المكيال والميزان} ، وهو عين الأول، ثم قال: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} ، وهو عين الأوَّل، فما فائدة التَّكرارِ؟ .
فالجواب من وجوه:
الأول: أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام.
الثاني: قوله: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} نهي عن التنقيص، وقوله: {أَوْفُواْ المكيال والميزان} أمر بإيفاء العدل، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه، لأنَّا نقول: الجوابُ من وجهين:
أحدهما: أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقولُ: صل قرابتك، ولا تقطعهم؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد.
وثانيهما: ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات، ولم ينه عن المبايعات، وإنَّما منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثاً: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان. ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء، فدل ذلك على أنها غير مكررة، بل في كل واحدة فائدة زائدة.
الوجه الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} وفي(10/544)
الثانية قال: {أَوْفُواْ المكيال والميزان} والإيفاءُ: عبارة عن الإتيان به على الكمالِ والتَّمام، ولا يحصلُ ذلك إلاَّ إذا أعطى قدراً زائداً على الحق، ولهذا المعنى قال الفقهاءُ: إنَّهُ تعالَى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصلُ إلاَّ عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرَّأس.
فالحاصلُ: أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النُّقصان، وفي الثانية أمَرَ بإعطاء شيءٍ مِنْ الزيادة، فكأنَّه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً ليحصل له تلك الزيادة، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج مالهُ من غير العوض.
وقوله: «بالقسط» يعني: بالعدلِ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقِّ بحيث يحصلُ معه اليقين بالخُروجِ عن العهدةِ، فالأمرُ بإيتاء الزِّيادةِ على ذلك غيرُ حاصل.
والبخس: هو النَّقْضُ.
ثم قال: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} .
فإن قيل: العثوُّ: الفسادُ التَّامُّ، فقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} جار مجرى قولك: ولا تفسدُوا في الأرض مفسدين.
فالجوابُ من وجوه:
الأول: أن من سعى في إيصال الضَّرر إلى الغير، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} ولا تسعوا في إفسادِ مصالح الغير، فإنَّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم.
والثاني: أن يكون المرادُ من قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} مصالح الأديان والشرائع.
ثم قال: {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} العامَّة على تشديد ياء «بقيَّة» . وقرأ إسماعيلُ بن جعفر - من أهل المدينة - بتخفيفها قال ابنُ عطيَّة: «هي لغةٌ» .
وهذا لا ينبغي أن يقال، بل يقال: إنْ لم يقصد الدَّلالةُ على المبالغة جيء بها مخففة وذلك أنَّ «فِعَل» بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصِّفة منه: «فَعِل» بكسر العين نحو: سَجيَت المرأة فهي سجيَة فإن قصدت المبالغة قيل: سجيَّة، لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك «بقيَّة وبقِية» أي: بالتَّشديد والتَّخفيف.
قال المفسِّرون «بقيَّةُ اللهِ» هي تقواه. قال ابنُ عباسٍ: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيلِ والوزن خيرٌ ممَّا تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهدٌ: «بقيَّةُ اللهِ» يعنى(10/545)
طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل؛ لأنَّ منفعة الطَّاعة تبقى أبداص.
قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قال ابنُ عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وجوابُ هذا الشَّرط متقدِّمٌ» يعنى: على مذهب من يراهُ لا على مذهب جمهور البصريِّين.
وإنَّما شرط الإيمان لكونه خيراً لهُمْ؛ لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرِّين بالثَّواب والعقابِ عرفوا أنَّ السَّعي في تحصيل الثَّواب وفي الحذر من العقابِ خير لهم من السَّعي في تحصيل ذلك القليل.
والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فدلَّ ظاهرُ الآية على أنَّ من لم يحترز عن هذا التطفيف لا يكون مُؤمناً.
قوله: {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: إنِّي نصحتكم، وأرشدتكم إلى الخير، وما عليّ منعكم من هذا الفعل القبيح. وقيل: لمَّا قال لهم: إنَّ البخس والتطفيف يزيل النعم عنكم، وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة؛ قالوا له: {أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ} قرأ حمزةُ والكسائيُّ وحفص عن عاصم، «أصلاتُكَ» بغير واو. والباقون بالواو على الجمع.
قوله: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ} العامَّةُ على نون الجماعةِ، أو التعظيم في «نَفْعلُ» و «نشاءُ» .
وقرأ زيد بنُ عليّ، وابنُ أبي عبلة والضحاك بنُ قيس بتاءِ الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء، فمن قرأ بالنون فيهما عطفه على مفعول «نَتْرُكَ» وهو «ما» الموصولةُ، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبدُ آباؤنا، أو أنْ نتركَ أن نفعل في أموالنا ما نشاءُ، وهو بخسُ الكيل والوزن المقدَّم ذكرهما. و «أوْ» للتنويع أو بمعنى الواو، قولان، ولا يجوز عطفه على مفعول «تأمُركَ» ؛ لأنَّ المعنى يتغيَّرُ، إذ يصير التقديرُ: أصلواتُك تأمُرك أن تفعل في أموالنا.
ومن قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكون معطوفاً على مفعول «تأمُركَ» ، وأن يكون معطوفاً على مفعول «نترك» ، والتقديرُ: أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاءُ أنت، أو أن نترك ما يعبدُ آباؤنا، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت.
ومن قرأ بالنُّون في الأوَّلِ وبالتَّاءِ في الثاني كان: «أن تفعل» معطوفاً على مفعول: «تأمُرُكَ» فقد صار ذلك ثلاثة أقسام، قسمٍ يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول: «نَتْرُكَ» وهي(10/546)
قراءةُ النُّونِ فيهما، وقسم يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول «تأمُرك» ، وهي قراءةُ النُّون في «نفعلُ» والتاء في «تشاء» ، وقسمٍ يجوزُ فيه الأمْران وهي قراءةُ التاء فيهما.
والظَّاهرُ من حيثُ المعنى في قراءة التَّاء فيهما، أو في «تشاء» أنَّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يامرهم بهما.
وقال الزمخشريُّ: «المعنى: تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإنسان لا يؤمرُ بفعل غيره» .
واعلم أنَّ قوله: {أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ} إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد. وقوله: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس.
فصل
قيل: المرادُ بالصلاة هنا الدِّين والإيمان؛ لأنَّ الصلاة أظهر شعائر الدين؛ فجعلوا ذكر الصَّلاة كناية عن الدِّين. وقيل: أصل الصلاة الاتِّباعُ، ومنه أخذ المصلِّي من خيل المسابقة، وهو الذي يتلو السابق؛ لأنَّ رأسه يكون على صلوي السَّباق، وهما ناحيتا الفخذين، والمعنى: دينُك يأمرك بذلك. وقيل: المرادُ هذه الأفعال المخصوصة، روي أنَّ شُعَيْباً كان كثير الصَّلاةِ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكُون، فقصدوا بقولهم: أصلاتُكَ تأمرك السخرية والاستهزاء.
{إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} .
قال ابن عباس: أرادوا السَّفيه الغاوي؛ لأنَّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون: للديغ سليم، وللفلاة مفازة.
وقيل: قالوه على وجهِ الاستهزاء، كما يقال للبخيل الخسيس «لو رآكَ حاتمٌ، لسجد لك» ، وقيل: الحليم، الرشيد بزعمك.
وقيل: على الصِّحَّة أي: إنَّكَ يا شعيبُ فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك، ومخالفة دينهم، وهذا كما قال قومُ صالح: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا} [هود: 62] .
قوله: «أَرَأَيْتُمْ» قد تقدَّم مراراً [يونس: 50] . وقال الزمخشريُّ هنا: فإنْ قلت: أين جوابُ «ارأيْتُم» وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوح، وصالح؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ، وإنَّما لم يثبتْ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه، معنى الكلام ينادي عليه، والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي، والأنبياءُ لا يبعثُون إلاَّ لذلك؟ .(10/547)
قال أبُو حيَّان: وتسميةُ هذا جواباً ل «أرَأيتُمْ» ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثّضاني ل «أرَأَيْتُم» لأنَّ «أرَأَيْتُمْ» إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ: «أرأيتك زيداً ما صنع» وقال الحوفيُّ: «وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره: أأعدلُ عمَّا أنا عليه» .
وقال ابنُ عطيَّة: «وجوابُ الشَّرط الذي في قوله:» إنْ كُنتُ «محذوفٌ تقديره أضلُّ كما ضللتُمْ، أو أترك تبليغ الرسالة، ونحو هذا ممَّا يليقُ بهذه المُحاجَّة» .
قال أبُو حيان: وليس قوله: «أضَلَّ» جواباً للشَّرط؛ لأنَّه إن كان مثبتاً فلا يمكنُ أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشَّرط، وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني ل «أرأيْتُمْ» وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ يدلُّ عليه الجملة السَّابقة مع متعلَّقها.
فصل
المعنى {أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} بصيرة وبيان من ربِّي {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} حلالاً.
قيل: كان شعيب كثير المالِ الحلال.
وقيل: الرزق الحسنُ: العلم والمعرفة أي: لما أتاني جميع هذه السَّعادات، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخُونَ في وحيه، أو أنْ أخالفَ أمره ونهيه، وإذا كان العزّ من الله، والإذلال من الله، وذلك الرزقُ إنَّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم، ولا أفرحُ بموافقتكم، وإنَّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه.
قوله: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ} قال الزمخشريُّ: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مُولِّ عنه، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقولُ: «خالفَنِي إلى الماءِ» ، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً، ومنه قوله تعالى: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتُكم عنها لأستبدَّ بها دُونَكُم.
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ معنى حسنٌ لطيف، ولم يتعرَّض لإعراب مفراداته؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب.
فيجوزُ أن يكون قوله: «أنْ أخَالِفَكُمْ» في موضع مفعول ب «أُرِيدُ» ، أي: وما أريد مُخالفتكُم، ويكون «فاعل» بمعنى «فعل» نحو: جاوتُ الشَّيء وجُزْته، أي: وما أريد أن أخالفكم، أي: أكون خلفاً منكم.(10/548)
وقوله: {إلى مَآ أَنْهَاكُمْ} يتعلَّق ب «أخَالِفَكُمْ» ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال، أي: مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قدَّر بعضهم محذوفاً يتعلَّقُ به هذا الجارُّ تقديره: وأميل إلى أن أخالفكم، ويجُوزُ أن يكون «أنْ أخالِفكثمُ» مفعولاً من أجله، وتتعلق «إلى» بقوله «أريدُ» بمعنى: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه.
ولذلك قال الزجاج: وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه.
ويجوزُ أن يرادَ بأن أخالفكم معناه من المخالفةِ، وتكون في موضع المفعول به ب «أُرِيد» ، ويقدَّر مائلاً إلى.
والمعنى: وما أريدُ فيما آمركم به وأنهاكم عنه: {إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} .
قوله: {مَا استطعت} يجوزُ ما «مَا» هذه الوجوه:
أحدهما: أن تكون مصدرية ظرفية أي: مدة استطاعتي.
والثاني: أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي» بدلاً من «الإصلاح» والتقديرُ: إن أريدُ إلاَّ المقدارَ الذي أستطيعه من الصَّلاح.
الثالث: أن يكون على حذفِ مضاف، أي: إلاَّ الإصلاحَ إصلاحَ ما استطعتُ، وهو أيضاً بدلٌ.
الرابع: أنَّها مفعول بها بالمصدر المعرَّف، أي: إنَّ أريدُ إلاَّ أن أصلح ما استطعت إصلاحُه؛ كقوله: [المتقارب]
3006 - ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعداءَهُ ... يَخَالُ الفِرَارَ يُراخِي الأجَلْ
ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريُّ، إلاَّ أنَّ إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين، ممنوعٌ إعمالهُ في المفعول به عند الكوفيين، وتقدَّم الجارَّان في «عليهِ» و «إليهِ» للاختصاص أي: عليه لا على غيره، وإليه لا إلى غيره.
فصل
اعمل أنَّ القوم كانوا قد أقرُّوا إليه بأنَّهُ حليمٌ رشيدٌ؛ لأنَّهُ كان مشهوراً بهذه الصفة، فكأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهم: إنَّكُم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلاَّ في الإصلاح وإزالة الفسادِ، فلمَّا أمرتكم بالتَّوحيدِ وترك إيذاء النَّاس؛ فاعلموا أنَّهُ دينٌ حق وأنه لي غرضي منه إيقاع الخصومة، وإثارة الفتنةِ، فأنتُم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق، ولا أسْعَى إلاَّ إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي، وذلك هو الإبلاغ(10/549)
والإنذار وأما الإجبارُ على الطَّاعة فلا أقدرُ عليه، ثمَّ أكَّد ذلك بقوله: {وَمَا توفيقيا إِلاَّ بالله} والتوفيق تسيهل سبيل الخير «عليْهِ توكَّلْتُ» اعتدمت «وإلَيْهِ أنيبُ» أرجع فيما ينزله علي من النَّوائِبِ، وقيل: في المَعَادِ.
قوله: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} العامَّةُ على فتح ياءِ المضارعة من «جرم» ثلاثيًّا. وقرأ الأعمشُ وابنُ وثابٍ بضمها من «أجرم» وقد تقدَّم [هود 22] أنَّ «جَرَمَ» يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل: كسب، فيقال: جَرَمَ زيدٌ مالاً نحو: كَسَبَهُ، وجرمْتُه ذَنْباً، أي: كسبته إياه فهو مثلُ كسب؛ وأنشد الزَّمشري على تعدِّية لاثنين قوله: [الكامل]
3007 - ولَقَدْ طَعَنْتُ أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزارضةُ بعدهَا أنْ يَغْضَبُوا
فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول.
والثاني: هو «أنْ يصيبكُم» أي: لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابة العذاب وقد تقدًَّم أنَّ جَرَمَ وأجْرم بمعنى، أو بينهما فرق.
ونسب الزمخشريُّ ضمَّ الياءِ من أجرم لابن كثير.
والعامَّةُ أيضاً على ضمِّ لام «مِثْلُ» رفعاً على أنَّه فاعل «يُصِيبَكُم» وقرأ مجاهدٌ والجحدريُّ بفتحها وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّها فتحةُ بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنَّما بُني على الفتح؛ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله تعالى:
{إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] وكقوله: [البسيط]
3008 - لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ ... حضمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدة في الأنعام [الأنعام: 94] .
والثاني: أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة لإعراب، والفاعل على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي: يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب.
فصل
والمعنى: لا يكسبنكم «شِقَاقِي» خلافي: «أنْ يُصِيبكم» عاب الاستئصال في الدنيا «(10/550)
مِثْلُ ما أصَابَ قوم نُوح» من الغرقِ، وقوم هود من الريح، وقوم صالح من الصَّيْحة والرَّجْفةِ، وقوم لوط من الخسْفِ.
قوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} أتى ب «بَعِيد» مفراداً وإن كان خبراً عن جمع لأحد أوجهٍ: إمَّا لحذف مضاف تقديره: وما إهلاك قوم، وإمَّا باعتبار زمانٍ، أي: بزمانً بعيد، فإنَّ إهلاك قوم لُوط أقرب الإهلاكات التي عرفها النَّاس في زمان شعيب، وإمَّا باعتبار مكان، أي: بمكان بعيد؛ لأنَّ بلاد قوم لوطٍ قريبة من مدين، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرهمان أي: بشيءٍ بعيد، كذا قدّره الزمخشريُّ، وتبعه أبو حيَّان، وفيه إشكالٌ من حيثُ إنَّ تقديرهُ بزمانٍ يلزم منه الإخبارُ بالزَمان عن الجُثَّةِ. وقال الزمخشريُّ أيضاً ويجوز أن يُسَوِّي في «قَرِيب» و «بَعِيد» و «قَلِيل» و «كَثير» بين المذكِّر والمؤنَّث لورودها على زنةِ المصادر التي هي كالصَّهيل، والنَّهيق ونحوهما.
ثم قال: {واستغفروا رَبَّكُمْ} أي: من عبادة الأوثان، ثُمَّ تُوبُوا إلى الله - عزَّ وجلَّ من البَخْس والنُّقصان {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} بأوليائه: «وَدُودٌ» الوَدُود: بناءُ مبالغة من ودَّ الشيء يوَدُّدُ وُدًّا، وودَاداً، ووِدَادَةً ووَدَادَةً أي: أحبًّه وآثره.
والمشهورُ «وَدِدْت» بكسر العين، وسمع الكسائي «وَدَدْت» بفتحها، والوَدُودُ بمعنى فاعل أي: يَوَدّ عباده ويرحمهم.
وقيل: بمعنى مفعولٍ بمعنى أنَّ عبادهُ يحبُّونه ويُوادُّون ألياءهُ، فهم بمنزلة «المُوادِّ» مجازاً.
قال ابنُ الأنباري: الوَدُودُ - في أسماءِ الله تعالى - المُحِبُّ لعبادِهِ، من قولهم: وَدِدْتُ الرَّجُلَ أوَدُّهُ.
قال الأزهريُّ - في «شرح كتاب أسماء الله الحسنى» -: ويجوزُ أن يكون «وَدُوداً فعُولاً بمعنى مفعول، أي: إنَّ عبادهُ الصَّالحين يودونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق.
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّ هذا التَّرتيب الذي رعاه شعيبٌ في ذكره الوجوه الخمسة ترتيبٌ لطيفٌ.
لأنَّهُ ذكر أولاً أنَّ ظهور البيِّنةِ له وكثرة الإنعام عليه في الظَّاهر والباطن يمنعه من الخيانة في وحي الله، ويصده عن التَّهاون في تبليغه.
ثم بيًَّن ثانياً أنَه مواظب على العمل بهذه الدَّعوة، ولو كانت باطلةً لما اشتغل هو بها مع اعترافهم بكون حَلِيماً رشيداً.
ثم بيَّن صحته بطريق آخر، وهو أنَّه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلح،(10/551)
والصَّلاح وإخفاء موجبات الفتنِ، فلو كانت هذه الجعوة باطلة لما اشتغل بها، ثمَّ لمَّا بيَّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال: لا تحملكم عداوتي على مذهبٍ ودين تقعُون بسببه في العذاب الشَّديد من الله، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين، ثم إنََّه لمَّا صحَّح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله: {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} ثم بيَّن لهم أنَّ سبق الكفر والعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم ن الإيمان والطَّاعة؛ لأنَّه تعالى رحيمٌ ودودٌ يقبلُ الإيمان من الكافر والفاسق؛ لأنَّ رحمته بعباده وحبه لهم يوجبُ ذلك، وهذا تقرير في غاية الكمال.
قوله: {قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} .
قيل: المعنى: ما نفقه كثيراً ممَّا تقولُ؛ لأنَّهُم كانوا لايلقون إليه أفهامهم لشدَّة نفورهم من كلامه، كقوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25] وقيل: إنَّهم فهموه، ولكنَّهم ما أقامُوا له وزناً، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة، كقول الرَّجل لمنْ لم يعْبَأ بحديثه: ما أدري ما تقولُ.
وقيل: ما ندري حصة الدَّليل الذي ذكرته على صحَّةِ التوحيد والنُّبوةِ والبعث، وما جيبُ من ترك الظُّلمِ والسرقة.
فصل
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الفقه: اسمٌ لعلم مخصوص، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه؛ لأنه أضاف الفقه إلى القولِ، ثم صار اسماً لنوع مُعيَّن من علوم الدين، وقيل: إنَّه اسم لملطلق الفهم، يقال: اوتي فلانٌ فقهاً في الدِّين، أي: فَهْماً. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» أي: يفهمه تأويله.
ثم قال: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} قيل: الضَّعيفُ الذي تعذر عليه منعُ القوم عن نفسه.
وقيل: هو الأعمى بلغة حمير وهذا ضعيفٌ؛ لنه ترك للظاهر بغير دليل، وأيضاً فقوله: «فِينَا» يُبءطل هه الوجوه؛ لأنَّهم لو قالوا: إنَّا لنراك أعْمَى فِينَا كمان فاسداً؛ لأنَّ الأعمى أعْمَى فيهم وفي غيرهم، وأيضاً قولهم بعد ذلك «ولَوْلاَ رهْطُكَ لرجَمْناكَ» فنفوا عنه القُوَّة التي أثبتوها في رهطه وهي النُّصرة؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النُّصرة.
واستدلّ بعضُ العلماءِ بهذه الآية على تجويزِ العمى على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. وذلك اللَّفظ لا يدلُّ عليه، لما بيَّناه.
قال بعضُ المعتزلةِ: لا يجوزُ العَمَى على الأنبياء، فإنَّ الأعْمَى لا يمكنه التَّجوز عن(10/552)
النَّجاسات، ولأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً؛ فلأنْ يُمْنَع من النبوَّةِ أوْلَى.
قوله: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} جماعةُ الرجل. وقيل: الرَّهْط والرَّاهط لما دُون العشرة من الرَّجالِ، ولا يقعُ الرَّهْطُ، والعَصَب، والنَّفَر، إلاَّ على الرِّجالِ.
وقال الزمخشريُّ: «من الثَّلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السِّبعةِ» ، ويجمع على «أرْهُط» و «أرْهُط» على «أرَاهِط» ؛ قال: [مجزوء الكامل]
3009 - يا بُؤسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي ... وَضَعَتْ أرَاهِطَ فاسْتَراحُوا
قال الرُّمَّانِيُّ: وأصلُ الكلمة من الرَّهْط، وهو الشدُّ، ومنه «التَّرْهيطُ» وهو شدَّة الأكل والرَّاهِطَاء اسم لجحر من جِحَرة اليَرْبُوع؛ لأنَّه يتوثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولاده.
فصل
المعنى: ولولا حرمة رهطك عندنا لكونهم على ملتنا لرجمناك.
والرَّجْمُ في اللغة: عبارة عن الرّمي، وذلك قد يكونُ بالحجارة عند قصد القتل، ولمَّا كان هذا الرَّجم سبباً للقتل سموا القتل رَجْماً، وقد يكون بالقول الذي هو القَذْفُ كقوله تعالى: {رَجْماً بالغيب} [الكهف: 22] وقوله: {وَيَقْذِفُونَ بالغيب} [سبأ: 53] ، وقد يكُونُ بالشَّتم واللعن، ومنه الشيطان الرجيم، وقد يكون بالطرد، قال تعالى: {رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] فعلى هذه الوجوه يكون المعنى: لقتلناك، أو لشتمناك وطردناك.
قوله: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} قال الزمخشريُّ «وقد دلّ إيلاءُ ضميره حرف النَّفي على أنَّ الكلام واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنَّهُ قيل: وما أنت بعزيز علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا؛ فلذلك قال في جوابهم:» أرَهْطي أعزُّ عليْكُم مِنَ اللَّهِ «ولو قيلَ:» ومَا عَزَزْتَ عليْنَا «لم يصحَّ هذا الجوابُ» .
والمعنى: أنك لمَّ لمْ تكن علينا عزيزاً، سهل علينا الإقدامُ على قتلك وإيذائك.
واعلم أنَّ الوجوه التي ذكروها ليست مانعةً لما قرره شعيبٌ من الدَّلائل، بل هي جارية مجرة مقابلة الدلي والحدة بالشتم والسَّفاهة.
قوله: {ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً}
اعمل أنَّهم لمَّا خوَّفُوه بالتقتل، وزعمُوا أنهم إنَّما تركوا قتله رعاية لجانب قومه.(10/553)
قال: أنتم تزعمون أنَّكم تركتم قَتْلي إكارماً لرَهْطِي، فالله تعالى أولى أنْ يتبع أمرهُ، أي: حفظكم إيَّاي رعاية لأمر الله أولى من حفظكم إيَّاي رعياة لحقِّ رهطي.
قوله: {واتخذتموه} يجوزُ أن تكون المتعدية لاثنين.
أوهما: «الهاء»
والثاني: «ظِهْرِيًّا» ويجوز أن يكون الثاني هو الظَّرفُ و «ظِهْريًّا» حالٌ، وأن تكون المتعدية لواحدة؛ فيكون «ظِهْرِيًّا» حالاً فقط.
ويجوز في «وَراكُم» أن يكون ظرفاً للاتخاذ، وأن يكون حالاً من ظِهْريًّا «، والضمير في» اتِّخَذْتُمُوهُ «يعودُ على الله؛ لأنَّهم يجهلون صفاته، فجعلوه أي: جعلوا أوامره ظِهْريًّا، أي: منبوذةً وراء ظهورهم.
والظَّهْرِيُّ: هو المنسوبُ إلى» الظَّهْر «والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبةِ إلى» أمْس «،» وإمْسِيّ «بكسر الهمزة، وإلى الدَّهْر: دُهْرِيّ بضم الدَّالِ.
وقي: الضَّميرُ يعودُ على العصيان، أي: واتخذتم العصيان عوناً على عداوتِي، فالظَّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعين المُقَوِّي.
ثم قال: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي: عالم بأحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها.
قوله
تعالى
: {وياقوم
اعملوا
على مَكَانَتِكُمْ} الآية.
المكانةُ: الحالةُ التي يتمكن بها صاحبها من عمله، أي اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة، وكل ما في وسعكم، وطاقتكم من إيصال الشر إليَّ فإني أيضاً عاملٌ بقدر ما آتانِي الله من القدرة. «سَوْفَ تَعْلَمُونَ» أيُّنا الجاني على نفسه، والمخطي في فعله.
قوله: {مَن يَأْتِيهِ} تقدَّم نظيرهُ في قصة نوح. قال ابنُ عطيَّة - بعد أن حكى عن الفرَّاء أن تكون موصولة مفعولةً ب «تَعْلَمُون» -: «والأوَّلُ أحسنُ» ثم قال: «ويقْضَى بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة» .
وهي قوله: {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} .
قال أبُو حيَّان: «لا يتعيَّن ذلك، إن من الجائزِ أن تكون الثَّانية استفهاميَّة أيضاً معطوفةً على الاستفهاميَّة قبلها، والتقديرُ: سوف تعلمُونَ أيُّنَا يأتيه عذابٌ، وأيُّنَا هو كاذبٌ» .(10/554)
قال الزمخشريُّ: فإن قُلت: أيُّ فرقٍ بين إدخالِ الفاءِ ونزعها في «سَوْفَ تَعْلَمُونَ» ؟ .
قلت: إدخالُ الفاءِ وصلٌ ظاهرة بحرفٍ موضوع للوصل، ونزْعُهَا وصلٌ خفيُّ تقديريٌ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسُؤالٍ مقدَّر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحنُ على مكانتنا، وعملت أنت عما مكانتك؟ فقيل سوف تعلمُون، فوصل تارةً بالفاءِ، وتارةً بالاستئناف للتَّفنُّن في البلاغةِ، كما هو عادةُ البُلغاءِ من العربِ، وأقوى الوصلين وأبلغُهُما الاستئنافُ «.
ثم قال: {وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي: وانتظرُوا العذاب إنّي معكُم منتظرٌ. والرقيب: بمعنى الرَّاقب من رقبه كالضَّريب والصَّريم بمعنى الضَّارب والصَّارم، أو بمعنى المراقب، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمترفع.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} الآية.
قال الزمخشريُّ: فإن قتل: ما بالُ ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والسَّاقتان الوسطيان بالفاءِ؟ قلت: قد وقعت الوسيطان بعد ذكر الوعدِ، وذلك قوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} [هود: 81] {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقولُ:» وعدته فلما جاء المعيادُ كان كَيْتَ وكَيْتَ «، وأمَّا الأخريان فلم تقعا بتلك المنزلة، وإنَّما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تعطفها بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تُعطفُ قصةٌ على قصَّةٍ» .
قوله: {نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} .
روى الكلبي عن ابن عبَّاس قال: لَمْ يُعذب الله أمتين بعذاب واحدٍ إلاَّ قوم شعيب وقوم مصالح، فأمَّا قوم صالح؛ فأخذتم الصحيةُ من تحتهم، وقوم شعيبٍ أخذتهم من فوقهم.
وقوله: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} يحتملُ أن يكون المرادُ منه، ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصَّيْحة، ويحتمل أن يكون المرادُ من الأمر العذاب، وعلى التدقرين فأخبر الله أنّه نجَّى شُعَيْباً ومن معه من المؤمنين.
وفي وله: {بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} وجهان:
الأول: أنَّه تعالى إنَّما خلَّصه من ذلك العذاب لمحض رحمته، تنبيهاً على أنَّ كلَّ ما يصل إلى العبد ليس إلاَّ بفضلِ الله ورحمته.
والثاني: أنَّ المراد من الرَّحمةِ الإيمان والطَّاعة وهي أيضاً وهي أيضاً ما حصلت إلاَّ بتوفيق الله.
ثم قال: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} وعرَّف «الصَّيحة» بالألف واللاَّم إشارة إلى المعهود السَّابق وهي صيحةُ جبريل {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} تقدم(10/555)
الكلام على ذلك [هود: 67، 68] وإنَّما ذكر هذه اللفظة، وقاس حالهم على ثمود؛ لأنه تعالى عذَّبهم بمثل عذاب ثمود.
قوله: {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} العامَّةُ: على كسر العين من «بَعِدَ يَبْعَد» بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك؛ قال: [الطويل]
3010 - يقُولُون لا تَبعَدوَهُم يَدْفنُونهُ ... ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُواري الصَّفَائِحُ
أرادت العربُ أن تفرقَ بين المعنيين بتغيير فقالوا: «بَعْد» بالضمِّ ضد القرب، و «بَعِد» بالكسر ضد السَّلامة، والمصدرُ البَعَدُ بالفتح في العين.
وقرأ السُّلمي وأبو حيوة «بَعْدت» بالضم أخذه من ضدِّ القرب؛ لأنَّهُم إذا هلكوا فقد بعدوا، ومن هذا قولُ الشَّاعر: [الكامل]
3011 - مَنْ كَانَ بَيْنَكَ في التُّرابِ وبَيْنَهُ ... شِبْرانِ فهُوَ بغايةِ البُعْدِ
وقال النَّحَّاسُ: المعروفُ في اللغةِ: بَعِدَ يَبْعَد بَعَداً وبُعْداً، وإذا هلك، وبَعْد يَبْعُدُ في ضدِّ القُرْب.
وقال ابنُ قتيبة: بَعِدَ يَبْعد إذا كان بعده هلكهة، وبَعُد يَبءعُد إذا نأى فهو موافقٌ للنحاس.
وقال المهدوي: «بَعُد» يستعمل في الخَيْرِ والشّر، و «بَعِد» في الشرِّ خاصة.
وقال ابنُ الأنباري: مِنَ العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ والذي هو ضدُّ القرب، فيقولُ فيهماك بَعُدَ يَبْعثدُ، وبَعِدَ يَبْعَدُ؛ وأنشدوا قول مالكٍ: [الطويل]
3012 - يقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهُمْ يَدْفِنُونِني ... وأيْنَ مَكَانَ البُعْدِ إلاَّ مَكَانِيَا
قيل: يروى «لا تَبْعُدْ» بالوجهين.
وفي هذه الآية نوعٌ من علم البيان يسمَّى الاستطراد، وهو أن تمدحَ شيئاً أوتذُمَّه، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غرضكَ في أوَّلِه، قالوا: ولم يَأتِ في القرآن غيره، وأنشدوا في ذلك قول حسان: [الكامل]
3013 - إنْ كُنْتِ كاذِبَة الذي حَدَّثْتِنِي ... فَنَجَوْتِ مَنْجى الحَارِثِ بن هشام
تَرَك الأحِبَّةَ أن يَقاتِلَ دونَهُمْ ... ونَجَا بِرَأسِ طِمِرَّة ولِجَامِ(10/556)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} القصة.
قيل: المراد ب «الآيات» التَّوارة مع ما فيها من الشَّرائع والأحكام، ومن السُّلطان المبين المعجزات الباهرةِ.
وقيل: المرادُ ب «الآيات» المعجزات، وبالسُّلطانِ الحجَّة كقوله: {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ} [يونس: 68] وقوله: و {مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [يوسف: 40] وقيل: المرادُ بالسلطان المبين: العصا؛ لأنَّها أبهرُ الآيات، وذلك أنَّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات، وهي: العصا، واليدُ البيضاءُ، والطُّوفان، والجرادُ والقُمَّلُ، والضَّفادعُ، والدمُ ونقصٌ من الثمرات والأنفس، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر واختلفوا في تسمية الحُجَّة بالسلطان، فقيل: لأنَّ صاحب الحُجَّة يقهر من لا حجَّة له عند النَّظر كما يقهر السُّلطان غيره.
وقال الزَّجّاج: السُّلطان هو الحُجَّةُ، وسُمِّي السلطان سلطاناً؛ لأنه حُجَّة الله في أرضه، واشتقاقه من السَّليط الذي يُستضاء به، ومنه قيل للزَّيت السَّليط. وقيل: مشتقٌ من التَّسليط، والعلماءُ سلاطين بسبب كمالهم في القُوَّةِ العلميَّةِ، والملوك سلاطين بسبب قدرتهم ومكنتهم، إلاَّأنَّ سلطنة العلماءِ أكمل، وأبقى من سلطنة الملوك؛ لأنَّ سلطنة العلماءِ لا تقبل النَّسخ والعَزْل، وسلطنة الملوك تقبلهما، وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنةِ، وسلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء.
فإن قيل: إذا حملتم الآيات على المعجزات والسُّلطان على الدَّلائل، ولامُبين أيضاً معناه كونه سبباً للظهورن فما الفرقُ بين هذه المراتبِ الثَّلاثِ؟ .
فالجوابُ: أنَّ الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظَّنْ، وبين الدَّلائل التي تفيد اليقينَ، وأمَّا السُّلطانُ فهو اسمٌ لما يُفيد القطع واليقين.
وكانت معجزةُ موسى هكذا، فلا جرم وصفها الله تعالى بأنَّها سلطانٌ مبين.
ثم قال: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي: جماعته. {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْن} قيل: أمره إياهم بالكفر بموسى، وقيل: الأمر الطريق.
ثم قال: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: بمُرشدٍ إلى خيرٍ.
وقيل: ذو رشد؛ لأنَّهُ كان دهريًّا نافياً للصَّانع وللمعاد، فلهذا كان خالياً عن الرشد بالكليَّةِ.
ثم وصفه فقال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} يقالُ: قدمَ فلانٌ فلاناً بمعى تقدَّمهُ،(10/557)
ومنه قادمة الرَّجُل كما يقالُ: قدَّمهُ بمعنى تقدَّمهُ، ومنه: مقدَّمة الجيش.
والمعنى: أنَّ فرعون كان قُدوةً لقومه في الضَّلال حال ما كانوا في الدنيا، وكذلك مقدمهم إلى النَّار، وهم يتبعونه ويجُوزُ أن يكون معنى قوله: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: وما أمره بصالحٍ حميد العاقبةِ، ويكون قوله: «يَقْدمُ قومُه» تبييناً لذلك وإيضاحاً، أي: كيف يكون أمره رشيداً مع أنَّ عاقبته هكذا؟ .
قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ} يجوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب الإعمال، وذلك أنَّ «يقدمُ» يصلح أن تسلَّط على «النَّارِ» بحرف الجر، أي: يقدمُ قومه إلى النَّار، وكذا: «أوْرَدهُم» يصحُّ تسلّثطه عليها أيضاً، ويكون قد أعمل الثاني للحذفِ من الأوَّل، ولو أعمل الأوّل لتعدَّى ب «إلى» ولأضمر في الثاني، ولا محلَّ ل «أوْرَدَ» لاستئنافه، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ لأنَّهُ عطف على هو نص في الاستقبال.
والهمزةُ في «أوْرَدَ» للتعدية؛ لأنَّه قبلها يتعدَّى لواحدٍ، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] .
وقيل: أوقع المستقبل بلفظ الماضي هنا لتحققه. وقيل: بل هو ماض على حقيقته، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنَه أوردهم في الدُّنيا النَّار. قال تعالى: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] وقيل: أوردهم موجبها وأسبابها، وفيه بعدٌ لأجْلِ العطف بالفاءِ.
والوِرْد: يكون مصدراً بمعنى الوُرُود، ويكون بمعنى الشيء المُورَد كالطِّحن والرِّعي.
ويُطلق ايضاً على الواردِ، وعلى هذا إنْ جعلت الورد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ من حذفِ مضاف تقديرهُ: وبئس مكانُ الورد المورود، وهو النَّارُ، وإنَّما احتيج إلى هذا التقدير؛ لأنَّ تَصَادُقَ فاعل «نِعْمَ» و «بِئْسَ» ومخصوصهما شرطٌ، لا يقال: نِعْمَ الرَّجُلُ الفرس. وقيل: بل المورود صفة للوردِ، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ تقديره: بئس الوردُ المورود النَّارُ، جوَّز ذلك أبُو البقاءِ، وابنُ عطيَّة، وهو ظاهر كلام الزمخشري.
وقيل: التقديرُ: بئس القومُ المورودُ بهم هم، فعلى هذا «الورد» المرادُ به الجمعُ الواردُون، قال تعالى: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 86] والمورود صفةٌ لهم، والمخصوصُ بالذَّمِّ الضميرُ المحذوف وهو «هم» ، فيكونُ ذلك للواردين لا لموضع الورد كذا قالهُ أبو حيَّان وفيه نظرٌ من حيث إِنَّه: كيف يراد بالورد الجمع الواردُون، ثم يقولُ: والمورودُ صفةٌ لهم؟ .
وفي وصف مخصوص «نِعمَ» و «بِئْسَ» خلافٌ بين النَّحويين منعه ابن السَّراج وأبو علي.(10/558)
قال الواحديُّ: لفظ «النار» مؤنث، ينبغي أن يقال: وبئست الورد المورود، إلاَّ أنَّ لفظ «الورد» مذكر؛ فكان التَّذكيرُ والتَّأنيثُ جائزين، كما تقولُ: نعم المنزلُ دارك، ونعمت المنزل دارك، فمن ذكَّر عن المنزل ومن أنَّث عن الدَّار.
فصل
والمعنى: أدخلهم النَّار وبئس المدخلُ المدخولُ؛ وذلك لأنَّ الورد إنَّما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنَّار ضدُّه.
ثم قال: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً} أي: أنَّ اللَّعن من الله، والملائكة، والأنبياء ملتصقٌ بهم في الدُّنيا والآخرة لا يزولُ عنهم، كقوله: {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين} [القصص: 42] .
ثم قال: {بِئْسَ الرفد المرفود} والكلامُ فيه كالذي قبله. وقوله: {وَيَوْمَ القيامة} عطفٌ على موضع «في هَذِه» والمعنى: أنَّهُم ألحِقُوا لعنةً في الدُّنيا وفي الآخرة، ويكونُ الوقف على هذا تامًّا، ويبتدأ بقوله «بِئْس» .
وزعم جماعةٌ أنَّ التَّقسيم: هو أنَّ لهم في الدُّنيا لعنةً، ويوم القيامةِ بِئْس ما يرفدُون به، فهي لعنةٌ واحدةٌ أولاً، وقبح إرفاد آخراً. وهذا لايصحُّ؛ لأنه يُؤدّي إلى إعمال «بِئْسَ» فيما تقدم عليها، وذلك لا يجُوزُ لعدم تصرُّفها؛ أمَّا لو تأخَّر لجاز؛ كقوله: [الكامل]
3014 - ولَنْعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنتَ إذَا ... دُعِيِتْ نَزالِ ولُجَّ في الذُّعْر
وأصلُ الرِّفْد كمال قال الليثُ: العطاءُ والمعونةُ، ومنه رفاده قريش، رَفَدْتُه أرْقِدهُ رِفْداً بكسر الرَّاء وفتحها: أعْطَيته وأعنته. وقيل بالفت مصدر، وبالكسر اسم، كأنَّهُ نحو: الرِّعْي والذِّبْح ويقال: رفَدْت الحائِطَ، أي: دَعَمْتُه، وهو من معنى الإعانةِ.(10/559)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ} الآية.
«ذلك» إشارة إلى الغائبِ، والمرادُ منه ههنا الإشارة إلى القصص المتقدمة، وهي(10/559)
حاضرة إلاَّ أنَّ الجواب عنه تقدَّم في قوله: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] .
ولفظ «ذلك» إشارة إلى الواحد والجماعة، كقوله: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] .
ويحتمل أن يكون ذلك الذي ذكرناهُ هو كذا وكذا.
قال الزمخشريُّ: «ذلك» مبتدأ، و «نقُصُّهُ عليْكَ» خبرٌ بعد خبر، أي ذلك المذكور بعض أنباء القرى مقصوص عليك وقال شهابُ الدِّين: يجُوزُ أن يكون «نَقُصُّه» خبراً و «مِنْ أنباء» حال، ويجوزُ العكسُ، قيل: وثمَّ مضافٌ محذوف، أي من أنباءِ أهل القرى، ولذلك أعاد الضمير عليهم في قوله: «ومَا طَلمْنَاهُم» .
ثم قال: ويجُوزُ في «ذلك» أوجه:
أحدهما: أنَّه مبتدأ كما تقدم [هود: 49] .
والثاني: أنَّهُ منصوبٌ بفعلٍ مقدر يفسِّره «نَقُصُّه» فهو من باب الاشتغال، أي: نقُصُّ ذلك في حال كونه من أنباء القرآن وقد تقدَّم في قوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ} [يوسف: 44] أوجه، وهي عائدةٌ هنا.
قوله: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} «حصيدٌ» مبتد محذوفُ الخبر، لدلالة خبر الأوَّلِ عليه، أي: ومنها حصيد، وهذا لضرورة المعنى.
و «الحَصِيدُ» بمعنى المحصودِ، وجمعه: حَصْدَى وحِصَادٌ مثل: مريضٌ ومَرْضَ ومِرَاضٌ، وهذا قول الأخفشِ، ولكن باب «فَعِيل» ، و «فَعْلَى» أن يكون في العقلاء؛ نحو: قَتِيل وقَتْلَى. والضميرُ في «مِنْهَا» عائدٌ على القرى، شبه ما بقي من آثار القرى وجدارنها بالزرع القائم على ساقة، وما عقا منها وبطل بالحصيد.
والمعنى: أنَّ تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتَّة.
قال بعضُ المفسرين: القائمُ: العامر، والحصيدُ: الخرابُ: وقيل: القائمُ ما بقيت حيطانه، وسقطت سقوفهن وحصيد: انمحى أثره. وقال ماقتلٌ: قائم يرى له أثر، وحصيد لا يرى له أثر.
ثم قال: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بالعذاب والإهلاك: {ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ} بالكُفْر والمعصية وقيل: الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله، بل هو عدلٌ وحكمةٌ؛ لأنَّ القوم أولاً أنفسهم بإقدامهم على الكفر والمعاصي، فاستوجبوا بتلك الأعمالِ من الله العذاب.
وقال ابن عباس: وما نقصناهم في الدنيا من النعم والرزق، ولكن نُقِصُوا حظ أنفسهم حيثُ استخفُّوا بحقوقِ الله تعالى.(10/560)
{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ} أي: ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة.
قوله: {لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي: عذاب ربك.
قال الزمخشريُّ: «لمَّا» منصوب ب «أغْنَتْ» وهو بناءً منه على أنَّ «لمَّا» ظرفية.
والظَّاهر أنَّ «مَا» نافية، أي: لم تُغْن. ويجوز أن تكون استفهاميةً، و «يَدْعُونَ» حكاية حال، أي: التي كانُوا يدعُون، و «مَا زادُهُمْ» الضًَّميرُ المرفوع للأصنام، والمنصوبُ لعبدتها وعبَّر عنهم بواو العقلاء؛ لأنهم نزَّلُوهم منزلتهم.
والتَّتبِيْتُ: التَّخسيرُ، يقالُ: تبَّ الرجلُ غيره إذا أوقعه في الخسران. يقال تَبَّبَ غيره وتبَّ هو بنفسه، فيستعمل لازماً ومتعدياً، ومنه «تَبَّتْ يدا أبيِي لهبٍ وتبَّ» .
وتَبَّيْتُهُ تَتْبِيباً، أي: خسَّرته تَخْسِيراً قال لبيدٌ:
3105 - ولقَدْ بَلِيتُ وكُلُّ صاحبِ جدَّةٍ ... لِبِلًى يعُودُ وذاكُمُ التَّتْبِيبُ
وقيل: التَّتْبيب: التَّدْمير. والمعنى: أنَّ الكفار يعتقدون في الأصنام أنها تنفعُ وتدفع المضار، ثم أخبر أنَّهُم عند الحاجِة إلى المُعين ما وجدُوا فيها شيئاً لا جلب نفعٍ، ولا دفع ضرٍر، وإنَّما وجدُوا ضدَّ ذلك، وهذا أعظم الخسران.
قوله: {وكذلك} خبرٌ مقدَّم، و «أخْذُ» مبتدأ مؤخر، والتقدير: ومثلُ ذلك الأخْذِ أي: أخْذِ الله الأمم السَّالفة أخذُ ربك.
و «إذا ظرفُ متحِّض، ناصبه المصدر قبله، وهو قريبٌ من حكاية الحالِ، والمسألةُ من بابِ التنازع فإنَّ الأخذ يطلب» القُرَى «، و» أخْذ «الفعل أيضاً يطلبها، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأوَّلِ.
وقرأ عاصمٌ وأبو رجاء والجحدريُّ» أَخَذَ ربك، إذا أخذَ «جعلهُما فعلين ماضيين، و» رَبُّك «فاعل وقرأ طحلةُ بن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهُ ب» إذَا «.
قال ابن عطيَّة وهي قراءةٌ متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعةِ تُعْطِي الوعيد، واستمراره في الزَّمانِ، وهوالباب في وضع المستقبل موضع الماضي.
وقوله:» وهِيَ ظالمةٌ «جملةٌ حاليّة. والضميرُ في» وهِيَ ظالمةٌ «عائد إلى القُرَى، وهو في الحقيقة عائد إلى أهلها، كقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] .(10/561)
ثم لمَّا بيَّن كيفية أخذ الأمم الظَّالمة أكَّده بقوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} فوصف ذلك العذاب بالإيلامِ وبالشدَّةِ.(10/562)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} قال القفال: تقرير الكلام أن يقال: إنَّ هؤلاء إنَّما عذبُوا في الدُّنيا لتكذيبهم الأنبياء، وإشراكهم بالله، فإذا عُذِّبوا في الدُّنيا على ذلك وهي دارُ العملِ، فلأنْ يُعذَّبُوا عليه في الآخرة التي هي دارُ الجزاءِ، كان أولى. وهذا قولُ كثير من المفسِّرين.
قال ابنُ الخطيب: وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفالُ يكونُ ظهور عذاب الاستئصال في الدُّنيا دليلاً على أنَّ القول بالقيامة والبعث حقٌّ، وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ العلم بأنَّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال؛ لأنَّ القفال يجعل العمل بعذابِ الاستئصال أصلاً للعلم بأنَّ القيامة حق؛ فبطل ما ذكره القفالُ، والأصوبُ عندي أن يقال: العلم بأنَّ القيامة حق موقوف على العلم بأنَّ لوجود السموات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذَّاتِ، وما لم يعلم الإنسان أنَّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكمنات، وأنَّ جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرض لا تحصلُ إلا بتكوينه وقضائه، لا يمكنه أن يعتبر بعذابِ الاسئصال؛ لأنَّ الذين يذهبون إلى انَ المؤثَر في وجود هذا العالم موجبٌ بالذَّات، لا فاعلٌ مختارٌ، يزعمون أنَّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيَّام الأنبياء؛ كالغرق، والخسق، والمسخ، والصَّيْحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض، وإذا كان الأمرُ كذلك، فحينئذٍ لا تكون حصولها دالاًّ على صدق الأنبياء.
فأما المؤمن بالقيامة؛ فلا يتم له ذلك الإيمانُ إلا إذا اعتقد أنَّ إله العالم فاعل مختار، وأنه عالمٌ بجمعي الجزيئات، وإذا كذلك لزم القطعُ بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنَّما كان بسبب أنَّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب(10/562)
واتصالاتها، وحينئذ يسمع هذه القصص، ويستدلّ بها على صدق الأنبياء؛ فثبت بذلك صحة قوله: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} .
قوله تعالى: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ} «ذلك» : إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بالسياق من قوله: {عَذَابَ الآخرة} و «مَجْموعٌ» صفةٌ ل «اليوم» جرت على غير من هي له، فلذلك رفعت الظَّاهر وهو «الناس» وهذا هو الإعراب نحو: «مَررْتُ برجُلٍ مضروبٍ غلامهُ» .
وأعرب ابن عطيَّة «النَّاس» مبتدأ مؤخراً، و «مَجْمُوعٌ» خبره مقدماً عليه. وفيه ضعف إذ لو كان كذلك لقيل: مجموعون، كما يقالُ: النَّاسُ قائمون ومضربون، ولا لليوم، أي: النَّاس مجموع له، و «مَشْهُودٌ» متعيِّنق لأن يكون صفة فكذلك ما قبله.
وقوله: {مَّشْهُودٌ} من باب الاتِّساعِ في الظرف بأن جعلهُ مشهوداً، وإنَّما هو مشهودٌ فيه؛ وهو كقوله: [الطويل]
3016 - ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ... قَليلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ
والأصلُ: مشهودٌ فيه، وشهدْنَا فيه، فاتُّسِع فيه بأنْ وصل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة، كما يصلُ إلى المفعول به.
قال الزمخشريُّ: «فإن قتل: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله؟ قلت: لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنَّهُ لا بدَّ أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع النَّاس له، وأنَّه هو الموصوفُ بذلك صفة لازمة» قال ابنُ عبَّاسٍ: يشهده البر والفاجرُ. وقيل: يشهده أهلُ السموات وأهلُ الأرضِ.
قوله: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ} الضَّميرُ يعود على «يَوْم» .
وقال الحوفيُّ: «على الجزاءِ» وقرأ الأعمش: «ومَا يُؤخِّره» - بالياء - أي: الله تعالى «إلاَّ لأجَلٍ معدُودٍ» وكل ما له عدد، فهو متناهٍ، وكل ما كان متناهياً، فلا بُدَّ أن ينفي، فتأخير القيامة ينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم اله القيامة فيه، وكُلُّ ما هو آتِ قريب.
قوله: {يَوْمَ يَأْتِ} قرأ أبو عمرو والكسائيُّ ونافعٌ «يَأتِي» بإثبات الياءِ وصْلاً وحذفها وقْفاً.(10/563)
وقرأ ابنُ كثير بإثباتها وصْلاً ووقفاً وباقي السبعة: قرءوا بحذفها وصلاً ووقْفاً.
وقد وردتْ المصاحفُ بإثباتها وحذفها: ففي مصحف أبيّ إثباتُها، وفي مصحق عثمان حذفها، وإثباتها هو الوجه؛ لأنَّها لامُ الكلمة، وإنَّما حذفُوها في القوافي، والفواصل، لأنَّها محلُّ وقوف وقالوا: لا أدْرِ، ولا أبَالِ.
وقال الزمخشريُّ «والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرةٌ في لغةِ هذيلٍ» .
وأنشد ابنُ جريرٍ في ذلك: [الرجز]
3017 - كَفَّاكَ كَفٌّ ما تُليقُ دِرْهَمَا ... جُوداً وأخْرَى تُعْطِ بالسِّيْفِ الدَّما
والنّاصبُ لهذا الظرف فيه أوجه:
أحدها: أنه «لا تكلَّمُ» والتقديرُ: لا تكلَّمُ نفسٌ يوم يأتي ذلك اليوم. وهذا معنى جيد لا حاجة إلى غيره.
الثاني: أن ينتصب ب «اذْكُر» مقدراً.
والثالث: أن نتصب بالانتهاءِ المحذوف في وله: {إِلاَّ لأَجَلٍ} أي: ينتهي الأجل يوم يأتي.
والرابع: أنَّهُ منصوبٌ ب «لا تكلَّمُ» مقدَّراً، ولا حاجة إليه.
والجملةُ من قوله: «لا تكلَّمُ» في محلِّ نصب على الحال من ضمير اليوم المتقدم في «مَشْهُود» أو نعتاً له لأنه نكرة. والتقدير: لا تكلَُّ نفسٌ فيه إلاَّ بإذنه، قاله الحوفيُّ.
وقال ابن عطيَّة: «لا تكلَّمُ نفسٌ» يصحُّ أن تكون جملة في موضع الحال من الضَّمير الذي في «يَأتِ» وهو العائدُ على قوله: {وَذَلِكَ يَوْمٌ} ، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره: لا تكلمُ نفسٌ فيه، ويصحُّ أن يكون قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} صفةً لقوله: {يَوْمَ يَأْتِ} .
وفاعل «يَأتِ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ ضميرُ «يَوْم» المتقدِّم.
والثاني: أنَّه ضمير الله تعالى كقوله:
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} [البقرة: 210] وقوله: «أوْ يَأتِي ربُّكَ» .
والضميرُ في قوله: «فَمِنْهُمْ الظاهرُ عودهُ على» النَّاس «في قوله: {مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} وجعله الزمخشريُّ عائداً على أهل الموقف وإن لمْ يذكرُوا، قال: لأن ذلك(10/564)
معلومٌ، ولأنَّ قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} يدلُّ عليه» وكذا قال ابنُ عطية.
وقوله: {وَسَعِيدٌ} خبره محذوف: أي: ومنهم سعيدٌ، كقوله: {ذَمِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100] .
فصل
هذه الآية توهم المناقضة لقوله {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] ولقوله {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35 - 36] وقوله: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] .
والجواب: قال بعضهم: إنَّهُ حيثُ ورد المنعُ من الكلامِ، فهو محمولٌ على الجوابات الصَّحيحة؛ قال تعالى: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38] وقيل: إنَّ ذلك اليوم يوم طويل، وله مواقف، ففي بضعها يجادلُون عن أنفسهم، وفي بعضها يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم.
وقيل: ورد المنع عن الكلام مطلقاً، وورد مقيداً بالإذن فيحمل المطلق على المقيِّد.
قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} قال الزمخشريُّ: الضميرُ في قوله: «مِنْهُمْ» لأهل الموقف ولمْ يذكرُوا؛ لأنَه مفهومٌ، ولأنَّ قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} يدلُّ عليه؛ ولأنه مذكورٌ في قوله: {مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} .
واستدلَّ القاضي بهذه الآية على فساد القول بأنَّ أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النَّارِ.
وجوابه: أنَّ الأطفال والمجانين أيضاً خارجون عن هذا التَّقسيم؛ لأنَّهُم لا يحاسبُون، فلم لا يجوزُ أيضاً أن يقال: إنَّ أصحاب الأعراف خارجون عنه أيضاً؛ لأنهم لا يحاسبون لأنَّ الله - تعالى - علم من حالهم أنَّ ثوابهم يساوي عذابهم، فلا فائدة في حسابهم.
واستدلَّ القاضي أيضاً بهذه الآية على أنَّ كلَّ من حضر عرضه القيامة فلا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو عذابه، فأمَّا من كان ثوابه مساوياً لعقابه، فإنَّه وإن كان جائزاً في العقل، إلا أن هذا النص يدلُّ على انَّهُ غيرُ موجودٍ.
وأجيب بأنَّ تخصيص هذين القسمين بالذِّكر لا يدلُّ على نفي القسم الثالث؛ لأنَّ أكثر الآيات مشتملةٌ على ذكر المؤمن والكافر، وليس فيه ذك ثالث لا يكون مؤمناً ولا كافراً مع أنَّ القاضي أثبته، فإذا لم يلزمْ من عدم ذكر الثالث عدمه فكذلك لا يلزمُ من عدم ذكر هذا الثالث عدمه.(10/565)
فصل
«روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: خرجناعلى جنازة، فبينما نحنُ بالبقيع إذْ خرج رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبيده مخصرةٌ، فجاء، فجلس، ثم نكت بها الأرض ساعة، ثم قال:» ما مِنْ نفس منفُوسةٍ إلاَّ قد كُتِبَ مكانُها من الجنّة، أو النَّار، وإلاَّ قد كُتبتْ شقيَّةً، أو سعيدةً «قال: فقال رجلٌ: أفلا نتكلُ على كتابنا يا رسول الله وندعُ العمل؟ قال:» لا، ولكن اعملوا فكُلٌّ ميسرٌ لما خلق لهُ، وأمَّا أهلُ الشقاء فسييسرون لعمل أهل الشقاء، وأمَّا أهلُ السَّعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة «
ثم تلا: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} [الليل: 5 - 10] .
قوله: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} الجمهورُ على فتح الشين؛ لأنَّهُ من «شَقى» فعلٌ قاصر وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعدِّياً، فيقال: شقاهُ الله، كما يقالُ: أشقاء الله وقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} في هذه الجملة احتمالان:
أحدهما: أنَّها مستأنفةٌ، كأنَّ سائلاً سأل حين أخبر أنَّهُم في النَّار: ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا.
والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنَّهُ الضميرُ في الجرِّ والمجرور وهي «فَفِي النَّار» .
الثاني: أنها حالٌ من «النَّار» و «الزَّفير» بمنزلة ابتداء صوت الحمار، والشّهيق «آخره قال رؤبة: [الرجز]
3018 - حَشْرَجَ في الصَّدْرِ صَهِيلاً أوْ شَهَقْ ... حتَّى يُقالَ نَاهِقٌ وما نَهَقْ
وقال ابن فارس: الزَّفيرُ ضد الشَّهيق؛ لأنَّ الشَّهيق ردُّ النَّفَس والزَّفير: إخراجُ النَّفس من شدَّة الحزنِ مأخوذة من الزَّفْرِ وهو الحِمْل على الظَّهْرِ، لشدَّته.
وقال الزمخشري نحوه؛ وأنشد للشَّمَّاخِ: [الطويل]
3019 - بَعِيدٌ مَدَى التَّطْريبِ أوَّلْ صوْتِهِ ... زفيرٌ ويتلوهُ شهيقٌ مُحَشْرِجُ(10/566)
وقيل الشَّهيقُ: النَّفس الممتدُّ، مأخوذٌ من قولهم:» جبلٌ شاهقٌ أي: عالٍ «.
وقال اللَّيْثُ: الزَّفير: أن يملأ الرَّجُلُ صدرهُ حال كونه في الغمِّ الشَّديد من النَّفس ويخرجهُ، والشَّهيق أن يخرج ذلك النَّفس، وهو قريبٌ من قولهم: تنفَّس الصعداء.
قال ابن الخطيب: إنَّ الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلبن فتقوى الحرارةُ وتعظم، وعند ذلك يحتاجُ الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء بارداً حتى يقوى على تريوح تلك الحرارة، فلهذا السَّببب يعظم في ذلك الوقتِ استدخال الهواء في داخل الصَّدْرِ، وحينئذٍ يرتفع صدره، ولمَّا كانت الحرارةُ الغريزيةُ، ولاروح الجوانيُّ محصُوراً في داخل القلبِ؛ أستولت البرودةُ على الأعضاءِ الخارجة؛ فرُبَّما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهوى فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر.
فعلى قول الأطباء: الزَّفير: هو استدخالُ الهواءِ الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيهن والشَّهيق: هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطَّبيعة في إخراجه، وكلُّ من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد.
وقال أبُو العالية والربيع بن أنس: الزَّفير في الحلق، والشَّهيق في الصدر وقيل: الزَّفيرُ للحمار والشهيق للبغل. وقال ابن عباس: الزَّفيرُ الصوت الشديد، والشَّهيق الصوت الضعيف وقال الضحاك ومقاتلٌ: الزَّفير أول صوت الحمار والشهيق آخره، إذا ردَّهُ في صدره وقال الحسنُ: الزَّفيرُ لهيبُ جهنّم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلُوا إلى أعلى جهنم، وطمعوا في أن يخرجوا منها ضبربتهُم الملائكة بمقامع من حديد وردوهم إلى الدرك الأسقل من جهنَّم، وهو قوله تعالى:
{كُلَّمَآ
أرادوا
أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 20] فارتفاعهم في النَّار وهو الزَّفير، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق.
وقال أبو مسلم: الزَّفيرُ ما يجتمع في الصَّدْرِ من النَّفس عند البكاء الشَّديد فيقطع النفس، والشهيقُ هو الصَّوت الذي يظهرُ عند اشتداد الكرب، وربما تبعه الغشية، وربما حصل عقيبه الموت. وروي عن ابن عبَّاس في قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} أي: ندامةً ونفساً عالياً وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع.
قوله: {خَالِدِينَ} منصوبٌ على الحال المقدرة.(10/567)
قال شهاب الدِّينِ: «ولا حاجَة إلى قولهم» مقدّرة «، وإنَّما احتاجُوا إلى التقدير في مثل قوله: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] ؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول، بخلافه هنا» .
قوله: {مَا دَامَتِ} «ما» مصدرية ظرفية، أي: مدَّة دوامهما. و «دَامَ» هنا تامةٌ، لأنَّها بمعنى: بَقِيت.
فصل
اختلفوا في تأويل هذا، قالت طائفة منهم الضحَّاك: المعنى ما دامت سمواتْ الجنَة والنَّار وأرضهما، والسماء كل ما علاك وأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك، قال تعالى: «وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حين نشاء» وقيل: أراد السِّماء والأرض المعهودتين في الدنيا؛ وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده، كقولهم: «لا آتيك ما جنَّ ليلٌ، أو سَالَ سيلٌ، وما اختلفَ اللَّيلُ والنهار» .
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنَّ جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نُور العرش، وأنَّ السموات والأرض في الآخرة تردَّان إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتنان أبداً في نور العرش.
فصل
قال ابن الخطيب: قال قوم: إنَّ عذاب الكفَّار منقطعٌ، وله نهاية، واحتجُّوا بالقرآن والمعقول، أما القرآنُ فبآيات منها هذه الآيةن والاستدلال بها من وجهين:
أحدهما: قوله: {مَا دَامَتِ السماوات والأرض} يدل على أنَّ مدة عقابهم مساوية لمدَّة بقاءِ السموات والأرض، ثم توافقنا على أنَّ مدة بقاءِ السموات والأرض متناهية؛ فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة.
والثاني: قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} استثناءٌ من مدَّةِ عقابهم، وذلك يدلُّ على أنَّ زوال ذلك العقاب في وقت هذا الاستثناء، ومنها قوله تعالى: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} [النبأ23] بيَّن تعالى أنَّ لبثهم في ذلك العقاب لا يكون إلاَّ أحقاباً، والأحقابُ معدودة.
وأمَّا العقلُ فمن وجهين:
الأول: أنَّ معصية الكافر متناهيةٌ، ومقابلة الجرم المتناهي بعذابٍ لا نهاية له ظلم وإنَّهُ لا يجوزُ.
الثاني: أنَّ ذلك العقاب ضرر خال عن النَّفع فيكون قبيحاً.
بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يجوزُ أن يرجع إلى الله تعالى تعاليه عن النَّفع والضَّرر، ولا إلى ذلك العقاب؛ لأنَّهُ في حقِّه ضربٌ محض، ولا إلى غيره؛ لأن أهل(10/568)
الجنَّة مشغولون بلذاتهم، فلا فائدة لهم في الالتذاذِ بالعقابِ الدَّائم في حقِّ غيرهم؛ فثبت أنَّ ذلك العذاب ضرر خال عن جميع النَّفْعِ؛ فوجب أن لا يجوز
وهذا قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وذهب إلي الحسنُ البصريُّ وحمَّادُ بنُ سلمة وبه قال عليُّ بن طلحة وجماعة من المفسِّرين، رواه عنهم ابنُ تيمية.
وأما الجمهورُ الأعظمُ من الأمَّةِ، فقد اتفقوا على أنَّ عذاب الكافر دائمُ، وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسُّكِ بهذه الآيةِ، فذكروا جوابين:
أحدهما: قالوا المرادُ سماوات الآخرة وأرضها، قالوا: والدليلُ على أنَّ في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] وقوله: {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 74] وأيضاً: لا بدَّ لأهْل الآخرة ممَّا يقلهم ويُظلهم؛ وذلك هو الأرض والسَّموات.
ولقائل أن يقول: التشبيه إنما يصحُّ ويجوزُ إذا كان حال المشبه به مقرراً معلوماً، فيشبه غيره به تأكيداً لثبوت الحكم المشبه، ووجود السَّموات والأرض في الآخرة غير معلوم، وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلاَّ أنذَ بقاءهما على وجه لا يفنى ألبتَّة غير معلوم، فإذا كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدَّوام بهما كلاماً عديم الفائدة: أقصى ما في الباب أن يقال: لمَّا ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة، وثبت دوامهما؛ وجب الاعترافُ به، وحينئذٍ يحسُنُ التَّشبيه، إلاّ أنَّا نقُولُ: لمَّا كان الطَّريقُ في إثبات دوام سموات أهل الآخرة، ودوام أرضهم هو السَّمعُ، ثُمَّ السمعُ دالَّ على دوام عقاب الكافر، فحينئذ الدَّليلُ الذي دلَّ على ثبوت الحم في الأصل حال بعينه في الفرع، وفي هذه الصورة أجمعُوا على أنَّ القياس ضائعٌ والتَّشبيه باطلٌ، فكذا ههنا.
الوجه الثاني - في الجواب - قالوا: إنَّ العرب يُعبِّرون عن الدَّوام والأبد بقولهم: لا آتيك ما دامت السموات والأرض، وقولهم: ما اختلف الليل والنهار، وما طَمَا البَحرُ، وما أقام الجبل وأنَّهُ تعالى خاطب القوم على عرفهم في كلامهم، فلمَّا ذكروا هذه الأشياء بناءً على اعتقادهم أنَّها باقية أبداً، علمنا أنَّ هذه الألفاظ في عرفهم تُفيدُ الأبد والدَّوام.
ولقائل أن يقول: هل تسلمون أنَّ قول القائل: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء الله} يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات؟ أو تقولون: إنَّه لا يدلُّ على هذا المعنى، فإن كان الأوَّل؛ فالإشكال لازم؛ لأنَّ النصَّ لمَّا دل على أنَّهُ يجبُ أن تكون مدة مقامهم في النار مساوية لمدة بقاءِ السموات والأرض، ويمنع، من حصولِ بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السموات، وثبت أنَّهُ لا بدُّ من فناء السموات، فعند هذا يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقابِ، وإن قلتم إنَّ هذا لا يمنع من بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ(10/569)
السَّمواتِ والأرض، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتَّة، فثبت أنَّ هذا الجواب على كلا التقريرين ضائعٌ.
قال: والحقُّ عندي أنَّ المفهوم من الآية أنَّه متى كانت السَّموات والأرض دائمتينن كان كونهم في النَّار باقياً، وهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرطُ حصل المشروط، ولا يقتضي أنَّهُ إذا عدم الشرط أن يعدم المشرو «، ألا ترى أنَّا نقول: إن كان هذا إنسان فهو حيوان، فإذا قلنا: لكنَّهُ إنسان، فإنه ينتج أنَّهُ حيوان، أمَّا إذا قلنا لكنَّه ليس بإنسان لم ينتج أنَّه ليس بحيوان؛ لأن يثبتُ في علم المنطق أنَّ استثناء نقيض المقدمة لا ينتج شيئياً، فكذا ههنا إذا قلنا: متى دامت السموات والأرض دام عقابهم، فإذا قلنا: لكن السموات والأرض دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً، أمَّا إذا قلنا: لكنه ما بقيت السَّموات والأرض لم يلزم عدم دوام عقابهم.
فإن قالوا: إذا كان العقابُ حاصلاً سواء بقيت السَّموات، أو لم تبقَ، لم يبقَ لهذا التَّشبيه فائدة.
قلنا: بل فيه أعظم الفوائد، وهو أنه يدلُّ على بقاءِ ذلك العذاب زماناً دائماً طويلاً، لا يحيط العقلُ بطوله وامتداده، فأمَّا أنه هل يحصلُ له آخر أم لا؟ فذلك يُستفادُ من دليلٍ آخر.
وأمَّا الشبهة وهي تمسّكهم بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} فذكروا عنه أجوبة:
أحدهما: قال ابن قتيبة وابنُ الأنباري والفرَّاء هذا استثناء استثناه الله تعالى، ولا يفعله ألبتَّة، كقولك: والله لأضربنك إلاِّ أن أرى غير ذلك، وعزيمتك أن تضربه.
ولقائل أن يقول: هذا ضعيفٌ؛ لأنه إذا قال: لأضربنك إلاَّ أن أرى غير ذلك، معناه: لأضربنك إلاَّ إذا رأيت أن الأولى تركُ الضربِ، وهذا لايدلُّ ألبتَّة على أنَّ الرُّؤية قد حصلت أم لا؟ بخلاف قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلاَّ المدة التي شاء ربك، فهاهنا اللفظُ يدلُّ على أنَّ هذه المشيئة قد حصلت جزماً، فكيف يحصلُ قياس هذا الكلام على ذلك الكلام.
وثانيها: قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما معنى الاستثناءِ في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} وقد ثبت خلود أهل الجنَّة والنَّار في الأبد من غير استثناء؟ قلت: هو استثناء من الخلودِ في عذاب أهل النَّار، ومن الخود في نعيم أهل الجنَّة، وذلك أنَّ أهل النَّار لا يُخلَّدون في عذابها وحده، بل يُعذَّبُون بالزَّمهرير، وبأنواعٍ آخر من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سخط الله عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكثر منه كقوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] والدَّليل عليه قوله: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] وفي مقابله قوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] أي: يفعلُ بهم ما(10/570)
يردُ من العذاب، كما يعطي أهل الجنَّة ما لا انقطاع له.
قال أبو حيَّان: ما ذكره في أهل النّارِ قد يتمشَّى؛ لأنَّهم يخرجون من النَّارِ إلى الزَّمهرير فيصيح الاستثناء، وأمَّا أهلُ الجن! ة، فلا يخرجون من الجنَّة، فلا يصحُّ فيهم الاستثناء.
قال شهاب الدين: والظَّاهرُ أنَّهُ لا يصحُ فيهما؛ لأنَّ أهل النَّارِ مع كونهم يُعذَّبُون بالزَّمهرير هم في النَّار أيضاً.
وثالثها: أنَّه استثناء من الزَّمان الدَّال عليه قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} .
والمعنى: إلاَّ الزمان الذي شاء الله فلا يُخَلَّدون فيها.
ورابعها: إنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ، وهو قوله: «فَفِي النَّارِ» و «فَفِي الجنَّة» لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضمير المبتدأ.
وخامسها: أنه استثناء من الضَّمير المستتر في الحالِ وهو: {خَالِدِينَ} ، وعلى هذين القولين تكون «ما» واقعةً على من يعقل عند من يرى ذلك، أو على أنواع من يعقلُ كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] والمرادُ ب «مَا» حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرف أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنَّة فيجوز أن يكونوا هم، أو أصحابُ الأعراف؛ لأنهم لم يدخلُوا الجنَّة لأولِ وهلةٍ، ولا خُلِّدُوا فيها خلودَ من دخلها أولاً.
وسادسها: قال ابنُ عطيَّة: قيل: إنَّ ذلك على طريق الاستثناء الذي ندبَ الشَّارعُ إلى استعماله في كُلِّ كلامٍ، فهو كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشَّرط، كأنه قال: إن شاء الله؛ فليس يحتاج أن يوصف بمتَّصلٍ، ولا منقطع.
وسابعها: هو استثناءٌ من طول المُدَّةِ، ويروى عن ابن مسعدٍ وغيره أنَّ جهنم تخلُوا من النَّاس وتخفق أبوابها فذلك قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَآءَ} وهذا مردُودٌ بظواهر الكتاب والسُّنة، وما ذكر عن ابن مسعودٍ فتأوليه: أنَّ جهنَّم في الدَّرك الأعلى، وهي تخلون العصاة المؤمنين، هذا على تقدير صحَّة ما نُقِل عن ابنِ مسعُودٍ.
وثامنها: أنَّ «إلاَّ» حرفُ عطفٍ بمعنى الواو، والمعنى: وما شاء ربُّكَ زائداً على ذلك.
وتاسعها: أنَّ الاستثناء منقطعٌ، فيقدَّرُ ب «لكن» أو ب «سوى» ، ونظروه بقولك: «لي عليك ألفا درهم، إلاَّ الألف التي كنت أسلفتك» أي: سوى تلك، فكأنه قالك خالدينَ فيها ما دامتِ السمواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربُّك زائداً على ذلك.
وقيل: سوى ما أعدَّ لهم من عذابٍ غير عذابِ النار كالزمخرير ونحوه.
عاشرها: أنه استثناءٌ من مدَّة السموات والأرض التي فرضت لهم في الحياة الدنيا.(10/571)
وحادي عشرها: أنَّهُ استثناءٌ من البرزخ الذي يبين الدنيا والآخرة.
وثاني عشرها: أنَّهُ استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دُخُولِ النَّار، إذا دخولهم إنَّما هو زُمَراً بعد زُمَر.
وثالث: عشرها: أنَّه استثاءٌ من قوله: «فَفِي النَّارِ» كأَّنَّه قال: إلاَّ ما شاءَ ربُّك من تأخُّر قوم عن ذلك، وهذا مرويُّ عن أبي سعيد الخدري وجابر.
ورابع عشرها: أنَّ «إلاَّ ما شاء» بمنزلة: كما شاء؛ كقوله: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] ، أي: كما سلف.
وخامس عشرها: أن معناه: لو شك ربُّك، لأخرجهم منها، ولكنه لا يشاءُ؛ لأنَّه حكم لهم بالخُلود، فتكون «ما» نافية.
وسادس عشرها: أنَّه استثناء من قوله: {فَفِي النار} و {فَفِي الجنة} ، أي: إلاَّ الزَّمان الذي شاءهُ الله فلا يكون في النَّار ولا في الجنَّة، ويمكن أن يكون هذا الزَّمانُ المستثنى هو الزَّمانُ الذي يفصلُ فيه بين الخلق يوم القيامة إذا كان الاستثناءُ من الكون في النَّار، أو في الجنَّة؛ لأنه زمانٌ يخلُو فيه الشَّقيُّ والسَّعيدُ من دخُولِ النَّار والجنة، وأمَّا إذا كان الاستثناءُ من الخلودِ فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكوز الزَّمانُ المستثنى هو الزمانُ الذي فات أهل النار العصاةً من المؤمنين الذي يخرجُون من النَّار ويدخُلون الجنَّة، فلسُوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصارُوا إلى الجنَّة، وهذا مرويُّ عن قتادة والضَّحاك وغيرهما والذين شقُوا على هذا شامل للكافر والعصاة هذا في طرفِ الأشقياء العصاة ممكنٌ، وأمَّا في الطَّرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويل فيه، إذ ليس منهم من يدخلُ الجنة ثمَّ لا يخلَّد فيها.
قال أبو حيَّان: يمكنُ ذلك باعتبار أن يكون أريد الزَّمان الذي فات أهل النَّار العُصاة من المؤمنون فيها الجنَّة وخُلَّدوا فيها صدق على العصاةِ المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدُوا في الجنة تخليدَ من دخلها لأوَّلِ وهلة.
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وهذا يحسُ انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفسَّاق من النَّارِ، كأنَّه تعالى يقول: اظهرتُ القهر والقدرة، ثم أظهرتُ المغفرة والرَّحمة؛ لأنَّي فعالٌ لما أريدُ، وليس لأحد عليَّ حكم ألبتَّة.
قوله: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ}(10/572)
قرأ الأخوان حفصٌ «سُعِدُوا» بضمِّ السين. والباقون بفتحها، فالأولى من قولهم: عسده اللَّهُ، أي: أسعدهُ حكى الفرَّاءُ عن هذيل أنها تقولُ: سعده الله بمعنى أسعده.
وقال الجوهريُّ: سَعِد فهو سَعِيد ك: سَلِمَ فهو سليم وسُعِد فهو مسعود. وقال ابن القشيري: ورد سعده الله فو مسعود، وأسْعَده فهو مُسْعَد.
وقيل: يقال: سعده وأسْعده فهو مسعُود، استغنوا باسم مفعول الثلاثي.
وحكي عن الكسائي أنَّه قال: هما لغتنان بمعنى يعني: فعل وأفعل. وقال أبو عمرو ابن العلاءِ: يقال: سُعِدَ الرجلُ، كما يقال: أسعده الله وقال بعضهم: احتجَّ الكسائيُّ بقولهم: «مَسْعو» قيل: ولا حُجَّة فيه؛ لأنه يقال: مكان مسعود فيه ثم حذف «فهي» وسُمِّي به.
وكان عليُّ بن سليمان يتعجَّب من قراءة الكسائي «سُعِدوا» مع علمه بالعربيَّةِ، ولعجبُ من تعجُّبه.
قال مكيُّ: قراءةُ حمزة والكسائي «سُعدِدوا» بضمِّ السِّين حملاً على قوله: «مسعود» وهي لغةٌ قليلة شاذةٌ، وقولهم: «مسود» ، إنَّما جاء على حذف الزَّواد: كأنَّهُ من أسعده الله، ولا يقالك سعده الله، وهو مثل قولهم: أجنَّهُ الله فهو مجنون، أتى على جَنَّةُ الله، وإن كان لا يقال ذلك، كما لا يقال: سعده الله. وضمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد وقال أبو البقاء: وهذا غيرُ معروفٍ في اللغةِ، ولا هو مقيسٌ.
فصل
قال ابنُ الخطيب: الاستثناءُ في اباب السُّعداءِ يجبُ حمله على كل الوجوهِ المذكورة فيما تقدَّم، وها هنا وجه آخر، وهو أنُ ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنَّة إلى المنازل الرَّفيعة التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى، لقوله: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ} [التوبة: 72] إلى أن قال: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] .
قوله: {عَطَآءً} نُصِبَ على المصدر المؤكذ من عنى الجملة قبله؛ لأن قوله: ففِي الجنَّةِ خالدينَ «يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنَّهُ قيل: يعطيهم عطاءً، و» عطاء «اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء على الأفعال، أو يكونُ على حذف الزَّوائد، كقوله: {والله(10/573)
أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، أو منصوب بمقدَّرِ موافق له، أي: فنبتُّم نباتاً، وكذلك هنا، يقال: عطوتُ معنى: تناولتُ. و» غَيرَ مجذُوذِ «نعته، والمجذوذُ: المقطوع، ويقال لفُتات الذَّهب والفضَّة والحجارة جُذاذ من ذك، وهو قريب من الجدِّ وبالمهلة في المعنى، إلاَّ أنَّ الرَّاغب جعل جدَّ بالمهملة بمعنى: قطع الأرض المستوية، ومنه: جدَّ في سيره يَجِدُّ جدًّا، ثم قال:» وتُصُوِّر من جددتث الأرض القطعُ المُجرد، فقيل: جددتُ الثوبَ إذا قطعته على وجه الإصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جعل الكل ما أحدث إنشاؤه «والظَّاهر أنَّ الماتدتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرت لها نظائر نحو: عتا وعثَا، وكتب وكثب.
فصل
قال ابن زيد: أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنَّة، فقال: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ولم يخبر بالذي يشاءُ لأهل النَّار.
وقال ابن مسعود: ليأتينَّ على جهنَّم زمان ولي فيها أحدٌ، وذلك بعدما يلبثوا فيها أحقاباً وعن أبي هريرة مثلهُ، وقد تقدَم، ومعناه عند أهل السُّنة: ألاَّ يبقى فيها أحدٌ من أهل الإيمان، وأما مواضع الكافر فممتلئه أبداً.
قوله: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} أي: شك» مِمَّا يعبدُ هؤلاءِ «لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان، وأتبعه بأحوال الأشقياء، وأحوال السعداء شرح للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أحوال الكفار من قومه، فقال:» فلا تَكُ في مريةٍ ممَّا يعبدُ هؤلاءِ «وحذف النون؛ لكثرة الاستعمال؛ ولأنَّ النون إذا وقعت طرف الكلام، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرّد الغنَة، فلا جرم أسقطوه و» ما «في» مِمَّا يعبُدُونَ «و» مِمَّا يعبدُ آباؤنَا «مصدرية، ويجوز أن تكون الأولى اسمية دون الثانية، والمعنى أنَّهُم ضلال» ما يعبدون إلاَّ كما يعبد «، وفيه إضمار، أي: كما كان يعبدُ آباؤهُمْ من قبل،» وإنَّا لمُوفُّوهُم نَصِيبهُم «حقَّهم من الجزاء» غير منقُوص «ويحتمل أن يكون المراد أنهم، وإن كفروا، وأعرضوا عن الحقِّ، فإنا موفوهم نصيبهم من الرِّزق والخيرات الدنيويَّة، ويحتمل أن يكون المراد: إنَّا لموفُّوهم نصيبهم من إزاحة العذر وإظهار الدلائل وإرسال الرسُل وإنزال الكتب.
قوله «غير منقُوصٍ» حالٌ من «نَصِيبهُم» وفي ذلك احتمالان:
أحدهما: أن تكون حالاً مؤكِّدة؛ لأن لفظ التوفيه يشعرُ بعدم النقص، فقد استفيد معناها من عاملها، وهو شأنُ المؤكدة.
والثاني: أن تكون حالاً مبنة.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف نُصب «غيْر منقُوصٍ» حالاً من النَّصب المُوفَّى؟ قلتُ: يجوز أن يُوفَّى، وهو ناقصٌ، ويوفَّى وهو كامل؛ ألا تراك تقولُ: «وفَّيْتُه شطر(10/574)
حقَّه، وثُلثَ حقِّه، وحقِّه كاملاً وناقصاً» فظاهر هذه العبارة أنها مبنيةٌ، إذ عاملها محتمل لمعناها ولغيره. إلا أن أبا حيَّان قال: هذه مغلطة، إذا قال: «وفيته شطر حقِّه» فالتوفية وقعتْ في الشَّطْر، وكذا في الثُلُث، والمعنى: أعطيته الشطر والثلث كاملاً لم أنقصه شيئاً، وأما قوله: «وحقِّه كاملاً وناقصاً» فلا يقالُ لمنافاته التَّوفية. قال شهابُ الدِّين: «وفي منع الشيخ أن يقال:» وفِّيْتُه حقِّه ناقصاً «نظرٌ، إذ هو شائعٌ في تركيبات النَّاس المعتبر قولهم؛ لأ المراد بالتَّوفيه مطلقُ التَّأدية» .(10/575)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} الآية.
لمَّا بيَّن إصرار كُفَّار مكَّة على إنكارِ التَّوحيدِ، وبيَّن إصرارهم على إنكار نُبُوَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتكذبيهم بكتابة، بيَّن أنَّ هؤلاء الكُفَّار كانوا على هذه السيرة الفاجرةِ، مع كل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وضرب لذلك مثلاً، وهي إنزالُ التوراة على موسى فاختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره بعضهم، وذلك يدلُّ على أنَّ عادة الخلق هكذا.
قوله: {فاختلف فِيهِ} أي: في الكتابِ، و «في» على بابها من الظَّرفية، وهو هنا مجاز، أي: في شأنه. وقيل: هي سببية، أي: هو سببُ اختلافهم، كقوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] أي: يُكثِّرهم بسببه. ومعنى اختلافهم فيه: أي: فمن مصدق به ومكذب كما فعل قومك بالقرآن، يُغَزِّي نبيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: «فِي» بمعنى «عَلَى» ويكون الضًَّمير لموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي: فاختلف عليه «ولْولاَ كملةٌ سبقتْ من ربِّكَ» في تأخير العذاب عنهم: «لقُضِيَ بينَهُم» أي: لعذَّبُوا في الحالِ، لكن قضاؤه أخَّر ذلك عنهم في دنياهم.
وقيل: معناه أنَّ الله إنَّما يحكم بين المختلفين يوم القيامة، وإلاَََّ لكان الواجب تمييز المُحقِّ من المبطل في دار الدنيا.
وقيل: المعنى ولولا أنَّ رحمته سبقت غضبه، وإلاَّ لقضي بينهم. ثم قال: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} يعني أنَّ كفَّار مكَّة لفي شكِّ من هذا القرآن «مُريبٍ» من أراب إذا(10/575)
حصل الرِّيب لغيره، أو صار هو في نفسه ذا رَيْب، وقد تقدَّم.
قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُم} الآية.
هذه الآية الكريمة ممَّا تكلم النَّاس فيها وحديثاً، وعسر على أكثرهم تلفيقها وتخريجاً فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم «وإنْ» بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وأمَّا «لمّا» فقرأها مشدَّدةً هنا وفي «يس» وفي سورة الزخرف، وفي سورة الطارق، ابن عامر وعاصمٌ وحمزة، إلاَّ أنَّهُ عن ابن عامر في الزخرف خلافاً، فروى عنه هشامٌ وجهين، وروى عنه ابن ذكوان التخفيف فقط، والباقون قرءوا جميع ذلك بالتخفيف، وتلخَّص من هذا أنَّ نافعاً وابن كثير قرأ «وإنْ» و «لمَا» مخففتين، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خفَّف «إنْ» وثقَّل «لمَّا» وأنَّ ابن عامر وحمزة حفصاً عن عاصم شدَّدُوا «إنَّ» و «لمَّا» معاً، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدَا «إنَّ» وخففا «لما» فهذه أربعُ مرات للقراءة في هذين الحرفين، هذا في المتواتر.
وأمَّا في الشَّاذ فقد قرئ أربعُ قراءاتٍ أخر:
إحداهما: قراءة أبي والحسن وأبان بن تغلب «وإنْ كلٌّ» بتخفيفها، ورفع «كل» ، و «لمَّا» بالتشديد.
الثانية: قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم «لمَّا» مشددة منونة، لمْ يتعرَّضُوا لتخفيف «إنَّ» ولا تشديدها.
الثالثة: قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك: «وإنْ كلٌّ» بتخفيف «إن» ورفع «كل» .
الرابعة: قال أبو حاتم: الذي في مصحف أبي «وإنْ من كلّ إلاَّ ليُوفِّينهُمْ» وقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً، حتى قال أبو شامة وأمّا هذه الآية فمعناها على هذه القراءات من أشكل الآيات؛ قال شهاب الدين فأمَّا قراءةُ الحرميين ففيها إعمال «إن» المخففة، وهي لغةٌ ثانيةٌ عن العرب. قال سيبويه: «حدَّثنا من نثقُ به أنَّه سمع من العرب(10/576)
من يقول:» إنْ عمراً لمُنْطلقٌ «؛ كما قالوا: [الهزج] .
3020 - ... ... ... ... ... ... ... كَانْ ثَدْيَيْهِ حُقَّان
قال: وَوَجْهُه من القياس: أنَّ» إنْ «مُشبهةٌ في نصبها بالفعل، والفعلُ يعمل محذُوفاً كما يعمل غير محذوفٍ، نحو:» لَمْ يكُ زيداً مُنطلقاً «» فلا تكُ في مريةٍ «وكذلك: لا أدْر.
قال شهابُ الدٍّين: وهذا مذهبُ البصريين، أعني: أنَّ هذه الأحرف إذا خُفِّف بعضها جاز أن تعمل، وأن تهمل ك:» إنْ «والأكثرُ الإهمالُ، وقد أجمع عليه في قوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] وبعضها يجبُ إعماله ك» أنْ «بالفتح، و» كأنْ «ولكنَّهُما لا يعملان في مظهر ولا ضمي بارز إلا ضرورة، وبعضها يجب إهماله عند الجمهور ك» لكن «.
وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإهمال في» إن «المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم؛ بدليل هذه القراءة المتواترة؛ وقد أنشد سيبويه على إعمال هذه الحروف مخففة قول الشَّاعر: [الطويل]
3021 - ... ... ... ... ..... كَأنْ طبيةٌ تَعْطُو إلى وِارقِ السَّلم
وقال الفراء: لم نسمع العربَ تُخفِّفُ وتعملُ إلا مع المكنيِّ؛ كقوله: [الطويل]
3022 - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاءِ سألتني ... طلاقكِ لمء أبْخَلْ وأنتِ صديقُ
قال:» لأنَّ المكني لا يظهرُ فيه إعرابٌ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع «وقد تقدَّم ما أنشدهُ سيبويه، وقول الآخر: [الرجز]
3023 - كأنْ وريديهِ رشاءُ خُلْبِ ... الرَّشاء: الحَبْلُ. والخُلْبُ: اللِّيفُ هذا ما يتعلق ب» إنْ «.
وأمَّا» لما «في هذه القراءة فاللاَّمُ فيها هي لامُ» إنْ «الدَّاخلةُ في الخبر،» ومَا «يجوز أن تكون موصولة بمعنى» الذي «واقعةً على ما يعقلُ، كقوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] ، فأوقع» ما «على العاقل، واللاَّمُ في» ليُوفِّينَّهُمْ «جوابُ قسم مضمر، والجملةُ من القسم وجوابه صلةٌ للموصولِ، والتقديرُ: وإن كلاًّ للذين والله ليُوفِّينَّهُمْ، ويجوز أن تكون» ما «نكرةً موصوفة، والجملة القسمية وجوابها صفةٌ ل» ما «والتقدير وإنْ كلاًّ لخلقٌ أو لفريقٌ والله ليوفينَّهم.
والموصولُ وصلته أو الموصوفُ وصفته خبرٌ ل «إنْ» .(10/577)
وقال بعضهم: اللاَّمُ الأولى هي الموِّطئة للقسم، ولمَّا اجتمع اللاَّمان واتفقا في اللفظ فصل بينهما ب «ما» ، كما فصل بالألف بين النُّونين في «يَضْربانِّ» وبين الهمزتين؛ نحو: آأنْت، فظاهرُ هذه العبارة أنَّ «ما» هنا زائدٌ جيء بها للفصل، إصلاحاً للفظ، وعبارةُ الفارسي مؤذنةٌ بهذا، إلاَّ أنَّهُ جعل اللاَّم الأولى لام «إنْ» فقال: العُرْفُ أن تدخل لام الابتداء على الخبرِ، والخبرُ هنا هو القسمُ، وفيه لامٌ تدخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللاَّمان، والقسمُ محدوفٌ واتفقا في اللفظ وفي تلقي القسم، فصلوا بينهما ب «مَا» كما فصلُوا بين «إنَّ» واللاَّم وقد صرَّح الزمخشريُّ بذلك فقال: واللاَّم في «لما» موطئةٌ للقسم، و «ما» مزيدةٌ.
وقال أبُو شامة: واللاَّمُ في «لما» هي الفارقةُ بين المخفَّفةِ من الثقيلة والنَّافية. وفي هذا نطرٌ؛ لأنَّ الفارقة إنَّما يؤتى بها عند التباسها بالنَّافية، والالتباسُ إنَّما يجيءُ عند إهمالها؛ نحو: إن زيدٌ لقائمٌ وهي في الآية الكريمة معملةٌ، فلا التباسَ بالنَّافية، فلا يقال: إنَّها فارقةٌ.
فتلخص في كلِّ من «اللاَّم» ، و «ما» ثلاثة أوجه:
أحدهما: في اللام أنها للابتداء الدَّاخلةِعلى خبر «أن» .
الثاني: لام موطئة للقسم.
الثالث: أنها جواب القسم كررت تأكيداً. وأحدهما في «ما» : أنها موصولة. الثاني: أنها نكرة الثالث: أنها مزيدة للفصل بين اللاَّمين. وأمَّا قراءة أبي بكر ففيها أوجه:
أحدهما: قولُ الفرَّاءِ وجماعة من نحاة البصرة، والكوفة، وهو أنَّ الأصل «لمِنْ مَا» بكسر الميم على أنَّها «مِنْ» الجارة، دخلت على «ما» الموصولة، أو الموصوفة، كما تقرَّر، أي: لمن الذين الله ليوفِّينَّهُم، أو لمنْ خلقٍ والله ليوفِّينَّهُمْ، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنة قبل ميم: «ما» وجب إدغامها؛ فقُلبتُ ميماً وأدغمت، فصار اللفظ اللفظ ثلاثة أمثال، فخففت الكلمة بحذف إحداها، فصار اللفظ كما ترى «لمَّا» قال نصر بن علي الشيرازي: «وصل» مِنْ «الجارَّة ب» مَا «فانقلبت النُّونُ أيضاً ميماً للإدغام، فاجتمعت ثلاثُ ميمات، فحذفت إحداهُنَّ فبقى» لمَّا «بالتشديد» . قال: و «ما» هنا بمعنى «مَنْ» وهو اسمٌ لجماعة النَّاسِ، كما قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] أي: من طاب، والمعنى: وإنْ كلاًّ من الذين ليوفينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهم.
وقد عيَّن المهدويُّ الميم المحذوفة فقال: «حذفت الميم المكسورة، والتقدير: لمنْ خلق ليوفينَّهم» .
الثاني: قول المهدويّ ومكي: أن يكون الأصل: «لمَنْ مَا» بفتح ميم: «مَنْ» على أنَّها موصولة، أو موصوفة، و «ما» بعدها مزيدةٌ، قال: فقلبت النون ميماً، وأدغمت في الميم(10/578)
التي بعدها، فاجتمع ثلاثُ ميماتن فحذفت الوسطى منهنَّ، وهي المبدلةُ من النون، فقيل: «لمَّا» قال مكي والتقديرُ: وإن كلاًّ لخلقٌ لوفينَّهُم ربك أعمالهم، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال: زعم بعضُ النَّحويين أن اصلهُ «لمَنْ مَا» ثُم قلبت النُّونُ ميماً، فاجتمعت ثلاثُ ميمات فحذفت الوسطى قال: وهذا القولُ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ «مَنْ» لايجوزُ بعضها؛ لأنَّها اسمٌ على حرفين.
وقال النحاسُ: قال أبو إسحاق: هذا خطأ؛ لأنَّهُ تحذف النونُ من «مَنْ» فيبقى حرفٌ واحد وقد ردَّه الفارسيُّ أيضاً فقال: إذ لم يقو الإدغام على تحريك السَّاكن قبل الحرفِ المدغم في نحو: «قدم مالك» فأن لا يجوز الحذفُ أجدرُ قال: على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعتْ في الإدغام أكثر ممَّا كانت تجتمع في «لمنْ مَا» ولمْ يحذف منها شيءٌ، وذلك في قوله تعالى: {وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48] فإذا لم يحذف شيءٌ من هذا فأنْ لا يحذف ثم أجدرُ.
قال شهابُ الدين: اجتمع في «أمم ممَّن معك» ثمانيةُ ميماتٍ، وذلك أنَّ «أمماً» فيها ميمان وتنوين، والتنوين يقلب يميماً لإدغامه في ميم «مِنْ» ومعنا نونان: نونُ «مِنْ» الجارة، ونون «مَنْ» الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإدغامها في الميم بعدهما، ومعنا ميم «طمعك» فتحصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظِ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداهما عن تنوين، واثنتان نون، واستدلَّ الفراءُ على أنَّ أصل «لمَّا» «لِمنْ ما» بقول الشَّاعر: [الطويل]
3024 - وإنَّا لمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضرْبة ... عَلى رأسِهِ تُلْقِي اللِّسانَ مِنَ الفَمِ
وقول الآخر: [الطويل]
3052 - وإنِّي لمِمَّا أصْدِرُ الأمْرَ وجْهَهُ ... إذَا هُوَ أعْيَا بالسَّبيلِ مَصادِرُهْ
وقد تقدَّم في آل عمران في قراءة من قرأ: {وإذا أخذ الله ميثاق النبين لمَا آتيتكم} [الآية: 81] بتشديد «لمَّا» أنَّ الأصل: «لمن ما» ففعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحدُ الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف هناك في سورته، فالتفت إليه. وقال أبو شامة: وما قاله الفرَّاء استنباطٌ حسنٌ، وهو قريبٌ من قولهم في قوله {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38] إنَّ أصله: لكنم أنا ثُمَّ حذفت الهمزةُ، وأدغمت النون في النُّون، وكذا في قولهم: أمَّا أنت منطلقاً انطلقت، قالوا المعنى لأن كنت منطلقاً. وفيما قاله نظرٌ، لأنَّهُ ليس فيه حذفٌ ألبتَّة، وإنَّما كان يحسنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ حذف، وأمَّا مجرَّدُ التَّنظير(10/579)
بالقلب والإدغام فغيرُ طائلِ، ثم قال أبو شامة: وما أحسن ما استخرج الشَّاهد من البيت يعني: الفرَّاء، ثَم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التَّخفيف والتَّشديد من «لمَّا» في معنى واحد، فقالك «ثُمَّ تُخفَّفُ، كما قرأ بعضُ القرَّاءِ {والَغْ يَعِظُكُم} [النحل: 90] بحذف الياء عند الياء؛ أنشدني الكسائيُّ: [الوافر] .
3026 - وأشْمَتَّ العُداةَ بِنَا فأضْحَوْا ... لَدَيْ يَتباشَرُونَ بِمَا لَقِينَا
فحذفت ياؤه لاجتماع الياءات «. قال شهابُ الدِّين: الأولى أن يقال: حذفت ياءُ الإضافة من» لَدَيّ «فبقيت الياءُ السَّاكنةُ قبلها المنقلبةُ عن الألف في» لَدَى «وهو مثلُ قراءةِ من قرأ {يا بُنَيْ} [هود: 42] بالإسكان على ما سبق، وأمَّا الياءُ من» يَتَبَاشرُونَ «فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة.
ثم قال الفرَّاءُ: [الرجز]
3027 - كأنَّ مِنْ آخِرِهَا إلقَادِمِ ... يريد: إلى القادمِ؛ فحذف اللاَّم وتوجيهُ قولهم من آخرها إلقادم أنَّ ألف» إلى «حذفت لالتقاءِ الساكنينِ، وذلك أنَّ ألف» إلى «ساكنةٌ، ولام التَّعريف من القادم ساكنة، وهمزة الوصل حذفت درجاً، فلما التقيا حذف أولهما فالتقى لامان: لام» إلى «ولام التعريف، فحذفت الثانية على رأيه، والأولى حذف الأولى؛ لأنَّ الثانية دالة على التعريف، فلم يبق من حرف» إلى «غير الهمزة فاتصلت بلام» القادمِ «فبقيت الهمزة على كسرها؛ فلهذا تلفظ بهذه الكلمة» مِنْ آخرِهَا إلقادِمِ «بهمزة مكسورة ثابتةً درجاً؛ لأنها همزة قطع. قال أبُو شامة: وهذا قريبٌ من قولهم:» مِلْكذبِ «و» عَلْماءِ بنُو فُلانٍ «و» بَلْعَنْبَرِ «يريدون: من الكذبِ، وعلى الماءِ بنُو فُلانٍ، وبنُو العَنْبرِ، قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يريدُ قوله: [المنسرح]
3028 - أبْلِغْ أبَا دَخْتَنُوسَ مألُكَة ... غَيْرُ الذي قَد يُقَالُ مِلْكَذبِ
المأكلة: الرِّسالة، وقول الآخر: [الطويل]
3029 - أ - فَمَا سَبَقَ القَيْسِيُّ مِنْ سُوءِ فعلهِ ... ولكِنْ طَفَتْ عَلْمَاءِ غُرْلَةُ خَالدِ
الغُرْلة القُلفة، وقول الآخر: [الخفيف](10/580)
3029 - ب - نَحْنُ قَوْمٌ مِلْجِينِّ في زيِّ ناسٍ ... فَوْقَ طَيْرِ لَهَا شُخُوصُ الجِمالِ
يريد: مِن الجنِّ. قال التبريزي في شرح الحماسة: وهذا مقيسٌ، وهو أن لام التعريف، إذا ظهرت في الاسم حذف الساكنُ قبلها؛ لأن الساكن لا يدغم في الساكن؛ تقول: أكلتُ مالخُبْزِ، ورَكْبَتْ مِلخَيْلِ، وحَملتُ مِلْجَمَلِ.
وقد ردَّ بعضهم قول الفرَّاء بأنَّ نون» مِنْ «لا تحذف إلاَّ ضرورة، وأنشد: [المنسرح]
3030 - ... ... ... ... . ..... ... ... ... . . ملْكَذب
الثالث: أنَّ أصلها» لمَا «بالتَّخفيف، ثمَّ شددت، وإلى هذا ذهب أبو عثمان، قال الزَّجَّاج:» وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّا لَسنَا نُثَقِّل ما كان على حرفين، وأيضاً فلغةُ العربِ العكس من ذلك يُخَفِّفُون ما كان مُثَقَّّلاً نحو: «رُبَ» في «رُبَّ» وقيل: في توجيه إنَّه لمَّا وقف عليها شدَّدها، كما قالوا: رأيتُ فرجًّا، وقصبًّا، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ التَّضعيف إنَّما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً، والميمُ هنا حشوٌ؛ لأنَّ الألف بعدها، إلاَّ أن يقال: إنَّه أجرى الحرف المتوسط مجرة المتأخِّر؛ كقوله: [الرجز]
3031 - مِثْلَ الحَريقِ وَافَقَ القَصَبَّا ... يريد: القَصَبَ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّدت منها ألفٌ، وضعَّف الحرف؛ وكذلك قوله: [الرجز]
3032 - بِبَازلٍ وجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّي ... كأنَّ مَهْواهَا عَلى الْكَلْكَلِّ
شدَّد اللام مع كونها حشْواً بياء الإطلاقِ، وقد يُفرَّق بأنَّ الألف والياء في هذين البيتين في حكم الطَّرح؛ لأنَّهما نَشَآ من حركةٍ بخلاف ألف: «لمَّا» فإنَّها أصليةٌ ثابتةٌ، وبالجملة فهُو وجهٌ ضعيفٌ جدًّا.
الرابع: أنَّ أصلها «لمًّا» بالتنوين ثم بين منهُ «فَعْلى» فإن جعلت ألفهُ للتَّأنيث، لم تصرفه، وإنْ جعلتها للإلحاق صرفتهُ، وذلك كما قالوا في «تَتْرى» بالتنوين وعدمه، وهو مأخوذ من قولك: لَمَمْتُهُ: أي جمعتُهُ، والتقدير: وإن كُلاًّ جميعاً لويفينَّهُمْ، ويكون «جَميعاً» فيه معنى التوكيد ك «كل» ، ولا شكَّ أنَّ «جميعاً» يفيدُ معنى زائداً على «كل» عند(10/581)
بعضهم قال: ويدلُّ على ذلك قراءة من قرأ: «لمَّا» بالتنوين.
الخامس: أنَّ الأصل «لمًَّا» بالتنوين أيضاَ، ثمَّ أبدل التنوين ألفاً وقفاً، ثم أجري الوصل مجرى الوقف، وقد منع من هذا الوجه أبو عبيدة قال: لأنَّ ذلك إنَّما يجوز في الشعر يعني إبدال التنوين ألفاً وصلاً إجراءً لهُ جرى الوقف، وسيأتي توجيه قراءة «لمَّا» بالتنوين.
وقال ابنُ الحاجبِ: «استعمالُ» لمَّا «في هذا المعنى بعيد، وحذفُ التنوين من المُنْصَرف في لاوصل أبعدُ، فإن قيل:» لمَّا «فعلى من اللَّمِّ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث، والمعنى فيه مثل معنى» لمَّا «المُنْصَرف فهو أبعدُ، إذ لا يعرفُ» لمَّا «فعلى بهذا المعنى ولا بغيره، ثم كان يلزمُ هؤلاء أن يميلوا كمن أمال، وهو خلافُ الإجماع، وأن يكتبوها بالياء، وليس ذلك بستقيم» .
السادس: أنَّ «لمَّا» زائدة كما تزاد «إلا» قالهُ أبو الفتح وغيره، وهذا وجهٌ لا اعتبار به، فإنَّه مبنيُّ على وجهٍ ضيف أيضاً، وهو أنَّ «إلاَّ» تأتي زائدة. _ _ السابع: أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمنزلة «ما» ، و «لمَّا» بمعنى «إلاّ» فهي كقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أي: ما كلُّ نفس إلاَّ عليها {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ} [الزخرف: 35] أي: ما كل ذلك إلا متاع. واعترض على هذا الوجه بأنَّ «إنْ» النافية لا تنصبُ الاسم بعدها، وهذا اسمٌ منصوبٌ بعدها وأجابَ بعضهم عن ذلك بأنَّ «كلاًّ» منصوبٌ بإضمار فعلٍ، فقدَّرهُ قومٌ منهم أبو عمرو ابنُ الحاجبِ: وإن أرى كلاًّ، وإن أعلمُ ونحوه، قال: ومِن هنا كانتْ أقلَّ إشكالاً من قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجه غيرُ مُسْتبعدٍ ذلك الاستعباد وإنْ كان في نَصْبِ الاسم الواقعِ بعد حرف النًَّفِي استبعادٌ، ولذلك اختلف في مثل: [الوافر]
3033 - ألاَ رَجُلاً جزاهُ اللَّهُ خَيْراً ... يَدُلُّ عَلى مُحَصِّلةٍ تَبِيتُ
هل هو منصوب بفعل مقدَّر، أو نوِّن ضروةً؟ فاختار الخليلُ إضمار الفعلِ، واختار يونس التنوين للضَّرورة، وقدَّرهُ بعضهم بعد «لمَّا» من لفظ: «ليُوفِّينَّهُم» ، والتقدير: وإن كلاً إلاَّ ليوفِّينَّ ليُوفِّينَّهم. وفي هذا التقدير بعدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يعمل فيما قبلها، واستدل على مجيء: «لمَّا» بمعنى: «إلاَّ» بنصِّ الخليل وسبويه على ذلك ونصره الزَّجَّاج. قال بعضهم: وهي لغةُ هذيل، يقلولون: سألتك بالله لمَّا فعلت أي: إلاَّ فعلت.
وأنكر الفرَّاء وأبو عبيدة وردود: «لمَّ» بمعنى: «إلاًّ» قال أبو عبيدٍ: «أمَّا من شدَّد» لمَّا «بتأويل» إلاَّ «فلمْ نجدْ هذا في كلام العربِ، ومن قال هذا لزمهُ أن يقول: قام القوم(10/582)
لمَّا أخاك، يريدُ: إلاَّ أخاكَ، وهذا غيرُ موجودٍ» وقال الفرَّاءُ: «وأمَّا من جعل» لمَّا «بمنزلة» إلاَّ «فهو وجهُ ضعيفٌ، وقد قالت العربُ في اليمين: بالله لمَّا قمت عنا، وإلاَّ قمت معنا، فأمَّا في الاستثناء فلم تقله في شعر، ولا غير غيره، ألا ترى أنَّ ذلك لو جاء لسمعت في الكلام: ذهب النَّاسُ لمَّا زيداً» فأبو عبيد أنكر مجيء «لمَّاط بمعنى» إلاَّ «مُطلقاً، والفراء جوَّز ذلك في القسم خاصةً، وتبعه الفرسي في ذلك، فقال - في تشديد» لمَّا «ههنا -:» لا يصلحُ أن تكونَ بمعنى «إلاَّ» ، لأنَّ «لمَّا» هذه لا تفارق القسم «وردَّ النَّاس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه، وبأنَّها لغة هُذيْل مطلقاً، وفيه نظرٌ، فإنَّهُمْ لمَّا حكوا لغة هذيل حكوها في القسم كما تقدّضم من نحو: نشدتك بالله لمَّا فعلت، وأسألك بالله لمَّا فعلت. وقال أبو علي أيضاً مستشكلاً لتشديد:» لمَّا «في هذه الآية على تقدير أنَّ» لمَّا «بمعنى» إلاَّ «لا تختص بالقسم ما معناه: أنَّ لتشديد:» لمَّا «في هذه الآية على تقدير أنَّ» لمَّا «بمعنى» إلاَّ «لا تختص بالقسم ما معناه: أنَّ تشديد» لمَّا «ضعيفٌ سواء شدَّدت» إن «أم خفَّفت، قال:» لأنَّه قد نُصِبَ بها «كلاً» ، وإذا نصب بالمُخَفَّفةِ كانت بمنزلة المثقلة، وكا لا يَحْسُن: إنَّ زيداً إلاَّ منطلق؛ لنَّ الإيجابَ بعد نفي، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجاب مؤكدة، فكذا لا يحسن: إنَّ زيداً لمَّا منطلق، لأنَّهُ بمعناه، وإنَّما ساغ: نشدتُك الله إلاَّ فعلت، ولمَّا فعلت؛ لأنَّ معناه الطَّلب، فكأنَّهُ قال: ما أطلبُ منك إلاَّ فِعْلك، فحرفُ الن َّفي مرادٌ مثل
{تَالله تَفْتَأُ} [يوسف: 85] ، ومثَّل ذلك أيضاً بقولهم: «شرُّ أهرُّ ذا ناب» أي: ما أهرَّه إلاَّ شرُّ، قال: «وليس في الآية معنى النَّفي ولا الطَّلب» .
وقال الكسائي: لا أعرف وجه التَّثقيل في «لمَّا» قال الفرسيُّ: ولم يبعد فيما قال وروي عن الكسائي أيضاً أنَّه قال: اللَّهُ عزَّ وجلَّ أعلمُ بهذه القراءة، لا أعرفُ لها وجهاً. _ _ الثامن: قال الزَّجَّاجُ: قال بعضهم قَوْلاً، ولا يجوز غيره: أنَّ «لمَّا» في معنى «إلاَ» مثل {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] ثمَّ أتبع ذلك بكلام طويل مشكل حاصلهُ يرجع إلى أنَّ معنى «إنْ زيدٌ لمنطلق: ما زيدٌ إلاَّ منطلق» ، فأجريتَ المشددة كذلك في المعنى إذا كانت اللام في خبرها، وعملها النَّصيب في اسمها باقٍ بحالة مشددة ومخففة، والمعنى نفيٌ ب «إنْ» وإثباتٌ باللاَّم التي بمعنى «إلاَّ» و «لمَّا» بمعنى «إلاَّ» ، وقد تقدَّم إنكارُ أبي عليّ على جواز «إلاَّ» في مثل هذا التركيب، فكيف يجُوزُ «لمَّا» التي بمعناها؟ . وأمَّا قراءةُ ابن عامر وحمزة وحفصل ففيها وجوه:
أحدهما: أنَّها «إنَّ» المشددة على حالها، فلذلك نصب ما بعدها على أنَّه اسمها، وأمَّا «لمَّا» فالكلامُ فيها كما تقدَّم من أنَّ الأصل «لَمِنْ مَا» بالكسر، أو لَمَنْ مَا «بالفتح، وجميع تلك الأوجه المذكورة تعودُ هنا، والقولُ بكونها بمعنى» إلاَّ «مشكلٌ كما تقدَّم تحريره عن أب علي وغيره.(10/583)
الثاني: قال المازنيُّ: إنَّ» هيا لمخففة ثقلت: وهي نافيةٌ معنى «مَا» كما خففت «إنَّ» ومعناها المثقلة، «ولمَّا» بمعنى «إلاَّ» وهذا قولٌ ساقطٌ جدًّا لا اعتبار به، لأنَّهُ لم يُعْهَدْ تثقيلُ «إنْ» النافية، وأيضاً ف «كلاًّ» بعدها منصوبٌ، والنافيةُ لا تنصبُ.
قال أبُو عمرو بنُ الحاجب - في أماليه -: «لمَّا» هذه هي الجازمة فحذف فعلها للدَّلالةِ عليها، لما ثبت من جوازِ حذف فعلها في قلوهم: «خرجتُ ولمَّا، وسافرتُ ولمَّا» وهو سائغٌ فصيح، ويكونُ المعنى: وإنَّ كُلاً لمَّا يهملوا أو يتركُوا لما تقدَّم من الدَّلالةِ عليه من تفصيل المجموعين بقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] ، ثمَّ فصَّل الأشقياءَ والسُّعداء، ومجازاتهم ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} قال: «وما أعرفُ وجهاً أشبهَ من هذا، وإن كانت النفوسُ تَسْتبعدُهُ من جهة أنَّ مثلهُ لمْ يردْ في القرآن» ، قال: «والتَّحْقِيقُ يَأبَى استعادهُ» .
قال شهابُ الديِّن: وقد نصَّ النَّحويون على أنَّ «لمَّا» يحذفُ مجزومها باطِّرادٍ، قالوا: لأنَّها لنفي قَدْ فعل، وقد يحذف بعدها الفعل؛ كقوله: [الكامل]
3034 - أفِدَ التَّرْحُّلْ غَيْرَ أنذَ رِكَابنَا ... لمَّا تزلْ بِرحَالِنَا وكأنْ قَدِ
أي: وكأن قد زالت، فكذلك منْفيهُ، وممَّن نصَّ عليه الزمخشريُّ، على حذف مجزومها، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب «معانِي الشِّعر» قول الشَّاعِر: [الوافر]
3035 - فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولمَّا ... فَنادَيْتُ القُبورَ فَلَمْ يُجِبْنَهْ
قال: «قوله:» بَدْءاً «أي: سيّداً وبدءُ القوم سيِّدهم، وبدءُ الجزُور خيرُ أنْصِبَائِهَا» .
قال: وقوله: «ولمَّا» أي: ولمّا أكُنْ سيِّداً إلاَّ حين ماتُوا، فإنِّي سدتُ بعدهم؛ كقول الآخر: [الكامل]
3036 - خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّد ... ومن العناءِ تفرُّدِى بالسُّؤدُدِ
ما نِلْتُ ما قَدْ نِلْلتُ إلاَّ بَعْدَمَا ... ذَهَبَ الكِرامُ وسَادَ عَيْرُ السَّيِّد
قال ونظير السُّكُوتِ على «لمَّا» دون فعلها السكُّوتُ على «قَدْ» دون فعلها في قول النابغة: [الكامل]
3037 - أفِدَ التًّرَحُّلُ ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... . .
قال شهابُ الدِّين: وهذا الوجهُ لا خصوصية لهُ بهذا القراءة، بل يَجِيءُ في قراءة من شدَّد «لمَّا» سواءً شدَّد «إن» أو خففها.(10/584)
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو، والكسائي فواضحةٌ جدًّا، فإنَّها «إنَّ» المشدَّدة عملت عملها، واللاَّم الأولى لام الابتداء الدَّاخلة على خبر «إنَّ» ، والثانية جواب قسم محذوف، أي: وإنَّ كلاًّ للذين والله ليوفِّينَّهُم، وقد تقدَّم وقوعُ «ما» على العُقلاء؟ ِ مُقرَّرا، ونظيرُ هذه الآية: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] غير أنَّ اللاَّم في «لمنْ» داخلةٌ على الاسم، وفي «لمَّا» داخلة على الخبر. وقال بعضهم: «مَا» هذه زئادةٌ زيدت للفصل بين اللامين، لام التَّوكيد، ولام القسم، وقيل: اللاَّم ُ في «لمَّا» موطئة للقسم مثل اللاَّم في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] والمعنى: وإنَّ جميعهم واللَّه ليُوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهُم من حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجحودٍ.
وقال الفرَّاء عند ذكر هذه الآية -: جَعَلَ «مَا» اسماً للنَّاس كما جاز {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] ثم جعل اللاَّم التيفيها جواباً ل «إنَّ» وجعل اللاَّم التي في «ليُوفِّينَّهُمْ» لاماً دخلت على نيَّةِ يمينٍ فيما بين «مَا» وصلتها، كما تقول: هذا من ليَذْهبنَّ، وعندي ما لغيرهُ خيرُ منه، ومثله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] .
ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أنَّ اللاَّم مكررةٌ فقال: إذا عجَّلت العربُ باللاَّم في غير موضعها أعادوها إليه، نحو: إنَّ زيداً لإليك لمُحْسِنٌ؛ ومثله: [الطويل]
3038 - ولَوْ أنَّ قَوْمِي لمْ يكُونُوا أعِزَّة ... لبَعْدُ لقَدْ لا قَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا
قال: أدخلها في «بَعْد» وليس بموضعها، وسمعت أبا الجرَّاحِ يقولُ: «إنِّي ليحمد الله لصالحٌ» .
وقال الفارسيُّ - في توجيه القراءة -: «وجهُهَا بيِّن وهو أنَّه نصب» كُلاًّ «ب» إنَّ «وأدخل لام الابتداء في الخبر، وقد دخلت في الخبرِ لامٌ أخرى، وهي التي يُتلقَّى بها القسم، وتختصُّ بالدُّخُول على الفعل، فلمَّا اجتمعت اللاَّمان فُصِل بينهما كما فُصِل بين» إنَّ «واللاَّم فدخلتها وإن كانت زائدة للفصل، ومثله في الكلام: إن زيداً لينطلقنَّ» .
فهذا ما تلخَّص من توجيهات هذه القراءات الأربع، وقد طعن بعضُ النَّاس في بعضها بِمَا لا تحقق له، فلا ينبغي أن يلتفت إلى كلامه.
قال المبردُ - وهي جرأةٌ منه - «هذا لحنٌ» يعين تشديد «لمَّا» قال: «لأنَّ العرب لا تقول: إنَّ زيداً لمَّا خارجٌ» وهو مردودٌ عليه.
قال أبو حيان: وليس تركيبُ الآية كتركيب المثال الذي قال وهو: إنَّ زيداً لمَّا(10/585)
خارج، هذا المثالُ لحنٌ. قال شهابُ الدِّين: إن عنى أنَّهُ ليس مثله في التركيب من كل وجه فمُسلَّم، ولكن ذلك لا يفيدُ فيما نحن تصدده، وإن عنى أنه ليس مثله في كونه دخلت «لمَّا» المشددة على خبر «إنَّ» فليس كذلك، بل هو مثلُه في ذلك، فتسليمُهُ اللَّحْنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ؛ لأنه يستلزم ما لا يجوز أن يقال.
وقال أبو جعفرٍ: القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النَّحويين لحنٌ، حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: إنَّ هذا لا يجوز، ولا يقال: إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه، ولا «لمَّا لأضربنَّه» قال: وقال الكسائي: «اللَّه أعلم لا أعرف لهذه القراءة وجهاً» وقد تقدم ذلك، وقتدم أيضاً أنَّ الفرسي قال: كما لا يحسن: إنَّ زيداً إلاَّ لمنطلق؛ لأنَّ «إلاَّ» إيجاب بعد نفي، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجابٌ مؤكَّد، فكذا لا يحسن: إنَّ زيداً لما منطلق، لأنه بمعناه، وإنَّما ساغ نشدتك بالله لمَّا فعلت ... إلى آخر كلامه. وهذه أقوالٌ مرغوبٌ عنها؛ لأنَّها معارضة للمتواتر القطعي.
وأمَّا القراءات الشَّاذة فأوَّلها قراءةُ أبي ومن تبعه «وإنْ كلٌّ لمَّا» بتخفيف «إنْ» ورفع «كل» على أنَّها «إن» النافية «وكل» مبتدأ، و «لمَّا» مشددة بمعنى «إلاَّ» ، و «ليُوفِّينَّهُم» جوابُ قسمٍ حذوف، وذلك القسم وجوابه خبر المبتدأ وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهّم {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} [يس: 32] ومثله {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ} [الزخرف: 35] ، ولا التفاتَ إلى قول من نفى أنَّ «لمَّا» بمنزلةِ «إلاَّ» فقد تقدَّمت أدلته.
وأما قراءةُ اليزيدي وابن أرقم «لمَّا» بالتشديد منونة ف «لمَّا» فيها مصدرٌ من قولهم: «لمَمْتُه - أي: جمعته - لمَّا» ومنه قوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 19] ثم في تخريجه وجهان:
أحدهما: ما قاله أبو الفتح، وهو أن يكون منصوباً بقوله: «ليُوفِّينَّهُمْ» على حدِّ قولهم: قياماً لأقومنَّ؛ وقعوداً لأقَعدنَّ، والتقديرُ: توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفينهم، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعامله في المعنى دون الاشتقاق.
والثاني: ما قالهُ أبو علي الفارسي وهو: أن يكون وصفاً ل «كُلّ» وصفاً بالمصدر مبالغة، وعلى هذا فيجبُ أن يقدَّر المضافُ إليه «كل» نكرةً، ليصحَّ وصفُ «كل» بالنَّكرةِ، إذْ لو قُدِّر المضافُ معرفة لتعرَّفتْ «كل» ، ولو تعرَّفت لامتنع وصفُها بالنَّكرةِ، فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرة، ونظيره قوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 19] فوقع «لمَّا» نعتاً ل «أكْلاً» وهو نكرةٌ.
قال أبو علي: ولا يجوز أن يكون حالاً؛ لأنه لا شيء في الكلام عاملٌ في الحالِ. وظاهرُ عبارة الزمخشري أنَّهُ تأكيدٌ تابعٌ ل «كلاًّ» كما يتبعها أجمعون، أو أنَّهُ منصوبٌ على النَّعت ل «كُلاًّ» فإنه قال: «وإنْ كلاًّ لمًّا ليُوفِينَّهُمْ» كقوله: «أكْلاً لمًّا» والمعنى: وإن كلاًّ ملمومين بمعنى: مجموعين، كأنه قيل: وإن كلاًّ جميعاً كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الملاائكة(10/586)
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] انتهى لا يريدُ بذلك أنَّهُ تأ: يدٌ صناعيُّ، بل فسَّر معنى ذلك وأراد: أنَّهُ صفةٌ ل «كُلاًّ» ولذلك قدَّرهُ: بمجموعين، وقد تقدَّم في بعض توجيهات «لمَّا» بالتَّشديد من غير تنوين، أنَّ المنون أصلا، وإنَّما أُجري الوصلُ مجرى الوقف، وقد عُرف ما فيه وخبر «إنْ» على هذه القراءة هي جلمة القسمِ المقدَّرِ وجوابه سواءَ في ذلت تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.
وأمَّا قراءةُ الأعمشِ فواضحةٌ جداًّ، وهي مفسَّرةٌ لقراءة الحسنِ المتقدَّمة، لولا ما فيها من مخالفة سوادِ الخط.
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أبي كما نقلها أبُو حاتم ف «إنْ» فيها نافية، و «مِنْ» زائدةٌ في النَّفي، و «كل» مبتدأ، و «ليُوفِّينَّهُم» مع قسمة المقدَّر خبرها، فتؤول إلى قراءة الأعمش التي قبلها، إذ يصيرُ التقديرُ بدون «مِنْ» : «وإنْ كلٌّ إلاَّ ليُوفِّينَهُم» والتنوين في «كلاً» عوضٌ من المضافِ إليه قال الزمخشري: يعني: وإنَّ كُلُّهُم، وإنَّ جميع المختلفين فه. وقد تقدَّم أنَّهُ على قراءةِ «لمًّا» بالتنوين في تخريج أبي عليّ لهُ، لا يقدَّر المضافُ إليه «كل» إلاّ نكرةً لأجْلِ نعتها بالنَّكرةِ.
التوكيد ب «إنَّط وب» كُلّ «وبلام الابتداءِ الدَّاخلة على خبر» إنَّ «وبزيداة» ما «عل رأي، وبالقسم المقدَّر وباللاَّم الواقعة جواباً له، وبنون التوكيد، وبكونها مشددة، وإردافها بالجملة لاتي بعدها من قوله {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فإنَّه يتضمَّنُ وعيداً شديداً للعاصي، ووعداً صالحاً للطَّائع.
وقرأ العامَّةُ: «يَعْمَلُون» بياء الغيبة، جرياً على ما تقدَّم من المختلفين، وقرأ ابنُ هرمز «بِمَا تعملُونَ» بالخطابِ، فيجُوزُ أن يكون التفاتاً من غيبة إلى خطابِ، ويكونُ المخاطبون الغيب المتقدِّمين، ويجوز أن يكون التفاتاً إلى خطاب غيرهم.
فصل
معنى الآية: أنَّ من عجلت عقوبته، ومن أخرت ومن صدَّق الرُّسل، ومن كذَّب فحالهم سواء في أنَّهُ تعالى يوفيهم أجر أعمالهم في الآخرة، فجمعت الآية الوعد، والوعيد فإنَّ توفية جزاء الطاعات وعدٌ عظيمٌ، وتوفية جزاءِ المعاصي وعيدٌ عظيمٌ، وقوله: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} توكيد للوعْدِ والوعيد، فإنَّه لمَّا كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطَّاعات والمعاصي، فكان عالماً بالقدر اللاَّئق بكل عمل من الجزاءِ، فحينئذٍ لا يضيع شيء من الحقوق وذلك نهاية البيان.(10/587)
قوله تعالى: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} الآية.
لمَّا شرح الوعد الوعيد قال لرسوله «فاسْتقِمْ كما أمِرْتَ» وهذه كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يتعلَّق بالعقائدِ والأعمال، سواء كان مختصَّا به، أو متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشَّرائع، ولا شكَّ أنَّ البقاء على الاستقامة الحقيقيَّة مشكلٌ جدًّا.
قال ابنُ الخطيب: وأنا أضربُ لذلك مثلاً يقربُ صعوبة هذا المعنى إلى العقل السَّليم، وهو انَّ الخطَّ المستقيم الفاصل بين الظِّلِّ وبين الضَّوء جزء واحد لايقبلُ القسمة في العرض، وذلك الخط ممَّا لا يدركه الحس، فإنَه إذا قرب طرف الظل من طرف الضَّوءِ اشتبه البعضُ بالبعض في الحسّ، فلم يقع الحس على إدراك الخط بعينه بحيثُ يتميز عن كلِّ ما سواهُ.
وإذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية.
فأولها: معرفة الله وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العقل مصوناً في طرف الإثبات عن التَّشبيه، وفي طرف النَّفي عن التَّعطيل في غاية الصعوبة، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك، وأيضاً فالقوَّة الغضبية والقوّةُ الشهوانية حصل لك واحد منهما طرفُ إفراط وتفريط، وهما مذمومان، والفاصلُ هو المتوسط بينهما بحيثُ لا يميلُ إلى أحدِ الجانبين، والوقوفُ عليه صعبٌ؛ فثبت أنَّ معرفة الصِّراط المستقيم في غاية الصُّعوبة، لا جرم قال ابنُ عبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرم وبجَّل ومجَّد وعظَّم - في جميع القرآن آية أشق من هذه، ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «شيبَّني هُود وأخواتها» وروى عن بعضهم قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المنام، فقلت لهُ: روي عنك أنك قلت: «شَيَّبَتْنِي هُود وأخواتُها» فقال: نَعَمْ «قلت: وبأي آية؟ فقال: قوله:» فاسْتَقِمْ كما أمِرْتَ «.
قوله: {كَمَآ أُمِرْتَ} الكافُ في محلِّ النصب، إمَّا على النَّعت لمصدرٍ محذوفٍ، كما هو المشهورُ عند المعربين قال الزمخشريُّ: أي اسْتقم استقامةً مثل الاستقامةِ الَّتِي(10/588)
أمرتَ بها على جادًّة الحقِّ غير عادلٍ منها. وإمَّا على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر.
واستفعل هنا للطَّلب، كأنه قيل: اطلب الإقامة على الدِّين، كما تقول: استغفر أي: اطلب الغفران.
قوله: {وَمَن تَابَ مَعَكَ} في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أنَّهُ منصوب على المفعول به، كذا ذكره أبو البقاء ويصير المعنى: استقم مصاحباً لمنْ تاب مُصاحباً لك، وفي هذا المعنى نقوٌّ عن ظاهر اللفظ.
والثاني: أنَّهُ مرفوعٌ فإنَّه نسقٌ على المستتر في «اسْتَقمْ» ، وأعنى الفصلُ الجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحَّةِ العطف، وقد تقدَّم هذا البحث في قوله: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 25] ، وأنّ الصحيح أنَّهُ من عطف الجمل لا من عطف المفرادات، ولذلك قدَّرهُ الزمخشريُّ فاستقم أنتَ، وليستقم من تاب مَعَكَ، فقدَّر الرافع له فعلاً لائقاً برفعه الظَّاهر.
وقال الواحدي: محلها ابتداء تقديره: ومن تَابَ معكَ فلْيَستقِمْ
فصل
معنى الآية: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} على دين ربِّك، والعمل به، والدُّعاء إليه، كما أمرت، {وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي: مَنْ معك فليَسْتَقِيمُوا، قال عمرُ بنُ الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الاستقامةُ أن تَسْتَقِيمَ على الأمْرِ والنَّهْي، ولا تروغ روغان الثَّعلب.
روى هشام بن عُروة عن أبيه عن سفيان بن عبدِ الله الثَّقفي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قلتُ يا رسُول الله قُلْ لِي فِي الإسلامِ قَوْلاُ لا أسْألُ عنهُ أحداً بعدك، قال:» قُلْ آمنْتُ باللَّهِ ثم اسْتٌقِمْ «.
فصل
هذه الآية أصلٌ عظيم في الشَّريعة، وذلك أنَّ القرآن لمَّا ورد بترتيب الوضوء في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيه، لقوله: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} ، ولمَّا» ورد الأمرُ في الزَّكاةِ بأداء الإبل من الإبل، والبقرِ من البقرِ وجب اعتبارها، وكذا القولُ في كل ما ورد أمرُ الله به.
قال ابنُ الخطيبِ: وعندي أنه لا يجوزُ تخصيص النصِّ بالقياسِ؛ لأنَّهُ لمَّا دلَّ عموم النَّص على حكم وجب العمل بمقتضاه، لقوله تعالى -: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} فالعملُ بالقياسِ انحراف عنه.(10/589)
ثم قال: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} أي: لا تجوزوا أمري ولا تعصوني وقيل: لا تغلُوا فتزيدُوا على أمرت ونهيت والطُّغيان: تجاوز الحدًّ. وقيل: لا تطغوا في القرآن فتحلُّوا حرامهُ وتحرِّمُوا حلالهُ وقال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «تواضعوا لله ولا تتكبورا على أحد» {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ العامَّة «تَعْمَلُونَ» بالتَّاء «جرياً على الخطابِ المتقدم.
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفيُّ بياء الغيبة، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكس ما تقدَّم في {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
قوله تعالى: {وَلاَ تركنوا} قرأ العامَّةُ بفتح التَّاءِ والكاف، والماضي من هذا «رَكِن» بكسر العين ك «عَلِمَ، وهذه الفصحى، كذا قال الأزهريُّ وقال غيره:» وهي لغةُ قريش «وقرأ أبو عمرو في رواية:» تِرْكَنُوا «بكسر حرف المضارعة وقد تقدَّم ذلك في قوله:» نَسْتعِينُ «.
وقرأ قتادةُ، وطلحةُ، والأشهب، ورويت عن أبي عمرو» تَرْكُنُوا «بضمِّ العين وهو مضارع» رَكَنَ «بفتحها ك: قَتَلَ يَقْتُل، وقال بعضهم: هو من التَّداخُلِ، يعني من نطق ب» رَكَنَ «بكسر العين قال:» يَرْكُن «بضمها، وكان من حقِّه أن يفتحَ، فلمذَا ضمّ علمنا أنه استغنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغته، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاءِ التَّداخُل، بل ندَّعي أنَّ من فتح الكاف أخذه من:» رَكِنض «بالكسرِ، ومن ضمَّها أخذه من» رَكَنَ «بالفتح، ولذلك قال الراغبُ:» والصحيحُ أن يقال: رَكِنَ يَرْكَنُ ورَكَنَ يَرْكُنُ بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي مع الضمِّ في المضارع «وشذَّ أيضاً قولهم: رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما، وهو التداخل؛ فتحصًّل من هذا أنَّه قال:» رَكِنَ «بكسر العين وهي اللغة العالية كا تقدَّم، و» ركَنَ «بفتحها، وهي لغة قيس وتميم، وزاد الكسائيُّ:» ونَجْد «وفي المضارع ثلاثٌ: الفتحُ، والكسرُ، والضمُّ. وقرأ ابنُ أبي عبلة:» تُرْكَنُوا «مبنياً للمفعول من: أرْكَنَهُ إذا أمالهُ، فهو من باب» لا أرَيَنَّكَ ههنا «و {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} الأعراف: 2] وقد تقدم.
والرُّكُونُ: المَيْلِ، ومنه الرُّكْنُ للاستنادِ إليه.
قوله: {فَتَمَسَّكُمُ} منصوبٌ بإضمار» أنْ «في جوابِ النهي. وقرأ ابنُ وثاب وعلقمةُ، والأعمشُ في آخرين» فَتِمَسَّكُمُ «بكسر التَّاءِ.
قوله: {وَمَا لَكُمْ} هذه الجملةُ يجوزُ أن تكون حاليةً، أي: تَمَسَّكم حال انتفاءِ ناصركم.(10/590)
ويجوز أن تكون مستأنفة و» مِنْ أولياءَ «» مِنْ «فيه زائدةٌ، إمَّا في الفاعل، وإمَّا في المبتدأ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ - أحدها النَّفيُ - رفع الفاعل.
قوله: {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} العامَّةُ على ثبوتِ نُون الرَّفعِ؛ لأنه مرفوع، إذ هو من باب عطف الجمل، عطف جملة فعلية على جملة اسميةَ. وقرأ زيد بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بحذف نون الرفع، عطفه على» تمسَّكُم «، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف، فتكون معترضةً، وأتى ب» ثمَّ «تنبيهاً على تباعد الرُّتْبَة.
فصل
معنى الآية: قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -:» ولا تميلُوا «.
والرُّكُونُ: هو المحبَّة والميل بالقلب. وقال أبو العاليةِ: لا ترضوا بأعمالهم.
وقال السدي: لا تداهِنُوا الظَّلمة.
وعن كرمة: لا تطيعوهم وقيل لاتسكنوا إلى الذين ظلمُوا «فتَتَمسَّكُم» ، فتصيبكم «النَّارُ وما لَكُم من دُونِ الله من أولياءَ» أي: ليس لكم أولياء ولا أعوان يخلصونكم من عذاب الله، ثُمَّ لا تجدُوا من ينصركُمْ.
قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} الآية.
لمَّا أمره بالاستقامة أردفهُ بالأمر بالصَّلاة، وذلك يدلُّ على أنَّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة.
قوله: {طَرَفَيِ النهار} ظرفٌ ل «أقِم» ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة، كأنه قيل: أي أقم الصَّلاة الواقعة في هذين الوقتين، والطرف، وإن لم يكن ظرفاً، ولكنَّه لمَّا أضيف إلى كلها على الظرف لمَّّا أضيفت إليه، وإن كانت ليست موضوعة للظَّرفية.
وقرأ العامَّةُ «زُلَفاً» بضمِّ الزاي، وفتح اللام، وهي جمعُ «زُلْة» بسكون اللام، نحو: غُرَف في جمع غُرفة، وظُلَم في جمع ظُلمه. وقرأ أبو جعفر وابنُ أبي إسحاق بضمها، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه:(10/591)
أحدهما: أنَّهُ جمع «زُلْفَة» أيضاً، والضَّمُّ للإتباع، كما قالوا: بسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمَّة الباء.
الثاني: أنَّهُ اسمٌ مفرد على هذه الزِّنةِ ك: عُنُق.
الثالث: أنه جمعُ «زَلِيف» قال أبو البقاءِ: «وقد نُطِف به» ، يعني أنَّهم قالوا زَليف، و «فعيل» يجمعُ على «فُعُل» نحو: رَغِيف ورغف، وقَضِيب وقضُب.
وقرأ مجاهدٌ وابنُ محيصنٍ بإسكان اللاَّم وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّهُ يحتمل أن تكون هذه القراءةُ مخفَّفةً من ضمِّ العين فيكون فهيا ما تقدَّم.
والثاني: أنَّهُ سكونُ أصلٍ من باب اسم الجنس نحو: بُسْرة وبُسْ من غير إتباع.
وقرأ مجاهد وابن محيصنٍ وأيضاً في رواية: «وزُلْفَى» بزنة: «حُبْلَى» جعلوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى؛ لأنَّ المعنى على المنزلة الزُّلفى، أو الساعة الزُّلْفَى، أي: القريبة.
وقد قيل: إنَّه يجوز أن يكون أبدلا التنوين ألفاً ثم أجرياص الوصل مجرى الوقف فإنَّهُما يقرآن بسكون اللاَّم وهو محتملٌ.
وفي انتصاب: «زُلَفاً» وجهان:
أظهرهم: أنه نسقٌ على «طَرفي» فينتصب الظَّرف، إذ المراد بها ساعات الليل القريبة.
والثاني: أن ينتصب انتصابَ المفعول به نسقاً على الصَّلاة.
قال الزمخشريُّ - بعد أن ذكر القراءات المتقدمة -: وهو ما يقرب من آخر النَّهار ومن الليل، وقيل: زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل، وحقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أي: أقم الصلاة طرفي النَّهار، وأقم زُلفاً من اللَّيل على معنى صلوات تقرَّبُ بها إلى الله تعالى في بعض الليل.
والزُّلفةُ: أول ساعات الليل، قاله ثعلبُ. وقال الأخفش وابنُ قتيبة: «الزلف: ساعات الليل وآناؤه، وكلُّ ساعة منه زلفة» فلم يخصصاه بأوَّلِ الليلِ؛ وقال العداد: [الرجز]
3039 - ناجٍ طواهُ الأيْنُ ممَّا وجَفَا ... طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفاً فزُلفَا
سماوةَ الهلالِ حَتَّى احقوْقَفا ...(10/592)
وأصلُ الكلمة من «الزُلْفَى» والقرب، يقال: أزْلفه فازْدلفَ، أي: قربَّهُ فاقتربَ قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين} [الشعراء: 64] وفي الحديث: «ازْدَلِفُوا إلى الله بركعتيْنِ» .
وقال الرَّاعب: والزُّلفةُ: المَنْزِلَةُ والحُظْوة، وقد استعملت الزُّلفة في معنى العذابِ كاستعمال البشارة ونحوها، والمزالِفُ: المراقي: وسُمِّيت ليلة الزدلفة لقربهم من منى بعد الإفاضة. وقوله: «من اللَّيل» صفةٌ ل «زُلَفاً» .
فصل
معنى «طَرَفَي النَّهارِ» أي: الغداوة والعشي. قال مجاهدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: طرفا النهار الصبح، والظهر، والعصر «وزُلفاً من اللَّيْل» يعني: صلاة المغرب والعشاء.
وقال الحسنُ: طرفا النَّهارِ: الصبح، والظهر والعصر «وزُلفاً من اللَّيل» المغرب والعشاء وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: طرفا النهار الغداوة والعشي، يعني صلاة الصبح والمغرب.
فصل
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «الأشهر أنَّ الصلوات التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر، وذلك لأنَّ أحد طرفي النهار طُلوعُ الشَّمس، والطَّرف الثاني غروب الشمس.
فالأول: هو صلاة الفجر.
والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب؛ لأنها داخلة تحت قوله: {وَزُلَفاً مِّنَ الليل} فوجب حملُ الطَّرفي الثاني على صلاة العصر.
وإذا تقرَّر هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أنَّ التنوير بالفجرِ أفضل، وفي أنَّ تأخير العصر أفضل؛ لأنَّ ظاهر الآية يدلُّ على وجوب إقامة الصَّلاة في طرفي النهار، وبينا أنَّ طرفي النهار هم الزمان الأول لطلوع الشمس، والزَّمان الثَّاني لغروب الشمس، وأجمعت الأمة على أنَّ إقامة الصَّلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذَّر العملُ بظاهر الآية، فوجب حلمه على المجاز، وهو أن يكون المرادُ: إقامة الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار؛ لأنَّ ما يقرب من الشَّيءِ يجوزُ أن يطلقَ عليه اسمه، وإذا كان كذلك فكل وقتٍ كان أقرب لطلوع الشمسِ،(10/593)
وإلى غروبها كان أقربُ إلى ظاهر اللفظ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطُّلوع من إقامتها عند التغليس، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه، أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظلُّ كل شيءٍ مثله، والمجازُ كلَّما كان أقرب إلى الحقيقة، كان حملُ اللفظ عليه أولى.
فصل
قال أبو بكر الباقلاني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إنَّ الخوارجَ تمسَّكُوا بهذه الآية في إثبات أنَّ الواجب ليس إلاَّ الفجر والعشاء من وجهين:
الأول: أنَّهُمَا واقعان على طرفي النهار؛ فوجب أن يكون هذا القدر كافياً.
فإن قيل: قوله {وَزُلَفاً مِّنَ الليل} يوجب صلوات أخرى.
قلت: لا نُسلِّمُ، فإنَّ طرفي النهار موصوفان بكونهما زُلفاً من اللَّيْلِ، فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أنَّ هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف، وذلك كثير في القرآن والشعر.
الوجه الثاني: أنه تعالى قال: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} وهذا يقتضي أنَّ من صلًَّى طرفي النَّهار كان إقامتهما كفارة لكلّ ذنب، فبتقدير أن يقال: إنَّ سائرَ الصلوات واجبة إلاَّ أنَّ إقامتها يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات، وهذا القولُ باطلٌ بإجماع الأمَّةِ فلا يلتفتُ إليه.
فصل
قيل قي قوله تعالى: {وَزُلَفاً مِّنَ الليل} أنه يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلفٍ من الليل؛ لأنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة، والمغربُ والعشاءُ وقتان؛ فجيب الحكمُ بوجوب الوتر.
قوله: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} قال ابن عبَّاسِ: إنَّ الصَّلوات الخمس كفارة لسائر الذُّنوب بشرط الجتناب الكبائر ووري عن مجاهدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «إنَّ الحسنات هي قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وروي أنَّها نزلت في أبي اليسر، قال: أتتني امرأة تبتاع تَمْراً، فقلتُ لها إنَّ في بتي تَمراً أطيب من هذا؛ فدخلت معي في البيت، فأهويت إليها فقبَّلتُهَا، فأَيْتُ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وعن الصحابة أجمعين - فذكرتُ ذلك له فقال: اسْتُرْ على نفسك وتب، فأتيتُ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقالك اسْتُرْ على نفسك وتُب فلم أصْبِرْ، فأتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكرتُ ذلك، فقال:» أخلفت غازياً في سبيل الله في أهلهِ بمثلِ هذا؟ «حتَّى تمنَّى أنَّهُ لمْ يكُنْ أسلم إلاَّ تلك السَّاعة حتَّى ظنَّ أنَّهُ من أهْلِ النَّارِ فأطرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتَّى(10/594)
أوحي إليه {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} الآية، فقال أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألِهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال:» بَلْ للنَّاسِ عامَّة «وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقول:» الصَّواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفّراتٌ ما بينهُنَّ إذا اجتُنِبت الكبائِرَ «.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» أرأيتُم لوْ أنَّ نهراً بباب أحكمْ يغتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ، هل يبْقَى من دَرَنِهِ شيءٌ «؟ قالوا: لا، قال:» فذلِكَ مثلُ الصَّلواتِ الخمسِ، يَمْحُوا اللَّهُ بهنَّ الخطايا «.
فصل
احتجَّ من قال إنَّ المعصية لا تضرُّ مع الإيمان بهذه الآية؛ لأنَّ الإيمان أشرفُ الحسنات، وأجلها، وأعظمها، ودلَّت الآية على أنَّ الحسنات تذهبُ السيئات، والإيمان يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان؛ فلأن يذهب المعصية التي هي أقل درجة أولى، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقلَّ من أن يفيد إزالة العقابِ الدَّائم المؤبَّد.
ثم قال تعالى: {ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} أي: ذلك الذي ذكرناه، وقيل: إشارة إلى القرآن» ذِكْرَى «موعظة،» للذَّاكرينَ «أي: لمن ذكره» واصْبِرْ «يا محمَّدُ على ما تلقى من الأذى.
وقيل: على الصَّلاة، نظيرهُ: قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132] {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} في أعمالهم، وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -» يعني المصلِّينَ «.(10/595)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ} من الآية.
لمَّا بيَّن أنَّ الأمم المتقدمين حلَّ بهم عذاب الاستئصال، بيَّن أنَّ السبب فيه أمران:
الأول: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض، فقال: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ} ، «لوْلاَ» تخضيضيه دخلها معنى التَّفجُّع عليهم، وهو قريبٌ من مجاز قوله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] وما يروى عن الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: كل ما كان في القرآن من «لَوْلاَ» فمعناه «هَلاَّ» إلاَّ التي في الصافات «لوْلاَ أنَّهُ» ، لا يصحُّ عنه لورودها كذلك في غير الصافات {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ} [القلم: 49] {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74] {وَلَوْلاَ رِجَالٌ} [الفتح: 25] .
و «مِنَ القُرونِ» يجوز أن يتعلَّق ب «كان» ؛ لأنَّها هنا تامَّة، إذا المعنى: فهلاَّ وُجِد من القُرونِ، أو حدث، أو نحو ذلك، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من: «أُولُوا بقيَّةٍ» لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً لهُ، و «مِن قَبْلِكُم» حالٌ من «القُرُون» و «يَنْهَون» حالٌ من «أولوا بقيَّة» لتخصُّصه بالإضافةِ، ويجوز أن يكون نعتاً ل «أُولُوا بقيَّّةٍ» وهو أولى.
ويضعفُ أن تكون «كان» هذه ناقصة لبُعْد المعنى من ذلك، وعلى تقديره يتعيَّن تعلُّق «من القُرونِ» بالمحذُوف على أنَّهُ حالٌ؛ لأنَّ «كَانَ» النَّاقصة لا تعملُ عند جمهورالنُّحاةِ، ويكون «يَنْهَوْنَ» في محلِّ نصب خبراً ل «كان» .
وقرأ العامَّةُ «بقيَّة» بفتح الباء وتشديد الياءِ، وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّها صفةٌ على «فَعِيلة» للمبالغةِ، بمعنى «فاعل» ؛ وذلك دخلت التَّاءُ فيها، والمرادُ بها حينئذٍ الشيء وخياره، وإنَّما قيل لجنْدِه وخياره: «بقيَّة» في قولهم: فلان بقيةُ النَّاس، وبقيةُ الكرام؛ لأنَّ الرَّجُل يستبقى ممَّا يخرجه أجوده وأفضله والرجل يبقى بعده ذكر جوده وفضله؛ وعليه حمل بيتُ الحماسِة: [البسيط]
3040 - إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتينِي بقِيَّتُكُمْ..... ... ... ... ... ...
وفي المثل: «في الزَّويا خبايا، وفي الرِّجالِ بَقايَا» .(10/596)
والثاني: أنَّها مصدرٌ بمعنى البقوى قال الزمخشريُّ ويجوزُ أن تكون البقيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقيَّة بمعنى التَّقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم، وصيانةٍ لها من سخطِ الله وعقابه. والمعنى: فهلاّ كان منهم أولوا مراقبة وخشية من انتقام الله.
وقرأت فرقةٌ «بَقِيَة» بتخفيفِ الياءِ، وهي اسمٌ فاعل من بقي ك: شَجِيَة من شَجِي، والتقدير أولُوا طائفةِ بقيةِ أي: باقية وقرأ أبو جعفرٍ وشيبة «بُقْية» بضمِّ الفاء وسكون العين.
وقُرِئَ «بَقْيَة» على المرَّة من المصدر. و «فِي الأرْضِ» متعلقٌ بالفسادِ، والمصدرُ المقترن ب «أل» يعمل المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذُوفٍ عل أنه حالٌ من «الفَسادِ» .
فصل
المعنى: فهلاَّ «كان مِنَ القُرونِ» التي أهلكناهم، «مِن قَبْلكُمْ» أولُوا تمييز وقيل: أولُوا طاعة وقيل: أولُوا خير، يقال: فلانٌ على بقيَّةٍ من الخير إذا كان على خصلة محمودة. و «ينْهَوْنَ عن الفسادِ في الأرضِ» أي: يقُومُون بالنَّهْي عن الفسادِ، ومعناه جحداً، أي: لم يكن فيهم أولُو بقية.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون استثناء منقطعاً؛ وذلك أن يحمل التخضيض على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعين أن يكون الاستثناءُ منقطعاً لئلاَّ يفسد المعنى.
قال الزمخشريُّ: معناه: ولكن قليلاً ممَّن أنْجينَا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهُم تاركون النَّهي ثم قال: فإن قلت: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يحملُ عليه؟ قلتُ: إن جعلتهُ متَّصلاً على ما هو عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسِداً؛ لأنَّهُ يكون تحضيضاً لأولي البقية على النَّهي عن الفساد إلاَّ للقليل من النَّاجين منهم، كما تقولُ: هلا قرأ قومك القرآن إلاَّ الصلحاء منهم، تريدُ استثناء الصُّلحاء من المحضَّضينَ على قراءة القرآن. فيَئُول الكلام إلى أنَّ الناجين لم يحضُّوا على النَّهْي عن الفاسد، وهو معنَّى فاسدٌ.
والثاني: أن يكون متًّصِلاً، وذلك بأن يؤوَّل التحضيض على قراءة القرآن بمعنى النَّفي، فيصحَّ ذلك؛ إلاَّ أنَّهُ يُؤدِّي إلى النصب غير الموجب، وإن كان غير النصب أولى.(10/597)
قال الزمخشري: فإن قلت: في تحضيضهم على النَّهي عن الفاسد معنى نفيه عنهم، فكأنَّهُ قيل: ما كان من القُرُونِ أولُوا بقية إلاَّ قليلاً كان استثناءً متصلاً ومعنى صحيحاً، وكان انتصابهُ على أصل الاستثناء، وإن كان الأفصحُ أن يرفع على البلد.
ويؤيد أنَّ التحضيض هنا في معنى النَّفْي قراءةُ زيد من عليّ «إلاَّ قليلٌ» بالرفع، لاحظ معنى النَّفي فأبدل على الأفصحِ، كقوله: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] .
وقال الفراء: المعنى: فلمْ يكن؛ لأنَّ في الاستفهام ضَرْباً من الجَحْدِ سمَّى التَّحضيض استفهاماً.
ونُقل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّن اتصال هذا الاستثناء كأنَّهُ لحظَ النَّفْيَ و «مِنْ» في: «مِمَّنْ أنْجَيْنَا» للتبعيض. ومنع الزمخشريُّ أن تكون للتعيضي بل للبيانِ فقال: حقُّها أن تكون للبيانِ لا للتبعيض؛ لأنَّ النَّجاة إنَّما هي للنَّاهينَ وحدهم، بدليل قوله: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] .
فعلى الأول يتعلق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «: قَلِيلاً» .
وعلى الثاني: يتعلق بمحذوف على سبيل البيان، أي: أعني.
قوله: {واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} هذا السببُ الثاني في نزولِ عذاب الاستئصال.
قرأ العامَّةُ: «اتَّبَعَ» بهمزة وصلٍ وتاءِ مشددةٍ، وياءٍ، مفتوحتين، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ معطوفٌ على مضمرٍ.
والثاني: أنَّ الواو للحالِ لا للعطفِ، ويتَّضحُ ذلك بقول الزمخشري فإن قلت: علام عطف قوله: {واتبع الذين ظَلَمُواْ} ؟ قلت: إن كان معناه: واتَّبعُوا الشَّّهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأنَّ المعنى: إلاَّ قليلاً ممَّنْ أنجينا منهم نُهُا عن الفسادِ، واتَّبع الذين ظلمُوا شهواتهم، فهو عطفٌ على «نُهُوا» وإنْ كان معناه: واتَّبعُوا جزاءَ الإترافِ، فالواو للحال، كأنَّه قيل: أنْجَيْنَا القليل، وقد اتتبع الذين ظلموا جزاءهم.
فجوز في قوله: «مَا أتْرِفُوا» وجهين:
أحدهما: أنَّه مفعول من غير حذف مضافِ، و «مَا» واقعة على الشَّوات وما بطرُوا بسببه من النِّعم.
والثاني: أنَّهُ على حذف مضاف، أي: جزاء ما أتْرِفُوا، ورتَّب على هذين الوجهين القول في «واتَّبَع» .(10/598)
والإتْراف: إفعالٌ من التَّرف وهو النِّعمة، يقال: صبيُّ مترفٌ، أي: مُنْعَم البدن، وأتْرِفُوا نَعِمُوا وقيل: التَّرفُّهُ: التوسُّع في النِّعمةِ.
وقال مقاتلٌ: «أتْرِفُوا» خُوَّلُوا.
وقال الفراء: عُوِّدُوا، أي: واتَّبع الذين ظلمُوا ما عُوِّدُوا من النَّعيم، وإيثار اللذات على الآخرة.
وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي، وأبو جعفر «وأتْبعَ» بضم همزة القطع وسكون التَّاءِ وكسر الباء مبنيَّا للمعفول، ولا بدَّ حينئذِ من حذف مضاف، أي: أتبعُوا جزاء ما أترفُوا فيه.
و «ما» يجوز أن تكون معنى «الذي، وهو الظَّاهرُ لعودِ الضمير في» فيه «عليه، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: جزاء إترافهم.
قوله» وكانُوا مُجْرمينَ «كافرين وفيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن تكون عطفاً على» أْرِفُوا «إذا جعلنا» ما «مصدرية، أي: اتَّبعوا إترافهم وكونهم مجرمين.
والثاني: أنه عطفٌ على» اتَّبَعَ «، أي: اتَّبَعُوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك، لأنَّ تابعَ الشَّواتِ مغمورٌ بالآثامِ.
الثالث: أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنَّهُم قومٌ مجرمون ذكر ذلك الزمخشريُّ.
قال أبو حيَّان:» ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النَّحْو؛ لأنه آخرُ آيةٍ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر «.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} الآية.
في» لِيُهْلِكَ «الوجهان المشهوران، وهما: زيادة اللام في خبر:» كان «دلالةً على التَّأكيد - كما هو رأي الكوفيين - أو كونها متعلقة بخبر» كان «المحذوف، وهو مذهبُ البصريي، و» بِظُلْمِ «متعلق ب» يُهْلِكَ «والباءُ سببيةٌ، وجوَّز الزمخشريُّ أن تكون حالاً من فاعل» لِيُهْلِكَ «، وقوله» وأهْلُهَا مُصْلِحُون «جملة حالية.
فصل
قيل: المرادُ بالظلم هنا: الشرك، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ
{إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13](10/599)
والمعنى: أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، ولهذا قال الفقهاءُ: إنَّ حقوق الله مبناها على المسامحِة، وحقوق العباد بمناها على التَّضييقِ ولاشح، ويقالُ: إنَّ الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظُّلم، ويدلُّ على هذا التأويل أنَّ قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب إنَّما نزل بهم عذابُ الاستئصال، لما حكى الله تعالى عنهم من إياءِ النَّاس وظلم الخلق وهذا تأويل أهل السنة وقالت المعتزلة: إنَّهُ تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لكان ظلماً، ولمَّا كان متعالياً عن الظلم، لا جرم أنَّهُ إما يهلكهم لأجل سُوء أفعالهم.
وقيل: معنى الآية: أنَّهُ لا يُهلكُهُمْ بظلم منه، وهم مُصْلِحثونَ في أعملاهم، ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السَّيئات، وهذا بمعنى قول المعتزلة.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} كلهم على دين واحدٍ، {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} على أديان شتَّى، من يهوديِّ، ونصرانيِّ، ومجوسيِّ، ومشركِ، ومسلم، وقد تقدم الكلام على ذلك.
قوله: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} ظاهرهُ أنه متَّصلٌ، وهو استثناءٌ من فاعل «يَزالُون» ، أو من الضَّمير في «مُختلفينَ» وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً، أي: لكن من رحمَ، لم يختلفُوا، ولا ضرورة تدعُوا على ذلك.
قوله: «ولذلِكَ» في المشار إليه أقوال كثيرة.
أظهرها: أنَّهُ الاختلافُ المدلولُ عليه ب «مُخْتلفينَ» ؛ كقوله: [الوافر] .
3041 - إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ ... وخَالفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ
رجع الضَّمير في «إليه» على السَّفة «، ولا بدَّ من حذف مضافٍ على هذا، أي: ولثمرة الاختلاف خلقهم، واللام في الحقيقةِ للصَّيروةِ، أي: خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف.
وقيل: المرادُ به الرحمة المدلول عليها بقوله:» رَحِمَ «وإنَّما ذكرَّ ذهاباً بها إلى الخير وقيل: المرادُ به المجموعُ منهما، وإليه نحا ابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] وقيل: إشارةٌ إلى ما بعده من قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو قولٌ مرجوحٌ؛ لأنَّ الأصل عدمُ ذلك.
فصل
قال الحسنُ وعطاء: وللاختلاف خلقهم قال أشهب: سألتُ مالكاً رَحِمَهُ اللَّهُ - عن هذه الاية فقال: خلقهم ليكون فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعير. قال أبو عبيدة: الذي(10/600)
أختاره قول من قال: خلق فريقاً لرحمته، وفريقاُ لعذابه، ويُؤيده قوله تعالى:» وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين «.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» خلق الله الجنَّة وخلق لها أهلاً، وخلق النَّار وخلق لها أهلاً «.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ومجاهدٌ، وقتادة، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: وللرَّحمةِ خلقهم، يعني الذين رحمه وقال الفراء: خلق أهل الرَّحْمةِ، وأهل الاختلاف للاختلاف ومحصول الآية أنَّ أهل الباطلِ مختلفُون، وأهل الحقِّ متَّفقُون، فخلق أهل الحق للاتفقا، وأهل الباطل للاختلاف.
وذهبت المعتزلةُ إلى قولِ ابن عبَّاسٍ، وهو أنَّهُ خلقهم للرَّحمةِ، قالوا: ولا يجوز أن يقال: وللاختلاف خلقهم لوجوه:
الأول: أنَّ عود الضَّمير إلى أقرب المذكورين ألوى من عوده إلى أبعدهما:
والثاني: لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك لام يجز أن يعذبهم عليه، إذا كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف.
الثالث: أنَّا إذ فسرنا الآية بالرحمةِ مطابقاً لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
فإن قيل: لو كان المراد، وللرَّحمة خلقهم لقال: ولتك خلقهم، ولم يقل: وللك خلقهم قلنا: إن تأنيث الرَّحمةِ لي حقيقيًّا، فكان محمولاً على الفضل والغفرانِ، كقوله: {هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [الكهف: 98] وقوله: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] .
فصل
احتج من قال بأنَّ الهداية والإيمان لا يحصل إلاَّبخلقِ الله تعالى بهذه الآية، وذلك لأنَّها تدلُ على أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين لا يحصلُ إلاَّ لمنْ خصَّهُ الله برحمته، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة العذر، فإن كُلَّ ذلك حاصل للكفار، فلم يبق إلاَّ أن يقال: تلك الرحمة هو أنَّ الله - تعالى - يخلق فيه تلك الهداية والمعرفة.
قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}
قال القاضي معناه: إلا من رحم ربُّك بأن يصير من أهل الجنة، والثواب(10/601)
في رَحِمَهُ اللَّهُ بألطافه وتسهيله، وهذان الجوابان في غاية الضعف.
أمَّا الأولُ فلأنَّ قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} بأن يصير من أهل الجنة، يفيدُ أنَّ ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة؛ فوجب ان تكون هذه الرَّحمة جارية مجرة السَّّبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف، والثَّواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف، فالاختلاف جارٍ مجرى السبب له فحملُ هذه الرَّحمة على الثَّواب لا يجوزُ.
وأمَّا الثاني - وهو حملُ هذه الرَّحمة على الألطافِ التي فعلا في حقِّ المؤمن - فهي مفعولة أيضاً في حقِّ الكافر، وهذه الرحمة أمر اختص به المؤمن؛ فوجب أن يكون شيئاً زائداً عل تلك الألطاف، وأيضاً فحصول الألطاف هل يوجبُ رجحان وجود الإيمان على عدمه أم لا يوجبه؟ فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها، بالنسبة غلى حصول هذا المقصود سيان، فلم يكُ لطفاً منه، وإذا وجب تلك الألطاف وعدمها، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان، فلم يكُ لطفاً منه، وإذا وجب الرُّجحان فقد ثبت في العقليات أنه متى حصل الرجحان، فقد وجب حينئذٍ أن يكون حصول الإيمان من الله، وما يدل على أنَّ حصول الإيمان لا يكون إلاَّ بخلق الله تعالى؛ لأنَّهُ ما لم يتميز الإيمان عن الكفر، والعمل عن الجهلِ امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم، وهذا الامتياز إنما يحصلُ إذا علم كون احد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد، وكون الآخر ليس كذلك، وإنَّما يصح هذا العلم إذاعرف ذلك المعتقد كيف يكون، وهذا يوجب أنَّهُ لا يصح من العبدِ القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محالٌ، فثبت أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين، وحصولِ العلم والهداية لا يحصل إلاَّ بخلق الله تعالى.
ثم قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} وتم حكم ربك {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} فقوله: «أجْمَعِينَ» تأكيد، والأكثر أن يسبق ب «كُل» وقد جاء هنا دونها.
والجنَّةُ والجِنُّ: قيل: واحد، والتاء فيه للمبالغة.
وقيل: الجنَّةُ جمع جِنّ، وهو غريبٌ، فيكون مثل «كَمْءِ» للجمع، و «كَمْأة» للواحد.
قوله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ} الآية.
لمَّا ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة، ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة.
أحدهما: تثبيت الفؤاد على أداء الرِّسالة، وعلى الصَّبر واحتمال الأذى؛ وذلك لأنَّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية، فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه؛ كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت، فإذا سمع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه القصص، وعلم أنَّ حال جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مع أتباعهم هكذا، سهل عليه تحمل الأذى من قومه، وأمكنه الصبر عليه.(10/602)
والفائدة الثانية: قوله {وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
قوله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ} في نصبه أوجه:
أحدها: أنه مفعولٌ به، والمضاف إليه محذوفٌ، عوض منه التنوين، تقديره: وكلُّ نبأ نقصُّ عليك.
و «مِنْ أنباءِ» بيانٌ له أو صفةٌ إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة.
وقوله: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ} يجوز أن يكون بدلاً من: «كُلاًّ» وأن يكون خبر مبتدأ مضمر: أي: هو ما نُثَبِّتُ، أو منصوبٌ بإضمار أعني.
الثاني: أنه منصوبٌ على المصدر، أي: كلَّ اقتصاصٍ نقصُّ، و «مِنْ أنباءِ» صفةٌ: أو بيان، و «ما نُثَبتُ» هو مفعول «نَقُصُّ» .
الثالث: كما تقدم، إلاَّ أنه يجعل «ما» صلة، والتقدير: وكلاًّ نقصُّ من أبناءِ الرُّسُل نُيَبِّتُبه فؤادك، كذا أعربه أبو حيان وقلا: كَهِي في قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] .
الرابع: أن يكون «كُلاًّ» منصوباً على الحال من «ما نُثَبِّتُ» وهي في معنى: «جَمِيعاً» وقيل: بل هي حال من الضمير في «بِهِ» وقيل: بل هي حالٌ من «أنْبَاء» وهذان الوجهان إنما يجوزان عند الأخفش، فإنَّهُ يجيزُ تقديم حال المجرورِ بالحف عليه؛ كقوله تعالى: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] في قراءة من نصب «مَطويَّاتٍ» وقول الآخر: [الكامل]
3042 - رَهْطُ ابْنِ كُوزِ مُحْقِبِي أدْراعِهِمْ ... فِيهِمْ ورهْطُ رَبِيعةَ بْنِ حُذَارِ
والمعنى: وكل الذي تحتاجُ إليه من أبناء الرسل، أي: من أخبارهم، وأخبار الأمم نقصها عليك؛ لنثبت به فؤادك؛ لنزيدك يقيناً، ونقوي قلبك، وذلك أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصَّبْرِ لأذى قومه.
{وَجَآءَكَ فِي هذه الحق} قال الحسنُ وقتادةُ: في هذه الدنيا وقال الأكثرون: في هذه السورة خص هذه السورة تشريفاً، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور.
وقيل: في هذه الآية.
والمراد به «الحق» البراهين الدَّالة على التَّوحيدِ والعدلِ والنبوة، «مَوْعظةٌ» أي: وجاءتك موعظة «وذكْرى للمُؤمنينَ» والمرادُ ب «الذكرى» الأعمال الباقية الصالحة في الدَّار الآخرة.(10/603)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
ثم قال تعالى: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} .
وهذا تهديدٌ ووعيدٌ؛ لأنَّه تعالى لمَّا بالغ في الإعذار والإنذار والتَّرغيب والتَّرهيب، أبتع ذلك بأن قال للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة: {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} وهذا عين ما حكاه عن شعيب - عليه السلام - أنه قال لقومه {وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93] . والمعنى: افعلوا كلَّ ما تقدرُون عليه في حقِّي من الشر، فنحن أيضاً عاملون.
وقوله: «اعملُوا» وإن كان صيغته صيغة أمر، إلاَّ أنَّ المراد به التَّهديد، كقوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 4] وكقوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] «وانتَظِرُوا» ما يعدكم الشيطان من الخذلان ف «إنَّا مُنتَظِرُونَ» ما وعدنا الرَّحمن من أنواع الغفران والإحسان، قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «وانتَظِرُوا» اهلاك ف «إنَّا مُنتَظِرُونَ» لكم العذاب وقيل: «انتظرُوا» ما يحلُّ بنا من رحمة الله «إنَّا مُنتضِرُونَ» ما يحل بكم من نقمته.
ثم إنَّه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشَّريفة فقال: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} [هود: 123] أي: علم ما غاب من العبادِ، أي: أن علمه نافذ في جمعي الكفليات والجزئيات، والمعدومات، والموجودات {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّه} في المعاد.
قرأ نافع وحفص «يُرجَع» بضم الياءِ وفتح الجيم، أي: يرد. وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الجيم، أي: يعودٌ الأمرُ كلُّه إليه حتَّى لا يكون للخلق أمر {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وثق به {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرأ نافع وابن عامر وحفص «تَعْمَلُون» بالخطاب، لأنَّ قبله «اعْمَلُوا» والباقون بالغيبة رجوعاً على قوله: {لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} وهذا الخلاف أيضاً في آخر النمل.(10/604)
قال كعبُ الإحبار: خاتمة التَّوارة خاتمة سورة هود روى عكرمة عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يا رسول الله قد شبت، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «شَيَّبتْنِي هُودٌ والواقعةُ، والمرسلاتُ، وعمَّ يتَساءَلُون، وإذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ» ويروى: «شَيَّبتْنِي هودٌ وأخواتها» ويروى: «شَيَّبتْنِي هودٌ وأخواتها الحاقَّةُ، والواقعةُ، وعمَّ يتساءَلُون، وهل أتاكَ حديث الغاشيةِ» .
قال الحكيم: الغزع يورث الشَّيْب، وذلك أنَّ الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسدِ، وتحت كُلِّ شعره منبع، ومنه يعرق، فإذا انتشف الفزغُ رطوبته يبست المنابع؛ فَيبس الشَّعر وابيض، كما ترى الزَّرعَ بسقائه، فإذا ذهب سقاءهُ يبس فابيض، وإنَّما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويُبْس جلده، فالنفس تذهل بوعيد الله بالأهوال؛ فتبل وينشَّف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به، ومنه تشيب؛ قال تعالى:
{يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [المزمل: 17] وقال الأصمُّ: ما حلَّ بهم من عاجل أمر الله، فأهلُ اليقين إذا اتلوها تراءى على قلوبهم من ملكهِ وسلطانهِ البطش بأعدائهِ، فلو ماتُوا من الفزع لحق له، ولكن الله - تبارك وتعالى - يلطف بهم في الأيان حتَّى يقرؤوا كلامهُ، وكذلك لآخر آية في سورة هود، فإنَّ تلاوة هذه السُّورة ما يكشف لقلوب العارفين سلطانهُ وبطشهُ ما تذهل منه النفوس، وتشيب منه الرءوس.
قال القرطبيُّ: وقيل: إنِّ الذي شَيَّبَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من سورة «هود» قوله تعالى: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} [هود: 112] وقال عمرو بن أبي عمرو العبادي: قال يزيد بن أبان رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المنام فقرأت عليه سورة هود، فلمَّا ختمتها قال لي «يا يزيدُ قرأت فأيْنَ البُكاء» واسند أبو محمد الدَّارمي في مسنده عن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اقْرؤُوا سُورة هود يوم الجمعة» والله أعلم.(10/605)
سورة يوسف(11/3)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
رب يسر برحمتك. سورة يوسف - عليه السلام - وهي مكية وفي قول ابن عباس، وقتادة: إلا أربع آيات منها. وهي مائة وإحدى عشرة آية، وعدد كلماتها: ألف، وتسعمائة، وست وتسعون كلمة، وعدد حروفها سبعة آلاف، ومائة، وست وستون حرفا قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} قد تقدم الكلام على قوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} في أول سورة يونس، فالإشارة ب «تِلْكَ» إلى آيات هذه السورة على الابتداء اةلخبر.
وقيل: «الر» اسم للسورة، أي: هذه السورة المسمَّاة: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} والمراد ب «الكِتَاب» : القرآن، وأما قوله: «المُبِين» فيحتمل أن يكون من بانَ، بمعنى: ظهر، أي: المبين حلاله، وحرامه، وحدوده، وأحكامه قال قتادة رَحِمَهُ اللَّهُ: «المبين والله بركته، وهداه ورشده» .
وقال الزجاج: «من أبَان بمعنى: أظهر، أي: أبان الحقَّ من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأولين والآخرين» . ويحتمل أن يكون من البينونة بمعنى: التَّفريق، أي: فرَّق بين الحق والباطل، والحلال والحرام.
قوله تعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} يعنى: الكتاب، في نصب: «قُرْآناً» ثلاثة أوجه:(11/3)
أحدها: أن يكون بدلاً من ضمير «أنْزلْنَاهُ» أو حالاً موطئة منه، والضمير في: «أنْزَلْنَاهُ» على هذين القولين يعود على الكتاب، وقيل: «قُرْآناً» مفعول به، والضمير في «أنْزَلْنَاهُ» ضمير المصدر، و «عربياً» نعت للقرآنِ، وجوَّز أبو البقاء: أن يكون حالاً من الضمير في: «قُرْآناً» إذا تحمَّل ضميراً، يعنى: إذا حعلناهُ حالاً مؤولاً بمشتقِّ، أي: أنزَلنَاه مُجْتمعاً في حال كونهِ عَربيًّا
والعربيّ منسُوب إلى العرب؛ لأنَّه نزل بلغتهم، وواحد العرب: عربيٌّ، كما أن واحد الرُّوم: رُومِيٌّ، أي: أنزلناه بلغتكم، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ، وتفهَمُوا ما فيه، و «عَرَبَة» بفتح الرَّاء ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر: [الطويل]
3043 - وعَرْبَةُ أرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرامَهَا ... مِنَ النَّاسِ إلاَّ اللَّوذَعِيُّ الحُلاحِلُ
سكن راءها ضرورة؛ فيجوزُ أن يكون العربي منسُوباً إلى هذه البقعة.
فصل
احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية: على كون القرآن مخلوقاً، لقوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ؛ ولأنَّه تعالى وصفهُ بكونه: «عَرَبيًّا» والقديم لا يكون عربيًّا؛ ولأنَّ قوله تعالى {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا؛ ولأنَّ قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات، والمركَّبُ محدثٌ.
قال ابن الخطيب: «والجواب عن هذه الوجوه أن نقول: المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌن وذلك لا نزاع فيه، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر، فسقط هذا الاستدلال» .
قوله: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : قال الجبائي: «كلمة» لعَلَّ «نحملها على اللاَّم، والتقدير: إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين، إذ لايجوز أن يراد ب» لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «: الشَّكح لأنَّه على الله تعالى محالٌ، فثبت أنَّ المراد: لكي تعرفوا الأدلَّة، وذلك يدلُّ على أنَّهُ سبحانه وتعالى ت أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده، وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف» . قال ابن الخطيب: «والجواب: هَبْ أنَّ الأمْر كمَا ذَكْرتُمْ، إلاَّ أنَّهُ يدلُّ على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفيَّة هذه القصَّة، لكن لِمَ قلتم: إنَّها تدلُّ على أنه تعالى أراد من الكُلِّ الإيمان والعمل الصالح» ؟ .(11/4)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} الآية.
{نَحْنُ نَقُصُّ} : مبتدأ وخبر، والقاصُّك الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه، قال تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] ، أي: أتَّبعي أثره، {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] ، أي اتِّباعاًنن وسميت الحكايةَ قصصاً؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً، كما يقال: تلا القرآنَ إذا قرأهُ؛ لأنَّه يتلُو، أي: يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ، والمعنى: نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ، والقرُونِ الماضية.
روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً، فقالوا: يَا رسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوْ حَدَّثتنَا ت فأنْزَل اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذكره {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] فقالوا: يا رسول الله، لو ذكرتنَا، فأنزل الله عزَّ وجلَّ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} [الحديد: 16] .
قوله: {أَحْسَنَ القصص} في انتصابه وجهان:
أحدهما: أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول، كالخلقِ بمعنى: المخلُوقِ، أو جعلته فعلاً بمعنى: مفعُول، كالقَبْضِ، والنَّقْضِ بمعنى: المَقْبُوض، والمَنْقُوض، أي: نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصةن فيكون معنى قوله: {أَحْسَنَ القصص} : لِمَا فيه من العبرة، والنُّكتة، والحكمةِ، والعجائب التي ليست في غيرها.(11/5)
فإحدى الفوائد في هذه القصة: أنه لا دافع لقضاءِ الله، ولا مانع من قدر الله، وأنَّهُ تعالى إذا قضى لإنسان بخير؛ فلو اجتمع العالمُ، لمْ يقدروا على دفعه.
والفائدة الثانية: أنََّهَا تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ، والنُقصَانِ.
والفائدة الثالثة: أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج، كما في حقِّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فإنَّه لما صبر، نال مقصُوده، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه.
والوجه الثاني: أن يكون منصوباً على المصدر المبين، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً، أي: نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص.
وعلى هذا؛ فالحسنُ يعُود إلى حسن البيان، لا إلى القصَّة، والمراد بهذا الحسن: كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كمتب التَّواريخ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة، والبلاغة.
و «أحْسَنَ» : يجوز أن يكون: أفعل تفضيل على بابها، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها، أي: القصص الحسن.
قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن، وكرَّرها بمعنى واحدٍ، في وجوهٍ مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات المبالغة، وقد ذكر قصة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولم يكرِّرها؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرِّر.
فصل
قال القرطبي: وذكر العُلماءُ لكَوْنِ هذه القصَّة أحسنَ القصصِ وجوهاً:
أحدها: أنه ليست قصَّة في القرآن تتضمنُ من العبر والحكم، ما تتضمن هذه القصَّة؛ لقوله تعالى في آخرها {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} [يوسف: 111] .
وثانيها: لحُسن مجاوزة يوسف إخوته، وصبْرِه على أذاهُم، وعفوه عنهُم بعد التقائهم عن ذكر فعلهم، وكرمه في العفو عنهُم، حتَّى قال: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم} [يوسف: 92] .
وثالثها: أن فيها ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصَّالحين، والملائكة، والجنِّ، والشياطين، والإنس، والطيرِ، وسير الملوكِ، والمماليكِ، والتُّجارِ، والعلماءِ، والجهال، والرِّجال، والنِّساء وحيلهنَّ ومكرهنَّ، وذكر التَّوحيد، والفقهِ، والسِّير، وتعبيرِ الرُّؤيا، والسِّياسةِ، والمعاشرةِ، وتدبير المعاشِ، وجُمَل الفوائد تصلُح للدِّين والدُّنيا.(11/6)
ورابعها: أنَّ فيها ذكر الحبيب، والمحبُوب، وسيرهما.
وخامسها: أنَّ «أحْسنَ» هنا بمعنى: أعجب.
وسادسها: سُمِّيت أحسن القصص؛ لأنَّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السَّعادة، وانظُر إلى يوسف، وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز، قيل: والملكُ أيضاً أسلم بيُوسُف، وحسن إسلامهُ، ومستعبر الرؤيا، والسَّاقي، والشَّاهد فيما يقال، فما كان أمْر الجَمِيع إلاَّ إلى خير، والله تعالى أعلم.
قوله: {بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} «الباء سببيَّة» ، وهي متعلقةٌ ب «نَقُصُّ» و «مَا» مصدريَّة، أيك بسبب إيحائنا «.
قوله: {هذا القرآن} يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أن ينتصب على المفعولية ب» أَوْحَيْنَا «.
والثاني: أن تكون المسألة من باب التنازع، أعني: بَيْن» نَقُصُّ «وبين» أوْحَيْنَا «فإن كلاًّ منهما يطلب» هذا القُرآنَ «وتكون المسألةُ من إعمال الثاني، وهذا إنما يتأتَّى على جعلنا» أحْسنَ «: منصوباً على المصدر، ولم يقدَّر ل» نَقُصُّ «مفعولاً محذوفاً.
قوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] تقدّم إعراب نظيره، والمعنى: قد كنت من قبله، أي: من قبل وحينان لمن الغافلين، أي: لمن الساهين عن هذه القصَّة لا تعلمُهَا.
وقيل: لمن الغافلين: عن الدِّين والشَّريعة قبل ذلك، كقوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] .
قال بعض المفسرين: سمى قصَّة يُوسف خاصَّة أحسن القصص؛ لما فيها من العبر، والحكم، والنُّكتِ، والفوائد التي تصلْح للدِّين والدُّنيا، من سير الملوكِ، والمماليكِ، والعلماء، ومكرِ النِّساء، والصبْر على أذى الأعداء، وحسن التَّجاوزِ عنهم بعد الالتقاء، وغير ذلك من الفوائد.
قال خالد بن معدان:» سورة يوسف، وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنَّة في الجنَّة «.
وقال عطاء رَحِمَهُ اللَّهُ:» لا يَسْمع سُورةَ يُوسف محْزُونُ إلا استراح لهَا «.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ} الآية.
رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف؟ فأنز الله تعالى هذه السورة.(11/7)
وفي العامل في «إذْ» أوجهٌ:
أظهرها: أنه منصُوب ب «قَالَ يَا بُنَيَّ» أي: قال يعقوب: يا بني وقت قول يُوسف لهُ: كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا أسهل الوجوه؛ إذ فيه إبقاء «إذْ» كونها ظرفاً ماضياً.
وقيل: الناسب له: «الغَالفينَ» قاله مكيٌّ.
وقيل: هو منصوبٌ ب «نَقُصُّ» أي: نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا فيه [إخراج] «إذْ» عن المضيِّ، وعن الظرفيَّة، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً، أي: نقصُّ عليك الحال وقت قوله، لزم أخراجها عن المضيِّ.
وقيل: هو منصوب بمضمر، أي: اذكُر.
وقيل: هو منصُوب على أنَّه بدل من «أحسن القصص» بدل اشتمال.
قال الزمخشري: «لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص» و «يُوسفُ» اسم عبرانيٌّ، ولذلك لا ينصرف، وقيل: هو عربيٌّ، فقال الزمخشريُّ: «الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ؛ لأنه لو كان عربيًّا، لانصرف» وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال: «الأسف في اللغة: الحُزن، والأسف: العَبْد، واجتمعا في يوسف؛ فسُمِّي بهما» .
روي ابن عمر عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين» .
قوله: «يَا أبَتِ» قرأ ابن عامر: بفتح التَّاء، والباقون بكسرها، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.(11/8)
وهذا مختصٌّ بلفظتين: يا أبَتِ ويَا أمَّتِ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء، لو قلت: «يَا صَاحِبتِ» لم يجُز ألبتَّة؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو: «يا ابْنَ أمَّ» ويجوز الجمع بين هذه التَّاء، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً؛ كقوله: [الرجز]
3044 - يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا ... وقول الآخر: [المتقارب]
3045 - أيَا أبَتَا لا تَزْلْ عِنْدنَا ... فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ
وقول الآخر: [الطويل]
3046 - أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا ... لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا
وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً؛ فإنَّه قال: «فإن قلت: فما هَذه الكسْرة؟ قلتُ: هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك:» يا أبي «قد زُحلقَتْ إلى التاء؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً.
فإن قلت: فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً؟ .
قلت: امتنع ذلك فيها؛ لأنَّها اسم، والأسماءُ حقُّها التحريكُ؛ لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً؛ لأنها حرف لين، وأما التاء، فحرفٌ صحيحٌ، نحو كافِ الضمير؛ فلزم تحريكها.
فإن قلت: يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه؛ لأنَّها في حكم الياء، إذا قلت: يا غُلام، فكَمَا لا يَجُوز: «يا أبتي» لا يجوز «يا أبتِ» قلت: الياءُ والكسرة قبلها شيئان، والتَّاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء، والكسرة متعرَّض لها؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير؛ ألا ترى إلى قولهم: «يَا أبَتَا» مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ، كيف(11/9)
جاز بينها وبين التاء، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه؟ فالكسرة أبعد من ذلك.
فإن قلت: قد دلَّت الكسرة في «يا غُلام» على الإضافة؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها، فإن دلَّت على مثل ذلك في: «يا أبت» فالتَّاء الَمعوَّة لغو، وجودها كعدمها.
قلت: [بل] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت: «يا أبِي» .
وكذا عبارة أبي حيَّان، فإنه قال: وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء، كما قال: [الرجز]
3047 - يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا ... وفيه نظر؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يجمع بينهما، وهذا تاء أصلها للتأَنيث.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتك ما هذه التَّاء؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث: قلبُهَا هاءً في الوقف» .
قال شهاب الدِّين: وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف، قرأ به ابنُ كثير، وابن عامرٍ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في «بِنْت وأخْت» وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث: سيبويه؛ فإنه قال: «سَألْت الخليل عن التَّاء في:» يَا أبتِ «فقال: هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء» يا خالة وعمَّة «يعنى: أنَّها للتَّأنيث» ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث: كتبُهم إيَّاها هاءً، وقياس من وقف بالتَّاء: أن يكُبهَا تاء، ك «بِنْت وأخْت» .
ثم قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر؟ .
قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاةٌ ذكر، ورجل ربعة، وغلامٌ يفعة قلت: يعني: أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ، كما في الأسماء المستشهد بها.
ثم قال الزمخشري: «فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة؟ .
قلت: لأن التأنيث والإضافة تناسبان؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره» .
قال شهاب الدين: «وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي، أي: أنه شَبَهٌ في الصُّورة» .
وقال الزمخشري: «إنه قرىء» يَا أبتِ «بالحركات الثلاث:(11/10)
فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما.
وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ؛ كقراءة من قرأ: {قَالَ رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] بضم الباء، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا: إنَّه مضافٌ للياءِ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ. وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين.
والمذهبُ الآخر: أنَّها كسرة أجنبيَّة، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها. فأما الفتح ففيه أربعة أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين:
أحدهما: أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله: [الوافر]
3048 - ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي ... بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي
وكما اجتزأ بها في:» يَا بْنَ أمَّ «و» يَا بْنَ عَمّ «.
والثاني: أنه رخم بحذف التاء، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة؛ كقول النابغة الجعديِّ: [الطويل]
3049 - كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ ... وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ
بفتح تاء أميمة.
الثالث: ما ذكره الفرَّاء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وقطرب في أحد قوليه: وهو أن الألف في:» يَا أبَتَا «للنُّدبة، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة.
الرابع: أن الأصل» يا أبَة «بالتنوين، فحذف التنوين، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني.
وردَّ هذا: بأ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو:» يَا ضَارِباً رجُلاً «.
وقرأ أبو جعفر:» يا أبِي «بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء، وقرأ الحسن، والحسين، وطلحة بن سليمان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم» أحَدَ عَشَر «بسُكُون العين؛(11/11)
كأنهم قصدّوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً.
قوله {والشمس والقمر} يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون الواو عاطفة، وحينئذ: يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} فهذا كقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بعد قوله:» ومَلائِكتهِ «ويحتمل أن لا تكون كذلك، وتكون الواوُ لعطف المغايرة؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال» أحَدَ عَشَرَ «ومن جملتها الشمس والقمر، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ.
والوجه الثاني: أن تكون الواو بمعنى:» مَعَ «إلا أنَّه مرجوحٌ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ، ولا أخلال بمعنى، رُجِّح على المعيَّة؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله، بمعنى: أنه رأى الشمس، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً.
قوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد؛ لما طال الفصل بالمفاعيل، كما كُرِّرت «أنكُم» في قوله تعالى: {أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] . كذا قالهُ أبو حيَّان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والثاني: أنه ليس [بتأكيد] ، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «فإن قلت: ما معنى تكرار» رَأيْتُمْ «؟ قلتُ: ليس بتكرار؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له؛ كأنَّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهُ عند قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر} كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال: (رأيتهم لي ساجدين) وهذا أظهر؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس، فحمله على التَّأسيس أولى» .
و «سَاجِدينَ» : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء، فقيل: لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم، جمعهم جمع العقلاء، فقيل: لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر، إذا شاركه في صفةٍ ما؛ كما قال في صفة الأصنام: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] ، وكقوله عَزَّ وَجَلَّ: {يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] .
والرُّؤية هنا: مناميَّة، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين؛ كالعلميَّة؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله: {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} ، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع، فلم يبق إلا اختصاراً، وهو قليلٌ، أو ممتنع عند بعضهم.
وقال بعضهم: إن إحداهما من الرُّؤية، والأخرى من الرُّؤيا.(11/12)
قال القفَّال: ذكر الرُّؤية الأولى؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ، والشَّمس والقمر، والثانية؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ.
فصل
ذكر المفسرون: أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يسجدون لهُ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم، ففسَّر الكواكب: بالإخوة، والشمس والقمر: بالأب والأم، والسجُود: بتواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ} .
وقال السديُّ: «القمر: خالته، والشَّمسُ: أبُوه؛ لأن أمَّه راحِيل كانت قد ماتت» .
وقال ابن جريج: القَمَر: أبُوه، والشَّمسُ أمُّه؛ لأن الشمس مؤنثة، والقمر مذكَّر.
وقال وهب بن مُنبِّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إن يُوسفُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت رأى وهو ابنُ سبع سنين، إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركُوزة في الأرض كهيئة الدَّائرة، وإذا عَصاً صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها، فذكر ذلك لأبيه؛ فقال: إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتك، ثمَّ رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة، الشَّمس، والقمر والكواكب، تسجُد له؛ فقصَّها على أبيه؛ فقال: لا تذكرها له فيَكيدُوا لَك كَيْداً» .
روى الزمخشريُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ: «أن يهُودِيًّا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه سولمن فقال يا محمَّد: أخبرني عن النُّجُوم التي رآهُن يوسف، فسكت النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فنزل جبريل عليها لسلام فأخبره بذلك؛ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لليهوديَّ: إن أخبرتك بذلك هل تسلم؟ قال: نَعمْ؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم: حرثان، والطارق والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والقرع، والضروح ووثاب، وذو الكتفين رآها يوسف، والشمس والقمر [نَزلْنَ] من السَّماء، وسجدن لهُ، فقال اليهوديُّ: أي والله إنَّها لأسماؤها» .(11/13)
واعلم ان كثيراً من هذه الأسماء غير مذكورة في الكتب المصنفة في صُور الكواكب.
فصل
زعمت طائفةٌ من العلماء: أ، هـ لم يكن في أولاد يعقُوب نبيٌّ غير يُوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وباقي إخوته لم يوح إليهم، واستدلُّوا بظاهر ما ذُكر من أفعالهم، وأحوالهم في هذه القصَّة، ومن استدلَّ على نُبوتهم، استدلَّ قوله تعالى: {آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} [البقرة: 136] وزعم أنَّ هؤلاء: هم الأسباط، وهذا استدلال ضعيفٌ؛ لأن المراد بالأسباط: شُعوب بني إسرائيل، ما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي، وأيضاً: فإنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هو المخصُوص من بين إخوته بالنبوة والرسالة؛ لأنَّه نصَّ على نُبوَّته، والإيحاء إليه في آيات من القرآن ولم ينصَّ على أحد إخوته سواه؛ فدلَّ على ما ذكرنا.
فصل
في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً، وفيها أيضاً: دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً، وفيها أيضاً: دليلٌ على مع رفة يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بتأويلِ الرُّؤيا؛ فإنه علم من تأويلها: أنَّه سيظهر عليْهم.
قوله {لاَ تَقْصُصْ} قرأ حفص: «يا بُنيَّ» بفتح الياء، والباقون بكسرها، وقرأ العامة: بفك الصادين، وهي لغةُ الحجاز، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة، والإدغام لغة تميم، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة، عند قوله: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ} [المائدة: 54] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا.
وقال الزمخشريٌّ: «الرُّؤيا بمعنى: الرُّؤية، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث؛ كما قيل: القربة والقربى» .
وقرأ العامَّة: «الرُّؤيا» مهموزة من غير إمالة، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ: وأما (الرؤيا) [يوسف: 100] : و «رُؤيَاي» الاثنتان في هذه السورة، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ.
وقال الزمخشري: وسمع الكسائيُّ: «رُيَّايَ وريَّاكَ» بالادغام، وضم الرَّاء،(11/14)
وكسرها، وهي ضعيفة؛ لأن الواو في تقدير الهمزة؛ فلم يقو إدغامها؛ كما لم يقو إدغام «اتَّزَر» من الإزراِ، و «اتَّجرَ» من «الأجْر» .
يعنى: أن العارض لا يعتدُّ به، وهذا هو الغالبُ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله: «رِئْياً» في قوله: {أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} [مريم: 74] عند حمزة، و {عَاداً الأولى} [النجم: 50] وأما كسر «ريَّاكَ» فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة، وأما الضمُّ فهو الأصل، والياء قد استهلكت بالإدغام.
قوله «فيَكِيدُوا» : منصُوب في جواب النَّهي، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله: «إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ» .
و «كَيْداً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مصدر مؤكدٌ، وعلى هذا ففي اللام في قوله: «لَكَ» خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون «يَكيدُ» ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه، وقال: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} [هود: 55] والتقدير: فيحتالوا لك بالكيد.
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه: «فإن قلت: هلا قيل: فَيَكيدُوكَ» كما قيل: الفعل المضمَّن، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف، وذلك نحو: فيَحْتالُوا لك؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر «.
الوجه الثاني من أوجه اللاَّم: أن تكون اللاَّم معدية، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة، وبنفسه أخرى؛ ك» نَصَحَ «و» شَكَرَ «كذا قالهُ أبو حيَّان، وفيه نظر؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ.
والثالث: أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به؛ كزيادتها في قوله: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، قاله أبو البقاء؛ وهو وضعيفٌ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين: تقديم المعمول، أو كون العامل فرعاً.
الرابع: أن تكون اللام للعلَّة، أي: فيَكِيدوا لأجْلِك؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً، أو اختصاراً.
الخامس: أن تتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّها حالٌ من» كَيْداً «إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت.(11/15)
الوجه الثاني من وجهي» كَيْداً «: أن يكون مفعولاً به، أي: فيصنعوا لك كيداً، أي: أمراً يكيدُونك به، وهو مصدر في موضع الاسم، ومنه: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} [طه: 64] ، أي: ما تكيدُون به؛ ذكره أبو البقاء، وعلى هذا ففِي اللاَّم في:» لَكَ «وجهان فقط: كونُها صفة في الأصل، ثم صارت حالاً، أو هي للعلَّة، وأما الثلاثة الباقية، فلا تتأتَّى بعد، فامتناعها واضحٌ.
ثمّ قال: {إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي: يزيِّن لهم الشيطان، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة.
فصل
قال أبو سلمة: كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول: كنت أرى الرُّؤيا، فتُمْرضُنِي، حتى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الرُّؤيا الصَّالحة من الله، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ، وإذا رَأى ما يكرهُ، فلا يُحدِّثْ به، وليتفُل عن يساره، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ» . قال الراوي: وأحسبه قال: «لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً، أوْ لَبِيباً» .
قال الحكماء: الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب، والرُّؤيا الجيَّدة، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين، قالوا: والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه، وأمَّا الإعلام بالخير، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره، بزمانٍ طويلٍ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً.
فصل
قال القرطبيُّ: «الرُّؤيا حالةٌ شريفة، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَمْ يَبقَ بعدي من(11/16)
المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة، يَراهَا [الرجل] الصَّالحُ، أو ترى له «وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [أصْدقُكم رُؤيَا، أصدقكُمْ حَديثاً، وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي: من سبعين، وروي: من [تسعة] وأرْبعينَ، وروي: من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ، وروي: من أرْبعينَ، والصحيح: حديث السِّت والأربعين، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين.
فإن قيل: إن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان صغيراً، والصغير لا حكم لفعله، فكيف يكون لرُّؤياه حكم، حتى يقول له أبو: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ} .
فالجواب: أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة، صدق؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ، ورُوِي: أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان ابن اثنتي عشر سنة.
فصل
في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها.
وروى الترمذيُّ: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» الرُّؤيا برجْل طائرْ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا، فإذا حدَّث بها، وقعتْ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً، أو مُحبًّا، أوْ ناصحاً «.
قوله {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} الكاف في موضع نصب، أو رفع.
فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأي سيبويه، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف، والمعنى: مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك.
والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر، يعني: الأمر كذلك، وقد تقدم نظيره.
قوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه، والتقدير: وهو يعلمك، والأحاديث: جمع تكسير، فقيل: لواحد ملفوظٍ به، وهو «حَدِيث» ولكنَّه شذَّ جمعه على: أحاديث، وله أخوات في الشُّذُوذ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع، وأعَارِيض، في «بَاطل وقَطيع وعَروض» .
[وزعم] أبو زيد: «أن لهَا واحداً مقدراً، وهو» أحْدُوثة «ونحوه، وليس باسم(11/17)
جمع؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه، نحو:» شَماطِيط «، و {أَبَابِيلَ} [الفيل: 3] ففي أحاديث أولى» .
ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله: «وهي اسمُ جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة» بما ذكرنا، ولكن قوله: «ليس بجمع أحدُوثة» صحيح؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله: «اسم جمع» .
فصل
قال الزجاج: الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء: إذا أخلصته لنفسِك، ومنه: جَبُبت الماء في الحوض، والمعنى: كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة.
وقيل: بإعلاء الدَّرجة (ويعلمك من تأويل الأحاديث) : يريد تعبير الرُّؤيا، وسُمِّي تأويلاً؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل: ما يئول إليه عاقبة الأمْر، كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ غاية في علم التَّعبير.
وقيل: في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: الأحاديث: جمع «حَدِيث» ، والحديث هو الحَادثُ، وتأويلُها: مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى، وتكوينه، وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث: كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته، وجلاله.
قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} يجوز أن يتعلق «عَليْكَ» ب «يُتِمُّ» وأن يتعلق ب «نِعْمتَهُ» ، وكرَّر «عَلَى في قوله:» وعَلى آلِ «لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين.
وقوله {مِن قَبْلُ} أي: من قبلك: واعلم: أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا: بسعادات الدنيا والآخرة.
أما سعادات الدنيا؛ فالإكثار من الولدِ، والخدمِ، والأتباع، والتَّوسُّع في المال والجاه، والجلال في قلوب الخلقِ، وحسن الثَّناء وَالحمد، وَأما سعادات الآخرة، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة.(11/18)
وقيل: المراد من إتمام النِّعمة: خلاصته من المحن، ويكون وجه التَّشبيه ب» إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام «وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح
وقيل: إن إتْمَام النَّعمة هو: وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة.
وقيل:: إتمام النِّعمة على إبراهيم: خُلَّتهُ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه.
ومن فسر الاجتباء: بالدَّرجات العالية؛ فسَّر: إتمام النِّعمة: بالنُّبوَّة؛ لأنَّ الكمال المطلق، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة، يدلُّ عليه قوله تعالى: {وعلى آلِ يَعْقُوبَ} أي: على أولاده؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء، وقوله: {كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة: هو النبوة، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء؛ كقوله تعالى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ} .
فإن قيل: كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام؟ .
فالجواب: أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة، العصمة، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة، لا قبلها.
قوله {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} «يجُوز أن يكونا بدلاً من» أبَويْكَ «أو عطف بيان، أو على إضمار أعني» ، ثم لما وعد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهذه الدرجات الثلاث، ختم [الآية] بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقوله «عَلِيمٌ» إشارة إلى قوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ، وقوله: «حَكِيمٌ» إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط
فإن قيل: هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها، أم لا؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها، فيكف حزن على يوسف؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه؟ وكيف قال لإخوته: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه، ويبعثُه رسولاً؟ .
وإن قلت: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان عالماً بهذه الأحوال، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ؟ .
فالجواب قال ابنُ الخطيب: «لا يبعُد أن يكون: قوله: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} مشروطاً(11/19)
بألا يكيدُوه؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم، وأيضاً: فيبعُد أن يقال: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سيصلُ إلى هذه المناصب، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة، ثم يتخلَّص منها، أو يصل إلى تلك المناصب، وكان خوفه بهذا السَّبب، ويكُون معنى قوله: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب} [يوسف: 13] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه» .(11/20)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} الآية.
قال الزمخشري: «أسماء إخوة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يهوذا ورُوبيل، وشمعُون، ولاوي، وزبالون، ويشجر، وأمهم: ليا بن ليان، وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريتين تسمى إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد: دان، ونفتالي، وجاد وآشر، فلما توفيت» ليا «تزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين» .
قوله تعالى قرأ ابن كثير «آية» بالإفراد، والمراد بها: الجِنْس، والباقون الجمع تصريحاً بالمراد؛ لأنها كانت علامات كثيرة، وزعم بعضهم: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً، تقديره: للسَّائلين ولغيرهم، ولا حاجة إليه، و «للسَّائلِينَ» : متعلقٌ بمحذوفٍ نعتاً ل «آياتٌ» .
فصل
معنى: {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} أنه عبرة للمتعبرين؛ فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف، وما آل إليه أمرهم من الحسدن وتشتمل على صبر يوسف عن قضاء الشُّهُود، وعلى الرقِّ والسِّجن، ما آل إليه أمرهُ من الوُصول إلى المراد، وغير ذلك.
وقيل: {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} ، أي دلالة على نُبُوَّة الرسول صلوات الله وسلام عليه.(11/20)
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما دخل حبر من اليهُود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمع منه [قراءة] سورة يوسف، فعاد إلى اليهودِ، فأعلمهم أنَّه سمع كما في التَّوراة، فانطلق نفرٌ منهم، فسَمِعُوا كما سَمِع؛ فقالوا له: من علَّمك هذه القصَّ؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الله عَلَّمَنِي» فنزلت: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} .
قال ابن الخطيب: «وهذا الوجه عندي بعيد؛ لأن المفهوم من الآية: أن في واقعة يُوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت آياتٌ للسَّائلينَ، وعلى ما قلناه: ما كانت الآيات في قصَّة يُوسف، بل كانت في إخبار محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها، من تعلُّم ولا مطالعة.
الثاني: أن أكثر أهل مكَّة كانُوا أقارب الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وكانُوا يُنْكِرُون نُبوَّته، ويظهرُون العداوة الشَّديدة معهُ بسبب الحسد، فذكر الله تعالى هذه القصَّة، وبيَّن أنَّ إخوة يُوسُف بالغُوا في إيذائه لأجل الحسد، وبالآخرة إن الله نصره، وقواه، وجعلهم تحت يده، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد.
الثالث: أن يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما عبر رُؤيا يُوسُف، وقع ذلك التَّعبير، ودخل في الوُجُود بعد ثمانين سنة، فكذلك أن الله تعالى ت كما وعد مُحمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنَّصر والظفر، كان الأمر كما قدَّره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره» .
قوله: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا} اللام في «ليُوسفُ» : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه «وأخُوهُ» ك هو بنيامين، وإنَّما قالوا: «وأخُوهُ» وهُمْ جَمِيعاً إخوة؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة، و «أحَبُّ» أفعل تفضيلن وهو مبنيٌّ من «حُبَّ» المبنيِّ للمفعُول، وهو شاذٌّ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب «إلى» وإلى المفعول المعنوي ب «اللام، أو ب» في «فإذا قلتَ: زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ، تعني: أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر، فالمُتكلِّم هو الفاعل، وكذلك:» هو أبغضُ إليَّ منْهُ «أنت المبغض، وإذا قلت: زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ، أي: إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
3050 - لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلِّتْ دِيَارهُ ... أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ
وعلى هذا جاءت الآية الكريمة؛ فإن الإب هو فاعل المحبَّة.(11/21)
و» أحَبُّ «: خير المبتدأ، وإنَّما لم يطابق؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل.
وقيل: اللاَّم في:» ليُوسُفُ «: جواب القسم، تقديره: والله ليُوسف وأخُوه، والواوُ في:» ونَحْنُ عُصْبَةٌ «: للحال، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال، والعامة على رفع» عُصْبةٌ «خبراً ل» نَحْن «.
وقرأ أمير المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف، والتقدير: ونحن نرى أو نجتمع، فتكون» عُصْبَةٌ «حالاً، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة، نحو: ضربي زيداً قَائِماً، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً.
قال ابن الأنباري:» هذا كما تقُولُ العربُ: إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ، أي: يتعمم عِمَّته «.
قال أبو حيَّان:» وليس مثله؛ لأن «عُصْبَةٌ» ليس بمصدر ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب: حُكمُكَ مُسمَّطاً «.
قال شهاب الدِّين:» ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه؛ من حيث إنه حذف الخبر، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره «.
وقال المبرد: هو من باب:» حُكمُك مُسمًّطاً «أي: لك حكمك مسمَّطاً، قال الفرزدقُ:
3051 - يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً ... أراد لك حكمك مُسمَّطاً.
قال: واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً؛ لعلم ما يريد القائل؛ كقولك: الهلال والله، أي: هذا الهلال، والمُسَمَّط: المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد: حكمُك ثبت مُسمَّطاً، وفي هذا المثال نظر؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير: أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ، نحو: ضَرْبِي زيداً قائماً، بخلاف:» ضَرْبِي زيْداً شديدٌ «فإنَّها ترفع على الخبريَّة، وتخرُج المسألة من ذلك، وهذه الحال، أعني:» مُسَمَّطاً «يصلح جعلها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير: حكم مرسل لا مردودٌ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا.(11/22)
والعُصْبَة: ما زاد على العشرة، عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ وعنه: مابين العشرة إلى الأربعين.
وقيل: الثلاثة نفر، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة؛ فهو رهطٌ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً، فعُصْبَة.
وقيل: مابين الواحد إلى العشرة.
وقيل: من عشرة إلى خمسة عشر.
وقيل: ستة. وقيل: سَبْعَة. والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة؛ لإحاطتها بالرَّأس.
فصل
بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف: وهو أن يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ، فتأذَّوا منه لوجوه:
أحدها: كانوا أكبر منه سنًّا.
وثانيها: أنَّهم كانوا أكثر قوَّة، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما.
وثالثها: أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} .
قال ابن الخطيب: «وها هنا سؤالات:
السؤال الأول: أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض، يُورِث الحقد والحسد، وهما يورثان الآفات، فملا كان يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عالماً بذلك، فلم أقدم على التفضيل؟ وأيضاً: فالأسنُّ، والأعلم، والأنفع مقدَّم، فلم قلب هذه القضية؟ .
فالجوابك أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة، والمحبَّة ليست في وسع البشر، فكان معذُوراً فيه، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك «حين كان يحبُّ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله،(11/23)
فكَيْفَ اعتَرضُوا؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته، غير مقرِّين بكونه رسًُولاً حقًّا من عند الله، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم؟ .
والجواب: أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون: هما صبيان ما بلغا العقل الكامل، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ، والعقل، الكفاية، والمنفعة، وكثرة الخدمة، والقيام بالمهمات، فإصراره على تقديم يوسف علينا، يخالف هذا الدَّليل، وأما يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلعله كان يقُول: زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ، فيحتمل أنه كان لوجوه:
أحدها: أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار.
وثانيهما: أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد، والحاصل: أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة، وكانت بميْل النَّفس، وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ، أو في عرضه.
السؤال الثالث: أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم.
والجواب: المُراد من الضلال: غير رعاية مصالحِ الدِّين، لا البعد عن طريق الرُّشد، والصواب.
السؤال الرابع: أن قولهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا} محضُ الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة، وتبعيده عن الأب المشفقِ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم، والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة.
والجواب: أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب «.
{اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً} الآية.
في نصب» أرْضاً «ثلاثة أوجه:
أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً، أي: في أرض؛ كقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] ، وقول الشاعر: [الكامل](11/24)
3052 - لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ
وإليه ذهب ابن عطيَّة.
قال النَّحاس:» إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بالحرف، فإذا حذفت الحرف، تعدَّى الفعل إليه «.
والثاني: النصب على الظرفيَّة.
قال الزمخشريُّ:» أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها، وأخلائها من النَّاسِ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة «.
وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال:» وذلك خطأ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ، أو قاصية أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُهَا، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة، غير التي هو فيها قريبة من أبيه «.
واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد، وقال:» وهذا الردُّ صحيحٌ، لو قلت: «جَلستُ داراً بعيدة، أوْ مكاناً بعيداً» لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها، إلا في ضرورة شعرٍ، أو مع «دخلْت» على الخلاف في «دَخلت» أهي لازمة أم متعدِّية «.
وفي الكلامين نظر؛ إذ الظَّرف المُبْهَم: عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه، و» أرضاً «في الآية الكريمة من هذا القبيل.
الثالث: أنها مفعول ثان، وذلك أن معنى:» اطْرحُوهُ «أنزلوه، و» أنزلوه «يتعدى لاثنين، قال تعالى:
{أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} [المؤمنين: 29] وتقولن: أنزلت زيداً الدَّارَ. والطَّرح: الرَّميُ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف؛ قال عروة بن الوردِ: [الطويل]
3053 - ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً ... مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ
والمعنى: اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه، وقي: في أرض تأكله السِّباعُ.
و «يَخْلُ لكُمْ» جوابٌ الأمر، وفيه الإظهار والإدغام، وتقدَّم تحقيقها عند قوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} [آل عمران: 85] .
قوله: {وَتَكُونُواْ} يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله، أو منصوباً بإضمار «أن» بعد الواو في جواب لأمر.(11/25)
فصل
اعلم: أنَّه لما قوي الحسد، وبلغ النِّهاية، قالوا: لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل، أو التَّغريب، ثم ذكروا العلَّة فيه، وهي قوله: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي: أنَّ يوسف شغله عنَّا، وصرف وجهه إليه، فإذا فقده، أقبل علينا بالميل والمحبَّة، {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد قتل يوسف، {قَوْماً صَالِحِينَ} : أي: نتُوب بعد قتلهِ.
وقيل: يصلُح شأنكم، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم، واختلفُوا في قائل هذا القول.
فقيل: شَاورُوا أجْنَبياً؛ فأشار عليهم بقتله، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته.
وقيل: القائل بعض إخوته، واختلفوا فيه.
فقال وهب: شمعون، وقال كعب: دان، وقال مقاتل: رُوبيل.
فإن قيل: كيف يليق هذا بهم، وهم أنبياء؟
فأجاب بعضهم: بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا، وهذا ضعيفٌ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح.
وأيضا: فإنَّهم قالوا: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان، وأيضاً: قولهم: {ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] والصغير لا ذنب له.
فأجاب بعضهم: بأنَّ هذا من باب الصَّغائر، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم، والكيد معهُ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر، بل الجواب الصحيح: أنَّهم ما كانُوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة.
ثم إنَّ قائلاً منهم قال: {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} .
قيل: إنه رُوبيل، وكان ابن خالة يُوسُف، وكان أحسنُهم رأياً فيه؛ فمنعهم من قتله، وقيل: يهُوذا، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ، والسِّنِّ، وهو الصحيح.
قوله: «فِي غَيَابَةِ» قرأ نافع: «غَيابَات» بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة، جعل(11/26)
ذلك المكان أجزاء، وسمَّى لك جزءٍ غيابة؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي، فيكون فيها غيابات، والباقون: بالإفراد؛ لأن المقصُود: موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف، وابن هُرْمز كنافع، إلا أنَّه شدَّد الياء، والأظهر في ههذه القراءة: أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني: «ووجدت من ذلك الفخَّار: للخَزَف» .
وقال صاحب اللَّوامح: «يجوز أن يكو على» فعَّالات «كحمَّامات، ويجوز أن يكون على» فيْعَالات «، كشَيْطَانَات، جمع شَيْطَانَه، وكلٌّ للمبالغة» .
وقرأ الحسن: «في غَيَبةِ» بفتح الياء، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون في الأصل مصدراً؛ كالغلبة.
والثاني: أن يكون جمع غائب، نحو: صَانِع وصنَعَة.
قال أبو حيَّانك «وفي حرف أبيَّ:» في غيْبَةِ «بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكيَّة» .
قال شهاب الدين: «والضبط أمر حادثٌ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف، وتقدَّم نحو ذلك، والغيابة، قال الهروي: شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون» .
وقال الكلبيُّ: «الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ، ورأسه ضيِّق، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه» .
وقال الزمخشري: «هي غورة، وما غب منه عن عين النَّاظر، وأظلم من أسفله» .
قال المنخل: [الطويل]
3054 - فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي ... فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ
أراد: غيابة حُفرته التي يدفن فيها، والجبُّ: البشر الذي لم تُطْوَ، وسمِّي بذلك: إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض، أي: ما غلظ منها؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ: القطعُ، ومنه: الجبُّ في الذَّكر؛ قال الأعشى: [الطويل](11/27)
3055 - لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً ... ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ
ويجمع على جُنُبٍ، وجِبَاب، وأجْبَاب.
فصل
والألف واللام في «الجُبِّ» تقتضي المعهُود السَّابق، واختلفوا فيه:
فقال قتادة: هو جُبُّ بئر بيت المقدِس، وقيل: بأرض الأرْدُن.
وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ؛ للعلَّة التي ذكروها، وهي قوله: «يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ» لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها، كان إلى السَّلامة أقْرب؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك.
قوله «يَلتَقِطْهُ» قرأ العامَّةك «يَلْتَقِطْهُ» بالياء من تحت، وهو الأصلُ وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة: بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث، وقالوا: قُطِعَت بعضُ أصَابعه.
قال الشَّاعر: [الوافر]
3056 - إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا ... كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ
وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [الأنعام: 160 الأعرافَ: 56] .
والإلتِقَاط: تناول الشيء المطروح، ومنه: اللُّقطَة واللَّقِيط؛ قال الشاعر: [الرجز]
3057 - ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا..... ... ... ... ... ... ... ... ...
قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} أي: يجده من غير أن يحتسب.(11/28)
فصل
اختلفوا في الملقوط فقيل: إن أصله الحرية؛ لغلبة الأحرار على العبيد، وروي الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ، وتلا قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] وهذا قوله عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ويروى عن علي وجماعته، وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الاحتساب فهو حر.
فصل
والسيَّارة: جمع سيَّار، وهو مثال مبالغة، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر، وقال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد: المارَّة، ومفعول «فَاعِلينَ» محذُوف، أي: فاعلين ما يحصل به غرضكم. وهذا إشارة إلى أن الأولى: أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد، فاقتصروا على هذا القدر، ونظيره قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يعني: الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك.
قوله تعالى: {قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} الآية.
«تَأمَنَّا» حال وتقدَّم نظيره، وقرأ العامَّة: تأمنَّا بالإخفاء، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة، والفصل بين النُّونين؛ لا لأن النون تسكن رأساً؛ فيكون ذلك إخفاءً، لا إدغاماً.
قال الدَّاني: «وهو قول عامَّة أئِمَّتنا، وهو الصواب؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس» .
وقرأ بعضهم ذلك: بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح، كما يشير إليها الواقف، وفيه عسر كثير، قالوا: وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام، أو قبل كماله، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها.
ومنها: [إشراب] الكسرة شيئاً من الضمِّ [نحو قيل، {وَغِيضَ} [هود: 44] وبابه، وقد تقدم في أول سورة البقرة] .
ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر؛ كإشمام الصاد زاياً في {الصراط} [الفاتحة: 6] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ} [النساء: 87، 122] وبابهما، وقد تقدم في الفاتحة، والنساء، فهذا خلط حرف بحرف، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ.
ومنها: الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة، وإنما يراه البصير دُون الأعمى،(11/29)
وقرأ أبو جعفر: الإدغام الصَّريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك: بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل. وللمحافظة على حركة الإعراب، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء، أو الإشمام، كما تقدَّم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز: «لا تَأمُنَّا» بضم الميم، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها، بعد سلب الميم حركتها، وخط المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين، وابن وثَّابٍ: «لا تِيْمَنًّا» بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة.
قال ابو حيَّانك «ومجيئُه بعد» مَا لَكَ «والمعنى: يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي، وليس كقولهم:» ما أحْسَنًّا «في التعجُّبح لأنه لو أدغم، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي» .
قال شهاب الدِّين: وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي، حتى ينُصَّ عليه بقوله: «لالتبس بالنَّفْي الصحيح» .
فصل
هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يخافُهم على يُوسف، ولولا ذلك، لما قالوا هذا القول.
واعلم: أنَّهم لما أحكمُوا العزم، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف، ونهاية الشفقة عليه، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم، كان يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يحب تطيب قلب يوسف، فاغترَّ بقولهم، وأرسلهُ معهم حين قالوا له: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} والنُّصْح هنا: القيام بالمصلحة.
وقيل: البرُّ والعطف، أي: عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته، نحفظه حتَّى نردهُ إليك.
قيل للحسن: أيَحْسُد المُؤمن؟ قال: ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب، ولهذا قيل: الأب جلاَّبٌ، والأخ سَلاَّب، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال، وقالوا ليعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} .(11/30)
وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على راي المتكلِّم الثاني، عادوا إلى يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا هذا القول، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف، فأبى.
قوله: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} في: «يرْتَعْ ويَلعَبْ» أربع عشرة قراءة:
أحدها: قراءة نافع: بالياء من تحت، وكسر العين.
الثانية: قراءة البزِّي، عن ابن كثيرٍ: «نَرْتَعِ ونلعب» بالنُّون وكسر العين.
الثالثة: قراءة قنبل، وقد اختلف عليه، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً، وحذفها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان.
الخامسة: قراءة أبي عمرو، وابن عامر: «نَرتَعْ ونَلعَبْ» بالنُّون، وسكون العين، والباء.
السادسة: قراءة الكوفيين: «يَرْتَعْ ويَلعبْ» بالياء من تحت وسكون العين والباءِ.
وقرأ جعفر بن محمد: «نَرْتَعْ» بالنُّون، «ويَلْعَبْ» بالياء، ورُويت عن ابن كثيرٍ.
وقرأ العلاء بن سيابة: «يَرْتَعِ ويَلْعَبُ» بالياء فيهما، وكسر العين وضمّ الباء.
وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما.
والنخعي ويعقوبك «نَرْتَع» بالنون، «ويَلْعَب» بالياء.
وقرأ مجاهدٌ، وقتادةُ، وابن محيصِن: «يَرْتَعْ ويَلْعَب» بالياء، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي: «يُرْتَع ويُلْعَب» بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول.
وقرىء: «نَرْتَعِي ونَلْعَبُ» بثبوت الياء، ورفع الباء.(11/31)
وقرأ ابن أبي عبلة: «نَرْعَى ونَلْعَب» .
فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ.
فمن قرأ بالنُّون، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف.
سُئل أبو عمرو بن العلاء: كيف قالوا: نلعب وهم أنبياء؟ قال: كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن الأعرابي: الرَّتْع: الأكل بشدة، وقيل: إنه الخَصْبُ.
وقيل: المراد من اللَّعب: الإقدام على المُباحات، وهذا يوصف به الإنسان، كما رُوِي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال لجابر: «هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك» .
وقيل: كان لعبهم الاستباق، والغرض منه: تعليم المحاربة، والمقاتلة مع الكُفَّار، ويدلُّ عليه قولهم: «إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ» وإنما سمَّوه لعباً؛ لأنه في صُورة اللَّعِب.
وأما من قرأ بالياءِ، فقد أسند الفعل إليه دونهم، فالمعنى: أنه يبصر رَعْي الإبلِ؛ لتيدرَّب بذلك، فمرَّة يرتع، ومرَّة يلعب؛ كفعل الصِّبيان.
ومن كسر العين، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي، ومن سكن العين، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة، وجعلهُ مأخوذاً من: رَتَعَ يَرْتَعُ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال:
3058 - ... ... ... ... ... ... ..... وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ
ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً، ومن رفعها، جعله مرفوعاً على الاستئناف، أي: وهو يلعبُ، ومن غاير بين الفعلين، فقرأ بالباء من تحت في «يَلْعَب» دون «نَرْتَع» ؛ فلأن رَعْياً، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي، وأضافوه إلى أنفسهم؛ لأنه السَّبب، والمعنى: نرتع إبلنا، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم؛ لأنهم بالغون.
ومن قرأ: «نُرْتع» رُباعياً، جعل مفعُوله محذوفاً، أي: يَرْعى مَواشينا، ومن بناها للمفعول، فالوجه: أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله، وهو ضمير الغدِ، والأصل:
نُرْتَع فيه، ونُلعَبُ فيه، ثم اتسع فيه؛ فحذف حرف الجرِّ، فتعدى إليه الفعل بنفسه، فصار(11/32)
نُرْتعه ونَلْعَبُه، فلما بناهُ للمفعول، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه، فهو في الاتِّساع كقوله: [الطويل]
3059 - ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً..... ... ... ... ... ... ... .
ومن رفع الفعلين، جعلهما حالين، وتكون مقدَّرة، وأمَّا إثبات الياء في «نَرْتَعي» مع جزم «يَلْعَب» وهي قراءة قنبل، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها.
وقال ابن عطيَّة: هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر، وقيل: هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة، وأنشد:
3060 - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي..... ... ... ... ... ... ... . .
وقد تقدَّمت هذه المسألة.
و «نَرْتَع» يحتمل أن يكون وزنه: «نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى؛ كما تقدَّم، ويكون على حذف مضاف، أي: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء؛ قال: [الخفيف]
3061 - تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَارِ ... فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكون وزنه» نَفْعَل «من رَتَعَ يَرْتَع: إذا أقام في خصب وسعة، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى:» القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة «؛ وقال الشاعر: [الوافر]
3062 - أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي ... وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا
قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} جلمة حالية، والعاملُ فيها أحد شيئين: إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه.
فإن قيل: هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال؟ .
فالجواب: لا يجُوز ذلك؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار، والحالُ لا تضمر؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً، أو مؤولةً بها.
قوله: {أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} فاعل: «يَحْزُنُنِي» ، أي: يَحْزُننِي ذهابُكم، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة: أنَّ «أن تذْهَبُوا» مستقبل؛ لاقترانه بحرف الاستقبال، وهي وما في حيِّزها فاعل، فلو جعلنا «ليَحْزُنُنِي» حالاً، لزم سبق الفعل لفاعله، وهو(11/33)
مُحل وأجيبَ عن ذلك بإنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه، والتقدير: ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز، وابن محيصن: «ليَحْزُنِّي» بالإدغام.
وقرأ زيد بن علي: «تُذْهِبُوا بِهِ» بضم التَّاء من «أذْهَبَ» وهو كقوله: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] في قراءة من ضمَّ التَّاء، فتكون التاء زائدة أو حالية.
والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ، والكسائيُّ، وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا وهو مشتقٌّ من: تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ؛ لأنه يأتي كذلك، ويجمع على ذائب، وذُؤبان، وأذْؤبح قال: [الطويل]
3063 - وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ ... تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ
وأرضٌ مذْأبة: كثيرة الذِّئاب، وذُؤابةٌ الشَّعر؛ لتحرُّكها، وتقلبها من ذلك.
وقوله: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} : جملة حاليَّة، العامل فيها: «يَأكلهُ» .
فصل
لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين:
أحدهما: ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً.
والثاني: خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به.
فقيل: إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره، فألأجل هذا ذكر ذلك. وقيل: إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم، فلما قال بعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هذا الكلام، أجابوه بقولهم: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} وفائدة اللام في «لَئِنْ» من وجهين:
أحدهما: أن كلمة «إنْ» تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء، أي: إن وقعت هذه الواقعة، فنحن خاسرون، فهذه اللام خلت؛ لتأكيد هذا الاستلزام.
والثاني: قال الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ «هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم، [تقديره:] والله لئن أكلهُ الذئب، لكنَّا خاسرين» .
والواوُ في: «ونَحْنُ عُصْبَةٌ» واو الحال؛ فتكون الجملة من قوله: «وَنحْنُ عُصْبةٌ» : جملة حاليَّة. وقيل: معترضة، و {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} جواب القسم، و «إذاً» : حرف(11/34)
جواب، وحذف جوابُ الشرط، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً.
فصل
ونقل أبو البقاء: أنه قرىء «عُصْبَةً» بالنصب، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم: {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} وجوه: الأول: [عاجزون] ضعفاء، نظيره قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] أي: لعاجزون.
الثاني: أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار، وأن يقال: أخسرهُم الله، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ: عشرةٌ تعصب بهم الأمُور، تكفي الخطوب بمثلهم.
الثالث: إذا لم نقدر على حفظ أخينا، فقد هلكت مواشينا، وخسرنا.
الرابع: أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء، فقالوا: لو قصَّرنا في هذه الخدمة، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة.
فإن قيل: إنَّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ اعتذر بعذرين: شدة حبِّه، وأكل الذئب له، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر؟
فالجواب: أن حقدهم، وغيظهم كان بسبب المحبَّة، فتغافلوا عنه.(11/35)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} الآية: لا بُدَّ من الإضمار في هذه الآية في موضعين:
الأول: التقدير: قالوا: لئن أكلهُ الثئب ونحن عصبةٌ إنَّا إذاً لخاسرون فأذن له، وأرسله معهم، ثم يصتل به قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} .
الثاني: في جواب {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} أوجه:
أحدهما: أنه محذوف، أي: عرفناه، وأوصلنا إليه الطمأنينة، وقدره الزمخشريُّ: «فعلوا به ما فعلوا من الأذى» وقدره غيره: عظمت فتنتهم، وآخرون: جعلوه فيها، وهذا أولى؛ لدلالة الكلام عليه.
الثاني: أن الجواب مثبت، وهو قوله: {قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا} [يوسف: 17] أي: لمَّا كان كَيْتَ وكَيْتَ، قالوا. وفيه بعد؛ لبعد الكلام من بعضه.(11/35)
الثالث: أن الجواب هو قوله: «وأوْحَيْنَا» والواو فيه زائدة، أي: فلما ذهبوا به أوحينا، وهو رأي الكوفيين، وجعلُوا من ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] أي: تله، «ونَاديْنَاهُ» ، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] وقول امرىء القيس: [الطويل]
3064 - فَلَمَّا أحَزْنَا سَاحةَ الحَيِّ وانْتحَى ... بِنَا بَطْنُ حِقْفٍ [ذِي رُكامٍ عَقَنْقَلِ]
تقدم أي فلما أجزنا انتحى وهو كثيرٌ عندهم بعد «لمَّا» .
قوله: «أن يَجعلُوهُ» «مَفْعُول» «أجْمعَوا» أي: عزمُو على أن يجعلوه؛ لأنه يتعدَّى بنفسه، وب «عَلَى» فإنه يحتمل أن يكون على حذف الحرف، وألاّ يكون، فعلى الأول: يحتمل موضعه النصب والجرَّ، وعلى الثاني: يتعين النَّصب، والجمعل يجوز أن يكون بمعنى: الإلقاء، وأن يكون بمعنى: التَّصيير فعلى الأول: يتعلَّق في «غَيَابةِ» بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني: بمحذُوف، والفعل من قوله: «وأجْمَعُوا» يجوز أن يكُون معطوفاً على ما قبله، وأن يكُون حالاً، و «قَدْ» معه مضمرة عند بعضهم، والضمير في «إليْهِ» الظاهر عوده على يوسف، وقيل: يعود على يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقرأ العامَّة: «لتُنَبئَنَّهُمْ» بتاء الخطاب، وقرأ ابن عمر: بياء الغيبة، أي: الله سبحانه وتعالى.
قال أبو حيَّان: «وكذا في بعض مصاحف البصرة» وقد تقدَّم أن النقط حادث فإن قال: مصحف حادث غير مصحف عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فليس الكلام في ذلك.
وقرأ سلاَّم: «لنُنَبئَنَّهُمْ» بالنون، وهذا صفة لقولهم. وقيل: بدل. وقيل: بيان.
قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملة حالية، يجوز أن يكون العامل فيها «أوحينا» أي: أوحينا غليه من غير شعور إخوته بالوحي، وأن العامل فيها «لتُنَبئَنَّهُمْ» أي تخبرهم وهم لا يعرفونكم لبعد المدة وتغير الأحوال.
فصل
في المراد بقوله: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} قولان:
الأول: المراد منه الوحي والنبوة والرسالة، وهو قول أكثر المحققين، ثم اختلف هؤلاء في أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صابياً؟ .
قال بعضهم: كان بالغاً وكان ابن سبع عشرة سنة. وقال آخرون: كان صغيراً إلا أن(11/36)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين قالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29] فأجابهم بقوله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم: 30] .
والقول الثاني: أن المراد بهذا الوحي: الإلهام، كقوله {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] . والأول أولى؛ لأنه الظاهر من الوحي.
فإن قيل: كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟ .
فالجواب: لا متنع أن يشرفه الله تعالى بالوحي ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وزوال الغم والوحشة عن قلبه والفائدة في أخفاء ذلك [الوحي] عن إخوته: أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.
فصل
إنما حملنا كقوله تبارك وتعالى {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بأنك يوسف، أي: لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال، لأن هذا أمراً من الله تعالى ليوسف ف يأن يستر نفسه عن أبيه [وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه] طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه عليه خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى، فصبر على تجرع تلك المرارة، وكان الله سبحانه قد قضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليوصله إلى الدرجات العالية التي لا يمكن الوصل إليها إلا بتحصيل المحن الشديدة.
قوله
تعالى
: {وجآءوا
أَبَاهُمْ
عِشَآءً يَبْكُونَ} الآية في «عِشَاءً» وجهان:
أصحهما: وهو الذي لا ينبغي أن [يقال] غيره أنه ظرف، أي: ظرف زمان أي: جاءوا في هذا الوقت. قال أهل المعاني: جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. و «يَبْكُونَ» جملة حالية، أي: جاءوه باكين.
والثاني: أن يكون «عِشَاءً» جمع عاشٍ، كقَائِم وقِيَام.
قال أبو البقاء: «ويقرأ بضم العين، والأصل: عُشَاة، مثل: غازٍ وغزاة فحذفت(11/37)
الهاء وزيدت الألف عوضاً عنها، ثم قلبت الألف همزة» .
وفيه كلام قد تقدم في آل عمران عند قوله {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} [آل عمران: 156] .
ويجوز أن يكون جمع فاعل على فعال، كما جمع فَعِيل على فُعال، لقرب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنؤام ورباب وهو شاذ.
وهذه قراءة الحسن، وهو من العشْوة. والعُشْوَة: هي الظلام. رواه ابن جني «عُشَاءً» بضم العين وقال: عشوا من البكاء. وقرأ الحسن: «عُشاً» على وزن «دُحَى» نحو غازٍ وغُزاة، ثم حذفت منه تاء التأنيث [كما حذفوا تاء التأنيث من] «مَألِكَة» فقالوا: مَألِك، وعلى هذه الأوجه يكون منصوباً على الحال. وقرأ الحسن أيضاً: «عُشَيًا» مصغراً.
و «نَسْتَبْقُ» نتسابق. والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى، و «نَسْتَبِقَ» في محل نصب على الحال و «تَركْنَا» حال من نَسْتَبقُ و «قد» معه مضمرة عند بعضهم.
قال الزجاج: «يسابق بعضنا بعضاً في الرمي» ، ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ» يعنى بالنصل: الرمي وأصل السبق: الرمي بالسهم، ثم يوصف المتراميان بذلك، يقال: استبقا وتسابقا: إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق.
ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبد الله: «إنَّا ذَهبْنَا نَنْضِلُ» وقال السدي ومقاتل: «نَسْتبِقُ» نشتد ونعدو.
فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان فالجواب: أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو، وقوله «فأكلهُ الذِّئْبُ» قيل: أكل الذئب يوسف وقيل: عرَّضُوا، وأرادوا أكل الذئب المتاع، والأول أصح.
ثم قالوا: «ومَا أنْتَ بمُؤمٍ لنَا» ، أي بمصدق لنا. وقولهم «ولوْ كُنَّا صَادقينَ» جملة حالية، أي: ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له.
فإن قيل: كيف قالوا ليعقوب: أنت لا تصدق الصادقين؟ .(11/38)
قيل: المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر؛ لأنك خفتنا في الابتداء، واتهمتنا في حقه.
وقيل: المعنى لا تصدقنا؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} ، أي بمصدق.
روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت، فقال الشعبي: يا أبا أمية: أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.
قوله تعالى: {وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} الآية «علَى قَمِيصهِ» في محل نصب على الحال من الدم.
قال ابو البقاء: «لأن التقدير: جاءوا بدم كذب على قيمصه» . يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه.
قال: فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة «.
قلت: لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه» .
وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة، قد صحح جماعة جوازه؛ وأنشد: [الطويل]
3065 - ... ... ... ... ... ..... فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ
وقول الآخر: [الطويل]
3066 - لَئِنْ كَان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صَادِياً ... ِ إليَّ حَبِيباً إنَّها لَحبِيبُ
وقول الآخر: [الخفيف]
3067 - غَافِلاً تعْرِضُ المنِيَّةُ لِلمرْءِ ... فيُدْعَى ولاتَ حِينَ إبَاءُ
وقال الحوفيُّ: «علَى قَميصِهِ» : متعلقٌّ ب «جَاءُوا» ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مجيئهم لا يصلحُ أن يكُونَ على القَميصِ.
وقال الزمخشري: «فإن قلت:» عَلى قَميصِهِ «ما محلهُ؟ قلتُ: محلُّهُ النَّصب على [(11/39)
الظَّرفيةِ] ، كأنَّه قيل: وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ، كما تقولُ: جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال» .
قال أبو حيان: ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ «عَلَى» على الظرفية، بمعنى: فوق لأن العامل فيه إذ ذاك «جَاءُوا» وليس الفرق ظرفاً لهم [بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم] .
وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله: إنَّ «عَلَى» متعلقة ب: «جَاءُوا» .
ثمَّ قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو: [جاء] على جماله بإحمالٍ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجانئي؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل، ويكُونُ» بأحْمالٍ «في موضع الحالِ، أي: مصحوباً بأحمال» .
وقرأ العامَّةُ: «كَذبٍ» بالذَّال المعجمة، وهو من الوصفِ بالمصادرِ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ، نحو: «رَجُلٌ عدْلٌ» .
وقال الفراء، والمبرِّد والزجاج، وابن الأنباريِّ: «بدمٍ كذبٍ» ، أي: مكذُوبٍ فيه، إلا أنَّه وصف بالمصدر، جعل نفس الدَّم كذباً؛ للمبالغة، قالوا: والمفعُول، والفاعل يسميان بالمصدر، كما يقال: ماءٌ سكبٌ، أي: مسكوبٌ، والفاعل كقوله:
{إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] ، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل: المعقول، وللجلد: المجلُود، ومنه قوله تعالى: {المفتون} [القلم: 6] أو على حذف مضاف، إي: ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه.
وقرأ زيد بن عليٍّ: «كذِباً» بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني: مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة الحسنُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما] : «كّدِبٍ» بالدَّال المهملة.
قال صاحب اللَّوامحك «معناهُ: ذي كدب، أي أثر؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [أظافير الشبان] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض: الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر» .
وقيل: هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل: الطَّريُّ، وقيل: اليابس.
فصل
قال الشعبيُّ: قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا(11/40)
قميصه، ولطَّخوهُ بالدَّم، وعرضوه على أبيه، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 27 - 28] وقال: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا} [يوسف: 93] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه، وألقى على وجهه، فارتدَّ بصيراً.
قال القرطبِيُّ: «هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل: إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ» .
فصل
قال بعض العلماءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميس، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم: تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه.
فصل
استدلَّ العلماءُ بهذه [الآية] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ(11/41)
وغيرها، كما استدلَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت على كذكبهم بصحَّة القميص، فيجبُ(11/42)
على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [قال ابن الربي] ولا خلاف في الحكم بها.
فصل
قال محمد بن إسحاقَ: اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.
قال بعضُ العلماءِ: إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.
قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ} قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها: لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي: زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
والتَّسويلُ: تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه.
قال الأزهريُّ: «كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره» . وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز.
قال الزمخشري: «سوَّلتْ: سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْتْخَاءُ» .
وإذا عرفت هذا فقوله: «بَلْ» ردُّ لقولهم: «أكَلهُ الذِّبُ» كأنه قال: ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي: زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون.
واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل: عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخْرّقاً، قال: كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه. وعن السدي أنه قال: إنَّ يعقوب عليه السلام قال: إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه؟ .(11/43)
وقيل: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله اللصوصُ، فقال: كيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله، فلمَّا اختلفت أقوالهم؛ عرف بذلك كذبهم.
وقال القاضي: «لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ القميص صحيحاً؛ علم كذبهم» .
قال عند ذلك: «فصَبْرٌ جميلٌ» يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي: صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل. وقال قطربٌ: معناه فصبري صبرٌ جميلٌ.
وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ؟ .
وضابطه: أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في اصورةِ شعرٍ، قوله: [الطويل]
3068 - فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌ ... وإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ
وقول الشاعر: [الرجز]
3069 - يَشْكُو إِليًَّ جَملِي طُول السُّرى ... صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى
ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم.
وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر: «فَصْبراً جَمِيلاً» نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ: أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال: اصْبرِي يا نفسُ صبراً.(11/44)
وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ، والنَّصب على ما تقدَّم، والأمرُ فيه ظاهرٌ.
فصل
روى الحسنُ قال: سُئل النبيٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله «فَصبْرٌ جميلٌ» فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ» ، ويدلُّ على ذلك قوله: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] وقال مجاهدٌ «فَصبرٌ جَمِيلٌ» ، أي: من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ: «من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ» .
وقال ابنُ الخطيبِ: «وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم» .
ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان عالماً بأنه حي؛ لأنَّهُ قال له: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] . الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.
وأيضاً: فإنَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً.
فالجواب أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً: لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً:(11/45)
لعلَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ علم أنَّ الله ت تبارك وتعالى سيصون يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن البلاءِ والمحنةِ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده، وإلقائهم في ألسنةِ النَّاس وذلك لأنَّ أحَد الولدينِ إذا ظلم أخاه، وقع أبوه في العذابِ الشَّديدِ؛ لأنه إذا لم ينتقمْ؛ يحترق قلبه على الولد المظْلُوم، وإن انتقم، احترق قلبه على الولدِ المُنتقَم منه، فلمَّا وقع يعقوب في هذه البلية رأى أنَّ الأصوب الصَّبرُ، والسُّكونُ، وتفويضُ الأَمْرِ بالكُليَّةِ إلى اللهِ تعالى.
فصل
قال ابنُ رفاعة «ينبغي لأهل الرَّاي أن يتَّهِمُوا رأيهم عند ظنّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهو نبيٌّ حين قال له بنوه: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب} [يوسف: 17] فقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف: 18] فأصاب هنا، ثمَّ لما قالوا له: {إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] ، قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} [يوسف: 83] فلم يُصِبْ» .
فصل
قوله: «فَصْبرٌ جَميلٌ» يدل على أنَّ الصّبر قسمان:
أحدهما: جميلٌ، والآخر: غيرُ جميلٍ، فالصَّبرٌ الجميلُ هو: أن يعرف أنَّ مُنزِّلَ ذلك البلاء هو الله تعالى ثمَّ يعلم أنَّهُ سبحانه مالكُ المُلكِ، ولا اعتراض على المالكِ في أنْ يتصرَّف في ملكه، فيصيرُ استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً من الشِّكايةِ.
وأيضاً: يعلمُ أن منزِّل هذا البلاءِ حليمٌ لا يجهلُ، عالمٌ لا يغفلُ، وإذَا كان كذلك، فكان كلُّ ماصدر عنه حكمةً وصواباً، فعند ذلك يسكتُ ولا يعترضُ.
وأمَّا الصَّبرُ غير الجميل: فهو الصَّبرُ لسائر الأغراض، لا لأجل الرِّضا بقضاءِ الله سبحانه وتعالى والضَّابطُ في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات: أنه لكما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا.
ثم قال: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} أي: استعين بالله على الصَّبر على ما تكذبون.(11/46)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} [الآية: 19] واعلم أنه تعالى بيَّن(11/46)
كيف السَّبيلُ في خلاصِ يوسف من تلك المحنةِ فقال: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} . قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أي قوم يسيرون من مدْين إلى مِصْرَ فأخطئوا الطريق، وانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرضٍ فيها جُبُّ يوسف، وكان الجبُّ في قَفْرٍ بعيدٍ من العمرانِ لم يكن إلاّ للرُّعاةِ. وقيل: كان ماؤه مِلْحاً، فعذُبَ حين ألقي يوسفُ فيه، وأرسلوا واردهم الذي يردُ الماء ليستقي للقوم قال القُرطبيُّ: «فأرسَلُواْ وَارِدهُمْ» ذكَّر على المعنى، ولو قال: فأرسلت واردها؛ لكان على لفظ «وجَاءَتْ» . والوَارِدُ: هو الذي يتقدَّمُ الرُّفقة إلى الماءِ فيهىء الأرْشيةَ، والدَّلاء، وكان يقال له: مالكُ بنُ دعر الخُزاعِيُّ «.
قوله: {فأدلى دَلْوَهُ} يقال: أدلَى دلوهُ، أي: أرسلها في البِئْرِ، ودلاَّها إذا أخرجها ملأى؛ قال الشاعر: [الرجز]
3070 - لا تَقْلُواهَا وادْلُواهَا دَلْوَا ... إنَّ مَعَ اليَومِ أخاهُ غَدْوَا
يقال: أدْلَى يُدْلِي إدْلاءً: إذا أرسل، وَدلاَ يَدلُوا دَلْواً: إذا أخرج وجذبَ، والدَّلوُ معروفةٌ، وهي مؤنثةٌن فتصغَّرُ على» دُليَّةِ «، وتجمع على دلاءٍ، أدلٍ والأصلُ: دِلاوٌ، فقلبت الواو همزة، نحو» كِسَاء «، و» أدلوٌ «، فأعلَّ إلال قاضٍ و» دُلُوو «بواوين، فقلبا ياءين، نحو» عِصِيّ «.
قوله:» يَابُشْرَايَ: ههنا محذوف، تقديره: فأظهروا يوسف، قرأ الكوفيون بحذف ياء الإضافة، وأمال ألف «فُعْلَى» الأخوانِ وأمالها ورشٌ بين بين على أصله، وعن أبي عمرو الوجهان، ولكن الأشر عنه عدمُ الإمالةِ، وليس ذلك من أصله عن ما قُرِّر في علم القراءاتِ، وقرأ الباقون «يَا بُشْرَاي» مضافة إلى ياء المتكلِّم.
فصل
في قوله: «يابشراي» قولان:
الأول: أنَّها كلمةٌ تذكَّر عند البشارةِ، كقولهم: يا عجبا من كذا، وقوله: {ياأسفا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] وعلى هذا القول ففي تفسير النِّداء وجهان:(11/47)
الأول: قال الزجاج «معنى النِّداء في هذه الأشياء: تنبيه المخاطلبين، وتوكيد القصَّة، فإذا قلت: يا عجباهُ، فكأنك قلت: أعْجَبُوا.
الثاني: قال أبو عليٍّ:» كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقت، ولو كنت ممَّن يخاطب لخوطبت، ولأمرت بالحضورِ «.
واعلم أنَّ سبب البشارةِ: أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن فقالوا: نَبيعهُ بثَمنٍ عظيم، ويصيرُ ذلك سبباً للغناءِ.
والقول الثاني: قال السديّ: الذي نادى كان اسمُ صاحبهِ بُشْرَى فناداه فقال: يا بُشْرَاي، كما تقول:» يَا زْيْدُ «.
وعن الأعمش أنه قال: دعا امْرأةً امسها بُشْرَى.
قال أبو علي الفارسيُّ إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة، وهو الوجه؛ جاز أن يكون في محلّ الرفع، كما قيل:» يَا رجُلُ «لاختصاصه بالنِّداء، وجاز أن يكون موضع نصب على تقدير: أنه جعل هذا النِّداء شائعاً في جنس البشرى، ولم يخص كما تقول: يا رجُلاً،
و {ياحسرة
عَلَى العباد} [يس: 30] .
وقرأ ورش عن نافع: «يَا بُشْرَايْ» بسكون الياء، وهو جمع بين ساكنين على غير حدِّه في الوصل، وهذا كما تقدم في {عَصَايَ} [طه: 18] وقال الزمخشري: «وليس بالوجهِ، لما فيه من التقاءِ السَّاكنين على غير حدِّه إلاَّ أن يقصد الوقف» .
وقرأ الجحدريُّ، وابن أبي إسحاق، والحسن: «يَا بُشْرَيَّ» بقلب الألف ياءً وإغامها في ياء الإضافة، وهي لغة هُذليَّةٌ، تقدم الكلام عليها في البقرة عند قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] .
وقال الزمخشري: «وفي قراءة الحسن:» يَا بُشْرَيَّ «بالياء مكان الألف جعلت الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغةٌ للعرب مشهورةٌ، سمعت أهل السروات في دعائهم يقولون: يا سيِّديَّ، وموليَّ» .(11/48)
قوله: «وأسَرُّوهُ» الظَّاهرُ أن الضمير المرفوع يعود على السَّيَّارة، وقيل: هو ضمير إخوته، فعلى الأول: أن الوارد، وأصحابه أخفوا من الرفقةِ أنهم وجدوهُ في الجبّ، وقالواك إن قلنا للسَّيَّارة التقطناه شاركونا، وإن قلنا: اشتريناه سألونها الشّركة، فلا يضرُّ أن نقول: إنَّ أهل الماءِ جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه بمصر.
وعلى الثاني: نقل ابنُ عبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «وأسَرُّوهُ» يعني إخوة يوسف أخفوا كونه أخاهم، بل قالوا: إنَّهُ عبدٌ لنا أبقَ منا، ووافقهم يوسف على ذلك؛ لأنهم توعَّدوهُ بالقتلِ بلسانِ العِبرانيَّةِ.
و (بضاعَةً) نصب على الحال. قال الزَّجَّاج كأنه قال: «وأَسرّوه حال ما جعلُوه بضاعةً» ، وقيل: مفعول ثانٍ على إن يُضَمَّن «أَسَرُّوهُ» معنى صَيَّروه بالسِّرِّ.
والبضاعة: هي قطعةٌ من المالِ تعدُّ للتَّجارة من بضعت، أي: قطعت ومنه: المبضعُ لما يقطع به.
ثم قال: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} والمعنى: أنَّ يوسف لما رأى الكواكبَ والشمس، والقمر في النَّوم سجدتْ له، وذكر ذلك؛ حسده إخوته، فاحتالُوا في إبطال ذلك الأمر عليه، فأوقعوه في البلاءِ الشَّديد، حتى لا يتم له ذلك المقصود؛ فجعل الله تعالى وقوعه في ذلك البلاءٍ سبباً لوصوله إلى «مِصْرَ» ، ثمَّ تتابع الأمرُ إلى أن صار ملك مصر، وحصل ذلك الذي رآه في النَّوم، فكان العملُ الذي عمله إخوته دفعاً لذلك المطلوب، صيَّره الله سبباً لحصولِ ذلك المطلوب، ولهذا المعنى قال: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .
قوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} شَرَى بمعنى اشترى، قال الشاعر: [الطويل]
3071 - ولَوْ أنَّ هَذَا المَوْتَ يَقبَلُ فِذْيةً ... شَرَيْتُ أبَا زيْدٍ بمَا مَلكتْ يَدِي
وبمعنى: باع؛ قال الشاعر: [مجزوء الكامل]
3072 - وشَريْتُ بُرْداً ليْتَنِي ... مِنْ بعْدِ بُردٍ كُنْتُ هَامَهْ
فإن قلنا: المراد من الشِّراء نفس الشراءِ، فالمعنى: أنَّ القوم اشتروه، وكانوا فيه من الزَّاهدينَ؛ لأنهم علموا بقرائن الأحوال أنَّ إخوة يوسف كذبُوا في قولهم: إنَّهُ عبدُ لنا، وأيضاً عرفوا أنَّه ولدُ يعقوب، فكرهوا أيضاً شراءه؛ خوفاً من الله تعالى من ظهور تلك الواقعة، إلاَّ أنَّهُم مع ذلك اشتروه بالآخة؛ لأنُّهُم اشتروه بمثنٍ بخسٍ، وطمعوا(11/49)
في بيعه بثمن عظيمٍ، ويحتملُ أن يقال: إنهم اشتروه مع أنهم أظهرُوا من أنفسهم كونهم فيه من الزَّاهدين، وغرضهم أن يتوصَّلُوا بذلك إلى تقلل الثَّمن، ويحتمل أن يقال: إنَّ الإخوة لما قالوا: إنه عبدٌ أبق منا صار المشتري عديم الرغبة فيه.
قال مجاهدُ رَحِمَهُ اللَّهُ كانوا يقولون: لئلا يأبق.
وإن قلنا: إنَّ المراد من الشِّراء البيع ففي ذلك البائع قولان:
الأول: قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما إنَّ إخوة يوسف لمَّا طرحوه في الجبّ، ورجعوا عادوا بعد ثلاثٍ يتعرَّفُونَ خبره، فلمَّا لم يروه في الجبّ، ورأوا آثار السَّيارة طلبوهم، فلمَّا رأوا يوسف قالوا:: هذا عبدٌ لنا أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منَّا، فباعوه منهم، وإنَّما وجب حملُ الشِّراء على البيع؛ لأن الضمير في قوله: «وشَرَوْهُ» وفي قوله: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} عائدٌ إلى شيءٍ واحدٍ، وإذا كان كذلك فهم باعوه؛ فوجب حملُ الشراء على البيع.
والثاني: أن بائع يوسف هم الَّذين اسْتَخْرجُوه من الجُبّ.
وقال محمد بن إسحاق: وربُّك أعلمُ أإخوته باعوه، أم السيارة؟ .
والبَخْسق: النَّاقصُ، وهو في الأصل مصدرٌ، وصف به مبالغة.
وقيل: هو بمعنى مفعولٍ، و «دَراهِمَ» بدلٌ من «بِثَمَنٍ» ، و «فِيهِ» متعلق بما بعده، واغتفر ذلك للاتِّساعِ في الظروف، والجار، أو بمحذوف وتقدم [البقرة: 130] مثله.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاثٍ:
إحداها: كونه بخساً، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريدُ حراماً؛ لأنَّ ثمن الحُرَّ حرامٌ، وقال: وكلٌّ بخس في كتابِ اللهِ نقصان إلاَّ هذا فإنهُ حرامٌ.
قال الواحدي: «سمي الحرامُ بخساً؛ لأن ناقصُ البركة» .
وقال قتادة: بخس: ظلم، والظُّلمُ نقصان، يقال: ظلمهُ، أي: نقصهُ وقال عكرمةُ والشعبيُّك قليل. وقيل: ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل: كانت الدَّراهمُ زيوفاً ناقصة العيارِ.(11/50)
قال الواحديُّ: وعلى الأقوال كُلِّها، فالبخسُ مصدرٌ وقع موصع الاسمِ، والمعنى: بثمنٍ مبخُوسٍ.
وثانيها: قوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} قيل: تعدُّ عدًّا، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية، وهي أربعون ويعدُّون ما دونها. فقيل للقليل معدودٌ، لأن الكثير لا يعدُّ لكثرته، بل يوزن قال ابن عباسٍ، وابنُ مسعود، وقتادةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: كانت عشرين درهماً، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا، فإنَّه لم يأخذ شيئاً.
الثالث: أن الذين اشتروه كانوا فيه مِنَ الزَّاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال.
وقال مجاهدٌ والسديُّ: اثنين وعشرين درهماً.
فإن قيل: إنَّهم لما ألقوه في الجبِّ حسداًن فأرادوا تضييعه عن أبييه، فلمَ باعوه؟ .
فالجواب: أنَّهم لعلَّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره، فيردوه إلى أبيه، لأنَّه كان أقرب إليهم من مصر.
فإن قيل: هب أنَّهم أرادوا ببيعه أيضاً تبعيده عن أبيه؛ فلمَ أحلَّ له أخذ ثمنه «.
فالجواب: أن الذي اشترى يوسف كان كافراً، وأخذُ مالِ الكافرِ حلالٌ.
وثالثها: قوله: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} ومعنى الزُّهد: قلَّة الرغبة، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله من القلَّة، يقال: رجلٌ زهيدٌ، إذا كان قليل الجِدةِ، وفيه وجوه:
الأول: أنَّ إخوة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ باعوه؛ لأنهم كانوا فيه من الزَّاهدينَ
الثاني: أنَّ السيَّارة كانُوا فيه من الزَّاهدين؛ لأنَّهم التَقطُوهُ، والملتَقِطُ يتهاونُ، ولا يباللاي بأي شيءٍ يباعُ، أو لأنَّهُم خافوا أن يظهر المستحق، فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان.
والضمير في قوله:» فِيهِ «يحتمل أن يعود إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثَّمن البَخْسِ.
فصل
قال القرطبيُّ:» في الآية دليلٌ على شراءِ الشَّيء الخطيرِ بالثَّمنِ اليسير، ويكونُ البيع لازماً «.(11/51)
قوله: {وَقَالَ الذي اشتراه} [الآية: 21] اعلم أنَّه ثبت أنَّ الذي اشتراه [إما] من الإخوة، وما من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه.
قيل: إن الذي اشتراه هو العزيزُ، كان اسمه» قطفير «، وقيل: إطْفيرُ الذي يلي خزائن مصر، والملك يومئذ: الرَّيَّان بنُ الوليدِ، رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف، ومات في حياةِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لما دخلوا مِصْر تلقَى العزيز مالك بن دعرٍ فابتاع منه يوسف، وهو ابنُ سبع عشرة سنة، [وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبْع عشرة سَنَة] ، واستوزره الرَّيان، وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه اللهُ العِلم، والحُكم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي، وهو ابنُ مائة وعشرين سنة.
وقال الذي اشتراهُ من مصر لا مرأته قيل: كان اسمها زليخا وقيل:» راعيلُ «. قال ابن كثير:» الظّاهرُ أنَّ زليخا لقبها «.
قوله:» مِنْ مِصرَ «يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله، أي: اشتراه من مصر، كقوله: اشْتَريْتُ الثَّوب من بغداد، فهي لابتداء الغايةِ، وقول أبي البقاءِ: أي:» فيها، أو بها «لا حاجة إليه.
والثاني: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في:» اشْتراهُ «فيتعلق بمحذوفٍ أيضاً.
وفي هذين نظرٌ؛ إذ لا طائل في هذا المعنى.
و» لامْرَأتهِ «متعلقٌ ت ب» قَالَ «فهي للتبليغ، وليست متعلقة ب» اشْتراهُ «.
قوله: «أكْرمِي مَثوَاهُ» ، أي: منزله، ومقامه عندك، من قولك: ثويتُ بالمكان، إذا أقمت فيه، ومصدره الثَّواء، والمعنى: اجعلي منزلته عندك كريماً حسناً مرضيًّا، بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] قال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواهُ دون إكرام نفسه، يدلُّ على أنه كان ينظرُ إليه على سبيل الإجلال، والتعظيم.
{عسى أَن يَنفَعَنَآ} أي: نبيعه بالرِّبح إذا أردنا بيعه، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} نَتبنَّاهُ.
قال ابن مسعودٍ: «أفرْسُ النَّاس ثلاثة: العزيزُ في يوسف حيثُ قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ} [يوسف: 21] وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26] ، وأبو بكر في عمر حين استخلفه» .(11/52)
قوله: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} الكاف كما تقدم في نظائره حالٌ من ضمير المصدر، أو نعتٌ له، أي: ومثل ذلك الإنجاء من الجبّ والعطف مكَّنا له، أي: كما أنجيناه، وعطفنا عليه العزيز مكَّنا له في أرض مصر، أي: صار متمكناً من الأمرِ والنهي في أرض مصر، وجلعناه على خزائنها.
قوله: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} وهي تعبير الرُّؤيا. واللام في «ولنُعَلِّمُه» فيها أوجه:
أحدها: أن تتعلقَّق بمحذوف قبله، أي: وفعلنا ذلك لنعلمه.
والثاني: أنها تتعلَّق بما بعده، أي: ولنعلمه، فعلنا كيت، وكيت.
[الثالث: أن يتعلَّق ب «مَكَّنَّا» على زيادة الواو] .
قوله: {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} الهاء في «أمْرهِ» يجوز أن تعود على الجلالةِ أي: أنه تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] لا يغلبه شيءٌ، ولا يردُّ حكمهُ رادٌّ، لا دافع لقضائه، ولا مانع من حكمه في أرضه، وسمائه. ويجوز أن تعود على يوسف، أي: أنه يدبره، ولا يكله إلى غيره، فقد كادوه إخوته، فلم يضروه بشيء {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أنَّ الأمر كله بيد الله.(11/53)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} الآية لما بيَّن تعالى أن إخوته لمَّا أساءوا إليه ثمَّ صبر على تلك الإساءة، والشَّدائد مكَّنهُ اللهُ في الأرض، ثم لما بلغ أشدهُ آتاه اللهُ الحكم، والعلم، والمقصود أن جميع ما قام به من النِّعمِ كان جزاء على صبره.
قوله: «أشدَّهُ» فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قولُ سيبويه: أنَّهُ جمع مفرده شدَّة، نحو نعمة وأنعم.
الثاني: قول الكسائي أنَّ «أشدّه» مفردة: «شدَّ» بزنة «فعل» نحو: «صَكَّ» ، وأصكَّ «ويؤيدهُ قول الشاعر: [الكامل]
3073 - عَهْدِي بِهَا شدَّ النَّهارُ كأنَّما ... خُضِبَ البَنَانُ ورَأسهُ بالعِظْلِم
والثالث: أنه جمعٌ لا واحد له من لفظه، قاله أبو عبيدة، وخالفه الناس في ذلكن وقد سمع» شدَّه وشُدَّ «وهما صالحانِ له، وهو من الشدِّ، وهو الرَّبطُ على الشيء، والعقد عليه.(11/53)
قال الراغب: وقوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف: 15] فيه تنبيهٌ على أنَّ الإنسان، إذا بلغ هذا القرار استوى خلقه الذي هو عليه، فلا يكادُ يزايله، ما أحسن ما [نبه له] الشاعر حين قال: [الطويل]
3074 - إذَا المَرْءُ وافَي الأرْبعينَ ولمْ يَكُنْ ... لَهُ دُونَ ما يَهْوَى حَياءُ ولا سِتْرُ
فَدعْهُ ولا تَنفِسْ عَليْهِ الَّذي مَضَى ... وإنْ جَرَّ أسَبابَ الحَياةِ لهُ العُمْرُ
والأّشدَّ: منتهى شبابه، وشدَّته، وقوَّته. قال مجاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ثلاثاً وثلاثين سنة. وقال السديُّ: ثلاثين سنة وقال الضحاكُ:» عشرين سنة «وقال الكلبيُّ: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة.
وسئل مالكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن الأشد قال: هو الحلم، وقد تقدَّم الكلامُ على الأشد في سورة الأنعام عند قوه: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] .
قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} فالحُكْمُ: النبوةُ، والعلمُ: التفقَهُ في الدِّين، وقيل: يعني: إصابة في القول، وعلماً [بتفاصيل] الرُّؤيا. وقيل: الفرقُ بين الحكيمِ والعالمِ: أن العالم هو الذي يعلم الأشياء، والحكيمُ: الذي يَحكمُ بما يوجبه العلمُ.
قوله:» وكَذِلكَ «إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضمير المصدر، وتقدَّم نظائره.
{نَجْزِي المحسنين} قال ابنُ عبًّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المؤمنين، وعنه أيضاً: المهتدين. وقال الضحاك: الصَّابرين على النَّوائب كما صبر يوسفُ.(11/54)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} [الآية: 23] أعلم أنَّ يوسف عليه الصلاةوالسلام كان في غاية الجمال، فملا رأته المرأةُ؛ طمعت فيه.
«وَرَاوَدتْهُ» ، أي طالبته برفقٍ ولين قول، والمُاردودَةُ: المصدرُ، والرِّيادةُ: طلب النِّكاح، يقال: وَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها، وراودته عن نفسه، إذا حاول كُلُّ واحدٍ منها الوطء، ومشى رويداً، أي: برفقٍ في مِشْيتهِ، والرَّودُ: الرِّفقُ في الأمورِ، والتَّأنِّي فيها، وراودت المرأةُ في مشيها ترودُ رَوَدَاناً من ذلك.
والمِرْودةٌ هذه الآية منه، والإرادة منقوله من رَادَ يَرُودُ إذا سعى في طلب حاجة، وتقدَّم ذلك في البقرة: [26] .
وتعدى هنا ب «عَنْ» لأنه ضمن معنى خادعتهُ، أي: خادعته عن نفسه، والمفاعلة هنا من الواحدِ، نحو: داويت المريض، ويحتملُ أن تكون على بابها، فإنَّ كلاًّ منهما كان يطلبُ من صاحبه شيئاً برفق، هي تطلبُ منه الفعل، وهو يطلبُ منها التَّرْكَ.
والتشديدُ في «غَلّقتْ» للتكثير لتعدُّدِ المحالِّ، اي: أغلقت الأبواب وكانت سبعةً.
قال الواحدي: «وأصل هذا من قولهم في كلِّ فعل تشبث في شيء فلزمه قد غلق، يقال: غلق في الباطل، وغلق في غضبه، ومنه غلق الرهن ثم يعدى بالألف، فيقال: أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه، والسبب في تغليق الأبواب أنَّ [هذا الفعل] لا يُؤتى به إلاَّ في المواضع المستُورةِ لا سيَّما إذا كان حراماً، ومع الخوف الشديد» .
قوله: «هَيْتَ لَكَ» اختلف أهلُ النَّحو في هذه اللفظة، هل هي عربيةٌ أم معربةٌ؟ .(11/55)
فقيل: معربةٌ من القبطيَّة بمعنى: هلمَّ لك، قاله السديُّ. وقيل: من السِّريانيَّة، قاله ابن عبَّاس، والحسن. وقيل: من العبرانية، وأصلها: هَيْتَلخَ أي: تعاله فعربه القرآن، قاله أبو زيدٍ الأنصاري. وقيل: هي لغة حورانيَّة وقعت [إلى أهل] الحجاز، فتكلموا بها، معناها: تعالى، قاله الكسائي والفراء، وهو منقولٌ عن عكرمة. والجمهور على أنَّها عربيةٌ.
قال مجاهدٌ: هي كلمةٌ حثِّ، وإقبال. ثمَّ هي في بعض اللغات تتعيَّن فعلتيها وفي بعضها اسميتها، وفي بعضها يجوز الأمران كما ستعرفه من القراءات المذكورة فيها.
فقرأ نافع، وابن ذكوان: «هِيْتَ» بكسر الهاءِ، وسكون الياءِ، وفتح التَّاء.
وقرأ ابن كثير «هَيْتَ» بفتح الهاء، وسكون الياء، وتاء مضمومة. وقرأ هشام «هِئْتُ» بكسر الهاء، وهمزة ساكنة، وتاء مفتوحة، أو مضمومة. وقرأ الباقون: «هَيْتَ» بفتح الهاء، وياء ساكنة، وتاء مفتوحة. فهذه خمسُ قراءاتٍ في السَّبعِ.
وقرأ ابن عباسٍ، وأبو الأسود، والحسنُ، وابن محيصن بفتح الهاء، وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس: أنه قرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة.
وقرأ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أيضاً: «هُيِيْتُ» بضمِّ الهاءٍ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة «حُيِيْتُ» .
وقرأ زيد بن علي، وابن إبي إسحاق: بكسر الهاء، وياء ساكنة، وتاء مضمومة، فهذه أربع قراءات في الشاذ، فصارت تسع قراءات.
وقرأ السلمي، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً، يعنى تهيأت لك، انكره أبو عمرو، والكسائي، ولم يحك هذا عن العرب، فيتعين كونها اسم فعلٍ في غير قراءة ابن عبَّاس «هُيِيْتُ» بزنة، «حُيِيْتُ» وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كمان ذلك بالياء، أم بالهمز، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفاً، نحنو: أين، وكيف، ومن ضمَّها كابن كثيرٍ شبهها ب «حَيْثُ» ، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ك: «جَيْر» ، وفتح الهاء، وكسرها لغتان، ويتعيَّن فعليتها في قراءة ابن عبَّاس «هُيِيْتُ» بزنة: «حُيِيْتُ» فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلِّم من «هَيَّاتُ الشَّيءَ» .(11/56)
ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء، وضمَّ التاء، فتحتمل أن تكون فيه أسم فعل [بنيت على] الضم، ك «حَيْثُ» ، وأن تكون فعلاً مسنداً لضمير المتكلم، من: هاء الرَّجل يَهيءُ، ك «جَاء يَجِيءُ» ، وله حينئذ معنيان:
أحدهما: أن يكون بمعنى: حسنت هيئته.
والثاني: أن يكون بمعنى تَهَيَّأ، يقال: «هَيُئْتُ، أي: حَسُنَتْ هَيْئتي، أوْ تَهَيَّأتُ.
وجواز أبو البقاءِ: أن تكون» هِئْتَ «هذه من:» هَاءَ يَهَاءُ «ك» شَاءَ يَشَاءُ «.
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام الَّتي بالهمز، وفتح التَّاء، فقال الفارسي: يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهماً من الراوي؛ لأنَّ الخطاب من المرأة ليوسف، ولم يتهيَّأ لها بدليل قوله:» وَرَاودَتْهُ «، و» أنِّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ «، وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بنُ أبي طالب:» يجبُ أن يكون اللفظ «هِئْتَ لي» أي: تهَيَّأتْ لِي، ولم يقرأ بذلك أحدٌ، وأيضاً: فإنَّ المعنى على خلافه؛ لأنَّه [لم يزل] يفرُّ منها، وتباعد عنها، وهي تراوده، وتطلبه، وتقدُّ قميصهن فكيف تخبر أنه تهيأ لها؟ «.
وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى: تهيأ لي أمرك لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هَيْأتُكَ. أو» لَكَ «متعلق بمحذوف على سبيل البيانِ، كأنها قالت: القول لك، أو الخطاب لك، كهي في» سَقْياً لَكَ ورَعْياً لَكَ «.
قال شهابُ الدِّين:» واللاَّم متعلقة بمحذوف على كلِّ قراءة إلاَّ قراءة ثبت فيها كونها فعلاً، فإنَّها حينئذ تتعلق بالفعل، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر «.
وقال أبو البقاءِ: «والأضبهُ أن تكون الهمزةُ بدلاً من الياءِ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً، لأن ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» . وهو فاسدٌ لوجهين:
أحدهما: أنَّهُ لم يَتهيَّأ لها، وإنَّما تَهيَّأت لهُ.
الثاني: أنه قال: «لَكَ، ولو أراد الخطاب لقال:» هِئْتَ لي «، وتقدم جوابه وقوله:» إنَّ الهمزة بدلٌ من الياء «. هذا عكس لغة العرب، إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة السَّاكنة ياء إذا انكسر ما قبلها، نحو:» بِير «و» ذِيب «ولا يقبلون الياء المكسور ما قبلها همزة، نحو: مِيل، ودِيك، وأيضاً: فإنَّ غيرهُ جعل الياء الصَّريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع، وابن ذكوان محتملة؛ لأن تكون بدلاً من الهمزة، قالوا فيعودُ الكلامُ فيها، كالكلام في قراءة هشامٍ.(11/57)
واعلم أنَّ القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشامٍ، وأمَّا ضمُّ التاء فغير مشهورٍ عنه.
ثمَّ إنَّهُ تعالى أخبر أنَّ المرأة لما ذكرت هذا الكلام، قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} » مَعاذَ اللهِ «منصوب على المصدر بفعل محذوفٍ، أي: أعوذُ بالله معاذاً، يقالُ: عَاذَ يعُوذُ عِيَاذاً [وعِيَاذةً] ، ومعاذاً، وعوْذاً؛ قال: [الطويل]
3075 - مَعاذَ الإلهِ أن تكُونَ كَظبْيةٍ ... ولا دُمْيةٍ ولا عَقِيلةِ ربْرَبِ
قوله» إنَّهُ «يجوز أن تكون الهاء ضمير الشَّأن، ما بعده جملة خبرية له، ومراده بربه: سيِّده، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى، و» ربِّي «يحتمل أن يكون خبرها، و» أحسنَ «جملةٌ حاليةٌ لا زمةٌ، وأن تكون مبتدأ،» وأحْسنَ «جملة خبرية له، والجلمة خبر ل» أنَّ «وقرأ الجحدريُّ، وأبو الطفيل الغنوي» مَثْويَّ «بقلب الألف ياء، وإدغامها ك» بُشْرَيَّ «و» هُدَيَّ «.
و: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} هذه الهاء ضمير الشأن ليس إلاَّ؛» فعلى قولنا: إنَّ الضمير في قوله: {إِنَّهُ ربي} يعود إلى زوجها قطفير، أي: إنه ربِّي سيِّدي، ومالكي أحسن مثواي حين قال لها: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} ، فلا يليقُ بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة وقيل: إنها راجعةٌ إلى الله تبارك وتعالى أي: أنَّ الله ربي أحسن مثواي، أي: تولاَّنِي، ومن بلاء الجبّ عافاني: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} يعني: إن فعلتْ هذا فخنته في أهله بعدما أكرم مثواي، فأنا ظالمٌ، ولا يفلحُ الظالمُونَ.
وقيل: أراد الزناةح لانهم ظالمون لأنفسهم؛ لأنَّ عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه.
فصل
ذكر ابنُ الخطيبِ هاهنا سؤالات:
الأول: أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان حراً، وما كان عبداً، فقوله: {إِنَّهُ ربي} يكون كذباً، وذلك ذنبٌ وكبيرة.
والجواب: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر على وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً.
وأيضاً: إنَّه ربه، وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة، فعنى بقوله: {إِنَّهُ ربي} كونه مربياً(11/58)
وهو من باب المعاريض الحسنةٍ، فإنَّ الظَّاهرِ يحملونه على كونه ربًّا، وهو كأنه يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه.
السؤال الثاني: ذكر يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الجواب في كلامه ثلاثة أشياء:
أحدها: قوله: «مَعَاذ اللهِ» .
والثاني: قوله: {إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} .
والثالث: قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} فما وجه تعلُّق هذه الجوابات بعضها ببعض «.
والجواب: هذا الترتيب في غاية الحسنح لأن الأنقياد لأمر الله تعالى وتكاليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه، ألطافه في حق العبدِ، فقوله: {مَعَاذَ الله} إشارة أنَّ حقَّ اللهِ يمنعُ من هذا العملِ.
وأيضاً: حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي، فيثبحُ معاملة [إنعامه] بالإساءة.
وأيضاً: صونُ النَّفسِ عن الضَّرر واجب، وهذه اللذَّة قليلة، ويتبعها خزيٌ في الدُّنيا وعذابٌ في الآخرة، وهذه اللذَّة القليلة إذا تبعها ضررٌ شديدٌ؛ ينبغي تركها والاحتراز عنها، لقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} فهذه الجواباتُ الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه: التريب.
السؤال الثالث: هل يدلُّ قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» مَعاذَ اللهِ «على صحَّةِ القضاء والقدر؟ .
والجوةابُ: أنه يدل دلالة ظاهرة؛ لأنه طلب من الله أن يعيذهُ من العمل، وتلك الإعاذة ليست عبارة من لفظ الفعل، والقدرة وإزاحة الأعذار، وإزالة الموانع وفعل الألطاف؛ لأن كل هذا قد فعله الله تعالى، فيكونُ طلبه إمَّا طلباً لتحصيل الحاصل، أو طلباً لتحصيل الممتنع، وأنَّه محالٌ، فلعمنا أنَّ تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة، وأن ينزل عن قلبه داعية المعصية، وهو المطلوبُ.
ويدلُّ على ذلك: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقع بصره على زينب قال:» يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبِي على دِينِك «وكان المراد منه تقوية داعية الطَّاعة، وإزالة داعية المعصية، فكذا(11/59)
وكذلك قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» قَلْبُ المُؤمنِ بَيْنَ أصْبُعيْنِ من أصَابع الرَّحْمنِ «قال: والمراد من الأصعبين: داعية الفعل وداعية التَّركِ، وهَاتَانِ الدَّاعيتانِ لاَ يَحْصُلانِ إلا بِخلْقِ الله تعالى وإلا لافْتقرَتْ إلى داعيةٍ أخرى، ولزم التَّسلسلُ؛ فثبت أن قول يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» مَعَاذَ اللهِ «من أدل الدَّلائلِ على صحَّة القول بالقضاءِ، والقدرِ.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [الآية: 24] جواب» لولاَ ما تقدَّم عليها، وقوله: «وهَمَّ بِهَا» عند من يجيز تقديم جواب أدوات الشرط عليها، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً، كقولهم: «أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ» ، أي: فعلت، فأنت ظالزٌ، ولا تقول: إن «أنت ظَالمٌ» هو الجوابُ، بل دلَّ عليه دليلٌ، وعلى هذا فالوقف عند قوله: «بُرْهَانَ ربِّه» والمعنى: لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه، فلم يحصل منه همِّ ألبتَّة، كقولك: لولا زيدٌ لأكرمتك، فالمعنى: إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد، وهو: كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة.
قال الزمخشري: «فإن قلت: قوله» وهمَّ بِهَا «داخل تحت القسم في قوله:» وَلقَدْ هَمَّتْ بِهِ «أم خارج عنه؟ . قلت: الأمران جائزان، ومن حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله:» ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ «يبتدىء قوله: {وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ.
فإن قلت: لِمَ جعلت جواب» لَوْلاَ «محذوفاً يدلٌّ عليه:» هَمَّ بِهَا «، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً؟ .
قلت: لأن» لوْلاً «لا يتقدم عليها جو ابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ، وللشَّرطِ صدر الكلام، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين، مثل كلمة واحدة، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ؛ فهو جاءزٌ» .
فقوله: «وأما حذف بعضها ... . إلخ» جواب عن سؤال مقدرٍ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء.
فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك، وهو كما قال، ثم قال: فإن قلتَ لمَ جعلتَ «لَوْلاَ» متعلقة ب «هَمَّ بِهَا» وحدة، ولم تجعلها متعلقة بجلمة وقله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر، ولكن بالمعاني، ولا بد من تقدير(11/60)
المخالطةِ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل: همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما؟
قلتُ: نعم ما قلت: ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفضيل حيث قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} اه.
والزجاج لم يرتض هذه المقالة، أي: كون قوله: «لَوْلاَ» متعلقة ب «هَمَّ بِهَا» فإنه قال: ولو كان الكلام «لَهمَّ بِهَا» لكان بعيداً، فيكف مع سُقوطِ الكلام؟ [يعني] الزجاج أنه: لا جائز أن يكون «هَمَّ بِهَا» جواباً ل: «لَوْلاَ» ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ؛ لأنه مُثبتٌ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى، وهي تقديمُ الجواب عليها.
وجواب ما قاله الزجاجُ: ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم.
وأما قوله: [ولو كان] الكلام: «ولهمَّ بِهَا» فغيرُ لازم؛ لأنَّه متى كان جواب «لَوْ» ، و «لَوْلاَ» مثبتاً جاز فيه الأمران: اللام وعدمها، وإن كان الإتيانُ اللاَّم هو الأكثر.
وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال: «قول من قال: إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله:» ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ «، وأن جواب» لَوْلاَ «في قوله:» وهَمَّ بَهَا «؛ وأنَّ المعنى: لولا أن رأى البرهان لهم بها، فلم يهمَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب، وأقوال السَّلف» .
فقوله: «يردُّه لسانُ العرب» فليس كذلك؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10] فقوله: {إِن كَادَتْ} أمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان.
وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه، والغرض أن اللاَّم لم توجد.
فصل
الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه، فهَمُّهَا: عزمُها على المعصية، وأما همُّه: فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه حلَّ الهميان، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ.(11/61)
وعن مجاهد رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّه حلّ سراويله، وجعل يعالجُ ثيابه، وهذا قولُ سعيد بن جبير، والحسن، وأكثر المتقدمين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وقيل غير ذلك.
وقال أكثرُ المتأخِّرين: إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا: تم الكلام عند قوله: «ولقد همَّتْ بِهِ» ، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال: {وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} على التَّقديمِ، والتأخير، أي: لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها، لكنه رأى البُرهان، فلم يهمّ.
قال البغويُّ: «وأنكره النُّحاة، وقالوا: إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ» لَوْلاَ «عن الفعلِ فلا يقولون: قُمْتُ لولا زيدٌ، وهي تريدُ: لولا زيدٌ لقُمْتُ» .
وذكر ابنُ الخطيبِ: عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ: «قال المفسِّرُون: هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه؛ زالت كلُّ شهوة عنه.
قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال: طمعت فيه، وطمع فيها «.
ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب، ولم يذكر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة، ورُويَ أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] قال له جبريل عليه السلام: ولا جين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك:» ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي «.
وقال بعضُ العلماءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: الهمُّ همَّان:
همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل.
وهمٌّ يخطرُ بالبالِ، ويبرز إلى الفعل، فالأوَّلُ مغفورٌ، والثاني: غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ، فهمُّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان خُطُراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها {وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] ، {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} [يوسف: 25] .
ويشهد للثاني قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ(11/62)
والمقْتولُ في النَّار، فَقيلَ يا رسُول اللهِ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ؟ قال: لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ «.
قال ابن الخطيب: وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين، والمتكلِّمين: إنَّ يُوسفَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ، والهَمّ المُحرَّم، وبه نقولُ، وعنه نذبُّ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً:
الأول: أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ، الخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً: الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان، وبقي مكفيَّ المؤنةِ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إل زمان شبابه، وكما قوَّته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال، وإذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانت موصوفة بجميع الجهالات، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ، لا ستنكف منه، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء} وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ما هيَّة السُّوء، ما هية الفحشاء مصروفةٌ عنه، والمعصية التي نسوها إليه أعظم أنواع السوء، والفحشاء، وأيضاً فلا يليق بحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية، ثم يمدحه، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، وأفحش الأعمال، ثم يذكره بالمدح العظيم، والثناءِ البالغ عقيبه، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا، فكذا هاهنا.
وأيضاًَ: فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ، أو هفوةٌ؛ استعظموا ذلك، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ، والتوبة، والتَّواضع، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ، والاستغفار، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب، ولا معصية.
وأيضاً: فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن المعصية، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف والمرأة وزوجها، والنسوة الشهود، ورب العالم، وإبليس.(11/63)
فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فأدَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: 26] و {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] وأما المرأة، فاعترفت بذلك، وقالت للنسوة: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ} [يوسف: 32] وقالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] وأمَّا زوج المرأة فقوله: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ} [يوسف: 28 29] .
وأمَّا الشهود فقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} [يوسف: 26] .
وأمَّا شهادة الله تعالى: فقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات.
أولها: قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء} .
وثانيها: قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء} .
والثالث: قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} مع أنه تعالى قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] .
والرابع: قوله: «المُخْلصِينَ» ، وفيه قراءتا، تارة باسم الفاعل، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه، وأصطفاه لحضرته، وعلى كل [وجه] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه.
وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 8283] فهذا إقرارٌ من إبليس بأنه ما أغواهُ، وما أضله عن طريف الهدى، فثبت بهذه الدَّلائل أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بريءٌ عمَّا يقوله هؤلاء.
وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية [يقع] في مقامين:
المقام الأول: أن نقول: إنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما همَّ بها، لوقله تعالى: {لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، وجواب «لَوْلاَ» ههنا مقدمٌ، وهو كما يقالُ: قد كنت من الهَالكينَ لولا أنَّ فلاناً خلصك، وطعن الزَّجاجُ في هذا الجواب من وجهين:
الأول: أن تقديم جواب «لَوْلاَ: شاذٌّ، وغير موجود في الكلامِ الفصيحِ.
الثاني: [أنَّ] «لَوْلاَ» يجابُ جوابها باللاَّمِ، فلو كان الأمرُ على ما ذكرتم لقال: ولقد همَّت به، ولهم بها لوْلاَ.(11/64)
وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً، وهو: أنَّهُ لو لم يوجد الهمُّ لما كان لقوله: {لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فائدة.
واعلم أنَّ ما ذكَرهُ الزجاجُ بعيدٌ؛ لأنَّا [لا] نُسلِّم أنَّ تأخير جواب «لَوْلاَ» حسنٌ جائزٌ، إلا أنَّ جوازه لا يمنعُ من جواز تقديم هذا الجواب، فكيف وقد نُقل عن سيبويه أنَّه قال: «إنَّهم يُقدِّمون الأهمَّ فالأهَمَّ» ، والذي همَّ بشأنه أعنى؛ فكان الأمر في جواز التقديم، والتَّأخير مربوطاًً ذكرُ بشدَّة الاهتمام، فأمَّا تعينُ بعض الألفافظِ بالمنع، فذلك ممَّا لا يلييقٌ بالحكمةِ، وأيضاً ذكر جوابِ «لَوْلاَ» باللاَّم جائزٌ، وذلك يدلُّ على أنَّ ذكره بغير اللاَّم لا يجوزُ، وممَّا يدل على فسادِ قول الزجاجِ قوله تعالى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10] .
وأما قوله: لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: {لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فائدة.
فنقولُ: بل فيه أعظم الفوائدِ: وهو بيان أنَّ ترك الهمَّ بها ما كان لعدم رغبته في النسِّاءِ، ولا لعدمِ قدرته عليهنَّ؛ بل لأجلِ أنَّ دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: الذي يدلُّ على أنَّ جواب: «لَوْلاَ» ما ذكرناه أن «لَوْلاَ» تستدعي جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: أنَّ نضمر له جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: إنَّا نضمر له جواباً، وتركُ الجواب ذكر في القرآن، فنقول: لا نزاع أنه ذكر في القرآن، إلا أنَّ الأصل ألاّ يكون محذوفاً.
وأيضاً: فالجواب إنَّما يحسن تركه، وحذفه، إذا حصل في الملفوظ ما يدلُّ على تعيينه، وههنا بعيد أن يكون الجواب محذوفاً؛ لأنَّه ليس في اللفظِ ما يدلُّ على تعيين ذلك الجواب، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات، يحسن إضمار كل واحد منها، وليس إظمار بعضها أولى من إضمار البعض الباقي فظهر الفرقُ.
المقام الثاني: سلمنا أنَّ الهمّ قد حصل إلاَّ أنّا نقول: إن قوله: «وهمَّ بِهَا» لا يمكنُ حمله على ظاهره؛ لأنَّ تعليق الهمّ بذات المرأة مُحالٌ؛ لأنَّ الهمّ من جنس القصد، والقصدُ لا يتعلق بالذَّوات؛ فثبت أنَّهُ لا بد من إضمار فعلٍ محذوف يجعل متعلق ذلك الفعل غير مذكور، فهم زعموا أنَّ ذلك الفعل المضمر هو إيقاع الفاحشة بها، ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وهو من وجوه:
الاول: المراد أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ همَّ بدفعها عن نفسه، ومنعها من ذلك القبيح؛ لأنَّ الهمَّ هو القصدُ، وفجب أن يحمل في حق كُلِّ واحدٍ على القصدِ الذي يليقُ به، فالأليقُ بالمرأة القصد إلى تحصيل اللَّذة، والتَّمتُّع، وأليق بالرسُولِ المعبوث غلى الخلقِ القصد إلى زَجْرِ العاصي عن معصيته، وإلى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر،
يقال: هَمَمْتُ بفلان، أي: قصدته ودفعته.(11/65)
فإن قيل: فعلى هذا التدقير لا يبقى لقوله: {لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فائدة قلنا: بل فيه أعظمُ الفوائد، وبيانه من وجهين:
الأول: أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همَّ بدفعها لقتلته، أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أنَّ الامتناع من ضربها أولى، لصون النَّفس عن الهلاك.
الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو اشتغل بدفعها عن نفسه، فرُبَّما تعلقت به، فكان يتخرق ثوبه من قُدَّام، وكان في علم الله أنَّ الشَّاهد سيشهد أن ثوبه لو خرق من قدام، لكان يوسف هو الخائنُ، ولو كان ثوبه مخرَّقاً من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة، والله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه، بل ولَّى هارباً منها حتى صارت شهادةُ الشَّاهد حجَّة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني في الجواب: أن يفسر الهَمُّ بالشَّهوةِ، وهذا مستعملٌ في اللغة الشَّائعة، يقولُ القائلُ فيما لا يشتهيه: لا يهمُّنِي هذا، وفيما يشتهيه: هذا أحبُّ الأشياءِ إليّ، فسمَّى الله شهوة يوسف همًّا.
والمعنى: لقد اشتهته، واشتهاها لولا أن رأى برهان ربِّه لدخل ذلك العملُ في الوجود.
الثالث: أن يفسر الهمُّ بحديث النَّفس؛ وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحسن والجمال، إذا تزينت، ونهيّأت للرَّجل الشَّاب القوي، فلا بد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة، وبين النفس، والعقل محادثات، ومنازعات، فتارة تقوى داعيةُ الطبيعة والشهوة، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة، والهمُّ عبارة عن محادثات الطبيعة ورؤية البرها عبارة عن جواذب العبودية، ومثاله: أنَّ الرَّجل الصَّالح الصَّائم ف يالصيف الصَّائف، إذا رأى الجلاب المبرِّد بالثَّلج، فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أنَّ دينه يمنعه منه، فهذا لا يدلُّ على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبوديَّة أكمل، فظهر بحمد الله صحَّة القول الذي ذهبنا إليه، ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرَّد التَّصلف، وتعديد أسماءِ المفسرين، ولو ذكر في تقرير ذلك القول شهبة لأجبنا عنها إلا أنَّه ما زاد عن الرواية عن بعض المفسِّرين.
واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روى عن النبي المختار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما كّذبَ إبْراهِيمُ إلاَّ ثلاثَ كَذبَاتٍ» فقلت: الأولى ألاَّ تقبل مثل هذه الأخبار فقال على [طريق] الاستنكار: إن لم نقبله لزمنا تكذيبُ الرُّواةِ، فقلت له: يا مسكينُ إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم(11/66)
صلوات الله وسلامه عليه وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أن صون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن الكذب أولى من صون طائفةٍ من المجاهيل عن الكذب.
إذا عرفت هذا الأصل، فنقولُ للواحدي: ومن الذي يضمنُ لنا أنَّ الذين نقولا هذه القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين، أو كاذبين. والله أعلم.
فصل
اختلوفوا في البرهان ما هو؟ .
فقال المحققون المثبتون للعصمة: رُؤيةُ البُرهانِ على وجوهٍ:
الاول: أنه حجَّة الله تعالى في تحريم الزِّنا، والعلمُ بما على الزَّاني من العذاب.
الثاني: أن الله تعالى طهَّر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذَّميمة، بل نقول: إنه تعالى، طهر نفوس المتصلين بهم عنها، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] والمراد برؤية البرهان: هو حصولُ ذلك الإخلاص، وترك الأحوال الدَّاعية به إلى الإقدام على المنكرِات.
الثالث: أنه رأى مكتوباً في سقف البيت: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] .
الرابع: أنًَّهُ النبوة المانعةُ من ارتكاب الفواحشِ، ويدلُّ عليه أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا لمنع الخلقِ من القبائح، فلو أنَّهم منعوا النَّاس عنها، ثم أقدموا على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وايضاً: فإن الله تعالى عيَّر اليهود بقوله {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ما كان عيباً في حق اليهود، كيف ينسب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المؤيد بالمعجزات.
وأمَّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فذكروا في ذلك البرهان وجوهاً:
الأول: أنَّ المرأة قامت إلى صنم مكلَّلٍ بالدُّرِّ، والياقوت في زاوية البيت، فسترته بثوبٍ، فقال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، [ولم؟ قالت: أستحي من إلهي أن يراني على المعصية، فقال يوسف:] أتستحين من صنم لايسمعُ، ولا يبصرُ ولا أستحي من إلهي القائمِ على كلِّ نفس بما كسبت، فوالله لا أفعلُ ذلك أبداً، قال هذا هو البُرهَانُ.
الثاني: نقلُوا عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّهُ تمثَّل له يعقوب، فرآه عاضًّا على أصبعه يقول له: لا تعمل عمل الفُجَّار، وأنت مكتوبٌ في زمرة الأنبياء عليهم(11/67)
الصلاة والسلام فاستحى منه. قالوا: وهو قول عكرمة، ومجاهدٍ، الحسن، وسعيد بن جبير.
وروى سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما تمثَّل له يعقوب، فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
الثالث: قالوا: إنَّه سمع في الهواء قائلاً: يا بْنَ يعقوب، لا تكن كالطَّير له ريش، فإذا زنا ذهب ريشه.
الرابع: نقلوا عن ابن عباس أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم ينزجر بكلامِ يعقوب حتى ركضه جبريلُ، فلم يبقَ به شيءٌ من الشَّهوة إلا خرج.
قال ابنُ الخطيب: «ولما ذكر الواحديُّ هذه الروايات تصلف وقال: هذا الذي ذكرنا قول أئمَّة التَّفسير الذين أخذوا التَّأويل عمن شاهدوا التنزيل فيقال له: إنَّك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها، فأين هذا من الحجة والدليل الذي ذكرناه، وأيضاً: فإن ترادف الدلائل على الشَّيء الواحد جائزٌ وإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان ممتنعاً من الزِّنا بحسب الدَّلائل الأصلية، فلما انضاف إليها هذه الزَّواجِر ازدادت قوةً.
وأيضاً: روي أن جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ امتنع من دخول حجرة النبي المختار صلوات الله وسلامه عليه بسبب وقع هناك بغير علمه؛ قالوا: فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول [عليه] أربعين يوماً، وههنا زعموا أنَّ يوسف حين اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل، والعجب أيضاً أنَّهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام، ولو أنَّ أفسق الخلق، وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة، فإذا دخل عليه رجلٌ في زِيّ الصَّالحين استحى منه؛ وترك [ذلك] العمل وهاهنا يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عضّ على أنامله، فلم يلتفت، ثمَّ إنَّ جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على جلالة قدره دخل عليه، فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بدخوله حتى احتاج جبريل إلى أن ركضه على ظهره «.(11/68)
فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين، الخذلان في طلب اليقين.
فصل
والفرق بين السوء، والفحشاء من وجهين:
الأول: أنَّ السوء: جناية اليد، والفحشاء: الزِّنا.
الثاني: السُّوء: مقدمات الفاحشة من القُبلةِ، والنَّظر بالشَّهوة. والفحشاءُ: هو الزنا.
قوله:» وكَذلِكَ «في هذه الكاف أوجه:
أحدها: أنَّها في محل نصبٍ، وقدَّره الزمشخريُّ مثل ذلك التَّثبيتِ ثبَّتناه.
وقدَّرهُ الحرفيُّ أريناه البراهين بذلك، وقدَّره ابنُ عطيَّة: جرت أفعالنا، وأقدارنا كذلك، وقدره أبو البقاء: نراعيه كذلك.
الثاني: أن الكاف في محل رفع، فقدَّره الزمخشريًّ، وأبو البقاء: الأمر مثل ذلك، وقدَّره أبنُ عيطةك عصمته كذلك. وقال الحوفيُّ: أمر البراهين بذلك ثمَّ قال: والنصب أجودُ لمطالبة حروف الجرّ للأفعال أو معانيها.
الثالث: أنَّ في الكلام تقديماً، وتأخيراً، وتقديره: همَّت به، وهمَّ بها كذلك ثم قال: لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه ما هم بها هذا نص ابن عطيَّة.
وليس بشيءٍ؛ إذْ مع تسليم جوازِ التَّقديم، والتَّأخير لا معنى لما ذكره.
قال أبو حيَّان: وأقولُ: إنَّ التقديرك مثل تِلْك الرُّؤية، أو مثل ذلك الرَّأي نري براهيننا، لنصرف عنه، فتجعل الإشارة إلى الرَّأي، أو الرُّؤيةِ، والنَّاصب الكاف مما دل عليه قوله: {لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، و» لِنَْرفَ «متعلق بذلك الفعل النَّاصب للكاف، ومصدر» رَأى «» رُؤيةٌ ورأيٌ «؛ قال: [الرجز]
3067 - ورَأيُ عَيْنَيَّ الفَتَى أبَاكَا ... [يُعْطِي الجَزيلَ فعَليْكَ ذَاكَا]
وقرأ الاعمش «ليَصْرِفَ» بياء الغيبةِ، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى، قوله تعالى: {المخلصين} قرأ هذه اللفظة [حيث وردت] إذا كانت معرفة بأل مكسورة(11/69)
اللام: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر أي: الذين أخلصوا دينهم لله على اسم الفاعلِ، والمفعول محذوفٌ، والباقون بفتحها على أنَّه اسم مفعولٍ من أخصلهم الله، أي: اجتباهم، واختارهم، وأخلصهم من كلِّ سوءٍ، ويحتمل أن يكون لكونه من ذرية إبراهيم قال فيهم: {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} [ص: 46] .
وقرأ الكوفيُّون في مريم {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} [مريم: 51] بفتحِ اللاَّم بالمعنى المقتدِمِ والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم.
قوله تعالى: {واستبقا الباب} [الآية: 25] «البَابَ» منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً، إذ أصلُ «اسْتبَقَ» أن يتعدَّى ب «إلى» ، وإما على تضمين «اسْتَبقَ» معنى ابتدر، فينصب مفعولاً به. قوله تعالى: {وَقَدَّتْ} يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على «اسْتبقَا» أي: استبق، وقدت، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، أي: وقد قدَّت. والقدّ: الشَّقُّ مطلقاً، قال بعضهم: القدُّ: فيما كان يشقُّ طولاً القطُّ: فيما كان يشقُّ عَرْضاً.
قال ابن عطية «وقرأت فرقة: وقَطّ» قال أبو الفضل بنُ حربٍ: رأيت في مصحب «وقطَّ مِنْ دبُرٍ» أي: شقَّ.
قال يعقوب: القطُّ في الجلدِ الصحيح، والثوب الصحيح؛ وقال الشاعر: [الطويل]
3077 - تَقُدُّ السَّلُوقيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ ... وتُوقِدُ بالصفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ
فصل
قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وهذا الكلامْ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما رأى برهان ربِّه، خرج حينئذ هارباً، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها حتى لا يخرج «وقدَّتْ قَميصَهُ» [أي] : فشققته المرأة من دبر.
والاستباقُ: طلبُ السَّبْق، أي: يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب، وخرج، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب، والمرأة تعدو خلفه، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص، فتعلقت به فقدته من خلفه، فلمَّا خرجا «ألْفَيَا» ، أي: وجدا «سيِّدهَا» ، وإنما لم يقل سيدهما؛ لأنَّ(11/70)
يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة «لَدى البابِ» أي: عند البابِ، والمرأة تقول لبعلها: سيِّدي.
فإن قيل: فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة.
فالجواب: أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرا’ من الوطء والخلوةِ، والمباشرةِ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه.
قال القرطبيُّ: «والقبط يسمون الزوج سيداً، ويقال: ألفاه، وصادفهُ، وواله ووَالطَه، ولاطَهُ، وكلٌّ بمعنى واحدٍ» .
فعند ذلك، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح، {وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} يعنى الزِّنا، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت: {إلاَّ أن يُسجنَ} ، أي: يحبس، {أوْ عذابٌ أليمٌ} أي: يُعَاقبُ بالضَّربِ.
قوله: «مَا جزاءُ» يجوز في «مَا» هذه أن تكون نافية، وأن تكون استفهاميَّة، و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة.
قوله: «إلاَّ أن يُسْجنَ» خبر المبتدأ، ولما كان «أن يُسْجنَ» في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر، وهو قوله: «أو عذابٌ» . و «أوْ» تحتملُ معانيها، وأظهرها التنويع.
وقرأ زيد بن علي: (أو عذاباً أليماً] بالنصب، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل، أو أن يعذَّب عذباً أليماً.
قوله: «هِيَ» ولم يقل هذه، ولا تلك، لفرط استحايئه «وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور.
فصل
قال ابن اخلطيب: في الآية لطائف:
إحداها: أن حُبَّها الشَّديد ليوسف، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن، وأخرت ذكر العذاب؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً: لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت:» إلاَّ أنْ يُسْجنَ «والمرادُ أن يسجن يوماً، أو يومين، أو أقل على سبيل التخفيف، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة، بل يقال: يجبُ أن يجعل من المسجونين، كما قال فرعون لموسى عَلَيْهِ(11/71)
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين هدَّدُ {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29] وأيضاً: لما شاهدت من يوسف أنه استعصم، مع أنه كان في عنفوان العمر، وكمال القوة، ونهاية الشهوة، وعظم اعتقادها في طهارته، ونزاهته، فاستحيتْ أن تقول: إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ.
وأيضاً: يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أراد أن يضربها، ويدفعها عن نفسه [وكان] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء، فقولها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} له ظاهر وباطن، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء، وظاهره دفعه لها ومنعها، فأرادت بقولها: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} فعل نفسها بقلبها، أو في ظاهر الأمر، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي، ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام؛ احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال: {هي راودتني عن نفسي} واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف:
منها: أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها: أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها: أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها: أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها: أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبةن وهو قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} فقوله: «مِنْ أهْلِهَا» صفة ل: «شَاهِدٌ» ، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا: قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ:(11/72)
الأول: أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ: {إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ} ، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، {وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ} ، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [اي: من عَملكن] ثم قال ليوسف: «أعْرِضْ عَنْ هَذَا» أي اكتمهُ، وقال لها: {واستغفري لِذَنبِكِ} ، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي: وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى: {وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الحدّ: «انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ» .
قال السهيلي: كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له: ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال: لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له: «اتْبَع القضاء المَبال» فقال: فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني: منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ: شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ: القول الأول أولى لوجوه:
الأول: أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله: «إنَّها كَاذبةٌ» كافياً، وبرهاناً قاطعاً؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق(11/73)
القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني: أنه تبارك وتعالى قال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث: أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث: أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الشاهد: «قُدَّ قيمصه من دُبُر» ، وهذا في غاية الضعف؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [الذنب] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه: أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله: «إنْ كَانَ ... » هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره: «فقال» إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة «لِشَهدِ» ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله «مِنْ دُبرٍ. .» ، و «مِنْ قُبُلٍ ... » قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى: من خلف، من قدام، أي: من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما: أنَّهم جعلوهما ك «قَبلُ، وبعْدُ» في(11/74)
بنائهما على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية: أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم: وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري: «والمعنى: من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه: من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ» وعن ابن أبي إسحاق: أنَّهُ قرأ «مِنْ قُبْلَ» ، و «مِنْ دُبْرَ» بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [البقرة: 235] الخلاف في «كان» الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ؟ .
قوله: «فَكذَبَتْ» ، و «صَدقَتْ» على إضمار «قَدْ» ، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى «قَدْ» لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ} : أي: فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها: «إنَّهُ» ، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} {مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} وقيل: هذا من قول الشاهد.
فإن قيل: إنه تعالى قال: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [الإنسان: 28] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً: فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ؟ .
فالجواب عن الأوَّل: أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً: فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف: «أعْرِضٍ عَنْ هَذَا» الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل: إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ «واستغفري لِذنبكِ» إي: إلى الله {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} وقيل هذا من قول الشاهد] «واسْتَغفِري» ، أي: اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح؛ حتَّى لا يعاقبك.(11/75)
قال أبو بكرٍ الأصمُّ: إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل: إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري: «وإنما قال: {مِنَ الخاطئين} ؛ تغليباً للذكور على الإناث» ويحتملُ أن يقال: إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رَحِمَهُ اللَّهُ: تقديره: إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك؛ كقوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12] ، وبيانه قوله: {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43] .
قوله تعالى: «يُوسُفُ» ، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ: «لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله» انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء: فيها وجهان:
أحدهما: أن يكون أخرجه على أصل المنادى؛ كما جاء في الشِّعر: [الخفيف]
3078 - ... ... ... ... ... ... ... يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي(11/76)
يريد بأصلِ المنادى: أنه مفعولٌ به، فحقه النصب؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ.
والثاني، وجعله الأشبه: أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها؛ فصار اللفظ بها: «يُوسفَ أعْرض» ؛ وهذا كما حي: «اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ» ، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي «أكْبر» ، وفي أشْهد «؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [من] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في» أكْبَر «خاصَّة؛ لأنَّها مظنة الوقف، وتقدم ذلك في سورة آل عمران [الآية: 1] .
ورىء» يُوسفُ أعْرضَ «بضمِّ الفاءِ، و» أعْرضَ «فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون» يُوسفُ «مبتدأ، و» أعْرضَ «جلمة من فعلٍ وفاعلٍ خبره.
قال أبو البقاءِ:» وفيه ضعفٌ؛ لقوله: «واسْتَغْفرِي» ، وكان الأشبه أن يكون بالفاء: «فاسْتَغفِري» .(11/77)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة} الآية، النسوة فيها أقوالٌ:
[أشهرها] : أنه جمعُ تكسير للقلَّة، على فعلة؛ كالصبية والغلمة، ونصَّ بعضهم على عدم أطَّرادها، وليس لها واحدٌ من لفظها.
الثاني: أنها اسمٌ مفردٌ، لجمع المرأة قاله الزمخشريُّ.
الثالث: أنَّها اسم جمعٍ؛ قاله أبو بكرٍ بنُ السَّراج رَحِمَهُ اللَّهُ، وكذلك أخواتها، كالصِّبيةِ، والفِتْيَةِ.
وقيل: على كُلِّ قولٍ، فتأنيثها غير حقيقي، باعتبارِ الجماعةِ؛ ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث.(11/77)
وقال الواحديُّ: تقديمُ الفعل يدعُو إلى إسقاطِ علامِ التأنيثِ، على قياس إسقاط علامة التَّثنية، والجمع.
والمشهورُ: كسر نونها، ويجوز ضمُّها في لغةٍ، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة، قال القرطبي: وهي قراءة الأعمش، والمفضل والسلمي.
وإذا ضُمَّتْ نونه، كان اسم جمع بلا خلافٍ، ويكسَّرُ في الكثرة على نسوانٍ، والنساءُ: جمعٌ كثرةٍ أيضاً، ولا واحداَ لَهُ مِنْ لفظه، كذا قالهُ أبو حيَّان.
ومقتضى ذلك ألاَّ يكون النساءُ جمعاً لنسوةٍ؛ لقوله: لا واحِدَ له من لفظه.
و «فِي المَدينَةِ» يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ، صفةٍ ل «نِسْوةٌ» ، وهو ظاهرٌ، ويقال: ليس بظاهرٍ.
فصل في عدد النسوة
في: إنَّهن خمسُ: امرأة حاجب الملك، وامرأةُ صاحب دوابه، وامرأةُ الخازن، وامرأة السَّاقي، وامرأة صاحب السِّجن، قاله مقاتل.
وقال الكلبيُّ: أربعٌ؛ فأسقط امرأة الحاجب. والأشبه أنَّ تلك الواقعة شاعت في البلد، واشتهرت، وتحدث بها النساء، والمراد بالمدينة: مِصْرُ، وقيل: مدينة عَين شَمْسٍ.
قوله: «تُروادُِ» خبرُ «امْرأةُ العَزيزِ» ، وجيءَ بالمضارع، تنبيهاً على أنَّ المراودة صارت سجيةً لها، ودَيْدناً، دون الماضي فلم يقلْ: رَاودتْ، ولامُ الفتى ياءٌ؛ لقولهم: الفتيان، وفتى، وعلى هذا؛ فقولهم: الفُتُوَّة في المصدر شاذٌّ.
قال: «فَتَاهَا» ، وهو فتى زوجها؛ لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذُ أمرها فيه.
وروى مقاتلٌ، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «إنَّ امرأة العزيز استوهبتْ يوسف من زوجها، فوهبهُ لها، وقال: ما تصنعين به؟ قالت: اتخذه ولداً، قال: هو لك؛ فربَّتُهُ حتى [أيفع] ، وفي نفسها منه ما في نفسها، فكانت تتكشَّلإ له، وتتزيَّن، وتدعوه من وجه اللُّطفِ؛ فعصمه الله» .
قوله: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} ، وهذه الجملة يجوز أن تكمون خبراً ثانياً، وأن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً؛ إمَّا من فاعل «تُرَاوِدُ» ، وإمَّا من مفعوله، و «حُبًّا» تمييزٌ؛ وهو منقولٌ من الفاعليَّة، وإذ الأصل: قد شغفها حبُّه.(11/78)
والعامةُ على «شَغَفَهَا» بالغين المعجمة المفتوحمةِ، بمعنى: خَرقَ شِغافَ قلبها، وهو مأخوذٌ من الشِّغاف، والشِّغاف: حجابُ القلب، جليدةٌ رقيقةٌ، وقيل: سويداءُ القلبِ.
فعلى الأول، يقال: شَغفتُ فلاناً، إذا أصبت شِغفافهُ؛ كما تقولُ: كبدتهُ إذا أصبتَ كبدَه، فمعنى: «شَغَفَهَا حُبّاً» أي: خرق الحبُّ الجلدَ؛ حتَّى أصاب القلب، أي: أنَّ حبَّه أحاط بقلبها، مثل إحاطةِ الشِّغاف بالقلبِ، ومعنى إحاطة ذلك الحبِّ بقلبها: هو أنَّ اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها، وبين كلِّ ما سوى هذه المحبَّة، فلا يخطر ببالها سواه، وإن قلنا: إنَّ الشِّغافُ سويداء القلبِ، فالمعنى: أنَّ حبُّهُ وصل إلى سويداءِ قلبها.
وقيل: الشِّغافُ داء يصلُ إلى القلب مِنْ أجل الحبِّ، وقيل: جليدةٌ رقيقةٌ يقال لها: لسانُ القلبِن ليست محيطةً به.
ومعنى: «شَغَفَ قلبَهُ» أي: خرق حجابهُ، إذا أصابه؛ فأحرقه بحرارةِ الحبِّ، وهو من شغف البعير بالهِناءِ، إذا طلاهُ بالقطرانِ، فأحرقهُ. [والمشغوف من وصل الحب لقلبه] قال الأعشى: [البسيط]
3079 - يَعْصِي الوُشَاةَ وكَانَ الحُبُّ آونَةٌ ... مِمَّا يُزَّينُ للمَشْغُوفِ ما صَنَعَا
وقال النابغةُ الذبيانيُّ: [الطويل]
3080 - وقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذلِكَ والِجٌ ... مَكَانَ الشِّغافِ تَبْتغيِهِ الأصَابعُِ
وقرأ ثابت البناني: بكسر الغين، وقيل: هي لغة تميم، وقرأ أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعليُّ بن الحسين، وابنه محمدٌ، وابنه جعفر والشعبي، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بتفحِ العين المهملةِ.
وروي عن ثابت البناني، وأبي رجاء: كسر العين المهملة أيضاً، واختلف الناسُ في ذلك: فقيل: هو من شغف البعير، إذا هنأهُ، فأحرقه بالطقرانِ، قاله الزمخشريُّ؛ وأنشد: [الطويل]
3081 - ... ... ... ... ... ... ... . ... كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي(11/79)
وهذا البيتُ لامرىء القيس: [الطويل]
3082 - أتَقْتُلنِي وقدْ شَعَفْتُ فُؤادهَا ... كَما شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي
والناسُ إنما يروونهُ بالمعجمة، ويسفرونه بأنه أصاب حبُّه شغاف قلبها، أي: أحرقَ حجابهُ، وهي جليدةٌ رقيقةٌ دونه، كما شغف، أي: كما أحرق، وأراد بالمَهْنُوءةِ: المطليَّة بالهناءِ، أي: القطران، ولا ينشدونه بالمهملة، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى؛ فقال: «الشَّغف: إحراقُ الحُبِّ للقلب مع لذة يجدها؛ كما أنَّ البعير إذا طُلِيَ بالقطرانِ، بلغ منه مثل ذلك، ثم يَسْتَرْوحُ إليه» .
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ لما حكى هذه القراءة: «مِن قولِكَ: فلانٌ مشغوفٌ بكذا، أي: مغرمٌ به» .
وقال ابنُ الأنباريِّ: «الشَّغفُ: رُءوسُ الجبالِ، ومعنى شغف بفلانٍ: إذا ارتفع حبُّه إلى أعْلَى موضعٍ من قلبهِ» .
وعلى هذه الأقوال فمعناهما متقاربٌ، وفرق بعضهم بينهمان فقال ابنُ زيدٍ: «الشَّغفُ يعني بالمعجمة في الحبِّ، والشعف: في البغضِ» .
وقال الشعبيُّ: الشَّغَفُ، والمشغوفُ بالغينِ منقوطة في الحبِّ، والشَّعفُ: الجنونُ، والمَشْعُوفُ: المَجنْونُ «.
قوله: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ، أي: خطأ مبين ظاهر، وقيل: معناه: إنَّها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر.
» فلَّما سَمِعَتْ «راعيلُ» بِمكْرهِنَّ «؛ بقولهنَّ، وسمى قولهنَّ مكراً؛ لوجوه:
الأول: أنَّ النسوة، إنما قلن ذلك؛ مكراً بها؛ لتُريهنَّ يوسف، كان يوصف لهن حسنهُ وجماله؛ لأنَّهن إذا قلن ذلك، عرضتْ يوسف عليهنَّ؛ ليتمهد عذرها عندهن.
الثاني: أنَّها أسرَّت إليهنَّ حبَّها ليوسف استكتمهُنَّ، فأفشين ذلك السرَّ؛ فلذلك سمَّاه مكراً.
الثالث: أنهن وقعن في الغيبة، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفيةِ، فأشبهت المكر.
{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} : قال المفسرون: اتخذت مأدبة، ودعت جماعة من أكابرهن، «وأعْتدَتْ» أي: أعدَّت «لهُنَّ مُتَّئاً» .(11/80)
قرأ العامة: «مُتَّكئاً» بضم الميم، وتشديد التاءِ، وفتح الكاف والهمز، وهو مفعولٌ به، ب «أعْتَدتْ» أي: هيَّأتْ، وأحضَرتْ.
والمُتَّكأ: الشيءُ الذي يتكأ عليه، من وسادةٍ ونحوها، والمُتَّكأ: مكان الاتِّكاءِ، وقيل: طعام يُجزُّ جزًّا.
قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «مُتَّكَئاً، أي: طعاماً، سمَّاه» مُتَّكَئاً «؛ لأنَّ أهل الطعامِ إذا جلسوا، يتكئُون على الوسائدِ، فسمى الطعامُ متكئاً؛ على الاستعارة» .
وقيل: «مُتَّكئاً» ، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكِّين؛ لأنه إذا كان كذلك، احتاج الإنسانُ إلى أن يتكىء عليه عند القطع.
وقال القتبي: يقالُ: اتكأنا عند فلانٍ، أي أكلنا.
وقال الزمخشري: من قولك: اتكأنا عند فلانٍ، طعمنا على سبيل الكناية؛ لأنه من دعوتهُ ليطعمَ عندك اتخذت له تكأةً يتكىءُ عليها؛ قال جميلٌ: [الخفيف]
3083 - فَظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكأنَا ... وَشَرِبْنَا الحلالَ مِنْ قُلَلِهْ
فقوله: «وشَرِبْنَا» مرشحٌ لمعنى «اتَّكأنَا» : أكلنا.
وقرأ أبو جعفر، والزهريُّ رحمهما الله: «مُتَّكأً» مشددة التاء، دون همزٍ، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون أصله: متكأ «كقراءة العامَّة، وإنما خفف همزُهُ؛ كقولهم:» تَوضَّيْتُ «في توضَّأتُ، فصار بوزن» مُتَّقى «.
والثاني: أن يكون» مُفْتَعَلاً «من أوكيتُ القِربَة، إذا شدَدْتَ فَاهَا بالوكاءِ.
فالمعنى: أعْتدَتْ شيئاً يَشْتدِدْنَ عليه؛ إمَّا بالاتِّكاءِ، وإمَّا بالقطْعِ بالسكِّين، وهذا الثاني تخريجُ أبي الفتحِ.
وقرأ الحسن، وابن هرمز:» مُتَّكاءً «بالتشديد والمد، وهي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنه أشبع الفتحة؛ فتولد منها الألفُ؛ كقوله: [الوافر]
3084 - ... ... ... ... ... .....(11/81)
ومِنْ ذمِّ الرِّجالَ بمُنْتزَاحِ
وقول الآخر: [الكامل]
3085 - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى أسيلٍ جَسْرَةٍ..... ... ... ... ... ... ... ... .
وقوله: [الرجز]
3086 - أعُوذُ باللهِ من العَقرَابِ ... الشَّائِلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ
بمعنى: بِمُنتزحٍ، وينبع، والعقرب الشَّائلة.
وقرأ ابن عباسٍ، وابن عمر، ومجاهدٌن وقتادة، والضحاك، الجحدري، وأبان بن تغلب رحمهم الله:» مُتْكاً «بضمِّ الميم، وسكون التاء، وتنوين الكافِ، وكذلك قرأ ابن هرمزٍ، وعبد الله، ومعاذ؛ إلاَّ أنهما فتحا الميم.
والمُتْكُ: بالضم والفتح: الأترجُ، ويقال: الأترنج، لغتان؛ وأنشدوا: [الوافر]
3087 - نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَا ... وتَرَى المُتْك بَيْنَنا مُسْتَعَارَا
قيل: هو من متك، بمعنى بَتَكَ الشيء، أي: قطعه، فعلى هذا يحتمل أن تكون الميم بدلاً من الباء، وهو بدلٌ مطردٌ في لغة قومٍ، ويحتمل أن تكون مادة أخرى وافقتم هذه.
وقيل: بالضمِّ: العسلُ الخالصُ عند الخليل، والأترجُّ عند الأصمعيِّ، ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث؛ أعني: ضمَّ الميم، وفتحها، وكسرها، قال: وهو الشرابُ الخالصُ.
وقال المفضلُ: هو بالضم: المائدة، أو الخمر، في لغة كندةن وقال ابن عباس: هو الأترجُّ بالحبشة، وقال الضحاك: الزَّمَاوْرَد، وقال عكرمةك كل شيء يقطع بالسكين.(11/82)
وقوله: «لهُنَّ مُتَّكَئاً» إما أن يريد: كُلَّ واحدةٍ متكئاً؛ ويدلُّ له قوله: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً} ، وإما أن يريد: الجِنْسَ.
والسِّكينُ: تذكرُ وتؤنث، قاله الكسائي: والفراء، وأنكر الأصمعي تأنثه، والسكِّينةُ: فعلية من السكون، قال الراغب: سُمي به لإزالة حركةِ المذبُوحِ بهِ، فقوله: «وأتتْ» ، أي: أعطتْ {كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً} ، إما لأجل الفواكه، أو لأجل قطع اللحم، ثم أمرت يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأن يخرج عليهن، وأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما قدر على مخالفتها؛ خوفاً منها.
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} ، الظاهرُ أنَّ الهاء ضميرُ يوسف، ومعنى «أكْبَرنَهُ» أعظمنهُ، ودهشن من حسنه، وقيل: هي هاءُ السكتِ؛ قال الزمخشري.
وقيل: «أكْبَرْنَ» بمعنى: حِضْنَ، والهاءُ للسَّكتِ؛ يقال: أكبرت المرأةُ: إذا حاضتْ، وحقيقته: دخلت في الكبرِح لأنها بالحيض تخرج عن حدَّ الصِّغر إلى الكبرِ؛ فإنَّ أبا الطَّيب رَحِمَهُ اللَّهُ أخذ من هذا التفسير قوله: [الطويل]
3089 - خَفِ الله واسْترْ ذَا الجَمالَ بِبُرقُعٍ ... فإنّْ لُحْتَ حاضتْ في الخُدورِ العَواتِق
وكون الهاء للسَّكتِ، يردُّه ضم الهاءِ، ولو كانت للسكتِ، لسكنتن وقد يقال: إنه أجراها مجرى هاء الضمير، وأجرى الوصل مجرى الوقف في إثباتها.
قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل، دليلٌ على أنها ليست هاء السَّكت، إذا لو كانت هاء السَّكت، فكان من أجرى الوصل مجرى الوقف لم يضمّ الهاء» .
قال شهابُ الدِّين: «وهاءُ السَّكت قد تحرك بحركةِ هاء الضمير؛ إجراءً لها مجراها» ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الأنعامِ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبيّ أيضاً: [البسيط]
3090 - واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبهُ شَبِمُ ... قإنه رُوي بضم الهاء في «قَلْبَاهُ» ، وجعلوها هاء السَّكتن ويمكن أن يكون «أكْبَرْنَ» بمعنى حضن، ولا تكون الهاء للسكت؛ بل تجعل ضميراً للمصدر المدلول عليه بفعله، أي: أكبرن الإكبار، وأنشدوا على أنَّ الإكبار بمعنى الحيضِ، قوله [البسيط]
3091 - يَأتِي النِّساءَ على أطْهَارِهنَّ وَلاَك ... يَأتِي النِّساءً إذَا أكْبَرْنَ إكْبَارَا(11/83)
قال الطبريُّ: البيت مصنوعٌ.
فصل في صفة يوسف الخلقية
روى أبو سعيد الخدريُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«رَأيْتُ ليلةُ أسْرِيَ بِي إلى السَّماء يُوسفَ، كالقَمرِ ليْلةَ البَدْرِ» .
وقال إسحاقُ بنُ أبي فروة: «كان يوسفُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا سَار في أزِقََّةِ مِصر يُرى تَلألُوء وجْههِ على الجُدرانِ، كمَا يُرَى نُورُ الشَّمس في الماءِ عَليْهَا» .
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حديث الإسراء: «فَمَررْتُ بيُوسفَ فإذَا هُوَ قَدْ أعْطِي شَطْرَ الحُسنِ» .
قال العلماءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: معناه أنه كان على النِّصفِ من حسن آدم صلوات الله وسلامه عليه.
قال أبو العالية: «هَالهُنّ أمره إنَّهُن من دهْشتهِنَّ، وحيْرتِهنَّ؛ قطَّعن أيْديهُنَّ، وهُنَّ يَحْسبنَ أنَّهن يقطِّعْنَ الأرتجَ، ولم يجدن الألَم؛ لشغلِ قلوبهنَّ بيوسف» .
وقال مجاهدٌ: ما أحْسَسْنَ إلا بالدَّمِن وذلك كنايةٌ عن الجرحِ، لا أنَّهن ابنَّ أيديهنَّ، كما قال قتادة.
وقيل: إنهن لما دهشن، صارت المرأةُ منهن بحيثُ لا تميز نصاب السِّكين من حديدها؛ فكانت تأخذُ الجانب الحادِّ من تلك السكينة بكفِّها؛ فكان تحصل تلك الجراحةُ بكفها.(11/84)
قال وهبٌ: ماتت جماعةٌ منهن.
قال ابن الخطيب: وعندي أنَّهُ يحتملُ وجهاً آخر، وهو أنهنَّ إنَّما أكبرنه؛ لأنَّهن رأين عليه نُور النبوَّة، وبهاء الرِّسالة وآثار الخضوع، والإنابة، وشاهدنَ منه معاني الهيْبَة، والسكينة، وهي عدمُ الالتفاتِ إلى المطعُومِ المنكُوحِ، وعدم الاعتدادِ بهنَّ، واقرانِ هذه الهيبة الإلهية، بذلك الجمال العظيم، فَتعجبن من تلك الحالةِ، فلا جرم أكبرنه، وعظمنهُ، ووقع الرُّعبُ والمهابة في قولبهن، وهذا عندي أولى.
فإن قيل: كيف يطابقُ على هذا التَّأويل قوله: «فَذلكُنَّ الَّذي لمتنَّني فيه» ؟ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوَّة العشق، وإفراط المحبَّة؟ .
قلت: تقرر أن المحبُوب متبوع، فكأنَّها قالت لهُنَّ: هذا الخلق العجيب انضمَّ إليه هذه السيرةُ الملكية الطَّاهرة المطهرة. فحسنه يوجب الحب الشَّديد، والسِّيرة الملكية توجب اليأسَ عن الوصول إليه، فلهذا وقعت في المحبَّة والحسرةِ، وهذا التأويل أحسنُ، ويؤيده قولهم: {مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} .
قوله: «حَاشَا للهِ» عدَّها النحويون من الأدواتِ المترددة بين الحرفية والفعلية، فإن جرَّت، فهي حرفٌ، وإن نصبت، فهي فعلٌ، هي من أدوات الاستثناء، ولم يعرف سيبويه فعليَّتها، وعرفها غيره، وحكوا عن العرب: «غَفَرَ اللهُ لِي، ولِمَنْ سَمِعَ دُعائِي، حَاشَا الشَّيطانَ، وابن أبي الأصْبَعِ» بالنصب، وأنشدوا: [الوافر]
3092 - حَشَا رَهْطَ النبيِّ فإنَّ مِنهُمْ ... بُحُوراً لا تُكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب «رَهْطَ» ، و «حَشَا» لغة في «حَاشَا» كما سيأتي.
قال الزمخشري: «حَاشَى» كلمةٌ تفيد التنزيه، في باب الاستثناء، تقول: أساء القوم حَاشَى زَيدٍ، وقال: [الكامل]
3093 - حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ إنَّ بهِ ... ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
وهي حرفٌ من حروف الجرِّ؛ فوضعت موضع التنزيه، والبراءةٍ، فمعنى حاشا للهِ: براءة الله، وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعودٍ.(11/85)
قال أبو حيَّان: وما ذكر أنها تفيد التنزيه في باب الاستثناء، غير معروفٍ عند النحويين، لا فرق في قولك: قَامَ القومُ إلاَّ زيداًن وقَامَ القوْمُ حَاشَا زيْد ولمَّا مثل بقوله: أساء القوم حاشا زيد، وفهم من هذا التمثيل براءة زيدٍ من الإساءةِن جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ، وأما ما أنشده من قوله: [الكامل]
حَاشَا إبِي ثَوْبانَ ... البيت.
فهكذا ينشدهُ ابن عطيَّة، وأكثر النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدر بيتٍ على عجز آخر من بيتين، وهما: [الكامل]
3094 - حَاشَى أبِي ثَوْبانَ إنَّ أبَا ... ثَوْبانَ لَيْسَ بِبَكْمَةٍ فَدْمِ
عَمرو بنِ عَبْدِ اللهِ إنَّ بِهِ ... ضنًّا عن المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
قال شهابُ الدِّين: «قوله:» إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشريُّ لا يعرفه النحاة «ولم ينكروه؛ وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنَّ غالب: فَنِّهِمْ» صناعة الألفاظ دون المعاني، ولما ذكروا مع أدوات الاستنثاءِ «لَيْسَ» ، و «لا يكُونُ» و «غَيْر» ، لم يذكروا معانيها. إذ مرادهم مساواتها ل «إلاَّ» في الإخراج، وذلك لا يَمْنَع من زيادة معنى في تلك الأدوات «.
وزعم المبردُ، وغيره كابن عطيَّة: أنَّها تتعينُ فعليتها، إذا وقع بعدها حرف جرٍّ كالآية الكريمةن قالوا: لأن حرف الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً؛ كقوله: [الوافر]
3095 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَلا لِمَا بِهِمْ أبَداً دَواءُ
وقول الآخر: [الطويل]
3096 - فأصْبَحنَ لا يَسْألنَهُ عَن بِمَا بِهِ..... ... ... ... ... ... ... . .
فيتعيَّن أن يكون فعلاً فاعله ضمير يوسف، أي: حَاشَى يوسف، و» للهِ «جارٌّ ومجرورٌ، متعلق بالفعل قبله، واللام تفيد العلَّة، أي: حَاشَا يوسف أن يُقارِفَ ما رمته به؛ لطاعة الله، ولمكانه منه، أو لترفيع الله أن يرمى بما رمتهُ به، أي: جَانَبَ المعصية؟ لأجل الله.
وأجاب النَّاسُ عن ذلك: بأنَّ» حَاشَا «في الآية الكريمة، ليست حرفاً ولا فعلاً وإنَّما هي اسم مصدر بدلٌ من اللفظِ بفعله؛ كأنه قيل: تنزيهاً للهِ، وبراءة له، وإنما لم ينون؛ مراعاة لأصله الذي نقل منه، وهو الحرف، ألا تراهم قالوا:» مِنْ عَنْ يَمِينه «فجعلوا»(11/86)
عَنْ «اسماً، ولم يعربوه، وقالوا:» مِن عليه «فلم يثبتوا ألفه مع الضمر بل أبقوا» عَنْ «على بنائه، وقلبوا ألف» عَلى مع المضمر؛ مراعاة لأصلها، كذا أجاب الزمخشريُّ، وتابعه أبو حيَّان، ولم يَعزُ لهُ الجواب، وفيه نظرٌ؛ أما قوله: «مراعاة لأصله» فيقتضي أنه نقل من الحرفيَّة، إلى الاسمية، وليس ذلك إلاَّ في جانب الأعلام، يعني أنهم يُسمّون الشَّخص بالحرفِ، ولهم ذلك مذهبان: الإعرابُ، الحكايةٌ. أما أنهَم ينقلون الحرف إلى الاسم، أي: يجعلونه اسماً، فهذا غير معروف.
وأما استشهاده ب «عَنْ» ، و «عَلَى» فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ «عَنْ» حال كونها اسماً بنيت، لشبهها بالحرف في الوضع على حرفين، لا أنَّها باقيةٌ على بنائها، وأما قلب ألف «عَلَى» مع الضمير، فلا دلالة فيه؛ لأنَّا عهدنا ذلك، فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق كالذي، والأولى أن يقال: الذي يظهرُ في الجواب عن قراءة العامَّة، وأنها اسمٌ منصوبٌ كما تقدم، ويدلُّ عليه قراءة أبي السَّمال: «حَاشاً للهِ» منصوباً منوناً، ولكنهم أبدلوا التنوين ألفاً؛ كما يبدلونه في الوقف، ثم إنهم أجروا الوصل مجرى الوقف، كما فعلوا ذلك في مواضع كثيرةٍ، تقدم منها جلمةٌ، وسيأتي مثلها، إن شاء الله تعالى.
وقيل: في الجواب عن ذلك: بل بُنِيَتْ «حَاشَا» في حال اسميتها؛ لشبهها ب «حَاشَا» في ح الِ حرفيَّتها، لفظاً ومعنى، كما بُنيَتْ «عَنْ» ، و «عَلَى» لما ذكرناه.
وقال بعضهم: إنَّ اللام زائدة، وهذا ضعيف جدًّا بابه الشِّعر.
واستدلَّ المبرد وأتباعه على فعليتها، بمجيء المضارع منها؛ قال النَّابغة الذبيانيُّ: [البسيط]
3097 - وَلا أرَى فَاعِلاً في النَّاسِ يُشْبِههُ ... وَلا أحَاشِى من الأقْوامِ من أحَدِ
قالوا: تصرف الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل، دليلٌ على فعليتها، لا محالة.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظ الحرف؛ كما قالوا: سوَّفت بزيدٍ، ولو كيت له، أي: قلت له: سوف أفعل، وقلت له: لو كان، ولو كان، وهذا من ذلك، وهو محتملٌ.
وممن رجح جانب الفعلية، أبو علي الفارسي رَحِمَهُ اللَّهُ قال: «لا تَخْلُوا حَاشَى في قوله» حَاشَى للهِ «من أن يكون الحرف الجارُّ في الاستثناءِ، أو يكون فعلاً على فاعل، ولا يجوز أن يكون الحرف الجار؛ لأنه لا يدخل على مثله؛ ولأن الحروف لا يحذف(11/87)
منها، إذا لم يكن فيها تضعيفٌ، فثبت أنه فاعلٌ من» الحَشَا «الذي يراد به الناحية.
والمعنى: أنه صار في حشا، أي: في ناحية، وفاعل» حَاشَى «يوسف، والتقدير: بعد من هذا الأمر؛ لله، أي: لخوفهِ» .
فقوله: «حرفُ الجرِّ لا يدخل على مثله» مُسلَّمٌ، ولكن ليس هو هنا حرفُ جرِّ، كما تقدم تقريره.
وقوله: «لا يحذفُ من الحرفِ إلا إذا كان مُضَعَّفاً» ، ممنوعٌ، ويدل له قولهم: «مُذْ» في «مُنْذُ» إذا جُرَّ بها، فحذفوا عينها ولا تضعيف، قالوا: ويدلَّ على أنَّ أصلها: «منذ» بالنون، تصغيرها على «مُنَيْذ» وهذا مقررٌ في بابه.
وقرأ أبو عمرو وحده: «حَاشَا» بألفين الفٌ بعد الحاءِ، وألفٌ بعد الشين، في كلمتي هذه السورة وصلاً، ويحذفها وقفاً؛ اتباعاً للرسم، كما سيأتي، والباقون بحذف الألف الأخيرة؛ وصلاً، ووقفاً.
فأما قراءة أب عمرو، فإنه جاء فيها بالكلمةِ على أصلها، وأما الباقون: فإنهم ابتعوا في ذلك الرسم، ولما طال اللفظُ، حسن تخفيفه بالحذف، ولا سيَّما على قول من يدَّعي فعليتها، كالفارسيّ.
قال الفارسي: «وأما حذفُ الألف، فعلى: لمْ يَكُ، وَلا أدْرِ، وأصَابَ النَّاس جهدٌ، ولو تَرَ ما أهْلَ مَكَّة، وقوله: [الرجز]
3098 - وصَّانِي العَجَّاجُ فِيمَا وَصَّني ... في شعر رُؤبة، يريد: لَمْ يكن، ولا أدْرِي، ولو ترى، ووصَّاني» . وقال أبو عبيدة: رأيتها في الذي يقال له إنه الإمامُ مصحف عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «حَاشَ لله» بغير ألف، والآخرى مثلها.
وحكى الكسائيُّ: أنه رآها في مصحف عبد الله، كذلك. قالوا: فعلى ما قال أبُوا عبيد، والكسائي: تُرجَّح هذه القراءةُ، ولأن عليها ستةٌ من السبعةِ.
ونقل الفراء: أن الإتمام لغةُ بعض العرب، والحذف لغة أهل الحجاز، قال: ومِنَ العرب من يقول «حَاشَى زَيْداً» أراد «حَشَى لزيدٍ» ، فقد نقل الفراء: أنَّ اللغات الثلاثة مسموعةٌ ولكنَّ لغة أهل الحجازِ مُرجحةٌ عندهم.(11/88)
وقرأ الأعمش، في طائفة «حِشَى للهِ» بحذف الألفين، وقد تقدم أنَّ الفراء حكاها لغة عن بعض العرب؛ وعليه قوله: [الوافر]
3099 - حَشَى رَهْطَ النَّبيِّ ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... .
لبيت.
وقرأ أبي، وعبد الله: «حَاشَى اللهِ» بجر الجلالةِ، وفيها وجهان:
أحدهما: أن تكون اسماً مضافاً للجلالة، نحو سبحان الله، وهو اختيارُ الزمخشريِّ.
والثاني: أنه حرف استنثاءٍ، جر به ما بعده؛ وإليه ذهب الفارسيُّ.
وفي جعله: «حَاشَا» حرف جرِّ مُراداً به الاستثناء، نظرٌ، إذْ لم يتقدم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسم المعظَّم، بخلاف: قام القومُ حَاشَا زيدٍ، واعلم أنَّ النحويين لما ذكروا هذا الحرف، جعلوه من المتردِّد بين الفعلية، والحرفية كما عند من أثبت فعليّته، وجعله في ذلك ك «خَلاَ» و «عَدَ» ، وهذا عند من أثبت حرفيته، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسمية، والفعلية، والحرفية، كما فعلوا ذلك في «عَلَى» فقالوا: يتكون حرف جرٍّ في «عَلْكَ» ، واسماً في قوله: «مِنْ عَليْه» ، وفعلاً في قوله: [الطويل]
3100 - عَلاَ زَيْدُنَا يوْمَ النَّقَا ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... ... . .
وإن كان فيه نظرٌ، تلخيصه: أنَّ «عَلاَ» حال كونها فعلاً غيرُ «عَلَى» ، حال كونها غير فعلٍ؛ بدليل أنَّ الألف الفعلية منقلبةٌ عن واوٍ، ويدخلها التصريفُ، والاشتقاقُ دون ذينك.
وقد يتعلق من ينتصر للفارسي بهذا، فيقول: لو كان «حَاشَا» في قراءة العامَّة اسماً، لذكر ذلك النحويون عند ترددها بين الحرفية، والفعلية، فلمَّا لم يذكروه، دلَّ على عدم اسميتها.
وقرأ الحسن: «حَاشْ» بسكون الشين، وصلاً ووقفاً، كأنه أجرى الوصل مجرى(11/89)
الوقف، ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ: «حَاشَ الإله» قال محذوفاً من «حَاشَا» يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرةِ، ويدلُّ لى ذلك، ما صرَّح به صاحبُ اللوامح، فإنه قال: «بحذف الألف» ثم قال: وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ، يجر به ما بعده. فأما الإله: فإنه فكَّه عن الإدغام، وهو مصدرٌ أقيم مقام المفعول، ومعناه: المبعودُ، وحذف الألف من «حَاشَ» ؛ للتخفيف.
قال أبو حيَّان: «وهذا الذي قاله ابن عطية، وصاحب اللوامح: من أنَّ الألف في» حَاشَا «في قراءة الحسنِ، محذوفةٌ، لا يتعيَّن إلاَّ أن ينقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين، فإنه لم ينقل عنه في ذلك شيء، فاحتمل أن تكون الألف حذفت؛ لالتقاء الساكنين، والأصل: حاشا الإله، ثم نقل فحذف الهمزة، وحرَّك اللام بحركتها، ولم يعتدَّ بهذا التحريك؛ لأنه عارضٌ، كما تحذف في نحو» يخشى الإله «ولو اعتد بالحركة لم يحذف الألف» .
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: الظاهر أن الحسن يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين، ويستأنس له، بأنه سكَّن الشين في الراوية الآخرى عنه، فلما جيء بشيءٍ محتمل، ينبغي أن يحمل على ما خرج به، وقول صاحب اللّوامح: وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ بجرُّ به ما بعده، لا يصحُّ؛ لما تقدم من أنَّه لو كان حرف جرٍّ، لكان مُستثنى به، ولم يتقدم ما يُسْتثنى منه بمجروره.
واعلم أنَّ اللام الداخلة على الجلالة، متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيل البيانِ، كهي في «سَقْياً لَكَ» ، و «رَعْياً لزيد» عند الجمهور، وأما عند المبرد، والفارسي: فإنها متعلقةٌ بنفس «حَاشَى» ؛ لأنها فعلٌ صريحٌ، وقد تقدَّم أن بعضهم يرى زيادتها.
قال المفسِّرون: معنى قوله: «حَاشَى لله» أي: تنزَّه الله تعالى عن العجز، حيث قدر على خلق جميلٍ مثله، وقيلك معاذ الله أن يكون هذا بشراً.
قوله: «مَا هَذا بشراً» العامة على إعمال «ما» على اللغة الجازيَّة وهي اللغة الفُصْحَى، ولغة تميم الإهمالُ، وقد تقدَّم تخفيف هذا، أول البقرة [البقرة: 8] ، وما أنشده عليه من قوله: [الكامل]
3101 - وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْودًّةٍ..... ... ... ... ... ...
البيتين.
ونقل ابن عطيَّة: أنه لم يقرأ أحدٌ إلاَّ بلغة الحجاز، وقال الزمخشري: ومن قرأ على(11/90)
سليقته من بني تميمٍ، قرأ «بشرٌ» بالرفع، وهي قراءة ابن مسعودٍ.
فادعاءُ ابن عطية، أنه لم يقرأ به، غير مسلم. وقرأ العامة: «بَشَرا» بفتح الباءِ على أنها كلمةٌ واحدةٌ، ونصب ينزع حرفِ الخفض، أيّ: بِبشَرٍ.
وقرأ الحسن، وأبو الحويرث الحنفي: «بِشرَى» بكسر الباء، وهي باءُ جرَّ، دخلت على «شِرَى» فهما كلمتان، جارٌّ ومجرورٌ، وفيها تأويلات:
أحدهما: ما هذا بمُشْتَرَى، فوضع المصدر موضع المفعول به، ك «ضَرَبَ الأميرِ» .
الثاني: ما هذا بمباع، فهو أيضاً مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به، إلاَّ أنَّ المعنى مختلفٌ.
الثالث: ما هذا بثمنٍ، يعنين أنه أرفعُ من أن يجري عليه شيءٌ من هذه الأشياء، وروى عبدُ الوارث، عن أبي عمرو كقراءة الحسن، وأبي الحويرث، إلاَّ أنه قرأ عنه إلا «مَلِك» بكسر اللام، واحد الملوكِ، نفو عنه ذُلَّ المماليك، وأثبتوا له عزَّ المُلوكِ، وذكر ابنُ عطية: كسْرَ اللام عن الحسنِ، وأبي الحُوَيْرث.
وقال أبو البقاءِ: وعلى هذا قُرىء «مَلِك» بكسر اللام، كأنه فهم أنَّ من قرأ بكسرِ الباءِ، وقرأ بكسرِ اللام أيضاً؛ للمناسبة بين المعنيين، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءة مع كسر الباء ألبتة؛ بل يفهم من كلامه أنَّه لم يطلْ عليها، فإنه قال: وقُرِىء ما هذا بِشِرَى أي: ما هو بعبدٍ مملوكِ لئيمٍ، «إنْ هَذَا إلاَّ ملكٌ كَريمٌ» ، تقول: «هذا بِشرَى» ، أي: حاصلٌ بِشرَى، بمعنى مُشْترَى، وتقولك هذا لك بِشرَى، أو بِكِرَى «والقراءةُ هي الأولى؛ لموافقتها المصحف، ومطابقة» بَشَر «ل» مَلِك «.
قوله» لموافقتها المصحف «يعني أنَّ الرَّسم:» بَشَراً «بالألفِ، لا بالياءِ، ولو كان المعنى على» بُشْرَى «لرسم بالياءِ، وقوله:» ومُطابَقة بشراً الملك «، دليلٌ على أنه لم يطلع على كسرِ اللامِ، فضلاً عمن قرأ بكسرِ الباءِ.
فصل
في معنى قوله: {مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} وجهان:
أشهرهما: أن المقصود منه إثباتُ الحسن العظيم له، قالوا: لأنه تعالى ركب في الطبائع أنَّ لا حيَّ أحسنُ من الملكِ، كما ركَّب فيها أنَّ لا حيَّ أقبحُ من الشَّيطان،(11/91)
ولذلك قال في صفة شجرةٍ جهنَّم: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 65] وذلك لما تقرَّر في الطبائع، أنَّ أقبح الأشياءِ، هو الشيطانُ، فكذا هاهنا، تقرَّر في الطبائع أنَّ أحسن الأشياءِ، هو الملكُ، فلما أرادت النسوةُ المبالغة في وصفِ يوسف في الحسنِ، لا جرم شبَّهنهُ بالملك، وقلن:» إنْ هَذَا إلاَّ مَلكٌ كَرِيمٌ «على الله من الملائكة.
والوجه الثاني: قال ابنُ الخطيب: وهو الأقربُ عندي، أن المشهور عند الجمهور، أنَّ الملائكة مطهَّرون عن بواعثِ الشهوةِ، وحوادث الغضب، ونوازع الوهم، والخيال، فطعامهم توحيد الله، وشرابهم الثناءُ على الله، ثم إنَّ النسوة لما رأين يوسف، لم يلتفتْ إليهن، ورأين عليه هيبة النُّبوةِ، وهَيْبة الرسالةِ، وسيما الطَّهارة، قلن: ما رأينا فيه أثراً من الشَّهوة، ولا شيئاً من البشرية، ولا صفة من الإنسانيةِ، ودخل في الملائكة، فإن قالوا: فإن كان المرادُ ما ذكرتم، فكيف يتمهدُ عُذْرٌ المرأةِ عند النسوةِ؟ فالجواب قد سبق.
فصل فيمن احتج بالآية على أن الملك أفضل من البشر
احتج القائلون بأ الملك أفضلُ من البشر بهذه الآية فقالوا: لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في مع رض تعظيم يوسف صلوات الله وسلامه عليه، فوجب أم يكون إ خراجه من البشرية، وإدخاله في الملكيِّة، سبباً لتعظيم شأنه، وإعلاء مرتبتة، وإنما يكون كذلك، إذا كان الملك أعلى حالاً من البشر.
ثم نقول: لا خلُوا إما أن يكون المقصودُ بيان كماله في الحسنِ الظاهر، أو بيان كمال حُسْنِ الباطنِ الذي هو الخلق الباطن، والأول باطلٌ لوجهين:
الأول: أنهن وصفنه بكونه كريماً؛ بحسب الأخلاق الباطنة، لا بحسب الخلقةِ الظاهرة.
والثاني: أنا نعلمُ بالضرورة أنَّ وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكةِ ألبتة، وأما كونه بعيداً عن الشهوة، والغضب، معرضاً عن اللَّذات الجسمانية، مُتوجِّهاً إلى عبوديةِ الله، مستغرق القلبِ والرُّوحِ، فهو مشتركٌ فيه بين الإنسان الكاملِ، وبين الملائكةِ.
إذا ثبت هذا فنقول: تشبيه الإنسانِ بالملكِ، في الأمرِ الذي حصلت المشابهةُ فيه على سبيلِ الحقيقة، أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل فيه المشابهة ألبتة؛ فثبت أن تشبيه يوسف بالملك في هذه الآية، إنَّما وقع في الخُلق الباطن، لا في الصُّورة الظاهرةِ، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان في هذه الفضائل.
قوله: «فَذلِكُنَّ» مبتدأ، والموصول خبره، أشارت إليه إشارة البعيد، وإن كان(11/92)
حاضراً؛ تعظيماً له، ورفعاً منه لتُظهرَ عذرها في شغفها.
وجوَّز ابنُ عطية: «أن يكون» ذَلِكَ «إشارةٌ إلى حبِّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والضمير في» فِيهِ «عائدٌ على الحبِّ، فيكون» ذَلِكَ «إشارةً إلى غَائبٍ على بابه» .
يعنى بالغائب: البَعيِدَ، وإلا فالإشارةُ لا تكون إلاَّ لحاضرٍ مُطلقاً.
وقال ابن الأنباري: «أشارت بصيغةِ» ذَلِكَ «إلى يوسف بعد انصرافه من المجلسِ» .
وقال الزمخشري: «إنَّ النسوة كُنَّ قلن: إنها عَشقَتْ عبْدَها الكنْعَانيَّ، فلمَّا رأينه، وفعن في تلك الدَّهشة، قالت: هذا الذي رأيتموهُ، هو العبد الكنعاني الذي لمُتُنَّنِي فيه، يعني: أنكَّن لم تصورنه بحقِّ صورتهن فلو حصلت في خيالكُنَّ صُرتهُ، لتركتن هذه الملامةً» .
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة، في شدَّة محبَّتها له، كشف عن حقيقة الحال؛ فقالت: {ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ} وهذا تصريحٌ بأنه عليه الصلاة واسلام كان بريئاً من تلك التُّهمةِ.
وقال السديُّ: «فاسْتَعْصمَ» بعد حلِّ السَّراويل.
قال ابن الخطيب: «وما أدري ما الذي حمله على إلحاقِ هذه الزيادةِ الفَاسدةِ الباطلةِ بنص الكتاب؟! وذل أنَّها صرَّحتْ بما فعلت: {ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ} أي: فامتنع، وإنما صرَّحت به؛ لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنَّ، وقد أصابهنَّ ما أصابهن، من رُؤيته.
قوله: «فاسْتَعْصمَ» في هذه السين وجهان:
أحدهما: أنها ليست على بابها من الطلب، بل «اسْتَفْعَل» هنا مبعنى «افْتَعَل» فاستعصم و «اعْتصَمَ» واحدٌ وقال الزمخشريُّ: «الاستعصام بناءُ للمبالغة يدلُّ على الامتناع البليغ، والتحفُّظ الشَّديد، كأنه في عصمةِ، وهو مجتهدٌ في الزيادة فيها، والاستزادة منها، ونحوه: اسْتمْسَكَ، واسْتوْسَعَ الفتقُ، واسْتجْمَعَ الرَّأيُ، واستفحل الخَطْبُ» فردّ السين إلى بابها من الطلبِ، وهو معنّى حسنٌ، ولذلك قال ابن عطية: «معناه طَلبَ العِصْمَةَ، واسْتمْسَكَ بها وعصاني» قال أبو حيان: ذكره التَّصريفيَّون في «اسْتَعْصَم» : أنه موافقٌ ل «اعتصم» ، و «اسْتَفْعَلَ» فيه: موافق ل «افتعل» وهذا أجودُ من جعل «استعفل» فيه للطلبِ؛ لأن «اعْتَصَمَ» يدلُّ على اعتصامه، وطلبُ المعصمةِ لا يدلُّ على حصولها، وأما أنه بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الاجتهادِ في الاستزادة من العصمة، فلم(11/93)
يذكر التصريفيون هذا المعنى ل «اسْتَفْعَلَ» ، وأما «اسْتَمْسكَ، واسْتَجْمَعَ الرأي، واسْتوْسَعَ الفَتْقُ، ف» اسْتَفْعَل «فيه لموافقةِ» افْتَعَلَ «، والمعنى: امتسك، واتسع، واجتمع، وأما» اسْتَفْحَلَ الخَطْبُ «ف» فاستَفْعَلَ «فيه موافقة ل» تَفعَّل «أي: تفَحَّل الخطب نحو» استْتَكْبرَ وتَكبَّرَ «.
قوله:» مَا آمُرُهُ «في» مَا «وجهان:
أحدهما: مصدريةٌ.
والثاني: أنها موصولةٌ، وهي مفعولٌ بها بقوله:» يَفْعَل «، والهاءُ في» آمرُرُهُ «تحتمل وجهين:
أحدهما: العودُ على» مَا «الموصولة، وإذا جعلناها بمعنى الذي.
الثاني: العودُ على يوسف.
ولم يجوِّز الزمخشريُّ عودها على يوسف إلا إذا جعلت» ما «مصدرية، فإنه قال: فإنْ قلت: الضميرُ في:» مَا آمُرُهُ «راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف؟ قلتُ: بل إلى الموصول، والمعنى: ما آمرُ به، فحذف الجار؛ كما في قوله: [البسيط]
3102 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ ... ... ... ....... ... ... ... ... ... ... ... . .
ويجوز أن تجعل» ما «مصدرية، فيعود على يوسف، ومعناه: ولئنْ لم يفعل أمري إيَّاه، أي: موجبُ أمري، ومُقْتَضَاهُ» .
وعلى هذا، فالمفعولُ الأول محذوفٌ، تقديره: ما آمره به، وهو ضمير يوسف عليه السلام.
قوله: {وَلَيَكُوناً} قرأ العامة يتخفيف نون «وليَكُوناً» ، ويقفون عليها بالألف؛ إجراءً لها مجرى التنوين، ولذلك يحذفونها بعد ضمةٍ، أو كسرةٍ، نحو: هل تقومون؛ وهل تقومين؟ في: هل تقومن؟ والنونُ الموجودة في الوقف، نونُ الرفع، رجعوا بها عند عدم ما يقتضي حذفها، وقد تقرر فيما تقدَّم أنَّ نون التوكيدِ تثقَّلن وتخفف، والوقفُ على قوله: «ليُسْجَنَنَّ» بالنُّونِ؛ لأنَّها مشددةٌ، على قوله: «وليَكُوناً» بالألف؛ لأنها مخففةٌ، وهي شبيهةٌ بنون الإعراب في الأسماءْ؛ كقولك: رأيتُ رجلاً، وإذا وقفت قلت: رجلا، بالألف، ومثله:
{لَنَسْفَعاً
بالناصية
} [العلق: 15] .
و «مِنَ الصَّاغرينَ» من الأذلاَّءِ، وقرأت فرقة بتشديدها وفيها مخالفةٌ لسوادِ المصحف؛ لكتبها فيه ألفاً؛ لأ، الوقف عليها كذلك؛ كقوله: [الطويل]
3103 - وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْربنَّهَا ... ولا تَعْبُدِ الشَّيطانَ واللهَ فاعْبُدَا(11/94)
أي: فاعْبُدونْ، فأبدلها ألفاً، وهو أحدُ الأقوالِ في قول امرىء القيس: [الطويل]
4104 - قِفَا نَبْكِ ... ... ....... ... ... ... ... ... . .
وأجرى الوصل مجرى الوقف.(11/95)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
قوله: {رَبِّ السجن} العامة على كسر الباء؛ لأنه مضافٌ لياء المتكلم، اجتزىء عنها باكسرة، وهي الفصحى، و «السِّجنُ» : بكسر السين، ورفع النُّون، على أنَّه مبتدأ، والخبر: «أحَبُّ» و «السِّجنُ» الحبسُن والمعنى: دخول السِّجنِ.
وقرأ بعضهم: «ربُّ السِّجنُ» بضمِّ الباءِ، وجرِّ النون، على أنَّ «ربُّ» مبتدأ و «السِّجن» خفض بالإضافة، وأَحبُّ «: خبره، والمعنى: ملاقاةُ صاحب السجن، ومقاساته أحبُّ إليَّ.
وقرأ عثمان، ومولاه طارق، وزيد بن علي، والمرهريُّ، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب: بفتح السِّين، وفي الباقي كالعامَّة.
والسِّجنُ: مصدرٌ، أي: الحبسُ أحبُّ [إليَّ] ، و» إليَّ «متعلقٌ ب» أحَبُّ «، وقد تقدم [يوسف: 8] : وإنَّما هذان شرَّان، فآثر أحد الشَّرينِ على الآخر.
فصل
الظَّاهر أنَّ النسوة لما سمعن هذا التهديد، قلن له: لا مصحلة لك في مخالفة أمرها، وإلاَّ وقعت في السِّجنِ وفي الصَّغار، فعند ذلك اجتمع في حقِّ يوسف، أنواع الترغيب في الموافقة:
أحدهما: أنَّ» زُلَيْخَا «كانت في غاية الحسن.
والثاني: أنها كانت على عزم أن تبذُل الكُّلَّ ليوسف، إن طاوعها.(11/95)
الثالث: أن النسوة اجتمعن عليه، وكلُّ واحدةٍ منهم كانت ترغبه، وتخوفه بطريقٍ غير طريقِ الأخرى، ومكرُ النساءِ في هذا الكتاب شديدٌ.
الرابع: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان خائفاً من شرِّها، ومن إقدامها على قتله، وإهلاكه.
فاجتمع في حقِّه جميع جهات الترغيب؛ على موافقتها، وجميع جهات التَّخويف؛ على مخالفتها، فخاف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تؤثر هذه الأسباب الكثيرة فيه، والوقوة البشريَّة لا تفي بحصول هذه القضية القوية؛ فعند ذلك التجأ إلى الله تعالى وقال: {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} وقدَّم محبته السِّجن وإن كانت معصية؛ لأنها أخفُّ، وذلك أنه متى لزم ارتكابُ أحد قسمين، كلِّ واحدٍ منهما يضرُّ، فارتكابُ اقلِّ الضررين أولى؛ والأولى بالمرءِ أن يسأل الله العافية.
فإن قيل: كيف قال:» يَدْعُوننِي إليْهِ «وإنما دعتْه زُلَيْخَا خاصَّة؟ .
فالجواب: أضافهُ إليهنَّ؛ خُروجاً من التصريح إلى التعريض، وأراد الجنس، وقيل إنهن جميعاً دعونه إلى أنفُسهِنَّ، وقيل أراد ترغيبهنّ له في مُطَاوعِتهَا.
فصل
{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} قرأ العامة بتخفيف الباء، من: صَبَا يَصْبُو، أي: رقَّ شوقُه، والصَّبْوة: الميلُ إلى الهوى، ومنه» الصَّبَا «؛ لأن النُّفوسَ تصبُّو إليها، أي: تميِلُ إلى نسيمها ورَوْحِهَا، يقال: صَبَا يَصْبُو صَبَاءً وصُبُوًّا، وصَبِيَ يُصبْي صَباً، والصِّبَا بالكسرة: اللَّهو، واللَّعب.
وقرأت فرقةٌ» أصُبَّ «بتشديدهخا من صَبَيْتُ صَبَابَةً، فأنا صبٌّ، والصَّبابَةُ: رقَّةُ الشْوقِ، وإفراطه؛ كأنه لفَرْطِ حُبِّه يَنْصَبُّ فِيمَا يَهْوَاه كما يَنصَبُّ المَاءُ.
فصل
احتجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الإنسان لا ينصرفُ عن المعصية، إلاَّ إذا صرفه الله عنها.
قالوا: لأن هذه الآية تدلُّ على أنه إنْ لم يصرفه عن ذلك القبيح، وقع فيه. وتقريره: أنَّ الداعي إلى الفعل، والترْكِ، إن استويا، امتنع الفعل؛ لأن الفعل أحدْ رجحان الطرفين، ومَرْجُوحيَّة الطرفِ الآخرن وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين؛ وهو محالٌ، فإن حص الرجحانُ في أحد الطرفين، فذلك الرجحانُ ليس من(11/96)
العبدِ، وإلا لذهبت المراتب إلى غير نهايةٍ، بل نقول: من الله تعالى، فالصَّرفُ عبارةٌ عن جعله مَرْجُوحاً؛ لأنه متى صار مَرْجُوحاً، صار ممتنع الوقوع؛ لأن الوقوع رجحانٌ، فلو وقع في حالِ المرجوحةِ، لحصل الرجحان حال حصولِ المرجوحيَّة، وهو مقتضى حصول الجمع بين النقيضين؛ وهو محالٌ.
فثبت بهذا أنَّ انصراف العبد عن القبيح ليس إلا الله من الله.
وأيضاً: فإنَّه كان قد حصل في «يُوسفَ» جميعُ الأسباب المرغِّبةِ في المعصية، وهو الانتفاعُ بالمالِ والجاه، والتَّمتُّع بالمطعومِ، فقد فويتْ دواعي الفعل، وضعفت الدَّواعي المعارضة لدواعي المعصيةِ؛ إذْ لو لم يحصل هذا التعارضُ، لحصل الترجيحُ للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه؛ وذلك يوجبُ وقوع الفعل، وهو المراد من قوله {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} وفيه دليلٌ على أنَّ المؤمن إذا ارتكب ذنباً، يرتكبه عن جهالةٍ.
قوله: {فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} ، أجاب له ربُّهُ، {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} ؛ وذلك يدلُّ على أنَّ الصارف عنه، هو الله تعالى {إِنَّهُ هُوَ السميع} لدعائه، {العليم} بمكرهن.(11/97)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} ، في [فاعل «بدا» ] أربعةُ أوجه:(11/97)
أحسنها: أنَّه ضميرٌ يعود على «السَّجْن» فتح السِّين، أي: ظهر لهم حبسُه؛ ويدلُّ على ذلك اللَّفظ ب: السِّجْن «في قراءةِ العامَّة، وهو بطريقِ اللازمِ، ولفظ» السَّجْن «في قراءةِ العامَّة، وهو بطريقِ اللازمِ، ولفظ» السَّجْن «في قراءة من فتح السين.
والثاني: أنَّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل؛ وهو» بَدَا «، أي: بدا لهُم بداءٌ، وقد صرَّح الشاعرُ به قول قوله: [الطويل]
3105 - ... ... ... ... ... ..... بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ
والثالث: أنَّ الفاعل مضمرٌ يدلُّ عليه السِّياقُ، أي: لهم رأيٌ.
والرابع: أنَّ نفس الجملة من» لَيَسْجننَّهُ «هي الفاعل، وهذا من أصولِ الكوفيين، وهذا يَقْتضِي إسنادَ الفعلِ إلى فعلٍ آخر؛ واتفق النحاة على أنَّ ذلك لا يجوزٌ.
فإذا قلت:» خَرَجَ ضَرَبَ «، لم يفذْ ألبتة، فقدَّروا: ثمُّ بدا لهم سجنهُ، إلاَّ أنه أقيمَ هذا الفعل مقام ذلك الاسم.
قال ابنُ الخطيب: الاسمُ قد يكون خبراً؛ كقولك: زيدٌ قائمٌ، ف» قائم «اسمٌ وخبرٌ، فعلمنا أنَّ كون الشيءِ خبراً، لا ينافي كونه مخبراً عنه، وفي هذا الباب شكوكٌ:
أحدها: أنَّا إذا قلنا:» ضَرَبَ فَعَلَ «، والمخبر عنه بأنَّه فعل هو ضرب، فالفعل صار مُخْبراً عنه.
فإن قالوا: المخبر عنه هو هذه الصيغةُ، وهذه الصيغة اسم، فنقول: فعلى هذا التقدير؛ يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل هو هذه الصيغة وهذه الصيغة اسم، لا فعلٌ، وذلك كذبٌ باطلٌ، بل نقول: المخبر عنه بأنه فعلٌ: إن كان فعلاً، فقد ثبت أنَّ الفعل يصحُّ الإخبار عنه، وإن كان اسماً، كان معناه: أنَّا أخبرنا عن الاسم بأنه فعلٌ، وذلك باطلٌ.
و» حتَّى «: غاية لما قبله، وقوله:» ليَسْجُنُنَّهُ «؛ على قول الجمهور: جوابٌ لقسم محذوفٍ، وذلك القسم وجوابه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: ظهر لهم كذا قائلين: والله، لنَسْجُننَّهُ حتَّى حينٍ.
وقرأ الحسن:» لتَسْجُنُنَّهُ «، بتاء الخطاب، وفيه تأويلان:
أحدهما: أن يكون خاطب بعضهم بعضاً بذلك.
والثاني: أن يكون خُوطبَ به العزيزُ؛ تعظيماً له.
وقرأ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» عَتَّى «بإبدال حاءِ» حتَّى «عيناً، وأقرأ بها(11/98)
غيره، فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فكتب إليه:» إنَّ هَذَا القُرآنَ نَزلَ بلُغةِ قُريشٍ فأقْرىءِ النَّاس بُغتِهِمْ «وإبدالُ الحاءِ عيناً لغةٌ هُذيلٍ.
فصل في معنى الآية
المعنى: ثُمَّ بَدَا للعزيزِ، وأصحابه في الرأي؛ وذلك أنَّهم أرادوا أن يقتصروا من أمر» يُوسفَ «على الإعراض عنه، ثم بدا لهم أن يحبسُوه من بعد ما رأوا الآياتِ الدَّالة على براءةِ» يُوسفَ «من: قدِّ القميصِ، وكلام الشَّاهِد، وقطع النساءِ أيديهنَّ، وذهابِ عقولهنَّ» ليَسْجُنُنَّهُ حتَّى حِينٍ «: إلى مُدَّةٍ يرون فيهَا رأيهم.
وقال عطاء عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: إلى أن تنقطع قالة النَّاس، قال عكرمةٌ: تِسْع سِنينَ، وقال الكلبيُّ: خمس سنين.
قال السديُّك وذلك أنَّ المرأة قالت لزوجها: إنَّ هذا العبرانيَّ قد فَضحَنِي في الناس؛ يُخْبرهم بأنِّي رَاودْتُه عن نفسه، فإمَّا أن تأذن لي أن أخرج، فأعتذرَ إلى الناسِ، وإما أن تحبسه، فحبسه.
قال ابنُ عبَّاس عَثرَ يُوسفُ ثلاثَ عثراتٍ: حِينَ هَمَّ بها؛ فسُجِنَ، وحين قال: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ؛ {فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] ، وحين قال لإخوته: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] ؛ {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] .
قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ} يوسف: 36] قيل: هما غُلامانِ للملك الأكبر بمصر:
أحدهما: خَبَّازٌ، صاحبُ طعامه.
والآخر: صاحبُ شَرابه، غضب الملكُ عليهما فحَبسَهُما.
قوله: «قَالَ أحَدهُمَا» : مُسْتأنفٌ لا محلَّ له، ولا يجوز أن يكون حالاً؛ لأنهما لم(11/99)
يقولا ذلك حال الدُّخولِ، ولا جائزٌ أن تكون مقدَّرة؛ لأنَّ الدخول لا يَئُولُ إلى الرؤيا، و «إنِّي» وما في حيِّزه: في محل نصبٍ بالقول.
و «أَرَانِي» : مُتعدِّيةٌ لمفعولين عند بعضهم؛ إجراءً للحلمية مجرى العلمية؛ فتكون الجملة من قوله: «أعْصِرُ» في محلِّ المفعول الثاني، ومن منع، كانت عنده في محلِّ الحالِ.
وجرت الحلمية مجرى العلمية أيضاً في اتحاد فاعلها، ومفعولها ضميرين متَّصلين؛ ومنه الآيةٌ الكريمةُ؛ فإنَّ الفاعل المفعول مُتَّحدانِ في المعنى؛ إذ هما للمتكلِّم، وهما ضميران متصلان، ومثله: رأيتك في المنام قائماً، وزيدٌ رآه قائماً، ولا للمتكلِّم، وهما ضميران متصلان، ومثله: رأيتك في المنام قائماً، وزيدٌ رآه قائماًن ولا يجوزُ ذلك في غير ما ذكر.
لا تقول: «أكْرَمتُنِي» ، ولا «أكرمتَك» ، ولا «زيدٌ أكْرمَهُ» ؛ فإ، أردت بذلك، قل: أكْرمْتُ نَفْسِي، أو إيَّاي ونفسكَ، أوْ [أكْرَمْتَ] إيَّاك ونفسهُ، وقَدْ تقدَّم تحقيق ذلك.
وإذا دخلت همزةٌ النقل على هذه الحلمية، تعدت لثالثٍ، وتقدم هذا في قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً} [الأنفال: 42] .
والخَمْرُ: العِنَبُ، أطلق عليه ذلك؛ مجازاً؛ لأنه آيلٌ إليه؛ كما يطلق الشيء على الشيء؛ باعتبار ما كان عليه؛ كقوله {وَآتُواْ اليتامى} [النساء: 2] ، ومجاز هذا أقربُ، وقيل: بل الخَمْرُ: العِنَبُ حقيقةً في لغةِ غسَّانٍ، وإزْدِ عمان.
وعن المُعْتَمر: لقيتُ أعْرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ، فقلتُ: ما تحمل؟ قال: خَمْراً.
وقراءة «أبيَّ» ، وعبد الله: «أعْصِرُ عِنَباً» ، لا تدلُّ على الترادف؛ لإرداتهما؛ لإرادتهما التفسير، لا التلاوة، وهذا كما في مصحف عبد الله: «فَوْقَ رأسِي ثَرِيداً» ، فإنه اراد التَّفسيرَ فقط.
و «تَأكُلُ الطَّيْرُ» : صفةٌ ل «خُبْزاً» ، و «فَوْقَ» يجوز أن يكون ظرفاً للحملِ، وأن يتعلق بمحذوفٍ، حالاً من «خُبْزاً» إلاّ أنه في الأصل صفة له، والضمير في قوله «نَبِّئْنَا بِتَأويلهِ» : قال أبو حيَّان: «عائدٌ على ما قَصَّا عليه، أجري مُجْرَى اسم الإشارةِ؛ كأنَّه قيل: تأويله ما رَأيْتَ» .
وقد سبقه إليه الزمخشريُّ، وجعله سُؤالاً، وجواباً، وقال اغيره: إنَّما واحد الضمير؛ لأن كلَّ واحدٍ سأل عن رُؤياه؛ وكأن كلَّ واحد منهما قال: نبئنا مارأيتُ.
و «تُرْزَقانِهِ» صفةٌ ل «طَعَامٌ» ، وقوله «إلاَّ نَبَّأتُكُمَا» : استثناء مفرَّغٌ، وفي موضِ الجملة بعدها وجهان:(11/100)
أحدهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وساغ ذلك من النكرةِ؛ لتخصُهصا بالوصف.
الثاني: أن تكون في محلِّ رفعٍ؛ نعتاً ثانياً ل «طَعَامٌ» .
والتدقير: لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه مُنَبَّاً بتأويله، أو مُنَبَّاٌ بتأويله، و «قَبْلَ: الظاهرُ أنَّها ظرفٌ ل» نَبَّأتُكُما «، ويجوز أن يتعلق بتأويله، أي: نبأتكما بتأويله الواقع قبل إتيانه.
فصل
قيل: إنَّ جماعة من أهل مصر، أرادوا المكر بالملك، فَضَمِنُوا لهذين الرجلين مالاً، ليَسُمَّا الملك في طعامه، وشرابه، فأجابهم، ثمَّ إن الساقي نكل عنه، وقبل الخبازُ الرشوة فسمَّ الطَّعام، فلما أحضروا الطعام، قال السَّاقي: لا تأكلْ أيُّها الملك؛ فإنَّ الطعام مسمومٌ، وقال الخبَّازُ: لا تشربْ أيها الملكُ؛ فإنَّ الشراب مسمومٌ، فقال الملك للساقي: اشربْ، فشربهُ فلم يضرُّه، وقال للخبَّاز: كل من طعامك، فأبى، فجرَّب ذلك الطعام على دابَّة، فأكلتهُ: فهلكتْ؛ فأمر الملك بحبسهما.
وكان يوسف حين دخل السِّجن، جعل ينشر عمله، ويقول: إنِّي أعبِّر الأحلام، فقال أحدٌ الفتين لصاحبه: هلُمَّ فلنجرب هذا العبد العبرانيِّ، فتراءيا له، فسألاه من غير أن يكون رأياً شيئاً.
قال ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» مَا رَأيَا شَيْئاً وإنَّما تَحالَمَا ليُجَرِّبَا يُوسفَ «عليه السلام.
وقيل: بل رأيا حقيقة، فرآهما يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهما مهمومان، فسألهما عن شأنهما، فكذرا أنَّهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤية همَّتهما، فقال يوسف صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء والمرسلين: قُصَّا عليَّ ما رأيتما! فقصَّا عليهن فعبَّر لهما ما رأياهُ، وعرف حرفة كلِّ واحدٍ من منامه.
وتأويلُ الشَّيء: ما يرجعُ إليه، وهو الذي يَئُولُ إليه آخرُ ذلك الأمر.
ثم قالا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} : في أمر الدين، أي: نراك تُؤثِرُ الإحسانَ، وتأتي مكارمَ الأخلاق.
وقيل: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} في علم التعبير؛ وذلك أنَّه حين عبَّر لم يخطىء.
[وقيل: إنه كان يعود مرضاهم ويوقّر كبيرهم، فقالوا إنَّا لنراك من المحسنين في حقّ الأصحاب] .(11/101)
فصل في حقيقة علم التعبير
وحقيقة علم التَّعبير: أنه تعالى خلق جوهر النَّفس الناطقة، بحيث يمكنها الصعودُ إلى عالم الأفلاكِ، ومطالعةُ اللَّوحِ المحفوظِ، والمانعُ لها من ذلك: اشتغالها بتدبير البدنِ، فوقت يقلُّ هذا الاشتغال، يقوى على هذه المطالعة، فإن وقعت على حالةٍ من الأحوال، ترك آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراكِ الرَّوحاني، إلى علم الخيال، فالمعبِّر يستدلُّ بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات القلبيَّة.
قال صلوات الله وسلامه عليه: «الرُّؤيَا ثلاثةٌ: رُؤيَا ما يُحدِّثُ الرَّجلُ بِهِ نفسهُ، ورُؤيَا تحدثُ من الشَّيطانِ، ورُؤيَا جُزءٌ مِنْ ستَّةٍ وأرْبَعينَ جُزْءاً مِنَ النُّبوَّةِ» .
فصل
في قوله يوسف ما أحد قط الإ دخل عليّ من حبه بلاء، أو في البلاء الذي حل بيوسف بسبب حب الناس له: رُويَ أنَّ الفتيين لمَّا رأيا يُوسُفَ، قالا: لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسفُ: ناشدتكما، لا تُحِبَّاني؛ فواللهِ ما أحبَّنِي أحدٌ قط؛ إلاَّ دخل عليَّ مِنْ حبِّه بلاءٌ، لقد أحَبَّتْنِي عمَّتي، فدخل عليَّ بلاءٌ، ثم أحبَّني أبِي، فألقيتُ في الجبِّ، وأحبَّتْنِي امرأةُ العزيز، فحُبِسْتُ.
فلما قصَّا عليه الرؤية، كره يوسفُ أن يعبِّر لهما ما سألاه، لما علم ما في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره، من إظهار المعجزة، والدُّعاءِ إلى التَّوحيدِ.
فقال: «لا يأتيكما طعام ترزقانه» قيلك أراد به في النوم، أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما، إلاَّ نبأتكما بتأويله في اليقظةِ، وقيل: أراد به في اليقظةِ؛ فقوله {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في منازلكما تطعمانه، وتأكلانه «إلاَّ نَبَّأتُكمَا» أخبرتكما «بتأويلهِ» بقدره، ولو، والوقت الذي يصلُ إليكما، قبل أن يصل، وأيَّ طعام أكلتم، وكم أكلتم ومتى أكلتم.
وهذا مثلُ معجزةِ عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حيثُ قال: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] .
فقال: هذا فعلُ القوَّافين والكهنةِ، فمن أين لك هذا العلم؟ .
فقال: ما أنا بكاهنٍ، وإنما ذلك العلمُ مما علَّمني ربِّي.
ثم قال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} ، وفي سؤالٌ:(11/102)
وهو قوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} يوهمُ أنه صلوت الله وسلامه عليه كان في هذه الملَّة؟ .
والجوابُ من وجوه:
الأول: أنَّ التَّرك عبارةٌ عن عدمِ التعرُّضِ للشيء، وليس من شرطه أن يكون قد
كان خائضاً فيه.
والثاني: أن يقال: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان عبداً لهم بحسب زعمهم ولعلَّه قبل ذلك كان لا يظهرُ التوحيد، والإيمان؛ خوفاً منهم، ثم إنَّه أظهره في هذا الوقت؛ فكان هذا جارياً مجرى تركِ ملَّة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
قوله: (إني تركت) يجُوز أن تكون هذه مستأنفة، أخبر بذلك عن نفسه، ويجوز أن تكون تعليلاً لقوله: {ذلك مما علمني ربي} ، أي: تركي عبادة غير الله، سببٌ لتعليمه إيَّاي ذلك، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإعراب، و «لا يُؤمِنُونَ» : صفةٌ ل «قومٍ» .
وكرَّر «هُمْ» في قوله: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} ؛ قال الزخشريُّ: «للدَّلالة على أنهم خُصُوصاً كافرون بالآخرة، وأنَّ غيرهم مؤمنون بها» .
قال أبُوا حيَّان: «وليستْ» هُمْ «عندنا تدلُّ على الخُصوصِ» .
قال شهابٌ الدِّينك «لم يَقل الزمخشريُّ إنها تدلُّ على الخُصُوصِ، وإنَّما قال:» وتكرير «هُمْ» للدلالةِ على الخصوصِ «فالتكريرُ هو الذي أفاد الخصوص وهو معنٌى حسنٌ» .
وقيل: «كرَّر» هُمْ «؛ للتوكيد.
وسكَّن الكوفيُّون الياء مِنْ:» آبَائِي «، ورويت عن أبي عمرٍو، وإبراهيم، وما بعده: بدلٌ، أو عطفٌ بيانِ، أو منصوبٌ على المدح.
قوله {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ، لمَّا أدَّعى النبوة، وتحدَّى بالمعجزة وهوعلمُ التَّعبير قرَّر كونه من أهل النبوة، وأنَّ أباه وأجداه كانوا أنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّ الإنسان متى ادَّعى حرفة أبيه وجده، لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً: فكما أنَّ درجة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإسحاق، ويعقوب، كان أمْراً مشهوراً في الدنيا، فإذا ظهر أنَّه ولدهم، عظَّموه، ونظروا إليه بعينِ الإجلالِ؛ فكان انقيادهم له أتمَّ وتتأثر قلوبهم بكلامه.
فإن قيل: إنَّه كان نبيَّا، فكيف قال: {واتبعت مِلَّةَ آبآئي} ، والنبيُّ لا بدَّ وأن يكون مختصاً بتشريعة نفسه؟ .(11/103)
فالجواب: لعلَّ مراده أنَّ التوحيد كلا يتغيَّر، ولعله كان رسُولاً من عند الله؛ إلاَّ أنه كان على شريعةِ إبراهيم صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء المرسلين.
قوله: {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ} فيه سؤال:
وهو أنَّ حال كُلِّ من المكلفين كذلك؟ .
والجواب: ليس المراد بقوله:» مَاكَانَ لنَا «أنَّهُ حرَّم ذلك عليهم، بل المرادُ أنه تبارك وتعالى طهَّره، وطهر آباءه عن الكفر؛ كقوله {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] .
قوله:» مِنْ شيءٍ «يحوز أن يكون مصدراً، أي: شيئاً من الإشراك، ويجوزُ أن يكون واقعاً على الشِّرك، أي: ما كان لنا أن نُشرِكَ شيئاً غيره من ملكِ، أو إنسٍ، أو جنٍّ، فكيم بصنَم؟ .
و» مِنْ « [مزيدة] على التَّقديرين؛ لوجود الشرطين.
ثم قال: «ذلِكَ» أي: التَّوحيد والعلمُ {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس} ، بِمَا بيَّن لهم من الهدى؛ {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} نعم الله على الإيمان.
حُكِيَ أنَّ واحداً من أهْلِ السُّنَّةِ دخل على بشرِ بن المعتمر، وقال له: يا هذا: هل تشكرُ الله على الإيمان أم لا؟ فإنْ قلت لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته، فكيف تشكرُ على ما ليس فعلاً له؟ .
فقال له بشرٌ: إنَّا نشكرُ الله على أنه تعالى أعطانا: القدرة، والعقل، والآلة، فيجبُ علينا أن نشكره على إعطاءِ القدرةِ والآلةِ، فأمَّا أن نشكرهُ على الإيمان، مع أنَّ الإيمان ليس فعلاً، فذلك باطلٌ، فدخل عليهم ثمامةُ بن الأشرسِ، وقال: إنَّا لا نشكرُ الله على الإيمان، بل اللهُ يشكرنا عليه؛ كما قال تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] فقال بشرٌ: «لمَّا صعب الكلامُ، سهُلَ» .
قال ابن الخطيب: «واعلم أنَّ الذي اقترحه ثمامة باطلٌ؛ بنص هذه الآية؛ لأنَّه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله، ثم بيَّن أنَّ أكثر الناس لا يشكُرون هذه النعمةَ، وإنما ذكره على سبيل الذَّمِّ، فدل هذا على أنه يجبُ على كل مؤمن أن يشكُر الله على نعمةِ الإيمانِ، وحينئذٍ تقوى الحجَّةُ، وتكمُل الدلالة» .
قال القاضي: قوله: ذلِكَ «إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيدِ، فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بإلطافه، وتسهيله، ويحتملُ أن يكون إشارة إلى النبوة.
والجواب: أنَّ» ذَلِكَ إشارة إلى المذكورِ السابقِ، وذلك هو تركُ الإشراكِ فوجب(11/104)
أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل؛ فكان هذا تركاً للظاهر، وأمَّا صرفه إلى النبوة، فبعيدٌ؛ لأن اللفظ الدالَّ على الإشارة يجبُ صرفه إلى أقرب المذكورات، وهو هنا عدمُ الإشراك.
قوله تعالى: {ياصاحبي السجن} : يجوزُ أن يكون من باب الإضافة للظروف؛ إذ الأصل: يا صاحبيّ في السِّجن، ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المشبه بالمعفول به، والمعنى: يا سَاكِني السِّجن، وذكر الصُّحبة، لطُولِ مقامهما فيه؛ كقوله تعالى: {أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 44 50] .
وقوله: {أَمِ الله} ، هنا: متًّصلةٌ؛ عطفت الجلالة على «أرْبَابٌ» .
فصل
اعلم أنه عليه الصلاة والسلام لما أدَّعى النبوة في الآية الأولى، وكان إثباتُ النبوة مبينًّا على إثبات الإلهيَّة، لا جرم شرع في هذه الآيةِ في تقريرِ الإلهياتِ، ولما كان أكثرُ الخلقِ مقرِّين بوجودِ الإله العالم القادر، وإنما الشأنُ في أنهم يتخذُون أصناماً على صُورِ الأرواح الفكلية، ويعبدونها، ويتوقَّعُون حصول النَّفْعِ والضُّر منها، لا جرم كان سعيُ أكثر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في المنع من هذه، وكان الأمر على هذا إلى زمانِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين.
فلهذا السبب، شرع في ذكر ما يدلُّ على فسادِ العقول بعبادةِ الأصنام؛ فقال: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} ، والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكارِ، وتقريرُ فساد القول بعبادة الأصنام: أنه تعالى بيَّن أن كثرة الآلهةِ توجب الخلل والفاسد في هذا العالم؛ لقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فلمَّا قرَّر أنَّ كثرة الآلهة تُوجبُ الخلل والفساد، وكونُ الإله واحدٌ، يقتضي حصول الأنتظام، وحسن الترتيب قال هاهنا: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} .
وأما تقرير كون كثرةِ الآلهةِ، توجب الخلل والفساد في العالم: إنَّه لو كان اثْنانِ أو ثلاثةُ، لم نعلم من الذي خلقنا، ورزقنا، ودفع الآفاتِ عنَّا؛ فيقع الشِّرْكُ في أنَّا نعبدُ هذا أم ذاك.
ومعنى: كونهم متفرقين، أي: شتَّى، هذا من ذهب، وهذا من فضةٍ، وها من حديدٍ، وهذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا أدْنَى، متباينون لا تضر ولا تنفعُ.
{خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} ، «الوَاحِدُ» : لا ثاني لهُ، «القَهَّارُ» الغالبُ عل الكلِّ.(11/105)
ثُمَّ عجز الأصنام، فقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً} أي: من دون الله، وإنما ذكر بلفظ الجمعِ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين؛ لأنه أراد جميع أهل السِّجن، وكلَّ من هو على مثل حالهمَا من الشرك.
فإن قيل: لم سمَّاها أرباباً، وليست كذلك؟ .
فالجوابك لا عتقادهم فيها أنَّها كذلك، وأيضاً: الكلامُ خرج على سبيل الفرضِ، والتقدير، والمعنى: أنَّها إن كانت أرباباً، فهي خيرٌ أم الله الواحدج القهار؟ .
فإن قيل: كيف يجوزُ التفاضلُ بين الأصنامِ، وبين الله تعالى، حتَّى قيل: إنها خيرٌ أم اللهِ؟ .
فالجوابُ: أنَّهُ خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنَّه حصل فيها ما يوجبُ الخير، فهي خيرُ أم اللهُ الواحدُ القهار؟ .
قوله تعالى: {إِلاَّ أَسْمَآءً} ، إما أن يراد بها المسميات، أو على حذف مضاف، أي: ذواتُ المُسمَّيات، و «سَمِّتُمُوهَا» ك صفةٌ، وهي متعديةٌ لاثنين حذف ثانيهما، أي: سَمَّيتُمُوها آلهة.
و «مَا أنْزَلَ» : صفةٌ ل: أسْمَاء «، و» مِنْ «: زائدةٌ في:» مِنْ سُلطَانٍ «، أي: حُجَّةٍ.
و» إن الحُكْمُ «:» إنْ «نافيةٌ، ولا يجوز الإتباع بضمَّة الحاء؛ كقوله: {وَقَالَتِ اخْرُجْ} [يوسف: 31] ، ونحو؛ لأنَّ الألف واللام كلمةٌ مستقلةٌن فهي فاصلةٌ بينهما.
فصل
قال في الآية: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} ، وذلك يدلُّ على وجودِ هذه المسميات، ثم قال في عقبه: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ} ، وهذا يدلُّ على أنَّ المسمى غير حاصلٍ، وبينها تناقضٌ.
والجوابُ: أنَّ الذوات موجودةٌ حاصلةٌ إلاَّ أنَّ المسمى بالإله غيرُ حاصلٍ؛ وبيانه من وجهين:
الأول: أن ذوات الأصنام، وإن كانت موجودةً، إلاَّ أنَّها غيرُ موصوفةٍ بصفاتِ الإلهية، وإذا كان كذلك، كان الشيءُ الذي هو مسمَّى بالإلهيَة في الحقيقة غير موجودٍن ولا حاصلٍ.
الثاني: رُوِيَ أنَّ عبدةً الأصنام مشبهةٌ، فاعتقدوا أنَّ الإله هو النورُ الأعظمُ، وأن الملائكة أنوارٌ صغيرةٌ؛ فوضعوا علَى صورة تلك الأنوارِ هذه الأرباب، ومعبودهم في الحقيقةِ هو تلك الأنوارُ، ثُمَّ إنَّ جماعة ممن يعبدون الأصنام، قالوا: نحن لا نقولُ إنَّ هذه الأصنام آلهةٌ للعالم، بمعنى أنَّها هي التي خلقت العالم، إلاَّ أنَّا نسميها آلهةٌ نعبدها؛ لا عتقادنا أنَّ الله أمرنا بذلك.(11/106)
فأجاب الله تعالى عنه، فقال: أمَّا تسميتها بالآلهةِ، فما أمر الله بذلك، ولا أنزل في هذه التَّسمية حُجَّة، ولا برهاناً، وليس لغيرِ الله حكمٌ يجبُ قبوله، ولا أمرٌ يجبُ إلزامهُ بل الحُكْمُ والأمرُ ليس إلاَّ للهِ.
ثم إنه تعالى: {أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} : لأنَّ العبادة نهايةُ التعظيم؛ فلا يليقُ إلاَّ بمن حصل منه: الخلقُ، والإحياءُ، والعقلُ، والرزقُ، والهدايةُ، ونَعمُ الله كثيرةٌ، وإحسانه إلى الخلق غير متناهِ.
ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ، وذلك أنَّ أكثر الخلق ينسبون حدُوثَ الحوادثِ الأرضية إلى الاتصالاتِ الفلكية، والمناسباتِ الكوكبيَّة؛ لأجل أنه تقرر في العقولِ أنَّ الحادثَ لا بُدَّ له من سببٍ، فاعتبروا أحْوالَ الشمسِ في أرباع الفلكِ، وربطُوا الفُصُول الأربعة بحركة الشمسِ.
ثم إنهم لما شاهدوا أحوال النَّباتِ والحيوان، تختلفُ باختلافِ الفصول الأربعة غلب على طباع أكثرِ الخلقِ، أنَّ المدبِّر [لحدوث] الحوادث في العالم، هو الشمسُ والقمر، وسائرُ الكواكب.
ثم إنه تعالى إذا وفَّق إنساناً حتَّى ترقَّى في هذه الدَّرجةِ، وعرف أنَّها في ذواتها، وصفاتها مُفتقرةٌ إلى موجودٍ، مبدع قادرٍ، قاهر، عليم، حكيمٍ، فذلك الشخصًُ يكون في غاية النُّدرةِ؛ فلهذا قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} .
قوله «أمَرَ» يجوز أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً، و «قد» معه مرادة عند بعضهم.
قال أبو البقاءِ: وهو ضعيفٌ لعضف العامل فيه.
يعني بالعامل: ما تضمنه الجَارُّ في قوله «إلاَّ الله» من الاستقرار.
قوله تعالى: {ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي} ، العامَّة على فتح الياء، من سقاه يسقيه، وقرأ عكرمة في رواية «فيُسْقِي» بضم حرفِ المضارعة من «أسْقَى» وهما لغتان، قال: سقاه، وأسقاه، وسيأتي أنَّهُما قراءتان في السبع، و {نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] ، هي هما بمعنَى أم بينهما فرقٌ؟ .
ونقل ابنُ عطيَّة، عن كرمة، والجحدريِّ: أنَّهما قرءا «فيُسْقَى ربُّهُ» مبنيًّا للمعفول، ورفع «ربُّهُ» ، ونسبها الزمخشريُّ لعكرمة فقط.(11/107)
فصل
اعلم أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قرَّر التوحيد والنبوة، عاد إلى الجواب عن السُّؤالِ الذي ذكر، ففسَّر رُؤياهما، فقال: {ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا} ، وهو صاحبُ الشَّراب «فيَسْقِي ربَّهُ» : يعني الملك، وأما الآخرُ: يعنى الخبَّاز، فيدعوه الملكُ، ويخرجه، ويصلبه؛ فتأكل الطيرُ مِنْ رأسه.
قال ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لمَّا سَمِعَا قول يوسف صلوات الله وسلامه عليه قالا: مَا رَأيْنَا شَيْئاً إنَّما كُنَّا نلعَبُ» ، قال يوسف: «قُضَيَ الأمْرُ الذي فِيهِ تَسْتفتيَانِ» .
فإن قيل: هذا الجوابُ الذي ذكره يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ذكره؛ بناءً على أنَّ الوحي من قب لالله تعالى أو نباءً على علم التَّعبير.
والأول باطلٌ؛ لأن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما نقل أنَّما ذكره على سبيل التعبير، وأيضاً قال الله: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} ، ولو كان ذلك التعبير مبنيًّا على الوحي، كان الحاصلُ مه القطعُ واليقينُ، لا الظنُّ والتَّخمينُ.
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأن علم التعبير مبنيٌّ على الظنِّ، والقضاءُ: هو الإلزامُ الجزمُ والحكمُ البتُّ، فكيف بني الجزم والقطع على الظنِّ والحسبانِ؟ .
والجواب: لا يبعد أن يقال: إنهما سألاه عن ذلك المنام، صدقا فيه أو كذبا، فإنَّ الله تعالى أوحى إليه أنَّ عاقبة كُلَّ واحدٍ منهما تكون على ذلك الوجهِ المخصوص، فملا نزل الوحيُ بذلك الغيب عند ذلك السؤال، وقع في الظنَّ أنَّه ذكره على سبيل [التَّعبير] .
ولا يبعد أيضاً أن يقال: إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير.
وقوله «قُضِيَ الأمْرُ الَّذي فِيهِ تَسْتفْتيانِ» ما عنى به أنَّ الذي ذكره واقعٌ لا محالة، بل عنى أنَّ حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره.
قوله: «قُضِيَ الأمْرُ» قال الزمخشريُّ: «ما اسْتفْتَيَا في أمرٍ واحدٍ، بل في أمرين مختلفين، فما وجهُ التوحيدِ؟ قلتُ: المرادُ بالأمرِ ما أتهما به من سمِّ الملك، وما يُجِنَا من أجله، والمعنى: فُرغَ من الأمر الذي عنه تسألان» .(11/108)
قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ} ، فاعلُ «ظنَّ» : يجوزُ أن يكون يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إن كان تأويله بطريقِ الاجتهادِ، وأن يكون الشَّرابي إن كان تأويله بطريقِ الوحي، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين؛ كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] و {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ} [الحاقة: 20] قال الزمخشريُّ. يعني أنه إن كان الظنُّ على بابه، فلا يستقيمُ إسناده إلى يوسف؛ إلاَّ ان يكون تأويله بطريق الاجتهاد، لأه منتى كان بِطَريقِ الوحْيِ، كان يَقِيناً؛ فينسب الظنُّ حينئذٍ للشرابيّ لا ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى اليقينِ، فيصح نسبتُه إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إن كان تأويله بطريق الوحْيِ.
وذهب قتادة: إلى كونِ الظن على بابه وهو مسندٌ إلى يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، فإنه قال: «الظنُّ هو على بابه؛ لأنّ عبارة الرُّؤيا ظنٌّ» .
قوله: «مِنْهُمَا» ، يجوزُ أن يكون صفةً ل «نَاجٍ» ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنَّهُ حالٌ من الموصول.
قال أبو البقاءِ: ولا يكونُ متعلقاً ب «نَاجِ» لأنَّه ليس المعنى عليه «قال شهاب الدين: لو تعلق ب» نَاجِ «لأفْهم أنَّ غيرهما نَجَا منهما، أي: انفلت منهما، والمعنى: أنَّ أحدهما هو النَّاجي، وهذا المعنى الذي نبه عليه بعيدٌ توهُّمهُ.
والضميرُ في» فَأنْسَاهُ «، يعودُ على الشرابيِّ، وقيل: على يوسف؛ وهو ضعيفٌ.
فصل في الاختلاف فيمن أنساه الشيطان ذكر ربه
قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ للناجي من الرجلين: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} ، إي: عند الملك، أي: اذكرني عنده أنَّهُ مظلومٌ من جهة إخوته، لما أخرجوه، وباعوه، ثم إنَّه مظلوم في هذه الواقعة؛ التي لأجلها حُبِسَ.
ثم قال تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ} قيل: أنْسَى الساقي ذكر يوسف للملك، تقديره: فأنساه الشيطان ذكره لربه.
ورجَّح بعضُ العلماء هذا القول، فقال: لو أنَّ الشيطان أنْسَى يوسف ذكر الله، لما استحقَّ العقاب باللَّبثِ في السِّجْنِ؛ إذ النَّاسي غيرٌ مُؤاخذٍ.(11/109)
وقد يجابُ عن ذلك بأنَّ النِّسيانَ قد يكونُ بمعنى التَّركِ، فلما ترك ذكر اللهِ، ودعاهُ الشَّيطانُ إلى ذلك، عوقب.
وأجيب عن هذا الجواب بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] ، فدلَّ على أن النَّاسي هو السَّاقِي لا يوسف، مع قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] ، فكيف يصحُّ أن يضاف نسيانه إلى الشيطان، وليس له على الأنبياء سلطان؟ .
وأجيب عن هذا بأن النيسان لا عصمة للأنبياء عنه، إلاَّ في وجه واحد وهو الخبرُ من الله تعالى، فيما يلقَّونه؛ فإنَّهم مَعْصُومُون فيه، وإذا وقع منهم النيسان حيثُ يجوزُ وقوعه، فإنَّه ينسبُ إلى الشيطان؛ وذلك إنَّما يكونُ فميا أخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم، قال عليه السلام:» نَسِيَ آدمُ فنَسِيَتْ ذُريته «وقال:» إنَّما أنا بشرٌ، أنْسَى كما تَنْسَوْن «.
وقال ابنُ عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وعليه الأكثرون:» أنسى الشيطانُ يوسف ذكر ربِّه؛ حتَّى ابتغى الفرج من غيره، واستعان بمخلوقٍ؛ وتلك غفلة عرضتْ ليُوسفَ مِنَ الشَّيطانِ «.
» فَلبِثَ «: مكث» في السِّجنِ بضْعَ سِنينَ «قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يَرْحَمُ اللهُ أخِي يُوسفَ؛ لوْ لَمْ يقُلْ: «اذْكرنِي عِنْدَ ربِّكَ» ؛ ما لبثَ فِي السِّجن «ومما يدلُّ على أنَّه المراد قوله: {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ} ولو كان المراد الساقي لقال فأنساه الشيطان ذكر يوسف.
واعلم أنَّ الاستعانة بغيرِ الله في دفع الظلمن جائزةٌ في الشريعة، لا إنكار عليه.
وإذا كان كذلك، فلم صار يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مُؤاخذاً بهذا القدر؟ وكيف لا يصيرُ مؤاخذاً بالإقدام على الزِّنا؟ ومكافأة الإحسان بالإساءة [أولى] ؟ .
فلما رأينا الله أخذ يوسف بهذا القدرِ، ولمْ يؤاخذه في تلك القضية ألبتَّة، وما عابهُ، بل ذكره بأعظمِ وجوهِ المدحِ والثناءِ علمنا أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان مُبَرًّأ ممَّا نسبوهُ إليهِ.
فصل في اشتقاق البضع وما يدل عليه
قال الزجاج: «اشتقاقُ الضْعِ من بَضعْتُ بمعنى قَطْعْتُ» .(11/110)
قال النَّواوي: «والبِضْعُ بكسر الباء، وقد تفتح: ومعناه القطعةُ من العدد» .
قال الفراء: لا تذكرُ إلاَّ مع عشرةٍ، أو عشرينَ إلى التِّسعينَ؛ وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعةِ، قال: وهكذا رأيتُ العرب يقولون، وما رأيتهم يقولون: بضعٌ ومائةٌ، قال: وإنما يقالُ نيِّفٌ مائة؛ والقرآنُ يردُّ عليه.
ويقال: بضعُ نسوة، وبضعةُ رجالٍ.
روى الشعبيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قيل لهُ: كم البِضْعُ؟ قال: مَا دُونَ العَشرة» .
وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «مَا دُونَ العشرة» .
وقال مجاهدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: مابين الثَّلاث إلى السَّبع.
وقيل إلى الخمسِ.
وقال قتادةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: مابين الثَّلاث إلى التِّسعِ.
وأكثر المفسرين على أن البِضْعَ في هذه الآية سبعُ سنينَ، وقد لبث قبلهُ خمس سنين فجملته، اثنتا عشرة سنة.
قال ابن عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «لما تضرَّع يوسفُ صلوات الله وسلامه عليه لذلك الرجلِ، كان قد قرُبَ وقتُ خروجه، فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنينَ» .
وقيل: البِضْعُك فوق الخمسةِ ودُون العشرة.
وقد تقدم عند قوله {بِضَاعَةً} [يوسف: 19] ، والبَعْضُ قد تقدَّم أه من هذا المعنى، عند ذكر البعوضةِ.
وفي المدَّة التي أقامها يوسف في السجن أقوالٌ:
أحدهما: قال ابنُ جريجٍ، وقتادة، ووهبُ بنُ منبِّه: أقام أيوبُ في البلاءِ سبعَ سنينَ، وأقام يوسفُ في السِّجن سبع سنينَ.
وقال ابن عباسك اثنتَيْ عَشْرة سنة.
وقال الضحاكُ: أرْبع عشرة سنة.(11/111)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
قوله تعالى: {وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} الآية.
اعلم أنَّه تعالى عزَّ وجلَّ إذا أرادَ شيئاً، هيّأ أسبابه، ولما دنا فرجُ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ رأى ملكُ مصر في النوم سبع بقراتٍ سمانٍ خرجن من نهرٍ يابسٍ، ثم خرج عَقِيبَهُنَّ سبعُ بقراتٍ عجافٍ في غايةِ الهُزال، فابتلعتِ العجافُ السِّمان، ورأى سبعَ سُنبلاتٍ خُضرٍ، قد انعقد حبُّها، وسبعاً أخر يابساتٍ، قد استحصدت، فالتوتِ اليابساُ على الخضرِ حتَّى غلبْنَ عليها، فلم يبق من خضرتها شيءٌ؛ فجمع الكهنة، والسَّحرة، والنجامة، والمُعبِّرين، وقصَّ عليهم رؤياه؛ وهو قوله {يا أيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} ، أخلاط أحلامٍ مُشْتبهَةٌ أهاويلُ.
فصل
قال عليٌّ بنُ أبي طالب كرم الله وجهه: «المعز والبقر إذا دخلت المدينة، فإن كانت سماناً، فهي سِني رخاءٍ، وإن كانت عجافاً، كانت شداداً، وإن كانت المدينة مدينة بحرٍ، وأبَّان سفرٍ، قدمت سفنٌ على عددها، وحالها؛ وإلاَّ كانت فتناً مترادفةً كأنها وجوهُ البقر يشبه بعضها بعضاً؛ كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الفتنِ:» كأنَّها صَياصِيُّ البقَرِ «؛ لتشابهها، إلاَّ أن تكون صفراً كلَّها، فإنَّها أمراضٌ تدخل على النَّاس، وإن كانت مختلفة الألوان شنيعة القرون، كان الناسُ ينفرون منها، أو كان النارُ والدخانُ يخرج من أفواهها؛ فإنها عسكر، أو غارة أو عدوّ، يضرب عليهم، وينزلُ بساحتهم، وقد تدلُّ البقرة على الزَّوجة، والخادم، والغلَّة والسَّنة: لما يكونُ فهيا من الغلَّةِ، والولدِ، والنباتٍ» .
قوله: «سِمَانٍ» ، صفةٌ ل «بَقَراتٍ» ، وهو جمعُ سمينةٍ، ويجمع «سَمِين» أيضاً عليه يقال: رجالٌ سمانٌ ونساءُ سمان؛ كما يقال: رجالُ كرامٌ ونساءٌ كرامٌ، و «السِّمن» :(11/112)
مصدر سَمِنَ يَسْمَنُ فهو سَمِينٌ، فالاسمُ والمصدر، جاءا على غير قاسٍ؛ إذا قياسهما «سَمَن» بفتح الميم فهو سَمِن بسكرها؛ نحو فَرِحَ فرحاً فهو فرح.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: هل من فوقٍ بين إيقاع سمانٍ صفة للتمييز: وهو بقراتٍ دون المُميَّزِ: سَبْعَ بقرات سماناً؟ قلتُ: إذا أوقعتها صفة ل» بقَراتٍ «، فقد قصدت إلى أن تميِّز السبع بنوعٍ من البقرات، وهو السِّمان منهم، لا بِجِنْسهِنَّ، ولو وصفت السبع بها، لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقراتِ لا بنوع منها، ثم رجعت فوصفت المُميَّز بالجنس بالسمن.
فإن قلت: هلا قيل:» سبع عجافٍ «على الإضافة.
قلت: التمييز موضوع الجنسِ، والعجافُ وصفٌ لا يقع البيان به وحده، فإن قلت: فقد يقولون: ثلاثة فرسانٍ، وخمسة أصحابٍ، لبيانِ؛ قلتُ: الفارسُ، والصاحبُ، والرَّاكب، ونحوها صفاتٌ جرت مجرى الأسماءِ؛ فأخذت حكمها، وجاز فيها ما لم يجز في غيرها، ألا تراك ألا تقول: عندي ثلاثةً ضخامٌ ولا أربعةٌ غلاظٌ.
فإن قلت: ذلك مما يشكل، وما نحنُ بسبيله لا إشكال فيه، ألا ترى أنه لم يقل: وبقرات سبع عجاف؛ لوقوع العلم بأن المراد البقرات قلت: ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل، وقد وقع الاستغناء عن قولك: سبع عجاف عمَّا تقترحهُ من التمييز بالوصف «انتهى.
وهي أسئلةٌ وأجوبةٌ حسنة، وتحقيق السؤال الأول وجوابه: أنه يلزمُ من وصفِ التَّمييز بشيء وصف المميز به، ولا يلزم من وصف المميز وصف التمييز بذلك الشيء؛ بيانه: أنك إذا قلت:» عندي أربعة رجالٍ حسانٍ «بالجر، كان معناه: أربعةٌ من الرجال الحسانِ؛ فيلزُم حسنُ الإربعةِ؛ لأنهم بعض الرجالِ الحسانِ، وإذا قلت: عندي أربعة رجالٍ حسانٌ برفع حسان كان معناه: أربعةٌ من الرجال حسان، وليس فيه دلالة على وصف الرجال بالحسن.
وتحقيق الثاني وجوابه: أنَّ أسماء العدد لا تضافُ إلى الأوصاف إلا في ضرورة وإنما يجاء بها تابعة لأسماء [العدد] ؛ فيقال: عندي ثلاثةٌ قُرشيُّونَ، ولا يقال ثلاثة قرشيِّين بالإضافة إلا في شعرٍ، ثم أعترض بثلاثةٍ فرسانٍ، وأجاب بجريانِ ذلك مجرى الأسماء.
وتحقيقُ الثالث: أنه إنَّما امتنع» ثلاثةُ ضخامٍ «ونحوه؛ لأنه لا يعلم موصوفه، بخلاف الآية الكريمة، فإنَّ الموصوف معلومٌ، ولذلك لم يصرخ به.(11/113)
وأجاب عن ذلك: بأنَّ الأصل عدم إضافةِ العددِ إلى الصِّفة كما تقدم، فلا يترك هذا الأصل مع الاستغناء عنه بالفرع.
وبالجملةِ: ففي هذه العبارةِ قلقٌ، هذا مُلخَّصُهَا.
ولم يذكر أبو حيَّان نصه ولا اعترض عليه، بل لخًّص بعض معانيه، وتركهُ على إشكاله.
فصل في اشتقاق» عجاف «
جمعُ عجفاء: عِجَاف والقياس: عُجْف؛ نحو: حَمْرَاء، وحُمْر؛ حملاً له على سمانٍ؛ لأنَّه نقيضُه، ومن دأبهم حملُ النظير على النظيرِ، والنَّقيضِ على النقيض، قاله الزمخشريُّ
والعَجَفُ: شدةُ الهزالِ الذي ليس بعده هزال؛ قال: [الكامل]
3106 - عَمْرُو الَّذي هَشَمَ الشَّريدَ لقَوْمِهِ ... ورِجَالُ مَكَّة مُسْنِتُونَ عِجَافُ
قال الليث: العَجَفُ: ذهابُ السِّمن، والفِعْلُ: عجف يَعجفُ، والذَّكرُ: أعْجفُ، والأنثى: عَجْفاء، والجمع عِجَافٌ في الذكران والإناث.
وليس في كلام العربِ: أفْعَلُ، وفعلاء، وجمعها على: فِعَالٍ غَيْر أعْجفُ، وعِجَاف، هي شاذة حملوها على لفظ سمانٍ، وعجافٍ؛ لأنهما نقيضان، ومن عادتهم حملُ النَّظيرِ على النظير، والنَّقيضِ على النَّقيضِ.
وقال الرَّاغب: هو من قولهم: نَصْلٌ أعجفُ، أي: رقيقٌ.
وعَجَفَتْ نفسي عن الطَّعام وعن فلانٍ: إذا نبت عنهما، وأعْجفَ الرَّجل أي: صارتْ [إيله] عِجَافاً.
» وأخَرَ يَابِساتٍ «، قوله:» وأخَرَ «نسقٌ على قوله» سَبْعَ «لا على» سُنْبُلاتٍ «ويكون قد حذف اسم العددِ، من قوله:» وأخَرَ يَابِساتٍ «والتقدير: سَبْعاً أخَرَ، وإنما حذف؛ لأنَّ التقسيم في البقرات نقيضُ التَّقسيم في السنبلات.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هل في الآية دليلٌ على أنَّ السنبلات اليابسة كانت كالخُضرِ؟ قلت: الكلامُ منبيٌّ على انصبابه إلى هذا العددِ في البقراتِ السِّمان والعجافِ، والسنبلات الخضرِ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع، ويكون قوله:» وأخَرَ يَابسَاتٍ «بمعنى: وسبعاً أخر» انتهى.
وإنَّما لم يَجُز عطفُ أخر على التمييز، وهو «سُنْبُلاتٍ» ، فيكون أخر مجروراً لا(11/114)
منصًوباً؛ لأنه من حيثُ العطف عليه يكونُ من جملة مميز سبع ومن جهة كونه أخر يكون مبايناً لسبع فتدافعا ولو كان ترتيبُ الآية الكريمة سبع سُنبلآتٍ خُضرس ويابِساتٍ، لصحَّ العطف، ويكون من توزيع السنبلات إلى هذينِ الموضعين أعني: الاخضرار واليبس.
وقد أوضح الزمخشريُّ هذا حيث قال: «فإن قلتَ: هل يجوز أن يعطف قوله» وأخَرَ يَابسَاتٍ «على» سُنْبُلاتٍ خُضرٍ «، فيكون مجرور المحلِّ؟ قلت: يؤدِّي إلى تدافع؛ وهو أنَّ عطفها على» سُنبُلاتٍ خُضرٍ «يقتضي أن يكون داخلاً في حكمها فيكون معها مميز السبع المذكور، ولفظ» أخَر «يقتضي أن يكون غير السَّبْعِح بيانه تقول عنده سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصحّ لأنك ميَّزت السبعة برجالٍ موصوفين بالقيام والقعودِ على أنَّ بعضهم قيام، وبعضهم قعودٌ، فلو قلت: عنده سبعةٌ قيامٌ وآخرين قعودٌ؛ تدافع؛ ففسد» .
قوله للرُّؤيَا فيه أربعة أقوالٍ:
أحدهما: أن اللام فيه مزيدة، فلا تعلق لها بشيء؛ وزيدت لتقدم المعمول مقوية للعامل؛ كما زيدت فيه إذا كان العامل فرعاً؛ كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ، ولا تزاد فيما عدا ذنبك إلا ضرورة؛ كقوله: [الوافر]
3107 - فلمَّا أنْ تَوافَيْنَا قَلِيلاً ... أنَخْنَا للكَلاكِلِ فارْتَمَيْنَا
يريد: أنخنا الكلاكِلَ، فزيدت مع فقدان الشرطين، هكذا عبارة بعضهم يقول: إلا في ضرورة.
وبعضهم يقول: الأكثر ألاَّ تزاد، ويتحرزُ من قوله تعالى {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، لأنَّ الأصل: ردفكُم، فزيدتْ فيه اللامُ، ولا تقدم، ولا فرعيَّة، ومن أطلق ذلك جعل الآية من باب التَّضمين، وسيأتي في مكانه إن شاء الله تعالى، وقد تقدم من ذلك طرفٌ جيدٌ.
الثاني: أن يضمَّن تعبرون معنى ما يتعدَّى باللام، تقديره أي: إن كنتم تنتدبون لعبارةِ الرؤيا.
الثالث: أن يكون «للرُّؤيا» خبرُ «كنتم» ؛ كما تقول: «كان فلانٌ لهذا الأمرِ» ، أي: إذا استقلّ به متمكِّناً منه، وعلى هذا فيكون في «تَعْبرُونَ» وجهان:
أحدهما: أنًَّهُ خبر ثانٍ ل «كُنْتُمْ» .
الثاني: أنه حالٌ من الضمير المُرتفعِ بالجار؛ لوقوعه خبراً.
الرابع: أن تتعلق اللام بمحذوفٍ على أنَّها للبيان؛ كقوله تعالى {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ(11/115)
الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] تقديره: أعني فيه، وكذلك هذا، تقديره: أعني للرُّؤيا، وعلى هذا يكون مفعولُ «تَعْبُرُونَ» محذوفاً تقديره: تعبرونها.
وقرأ أبو جعفر: الرُّيَّا [وبابها الرؤيا] بالإدغام؛ وذلك أنَّه قلب الهمزة واواً؛ لسكونها بعد ضمةٍ، فاجتمعت «واوٌ» ، و «ياءٌ» وسبقت إحداهما بالسكون؛ فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياءُِ في الياءِ.
وهذه القراءة عندهم ضعيفةٌ؛ لأن البدل غير لازمٍ، فكأنَّه لم يوجد واوٌ؛ نظراً إلى الهزة.
فصل في معنى «تعبرون»
يقال: عَبَرْتُ الرُّؤيَا أعبرها عبارة، وعبَرةً بالتخفيف، قال الزمخشريُّ: «وهو الذي اعتمدهُ الأثباتُ، ورأيتهم يُنْكِرُونَ» عَبَّرتُ «بالتشديد، والتَّعبير والمُعبِّر» قال: وقد عثرتُ على بيتٍ أشده المبرِّد في كتاب الكاملِ لبعضِ الأعرابِ: [السريع]
3108 - رَأيتُ رُؤيَا ثُمَّ عبَّرتُهَا ... وكُنْتُ للأحْلامِ عَبَّارَا
قال وحقيقة تعبير الرؤيا: ذكرُ عاقبتها، وآخر أمرها؛ كما تقول: عبرتُ النَّهر إذا قطتعهُ حتَّى تبلغ آخرَ عرضه.
قال الأزهريُّ: «مأخوذٌ من العُبْرِ، وهو جانبُ النَّهر، ومعنى عبرتُ النَّهرَ والطريق: قطعتهُ إلى الجانب الآخر، فقيل لعابرِ الرؤيا: عابرٌ؛ لأنَّه يتأمل جانبي الرُّؤيا، ويتفكرُ في أطرافها وينتقل من أحد الطَّرفين إلى الآخر» .
قال بعضُ أهل اللغة: العينُ، والباءُ، والراءُ، تضعها العرب: لجوار الشيء، ومضيفه، وقلَّة تمكنه، ولبثه، وهو فعل، يقال: عبر الرؤيا: أخرجها من حال النَّوم إلى حال اليقظةِ، كعبور البحر من جانب إلى جانبٍ.
وناقة عبراء سفار، أي: يقطعُ بها الطريق ويعبرُ.
والشِّعرى: العبُورُ؛ لأنها عبرت المجرَّة.
والاعتبارُ بالشيء: هو التَّمثيلُ بينه وبين حاكيه.
والعبرةُ: الدَّمعةٌ؛ لعبورها العين، وخروجها من الجفنِ.
والعَنْبَرُ: منهح لأنَّ نونه زائدةٌ، وهو عبر لحي طفاوة على الماء لا يعرف معدته.(11/116)
والعَنْبَرُ أيضاً سمكةٌ في البحرِ، والعنبرُ: اسمُ قبيلة، والعنبرُ: شدَّة الشتاء.
قال بعضهم: ثلاثةُ أشياء لا يعرف معدنها:
أحدها: العَنْبَرُ يجيءُ ظفاؤه على وجه الماءِ.
وثانيها: المومياء بأرض فارس، ومعناه: مُومٌ، أي: شمعُ الماء لا يعرف من أين يجيءُ، ولا من أين ينبع، يُعْمَلُ له حوضٌ في البحر وينصب عليه مصفاة كالغربال يجري منه الماء، وينبع منه تبقى المومياء؛ فتؤخذ إلى خزانة السُّلطان.
وثالثها: الكهلُ: وهو نوعٌ من الخَرزِ أصفر يطفو على وجهِ الماءِ في بحر المغرب وبحر طبرستان، ولا يعرف معدنه.
قوله جلَّ وعلا: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} ، خبر متبدإ مضمر، أي: هي أضغاث، يعنون: ما قصصته علينا، والجملة منصوبةٌ بالقول.
والأضغاثُ: جمع ضِغْث بكسر الضاد وهو ما جمع من النبات، سواءٌ كان جنساً واحداً، أو أجناساً مختلطة.
قال بن الخطيب: بشرط أن يكون مما قام على ساقٍ، وهو أصغرُ من الحزمة، وأكبر من القبضة، فمن مجيئه من جنسٍ واحدٍ، قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} [ص: 44] ، ويُروى أنه أخذ عثكالاً من نخلةٍ، وفي الحديث: «أنَّه أتي بمريضٍ وحب عليْهِ الحدُّ ففعل به ذلِكَ» .
وقال ابن مقبل: [الكامل]
3109 - خَودٌ كأنَّ فِراشَهَا وضِعَتْ بِهِ ... أضْغَاثُ ريْحَانٍ غَداةَ شَمالِ
ومن مجيئه من أخلاط النبات قولهم في أمثالهم: «ضِغثٌ على إبَّالةٍ» .
وقال الرَّاغب رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّغْثُ: قبضة ريحانٍ، أو حشيشٍ، أو قصبان، وقد تقدم أنه أكثر من القبضةِ.
واستعمال الأضغاث هنا من باب الاستعارة، فإن الرؤيا إذا كانت مخلوطةً من أشياء غير متناسبةٍ، كانت شبهية بالضِّغثِ.
والإضافة في {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} ، إضافةٌ بمعنى «مِنْ» ، والتقدير: أضغاثُ من أحلام.
والأحلامُ: جمعُ حلم، وهو الرؤيا، والفعل منه حلمتُ أحلم، بفتح اللام في(11/117)
الماضي وضهما في الغابر حُلُماً، وحُلْماً: مثقلٌ، ومخففٌ.
قوله تعالى: «بتأويل» الباء متعلقةٌ ب «عَالمِينَ» ، والباءُ في «بِعَالمِينَ» لا تعلق لها؛ لأنها زائدة إمَّا في خبر الحجازيَّة أو التَّميميَّة، وقولهم ذلك يحتمل أن يكون نفياً للعلم بالرؤيا مطلقاً، وأن يكون نفياً للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصة دون المنام الصَّحيح.
وقال أبو البقاءِ: أي: بتأويل أضغاثِ الأحلام لا بد من ذلك؛ لأنَّهم لم يدَّعوا الجهل [بتعبير] الرؤيا انتهى.
وقوله «الأحلام» وإنَّما كان واحداً، قال الزمخشريُّ: «كما تقولُ: فلان يركب الخيل، ويلبسُ عمائمَ الخزِّ، لمن لا يركبُ إلا فرساً واحداً، ولا يتعمَّمُ إلاَّ بعمامةٍ واحدةٍ تأكيداً في الوصف، ويجوز أن يكون قصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها» .
والتأويلُ: هو ما يَئُولُ الشيء إليه، أي: يرجعُ الشيء إليه، ومنه تأوَّل وهو معنى التفسير؛ لأنَّ التأويل تفسير اللفظ الراجع إلى المعنى.
فصل
اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف صلوات الله وسلامه عليه من السِّجن؛ وذلك أنَّ الملك لمَّا رأى ذلك، قلق واضطرب بسببه؛ لأنه شاهد أن الناقِصَ الضَّعيف استولى على الكاملِ، فشهدت فطرته بأن هذا أمرُ عداوةٍ ومقدّرٍ بنوع من أنواع الشرِّ، إلا أنه ما عرف كيفية الحالِ فيه.
والشيء إذا صار معلوماً من وجهٍ، وبقي مجهُولاً من وجه آخر عظم شوقُ النفس إلى تمام تلك المعرفةِ، وقويتِ المعرفةُ في إتمام الناقصِ لا سيِّما إذا كان الإنسان عظيمَ الشَّأنِ، واسِعَ المملكةِ، وكان ذلك الشيء دالاًّ علَى الشرِّ من بعض الوجوه، فبهذا الطريق قوَّى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم، بتفسير هذه الرؤيا، وأنه تعالى عجَّز المُعبِّرين الحاضرين عن جواب هذه المسألة؛ ليصير ذلك سبباً لخلاصِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من تلك المحنةِ.
واعلم أنَّ القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير؛ بل قالوا إنَّ علم التعبير على قسمين:
منه ما يكون الرؤيا فيه منتظمة، فيسهلُ الانتقال من الأمور المتخيلةِ إلى الحقائق العقلية.
ومنه ما يكون مختلطاً مضطرباً، ولا يكون فيه ترتيبٌ معلومٌ، وهو المسمَّى بالأضغاث.(11/118)
فقالوا: إنَّ رؤيا الملكِ من قسم الأضغاث، ثُمَّ أخبرُوا أنهم غير عالمينَ بتعبير هذا القسم، وفيه [إبهام] أنَّ الكامل في هذا العلم، والمُتبحِّر فيه يهتدي إليها، فعند هذه المقالة تذكَّر السَّاقي واقعة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأنه كان يعتقدُ فيه كونه مُتَبحِّراً في هذا العلم.
قوله: «وادَّكَرَ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّها جملة حالية، إمَّا من الموصول، وإما من عائده، وهو فاعل نَجَا.
والثاني: أنها عطف على نَجَا فلا محل لها؛ لنسقها على ما لا محل له.
والعامَّةُ على ادَّكَرَ بدالٍ مهلمة مشدَّدة، وأصلها: اذْتَكَرَ، افْتَعَلَ، من الذكر فوقعت تاءُ الافتعال بعد الدال؛ فأبدلت دالاً، فاجتمع متقارن؛ فأبدل الأول من جنس الثاني، وأدغم.
قال الزخشريُّ: وادَّكَرَ بالدال هو الفصيحُ.
وقرأ الحسن البصريُّ: بذالٍ معجمة. ووجَّهوها بأنه أبدل التَّاء ذالاً؛ من جنس الأولى، وأدغم، وكذا الحكمُ في مًُدِّكِر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والعامةُ: على (أمة) بضم الهمزة، وتشديد الميم، وتاء منونةِ، وهي المدة الطويلة.
وقرأ الأشهب العقيليُّ: بكسر الهمزة؛ وفسَّروها بالنعمةِ، أي: بعد نعمةٍ [أنعم بها] عليه؛ وهي خلاصه من السِّجن، ونجاته من القَتلِ؛ وأنشد الزمخشريُّ لعديِّ: [الخفيف]
3110 - ثُمَّ بَعْدَ الفَلاحِ والمُلْكِ والإمْمَةِ ... وارتْهُمُ هُناكَ القُبُورُ
وأنشد غيره: [الطويل]
3111 - ألاَ لاَ أرَى ذَا أمَّةٍ أصْبَحَتْ بِهِ ... فَتتْرُكُه الأيَّامُ وهيَ كَماهِيَا
وقرأ ابن عبَّاس، وزيدُ بنُ عليّ، وقتادة، الضحاك، وأبو رجاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أَمَه» فتح الهمزة وتخفيف الميم منونة وهي المدة من الأمة وهو النيسان يقال أمِه يَأمَهُ(11/119)
أمَهَاً بفتح الميم وسكونها، والسكون غير مقيسٍ؛ قال الشاعر: [الوافر]
3112 - أمِهْتُ وكُنْتُ لا أنْسَى حَدِيثاً ... كَذاكَ الدَّهْرُ يُودِي بالعُقُولِ
وقرأ مجاهدٌ، وشبل بن عزرة: بعد أمْه بسكون الميم، وتقدَّم أنه مصدر ل «أَمِهَ» على غير قياسٍ.
قال الزمخشري: «ومن قرأ بسكون الميم، فقد خُطِّىءَ» .
قال أبو حيَّان: «وهذه على عادته في نسبةِ الخطأ إلى القراء» .
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يسنبْ إليهم خطأ؛ وإنما حكى أنَّ بعضهم خطَّأ هذا القارىء؛ فإنه قال: «خُطِّىءَ» بلفظ ما لم يسمَّ فاعله ولم يقل: فقد أخطأ، على أنَّه إذا صحَّ أنَّ من ذكره قرأ بذلك فلا سبيل إلى نسبة الخطأ إليه ألبتَّة.
وبَعْدَ منصوب ب «ادَّكَرَ» وقوله أنَا أنَبِّئُكمْ هذه الجملة هي المحكية بالقول.
وقرأ العامة أنَبِّئُكُمْ من الإنْباءِ، وقرأ الحسن أنا آتِيكُم مضارع أتى من الإتيانِ، وهو قريب من الأول.
فصل
لمَّا اعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب، فذكر الشَّرابيُّ قول يوسف {اذكرني عِندَ رَبِّكَ}
[يوسف: 42] ، {بَعْدَ أُمَّةٍ} بعد حينٍ، بعد سَبْعِ سنينَ، وذلك أنَّ الحينَ أنَّما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة، كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم، فالحين كان أمة من الأيام والسَّاعاتِ. فإن قيل: قوله {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} يدل على أنّ الناسي هو الشرابي، وأنتم تقولونك إنَّ النَّاسي هو يوسف عليه السلام.
فالجواب: قال ابنُ الأنباري: ادَّكرَ بمعنى: ذَكَرَ وأخْبَر، فهذا لا يدلُّ على سبقِ النسيان، فلعلَّ الساقي إنما لم يذكر يوسف عليه السلام عند الملكِ، خوفاً عليه من أن يكون ادِّكَاراً لذنبه الذي من أجله حُبس، فترك للشر، ويحتمل أن يكون حصل النسيانُ ليوسف صلوات الله وسلامه عليه [وحصل] أيضاً لذلك الشرابي.
رُوِيَ أنَّ الغلام جثا بين يدي الملك، وقال إنَّ بالسجْنِ رجُلاً يُعبِّر الرؤيا.(11/120)
«فأرْسِلُون» خطابٌ، إما للملك، والجمع، أو للملك وحده؛ على سبيل التعظيم، وفيه اختصارٌ، تقديره: فأرسلْنِي إيها الملكُ إليه، فأرسله فأتى السِّجن.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ولم يكن السجُ في المدينة.
فقال: يُوسُف، أي: يا يُوسف «أيُّها الصِّديقُ» والصِّدِّيقُ: هو المبالغ في الصدقِ، وصفهُ بهذه الصفة؛ لأنه لم يجرب عليه كذباً، وقيل: لأنه مصدق في تعبير رؤياه، وهذا يدلُّ على أنَّ الساقي الخباز لم يكذبا على يوسف في منامهما، ولم يذكراه امتحاناً له، كما زعم بعضهم ثم إنَّه أعاد السؤال باللفظ الَّذي ذكره الملكُ؛ فإن تعبير الرُّؤيا قد تخلتفُ باختلافِ الألفاظِ؛ كما هو مذكورٌ في علم التعبير لعَلِّي أرجعُ إلى النَّاس بفتواك؛ لأنه عجز سائرُ المُعبِّرين على جواةب، فخاف أني يعجز هو أيضاً؛ فلهذا السبب قال: {لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون} منزلتك من العلم.
قوله: «تَزْرعُونَ» ظاهر هذا، إخبار من يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بذلك.
وقال الزمخشريُّ: تَزْرعُونَ خبرٌ في معنى الأمر؛ كقوله {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} [الصف: 11] ، وإنما خرج الأمر في صورة الخبر؛ للمبالغة في إيجاب المأمور به فيجعل كأنَّه وجد، فهو مخبر عنه؛ والدليلُ على كونه في معنى الأمر قوله: {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} .
قال أبو حيان: ولا يدلُّ الأمر بتركه في سنبلة على أنَّ تَزْرعُونَ في معنى: ازْرَعُوا، بل تَزْرعُونَ إخبار غيب، وأمَّا فَذرُوهُ فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أن يفعلوه.
وهذا هو الظاهرُ، ولا مدخل لأمر الله لهم بالزراعةِ، لأنهم يزرعون على عادتهم أمرهم، أو لم يأمرهم، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن من عادة الإنسان أن يفعله كقوله في سُنبلهِهِ.
قوله دَأباً قرأ حفصٌ: بفتحِ الهمزة، والباقون: بسكونها؛ وهما لغتان في مصدر: دَأبَ يدأبُ دأباً، أي: دَاومَ على الشيء ولازمه.
وقيل: بجدٍّ، واجتهادٍ؛ وهذا كما قالوا: ضأنُ وضَأن، ومعَز ومَعْز: بفتحِ العين وسكونها.
قال أبو علي الفارسي: الأكثرون في «دَأبَ» الإسكانُ، ولعلَّ الفتح لغةٌ وفي انتصابه أوجه.(11/121)
أحدها: وهو قول سيبويه: أنه منصوبٌ بعفلٍ محذوفٍ، تقديره: تدْأبُون دأباً.
والثاني: وهو قول أبي العبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أنه منصوبٌ ب: تَزْرعُونَ «؛ لأنه من معناه، فهو من باب: قعدت القُرْفُصَاء.
وفيه نظرٌ؛ لأنه ليس نوعاً خاصًا به بخلافِ القرفصاء مع القعودِ.
والثالث: أنه مصدر واقعٌ موقع الحال، فيكون فيه الأوجه المعروفةُ، إما للمبالغة وإما وقوعه موقع الصِّفة، وإما على حذف مضاف، أي: دائبين أو ذوي دأبٍ، أو جعلهم نفس الدَّأب؛ مبالغة.
وقد تقدم الكلامُ على الدَّأب في» آل عمران «عند قوله ت عَزَّ وَجَلَّ {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [آل عمران: 11] .
قوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ} ، يجوز أن تكون شرطيَّة أو موصولة.
قوله: {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} أمرهم بترك الحنطةِ في النسبل؛ لتكون أبقى على الزمان، ولا تفسد.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} ، أي تدرسون قليلاً؛ للأكل، أمرهم بحفظ الأكثر، والأكل قدر الحاجة.
وقرأ أبو عبد الرحمن يَأكُلونَ بالغيبة، أي: الناسُ، ويجوز أن يكون التفاتاً.
فصل
قال القرطبيُّ:» هذه الآية أصلٌ في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ للأديان، والنفوس، والعقول والأنساب، والأموال، فكل ما يضمن تحصيل شيء من هذه الأمور، فهو مصلحةٌ وكل ما يفوت شيئاً منها، فهو مفسدةٌ؛ ودفعه مصلحةٌ، ولا خلاف أنَّ مقصود الشرائع إرشادُ النَّاس إلى مصالحهم الدُّنيويَّة، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى، وعبادته [الموصلتين] إلى السعادةِ الأخرويَّة، ومراعاةُ ذلك فضلٌ من الله ورحمة «.
قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ} حذف المميز، وهو الموصوف؛ لدلالة ما تقدَّم عليه، ونسب الأكل إليهن، مجازاً؛ كقوله: {والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] لمَّا كان الأكل، والإبصار فيهما، جعلا كأنهما واقعان منهما، مبالغة.
و» الشِّدادُ «: الصِّعابُ التي تشتدُّ على الناس؛ فلذلك سمَّى السنين المجدبة شداداً.(11/122)
يَأكْلْنَ، أي: يُفْنِين، ويهلكن الطعام إلاَّ قليلاً ممَّا تُحْصِنُونك تحرزُونَ، وتدَّخِرُونَ؛ للبذر.
» والإحصانُ: الإحرازُ، وهو [إبقاء] الشيء في الحصنِ، يقال: أحْصَنَهُ إحصاناً، إذا جعله في حِرْزٍ «.
قوله [تعالى] : {يُغَاثُ الناس} يجوز أن تكون الألف عن واوٍ، وأن تكون عن ياءٍ: إما من الغوث، وهو الفرج، وفعله رباعي، يقال: أغَاثَنا اللهُ إذَا أنْقذنَا من كرْبٍ أو غمٍّ، ومعناه: يغاثُ الناسُ من كَرْبِ الجَدبِ.
وإما من الغيثِن وهو المطرُ، يقال: أغْيَثَت الأرض، أي: أمطرتْ، وفعله ثلاثي، يقال: أغَاثَنَا الله من الغَيْثِ، وقالت اعرابيةٌ: غِثْنَا ما شِئْنَا، اي: أمْطِرنا ما أردْنَا.
فصل
يقال: أسْنَتُوا، أي: دخلوا في سنةٍ مجدبة:» وقال المفسِّرون: السبعة المتقدمةُ: هي الخصبُ وكثرةُ النِّعم، والسَّبعة الثانية: هي القَحْطُ، وهي معلومةٌ من الرؤيا، وأمَّا حالُ هذه السنةِن فما حصل في ذلك المنام ما يدلُّ عليه، بل حصل ذلك مِنَ الوَحْيِ «.
قال قتادةُ رَحِمَهُ اللَّهُ: زادهُ الله علمَ سنةٍ.
فإن قيل: لما كانت العِجافُ سَبْعاً، دلَّ على أنَّ السنين المجدبة لا تزيدْ على هذا العدد، ومن المعلوم أنَّ الحاصل بعد انقضاء القحطِ، هو الخصبُ، فكان هذا أيضاً من مدلُولاتِ المنامِ، فلم قلتم: إنَّه حصل بالوحي والإلهام؟ .
فالجواب: هَبْ أنَّ تبدل القحْطِ بالخصب معلومٌ، وأما تفصيلُ الحال فيه، وهو قوله: {فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} لا يعلمُ إلا بالوحي.
قوله يَعْصِرونَ قرأ الأخوان: «تَعْصِرُونَ» بالخطاب، والباقون بياء الغيبة، وهما واضحتان؛ لتقدم مخاطبٍ أو غائبٍن فكلُّ قراءةٍ ترجعُ إلى ما يليقُ بها.
و «يَعْصِرُونَ» يحتمل أوجهاً:
أظهرها: أنه من عصر العِنبِ، والزيتونِ، والسمسمِ، ونحو ذلك.
والثاني: أنَّه من عصر الضَّرع، إذا حلبه.(11/123)
والثالث: أنه من العصرةِ، وهي النجاةٌ، والعُصْر: المنجي. وقال أبو زيد في عثمان رضي الله ع نه: [الخفيف]
3113 - صَادِياً يَسْتغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ... ولقَدْ كَان عُصْرةَ المَنجُودِ
[ويعضدُ] هذا الوجه مطابقة قوله: {فِيهِ يُغَاثُ الناس} يقال: عَصَرَه يَعْصِرهُ، أي: أنجاه. وقرأ جعفر بن محمدٍ، والأعرجك «يُعْصَرُونَ» بالياء من تحت، وعيسَى بالتاءِ من فوقُ، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعولِ، وفي هاتين القراءتين تأويلان:
أحدهما: أنها من عصره، إذا أنجاه: قال الزمخشريُّ: «وهو مطابق للإغاثةِ» .
والثاني: قاله قُطربٌ أنَّهما من الإعْصارِ، وهو إمطار السحابةِ الماء؛ كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً} [النبأ: 14] ، وقال الزمخشريُّ: وقُرىء: «يُعْصَرُون، تُمْطرُونَ» ، من أعصرتِ السَّحابةُ، وفيه وجهان:
إمَّا أن يضمَّن أعصرت معنى مُطِرَت، فيعدّى تعْدِيتَه، وإما أن يقال: الأصلُ: أعْصِرَتْ عليهم، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى ضميرهم أو يسندُ الإعصارُ إليهم؛ مجازاً، فجعلوا معصرين.
وقرأ زيد بن عليّ: «تِعِصّرُون» بكسر التاء، والعين، والصاد مشددة، وأصلها يعْتَصِرُون، فأدغم التاء في الصاد، وأتبع العين للصادِ، ثمَّ أتبعَ التاء للعين وتقدم [تقريره] في قوله {إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35] .
ونقل النقاشُ قراءة «يُعَصِّرُونَ» بضمِّ الياء، وفتح العين، وكسر الصّاد مشددة؛ من «عَصَّر» للتكثير، وهذه القراءة، وقراءة زيدٍ المقتدمة، تحتملان أن يكونا من العصرِ للنبات، أو الضَّرع، أو النَّجاة؛ كقول الشاعر: [الرمل]
3114 - لَوْ بِغيْرِ الماءِ حَلقِي شَرقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمضاءِ اعتِصَارِي(11/124)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
قوله تعالى: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} الآية.
اعلم أنَّ الساقي لما رجع إلى الملك، وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه، وعرف الملك أنَّ الذي قاله كائنٌ قال ائتُونِي به، فلمَّا جَاءه الرسُول قال: أجب الملكَ، فأبى أن يخرج مع الرسول، حتَّى تظهر براءته، فقال للرسول: ارْجِعْ إلى ربِّكَ، أي: سيِّدك، قال عليه الصلاة السلام: «عَجِبْتُ مِن يُوسفَ وكَرمهِ وصَبْرهِ واللهُ يَغْفرُ لهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ البَقراتِ العِجِافِ والسِّمانِ، ولوْ كُنْتُ مَكانَهَ ما أخْبرْتُهمْ حتَّى أشْترطَ أنْ يُخْرِجُونِي ولقَدْ عِجِبْتُ منهُ حِينَ أتاهُ الرَّسولُ فقَال لَهُ: ارْجِعْ إلى ربِّك، ولوْ كُنْتُ مَكَانَهُ ولَبِثْتُ في السِّحن طول ما لبِثَ لأسْرعْتُ إلى الإجَابةِ وبَادرتُهثم البَابَ» .
قال ابن الخطيب: الذي فعله يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت من الصَّبر، والتَّوقٌُّف إلى أن يفحص الملك عن حاله، هو الأليقُ بالحزم والعقل، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه لو خرج في الحالِ، فربما كان يبقى في قلب الملك أثر ما، فلما التمس من الملكِ أن يفحص عن حال تلك الواقعةِ، دلَّ ذلك على براءته من التهمةِ، فبعد خروجه لا يقدر أحدٌ أن يلطِّخه بتلك الرذيلة، وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه.
والثاني: أن الإنسان الذي يبقى في [السجن] اثنتي عشرة سنةً، إذا طلبه الملك، وأمر بأخراجه، فالظاهر أنه يبادرُ إلى الخروكج، فحيث يخرج، عرف منه أنه في نهايةِ(11/125)
العقلِ، والصَّبر، والثباتِ؛ وذلك [يكون] سبباً لاعتقادِ البراءةِ فيه عن جميع أنواع التهم، وأن يحكم بأنَّ كلَّ ما قيل فيه، كان كذباً.
الثالث: أن التماسهُ من الملك أن يفحص عن حاله من تلك النسوةِ، يدل أيضاً على شدَّة طهارته، إذ لو كان ملوثاً بوجه ما، لكان يخاف أن يذكر ما سبق.
الرابع: أنه قال للشَّرابي: «اذكُرْنِي عندَ ربِّكَ» فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن [بضع] سنين، وهنا طلبهُ الملك فلم يلتفت إليه، ولم يقمْ لطلبه وزناً، واشتغل بإظهار براءته من التُّهمةِ، ولعلَّه كان غرضه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من ذلك ألاَّ يبقى في قلبه التفاتٌ إلى ردِّ الملك وقبوله، وكان هذا العمل جارياً مجرى التَّلافي، لما صدر منه من التوسُّلِ إليه، في قوله: «اذْكُرنِي عِندَ ربِّك» ، وليظهر هذا المعنى لذلك الشرابي؛ فإنه هو الذي كان واسطةً في الحالين معاً.
قوله: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة} قرأ ابن كثير، والكسائي: «فَسَلهُ» ، بغير همز، والباقون: بالهمز؛ وهما لغتان.
والعامة على كسر نونِ «النِّسوةِ» وضمها عاصم في رواية أبي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وليست بالمشهورة، وكذلك قرأها أبو حيوة.
وقرىء «اللاَّئِي» بالهمز، وكلاهما جمع ل: «الَّتي» ، و «الخَطْبُ» : الأمْرُ والشَّأن الذي فيه خطرٌ؛ وأنشد [الطويل]
3115 - ومَا المَرْءُ ما دَامتْ حُشَاشَةُ نَفْسهِ ... بمُدْرِك أطرْافِ الخُطوبِ ولا آلِ
وهو في الأصل مصدر: خَطَبَ يُخْطبُ وإنَّما يُخْطَبُ في الأمور العظام.
فصل ما في الآية من لطائف
أولها: أنَّ المعنى؛ قوله تعالى {فَاسْأَلْهُ} سئل الملك {مَا بَالُ النسوة} ليعلم براءتي من تلك التهمة إلا أنَّه اقتصر على سؤال الملك عن تلك الواقعة؛ لئلاًَ يشتمل اللفظ على ما يجرى مجرى أمر الملك بعمل أو فعلٍ.
وثانيها: أنَّه لم يذكر سيدته مع أنها التي سعت في إلقائه في السجن الطويل، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة.
وثالثها: أنَّ الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عملٍ قبيحٍ عند الملك، فاقتصر(11/126)
يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على مجرَّد قوله: {مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ، وما شكى منهم على سبيل التَّعيين، والتفصيل.
ثم قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {إنّ ربي بكيدهن عليم} .
وفي المراد بقوله «إنَّ ربِّي» وجهان:
أحدهما: أنه هو الله تعالى فإنه هو العالم بخفيَّات الأمور.
والثاني: المراد به الملك، وجعله ربًّا؛ لكونه مربِّياً، وفيه إشارةٌ إلى كون ذلك الملك عالماً بمكرهنَّ وكيدهنَّ.
واعلم أنَّ كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً:
أحدها: أنَّ كل واحدٍ منهن طمعت فيه، فلما لم يجدن المطلوب أخذن يطعن فيه، وينسبنه إلى القبيح.
وثانيها: لعلَّ كلَّ واحدةٍ منهمن بالغت في ترغيب يوسف في موافقته سيدته على مرادها، ويوسف علم أنَّ مثل هذه الخيانة في حقِ السَّيِّد المنعم لا تجوزُ.
وثالثها: أنه استخرجد منهنَّ وجوهاً من المكرِ والحيل في تقبيح صورة يوسف عند الملك، فكان المراد منهم اللفظ ذلك.
ثم إنه تعالى حَكَى أنَّ يوسف عليه السلام لما التمس من الملك ذلك، أمر الملكُ بإحْضَارهنَّ، وقال لهُّنَّ: «مَا خَطْبُكُنَّ» : ما شَأنُكُنَّ، وأمركنَّ «إذْ رَاودتُّنَّ يوسف عَنْ نَفْسِهِ» ، وفيه وجهان:
الأول: أن قوله: «إذْ رَاودتُّنَّ يُوسفَ» ، وإن كان صيغة جمع، فالمراد منها الواحد؛ كقوله جلَّ ذكره: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] .
والثاني: أنَّ المراد منه خطابُ الجماعة، ثم هاهنا وجهان:
الأول: أنَّ كلَّ واحدة منهنَّ روادتْ يوسف عن نفسه.
والثاني: أنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ روادتْ يوسف؛ لأجل امرأة العزيز، فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه.
وعند هذا السؤال {قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء} ، وهذا كالتأكيد؛ لما ذكرنا في أوَّل الأمر في حقه، وهو قولهنَّ: {مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] .
وقوله «إذْ رَوادتنَّ» ، هذا الظرف منصوبٌ ب «خَطْبُكُنَّ» ؛ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى: ما فعلتُنَّ، وما أردتنَّ به في ذلك الوقتِ.
وكانت امرأةُ العزيز حاضرة، وكانت تعلم أن هذه المناظرات، والتفحصات، إنما(11/127)
وقعت بسببها، ولأجلها. وقيل: إ نَّ النسوة أقبلن على امرأة العزيز يقررنها.
وقيل: خَافتْ أن يَشْهدْنَ عليها؛ فأقرَّت، وقالت: {الآن حَصْحَصَ الحق} أي: ظهر، وتبيَّن: {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} ، في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: 26] .
هذه شهادةٌ جازمةٌ من تلك المرأة أنَّ يوسفَ صلوات الله وسلامه عليه راعى جانب العزيز حيثُ قال: {ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} ؛ ولم يذكر تلك المرأة ألبتة؛ فعرفت المرأةُ أنَّهُ ترك ذكرها؛ رعايةً، وتعظيماً لجانبها، وإخفاءً للأمر عليها؛ فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن، فلا جرم كشفت الغطاء، واعترفت بأنَّ الذنب كُلَّه من جانبها، وأنَّ يوسف كان مُبَرّأ عن الكل.
حُكِيَ أنَّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي، فادَّعت عليه المهر، فأمر القَاضِي أن يَكْشفَ عَنْ وَجْهِها؛ حتَّى يتمَكَّنَ الشُّهودُ من إقَامةِ الشَّهادةِ، فقال الزَّوحُ: لا حَاجةَ إلى ذلِكَ؛ فإنِّي مقرٌّ بصَداقِهَا في دَعْواهَا، فقالت المرأةُ: أكْرمْتَنِي إلى هذا الحد؟ اشْهَدُوا أنِّي أبْرَأتُ ذمَّتهُ من كُلِّ حقِّ لِي عليْهِ.
قوله «الآنَ» منصوب بما بعده، و «حَصْحَصَ» معناه: تبيَّن وظهر بعد خفاءٍ، قاله الخليل رَحِمَهُ اللَّهُ.
وقال بعضهم: هو مأخوذٌ من الحصَّة، والمعنى: بانتْ حصَّةُ الحق من حصَّة الباطل، كما تتميَّزُ حِصَصُ الأرَاضِي وغيرها، وقيل: بمعنى ثبت واستقرَّ.
وقال الرَّاغب: «حَصْحَصَ الحقُّ» ، أي: وضَحَ ذلِكَ بانكِشافِ ما يُقهِره، وحصَّ وحَصْحَصَِ، نحو: كفَّ وكَفْكَفَ، وكَبَّ وكَبْكَبَ، وحصَّه: قطعهُ؛ إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكمِ؛ فمن الأولِ قوله الشاعر: [السريع] .
3116 - قَدْ حَصَّتِ البَيْضَةُ رَأسِي فَمَا..... ... ... ... ... ... ... ... . .
ومنه: رجلٌ أحَصّ: انقطع بعض شعره، وامرأةٌ حصَّاءُ، والحَصَّةُ: القطعة من الجملة، ويستعمل استعمال النصيب.
وقيل: هو مِنْ حَصْحَصَ البعير، إذا ألقى ثفناته؛ للإناخَةِ؛ قال الشاعر: [الطويل]
3117 - فَحَصْحَصَ في صُمِّ القَنَا ثَفِنَاتِهِ ... ونَاءَ بِسلمَى نَوْءَة ثُمَّ صَمَّمَا(11/128)
قوله تعالى: «ذَلِكَ» خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ ذلك، و «لِيَعْلمَ» ، متعلقٌ بضميرٍ، أي: أظهر ذلك؛ ليعلم، أو مبتدأ، وخبره محذوفٌ، أي: ذلك الذي صرَّحتُ به عن براءته، أمرٌ من الله لا بُدَّ منه، و «لِيَعْلمَ» متعلقُ بذلك الخبر، أو يكون «ذَلِكَ» مفعولاً لفعلٍ مقدَّرٍ يتعلق به هذا الجار أيضاً، أي: فعل الله ذلك، أو فعلته أنا بتيسير الله.
قوله: «بِالغَيْبِ» يجوز أن تكون الباءُ ظرفية قال الزمخشريُّ: أي مكان الغيب، وهو الخفاء، والاستتارُ وراء الأباب السبعة المغلقةِ، ويجوز أن تكون الباءُ للحالِ، إمَّا من الفاعل، على معنى: وأنا غائبٌ عنه خفي عن عينه.
وإمَّا من المعفولِ على معنى: وهو غائب عني خفي عن عيني.
«وأنَّ اللهَ» نسقٌ على «أنِّي» ، أي: ليعلم الأمرينِ، وهذا من كلام يوسف صلوات الله وسلامه عليه وبه بدأ الزمخشري، كالمختار له.
وقال غيره: إنه من كلام امرأة العزيزِ، وهو الظَّاهرُ.
فإن قلنا: هو من كلام يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فمتى قالهُ؟ .
وروى عطاءٌ، عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: أنَّ يوسف لما دخل على الملك، قال «ذلكَ» ، وإنما ذكره بلفظِ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب.
قال ابنُ الخطيب: «والأولى أنه صلوات الله وسلامه عليه إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه، لأنَّ ذكر هذا الكلام في حضرةِ الملك، سوء أدبٍ» .
فإن قيل: هذه الخيانة لو وقعت، كانت في حقِّ العزيزِ، فكيف قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ؟ .
فالجوابُ: قيل: المرادُ ذلك ليعلم الملك أنِّي لم أخنِ العزيز بالغيبِ، فتكون الهاءُ في «أخُنْهُ» تعود على العزيز.
وقيل: إنَّه إذا خان وزيره، فقد خانه من بعض الوجوه.
وقيل: إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن، قال: {ذلك لِيَعْلَمَ} ، العزيزُ {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} .
ثم ختم الكلام بقوله: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} ، ولعلَّ المراد منه: أني لو كنت خائناً، لما خلَّصني الله من هذه الورطةِ، وحيث خلصني منها، ظهر أنِّي كنت بريئاً مما نسبوني إليه.
وإن قلنا: إن قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} كلام امرأة العزيز، فالمعنى: أني(11/129)
ولو أدخلت الذنب عليه عند حضوره، لكنني لم أدخل الذنب عليه عند غيبته؛ لأني لم أقلْ فيه وهو في السجن خلاف الحقِّ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} ، أيك لما أقدمتُ على الكيدِ، والمكرِ، لا جرم افتضحْتُ؛ فإنه لمَّا كان بريئاً، لاجرم أظهره الله، عز وعلا.
قال صاحبُ هذا القولِ: الي يدلُّ على صحَّتهِ: أنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما كان حاضراً في ذلك الملجلس حتَّى يقال: لمَّا ذكرتِ المرأةُ قولها: {الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} ، ففي تلك الحالة قال يوسف: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول عن ذلك المجلس إلى السجن، ويذكر تلك الحكاية.
ثم إنَّ يوسف يقول ابتداء: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ومثلُ هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين، ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم؛ فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة.
قال القرطبي: وهو متصلٌ بقولِ امرأة العزيز: «الآنَ حَصْحَصَ الحقٌّ» أي: أقررتُ بالصدقِ؛ {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} بالكذب عليه، ولم أذكره بسوءٍ، وهو غائبٌ، بل صدقتُ، وزجرت عنه الخيانة، ثم قالت: «ومَا أبرِّىءُ نَفسِي» ؛ بل أنا روادته وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع؛ ولهذا قالت: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
وقيل
: {ذلك
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، مِنْ قولِ العزيز، وإنِّي لم أغفل عن مجازاته على أمانته.
{وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} معناه: إنَّ الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.
فصل
دلَّت هذه الآية على ظهارةِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه من الذنب من وجوه:
الأول: أن الملك لما أرسل إلى يوسف صلوات الله وسلامه عليه وطلبه، فلو كان يوسف متهماً بفعلٍ قبيحٍ، وقد كان صدر منه ذنبٌ، وفحشٌ؛ لاستحال بحسب العرفِ العادةِ، أن يطلب من الملك أن يفحص عن تلك الواقعة، وكان ذلك سعياً منه في فضيحةِ نفسه، وفي حمل الأعداءِ على أن يبالغوا في إظهار عيوبه.
والثاني: أنَّ النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته، ونزاهته، {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] ، وفي المرة الثانية: {حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء} .(11/130)
والثالث: أنَّ امرأة العزيز اعترفت في المرة الأولى بطهارته، حيثُ قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32] ، وفي المرة الثانية قولها: {الآن حصحص الحق أنا روادته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه صادقٌ في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: 26] .
والرابع قول يوسف {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} .
قال ابن الخطيب: «الحشويَّةُ يذكرون أنَّه لما قال هذا الكلام، قال جبريل عليه السلام: ولا حين هَمَمْتَ، وهذا من رواياتهم الخبيثة، وما صحَّت هذه الرواية في كتابٍ معتمدٍ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريفِ ظاهر القرآن» .
والخامس: قوله: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} ، يقتضي أن الخائن لا بدَّ أن يفتضح، فلو كان خائناً، لوجب أن يفتضحح ولما خلصه الله من هذه الورطة، دلَّ ذلك على أنه لم يكن من الخائنين.
ووجه آخر: وهو أنَّ ت في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسةً، فإقدامه في قوله {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، مع أنَّهُ [خانه] بأعظم وجوه الخيانة وأقدم على فاحشةٍ عظيمةٍ، وعلى كذبٍ عظيمٍ من غير أن يتعلق به مصلحة بوجهٍ ما، والإقدامُ على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاًح لا يليق بأحدٍ من العقلاءِ، فكيف يليق إسناده إلى سيِّد العقلاء، وقدوة الأصفياء، فثبت أنَّ هذه الآية تدلُّ دلالة قطعيَّة على براءته مما يقول الجُهَّال.
قوله تعالى: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} الآية اعلمْ أنَّ تفسير هذه الآية يختلف باخلاف ما قبلها؛ لأنَّه إن قلنا قوله {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، كلام يوسف، كان هذا أيضاً كلام يوسف، وإن قلنا:: إنه من تمام كلام المرأة، كان هذا أيضاً كذلك، وإذا قلنا: إنه من كلام يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فقالوا: إنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، قال جبريلُ عليه السلامُ ولا حين هَمَمْتَ، فعند هذا، قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} ، أي: بالزِّنا، {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} أي عصم، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لِلْهمِّ الذي همَّ به، «رَحِيمٌ» ، أي لو فعلته، لتابَ عليَّ.
قال ابنُ الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «هذا ضعيفٌ؛ فإنَّا بينا في الآية الأولى برهاناً قاطعاً على براءته من الذنب» .(11/131)
فإن قيل: ما جوابكم عن هذه الآية؟ .
فنقول: فيه وجهان:
الأول: أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، كان ذلك جارياً مجرى المدحِ لنفسه، وتزيكتها؛ وقال سبحانه {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] فاستدركه على نفسه بقوله: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} ، والمعنى: فلا أزكِّى نفسيح {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} ، ميَّالةٌ إلى القبائحِ، راغبٌ في المعصيةِ.
الثاني: أنَّ الآية لا تدلُّ البتة على شيءٍ مما ذكروه؛ لأنَّ يوسف صوات الله وسلامه عليه لما قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، بيَّن أنَّ ترك الخيانة ما كان لعدمِ الرغبة، ولعدم ميل النفس، والطعبيةِ؛ لأنَّ النفس أمَّارة بالسوءِ، توَّاقةٌ إلى اللذات، فبيَّن بهذا الكلام أن ترك الخيانة، ما كان لعدم الرغبةِ، بل لقيام الخوف من الله تعالى.
وإذا قلنا: إنَّ هذا الكلام من بقية كلامِ المرأةِ، ففيه وجهان:
الأول: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} ، عن مراودته، ومرادها تصديقُ يوسف في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: 26] .
والثاني: أنها لما قالت: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، قالت: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} ، من الخيانة مطلقاً؛ فإنٍّي قد خنته حين أحلت الذنب عليه، وقلت: {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] ؛ وأودعته في السِّجن، كأنَّها أرادت الاعتذارَ مما كان.
فإن قيل: أيُّهما أولى، جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف، أم جعله كلاماً للمرأة.
قلنا: جعله كلاماً ليوسف مشكل؛ لأنَّ قوله: «قالت امرأة العَزيزِ الآن حَصْحَصَ الحقٌّ» كلامٌ موصولٌ بغضه ببعضٍ إلى آخره، فالقول بأنَّ بعضه كلام المرأةِ، والبعض كلام يوسف، تخلُّل الفواصل الكثيرة بين القولين، وبين المجلسين بعيد.
فإن قيل: جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً؛ لأن قوله {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} كلامٌ لا يحسنُ صدوره إلاَّ ممَّن احترز عن المعاصِي، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل النَّفس، ولا يليق ذلك بالمرأةِ التي استفرغت جهدها في المعصية.
قوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في «أمَّارةٌ» كأنه قيل: إن النفس لأمارةٌ بالسوءِ إلاَّ نفساً رحمها ربِّي، فيكون أراد بالنفس الجنس؛ فلذلك ساغ الاستثناء منها؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 2، 3] وإلى(11/132)
هذا نحا الزمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه قال: «إلا البعض الذي رحمهُ ربِّي بالعصمة؛ كالملائكة» .
وفيه نظرٌ؛ من حيث إيقاع «ما» على من يعقل، والمشهور خلافه.
قال ابن الخطيب: «ما» بمعنى «مَنْ» أي: إ لا من رحم ربي، و «مَا» و «مَنْ» كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر؛ قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] ، وقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45] .
والثاني: أنَّ «مَا» في معنى الزمان؛ فيكون مستثنى من الزمنِ العامِ المقدر، والمعنى: إنَّ النَّشفس لأمارة بالسوءِ في كل وقتٍ وأوانٍ، إلاَّ وقت رحمة ربِّي إيَّاها بالعصمةِ. ونظره أبو البقاءِ بقوله: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء: 92] ، وقد تقدَّم [النساء: 92] أنَّ الجمهور لا يجيزون أن تكون «أنْ» واقعة موقع ظرف الزمان.
والثالث: أنه مستثنى من معفولِ «أمَّارةٌ» ، أي: لأمَّارة صاحبها بالسُّوءِ إلا الذي رَحِمَهُ اللَّهُ، وفيه إيقاع «مَا» على العاقل.
والرابع: أنه استثناء منقطع، قال ابن عطيَّة: وهو قول الجمهور. وقال الزمخشريُّ: ويجوز أن يكن استثناء منقطعاً، أيك ولكن رحمةُ ربي التي تصرفُ الإساءة؛ كقوله: {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} [يس: 43، 44] .
فصل في أن الإيمان والطاعات لا يحصلان للعبد إلا برحمة الله له
هذه الآية تدل على أن الطاعات والإيمان لا يحصلان إلا من الله تعالى؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} فدلَّ ذلك على إنَّ انصراف النفس من السوءِ لا يكون إلا برحمة الله، ودلَّت الآية على أنَّ من حصلت تلك الحرمةُ له، حصل ذلك الانصرافُ، ولا يمكن تفسيرُ هذه الرحمة بإعطاءِ العقل، والقدرةِ، والألطافِ، كما قاله القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مشتركٌ بين الكافر والمؤمن، فوجب تفسيرها بشيءٍ آخر، وهو ترجيحُ داعية الطاعة على داعيةِ المعصيةِ.(11/133)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
قوله تعالى: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} .
لما تبيَّن للملكِ عذرُ يوسف وعرف أمانتهُ وعلمهُ، قال: {ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} ، أي: أجعله خالصاً لنفسي.(11/133)
قال القرطبيُّ: «انظر إلى قول الملكِ أولاً حين تحقَّق علمهُ:» ائتُونِي بِهِ «، فقط فلمَّا فعل يوسف ما مفعل، قال ثانياً {ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} والاستخلاصُ: طلب خلوصِ الشَّيء من شوائبِ الإشراكِ» .
قال القرطبي: «أسْتَخْلصهُ» جزم؛ لأنه جواب الأمرِ؛ وهذا يدل على أنَّ قوله: «ذلِكَ ليَعْلمَ» ، جرى في السجن، ويحتمل أنه جرى عند الملك، ثم قال في جلس آخر: «ائتُوني بِهِ» ؛ تأكيداً.
واختلفوا في هذال الملك، فقيل: هو العزيز، وقيل هو الملك الأكبر. وهذا هو الاظهر لوجهين:
الأول: لقول يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} .
الثاني: أن قوله: {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} يدلُّ على أنه قبل ذلك، ما كان خالصاً له، وكان خالصاً للعزيزن فدلَّ على أنَّ هذا الملك هو الملك الأكبر.
قوله: «فَلمَّا كَلَّمهُ» ، يجوز أن يكون الفاعل ضمير الملكِ، والمفعول يوسف صلوات الله وسلامه عليه هو الظاهر؛ لأنَّ مجالس الملوكِ لا يحسنُ لأحدٍ أن يبدأ فيها بالكلام، وإنما الملك هو الذي يبدأن ويجوز العكس، وفي الكلام اختصارٌ تقديره: فجاء الرسول يوسفن فقال له: أجب الملك الآن.
فصل
رُوِيَ أنَّه قام، ودعا لأهلِ السِّجن، فقال: اللَّهُمَّ اعطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعمِّ عليهم الأخبار، فهم أعلمُ النَّاس بالأخبار في كل بلدٍ.
فلما خرج من السِّجن، كتب على السجن: هذا قبرُ الأحياءِ، وبيتُ الأحزانِ، وتجربة الأصدقاءِ، وشماتةُ الأعداءِ، ثمَّ اغتسل، وتنظَّف من درنِ السِّجن، ولبس ثِياباً حسنة وقصد الملكَ.
وقال وهبٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ يوسفُ يومئذ ابن ثلاثين سنة، ولما دخل عليه دعا، وقال: اللهمَّ إني أسالك بخيرك من خيره، وأعوذُ بعزَّتكَ وقُدرتِكَ من شرِّه، ثمَّ سلَّم عليه العربيَّة، فقال الملك: ما هذا اللسانُ؟ قال: لِسانُ عمِّي، إسماعيل، ثم دعا لهُ بالعِبرانِيّةِ، فقال: ما هذا اللسانُ؟ قال: لِسانُ آبائي: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً، وكُلمَّا كَلَّمَ يوسف بلسانٍ، أجابه بذلك اللسان؛ فأعجب الملك أمرهُ، كان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملكُ حدثاً شابًّا، قال(11/134)
للشرابي هذا هو الذي علم تأويل رُؤياي؟ قالك نعم، فأقبل على يوسف، فقال الملك: أحبُّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً.
فأجابه بذلك الجواب شفاهاً، وشهد قلبه بصحته؛ فعند ذلك قال له الملك: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} يقال: فلانٌ مكينٌ عند فلانِ، بَيِّنُ المكانة، أي: المنزلة، وهي حالةٌ يتمكن بها صاحبها مما يريد، وقوله: «أمِينٌ» أي: قد عرفنا أمانتكَ، وبراءتك مما نسبت إليه.
واعلم أن قوله: «أمِينٌ» كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يحتاج إليه من الفضائلِ، والمناقبِ؛ وذلك لأنَّه لا بُدَّ في كونه أميناً من القدرة والعلم، أما القدرة؛ فلأن يحصل بها المكنةُ، وأما العلم؛ فلأنَّ كونه متمكِّناً من أفعال الخيرِ لا يحصل إلاَّ به، إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي، وبما لا ينبغي، لا يمكن تخصيص بيان ما ينبغي بالفعل، ولا تخصيص ما لا ينبغي بالتِّرك؛ فثبت أنَّ كونه مكيناً لا يحصل إلاَّ بالقدرةِ والعلمِ، وأما كونه أميناً، فهو عبارةٌ عن كونه لا يفعل الفعل لداعي الشَّهوة، وإنَّما يفعله لداعي الحكمةِ، فثبت أنَّ كونه مكيناً أميناً يدلُّ على كونه قادراً، وعلى كونه عالماً بمواضع الصًَّلاح، والفسادِ، وعلى كونه يفعل لداعي الحكمة، لا لداعي الشَّهوة، وكل من كان كذلك، فإنَّه لا يصدر عنه فعلُ السُّوء والفحشاء.
ثم حكى سبحانه وتعالى أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال في هذا المقام: {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} قال المفسرون: لمَّا عبَّر يوسف رؤيا الملك بين يديه، قال له الملك: فما ترى أيُّها الصديقُ؟ فقال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً، وتبني الخزائنن وتجمع فيها الطَّعام، فإذا جاءت السنون المجدبةُ بعت الغلات، فيحصل بهذا الطريق مالٌ عظيمٌ، فقال الملك: ومن لي بهذا الشُّغل؟ فقال يوسف: {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} ، أي: على خزائن أرض مصر. أدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق.
روى ابنُ عبَّاسٍ رضي البله عنهما عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ قال: «رحِمَ اللهُ أخي يوسف، لو لَمْ يقُل: اجعلنِي على خَزائنِ الأرض لا ستَعْملهُ من سَاعتهِ لكنَّهُ لمَّا قال ذلِكَ أخَّرهُ عنهُ سنَةً» .
قال ابن الخطيب: «وهذا من العجائب؛ لأنه لما تأبَّى عن الخروج من السِّجن، سهَّل الله عليه ذلك على أحسنِ الوجوه، ولما سارع في ذكر هذا الالتماسِ، أخَّر الله ذلك(11/135)
المطلوب عنه، وهذا يدلُّ على أنَّ ترك التَّصرفِن والتفويض إلى الله تعالى أولى.
فإن قيل: لِمَ طلب يوسف الإمارة، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لعبدِ الرَّحمنِ بن سمُرة:» يَا عَبْدَ الرَّحمنِ: لا تَسْألِ الإمَارَةَ «
؟ .
وأيضاً: فكيف طلب الإمارة من سُلطانٍ كافرٍ؟ وأيضاً: لِمَ لَمْ يصبر مُدَّة فأظهر الرغبة في طلب الإمارة؟ وأيضاً: لم طلب أمر الخزائنِ في أوَّل الأمْرِ، مع أنَّ هذا يورثُ نوع تهمةٍ؟ وأيضاً: كيف مدح نفسه بقوله:» إني حفيظ عليم «؟ مع أنه تعالى قال: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ}
[النجم: 32] ، وأيضاً ما الفائدة في قوله: «إنِّي حفيظٌ عليمٌ» ؟ ولِمَ لَمْ يقل: إن شاء الله تعالى؛ لقوله تعالى {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 2324] ؟ .
فالجوابك أن الأصل في جواب هذه المسألةِ: أنَّ التَّصرف في أمور الخَلقِ كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجبابً عليه لوجوه:
الأول: أنه كان رسُولاً حقًّا من الله تعالى إلى الخلق، والرسول تجب عليه مصالحُ الأمةِ بقدر الإمكانِ.
والثاني: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ علمَ بالوحي أنًَّهُ سَيحْصُلُ القَحْطُ والضيقُ الشديد، الذي ربَّما أفضى إلى هلاك الخلق، فلعلَّه تعالى أمره بأن يدبِّر في ذلك الوقت، ويأتي بطريقٍ في آجله يقلُّ ضَررُ ذلك القحْطِ في حق الخلق.
الثالث: أنَّ السَّعي في إيصال النفع إلى المُستضعفين، ودفع الضرر عنهم أمرٌ مستحسنٌ في العقول.
وإذا ثبت هذا، فنقولُ: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكلَّفاً برعاية المصالح من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلاَّ بهذا الطريق، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، فهو واجبٌ، فكان هذا الطريق واجباً، ولمَّا كان واجباً، سقطتِ الأسئلة بالكلية.
وأما تركُ الاستثناءِ، فقال الواحديُّ: «كان ذلك من خطيئةٍ أوجبتْ عُقوبةٌ وهو أنه تعالى أخَّر عنه حصول ذلك المقصودِ سنةً» .
قال ابنُ الخطيب: «لعلَّ السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء، لاعتقد الملكُ فيه أنه ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي؛ فالأجل هذا المعنى ترك الاستثناء» .(11/136)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
وأما قوله لِمَ مَدحَ نفسه؟ فجوابه من وجوه:
الأولك لا نُسلِّمُ أنه مدح نفسه، بل بيَّن كونه موصوفاً بهاتين الصفتين الوافيتين بحصولِ هذا المطلوبِ، فاحتاج إلى ذكر هذا الوصفِ؛ لأنَّ الملك وإن علمَ كمالهُ في علومِ الدين ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر.
ثم نقول: هبْ أنَّه مدح نفسه، إلاَّ أنَّ مدح النفس لا يكونُ مذموماً؛ إلا إذا قصد به الرجل التَّطاول، والتفاخر، والتوصل إلى ما لا يحلُّ، وأمَّا على هذا الوجه، فلا نسلِّم أنه يحرمُ، وقوله تعالى {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 23] ، والمراد منه: تزكيةٌ النفس وهو يعلمُ كونها غير زَكيَّةٍ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى بعده: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 23] أما إذا كان عالماً بأنه صدقٌ، فهو غير ممنوعٍ منه، والله أعلم.
وأما القول: ما الفائدة في وصف نفسه بأنه حفيظٌ عليمٌ؟ .
قلنا: إنه جار مجرى أن يقول: حفيظٌ بجميع الوجوه التي منها يمكن الرجل تحصيل المالِ، وعليمٌ بالجهاتِ التي تصلح لأن يصرف المال إليها، أو حفيظ للخزائن عليمٌ بوجوه مصَالِحهَا أو كاتبٌ حَاسِبٌ، أو حفيظٌ لِمَا اسْتودَعْتَنِي، عليمٌ بما وليتني، أو حفيظ للحساب، عليمٌ بالألسن، أعلمُ لغة من يأتيني.
وقال الكلبيُّ: «حفيظٌ بتقديره في السِّنين الخصبةِ، عليم بوقت الجوعِ حين يقعُ في الأرض الجَدبةِ» .
فقال الملك: من أحقُّ به مِنْكَ فولاَّهُ ذلك، وقال له: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} ذُو مكانةٍ ومنزلةٍ، أمينٌ على خزائنِ الأرض.
قوله
تعالى
: {وكذلك
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} الآية قال المفسرون: لما التمس من الملكم أن يجعله على خزائن الأرض، لم يذكر الله عن الملك أنه قال: قد فعلتُ؛ بل قال: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} ؛ فقال المفسرون: ف يالكلام محذوفٌ تقديره: قال الملك: قد فعلت؛ لأنَّ تمكين الله له في الأرض يدلُّ على أن الملك قد أجابه ما سأل.
قال ابن الخطيب: «وما قالوه حسنٌ، إلا أنَّ هاهنا ما هو أحسن منه، وهو أنَّ ما(11/137)
أجابه الملك في عالم الظاهر، وأمَّا المؤثر الحقيقيُّ، فليس إلاَّ أنه تعالى هو الذي مكَّنه في الأرض، وذلك؛ لأنَّ الملك كان متمكناً من القبول والرد فنسبة قدرته إلى القبول والرد على التَّساوي وما دام يبقى هذا التَّساوي، يمتنعُ حصولُ القبولِ، فلا بُدَّ وأن يرجح القبولُ على الردِّ في خاطر ذلك الملك؛ وذلك لأنَّ الترجيح لا يكونُ إلاَّ بمرجعٍ يخلقهُ الله تعالى وإذا خلق الله ذلك المرجح، حصل القبولُ لا محالة، فالتمكين ليوسف في الأرض ليس إلاَّ من خلق الله تعالى بمجموع القدرة والدَّاعية الجازمة التي عند حصولها، يجب ُ ألاَّ يؤخَّر هذا السببُ، فترك الله إجابة الملك، واقتصر على ذكر التَّمكينِ الإلهي؛ لأنَّ المؤثِّر الحقيقيَّ ليس إلا هو» .
قوله: «وكَذلِكَ» الكافُ منصوبةٌ بالتمكين، و «ذلِكَ» إشارةٌ إلى ما تقدم أي: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملكِ، وإنجائنا إياه من غمِّ الحَبْس، {مَكنا له في الأرض} .
ووله: «لِيُوسُف» يجوز في هذه اللام أن تكون متعلقة ب «مَكَّنَّا» على أن يكن مفعول «مَكَّنَّا» محذوفاً، تقديره: مكنا ليسوف الامورَ، أو على أن يكون المفعول به «حَيْثُ» ، كما سيأتي، ويجوز أن تكون زائدة عند من يرى ذلك.
وقد تقدَّم أنَّ الجمهور يأبون ذلك إلاَّ في موضعين.
وقله «يَتَبَوَّأ» جملةٌ حاليةٌ من «يُوسفَ» ، و «مِنْهَا» يجوز أن تتعلَّق ب «يَتَبَوَّأ» ، وأجاز أبو البقاءِ: أن يتعلق بمحذوفٍ، على أنَّها حالٌ من «حَيْثُ» ، و «حَيْثُ» يجوز أن يكون ظرفاً ل «يَتَبَوَّأ» ، ويجوز أن يكون مفعولاً به وقد تقدم تحقيقه في الأنعامِ.
وقرأ ابن كثير: «نَشَاءُ» بالنُّون على أنَّها نونُ العظة لله تعالى.
وجوَّز أبو البقاء: أن يكون الفاعل ضمير يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال: «لأنَّ مشيئتهُ من مشيئةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» ؛ وفيه نظرٌ؛ لأن نظم الكلام يأباهُ.
والباقون: بالياء على أنه ضمير يوسف، ولا خلاف في قوله: «نُصِيبُ بِرحْمتِنَا من نَشاءُ» ، أنَّها بالنون.
وجوزَّ أبو حيَّان: أن يكون الفاعل في قراءة الياء ضمير الله تعالى، ويكون التفاتاً. ومعنى «يَتَبَوَّأ منها» أي: ينزلُ مها حيث يشاء ويصنع فيها ما يشاء.(11/138)
فصل
روى الزمخشريُّ: أنَّ الملك أخرج خاتم الملك، ووضعه في أصعبه، وقلَّده سيفه، ووضع له سريراً من ذهب مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوت، فقال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أما السريرُ، فأشدُّ به ملكك، وأما الخاتمُ، فأدبِّر به أمرك، وأمَّا التَّاجُ، فليس من لِباسِي، ولا لِباسِ آبائي، وجلس على السَّرير، ودان له القومُ، وأنَّ قُطْفِير زوج المرأةِ مات بعد ذلك، وزُوج يوسف راعيل امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال: أليس هذاخيراً مما طلبتِ؟ فوجدها عذراء، فأصابها، فولدت له إفرائيم، وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك، وكثير من النَّاس، وفوَّض الملك أمر مصر إلى يوسف.
قال وهبٌ، السديُّ، وابن عبَّاس، وغيرهم: ثم دخلت السنون المحصبة، فأمر يوسف بإصلاح الزراع، وأمرهم أن يتوسَّعُوا في الزراعةِ، فلما أدركت الغلةُ أمر بها فجمعت، ثم بنَى لها المخازن، فجمعت فيها ف يتلك السنة غلةٌ ضاقت عنها المخازن؛ لكثرتها، ثم جمع غلَّة كُلِّ سنةٍ كذلك، حتى انقضتِ السبع المخصبة، وجاءت السنونُ المجدبةُ، فنزل جبريلُ عليه السلام وقال: يا أهلَ مِصْر: جوعوا فإنَّ الله سلَّط عليكم الجوع سبع سنين، فجعل الناسُ ينادون: الجُوع الجُوع، وأباع من أهل مصر في سنين القحط بالدراهم والدنانير في السنة الأولى، وبالحليِّ والجواهر في السنة الثانية، ثم بالدَّوابِّ، ثم بالضياع، ثم بالعقار، ثم ترقَّى بهم حتَّى استرقَّهم؛ فقالوا: والله، ما رأينا ملكاً أعظم ثباتاً من هذا، فلما صار كلُّ الخلق عبيداً له، قال: إنيِّ أشهدُ الله أنِّي اعتقتُ أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم، وكاتن لا يبيعُ من أحدٍ ممن يطلب الطعام أكثر من حملٍ؛ لئلا يضيق الطعامُ عن الباقين.
فصل
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «نُصِيبُ بِرَحْمتِنَا مَن نشَاءُ» أي: بنِعْتِنَا.
{وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} يعني الصابرينَ، هذا في الدنيا، {وَلأَجْرُ الآخرة} : ثواب الآخرة خير.
قال ابن الخطيب قوله تعالى: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} ؛ لأن إضافة الأجر إما أن تكون للعجزِ، أو للجهلِ، أو للبخلِ، والكلُّ ممتنعٌ في حقِّ الله سبحانه وتعالى فكانت الإضاعة ممتنعة، وهذه شهادةٌ من الله تعالى على يوسف أنَّه كان من المُحْسنِينَ، ولو صدق بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال إنه كان من المحسنين؛ فهاهنا لزم إمَّا تكذيبُ الله في حكمه على يوسف أنَّه كان من المحسنين؛ وهو عينُ الكفرِ أو لزوم(11/139)
تكذيب ما رووهُ بأنَّه جلس منها موضع الرجلِ من امرأته، وهو عينُ الإيمانِ بالحقِّ.
واعلم أنَّ لفظ الخيرِ قد يستعملُ لكونِ أحدٍ الخيرينِ أفضل من الآخر؛ كما يقال: الجلابُ خيرُ من الماءِ، وقد يستعمل لبيانِ كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل؛ كما يقال: «الثَّريدُ خيرٌ مِنْ عِند الله تعالى» .
يعني: الثَّريدُ خير من الخيراتِ حصل من الله.
وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: {وَلأَجْرُ الآخرة} : إن حملناه على الوجه الأوَّل، لزم أن تكون ملاذُّ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً، وإذا حملتْ على الوجه الثاني، لزم أن يقال: منافع الآخرة خيرات، ولا شكَّ أن قوله تعالى: {وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} ، شرح حال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وجب أن يصدق في حقه أنَّه من {الذين آمنوا وكانوا يتقون} ، وهذا تنصيص من الله عَزَّ وَجَلَّ أنه كان في الزمنِ السَّابق من المتقين، وليس هاهنا زمنٌ سابقٌ ليوسف يحتاج إلى أنه كان فيه من المتَّقين، إلاَّ الوقت الذي قال الله فيه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] ، فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنَّهُ عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتَّقين.
وأيضاً: قوله تعالى: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} شهادة من الله عَزَّ وَجَلَّ أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من المحسنين، قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] وكل هذه التأكيدات تبطل ما رووهُ عنه، والله أعلم.
فصل
قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله: {وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} يدلُّ على بطلان قول المرجئةِ الذين يزعمون أنَّ الثواب يحصل في الآخرة لمن لمْ يتَّق الكبَائرِ.
وهذا ضعيفٌ؛ لأنا إن حلمنا لفظ «خَيْرٌ» على التَّفضيل، لزم أن يكون الثَّواب الحاصل للمتقين أفضل، ولا يلزمُ ألا يحصل لغيرهم أصلاً، وإن حلمناه على أصل معنى الخيرِ، فهذا يدلُّ على حصول هذا الخير للمتقين، ولا يدلُّ على أنَّ غيرهم لا يحصل له هذا الخير، والله أعلم.(11/140)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
قوله: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} الآية:
ورُوِيَ أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يشبعُ من طعامٍ في تلك الأيَّام؛ فقيل له:(11/140)
أتجوعُ ويبدِكَ خزائِنُ الأرض؟ فقال: أخافُ إن شبعتُ نسيت الجياع، وأمر يوسفُ طبَّاخِي الملك أن يَجْعلُوا غذاءه نصف النهار؛ وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجُوعِ، ولا يَنْسَى الجَائعِينَ، من ثمَّ جعل الملوكَ غذاءهم نصف النَّهار.
وعمَّ القَحْطُ البلاد حتَّى أصاب أرض كنعان وبلاد الشام. ونزل بيعقوب ما نزل بالنَّاس؛ فأرسل بنيه إلى مصر؛ للميرة، وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه، فذلك قوله تعالى: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} وكانوا عشرة، وكان منزلهم بالقُرياتِ من أرض فلسطين بغور الشام، وكانوا أهل باديةٍ، وإبل، وشاء، فقال لهم يعقوب: بلغنِي أنَّ بمصرَ مَلِكاً صالِحاً يبيعُ الطعامَ فتجهَّزوا، واذهبُوا؛ لتَشْتَروا منه الطعام، فقدوا على مصر، فدخلوا على يوسف، فعرفهم يوسفُ.
قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، ومجاهدٌ: عرفهم بأول ما نظر إليهم، وهم ما عرفوه ألبتة.
وقال الحسنُك لَمْ يعْرِفهُمْ حتَّى تعرَّفُوا إليه. وكان كلُّ من وصل إلى بابه من البلادِ، وتفَحَّصَ عنهُم، وتعرَّف أحوالهم؛ ليعرف هل هُمْ إخوتهُ أمْ لاَ، فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم فظهر له أنهم إخوته، وأما كونهم ما عرفوه؛ فلأنه صلوات الله وسلامه عليه أمر حُجَّابُه بأنْ يُوقِفُوهم على البعد وما كان يتكلم معه إلاَّ بالواسطة أيضاً، فمهابة الملكِ، وشدةُ الحاجةِ، توجِبُ كثرة الخوفِ.
وأيضاً: إنما رأوهُ بعد وُفُورِ اللَّحيةِ، وتغير الزيِّ والهيئةِ؛ لأنَّهم رأوه جالساً على سريرٍ، وعليه ثيابُ الحرير، وفي عُنقِهِ طوقٌ من ذهبٍ، وعلى رأسه تاجٌ من ذهبٍ، وايضاً نسوا واقعة يُوسفَ؛ لطول المُدَّة، ويقال: إنَّ من وقْتِ ما ألقوهُ في الجُبِّ إلى هذا الوقت أربعين سنةً، وكلُّ واحدٍ من هذه الأسباب يَمْنَعُ حصول المعرفةِ لا سيّما عند اجتماعها.
قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} العامة على فتح الجيم وقرىء بكسرها، وهما لغتان، فيما يحتاجه الإنسان من زادٍ ومتاعٍ. منه: جِهَاز العرُوس، وجِهازُ الميت.
قال الليثُ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَهَّزْتُ القَوْمَ تَجْهِيزاً: إذا تكلَّفت لهُمْ جِهَازهُمْ للسَّفرِ، وقال: وسمعت أهل البصرة يقولون: الجِهازُ بالكسر.
قال الأزهريُّ: «القراءُ كلُّهم على فتح الجيم، والكسر لغةٌ ليست بجيدةٍ» .(11/141)
فصل
قال المفسرون: حمل لكُلِّ واحدٍ منهم بعيراً، أكرمهم بالنزُولِ وأعطاهم ما احتاجوا إليه؛ فذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ} ولم يقل بأخيكم بالإضافة؛ مبالغة في عدم تعرفه بهم.
ولذلك فرَّقوا بين مررت بغلامك، وبغلام لك.
فإنَّ الأول يقتضي عرفانك بالغُلامِ، وأنَّ بينك وبين مُخَاطِبك نوعُ عهدٍ.
والثاني لا يَقْتَضِي ذلك، وقد تخبرُ عن المعرفةِ إخبار النكرةِ، فتقول: قال رجلٌ كذا، وأنت تعرفه؛ لصدقِ إطلاقِ النكرةِ على المعرفةِ.
واعلم أنَّهُ لا بُدَّ من كلامٍ سابقٍ يكون سبباً لعرفان يوسف صلوات الله وسلامه عليه ت [وطلبه ل] أخيهم، وذكروا فيه وجوهاً:
الأول وهو أحسنها: أنَّ عادة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع الكلِّ أن يعطي كل احدٍ حمل بعيرٍ، وكان إخوته عشرةً؛ فأعطاهم عشرة أحمال؛ فقالوا: إنَّ لنا أباً شيخاً كبيراً، وأخاً آخر بقي معه، وذكروا أنَّ أباهم لاجل كبر سنِّه، وشدَّة حزنه لم يحضرْ، وأنَّ أخاهم بقي في خدمةِ أبيه، فلما ذكروا ذلك قال يوسف: هذا يدلُّ على أنَّ حبَّ أبيكم له أزيدُ من حُبَّه لكم، وهذا شيءٌ عجيبٌّ {لأنكم مع جمالكم، وعقلكم، وأدبكم، إذا كانت محبةُ أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم، دل هذا على أن ذلك أعجوبةٌ في العقلِ، الفضلِ، والأدبِ، فائتُونِي به حتى أراهُ.
الثاني: لعلَّهم لما ذكروا أباهم، قال يوسف: فَلِمَ تركتموه وحيداً فريداً؟ .
قالوا ما تركناه وحيداً بل بقي عنده واحد، فقال لهم: ولِمَ استخلصه لنفسه؟
لأجل نقصِ في جسده؟ فقالوا: لا بل لأجلِ أنه يُحبُّه أكثر من محبته لسائرِ الأولادِ، فقال: لما ذكرتم أن أباكم رجلٌ عالمٌ حكيمٌ، ثم إنه خصَّه بمزيدِ المحبةِ، وجب أن يكن زائداً عليكم في الفضلِ، والكمالِ مع أنِّي أراكم فضلاء علماء حكماء؛ فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ؛ فائتُونِي بهِ.
الثالث: قال المفسرون: ولما دخَلُوا عليه وكلَّمُوه بالعِبرانيَّةِ، قال لهم: مَنْ أنتُمْ؟ وما أمركم؟ فإني أنكرتُ شأنكم؟ .
قالوا: قومٌ من أرضِ الشام رعاة، أصابنا الجَهْد؛ فجِئْنَا نَمْتَارُ، فقال: لعلكم جِئتُم عُيُونا تنظرون عَوْرَة بلادِي، قالوا: معَاذ اللهِ} ما نحن بجَواسِيسَ؛ إنما نحنُ إخوةٌ بنو إبٍ(11/142)
واحدٍ، وهو شيخٌ صدِّيقٌ يقال له يعقوب نَبِيٌّ من أنبياء الله تعالى؟
قال: كم أنتم؟ قالوا: كُنَّا اثني عشر، هلك مِنَّا واحدٌ، وبقي واحدٌ مع الأب؛ يتسلَّى به عن ذلك الولدِ الذي هلك، ونحن عشرةٌ.
قال: فمن يعلم أنَّش الذي تقولونه حق؟ .
قالوا: أيُّها الملك: إننَّا ببلادٍ لا يعرفنا فيها أحدٌ.
قال: فدعوا بعضكم عندي؛ رهينةً، وائْتُونِي بأخٍ لكم، ليبلغ لكم رسالة أبيكم إن كنتم صادقين.
فعند هذا أقرعوا بينهم؛ فأصبت القرعُة شمعون، وكان أحسنهم رأياً في يُوسُفَ، فخلفوه عنده.
ثم إنه تعالى حَكَى عنه أنَّه قال: {ألا ترون إني أوفي الكيل} ، أي: أوَفِّيه، ولا أبخسُه، وأزيدكم حمل بعيرٍ؛ لأجل أخيكم.
{وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} أي: خَيُْ المضيفين؛ لأنه أحسن إنزالهم، وأحسن ضيافتهم.
قال ابنُ الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا الكلامُ يُضعِّفُ ما نُقِل عن المفسرين بأنَّه أتَّهَمَهُم، ونسبهُم إلى أنَّهم جواسِيسَ، ولم يشافههم بذلك الكلام فلا يليقُ به أن يقول لهم: {ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين} ، وأيضاً: بعيدٌ من يوسف مع كونه صديقاً ت أن يقول لهم: أتنم جواسيسُ وعيون، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التُّهمةِ؛ لأن البُهْتَان لا يليق بحال الصديق.
ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي} ، أي: ليس لكم عندي طعام أكيله لكم، {وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي: لا تقربوا داري وبلادي، وكانوا في نهاية الحاجةِ إلى الطعام، وما يمكنهم تحصيله إلاَّ من عنده، فإذا منعهم من الحضورِ، كان ذلك نهاية التَّخويف.
قوله: {وَلاَ تَقْرَبُونِ} يتحمل أن تكون «لا» ناهية؛ فيكون {تَقْرَبُونِ} مجزوماً، ويحتمل أن تكون لا النافية، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يكون داخلاً في حيز الجزاءِ معطوفاً عليه، فيكون أيضاً مجزوماً على ما تقدم.
والثاني: أنه نفي مستقل معطوفٍ على جزاءِ الشرطِ، وهو خبرٌ ف يمعنى النَّهي؛ كقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 192] .
فصل
لما سَمِعُوا هذا الكلام من يوسف صلوات الله وسلامه عليه {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} ، أي: نطلبه، ونجتهد في أن يرسله معنا، {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} ما امَرْتنَا به، والغرض من التكريرِ؛ التأكيد.(11/143)
وقيل: «وإنا لفاعلون» أيْْ: كل ما في وسعنا من هذا الباب.(11/144)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
قوله تعالى: {لِفِتْيَانِهِ} قرأ الأخوان، وحفص: «لِفِتْيَانهِ» ، والباقون: «لِفِتْيَتهِ» قال أبو عليِّ الفارسيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «الفِتْيَان جمعُ كثرة، والفِتْيَةُ: جمعُ قلَّةٍ، فالتكثير بالنسبة إلى المأمُورينَ، والقلةُ بالنسبة إلى المُتنَاولينَ، وفتًى: يجمعُ على فِتيَانٍ، وفِتْيَة، وقد تقدَّم هل فِعْلة في الجموع اسم جمعٍ، أو جمعُ تكسير، ومثله» أخ «؛ فإنه جمع على أخوةٍ وإخوان؛ وهما لغتانح بمثل الصِّبيان والصِّبْيَة» .
فصل
اتفق الأكثرون على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أمر بوضعِ تلك البضاعة وهي ثمُ طعامهم، في رحالهم بحيثُ لا يعرفون ذلك.
وقيل: إنَّهم كانوا عارفين به.
وهي ضعيفُ؛ لقوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
وذُكِر في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم وجوهاً:
أولها: أنَّهم إذ فتحُوا المتاع، فوجدوا بضاعتهم فيهح علموا أنَّ ذلك كرمٌ من يوسف؛ فيبعثهم ذلك على العود إليه.
وثانيها: خاف ألاَّ يكون عندهم غيره؛ لأنَّه زمان قحطٍ.
وثالثها: رأى أنَّ أخذ ثمنِ الطّعامِ من أبيه، وإخوته شدة حاجتهم إلى الطعام لؤمٌ.
ورابعها: قال الفراء رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهم متى شاهدُوا بضاعتهم في رحالهم؛ فيحسبوا أنَّ وقع سهواً، وهم أنبياء وأولاد أنبياء؛ فيحملهم ذلك على رد البضاعةِ؛ نفياً للغلطِ ولا يستحلُّون إمساكها.
وخامسها: أراد أن يُحسِنَ إليهم على وجهٍ لا يلحقهم منه عتب، ولا منَّة.(11/144)
وسادسها: قال الكلبيُّ: تخوَّف ألاَّ يكون عند أبيه من الورقِ ما يرجعون به مرة أخرى.
وسابعها: أنَّ مقصودهُ أن يعرفوا أنَّه لم يطلب أخاهم؛ لأجل الإيذاء والظلم؛ وإلا لطلب زيادةَ في الثمَّنِ.
وثامنها: أن يعرف أباه أنه أكرمهم، وطلبهم بعد الإكرام؛ فلا يثقلُ على أبيه إرسالُ أخيه.
وتاسعها: أراد أن يكون ذلك المالُ معونةً لهم على شدَّة الزمن وكان يخافُ اللصوص من قطع الطَّريق، فوضع الدَّراهم في رحالهم؛ حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.
وعاشرها: أنه قالب مبالغتهم في الإساءة مبالغة في الإحسان إليهم.
وقوله: {يَرْجِعُونَ} يحتمل أن يكون متعدٍّياً، وحذف مفعوله، أي: يرجعون البضاعة؛ لأنه عرف دينهم ذلك، وأن يكون قاصراً بمعنى يرجعون إلينا.
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل} فيه قولان:
أحدهما: أنَّهُم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عند أبيهم، منعوا منه.
والثاني: أنَّه منع الكيل في المستقبلِ، وهو قول يوسف: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ} [يوسف: 60] ، قال الحسنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: معناه: يمنعُ منَّا الكيل إنْ لم نحمل أخانا معنا، وهذا أولى؛ لأنه لم يمنعهُم الكيل؛ بل اكتالَ لهم، وجهَّزهم، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ} ، والمراد بالكَيْلِ: الطعامُ؛ لأنه يكالُ.
قوله: «نَكْتَلْ» قرأ الأخوان: بالياءِ من تحتُ، أي: يَكِيلُ أخونا.
والباقون بالنون، أي: نَكِيلُ نحنُ، وهو الطعامُ، وهو مجزومٌ على جواب الأمرِ.
ويحكى أنَّه جرى بحضرةِ المتوكِّل، أو وزيره ابن الزَّيات: بين المازنِيّ، وابنِ السِّكيت مسألةٌ، وهي: ما وزنُ «نَكْتَل» ؟ فقال يعقوبُ: نَفْتَل، فَسَخِرَ بِهِ المازني وقال: إنَّما وزنُها نَفْتَعِل.
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا ليس بخطأح لأنَّ التَّصريفيين نصُّوا على أنَّه إذا كان في الكلمةِ حذفٌ أو قلبٌ حذفت في الزنة، وقلبت، فتقول في وزن: قُمْتُ،(11/145)
وبعِْتُ: فُعْتُ، وفِعْتُ، ووزن» عِدَة «» عِلَة «، وإن شئت أتيتَ بالأصل؛ فعلى هذا لا خطأ في قوله: وزن» نَكْتَلْ «: نَفْتَل؛ لأنه اعتبر اللفظ، لا الأصل، ورأيت في بعض الكتب أنَّ وزنها:» نَفْعَل «بالعينِ، وهذا خطأٌ محضٌ، على أنَّ الظاهر من أمر يعقوب أنه لم يتقنْ هذا، ولو أتقنه لقال: وزنه على الأصل كذا، وعلى اللفظ كذا، ولذلك أنحى عليه المازنيُّ، فلم يرد عليه بشيء» .
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ضمنوا كونهم حافظين له: لما قالوا ذلك، قال يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} والمعنى: أنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف، وضمنتم لي حفظه حيث قلت: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وهاهنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه، فهل يكون هاهنا إلا ما كان هناك، فكما لا يحصل الأمانُ هناك لا يحصلُ هنا.
قوله: {إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ} منصوبٌ على نعتِ مصدرٍ حذوفٍ، أو على الحال منه إي: إلاَّ أئتماناً كائتمانه لكم على أخيه، شبه ائتمانه لهم على هذه بائتمانه لهم على ذلك، و «مِن قَبْلُ» متعلق ب «أمِنْتُكمْ» .
قال: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} ، قرأ الأخوان، وحفص «حَافِظاً» وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه تمييزٌ؛ كقوله: هو خيْرهُمْ رجُلاً، واللهِ دَرُّهُ فَارِساً.
قال أبُو البقاءِ: «ومثلُ هذا يجُوزُ إضافته» وقد قرأ بذلك الأعمشُ: فاللهُ خيرُ حافظٍ «والله تعالى متَّصفٌ بأن حفظهُ يزيدُ على حفظِ غيره؛ كقولك: هُوَ أفضلُ عالمٍ
والثاني: أنه حالٌ ذَكَر ذلك الزمخشريُّ وأبُوا البقاءِ، وغيرهما.
قال أبو حيَّان: وقد نقله عن الزمخشري وحده:» وليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ فيه تقييدَ خيرٍ بهذه الحال «.
قال شهابُ الدِّين:» ولا محذُور، فإنَّ هذه الحال لازمةٌ؛ لأنَّها مؤكدةٌ لا مبينةٌ وليس هذا بأول حال وردتْ لازمةً «.
وقرأ الباقون» حِفْظاً «ولم يجيزُوا فيهاغير التَّمييزِ؛ لأنَّهم لو جعلوها حالاً، لكانت من صفة ما يصدقُ عليه» خَيْرٌ «ولا يصدقُ ذلك على ما يصدق عليه» خَيْرٌ «؛ لأن الحفظ معنى من المعاني.(11/146)
ومن يتأولُ: «زَيْدٌ عَدْلٌ» على المبالغةِ أو على حذفِ مضافٍ، أو على وقوع المصدر موقع الوصفِ يجيزُ في «حِفْظاً» أيضاً الحاليَّة بالتأويلاتِ المذكورة، وفيه تعسُّفٌ
وقرأ أبو هريرة: «خَيْر الحَافظينَ» ، وأرْحَمُ الرَّاحِمينَ «قيل: معناهُ: وثِقْتُ بكم في حفظِ يوسف، فكان ما كان، والآن أتوكَّلُ على الله في حفظ بِنيَامِينَ.
فإن قيل: لِمَ بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد؟ .
فالجوابُ من وجوهٍ:
الأول: أنهم كبروا، ومالُوا إلى الخبرِ والصَّلاحِ.
والثاني: أنه كان يشَاهِدُ أنَّه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسدِ، والحقدِ مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام.
والثالث: أن ضرورة القَحْطِ أحوجتُه إلى ذلك.
الرابع: لعلَّه تعالى أوحى إليه، ضمن له فحظه، وإيصاله إليه، فإن قيل: هل يدلُّ قوله: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} على أنَّه أذن في ذهاب بنياميَنَ في ذلك الوقت.
فقال الأكثرون: يدلُّ عليه. وقال آخرون: لا يدل عليه، وفيه وجهان:
الأول: أنَّ التقدير: أنَّه لو أذن في خُروجهِ معهم، لكان في حفظِ اللهِ تعالى لا في حفظهم.
الثاني: لما ذكر يُوسف صلوات الله وسلامه عليه قال: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} أي ليُوسُفَ؛ لأنه كان يعلم أنه حيٍّ.(11/147)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
قوله تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ} الآية: المتاعُ: ما يصلح لأن يُستمتع به، وهو عامًّ في كلِّ ما يُسْتَمْتعُ به، والمراد به ههنا: الطعامُ الذي حملوه، ويجوز أن يرادُ به أوعيةُ الطعام، {وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ} ، ثمن البضاعة.
{رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} ؛ قرأ الأكثرون بضمِّ الراء، وقرأ علقمة ويحيى، والأعمش: «(11/147)
رِدَّتْ» بكسر الرَّاءِ، على نقل حركة الدَّال المدغمةِ إلى الراء بعد توهُّم خلوها من حركتها، وهي لغةُ بني ضبَّة.
على أنَّ قطرُباً حكى عن العرب: نقل حركةِ العين إلى الفاء في الصحيح؛ فيقولون: ضِرْبُ زَيْد، بمعنى: ضُرِبَ زيد، وقد تقدم ذلك في قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ} [الأنعام: 28] في الأنعام.
قوله: «مَا نَبْغِي» في «مَا» هذه وجهان:
أظهرهما: أنها استفهاميةٌ، فهي مفعولٌ مقدمٌ، واجبُ التقديم؛ لأن لها صدر الكلام، أي: أيَّ شيء نبغِي، أعطانا الطعام على أحسنِ الوجوه، فأي شيء نبغي وراء ذلك.
والثاني: أن تكون نافية ولها معنيان:
أحدهما: قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ: ما بقي لنا ما نطلبُ، أي: بلغَ الإكرامُ إلى غايةٍ، ما نَبْغِي وراءها شيئاً آخر. وقيل: المعنى أنَّه ردَّ بضاعتنا إلنا، فنحن لا نَبْغِي عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى، فإنَّ هذه التي معنا كافية لنا.
والثاني: ما نَبْغِي، من البَغْيِ، أي: ما أفْتريْنا، ولا كذبنا على هذا الملك في إكرامهِ وإحسانه.
قال الزمخشريُّ: «ما نَبْغِي في القولِ، ومانتزيَّد فيما وصفنا لك من إحسانِ الملكِ» .
وأثبت القرأء هذه الياء في «نَبْغِي» وصلاً ووقفاً، ولم يجعلوها من الزَّوائد، بخلاف التي في الكهفِ، في قوله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] ، والفرقُ أنَّ «ما» هناك موصولةٌ، فحذف عائدها، والحذف يؤنس بالحذف.
وهذه عبارةٌ مستفيضة عند أهلِ هذه الصناعة؛ يقولون: التغييرُ يُؤنسُ بالتغيير، بخلافها هنا، فإنها: إما إستفهاميةٌ، وإما نافيةٌ، ولا حذف على القولين حتى يؤنس بالحذفِ.
وقرأ عبد الله، وأبو حيوة، وروتها عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما تَبْغِي» بالخطاب و «مَا» تحتملُ الوجهين أيضاً في هذه القراءةِ، والجملة من قوله: «هَذِه بِضَاعَتُنَا» يحتملُ أن تكون مفسرةً لقولهم «مَا نَبْغِي» وأن تكون مستأنفة.
قوله «ونميرُ» معطوفةٌ على الجملة الاسميةِ، وإذا كانت «مَا» نافية جاز أن تعطف على «نَبْغِي» فيكون عطف جملة فعلية على مثلها.(11/148)
وقرأت عائشة، وأبو عبد الرحمن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «ونُمِيرُ» من أمارهُ إذا جعل لَهُ المِيرَة، يقال: مَارَهُ يَمِيرهُ، وأمَارَهُ يُمِيرُه، والمِيرَةُ: جَلْبُ الخَيْرِ؛ قال: [الوافر]
3118 - بَعَثْتُكَ مَائراً فَمَكثْتَ حَوْلاً ... مَتَى يَأتِي غِيَاثُكَ مَنْ تُغِيثُ
والبعير لغة يقع على الذكر خاصة، وأطلقه بعضهم على الناقةِ أيضاً وجعلهُ نظير «إنْسَانٍ» ويجوز كسر بائه إتباعاً لعينه، ويجمع في القلَّة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران.
والمعنى: ونزدادُ كيل بعيرٍ بسبب حُضُور أخينا؛ لأنه كان يكيلُ لكل رجلٍ حمل بعير.
ثم قال: {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} قال مقاتل رَحِمَهُ اللَّهُ: ذلك كيلٌ يسير على هذا الرجل المحسن، وحرصه على البذل، وهو اختيار الزجاج.
وقيل: {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} ، أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحَبْسِ والتَّأخير. وقيل: ذلك الذي يدفع إلينا بدُون أخينا شيئاً يسيراً قليلاً، لا يكفينا وأهلنا؛ فابعثْ أخانا معنا؛ لكي يكثر ما نأخذه.
وقال مجاهدٌ: البعِيرُ ههنا الحمارُ، «كَيْلُ بعيرٍ» أي: حِمْلُ حمار، وهي لغة، يقال للحَمير بَعِير، وهم كانوا أصحاب حُمُر، والأول أصحُّ؛ بأنه البعيرُ المعروف.
قوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله} الآية.
الموْثِق: مصدر بمعنى الثقةِ، ومعناه: العَهْدُ الذي يُوثق به، فهو مصدرٌ بمعنى المفعول، يقول: لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً يوثقُ به
وقوله «مِنْ اللهِ» أيك عهداً موثوقاً به؛ بسبب تأكد الشهادة من الله، أو بسببِ القسمِ بالله عليه.
والمَوْثِقُ: العهدُ المؤكَّد بالقسم، وقيل: المؤكَّد بإشهادِ الله على نفسه.
قوله: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} هذا جوابٌ للقسم المضمر في قوله «مَوْثِقاً» ؛ لأنَّ معناه حتى تحلفوا لي لتأتنني به.
قوله {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} في هذا الإستثناء أوجه:
أحدها: أنه منقطع، قاله أبو البقاء. يعني فيكون تقدير الكلام: لكن إذا أحيط بكم(11/149)
خرجتم من عتبي، وغضبي عليكم إن لم تَأتُوني به؛ لوضوحِ عُذْركُم.
والثاني: أنه متصلٌ، وهو استثناء من المفعول له العام. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناءِ، ففيه إشكالٌ.؟ قلتُ:» أنْ يُحاطَ بِكُمْ «معفولٌ له، والكلام المثبت، الذي هو قوله» لتَأتُنَّنِي بهِ «في معنى النَّفي، معناه: لا تَمْتنِعُون من الإتيان به؛ إلا للإحاطة بكم، أو لا تمتنعون منه لعلةٍ واحدة وهي {أَن يُحَاطَ بِكُمْ} فهو استثناءُ من أعمِّ العامِّ في المفعول له، والاستثناءُ من أعم العام لا يكونُ إلا في النفي وحده؛ فلا بُدَّ من تأويله بالنَّفي، ونظيره في الإثبات المتأول بالنفي بمعنى النفي قولهم: أقْسَمْتُ باللهِ لما فعَلتَ وإلاَّ فعلتَ بزَيْدٍ يريد ما أطلب منك إلاًَّ الفعل» . ولوضوح هذا الوجه لم يذكره غيرهُ.
الثالث: أنه مستثنى من أعمَّ العام من الأحوال قال أبو البقاء: تقديرهك لتَأتُنَّنِي به على كلِّ حالٍ، إلا في حالٍ، إلا في حالِ الإحاطةِ بكم.
قال شهابُ الدِّين: «قد نصُّوا على أنَّ أنْ الناصبة للفعلِ، لا تقعُ موقع الحال وإن كانت مُؤولةً بمصدرٍ، يجوز أن تقع موقع الحالِ؛ لأنهم لم يَغتَفِرُوا في المؤولِ ما يَغْتفرونه في الصَّريح، فيجيزون: جِئْتُك رَكْضاً، ولا يجيزون: جِئْتُكَ أن أرْكُض وإنْ كانا في تأويله» .
الرابع: أنُّه مسثنى من أعمَّ العامِّ في الأزمان، والتقدير: لتَأتُنَّنِي به في كل وقتٍ إلا في وقت الإحاطة بكم، وقد تقدم [البقرة: 258] الخلافُ في هذه المسألة، وأنَّ أبا الفتح أجاز ذلك كما يجوزه في المصدر الصريح، فكما تقول: «آتيك صِيَاحَ الدِّيك» يجوز أن تقول: آتيك أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، جعل من ذلك قول تأبَّط شرًّا: [الطويل]
3119 - وقَالُوا لهَا: لا تَنْكِحِيهِ فإنَّهُ ... لأوَّلِ نَصْلٍ أنْ يُلاقِيَ مَجْمَعَا
وقول أبِي ذُؤيبٍ الهُذليِّ: [الطويل]
3120 - وتَاللهِ مَا إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واحدٍ ... بأوْجَدَ مِنِّي أنْ يُهانَ صَغِيرُهَا
قال: تقديره: وقت ملاقاته الجمع، ووقت إهانة صغيرها.
قال أبو حيَّان: «فعلى ما قاله يجوز تخريج الآية، ويبقى {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} على ظاهره من الإثبات» .(11/150)
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «الظَّاهر من هذا أنه استثناء مفرغ، ومتى كان مُفرغاً وجب تأويله بالنفي» .
ومنع ابن الأنباري ذلك في «إنْ» وفي «مَا» أيضاً، قال: «فيجوزُ أن تقول: خُروجُنَا صِيَاح الدِّيك، ولا يجوز: خُرُوجنَا أن يَصِيحَ الدِّيكُ، أوْ مَا يَصِيح الديك. فاغتفر في الصريح ما لم يغتفر في المؤوَّل، وهذا قياسُ ما تقدم في منع وقوع أن وما في حيِّزها موقع الحالِ، ولك أن تفرق بينهما بأنَّ الحال تلزم التنكير، و» أنْ «وما في حيزها نصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف، وذلك يغني عن وُقُوعِهَا موقع الحال، بخلاف الظَّرف، فإنه لا يشترط تنكيره، فلا يمتنع وقوعُ» أنْ «وما في حيزها موقعه» .
فصل
قال الواحيُّ: للمفرسين في الإحاطةِ قولان:
الأول: معناه الهلاكُ. قال مجاهد: إلاَّ أن تموتوا كلكم فيكمون ذلك عذراً عندي، والعرب تقول: أحيط بفلانٍ إذا قرب هلاكه.
قال الزمخشري: قال تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي أصالبه ما أهلكه، وقال تعالى: {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22] ، وأصله؛ أنَّ من أحاط به العدوُّ، وانسدت عليه مسالكُ النجاةِ، ودنا هلاكه؛ فقد أحيط به
والثاني: قال قتادة: ومعناه إلاَّ أن تَصِيرُوا مَغلُوبِين مَقْهُورين، لا تقدرون على الرجوع.
{فلما ءاتوه موثقهم} ، أي: أعطوه عهدهم. قال يعقوب صلوات الله وسلامه عليه {الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي: شهيدٌ بمعنى شاهدٍ.
وقيل: حافظاً، أي: أنه موكلٌ إليه هذا العهد فإن وفيتم به، جازاكم خير الجزاءِ، وإن غدرتم به، كافأكم بأعظم العقوبات.
قوله تعالى: {وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} الآية، وذلك أنه كان يخافُ عليهم العين؛ لأنَّهم كانوا أعطوا جمالاً، وقوة، وامتداد قامة، وكانوا ولد رجلٍ واحد، فأمرهم أن يتفرَّقُوا في دخولها؛ لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حقٌّ، ويدل عليه وجوه:
الأول: رُويَ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه كان يعوِّذُ الحسن فيقول:
«أعُودُ بِكلمَاتِ اللهِ التّامةِ من كُلِّ شيْطَانٍ وهَامَّةٍ، ومن كُلِّ عَْنٍ لامَّةٍ» .(11/151)
ويقول: هكذا يُعوذُ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ورُوِيَ عن عبادة بن الصَّامت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «دَخَلْتُ على رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أوَّلِ النَّهارِ فَرَأيْتهُ شَديدَ الوَجع، ثُمَّ عدت إليْهِ آخِرَ النَّهارِ فوَجَدتهُ مُعَافى، فقال:» إنَّ جِبْريلَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أتَانِي فرقَانِي، فقال: بسمِ اللهِ أرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ وحَاسدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، قال صلواتُ اللهِ وسلامُه عليْهِ فأفَقْتُ «.
» وأتِيَ بابْنَي جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكانوا غلماناً بيضاً، فقيل: يا رسول الله «إنَّ العيْنَ تسرعُ إليْهِمَا، أفأسْتَرقِي لهُمَا مِنَ العيْنِ، فقال صلوات الله وسلامه عليه: نَعَم» .
«ودخل رسول الله بيت أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وعندها صَبِيٌّ يَشْتَكِي فقَالُوا يَا رَسُول اللهِ: أصَابَتْهُ العَيْنُ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ألا تَسْتَرقُونَ لَهُ مِنَ العَيْنِ «.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» العَيْنُ حقٌّ ولوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَدرَ لسَبقَتِ العيْنُ القدرَ «.
وجاء في الأثرِ:» إن العين تُدخِلْ الرَّجُلَ القبر والجَمَل القِدْرَ «.
وقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:» كَانَ يَأمرُ العَائِنَ أنْ يَتوضَّأ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ المَعِينُ الذي أصيبَ بالعَيْنِ «.
والذين أثبتُوا العين قالوا: إنه يبدو من العَيْنِ أجزاءُ، فتتصل بالشيء المستحسن؛ فتُؤثِّر، وتسري فيه، كما يؤثر السُّم النار، والنصوصُ النبويةُ نطقت به، والتجاربُ من الزمن القديم ساعدت عليه.
وروى الزمخشري في كتاب» ربيع الأبْرارِ «، قال الجاحظُ: علماءُ الفرس، والهندِ، وأطباءُ اليونانيين، ودهاةُ العرب، وأهل التجربة من نازلة الأمصار، وحذَّاق المتكلمين،(11/152)
يكرهُون الأكل بني يدي السٍّباع؛ يَخافُونَ عُيُونها؛ لِمَا فيها من النَّهم، والشَّره، ولما ينحلُّ عند ذلك من أجوافها من البخار الرَّديءِ، وينفصل من عيونها إذا خالط الإنسان نقصه وأفسده، وكانوا يكرهون قيام الخدم بالباب والأشربة على رُءُوسهِم مخافة العين، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا، وكانوا يقولون في الكلب السِّنورِ: إمَّا أن يطرد، وإمَّا أن يشغل بما يطرح له، قال: ونظيره: أن الرجل يضربُ الحية بعصاً؛ فيموتُ الضاربُ؛ لأنَّ السُّمَّ فصل من الحيةِ، فسرى فيه حتى داخله، ويديم الإنسانُ النظر إلى العين المحمرة؛ فيعتري عينه حمرة.
وعن الأصمعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ عَيُوناً كان يقول: إذا رأت الشَّيْ يعجبني، وجدتُ حرارة تخرج من عيني.
وعنه: كان عندنا عيَّانان، فمرَّ أحدهما بحوض من حجارةٍ، فقال: بالله، ما رأيت كاليوم مثله، فانصدع فلقتين، فصُبَّ، فمرَّ عليه فقال: رأيتك تقل ما خزرت أهْلَكَ فيكَ، فتَطَايَرَ أرْبعاً.
وسمع آخرُ صوت بولِ من وراء جدار فقال: إنَّك تراني كثير الشَّخب جيِّد البول، قالوا: هذا آتيك، قال: وانقطاع ظهراهُ، فقيل: لا بأس فقال: لا يبولُ بعدها أبداً، فما بال حتَّى مات.
وسمع صوت شخب بقرة فأعجبه، فقال: أيتهُنَّ هذه، فواروا بأخرى عنها؛ فهلكتا جميعاً، المُورَى بها، والمُورَى عنها.
والمنقولاتُ في هذا كثيرة؛ فثبت أنَّ الإصابة بالعين حقٌّ، لا يمكن إنكارهُ.
قال القرطبيُّ: وإذا كان هذا معنى الآيةِ؛ فكيون فيها دليلٌ على التَّحرُّزِ من العين، وواجب على كل مسلم إذا أعجبه شيء أن يبرك، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، ألا ترى لقوله صلوات الله وسلامه عليه: «ألاَ برَّكْتَ» فدلَّ على أنَّ العين لا تضرُّ، ولا تعدوا إذا برَّك العَائِنُ، وأنها إنَّما تعدو؛ إذا لم يبرك، والتَّبْرِيكُ أن يقول: «تَبارَك اللهُ أحْسَنُ الخَالقينَ، اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ» وإذا أصاب العائن بعينه؛ فإنَّه يُؤمَرُ بالاغتِسَالِ، ويجبرُ على ذلك إن أبى؛ لأنَّ الأمر للوجوب، ولا سيِّما هنا، فإنَّه يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أخاهُ ما ينتفع به، ولا يضرهُ هو، ولا سيما غذا كان بسببه، كان الجاني عليه.
قال القرطبيُّ: «مَنْ عُرِفَ بالإصاَبَةِ بالعيْنِ مُنِعَ مِنْ مُداخَلةِ النَّاس دفعاً للضَّرُورةِ» .
وقال بعضُ العلماءِ: يأَمره الإمامُ بلزوم بيته، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم بهِ، ويكفّ أذاه عن الناس.(11/153)
وقيل: يُنفَى. والَّذي ورد في الحديث أنَّهُ لم ينفِ العَائن، ولا أمره بِلزُومِ بيته ولا حبسه، بل قالوا: يكونُ الرَّجُل الصَّالحُ عائناً، وأنه لا يقدحُ فيه، ولا يفسَّقُ به ومن قال: يحبس، ويؤمر بلزوم بيته؛ فذلك للاحتياط، ودفع ضرره.
قال الجبائيُّ: إنَّ أبناء يعقوب اشتهروا، وتحدَّث النَّاسُ بهم، وبحسنهم، وكمالهم فقال: «لا تَدْخُلُوا» تلك المدينة «مِنْ بابِ واحدٍ» على ما أنتم عليه من العددِ، والهيئة، ولم يأمن عليهم حسد النَّاس، أو قالك لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه، فحيبسهم.
وهذا وجهٌ محتملٌ لا إنكار فيه إلاَّ أنَّ القول الأوَّل أولى؛ لأنَّه لا امتناع فيه بحسب العقلِ، والعرف كما بيَّنا، والمتقدِّمُون من المفسرين أطبقوا عليه، فوجب المصيرُ إليه.
ونقل عن الحسنِ أنه قال: خاف عليهم العين، فقال: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} ثُمَّ رجع إلى علمه، فقال: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} ، وعرف أن العين ليست بشيء.
وكان قتادة يفسِّر الآية بإصابة العين، ويقول: ليس في قوله: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} إبطال له؛ لأن العين، وإن صحّ فاللهُ قادر على دفع أثره.
وقال النَّخعيُّ: كان عالماً بأنَّ مالك مصر هو ولده يوسف إلاَّ أنَّ الله تبارك وتعالى ما أذن لهُ في إظهار ذلك، فلمَّا بعث أولاده إليه، وقال: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} ، وكان غرضه أن يصل بنيامني إلى يوسف في وقت الخلوة، وقوله: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} فالإنسان مأمورٌ بأن يراعي الأسباب المُعتبرة في هذا العالم، ومأمورٌ بأن يجزم بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله تعالى وأنَّ الحذر لا يُنْجِي من القدرِ، فإنَّ الإنسان مأور بالحَذرِ عن الأشياءِ المُهلكةِ، والأغذيةِ الضَّارةِ، وبالسَّعي في تحصيل المنافع، ودفع المضار بقدر الإمكان، ثمَّ مع ذلك ينبغي أن يكن جازماً بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلاَّ ما أراد اللهُ، فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى الالتفات إلى التَّوحيدِ المحض، والبراءة عن كُلِّ شيءٍ سوى الله تعالى.
فإن قيل: كيف السَّبيلُ إلى الجمعِ بين هذه القولين؟ .(11/154)
فالجوابُ: أنَّ هذا السُّؤال غير مختصٍّ به، فإنه لا نزاع في أنَّه لا بدَّ من إقامة الطَّاعات والاحْترازِ من السَّيئاتِ، مع أنَّا نعتقدُ أنَّ السَّعيدَ من سعد في بطن أمه، والشَّقي من شَقِيَ في بطن أمِّه، فكذ هاهنا.
وأيضاً: نأكلُ، ونشربُ، ونحترزُ عن السموم، وعن الدُّخولِ في النَّار، مع أنَّ الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى، فكذا ههنا، فظهر أنَّ السؤال ليس مختصًّا بهذا المقام، بل هو بحثٌُ عن سرٍّ مسألة الخيرِ، والشرِّ.
والحقُّ أن العبد يجبُ عليه أن يسعى بأقصى الجهد، والقدرة، وبعد السَّعي البليغ، يعلم أنَّ كل ما يدخل في الوجود لا بُدَّ وأن يكن بمشيئة الله عزَّ وجلَّ وسابق حكمه، وحكمته.
ثم إنَّهُ تعالى أكَّد هذا المعنى، فقال: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} ، وهذا من أدلِّ الدَّلائل على صحَّةِ القول بالقضاءِ، والقدر؛ لأنَّ الحكم عبارة عن الإلزام والمنع ومنه سميت حكمة الدَّابَّة بهذا الاسم؛ لأنَّها تمنع الدَّابَّة من الحركاتِ الفاسدةِ والحكم إنَّما يمسى حكماً؛ لأنه يرجح أحد طرفي الممكنِ على الآخر، بحيثُ يصيرُ الطَّرفُ «الآخر» ممتنع الحصولِ، فبيَّن تعالى أنَّ الحكم ليس إلاَّ لله، وذلك يدلُّ على أنَّ جميع الممكنات ترجع إلى قضائه، وقدرته، ومشيئته، وحكمه إمَّا بواسطةٍ، أو بغير واسطةٍ، ولذلك فوَّض يعقوب أمرهُ إلى الله تعالى.
ثم قال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعتمدت: {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} ، والمعنى: أنَّهُ لمَّا ثبت أنَّ الكُلَّ من الله تعالى ثبت أنَّهُ لا يتوكل إلاَّ على اللهِ سبحانه وتعالى.(11/155)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} الآية في جواب «لمَّا» هذه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّه الحملة المنفيَّةُ من قوله: {مَّا كَانَ يُغْنِي} ، وفيه حجَّةٌ لمن يدَّعي كون [لمَّا] حرفاً لا ظرفاً، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها جوابها، إذْ لا يصلحُ للعمل سواه لكن ما بعد: «مَا» النَّافية لا يعمل فيها قبلها، ولا يجوز حين قَامَ أبُوكَ مَا قَامَ أخُوكَ، مع جوازِك لمَّا قَامَ أخُوكَ مَا قَامَ أبُوكَ.
والثاني: أنَّ جوابها محذوف، فقدَّشره أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: امتثلوا وقضوا حاجته، وإليه نحا ابن عطيِّة أيضاً.(11/155)
وهو تعسًّفٌ؛ لأَنَّ في الكلام ما هو جوابٌ صريحٌ كما تقدَّم.
والثالث: أنَّ الجواب هو قوله: «آوَى» قال أبو البقاء: «وهو جواب:» لمَّا «الأولى، والثانية، كقولك: لمَّا كلَّمْتُكَ أجَبْتَنِي، وحسَّن ذلك أن دخولهم على يوسف صلوات الله وسلامه عليه تعقب دخولهم من الأبواب. يعنى أنَّ» آوَى «جواب الأولى، والثانية، وهو واضحٌ.
فصل
قال المفسرون: لمَّا قال يعقوبُ صلوات الله وسلامه عليه: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} [يوسف: 67] صدَّق الله يعقوب فميا قاله، أي: وما كان ذلك التَّفيق يغني من الله من شيءٍ.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ذلك التَّفريق ما كان يرد من قضاء الله تعالى ولا أمراً قدره الله تعالى. وقال الزجاجك لو قدر أن يصيبهم لأصابهم، وهم مُتفرِّقون كما يصيبهم، [وهم مجتمعون] .
وقال ابنُ الأنباري: لو سبق في علم الله تعالى أنَّ العين تهلكهم عند الاجتماع؛ لكان تفرقهم كاجتماعهم، وهذه كلمات متقاربة وحاصلها: أنَّ الحذر لا يدفع القدر.
وقوله:» مِنْ شيءٍ «يحتملُ النَّصب بالمفعولية، والرفع بالفاعلية.
أمَّا الأول فهو كقولك: مَا رأيتُ من أحدٍ، والتقدير: ما رَأيتُ أحداً، كذا ههنا، وتقدير الآية: أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئاً.
وأما الثَّاني: فكقولك: ما جَاءَنِي من أحدٍ وتقديره: ما جَاءنِي أحدٌ، فيكون التقدير هنا: ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه.
قوله: إلاَّ حَاجةٌ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء منقطعٌن وتقديره: ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
والثاني: أنه مفعولٌ من أجله، ولم يذكر أبو البقاءِ غيره، ويكون التقدير: ما كان يغني عنهم بشيء من الأشياء إلاَّ لأجل حاجة كانت في نفس يعقوب عليه السلام، وفاعل: «يُغْنِي» ضمير التفريق المدلول عليه من الكلام المتقدِّم. وفيما أجازه أبو البقاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى نظر من حيث المعنى لا يخفى على مُتأمِّلهِ. و «قَضَاهَا» صفة ل: «حاجة» .
فصل
قال بعضُ المفسرين: من تلك الحَاجةِ: خوفهُ عليهم من إصابةِ العينِ وقيل: خوفه عليهم من حسدِ أهل مصرَ، وقيل: خوفه عليهم من أن يصيبهم ملكُ مصر بسُوءٍ.(11/156)
ثم قال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} قال الواحدي: «مَا» مصدريَّة، والهاء عائدةٌ إلى يعقوب صلوات الله وسلام عليه أي: وإنَّ يعقوب لذو علم للشيء الذي علمناه، يعني: أنَّا لما علمناه شيئاً حصل له العلم بذلك الشيء.
والمراد بالعلم: الحفظُ، أي: وإنه لذو حفظ لماعلمناه. وقيل: المراد بالعلم: العمل، أي وإنه لذَوا عمل بفوائد ما علمناه.
ثم قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} مثل ما علم يعقوب، لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم.
وقيل: لا يعلمون أنَّ يعقوب بهذه الصِّفة.
وقال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لا يعلم المشركون ما آلهم الله [أولياءه] . فالمراد ب: «أكْثرَ النَّاسِ» المشركون.(11/157)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئنا به، فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأجلس كل اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فقال: لو كان أخي يوسف حيًّا لأجلسني معه فقال يوسف: بقي أخوكم وحيداً؛ فأجلسه معه على مائدته؛ فجعل يُؤاكلهُ فلما كان اللَّيل أمر لهم بمثل ذلكح فأمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً، وقال: هذا لا ثاني له أخذه معي، فآواه إليه، فلمَّا خلا به قال: ما اسمك؟ قال: بنيامين قال: وما بنيامين؟ قال: أبنْ المُيكلِ. وذلك أنَّه لما ولد؛ هلكت أمُّه، قال: وما اسم أمك، قال راحيل بن لاوي، فلمَّا تأسُّفهُ على أخ له هلك، فقال له أتحبُّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: ومن يجدُ أخاً مثلَك، ولكنَّك لم يلدك يعقوب ولا راحيلُ، فَبكَى يوسف صلوات الله وسلامه عليه، وسار إليه [وعَانقَهُ] .
و: {قَالَ إني أَنَاْ أَخُوكَ} قال وهبٌ: لم يُرِدْ أنه أخوه من النَّسب، وإنَّما أراد به: إني أقُومُ لك مقَامَ أخيك في الإيناس، لئلا تستوحش بالأنفراد.
والصحيحُ: ما عليه سائرٌ المسِّرين من أنَّهُ أراد تعريف النَّسب؛ لأنَّ ذلك أقوى في إزالة الوحشة، وحصول الأنس، والأصل في الكلام الحقيقة.(11/157)
{فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال أهل اللغة: تَبْتَئِسْ: تَفْتَعِل من البُؤسِ وهو الضَّررُ والشِّدةُ، والابتِئَاس: اجتِلابُ الحُزْنِ والبُؤسِ.
وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من إقامتهم على حسدنا، والحرص على انصراف وجه أبينا عنَّا.
وقال ابنُ إسحاق وغيره: «أخبره بأنَّه أخوه حقيقة، واستكتمه، وقال لهُ: لا تُبَالِي بكلِّ ما تراه من المكوره في تحيلي في أخذك منهم» .
وعلى هذا التَّأويل يحتمل أن يشير بقوله: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السِّقاية، ونحو ذلك.
وقيل: إنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما بقي في قلبه شيءٌ من العداوةِ وصار صافياً لإخوته؛ فأراد أن يجعل قلب أخيه صافياً معهم أيضاً، فقال: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: لا تلتفت إلى صنيعهم فيم تقدَّم.
وقيل: إنما فعلوا بيوسف ما فعلوا حسداً لإقبال الأب عليه، وتخصيصه بمزي الإكرام فخاف بنيامين أن يحسدوه، بسبب تخصيص الملكِ له بالإكرام، فآمنه منهم، وقال ك لا تفتلت إلى ذلك، فإنَّ الله قد جمع بيني وبينك.
وروى الكلبيُّ عن ابن عبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّ إخوة يوسف عليه السلام: كانوا يُعيِّرُونَ يوسف، أخاه بسبب أنَّ جدهما أبا أمَّهما كان يعبدُ الأصنام، فإنَّ أمَّ يوسف أمرت يوسف بسرقة جونة كانت لأبيها، فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها، إذا فقدها، فقال له: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: من التَّعيير لنا مبما كان عليه جدّنا. اللهُ أعلم.(11/158)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} .
تقدَّم الكلامُ في الجهَازِ. أمَّا قوله: {جَعَلَ السقاي} فالعامة على: «جعلش» بلا واو قبلها، وقرأ عبدُ الله «وَجَعَلَ» وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن الجواب محذوفٌ.(11/158)
والثاني: أنَّ الواو مزيدة في الجواب على رأي الكوفيين، والأخفش.
قال أبو حيَّان: وقرأ عبدُ الله فيما نقل عن الزمخشري {وجعل السقاية في رحل أخيه} : أمْهَلهُمْ حتّى انطلقوا. {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} ، وفي نقل ابنِ عطيَّة: «وَجَعلَ» بزيادة واوٍ في: «جَعَلَ» دون الزيادة التي زادها الزمخشريُّ، بعد قوله: «في رَحْل أخيهِ» فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيِّين، واحتمل أن يكون جواب: «لمَّا» محذوفاً تقديره: فقدها حافظها كما قيل: إنَّما أوحي إلى يوسف بأن يجعل السِّقاية فقطن ثمَّ إنَّ صاحبها فقدها فنادى برأيه فيما ظهر له، ورجَّحهُ الطبريُّ، وتفتيتش الأوعية يردُّ هذا القول.
قال شهابُ الدِّين: «لم ينقل الزمخشريُّ هذه الزِّيادة كلها قراءة عن عبد الله، إنَّما جعل [الزِّيادة] المذكورة بعد قوله:» رحْلِ أخِيهِ «تقدير جواب من عنده، وهذا نصُّه:
قال الزمخشريُّ:» وقرأ ابنُ مسعودٍ: وجَعَلَ السِّقاية «على حذف جواب» لمَّا «كأنه قيل: فلمَّا جهزهم بجهازهم، وجعل السِّقاية في رحل أخيه؛ أمهلهم حتى انطلقوا، ثمَّ أذَّن مؤذِّنٌ» فهذا من الزمخشريُّ إنما هو تقدير لا تلاوة منقولة عن عبد الله، ولعلَّهُ وقع للشَّيخ نسخةٌ سقيمةٌ «.
فصل
قال الزمخشريُّ:» السِّقاية: مَشْربةٌ يُسْقَى بها وهِيَ الصواع «.
قيل: كَانَ يُسْقى بها الملكُ، ثُمَّ جعلت صاعاً يكالُ به، وقيل: كانت الدَّوابُّ تسقى بها، ويُكَالُ بِهَا أيضاً، وقيل: كانت من فضَّةٍ، وقيل: كَانتْ من ذهَبٍ، وقيل: كَانتْ مُرصَّعة بالجَواهرِ.
والأولى أن يقال: كان ذلِكَ الإنَاء شيئاً لهُ قِيمَة، أمَّا إلى هذا الحدِّ الذي ذكروهُ فَلاً؟
فصل
روي أنَّ يوسف صلوت الله وسلامه عليه قال لأخيه: لا تُعْلِمهُمْ شيئاً ممَّا أعلمتك، ثمَّ أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لكلِّ واحدٍ بعيراً، ولبنيامين بعيرٌ باسمه، ثمَّ أمر بسقاية الملك، فجعلت في رحل بنيامين.
قال السديُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لما قال له يوسف: {إني أَنَاْ أَخُوكَ} [يوسف: 69] قال بنيامني: فأنا لا أفارقك، فقال له يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي، وإذا أجلستك، ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلاَّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يُحْمدُ، قال لا أبالي(11/159)
فافعل ما بدا لك؛ فإني لا أفارقك، قال: فإنِّي أدس صاعي في رحلك، ثمَّ أنادي عليك بالسِّرقةِ ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك، قال: فافعل.
فعند ذلك جعل السِّقاية في طعام أخيه بنيامين، إمَّا بنفسه بحيثُ لم يطِّلعْ عليه أحدٌ، أو أمر أحداً من بعض خواصه بذلك، ثمَّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتَّى نزلوا منزلاً.
وقيل: حتَّى خرجوا من العمارة، ثمَّ بعث خلفهم من استوقفهم، وحبسهم.
{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى منادٍ: {أَيَّتُهَا العير} ، وهي القافلةُ التي فيها الأحمال، يقال: أذَّن، أي: أعلمَ.
وفي الفرق بين «أذَّنَ» ، و «آذَنَ» وجهان:
قال ابن الأنباريِّ: «أذن بمعنى أعلم إعلاماً بعد إعلام، لأنَّ» فعَّل «يوجب تكرير الفعل، قال: ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً، من قبل أنَّ العرب يجعل فعَّل بمعنى أفعل، في كثير من المواضع» .
وقال سيبويه: الفرقُ بين أذنتُ وآذنْتُ معناه: أعلمتُ، لا فرق بينهما والتَّأذينُ معناه: النِّداءُ، والتَّصويتُ بالإعلام.
{أَيَّتُهَا العير} منادى حذف منه حرف النِّداء، والعير مؤنثٌ، ولذلك أنث أي المتوصل بها إلى ندائه، والعير فيها قولان:
أحدهما: أنها في الأصل جماعة الإبل، سُمِّت بذلك؛ لأنها تعير، أي: تذهب وتجيء به.
والثاني: أنَّها في الأصل قافلة الحمير؛ كأنها جمع عير، والعِيرُ: الحِمارُ؛ قال الشاعر: [البسيط]
3121 - ولاَ يُقِيمُ عَلى ضَيْمٍ يُرادُ بِهِ ... إلاَّ الأذَلانِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ
وأصلُ «عُيْرٌ» ، بضم العين، ثمَّ فعل به ما فعل ب «بيض» ، والأصل [بُيض] بضم الأول، ثم أطلق العير على كلِّ قافلة حميرٍ كُنَّ أو غيرها، وعلى كلِّ فتقدير نسبة النداء إليها على سبيل المجاز؛ لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلها، ونظره الزمخشريُّ بقوله: «يَاخَيْل اللهِ ارْكبِي» ولو التفت لقال: اركَبُوا «. ويجوز أن يعبر عن أهلها بها للمجاورة، فلا يكون من مجاز الحذف، بل من مجاز العلاقة، وتجمعه العرب قاطبةٌ على» عيرات «بفتح الياءِ، وهذا ممَّا اتُّفق على شذوذِهِ؛ لأن فعلة المعتلة العين حقها في جمعها بالألف(11/160)
والتاء أن تسكن عينها، نحو: قِيمَة وقِيمَات، ودِيمَة ودِيمَات، وكذلك» فِعْل «دون ياء إذا جمع حقه أن تسكن عينه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
3122 - غَشِيتُ دِيَارَ الحيِّ بالبَكرَاتِ ... فعَارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ
قال الأعلمُ الشَّنتمَرِيُّ: العِيرَات هنا موضع الأعيار، وهي الحمر.
قال شهابُ الدِّين:» وفي عِيرَات «شذوذ آخر، وهو جمعها بالألف، والتَّاء مع جمعها على أعيار أيضاً جمع تكسيرٍ، وقد نصُّوا على ذلك، قيل: ولذلك لحن المتنبي في قوله: [الطويل]
3123 - إذَا كَانَ بَعَث النَّاسِ سُيْفاً لِدوْلَةٍ ... فَفِي النَّاس بُوقاتٌ لهَا وطُبُولُ
قالوا: فجمع:» بُوقاً «على:» بُوقَات «مع تكسيرهم له على» أبْوَاق «.
وقال أبُو الهيثم:» كلُّ ما يسير عليه من الإبل، والحمير، والبغال فهو عير خلافاً لقول من قال: العيِرُ: الإبلُ خاصَّة «.
فإن قيلك هل كان ذلك النداء بأمر يوسف عليه السلام، أو ماكان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق الرًَّسُول الحق من عند الله أن يتهمهم وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً؟ .
وإنْ لم يكن بأمره، فهلا أظهر براءتهم عن تلك التُّهمةِ؟ .
فالجواب من وجوه:
الأول: ما تقدَّم من أنَّه صولات الله وسلامه عليه أظهر لأخيه أنَّه يوسف وقال: لا سبيل إلى حبسك هنا إلاَّ بهذه الحيلة، فرضي أخوهُ بها، ولم يتألم قلبه.
والثاني: أراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه، والمعاريض لا تكون إلا كذلك.
والثالث: أن [المؤذن] إنما نادى مستفهماً.
والرابع: هو الظاهر أنَّهم نادوا من عند أنفسهم؛ لأنهم طلبوا السِّقاية فلم يجدوها، ما كان هناك غيرهم، فغلب على ظنهم أنَّهم هم الَّذين أخذوها، وليس في القرآن أنَّهم نادوا عن أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
وقيل: إنَّهم لما كانوا باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا، وأنَّه عوقب على ذلك بأن قالوا: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] .(11/161)
وقيل: أراد أيتها العيرُ حالكم حال السارق، والمعنى: إن شيئاً لغيركم صار عندكم، من غير رضى الملك، ولا علم له.
وقيل: إنَّ ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، وهذا بناءً على أنَّ بنيامين لم يعلم بدسّ الصَّاع في رحله، ولا أخبره بنفسه.
وقيل: معنى الكلامِ: الاستهفام، أي: أو إنكم لسارقون، كقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] والغرضُ ألا يعزى الكذب إلى يوسف.
فإن قيل: كيف رضي بنيامين بالقعود طوعاً، وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف؟ .
فالجواب: أنَّ الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثِّر فيه فقد بنيامين كل التأثير، ألا تراهُ لما فقده قال: {يا أسفا على يوسف} ، ولم يعرج على بنيامين ولعلَّ يوسف إنَّما وافقه على القعود بوحي، فلا اعتراض.
قوله: {وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ} هذه الجملة حاليةٌ من فاعل قالوا أي: قالوا: وقد أقبلوا، أي: في حال إقبالهم عليهم.
{مَّاذَا تَفْقِدُونَ} تقدم الكلام على هذه المسألة أوَّل الكتاب.
وقرأ العامة: «تَفْقِدُونَ» بفتح حرف المضارعة؛ لأن المستعمل منه «فَقَدَ» ثلاثياً وقرأ السلميُّ بضمةٍ من أفقدتُّه إذا وجدته مفقوداً كأحمدتهُ وأبخلته، [إذا] وجدته محموداً وبخيلاً.
وضعَّف أبو حاتمٍ هذه القراءة، ووجهها ما تقدَّم.
قوله: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} «الصَّواعُك هو المِكْيَال، وهو السِّقاية المتقدِّمة سمَّاه تارة والسِّقايةُ: وصفٌ.
وقيل:» ذُكِّرَ؛ لأَنَّه صاعٌ، وأنْثَ لأنَّهُ سِقايَة.
والصّواع السّقاية: إناءٌ له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشربُ منه من الرَّأسِ الواحدة ويكالُ الطَّعام بالرَّأسِ الآخرِ.(11/162)
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كلُّ شيء يُشربُ به فهو صُواعٌ؛ وأنشد: [الخفيف]
3124 - نَشْرَبُ الخَمْرَ بالصُّواعِ جِهَاراً..... ... ... ... ... ... ...
قيل: إنما كان الطعَّام بالصَّواع مبالغة في إكرامهم.
وقال مجاهدٌ، وأبو صالح: الصُّواع الطرجهالة بلغة حميرٍ. وإنَّما اتخذ هذا الإناء مكيلاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. وفيه قراءات كلُّها لغات في ذلك الحرف، ويُذكِّر، ويؤنَّث فالعامة: «صُوَاع» بزنة: «غُرَاب» ، العين مهملة، وقرأ ابن جبير، والحسن كذلك إلاَّ أنه بالغين المعجمة وقرأ يحيى بن يعمر كذلك؛ إلا أنه حذف الألف، وسكن الواو، وقرأ زيد بن عليِّ «صَوْغ» كذلك إلا أنه فتح الصَّاد، وجعله مصدراً ل: «صَاغَ» يَصُوغُ. والقراءتان [قبله] مشتقان منه وهو واقع موقع مفعول. أي: مصوغ الملك.
وقرأ أبو حميرة وابن جبير والحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم في رواية عنهما «صِواعَ» كالعامة إلا أنهم كسروا الفاء. وقرأ أبو هريرة ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «صَاع» بزنة بَاب وألفه كألفه في كونها منقلبة عن واو مفتوحة وقرأ أبو رجاء: «صَوْع» بزنة «قَوْس» .
وقرأ عبد الله بن عون كذلك إلا أنه ضم الفاء فهذه ثمان قراءات متواترة وواحدة في الشاذ.
قوله: {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أي من الطعام، {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} .
قال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي أذن، والزعيم: الكفيل.
قال الكلبيُّ: الزَّعيمُ: هو الكفيل بلسانِ أهل اليمنِ.(11/163)
روى أبو عبيدة عن الكسائيِّ: زعمْتُ بِهِ أزعُم زُعْماً وزَعَامَةً، أي: تكفلت به.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: «الزَّعيمُ غَارِمٌ» .
فإن قيل: هذه الكفالةُ شيءٌ مجهولٌ؟ .
فالجواب: حمل البعير من الطَّعام كان معلوماً عندهم، فصحت الكفالةُ به إلاَّ أن هذه الكفالة ما لرد السَّرقة، وهي كفالةٌ بما لم يجب؛ لأنَّه لا يحلُّ للسَّارقِ أن يأخذ شيئاً على ردّ السِّرقةِ، ولعلّ مثل هذه الكفالة كانت تصحُّ عندهم.
فصل
قال القطربيُّ: «تجوز الكفالةُ عن الرِّجلُ؛ لأنَّ المؤذن هو الضَّامنُ وهو غير يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
قال علماؤنا: إذا قال الرجلُ: تحمَّلتُ، أو [تكفلت] أو ضمِنتُ، أو أنا حميلٌ لكل أو زعيمٌ، أو كفيلٌ، أو ضامنٌ، أو قبيلٌ، أو لك عندي، أو علي، أو إليّ، أو قبلي، فذلك كلُّه [حَمالةٌ] لازمةٌ.
واختلفوا فيمن تكفل بالنفس، أو بالوجه هل يلزمه ضمانُ المالِ» .
فقال الشافعيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في المشهور عنه، وأحمد: مَن تكفَّل بالنَّفس لم يلزمه الحقٌّ الذي على المطلوب إن ماتَ.
وقال مالكُ، والليثُ، والأوزاعيُّ: إذا تكفل نفسه، وعليه مال، فإن لم يأت به غرم المال، ويرجع به على المطلوب، فإن اشترط ضمان نفسه، أو وجهه، وقال: لا أضمن المال، فلا شيء عليه من المال «.
فصل
واختلفوا فيما إذا تكفَّل رجلٌ عن رجلٍ بمالٍ، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما؟ .
فقال الأوزاعيُّ، والشافعيُّ، وأحمد، وإسحاق: يأخذ من شاء منهما، وهذا كان قولم مالكٍ، ثمُّ رجع عنه فقال: لا يأخذُ من الكفيل إلاَّ أن يفلس الغريمُ، أو يغيبُ؛ لأنَّ البداءة بالذي عليه الحق أولى إلاَّ أن يكون معدماً، فإنَّه يأخذُ من الحميل؛ لأنه معذورٌ في أخذه في هذه الحالةِ، وهذا قولٌ حسنٌ، والقياسُ: أنَّ للرَّجُلِ مطالبة من شاء منهما.(11/164)
وقال ابنُ أبي ليلى: إذا ضمن الرَّجلُ عن صاحبه مالاً؛ تحوَّل على الكفيل، وبرىء الأصيل، إلاَّ أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ من أيهما شاء.
قوله «تاللهِ» التاء حرف قسم، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم ولذلك لا تدخل إلاَّ على الجلالة المعظمة، أو الرب مضافاً للكعبة، أو الرحمن في قول ضعيف، ولو قلت: تالرحْمن «لم يجز، وهي فرعُ الفرعِ. وهذا مذهب الجمهور.
وزعم السيهليُّ: أنهَّا أصلٌ بنفسها، ويلازمها التَّعجب غالباً كقوله: (تالله تفتأ تذكر يوسف) .
وقال ابنُ عطيَّة:» والتَّاء في «تَاللهِ» بدلٌ من واو، كما أبدلت في تراثٍ، وفي التَّوراةِ، وفي التخمة، ولا تدخلُ التَّاء في القسم، إلاَّ في المكتوبة، من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول تالرحمنِ، وتَا الرَّحيم «انتهى وقد تقدَّم أنَّ السُّهيليَّ خالف في كونها بدلاً من واوٍ.
وأمَّا قوله:» في التَّوراةِ «يريد عند البصريين، وزعم بعضهم أنَّ التَّاء فيها زائدةٌ، وأمَّا قوله» إلا في المكتُوبَةٍ «هذا هُوا المشهور، وقد تقدَّم دخولها على غير ذلك.
قوله:» مَا جِئْنَا «يجوز أن يكون معلقاً للعلم، ويجوز أن يضمن العلم نفسه معنى القسم فيجاب بما يجاب به القسم، وقيل هذان القولان في قول الشاعر: [الكامل]
3125 - ولقَدْ عَلمْتُ لتأتِينَّ مَنيِّتِي ... إنَّ المَنايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا
قوله {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يحتمل أن يكون جواباً للقسم فيكونون قد أقسموا على شيئين: نفي الفساد، ونفي السَّرقة.
فصل
قال المفسرونك حلفوا على أمرين:
أحدهما: على أنهم ما جاءوا لأجل الفسادِ في الأرض؛ لأنَّه ظهر من أحوالهم وامتناعهم من التصرف في أموال النَّاس بالكليَّة لا بأكل، ولا بإرسال في مزارع النَّاس حتَّى روي أنهم كانوا يسدون أفواه دوابهم لئلا يفسد زرع النَّاس، وكانوا مواظبين على أنواع الطَّاعات.(11/165)
والثاني: أنهم ما كانوا سارقين، وقد حصل لهم في شاهد قاطع، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر، ولم يستحلُّوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتَّة، فلمَّا بينوا براءتهم من تلك التهمة قال أصحابُ يوسف صلوات الله عليه: {فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} فأجابوه، {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كانوا يستعبدون في ذلك الزمان كُلَّ سارقٍ بسرقته، فلذلك قالوا: {جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي: فالسَّارقُ جزاؤه، أي: فيسلم السَّارق إلى المسرُوق منه، وكان سنة آل يعقوب في حكم السَّارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السَّارق، ويغرمه قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عند فردَّ الحكم إليهم؛ ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم.
قوله تعالى: {جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} فيه أربعة أوجه:
أحدهما: أن يكون «جَزاؤهُ» مبتدأ، والضمير للسَّارق، و «مَنْ» شرطيَّة أو موصولة مبتدأ ثاني، والفاء جواب الشَّرط، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشَّرطِ و «مَنْ» وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأوَّلِ، قاله ابن عطيَّة، وهو مردودٌ؛ لعدم رابط بين المبتدأ، وبين الجملة الواقعة خبراً عنه، هكذا ردَّه أبو حيَّان عليه.
وليس بظاهر؛ لأنَّه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام الضمير ويتَّضح هذا بتقدير الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ فإنَّه قال: «ويجوز أن يكون» جَزاؤهُ «مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، وعلى إقامة الظَّاهر فيها مقام المضمر، والأصل: جزاؤه، من وجد في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضع» هو «كما تقول لصاحبك: مَنْ أخُوا زيدٍ؟ فيقول لك: من يقْعُد إلى جَنْبِهِ فهُوا هو يرجع الضمير الأول إلى:» مَنْ «، والثاني إلى الأخِ، فتقولُ:» فهو أخوه «مقيماً الظاهر مقام المضمر» .
وأبو حيان جعل هذا المحكيّ عن الزَّمخشري وجهاً ثانياً بعد الأوَّلِ، ولم يعتقد أنه هو بعينه، ولا أنه جوابٌ عما ردَّ به على ابن عطيَّة.
ثمَّ قال: «وضع الظَّاهر موضع المضمر للرَّبطِ، وإنَّما هو فيصحٌ في مواضع التفخيم والتَّهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك، نحو: قام زيدٌ، وينزه عنه القرآن.
قال سيبويه:» لو قلت: كان زيدٌ منطلقا زيدٌ «لم يكن حدُّ الكلام وكان ههنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك: مازيدٌ مُنْطكلقاً هُوَ؛ لأك قد استغنيت عن إظَهاره، وإنَّما ينبغي لك أن تضمره» .
قال شهابُ الدِّين: ومذهبُ الأخفش أنَّه جائزٌ مطلقاً، وعليه بنى الزمخشريُّ،(11/166)
وقد جوَّز أبو البقاء ما توهم أنَّهُ جواب عن ذلك فقال:
والوجه الثالث: أن يكون «جَزاؤهُ» مبتدأ، و «مَنْ وُجِدَ» متبدأ ثان، و «هُوَ» مبتدأ ثالثُ، و «جَزَاؤهُ» خير الثالث، والعائدُ على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة وعلى الثاني «هُوَ» انتهى.
وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح؛ إذ يصير التقدير: فالذي وجد في رحله جزاؤه الجزاء؛ لأنَّه جعل «هُوَ» عبارة عن المبتدأ الثاني، وهو: {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} وجعل الهاء الأخيرة، وهي التي في: «جَزاؤهُ» الأخير عائدةٌ على: «جَزاؤهُ» الأوَّل، فصار التقدير كما ذكرنا.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة: أن يكون: «جَزَاؤهُ» مبتدأ، والهاء تعود على المسروق، و {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} خبره، و «مَنْ» بمعنى الذي، والتقدير: جزاء الصّواع الذي وجد في رحله.
ولذلك كانت شريعتهم يسترق السَّارق؛ لذلك استفتوا في جزائه، وقوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} متبدأ، وخبر مؤكدٌ لمعنى الأولد، ولما ذكر أبو حيَّان هذا الوجه ناقلاً له عن الزمخشريُّ، قال: «وقال معناه ابنُ عطيَّة إلاَّ أنَّهُ جعل القول الواحد قولين، قال: ويصحُّ أن يكون» مَنْ «خبراً على أن المعنى: جزاء السَّارق من وجد في رحله، ويكون قوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} زيادة بيانٍ وتأكيد، ثم قال: ويحتمل أن يكون التقدير: جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد قوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} ، وهذا القول هو الذي قبله غير أنَّهُ أبرز المضاف المحذوف في قوله: استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لا بدَّ من تقديره؛ لأنَّ الذَّات لا تكُون خبراً عن المصدرِ، فالتَّقدير في القول قبله: جزاؤهُ أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه، هذا لا بُدَّ منه على هذا الإعراب.
وهذا ظاهره، أنه جعل المقول الواحد قولين.
الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة: أن يكون:» جَزاءهُ «خبر مبتدأ محذوف أي: المسئول عنه جزاؤه، ثمَّ أفتوا بقولهم: {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} كما تقول: من يَسْتَفتِ] في جزاء صَيْدِ المحرمِ جزاءُ صَيْدِ المحرمِ، ثمَّ يقول: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} [المائدة: 95] قاله الزمخشري.(11/167)
قال أبو حيَّان:» وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله «المسئول عنه جزاؤه» على هذا التقدير، ليس فيه كبير فائدة، إذ قدلم علم من قوله: «فما جَزاؤهُ» أي الشيء المسئولُ عنه جزاء سرقته، فأيُّ فائدة في نطقهم بذلك، وكذلك القول في المثال الثَّاني الذي مثل به من قول المستفتي «.
قال شهابُ الدِّين:» قوله: «ليس فيه كبيرة فائدة» ممنوعٌ، بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان، وفي القرآن أمثال ذلك «.
الوجه الرابع: أني كون» جَزَاؤهُ «مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: جزاؤه عندنا كجزائه عندكم، والهاء تعود على السَّارق، أو على المسروق، وفي الكلام المتقدِّم دليل عليهما، ويكون قوله: {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله وبها الوجه بدأ أبُوا البقاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ ولم يذكره الشَّيخُ.
قوله: {كذلك نَجْزِي الظالمين} محل الكاف نصب إمَّا على أنَّها نعت لمصدر محذوفٍ، إمَّا حال من ضميره، أي: مثل ذلك الجزاء الفضيع نجزي الضالمين أي: إذا سرق استرق.
قيل: هذا من بقيَّة كلام أخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
وقيل: إنهم لما قالوا: {جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} قال أصحاب يوسف: {كذلك نَجْزِي الظالمين} ماليس لهم فعلُهُ من سرقة مال الغير، فعند ذلك قال لهم المؤذن: لا بُدَّ من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف.(11/168)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{فَبَدَأَ} يوسف: {بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} لإزالة التُّهمة.
قرأ العامة: «وعَاءِ» بكسر الواو. وقرأ الحسن بضمها، وهي لغةٌ نقلت عن نافع أيضاً، وقرأ سعيد بن جبير: «مِنْ إعَاءِ أخيهِ» بإبدال الواو همزة وهي لغة هذيليَّة،(11/168)
يبدلون من الواو المكسورة، أوَّل الكلمة همزة، فيقولون: إشاح وإسادة، وإعاء في «وِشَاح، ووِسَادة، ووِعَاء» وقد تقدَّم ذلك في الجلالة المعظمة أول الكتاب.
والأوعية: جمع وِعَاء. هو كلُّ ما إذا وضع فيه أحاط به.
قوله تعالى: {ثُمَّ استخرجها} في الضمير المنصوب قولان:
أحدهما: أنَّه عائد على الصّواع؛ لأنَّ فيه التَّذكير، والتَّأنيث، كما تقدَّم.
وقيل: لأنه حمل على معنى الساقية. قال أبو عبيدٍ: قولك: «الصُّواعُ» يؤنَّث من حيُ هو سقاية، ويذكَّر من حيث هو صواع.
قالوا: وكأنَّ أبا عبيد لم يحفظ في الصواع التَّأنيث.
وقال الزخشريُّ: «قالوا رجع بالتَّأنيث على السِّقاية» ثم قال: ولعلَّ يوسف كان يسمِّه سقاية، وعبيدة صواعاً، فقد وقع فيما يتَّصل به من الكلام سقاية، وفيما يتَّصل بهم منه صواعاً «.
وهذا الأخيرُ أحسنُ.
والثاني: أنَّ الضمير عائد على السَّرقة.
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ السرقة لا تستخرج إلا بمجاز.
فصل
قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعاً، ولا ينظرُ من وعاءٍ ألاَّ استغفر الله تعالى تائباً ممَّا قذفهم به، حتى إذا لم يبق إلاَّ رحْلُ بنيامين قال: ما أظنُّ هذا أخذه، فقال إخوتهُ: والله لا يتركُ حتَّى ينظر في رحله، فإنه أطيبُ لنفسكن ولأنفسنا، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه؛ فنكس إخوته رءوسهم من الحياء وقالوا: إنَّ هذه الواقعة عجيبةٌ، إنَّ راحيل ولدت ولدين لصين، وأقبلوا على بنيامين، وقالوا: أيش الذي صنعتن فضحتنا، وسوَّدت وجُوهنا، يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاءٌ [حتى أخذت هذا الصواع، فقال بنيامين: بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء] ذهبتهم بأخي، ثم أهلكتموه في البريَّةن ثم تقولون لي هذاه الكلام، قالوا له: كيف خرج الصُّواعُ من رحلك؟ فقال: وضع هذا الصوع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم، قالوا: فأخذ بنيامين رقيقاً.
قوله: {كذلك كِدْنَا} الكلام فيك {كذلك كِدْنَا} [75] كالكلام فيما كان قبلها أيك مثل ذلك الكيد العظيم، أيك كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهمن وقد مقال يعقوب ليوسف صلوات الله وسلامه عليه {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً} [يوسف: 5] ، فكدنا ليوسف في أمرهم.(11/169)
فالمراد من هذا الكيد: هو أنَّهُ تعالى ألقى ف يقلب أخوته: أن احكموا بأنَّ جزاء السَّارق هو أن يسترقَّ، لا جرم لما ظهر الصُّواعُ في رحله؛ حكموا عليه بالاسترقاق؛ وصار ذلك سبباً لتمكُّنِ يوسف صلوات الله وسلام عليه من إمساكِ أخيه عند نفسه.
واعلم أنَّ الكيد يشعر بالحِيلةِ، والخَديعة، وذلك في حقل الله تعالى محال إلا أنَّه قد تقدم أصل معتبر في هذا الباب، وهو أنَّ أمثال هذه الألفاظ في حق الله تعالى تحمل على نهايات الأغراض، لا على بداياتها، وتقرَّر ذلك عند قوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى} [البقرة: 26] فالكيدُ: السَّعي في الحلية، والخديعة، ونهايته اشتغال الإنسان من حيث لا يشعر في أمرٍ مكروهٍ، ولا سبيل له إلى دفعه، فالكَيْدُ في حقِّ اله محمولٌ على هذا المعنى.
وقيل: المرادُ بالكيد ههنا: أنَّ أخوة يوسف سعوا في إبطال أمره، والله نصرهُ وقوَّاه، وأعلى أمرهُ.
قال القرطبي: قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «كِدْنَا» معناه: صنعنا. وقال القتبيُّ: دبَّرنا. وقال ابنُ الأنباري: أردنا؛ قال الشاعر: [الكامل]
3126 - كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيرٌ إرَادَةٍ ... لَوْ مِنْ عَهْدِ الصِّبَا ما قَدْ مَضَى
قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} تفسير للكيد، وبيان له، وذلك أنه كان في زمان ملك مصر أن يغرَّم السَّارق مثلي ما أخذ لا أنه يستعبد.
فصل
قال القرطبيُّ: «في الآية دليلٌ على جواز التَّوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلاً خلافاً لأبي حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في تجويز الحيل وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل، وأجمعوا على أنَّ للرَّجُلِ التَّصرف في ماله قبل حُلولِ الحوْلِ بالبيع، والهبةِ إذا لم ينوا الفرارَ من الزَّكاةِ، وأجمعوا على أنَّه إذا حال الحولُنو أظلَّ السَّاعِي أنه لا يحلّ له التّحيل، ولا النُّقصانُ ولا أن يفرق بين مجتمع ولا أن يجمع بين متفرق» .
فصل
قال ابنُ العربيّ: قال بعضُ الشَّافيعة: في قوله تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} [يوسف: 21] دليل على وجه الحيلة إلى المباح، واستخراجِ الحقوق، وهذا وهمٌ عظيم، وقوله(11/170)
تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} [يوسف: 21] قيل فيه: لمَّا مكَّنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكَّنَّا له ملك الأرض عند العزيز، وهذا لا يشبهُ ما ذكروهُ.
قال الشعفوي: ومثله قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] هذا ليس حيلة، إنما هو حمل [اليمين] على الألفاظ، أو على المقاصد.
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} فيه وجهان:
أحدهما: أنه استنثاءٌ منقطعٌ تقديره: ولكن بمشيئة الله أخذه في دينٍ غير دينِ الملكِ، وهو دينُ آلِ يعقوب أنَّ الاسترقاق جزاءُ للسَّارقِ.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «فِي دِين الملِكِ» أي في سلطانه.
{إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} أي: أنَّ يوسف لم يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا، حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما جرى على [السنة] الإخوة أنَّ جزاء السارق الاسترقاق فحصل مراد يوسف بمشيئة الله.
والثاني: أنَّه مفرغ من الأحوال العامَّة، والتقدير: ما كان ليأخذه من كلِّ حالٍ إلا في حال التباسه بمشيئة الله عزَّ وجلَّ أي: إذنه في ذلك.
وكلاُ ابن عطيَّة محتملٌ فإنه قال والاستثناء حكاية حال، والتقدير: إلاَّ أن يشاء ما وقع من هذه الحيلة.
قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} تقدَّم القراءتان فيها في الأنعام [الأنعام: 83] .
وقرأ يعقوب بالياء من تحت «يَرْفعُ:، و» يَشاءُ «والفاعل الله تعالى.
وقرأ عيسى البصري» نَرْفَعُ «بالنون» دَرجَاتٍ «منونة، و» يَشَاءُ «بالياء.
قال صاحبُ اللَّوامحُ:» وهذه قراءة مرغوبٌ عنها تلاوة، وجملة، وإن لم يمكن إنكارها «.
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ:» وتوجيهها: أنَّهُ التفت في قوله «يَشَاءُ» من التَّكلُّم إلى الغيبةِ، والمراد واحدٌ «.
قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قرأ عبد الله بن مسعود: (وفوق كل ذي عالم) . وفيها ثلاثة أوجه:(11/171)
أحدها: أن يكون» عَالِم «هنا مصدراً، قالوأ: مثل الباطل فإنَّهُ مصدر فهي كالقراءة المشهورة.
الثاني: أنَّ ثمَّ مضافاً محذوفاً، تقديره: وفوق كل ذي مسمى عالمٍ؛ كقوله: [الطويل]
3127 - إلى الحَوْلِ ثمَّ اسْمُ السَّلامِ عَليْكُمَا ... أي: مُسمَّى السِّلام.
الثالث: أنَّ» ذو «زائدة؛ كقوله الكميت: [الطويل]
3128 - ... ... . ذَوِي آلِ النَّبيِّ ... ... . ..... ... ... ... ... ...
فصل
قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته والمعنى: أنه خصَّه بأنواع العلوم.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العلم أشرف المقامات، وأعلى الدَّرجات لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك فقال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} .
ثم قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ} على إلى أن ينتهي العلم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فالله فوق كلِّ عالمٍ.
والمعنى: أنَّ إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء، إلاَّ أنَّ يوسف كان زائداً عليهم في العلم.
واحتجَّ المعتزلةُ بهذه الآيةِ على أنَّهُ تعالى عالم لذاته؛ لأنَّه لو كان عالماً بالعلم، لكان ذا علم، ولو كان كذلك لحصل فوقه عليهم تمسكاً بهذه الآية.
قال ابن الخطيب:» وهذا باطلٌ؛ لأن أصحابنا قالوا: دلَّت سائر الآيات على إثبات العلم باللهِ تعالى وهو قوله: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] {أَنزَلَهُ(11/172)
بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] ، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] ، {وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] وإذا وقع التَّعارضُ، فنحن نحملُ الآية التي تمسَّك بها الخصمُ على واقعة يوسف وإخوته، غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص عموم إلا أنَّه لا بد من المصير إليه؛ لأن العالم مشتقٌّ من العلم، والمشتقُّ منه مفردٌ، وحصول المركب بدون حصول المفرد محالٌ في بديهة العقلِ، فكان التَّرجيحُ من جانبنا «.
قوله: {فَقَدْ سَرَقَ} الجمهور على «سرقَ» مخففاً مبنيًّا للفاعل، وقرأ أحمدُ بن جبير الأنطاكيُّ، وابن شريحٍ عن الكسائيِّ، والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين: «سُرِّقَ» مشدداً مبينًّا للمفعول أي: نسب إلى السرقة؛ لأنَّهُ ورود في التَّفسيرِ: أنَّ عمته ربته، فأخذاهُ أبوه منها؛ فشدت في وسطه منطقة كانوا يتوارثونها من إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ففتشوا فوجودها تحت ثيابه، فقالت: هو لي، فأخذته كما في شريعتهم، ومن هنا تعلم يوسف وضع السِّقاية في رحل أخيه، كما فعلت به عمَّتهُ، وهذه القراءة منطبقةٌ على هذا.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ: كان لجدِّهِ أبي أمه صنمٌ يعبده، فأخذه سراً، وكسره وألقاهُ في الطَّريق.
وقال مجاهدٌ: أخذ بيضةً من البيتِ فأعطاها سائلاً. وقيل: دجاجة وقال وهبٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: كان يُخبىءُ الطَّعام من المائدة للفقراء فقالوا للملك: إنَّ هذا ليْسَ بغَريبٍ منهُ، فإنَّ أخاهُ الَّذي هلك كان أيضاً سارقاً، أي إنَّا لسنا على طريقته، ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطَّريقةِ؛ لأنهما من أم أخرى.
قوله: «فأسرَّها» قال بعضهم: الضَّمير المنصوب مفسَّر لسياق الكلام، أي: فأسرَّ الحزازة التي حصلت له من قولهم: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ} ؛ كقوله: [الطويل]
3129 - أمَاوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى ... إذَا حَشْرجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدرُ
فالضمير في «حَشْرَجَتْ» يعود على النَّفسِ، كذا ذكرهُ أبو حيَّان.(11/173)
وقد جعل بعضهم البيت ممَّا فُسِّر فيه الضمير بذكْرِ ما هُو كلُّ لصاحبِ الضَّمير، فلا يكُونُ ممَّا فُسِّر فيه بالسِّياقِ.
وقال الزخشريُّ إضمارٌ على شريطةِ التَّفسيرِ، يفسره «أنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً» وإنَّما أنَّث؛ لأن قوله: «شَرٌّ مَكَاناً» جملة، أو كلمة على تسميتهم الطَّائفة من الكلام كلمة، كأنَّه قيل: فأسر الجملة، أو الكلمة التي هي قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} قال: لأن قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} بدل من «أسَرَّها» .
قال شهابُ الدِّينك وهذا عند من يبلد الظاهر من المضمر في غير المرفوع؛ نحو ضَرَبتهُ زيداً، والصحيح وقوعه؛ كقوله: [الرجز]
3130 - فَلاَ تَلُمْهُ أنْ يَخَافَ البَائِسَا ... وقرأ عبد الله وابنُ أبِي عبلة: «فأسَرَّهُ» بالتَّذكيرِ قال الزخشريُّ «يريد القول، أو الكلام» .
وقيل: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديره: قال في نفسه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} وأسرَّها أي هذه الكلمة.
قال شهاب الدين: ومثل هذا ينبغي ألاَّ يقال، فإنَّ القرآن ينزَّهُ عنه و «مَكَاناً» تتميز، أي: منزلة من غيركم، والمعنى: أنتم شرٌّ منزلاً عند الله ممن رميتموه بالسَّرقةِ في صنيعكم بيوسف؛ لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقة، وخيانتكم حقيقة.
وقد طعن الفارسيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ على كلام الزمخشريِّ من وجهين:
الأول: قال الإضمارُ على شريطة التفسير يكون على ضربين:
أحدهما: أن يفسَّر بمفردٍ، كقولنا: نِعْمَ رجُلاً زيدٌ، ففي: «نعم» ضمير فاعلها و «رَجُلاًُ» تفسير لذلك الفاعل المضمر.
والآخر: أن يفسر بجملة، وأصلُ هذا يقع به الابتداء، كقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ(11/174)
أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ} [الأنبياء: 97] و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعنى: القصَّة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر: الله أحد، ثمَّ إنَّ العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً، كقوله {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} [طه: 74] {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] .
وإذا عرفت هذا فنقول: نفس المضمر على شريطة التَّفسير في كلا الجملتين متَّصلٌ بالجملة التي فهيا الإضمار، ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة، ولا مبايناً لها، وههنا التفسير منفصل عن الجملة الَّتي حصل فيها الإضمار؛ فوجب ألاَّ يحسن.
والثاني: أنَّهُ تعالى قال: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} وذلك يدل على أنه ذكر ذكر ذلك الكلام، ولو قلنا: إنَّهُ صلوات الله وسلامه عليه أضمر هذا الكلام لكان قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} كذباً.
قال ابن الخطيب: «وهذا الطَّعنُ ضعيفٌ من وجوه:
الأول: لا يلزمُ من حسن القسمين الاولين قبح قسمٍ ثالثٍ.
وأما الثاني: فلأنا نحملُ ذلك على أنه صلوات الله وسلامه عليه قال ذلك على سبيل الخفيبة، وبهذا [التقسيم] سقط السُّؤالُ.
والوجه الثاني: وهو أنَّ الضمير في قوله:» فأسَرَّهَا «عائدٌ إلى الإجابة، كأنَّهم لما قالوا: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} أسرَّ يوسف عليه السلام إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت، ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقتٍ ثانٍ، ويجوز أن يكون إضماراً للمقالة، والمعنى: أسرَّ يوسف مقالتهم، والمراد من المقالةِ متعلق تلك المقالة؛ كما يرادُ بالخلقِ الملخوقُ، وبالعِلْمِ المَعْلُوم، يعني: أسرَّ يوسف كيفية تلك السَّرقة، ولم يبين لهم أنها كيف وقعت، وأنه ليس فيها ما يوجب الطَّعن» .
رُوِيَ عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: عُوقِبَ يوسف ثلاث مرَّاتِ: لأجْلِش همِّه بها؛ فعُوقِبَ بالحَبْسِ، وبقوله: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ؛ عوقب بالحبل الطَّويل، وبقولهك «إنَّكُم لسَارقُونَ» ح عوقب بقوله: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} .
ثم قال: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} ، أي: أنتم شرٌّ منزلة عند الله، بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم، وعقوق أبيكم؛ ثم بعتموه بعشرين درهماً، ثمَّ بعد المدَّة الطويلة، والزَّمان المديد، ما زال الحقدُ والغضبُ عن قلوبكم؛ فرميتموه بالسَّرقة، {والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} ، أي: إن سرقة يوسف كانت لله رضا؛ فلا توجب عود الذمِّ، واللَّوم إليه.(11/175)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
قوله تعالى: {يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} الآية.
اعلم: أنهم لمَّا قالوا: {إن سرق فقد سرق أخ له من قبل} ، أحبُّوا موافقته، والعدول إلى طريق الشَّفاعة، وأنهم، وإن كانوا قد اعترفوا بأن حكم الله في السارق أن يستعبد، إلاَّ أنَّ العفو وأخذ الفداء كان أيضاً جائزاً؛ فقالوا: {يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} ، في السنِّ، ويجوز أن يكون في القدر، والدِّين؛ لأن قولهم: «شَيْخاً» يعلم منه كبر سنه، وإنَّما ذكروا ذلك؛ لأنَّ كونه ابناً لرجلٍ كبير القدرِ يوجب العفو [والصفح] .
قوله: مَكانَهُ «فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّ» مَكَانهُ «: نصب [على الظرف] ، والعامل فيه:» خُذْ «.
والثاني: أنه ضمَّن» خُذْ «معنى:» اجْعَلْ «، فيكونُ:» مَكَانهُ «في محلٌ المفعول الثاني.
واقل الزمخشريُّ:» فخُذْ بدله على جهةِ الاسترهانِ؛ حتَّى نردّ الفداء إليك، أو الاستعباد «.
ثم قالوا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} ، لو فعلت ذلك.
وقيل: من المحسنين إلينا في توفية الكيل، وحسن الضِّيافة، وردِّ البضاعة.
وقيل: من المحسنين في أفعالك، وقيل: لما اشتدّ القحطُ على القوم، ولم يجدوا ما يشترون به من الطَّعام، وكانوا يبيعون أنفسهم، فصار ذلك سبباً لصيرورة أكثر أهل مصر عبيداً له، ثم أعتق الكُلّ قالوا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} إلى عامة النَّاس بالإعتاق، فكن محسناً أيضاً إلى هذا الإنسان بالإعتاق من هذه المحنة.
فقال يوسف: {مَعَاذَ الله} أي أعوذ بالله معاذاً {أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} أي أعوذُ باللهِ أن نأخذ بريئاً بمذنب.
قال الزجاج:» موضع «إنْ» نصب، والمعنى: أعوذُ باللهِ من أخذِ أحدٍ بيغره، فلمَّا سقطت كلمة: «مَنْ» تعدَّى الفعل «.
وقوله: {إِنَّآ إِذاً} حرف جواب وجزاء، تقدَّم الكلام [النساء: 67 البقرة: 14] على أحكامها.
والعنى: لقد تعدّيت، وظلمت، إن إخذت بريئاً بجُرمٍ صدر من غيره، فقال:(11/176)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
{مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} ولم يقل:» مَنْ سَرَقَ «تحرُّزاً من الكذب.
فإن قيل: هذه الواقعةُ من أوَّلها إلى آخرها، تزوير وكذب، فكيف يجوز ليوسف مع رسالته الإقدام على التَّزوير، وإيذاء النَّاس من غير ذنب لا سيَّما ويعلم أنَّهُ إذا حبس أخاه عنده بهذه التُّهمةِ فإنه يعظمُ حزنُ إبيه، ويشتدُّ غمُّه، فكيف يليقُ بالرسول المعصوم المباغلة في التَّزويرِ إلى هذا الحدّ؟! .
فالجواب: لعلَّه تعالى أمره بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب، ونهاه عن العفوِ والصَّفح، وأخذ البدل، كما أمر تعالى صاحب موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقتل من لو بَقِي لَطَغَى وكفَر.
قوله
: {فَلَمَّا
استيأسوا
} «اسْتَفْعَلَ» هنا بمعنى «فَعِلَ» المجرَّد يقال: يَئِسَ، واسْتَيْأس [بمعنى] نحو «عَجِبَ واسْتَعْجَبَ، وسَخِرَ، واسْتَخَرَ.
وقال الزمخشري: وزيادة التَّاء والسِّين في المبالغة نحو ما مرَّ في:» اسْتَعْصَمَ «وقرأ البزيُّ عن ابن كثير بخلاف عنه:» اسْتَأيَسُوا «بألف بعد التاء ثم ياء وكذلك في هذه السورة: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} [يوسف: 87] إنَّه لا يَيْأسُ {حتى إِذَا استيأس الرسل} [يوسف: 110] ، وفي الرعد: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} [الرعد: 31] الخلاف واحد.
فأمَّا قرأءة العامة: فهي الأصل، إذ يقال: يَئِسَ، فالفاء ياء، والعين همزة وفيه [لغة] أخرى، وهي القلبُ [الرعد: 31] بتقديم العين على الفاءِ، فيقال: أيِسَ، ويدلُّ على ذلك شيئان:
أحدهما: المصدر الذي هو اليأسُ.
والثاني: أنَّه لو لم يكن مقلوباً للزم قلبُ الياءِ ألفاً، لتحركها، وانفتاح ماقبلها، ولكن منع من ذلك كون الياءِ في موضع لا تعلُّ فيه ما وقعت موقعه، وقراءة ابن كثير من هذا، ولما قلب الكلمة أبدل من الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة، إذ صارت كهمزة رأس، وكأس، وإن لم يكن من أصله قلب الهمزة السَّاكنة حتىعلَّةِ وهذا كما تقدَّم أنه يقرأ»(11/177)
القرآن «بالألف، وأنَّه يحتملُ أن يكون نقل حركة الهمزة، وإن لم يكن من أصله النقل.
قال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلمات الخمسِ الَّتي وقع فيها الخلافُ» وكذلك رسمت في المصحف، يعني كما قرأها البزيُّ يعنى بالألف مكان الياءِ، وبياء مكان الهمزة «.
وقال أبو عبد الله: واختلفت هذه الكلمات في الرَّسم، فرسم:» يَأيَس «،» ولا تَأيسُوا «بألف، ورسم الباقي بغير ألف.
قال شهابُ الدين:» وهذا هو الصَّوابُ، وكأنَّه غفلة من أبي شامة «.
ومعنى الآية:» فلمَّا أيسُوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوا «.
وقال أبو عبيدة:» اسْتَيْأسُوا «: استيقنوا أنَّ الأخ لا يرد إليهم.
قوله: {خَلَصُواْ نَجِيّاً} قال الواحديُّ: يقال: خلص الشَّيء يخلصُ خلوصاً إذا انفصل من غيره، ثم فيه وجهان:
أحدهما: قال الزجاج، خلصوا: أي: انفردوا، وليس معهم أخوهم.
وقال الباقون: تميزوا عن الأجانب، وهذا هو الأظهر، أي: خلا بعضهم ببعضٍ يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم.
وأمَّا قوله:» نَجِيًّا «حال من فاعل:» خَلصُوا «أي: اعتزلوا في هذه الحالِ وإنَّما أفردت الحال، وصاحبها جمع، إمَّا لأن النَّجيَّ فعيلٌ بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المُخالِط والمُعاشِر، كقوله {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] أي: مناجياً وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً، يقال: هُم خَليطُكَ وعَشِيرتُك، أي: مخالطوك ومعاشروك وإما لأنَّه صفة على فعيل بمنزلة صَدِيق، وبابه يوحد، لأنه يزنة المصارد كالصَّهيل، والوجيب والذَّميل، وإمَّا لأنه مصدرٌ بمعنى التَّناجي كما قيل: النَّجْوى بمعناه، قال تعالى:
{وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] ، وحينئذ يكون فيه التأويلات المذكورات في: «رجُلٌ عدلٌ» وبابه، ويحمع على «أنْجِيَة» ، وكان من حقِّه إذا جعل وصفاً أن يجمع على «أفْعِلاء» ، ك «غَنِيّ» ، وأغْنِيَاء «و» شَقِيّ، وأشْقِيَاء «؛ ومن مجيئه على» أنجِيَة «قول الشاعر: [الرجز]
3131 - إنِّي إذَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ ... واضْطَرَبَ القَوْمُ اضطِرابَ الأرْشِيَهْ
هناك أوصيني ولا تُوصِي بِيَهْ ... وقول لبيد: [الكامل](11/178)
3132 - وشَهِدْتُ أنْجِيةً الأفَاقةِ عَالِياً ... كَعبي وَأرْدَافُ المُلوكِ شُهُودُ
وجمعه كذلك يقوي كونه جامداً، إذ يصيرُ كرغيب، وأرغِفَة.
وقال البغويُّ: النَّجِي يصلحُ للجماعة، كما قال ههنا، وللواحد كما قال: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] وإنما جاز للواحد والجمع؛ لأنه مصدر جعل نعتاً كالعدل، ومثله النَّجوى يكونُ اسماً، ومصدراً، قال تعالى {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] أي: مُتنَاجِين، وقال حل ذكره {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ} [المجادلة: 7] وقال في المصدر {إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان} [المجادلة: 10] .
قال ابن الخطيب:» وأحسنُ الوجوه أن يقال: إنَّهم تمحَّضُوا تناجياً؛ وأنَّ من كمل حصول أمرٍ من الأمُورِ فيه وصف بأنَّه صار غير ذلك الشَّيء فلما أخذوا في التَّناجي على غاية الجدِّ؛ صاروا كأنهم في أنفسهم صاروا نفس التَّناجِي في الحقيقة «.
» قالَ كَبيرُهمْ «في العقل، والعلم لا في السنِّ، وهو» يَهُوذَا «، قاله ابن عباسٍ، والكلبي.
وقال مجاهدٌ: شمعون، وكانت له الرِّئاسةُ على إخوته.
وقال قتادة، والسديُّ، والضحاك: وهو روبيلُ، كان أكبرهم في السنِّ، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف عليه السلام.
{أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً} : عهداً: {مِّنَ الله} ، وأيضاً: نحنُ متَّهمُونَ بواقعة يوسف.
قوله {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ} في هذه الآية وجوه ستة:
أظهرها: أنَّ» مَا «مزيدة فيتعلَّق الظَّرف بالعفل بعدها، والتقدير: ومن قبل هذا فرَّطتم، أي: قصَّرتم في حقِّ يوسف، وشأنه، وزيادة» مَا «كثيرة، وبه بدأ الزمخشري وغيره.
الثاني: أن تكون» مَا «مصدرية في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر الظَّرف المتقدم قال الزمخشريُّ: على أنَّ محل المصدر الرَّفع بالابتداء، والخبر الظرف وهو» مِنْ قَبْلُ «،(11/179)
والمعنى: وقع من قبل تفريطكم في يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإلى هذا نحا ابنُ عطيَّة أيضاً فإنَّه قال: ولا يجوز أن يكون قوله:» مِنْ قَبْلُ «متعلقاً ب:» مَا فَرَّطْتُمْ «، وأنَّ» مَا «تكون على هذا مصدرية، والتقدير: ومن قَبْلِ تفريطكم في يوسف واقعٌ، أو مستقرٌ وبهذا المقدر يتعلق قوله:» مِنْ قَبْلُ «.
قال أبو حيَّان: هذا وقول الزمخشريُّ راجعان إلى معنى واحد، وهو أن» مَا فرَّطتُمْ «يقدَّرُ بمصدرٍ مرفوع بالابتداء، و:» مِنْ قَبْلُ «في موضع الخبر وذهلا عن قاعدة عربيَّة، وحقَّ لهما أن يذهلا وهي أنَّ هذه الظروف التي هي غايات إذا بُنيت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرَّت، أو لم تجرَّ، تقول: يومُ السَّبت مُباركٌ والسَّفر بعدهُ، ولا تقول: والسَّفر بَعد و» عَمْرٌو وزيْدٌ خَلفهُ «ولا يجوز: عمرٌو وزيدٌ خلف، وعلى ما ذكراه يكون:» تَفْريطُكُم «مبتدأ، و» مِنْ قَبْلُ «خبر وهو مبنيُّ وذلك لا يجوز، وهو مقررٌ في علم العربيِّة» .
قال شهابُ الدِّين: «قوله:» وحُقًّ لهُمَا أنْ يَذْهَلا «تحامل على هذين الرجلين، وموضعهما من العلم معروفٌ، وأمَّا قوله:» إنَّ الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً «، فمسلَّم، قالوا: لأنَّه لا يفيد، وما لا يفيد، لا يقع خبراً، ولذا لا يقع صفة، ولا صلة، ولا حالاً والآية الكريمةُ من هذا القبيل لو قلت:» جاء الذي قبل «أو» مررت برجل قبل «لم يجز لما ذكرت.
ولقائلٍ أن يقول: إنَّما امتنع ذلك؛ لعدم الفائدة، وعدم الفائدة لعدم العلم بالمضافِ إليه المحذوف، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مدلولاً عليه أن يقع ذلك الظَّرف المضاف إلى ذلك المحذوف خبراً، وصفة، وصلة، وحالاً والآية الكريمة من هذا القبيل، أعني ممَّا علم فيه المضاف إليه كما مرَّ تقريره» .
ثمَّ هذا الرَّد الذي ردّ به أبو حيَّان سبقه إليه أبو البقاءِ، فقال: «وهذا ضعيف؛ لأن» قَبْل «إذا وقعت خبراً أو صلة لا تقطع عن الإضافة لئلا تبقى ناقصة» .
الثالث: أنها مصدرية أيضاً، في محل رفع بالابتداء، والخبر هو قوله «فِي يُوسفَ» أي: وتفريطكم كائن، أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي كأنه استشعر أن الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً؛ فعدل إلى هذا، وفيه نظر؛ لأنَّ السِّياق، والمعنى يجريان إلى تعلق: «فِي يُوسفَ» ب «فَرَّطْتُمْ» ، فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدِّي إلى تهيئة العامل [للعمل] ، وقطعه عنه.
الرابع: أنَّها مصدرية أيضاً، ولكن محلها النَّصب على أنَّها منسوقة على «إنَّ أباكُمْ قد أخَذَ» أي: ألم تعلموا أخذ أبيكم الميثاق، وتفريطكم في يوسف.(11/180)
قال الزمخشري: «كأنه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً، وتفريطكم من قبل في يوسف» وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً.
قال أبو حيَّان: «وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيِّد؛ لأنَّ فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو حرفٍ واحدٍ، وبين المعطوف؛ فصار نظير: ضَربْتُ زيداً، وبِسَيفٍ عمراً، وقد زعم الفارسيُّ أنه لا يجوز ذلك إلاَّ في ضرورة الشِّعر» .
قال شهابُ الدِّين: هذا الرَّدُّ سبقه إليه أبُو البقاءِ، ولم يرتضه وقال: «وقيل: هو ضعيفٌ؛ لأنَّ فيه الفصل بين حرفِ العطفِ، والمعطوفِ، وقد بينا في سورة النِّساء أن هذا ليس بشيء» .
قال شهاب الدين: «يعني أنَّ منع الفصل بين حرفِ العطفِ، والمعطوفِ ليس بشيءِ، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا، وتقريره في سورة النساء، كما أشار إليه أبو البقاء» .
ثمَّ قال أبو حيَّان: «وأمَّا تقديرُ الزمخشري: وتفريطكم من قبل في يوسف؛ فلا يجوز؛ لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل عليه، وهو لا يجوز» .
وقال شهابُ الدِّين: «ليس في تقدير الزمخشريِّ شيء من ذلك؛ لأنَّه لمَّا صرح بالمقدر أخَّر الجارين، والمجرورين عن لفظ المصدر المقدَّر كما ترى، وكذا هو في سائر النسخ، وكذا ما نقله عنه الشيخ بخطهِ، فأين تقديمُ المعمولِ على المصدر ولو رد عليه، وعلى ابن عطيَّة بأنه يلزمُ من ذلك تقديمُ معمولِ الصِّلةِ على الموصول لكان ردًّا واضحاً، فإنَّ:» مِنْ قَبْلُ «متعلق» فَرَّطْتُمْ «، وقد تقدَّم الكلامُ على ما المصدرية، وفيه خلافٌ مشهورٌ» .
الخامس: أن تكون مصدرية أيضاً، ومحلها النصب عطفاً على اسم: «أنَّ» أي: ألم تعلموا أنَّ أباكم، وأن تفريطكم من قبل في يوسف، وحينئذٍ يكون في خبر «أنَّ هذه المقدرة وجهان:
أحدهما: هو:» مِنْ قَبْلُ «.
والثاني: هو» فِي يُوسَفُ «واختاره أبو البقاء، وقد تقدَّم ما في كلِّ منهما، ويردُّ على هذا الوجه الخامس ما ردَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف، والمعطوف، وقد عرف ما فيه.
السادس: أن تكون موصولة اسمية، ومحلُّها الرفع، والنَّصب علكى ما تقدَّم في المصدريَّة.(11/181)
قال الزمخشريُّ: يعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه، أي: قدَّمتموهُ في حقِّ يوسف من الجنايةِ، ومحلُّها الرَّفع، أو النَّصب على الوجهين.
يعنى بالوجهين رفعها بالابتداء، وخبرها» مِنْ قبل «، ونصبها على مفعولِ» ألمْ تَعْلمُوا «، فإنَّهُ لم يذكر في المصدرية غيرهما، وقد تقدَّم ما اعترض به عليهما، وما قيل في جوابه.
فتحصل في» مَا «ثلاثة أوجه:
الزيادة، وكونها مصدرية، أو بمعنى الذي، وأن في محلها وجهين: الرفع، أو النصب.
قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} برح هنا تامة، ضمنت معنى أفارقُ ف:» الأرْضَ «معفول به، ولا يجوز أن تكون تامَّة من غير تضمين؛ لأنها إذا كانت كذلك؛ كان معناها: ظهر أو ذهب، ومنه: بَرحَ الخفاءُ، أي: ظهر، أو ذهب، ومعنى الظهور لا يليق، والذهابُ لا يصلُ إلى الظَّرف المخصوص إلاَّ بواسطةِ» في «: تقول:» ذَهَبْتُ في الأرضِ «ولا يجوز ذهبتُ الأرْضَ، وقد جاء شيءٌ لا يقاس عليه.
وقال ابو البقاء: «ويجوز أن يكون ظرفاً» .
قال شهابُ الدِّين: «يحتمل أن يكون سقط من النُّسخِ لفظ» لاَ «، كان:» ولا يجوز أن يكون ظرفاً «.
واعلم أنه لا يجوز في» أبْرَحَ «هنا أن تكون ناقصة؛ لأنَّه لا ينتظم من الضمير الذي فيها، وما» من الأرض «مبتدأ أو خبرٌ، ألا ترى أنَّك لو قلت: أنَا الأرض لم يجز من غير» فِي «بخلاف» أنَا في الأرْضِ وزيدٌ في الأرْضِ «.
قوله: {أَوْ يَحْكُمَ الله} في نصبه وجهان:
أظهرهما: عطفه على:» يَأذَنَ «.
والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار» أنْ «في جواب النَّفي، وهو قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} أي: لنْ أبْرحَ الأرْضَ إلاَّ أن يحكم، كقولهم: لالزَمنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حقِّي، أي: إلا أن تَقْضِيَنِي.
قال أبو حيَّان:» ومَعْنَاهُ ومعنى الغية مُتقَارِبَان «.(11/182)
قال شهابُ الدِّين:» وليْسَ المعنى على الثَّاني، بل سِياقُ المعنى على عطفه على «بَأذَنَ» فإنه غيًّا الأمر بغايتين: أحداهما خاصة، وهي إذْنُ أبيه والثانية عامة؛ لأنَّ إذن أبيه له في الانصراف هو من حكم الله عزَّ وجلَّ «.
فصل
اعلم أنَّهم لما أيسوا من تخليصه، وتناجوا فميا بينهم، قال كبيرهم: {أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً} أي: عهداً {مِّنَ الله وَمِن قَبْلُ} هذا فرَّطتم في شأن يوسف، ولم تحفظوا عهد أبيكم، {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} التي أنا بها، وهي أرض مصر، فلن أفارق أرض مصر {حتى يَأْذَنَ لي أبيا} في الانصراف إليه والخروج مهنا {أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} بالخروج منها بردّ أخي إليّ، أو خروجي، وترك أخي، أو بالانتصاف ممَّن أخذ أخي.
وقيل: أو يحكم الله لي بالسَّيفن وأقاتلهم واسترد أخي {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} ؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل، والحق، فحينئذ تفكَّروا في الأصوب ماهو؟ فظهر لهم أنَّ الأصوب هو الرُّجوع، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة، فقال الأخ المحتبس بمصر لإخوته: {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانا إِنَّ ابنك} بنيامين» سَرَقَ «.
قرأ العامة:» سَرَقَ «مبنيًّا للفاعل مخففاً، وابن عباس، وأبو رزين، والضحاك، والكسائي في رواية» سُرِّقَ «بضمِّ السِّين، كسر الرَّاء مشدداً مبنيًّا للمفعول يعني: نسب إلى السَّرقة، كما يقال: خَوَّنته، أي: نسبته إلى الخِيانةِ، قال الزجاج:» سُرِّقَ «يحتمل معنيين:
أحدهما: علم منه السرقة، والآخر: اتهم بالسَّرقة.
قال الجوهريُّ:» والسَّرِق والسَّرِقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر: سَرَق، يَسْرِق، َرَقاً بفالتح «.
وقرأ الضحاك:» سَارِق «جعله اسم فاعل.
{وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} فإنَّا رأينا أخراج صاع من متاعه. وقيل: معناه {وَمَا شَهِدْنَآ} أي: ما كانت منَّا شهادة في عمرنا على الشَّيء إلاَّ بما علمنا، وليست هذه الشَّهادة منَّا، إنَّما هو خبرٌ عن صنيعِ ابنكَ بزعمهم.
فإن قيل: كيف حكموا عليه بأنَّه سرق من غير بينة، لا سيَّما وقد أجابهم بالنَّفي فقال: الذي جعل الصَّواع في رحلي، وهو الذي جعل البضاعة في رحالكم؟ فالجواب من وجوهٍ:
أحدها: أنهم شاهدوا أنَّ الصواع كان موضوعاً في [محلٍّ] لم يدخله غيرهم،(11/183)
فلمَّا شاهدوا إخراج الصواع من رحله؛ غالب على ظنهم أنَّه هو الذي أخذ الصواع.
وأما قوله: «وضَعَ الصُّواعَ في رحْلِي الذي وضع البِضاعَة في رحالكم» فالفرق ظاهرٌ؛ لأنهم لمَّا رجعوا بالبضاعة إليهم اعتروفا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأمَّا الصُّواع، فلم يعترف أحدٌ بأنه هو الذي وضع الصُّواعَ؛ فلهذا غلب على ظنونهم أنه سرق؛ فشهدوا بناء على غلبة الظَّنِّ، ثمَّ بينوا أنهم غيرُ قاطعين بهذا الأمر بقوله: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} .
وثانيها: تقدير الكلام: {إِنَّ ابنك سَرَقَ} في قول الملك، وأصحابه، ومثله كثيرٌ في القرآن، قال تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] أي: عند نفسك وأمَّا عندنا فلا فكذا هاهنا.
وثالثها: أنَّ ابنك ظهر عليه ما يشبه السَّرقة، ومثل هذال المعنى قد يسمَّى سرقة، فإن إطلاق أحد الشَّيئين على الشبيه الآخر جائزٌ، مثله في القرآن {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] .
ورابعها: أنهم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت، فلا يبعد أن يقال: إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة، لا سيَّما، وقد شاهد سائرهم ذلك.
وخامسها: قراءة ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه المتقدمة «سُرِّقَ» أي: نسب إلى السَّرقة، فهذه لا تحتاجُ إلى تأويلٍ، إلاَّ أنه تقدَّم أنَّ أمثال هذه القراءة لا تدفعُ السَّؤال؛ لأنَّ الإشكال إنَّما يندفعُ إذا كانت القراءة الأولى باطلة، وهذه القراءة حقّ أمَّا إذا كانت الأولى حقّ، كان الإشكال باقياً صحَّت القراءة، أو لم تصحّ، فلا بدّ من الرجوعِ إلى أحدِ الوجوه المذكورة.
فصل
دلَّ قولهم: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} على أنَّ الشَّهادة غير العلم؛ لأن هذا الكلام يقتضي كون الشَّهادةِ مغايرة للعلم، ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذَا عَلمْتَ مثلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ» ... وليست الشَّهادةٌ عبارةً عن قوله «اشْهَد» ؛ لأنه إخبار عن الشَّهادة، والأخبار عن الشَّهادة غير الشهادة.
وإذا ثبت هذا؛ فنقول: الشَّهادةُ عبارةٌ عن الحكم الذِّهنيِّ وهو الذي يسميه المتكلمون ب «الكلام» النفسي «.
فصل
قال القرطبيُّ: تضمنت هذه الآية جواز الإشهاد بأيّ [وجه] حصل العلمُ بها(11/184)
فإنَّ الشَّهادة مرتبطةٌ بالعلم عقلاً وشرعاً، فلا تسمعُ إلاَّ ممَّن علم، ولا تقبلُ إلاَّ منهم، وهذا هو الأصل في الشَّهادات.
ولهذا قال أصحابنا: شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزةٌ، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة، وكذلك الشَّهادة على الخطّ أي: إذا تبيَّن أنه خطُّه، أو خطُّ فلان صحيحةٌ، فكلُّ من حصل كله العلم بشيء؛ جاز أن يشهد به، وإن لم يشهدهُ المشهودُ عليه. قال الله تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ألاَ أخْبِرُكمْ بِخيْرِ الشُّهداءِ؟ الذي يأتِي بشهادة قَبْل أنْ يُسْألَها» .
قوله تعلى: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} قال مجاهدٌ وقتادة: وما كنا نعلم أنَّ ابنك يسرق، ويصيِّر أمرنا إلى هذا، ولو علمنا بلك ما ذهبنا به معنا، وإنَّما قلنا: ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه من سبيل.
وقال عكرمة: لعلَّ الصُّواع دفن في اللَّيلِ، فإنَّ الغيب هو اسم لليل على بعض اللغات.
وقيل: رأيناهم أخرجوا الصواع من رحله، أمَّا حقيقة الحالِ، فغير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ما كنا لليله، ونهاره، ومجيئه، وذهابه حافظين.
وقيل: إنَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهم: فهبْ أنه سرق، ولكن كيف علم الملكُ أن شرع بني إسرائيل أنَّه من سرقَ يُسترقُّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم، فقالوا عند ذلك: إنَّا ذكرنا له هذا الحكم قبل أن نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها، فوله: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: ما كنا نعلم أن الواقعة تصبينا.
فإن قيل: فهل يجوز من يعقوب أن يخفي حكم الله؟ .
فالجواب: لعلَّ ذلك الحكم كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً، فلهذا أنكر ذلك الحكم عند الملك الذي ظنَّه كافراً.(11/185)
قوله تعالى: {واسأل القرية} يحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أشهرها: أنه على حذف مضافٍ، أي: واسألْ أهل القرية، وأهل العِير، وهو مجازٌ شائعٌ، قاله ابن عطيِّة وغيره.
وقال أبو عليِّ الفارسي: ودافع جواز هذا في اللغةِ كدافعِ الضَّرورات، وجاحد المحسوسات، وهذا على خلافٍ في المسألةِ، هل الإضمار من باب المجازِ، أو غيره؟ المشهور أنه قسم منه، وعليه اكثر النَّاسِ.
قال أبو المعالي: قال بعض المتكلمين: «هذا من الحذف، وليس من المجاز إنَّما المجازُ لفظة استعيرت لغير ما هي له، قال: وحذف المضاف هو عينُ المجاز وعظمه، هذا مذهب سيبويه وغيره، وحكي أنَّه قول الجمهور» .
وقال ابن الخطيب: إن الإضمار، والمجاز [قسمان لا قسيمان] ، فهما متباينان.
الثاني: أنَّه مجاز، ولكنه من باب إطلاق اسم المحل على الحال للمجاورة كالرواية.
الثالث: أنَّه حقيقة لا مجاز فيه، ولذلك قال أبو بكر الأنباري:
المعنى: واسْألِ القرية والعير؛ فإنَّها تجيبك، وتذكر لك صحَّة ما ذكرنا؛ لأنك من أكابر الأنبياء، فيجوز أن ينطق الله لك الجماد، والبهائم.
وقيل: إنَّ الشيء إذا ظهر ظهوراً تامًّا كاملاً فقد يقال فيه: سل السماءَ والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظُّهور إلى الغاية حتَّى لم يبق للشكِّ فيه مجالٌ، والمراد من القرية: مصر، وقيل: قرية على باب مصر قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي قرية من قرى مصر، كانوا ارتحلوا منها.
وأما قوله: {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي القافلة التي كُنَّا فيها.
قال المفسِّرون: كان صحبهم قوم من الكنعانيين من جيران يعقوب.
قال ابنُ إسحاق: عرف الأخ المحتبس بمصر أنَّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لمَا كانوا صنعوا في أمر يوسف عليه السلام، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم.
ثم إنَّهم لما بالغوا في التَّأكيد، والتقرير قالوا: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} يعنى سواء نسبتنا إلى التُّهمة، أم لم تنسب؛ فنحن صادقون، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم؛ لأنَّ هذا يجري جرى إثبات الشيء بنفسه، بل الإنسان، إذا قدم ذكر الدَّليل القاطع على صحَّة الشيء، فقد يقول بعده: وأنَّا صادق في ذلك، يعني فتأمل فيما ذكرته من الدَّلائل، والبينات.(11/186)
فصل
قال القرطبي: «دلَّت هذه الآية على أنَّ كل من كان على حقٍّ، وعلم أنه قد يظن به أنَّه على [خلاف] ما هو عليه، أو يتوهم أن يرفع التُّهمة، وكلَّ ريبةٍ عن نفسه ويصرِّح بالحق الذي هو عليه، حتَّى لا يبقى متكلِّم، وقد فعل هذا نبينا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله للرجلين اللَّذين مرًّا، وهو قد خرج مع صفيَّة بن حييّ من المسجد:» على رسلكما، إنّما هي صفيّة بن حييّ «؛ فقالا: سبحان الله! وكبر علهيما، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ الشَّيطَان يَجْرِي مِنَ آدم مُجْرَى الدَّم، وإِنِّي خَشِيتُ أن يَقْذِفَ في قُلوبِكُمَا شرًّا، أو قال: شَيْئاً «متفرقٌ عليه.
فإن قيل: كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه، ولم يخبره بمكانه، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه، ففيه معنى العقوق، وقطيعة الرَّجمِ، وقلَّة الشَّفقةِ؟ .
فالجواب: أنَّه فعل ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ أمره به ليزيد في بلاءِ يعقوب، فيضاعف له الأجر، ويلحقه في الدَّرجةِ بآبائه الماضين.
وقيل: إنَّه لم يظهر نفسه لإخوته؛ لأنَّه لم يأمن أن يدبِّروا في أمره تدبيراً، فيكتموه عن أبيه، والأول أصح.(11/187)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} هذا الإضراب لا بدَّ له من كلامٍ قبله متقدم عليه يضرب هذا عنه، والتقدير: فرجعوا إلى إبيهم، وذكروا له ما قال كبيرهم، وفقال يعقوب: ليس الأمر كما ذكرتم حقيقة، {بل سولت} : زيَّنَتْ {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} أي حمل أخيكم إلى مصر، وليس المراد منه الكذب كواقعة يوسف.
وقيل: {سولت لكم أنفسكم} أنَّه سرق، ما سرق.
{فصبر جميل} وتقدَّم الكلام على نظيره، وقال هناك: {والله المستعان على ما تصفون} وقال ههنا {عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} .(11/187)
قال بعضهم: يعنى يوسف، وبنيامين، وأخاهم المقيم بمصر.
وإنَّما حكم بهذا الحكم؛ لأنَّه لما طال حزنه وبلاؤه علم أنَّ الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظنِّ برحمة الله تعالى.
وقيل: لعلَّه كان قد أخبر من بعد محنته بيوسف أنه حي، أو ظهرت له علامات على ذلك.
ثم قال: {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} العليم بحقائقِِ الأمْرِ، الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل، والإحسان.
وقيل: العليم بحزني، ووجدي على فقدهم، الحكيم في تدبير خلقه.
قوله تعالى: {وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ} الآية.
لما سعم يعقوب كلام بنيه، ضاق قلبه، وهاج حزنهُ على يوسف، فأعرض عنهم: {وقال يا أسفى على يوسف} يا حزنا على يوسف.
والأسفُ: أشدُّ الحُزْنِ، وإنما عظم حزنهُ على مُفارقةِ يوسف عند هذه الواقعة لوجوه:
الأول: أنَّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع، قال متمّم بن نويرة: [الطويل]
3133 - فَقَالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ ... لِمَيْتٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوى والدَّكَادِكَ
فقُلْتُ لَهُ: إنَّ الأسَى يَبْعَيُ الأسَى ... فدَعْنِي فَهذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ
وذلك؛ لأنه كلما رأى قبراً تجدَّ عليه حزنه على أخيه مالك، فلاموهُ؛ فأجاب: إنَّ الأسى يبعث الأسى.
الثاني: أنَّ ينيامين، ويسوف كانا من أمٍّ واحدة، وكانت المشابهة بينهما في الصِّفة متقاربة، فكان يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع، زال ما يوجبُ السَّلوة، فعظم الألم.
الثالث: أنَّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الَّتي عليها ترتب سائر المصائب، فكان الأسفُ عليه أسفاً على الكُلِّ.
الرابع: أنَّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومةِ، فلم يبحث(11/188)
عنها وأما واقعة يوسف صلوات الله وسلامه عليه فهو عليه السلام كان يعلمُ كذبهم في السَّببِ الذي ذكروه، وأما السَّببُ الحقيقي، فلم يعلمه.
وأيضاً: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يعلم حياة هؤلاء، وأمَّا يوسف فما كان يعلم أنَّه حي، أو ميت، فلهذه الأسباب عظم حزنه على مفارقته.
قوله: {ياأسفا} الألف منقلبة عن ياء المتكلم، وإنَّما قلبت ألفاً؛ لأنَّ الصَّوت معها أتم، ونداؤه على سبيل المجازِ، كأنَّه قال: هذا أوانُك فاحضر، نحو: «يَا حَسْرَتَا» .
وقيل هذه ألف الندبة، وحذفت هاء السَّكت وصلاً.
قال الزمخشريُّ: والتَّجانس بين لفظتي الأسف، ويوسف ممَّا يقعُ مطبوعاً غير متعمل فيملح، ويبدع، ونحوه: {اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} [التوبة: 38] {يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} [الكهف: 10] {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} [النمل: 22] .
قال شهابُ الدِّين: ويسمَّى هذا النَّوع تجنيس التَّصريف، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظ، ويفرق بينهما بحرف ليس في الأخرى، وقد تقدَّم [الأنعام: 26] .
وقرأ ابن عباسٍ، مجاهدٌ «مِنَ الحَزَن» بفتحتين، وقتادة بضمتين والعامة بضمة فسكون.
فالحُزْن، والحَزَن، كالعُدْمِ، والعَدَم، والبُخْل والبَخَل، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ. وقال الواحديُّ: اختلفوا في الحُزْنِ، الحَزَن، فقال قومٌ: الحُزْن: البُكاء والحَزَن ضد الفرحِ، وقال قومٌ: هما لغتان، يقال: أصَابهُ حُزْنٌ شديدٌ وحَزنٌ شديدٌ، إذا كان في مواضع النَّصب، فتحوا الحاء، والزَّاي كقوله: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً} [التوبة: 92] ، وإذا كان في موضع الرفع، والخفض فبضم الحاءِ، كقوله: {مِنَ الحزن} وقوله: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} قال: هما في موضع رفع بالابتداء.
و «كَضِيمٌ» يجوز أن يكون مبالغة بمعنى فاعل، وأن يكون بمعنى مفعول، كقوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] وبه فسَّرهُ الزمخشريُّ، فإن كان بمعنى الكَاظِم فهو الممسكل على حزنه فلا يظهره، وإن كان بمعنى المكظُومِ، فقال ابنُ قتيبةك «معناه المملوء من الهمّ، والحزن مع سدّ طريق نفسه المصدور، من كَظَمَ السِّقاء، إذا اشتدّ على ملئه، ويجوز أن يكون بمعنى مَمْلُوء من الغيظِ على أولاده» .
فصل
تقدَّم الكلام على الأسفِ، وأمَّا قوله: {وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} فقيل: إنَّه لما قال:(11/189)
{يا أسفا عَلَى يُوسُفَ} غلبه البُكَاءُ، وعند غلبةِ البُكاءِ يكثرُ الماء في العين، فتصير العينُ كأنها ابيضَّت من بياض ذلك الماءِ، فقوله: {وابيضت عَيْنَاهُ} كناية عن غلبة البكاءِ. رواه الواحدي عن ابن عبَّاسٍ. وقال مقاتلٌ: كناية عن العمى، فلم يبصر بهما شيئاً حتى كشفهُ اللهُ تعالى بقميص يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله: {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} [يوسف: 93] ، وقال: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً} [يوسف: 96] : ولأنَّ الحزن الدَّائم، يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمىح لأنَّه يوجب كُدُورة على سوادِ العين.
وقيل: ما عمي، ولكنَّه صار بحيثُ يدرك إدراكاً ضعيفاً؛ كما قال: [الطويل]
3134 - خَلِيليَّ إنِّي قَدْ غَشِيتُ مِنَ البُكَا ... فهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقلَةٌ اسْتَعِيرُهَا
قيل: ما صحَّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه، وتلك المدة ثمانون سنةن وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قولهك «تَفْتَؤ» هذا جواب القسم في قوله: «تَاللهِ» وهو على حذف لا أي: لا تفتؤ كقول الشَّاعر: [البسيط]
3135 - تَاللهِ على الأيَّامِ ذُو حَيَدٍ ... بمُشْمَخرِّ بِهِ الظَّيَّانُ والآسُ
أي: لا تبقى، ويدلُّ على حذفها: أنَّهُ لو كان مثبتاً؛ لاقترن بلام الابتداء ونون التَّوكيد معاً عند البصريين، أو إحداهما عن الكوفيين، وتقول: واللهِ أحبُّك: تريد لأحبك، وهو من التَّوريةِ، فإن كثيراً من النَّاس يتبادر ذهنه إلى إثباتِ المحبَّة، و «تَفْتَأ» هنا ناقصة بمعنى لا تزال.
قال ابنُ السِّكيت: «ما زِلتُ أفعله، ما فَتِئت أفعلهُ، ما بَرحْتُ أفْعَلُه، ولا يتكلم بهنَّ إلاَّ في الجحد» .
قال ابن قتيبة: «يقال: مَا فترت ومَا فَتِئت، لغتان، ومعناه: ما نسيته، وما انقطعتْ عنه» ، وإذا كانت ناقصة؛ فهي ترفع الاسم، وهو الضمير، وتنصب الخبر، وهو الجملة من قوله: «تَذْكرُ» أي: لا تزالُ ذاكراً له، يقال: ما فَتِىء زيدٌ ذاهباً؛ قال أوس بن حجرٍ: [الطويل]
3136 - فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارهَا ... سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِي ريَاحٍ تُرَفَّعُ
وقال أيضاً: [الطويل]
3137 - فَمَا فَتِئَتْ خَيلٌ تَثوبُ وتدَّعِي ... ويَلحَقُ منهَا لاحِقٌ وتُقطَّعُ(11/190)
وعن مجاهدٍ: لا تفتر؛ قال الزمخشريُّ: كأنه جعل الفُتُوء، والفُتُورَ أخوين، كما تقدَّم عن ابنِ قتيبة، وفيهما لغتان: «فَتَأ» على وزن «ضَرَبَ» ، و «أفْتَأ» على وزن «أكْرَمَ» ، ويتكون تامَّة بمعنى: «سَكَنَ وأطْفَأ» كذا قاله ابنُ مالكٍ.
وزعم أبُو حيَّان: أنه تصحيفٌ منه، وإنَّما هي فَثَأ بالثَّاءِ المثلثة، ورسمت هذه اللَّفظة «تَفْتَؤ» بالواو، والقياس «تَفْتَأ» بالألفن وكذلك يوقف لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخطِّ، والقياس.
قوله: «حَرَضاً» : الحَرَضُ: الإشفاءُ على الموت، يقال منه: حَرَضَ الرَّجلُ يحرُض حرضاً بفتح الرَّاء، فهو حرض بكسرهَا، فالحرض مصدر من هذه المادَّة فيجيء في الآية الأوجه التي في «رجُلُ عدلٌ» كما تقدم.
ويطلق المصدر من هذه المادَّة على: «الحُثث» إطلاقاً شائعاً؛ ولذلك يستوي فيه المفرد، والمثنى، والمجموع، والمذكر، والمؤنث، تقول: هو حرضٌ، وهما حرضٌ وهُم حَرَضٌ، وهي حَرَضٌ، وهُنَّ حَرَضٌ؛ ويقال: رجلٌ حُرُضٌ بضمتين، نحو: جُنُب، وشُلْل. ويقال: أحْرَضهُ كذا، أي أهلكهُ؛ قال: [البسيط]
3138 - إنِّي أمرؤُ لجَّ بِي حُبِّ فأحْرَضنِي ... حتَّى بَلِيتُ وحتَّى شَفَّنِي السَّقمُ
فهو مخرض. . قال الشَّاعر: [الطويل]
3139 - أرَى المَرْءَ كالأذْوَادِ يُصْبحُ مُحْرَضاً ... كإحْرَاضِ بكرٍ في الدِّيارِ مَريضِ
وقرأ بعضهم «حَرِضاً» بكسر الرَّاء.
وقال الزمخشريُّ: «وجاءت القراءة بهما جميعاً» يعنى بفتح الراء، وكسرها.
وقرأ الحسن: «حُرُضاً» بضمتين، وقد تقدَّم أنه ك: «جُنُبٍ، وشُلُلٍ» ، وزاد الزمخشريُّ: وغُرُب «.
وقال الراغب: الحَرَض: ما لا يعتدُّّ به، ولا خيرَ فِيهِ، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك: حَرَض، قال تعالى: {حتى تَكُونَ حَرَضاً} [يوسف: 85] ، وقد أحرصهُ كذا قال الشَّاعر: [البسيط](11/191)
3140 - إنِّي امْرُؤٌ لجَّ بِي همٌّ فأحْرَضْنِي ... والحُرْضَة: من لا يأكل إلاَّ لحم الميسر لنذالتهِ، والتَّحريضُ: الحثُّ على الشَّيء بكثرة التَّزيينِ، وتسهيل الخطب فيه، كأنَّه إزالة الحرض نحو: قَذَّيتُه، أي: أزلتُ عنه القَذَى، وأحرضتهُ: أفسدتهُ، نحو: أقذيتهُ: إذا جعلت فيه القَذَى «انتهى» .
والحُرُضُ: الأشنانُ، لإزالته الفساد، والمِحْرضَة: وعاؤه، وشذوذها كشذوذ: مُنْخُل، ومُسْعُط، ومُكْحُلة.
وحكى الواحديُّ عن أهل المعاني: أنَّ أصل الحَرَض: فساد الجسم، والعقل للحزن، والحبِّ، وقولهم: حرَّضتُ فلاناً على فلانٍ، تأويله: أفسدته وأحميته عليه، قال الله تعالى: {حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} [الأنفال: 65] .
وإذا عرفت هذا فوصف الرَّجُل بأنه حرض إمَّا أن يكون المراد منه: ذو حرض فحذف المضاف، أو المراد منه: أنَّه لما تناهى في الفسادِ، والضعفح فكأنَّه صار عين الحرض، ونفس الفسادِ، وأمَّا الحَرِض بكسر الراء فهو الصِّفة كما قرىء بها وللمفسِّرين فه عباراتُ:
أحدها: الحَرَض، والحَارِضُ، وهو الفساد في جسمه، وعقله.
وثانيها: قال نافع بن الأزرق: سئل ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فقال: الفاسد الرَّأي.
وثالثها: أنه هو الذي يكون لا كالأحياء، ولا كالأموات.
وذكر أبو روق أنَّ أنس بن مالك قرأ: {حتى تَكُونَ حَرَضاً} بضمِّ الحاء وسكن الرَّاء.
ثم قال تعالى: {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} من الأموات، والمعنى: لا تزال تذكر يوسف بالحزن، والبكاء عليه حتى تصير بحث لا تنتفع بنفسك، أو تموت من الغمّ،
وأرادوا بذلك منعه من كثرةِ البُكاءِ، والأسف.
فإن قيل: لم حلفوا على ذلك مع أنَّهم لم يعلموا ذلك قطعاً؟ .
فاالجواب: أنَّهم بنوا الأمر على الظَّاهر.
قال المفسِّرون: القائل هذا الكلام، وهوقوله: {تالله تفتؤ تذكر يوسف} هم إخوة يوسف، وقال بعضهم: ليسوا الإخوة، بل الجماعة الذين كانوا في الدَّار من أولاده وخدمه، فقال يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} والبَثُّ: أشدُّ الحزن، كأنَّه لقوته لا يطاق حمله، فيبثه الإنسان، أي: يفرِّقه، ويذيعه وقد تقدَّم [آل(11/192)
عمران: 186] أنَّ أصل هذه المادَّة الدلالة على الانتشار، وجوَّز فيه الرَّاغب هنا وجهين:
أحدهما: أنه مصدر في معنى المعفولِ، قال: «أي: غمّي الذي يبثه عن كتمانٍ، فهو مصدر في تقدير مفعول، أو يعني غمِّي الذي بثَّ فكري، فيكون في معنى الفاعل» .
وقرأ الحسن وعيسى «وحَزَنِي» بفتحتين، وقتادة بضمتين، وقد تقدم.
فصل
المعنى: أن يعقوب عليه السلام لما رأى غلظتهم، قال: إنَّما أشكو شدَّة حزني إلى الله، وسمَّى شدَّة الحزن بثًّا؛ لأنَّ صابحه لا يبصر عليه حتى يبثه، أي: [يظهره] .
وقال الحسن: بَثِّي، اي: حاجتي، والمعنى: أنَّ هذا الذي أذكره لا أذكره معكم، وإنَّما أذكره في حضرةِ الله تعالى والإنسان إذا ذكر شكواه إلى الله تعالى كان ف يزمرة المحققين.
وروي أنَّهُ قيل له: يا يعقوبك ما الذي أذهب بصرك، وقوَّص ظهرك؟ قال: أذهب بصري بكائي على يوسف، وقوس ظهري حزني على أخيه؛ فأوحى الله إليه: أتشكوني وعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني، فعند ذلك قال: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} ثم قال: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: أعلمُ من رحمته وأحسانه ما لا تعلمون، وهو أنَّه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسبه، وهو إشارة إلى أنه كان يتوقَّع رجوع يوسف إليه، وذكروا لسبب هذا التوقع وجوهاً:
أحدها: أنَّ مالك الموت أتاهُ فقال له: يا مالك الموت! هل قبضت روح ابني يوسف قال: لا يا نبيَّ الله، ثمَّ أشار إلى جانب مصر، وقال: اطلبهُ هاهنا.
وثانيها: أنه علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنَّها صادقةٌ، وأنا وأنتم سنسجد له.
وثالثها: لعلَّه تعالى أوحى إليه أنَّه سيوصله إليه، ولكنَّه تعالى ما عيَّن الوقت؛ فلهذا بقي في القلب.
ورابعها: قال السديُّ: لما أخبره بنوه بسيرة الملك، وحاله في أقواله، وأفعاله؛ طمع أن يكون هو يوسف، وقال: لا يبعدُ أن يملك الكفَّار مثلُ هذا.
وخامسها: علم قطعاً أن بنيامين لا يسرقُ، وسمع أنَّ الملك ما آذاه، ولا ضربه؛ فغلب على [ظنه] أنَّ ذلك الملك هو يوسف عليه السلام، فعند ذلك قال: {يا بني اذهبوا تحسّسوا من يوسف وأخيه} أي: استقصوا خبره بحواسِّكم، والتَّحَسُّسُك لطب الشَّيء بالحاسَّة.
قال ابنُ الأنباريِّ «يقالُ: تَحَسَّسْتُ عن فلانٍ، ولا يقال: من فلان، وقيل: ههنا من(11/193)
يوسف؛ لأنه أقيم:» مِنْ «مقام:» عَنْ «قال: ولا يجوز أن يقال:» مِنْ «للتعبيض، والمعنى: تحَسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف، واستعملوا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة» مِنْ «لما فيها من الدلالة على التبعيض» .
والتحسُّسُ: يكون في الخيرِ والشَّر، وقيل: بالحاء في الخير، وبالجيم في الشَّر، ولذلك قال هاهنا: «فتَحَسَّسُوا» ، وفي الحجرات: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} [الحجرات: 12] .
وليس كذلك فإنه قد قرىء بالجميم هنا.
ثم قال: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} وتقدَّم الخلاف في قوله: {وَلاَ تَيْأَسُواْ} .
وقرأ الأعرج: «ولا تَيْسُوا» وقرأ العامة: «رَوْحِ اللهِ» بالفتح، وهو رحمته وتنفيسه.
قال الأصمعيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «الرَّوحُ ما يجدهُ الإنسان من نسيم الهوى، فيسكن إليه، وتركيب الرَّاء، والواو، والحاء يفيد الحركة، وهو الاهتزازُ، فكلُّ ما يهتزُّ له الإنسان، ويلتذُّ بوجوده فهو روح» .
قال ابن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: {لا تيأسو من روح الله} أي من رحمته وعن قتادة من فضل الله، وقيل: مِن فَرِجِِ اللهِ.
وقرأ الحسن، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بضمِّ الراء.
قال الزمخشريُّ: «لا تَيْأسوا، أي: من رحمته التي يحيى بها العباد» .
وقال ابن عطية: وكأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه يرجى؛ ومن هذا قول الشاعر: [الطويل]
3141 - ... ... ... ... ... ... ... ... وفِي غَيْرِ من قَدْ وَارتِ الأرضًُ فاطْمَعِ
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص: [مخلع البسيط]
3142 - وكُلُّ ذِي غيبَةٍ يَئُوبُ ... وغَائِبُ المَوتِ لا يَئُوبُ(11/194)
وقرأ أبي: مِنْ رحْمةِ اللهِ، و «عِنْدَ اللهِ» : «مِنْ فضلِ الله» تفسير لاتلاوة.
وقال أبو البقاء: «والجمهور على فتح الرَّاء، وهو مصدر في معنى الرَّحمة إلا أنَّ استعمال الفعل منه قليل، وإنِّما يستعمل بالزِّيادة، مثل أراح، ويقرأ بضمِّ الرَّاء، وهي لغةٌ فيه، وقيل: هو اسم للمصدر، مثل الشُّربِ والشَّرب» .
ثم قال: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} قال ابن عبَّاس: إن المؤمن من من الله على خير يرجوه في البلاءِ، ويحمده في الرَّخاء. واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصلُ إلاَّ إذا اعتقد الإنسان أنَّ إله العالم غير قادر على الكمالِ، أو غير عالم بجميع المعلوماتِ، أو ليس بكريمٍ، بل هو بخيلٌ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، والمعنى: أنَّ اليأس لا يحصل إلاَّ لمن كان كافراً، والله أعلم.
فصل
روي عن عبد الله بن يزيد بن أبي فروة: أنَّ يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين حبس بنيامين:
«من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله صلوات الله وسلامه عليه إلى ملك مصر، أما بعد:
فإنا أهلُ بيتٍ، وكل بناء البَلاءُ، أما جدّي إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فشُدَّتْ يداه، ورجلاه، وألقي في النَّار؛ فجلعها الله عليه برداً وسلاماً، وأمَّا أبي فشدَّت يداه ورجلاه، ووض السِّيكن على قفاه؛ ففداه الله، وأمَّا أنا فكان لي ابنٌ، وكان أحبَّ أولادي إليّ، فذهب به إخوته إلى البرِّيةِ، ثم أتوني بقيمصه ملطّخاً بالدَّم، فقال: أكله الذِّئب؛ فذهبت عيناي، ثمَّ كان لي ابن، وكان أخاه من أمه، وكنت أتسلى به، وأنِّك حبسته، وزعمتَ أنَّه سرق، وأنَّا أهل بيتٍ لا نسرقُ، ولا نَلِدُ سَارقاً، فإن ردَدْتَهُ عليّن وإلاَّ دَعوتُ علَيْكَ دعْوة تُدرِكُ السَّابعَ من وَلدِك» .
فلما قرأ يوسف لم يتمالك البُكاء، [وعيل] صبره، وأظهر نفسه على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب: في الآية سؤالات:(11/195)
الأول: أنَّ بلوغ يعقوب في محبة يوسف إلى هذا الحدِّ العظيم لا يليقُ إلا لمنْ كان غافلاً عن الله تعالى؛ لأنَّ من عرف اللهِ؛ أحبه، من أحبَّ اللهَ لم يتفرغْ قلبه بحب شيءٍ سوى اللهِ تعالى وأيضاً: القلبُ الواحدُ لا يسع الحب المستغرب لشيئين، فلمَّا كان قلبه مستغرقاً ف يحبّ ولده؛ امتنع أن يقال: إنَّه كان مستغرقاً في حبّ الله تعالى؟ .
السؤال الثاني: أنّضه عند استيلاء الحزن الشَّديد عليه؛ كان من الواجب عليه أن يشتغل بذكر اللهِ تعالى والتفويض، والتَّسليم لقضائه.
وأما قوله: {يا أسفا على يوسف} ، فذلك لا يليقُ بأهل الدِّين والعلم فضلاً عن أكابرِ الأنبياء صلواتا لله وسلامه عليهم أجمعين؟ .
السؤال الثالث: لا شكّ أن يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه، وجده، وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الأنبياء ومن كان كذلك، ثم وقعت له واقعةٌ هائلة في أعزِّ أولاده، لم تبق تلك الواقعة خفيَّة، بل لا بدَّ، وأن تبلغ في الشُّهرة إلى حيث يعرفها كل أحدٍ، لا سيما، وقد انقضت المدَّة الطويلة فيها، وبقي يعقوب على حزنه الشديد، وأسفه العظيم، وكان يوسف في مصر، وكان يعقوب في بعض [بوادي] الشَّام قريباً من مصر، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة خفية.
السؤال الرابع: لِمَ لَمْ يبعث يوسف إلى يعقوب ويعلمه أنَّه من الحياة صلاة الله عليهما وفي السِّلامة ولا يقال: إنه كان يخاف إخوته؛ لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً يمكنه إرسال الرسول إليه، وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع رسوله؟ .
السؤال الخامس: كيف جاز ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يضع الصَّواعَ في وعاءٍ أخيه، ثم يستخرجه ويلصقُ به تهمة السرقة مع أنَّه كان بريئاً عها.
السؤال السادس: كيف رغب في إلصاق هذه التُّهمة له، وحبسه عند نفسه مع أنَّهُ كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى؟ .
والجواب عن الأول: أنَّ مع مثل هذه المحبة الشَّديدة يكون كثير الرُّجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدُّعاء، والتضرُّع، وذلك يكون سبباً لكما الاستغراق وعن الثاني: أنَّ الداعية الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة، فتارة كان يقول {يا أسفى على يوسف} وتارة كان يقول: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} وأما بقية الأسئلة، فالقاضي أجاب عنها فقال: هذه الوقائعُ الَّتي نقلت إلينا إمَّا أن يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لايمكن، فإن كان الأوَّل، فلا إشكالَ وإن كان الثاني فنقول: كان الزَّمان زمان الأنبياء، وخرق العادة في ذلك الزمان غير مستبعدٍ، فلم يمتنع أن يقال: إنَّ(11/196)
بلدة يعقوب مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل يقتضي العلم.(11/197)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يا أيها العزيز} الآية اتفق المفسِّرون على أنَّ هنا محذوفاً، وتقديره: فخرجوا راجعين إلى مصر، ودخلوا على يوسف، فقالوا: يا أيُّها العزيزُ.
فإن قيل: إذا كان يقعوب أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه، فلم عادوا إلى الشكوى؟ .
فالجواب: أنَّ المتحسِّسَ يصل إلى مطلوبه بجميع الطُّرقِ، والاعترافِ باِلعجز، وضموا رقَّة الحال، وقلَّة المال، وشدَّة الحاجة، وذلك ممَّا يرقِّقٌ القلب، فقالوا: نُجرِّبهُ في هذه الأمورِ، فإن قلبه لنا ذكرنا له المقصود، وإلا سكتنا، فلهذا قدَّموا ذكر فقالوا: «أيُّها العزيزُ» والعزيزُ: الملكُ القادرُ الممتنع: «مسَّنَا وأهْلنَا الضُرُّ» وهو الفقر، والحاجة، وكثرة العيال وقلَّة الطَّعام، وعنوا بأهلهم من خلفهم.
قوله: «مُزجَاةٍ» أي مدفوعة يدفعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها، ومنه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً} [النور: 43] أي: يسوقها بالريح؛ وقال حاتم [الطويل]
3143 - لِيًَبْكِ على مِلحَان ضَيْفٌ مُدفَعٌ ... وأرْمَلةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أرْمَلاَ
ويقال: أزْجيتُ رَدِيء الدرهم فزُجِي، ومنه استعير زَجَا الجِرَاح تزْجُوا زجاً وجراح زَاج. وقول الشاعر: [البسيط]
3144 - وحَاجَةٍ غَيْرِ مُزْجاةٍ مِن الحَاجِ ... أي: غير يسيرة يمكنُ دفعها، وصرفها لقلَّة الاعتداد بها، فألف «مُزجَاةٍ» منقلبة عن واو.(11/197)
فصل
وإنَّما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إمَّا لنقصها، أو لدناءتها أو لهما جميعاً، قال بعضهم: المُزْجَاةُ القليلة. وقيلك كانت رَدِيئةً.
وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطَّعام وقيل: أمتعة رديئة. وقيل: متاع الأعراب الصُّوفُ والسَّمْن. وقيل: الحبة الخضراء، وقيل: الأقط، وقيل: النعال والأدم، وقيل: سويق المقل.
وقيل: إنَّ الدَّراهم كانت منوقشة عليها صورة يوسف، والدَّراهم الَّتي جاؤا بها، ما كان فيها صورة يوسف.
وإنَّما سيمت البضاعة القليلة الرَّديئة مزجاة، قال الزجاج: من قولهم: فلانٌ يزْجِي العَيْشَ، أي: يدفع الزَّمان بالقليلِ، أي: إنَّا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزَّمان، وليست مما ينتفعُ بها، وعلى هذا فالتقديرُ ببضاعة مزجاةٍ ندافع بها الأيام.
قال أبو عبيد: إنَّما قيل للدَّراهم الرّّديئةِ مزجاة؛ لأنَّها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممَّن ينفقها، قال: وهي من الإزجاء، والإزجاء عند العرب: الدَّفعُ.
وقيل: مزجاة، أي: مؤخرة مدفوعة عن الإنفاقِ لا يقبل مثلها إلاَّ من اضطر، واحتاج إليها لفقد غيرها ممَّا هو أجود مها.
وقال الكلبيُّ: «مزجاة لغة العجم، وقيل: هي من لفظ القِبْطِ» .
قال ابن الأنباريي: لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق منسوباً إلى القبط.
وقرأ حمزة والكسائي: «مُزْجَاةٍ» بالإمالة؛ لأن اصله الياء، والباقون بالفتح والتفخيم.
ثمَّ لما وصفوا شدَّة حالهم، ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له: «فأوْفِ لنَا الكيْلَ: يجوز أن يراد به حقيقة من الآلة، وأن يراد به الكيل، فيكون مصدراً، والمعنى إنَّا نريدٌ أن نقيم النَّاقص مقام الزَّائد أو نقيم الرَّديء مقام الجيِّد.
{وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} : أي تفضل علينا بما بين الثمنين الجيّد، والرَّديء، وسامحنا ولا تنقصنا.
وقال ابن جريج، والضحاك، أي: تصدَّق علينا بردِّّ أخينا لنا: {إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} يثيب المتصدقين.(11/198)
قال الضحاك: لم يقولوا: إنَّ الله يجزيك؛ لأنَّهم لم يعلموا أنَّه مؤمنٌ.
وسُئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على نبيّ من الأنبياء سوى نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه؟ .
قال سفيان: ألم تسمع قوله: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} .
يريد: أنَّ الصَّدقة كانت حلالاً لهم، وأنكر الباقون ذلك، وقالوا: حالُ الأنبياء وحالُ أولادِ الأنبياء في طلب الصَّدقة سواء؛ لأنَّهم يأنفون من الخضوع إلى المخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله، والاستغناء به عمَّنْ سواه.
وروي عن الحسنِ ومجاهدٍ: أنَّهما كرها أن يقول الرَّجل في دعائه: اللَّهُمَّ تصدَّق علينا، قالوا: لأنَّ الله لا يتصدَّق، وإنَّما التَّصدُّق بمعنى الثَّواب، وإنما يقول اللَّهُمَّ أعطني وتفضَّل علينا.
فصل
قال القرطبيُّ: «استدلًَّ العلماء بهذه الآية على أنَّ أجرة الكيال على البائع، لقولهم ليسوف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» فأوْفِ لَنَا الكَيْلَ «فكان يوسفُ هو الذي يكيل، وكذلك الوزَّانُ، العدَّادُ وغيرهم؛ لأنَّ الرَّجُلَ إذا باع عدّة من طعامه معلومة، وأوجب العقد عليه؛ وجب عليه أن يبرزها، ويُمَيِّز حقَّ المشتري من حقِّه إلا إن كان المبيعُ فيه معيناً صبره، أو ما ليس فيه حق موفيه، فيخلي ما بينه وبينه، وما جرى على المبيع فهو ضمان المبتاع، وليس كذلك ما يتعلَّق به حقُّ موفيه من كيل أو وزنٍ، ألا ترى: أنَّه لا يستحقُّ البائع الثمن إلاَّ بعد التَّوفية، كذلك أجرة النقد على البائع أيضاً؛ لأنَّ المتباع الدَّافع لدراهمه يقول: إنَّها طيبة فأنت الذي تدّعي الرَّداءة، فانظر لنفسك، فيقع له فكان الأجرُ عليه، وكذلك لا يجبُ أجرة القاطع على من يجب عليه القصاص لأنه لا يجب عليه أن يقطع نفسه، ولا أن يمكن من ذلك طائعاً؛ ألا ترى أنَّ فرضاَ عليه أن يفدي يده، ويصالح عليه، إذا طلب المقتص ذلك.
وقال الشَّافعيُّ: إن الأجرة على المقتص منه كالبائع؛ لأنَّه يجب عليه تسليم يده.
فصل
روي: أنهم لما قالوا: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} وتضرَّعُوا إليه، أدركته الرِّقَّة، فارفضَّ دمعه، فباح الذي كان يكتمُ، فقال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} وقيل: دفعوا إليه(11/199)
كتاب يعقوب، فلما قرأ الكتاب ارتعدت مفاصله واقشعرَّ جلدهُ، ولانَ قلبه، وكثر بكاؤه؛ فصرح بأنه يوسف.
قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ} يجوز أن تكون استفهامية للتَّوبيخ، وهو الأظهر وقيل: هو خبر و» هَلْ «بمعنى» قَدْ «.
وقال الكلبيُّ: «إنما قال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} حين حكى لإخوته أنَّ مالك بن دعر قال: إنِّي وجدت غلاماً في بئر من حلاعه كَيْتَ وكيْتَ فأبتعته بكذا وكذا درهماً، فقالوا أيُّها الملك: نحن بِعْنَا ذلك الغلام منه؛ فغاظ يوسف عليه السلام ذلك، وأمر بقتلهم، فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولى يَهُوذا وهو يقول: كان يعقوب قد حزن لِفقْدِ واحدة منَّا حتَّى كفَّ بصره، فكيف إذا أتاهُ قتل بنيه كلِّهم، ثم قالوا له: إن فعلت ذلك، فابعثْ بأمتعتنا إلى أبينا، فإنَّه بمكان كذا وكذا، فذلك حين رحمهم وبكى، وقال ذلك القول» .
وفي هذه الآية تصديق قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] ، وأمَّا قوله: «وَأخِيهِ» فالمراد ما فعلتم من تعريضه للغمِّ بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وامِّه، وأيضاًك كانوا يؤذونه، ومن جملة الإيذاء، قالوا في حقه: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] وأما قوله: {إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} فهو يجرى مجرى الغدرِ لهم كأنه قال: أنتم أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال كونكم من حالة الصِّبا، وفي جهالة الغرور، يعني: والآن لستُم كذلكن ونظيره قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} [الانفطار: 6] وقيل: إنما ذكر تعالى ذلك الوصف ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب، فيقول العبدُ: يا ربِّ غرَّنِي كرَمُكَ، فكذا ههنا إنَّما قال لهم يوسف ذلك الكلام إزالة للخجل عنهم، وتخفيفاً للأمر عليهم.
وقيل: المعنى: إذ أنتم جاهلون بما يئول إليه أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه. فإن قيل: كيف قال: {مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} ، ولم يكن منهم إلى أخيه شيء، ولم يسعوا في حبسه؟ .
قيل: هو قولهم حين أخرجوا الصواع من رحله، ما رأينا منكم يا بني راحيل إلاَّ البلاء.
وقيل: تفريقهم بينه، وبين أخيه يوسف، وكانوا يؤذونه بعد فقد يوسف.
قوله: «أئِنَّكَ» قرأ ابن كثير، وأبو جعفر: «إنَّكَ» بهمزة واحدة على الخبر(11/200)
والباقون بهمزتين استفهاماً، وقد تقدَّم قراءتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً، وتسهيلاً وغير ذلك، فأمَّا قراءة ابن كثير، فيحتمل أن تكون خبراً محضاً واستبعد هذا من حيث تخالف القراءتين مع أنَّ القائل واحد.
وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضهم قاله استفهاماً، وبعضهم قاله خبراً، ويحتمل أن يكون استفهاماً حذف منه الأداة لدلالة السِّياق، والقراءة الأخرى عليه، وقد تقدَّم نحو هذا في الإعراب.
وقرأ أبيّ (أَوَأَنْتَ يوسف) فمن قرأ بالاستفهما قالوا: إنَّ يوسف لما قال لهم: {هل علمتم ما فعلتم} تبيَّنوا يوسف، فأبصروا ثناياه كاللّؤلؤ المنظُوم.
وروى الضحاكُ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما لما قال هذا القول تبسَّم فرأوْا ثناياه كاللّؤلؤن فشبهوه بيوسف، ولم يعرفوه، فقالوا استفهاماً: {أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ} ويدلُّ على أنه استفهام قوله: «أنَا يُوسفُ» ، وإنَّما أجابهم عما اسْتَفْهَمُوا عنه، ومن قرأ على الخبر فحجته ما روى الضحاك عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّه قال: إنَّ أخوة يوسف لم يعرفوه حتّى وضع التَّاج عن رأسه، كان في قرنه شامة وكان لإسحاق، ويعقوب مثلها تشبه التَّاج عرفوه بتلك العلامة.
وقال ابن إسحاقك «كان يتكلَّم من وراء ستر، فلما قال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} رفع الحجاب فعرفوه» وقيل: قالوه على التَّوُّهمِ.
«واللام في:» لأنْتَ «لام الابتداء، و» أنْتَ «مبتدأ، و» يُوسفُ «خبره والجملة خبر» إنَّ «ويجوز أن تكون» أنْتَ «فصلاً، ولا يجوز أن يكن تأكيداً لاسم» إنَّ «لأنَّ هذه اللام لا تدخل على التوكيد» .
وقرأ أبي: (أئنك أو أنت يوسف) وفيها وجهان:
أحدهما: قال أبُوا الفتح: إنَّ الأصل: أئنك لغير يوسف، أو أنت يوسف فحذف خبر «إن» لدلالة المعنى عليه.
والثاني: ما قاله الزمخشريُّ: المعنى: أئنَّك يوسف، أو أنت يوسف فحذف الأول لدلالته، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرِّر الاستثبات فقال: {أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي} وإنَّما صرَّح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته، وما عوضه الله من الظَّفر والنَّصر، فكأنه قال: أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه، والله أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك العاجزُ الذي قصدتم قتله، وإلقاءه في الجبِّ، ثمَّ صرتُ كما ترون، ولهذا قال: «وهَذا أخِي» مع أنَّهم كانوا يعرفونه؛ لأن مقصوده أن يقول: وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت، ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله كما ترون. {قَدْ مَنَّ الله(11/201)
عَلَيْنَآ} قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بكلِّ عزِّ في الدنيا والآخرة. . وقيل: بالجمع بيننا بعد الفرقة.
قوله: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} قرأ قنبل «يتقي» بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها فيهما.
فأمَّا قراءة الجماعة فواضحة؛ لأنَّه مجزومٌ، وأمَّا قراءة قنبلٍ، فاختلف فيها النَّاس على قولين:
أحدهما: أنَّ إثبات حرف العلَّة في الجزم لغة لبعض العرب؛ وأنشدوا: [الوافر]
3145 - أَلَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيَادِ
وقول الآخر: [البسيط]
3146 - هَجَوْتَ زبَّات ثُمذَ جِئتَ مُعْتَذِراً ... مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولَمْ تَدعِ
وقول الآخر: [الرجز]
3147 - إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطلِّقِ ... ولا تَرضَّاهَا ولا تَملَّقِ
وقول الآخر: [الرجز]
3148 - إنِّي إذَا مَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ ... واضْطَربَ القَوْمَ اضطرابَ الأرْشِيَهْ
هُنَاكَ أوْصِينِي ولا تُوصِي بِيَهْ
ومذهب سيبويه: أنَّ الجازم بحذف الحركة المقدرة، وأنَّما تبعها حرف العلَّة في الحذف تفرقة بين المرفوع، والمجزوم.
واعترض عليه: بأنَّ الجازم يبين أنَّه مجزوم، وعدمه يُبيِّنُ أنه غيرُ مجوزم.
وأجيب: بأنه ف بعض الصُّورِ يلتبس فاطرد الحذف، بيانه: أنَّك إذا قلت «زُرْنِي أعْطِتكَ» بثبوت الياءِ، احتمل أن يكون «أعْطِيكَ» جزاء الزيارة، وأن يكون خبراً مستأنفاً، فإذا قلت: «أعْطِكَ» بحذفها تعين أن يكون جزاء له؛ فقد وقع اللَّبس بثبوت حرف العلِّة،(11/202)
وفقد بحذفه، فيقالُ: حرف العلَّة يحذف عند الجازمِ لا به.
ومذهب ابنِ السَّراجك أنَّ الجازم أثَّر في نفس الحرف فحذفه، وفيه البحثُ المتقدم.
والثاني: أنَّه مرفوعٌ غير مجزومٍ و «مَنْ» موصولةٌ، والفعل صلتها؛ فلذلك لم يحذف لامه.
واعترض على هذا بأنَّهُ قد عطف عليه مجزوم وهو قوله: «ويَصْبِرْ» فإنَّ قُنْبُلاً لم يقرأ إلا بإسكان الرَّاء.
وأجيب عن ذلك: بأنَّ التَّسكين لتوالي الحركات، وإن كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] ، و {يَأْمُرَكُمْ} [آل عمران: 80] ، وأجيب أيضاً: بأنه جزم علكى التوهم يعني لما كانت «مَنْ» الموصولة تشبه «مَنْ» الشرطية، وهذه العبارة فيها غلظ على القرآن، فينبغي أن يقال فيها مراعاة للشَّبهة اللَّفظي، ولا يقال للتَّوهُّم.
وأجيب أيضاً: بأنه سكن للوقف ثم أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
وأجيب أيضاً: بأنه إنما جزم حملاً ل «مَنْ» الموصولة على «مَنْ» الشَّرطيَّة؛ لأنَّها مثلها ف يالمعنى، ولذلك دخلت [الفاء] في خبرها.
قال شهابُ الدِّين: وقد يقالُ على هذا: يجوز أن تكون «مَنْ» شرطيَّة، وإنَّما ثبتت الياء، ولم تجزم «من» لشبهها ب «مَنْ» الموصولة ثمَّ لم يعتبر هذا الشبه في قوله: «ويَصْبِرْ» ، فلذلك جزمه، إلاَّ أنه يبعد من جهة أنَّ العامل لم يؤثر فيما بعده، ويليه، ويؤثر فيما هو بعيد منه، وقد تقدَّم الكلام على مثل هذه المسألة أوَّل السُّورة في قوله: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] .
وقوله: {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ} الرَّابطُ بين جملة الشَّرط، وبين جوابها: إمَّا العموم في «المُحْسِنيِنَ» ، وإمَّا الضمير المحذوف، أي: المحسنين منهم، وإمَّا لقيام: «ألْ» مقامه، والأصل: محسنيهم، فقامت «ألْ» مقام ذلك الضَّمير.
فصل
معنى الآية: من يتَّق معاصي الله، ويصبر على أذى النَّاسِ.
وقيل: من يتَّق بأداء الفرائض، واجتناب المعاصي ويصبر على ما حرم الله عليه.
وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يتّقي في الزِّنا، ويصبر على العُزوبةِ، وقال مجاهدٌ: يتقي المعصية، ويصبر على السجن.
{فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} قال ابن الخطيب: «واعلم أنَّ يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشَّريف بكونه متقِياً، ولو أنه أقدم على المعصية كما(11/203)
قالوه في حق زليخا، لكان هذا القول كذباً منه، وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر، ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء» .
قوله
: {تالله
لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} أي تفضَّل عليك، والإيثارُ: التفضيل بأنواع جميع العطايا، آثرهُ يُؤثِرهُ إيثَاراً، وأصله من الأثر، وهو تتبع الشيء، فكأنه يَسْتقْصٍي جميع أنواع المَكارمِ، وفي الحديث: «سَتكُون بعدي أثرةٌ» أي: يستأثر بعضكم على بعض، ويقال: اسْتأثَر بكذا، أي: اختص به، واستأثر اللهُ بفلان، كناية عن اصطفائه له.
وقال الشاعر: [الرجز]
3149 - واللهُ اسْماكَ سُماً مُبَاركَا ... آثَركَ الله بِهِ إيثَاركَا
قال الأصمعيُّ: يقالُ: آثَرَكَ الله إيثاراً، أي: فضَّلك، والمعنى: لقد فضلك الله علينا بالعلمِ، والعملِِ، والحسنِ، والملكِ.
فصل
احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ إخوة يوسف ما كانوا أنبياء؛ لأنَّ جميع المناصب المغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنِّسبة لمنصب النُّبوة لما قالوا: {تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} ، وعلى هذا يذهب سؤال من يقول: آثره عليهم بالملك، وإن شاركوه في النبوة؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ سائر المناصب لا تعتبر في جنب منصب النُّبوًَّة.
ثم قالوا: {وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} والخَاطِىءُ: هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وهذا هو الفرقُ بين الخَاطىءِ، ولهذا يقالُ للمُجْتهدِ الذي لمْ يُصِبْ أنَّهُ مخطىءٌ، ولا يقال: إنه خاطىءٌ.
فصل
أكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجُبِّ وبيعه وتبعيده عن أبيه.
وقال أبو عليّ الجبائيٌّ: لم يعتذروا من ذلك؛ لأنَّ ذلك كان منهم قبل البلوغ، فلا يكون ذنباً، فلا يعتذر منه، وإنَّما اعتذروا من حيثُ إنهم أخطئوا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنَّه حي، وأنَّ الذِّئب لم يأكله.
وأجاب ابنُ الخطيب عن ذلك: «بأنَّه لا يجوز أن يقال: إنهم أقدموا على ذلك الفعل في زمن الصِّبا؛ لأنه من البعيد في [مثل] يعقوب جمعاً غير بالغين من(11/204)
غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عمَّا لا ينبغي، ويحملهم على ما ينبغي» .
قوله: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} عليكم يجوز أن يكون خبر «لاَ» و «اليَوْمَ» يحتمل أن يتعلق بما تعلَّق به هذا الخبر أي: لا تثريب مستقرٌ عليكم ويجوز أن يكون «اليَوْمَ» خبر «لاَ» ، و «عَليْكُمْ» متعلق بما تعلق به هذا الظرف ويجوز أن يكون: «عليكم» صفة لاسم: «لا» ، و «اليَوْمَ» خبرها أيضاً ولا يجوز أن يتعلق كل من الظرف، والجار ب: «تَثْرِيب» ؛ لأنه يصيرُ مطولاً شبيهاً بالمضاف ومتى كان كذكل أعرب ونُوِّن، نحو: «لا خَيْراً من زَيْدٍ عندكَ» ويزيدُ عليه الظرف بأنه يلزم الفصل بين المصدر المؤول بالموصول، ومعموله بأجنبي وهو: «عَليْكُمْ» لأنه إما خبر وإما صفة.
وقد جوَّز الزمخشريُّ: أن يكون الظَّرف متعلقاً ب: تَثْرِيبَ «فقال: فإن قلنا: بم يتعلق» اليوم «؟ قلت: بالتثريب، أو بالمقدر في» عَليْكُم «من معنى الاستقرار أو ب: يَغْفِرُ» ، فجعله أنه متعلق ب «تَثْرِيب» وفيه ما تقدَّم.
وقد أجرى بعضهم الاسم العامل مجرى المضاف لشبهه به، فنزع ما فيه من تنوين أو نون؛ وجعل الفارسيُّ من ذلك قول الشاعر: [الطويل]
3150 - أرَانِي ولا كُفْرانَ للهِ أيَّةً ... لِنفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنِيلِ
قال: فإية منصوب ب: «كُفْرانَ» أي: أكفر الله أية لنفسي، ولا يجوز أن تنصب «أيَّةً» ب: «أوَيْتُ» مضمراً، لئلا يلزم الفصل بين مفعولي: «أرَى» بجملتين أي: ب «لاَ» ، وما في خبرها، وب «أوَيْتُ» المقدرة، ومعنى «أوَيْتُ» رققت وجعل منه بانُ مالكٍ ما جاء في الحديث: «لا صُمْتَ يومٌ إلى اللَّيلِ» برفع «يَوْمٌ» على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحل لحرف مصدريّ، وفعل مبني للمعفول وفي بعض ما تقدَّم خلافٌ، وأمَّا تعليقه بالاستقرار المقدَّر فواضح، ولذلك وقف أكثرُ القراء عليه، وابتدأ ب: «يَغفِرُ اللهُ لكُمْ» وأما تعليقه ب: «يَغْفِرُ» فواضحٌ أيضاً ولذلك وقف بعض القراء على: «عَليْكُمْ» ، وابتدأ: «اليَوْم يغفرُ اللهُ لكُمْ» وجوَّزوا أن يكون خبر: «لا» محذوفاً، و «عَلَيْكُمْ» ، و «اليَوْمَ» كلاهما متعلقان بمحذوف آخر يدلُّ عليه: «تَثْريبَ» ، والتقدير: لا تثريبَ يتثرب علكيم اليوم كما قدروا في: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43] لا عاصم يعصمُ اليوم.
قال أبو حيَّان: «لو قيل به لكان قويًّا» ، وقد يفرَّق بينهما: بأنّ هنا يلزم كثرة المجاز، وذلك أنَّك تحذف الخبر، وتحذف هذا الذي تعلق به الظرف وحرف الجر،(11/205)
وتنسب الفعل إليه، لأنَّ التثريب لا يثرب إلا مجازاً، كقولهم: «شِعرٌ شاعرٌ» بخلاف: «لا عَاصِمَ يَعْصِم» فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة، فهناك حذف شيءٍ واحد من غير مجاز، وهنا حذف شيئين مع مجاز.
والتَّثْرِيبُ: العَتبُ، والتَّأنيب، وعبَّر بعضهم عنه بالتَّعيير من عيَّرته بكذا إذا عتَبْته وفي الحديث: «إذَا زَنَتْ أمَةٌ أحدكُم، فليَجْلدْهَا، ولا يُثرِّبْ» أي: لا يعيِّر، وأصله من الثَّرب، وهو ما تغشى الكرش من الشَّحم، ومعناه: إزالةٌ الثَّرب، كما أنَّ التَّجليد إزالةٌ الجلدِ، فإذا قلت: ثرَّبتُ فلاناً، فكأنَّنك لشدَّة عتبك له أزلت ثربه، فضرب مثلاً في تزيق الأعراض.
وقال الرَّاغب: «ولا يُعْرَفُ من لفظه إلاَّ قولهم: الثَّرْبُ، وهو شحمةٌ رقيقةٌ وقوله تعالى: {ياأهل يَثْرِبَ} [الأحزاب: 13] يصحُّ أن يكون أصله من ذها الباب، والياء فيه مزيدية» .
فصل
قال المفسريون: التَّثْريبُ: التَّوبيخُ، قال عطاءٌ الخراسانيُّ: طلب الحوائج إلى الشَّباب أسهل منها إلى الشيُّوخ ألا ترى إلى قول يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لا تَثْريب عَليْكُمْ» ، وقول يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} [يوسف: 98] .
واعلم أنَّا إذا جعلنا: «اليَوْمَ» متعلِّقاً ب: «لا تَثْريبَ» أي: لا أثرِّبُكمُ اليوم وهو اليوم الذي مظنته التَّثريب، فما ظنُّكم بسائر الأيَّام، ويحتمل أنِّي حكمت في هذا اليوم ألاّ تثريب مطلقاً؛ لأنَّ قوله: «لا تَثْرِيبَ» نفي للماهيَّة، ونفي الماهيَّة يقتضي نفي أفراد جميع الماهية، فكان ذلك مفيداً للنَّفي المتناول لكلِّ الأوقات والأحوال.
ثمَّ إنَّه أزال عنهم ملامة الدُّنيا طلب من اللهِ أن يزيل عنهم عقاب الآخرةِ، فدعا لهم بقوله: {يَغْفِرُ الله لَكُمْ} .
وإن قلنا: «اليَوْمَ» متعلق بقوله: {يَغْفِرُ الله لَكُمْ} كأنه لما نفى الذَّنب عنهم مطلقاً بشَّرهم بأنَّ الله يغفر ذنبهم في ذلك اليوم، وذلك أنَّهم لما خجلوان واعترفوا وتابوا، فالله تعالى قَبِلَ توتبهم، وغفر ذنوبهم؛ فلذلك قال: {اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ} .
«روي أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ بعِضَادتي الكعبة يوم الفتحِ وقال لقريش: ما تَرونَ؟
قالوا: خيراً أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، وقد قدرتَ، قال: أقُولُ ما قَالَ أخي يوسف:» لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ «» .(11/206)
وروي أنَّ أبا سفيان لما جاء ليًسلم، قال لهُ العبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إذا أتيت رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاتْلُ عليه: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} ففعل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غفر الله لَكَ ولمن علَّمك» .
وروي: أنَّ أخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه: إنَّا نستحي منك لما صدر منَّا من الإساءة إليك، فقال يوسف: إنَّ أهل مصر لو ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الإولى، ويقولون: سبحان الذي بلغ عبداً بِيعَ بِعشرينَ درهماً ما بلغ، ولقد شَرُفتُ بإتيانكم، وعظُمتُ في العيون لما جئتم، علم النَّاس أنكم إخوتي، وأنِّي من حفدةِ إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثم سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل أبي من بعدي قالوا: ذهبت عيناه؛ فأعطاهم قميصه وقال: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً} أي يعيده مبصراً، وقيل: يأتيني بصيراً.
قال الحسنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لم يعلم أنه يعود بصيراً إلا بالوحي؛ لأنَّ العقل لا يدلُّ عليه وقال الضحاك: كان ذلك القميص من نسيج الجنَّة.
وعن مجاهدٍ: أمره جبريل صلوات الله عليه أن يرسل قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه الصلام وذلك أنه جُرِّد من يثابه، وألقي في النَّار عرياناً، فآتاه جبريل بمقيص من حرير الجنَّة، فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم فلما مات إبراهيم عليه السلام ورِثهُ إسحاق، فلما مات إسحاق ورثهُ يعقوب، فلمَّا شبَّ يوسف عليه السلام جعل ذلك يعقوب في قصبةٍ من فضة وسد رأسها، وعلقها في عنقه لما كان يخافُ عليه من العين كانت لا تفارقه، فلمَّا ألقى في الجُبِّ عُرياناً جاءهُ جبريلُ عليه السلام وعلى يوسف ذلك التَّعويذُ؛ فأخرج القميص منه، وألبسه، ففي ذلك الوقت جاءهُ جبريل، وقال: أرسل ذلك القميص فإنَّ فيه ريحَ الجنَّة لا يقع على مبتلى، ولا سقيم إلا عُوفِي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال: {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} أي: مبصرا وإنَّما أفرد بالذِّكر تعظيماً له، وقال في الباقين: {وائتوني بأهلكم أجمعين} .
قال ابن الخطيب: «ويمكن أن يقال: لعلَّ يوسف علم أنَّ أباهُ ما صدر أعمى إلاَّ من كثرة البكاءِ، وضيق القلبت، وذلك يضعفُ البصر، وإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد وأن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرحُ الشديد، وذلك يقوِّي الرُّوحَ، ويزيلُ الضَّعف عن القوى فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك، فهذا القدرُ ممَّا يُمِكنُ معرفته بالقلبِ فإنَّ القوانين الطبيَّة تدلُّ على صحَّة هذا المعنى» .
قوله: «بِقَمِيصِي» يجوز أن يتعلَّق بما قبله على أنَّ الباء معدِّية كهي في «ذَهَبتُ بهِ» وأن(11/207)
تكون للحال فتتعلق بمحذوف، أي: اذهبوا معكم بقميصي، و «هَذَا» نعتٌ له، أو بدلٌ، أو بيانٌ، و «بَصِيراً» حالٌ، و «أجْمَعِينَ» توكيد له، وقد أكد بِهَا دُون كل، ويجوز أن تكون حالاً.(11/208)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} يقال: فَصَل فلانٌ عن فلانٍ فُصُولاً إذا خرج من عنده، و «فَصَلَ» كذا إذا أنفذ، و «فَصَلَ» يكون لازماً، ومتعديًّا، فإن كان لازماً فمصدره فصولاً، وإن كان متعدياً فمصدره فصلاً.
قال المفسرونك لما توجَّه العير من مصر إلى كنعان، قال يعقوب لمن كان عنده من ولد ولده: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} قال مجاهدٌ: أصاب يعقوب ريحُ القميص من مسيرة ثلاثة أيامٍ.
وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من مسيرة ثماني ليال.
وقال الحسنُ: كان بنيهما ثمانون فرسخاً، وقال مجاهد: هبَّ ريح يوسف فصفق القميص؛ ففاحت روائح الجنَّة في الدُّنيا، واتَّصلت بيعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فعلم أنَّه ليس في الدنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص فمن ثمَّ قال: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} وروي أنَّ ريح الصِّبا استأذنت ربَّها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشيرُ.
واعلم أنَّ وصول تلك الرائحة إلى يعقوب من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فكان ذلك معجزة، ولكن لمن منهما؟ والأقرب أنَّها ليعقوب حيثُ أخبروه عنه، ونسبوه إلى ما لا ينبغي؛ فظهر الأمر كما قال؛ فكانت معجزة لهُ.
قال أهل المعاني: إنَّ الله تعالى أوصل ريح يوسف عند انقضاء مدَّة المحنة ومجيء وقت الروح والفرج من المكانِ البعيدِ، ومنع من وصولِ خبره إليه مع قرب إحدى البلدين من الأخرى في مدَّة ثمانين سنة، وذلك يدلُّ على أنَّ كلَّ سهلٍ فهو في زمنِ المحنةِ صعبٌ، وكلَّ صعبٍ في زمنِ الإقبال سهلٌ، ومعنى: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} : أشم، وعبَّر عنه بالوجود؛ لأنه وجدان له بحاسة الشَّمِّ.(11/208)
قوله: {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} التَّفنيدُ: الإفسادُ، يقال: فنَّدت فلاناً، أي: أفدستُ رأيه ورددته. قال الشاعر: [البسيط]
3150 - ب يَا صَاحبيَّ دَعَا لَوْمِي وتَفْنِيدِي ... فَليْسَ مَا فَاتَ مِنْ بِمَرْدُودِ
ومنه: أفْنَدَ الدَّهرُ فلاناً؛ قال الشاعر: [الطويل]
3151 - دَِ الدَّهْرُ يَفْعَلُ ما أرَاد فإنَّهُ ... إذَا كُلِّفَ الإفْنادَ بالنَّاسِ أفْنَدا
والفَنَدُ: الفسادُ؛ قال النابغة: [البسيط]
3152 - إلاَّ سُليْمان إذْ قَالَ الإلهُ لَهُ ... قُمْ فِي البَريِّيةِ فاحْدُدْهَا عنِ الفَندِ
والفِنْدُ: شمراخ: «يقالُ: شَيْخٌ مفنَّدٌ، ولا يقال: عجُوزٌ مُفنَّدة؛ لأنَّها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفنَّد في كبرها وهو غريبٌ» .
وجواب «لَوْلاَ» الامتناعية محذوفٌ، تقديره: لصَدَّقْتُمونِي ويجوز أن يكون تقديره: لأخبرتكم.
قال ابنُ الأنباريّ: «أفْنَدَ الرَّجلُ: إذا انْحَرفَ، وتغيَّر عَقْلهُ، وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه» .
وعن الأصمعيِّ قال: إذا كثر كلامٌ الرَّجلِ من خرفٍ فهو الفَنَد والتَّفنيد.
فصل
قال المفسرون: «لَوْلاَ أن تُفنِّدُون» تسفهون، وعن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تَجْهلُون، وقال الضحاك: تَهْرَمُون، تقولون: شَيْخٌ كبيرٌ قد خرفَ، وذهب عقلهُ.(11/209)
«قَالُوا» : يعني أولاد أولاده {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} أي في ذهاب عن طريق الصَّواب.
وقال ابن عبَّاس، وابن زيدٍ، لفي خطئك الماضي من حُبِّ يوسف لا تنساه.
وقال مقتالٌ الضَّلالُ هنا الشَّقاءُ، يعني: شقاء الدُّنيا، أي: إنَّك في شقائك القديم بما تُكَابدُ من الأحزان على يوسف.
وقال قتادة: لفي حُبِّك القديم لا تنساه، ولا تذهل عنه، قال قتادة: لقد قالوا كلمة [غليظة] لم يجز قولها لنبي الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقال الحسن: إنَّما خاطبوه بذلك، لاعتقادهم أنَّ يوسف قد مَاتَ. {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير} وهو المبِّر، في موضع: «أنْ» قولان:
أحدهما: لا محلَّ لها من الإعراب، فقد تذكَّر تارة كما هنا، وقد تحذف كقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} [هود: 74] .
والثاني: قال البصريُّون: هي في موضع رفعٍ بفعلٍ تقديره: فلمَّا ظهر أن جاء البشر أي: ظهر على البشير؛ فأضمر الرَّافع.
وقال جمهورُ المفسِّيرين البشيرُ هو يهوذا قال: أنا ذهبتُ بالقميص مُلطَّخاً بالدَّم، وقلت: إنَّ يوسف أكلهُ الذِّئبُ، فأذهب اليوم بقميصه، وأخبره أنه حي فأفرحهُ كما أحزنته، وقيل: البشيرُ مالكُ بنُ دُعْرٍ.
قوله: «ألقاهُ» الظَّاهرُ أنَّ الفاعل هو ضمير البشير، وقيل: هو ضمير يعقوب وفي «بَصِيراً» وجهان:
أحدهما: حال، أي: يرجع في هذا الحال.
والثاني: أنَّه خبرها؛ لأنَّها بمعنى صار عند بعضهم، و «بَصِيراً» من بصُر بالشيء ك «ظَرِيف» من «ظَرُفَ» .
وقيل: هو مثالُ مبالغةٍ، ك «عَلِيم» وفيه دلالة على أنَّه لم يذهب بصره بالكلِّية ومعنى الارتداد: انقلابُ الشَّيء إلى حالٍ كان عليها.
وقوله: {فارتد بَصِيراً} أي صيَّرهُ اللهُ بصيراً، كما يقال: طالت النَّخلة والله أطالها.
قال بعضهم: إنه كان قد عمي بالكلية، فجعله اللهُ بصيراً في هذا الوقت.(11/210)
وقال آخرون: بل كان ضعف بصره من كثرة البكاءِ والحزن، فلمَّا ألقوا القميص على وجهه، وبشَّره بحياةِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عظم فرحه وانشرح صدرهُ وزالت أحزانه فعند ذلك قَوي بصره، وعادت قُوَّته بعد الضَّعف، وقال: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من حياة يوسف من جهة رُؤيَاه، وهو أنَّ الله يجمع بيننا، وهو إشارةٌ إلى قوله: {قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] .
روي أنَّه قال للبشير: كيف حاله؟ قال: إنَّه ملكُ مصر، قال: ما أصنعُ بالملك، على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمَّت النِّعمة. ثمَّ إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون، و {قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} فوعدهم بأنه يستغفر لهم.
قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أخَّر الاستغفار لهم إلى وقتِ السَّحر، وهو الوقت الذي يقول الله فيه: {هل من داع فأستجيب له} .
وروي عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما رواية أخرى: أنَّه أخَّر الاستغفار إلى ليلة الجمعة؛ لأنَّها أوفق الأوقات لرجاءِ الإجابة.
وقيل: أخَّر الاستغفار ليعلم هل تابوا حقيقة أم لا؟ وهل أخلصوا في التَّوبة أم لا؟ .
وقيل: استغفر لهم في الحالِ، ومعنى: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} أي أداوم على الاستغفار في المستقبل.
وروي: أنه كان يستغفر لهم في كلِّ ليلةِ جمعةٍ في نيّق وعشرين سنة.
روي أنَّ يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة، وجهازاً كثراً، لياتوا بيعقوب وأهله وولده، فخرجوا وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة، فلمَّا دنا من مصر كلَّم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف، والملك في أربعة آلاف من الجُندِ، وركب أهل مصر معهما فتلقوا يقعوب، وهو يتوكأ على يهوذا ماشياً؛ فنظر إلى الجبل، وإلى الناس فقالوا: يا يهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنُك يوسفُ، فلمَّا تدانيا ذهب يوسف يبدأ بالسَّلام، فقال جبريل عليه السلام: لا حتّى يبدأ يعقوب بالسلام، فقال يعقوب: السَّلام عليك.(11/211)
قال الثوريُّ: لما التقَى يعقوب ويوسف صلوات الله وسلامه عليهما عانق لك واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف: يا أبتِ! بكيت عليَّ حتى ذهب بصرك، ألم علم أنَّ القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا بُنَيّ، ولكن خشيت أن تسلب دينك، فيحال بيني وبينك.
قيل: دخل يعقوب وولده مصر، وهم اثنان وسبعون ما بين رجل، وامرأة، وخرجوا منها مع موسى، والمقاتلون ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً يوى الصبيان والشيوخ.(11/212)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
قوله: {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} الآية قال أكثر المفسرين المراد: أبوه خالته «ليَّا» وكانت أمه قد ماتت في نفاسها بنيامين وقال الحسنُ: أبوه وأمه، وكانت حية.
وروي: أنَّ الله تعالى أحيَا أمّه حتَّى جاءت مع يعقوب إلى مصر حتَّى سجدت له تحقيقاً لرؤيا يوسف.
وقيل: إن الخالة أم كما أنَّ العم أبٌ، قال تعالى: {إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] ، ومعنى {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} ضمهما إليه، واعتنقهما.
فإن قيل: ما معنى دخولهما عليه قبل دخولهم مصر؟ .
فالجواب: أنَّهُ حين استقبلهم أنزلهم في خيمة، أو بيت هناك، فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال: {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} ، أي: أقيموا بها آمنين، سمَّى الإقامة دخولاً؛ لاقتران أحدهما بالآخر.
قال السديُّ في هذا الاستثناء قولان:
الأول: أنه عائدٌ إلى الأمن إلى الدخول، والمعنى: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله، كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] .(11/212)
وقيل: إنَّه عائدٌ إلى الدُّخول كما تقدَّم.
وقيل: «إنْ» هنا بمعنى: «إذْ» يريدُ: إ ن شاء الله، كقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أي: إذ كنتم مؤمنين.
ومعنى قوله: «آمِنينَ» أي على أنفسكم، وأموالكم، وأهليكم لا تخافون أحداً، وكان فيما سلف يخافون ملك مصر، وقيل: آمنين من القحطِ والشّدة وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف.
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} من باب التَّغليب، يريد: أباه وأمه أو خالته {عَلَى العرش} قال أهل اللغة: العرشُ: السَّريرُ الرَّفيعُ، قال تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] .
والرفع: هو النقل إلى العلو، و «سُجَّداً» حال.
قال أبو البقاء: «حال مقدرةٌ؛ لأنَّ السجود يكن بعد الخُرُورِ» .
فإن قيل: إن يعقوب عليه السلام، كان أبا يوسف فحقُّه عظيم، قال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] فقرون حق الوالدين بحق نفسه، وأيضاً: فإنَّه كان شيخاً كبيراً [والشاب] يجبُ عليه تعظيم الشيخ وأيضاً: كان من أكابر الأنبياء، ويوسف، وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه.
وأيضاً: فإن جدّ يعقوب، واجتهاده في تكثير الطّاعات أكثر من جد يوسف، واجتماع هذه الجهات الكثيرةِ يوجب المبالغة في خدمة يعقوب، فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب؟ .
فالجواب من وجوه:
الأول: روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ المراد بهذه الآية أنهم خرُّوا سجداً لأجل وجدانه، فكيون سجود شكر لله تعالى لأجل وجدانه يوسف، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} .
وذلك يشعر بأهم صعدوا على السرير، ثمَّ سجدوا لله، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قل الصُّعود على السَّرير؛ لأنَّ ذلك أدخل في التَّواضع.
فإن قيل: هذا التَّأويلُ لا يطابق قوله: {ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} [يوسف: 100] .
والمراد منه قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] قيل: معناه لأجلي، لطلب مصلحتي، وللسعي في إعلاء منصبي، وإذا احتمل هذا سقط السؤال.(11/213)
الثاني: أن يقال: إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمته.
وهذا تأويلٌ حسنٌ، فإنه يقال: صليت للكعبة كما يقال: صليتُ إلى الكعبة؛ قال حسَّانُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [البسيط]
3153 - ألَيْسَ أوَّل من صَلَّى لِقبْلتِكُمْ ... وأعْرَفَ النَّاس بالآثَارِ والسُّنَنِ
فدلَّ على أنَّه يجوز أن يقال: فلانٌ صلَّى للقلبةِ، فكذلك يجوز أن يقال: سجد لِلْقِبْلةِ.
وقوله: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} أي جعلوه كالقبلة ثمَّ سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه.
الثالث: التَّواضع يسمى سجوداًح كقوله: [الطويل]
3154 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوَافِرِ
فالمراد هنا التَّواضعُ، وهذا يشكلُ بقوله تعالى: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} والخرور مشعر بالإتيان بالسُّجود على أكمل الوجوه.
وأجيب: بأنَّ الخرور يعني به المرور فقط، قال تعالى: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان: 73] يعنى: لم يمروا.
الرابع: أن يقال الضمير في قوله: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التَّهنئةِ، والتقدير: ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمها، وأمَّا الإخوةُ وسائر الدَّاخلين، فخروا له ساجدين.
فإن قيل: هذا لا يلائم قوله: {ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} .
فالجواب: أن يعتبر الرُّيؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرُّؤيا بحسب الصُّورةِ، والصِّفة من كُلِّ الوجوه، فسجودُ الكواكب والشَّمس والقمر معبر بتعظيم الأكابر من النَّاس ولا شك أنَّ ذهاب يعقوب من كنعان مع أولاده إلى مصر نهاية التعظيم له، فكفى هذا القدر من صَّحة الرُّؤيا، فأمَّا كون التَّعبير مساوياً في الصُّورةِ والصِّفة، فلم يوجبه أحد من العقلاءِ.
الخامس: لعلَّ الفعل الدَّال على التَّحية في ذلك الوقت، كان هو السُّجودُ وكان مقصودهم من السجود تعظيمه، ثمَّ نسخ ذلك في شرعنا.
وهذا بعيد؛ لأنَّ المبالغة في التَّعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب، فلو كان(11/214)
الأمر كما قلتم، لكان من الجواب أن يسجد يوسف ليعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
السادس: لعلَّ إخوته حملتهم الأنفة، والاستعلاءُ على ألاّ يسجدو له على سبيل التَّواضع، وعلم يعقوب أنهم إن لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران النَّفس، وظهور الأحقاد القديمة بعد كُمونِها، فيعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع جلالته وعظم قدره بسبب الأوبة والشَّيخوخة، والتَّقدُّم في الدِّين، والعلم، والنبوة فعل ذلك السُّجود حتَّى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال تلك الأنفة، والنفرة عن قلوبهم.
السابع: لعلَّ الله تعالى أمر يعقوب بتلك السَّجدة لحكمة خفية لا يعلمها إلا هو [كما أمر الملائكة بالسجود لآدم صلوات الله وسلامه عليه لحكمة لا يعلمها إلا هو] ، ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنَّه لما علم أنَّ الله أمره بذلك سكت.
ثم إنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما رأى هذه الحالة: {وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} ، وهي قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف: 4] وهاذ يقوّي الجواب السَّابع.
والمعنى: أنَّه لا يليق بمثلك على حالتك، في العلم، والدين، والنبوة أن تسجد لولدك إلا أنَّ هذا أمر أمرت به، وأن رؤيا الأنبياء حقٌّ، كما أنَّ رؤيا إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ذبح ولده كان سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظةِ، لذلك صارت هذه الرُّؤيا التي رآها يوسف سبباً لوجوب السُّجودِ على يعقوب.
قوله: {مِن قَبْلُ} يجوز أن يتعلق ب «رُؤيَايَ» أي تأويل رؤياي في ذلك الوقت ويجوز أن يكون العامل فيه: «تأوِيلُ» ؛ لأن التَّأويل كان من حين وقوعها هكذا والآن ظهر له، ويجوز أن يكون حالاً من: «رُؤيَايَ» قاله أبو البقاء.
وقد تقدَّم أنَّ المقطوع عن الإضافة لا يقع حالاً.
قوله: {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} حال من: «رُؤيَايَ» ، ويجوز أن تكون مستأنفة وفي «حَقًّا» وجوه:
أحدها: أنه حال.
والثاني: أنه مفعول ثانٍ.
والثالث: أنه مصدر مؤكد لفعل من حيث المعنى، أي: حقَّقها ربي حقاً بجعله.
قوله: «أحْسنَ بِي» «أحْسنَ» أصله أن يتعدَّى بإلى، قال تعالى: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] فقيل: ضمن معنى: «لَطفَ» متعدّياً بالباءِ، كقوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} وقول كثير عزَّة: [الطويل](11/215)
3155 - أسِيئِي بِنَا، أو أحْسِنِي لا مَلُومةً ... لَديْنَا ولا مَقْليَّةً إنْ تَقلَّتِ
وقيل: بل يتعدى بها أيضاً، وقيل: هي بمعنى «إلى» وقيل: المفعول محذوف. تقديره: أحسن صنعه بِى، ف: «بي» متعلقة بذلك المحذوف، وهو تقدير أبي البقاءِ.
وفيه نظرٌ؛ من حيث حذف المصدر، وإبقاء معموله، وهو ممنوع عند البصريين.
و «إذْ» منصوب ب «أحْسَنَ» ، أو المصدر المحذوف، قاله أبو البقاء وفيه النظر المتقدِّمُ.
والبَدْوُ: ضد الحضارة، وهو من الظُّهورِ، بَدَا يَبْدُوا: إذ سكن البادية.
يروى عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إذَا بَدوْنَا جَفوْنَا» أي: تخلقنا بأخلاق البدويين.
قال الواحديُّ: البدو بسيطٌ من الأرض يظهرُ فيه الشخص من بعيدٍ، أصله من بَدَا يَبْدُوا بَدْواً، ثم سمي المكان باسم المصدر، ويقال:: بَدْوٌ وحَضَرن وكان يعقوب وولده بأرض كعنان أهل مواشٍ وبريَّةٍ.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [كان يعقوب قد تحوَّل إلى بدا وسكنها] ومنها قدم على يوسف، وبها مسجد تحت جبلها.
قال ابن الأنباري «بدا» اسم موضع معروف، ياقل: بين شعيب عليه السلام وبدا، وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثيرٌ: [الطويل]
3156 - وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَعْباً إلى بَدَا ... إليَّ وأوْطَانِي بِلادٌ سِواهُمَا
والبدو على هذا القول معناه: قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا، يقال: بَدَا القَوْمُ بدواً إذا أتوا بَدَا، كما يقال: غَارَ القوم غَوْراً، إذا أتوا الغُوْر، وكان معنى الآية: وجاء بكم من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب، وولده حضريِّين، لأن البدو لم يرد به البادية لكن عني به قصد بدا.
فصل
اعلم أن قوله {ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} وهو قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف: 4] ، {وَقَدْ أَحْسَنَ بي} أنعم عليَّ {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن} ولم يقل من الجُبّ مع كونه أشدّ من السجن استعمالاً للكرم كيلا تخجل إخوته بعدما قال: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ(11/216)
اليوم} [يوسف: 92] ولو ذكر الجبّ كان تثريباً لهم؛ ولأن نعمة الله عليه في أخراجه من السجن أعظم؛ لأنَّه بعد الخروج من الجُبّ صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار الملك ولأنه لما خرج من الجُب وقع في المضار بسبب تهمة المراة، ولما خرج من السِّجن، وصل إلى أبيه وإخوته وزالت عنه التُّهمة.
وقال الواحديُّ: «النِّعمة في إخراجه من السجن أعظم؛ لأنَّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب هَمَّ به، وهيا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع، ورغبة النَّفس، وهذا وإن كان في محل العفو في حقّ غيره إلا أنه كان سبباً للمؤاخذة في حقه؛ لأنَّ حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين» .
فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق الله تعالى؛ لأنَّه أضاف إخراجه من السجن إلى [الله تعالى] ومجيئهم من البدو إليه، وهذا صريحٌ في أن فعل العبد فعل الله تعالى فإن حملوه على أن المراد أن ذلك إنَّما حصل بإقدار الله، وتدبيره، فذلك عدولٌ عن الظَّاهر.
ثم قال: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان} أفسد وأغوى، وأصله من نَزَغَ الرَّاكض الدَّابة حملها على الجَرْي إذا نخسها.
احتجَّ الجبائيُّ، الكعبيُّ، والقاضي أبو إسحاق بهذه الآية: على بُطلانِ الجبر قالوا لأنه تعالى، أخبر عن يوسف ت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه أضاف الإحسان إلى الله تعالى وأضاف النَّزْغَ إلى الشِّيطان، ولو كان ذلك أيضاً من الرحن، لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعمة.
الجواب: أنَّ إضافة هذا القول إلى الشيطان مجاز؛ لأنَّ عندكم الشِّيطان لا يتمكنَّن من الكلام الخفيّ، كما أخبر الله عنه، فقال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي}
[إبراهيم: 22] فظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك، وأيضاً: فإن كان إقدام المرءِ على المعصية بسبب الشِّيطان، فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر؛ لزم التسلسل وهو محالٌ، وإن لم يكن بسبب شيطان آخر، فليقل مثله في حق الإنسان، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق بسب الشيطان وليس بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل الفسق الذي يوجب وقوعه في الذَّم في الدُّنيا، وعذاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر، والفسق لا بد له من موقع، وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال: ذلك من الله تعالى ويؤيد ذلك قوله: {أَخْرَجَنِي مِنَ السجن وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو} وهذا صريحٌ في أنَّ الكل من الله تعالى.(11/217)
ثم قال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} «لطيف» أصله أن يتعدَّى بالباء، وإنَّما يتعدى بللاَّم لتضمنه معنى مدبر، أي: أنت بلطفك لما تشاءُ.
والمعنى: أنه ذو لطف لما يشاء، وقيل: بمن يشاء، وحقيقته أللُّطفِ: الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق.
والمعنى: أن اجتماع يوسف، وإخوته مع الأُلْفِ، والمحبَّة، وطيب العيشِ، وفراغ البال كان في غاية البُعدِ عن العقول، إلا أنه تعالى لطيفٌ، فإذا أراد حصول شيءٍ سهل أسبابه، فحصل، وإن كان في غايةِ البعدِ عن الحصولِ.
{إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} يعني أنَّ كونه لطيفاً في أفعاله إنَّما كان لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها، فيكون عالماً بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب.
فصل
اختلفوا في مقدار الوقت ما بين الرُّؤيا واجتماعهم. فقيل: ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وقال الأكثرون: أربعون، ولذلك يقولون: إنَّ تأويل الرُّؤيا إنَّما صحَّت بعد أربعين سنة. وقيل: ثماني عشرة سنة وبقي في العبودية، والملك، والسجن ثمانين سنة، ثمَّ وصل إليه أقاربه، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة. وقال: أقام يعقوبُ بمصر عند يوسف أربعاً وعشرين سنة، ثم مات بمصر، فلما حضرته الوفاة أوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن عد أبيه إسحاق، ففعل يوسف ومضى به حتَّى دفنه بالشَّام، ثم رجع إلى مصر.
قال سعيد بن جبيرٍ: نُقل يعقوب في تابوت من ساج إلى بيت المقدس فوافق ذلك يوم مات عيصُو، فدفنا في قبرٍ واحدٍ، وكانا ولدا في بطنٍ واحدٍ، وكان عمرهما مائة وسبعة وأربعين سنة، وعاش يوسف بعد ذلك عشرين سنة، وقيل: ستين سنة ومات وهو ابن مائة عشرين سنة، وفي التوراة مائة وعشرين، وولد له إفرائيم، وميشا وولد لإفرائيم نو، ولاوي، ويوشع فتى موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ورحمة امرأة أيوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأنه تمنى الموت. وقيل: ما تمنَّاه نبيُّ قبله، ولا بعده فتوفَّاه الله طيباً طاهراً، فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحبُّ أن يدفنه في محلتهم، فرأوا أن الأصلح أن يعمل له صندوقاً من مرمر، ويجعلوه فيه، ويدفنوه في النِّيل ليمر الماء عليه، ويصل إلى مصر، وبقي هناك إلى أن بعث موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فأخرج عظمه من مصر، ودفنه عند أبيه.
قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك} الآية قرأ عبد الله: (آتيتن وعملتن) بغير(11/218)
ياء فيهما. وحكى ابنُ عطية أن أبا ذر قرأك «أتَيْتَنِي» بغير ألف بعد الهمزة، و «مِن» في «مِنَ المُلْكِ» ، وفي: «مِنْ تَأويلِ» للتبعيض والمفعول محذوف أي: عظيماً من الملك، فهي صفة لذلك المحذوف. وقيل: زائدة. وقيل: لبيان الجنس، وهذان بعيدان. و «فَاطِرَ» يجوز أن يكون نعتاً ل «ربِّ» ويجوز أن يكون بدلاً أو بياناً، أو منصوباً بإضمار أعني أو نداء ثانياً.
فصل
لما جمع الله شمل يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عَلِمَ أنَّ نعيم الدُّنيا لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة، فقال: {رب قد ءاتيتني من الملك} يعني ملك مصر، والملك اتساع المقدور لمن له السياسة، والتدبير. {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} يعني تعبير الرؤيا.
قوله: {فَاطِرَ السماوات والأرض} يعني: يا فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ما كنت أدري ما معنى الفاطر حتى احتكم إليَّ اعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فَطرتَهَا وأنا ابْتدأت حَفْرهَا.
وقل أهلُ اللغة: أصلُ الفَطْر: الشَّقُّ، يقال: فطرت نابُ البعير، إذا بدا، وفطرتُ الشَيء، فانفطر، إذا شَقَقْتهُ، فانشقَّ، وتفطَّرتِ الأرض بالنَّبات والشَّجر بالورق، إذا تصدَّعتْ.
هذا أصله في اللغة، ثمَّ صارت عبارة عن الإيجاد؛ لأنَّ ذلك الشيء في حال عدمه كأنَّه في ظلمة وخفاءٍ، فلمَّا دخل في الوجود، صار كأنَّه انشقَّ، وخرج ذلك الشيء منه.
{تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} أي: اقبضني إليك مسلماً، وألحقين بالصالحين يريد بآبائي النبيين.
قال قتادة: لم يسأل نبيٌّ من الأنبياء الموت إلا يوسف، وبه قال جماعة من المفسرين.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في رواية عطاء: يريد: إذا توَفَّيْتني، فتوفَّني على الإسلام.
فصل
دل قوله {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} على أنَّ الإيمان من الله؛ لأنَّه لو كان من العبد، لكان تقديره: كأنَّه يقول: افعل يا مَنْ لا يَفْعَل.
قالت المعتزلة: إذا كان الفعل من الله، فكيف يجوزُ أن يقال للعبد: افعل مع(11/219)
أنَّك لست فاعلاً؟ فيقال لهم: إذا كان تحصيل الإيمان، وابقاؤه من العبد لا من الله، فكيف يطلب ذلك من الله تعالى.
قال الجبائي والكعبي: معناه: أطلب اللُّطف في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه، وهذا الجواب ضعيفٌ، لأن السؤال وقع عن الإسلام، فحمله على اللطف عدول عن الظاهر، وأيضاً: فكُلّ ما كان في مقدور الله من الإلطاف، فقد فعله، كان طلبه من الله محالاً.
فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعلمون أنَّهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدُّعاء طلباً لتحصيل الحاصل، وأنَّه لا يجوز.
فالجواب: أن كمال حال المسلم: أن يستسلم لحكم الله على وجه يستقرُّ قلبه على ذلك الإسلام، ويرضى بقضاء الله، وتطمئن النفس، وينشرح الصدر في هذا الباب، وهذه حالةٌ زائدة عن الإسلام الذي هو ضدُّ الكفر، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى.
فإن قيل: إن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان من أكابر الأنبياء، والصَّلاح أول درجات المؤمنين؛ فالواصل إلى الغية كيف يليق به أن يطلب البداية؟ .
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وغيره: يعني ب «آبَائهِ» : إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
والمعنى: ألحقني بهم في ثوابهم، ودرجاتهم، ومراتبهم.
«روي عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، عن جبريل عليه السلام عن ربِّ العزَّة قال:» مَنْ شغلهُ ذِكرِي عَن مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفضلَ ما أعْطِي السَّائلين «.
فلهذا من أراد الدعاء، لا بُدَّ وأن يقدِّم عليه الثَّناء على الله تعالى فههنا يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا أراد الدعاء قدَّم عليه الثناء، فقال {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة} ثم دعا عقبه، فقال: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} وكذلك فعل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلى قوله: {يَوْمَ الدين} [الشعرا: 82] فهذا ثناءٌ ثمَّ قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} [الشعراء: 83] إلى آخر كلامه.(11/220)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} الآية «ذَلِكَ» : مبتدأ و {مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} : خبره، و «نُوحِيهِ» : حالٌ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، أو حالاً من الضمير في الخبر، وجوز الزمخشري: أن يكون موصولاً بمعنى: الذي، وتقدَّم نظيهر، والمعنى: ذلك الذي ذكرت من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت يا محمَّد عند أولاد يعقوب، {إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ} أي عزموا على إلقاء يوسف في الجبِّ، وما كنت هناك، ذكره على وجه التَّهكُّم، وتقدَّم الكلام على هذا اللفظ عند قوله: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] وقوله: {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} أي: بيوسف والمقصود من هذا إخبار عن الغيبن فكيون معجزاً؛ لأنَّ محمداً صلوات الله وسلامه عليه لم يطالع الكتب، ولم يتلمذْ لأحد، ما كانت بلدته بلدة العلماء؛ فإتيانه بهذه القصَّة الطويلة، على وجه لم يقع فيها تحريف، ولا غلطٌ من غير مطالعةٍ، ولاتعلم، كيف لا يكون معجزاً؟ .
روي أن اليهود وقريشاً سألوا رسو الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قصَّة يوسف؛ فلما أخبرهم على موافقة التَّوراة لم يسلموا، فحزن النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقيل: إنهم لا يؤمنون، ولو حرصت على إيمانهم.
قوله {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} : حال، {وَلَوْ حَرَصْتَ} معترض بين «مََا» وخبرها، وجواب مقدَّماً عليها، فلا يجوز أن يقال: «قُمْتُ لو قمُتَ» .
وقال الفراء في «المصادر» : حَرَصَ يَحْرِصً حِرْصاً، وفي لغة أخرى: حَرِصَ يَحْرَصُ حَرْصاً، ومعنى الحَرْص: طلب الشيء بأقصى ما يكون من الاجتهاد، {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} : حالٌ.
قوله {وَمَا تَسْأَلُهُمْ} على تبليغ الرِّسالة، والدُّعاء إلى الله عزَّ وجلَّ «مِنْ أجْرٍ» جعلوا خبر «إن» هو «مَا» أي: القرآن، «إلاَّ ذِكْرٌ» : عظة وتذكير «للْعَالمِينَ» .
ثم قال: «وَكَأيِّنْ» : وكم، «من آيةٍ» : عبرة ودلالة، {فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} : لا يتفكرون فيها ولا يتعبرون.
واعلم: أن دلائل التَّوحيد، والعلم، والقدرة، والحكمة والرحمة لا بد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي: إما الأجرام الفلكيَّة، وإما الأجرام العنصرية.
أما الأجرام الفلكيَّة فهي قسمان: إما الأفلاك، وإما الكواكب.(11/221)
فأما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصَّانع، وقد يستدل بكون بعضها فوق بعضه أو تحته، وقد يستدلُّ بحركتها، إمَّا بسرعة حركتها، وإمَّا باختلاف جهة تلك الحركات.
وأمَّا الأجرام الكوكبيَّة، فتارة تدلُّ على وجود الصَّانع بمقاديرها، وأجرامها، وحركاتها في سرعتها وبطئها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والظلال.
وأما دلائل الأجرام العنصرية: فإمَّا أن تكون مأخوذة من بسائطها، وهو البر والبحر، وإما مأخوذ من [المواليد] ، وهي أقسام:
أحدها: العلويِّة كالرعد، والبرق، والسَّحاب، والمطر، والثلج، والهواء، وقوس قُزَح.
وثانيها: المعادن على اختلاف طابعئها وصفاتها، وكيفياتها.
وثالثها: النَّبات وخاصيَّة الخشب والورق بخصوصه.
ورابعها: اختلاف حال الحيوانت في أشكالها، وطبائعها، وأصواتها، وخلقها.
وخامسها: تشريح أبدان الناس، وتشريح القوى الإنسانية، وبيان المنافع الحاصلة منها، ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين والملوك الذين استولوا على الأرض، وقهروا العباد، وخربوا البلاد. ماتوا ولم يبق لهم في الدنيا خبر، ثم بقي الوزرُ والعقاب عليهم، قال ابن الخطيب: فلهذا ضبط أنواع هذه الدَّلائل.
فصل
الجمهور على جر الأرض عطفاً على السموات، والضمير في «عَلَيْهَا» للآية، فيكون «يمُرُّون» صفة للآية، وحالاً لتخصُّصها بالوصف بالجر.
وقيل: يعود الضمير في «عَليْهَا» للأرض فيكون «يمُرُّون عليها» حالاً منها.
وقال أبو البقاء: وقيل: منها ومن السَّموات، أي: يكون الحال من الشيئين جميعاً، وهذا لا يجوز؛ إذا كان يجب أن يقال: عليهما، وأيضاً: فإنهم لا يمرُّون في السَّماوات إلا أن يراد: يمرّون على آياتها، فيعود المعنى على عود الضمير للآية، وقد يجاب عن الأول بأنه من باب الحذف؛ كقوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] .
وقرأ السديُّ: «والأرْضَ» بالنَّصب، ووجهه أنه من باب الاشتغال، ويفسَّر الفعل بما يوافقه معنى، أي: يطوفون الأرض، أو يسلكون الأرض.(11/222)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
«يمُرُّون علَيْهَا» كقولك: زَيْداً مررتُ بِهِ، وقرأ عكرمة، وعهمرو بن فايد: «والأرْضُ» على الابتداء، وخبره الجملة بعده، والضمير في هاتين القراءتين يعود على الأرض فقط.
قوله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} والمعنى: أنَّهم كانوا مقرِّين بوجود الإله، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [الزمر: 38] إلا أنَّهم كانوا [يُثْبِتُون] له شريكاً في العبودية.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: نزلت في تلبية المشريكن من العرب، كانوا يقولون: «لَبِّيكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شريكَ لَكَ إلاَّ شرِيكاً هو لَكَ تمْلِكهُ ومَا مَلَك» .
وعن عطاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هذا في الدعاء، قال تعالى: {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [يونس: 22] {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] .
وعن ابن عبَّاس: إن أهل مكة قالوا: الله ربَّنا لا شريك له، والملائكة بناتُه، فلم يوحِّدوا بل أشركوا، وقالت اليهود: ربُّنا الله وحده، وعزيزٌ ابن الله، وقالت النصارى: الله وحده، والمسيح ابن الله.
واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان: عبارة عن الإقرار باللسان فقط؛ لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنَّهم مشركون، وذلك يدلُّ على أن الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار، وجوابه معلُوم.
قوله تعالى: {أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله} : عقوبة تغشاهم، وتنبسط عليهم، وتغمرهم.
{أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} .
قرأ أبو حفص، ومبشر بن عبد الله: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} بالياء من تحت؛ لأنه مؤنَّث مجازي؛ وللفصل أيضاً، و «بَغْتَةً» : نصب على الحال، يقال: بغَتهُمُ الأمْرُ بغتاً وبَغْتَةً، إذا فاجأهم من حيث لم يتوقَّعوا.
وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} الناصب لقوله: «بغْتَةً» .
قوله
: {قُلْ
هذه
سبيلي} الآية.(11/223)
قل يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها ومثله: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 135] والسَّبيل في أصل اللغة: الطريق، ثم شبهوا بها التعبُّدات؛ لأن الإنسان يمر عليها إلى الجنَّة.
قوله: {أَدْعُو إلى الله} يجوز أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً من الياءِ، و {على بَصِيرَةٍ} حال من فاعل «أدْعُوا» أي: أدعوا كائناً على بصيرةٍ.
وقيل: تمَّ الكلام عند قوله: {أَدْعُو إلى الله} ثم استأنف {على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني} .
قوله {وَمَنِ اتبعني} عطفٌ عليه، أي: على فاعل «أدْعوا» ولذلك أكد بالضمير المنفصل، ويجوز أني كون متبدأ، والخبر محذوف، أي: ومن اتَّبعني يدعو أيضاً، ويجوز أن يكون «عَلَى بَصِيرةٍ» : خبراً مقدماً، و «أنَا» : مبتدأ مؤخر، و «مَنِ اتَّبعَنِي» عطف عليه أيضاً، ومفعول «أدْعُوا» يجوز أن لا يراد، أي: أنا من أهل الدُّعاء إلى الله، ويجوز أن يقدَّر: أن أدعواالناس. وقرأ عبد الله: «هذَا سَبِيلِي» بالتَّذكيرن وقد تقدَّم [الأنعام: 55] أنه يذكَّر ويؤنَّث.
فصل
والمعنى: أدْعُوا إلى شالله على بصيرةٍ على يقين، والبصيرةُ: هي المعرفة التي يميز بها بين الحقِّ والباطل، وهي الحجَّة والبرهان، «أنَا ومَنِ اتَّبعَنِي» : آمَنَ بي، وسار في طريقي، وسيرهُ: اتِّباع الدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ.
قال الكلبيُّ، وابنُ زيد: حقٌّ على من اتَّبعه أن يدعو إلى ما دعى إليه ويذكِّر بالقرآن.
قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يعني: أصحاب رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا على أحسن طريقةٍ، وأقدص هداية معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرَّحمن.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «العُلمَاءُ أمَناءُ الرُّسلِ على عِبَادهِ، حيثُ يَحْفَظُونَ ما يدْعُونَ إليْهِ» .
ثم قال {وَسُبْحَانَ الله} أي: وقل: سبحان الله تنزيهاً عمَّا يشركون.(11/224)
{وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} الذين اتَّخذوا من الله ضدًّا وندًّا. وهذه الآية تدلُّ على أنَّ علم الأصول حرفة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأن الله تعالى ما بعثهم إلى الخلقِ إلا لأجلها.(11/225)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} الآية: وهذا يدلُّ على أنَّه ما بعث رسولاً إلى الخلق من النِّسوان، ولا من أهل البادية، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ بَدَا جَفَا» .
قول: «نُوحِي» العامة معلى «يُوحَى» بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول.
وقرأ حفص: «نُوحِي» بالنون، وكسر الحاء مبنيًّا للفاعل، اعتبارا بقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا} [النحل: 43] وكذكل قرا ما في النحل، وأوَّل الأنبياء، ووافقه الاخوان على قوله: {نوحي إِلَيْهِمْ} في الأنبياء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى والجملة صفة ل «رِجَالاً» و {مِّنْ أَهْلِ القرى} صفة ثانيةٌ، وكان تقديم هذه الصِّفة على ما قبلها أكثر استعمالاً، لأنَّها أقرب إلى المفرد، وقد تقدَّم تحريره في المائدة.
فصل
قوله: {مِّنْ أَهْلِ القرى} أي من أهل الأمصار دون أهل البوادي؛ لأن أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم.
قال الحسن: لم يبعث الله نبيًّا من أهل البادية ولا من الجن ولا من الملائكة وقيل إنما لم يبعث من أهل البادية لغلظهم وجفاهم كا تقدَّم.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} يعني: [هؤلاء] المشركين المكذبين، {كَيْفَ(11/225)
كَانَ عَاقِبَةُ} : آخر أمر، {الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعنى: الأمم المكذِّبين فيعتبروا، {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا} يقول سبحانه وتعالى: هذا فعلنا بأهل ولا يتنا وطاعتنا أن نُنجِّهم عند نزول العذاب، وما في الدرار الآخرة لهم خير، فترك ذلك اكتفاء به لدلالة الكلام عليه، والمعنى: ولدار الحالِ الآخرة.
وقيل: هو إضافة الشيء إلى نفسه؛ كقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] ، وكقولهم: يومُ الخَميِسِ، وربيعُ الآخر، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتؤمنون، قرأ نافع، وابن عامرٍ، ورواية عن عاصم: «تَعْقِلُون» بتاء الخطاب، والباقون بياء الغيبة.
قوله تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل} الآية.
ليس في الكلام شيء يكون، «حتَى» غاية له؛ فلذلك اختلفوا في تقدير شيءٍ يصحُّ حلعه مغيًّا ب «حتَّى» .
فقدره الزمخشري: ما أرسلنا من قبلكَ رجالاً، فتراخى نصرهم حتَّى.
وقدره القرطبيُّ: ما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتَّى إذا.
وقدره ابن الجوزي: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً، فدعوا قومهم فكذَّبوهم، فطال دعاؤهم، وتكذيب قومهم حتَّى إذا، وأحسنها المقدم.
وذكر ابن عطيَّة شيئاً من معنى قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ} فقال: ويتضمن قوله «أفَلمْ يَسِيرُوا» إلى من قبلهم، أنَّ الرُّسل الذين بعثهم الله تعالى من أهل القرى دعوهم، فلم يؤمنوا حتى نزلت به المُثُلاث، فصبروا في حيِّز من يعتبر بعاقبته؛ فلهذا المضمَّن حسن أن تدخل «حتَّى» في قوله: «حتَّى إذَا» .
قال أبو حيان: ولم يتلخًّص لنا من كلامه شيء يكون ما بعد «حتَّى» غاية لهُ؛ لأنَّه علَّق الغاية بما ادَّعى أنَّه فهم ذلك من قوله: «أفَلمْ يَسِيرُوا» ، قال شهاب الدِّين: قوله: «دَعوهُمْ فَلم يُؤمِنُوا» هو المُغَيَّا.
قوله {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} قرأ الكوفيُّون: «كُذِبُوا» بالتخفيف، والباقون بالتثقيل.
فأما قراءة التَّثقيل، فاضطربت فيه الأقوال: فرُوِي إنكارها عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ(11/226)
عَنْها قالت: «مَعاذَ اللهِ؛ لمْ تَكُنِ الرسُل لتظُنَّ ذلِكَ بِربِّهَا» وينبغي ألاَّ يصحَّ لك عنها؛ لتواتر هذه القراءة، وقد وجَّهت بأربعة [أوجه] :
أحدها: أن الضمير في «وظَنُّوا» عائدٌ على المرسل إليهم؛ لتقدُّمهم في قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} ولأنَّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم، والضمير في «أنَّهُمْ» و «كُُذِبُوا» عائد على الرسل والمعنى: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، أي: كذَّبهم من أرسلوا غليه بالوحي، وينصرهم عليهم.
الثاني: أن الضمائر الثلاثة عائدة على الرسل.
قال الزمخشري في تقديره هذا الوجه: «حتَّى إذا اسْتَيئَسُوا من النَّصر، وظنوا أنهم قد كذبوا، أي كذَّبتهم أنفسهم حين حدَّثتهم أنهم ينصرون، أو رجاؤهم؛ لقولهم: رَجاءٌ صادقٌ، ورجاءٌ كاذبٌ، والمعنى: أن مدَّة التَّكذيب والعداوة من الكفَّار، وانتظار، وتوهَّموا أن لا نصر لهم في الدنيا؛ فجاءهم نصرنا» انتهى.
فقد جعل الفاعل المقدر: إما «أنْفُسُهم» ، وإما «رَجَاؤهم» ، وجعل الظَّنَّ بمعنى: التَّوهُّم، فأخرجه عن معناه الأصليِّ، وهو يرجِّحُ أحد الطرشفين، وعن مجازه، وهو استعماله في المتيقين.
الثالث: أن الضمائر كلَّها عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من التَّرجيح، وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، وابن مسعود، وابن جبير، وقالوا: والرُّسُل بشر؛ فضعفوا، وساء ظنُّهُم.
وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عن هؤلاء: فإنها عبارة غليظة على الأنبياء، وحاشا الأنبياء من ذلك، ولذلك ردَّت عائشة، وجماعة كثيرة هذا التأويل، وأعظموا أن ينسبوا الأنبياء إلى شيء من ذلك.
قال الزمخشريُّ: «إن صحَّ هذه عن ابن عبَّاس، فقد أراد بالظَّنِّ؛ ما يخطر بالبالِ، ويهجُس في القلب من شبه الوسوسة، وحديث النَّفس على ما عليه البشريِّة، وأما الظَّنُ الذي هو ترجيح أحد الجائزين عل الآخر؛ فغير جائزٍ على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رُسل الله الذين هم أعرف بربِّهم» .
قال شهاب الدِّين: «ولا يجوز أيضاً أن يقال: خطر ببالهم شبه الوسوسة، فإن الوسوسة من الشيطان، وهم معصومون منه» .
وقال الفارسي أيضاً: «إن ذهب ذاهبٌ إلى أن المعنى: ظن الرُّسل الذين وعد الله(11/227)
أممهم على لسانهم قد كذبوا؛ فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالح عباد الله، وكذلك من زعمك أنَّ ابن عبَّاس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا، [فظنوا] أنهم قد أخلفوا؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدِّل لكلماته» .
وقد روي عن ابن عباس أيضاً، أنه قال: معناه: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا؛ أنهم قد أخفلوا ما وعدهم الله به من النصر، وقال: وكانوا بشراًح وتلا قوله تعالى: {وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول} [البقرة: 214] .
الرابع: أن الضمائر كلَّها ترجع إلى المرسل إليهم أي: وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما ادَّعوه من النبوة، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العقاب قبل، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس، وابن مسعود، وابن جبير، ومجاهد، قالوا: «ولايجوز عود الضمائر على الرسل؛ لأنَّهم معصومون» .
ويحكى: أنَّ ابن جبير حين سئل عنها، فقال: نعم، حتَّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظنَّ المرسل إليهم أن الرُّسل قد كذبوهم؛ فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضراً: «لَوْ رحَلْتُ فِي هَذه إلى اليَمنِ كَانَ قَلِيلاً» .
وأمَّا قراءة التشديد فواضحة، وهو أن تعود الضمائر كلها على الرسل، أي: وظنَّ الرُّسل أنهم قد كذبهم أممهم فيما جاءوا به؛ لطول البلاءِ عليهم.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها قالت: «إنَّهُم أتْبَاعُ الأنْبيَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِربهم وصدَّقُوا، طَالَ عَليهِمُ البَلاءُ واسْتأخَرَ عَنْهُم النَّصْر، حتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسلُ ممَّن كذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وظنَّتِ الرُّسلُ أنَّهُمْ قَد كذَّبُوهُم، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ عِندَ ذلِكَ» .
وبهذا يتَّحد معنى القراءتين، والظَّن هنا يجوز أن يكون على بابه، وأن يكن بمعنى: اليقين، وأن يكن بمعنى: التوهُّم كما تقدَّم.
وقرأ ابن عبَّاس، ومجاهد، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «كَذبُوا» بالتخفيف مبنيًّا للفاعل، والضمير على هذه القراءة في «وظنُّوا» عائدٌ على الأمم، في أنَّهُم قد كذبوا، عائد على الرسل، أي: ظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما وعدوهم به من النَّصر، أو من العقاب.
ويجوز أن يعود الضمير في «ظَنُّوا» على الرسل، وفي «أنَّهُمْ قَدْ كذِبُوا» على المرسل إليهم، أي: وظنَّ الرسل إنَّ الأمم كذبتهم فميا وعدهم به من أنَّهم لا يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى: اليقين واضح.(11/228)
ونقل أبو البقاء: «أنه قرىء مشدّداً مبنياً للفاعل، وأوله: بأن الرسل ظنّوا أن الأمم قد كذبوهم» .
وقال الزمخشري بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل: «ولو قرىء بها مشددة لكان معناه: وظن الرسل أن قومهم قد كذَّبُوهم فيما وعدوهم» فلم يحفظها قراة، وهي غريبة، وكان قد جوَّز في القراءة المتقدمة: أن الضَّمائر كلَّها تعود على الرُّسل، وأن يعود الأول على المرسل إليهم وما بعده على الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدَّثوا به قومهم من النُّصرة: إمَّا على تأويل ابن عبَّاس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً، قالوا لهم: قد كذبتمونا، فيكونون كاذبين عند قومهم، أي: وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوا «.
وقوله «جَاءَهُمْ» : جواب الشِّرط، وتقدَّم الكلام في «حتَّى» هذه ما هِي؟ . أي: لمَّا بلغ الحال إلى الحدِّ المذكور؛ جاءهم نصرنا.
فإن قيل: لم يجر ذكر المرسل إليهم فيما سبق، فكيف يحسن عود الضَّمير إليهم؟ .
فالجواب: ذكر الرسل يدلُّ على ذكر المرسل إليهم، أو يقول: إن ذكرهم جرى في قولهم: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} ويكون الضمير عائداً عل الذين من قبلهم، من مكذِّبي الرسل.
قوله: {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ} قرأ عاصمٌ، وابن عامر بنون واحدة، وجيم مشددة، وياء مفتوحة؛ على أنَّه فعلٌ ماضي مبنيٌّ للمفعول، و «مَنْ» : قائمة مقام الفاعل، والباقون بنونين ثانيتهما ساكنة والجيم خفيفة، والياء الساكنة على أنه مضارع أنْجَى، و «مَنْ» مفعوله، الفاعل ضمير المتكلم المعظم نفسه على الاستقبال، على معنى: فنفعل بهم ذلك، وهه حكاية حالٍ، ألا ترى أنَّ القصَّة فيما مضى، وإنَّما حكى الحالح كقوله تعالى {هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] إشارة إلى الحاضر، والقصَّة ماضية.
وقرأ الحسن، والجحدريُّ، ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم، إلا أنَّهم سكَّنوا الياء، والأجود في تخريجها ما تقدَّم، وسكِّنت الياء تخفيفاً، كقراءة: {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وقد سكِّن الماضي الصَّحيح، فكيف بالمعتلِّ؟
كقوله: [مجزوء الرمل]
3157 - ... ... ... ... ... . ...(11/229)
قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانْ
وتقدم من أمثاله.
وقيل: الأصل «نُنْجِي» بنونين؛ فأدغم النون في الجيم، وليس بشيء؛ إذا النون لا تدغم في الجيم على أنَّه قد قيل بذلك في قوله: {نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنَّهم فتحوا الياء، قال ابن عطيَّة: «رواها ابن عبيرة، عن حفص، عن عاصم، وهي غلط من ابن هبيرة» .
قال شهابُ الدِّين: «توهَّم ابن عطيِّة أنه مضارع باقٍ على رفعة، فأنكر فتح لامه وغلَّط راويها، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارع مقرون بالفاء، جاز فيه أوجه:
أحدهما: نصبه بإضمار» أن «بعد الفاء، وقد تقدَّم عند قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] إلى أن قال:» فَيَغْفِر «قرىء بنصبه، وقد تقدم توجيهه، ولا فرق بين أن تكون أداة الشرط جازمة كآية البقرة، أو غير جازمة كهذه الآية.
وقرأ الحسن أيضاً» فنُنَجِّي «بنونين، والجيم مشددة، والياء ساكنة مضارع» نَجَّى «مشددة للتكثير، وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم، وأبو حيوة:» َفَنَجَا «فِعْلا ماضياً مخففاً، و» مَنْ «فاعله.
ونقل الدَّاني: أنه قرأ لابن محيصن كذلك، إلا أنه شدِّد الجيم، والفاعل ضمير النَّصر، و «مَنْ: مفعوله، ورجح بعضهم قراءة عاصم؛ بأن المصاحف اتفقت على كتبها» فَنُجِّيَ «بنون واحدة، نقله الداني، ونقل مكي: أن أكثر المصاحب عليها، فأشعر هذا بوقوع الخلاف في الرَّسم، ورجَّح أيضاً: بأنَّ فيها مناسبة لما قبلها من الأفعال الماضية، وهي جارية على طريقة كلام الملوك والعظماء، منحيث بناء الفعل [للمعفول] .
وقرأ أبو حيوة:» يَشَاءُ «بالياء، وتقدَّم أنه قرأ» فَنَجَا «، أي: فنجا من يشاء الله نجاته، وهم المؤمنون المطيعون.(11/230)
قوله: {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} : عذابنا، وقرأ الحسن» بَأسهُ «والضمير لله، وفيها مخالفة للشواذُ،» عَنِ القومِ المُجْرمينَ «أي: المشركين.
قوله(11/231)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} أي: في خبر يوسف وإخوته، «عِبْرَةٌ» : موعظة «لأولِي الألبابِ» .
ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} .
قوله: {لقد كان في قصصهم} أي: في خبر يوسف وإخوته، " عبرة ": موعظة " لأولي الألباب ".
قرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث، والكسائي في رواية الأنطاكي: " قصصهم " بكسر القاف وهو جمع قصة، وبهذه القراءة رجح الزمخشري عود الضمر في " قصصهم " في القراءة أبو عمرو في رواية عبد الوارث، والكسائيُّ في رواية الأنطاكي: «قِصَصِهِمْ» بكسر القاف هو جمع قصَّة، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عود الضمر في «قَصصِهمْ» في القراءة المشهورة على الرسل وحدهم.
وحكى غيره: أنه يجوز أن يعود على الرسل، وعلى يوسف وإخوته جميعاً كما تقدم.
قال أبو حيان: «ولا ينصره يعني هذه القراءة؛ إذ قصص يوسف، وأبيه، إخوته تشتمل على قصص كثيرة، وأنباء مخلفة» .
فصل
الاعتبار: عبارة عن العبور من الطريق المعلومة إلى الطريق المجهولة، والمراد منه: التأمُّل والتَّفكر، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور:
أحدها: أنَّ الذي قدر على إعزاز يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، بعد إلقائه في الجبِّ وإعلائه بعد سجنه، وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون أنه عبد لهم وجمعه مع أبيه وإخوته على ما أحبَّ بعد المدة الطويلة؛ لقادرٌ على إعزاز محمد صلى عليه وسلم، وإعلاء كلمته.
وثاينها: أن الأخبار عنه إخبارٌ عن الغيب، وفكان معجزة دالَّة على صدق محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وثالثها: أنه قال في أوَّل السورة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] ثم قال هنا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} وذلك تنبيه على أن حسن هذه القصَّة، إنَّما هو لأجل حصول العبرة منها، ومعرفة الحكمة والقدرة.
فإن قيل: لم قال: {عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} مع أن قوم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا ذوي عقول وأحلام، وقد كان الكثير منهم لم يعتبرْ؟ .
فالجواب: أنَّ جميعهم كانوا متمكِّنين من الاعتبار، والمراد من وصف هذه القصَّة بكونها عبرة كونها بحيث يتعبرها العاقل.(11/231)
قوله {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} في «كَانَ» ضمير عائدٌ على القرآن، أي: ما كان القرآن المتضمن لهذه القصَّة الغريبة حديثاُ مختلقاً.
وقيل: بل هو عائدٌ على القصص، أي: ما كان القصص المذكور في قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} .
وقال الزمخشري: «فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في: {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} فيم قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن أي: ما كان القرآن حديثاً.
قال شهاب الدين:» لأنه لو عاد على «قِصَصِيهم» بكسر القاف؛ لوجب أن يكون «كَانَتْ» بالتاء «لإسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤمث، وإن كان مجازيًّا.
قوله: {ولكن تَصْدِيقَ} العامة عل نصب» تصيدقَ «والثلاثة بعده، على أنَّها منسوقة على خبر» كان «أي: ولكن كان تصديق.
وقرأ حمدان بن أعين، وعيسى الكوفي، وعيسى القفي: برفع» تَصْديقَ «وما بعده، على أنَّها أخبار لمبتدأ مضمر، أي: ولكن هو تصديق، أي: الحديث ذو تصديق، وقد سمع من العرب مثل هذا بالنصب والرفع؛ قال ذو الرمَّة: [الطويل]
3158 - ومَاك
كَانَ مالِي من ثُراثٍ وَرِثتهُ ... ولا دِيةً كَانتْ ولا كَسْبَ مَأثَم
ولكِنْ عَطاءُ اللهِ من كُلِّ رحْلَةٍ ... إلى كُلِّ مَحْجُوبِ السُّرادقِ خِضْرمِ
وقال لوطُ بن عبيد الله: [الطويل]
3159 - وإنِّي بَحمْدِ الله لا مَالَ مُسلمٍ ... أخَذْتُ ولا مُعطِي اليَمينِ مُخالفِ
ولكنْ عَطاء اللهِ منْ كُلِّ فَاجرٌ ... قَصِيِّ المحَلِّ مُعْورٍ للمَقَارِفِ
يروى: «عَطاءَ الله» في البيتين منصوباً على: «ولكن كان عطاء الله» ومرفوعاً على: «ولكن هُو عطاءُ الله» .
قال الفراء والزجاج: «ونصي» تَصْديقَ «على تقدير: ولكن كان تصديق الذي بين(11/232)
يديه، كقوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله} [الأحزاب: 40] ثم قالا: ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه؛ فكأنَّهما لم يطَّلعا على أنهما قراءة.
فصل
معنى الآية: أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يصحُّ منه أن يفترى هذه القصَّة، بحيث تكون مطابقة لها من غير تفاوت.
وقيل: إن القرآن ليس بكذب في نفسه؛ لأنَّه لا يصحُّ أن يفترى، ثم أكَّد كونه غير مفترى بقوله: {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} وهو إشارة إلى أنَّ هذه القصَّة وردت موافقة لما في التوراة، وسائر الكتب الإلهيَّة، ثم وصفه بأن فيه: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} .
قيل: كل شيء في واقعة يوسف مع أبيه، وإخوته.
وقيل: يعود على كلِّ القرآن؛ كقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
والأولى: أن يجعل هذا الوصف وصفاً لكلِّ القرآن، ويكون المراد ما تضمَّنه من الحلال، والحرام، وسائر ما يتَّصل بالدِّين.
قال الواحدي:» وعلى هذين التفسرين جميعاً؛ فهو من العام الذي أريد به الخاصُّ؛ كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] يريد: وسعت كل شيء أن يدخل فيها، {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] .
ثمَّ وصفه بكونه هدّى في الدنيا، وسبباً لحصول الرحمة في القيامة، {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خصَّهم الله بالذِّكرح لأنَّهم الذين انتفعوا به، كقوله تعالى {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] .
وروى أبيُّ بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف كرَّم وبجَّل وعظَّم: «عَلِّموا أرقَّاءكُمْ سُورَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فإنَّهُ أيُّما مسلم تلاها، وعلَّمَها أهْلهُ ومَا مَلكَتْ يَمِينهُ، هَوَّنَ اللهُ عَليْهِ سَكرَاتِ المَوْتِ، وأعْطَاهُ القُوَّة أن لا يَحْسُدَ مُسْلِمَا» .(11/233)
سورة الرعد
مكية إلا قوله تعالى: {ولا يزال الذين كفروا} [الآية: 31] وقوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلا} [الآية: 43] إلى آخرها. وقال الكلبي، ومقاتل: هي مدنية، وقال ابن عباس والأصم: هي مدنية إلا قوله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} [الآية: 31] .(11/234)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
وهي ثلاثة وأربعون آية، وعدد كلماتها ثمانمائة وخمس وخمسون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {المر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} قال ابن عبَّاس: معناه أنا الله أعلمُ.
وقال أيضاً في رواية عطاءٍ: أنَا اللهُ الملكُ الرَّحمنُ. وأمالها أبو عمرو والكسائي وفخمها عاصم، وجماعةٌ.
قوله {تِلْكَ آيَاتُ} يجوز في «تِلْكَ» أن تكون مبتدأ، والخبر «آيَاتُ» ، والمشار إليه آيات السُّورةِ، والمراد ب «الكِتَابِ» : السُّورةُ.(11/234)
وقيل: إشارة إلى ما قصَّ عليه من أنباء الرسل، وهذا الجملة لا محلَّ لها إن قيل: إن «المر» كلامٌ مستقلٌّ، أو قصد به مجرَّد التنبيه، وفي محل رفع على الخبر إن قيل: «المر» مبتدأ، ويجوز أن يكون «تِلْكَ» خبراً ل «المر» و {آيَاتُ الكتاب} بدل، أو بيان، وتقدم تقريرُ هذا أوَّل الكتابِ.
قوله: {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ} يجوز في أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ، و «الحَقُّ» خبره.
الثاني: أن يكون مبتدأ و «مِنْ ربِّكَ» خبره، وعلى هذا ف «الحَقُّ» خبر مبتدأ مضمر، أي هو الحق.
الثالث: أن «الحَقَّ» خبر بعد خبرٍ.
الرابع: أن يكون «مِن ربِّك الحقُّ» كلاهما خبر واحد، قاله أبو البقاءِ، والحوفيُّ وفيه بعد، إذ ليس هو مثل: «حُلْوٌ حَامضٌ.
الخامس: أن يكون» الَّذي «صفة للكتاب.
قال أبو البقاءِ:» وادخلت الواو في لفظه، كما أدخلت في «النَّازِلينَ والطيبين» يعني أنَّ الواو تدخل على الوصف، والزمخشري يجيزهن ويجعل الواو في ذلك تأكيداً، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحجر في قوله {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] .
وقوله: (في النزالين والطيبين) يشير إلى بيت الخرنقِ بنت هفّان في مدحها لقومها: [الكامل]
3160 - لا يَبْعدَنْ قَوْمِي الَّذينَ هُمُ ... سُمُّ العُداةِ وَآفةُ الجُزْرِ
النَّازِلينَ بِكُلِّ مُعتَركٍ ... والطَّيبينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ
فعطف «الطَّيبين» على «النَّازلينَ» وهما صفتان لقومٍ معينين، إلاَّ أن القوم بين الآية، والبيت واضحٌ، من حيث إنَّ البيت فيه عطف صفةٍ على مثلها، والآية ليست كذلك.
وقال أبو حيَّان: أن تكون الآية مما عطف [فيه] وصف على مثله، فقال: وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون «والَّذِي» في موضع رفع عطفاً على «آيَاتُ» ، وأجاز هو، وابن عطيَّة: أن يكون «والَّذي» في مضع خفضٍ، وعلى هذين الإعرابين، يكون «الحقُّ» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق، ويكون «والَّذي» ممَّا عطف فيه الوصفُ على الوصفِ، وهما لشيءٍ واحدٍ، كما تقول: جاءني الظريف العاقلُ، وأنت تريدُ شخصاً واحداً، من ذلك قول الشاعر: [المتقارب](11/235)
3161 - إلى المَلكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ ... ولَيْثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ
قال شهابُ الِّدين: وأين الوصف المعطوف عليه؛ حتى نجعله مثل ابيت الذي أنشده.
السادس: أن يكون «الَّذي» مرفوعاً نسقاً على «آيَاتُ: كما تقدَّمت حكايته عن الحوفي. وجوَّز الحوفي أيضاً: أن يكون» الحقُّ «نعتاً ل» الَّذي «حال عطفه على» آيَاتُ الكِتَابِ «.
فتلخَّص في» الحق «خمسة أوجه.
أنَّهُ خبرٌ أوَّل، أو ثان، أو هو ما قبله، أو خبراً لمبتدأ مضمر، أو صفة ل» الَّذي «إذا جعلناه معطوفاً على» آيَاتُ «.
فصل
قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أراد ب: الكِتابِ» القرآن ومعناه: هذه آيات الكتاب، يعني: القرآن، ثمَّ ابتدأ، وهذا القرآن {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} وهذا زجرٌ وتهديدٌ.
وقال مقاتلُ: نزلت في مشركي مكَّة حين قالوا: إنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقوله من تلقاء نفسه فردَّ قولهم.
فصل
تمسَّك نفاةُ القياس بهذه الآية وقالوا: الحكمُ المستنبطُ بالقياس غير ما نزل من عند الله تعالى وإلاَّ لكان من لم يحكم به كافر، لقوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] ، وبالإجماع لا يكفرُ، فثبت أنَّ الحكم المثبت بالقياس غير نازلٍ من عند الله تعالى، وإذا كان كذلك، وجب ألاَّ يكون حقًّا، وإذا لم يكن حقًّا، وجب أن يكون باطلاً، لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} } [يونس: 32] وأجيبك بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً؛ لأنَّه تعالى أمر العملِ بالقياسِ، فكان الحكمُ الَّذي دلَّ عليه القياس نازلاً من عند الله تعالى.
قوله تعالى {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الآية: 2] لما ذكر انَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون، ذكر عقبهُ ما ديلُّ على صحَّة التَّوحيد، والمعاد، وهو هذه الآية.
قوله: «اللهُ» قال الزَّمخشريُّ: «اللهُ» مبتدأ، و {الذي رَفَعَ السماوات} خبره بدليل(11/236)
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} ويجوز أن يكون {الذي رَفَعَ السماوات} صفة، وقوله: {يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات} خبراً «.
وقوله:» بِغَيْرِ عمدٍ «هذا الجار في محلِّ نصب على الحال من» السَّمواتِ «أي: رفعها خالية من عمدٍ، ثمَّ في هذا الكلام وجهان:
أحدهما: انتفاء العمدِ، والرؤية جميعاً، أي: لا عمد؛ فلا رؤية، يعني: لا عمد لها؛ فلا ترى، وإليه ذهب الجمهور.
والثاني: أنَّ لهما عمداً، ولكنها غير مرئيَّة.
وعن ابن عبَّاسٍ: ما يدريك أنّضها بعمدٍ لا ترى، وإليه ذهب مجاهد وهذا قريب من قولهم:» مَا رأيتُ رجُلاً صالحاً «، ونحو: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} [البقرة: 273] [الطويل]
3162 - على لا حِبٍ لا يُهْتَدَى بِمنَارِهِ..... ... ... ... ... ... . .
وقد تقدَّم هذا، إذا قلنا: إنَّ «تَروْنَهَا» صفة أمَّا إذا قلنا: إنَّها مستأنفةٌ كما سيأتي؛ فيتعيّن أن لا عمد لها.
والعامة على فتح العين، والميم، وهو اسم جمع، وعبارة بعضهم: أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة، وفي مفرده احتمالان:
أحدهما: أنَّه عماد مثل «إهَاب وأهُب» .
والثاني: أنه عمودٌ، كأدِيم وأدُم، وقَضِيتم وقُضُم، كذا قاله أبو حيَّان: وقال أبو البقاءِ: «جمع عماد، أو عمود مثل: إدِيم وأدُم، وأفِيق وأفُق، وإهَاب وأهُب، ولا خامس لها» ، فجعلوا فعلاً كفعيل في ذلك.
وفيه نظر؛ لأنَّ الأوزان لها خصوصية، فلا يلزمُ من جمع «فعيل» وعلى كذا أن يجمع عليه «فعول» ، فكان ينبغي أن ينظروه بأن: «فَعُلاً» جمع على «فَعَل» ، ثم قول أبي البقاءِ «ولا خامس لها» يعني أنه لم يجمع على: «فُعُل» إلاَّ هذه الخمسة «عِمادٌ وعَمُودٌ وأدِيمٌ وأفِيقٌ وإهَابٌ» .
وهذا الحصرُ ممنوعٌ لما تقدَّم من نحو: قَضِيمٌ وقُضُمٌ، ويجمعان في القلَّة على أعمدة. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن وثاب: «عُمُد» بضمتين، ومفرده يحتمل أن يكون عِمَاداً، كشِهَاب، وشُهُب، وكِتَاب، وكُتُب، وأ، يكون عَمُوداً، كرسُولٍ، ورُسُل وقد قرىء في السبع: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} [الهمز: 9] بالوجهين.(11/237)
وقال ابن عطية في «عَمَد: اسم جمع عمود، والباب في جمعه» عُمُد «بضم الحروف الثلاثة، كرسول ورُسُلٌ.
قال أبو حيان:» وهذا وهمٌ، وصوابه: بضمِّ الحرفين؛ لأنَّ الثالث هو حرف الإعراب، فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمعِ «.
والعِمَادُ والعَمود: ما يعمدُ به، أي: يسند، ويقال: عمدت الحائطَ أعمدهُ عَمْداً، أي: أدْعمتهُ، فاعْتمدَ الحائطُ على العِمَادِ، والعَمَدُ: الأساطينُ قال النابغة: [البسيط]
3163 - وخَيِّسِ الجِنَّ إنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعَمدِ
والعَمْدُ: قصد الشيء، والاستناد إليهن فهو ضدُّ السَّهو، وعمودُ الصُّبْحِ: ابتداءُ ضوئهِ تشبيهاً بعمُودِ الحديدِ في الهَيئةِ، والعُمْدَة: ما يُعْتمدُ عليه من مالِ وغيرهِ والعَمِيدُ: السَّيِّد الذي يعمدهُ النَّاسُ، أي: يَقْصدُونَهُ.
قوله» تَرَوْنَها «في الضَّمير المنصُوب وجهان:
أحدهما: أنَّهُ عائدٌ على:» عَمَدٍ «، وهو أقرب مذكورٍ، وحينئذ تكون الجملة في محل جر صفة ل» عَمَدٍ «، ويجيء فيه الاحتمالانِ المتقدِّمانِ من كون العمد موجودة لكنَّها لا ترى، أو غير موجودة ألبتََّة.
والثاني: أنَّ الضَّمير عائد على» السَّمواتِ «، ثمَّ في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنَّها مستأنفة لا محلَّ لها، أي: استشهد برؤيتهم لها لذلك، ولم يذكر الزمخشري غيره.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من هاء:» تَرَوْنهَا «وتكون حالاً مقدرة؛ لأنها حين رفعها لم نكن مخلوقين، والتقدير: رفعها مرئية لكم.
وقرأ أبي: «تَرَوْنهُ» بالتَّذكير مراعة للفظ «عَمَدٍ» إذ هو اسمُ جمع، وهذه القراءة رجح بها الزمخشري كون الجملة صفة ل «عَمَدٍ» ، وزعم بعضهم أن «تَرَوْنَهَا» خبر لفظاً، ومعناه الأمر، أي روها، وانظروا إليها لتعتبروا بها، وهو بعيد؛ ويتعين على هذا أن يكون مستأنفاً، لأن الطَّلب لا يقع صفة، ولا حالاً.
و «ثُمَّ» في «ثُمَّ اسْتَوَى» لمجرَّدِ العطف لا للترتيبح لأنَّ الاستواء على العرشِ غير مرتب على رفع السموات.(11/238)
قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} علا عليه: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} لمنافع خلقه، فهما مقهوران يجريان على ما يريد الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن عبَّاسٍ: للشَّمس مائة وثمانون منزلاً كُلَّ يوم لها منزلٌ، وذلك يتمُّ في ستَّة أشهرٍ، ثم تعود مرة أخرى إلى واحدٍ منها في ستَّة أشهر أخرى، وكذلك للقمر ثمانية وعشرون منزلاً، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} .
وتحقيقه: أن الله قدَّر لكلِّ واحدٍ من هذه الكواكب سيراً خاصًّا إلى جهة خاصَّة بمقدارٍ خاص من السُّرعةِ، والبُطءِ، وإذا كان كذلك؛ لزم أن يكون لها بحسب كلِّ لحظة لمحة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك.
وقيل: المراد بقوله: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} كونها متحركين إلى يوم القيامة فتنقطع هذه الحركات كما وصف تعالى في قوله: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] {إِذَا السمآء انشقت} [الانشقاق: 1] و {إِذَا السمآء انفطرت} [الإنفطار: 1] {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9] كقوله تعالى: {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] .
قوله: {يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات} قرأ العامة هذين الحرفين بالياء من تحت جرياً على ضمير اسم الله تعالى وفيهما وجهان:
أظهرهما: أنهما مستأنفان للإخبار بذلك.
والثاني: أنَّ الاولى حالٌ من فاعل «سخَّر» ، والثاني حالٌ من فاعل: «يُدبِّرُ» .
وقرأ النخعي، وأبان بن تغلب: (ندبر الأمر نفصل) بالنون فيهما، والحسن والأعمش: «نُفَصِّلُ» بالنون «يُدبِّرُ» بالياء.
قال المهدويُّ: لم يختلف في: «يُدبِّرُ» يعني أنَّه بالياء، وليس كما ذكر لما تقدَّم عن النخعي، وأبان بن تغلب.
فصل
قوله: {يُدَبِّرُ الأمر} يقضيه وحده، وحمل كل واحد من المفسرين التَّدبير على نوع آخر من أحوال العالم، والأولى حمله على الكل، فهو يدبِّرهم بالإيجاد، والإعدامِ والإحياءِ، والإماتةِ، والاعِدتمادِ، والانقيادِ، ويدخل فيه إنزال الوحي، وبعث الرسلَ وتكليف العبادِ، وفيه دليلٌ عجيبٌ على كمال القدرةِ والرحمة؛ لأنًَّ هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثَّرى يحتوي على أجناسٍ، وأنواع لا يحيطُ بها إلا الله تعالى.
والدليل المذكور على تدبير كلِّ واحدٍ بوصفه في موضعه وطبيعته، ومن المعلوم أنَّ(11/239)
من اشتغل بتدبير شيءٍ، فإنَّهُ لا يمكنه تدبير شيء آخر، فإنه لا يشغله شأنٌ عن شأن، وإذا تأمَّل العاقل في هذه الآية علم أنَّهُ تعالى يدبِّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبيرٌ عن تدبير، وذلك يدل على أنه في ذاته، وصفاته، وعلمه، وقدرته غير مشابه للمخلوقات، والممكنات.
قوله {يُفَصِّلُ الآيات} يبين الدلالات الدَّالة على إلا هيته، وعلمه، وحكمه.
واعلم أنَّ الدَّلائل الدالَّة على وجود الصَّانع قسمان:
أحدهما: الموجودات الباقية الدائمةُ كالأفلاكِ، والشمس، والقمر، والكواكب وهذا القسم تقدَّم ذكره.
والثاني: الموجودات الحادثة المتغيرة، وهي الموتُ بعد الحياة، والفقرُ بد الغنى، والهرم بعد الصحَّة، وكون الأحمق في أهنأ العيش، والعاقل في أشد الأحوال، فهذا النَّوعُ من الموجودات، والأحوال دلالتها على وجود الصَّانع الحكيم ظاهرةٌ.
فقوله: {يُفَصِّلُ الآيات} إشارة إلى أنَّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز، والتفصيل.
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} لكي توقنوا بوعده، وتصدِّقوا.
واعلم أنَّ الدلائل الدالة على وجود الصَّانع الحكيم تدلُّ ايضاً على صحَّة القول بالحشرِ والنشر؛ لأنَّ من قدر على خلق هذه الأشياء، وتدبيرها على عظمها، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر، والنشر أولى.
وروي أنَّ رجلاً قال لعليِّ بن أبي طالبٍ كرَّم الله وجهه: كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمعُ نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة.
واعلم أنَّهُ تعالى كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيِّة، والنيرات الكوكبية في الجو العالي، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثَّرى لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، كذلك يحاسبُ الخلق بحيث لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ.
واعلم أنَّ لفظ «اللِّقاءِ» يدل على رؤية اللهِ تعال وقد تقدَّم تقريره.
{وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} [الآية: 3] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} بسطها، قال الأصم: المد: البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله: {مَدَّ الأرض} ليشعر بأنَّه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً، لا يقع البصر على منتهاه، وقال قومٌ كانت الأرض مكورة فمدَّها، ودحاها من مكَّة من تحت(11/240)
البيت، فذهبت كذا وكذا وقال آخرون: كانت مجتمعة عند بيت المقدس، فقال لها: اذهبي كذا، وكذا.
قال ابن الخطيب: وهذا القول إنَّما يتمٌّ إذا قلنا: الأرض مسطحةٌ لا كرةٌ وأصحاب هذا القول، احتجوا عليه بقوله تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وهو مشكل من وجهين:
الأول: أنَّه ثبت بالدليل أنَّ الأرض كرةٌ، فإن قالوا: قوله تعالى: مد الأرض ينافي كونها كرة.
قلنا: لا نسلم؛ لأنَّ الأرض جسم عظيم، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان لكم قطعة منها تشاهدُ كالسَّطح، والتَّفاوت الحاصل بينه، وبين السَّطح، لايصحلُ إلاَّ في علم الله تبارك وتعالى إلا في قوله تعالى
{والجبال أَوْتَاداً} [النبأ: 7] مع أن العالم من النَّاس يستقرُّون عليه، فكذلك هنا.
والثاني: أنَّ هذه الآية إنَّما ذكرت ليستدلّ على وجود الصَّانع؛ والشروط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً، حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع لأنَّ الشيء إذا رأيت حجمه، ومقداره، صار ذلك الحجم، وذلك المقدار عبرة؛ فثبت أنَّ قوله: {مَدَّ الأرض} إشارة إلى أنه تعالى هو الذي جعل الأرض مختصة بمقدار معيَّن لا يزيدُ ولا ينقص، والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً ممَّا هو الآن، وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه، فاختصاصه بذلك المقدار المعيَّن لا بدَّ وأن يكون بتخصيص مخصَّصِ، وتقدير مقدِّرٍ.
قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} وهي الجبالُ الثَّوابت، وقاعدة هذا الوصف لا تطَّرد إلا الإناث إلا أن المكسر مما لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث، وأيضاً كثرة استعماله الجوامد، فجمع حائط حوائطن وكاهل كواهل. وقيل: هو جمع راسية، والهاء للمبالغة، والرسوُّ: الثبوت، قال الشاعر: [الطويل]
3164 - بِهِ خَالدَاتٌ مَا يرِمْنَ وهَامِدٌ ... وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدةُ بالفِهْرِ
فصل
قال بان عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كان أبو قبيسٍ أوَّل جبلٍ وضع على وجه الأرض.(11/241)
واعلم أنَّ الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصَّانع القادر الحكيم من وجوه:
أولها: أنَّ طبيعة الارض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوابنها دون البعضِ لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر العليم.
قالت الفلاسفة: الجبال إنّضما تولّدت من البخارات؛ لأنَّ البخارات كانت في هذا الجانب من العالمِ، كان تتولدُ في البحر طيناً لزجاً، ثم يقوى فيه تأثير الشمس؛ فينقلب حجراً كما نشاهده، ثمَّ إنَّ الماء كان يفور ويقلّ؛ فلهذا السببت تولّدت هذه الجبالُ وإنما حصلت هذه الجبالُ في هذا الجانب من العالمك لأن في الدّهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال، والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض، فكانل التسخين أقوى، وشدّة والسُّخونة توجب انجذاب الطوبات، فحين كان الحضيض في جانب الشمالِ، كان البخارُ في جانب الشمال، ولما انتقل الأوج إلى جانب الشمال، والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبالُ في جانب الشمال، وهذا ضعيفٌ من وجوه:
الأول: أنَّ حصول الطِّين في البحر أمر عام، ووقوع الشَّمس عليها أيضاً أمر عامٌّ، فلم حصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون العبضِ؟ .
الثاني: أنَّا نشاهدُ بعض الجبال كأنَّ تلك الأحجار موضوعة أقساماً كأن البنَّاءَ بناه من لبِنَاتٍ كثيرة موضوع بعضها فوق بعضٍ، ويبعدُ حصول مثل هذا التركيب من السَّبب الذي ذكروه.
الثالث: أنَّ أوج الشَّمس الآن قريب من أوَّل السَّرطان، فعلى هذا من أوَّل الوقت الذي انتقل أوجُ الشمس إلى الجانب الشَّمالي مضى قريباً من تعسة آلاف سنة، وبهذا التقدير: أنَّ الجبال في هذه المدَّة الطويلة كانت في التفتت، فوجب أن لايبقى من الأحجار شيءٌ، لكن ليس الأمرُ كذلك؛ فعلمنا أنَّ السب بالذي ذكروه ضعيف.
الوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبالِ على وجود الصَّانع: ما يحصلُ فيها من المعادن، ومواضع الجواهر النفيسة، وما يحصل فيها من معادن الدخان ومعادن النفط، والكبريت، فتكون طبيعة الأرض واحدة، وكون الجبل واحداً في الطَّبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدلُّ ظاهراً على أنَّ بتدقير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات.
الوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال: وذلك أنَّ بسببها تتولدُ الأنهار على وجه الأرض؛ لأنَّ الحجر جسمٌ صلبٌ، فإذا تصادعت الأبخرة من قعْرِ الأرض، ووصلت إلى الجبال انحبست هناك، فلا تزال تتكامل، فيحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثمَّ إنَّها لكثرتها، وقوتها تثقب، وتخرج، وتسيل على وجه الأرض، فمنفعة الجبال في تولدِ الأنهارِ هو من هذا الوجه، ولهذا السَّبب ما ذكره الله الجبال إلاَّ وذكر بعدها الأنهار في(11/242)
أكثر الأمر كهذه الآية، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً} [المرسلات: 27] .
فصل
قال القرطبي: في هذه الآية ردٌّ على من زعم أنَّ الأرض كالكرةِ لقوله: {مَدَّ الأرض} ، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبداً بما عليها، وزعم ابنُ الرَّوانديُّ: أنَّ تحت الأرض جسماً صاعداً كالرِّيحِ الصعادة، وهي منحدرة فاعتدل الهاوي، والصعَّاعدي في الجرم والقوة فتوافقا.
وزعم آخرون: أن الأرض مركبة من جسمين.
أحدهما: منحدرٌ، والآخر: مصدع فاعتدلا، فلذلك وقفت، والذي عليه المسلمون، وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض، وسكونها، ومدِّها، وأنَّ حركتها إنَّما تكونُ في العادةِ بزلزلةٍ تصيبها والله أعلم.
قوله: {وَمِن كُلِّ الثمرات} يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «جَعَلَ» [بعده] ، أي: وجعل فيها زوجين اثنين من كلِّ صنفٍ من أصناف الثمرات، وهو ظاهرٌ.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من: «اثْنَيْنِ» ؛ لأنَّه في الأصل صفة لهُ.
الثالث: أن يتمَّ الكلام على قوله: {وَمِن كُلِّ الثمرات} فيتعلق ب «جَعَلَ» الأولى على أنه من باب عطف المفردات، يعني عطف على معمول «جعل» الأولى تقديره: أنه جعل في الأرض كذا، وكذا ومن كل الثمرات.
قال أبو البقاء: ويكون «جَعل» الثاني مستأنفاً، و «يُغْشِي اللَّيْلَ» تقدَّم الكلام فيه، وهو إمَّا مستأنفٌ، وإمَّا حال من فاعل الأفعال.
فصل
المعنى: ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين، أي: صنفين اثنين: أصفر، وأحمر، وحلواً، وحامضاً.
وهذا النوعُ الثالث في الاستدلال بعجائب خلقة النبات.
واعلم أن الحبَّة إذا وقعت في الأرض ربت وكبرت؛ فبسبب ذلك ينشقُّ أعلاها وأسفلها، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصَّاعدة، ويخرج من الشق الأسفل العروق(11/243)
الغائصة في الأرض، وهذا من العجائب؛ لأنَّ طبيعة تلك الحبَّة واحدة وتأثير الطبائع، والأفلاك، والكواكب فيها واحد، ثم إنه يخرد من الجانب الأعلى من تلك الحبَّة جرمٌ صاعدٌ إلى الهواء، ومن الجانب الأسفل جرمٌ غائصٌ في الأرض، ومن المحال أن يتولَّد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أنَّ ذلك إنَّما كان بتدبير المدبِّر العليم الحكيمِ لا بسبب الطَّبع، والخاصة، ثم إنَّ الشجرة النَّامية في تلك الجهة بعضها يكون خشباً، وبعضها يكون نوراً، وبعضها يكون ثمرة، ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسامٌ مختلفة الطَّبائع مثل الجوز ففيه أربعة أنواع من القشور، فالقشرة الأعلى، وتحته القشرة الخشبية، وتحته القشرة المحيطة باللبَّ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرَّقة تمتازُ عمَّا فوقها حال كون الجوز واللوز رطباً وأيضاً: فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة فالأترجد قشرهُ جارّ يابس ولحمه وماؤه حارّان رطبان؛ فثبت أنَّ هذه الطَّبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع، وتأثيرات الأنجم، والأفلاك على زعم من يدعيه لا بد وأن يكون بتدبير العليمِ القدير.
فإن قيل: الزَّوجان لا بدَّ وأن يكونا اثنين، فما الفائدة في قوله: «زَوْجيْنِ اثْنَيْنِ» ؟ .
فالجواب: أنه تعالى أوَّل ما خلق العالم، وخلق فيه الأشجار، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط، فلو قال: «زَوْجَيْنِ» لم يعلم أنَّ المراد النوع، أو الشخص فلما قال: «اثْنَيْنِ» علمنا أنه تعالى أوَّل ما خلق من كل زوجين اثنين [لا أقل ولا أزيد، والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة، إلا أنهم ابتدءوا من زوجين اثنين] بالشَّخص وهما: آدم وحواء عليهما السلام وكذلك القول في جميع الأشجار، والزروع، والله أعلم.
النوع الرابع: الاستدلال بأحوال الليل، والنهار، وإليه الإشارة بقوله: {يُغْشِي الليل النهار} وقد سبق الكلام فيه فأغنى عن الإعادة.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيستدلون، والتَّفكر: تصرف القلب في طلب المعاني.
قوله: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} العامة على رفع: «قِطَعٌ» «وجَنَّاتٌ» إمَّا على الابتداء، وإما على الفاعلية بالجار قبله.
وقرىء «قِطَعاً متَجَاورَاتٍ» بالنصب، وكذلك هي في بعض المصاحف على إضمار جعل. وقرأ الحسن: «وجَنَّاتِ» بكسر التَّاءِ وفيها أوجهٌ:(11/244)
أحدها: أنه جر عطفاً على «كُلِّ الثَّمراتِ» .
الثاني: أنه نصب نسقاً على: «زَوحَيْنِ اثْنَينِ» قاله الزمخشري.
الثالث: أنه نصبه نسقاً على: «رَواسِيَ» .
الرابع: أنه نصبه بإضمار جعلن وهو أولى لكثرة الفواصل في الأوجه قبله.
قال أبو البقاء: ولم يقرأ أحد منهم «وزَرْعاً» بالنصب «.
قوله: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} قرأ ابن كثيرٍن وأبو عمرو، وحفص: بالرفع في الأربعة، والباقون بالخفض، فالرفع في «زَرْعٌ ونَخِيلٌ» للنسق على «قِطَعٌ» وفي «صِنْوانٌ» لكونه تابعاً ل «نَخِيلٌ» ، و «غَيْرُ» لعطفه عليه.
وعاب أبو حيَّان على ابن عطيَّة قوله: «عطفاً على: قِطَعٌ» . قال: وليست عبارة محررة؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطفٍ، وهو «صِنوانٌ» «.
قال شهابُ الدين:» ومثل هذا [غير معيب] ؛ لأنَّه عطف محقق غاية ما فيه أنَّ بعض ذلك تابع، فلا يقدحُ في هذه العبارة، والخفض مراعاة ل «أعنابٍ» «.
وقال ابن عطيَّة:» عطفاً على «أعْنابٍ» ، وعابها أبو حيان بما تقدَّم وجوابه ما تقدَّم.
وقد طعن قومٌ على هذه القراءة، وقالوا: ليس الزَّرعُ من الجنَّات، وروي لك عن أبي عمر.
وقد أجيب عن ذلك: بأنَّ الجنَّة احتوت على النَّخيل، والأعناب، لقوله تعالى {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32] .
وقال أبو البقاءِ: «وقيل: المعنى، ونبات زرع فعطفه على المعنى» .
قال شهاب الدين: «ولا أدري ما هذا الجوابُ؛ لأنَّ الذي يمنعُ أن يكون الجنة من الزَّرعِ بمعنى أن يكون من نبات الزَّرعِ، وأي فرق» . والصنوان: جمع صنوٍ كقنوان جمع قنو، وقد تقدَّم تحقيق هذا التّنبيه في الأنعام.
و «الصِّنْوُ» : الفرع يجمعه وفرعاً آخر أصل واحد، وأصله المثل، وفي الحديث: «عمَّ(11/245)
الرَّجل صِنْوُ أبيه» ، أي: مثله؛ أو لأنهما يجمعهما أصل واحدٌ والعامة على كسر الصاد.
وقرأ السلميُّ، وابن مصرف، وزيد بن عليٍّ: بضمها، وهي لغة قيسٍ، وتميم كذئب، وذُؤبان.
وقرأ الحسنُ، وقتادة: بفتحها، وهو اسم جمعٍ لا جمع تكسير؛ لأنه لس من أبنية «فعلان» ، ونظير «صنْوان» بالفتح «السَّعْدَان» هذا جمعه في الكثرةِ، وأمَّا القلَّة، فيجمع على «أصْنَاء» ك «جَمَل، وأجْمَال» .
قوله: {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ «يُسْقَى» بالياء من تحت أي يسقى بما ذكرنا، والباقون بالتاء من فوق مراعاة للفظ ما تقدَّم، وللتأنيث في قوله «وجَنَّاتٍ» ، ولقوله: «بَعْضَهَا» .
قوله «ونُفَصِّلُ» قرأة بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل: الأخوان، والباقون بنون العظمة، ويحيى بن يعمر، وأبو حيوة: «يُفَضَّلُ» بالياء منبيًّا للمفعول و «بَعضُهَا» رفعاً.
وقال أبو حاتم: وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر، وهو أوَّل من نقط المصاحف، وتقدَّم [الخلاف] في الأكل في البقرةِ.
وفي «الأكلٍ» وجهان:
أظهرهما: أنَّه ظرفٌ [ل «نُفَضِّلُ» ] .
والثاني: أنه حال من «بَعْضِهَا» ، أي: نُفَضِّلُ بعضها مأكولاً، أي: وفيه الأكل، قاله أبو البقاءِ.
وفيه بعد جهة المعنى، والصناعة.
فصل
قوله: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} قال الأصمُّ: أرضٌ قريبةٌ من أرض أخرى واحدة طيبة، وأخرى سبخة، وأخرى رملة، وأخرى حصباء وحصى، وأخرى تكون حمراء، وأخرى تكونُ سوداء.
وبالجملة: فاختلافُ بقاع الأرضِ في الارتفاع، والانخفاضِ، والطبعِ، والخاصيةِ أمر معلوم.(11/246)
«وجَنَّاتٍ» بساتين: {مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} تقدَّم الكلام على الصنو، والصنوان، وهي النخلات يجمعهن أصلٌ واحد، «وغيْرُ صِنْوانٍ» هي النَّخلةُ المنفردةُ بأصلها.
قال المفسريون: الصنوان: المجتمع، وغير الصنوان متفرق، ولا فرق في الصنوانِ، والقنوان بين التثنية والجمع إلاَّ في الإعرابِ، وذلك أنَّ النُّونَ في التثنية مكسورةٌ غير منونة وفي الجمع منونة.
{يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} والماء: جسم رقيق مائع به حياة كلِّ نامٍ.
{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل} في الثَّمر، والطَّعم، جاء في الحديث: «ونُفصِّلُ بعضهَا على بَعْضٍ في الأكلِ» قال: «الفارسي والدقلُ الحلوُ والحَامضُ» .
قال مجاهد: كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد.
وحكى الواحديُّ عن الزجاج: أنَّ الأكل: الثَّمر الذي يؤكل، وحكى عن غيره أنَّ الأكل: المهيّأ للأكل.
قال ابنُ الخطيب: «وهاذ أولى؛ لقوله تعالى في صفة الجنة: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد: 35] : وهو عامٌّ في جميع المطعومات» .
قال الحسن: هذا مثلٌ ضرب لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن، فسطحها؛ فصارت قطعاً متجاورات، فينزل عليها الماءُ من السَّماءِ فتخرج هذه زهرتها، وشجرتها، ونباتها، وثمرها، وتخرجُ هذه سبخها وملحها وخبيثها، وكلٌّ يصقى بماء واحد، كذلك النًّاسُ خلقوا من آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فتنزل عليهم من السَّماءِ تذكرة، فترق قلوب قوم، فتخشع، وتقْسُو قلوب قوم فتلهو.
قال الحسنُ: والله ما جالس القرآن أحدٌ، إلاَّ قام من عنده بزيادة، أو نقصان، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} [الإسراء: 82] {إِنَّ فِي ذلك} الذي ذكر: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
فصل
قال ابنُ الخطيب: المقصُودُ من هذه الآية: إقامة الدَّلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية الحركات الكوكبية من وجهين:(11/247)
الأول: أنه جعل الأرض قطعاً مختلفة في الماهيَّة والطبيعة، وهي مع ذلك متجاورةٌ، فبعضها سبخةٌ، وبضعها طيِّبةٌ، وبعضها صلبة وبعضها حجريةٌ، وبعضها رمليةٌ، وتأثير الشمس، وتأثير الكواكب في تلك القطع على السَّويَّة؛ فدلَّ ذلك على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير.
الثاني: أنَّ القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماءٍ واحدٍ، ويكون تأثير الشمس فيها [متساوياً] ، ثمَّ إنَّ تلك الثمار تجيءُ مختلفة في اللَّون، والطَّعم، والطَّبيعة، والخاصية؛ حتى أنَّك قد تأخذ عنقوداً واحداً من العنب، فتكون جميع حبَّاته ناضحة حلوة إلاَّ حبة واحدة منه، فإنها تبقى حامضة يابسة، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطبائع والأفلاك إلى الكل على السوية، بل نقول ههنا ما هو أعجب منه، وهو أنَّه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون في أحد وجهيه في غاية الحمرة، والوجه الثاني في غاية السَّواد، مع أنَّ ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنُّعومة، ويستحيل أن يقال: وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني، وهذا يدلُّ دلالة [قطعية] على أنَّ الكل بتقدير الفاعل المختار لا بسبب الأتصالات الفلكيَّة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل} ، ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
فصل
قال القرطبي: وهذا الآية تدلُّ على بطلان القول بالطبع، إذا لو كان ذلك بالماء، والتراب، والفاعل له الطبيعة؛ لما وقع الاختلاف.
وذهب الكفرةُ لعنهم الله إلى أنَّ كلَّ حادث يحدث من نفسه لا من صانع وادعوا ذلك في الثِّمار الخارجة من الأشجار، وأقرُّوا بحدوثها، وأنكروا الأعراض، وقالت فرقةُ بحصول الثِّمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلاً.
والدَّليل على أنَّ الحادث لا بد له من محدثٍ: أنَّه يحدثُ في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به؛ لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أنَّ اختصاصه لأجل مخصص خصصه به، لولا تخصيصه إيَّاه لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده.(11/248)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} الآية لما ذكر الدَّليل على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدلُّ على المعادِ.
قال ابن عبَّاس رضي الله عهما: «إنْ تعجب من تكذيبهم إيَّاك بعد ما حكموا عتليك بأنَّك من الصَّادقين، فهذا عجبٌ» .
وقيل: إن تعجب يا محمَّدُ من عبادتهم ما لا يملك لهم ضرًّا، ولا نفعاً بعد ما عرفوا الدلائل الدِّالة على التوحيد، فهذا عجبٌ.
وقيل: تقدير الكلام: وإن تعجب يا محمد صلوات الله عليه فقد تعجبت في موضع العجب، لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبِّر السموات، والأرضيين، وخالق الخلق أجمعين، وأنَّه هو الذي رفع السموات بغير عمدٍ ترونها، وأنَّه الذي سخر الشَّمس، والقمر على وفق مصالح العباد، وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب، والغرائب، فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة، كيف لا تكون وافية بأعادة الإنسان بعد موته؛ لأنَّ القادر على الأقوى يكون قادراً على الأضعفِ بطريق الأولى، وهذا تقرير موضع التَّعجُّب.
قوله: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر مقدم، و «قَوْلُهمْ» مبتدأ مؤخَّرٌن ولا بد من حذف [صفة] لتتمْ الفائدة، أي: فعجب أي عجب، أو غريب، ونحوه.
الثاني: أنه مبتدأ، وسوَّغ الابتداء ما ذكر من الوصف المقدر، ولا يضر حنيئذٍ كون خبره معرفة، هذا كما أعرب سيبويه: كم مالك وخير من أقصد رجلاً خير منه أبوه مبتدأين لمسوغ الابتداء بهما، وخبرهما معرفةٌ، قاله أبو حيَّان.
وللنزاع فيه مجال؛ على أنَّ هناك علّة لا تتأتى هنا، وهي: أنَّ الذي حمل سيبويه على ذلك من المسألتين أن أكثر ما تقع موقع «كَمْ» ، وخبر «مَا» هو مبتدأ؛ فلذلك حكم عليهما بحكم الغالب بخلاف ما نحنُ فيه.
الثالث: أنَّ «عَجَبٌ» مبتدأ بمعنى معجب، و «قَوْلُهمْ» فاعل به، قاله أبو البقاء.(11/249)
ورد عليه أبو حيَّان: بأنهم نصُّوا على أنَّ «فعلاً وفعَلة وفُعْلاً» ينوبُ عن «مَفْعُول» في المعنى، ولا يعمل عمله، فلا تقول: «مَرَرْتُ بِرجُل [ذبح] كَبْشَهُ ولا غَرَفَ مَاءهُ ولا قَبضَ مالهُ، وأيضاً فإنَّ الصفات لا تعمل إلاَّ إذا اعتمدت على أشياء مخصوصة وليس منها هنا شيء.
والعَجَبُ: تغير النَّشفس برؤية المستبعد في العادة.
وقال القرطبيُّ: العَجَبُ تغير النفس بما يخفى أسبابه.
قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} يجوز في هذه الجملة الاستفهامية وجهان:
أظهرهما: أنَّها منصوبة المحل لحكايتها بالقول.
والثاني: أنَّها، وما في حيزها في محل رفع بدلاً من:» قَوْلهِمْ «وبه بدأ الزمخشريُّ وعلى هذا فقولهم بمعنى مقولهم ويكونُ بدل كُلِّ؛ لأنَّ هذا هو نفس» قَوْلُهُم «، و» إذَا «هنا ظرفٌ محضٌ، وليس فيها معنى الشَّرط، والعاملُ فيها مقدر يفسره {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} تقديره: أئذا كُنَّا تراباً نبعث، أو نحشر، ولا يعمل فيها: {خَلْقٍ جَدِيدٍ} ؛ لا، ما بعد» إذَا «لا يعملُ فيما قبلها، ولا يعمل فيها» كُنَّا «لأضافتها إليها.
واختلف القراء في هذا الاستفهام المكرر اختلافاً منتشراً، وهو في أحد عشر موضعاً في تسع سور من القرآن ولا بد من تعيينها، [وبيان] مراتب القرَّاء فيها، فإن ضبطها عسر ليسهل ذلك بعون الله تعالى.
فأولها: ما في هذه السورة.
والثاني، والثالث: الإسراء وهما: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء: 49] موضعان.
الرابع في المؤمنون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] .
الخامس في النمل: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل: 67] .
السادس في العنكبوت: {لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} [العنكبوت: 28، 29] .
السابع في «الم» السجدة: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] .
الثامن، والتاسع في الصافات موضعان [الصافات: 16] .
العاشر: في الواقعة: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47] .
الحادي عشر في النازعات: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} [النازعات: 10، 11] .(11/250)
فهذه هي المواضع الختلف فيها، وأمَّا ضبط الخلاف فيها بالنِّسبة إلى القراء فيه طريقان:
أحدهما: بالنِّسبةإلى ذكر القرَّاءِ.
والثاني: بالنسبة إلى ذكر السُّور.
فاعلم أنَّ هذه المواضعِ تنقسم قسمين: قسم منها سبعة مواضع لها حكم واحد، وقسم منها أربعة مواضع، لكلِّ منها حكم على حدته.
أمَّا القسمُ الأوَّل فمنه في هذه السورة، والثاني، والثالث في: «سُبْحَانَ» والرابع: في «المؤمنون» ، والخامس: في «الم» السجدة، والسادس، والسابع: في الصافات وحكمها: «أنَّ نافعاً، والكسائي يستفهمان في الأول، ويخبران في الثاني، وأن ابن عامر يخبر في الأول، ويستفهم في الثاني، والباقين يستفهمون في الأول والثاني.
وأما القسم الثاني، فأوله ما في سورة النمل، وحكمه: أن نافعاً يخبر عن الأول، ويستفهم في الثاني، وأن ابن عامر والكسائي بعكسه، وأن الباقين يستفهمون فيهما.
الثاني: ما في العنكبوت، وحكمه: أن نافعاً، وابن كثير، وابن عامر، وحفصاً يخبرون في الأول، ويستفهمون في الثاني، والباقون، يستفهمون فيهما.
الثالث: ما في سورة الواقعة، وحكمه: أن نافعاً، والكسائي يستهفمان في الأول، ويخبران في الثاني، والباقون يستفهمون فيهما.
الرابع: ما في سورة النازعات، وحكمه: أن نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول، وخبرون في الثاني، والبقاين يستفهمون فيهما.
وأما الطريق الآخر بالنسبةإلى القراء؛ فإنهم فيها على أربع مراتب:
الأول: أن نافعاً قرأ بالاستفهام في الأول، وبالخبر في الثاني، إلا في النمل والعنكبوت فإنه العكس.
المرتبة الثانية: أنَّ ابن كثير، وحفصاًم قرآ بالاستفهام في الأول والثاني إلا الأول من العنكبوت فقرآه بالخبر.
المرتبة الثالثة: أنَّ ابن عامرٍ قرأ بالخبر في الأوَّل، والاستفهام في الثَّاني إلا في النمل، والواقعة، والنازعات، فقرأ في النمل، والنازعات بالاستفهام في الأول، وبالخبر في الثاني، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما.
المرتبة الرابعة: الباقون وهم: أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر رضيه الله عنهم(11/251)
أجمعين قرءوا بالاستفهام في الأول، والثاني، ولم يخالف أحدٌ منهم أصله.
قال شهاب الدين: «وإنما ذكرت هذين الطريقين لعسرهما، وصعوبة استخراجهما من كتب القراءات.
فأمَّا وجه قراءة من استفهم في الأوَّل، والثاني؛ فقصد المبالغة في الإنكار، فأتى به في الجملة الأولى، وأعاده في الثانية تأكيداً له، ووجه من أتى به مرة واحدة: حصول المقصود به؛ لأنَّ كل جملة مرتبطة بالأخرى، فإذا أنكر في إحداها حصل الإنكارُ في الأخرى، وأمَّا من خالف أصله في شيءٍ من ذلك، فلاتباع الأثر» .
فصل
هذا الخطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعناه: أنَّك تعجبُ من إنكارهم النَّشأة الأخرى مع إقرارهم باتبداءِ الخلق، فعجب أمرهم، وكان المشركون ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عزَّ وجلَّ وحقد تقرَّر في القلوب أنَّ الإعادة أهون من الابتداء، فهذا موضع العجب.
ثم قال: {أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} وهذا يدلُّ على أنَّ من أنكر البعث والقيامة فهو كافرٌ، وإنما لزم من إنكار البعثِ الكفر بالله تعالى؛ لأنَّ إنكار البعث لا يتمُّ إلا بإنكار القدرة، والعلم، والصدق، وأما إنكار القدرة فكقوله: الله غير قادر على الإعادة، وأما إنكار العلم فكقوله: الله غير عالم بالجزيئات، فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي، وأمَّا إنكار الصِّدق فكقولهم: إنَّه أخبر عنه، ولكنه لا يفعل؛ لأنَّ الكذب جائز عليه، وكل ذلك كفرٌ بالله تعالى.
ثم قال: {وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} قال الأصمُّ: المراد بالأغلالِ: كفرهم وذلهم، وانقيادهم للأصنام، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} [يس: 80] ؛ وقال الشاعر: [البسيط]
3165 - ... ... ... ... ... ... ... لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أغْلالٌ وأقْيَادُ
ويقال للرَّجلُ: هذا غلٌّ في عنقك للعمل الرَّديء، معناه: أنَّه [ملازم] لك، وأنت مُجازًى عليه بالعذابِ.(11/252)
قال القاضي: هذا وإن كان محتملاً؛ لكن حمل اللفظ على الحقيقة أولى.
قال ابن الخطيب: «أقول على نصرة الأصم، بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحالِ، وذلك غير حاصل، فإنهم يحملون هذا اللفظ على أنًَّه سيحصل هذا المعنى، ونحنُ نحمله على أنه حاصلٌ من الحالِ، والمراد بالأغلال ما ذكره فكلُّ واحدٍ منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه، فلمَ كَانَ قولكم أقوى؟» .
وقيل: المعنى: أنَّهُ تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة، ويدلُّ عليه قوله تعالى:
{إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] إلى قوله: {ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] .
ثم قال: {وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} والمراد منه التَّهديد بالعذاب المخلد المؤبّد، وذلك يدلُّ على أنَّ العذاب المؤبَّد ليس إلا للكفَّار؛ لأن قولهم: {هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} يدلُّ على أنَّهم هم الموصوفون بالخُلودِ لا غيرهم فدل على أنَّ أهل الكبائر لا يخلدون في النَّارِ.
فإن قيل: العجبُ هو الذي لا يعرف بسبب، وذلك في حق الله تعالى محالٌ، فكيف قال: «فعجَبٌ قَولُهُمْ» ؟ .
فالجواب: المعنى: فعجب عنك.
فإن قيل: قرأ بعضهم: «بَل عَجِبْتُ» بإضافة العجب إلى نفسه.
فالجواب: أنَّا قد بيَّنا أنَّ مثل هذه الألفاظ يجبُ تنزيهها عن مبادىْ الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض ونهاية التعجب أن الإنسان إذا تعجّب من الشيء أنكره، فكان التعجب في حقِّ الله تعالى محمولاً على الإنكار.
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} وعلم أ، النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يهددهم تارة بعذاب القايمة، وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلَّما هددهم بعذاب القيامة، أنكروا القيامة، والبعث، والنشر كما تقدَّم في الآية الأولى، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه، وذلك أنَّ مشركي مكَّة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم يوقلون: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] .
قوله «قَبْلَ الحَسَنةِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ بالاستعجالِ ظرفاً لهُ.
والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنَّه حال مقدرة من السيئة، قاله أبو البقاء. قوله: «وقَدْ خَلتْ» يجوز أن تكون حالاً وهو الظاهر، ويجوز أن تكون مستأنفة.(11/253)
والعامة على فتح الميم، وضم المثلثة الواحدة مثله، ك «سَمُرَة» وسَمْرَات «و» صَدُقَة وصَدُقَات «وهي العقوبة الفاضحة.
قال ابن عباس:» العقوبات المتأصلاتُ كمثلات قطع الأذن، والأنف، ونحوهما «.
سُمَّيت بذلك لما بين العقاب، والمعاقب عليه من المماثلة، كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، ولأخذها من المثال بمعنى القصاصِ.
يقال: أمثلتُ الرَّجل من صاحبه، وأقصصته بمعنى واحدٍ، أو لأخذها من ضربِ المثل لعظم شأنها.
وقرأ ابن مصرف» المَثْلات «بفتح الميم، وسكون الثاء، وقيل: وهي لغة الحجاز في مثله.
وقرأ ابن وثاب: بضم الميم، وسكون الثاء، وهي لغة تميم.
وقرأ الأعمش، ومجاهد بفتحهما، وعيسى بن عمرو، وأبو بكر في رواية بضمهما.
فأما الضم، والإسكان: فيجوز أن يكون أصلاً بنفسه لغة، وأن يكون مخففاً في من قراءة الضم، والإسكان نحو» العُشْر في العَشَر «وقد عرف ما فيه.
قال ابنُ الأنباري:» المَثُلَة: العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة، وهو من قولهم: مثل فلانٌ بفلانٍ: إذا قبح صورته إمَّا بقطع أنفه، أو أذنه، أو سمل عينيه، أو بقر بطنه؛ فهذا هو الأصل، ثم يقال للعار الباقي والخزي الدائم اللازم مُثْلَه «.
وقال الواحدي: «وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب عليه، ومماثلاً له سمي بهذا الاسم» .
والمعنى: يستعجلونك بالعذابِ الذي لم نعاجلهم به، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية، أفلا يعتبرون بها.
ثم قال {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} وهذا يدلُّ على أنه سبحانه وتعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبةن لأن قوله: {لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} ، أي:(11/254)
حال اشتغالهم بالظلم كما يقال: رأيت الأمير على أكله، أي حال اشتغاله بالأكل، وهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم، ومعلوم أنَّ حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً؛ فدلَّ هذا على أنه تعالى قد يغفر الذُّنوب قبل الاشتغالِ بالتوبة، وترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في حق غير الكفرة، وهو المطلوبُ.
ويقال: إنَّهُ تعالى لم يقتصر على قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} بل عطف عليه قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} ؛ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر، ويحتمل الثاني على الكفَّار.
قال المفسريون: «لَذُو مَغْفرةٍ» لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وعن المذنبيين إذا تابوا.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أرجى آية في القرآن هذه الآية: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} إذا أصرُّوا على الكفر.
وروى حمّضاد بن سلمة عن عليِّ بن زيد عن سعيد بن المسيب رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال: لما نزلت: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لَوْلاَ عَفْوُ اللهِ ورَحْمتهُ وتَجاوُزهُ لمَا هَنأ أحَدا عَيْشٌ ولوْلاَ عِقابهُ ووَعِيدهُ وعَذابَهُ لاتَّكلَ كُلُّ أحدٍ» .
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد: لذو مغفرة لأهل الصَّغائر لأجل أنَّ عقوبتهم مكفرة، ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد إنَّ ربك لذو مغفرة إذا تابوا، وأنه تعالى إنَّما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتَّوبة، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم، ويكون المراد من هذه المغفرة [تأخير العقاب] إلى الآخرة، بل نقول: يجب حمل اللفظ عليه؛ لأنَّ القوم طلبوا تعجيل العذاب، فجيب أن تحمل المغفرة على تأخير العذاب حتى ينطبق الجواب على السُّؤال.
ثم يقال: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد بقوله: {لَذُو مَغْفِرَةٍ} إمهالهم بالتَّوبة، ولا يعجل بالعقوبة، فإن تابوا، فهو ذو مغفرة، وإن لم يتوبوا؛ فهو شديد العقاب؟ .
فالجواب عن الأوَّل: أن تأخير العذاب لا يمسى مغفرة، وإلاَّ لوجب أن يقال:(11/255)
إن الكفار كلهم مغفور لهم؛ لأنَّ الله تعالى أخَّر عقابهم إلى الآخرة.
وعن الثاني: أنَّ الله تمدَّح بهذا، التَّمدُّح إنما يصحل بالتفضيل، أما أداء الواجب، فلا تمدح فيه، وعندكم يجب غفران الصغائر.
وعن الثالث: أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة؛ فسقطت الأسئلةُ.
قوله: {على ظُلْمِهِمْ} حال من «النَّاسِ» والعامل فيها، قال أبو البقاءِ «مَغْفرةٍ» يعني: أنه هو العامل في صاحبها.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} الآية شلما بين تعالى أنَّهم طعنوا في النبوة بسبب طعنهم في الحشر والنشر ثم طعنوا في النبوَّة أيضاً بسبب طعنهم في صحَّة ما ينذرهم به من نزول العذابِ، بين أيضاً أنهم طعنوا في نبوَّته، وطلبوا منه المعجزة.
والسَّببُ في كونهم أنكروا كون القرآن معجزة: أنهم قالوا هذا كتابٌ مثلُ سائر الكتب، وإتيان الإنسان بتصنيف معين لا يكون معجزاً، وإنَّما يكون المعجز مثل معجزات موسى.
واعلم أنَّ من الناس من زعم أنَّهُ لم يظهر معجزة لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سوى القرآن، قالوا: لأن هذا الكلام إنَّما يصحُّ إذا طعنوا في كونِ القرآنِ معجزاً ولم يظهر معجزاً غيره؛ لأنه لو ظهر معجزة مغيره لم يحسن أن يقال: {لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} وهذا يدلُّ على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان له معجزة سوى القرآنِ.
والجواب: عنه من وجهين:
الأول: لعلََّ المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها من حينين الجزع، ونبع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير الطعام القليل؛ فطلبوا منه معجزاتن قاهرة غير هذه، مثل: فلقِ البَحْرِ لموسى، وقلب العصا ثُعْبَاناً.
فإن قيل: فما السبب في أنَّ الله منعهم، وما أعطاهم؟ .
فالجواب: أن الله تعالى لما أظهر المعجزة الواحدة، فقد تَمَّ الغرض، فيكون طلب الثاني تحكماً، وظهور القرآن معجزةم، فما كان من ذلك حاجة إلى معجزات آخر.
وأيضاً: فلعلَّه تعالى علم أنَّهم يصرُّون على العناد بعد ظهور المعجزة الملتمسة وكونهم يصيرون حينئذٍ يستوجبون عذاب الاستئصال، فلهذا السبب ما أعطاهم ملطوبهنم، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] فبيَّن أنَّه لم يعطهم مطلوبهم، لعلمه أنَّهم لا ينتفعون به.
وأيضاً: ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له، وهو أنَّه كلَّما أتى بمعجزة جاء آخر، وطلب معجزة أخرى، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو باطلٌ.(11/256)
والوجه الثاني: لعلَّ الكفار قالا ذلك قبل مشاهدة سائر المعجزات.
ثم قال: «إنَّما أنْتَ منذرٌ» مخوف.
قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ هذا الكلام مستأنف مستقبل من مبتدأ، وخبر.
والثاني: أنَّ «لكُلِّ قَوْمٍ» متعلقٌ «هَادٍ» ، و «هاد» نسق على «مُنْذِرٌ» ، أي: إنَّما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم، وفي هذا الوجه الفصل بين حرف العطف، والمعطوف بالجار وفيه خلاف تقدم.
ولما ذكر أبو حيان هذا الوجه، لم يذكر هذا الإشكال، ومن عادته ذكره ردًّا به على الزمخشري.
الثالث: أنَّ «هادٍ» خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: إنَّما أنت منذرٌ، وهو لكلِّ قوم هادٍ، ف «لكُلِّ» متعلقٌ به أيضاً.
ووقف ابن كثير على «هَادٍ» [الرعد: 33] [الزمر: 23، 36] و «واقٍ» حيث وقعا، وعلى «والٍ» ن و «باقٍ» [النحل: 96] [الرعد: 34، 37] في النحل بإثبات الياء، وحذفها الباقون.
ونقل ابن مجاهد عنه: أنه يقف بالياء في جميع الياءات. ونقل عن ورش: أنَّه خير في الوقف بين الياء، وحذفها.
والباب: هو كل منقوصٍ منونٍ غير منصرف، واتفق القراء على التوحيد في «هَادٍ» .
فصل
إذا جعلنا «ولكُلِّ قوم هادٍ» كلاماً مستأنفاً، فالمعنى: أنَّ الله تعالى خصَّ كلَّ قوم بنبيٍّ، ومعجزة تلائمهم، فَلمَّا كان الغالب في زمن موسى عليه السلام السحر؛ جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم، ولما كان الغلب في زمن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الطب، جعل معجزته ما كان من تلك الطريقة، وهي إحياء الموتى، وإبراء الأكمة، والأبرص، ولما كان الغالبُ في زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الفصاحة، والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن، فلمَّا لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع أنَّها أليق بطبائهم، فبأن لا يؤمنون بباقي المعجزات أولى، هذا تقرير القاضي، وبه ينتظم الكلام.(11/257)
وقيل: المعنى أنهم إذا جحدوا كون القرآن معجزة لا تضيق قلبك بسببه، و «إنَّما أنْتَ مُنذِرٌ» ، أي ما عليك إلاَّ الإنذار، وأمَّا الهداية فليست عغليك، فإنَّ: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قادر على هدايتهم.
والمعنى: إنَّ الهداية من الله.
فصل
قيل: المنذر، والهادي شيءٌ واحدٌ، والتقدير: إنَّما أنتَ مُنذِرٌ {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} منذر على حدةٍ، ومعجزة كل واحد غير معجزة الآخر.
وقيل: المنذر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والهادي: هو الله تعالى قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك.
وقال عكرمة: الهادي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: أنت منذر، وأنت هاد لكل قوم، أي: داع.(11/258)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} الآية في النَّظم وجوهٌ:
أحدها: أنَّ الكفار لما طلبوا آيات أخر غير ما أتى به الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بين أنَّه تعالى عالم بجميع المعلومات، فلو علم من حالهم أنهم إنما طلبوا الآية الآخرى للاسترشاد، وطلب البيان أظهرها، وما منعها، لكنه تعالى عالم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لمحض العناد؛ فلذلك منعهم، ونظيره قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ} [يونس: 20] ، وقوله: {إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} [العنكبوت: 50] .
وثانيها: أنه تعالى لما قال: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] في إنكار البعث بسبب أنَّ أجزاء أبدان الحيوانات تتفرَّق، وتختلط بعضها ببعض، ولا يتميَّز، فبين الله تعالى أنه(11/258)
إنما لم يتميز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات فأمّضا من: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} كيف لا يميزها؟ .
وثالثها: أنَّه متصلٌ بقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} [الرعد: 6] .
والمعنى: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فهو إنَّما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة فيه.
قوله: {الله يَعْلَمُ} يجوز في الجلالة وجهان:
أحدهما: أنَّها خبر مبتدأ مضمر، أي: هو الله، وهذا على قول من فسَّر «هادٍ» بأنه هو الله [تعالى، فكان هذه الجملة تفسير له، وهذا [ما] عنى الزمخشري بقوله: وأن يكون المعنى: هو الله] تفسيراً ل «هادٍ» على الوجه الأخير، ثم ابتدأ فقال: «يَعْلمُ» .
والثاني: أنَّ الجلالة مبتدأ «ويَعْلمُ» خبرها، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ.
قال أبو حيَّان، «و» يَعْلمُ «هاهنا متعدية إلى واحدٍ؛ لأنَّه لا يراد هنا النسبة إنَّما المراد تعلق العلم بالمفردات» .
قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإذا كانت كذلك، كانت غير فائتة» وقد تقدَّم أنه لا ينبغي أنه يجوز نسبة هذا إلى الله عزَّ وجلَّ وتقدم تحقيقه في الأنفال فالتفت إليه.
قوله: «مَا تَحْمِلُ» «مَا» تحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون موصولة أسمية، والعائد محذوف، أي: ما تحمله.
والثاني: أن تكون مصدرية، فلا عائد.
والثالث: أن تكون استفهامية، وفي محلها وجهان:
أحدهما: أنها في محلِّ رفع بالابتداء، و «تَحْمِلُ» خبره، والجملة معلقة للعلم.
والثاني: أنها في محلِّ نصب ب «تَحْمِلُ» قاله أبو البقاء.
وهو أولى؛ لأنَّه لا يحتاج إلى حذف عائد لا سيَّما عند البصريين؛ فإنهم لا يجيزون زيداً ضَرَبتُ.
ولم يذكر أبو حيان غير هذا، ولم يتعرض لهذا الاعتراض.
و «مَا» في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} محتملة للأوجه المتقدِّمة و «غاض، وزاد» سمع تعدِّيهما، ولزومهما، ولك أن تدَّعي حذف العائد على القول بتعديهما، وأن تجعلهما مصدريّة عل القول بمصدريتها.
فصل
إذا كانت «مَا» موصولة فالمعنى: أنه تعالى يعلم ما تحمل كل أنثى من الولد أهو(11/259)
ذكرٌ، أم أثنى، أم ناقصٌ، وحسنٌ، أم قبيحٌ، وطويلٌ، أم قصيرٌ أو غير ذلك من الأحوال.
وقوله سبحانه: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} الغيضُ: النقصان سواء كان لازماً، أو متعدياً فيقال: غاض الماء وغضته أنا، ومنه قوله تعالى: {وَغِيضَ المآء} [هود: 44] والمعنى: ما تغضيه الأرحام إلاَّ أنه حذف الرَّافع.
و «مَا تَزْدادُ» ، أي تأخذه زيادة، تقول: أخذت منه حقي، وازددت منه كذا، ومنه قوله تعالى: {وازدادوا تِسْعاً} [الكهف: 25] .
ثم اختلفوا فيما تفيضه الرحم، وما تزداده على وجوهٍ:
الأول: عدد الولد فإنَّ الرَّحم قد يشتمل على واحدٍ، وعلى اثنين، وثلاثة، وأربعة.
يروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه.
الثاني: عند الولادة قد تكون زائدة، وقد تكون ناقصة.
الثالث: [مدة الولادة] قد تكون تسعة أشهر [فأزيد] إلى سنتين عند أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ وإلى أربع عند الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وإلى خمس عند مالكٍ رضي الله.
قيل: إنَّ الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حيان بقي في بطن أمِّه أربع سنين، ولذلك سميي هرماً.
الرابع: الدم؛ فإنه تارة يقلُّ، وتارة يكثرُ.
الخامس: ما ينقصُ بالسَّقط من غير أن يتم، وما يزداد بالتَّمامِ.
السادس: ما ينقصُ بظهور دم الحيض؛ لأنَّه إذا سال الدَّم في وقت الحمل ضعف الولد، ونقص بمقدار ذلك النقصان، وتزداد أيام الحمل، لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النُّقصان.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «كلَّما سال الحيضُ في وقت الحمل يوماً، زاد في مدَّة الحمل يوماً، ليحصل الجبرُ، ويعتدلُ الأمر» .
وهذا يدلُّ على أنَّ الحامل تحيضُ، وهو مذهب مالكٍ، وأحد قولي الشَّافعي لقول ابن عباس في تأويل هذه الآية: إنَّه حيض الحبالى، وهو قول عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأنها كانت تفتي النِّساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصَّلاة.(11/260)
وقال المخالف: لو كانت الحاملُ تحيض مكان ما تراه المرأة من الدَّم حيضاً، لما صحَّ استراءُ الأمة بحيضة، وهذا بالإجماع.
السابع: أن دم الحيض فضلة تجتمع في [بطن] المرأة، فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات؛ فاضت، وخرجت، وسالت من دواخل تلك العروض، ثم إذا سالت تلك المواد، امتلأت تلك العروض مرَّة أخرى.
هذا كلُّه إذا قلنا: إن «ما: موصولة.
فإذا قلنا: إنَّها مصدرية: فالمعنى أنَّه تعالى يعلمُ حمل كلَّ شيءٍ، ويعلم غيض الأرحام، وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولا أوقاته، وأحوالهن.
ثم قال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} يحتمل أن يكون المراد بالعنديَّة: العلم ومعناه: أنَّه تعالى يعلم كمية كل شيء، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات، ويحتمل أن يكون المراد من العنديَّة أنه تعالى خصَّص كل حادث بوقت معين، وحال معينة بمشيئة الأزليَّة وإرادته السرمدية.
وعند حكماء الإسلام: أنه تعالى وضع أشياء كلّيّة، وأودع فيها قوى، وخواصَّ، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزيئة متعينة ومناسبات مخصوصة [مقدرة] ، ويدخل في هذه الآية أفعالُ العبادِ، وأحوالهم، وخواطرهم، وهي من أدلِّ الدَّلائلِ على بطلان قول المعتزلةِ.
قوله: «عِنْدَهُ» يجوز أن يكون مجرور المحل صفة ل «شَيْءٍ» ، أو مرفوعة صفة ل «كُلُّ» ، أو منصوبة ظرفاً لقوله: «بِمقْدارٍ» ، أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً.
قوله: {عَالِمُ الغيب} يجوز أن يكون مبتدأ، وخبره: «الكَبيرُ المتعَالِ» ، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: هو عالمٌ.
وقرأ زيد بن عليى «عَالِمَ» نصمباً على المدحِ.
ووقف ابنُ كثير، وأبو عمرو في رواية على ياءِ «المُتعَالِ» وصلاً ووقفاً، وهذا هو الأشهر في لسانهم، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً لحذفها في الرَّسم.
واستسهل سيبويه حذفها الفواصل، والقوافي، ولأنَّ «ألْ» تعاقب التنوين، فحذفت معها إجراء لها مجراها.(11/261)
فصل
قال ابن عباس رضي اكلله عنه: يريد علم ما غاب عن خلقه وما شاهدوه.
قال الواحديُّ: «فعلى هذا» الغَيْب «مصدر يرادُ به الغائب، والشهادة أراد بها الشَّاهد» .
واختلفوا في المراد بالغائب، والشَّاهد؛ فقيل: المراد بالغائب: [المعدوم] ، وبالشَّاهد: الموجود. وقيل: الغائب مالا يعرفه الخلق.
واعلم أنَّ المعلومات قسمان: المعدمات، والموجودات.
والمعدومات منهنا معدوماتٌ يمتنع وجودها، ومعدومات لا يمتنع وجودها.
والموجودات قسمان: موجودات يمتنع عدمها، وموجودات لا يمتنع عدمها، وكل واحدٍ من هذه الأقسام الأربعة له أحكام، وخواص، والكل معلوم لله تعالى.
قال إمامُ الحرمين: الله تعالى معلوماتٌ لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها؛ لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، وموصوف بأوصاف لا نهاية لها على البدل، وهو تعالى عالمٌ بكلِّ الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله: {عَالِمُ الغيب والشهادة} .
ثم قال: «الكَبِيرُ المُتعَالِ» وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثَّة والمقدار؛ فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة الإلهيَّة، و «المُتعَالِ» المتنزه عن كلِّ ما لا يجوز عليه في ذاته، وصفاته.
قوله تعالى: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} .
في «سَواءٌ» وجهان:
أحدهما: أنه خبرٌ مقدمٌ، و: «مَنْ اسرَّ» ، و «مَنْ جَهرَ» هو المبتدأ، وإنما لم يثن الخبر؛ لأنَّه في الأصل مصدر، وهو ههنا بمعنى متسوٍ، و «مِنكُمْ» على هذا حالٌش من الضمير المستتر في «سَواءٌ» ؛ لأنه بمعنى مستوٍ.
قال أبو البقاء: «ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في» أسرَّ «، و» جَهَرَ «لوجهين:
أحدهما: تقديم ما في الصلة على الموصول، أو الصِّفة على الموصوف.
والثاني: تقديم الخبر على» مِنْكُم «وحقُّه أن يقع بعده» .(11/262)
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وحقُّه أ، يقع بعده يعني: بعدهُ، وبعد المبتدأ، ولا يصير كلامه لا معنى له» .
والثاني: أنه مبتدأ وجاز الابتداء به لوصفه بقوله: «مِنْكُم» .
وأعرب سيبويه: «سواءٌ» عليه الجهر والسِّر كذلك، وقول بن عطيَّة: إنَّ سيبويه ضعَّف ذلك بأنه ابتداء بنكرة غلط عليه.
قال ابنُ الخطيب: لفظ «سواء» يطلب اثنين، تقول: «سواء زيد، وعمرو» ، ثم فيه وجهان:
الأول: أنَّ «سواءٌ» مصدر، والمعنى: ذو سواء، كما تقول: عدل زيد وعمرو، أي: ذو عدلٍ.
الثاني: أن يكون «سواءٌ» بمعنى مستوٍ، وعلى هذا التقدير، فلا حاجة إلى الإضمار، إلا أنَّ سيبويه يستقبحُ أن يقال: مستو زيد وعمرو؛ لأنَّ اسماء الفاعل إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها.
ولقائلٍ أن يقول: بل هذا الوجه أول؛ لأنَّ حمل الكلام عليه يغني عن التزامِ الإضمار الذي هو خلاف الأصل.
قوله: {وَسَارِبٌ بالنهار} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون معطوفاً على «مُسْتَخْفٍ» ، ويراد ب «مَنْ» حينئذ اثنان، وحمل المبتدأ الذي هو لفظ «هُوَ» على لفظها، فأفرده، والخبر على معناها فثناه.
والوجه الثاني: أن يكون عطفاً على «من هُوَ» في «ومَنْ هُو مُسْتخْفٍ» لا على: مُستَخفٍ «وحده.
ويوضح هذين الوجيهن ما قاله الزمخشريُّ قال:» فإن قلت: كان حق العبارةِ أن يقال: ومن هو مستخف باللَّيل، ومن هو ساربٌ بالنَّهار حتَّى يتنول معنى الاستواء المستخفي، والسارب، وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب.
قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن قوله: «سَارِبٌ» عطف على: «مَنْ هُو مُسْتَخْفٍ» [لا على:: مُسْتَخْفٍ «.
والثاني: أنَّه عطف على:» مُسْتَخْفٍ «إلا أنَّ:» مَنْ «في معنى الاثنين؛ كقوله: [الطويل](11/263)
3166 - ... ... ... ... ... . ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطحِبَانِ
كأنه قيل: سواء منكم اثنان مستخف بالليل، وسارب بالنَّهار «.
قال شهابُ الدِّين: وفي عبارته بقوله: كان حق العبارة كذا سوء أدب، وقوله كقوله:» نَكُنْ مِثلَ مَنْ يا ذئب «يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضهم مع ذئبٍ يخاطبه: [الطويل]
3167 - تَعَشَّ فإنْ عَاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئبُ يَصْطحِبَانِ
وليس في البيت حملٌ على اللفظ والمعنى، وإنَّما فيه حملٌ على المعنى فقط، وهو مقصوده.
وقوله:» وإلا فقد تناتول واحدٌ هو مستخق وسارب «لو قال بهذا قائل لأصاب الصَّواب وهو مذهب ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسَّاب شخص واحد يستخفي بالليل، ويسرب بالنَّهار، ليري تصرفه في النَّاس.
الثالث: أن يكون على حذف» مَنْ «الموصولة، أي: ومن هو سارب، وهذا إنَّما يتمشى عند الكوفيين، فإنهم يجيزون حذف الموصول، وقد استدلالهم على ذلك.
والسَّاربُ: اسم فاعل من» سَرَبَ، يَسْرُبُ «، أي: تصرف كيف يشاء؛ قال: [الكامل]
3168 - أنَّى سَربْتِ وكُنْتِ غَيرَ سَرُوبِ ... وتُقرَّبُ الأحلامُ غَيْرَ قَريبِ
وقال آخر: [الطويل]
3169 - وكُلُّ أنَاسٍ قَاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونَحْنُ خَلعْنَا قَيْدُهُ فهو سَارِبُ
أي: متصرف كيف توجَّه، ولا يدفعه أحدٌ عن مرعى قومه بالمنعة، والقوة.
فصل
معنى الكلام: أي: يستوي في علم الله المسر في القول، والجاهر به. وفي المستخفي، والسَّارب وجهان:
الأول: يقال: أخفيت الشيء أخفيه فخفي، واستخفى فلان من فلان، أي: توارى واستتر منه.(11/264)
والسَّارب: قال الفراء والزجاج: أي: ظاهر بالنهار في سربه، أي: طريقه يقال: خلا له سربه، أي: طريقه، والسَّرب بفتح السِّين، وسكون الراء الطريق.
وقال الأزهري:» تقول العرب: سَربتِ الإبلُ تسرب سَرَباً، أي: مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت «.
فمعنى الآية: سواء كان الإنسان مستخفياً في الظُّلماتِ، وكان ظاهراً في الطرقاتِ فعلم الله تعالى محيطٌ بالكلِّ.
قال ابن عباس:» سواء ما أضمرته القلوب، أو أظهرته الألسنة «.
وقال مجاهد: سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التَّوالي.
وقال ابن عباس أيضاً:» هو صاحب ريبة مستخسف بالليل، وإذا خرج النهار أرى النَّاس أنه بريء من الإثم «.
والقول الثاني: نقل الواحدي عن الأخفش، وقطرب قال: المستخفي: الظاهر والسارب: المتواري، ومنه يقال: خفيت الشيء، أي: أظهرته، وأخفيت الشيء أي: استخرجته، ويسمى النَّبَّاش: المستخفي، والسَّارب: المتواري، أي: الداخل سرباً، وانسرب الوحش: إذا دخل في السِّرب، أي: في كناسه.
قال الواحديُّ:» وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنَّ الأول هو المختارُ لإطباق أكثر المفسرين عليه، وأيضاً: فالليل يدلُّ على الاستتار، والنهار على الظهور «.
قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} الضمير فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه عائد على «مِنْ» المكررة، أي: لمن أسرّ القول، ولمن جهر به ولمن استخفى: «مُعَقباتٌ» ، أي: جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضاً.
الثاني: أنه يعود على «مِنْ» الأخيرة، وهو قول ابن عبَّاسٍ.
قال ابن عطية: والمعقبات على هذا: حرسُ الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قالوا: والآية على هذا في الرؤساء الكفار، واختاره الطبريُّ وآخرون إلاَّ أنَّ المارودي ذكر على هذا التأويل: أنَّ الكلام نفي، والتقدير: لا يحفظونه، وهذا ينبغي ألاّ يمسع ألبتة، كيف يبرز كلام موجب، ويراد به نفي، وحذف «لا» إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعاً(11/265)
في جواب قسم، نحو {تَالله تَفْتَأُ} [يوسف: 85] وقد تقدَّم تحريره وإنّضما معنى الكلام كما قال المهدويُّ: يحفظونه من أمر الله في ظنه، وزعمه.
الثالث: أن الضمير في «لهُ» يعود على الله تعالى وفي «يَحْفظُونَهُ» للبعد أي: للهِ ملائكة يحفظون العبد من الآفات، ويحفظون عليه أعماله قاله الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
الرابع: عود الضميرين على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن لم يجر له ذكر قريب، ولتقدُّم ما يشعر به في قوله: «لوْلاَ أنْزِلَ عليْهِ» .
و «مُعقِّباتٌ» جمع معقب بزنة مفعل، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر؛ لأن بعضهم يعقبُ بعضاً، أو لأنَّهم يعقبون ما يتكلَّم به.
وقال الزمخشري: «والأصل: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله: {وَجَآءَ المعذرون} [التوبة: 90] فلا يتعيَّن أن يكون أصله» المُتعذِّرُون «وقد تقدَّم توجيهه، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه.
وأما قوله: ويجوز» مُعِّبات «بكسر العين، فهذا لا يجوز؛ لأنه بناه على أن أصله: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، وقد بيَّنا أن ذلك وهم فاحشٌ وفي» مُعَقِّباتٌ «احتمالان:
أحدهما: أن يكون معقبة بمعنى معقب، والتَّاء للمبالغة، كعلاَّمة، ونسَّابة. أي: ملك معقب، ثم جمع هذا كعلامات، ونسَّابات.
والثاني: أن يكون معقبة صفة لجماعة، ثم جمع هذا الوصف، وذكر ابنُ جريرٍ: أن معقبة جمع معقب، وشبه ذلك ب» رَجُلٍ، ورجالٍ، ورِجَالاتٍ «. قال أبو حيَّان: وليس كما ذكر، إنما ذلك ك» جَمَلٍ، وجِمَالٍ، وجمالاتٍ «ومعقب، ومعقبات إنَّما هو كضارب، وضاربات.
ويمكن أن يجاب عنه: بأنه يمكن أن يريد بذلك أنَّه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث» معقب «، فصار مثل:» الواردة «للجماعة الذين يريدون، وإن كان أصله للمؤنثة من جهة أنَّ جموع التَّكسير في العقلاء تعامل معاملة المؤنثة في الإخبار، وعود الضَّمير، ومنه قولهم: الرِّجحالُ وأعضادها،(11/266)
والعلماء ذاهبةٌ إلى كذا، وتشبيهنه ذلك برجل، ورجالات من حيث المعنى لا الصناعة» .
وقرأ أبي، وإبراهيم، وعبيد الله بن زيادٍ: له معاقيب.
قال الزمخشريُّ: «جمع معقب، أو معقبة، والياء عوضٌ من حذف إحدى القافين في التكسير» .
ويوضح هذا ما قاله ابنُ جنِّي؛ فإنه قال: «مَعَاقِيب» تكسير مَعْقِب بسكون العين، وكسر القاف، ك «مُطْعِم، مطاعم» و «مَقْدِم، ومَقَادِيم» ، فكأن «مُعْقباً» جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء في «معاقيب» عوضاً من الهاء المحذوفة في «مُعَاقبةٍ» .
فصل
قال: المعقب من كلِّ شيء ما خلف يعقب ما قبله، ويجوز أن يكون عقبه، إذا جاء على عقب، والمعنى في كلا الوجهين واحد.
والتَّعقيب: العود بعد البدءِ، وإنَّما ذكر بلفظ التَّأنيث؛ لأن واحدها معقب وجمعه معقبة، ثم جمع المعقبة معقبات، كقولك: رجالات مكسر، وقد تقدَّم.
وفي المراد ب «المعقبات» قولان:
أشهرهما: أن المراد الحفظة، وإنَّمام وصفوا بالمعقبات، إما لأجل أن ملائكة اللَّيل تعقب ملائكة النَّهار، وبالعكس، وإما لأجل أنهم يعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ، والكتابة، وكل من عمل عملاً ثم معاد إليه؛ فقد عقَّبهُ.
فعلى هذا المراد من المعقبات: ملائكة الليل، والنَّهار، قال تعالى جلًَّ ذكره {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 10، 11، 12، 13] .
قوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل «مُعقِّباتٌ» ويجوز أن يتعلق ب: مُعقِّباتٌ «، و» مِنْ «لابتداء الغاية، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير الذي هو الظرف الواقع خبراً والكلامم على هذه الأوجه تام عند قوله: {وَمِنْ خَلْفِهِ} .
وقد عبَّر ِأبو البقاء، رَحِمَهُ اللَّهُ عن هذه الأوجه بعبارة مشكلة، وهي قوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجحوز أن يكون صفة ل» مُعقِّباتٌ «، وأن يكون ظرفاً، وأن يكون حالاً من الضمير الذي فيه، فعلى هذا يتمُّ الكلام عنده» انتهى «.
ويجوز أن يتعلق ب» يَحْفَظُونَه «أي: يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه.
فإن قيل: كيف يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحدٍ، وهما» مِنْ «الداخلة على» بَيْنِ «و» مِنْ «الداخلة على:» أمْرِ اللهِ «؟ .(11/267)
فالجواب: أنَّ» مِنْ «الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه.
قوله:» يَحْفَظُونهُ «يجوز أن يكون صفة ل» مُعقِّباتٌ «، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار الواقع [خبراً] ، و» مِنْ أمْرِ اللهِ «متعلق به، و» مِنْ «إمَّا للسَّببِ أي: بسبب أمر الله.
ويدل له على قراءة عليِّ بن أبي طالبٍ، وابن عبَّاسٍ، وزيد بن عليّ، وعكرمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: بأمر الله.
وقيل: المعنى على هذا يحفظون عمله بإذن الله، فحذف المضاف.
قال ابن الأنباري: كلمة «مِنْ» معناها الباء، وتقديره: يحفظونه بأمر الله وإعانته، والدَّليل عليه: أنه لا بد من المصير إليه؛ لأنَّه لا قدرة للملائكة، ولا لأحد من الخلقِ على أن يحفظوا أحداً من أمر الله، ممَّا قضاه الله عليه؛ وإمَّا أن تكون على بابها.
قال أبُو البقاء: «مِنْ أمْرِ اللهِ» من الجنِّ، والإنس، فتكون «مِنْ» على بابها.
«يعني: أن يراد بأمر الله: نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس، والجن، فتكون» مِنْ «لابتداء الغاية» .
ويجوز أن تكون بمعنى «عَنْ» ، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل: «مُعقِّباتٍ» أيضاً فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة بكونها {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وبكونها «يَحفظه» ، وبكونها «مِنْ أمْرِ اللهِ» ولكن يتقدَّم الصوف بالجملة على الوصف بالجار، وهو جائزٌ فصيحٌ، وقد ذكر الفراء فيه وجهين:
الأول: أنه على التَّقديم، والتأخير، والتقدير: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه.
قال شهاب الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه» .
والثاني: أن فيه إضماراً، أي: ذلك الحفظ من أمر الله، أي: ممَّا أمر الله به، فحذف الاسم، وأبقى خبره، كما يكتب على الكيس: ألفان، والمراد الذي فيه ألفان.
فصل
ذكر المفسرون: أن للهِ ملائكة يتعاقبون بالليل، والنهار؛ فإذا صعدت ملائكمة الليل(11/268)
جاء في عقبها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النَّهار، جاء في عقبها ملائكة الليل.
لما روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ باللِّيلِ ومَلائكِةٌ بالنَّهارِ يَجْتمِعُونَ عِنْدَ صلاةِ الفَجْرِ وصلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرجُ الَّذينَ باتُواة فيكُم؛ فيَسْألهُم وعو أعملُ بِهِم: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي؟ فَيقُولُون: تَركْنَاهُم، وهُمْ يُصَلُّونَ، وأتَيْنَاهُمْ، وهُمْ يُصَلُّون» .
وقوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} يعنى من قدام، هذا استخفى باللَّيل والسَّارب بالنَّهار، ومن وراء ظهره يحفظونه من أمر الله يعني بإذنِ الله ما لم يجىء القدر، فإذا جاء القدر خلوا عنه.
وقيل: يحفظونه ممَّا أمر الله به من الحفظ عنه.
قال مجاهدٌ: ما من عبدٍ إلا وله ملك وكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنِّ والإنس، والهوام.
وقيل: المراد بالآية الملكين القاعدين على اليمين، وعلى الشمال يكتبان الحسنات والسيئات «يحفظونه» أي يحفظون عليه، «من أمر الله» يعني الحسنات والسيئات قال الله تعالى:
{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق. 18] .
وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآية في عامر بن الطُّفيل وأربد بن ربيعة، وكانت قصَّتهما على ماروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قال: «أقبل عامر بن الطُّفيل، وأربد بن ربيعة، وهما عامريان يريدان رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو جالس في المسجد في نفرٍ من أصحابه، فدخلا المسجد، فاسْتشْرَفَ الناسُ لجمالِ عامرٍ، وكان أعورَ، وكان من أجمل النَّاس، فقال رجل: يا رسول الله هذا عامر بن الطُّفيل قد أقبل نحوك فقال: دعه؛ فإن يرد الله به خيراً يهده، مفأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين، قال: تجعلي لي الأمر بن بعدك؛ قال: ليس ذلك إليَّ، إنما ذلك إلى الله عَزَّ وَجَلَّ يجعله حيث يشاءُ، فقال: تجعلني على الوبر والمدرِ، قال: لا، قال: فما تجعلي لي؟ قال أجعل لك أعنَّة الخيل تغزُو عليها قال: أوليس ذلك لي اليوم، قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة: إذا رأيتني أكلمه فدُرْ من خلفه، فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويراجعه، فدار أربدُ من خلف النبي ليضربه، فاخترط من سيفه شبراً، ثمذَ حبسه الله عزَّ وجلَّ عنده، فلم يقدر على سلّه،(11/269)
وجعل عامرُ يومىء إليه، فالتفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال:» اللَّهُمَّ أكْفِنِيهما بِمَا شِئْتَ «فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم مصحوٍ صائفٍ، فأحرقته، وولّى عامر بنُ الطفيل هارباً، وقال: يا محمد! دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنَّها عليك خيلاً جرداً، وفتياناً مرداً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يَمْنَعُكَ اللهُ مِنْ هذا، وأبْناءُ قيْلة «يريد الأوس، والخزرج؛ فنزل عامرٌ بيت امرأة سلوليّة فلما أصبح، ضم عليه سلاحه، وقد تغير لونه، فخرج يركض في الصحراء ويقول: ابرز يا ملك الموت، ويقول الشِّعر، ويقول: واللات لئن أصبح لي محمداً وصاحبه يعني ملك المت لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله تبارك وتعالى ملكاً فلطمه بجناحه، فأذراه في التراب، وخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة، فعاد إلى بيت السلولية، وهو يقول:» غُدَّةٌ كغُدةِ البَعيرِ، ومَوْتٌ في بَيْتِ سَلُوليَّة «، ثم دعا بفرسه، فركبه، ثمَّ أجراه حتَّى مات على ظهره، فأجاب الله دعاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقُتلَ عامرٌ بالطعن، وأربد بالصَّاعقة» ، وأنزل الله في هذه القصَّة: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} يعنى للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله، يعنىم: تلك المعقبات من أمر الله، وفيه تقديرم وتأخير.
ونقل عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما واختاره أبو مسلم الأصفهاني رَحِمَهُ اللَّهُ أن المراد يستوي في علم الله السرُّ، والجهر، والمستخفي في ظلمة اللَّيل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين، والأنصار، وهم الملوك، والأمراء فمن لجأ إلى الله فلن يفوِّت الله سبحانه وتعالى أمره، ومن سار نهاراً بالمعقبات، وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه حراسه من الله تعالى والمعقب هو العون؛ لأنه إذا نصر هذا وذاك؛ فلا بد وأن ينصر ذاك هذا؛ فنصر كل واحد منهما معاقبة لنصرة الآخر؛ فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله، وقدره، وهم وإن ظنُّوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله، ومن قضائه؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتَّة.
والمقصود من الكلام: بعث السلاطين، والأمراء، والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره من الله، ويعلولوا على حفظه وعصمته ولا يعولوا في دعفها على الأعوان والأنصار؛ ولذلك قال تعالى جل ذكره بعده: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} .
قال القرطبي: «قيل: إن في الكلام نفياً محذوفاً تقديره: لا يحفظونه من أمر الله تعالى ذكره الماورديُّ.(11/270)
قال المهدوي: ومن ج عل المعقٍِّبات: الحرس، فالمعنى: م يحفظونه من أمر الله على ظنه، وزعمه.
وقيل: سواء من أسر القول، ومن جهر، فله حراس، وأعوان يتعاقبون عليه، فيحملونه على المعاصي، و» يَحْفظُونَهُ «من أن ينجع فيه وعظٌ.
قال القشيريُّ: وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذابل، وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار، فيصير ذلك سبباً للعقوبة، فكأنه الذي يحل العقوبة» .
وقال عبد الرحمن بن زيد: «المعقِّبات: ما تعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده» .
قال الماورديُّ: «ومن قال بهذا القول، ففي تأويل قوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} وجهان:
أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجله، قاله الضحاك.
الثاني: يحفظونه من الجنِّ، والهوام المؤذية، ما لم يأت قدرٌ، قاله أبو أمامة، وكعب الأحبار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فإذا جاء القدر خلوا عنه؟ .
قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} : من العافية والنعمة {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من [الحالة الجميلة] فيعصون ربَّهم.
قال الجبائي، والقاضي: هذه الآية تدلُّ على مسألتين:
الأولى: أنَّه سبحانه لا يعاقبُ أطفال المشركين بذنوب آبائهم؛ لأنَّهم لم يغيِّروا ما بأنفسهم من نعمه، فيغير الهلن حالهم من النِّعمة إلى العذاب.
الثانية: قالوا: الآية تدلُّ على بطلان قول المجبرة: إنَّه تعالى ابتدأ العبد بالضَّلال، والخذلان أوَّل ما يبلغ؛ لأنَّ ذلك أبلغ في العقاب، مع أنَّه ما كان منه تغيير.
قال ابن الخطيب: «والجواب أن ظاهر الآية يدل على أن فعل الله تعالى في التغيير يترتب على فعل العبد، وقوله {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [التكوير: 29] يدلُّ على أن فعله مقدم على فعل العبد، فوقع التَّعارض.
وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} يدلُّ على أنَّ العبد غير مستقل(11/271)
بالفعل، فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان، ولكان قادراً على ردّ ما أراد الله تعالى من كفر، وحينئذٍ بطل قوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} ؛ فثبت أنَّ الآية السابقة، وإن أشعرب بمذهبهم إلا أن هذا من أقوى الدلائل على مذهبنا.
روى الضحاك عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لم تغن المعقبات شيئاً وقال عطاء عنه: لا رادّ لعذابي، ولاناقض لحكمي: {وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} ، أي: ليس لهم من دون الله من يتولاهم، ويمنع قضاء الله عنهم، أي: مال هم والٍ يتولَّى أمرهم، ويمنع العذاب عهم.
قوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ} » العامل في «إذَا» محذوف لدلالة جوابها عليه تقديره: لم يرد أو وقع، أو نحوهما، ولا يعمل فيها جوابها؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعملُ فيما قبلها.(11/272)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
قوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق} الآية لما خوَّف العباد بإنزال ما لا مرد له، أتبعه بذكر هذه الآية المشتملة على قدرة الله تعالى وحكمته، وهي تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه، وتشبه العذاب، والقهر من بعض الوجوه.
قوله: «خوفاً وطمعاً» يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوف، أي: يخافون خوفاً، ويطمعون طمعاً، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع نصب على الحالِ، وفي صاحب الحال حينئذ وجهان:
أحدهما: أنه مفعول: «يُرِيكُمْ» الأول، أي: خائفين طامعين، أي: تخافون صواعقه وتطمعون في مطره، كما قال المتنبي: [الطويل]
3170 - فَتًى كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجَى ... يُرجَّى الحَيَا مِنهَا وتُخْشَى الصَّوعِقُ
والثاني: أنَّه البرق، أي: يريكموه حالَ كيف ذا خوفٍ وطمعٍ، إذ هو ف ينفسه خوف وطمع على المبالغة، ولمعنى كما تقدَّم.
ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله، ذكره أبو البقاء، ومنعه الزمخشريُّ لعدم اتِّحادِ(11/272)
الفاعل، يعني أنَّ «الإرادة» وهو الله تعالى غير فاعل الخوف، والطمع، وهو ضمير المخاطبين، فاخلتف فاعل الفعل المعلل، وفاعل العلة وهذا يمكن أن يجاب عنه: بأنَّ المفعول في قوَّة الفاعل، فإن معنى «يُرِيكُم» يجعلكم رائين، فتخافون، وتطمعون.
ومثله ف يالمعنى قوله النابغة الذبياني: [الطويل]
3171 - وحَلَّتْ بُيوتِي في يَشفاعٍ مُمنَّعٍ ... تَخالُ بهِ رَاعِي الحَمُولةِ طَائِرَا
حِذَاراً على الاَّتَنالَ مَقادَتِي ... ولا نِسْوتِي حتَّى يَمُتْنَ حَرائِرَا
ف «حذارا» مفعول من أجله، فاعله هو المتكلم، والفعل المعلل الذي هو: «حَلَّت» فالعه «بُيُوتِي» فقد اختلف الفاعل، قالوا: لكن لما كان التقدير: وأحللت بيوتي حذاراً صحَّ ذلك. وقد جوَّز الزمخشريُّ ذلك أيضاً على حذف مضاف فقال: «إلاَّ على تقدير حذف مضاف، أي: إرادة خوفٍ، وطمع، وجوَّزه، أيضاً على أن بعض المصادر ناب عن بعض. يعني أن الأصل: يريكم البرق إخافة، وإطماعاً» .
فإنَّ المرئي، المخيف، والمطمع هو الله تعالى فناب خوف عن أخافة، وطمع عن إطماع، نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] على أنه قد ذهب ابن خروف، وجماعة على أنَّ اتحاد الفعل ليس بشرط.
فصل
في كون البرق خوفاً وطمعاً وجوه:
قيل: يخاف منه نزول الصَّواعق، وطمع في نزول الغيثِ. وقيل: يخافُ المطر من يتضرر به كالمسافر، ومن في جرابه التمر والزبيب، والحب، ويطمع فيه من له فيه نفعٌ.
وقيل: يخاف منه في غير مكانه، وأمانه، يطمع فيه إذا كان في مكانه وأمانه، ومن البلدان إذا مطروا، قحطوا، وإذا لم يمطروا خصبوا.
قال ابن الخطيب: «البرقُ جسمٌ مركبٌ من أجزاء رطبة مائية، ومن أجزاء هوائية ولا شك أنَّ الغالب عليه الأجزاء المائية، والماء جسمٌ باردٌ رطبٌ، والنَّار جسم حار يابس فظُورُ الضدِّ من الضد التام على خلافِ العقل، فلا بد من صانع مختاار يظهر الضدّ من الضدّ» .
ثم قال: «ويُنْشِىءُ السَّحاب الثِّقَال» بالمطر، ويقال: أنشأ الله السحابة، فنشأت، أي: أبدأها فبدأت.
قال الزمخشري: «السَّحابُ: اسم جنس الواحدة سحابة، والثقال: جمع ثقيلة؛(11/273)
لأنَّك تقول: سحابةٌ ثقيلةٌ وسحابٌ ثِقَال، كما تقول: امرأةٌ كريمة، ونساءٌ كِرام» .
وقال البغوي: «السَّحاب جمع، واحدتها: سحابة، ويقال في الجمع: سُحُبٌ وسَحَائِبُ أيضاً، قال عليٌّ: السحاب غربال الماءِ» .
فصل
قال ابن الخطيب: «وهذا من دلائل القدرة والحكمة، وذلك لأنَّ هذه الأجزاء المائية إمَّا أن يقال: حدثيت في جو جو الهواءِ أو تصاعدت من وجه الأرض، فإن كان الأوَّل وجب أن يكون [حدوثها] بأحداث محدث حكيم قادر، وهو المطلوب، وإن كان الثاني هو أن يقال: تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض، فلمَّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت، فثقلت، فرجعت إلى الأرض.
فنقول: هذا باطلٌ؛ لأن الأمطار مختلفة، فتارة تكمون القطرات كبيرة، وتارة تكون صغيرة، وتارة تكون متقاربة، وأخرى تكون متباعدة، وتارة تطول مدة نزول المطر، وتارة تقصر واختلاف الأمطار في هذه الصفِّات مع أنَّ طبيعة الأرض واحدة، وطبيعة الشمس واحدة فلا بد وأن يكون تخصيص الفاعل المختار، وأيضاً فالتَّجربة دلَّت على أنَّ للدعاءن والتَّضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً كما في الاستسقاء ومشروعيته، فعلمنا أنَّ المثؤر فيه [قدرة] الفاعل لا الطبيعة، والخاصية» .
قوله: {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ} قال أكثر المفسرين: الرَّعدُ اسم ملكٍ يسوقُ السَّحاب، والصوت المسموع تسبيحه.
قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «مَنْ سَمِعَ صوتَ الرَّعدِ فقال: سُبْحانَ الَّذي يُسبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدهِ والمَلائِكةُ مِنْ خِيفتهِ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير، فإنْ أصَابهُ صَاعِقةٌ فَعَلى دِينه» .
وعن ابن عبَّاس: أنَّ اليهود سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الرَّعدِ ما هو؟ . فقال صلى لله عليه وسلم «ملكٌ من الملائكةِ وُكِلَ بالسَّحابِ معهُ مخَارِيق من نَارِ يسُوقُ بِهَا السَّحابَ حيثُ شَاء اللهُ، قالوا: فَمَا الصَّوتُ الذي نَسْمَع؟ قال: زَجْرةُ السَّحابِ» .
وعن الحسن: أنَّه خلق من خلق اكلله ليس بملكٍ.(11/274)
قال ابن الخطيب: «فعلى هذا القولِ: الرَّعدُ هو الملكُ الموكل بالساحب، وذلك الصَّوت يسمّى بالرَّعدِ، ويؤكد هذا ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه سلم أنه قال:» إنَّ اللهَ يُنشِىءُ السَّحاب، فتَنْطِقُ أحسنَ النُّطقِ وتَضحَكُ أحسن الضِّحكِ فنُطقه الرَّعدُ وضِحْكهُ برق «.
وهذا القول غير مستبعد؛ لأن عند أهل السنة البينة ليست شرطاً لحصولِ الحياة، فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة، والعلم، والقدرة، والنُّطق في أجزاء السَّحاب، فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له، وكيف يستبعد ذلك، ونحن نرى أنَّ السمندل يتولد في النَّار، والضفادع تتولّد في الماءِ، والدُّوجة العظيمة ربما تولدت في الثلوج القديمة، وأيضاً: فإذا لم يبعد تسبيحُ الحِبالِ في زمن داود صلوات الله وسلامه عليه ولا تسبيح الحصى في زمن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف يبعدُ تسبيحُ السَّحاب؟ .
وعلى هذا القول ففي هذا المسموع قولان:
أحدهما: أنه ليس بملك؛ لأنَّه عطف عليه الملائكة فقال: {والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} المعطوف عليه مغايرٌ للمعطوف.
والثاني: لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة، وإنَّما أفرده بالذِّكر تشريفاً كقوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] .
وقيل: الرعدُ اسم لهذا الصوت المخصوص، ومع ذلك فإنَّه يسبحُ، قال تعالى {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] .
وقيل: المراد من كون الرَّعد مسبحاً، أن من يسمع الرَّعد فإنَّه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه.
قوله: {والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} ، أي: الملائكة يسبحون من خيفة الله، وخشيته، وقيل: أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً، فهم خائفون خاضعون طائعون.
قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «خائفون من الله لا كخوف بني آدم، فإنَّ أحدهم لا يعرف من على يمينه، ومن على يساره لا يشغله عن عبادة الله طعامٌ، ولا شراب ولا شيء» .
قال ابن الخطيب: «والمحققون من الحكماء يقولون: إنَّ هذه الآثار العلوية إنَّما هي تتمُّ بقوى روحانية فكليَّة، فللسّضحاب روح معيَّن في الأرواح الفلكيَّة يدبره، وكذا الرِّياح، وسائر الآثار العلوية، وهذا عين ما قلنا: إنَّ الرعد اسمٌ لملك من الملائكة يسبِّح الله تعالى.(11/275)
فالذي قاله المفسِّرون بهذه العبارة، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء، فيكيف يليق بالعاقل الإنكار؟» .
قوله: {وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ} كما أصاب أربد بن ربيعة.
«الصَّواعِقَ» جمع صاعقة، وهي العذاب المهلك ينزل من البرقِ، فتحرق من تصيبه وتقدَّم الكلام عليه في أوَّل البقرةِ.
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في عامر الطُّفيل، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا.
واعلم أنَّ أمر الصاعقة عجيبٌ جدًّا؛ لأنَّها نارٌ تتولَّد في السَّحاب، وإذا نزلت من السَّحاب فربما غاصت في البحرِ، وأحرقت الحيتان.
قال محمدُ بن عليّ الباقر: «الصَّاعقة تصيبُ المسلم، وغير المسلمِ، ولا تصيب الَّذاكر» .
قوله: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله} يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالاً.
وظاهر كالام الزمخشري أنَّها حال من مفعول «تَصِيبُ» فإنَّه قال: «وقيل: الواو للحال، أي: يصيب بها من يشاء في حال جدالهم» وجعلها غيره: حالاً من مفعول «يَشَاء» .
فصل
معنى الكلام: أنه تعالى بيَّن دلائل العلم بقوله: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} [الرعد: 8] ، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية، ثم قال تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله} يعنى أنَّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله.
قيل: المراد بها الرَّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال: أخبرنا عن ربِّنا، أهو من نحاسٍ، أم من حديد، أم من درٍّ، أم من ياقوت، أم من ذهب؟ فنزلت الصاعقة من السماء؛ فأحرقته.
وقيل: المراد جدالهم في إنكار البعث، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات.
وقيل: المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال.
وسئل الحسن عن قوله: {وَيُرْسِلُ الصواعق} الآية قال: كان رجلٌ من طواغيت العرب بعث إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله، فقال لهم: أخبروني عن رب محمدٍ، هذا الذي تدعُوني إليه، مِمَّ هو «من ذهبٍ، أو فضةٍ، أو حديدٍ أو نحاس؟(11/276)
فاستعظم القوم مقالته، فانصرفوا إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا رسول الله: ما رأينا رجُلاً أ: فر قلبا، ولا أعتى على الله منه، فقال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ارجعوا إليه «فرجعوا إليه؛ فجعل لايزيدهم على مثل مقالته الأولى، وقال: أجيب محمداً إلى رب لا أراه، ولا أعرفه! وانصرفوا، وقالوا: يا رسول الله: ما زادنا على مقالته الأولى، وأخبث. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ارجعوا إليه «، فرجعوا إليه، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه، وهو يقول هذه المقالة، إذا ارتفعت سحابة، فكانت فوق رءوسهم، فرعدت، وبرقت ورمت بصاعقة؛ فأحرقت الكافر، وهم جلوسٌ، فجاءوا يسعون؛ ليخبروا رسول الله صلى الله عليه سلم؛ فاستقبلهم قومٌ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالوا:» احْترَقَ صَاحبُكُم «فقالوا: من أين علمتم؟ فقالوا: أوحى الله إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال} .
قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة، ويضعف استنأفها.
وقأ العام: بكسر الميم وهو القوَّة والإهلاكُ.
قال عبد المطلب: [الكامل]
3172 - لا يَغْلبَنَّ صَلِبُهُمْ ... ومِحَالُهُمْ عَدواً مِحَالَك
وقل الأعشى: [الخفيف]
3173 - فَرْغُ نَبْغٍ يَهتزٌ في غُصُنِ المَجْدِ ... عَظيمُ النَّدى شديدُ المحالِ
والمحال أيضاً: أشدُّ المكايدة، والممكارة، يقال: ما حله، ومنه تمحَّل فلان بكذا أي: تكلَّف له استعمال الحيلة.
وقال أبو زيدٍ: هو النِّقمةُ. وقال ابن عرفة: هو الجدالُ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل: وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحالِ.
وقال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: شديد الأخذ.
وقال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه شديد المحال. وقال الحسن: نشديد الحقدِ.
قالوا: وهذا لايصح للحقد؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلاَّ أنَّه تقدم أنَّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقِّ الله تعالى فإنَّها تحمل على نهايات(11/277)
الأغراض لا على مبادي الأعراض، فيكون المراد بالحقد ههنا: هو أنه تعالى يريد إيصال الشَّر إليه، مع أنه أخفى عنه تلك الإرادة.
وقال مجاهدٌ: شديد القوَّة. وقال أبو عبيدة: نشديد العقوبة.
وقيل: شديد المكرِ، والمحال، والمماحلة، والمماكرة، والمغالبة.
واختلفوا في ميمه: فالجمهور على أنَّها أصلية من المحل، وهو المكر، والكيد، وزنها فعال: كمِهَاد.
وقال القتبيُّ: إنَّه من الحيلةِ، وميمه مزيدة، ك «مكان» من الكون، ثم يقال: تمكنت، وقد غلَّطه الأزهريُّ، وقال: لو كان: «مِفْعَلاً» من الحيلة لظهرت الواو، مثل: مرودةٍ، ومحولٍ، ومحودٍ. وقرأ الأعرج والضحاك بفتحها والظاهر أنه لغة في المكسورة، وهو مذهب ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فإنه فسره بالحول كما تقدم، وفسره غيره: بالحيلة.
وقال الزمخشري: «وقرأ الأعرج بفتشح الميم على أنه مفعل من: من حال يحول محالاً إذا احتال، ومنه:» أحْوَل مِنْ ذئْبٍ «أي: أشد حيلة، ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار، ويكون مثلاً في القوة، والقدرة كما جاء: فساعد الله أشد، وموساه أحد؛ لأن الحيوان إذا اشتد محاله كان منعوتاً بشدة القوَّة، والإضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى إلى قولهم: فقَرَتْهُ الفَواقِر، وذلك أنَّ الفقار عمود الظَّهر، وقوامه» .
قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الحق} من باب إضافة الموصوف إلى صفة، والأصل له الدعوة الحق، كقوله {وَلَدَارُ الآخرة} [يوسف: 109] على أحد الوجيهن.
وقال الزمخشري فيه وجهان:
أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيضُ الباطل، كما يضاف الكلمة إليه في قوله: «كَلمةُ الحَقُّ» .
الثاني: أن تضاف إلى «الحقِّ» الذي هو «لله» على معنى: دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب.
قال أبو حيَّان: «وهذا الوجه الثاني لا يظهر؛ لأنه مآله إلى تقدير: لله دعوة الله، كما تقول:» لزيد دعوة زيد «، وهذا التركيب لا يصحُّ» .
قال شهاب الدين: «وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يرد عليه به» ؟ .(11/278)
فصل
معنى قوله: «دَعْوةُ الحقِّ» ، أي لله دعوة الصدق.
قال عليُّ: دَعْوةُ الحقِّ: التَّوحيد. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الدُّعاء بالإخلاص عند الخوف، فإنَّه لا يدعى فيه إلا أياه «، كما قال: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] .
قال الماورديُّ: وهو أشبه لسياق الآية؛ لأنه قال: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} يعنى الأصنام: {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} ، أي لا يجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء.
{إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} . ضرب الله عزَّ وجلَّ الماء مثلاً لما يأتيهم من الإجابة لدعائهم.
قوله: {والذين يَدْعُونَ} يجوز أن يراد ب «الَّذينَ» المشركون، فالواو في: «يَدعُونَ» عائدة، ومفعوله محذوف، وهو الأصنام، والواو في «لا يستجيبون» عائدة على مفعول «تَدْعَونَ» المحذوف، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتهم إيّاه معاملتهم، والتقدير: والمشركون الذي يدعون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنام وإلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي: كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد، ولا يشعر ببسط كفيه، ولا بعطشه، ولا يقدر أن يجيبه، ويبلغ فاه، قال معناه الزمخشريُّ.
وما ذكره أبو البقاء قريب من هذا، وقدر التقدير المذكور، قال: «والمصدر في هذا التقدير مضاف إلى المفعول، كقوله: {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير} [فصلت: 49] وفاعل هذا المصدر مضمر، وهو ضمير الماءِ أي: لا يجيبونهم إلا كما يجيب الماء باسط كفيه إليه، والإجابة هنا كناية عن الانقياد» .
وقيل: ينزلون في قلَّة فائدة دعائهم لآلهتهم منزلة من أراد أن يغرق الماء بيده؛ ليشرب، فيبسطها ناشراً أصابعه، ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء، ولم يبلغ مطلوبه من شربه.
قال الفراء: المراد بالماء هاهنا: البئر؛ لأنَّها معدن الماءِ، ويجوز أن يراد ب «الَّذينَ»(11/279)
الأصنام أي: والآلهة، والذين يدعونهم من دون الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابة، والتقدير: كما تقدَّم في الوجه قبله.
وإنَّما جمعهم جمع القعلاء؛ إمَّا للاختلاط، لأنَّ آلهتهم عقلاء وجماد، وإمَّا لمعاملتهم إيَّاها معاملة العقلاء في زعمهم، قالوا: الواو في «يَدعُونَ» للمشركين والعائد المحذوف للأصنام، وكذا واو: «يَسْتَجِيبون» .
وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمرو: «تَدْعُونَ» بالخطاب: «كبَاسِطٍ كَفَّيْهِ» بالتنوين وهي مقوية للوجه الثانين، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
قوله: «ليَبْلُغَ» في: «بَاسط» ، وفاعل: «يَبلُغَ» ضمي الماء؟
قوله: {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} في «هُوَ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضمير الماءِ، والهاء في: «بِبَالغِه» للفم، أي: وما الماء ببالغ فيه.
الثاني: أنه ضمير الفم، والهاء في «بِبالغِهِ» للماء، أي: وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالِ، فنسبةُ الفعلِ إلى كل واحد وعدمه صحيحان.
الثالث: أن يكون ضمير الباسط، والهاء في: «بِبالغِهِ» للماء، أي: وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء.
ولا يجوز أن يكون «هُوَ» ضمير «البَاسط» ، وفاعل «بِبَالغهِ» مضمراً والهاء في «بِبَالغهِ» للماء؛ لأنَّه حينئذٍ يكون من باب جريان الصِّفة على غير من هي له، ومتى كان كذلك لزم إبراز الفاعل، فكان التركيب هكذا: وما هو ببالغ الماء، فإن جعلنا الضمير في «ببَالغهِ» للماء؛ جاز أن يكون: «هُوَ» ضمير الباسط كما تقدَّم تقريره.
والكاف في «كباسط» إما نعت لمصدر محذوف، وإما حال من ذلك المصدر، كما تقدم تقريره.
وقال أبو البقاء: «والكاف في» كَباسطِ «إن جعلتها حرفاً كان فيها ضمير يعودُ على الموصوف المحذوف، وإن جعلتها اسماً لم يكن فيها ضمير» .
قال شهابُ الدِّين: «وكون الكاف اسماً في الكلام، لم يقل به الجمهور، بل الأخفش. ويعني بالموصوف ذلك المصدر، والذي قدره فيما تقدَّم» .
ثم قال: {وَمَا دُعَآءُ الكافرين} أصنامهم: {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} يضلّ عنهم إذا احتاجوا إليه، كقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ} [فصلت: 48] .
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: {وَمَا دُعَآءُ الكافرين} ربهم: {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله عزََّ وجلَّ.(11/280)
وقيل: {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ؛ في ضياع لا منفعة فيه؛ لأنَّ الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
قوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض} الآية في المراد بهذا السجود قولان:
أحدهما: السجود بوضع الجبهة على الأرض، وعلى هذا القول، ففيه وجهان: د
أحدهما: أنَّ اللفظ، وإن كان عامًّا إلا أنَّ المراد المؤمنون، فبعضهم يسجدُ لله طوعاً بنشاط، وبضعهم يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه، ويتحمل مشقَّة العبادة.
وقيل: المراد بقوله: «طَوعاً» الملائكة، والمؤمنون، و «كَرْهاً» المنافقون، والكافرون الذين أكرهوا على السجود بالسَّيف.
والثاني: أنَّ اللفظ عام.
فإن قيل: ليس المراد: {مَن فِي السماوات والأرض} يسجد لله؛ لأن الكفَّار لا يسجدون.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المعنى أنه يجب على كلٍّ من في السموات، والأرض أن يعترف بعبودية الله، كما قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [الزمر: 38] .
والقول الثاني: أنَّ السُّجود عبارة عن الانقياد، والخضوع، وترك الامتناع، كلُّ من في السموات، والأرض ساجد لله بهذا المعنى؛ لأنَّ قدرته، ومشيئته نافذة في الكُل.
قوله: {طَوْعاً وَكَرْهاً} إمَّا معفول من أجله، وإمَّا حال، أي: طائعين، كارهين وإمَّا منصوب على المصدر المؤكد بفعل مضمر.
قوله: {وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} قرأ أبو مجلز: والإيصال، بالياء قبل الصَّاد وخرَّجها ابن جني على أنه مصدر «آصل» ، كضارب، أي: دخل في الأصيل، كأصبح أي: دخل في الصَّباح، و «ظِلالُهمْ» عطف على «من» ، و «بِالغُدوِّ» متعلق ب «يَسْجدُ» والباء بمعنى «فِي» ، أي: في هذين الوقتين.
قال المفسرون: كل شخص سواء كان مؤمناً، أو كافراً فإنَّ ظله يسجد لله.
قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله طوعاً، وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره.
وقال الزجاج: «جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغيرِ الله، وظله يسجد لله» .(11/281)
وعند هذا قال ابن الأنباري: لا يبعد أن يخلق تعالى للظلال عقولاً، وأفهاماً تسجد بها، وتخشع كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله وظهر اسم التجلي فيها، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف: 143] .
قال القشيري رَحِمَهُ اللَّهُ: «وفي نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكنُ أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأمَّا الظلال، فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها» .
وقيل: المراد من سجود الظلال [ميلانها] من جانب إلى جانب، وطولها بسبب انحطاطِ الشمس، وقصرها بسبب ارتفاع الشمس، وهي منقادة [مستسلمة] في طولها، وقصرها وميلها من جانب إلى جانب، وإنَّما خص الغدو، والآصال بالذِّكر؛ لأنَّ الظلال إنما تعظم، وتكثر في هذين الوقتين «.
و» الآصَال «جمع الأُصُل، والأُصل: جمع الأصيل، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس.
وقيل:» ظِلالُهمْ «، أي: أشخاصهم بالغدو، والآصال بالبكر والعشايا.(11/282)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
قوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض} الآية لما بيَّن أنَّ كل من في السَّموات، والأرض ساجد لله بمعنى كونه خاضعاً له؟ ، عدل إلى الرَّد على عبدة الأصنام فقال: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض قُلِ الله} ولمَّا كان هذا الجواب يقرّ به المسئولُ ويعترف به، ولا ينكره، أمره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتَّة.
قال القشيري: «ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع، أي: سلهم عن خالق السموات والأرض؛ فإنه يسهل تقرير الحجة عليهم ويقربُ الأمر من الضرورة،(11/282)
فإن عجز الجماد، وعجز كل مخلوق عن خالق السموات، والأرض معلوم» ؟
ولما بين الله أنَّه هو الرب لكلِّ الكائنات [قاله له] : قل لهم على طريق الإلزام للحجة فلم اتخذتم من دونه أولياء، وهي جمادات، وهي لا تملكُ لأنفسها نفعاً، ولا ضرًّا، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة [لأنفسها، ودفع المضرة عن نفسها، فلأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة] لغيرها، ودفع المضرة عن غيرها بطريق الأولى، وإذا كانت عاجزة عن ذلك كانت عبادتها محض العبث، والسَّفه، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة لا يساوي العالم بها.
فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور} قرأ الأخوان، وأبو بكر عن عاصم: «يَسْتَوِي» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، والوجهان واضحان باعتبار أن الفاعل مجازي التَّأنيث، فيجوز في فعله التذكير، والتأنيث، كنظائر له مرت. وهذه مثل ضربه اللهُ سبحانه وتعالى للكفَّار؟
قوله: «أمْ هَلْ» هذه أم المنقطعة، فتقدر ب «بل» ، والهمزة عند الجمهور، وب «بل» وحدها عند بعضهم، وقد تقدَّم تحريره، وهذه الآية قد يتقوى بها من يرى تقديرها ب «بَلْ» فقط بوقوع: «هَلْ» بعدها، فلو قدَّرناها ب «بَلْ» والهمزة لزم اجتماع حرفي معنى؛ فتقدرها ب «بل» وحدها، «ولا» تقويةٌ له، فإن الهمزة قد جامعت: «هَلْ: في اللفظ، كقوله الشاعر: [البسيط]
3173 - ... ... ... ... ... ... ..... أهَلْ رَأوْنَا بِوادِي القُفِّ ذي الأكَمِ
فأولى أن يجامعها تقديراً.
ولقائل أن يقول: لا نسلم إنَّ:» هَلْ «هذه استفهاميَّة، بل بمعنى:» قَدْ «، وإليه ذبله جماعةٌ، وإن لم تجامعها همزة، كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} [الإنسان: 1] أي: قد أتى، فههنا أولى، والسماع قد ورد بوقوع:» هَلْ «بعد:» أم «وبعدمه. فمن الاول هذه الآية، ومن الثاني: ما بعدها من قوله:» أمْ جَعلُوا «.
وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في قوله: [البيسط](11/283)
3175 - هَلْ مَا عَلمْتَ ومَا اسْتُودعْتَ مكْتومُ ... أمْ حَبْلُهَا إذ نَأتْكَ اليَوْمَ مَصرُومُ
أمْ هَلْ كثيرٌ بَكَى لمْ يَقْضِ عَبرتَهُ ... إثْرَ الأحِبَّة يَوْمَ البَيْنِ مَشْكُومُ
فصل
قوله: {هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير} كذلك لايستوي المؤمن، والكافر: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور} اي كما لا تستوي الظلمات والنور، لايستوي الكفر، والإيمان.
قوله: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} الجملة من قوله: «خَلقُوا» صفة ل: «شُرَكاءَ» ، {فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ} ، أي: اشتبه ماخلقوه بما خلقه الله عزَّ وجلَّ فلا يدرون ما خلق الله، وما خلق آلهتهمخ.
والمعنى: أنَّ هذه الأشياء الَّتي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتَّى يقولوا: إنها تشارك الله في الخالقيَّة؛ فوجب أن تشاركه في الإلهيَّة بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أنَّ هذه الأصنام لم يمصدر عنها فعلٌ، ولا خلق، ولا أثر ألبتة، وإذا كان كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهيَّة محض السَّفه، والجهل.
فصل
قال ابن الخطيب: «زعمت المعتزلة أنَّ العبد يخلق حركات، وسكنات مثل الحركات، والسكنات التي يخلقها الله، وعلى هذا التقدير: فقد {جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} والله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذَّم، والإنكارِ؛ فدلت على أنَّ العبد لا يخلق أفعال نفسه» .
قال القاضي: «نحن وإن قلنا:» إنَّ العبد يخلق إلاَّ أنَّا لا نطلق القول بأنه يخلق كخلق الله؛ لأن أحداً ما يفعل كقدرة الله، وإنما يفعل لجلب منفعة، ودفع مضرة، والله تعالى منزه عن ذلك؛ فثبت أنَّ بتقدير كون العبدِ خالقاً إلا أنَّه لا يكون خلقه كخلق الله، وأيضاً: فهذا الإلزامُ للمجبرة أيضاً؛ لأنَّهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسبٌ للعبد، وفعلٌ له، وهذا عين الشرك؛ لأنَّ الإله، والعبد في ذلك الكسب كالشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه أيضاً نصيبٌ، وهو أنه، تعالى إنَّما ذكر هذا الكلام عيباً للكفَّار أن يقولوا: إنَّ الله تعالى خلق هذا الكفر فينا؛ فلم يذمنا، ولم(11/284)
ينسبنا للجهل، والتقصير، مع أنه حصل فينا بغير فعلنا، ولا باختيارنا «.
والجواب عن الأول: هو أنَّ لفظ الخلق عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود، أو عبارة عن التقديرين، وعلى الوجهين: فبتقدير أن يكون العبد محدثاُ، فإنه لا بد أن يكون حادثاً، أما قوله: والعبد وإن كان خالقاً إلاَّ أنه ليس خلقه كخلق الله تعالى.
قلنا: الخلق عبارةٌ عن الإيجاج التكوين والإخراج من العدم إلى الوجود، ومعلومٌ أنَّ الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني، وحينئذ يصحُّ أن يقال: إنَّ هذا الذي هو مخلوقٌ للعبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى، ولا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات، إلاَّ أنَّ حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في المماثلة من هذا الوجه، وهذا القدر يكفي في الاستدلال.
وأما قوله: «هذا لازم على المجبرة حيث قالوا: إنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى» .
فنقول: هذا غير لازم؛ لأنَّ هذه الآية [دالة] على أنَّه لا يجوز ِأن يكون العبد مثلاً كخلق الله تعالى ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتَّة، فكيف يلزمنا ذلك؟ .
وأما قوله: «لو كان فعل العبد خلقاً لله لما حسن ذمُّ الكفَّار على هذا المذهب» .
قلنا: حاصلة يرجع إلى أنَّه لما حصل الوجود، وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهنو منقوض؛ لأنَّه تعالى ذمَّ أبا لهب على كفره مع أنَّه علم منه أنَّه يموت على الكفر، وخلاف المعلوم محال الوقوع.
قوله: {قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار} وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى؛ لأنَّ فعل العبد شيء، فوجب أن يكون خالقه هو الله تعالى وأيضاً: فقوله: {وَهُوَ الواحد القهار} لا يقال فيه: إنه تعالى واحد في أي المعاني، بل الواحد في الخالقية؛ لأن المذكور السابق هو الخالقية، فوجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية، القهار لكل ما سواه.
فصل
زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء.
قال الخطيب: «وهذا الخلاف ليس إلا في اللفظ، وهو أن اسم الشيء هل يقع عليه أم لا؟ فزعم قوم أنهن لا يقع، وجوّزه قومٌ» .
واحتج المانعون: بأنه لو كان شيئاً لوجب أن يكون خالقاً لنفسه، لقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] وذلك محالٌ؛ فثبت أنه لا يقع عليه اسم الشيء، ولا يقال: إنَّ هذا عام دخله التخصيص؛ لأنَّ العام المخصوص إنَّما يحسن إذا كان(11/285)
المخصوص أقل من الباقي، وأحسن منه، كما يقال: هذه الرُّمَّانة مع أنَّه سقطت حبات ما أكلها، وههنا ذات الله أعلى الموجودات، وأشرفها، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقِّه.
واستدلُُّوا أيضاً بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ٍ والمعنى: ليس مثل مثله شيء، ومعلوم أن كل حقيقة [فإنها] مثل مثل نفسها، فالباري تعالى مثل مثل نفسه مع أنه تعالى نصَّ على أنَّ مثل مثله ليس بشيء، فهذا تنصيصٌ على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيءِ.
واستدلُّوا أيضاً بقوله تعالى:
{وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا} [الأعراف: 180] قالوا: دلَّت على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى، ولفظ الشيء يتناول أحد الموجودات، فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن؛ فوجب ألاَّ يجو دعاء الله بهذا اللفظ.
وتمسك من جوَّز إطلاق هذه التسمية عليه بقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] .
وأجاب الألولون: بأنَّ هذا سؤال متروك الجواب، وقوله: {قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله.
فصل
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة، وقالوا: لأنه لو حصل لله تعالى علم، وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إمَّا أن تحصل يخلق الله تعالى أو لا تحصل بخلق الله والأول باطل، وإلا لزم التسلسل، والثاني باطلٌ؛ لأنََّ قول الله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] يتناول الذات، والصفات حكمنا بدخول التخصيص في ذات الله تعالى؛ فوجب أن يبقى على عمومه في سائر الأشياء، والقرآن ليس هو الله؛ فوجب أن يكون مخلوقاً لدخوله في هذا العموم.
والجواب أن يقال: أقصى ما في الباب أنَّ الصِّيغة عامة؛ لأن تخصيصها في حق صفات الله تعالى بالدلائل العقليَّة.
قوله تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} الآية لما شبَّه المؤمن والكافر، والإيمان، والكفر بالأعمى، والبصير، والظلمات، والنور، ضرب للإيمان، والكفر مثلاً آخر فقال: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} «أنْزلَ» يعني الله: {مِنَ السمآء مَآءً} يعني المطر «فَسَالتْ» من ذلك الماء: {أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي: في الصغر، والكبر {فاحتمل السيل} الذي حدث من ذلك الماء: {زَبَداً رَّابِياً} الزّبد: الخبث الذي يظهر على وجه الماء وكذلك على وجه القدر «رَابِياً» أي: عالياً مرتفعاً فوق الماءِ، فالماءُ الصًّافي الباقي هو الحق، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار، وجوانب الأودية هو الباطل.(11/286)
وقيل: هذا مثل القرآن: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وهو القرآن، والأودية: قلوب العباد، يريد: ينزل القرآن، فيحتمل منه القلوب على قدر اليقينِ، والعقل والشك وكما أنَّ الماء يعلوهُ زيدٌ، والأجساد يخالطها خبثٌ، ثمَّ إنَّ ذلك الزبد، والخبث يذهب، ويضيع، ويبقى جوهر الماء، وجوهر الأجساد السبعة، كذلك ههنا بيانات القرآن يختلط بها شكوك وشهبات، ثمَّ إنها تزول بالآخرة وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة في العاقبة كذلك ههنا؟
قوله: «أوْديَةٌ» جمع وادٍ، وجمع فال على أفعلة، قال أبو البقاءِ: «شاذٌّ، ولم نسمعه في غير هذا الحرف. ووجهه: أنَّ فاعلاً قد جاء بمعنى فعيل، وكما جاء فعيل وأفعلة كَجرِيب وأجْرِبَة كذلك فاعل» .
قال شهابُ الدين: «قد سمع فَاعِلَة، وأفْعِلَة في حرفين آخرين:
أحدهما: قولهم جَائِر وِأجْوِرَة.
والثاني: نَادجٍ وأنْجِيَة» .
وقال الفارسي: «أودية: جع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفْعِلَة، قال:» ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل، وفعيل على الشيء الواحد، كعَالِم وعَلِيم، وشَاهِد وشَهِيد، ونَاصِر ونَصِير، ووزن فاعل يجمع على أفعالٍ كصاحب وأصحابٍ، وطائرْ وأطيارٍ، [ووزن] فعيلٍ يجمع على أفْعِلَة كجَرِيبٍ، وأجْرِبَة، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل، وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع العفيل، فيقال: وادٍ وأودية، ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال: يَتِيمٌ وأيْتامٌ، وشَرِيفٌ وأشْرافٌ «.
وقال غيره: ن ظير وادٍ، وأوْدِيَة: نادٍ، وأنْديَة للمجالس وسمي وادِياً: لخروجه وسيلانه، والوادي على هذا اسم للماء السَّائل.
وقال أبو علي:» سَالتْ أوْديةٌ «فيه توسع، أي: يسالُ ماؤها فحذف، ومعنى» بِقدَرِهَا «أي: بقدر مياهها؛ لأنَّ الأودية ما سالت بقدرِ نفسها» .
قوله: «بِقَدِرهَا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ ب: سَالَتْ «.
والثاني: أنَّه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ للأودية.
وقرأ العامة بفتح الدال، وزيد بن عليّ، والأشهب العقيلي، وأبو عمرو في رواية بسكونها، وقد تقدَّم في البقرة.
قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: القَدْرُ والقَدَر: مبلغ الشَّيء، يقال: كم قَدْر هذه الدَّراهم(11/287)
وقَدَرُهَا ومِقْدَارُها؟ أي: كم بلغ في القدر وما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قَدرُوهَا» .
والمَعنى: بدقرها، من الماء فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتَّسع الوادي كثر الماء.
و «احْتَمَلَ» بمعنى حَمَلَ فافتعل بمعنى المجرَّرد، وإنَّما نكَّر الأودية، وعرف السيل؛ لأنَّ المطر ينزلُ في البقاع على المناوبة، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض، وعرف السي؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله، وهو قوله: «فَسَالَتْ» ، وهو لو نُكِّر لكان نكرة، فلمَّا أعيد أعيد بلفظ التَّعريف نحو «رَأْتَ رجُلاً فأكْرَمْتُ الرَّجُلَ» .
والزَّبدُ: وضرُ الغليان وخبثه؛ قال النابغة: [البسيط]
3176 - فَمَا الفُرَاتُ إذا هَبَّ الرِّياحُ لَهُ ... تَرْمِي غَوارِبهُ العِبْرَيْنِ بالزَّبدِ
وقيل: هو ما يحمله السِّيل من غثاءٍ ونحوه، وما يرمى به ضَفَّتاه من الحباب، وقيل: هو ما يطرحه الوادي إذا [سال] ماؤه، وارتفعت أمواجه، وهي عباراتٌ متقاربةٌ.
والزَّبدُ: المستخرج من اللَّبن. قيل: هو مشتقٌّ من هذه لمشابهته إيَّاه في اللون، ويقال: زبدته زبداً، أي: أعطيته مالاً كالزَّبدِ يضرب به المثل في الكثرةِ، وفي الحديث: «غُفِرتْ ذُنوبهُ، ولوْ كَانتْ مِثْلَ زَبدِ البَحْرِ» .
وقوله تعالى: «رَابِياً» قال الزجاج: طافياً عالياً فوق الماءِ «.
وقال غيره: زائداً بسب انتفاخه، يقال: رَبَا يربُوا إذا زاد.
قوله {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} هذا الجار خير مقدم، و» زَبدٌ «مبتدأ، و» مثْلُهُ «صفة المبتدأ، والتقدير: ومن الجواهر التي هي كالنُّحاسِ، والذهب، والفضة زبد، أي: خبثن مثله، أي:» مِثْل زبدِ الماءِ «.
و «مِنْ» في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} تحتمل وجهين:
[أحدهما] : أن تكون لابتداء الغاية، أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماءِ.
والثاني: أنَّها للتبعيض بمعنى: وبعض زبد، هذا مثل آخر.
فالأول: ضرب المثل بالزَّبد الحاصل من المثال، ووجه المماثلة: أنَّ كلاَّ منهما ناشىء من الأكدار.
وقرأ الأخوان، وحفص: «يُوقدُون» بالياء من تحت، أي: النَّاس، والباقون بالتاء من فوق على الخطاب، و «عَليْهِ» متعلق ب: «تُوقِدُونَ» .(11/288)
وأمَّا «فِي النَّار» ففيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلق ب «تُوقِدُونَ» وهو قول الفارسي، والحوفي، وأبي البقاء.
والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: كائناً، أو ثابتاً، قاله مكيٌّ، وغيره ومنعوا تعلُّقه ب «يُوقِدُونَ» ؛ لأنهم زعموا أنَّه لا يوقد على الشَّيء إلا وهو في النَّار، وتعليق حرف الجر ب «تُقِدُونَ» يقتضي تخصيص حال من حال أخرى، وهذ غيرُ لازمٍ.
قال أبو علي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وقد يُوقَدُ على الشَّيء، وِإن لم يكن في النَّار، كقوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين} [القصص: 28] فالطينُ لم يكن [فيها] ، وإنَّما يصيبه لهبها، وأيضاً: فقد يكون ذلك على سبيل التَّوكيد، كقوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] . والمراد بالحيلةِ: الذهب، والفضة، والمتاع: كل ما يتمتع به.
قوله: «ابْتِغاءَ حِليَةةٍ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول من أجله.
والثاني: أنه مصدر في موضع الحالِ، أي: مبتغين حلية، و «حِليَةٍ» مفعولٌ [في] المعنى، «أوْ مَتاعٍ» نسق على «حِيلْيةٍ» .
فالحِليَةُ: ما تتزين به. والمتَاعُ: ما يقضون به حوائجهم كالمساحي من الحديد ونحوها.
قوله: «جُفَاءً» حالٌ، والجفاء: قال ابن الأنباري: المتفرق، يقال: جفأتِ الرِّح السَّحاب، أي: قطعته وفرقته، وقال الفراء: الجفاءُ: الرَّمي، والاطراحُ.
يقال: جَفَا الوادي، أي: غُثَاءه يجفوهُ: جفاءً، إذا رماه، والجفاء اسم للمجتمع منه [المنضمّ] بعضه إلى بعض، ويقال: جفَأتِ القِدرُ بزُبْدِهَا تَجْفَأ، وحفاءُ السَّيل: زبده، وأجْفَأ وأجْفَلَ وباللام قرأ رؤبة بن العجاج.
قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة؛ لأنَّه كان يأكل الفأر، يعني أنه أعرابي جاف وقد تقدم ثناء الزمخشري عليه أوَّل البقرة، وذكروا فصاحته، وقد وجَّهوا قراءته بأنها من أجفأت الرِّح الغيم، أي: فرقته قطعاً، فهي في المعنى كقراءة العامة بالهمزة.
وفي همزة «جَفَأ» وجهان:
أظهرهما: أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة.
والثاني: أنه بدل من واو، وكأنه مختار أبي البقاء.
وفيه نظر؛ لأن مادة «جَفَا يَجْفُو» لا يليقُ معناها، والأصل: عدم الاشتراك.
فصل
المعنى: أنَّ الباقي الصَّافي من هذه الجواهر مثل الحق، والزَّبد الذي لا ينتفعُ به(11/289)
مثل الباطل، فأمَّا الزَّبد الذي علا السيل والفلز، فيذهب جفاء، أي: ضائعاً باطلاً، والجفاء، ما رمى به الوادي من الزَّبد، والقدر إلى جنباته.
والمعنى: أنَّ الباطل، وإن علا في وقت فإنه يضمحلُّ، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشُّبهات.
قوله: {كذلك يَضْرِبُ الله} الكاف في محل نصب، أي: مثل ذلك الضَّرب يضربُ.
قيل: إنَّما تمَّ الكلام عند قوله: {كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} ثم استأنف الكلام بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى} وملحه الرفع بالابتداء، و «للذين» خبره، وتقديره: لهم الخصلة الحسنى، أو الحالة الحسنى.
وقيل: متصل بما قبله، والتقدير: كأنه الذي يبقى، وهو مثل المستجيب، والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب، ثمَّ بين الوجه في كونه مثلاً، أي: لمن يستجيب «الحُسْنَى» وهي الجنَّة، ولمن لا يستجيب الحسرة والعقوبة.
وفيه وجه آخر: وهو أنَّ التقدير: كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى، أي: الاستجابة الحسنى.
واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أحوال السعداء، وأحوال الأشقياء، أما أحوال السعداء، فهي قوله جل ذكره: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى} ، أي: أنَّ الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد، والتزام الشرائع، فلهم الحسنى.
قال ابن عبَّاس: «الحُسْنَى» الجنَّة.
وأمَّا أحوال الأشقياء، فهي قوله عزَّ وجلَّ: {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} ، أي لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار.
قوله: {لِلَّذِينَ استجابوا} فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلقٌ ب «يَضْرِبُ» ، وبه بدأ الزمخشري قال: «أي: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا؛ وللكافرين الذين لم يستجيبوا، و» الحُسْنَى «صفة لمصدر» اسْتَجَابُوا «، أي: استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض} كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين» .
قال أبو حيان: «والتفسير الأول أولى» يعني به أن «لِلَّذينَ» خبرٌ مقدمٌ و «الحُسْنَى» متبدأ مؤخَّر كما سيأتي.
إيضاحه قال: «لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد(11/290)
ضرب أمثالاً كثيرة في هذهي وفي غيرهما؛ ولأنَّ فيه ذكر ثواب المتسجيبين بخلاف قول الزمخشري، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر للمستجيبين من الثواب؛ ولأن تقديره: الاستجابة الحسنى مشعرٌ بتقييد الاستجابةِ وما قبلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى، والله سبحانه وتعالى قد
نفى الاستجابة مطلقاً، ولأنه على قوله يكون قوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} كلاماً مفلتا ممَّا قبله، أو كالمفلتِ، إذ يصير المعنى: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين، والكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض، فلو كان التركيب بحذفِ رابط» لو «بما قبلها زال التفلت، وأيضاً: فتوهم الاشتراك في الضمير، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً» .
قال شهاب الدين: «قوله:» لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيَّد «ليس ف يقول الزمخشري ما يقتضي التّقييد، وقوله: لأن فيه ذكر ثواب المستجيبين إلى آخر ما ذكره الزمخشري أيضاً. على أن يؤخذ من فحواه ثوابهم، وقوله:» والله تعالى نفي الاستجابة مطلقاً «ممنوع، بل نفى تلك الاستجابة الأولى لا يقال: فثبتت لنا استجابة غير حسنى؛ لأنَّ هذه الصفة لا مفهوم لها، إذ الواقع أنَّ الاستجابة لله لا تكون إلا حسنى.
وقوله:» يصيرُ مُفْلتاً «كيف يكون مع قولِ الزمخشريِّ مبتدأ في ذكر ما أعدَّ لهم، وقوله» وأيضاً فيتوهَّم الاشتراك «كيف يتوهّم هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله: وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً؟ فإذا علم كيف يتوهَّم؟» .
والوجه الثاني:: أن يكون «لِلَّذينَ» خبراً مقدماً، والمبتدأ «الحُسْنَى» ، و {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} مبتدأ، وخبره الجملة الامتناعيَّة بعده.
وإنَّما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا لانتفاعهم دون غيرهم ومفعول «افتَدَوا» محذوف، تقديره: لا فتدوا به أنفسهم، أي: جعلوه فداء أنفسهم من العذاب، والهاء في «بِهِ» عائد إلى: «مَا» في قوله: «مَافي الأرضِ» .
ثم قال: {أولئك لَهُمْ سواء الحساب} .
[قال الزجاج: وذلك لأن كفرهم أحبط أعمالهم.
وقال إبراهيم النخعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: سوء الحساب] أن يحاسب الرجل بذنبه كله، ولا يغفر له منه شيء «ومَأوَاهُمٍ» في الآخرة: {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} والفراشُ، أي: بئس ما مهد لهم.(11/291)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق} الآية قد تقدَّم تقرير القولين في «أفَلمْ» وهو نظيرُ «أفَمَنْ» ، ومذهب الزمخشريِّ فه بعد هنا.
والمعنى: أنَّ العالم بالشَّيء كالبصير، والجاهل به كالأعمى، وليس أحدهما كالآخر، لأن الأعمى إذا مشى من غير قائدٍ، فرُبَّما وقع في المهالك، أو أفسد ما كان في طريقهن من الأمتعة النافعة، وأمَّا البصير، فإنه يكون آمناً [الهلاك] ، والإهلاك.
قيل: نزلت في حمزة، وأبي جهلٍ، وقيل: في أبي عمَّار، وأبي جهلٍ، فالأوَّل حمزة، أو عمَّار، والثاني: أبو جهل، وهو الأعمى، أي: لا يستوي من من يبصر الحق ويتبعه، ومن لا يبصره، ولا يتبعه. {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} يتعظ {أُوْلُواْ الألباب} ذوو العقول.
{الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} بما أمرهم به، وفرضه عليهم، ولا يخالفونه. ويجوز أن يكون قوله: {الذين يُوفُونَ} صفة ل «أولي الألباب» ، ويجوز أن يكون صفة لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق} .
وقيل: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} مبتدأ: و {أولئك لَهُمْ عقبى الدار} خبره لقوله تعالى: {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} [الرعد: 25] أولئك لهم اللعنة. وهذه الآية من أوَّلها إلى آخرها جملة واحدة شرطيَّة، وشرطها مشتملٌ على قيودٍ.
القيد الأول قوله: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يريد الذين عاهدهم حين كانوا في صلب آدم صلوات الله وسلامه عليه: {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 32] وقيل: المراد ب «عَهْدِ اللهِ» كل أمرٍ قام الدليل على صحَّته.
والقيد الثاني: قوله سبحانه: {وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} ، وهذا قريبٌ من الوفاء بالعهد؛ فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق؛ فهما متلازمان.
وقيل: الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه من الطاعات كالنذر، والوفاء بالعهد ما كلف العبد به ابتداء.
وقيل: الوفاءُ بالعهدِ: عهد الربوبيَّة، والعبودية، والمراد بالميثاق: المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند ظهوره.(11/292)
وقيل: المراد من الوفاء بالعهد: أن لا يغدر فيه، قال عليه أفضل الصلاة والسلام: «مَنْ عَاهدَ اللهَ فَغَدرَ كَانَ فِيهِ خَصْلةٌ مِنَ النِّفاقِ» .
القيد الثالث: قوله تعالى: {والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} .
قيل: أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل، و: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] .
وقال الأكثرون: المراد صلة الرَّحم.
فِإن قيل: الوفاء بالعهد، وترك نقض الميثاقِ اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات، والاحتراز عن كل المنهيات. فما الفائدة في ذكر هذه القيود بعدهما؟
فالجواب من وجهين:
[الأول] : ذكر ذلك لئلا يظنَّ طانٌّ أنَّ ذلك، فيمابينهن، وبين ربه، فلا جرم أفرد ما بينه، وبين العباد، بالذكر.
والثاني: أنه تأكيدٌ، وفي [تفسير] هذه الصِّلة وجوه:
أحدهما: صلة الرَّحم، قال صلوات الله وسلامه عليه حاكياً عن ربِّه عَزَّ وَجَلَّ أنا الرَّحمنُ، وهِيَ الرَّحمُ شققتُ لها اسماً من اسْمِي فمنْ وصلها وصلتهُ ومن قَطهَا [قَطَعْتُهُ] قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ثَلاثَةٌ يَأتِينَ يَوْمَ القِيامة لها ذَلَق: تأتي الرَّحِمُ تقول: أيْ ربِّ قُطِعْتُ، والأمَانَةُ تقول: أي ربِّ تُركت، والنِّعمة تقول: أي ربِّ كُفِرْتُ» .
وثانيها: المراد صلة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومؤازرته ونصرته في الجهادِ.
وثالثاً: رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرَّحم، وأخوة الإيمان قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ويدخل في هذه الصلة أيضاً إمدادهم بالخيرات، ودفع الآفات بقدر الإمكان، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، وإفشاء السلام والتبسم في وجوههم، وكف الأذى عنهم، ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة، والدجاجة.
القيد الرابع: قوله: «وَخْشَوْنَ ربَّهُمْ» معناه: أنَّ العبد، وإن قام بكُلِّ ما جَاءَ عليه(11/293)
من تعظيم الله، والشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد من وأن تكون الخشية من الله عَزَّ وَجَلَّ والخوف منه مستويان.
والفرق بين الخشية، والخوف: أنَّ الخشية أن تخشى وقوع خلل إمَّا بزيادةٍ، أو نقصٍ فيما يأتي به، والخوفُ: هو مخافة الهيبة والجلال.
القيد الخامس: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} .
وهذا القيد هو المخافة من سوءِ الحسابِ، وهو خوف الجلال، والعظمة، والمهابة، وإلا لزم التكرار.
القيد السادس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} .
قال ابن عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «عَلى أمْرِ اللهِ» . وقال عطاء: «على المصائب» . وقيل: على الشَّهوات.
واعلم أنَّ العبد قد يصبر لوجوه:
إما أن يصبر ليقال: ما أصبره، وما أشد قوته على تحمل النَّوائب.
وإما أن يصبر لئلا يعاب على الجزع.
وإما أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء، وإما أن يصبر لعلمه أنَّ الجزع لا فائدة فيه.
فإذا كان أتى بالصَّبر لأحد هذه الوجوه، لم يكن داخلاً في كمالِ النفس، أمَّا إذا صبر على البلاء لعلمه أن البلاء قسمة القاسم الحكيم العلام المنزه عن العبث، الباطل، والسَّفه وأنَّ تلك القسمة مشتملةٌ على حكمةٍ بالغةٍ، ومصلحةٍ راجحةٍ، ورضي بذلك؛ لأنَّه لا اعتراض على المالك في تصرُّفه في ملكه، فهذا هو الذي يصدق عليه أنه صبر ابتغاء وجه ربه؛ لأنه صبر لمجرَّد طلب رضوان الله.
القيد السابع: قوله تعالى: {وَأَقَامُواْ الصلاة} واعلم أنَّ الصَّلاة، والزَّكاة، وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى، إلاَّ أنه تعالى أفردهما بالذِّكر تنبيهاً على كونهما أشرف سائر العبادات، ولا يتمنع دخول النَّوافل فيه أيضاً.
القيد الثامن: قوله تعالى: {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} قال الحسنُ رضي اكلله عنه: المراد الزكاة المفروضة فِإن لم يتَّهم بتركها أدَّاهَا سرًّا، وإن اتهم بتركها فالأولى أداؤها في العلانية. وقيل: السرُّ: ما يؤديه بنفسه، والعلانية: ما يؤديه إلى الإمام.
وقيل: العلانية: الزكاة، والسر: صدقة التَّطوع.
القيد التاسع: قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} قيل: إذا أتوا المعصية، درءوها، أو دفعوها بالحسنة.(11/294)
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «يدفعون بالصَّالح من العمل السيّىء من العمل، وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 14] .
وقال صلوات الله وسلامه عليه لمعاذ بن جبلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» إذا عَملْتَ سَيِّئةً فاعْمَلْ بِجَنْبهَا حَسَنةً تَمْحُهَا، السِّرُّ بالسِّرِّ، والعَلانيةُ بالعَلانِيَة «.
وقيل: لا تقابلوا الشَّر بالشَّر، بل قابلوا الشَّر بالخير، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] قال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا.
قال عبد الله بن المبارك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» فهذه ثماني خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنَّة «.
واعلم أنَّ هذه القيود هي القيودُ المذكورة في الشَّرط، وأمَّا القيودُ المذكورة في الجزاء، فهي قوله تعالى: {أولئك لَهُمْ عقبى الدار} ، أي عاقبة الدار، وهي الجنَّة.
قال الواحديُّ:» العُقْبَى كالعاقبة، ويجوز أن يكون مصدراً كالشُّورى والقُربى والرُّجعى، وقد يجيء مثل هذا أيضاً على «فَعْلَى» كالنَّجْوى والدَّعوى وعلى «فِعْلَى» كالذِّكرى والضِّيزى، ويجوز أن يكون اسماً وهو هاهنا مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى: أولئك لهم أن تعاقب أحوالهم الدار التي هي الجنة «.
قوله:» أؤْلئِكَ «مبتدأ، و» عُقْبَى الدَّارِ «يجوز أن يكون مبتدأ خبره الجار قبله والجملة خبر» أوْلئِكَ «، يجوز أن يكون» لهم «خبر» أولئك «و» عقبى «فاعل بالاستقرار. قوله:» جنات عدن «يجوز أن يكون بدلاً من» عُقْبَى «وأن يكون بياناً، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون متبدأ خبره» يَدْخُلونهَا «.
وقرأ النخعي:» جَنَّة «بالإفراد، وتقدم الخلاف في {يَدْخُلُونَهَا} [الرعد: 13] والجملة من» يَدْخُلونَهَا «تحتمل الاستئناف أو الحالية المقدرة.
قوله:» ومَنْ صَلَحَ «يجوز أن يكون مرفوعاً عطفاً على الواو، وأغنى الفصل بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل، وأن يكون منصوباً على المفعول معه، وهو مرجوح.(11/295)
وقرأ ابن أبي عبلة» صَلُحَ «بضم اللام، وهي لغة مرجوحة.
قوله: {مِنْ آبَائِهِمْ} في محل الحال من» مَنْ صَلَحَ «و» مِنْ «لبيان الجنس.
وقرأ عيسى الثقفي: «ذُرِّيتَهُم» بالتوحيد؟
فصل
قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} هو القيد الثاني، وقد تقدم الكلام في {جَنَّاتُ عَدْنٍ} عند قوله {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] .
والقيد الثالث: هو قوله «ومَنْ صَلَحَ» قال ابن عباس: يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعلم مثل أعمالهم.
وقال الزجاج: «بين تعالى أن الأنتساب لا تنفع إذا لم يحصل معه أعمال صالحة» ، بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصاحلة.
قال الواحدي: «والصحيح ما قاله ابن عباس؛ لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله في الجنة، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع، الآتي بالأعمال الصالحة، ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع، فلا فائدة في الوعد به، إذ كل من كان صالحاً في عمله فهو يدخل الجنة» .
قال ابن الخطيب: «وهذه الحجة ضعيفة؛ لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة، فإذا بشر الله المكلف أنه إذا دخل الجنة يجد أباه وأولاده، فلا شك يعظم سروره بذلك وهذا الذي قاله وإن كان فيه مزيد سرور، لكنه إذا علم أنهم إنما دخلوا الجنة إكراماً له كان سروره أعظم وبهجته أتم» .
قوله: «وأزْوَاجُهُمْ» ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه، قاله ابن الخطيب.
وفيه نظر؛ لأنه لو مات عنها فتزوجت بعده غيره لم تكن من أزواجه، بل الأولى أن يقال: إن من ماتت في عصمته فقط.
والقيد الرابع: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} [قيل: من أبواب الجنة، وقيل: من أبواب القصور، وقال الأصم: من كل باب] من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر، يقولون: نعم ما أعقبكم الله بهذه الدار.(11/296)
فصل
تمسّك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال: ِإنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم والسلام، فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم موجباً علو درجتهم وشرف مراتبهم، ألا ترى أن من عاد من سفره أو مرضه فعاده الأمير والوزير والقاضي والمفتي فتعظم درجته عند سائر الناس فكذا هاهنا.
قوله: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم} الآية قال الزجاج: «ههنا محذوف تقديره والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون: سلام عليكم، فأضمر القول ههنا؛ لأن في الكلام دليلاً عليه والجملة محكية بقول مضمر والقول المضمر حال من فاعل» يَدخُلون «أي يدخلون قائلين. قوله» بِمَا صَبرْتُمْ «متعلق بما تعلق به» عَلَيْكُمْ «.
قال ابن الخطيب: متعلق بمحذوف، أي: أن هذه الكرامات التي ترونها إنما حصلت بصبركم و «ما» مصدرية، أي: سبب صبركم، ولا يتعلق ب «سَلامٌ» ، لأنه لا يفصل بين المصدر ومعموله بالخبر قاله أبو البقاء.
وقال الزمخشري: «ويجوز أن يتعلق ب» سَلامٌ «أي: نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم» .
ولما نقله عنه أبو حيان لم يعترض عليه بشيء. والظاهر أنه لا يعترض عليه بما تقدم لأن ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري وفعل هذا المصدر ليس من ذلك، والباء إما سببية كما تقدم، وإما بمعنى بدل أي: بدل صبركم، أي: بما احتملتم مشاق الصبر؟
وقيل: «بمَا صَبَرتُم» خبر مبتدأ مضمر، أي: هذا [الثواب] الجزيل بما صبرتم.
وقرأ الجمهور: «فَنِعْمَ» بكسر النون وسكون العين، وابن يعمر بالفتح والكسر وقد تقدم أنها الأصل؛ كقوله: [الرمل]
3177 - ... ... ... ... ... ... . ... نَعِمَ السَّاعُون في الأمْرِ الشُّطُرْ
وابن وثاب بالفتح والسكون، وهي تخفيف الأصل، ولغة تميم تسكين عين فعل مطلقاً والمخصوص بالمدح محذوف، أي: الجنة.(11/297)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
قوله: {والذين يَنقُضُونَ} مبتدأ، والجملة من قوله {أولئك لَهُمُ اللعنة} خبره، والكلام في «اللعنة» تقدم في «عُقْبَى الدَّارِ.
ولما ذكر صفة السعداء وما يترتب عليها من الأحوال الشريفة، ذكر صفة الأشقياء وما يترتب عليها من الأحوال المخزية، وابتع الوعد بالوعيد فقال عَزَّ وَجَلَّ {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وقد تقدم أن عهد الله ما ألزم عباده مما يجب الوفاء به وهذا في الكفار، والمراد من نقض العهد: ألا ينظر في الأدلة وحينئذ لا يكون العمل بموجبها أو ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو ينظر في الشبهة فيعتقد خلاف الحق، والمراد من قوله:» مِن بَعْدِ ميثاقهِ «أن وثق الله تلك الأدلة وأحكامها.
فإن قيل: العهد لا يكون إلا مع الميثاق، فما فائدة اشتراطه بقوله: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} ؟ .
فالجواب: لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف العبد به والمراد بالميثاق الأدلة؛ لأنه تعالى قد يؤكد [العهد] بدلائل أخر سواء كانت تلك المؤكدات دلائل عقلية أو سمعية.
ثم قال {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} فيدخل فيه قطع كل ما أوجب الله وصله مثل: أن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض، ويقطعون وصل الرسول بالموالاة والمعاونة، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام وسائر ما تقدم.
ثم قال: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض} إما بالدعاء إلى غير دين اكلله وإما بالظلم كما في النفوس والأموال وتخريب البلاد ثم قال: {أولئك لَهُمُ اللعنة} وهي الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة {وَلَهُمْ سواء الدار} وهي جنهم.
قوله {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} الآية لما حكى عن ناقضي العهد في التوحيد والنبوة بأنهم ملعونين ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل: لو كان أعداء الله لما أنعم عليهم في الدنيا؟ فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه تعالى يبسط الرزق على البعض، وبسط الرزق لا تعلق له بالكفر والإيمان، فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن، والدنيا دار امتحان.(11/298)
قال الواحدي:» ومعنى القدر في اللغة: قطع الشيء على مساوة غيره من غير زيادة ولا نقصان «.
وقال المفسرون في معنى» يَقْدرُ «ههنا: يضيق، لقوله {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] ومعناه: أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء.
وقرأ زيد بن علي:» ويَقْدُر «بضم العين.
قوله:» وفَرِحُوا «هذا استئناف إخبار. وقيل: بل هو عطف على صلة» الذين «قبل.
وفيه نظر؛ من حيث الفصل بين أبعاض الصلة بالخبر، وأيضاً: فإن هذا ماض وما قبله مستقبل ولا يدعي التوافق في الزمان إلا أن يقال: المقصود استمرارهم بذلك أو أن الماضي متى وقع صلة صلح [للماضي] والاستقبال.
قوله «فِي الآخِرَةِ» ، أي في جنب الآخرة.
«إلاَّ مَتاعٌ» وهذا الجار في موضع الحال تقديره: وما الحياة القريبة الكائنة في جنب الآخرة إلا متاع ولا يجوز تعلقه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان إلا في الآخرة.
ومعنى الآية: أن [مشركي] مكة أشروا وبطروا، والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام محال {وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ} أي قليل ذاهب.
قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} ألآية اعلم أن كفار مكمة قالوا: يا محمد فأجابهم الله بقوله {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} .
وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه:
أحدها: كأنه يقول: إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، لكن [الإضلال] والهداية من الله فأضلهم عن تلك الآيات وهدى إليها آخرين، فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات.
وثانيها: أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام كانت أكثر من أن تصير مشتبه على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخر كان في موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} من كان على صنيعكم من التصميم على الكفر فلا سبيل إلى هدايتكم وإن نزلت كل آية: «ويَهْدِي» من كان على خلاف صنيعكم.(11/299)
وثالثها: لما طلبوا سائر الآيات والمعجمزات فكأنه قال لهم: لا فائدة في ظهور الآيات والمعجزات، فإن الإضلال والهداية من الله تعالى فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية من الله فإنه لم يحصل الانتفاع بها.
ورابعها: قال الجبائي: المعنى: أنه يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم الإضلال عن الثواب {ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} ، أي: يهدي إلى جنته من [تاب] وآمن. قال: وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث إنه عقبه بقوله: «من أناب» ، أي: من تاب.
والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب؛ لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه تعالى إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام الجبائي.
والضمير في «إليه» عائد على الله، أي: إلى دينه وشرعه. وقيل على الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وقيل: على القرآن.
قوله: {الذين آمَنُواْ} يجوز فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ خبره الموصول الثاني وما بينهما اعتراض.
الثاني: أنه بدل من «مَنْ أنَابَ» .
والثالث: أنه عطف بيان له.
الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمر.
الخامس: أنه منصوب بإظمار فعل.
فصل
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إذا سمعوةا القرآن خشتع قلوبهم واطمأنت.
فإن قيل: أليس قال في سورة الأنفال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم هنا بالاطمئنان؟ .
فالجواب من وجوه:
أحدها: أ، هم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا أن [يقربوا] المعاصي فهناك الوجل وإذا ذكروا ما وعد الله به من الثواب والرحمة سكنت قلوبهم، فإن أحد الأمرين لا ينافي الآخر؛ لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب.
وثانيها: أن المراد أن يكون القرآن معجزاً يوجب حصو الطمأنينة لهم في كون(11/300)
محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نبياً حقاً من عند الله، ولما شكوا في أنهم أتوا بالطاعات كاملة فيوجب حصول الوجل في قلوبهم.
وثالثها: أنه حصل في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعات الموجبة للثواب أم لا؟ وهل احترزوا عن المصعية الموجبة للعقاب أم لا؟ .
وقيل: الوجل عند ذكر الله: الوعيد والعقاب، الطمأنينة عند ذكر الله عزّ وجل: الوعد والثواب، فالعقاب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وكرمه {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيه اليقين.
قال ابن عباس رَحِمَهُ اللَّهُ: «هذا في الحلف، يقول: إذا حلف السملم بالله على شيء تسكن قولب المؤمنين إليه» .
قوله {بِذِكْرِ الله} يجوز أن يتعلق ب «تَطْمئِنُّ» فتكون الياء سببية، أي: بسبب ذكر الله.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن مفعولاً به، أي: الطمأنينة تحصل لهم بذكر الله.
الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «قلوبهم» ، أي: تطمئن وفيها ذكر الله.
قوله: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فيه أوجه:
أن يكون بدلاً من «القُلوب» على حذف مضاف أي: قلوب الذين أمنوا وأن يكمون بدلاً من «مَنْ أنَابَ» ، وهذا على قول من لم يجعل الموصول الأول بدلاً من «مَنْ أنَابَ» وإلا كان يتوالى بدلان، وأن يكون مبتدأ، و «طُوبَى» جملة خبرية، وأن تكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون منصوباً بإضمار فعل، والجملة من «طُوبى لَهُمْ» على هذين الوجهين حال مقدرة، والعامل فيها ءامَنُوا «و» عَمِلُوا:.
قوله «طُوبى لَهُم» وتاو «طُوبَى» منقلبة عن ياء، لأنها من الطيب وإنما قلبت لأجل الضمة قبلها، كموسر وموقن من اليسر واليقين واختلفوا فيها، فقيل: هي اسم مفرد مصدري، كبُشْرَى ورُجْعَى من طَابَ يطِيبُ.
وقيل: بل هي جميع طيبة، كما قالوا: كوسى في جمع كيسة، وضُوقَى في جمع ضِيقَة.
ويجوز أن يقال: طِيبى، بكسر الباء، وكذلك الكِيسَى والضِّيقَى. وهل هي اسم شجرة بعينها أو اسم للجنة بلغة الهند أو الحبشة؟ .
وجاز الابتداء ب «طُوبَى» إما لأنها علم لشيء بعينه، وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء، كسلام عليك، وويل لك، كذا قال سيبويه.
وقال ابن مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: «إنه يلتزم رفعها بالابتداء، ولا يدخل عليها نواسخه»(11/301)
وهذا يرد عليه: أن بعضهم جعلها في هذا الآية منصوبة بإضمار فعل، اي: وجعل لهم طوبى، وقد تأيد ذلك بقراءة عيسى الثقفي «وحُسْنَ مآبٍ» بنصب النون، قال: إنه معطوف على «طُوبَى» وأنها في موضع نصب.
قال ثعلب: و «طُوبَى» على هذا مصدر، كما قال: «سقيا» .
وخرج هذه القراءة صاحب اللوامح على النداء، كيا أسَفَى على الفوت، يعنى أن «طُوبَى» مضاف للضمير معه واللام مقحمة؛ كقوله: [البسيط]
3178 - ... ... ... ... ..... يَا بُؤسَ لِلجَهْلِ ضَرَّاراً الأقْوامِ
وقوله: [مجزوء الكامل]
3178 - يَا بُؤسَ لِلحَرْبِ الَّتِي ... وضَعْتْ أرَاهِطَ قاستراحُوا
ولذلك سقط التنوين من «بُؤسَ: كأنه قيل: يا طيبا، أي: ما أطيبهم وأحسن مآبهم.
قال الزمخشري:» ومعنى «طُوبَى لَكَ» : أصحبت خيراً، و «طيبا» ومحلها النصب أو الرفع، كقولك: طيبا لك وطيبٌ لك، وسلاماً لك وسلام لك والقراءة ف يقوله «وحُسن مَآبٍ» بالنصب والرفع يدل على محلها، واللام مفي «لَهُمْ» للبيان مثلها في «سقيا لك» فهذا يدل على أنها تتصربف، ولا يلزم الرمفع بالابتداء.
وقرأ مكوزوة الأعرابي: «طِيبَى» بكسر الطاء لتسليم الياء، نحو: بيض ومعيشة.
وقرىء: «وحُسْنَ مَآبٌ» بفتح النون ورفع «مآبٌ» على أنه فعل ماض، أصله حَسُنَ فنقلت ضمة العين إلى الفاء قصداً للمدح، كقوله: حسن ذا أدب، و «مَآبُ» فاعله.
فصل
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: طوبى، فرح لهم وقرة عين.
وقال عكرمة: نعم ما لهم. وقال قتادة: حسنى لهم.(11/302)
وقال معمر عن قتادة: هذه كلمة عربية، يقول الرجل: طوبى لك، أي: أصبت خيراً.
وقال إبراهيم رَحِمَهُ اللَّهُ: خير لهم وكرامة. وقال الفراء: وفيه لغتان: تقول العرب: طوباك، وطوبى لك، أي لهم الطيب «وحُسْنَ مَآبٍ» أي: حسن المنقلب.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: «طُوبَى: اسم الجنة بالحبشية.
وقال الربيع: البستان بلغة الهند. وقال الزجاج: العيش الطيب لهم وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرجاء قالوا: طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها وقيل فيها غير ذلك.(11/303)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} الكاف في محل نصب كانظائرها.
قال الزمخشري: «مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعن: إرسالا ً له شأن» .
وقيل: الكاف متعلقة بالمعنى الذي قبله في قوله: {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] ، أي كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك.
وقال ابن عطية: «الذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي لا بالآيات المقترحة فكذلك فعلنا أيضاً في هذه الأمة أرسلناك إليها بوحي لا بأيآت مقترحة» .
وقال أبو البقاء: وكذلك: «الأمر كذلك» فجعلها في موضع رفع.
وقال الحوفي: الكاف للتشبيه في موضع نصب، أي: كفعلنا الهداية والإضلال والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وتكون الكاف للتشبيه.
قال ابن عباس والحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أي: أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك.(11/303)
وقيل: كما أرسلنا إلى أمم وأعطيناهم كتباً تتلى عليهم كذلك [أعطيناك] هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم.
قوله: «قَد خَلتْ» جملة في محل جر صفة ل «أمَّة» ، و «لِتَتْلُ» متعهلق ب «أرْسلْنَاك» والمعنى: أنه فسر كيف أرسله فقال: {في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ} أي: أرسلناك في أمة قد تقدمها أمم وهم آخر الأمم وأنت آخر الأنبياء «لتتلو» لتقرأ عليهم الذي أوحينا إليك وهو الكتاب العظيم.
قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافية، وأن تكون حالية والضمير في «وهم يكفُرون» عائد على «أمَّة» من حيث المعنى، ولو عاد على لفظها لكان التركيب: وهي تكفر.
وقيل: الضمير عائد على «أمَّة» وعلى «أممٍ» . وقيل: عائد على الذين قالوا: «لوْلاَ أنْزِلَ» .
فصل
قال قتادة ومقاتل وابن جريح: الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية وذلك أن سهل بن عمرو لما جاءوا واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لعلي كرم الله وجهه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. قالوا لا نعرف إلى الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون: مسليمة الكذاب، اكتب كما كممنت تكتب: باسمك اللهم فهذا معنى قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} والمعروف أن الآية مكية، وسبب نزولها: أن أبا جهل سمع النبي س صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في الحجر يدعو الله يا رحمن فرجع إلى المشركين، وقال: إن محمداً يدعو إلهين: يدعو الله ويدعو الرحمن إلهاً آخر يسمى الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى:
{قُلِ
ادعوا
الله
أَوِ
ادعوا
الرحمن
أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [الإسراء: 110]
وروى الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم: «اسجدوا للرحمن» ، قالوا: وما الرحمن؟ قال الله تعالى: «قل لهم يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت» اعتمدت «وإليه متاب» أي: توبتي ومرجعي.(11/304)
فصل
اعلم أن قوله {يَكْفُرُونَ بالرحمن} أنا إن حملناه على هذه الروايات كان معناه: يكفرون بإطلاق هذا الاسم على الله تعالى لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون: بل كفروا بالله إما جحداً له، وإما لإثباتهم الشركاء معه. قال القاضي: وهذا القول أليق بالظاهر؛ لأن قوله تعالى {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم به فكان المفهوم هو دون اسمه تعالى.
قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] نزلت في نفر من مشركي مكة منهم: أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية المخزومي جلسوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعرض عليهم الإسلام، فقال عبد الله بن أمية المخزومي: إن سرك أن نتبعك فسيِّر لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها حتى تنفسح علنيا فإنها أرض ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً لنغرس الأشجار ونزرع، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه، أو [سخر لنا الريح، فنركبها إلى الشام والبلاد لميرتنا وحوائجنا، ونرجع في يومنا؛ فقد] سخر الريح لسليمان صلوات الله وسلامه عليه كما زعمت فلست على ربك بأهون من سليمان، أو أحْي لنا جدك قصي، أو من شئت من موتانا نسأله عن أمرك، أحق ما تقول أوة باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى، ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض} [الرعد: 31] أي: شققت فجلعت أنهاراً وعيوناً {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} [الرعد: 31] .(11/305)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ} جوابها محذوف، أي: لكان هذا القرآن، لأنه في غاية ما يكون من الصحة، واكتفى بمعرفة السامعين من مراده؛ كقوله الشاعر: [الطويل]
3180 - فأقْسِمُ لو شَيءٌ أتَاناَ ... سِواكَ ولكِنْ لَمْ نَجْدْ عنْكَ مَدْفَعَا
أراد: لرددناهن، وهذا معنى قول قتادة: قالوا: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم.(11/305)
وقيل: تقديره لما آمنوا.
ونقل عن الفراء: جواب «لو» هي الجملة من قوله {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} [الرعد: 30] وفي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض، وتقدير الكلام: وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآناً سيرت به الجبال كأنه قيل: لو سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم الموتى به لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم، كقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا} [الأنعام: 111] وهذا في الحقيقة دال على الجواب.
وإنما حذفت التاء شفي قوله {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} وثبتت في الفعلين قبله؛ لأنه من باب التغليب، لأن الموتى تشمل المذكر والمؤنث.
قوله {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} أصل اليأتس: قطع الطمع عن الشيء والقنوط منه، واختلف الناس فه ههنا، فقال بعضهم هو هنا على بابه، والمعنى أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش، وذلك أنهم لما سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم وطلبوا نزول هله الآيات ليؤمن الكفار، وعلم الله أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم ييأس الذين آمنوا من آيات الكفار، أي: ييأس من إيمانهم قال الكسائي.
وقال الفراء: «أوقع الله للمؤنين أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً فقال: أفلم ييأسوا علماً» يقول: يؤيسهم العلم، فكان فيهم العلم مضمراً كما تقول في الكلام: «يئست منك إن لا تفلح» كأنه قال: علمه علماً، قال: فيئست بمعنى علمت، وإن لم يكن سمع فإنه يتوجه لذلك بالتأويل «.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه وذلك لأنه لما أبعد إيمانهم في قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ} على [التأويلين] في المحذوف المقدر، قال في هذه الآية» أفلمْ يَيْأسٍ «المؤمنون من إيمان هؤلاء علماً منهم {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} .
وقال الزمخشري:» ويجوز أن يتعلق {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} ب «آمَنَوا» على أو لو يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم «.
وهذا قد سبقه إليه أبو العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقال أبو حيان: ويحتمل عندي وجه آخر غير الذي ذكروه، وهو: أن الكلام تام(11/306)
عند قوله تعالى {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} إذ هو تقرير، أي: قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعنادين، و {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} جواب قسم محذوف، أي: وأقسم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدل على هذا القسم [وجود] » أنْ «مع» لَوْ «في قول الشاعر: [الوافر]
3181 - أمَا واللهِ أن لوْ كُنَْ حُرًّا ... وما الحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ
وقول الآخر: [الطويل]
3182 - فأقْسِمُ أن لَوِ التَقيْنَا وأنتمُ ... لكَانَ لكُم يَوْمٌ مِنَ الشَّر مُظْلِم
وقد ذكر سيبويه أن «أن» تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم بالجملة المقسم عليها، وقال بعضهم بل هو ههنا بمعنى «عَلِمَ» و «تَبيَّن» .
قال القاسم بن مَعنٍن وهو من ثقاب الكوفيين: هي من لغة هوازن.
وقال الكلبي: هي لغة حي من النَّخع، ومنه قول رباح بن عدي: [الطويل]
3183 - ألَمْ يَيأسِ الأقْوامُ أنِّي أنَا ابنهُ ... وإن كُنْتُ عن أرْضِ العَشِيرةِ نَائِيا
وقول سحيم بن وثيل الرياحي: [الطويل]
4184 - أقُولُ لهُمْ بالشِّعْبِ إذ يَأسِرُونَنِي ... ألمْ تَيأسُوا أنِّي ابنُ فارسِ زَهْدمِ
وقول الآخر: [الكامل]
3185 - حتَّى إذَا يَئسَ الرُّماةُ فأرْسَلُوا ... غُضْفاً دَواجِنَ قافِلاً أعْصامُهَا(11/307)
ورد الفراء هذا وقال: «لم أسمع» يَئِسْتُ «بمعنى عَلْمتُ» .
وردَّ عليه بأن من حفظ حجة على من لكم يحفظ، ويدل على ذلك: قراءة علي وابن عباس وعكرمة وابن أبي مليكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المدني وعبد الله بن يزيد، وعلي بن بذيمة: (أفلم يتبين) من: «تبينت كذا» إذا عرفته، وقد افترى من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس، كان أصله: «أفلم يتبين» فسوى هذه الحروف [فتوهَّم] أنها سين.
قال الزمخششري: «وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى هذا حتى يبقى بين دفتي الإمام، وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها المبنى، هذه والله فرية ما فيها مرية» .
وقال الزمخشري أيضاً: «وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم؛ لأن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنيسان في معنى الترك لتضمنه ذلك» .
وتحصل في «أنْ» قولان:
أحدهما: أنها «أن» المخففة من الثقيلة، فأسمها ضمير الشأن، والجملة الامتناعية بعدها خبرها، وقد وقع الفصل ب «لو» و «أن» وما في حيزها إن علقنا ب «ءامنوا» يكون في محل نصب، أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه، إذا أصلها الجر بالحرف، أي: آمنوا بأن لو يشاء الله، وإن علقناها ب: يَيْأس «على أنه بمعنى علم كانت في محل نصب لسدها سمد المفعولين.
والثاني: رابطة بين القسم والمقسم عليه، كما تقدم.
فصل
قال المفسرون: إن أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لما سعموا كلام المشركين طمعوا في أن يفعل الله تعالى ما سألوا فيؤمنوا، فنزل {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} يعني الصحابة من إيمان هؤلاء، يعني: الم ييأسوا وكل من علم شيئاً ييِأس عن خلافه.
يقول: ألم يؤيسهم العلم {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} .
فصل
احتج أهل السنة بقوله: {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} وكلمة «لَوْ» تفيد انتفاء(11/308)
الشيء لانتفاء غيره، والمعنى: أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء، وتارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الهداية إلى طريق الجنة، ومنهم من يجري الكلام على الظاهر، ويقول: إنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس لأنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين فلا يكون مبايناً لهداية جميع الناس، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مراراً.
قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} ألآية قيل: أراد جميع الكفار؛ لأن الوقائع الشديدة [التي وعقت لبعض الكفار من القتل والسبي، أوجب حصول الغم] في قلوب الكل.
وقيل: أراد بعض الكفار وهم جماعة معينون، فتكون الألف واللام للعهد، والمعنى لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وأعمالهم القبيحة «قارِعَةٌ» أي: نازلة وداهيةٌ تقرعهم من أنواع البلاء أحياناً بالجدب وأحياناً بالسلب وأحياناً بالقلب.
يقال: قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع، والأصل في القرع: الضرب أي: لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد، أو من قتل أو أسر أو جدب أو غير ذلك من العذاب والبلاء كما نزل يخاطب المستهزئين من رؤساء المشركين.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أراد كفار قريش يصيبهم بما صنعوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من العداوة والتكذيب بأن لايزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب من مواشيهم «.
قوله» أوْ تَحُلُّ «يجوز أن يكون فاعله ضمير الخطاب، أي: تحل أنت يا محمد وأن يكون ضمير القارعة، وهذا أبين، أي: تصيبهم قارعة أو تحل القارعة، وموضعها نصب عطف علىخبر» يَزالُ «.
وقرأ ابن جبير ومجاهد:» أوْ يَحُلُّ «بالياء من تحت، والفاعل على ما تقدم إما ضمير القارعة وإنما ذكر العفل؛ لأنها بمعنى العذاب ولأن التاء للمبالغة، والمراد: قارع وإما ضمير الرسول صلوات الله وسلامه عليه أتى به غائباً، وقرأ أيضاً:» مِن دِيَارهِمْ «جمعاً، وهي واضحة.
المعنى: أو تحل القارعة أو أنت يا محمد صلوات الله وسلامه عليك بجيشك قريباً من دراهم كما حل بالحديبية {حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله} وهو فتح مكة، وكان قد وعده ذلك. وقيل: يوم القيامة.(11/309)
{إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} والغرض منه: [تقوية] قلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإزالة الحزن عنه وتسليته.
فصل
قال القاضي: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده، وهذه الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بمعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق [الفساق] من العناد.
والجواب: أن الخلق غير، وتخصيص العموم غير، ونحن لا نقول بالخلف، ولكننا تخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو.(11/310)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
قوله تعالى: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} الآية لما طلبوا المعجزات من الرسول صلوات الله وسلامه عليه على سبيل الاستهزاء، وكان يتأذى من تلك الكلمات، فأِنزل الله تعالى هذه الآية تسلية له وتصبيراً على سفاهتهم فقال: إن أقوام سائر الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ استهزؤوا بهم كما أن قومك يستهزئون بك {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أمهلتهم وأطلت لهم المدة بتأخير [العقوبة] {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عاقبتهم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} لهم؟ .
والإملاء: الإمهال وإن تركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها ف يالمرعى، ومنه الملوان وهو الليل والنهار؟
قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ} «مَنْ» موصولة، وصلتها «هُو قَائِمٌ» والموصول مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، ودل على هذا المحذوف، قوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} ونحوهن قوله {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الزمر: 22] تقديره: كمن قسا قبله.
يدل عليه أيضاً {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} [الزمر: 22] وإنما حسن حذفه(11/310)
كون الخبر مقابلاً للمبتدأ، وقد جاء مبيناً، كقوله {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] .
والمعنى: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أي: حافظها ورازقها وعالم بها ومجازيها بما علمت، وجوابه محذونف، تقديره: كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه.
قوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ} يجوز أن يكون استئنافاً، وهو الظاهر، جيء به للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم تقريره.
وقال الزمخشري: «يجوز أن تقدر ما يقع خبر للمبتدأ ويعطف عليه:» وجَعَلُوا «وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه» جعلوا لهُ «وهو الله تعالى أي: وهو الذي يستحق العبادة» .
قال أبو حيان: «وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله تعالى {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} أي: له، وفيه حذف الخبر غير المقابل، وأكثر ما جاء الخبر مقابلاً» .
وقيل: الواو للحال، والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجودة والحال أنهم جعلوا له شركاء، فأقيم الظاهر وهو «اللهُ» مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها، قاله صاحب العقد.
وقال ابن عطية: «ويظهر أن القول مرتبط بقوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} كان التقدير: أفمن له القدرة والوحدانية، ويجعل له شريك أهل ينتقم ويعاقب أم لا؟» .
وقيل: «وَجَعلُوا» عطف على «استُهْزِىءَ» بمعنى: وقد استهزؤوا وجعلوا.
وقال أبو البقاء: «هو معطوف على» كَسبَتْ «أي: ويجعلهم لله شركاء» ولما قر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال: «قُلْ سمُّوهُمْ» وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر، ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال: سمه إن شئت، يعني أنه [أخس] من أن يسمى ويذكر، ولكن إن شئت أن تضع له أسماً فافعل، وقيل: «سموهم» : أي: صفوهم، ثم انظروا: هل هي أهلٌ أن تعبد؟ على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سيمتموهم باسم الآلهة أو لم تسموهم فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها، ثم زاد في الحجاج.
قوله {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} «أمْ» هذه منقطعة مقدرة ب «بل» والهمزة والاستفهام للتوبيخ بل أتنبؤنه شركاء لا يعلمهم في الأرض ونحوه {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [يونس: 18] فجعل الفاعل ضميراً عائداً على الله، والعائد على «ما» محذوف تقديره: بما لا يعلمه الله، وقد تقدم في تلك الآية: أن الفاعل ضمير يعود على «ما» وهو جائز هنا أيضاً.(11/311)
قوله «أمْ بِظاهِرِ» أنها منقعطة. والظاهر هنا، قيل: الباطن؛ وأنشدوا: [الطويل]
3186 - اعَيَّرْتنَا ألْبانهَا ولحُومَهَا ... وذلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطة ظَاهِرُ
أي: باطن.
وفسره مجاهد: بكذب، وهو موافق لهذا.
وقيل: «أمْ» متصلة، أي: تنبئونه بظاهر لا حقيقة له.
والمعنى: أم يخبرون الله بأمر يعلمونه وهو لايعمله، فإنه لا يعلم لنفسه شريكاً وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك التبة؛ لا، هم ادعوا أن له شريكاً في الأرض لا في غيرها أم تموهو بظاهر من القول لا حقيقة له وهو كقوله {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30] .
ثم إنه تعالى بعد هذا الحجاج بيّن طريقتهم، فقال على وجه التحقير لما هم عليه {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} .
قال الواحدي: «معنى» بَلْ «ههنا كأنه يقول: دع ذلك زين له مكرهم لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم فكأنه يقول: دع ذلك الدليل فإنه لا فائدة فيه، لأن زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل» .
فصل
قالت المعتزلة: لا شبهة في أنه إنما ذكر ذلك لأجحل أن يذمَّهم به وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله تعالى، فلا بد إما أن يكون شياطين الإنس وما شياطين الجن.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: وهذا التأويل ضعيف من وجوه:
الأول: أنه إن كان المزين هو أحد شياطين الإنس أو الجن فالمزين لذلك الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن كان هو الله فقد زال السؤال.
والثاني: أن أفعال القلوب لا يقدر عليها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ.
والثالث: أنا دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله عَزَّ وَجَلَّ وعند حصوله يجب الفعل.
قوله {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} قرأ الكوفيون ويعقوب «وصُدَّوا» مبنياً للمفعول، وفي(11/312)
غافر {وَصُدَّ عَنِ السبيل} [غافر: 37] كذلك، وابقي السبعة مبنيّين للفاعل، و «صد: جاء لازماً ومتعدياً، فقراءة الكوفية من التعدي فقط، وقراءة الباقين: يحتمل أن تكون من المتعدي ومفعوله محذوف، أي: صدوا غيرهم أو أنفسهم، وأن يكون من اللازم، أي: أعرضوا وتولوا.
وقرأ ابن وثاب:» وصِدُّوا عَن السَّبيال «بكسر الصاد، وهو مبني للمفعول أجراه مجرى» قِيلَ «و» بِيعَ «فهو كقراءة: {رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65] . قوله: [الطويل]
3187 - ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلِ حُبَا حُلمَائِنَا..... ... ... ... ... ... ... ... .
وقد تقدم. فأما قراءة المبني للمعفول، فعند أهل السنة: أن الله صدهم. المعتزلة وجهان:
قيل: الشيطان وبعضهم لبعض، هو قول أبي مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ. ومن فتح الصاد: يعني الكفار أعرضوا إن كان لازماً، وصدوا غيرهم إن كان متعدياً. وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول، وحجة القراءة الثانية قوله جل ذكره {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ} [محمد: 11] ثم مقال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
وتمسك أهل السنة بهذه الآية من وجوه: أحدها: قوله {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} وقد تقدم بالدليل أن المزين هو الله تعالى. وثانيها: قوله {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} بضم الصاد، وبينا ِأيضاً أن ذلك الصاد هو الله تعالى.
وثالثها: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ، وهو صريح في المقصود، ثم قال تعالى: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا} بالقتل والأسر {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ} أي: أشد {وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} مانع يمنعهم من العذاب. وقال الواحي: أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء، مثل قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33] وكذلك {مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الرعد: 37] وهو الوجه؛ لأنه يقال في الوصل:» هادٍ ووالٍ وواقٍ «محذوف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين، فإذا وقفت انحذف التنوين في الوقف في الرفع والجر، والياء [كانت] انحذفت ف يالوصل فيصادف الوقف الحركة التي كسرت فتحذف كما يحذف سائر الحركات التي يوقف عليها، فيقال:» هَاد «و» وَال «و» وَاق «.
وابن كثير يقف بالياء، ووجهه ما حكى سيبوبه: أن بعض من يوثق به من العرب يقفون بالياء، وقد تقدم.(11/313)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} الآية لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين فقال «مثلُ الجَنَّة» .
قال سيبويه: «مثَلُ الجنَّة» مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: فيما قصصنا أو فما يتلى عليكم مثل الجنة وعلى هذا فقوله {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} تفسير لذلك المثل.
وقال أبو البقاء: «فعلى هذا» تَجْرِي «حال من العائد المحذوف في» وُعِدَ
أي: وعدها مقدراً جريان أنهارها «.
ثم نقل عن الفراء: أنه جعل الخبر قوله:» تَجْرِي «قال:» وهذا خطأ عند البصريين، قال: لأن المثل لا تجري من تحته الأنهار وإنما هو من صفات المضاف إليه، وشبهته: أن المثل هنا بمعنى الصفة فهو كقوله: صفة زيد أنه طيل ويجوز أن يكون «تَجْرِي» مستأنفاً.
وهذا الذي ذكره أبو البقاء نقل نحنوه الزمخشري، ونقل غيره عن الفراء في الآية تأويلين آخرين:
أحدهما: على حذف لظفه «أنها» والأصل: صفة الجنة أنها تجري وهذا منه تفسير معنى لا إعراب، وكيف تحذف «أنها» من غير دليل؟ .
والثاني: أن لفظة «مثلُ» زائدة، والأصل: الجنة تجري من تحتها الأنهار، وزيادة «مثِلُ» في لسانهم كثير، ومنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] وقد تقدم.
قال الزمخشري: «وقال غيره، أي غير سيبويه: الخبر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} كما تقول: صفة زيد أسمر» .
قال أبو حيان: «وهذا أيضاً لا يصح أن يكون: تجْري» خبراً عن الصفة ولا «(11/314)
أسمر» خبراً عن الصفة، وإنما يتاول «تَجْرِي» على إسقاط «أن» ورفع الفعل، والتقدير أن تجري، أي: جريانها «.
وقال الزجاج:» مثلُ الجنَّةِ «» جنة «على حذف المضاف تمثيلاً لما غاب بمان نشاهده.
ورد عليه أبو علي قال:» لا يصح ما قال الزجاج لا على معنى الصفة ولا على معنى الشبه؛ لأن الجنة التي قدرها جثَّة ولا تكون الصفة، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة بين المتماثلين وهوحدث والجنة جثة فلا تكون [المماثلة] «.
والجمهور على أن المثل هنا بمعنى الصفة، فلس هنا ضرب مثل، فهو كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] ، وأنكر أبو علي أن يكون بمعنى الصفة، وقال: معناه: الشبه.
وقرأ علي وابن مسعود» أمْثَالُ الجنَّةِ «، أي: صفاتها وقد تقدم خلاف القراء فيه في البقرة.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث:
أولها: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} .
وثانيها: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} أي: لا ينقطع ثمرها ونعيهما بخلاف جنات الدنيا.
و «أكلها دائم» كقوله: «تجري» في الاستئناف التفسيري، أو الخبري، أو الحالية، وقد تقدم.
وثالثها: ظلها ظليل لا يزول، أي: ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظله نظيره قوله تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} [الإنسان: 13] وهذا رد على الجهمية حيث قالوا: نعيم الجنة يفنى.
ولما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث، بين أن تلك عقبى المتقين، أي: عاقبتهم، يعنى الجنة، وعاقبة الكافرين النار.
قوله: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} يعنى القرآن وهم أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن {وَمِنَ الأحزاب} أي: الجماعات، يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اليهود والنصارى {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} هذا قول الحسن وقتادة.(11/315)
فإن قيل: الأحزاب ينكرون كلّ القرآن.
فالجواب: أن الأحزاب لا ينكرون كل القرآن؛ لأنه ورد في إثبات الله تعالى وإثبات قدرته وعلمه وحكمه وقصص الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهم لا ينكرون هذه الأشياء.
وقيل: المراد بالكتاب: التوراة والإنجيل، وعلى هذه ففي الآية قولان:
الأول: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: {الذين ءاتيناهم الكتاب} كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعو بنجران وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، فرحوا بالقرآن، لأنهم آمنوا به وصدقوه.
وسبب فرحهم به أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فنزلت الآية. والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين.
قال القاضي: وهذا القول أول من الأول؛ لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن، فإذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة.
ويمكن أن يقال: إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة، ولهذا السبب حكى الله فرحهم به.
والثاني: أن الذي أتيناهم الكتاب: اليهود أعطوا التوراة، والنصارى الإنجيل يفرحون بما أنزل في القرآن، لأنه مصدق لما معهم {وَمِنَ الأحزاب} سائر الكفار {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} وهو قول مجاهد.
قال القاضي: وهذا لا يصح لقوله {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي جميع ما أنزل الله إليك ويمكن أن يجاب فيقال:: إن قوله {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} لا يفيد العموم بدليل جواز إدخال لفظة الكل والبعض عليه، ولو كانت كلمة «ما» للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكراراً، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً.
ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة فقال {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولاا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وهذا كلام جامع لكل ماورد التكليف به، وفيه فوائد.
أولها: كلمة «إنَّمَا» للحصر، ومعناه: إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك.
وثانيها: أن العبادة غاية التعظيم، وذلك يدل على أن المرء كلف بذلك.(11/316)
وثالثها: أن عبادة الله لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل وهذا يدل على أن المرء مكلفٌ بالنظر والاستدلال، في معرفة الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه.
ورابعها: أن عبادة الله واجبة، وهي تبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المخض.
وخامسها: قوله {ولاا أُشْرِكَ بِهِ} وهذا يدل على نفي الأضداد والأنداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب الأصنام والأوثان والأرواح، وهو على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما تقوله الثنوية.
وسادسها: قوله (إليه أدعو) أي: كلما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات يجب عليه الدعوة إلى [عبودية] الله تعالى وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة.
قوله: {ولاا أُشْرِكَ} قرأ نافع في رواية عنه برفع «ولا أشْرِكُ» وهي تحتمل الطقع، أي: وأنا لا أشرك. وقيل: هي حال.
وفيه نظر؛ لأن المنفي ب «لا» كالمثبت في عدم مباشرة واو الحال.
قوله: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} الكاف في محل نصب، أي: وكما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض كذلك {أَنزَلْنَاهُ حُكْماً} و «حُكْماً» حال من مفعول «أنْزلْنَاهُ» .
وقيل: شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل على من تقدم من الأنبياء أي: كما أنزلنا الكمتب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بلسانهم كذلك أنزلنا إليك القرآن.
وقيل: كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد فأنكره الأحزاب كذلك أنزلنا الحكم والدين «عربياً» نسب إلى العرب، لأنه منزل بلغتهم فكذب به الأحزاب، ولما كان القرِآن مشتملاً على جميع أنواع التكاليف وكان سبباً للحكم جعل نفس الحكم مبالغة.
فصل
قالت المعتزلة: دلت الآية على حدوث القرآن من وجوه:
الأول: أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث.
والثاني: وصفه بكونه عربياً، والعربي هو الذي حصر بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاُ.
والثالث: أن الآية دلت على أنه إنما كان حكماً عربياً؛ لأن الله جعله كذلك والموصوف بهذه الصفة محدث.(11/317)
والجواب: أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث لانزاع فيه.
قوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائهم، فتوعدوه الله على موافقتهم على تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الخطاب مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد أمته.
وقيل: المراد منه حث الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها، وذلك يتضمن تحذير جميع المكلفين بطريق الأولى.(11/318)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} الآية اعمل أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشهبات في [إبطال] النبوة:
فالشهبة الأولى: قولهم: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7] وهذه الشبهة ذكرها الله في سورة أخرى.
والشبهة الثانية: قولهم: الرسول الذي يرسله الله تعالى إلى الخلق لا بد أن يكون من جنس الملائكة كما قال: {لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وقالوا: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [الحجر: 7] .
الشهبة الثالثة: عابوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكثرة الزوجات، وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله عَزَّ وَجَلَّ بقوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} وهذا أيضاً يصلح أن يكون جواباً عن الشبهات المتقدمة فقد كان لسليمان صلوات الله وسلامه عليه ثلاثمائة امرأة ممهرة وسبعمائة سرية، ولداود صلوات الله وسلامه عليه مائة امرأة.
والشبهة الرابعة: قولهم: لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف، فأجاب الله تعالى عنه بقوله {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} .
الشبهة الخامس: أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخوفهم ينزول العذاب [وظهور النصرة له ولقومه، فلما تأخر ذلك احتجوا بتأخره للطعن في نبوته وصدقه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} يعنى نزول العذاب على(11/318)
الكفار] وظهور النصر والفتح للأولياء فقضى الله بحصولها في أوقات معينة ولكل حادث وقت معين و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} فقيل: حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث، وتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كذاباً.
الشبهة السادسة: قالوا: لو كان صادقاً في دعوى الرسالة لما نسخ الأحكام التي نص الله على ثبوتها في الشرائع المتقدمة، كالتوارة والإنجيل، لكنه نسخها وحرفها كما في القبلة، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل، فوجب أن لا يكون نبياً حقاً.
فأجاب الله تعالى عنه بقوله {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} ويمكن أيضاً أن يكون قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} كالمقدمة لتقرير هذا الجةاب، وذلك لأِنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة، ثم يبقيه مدة مخصوصة، ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه، فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً، فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات؟ فكان المراد من قوله {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ما ذكرنا.
ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: أنه يوجد تارة ويعدم أخرى، ويحيي تارة ويميت أخرى، ويغني تارة ويفقر أخرى، فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما تقضيه المشيئة الإلهية عند أهل السنة، أو بحسب رعاية المصالح عند المعتزلة.
قوله {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي: لكل شيء وقت مقدر وقيل: لكل حادث وقت معين قضي الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة، ولا يتغير البتة عن ذلك الوقت.
وقيل: هذا من المقلوب أي: فيه تقديم وتأخير، أي: لكل كتاب أجل ينزل فيه، أي: لكل تاب وقت يعمل به، فوقت العمل بالتوراة قد انقضى، ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر.
وقيل: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} عند الملائكة، فللإنسان أحوال:
أولها نظفة ثم علقة ثم مضغة يصير شاباً ثم يصير شيخاً، وكذلك القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر السعادة والشقاوة والحسن والقبح.
وقيل: لكل وقت مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعملها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ فإذا جاء ذلك الوقت حدث الحادث، ولا يجوز حدوثه في غيره.
وهذه الآية صريحة من أن الكل بقضاء الله وقدره.
قوله: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: «ويُثْبِتُ» مخففاً من «(11/319)
أثْبَتَ» والباقون بالتشديد والتضعيف، والهمزة للتعدية ولا يصح أن يكون التضعيف للتكثير، إذ من شرطه أن متعدياً قبل ذلك، ومفعول «يُثْبِتُ» محذوف، أي: ويثبت ما يشاء والمحو: ذهاب أثر الكتابة، يقال: مَحَاهُ يَمْحُوهُ مَحْواً، إذا أذهب أثره.
قوله: «ويُثْبِتُ» قال النحويون: ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية الفعل الأول عن تعدية الفعل الثاني، وهو كقوله عَزَّ وَجَلَّ {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} [الأحزاب: 35] .
فصل
قال سعيد بن جبير وقتادة «يمحو الله مايشاء» من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله «ويُثْبِتُ» ما يشاء منها فلا ينسخه.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} الرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
وعن ابن عمر وابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنهما قالا: «يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء.
وروي عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أنه كان يطف بالبيت وهو بيكي يقول:» اللهم إن كنت كتبتي في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كانت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني منها بفضلك وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشائ وتثبت وعندك أم الكتاب «.
ومثله عن ابن مسعود وفي بعض الآثار: أن الرجل قد يكون بقي له من عمره ثلاثون سنة، فيقطع رحمه فيرد إلى ثلاثة أيام، والرجل قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة.
روي عن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم:
«ينْزِلُ اللهُ سبحانه وتعالى في آخر ثلاث سَاعاتِ يبقين من اللَّيل فنظر في الساعة الاولى منهنَّ في أم الكتاب الذي لا نظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت» .(11/320)
وقيل: الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحوا الله من دويان الحفظة ماليس فيه ثواب ولا عقاب، كقوله: أكلت. شربت. دخلت. خرجت، ونحوها من الكلام هو صادق فيه، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، قاله الضحاك والكلبي ورواه أبو بكر الأصم لأن الله تعالى قال في وصف الكتاب {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] .
وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 78] .
فأجاب القاضي عنه: بأنه لا يغادر من الذنوب صغير ولا كبيرة، ويمكمن أن يجاب عن هذا: بانكم خصصتم الكبيرة والصغيرة بالذنوب بمجرد اصطلاحكم، وأمام في أصل اللغة فالصغيرة والكبيرة تتناول كل فعل وعرضٍ، لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن ك ان غير ذلك فهو كبير، وعلى هذا يتناول المباحات.
وقال عطية عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله، فهو الذي يمحو اوالذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله فيموت في طاعته فهو الذي يثبت» .
وقال الحسن: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ} أي: من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله.
وعن سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يمحو الله ما يشاء: من ذنوب العباد ويغفرها وثبت ما يشاء فلا يغفرها.
وقال عكرمة: ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات، كما قال الله تعالى {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وقيل غير ذلك.
قوله {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لايبدل ولا يغير، والأم: أصل الشيء، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمَّا له، ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكد مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى.
قال ابن عباس في رواية عكرمة: هما كتابان: كتاب سمي أم الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وأم الكتاب لا يغيرمنه شيء، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق.(11/321)
وعن عطاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قال: إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوت، لله فيه كل ثوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحوا ما يشاء ويثبت {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب] فقال: «علم الله ما خلقه ما هو خالقه إلى كيوم القيامة» .(11/322)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
قوله: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} من العذاب قبل وفاتك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} ليس عليك إلا ذلك {وَعَلَيْنَا الحساب} والجزاء يوم القيامة.
قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} جواب للشرط قبله. قال أبو حيان: «والذي تقدم شرطان، لأن المعطوف على الشرط شرط، فأما كونه جواباً للشرط الأول فلس بظاهر؛ لأنه لا يترتب عليه، إذ يصير المعنى: وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب {وَعَلَيْنَا الحساب} وأما كونه جواباً للشرط الثاني وهو {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} فكذلك لأنه يصير التقدير: إنما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ولا يترتب جواب التبليغ عليه وعلى وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن التكليف ينقطع [عند الوفاة] فيحتاج إلى تأويل، وهو أن يقدر لكل شرط ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه، والتقدير: وإما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك أو نتوفينك قبل حلوله بهم، فلا لوم عليك ولا عتب» .(11/322)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} الآية.
لما وعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بأن يريد بعض ما وعده أو يتوفاه قبل ذلك، بين ههنا أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت، فقال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يعني أن أهل مكة الذي يسألون محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الآيات {أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أكثر المفسرين على أن المراد: فتشح ديار الشرك فإن ما زاد من دار الإسلام قد نقص من دار الشرك؛ لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من(11/322)
الكفرة قهراً وجبراً، فانتقاض أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أن الله تبارك وتعالى ينجز وعده فلا يعتبرون بهذا ونظيره قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون} [الأنبياء: 44] وقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] .
وقال قوم: هو خراب الأرض، أي: أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها، ونهلك أهلها، أفلا تخافون أن يفعل بكم ذلك؟ وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أيضاً: ننقصها من أطرافها، المراد موت كبرائها وأشرافها وعلمائها وذهاب الصلحاء. قال الواحدي: «وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول، ويمكن أن يقال: هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع؛ لأن قوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن الله يقلب الأمر على هؤلاء الكفرة ويصيرهم ذليلين بعد عزهم ومقهورين بعد قهرهم، فناسب هذا الكلام ماقبله» .
قوله: نَنْقُصهَا «حال إما من فاعل» نَأتِي «أو من مفعوله.
وقرأ الضحاك» نُنَقِّصها «بالتضعيف، عداه بالتضعيف.
قوله:» لا مُعَقِّبَ «جملة حالية، وهي لازمة. والمعقب: هو الذي يكرّ على الشيء فيبطله، قال لبيد: [الكامل]
3188 - ... ... ... ... ... ..... طَلبُ المُعقِّبِ حَقَّهُ المظْلُومُ
والمعنى: والله يحكم لا رادَّ لحكمه. والمعقب: هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب؛ لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} قال بان عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الانتقام.(11/323)
قوله: {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني من قبل مشركي مكمة والمكر: إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً} أي: عند الله جزاء مكرهم.
قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: يعني أن مكر جمعي الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته لأنه تعالى هو الخالق لجميع العباد والمكر لا يضح إلا بإذنه، ولا يؤثر إلا بتقديره وفيه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمانٌ لهن من مكرهم، فكأنه قيل: إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره في المأمور به من الله تعالى وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله.
ثم قال جل ذكره {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} ، أي: أن اكتساب العباد معلوم لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله تعالى.
قالت المعتزلة: الآية الأولى إن دلت على قلوكم، فقوله {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} دليل على قولنا، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة، ولو كان حدوث الفعل [بخلق] الله تعالى لم تكن لقدرة العبد فيه أثر، فوجب أن لا يكون للعبد فيه كسب.
والجواب: أن جميع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد.
ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال جل ذكره {وَسَيَعْلَمُ الكفار} قرأ ابن عامر والكوفيون «الكُفَّار» جمع تكسير والباقون: «الكَافِرُ» بالإفراد ذهاباً إلى الجنس.
وقرأ عبد الله «الكَافِرُونَ» جمع سلامة.
قال الزمخشري: «قرىء: الكَّفارُ والكَافرُون والذين كفرُوا، والكَافِرُ» .
قال المفسرون: والمراد بالكافر: الجنس، كقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] .
وقال عطاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: يريد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون «وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد أبا جهل، والأول هو الصواب.
قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} الآية لما حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله احتج عليهم بأمرين:(11/324)
الاول: شهادة الله تعالى على نبوته، والمراد من تلك الشهادة تعالى أظهر المعجزات على صدقه في ادعاء الرسالة، وهذا أعظم مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن، وإظهار المعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة.
والثاني: قوله {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} العامة على فتح ميم» مَنْ «وهي موصولة، وفي محلها أوجه:
أحدها: أنها مجرورة المحل نسقاً على لفظ الجلالة، أي: بالله وبمنْ عِندْهُ علمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوه.
والثاني: أنها في محل رفع عطفاً على محل الجلالة، إذ هي فاعلة، والباء مزيدة فيها.
والثالث: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أي: ومن عنده علم الكتاب أعدل وأمضى قولاً، و {عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجوز أن يكون الظرف صلة و» عِلْمُ «فاعل به، واختاره الزمخشري وتقدم تقريره.
وأن يكون مبتدأ، وما قبله الخبر، والجملة صلة ل «مَنْ» .
والمراد بمن عنده علم الكتاب: ابن سلام، أو جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قال ابن عطية: «ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ولا يجوز وإنما يعطف الصفات» .
فاعترض أبو حيان عليه: بأن «مَنْ» لا يوصف بها ولا يغيرها من الموصولات إلا ما استثني، وبأن عطف الصفات بعضها على بعض لا يجوز إلا بشرط الاختلاف.
قال شهاب الدين: نما عنى ابن عطية الوصف المعنوي لا الصناعي، أما شرط الاختلاف فمعلوم.
وقرأ أبيّ وعلي وابن عباس وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد رضوان الله عليهم في خلق كثير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} جعلوا «من» حرف جر، و «عنده» مجرور بها، وهذا الجار خبر مقدم، و «عِلْمُ» مبتدأ مؤخر، و «منْط لابتداء الغاية أي: ومن عند الله حصل علم الكتاب.
وقرأ علي أيضاً والحسن وابن السميفع {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يحعلون» من «جارة، و» عُلِمَ «مبنياً للمعفول و» الكِتابُ «رفع بهن. وقرىء كذلك؛ إلا أنه بتشديد» عُلِّمِ «والضمير في» عِنْده «على هذه القراءات لله تعالى فقط.(11/325)
وقرىء أيضاً:» وبِمَن «بأعادة الباء الداخلة على» مَنْ «عطفاتً على [» باللهِ «] .
فصل
على هذه القراءة الأولى المراد: شهادة مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري. وقال أبو البشر: قلت لسعيد بن جبير: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أهو عبد الله بن سلام؟ ، فقال: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية، وهو ممن آمنوا بالمدينة بعد الهجرة؟ .
وأجيب: بأن هذه السورة وإن كانت مكية إلا إن هذه الآية مدنية.
ويعترض هذا أيضاً: بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين لا يجوز.
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والزجاج {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} هو الله سبحانه وتعالى.
وقال الأصم: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي: ومن عنده علم القرآن.
والمعنى: أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما فيه من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب من هذا الوجه دل على كونه معجزاً.
وقيل: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي: الذي حصل عنده علم التوارة والإنجيل يعني كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلوات الله وسلامه عليه فإذا انصف ذلك العالم ولم يكذبه كان ذلك شاهداً على أن محمداً رسول حق من عند الله صلوات الله وسلامه عليه.
وأما معنى القراءة الثانية: أي: أن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضل وإحسانه وتعليمه، والمراد العلم الذي هو ضل الجهل.
وأما القراءة على مالم يسم فاعله، فالمعنى: أنه تعالى لما أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحتج عليهم بشهادة الله على نبوته، وكان لا معنى لشهادة الله على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه، ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بمعاني القرآن وأسراره،(11/326)
بين الله تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله، والمعنى: أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا لمن شرفه الله من عباده بأن يعلمه علم القرآن.
روى ابن عباس عن أبي بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأ سُورةَ الرَّعدِ أعْطيَ مِنَ الأجْرِ عَشْر حَسنَاتٍ بِوزْنِ كُلِّ سَحابٍ مَضَى وكُلِّ سَحابِ يكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وكَانَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُوفِينَ بِعهْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ سُبحَانهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ الحقُّ المُبِينُ» .(11/327)
سورة إبراهيم
مكية في قول الحسن، وعكرمة، وجابر. وقال ابن عباس، وقتادة - رضي الله عنهم - وهي مكية إلا اثنتين، وقيل: ثلاث من قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا} [الآية: 28] إلى قوله تعالى: {فإن مصيركم إلى النار} فإنها مدنية. وهي اثنتان وخمسون آية، وعدد كلماتها ثمان مائة وإحدى وثلاثون كلمة وعدد حروفها ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا.(11/328)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
قال ابن الخطيب: ومتى لم يكن في السورة ما لا يتصل بالأحكام فمكة والمدينة فيه سواء، وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل في السورة ناسخ ومنسوخ؛ فيكون فيه فائدة عظيمة والله أعلم. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} يجوز أن يرتفع «كِتابٌ» على أنَّه خبر ل «الر» : إن قلنا: إنَّها مبتدأ، والجملة بعد صفة، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هذا، وأن يرتفع بالابتداء خبره الجملة بعده، وجاز الابتجاء بالنكرة؛ لأنَّها موصوفة تقديراً، تقديره: كتماب، أي: كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية.
قالت المعتزلة: النَّازلُ، والمنزلُ لا يكون قديماً.
والجواب: أنَّ الموصوف بالمنزل هو هذه الحروف وهي محدثةٌ.(11/328)
قوله: {لِتُخْرِجَ الناس} متعلق ب «أنْزَلناهُ» . وقرىء (ليَخْرُجَ الناس) بفتح الياءِ وضمِّ الراء، من خَرَجَ يَخْرُجُ. «النَّاسُ» رفعاً على الفاعليَّة.
قالت المعتزلة: اللاَّم في «لِتُخْرِجَ» لام الغرض والحكمة، تدلُّ على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض، فدل على أنَّ أقوال الله تعالى وأفعاله معللة برعاية المصالح.
وأجيب: بأن من فعل فعلاً لأجل شيءٍ أخر، فهذا إنَّما يفعله إذا كان عاجزاً عن تحصيل ذلك المقصود إلاَّ بهذه الواسطة، وذلك محالٌ في حقِّ الله تعالى، وإذا ثبت بالدَّليل منع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل؛ ثبت أنَّ كل ظاهر أشعر به فهو مؤول على معنى آخر.
فصل
قوله تعالى: {مِنَ الظلمات} أي: لتدعوهم من ظلمات [الظَّلال] إلى نُورِ الإيمان.
قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: هذه الآية تبطل القول بالجبر من جهات:
أحدها: أنَّه تعالى لو خلق الكفر في الكافر، فكيف يصحُّ إخراجه منه الكتاب.
وثانيها: أنَّه تعالى أضاف الإخراج من الظُّلمات إلى النور إلى الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإن كان خالق الكفر هو الله تعالى فكيف يصحُّ من الرسول صلوات الله وسلامه عليه إخراجهم منه، وكان للكافر أن يقول: إنَّك تقول: إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصحُّ منك أن تخرجنا؟ .
فإن قال لهم: أنا أخرجكم من الظُّلماتِ التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا: إنه كان الله سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج، وإن لم يخلقه الله فنحن خارجون منه بلا إخراج.
وثالثها: أنه صلواتُ الله وسلامه عليه إنَّما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليه ليتدبروهن؛ ولينظروا فيه فيعلموا بالنَّظر، والاستدلال كونه تعالى علماً قادراً حكيماً، ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه فحينئذ يقبلوا منه كلَّ ما جاءهم من الشَّرائع، وذلك إنَّما يكون إذا كان الفعل ويقع باختيارهم، ويصحُّ منهم أن يقدموا عليه ويتصرَّفوا فيه.
والجواب عن الكل: أن يقال: الفعل الصادر من العبد.
إمَّا أن يصدر عنه حال استواء الدَّاعي إلى الفعل والترك.(11/329)
أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر.
والأول باطل؛ لأنَّ صدور الفعل يقتضي رجحان جانب الوجودِ على جانب العدم وحصول الرُّجحان حال حصول الاستواء محال، والثاني عين قولنا؛ لأنَّه يمتنع صدور الفعل عنه ألاَّ بعد حصول الرجحان، فإن كان ذلك الرجان منه عاد السؤال، وإن لم يكون منه بل من الله، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وهو المطلوب.
قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} يجوز أن يتعلق بالإخراج، أي: بتيسيره وتسهيله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من فال: «يُخْرِجُ» أي: مأذوناً لك.
وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوق لله تعالى، فإنَّ قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} معناه: أنَّ الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظلمات إلى النُّور إلا بإذن الله تعالى.
والمراد بهذا الإذن: إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق، وحمل الإذن على الأمر محالٌ، لأنَّ الإخراج من الجهلِ إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنَّهُ سواء حصل الأمر أم لم يحصل، فإنَّ الجهل متميزٌ على العلم، والباطل متيمزٌ عن الحقّ.
وأيضاً: حمل الإذن على العلم محال؛ لأنَّ العلم يتبع المعولم على ماهو عليه فالعلمُ بالخروج من الظُّلمات إلى النُّور تابع لذلك الخروج، ولا يمتنع أن يقال: إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج، ولما بطل هذان القسمان لم ببق إلا أن المراد من الإذن: المشيئة، والتخليق، وذلك يدلُّ على أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظللمات إلى النُّور إلاَّ بمشيئة الله تعالى.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف؟ .
فالجواب: لفظ الإذن مجمل، ونحن نفصل القول فيه.
فنقول: المراد بالإذن إمَّا أن يكون أمراً يقتضي رجحان جانب الوجود على جانب العدم، أو لا يقتضي ذلك، فإنَّ كان الثاني لم يكن له فيه أثر ألبتة، وامتنع أن يقال: إنه إنَّما حصل بسببه، ولأجله فبقي الأول، وهو أنَّ المراد من الإذن معنى يقتضي رجحان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم، ومتى حص الرجحان فيه حصل الوجود ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو قولنا.
فصل
دلّت الآية على أنَّ طرق الكفر، والضلالات كثيرة، وأنَّ طريق الحقّ ليس إلاَّ واحداً؛ لأنَّ الله تعالى عبر عن الجهلِ، والكفر بالظلمات، وهي صيغة جمع، وعبَّر عن الإيمان والهداية بالنُّور وهو لفظ مفردٌ.
قوله: {إلى صِرَاطِ} فيه وجهان:(11/330)
أحدهما: أنه بدلٌ من قوله «إلى النُّورِ» بإعادة العامل، ولا يضر الفصل بالجارّ؛ لأنه من معمولات العامل في المبدل منه.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنَّه جواب سؤال مقدَّر، كأنه قيل: إلى أيِّ نورٍ؟ فقيل: «إلى صِرَاطِ» ، والمراد بالصِّراط: الدّين والعزيز هو الغالب و «الحَمِيدِ» المستحق للحمد.
وقد قكر العزيز على ذلك الحميدِ؛ لأنَّ أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه عالماً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه غنيًّا عن جميع الحاجات والعزيز هو القادر، والحميدُ هو العالم الغنيّ؛ فلذلك قدّم ذكر «العَزيز» على ذكر «الحَميد» .
قوله: {الله الذي} قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي، وكان يعقوب إذا وصل خفض.
وأما الرفع فعلى وجهين:
أحدهما: أنه مبتدأ خبره الموصول بعده، أو محذوف، تقديره: الله الذي له ما في السموات، وما في الأرض العزيز الحميد، حذف لدلالة ما تقدَّم.
والثاني: أنَّه خبر لمبتدأ مضمر، أي: هو الله، وذلك على المدح، وأمَّا الجرّ فعلى البدلِ عند أبي البقاءِ، والحوفي، وابن عطيَّة والبيان عند الزمخشري قال: «لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ، كالنَّجم للثُّريَّا» .
قال أبو حيان: «وهذا التعليل لا يتمُّ إلاَّ أن يكون أصله» الإله «ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب» .
وقال ابن عصفور: «لا تقدّم صفة على موصوف إلاَّ حيث سمع» وهو قليل، وللعرب فيه وجهان:
أحدهما: أن تتقدم الصفة بحالها، وفيه إعرابان للنحويين:
أحدهما: أن يعرب صفة متقدمة.
والثاني: أن يجعل الموصوف بدلاً من صفته.
والثاني: من الأولين أن تضيف الصفة إلى الموصوف، فعلى هذا يجوز أن يعرب «العَزيزِ الحَميدِ» صفة متقدمة. ومن مجيء تقديم الصفة قوله: [البسيط]
3189 - والمُؤمِنِ العَائذَاتِ الطَّيْر يَمْسحُهَا ... رُكْبَانُ مكَّة بَيْنَ الفيْلِ والسَّعَدِ(11/331)
وقول الآخر: [الرجز]
3190 - وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَار ... يريد: الطير العائذات، وبالعمر الطويل.
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة، أمَّا إذا كان نكرة فتنصب تكل الصفة على الحال» .
قال ابن الخطيب: «اللهُ» اسم علم لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولاً قولنا: «اللهُ» ، ثم وصفناه كقوله: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم} [الحشر: 22] الملكل القدُّوسُ، ولا يمكمننا أن نعكس الأمر فنقول: هو الرحمن الرحيم الله، فعلمنا أنَّ «اللهَ» اسم علم للذَّات المخصوصة، وسائر الألفاظ دالة على الصِّفات.
وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن: أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات، كقوله: {هُوَ الله الخالق البارىء المصور} [الحشر: 24] فأمَّا أن تعكس فتقول: هو الخالق المصور البارىء الله؛ فذلك غير جائز، وإذا ثبت هذا فنقول: الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنَّه مبتدأ، وما بعده خبر هو الصحيح، والذين قرءوا بالجرِّ إتباعاً لقوله: {العزيز الحميد} مشكل لما بيِّنا من أنَّ الترتيب الحسن أن يقال: الله الخالق، وعند هذا اختلفوا في الجواب:
فقال أبو عمرو بن العلاء: القراءةُ بالخفض على التَّقديم، والتَّأخير، والتقدير: صراط الله العزيز الحميدِ الذي له ما في السموات [والأرض] .
وقيل: لا يبعد أن تذكر الصفة أولاً ثمَّ يذكر الاسم، ثم تذكر الصِّفة مرة أخرى كما يقال: الإمام الأجلّ محمد الفقيه، وهنو بعينه نظير قوله: {صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} .
وتحقيق القول فيه: أنَّا بيَّنا أن الصِّراط إنَّما يكون ممدوحاً محموداً إذا كانا صراطاً للعالم القادر الغنيّ، والله تعالى عبَّر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله: {العزيز الحميد} فوقعت الشبهة في أن ذلك: {العزيز الحميد} من هو؟ فعطف عليها قوله {الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إزالة لتلك الشُّبهة.
قوله: «وَويْلٌ» مبتدأ، وجاز الابتداء به؛ لأنه دعاء ك «سَلامٌ عَليكُمْ» ، و «لِلْكافِرينَ» خبره، و «مِنْ عذَابٍ» متعلِّق بالويلِ.
ومنعه أبو حيَّان؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصل بين المصدر ومعموله، وهو ممنوعٌ حيث(11/332)
يتقدَّم المصدر بحرف مصدري وفعل، وقد تقدم.
ولذلك جوزوا تعلق «بِمَا صَبرْتُمْ» ب {سَلاَمٌ} [الرعد: 24] ، ولم يعترضوا عليه بشيءٍ، ولا فرق بين الموضعين.
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ما وجه اتِّصالِ قوله: {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} بالويل؟ قلت: لأنَّ المعنى يولولون من عذاب شديد» .
قال أبو حيان: فظاهر يدلُّ على تقدير عامل يتعلق به {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} .
ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للمبتدأ، وفيه سلامة من الاعتراض المتقدم ولا يضر الفصل بالخبر.
فصل
والمعنى: أنَّهم لما تركوا عبادة الله المالك للسموات، والأرض، وكل ما فيها وعبدوا ما لا يملك نفعاً، ولا ضرَّا، ويُخلَقُ، ولا يَخْلِقُ، ولا إدراك له، فالويل كل الويل لمن هو كذلك، وإنما خصه بالويل، لأنهم يولولون من عذابٍ شديدٍ، ويقولون: يا ويلاه نظيره قوله تعالى: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] ثم وصفهم الله تعالى بثلاثة أنواع:
الأول: قوله: {الذين يَسْتَحِبُّونَ} يجوز أن يكون مبتدأ، خبره: «أوْلئِكَ» وما بعده.
وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هم الَّذينَ.
وأن يكون منصوباً بإضمار فعل على [المدح] فيهما.
وأن يكون مجروراً على البدل، أو البيان، أو النعت، قاله الزمخشريُّ، وأبو البقاء والحوفي وغيرهم.
ورده أبو حيان: بأن فيه الفصل بأجنبيّ، وهو قوله جل ذكره {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال: «ونظيره إذا كان صفة أن تقول: الدَّارُ لِزيدِ الحَسنةُ القُرشِي وهذا لا يجوز، لأنك فصلت بين» زَيْدٍ «وصفته بأجنبي منهما، وهو صفة الدَّار وهو لا يجوز، والتركيب الصحيح أن تقول: الدَّارُ الحسنةُ لزيدٍ القُرشيِّ، أو الدَّارُ لزَيدٍ القُرشي الحَسنَةُ» .
و «يَسْتحِبُّونَ» استفعل فيه بمعنى أفْعَلَ، كاسْتَجابَ بمعنى أجَابَ، أو يكون علتى بابه، وضمن معنى الإيثار، ولذلك تعدّى ب «عَلَى» .
وقرأ الحسن: «يُصدُّونَ» بضم الياء من «أصَدَّ» ، و «أصَدَّ» منقولٌ من «صَدَّ»(11/333)
اللازم، والمفعول محذوف، أي: غيرهم أو أنفسهم، ومنه قوله: [الطويل]
3191 - أنَاسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بالسَّيْفِ عَنهُمْ..... ... ... ... ... ... ... ... . .
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} تقدم مثله [آل عمران: 99] .
قوله تعالى: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة} فيه إضمار تقديره: يستحبّون الحياة الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة؛ فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدُّنيا وحده لا يكون مذموماً إلاَّ أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، [وأما] من أحبَّها ليصل بها إلى منافع النَّفس بثوابِ الآخرة؛ فذلك لا يكونُ مذموماً.
والنوع الثاني من أوصاف الكفار: قوله عزَّ وجلَّ {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي: يمنعوا النَّاس من قبول دين الله.
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} . واعلم انَّ الإضلال على مرتبتين.
الأولى: أن يسعى في صدّ الغير.
والثانية: أن يسعى في إلقاء الشُّكوكِ، والشبهات في المذهب الحق، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيلِ، وهذا هو النهاية في الضلال، والإضلال، وإليه أشار بقوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} .
قال الزمخشريُّ: «الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجاً؛ فحذف الجار وأوصل الفعل» .
وقيل: الهاء راجعة إلى الدُّنيا معناه: يطلبون الدُّنيا على طريق الميل عن الحق، أي: بجهة الحرام.
ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب قال في وصفهم: {أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} وإنَّما وصف الله تعالى هذا الضلال بالبعد لوجوهٍ:
الأول: أنَّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ، فإنَّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التَّباعدِ كالسَّواد، والبياض.
الثاني: أن المراد بعد ردّهم عن الضَّلال إلى الهدى.
الثالث: أن امراد بالضَّشلال: الهلاك، والتقدير: أولئك في هلاك يطُولُ عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد: امتداده وزوال انقطاعه.(11/334)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} الآية لما ذكر في أوّل السورة: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] فكان هذا إنعاماً من الله على الرسول من حيث إنَّه فوض إليه صلوات الله وسلامه عليه هذا الأمر العظيم وإنعاماً على الخلقِ حيثُ أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر [إلى الرشد] ، وأرشدهم إلى نور الإيمان. ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تعهد النعمة، والإحسان في الوجيهن؛ أمَّا بالنسبة إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ فلأنه تعالى بين أنَّ سائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام أجمعين كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأنت يا محمد فمبعوث إلى عالم البشر، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه تعالى ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسانهم ليسهل عليهم فهم تلك الشريعة فهذا وجه النظم.
قوله: {إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} يجوم أن يكون حالاً، أي: إلاَّ [متكلماً] بلغة قومه.
قال القرطبي: «وحَّد اللسان، وإن أضافه إلى القوم؛ لأن المراد به اللغة فهو اسم حنسٍ يقع على القليلِ، والكثير» .
وقرأ العامة: «بلِسانِ» بزنة كتابِ، أي: بلغةِ قومهِ. وقرأ أبو الجوزاء وأبو السمالِ وابو عمران الجوني: بكسر اللام وسكون السين، وفيه قولان:
أحدهما: أنَّهما بمعنى واحد، كالرِّيشِ والرِّياش.
والثاني: أنَّ اللسان يطلق على العضو المعروف وعلى اللغةِ، وأمَّا اللِّسنُ فخاص باللغة، ذكره ابن عطيَّة، وصاحب اللَّوامح.
وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدريُّ: بضم اللام والسين، وهو جمع(11/335)
لِسَان كَكِتَاب وكُتُب، وقرىء بسكون السين فقط، وهو تخفيفٌ للقراءة قبله، نحو «رُسْل في رُسُل» ، و «كُتْب» في «كُتُب» ، والهاء في «قَوْمِهِ» الظاهر عودها على «رَسُولٍ» المذكور وعن الضحاك أنَّها تعود على محمد صلوات الله وسلامه عليه وغلطوه في ذلك إذ يصير المعنى: إنَّ التوراة وغيرها أنزلت بلسان العرب ليبين لهنم النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ التوراة.
فصل
احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ اللُّغات اصطلاحية، فقال: لأنَّ التوقيف لجميع الرسل لا يكون إلاَّ بلغة قوم، وذلك يقتضي تقدُّم حصول اللغات على إرسال الرسل، وإذا كان كذكل؛ امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف؛ فوجب حصولها بالاصطلاح.
ومعنى الآية: وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ بلغة قومه.
فإن قيل: هذه الآية تدلُّ على أنَّ النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إنَّما بُعِثَ للعرب خاصة، فكيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«وبُعِثْتُ إلى النَّاس عَامَّة» .
فالجواب: بُعِثَ إلى العرب بلسانهم والناس تبعٌ لهم، ثم بعث الرُّسلُ إلى الأطلاف يدعوهم إلى الله تعالى ويترجمون لهم بألسنتهم.
وقيل: المراد من قومه أهل بلدته، وليس المراد من قومه أهنل دعوته بدليل عموم الدعوة في قوله: {قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 158] وإلى الجنّ أيضاً؛ لأن التَّحدي ثابت لهم في قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن} [الإسراء: 88] .
قال القرطبي: «ولا حجة للعجم، وعغيرهم في هذه الآية؛ لأنَّ كل من ترجم له ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه ترجمةً يفهمها لزمته الحجة وقد قال الله عَزَّ وَجَلَّ {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28] ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أرْسلَ كُلُّ نبي إلى أمَّتهِ بِلسَانهَا وأرْسَشلنِي اللهُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأسْودَ مِنْ خَلْقِهِ «.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لا يَسْمعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذهِ الأمَّة يَهُوديّ، ولا نَصْرانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤمِنْ بالَّذي أرسِلْتُ بِهِ إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ «وخرجه مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ.
فصل
زعمت طائفة من اليهود يقال لهم: [العيسوية] أنَّ محمداً رسول الله ولكن إلى(11/336)
العرب خاصة، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين:
الأول: أنَّ القرآن لما نزل بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب، فلا يكون القرآن حجة إلاَّ على العربِ، ومن لم يكن عربياً لم يكن القرآن حجة عليه؛ لأنه ليس بمعجزة في حقه لعدم علمه بفصاحته.
الثاني: قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ، ولسانه لسان العرب فدلَّ على أنَّه ليس له قوم سوى العرب.
والجواب ما تقدَّم في السُّؤال قبله.
قوله:» فَيُضِلُّ «استنئاق إخبار، ولا يجوز أن نصبه عطفاً على ما قبله؛ لأنَّ المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى، والرسل أرسلت للبيان لا [للإضلال] .
قال الزجاج:» لو قرىء بنصبه على أنَّ اللاَّم لام العاقبة جاز «.
قوله: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الحكيم} تمسّك أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهداية، والضلال من الله سبحانه وتعالى جل ذكره.
قالوا: وممَّا يؤكد هذا المعنى أن أبا بكرٍ، وعمر رضوان الله عنهما وعن الصَّحابة أجمعين أقبلا في جماعة من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما هذا؟ فقال بعضهم يا رسول الله: يقول أبو بكرٍ: الحسنات من الله، والسيئات من أنفسنا ويقول عمر: كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر، وتبع بعضهم عمر، فتعرف الرسول ما قاله أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأعرض عنه حتى عرف في وجهه، ثم أقبل على عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فتعرف ما قاله، وعرف السرور في وجهه، فقال صلوات الله وسلامه عليه:» أقضي بينكما كما قضي إسرافيل بين جبريل وميكائيل صلوات الله وسلامه عليه عليهما فقال جبريلُ مثل مقالتك يا عمر، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكرٍ، فقضاء إسرافيل صلوات الله عليه أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما؟ .
قالت المعتزلة: لا يمكن أجراءُ هذه الآية على ظاهرها لوجوه:
الأول: أنه تبارك وتعالى قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي: ليبين لهم التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك التبيان أسهل ووقوفهم على الغرض أكمل وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ إذا كان مقصود الله تعالى من إرسال الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه حصول الإيمان للمكلفين، فلو كان مقصوده الإضلال، وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود.
والثاني: أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا قال لهم: إنَّ الله يخلقُ الكفر والإضلال فيكم، فهلم أن يقولوا: فما لنبوتك فائدة، وما المقصود من إرسالك؟ وهل يمكننا أن(11/337)
نزيل كفراً خلقه الله فينا؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة، وتفسد بعثة الرسل.
الثالث: إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى وميشئته، فيجب أن يكون الرضا به واجباً؛ لأن الرِّضا بقضاء الله واجب، وذلك لا يقوله عاقل.
الرابع: أنَّ مقدمة الآية، وهي قوله جل ذكره {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] يدلُّ على العدل، وأيضاً مؤخر الآية يدلُّ عليه وهو قوله جلَّ ذكره {وَهُوَ العزيز الحكيم} فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّه لا يمكن جعل قوله: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} دليل على خلق الكفر في العبد، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه:
الأول: المراد من الإضلال هو الحكم بكونه ضالاًّ كما يقال: فلانٌ يُكفِّرُ فُلاناً ويضله أي: يحكمُ بكونه كافر ضالاً.
والثاني: أنَّ الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنَّة إلى النَّار.
والثالث: أنَّه يقال: إنه تعالى لما ترك الضّال على ضلاله، ولم يتعرض له فكأنه أضله والمهتدي أنَّه بالألطاف صار كأنه هداه.
قال الزمخشري: «والمراد بالإضلال التخلية، ومنع الإلطاف وبالهداية: اللّطف، والتَّوفيق» .
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «والجواب قوله عزَّ وجلَّ {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} لا يليق به أن يضلهم.
قلنا قال الفراء: إذا ذكر فعل، وبعده آخر، فإن كان الفعل الثَّاني مشاكلاً للأول نسقه عليه، وإن لم يكن مشاكله، استأنفه ورفعه، نظيره:
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله} [التوبة: 32] وفي موضع رفع لا يجوز إلا ذلك؛ لأنَّه لا يحسن أن يقال: يريدون أن يأبى الله، فلما لم يكن وضع الثاني في موضع الأول بطل العطف.
ونظيره أيضاً قوله: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام} [الحج: 5] ومن ذلك قولهم: «أردت أن أزُوركَ فمَنعَنِي المطرُ» بالرفع غير منسوق على ما قبله كما ذكرناه؛ ومثله قول الشاعر: [الرجز]
3192 - يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فيُعْجِمُهْ ...(11/338)
وإذا عرفت هذا فنقول: ههنا قال الله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ثمَّ قال: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} ذكر: «فَيُضِلُّ» بالرفع فدلَّ على أنَّه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله، وتقديره من حيث المعنى كأنَّه قال عزَّ وجلَّ: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه، ثم قال: ومع أنَّ الأمر كذلك فإنَّه تعالى يضلّ من يشء، ويهدي من يشاء، والغرضُ منه: التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية، وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الهداية، والضلال لا يحصلان إلاَّ من الله تعالى.
وأما قولهم: لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان للكافر أن يقول: ما الفائدة في نبوتك ودعوتك؟ فالخَصْم يُسلِّم أن هذه الآيات إخبار عن كونه ضالاًّ فيقول له الكافر: لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً؟ وإذا لم أقدر عليه، فكيف يأمرني بهذا الإيمان؟ فالسؤال وارد عليه.
وأما قولهم ثالثاً: يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً؛ لأنَّ الرِّضا بقضاء الله واجب قلنا: ويلزمُ أيضاً على مذهبك أن يكون السعي في تكذيب الله وفي تجهيله واجباً؛ لأنَّه تعالى لما أخبر عن كفره، وعلم كفره، فإزالته الكفر عن قلب علمه جهلاً، وخبره الصدق كذباً، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ؛ فيلزمك على مذهبك، وهذا أشد استحالة ممَّا ألزمته علينا.
وأمَّا قولهم رابعاً: إن مقدمة الآية، وهو قوله تعالى: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] يدلُّ على صحَّة الاعتزال.
فنقول: قد ذكرنا أن قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1] يدلُّ على صحَّة مذهب أهل السنة.
وأما قولهم خامساً: إنَّه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً، وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له، فنقول: وصف نفسه بكونه عزيزاً، والعزيزُ: هو الغالب القاهر، فلو أراد بالإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل، وأراد عدم الكفرمنهم، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالبا؛ فثبت أن الوجوه التي ذكروها صعيفة، وقد تقدَّم البحث في هذه المسألة في البقرة عند قوله جل ذكره:
{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26] .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى(11/339)
النور} الآية لما بين أنَّه إنَّما أرسل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، وذكر كمال نعمة الله عليه وعلى قومه بذلك الإرسال أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلى أقوامهم ليكون ذلك تصبيرأ للرسول صلوات الله وسلامه عليه على أذى قومه فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ} قال الأصم: آيات موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وانفجار العيون من الحجر، وإظلال الجبل، وإنزوال المن والسلوى.
وقال الجبائي آياته: دلائله وكتبه المنزلة عليه، فقال في صفة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] وقال في حق موسى صلوات الله وسلامه عليه {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 5] والمقصود من بعثة سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام واحد وهو أن يسعو في أخراج الخلق من الضَّلالات إلى نور الهدايات.
قوله: «أنْ أخْرِجْ» يجوز أن تكون «أنْ» مصدرية، أي: بأن أخرج والباء في «بِآيَاتِنا» للحال، وهذه للتعدية، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى أي، ويكون المعنى: أي: أخرج قومك من الظلمات، أي: قلنا له: أخرج قومك كقوله {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} [ص: 6] . وقيل: بل هي زائدة، وهو غلط.
قوله: «وذَكِّرْهُمْ» يجحوز أن يكون منسوقاً على «أخْرِجْ» فيكون من التفسير، ويجوز أن لا يكون منسوقاً؛ فيكون مستأنفاً.
و «أيَّام: عبارة عن نعمة تعالى؛ كقوله: [الوافر]
3193 - وأيَّامٍ لنَا غُرٍّ طِوَالٍ ... عَصيْنَا المَلْكَ فِيهَا أنْ نَدِينَا
أو نقمه؛ كقوله: [الطويل]
3194 - وأيَّامُنَا مَشْهُورَة في عَدُوِّنَا..... ... ... ... ... ... ... ... ...
ووجهه: أن العرب تتجوز فتسند الحدث إلى الزمان، مجازاً أو تضيفه إليها كقولهم: نَهارٌ صَائمٌ، ولَيلٌ قَائمٌ، و {مَكْرُ الليل} [سبأ: 33] .
قال الواحديُّ:» أيَّام جمع يوم، واليوم هو مقدار المدَّة من طلوع الشَّمس إلى غروبها، وكان في الأصل: أيوامٌ، فاجتمعت الياء، والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكونِ فقلبت الراء ياء، وأدغمت إحداهما في الأخرى فقلبت ياء «.(11/340)
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ، وأبيُّ بن كعب، ومجاهدٌ وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وذكرهم بنعم الله. وقال مقاتلٌ: بوقائع الله في الأمم السَّالفة. يقال: فلان عالم بأيَّام العرب، أي: بوقائعهم، فأراد بما كان في أيَّام الله من النَّعمة، والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه؛ لأنَّها كانت معلومة عندهم، والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، فالتّرغيب، والوعد: أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالله ممن سلف من الأمم والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه النازل بمن كذب بالرسل فيما سلف من الأيَّام، كعادٍ، وثمود وغيرهم.
واعلم أن أيَّام الله في حقِّ موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منها ما كانت أيام محنة وبلاء، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل تحت قهر فرعون. ومنها: ما كانت راحة ونعماً كأيَّام إنزال المن، والسلوى، وفلق البحر، وتظليل الغمام.
{إِنَّ فِي ذلك} التّذكر «لآياتِ» دلائل {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} كثير الصّبر {شَكُورٍ} كثير الشُّكر.
فإن قيل: ذلك التذكر آيات للكلّ، فلم خصّ الصَّبَّار الشَّكور بالذِّكر؟ .
فالجواب: أنهم هم المنتفعون بالذكر بتلك الآيات كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] .
وقيل: لأن الانتفاع بهذا النَّوع من الذكر لا يمكن حصوله إلا للصَّبَّار الشَّكور.
ولما أمر موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يذكرهم بأيَّام الله، وحكى عن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أنَّه ذكَّرهم فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} .
فقوله: {أَنجَاكُمْ} ظرف للنعمة، بمعنى الإنعام، أي: اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت.(11/341)
قوله: {إِذْ أَنجَاكُمْ} يحجوز في ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون منصوباً ب «نِعْمَةَ» .
الثاني: أن يكون منصوباً ب «عَلْكُمْ» ، ويوضح ذلك ما ذكره الزمخشري رحمه فإنه قال: «إذْ أنْجَاكُمْ» ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: إنعامه عليكم ذلك الوقت.
فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب ب «عَليْكُمْ» .
قلت: «لا يخلُو إما أن يكون [إنعام] صلة للنعمة بمعنى الإنعام [أو غير] صلة، إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ويتبين الفرق بين الوجيهن، أنَّك إذا قلت: نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها وإلا كان كلاماً» .
الثالث: أنه بدل من عمة أي: اذكروا وقت إنجازكم، وهو بدل اشتمال، وتقدم الكلام في «يسومونكم» .
قوله: «ويذبحون» حال أخرى من آل فرعون، وفي البقرة دون «واو» لأن قصد التفسير لسؤال العذاب، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، وتقول: أتاني القوم: زيدٌ وعمرو، وذلك قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ} [الفرقان: 68، 69] لما فسر الآثام بمضاعفة العذا بحذف الواو، وهاهنا أدخل الواو بمعنى أنهنم يعذبونهم بالتذبيح وبغيره، فالسوم هنا غير السوم هناك.
وقرأ بان محيصن «يَذْبَحُونَ» مخففاً، و «يستحيون نساءكم» يتركونهن أحياء، «وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم» ، وفي كونه بلاء وجهان:
الأول: أن تمكين الله أياهم من ذلك الفعل بلاءٌ من الله.
والثاني: أن ذلك إشارة إلى الإنجلاء، وهو بلاء عظيم، والبلاء هو الابتلاء، وذلك قد يكون بالنعمة تارة، وبالمحنة أخرى، قال تعالى:
{وَنَبْلُوكُم
بالشر
والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وهذا أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} ، قاله ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ.
قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} يجوز أن يكون نسقاً على: {إِذْ أَنجَاكُمْ} ، وأن يكون منصوباً ب «اذْكُرُوا» مفعولاً لا ظرفاً.
وجوَّز فيه الزمخشري: أن يكون نسقاً على: «نِعْمةَ» فهو من قول موسى، والتقدير وإذ قال موسى اذكروا نعمة الله، واذكروا حين تأذن، وقد تقدَّم نظير ذلك في الأعراف.(11/342)
ومعنى: «تَأذَّنَ» آذن ربكم إيذاناً بليغاً، أي: أعلم، يقال: أذَّن وتَأذَّن بمعنى واحد مثل: أوعد وتوعَّد، وروي ذلك عن الحسن وغيره ومنه الأذان؛ لأنه إعلام قال الشاعر: [الوافر]
3195 - فَلمْ نَشْعُر بضَوْسِ الصُّبْحِ حَتَّى ... سَمِعْنَا في مَجَالِسنَا الأذِينَا
وكان ابن مسعود يقرأ «وإذْ قال ربُّكُمْ» والمعنى واحد.
فيقال: «لَئِنْ شَكرْتُم» نعمتي، وآمنتم، وأطعتم: «لأزيدَنَّكُم» في النعمة.
وقيل: لئن شكرتم بالطَّاعة «لأزيدنكم» في الثواب.
والآية نصُّ في أنَّ الشكر سبب المزيد: «ولَئِنْ كَفرتُمْ» نعتمي فجحدتموها، ولم تشكروها: «إنَّ عذَابِي لشَديدٌ» .
وقيل: المراد الكفر؛ لأن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله تعالى.
قوله: {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي: غني عن خلقه حميد محمود في أفعاله.
والمعنى: أن منافع الشكر ومضار الكفر لا تعود إلا إلى الشَّاكر والكافر، أمَّا المعبود والمشكور فإنَّه متعالٍ عن أن ينتفع بالشُّكر، أو يستضر بالكفران، فلا حرم قال تعالى: {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
والغرض منه: بيان أنه تعالى إنَّما أمر بهذه الطَّاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا إلى المعبود.(11/343)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
ثم قال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ} الآية النَّبأ: الخبر، والجمع الانباء؛ قال الشاعر: [الوافر]
3196 - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي..... ... ... ... ... ... ... ... .
قال أبو مسلم: «يحتمل أن يكون خطاباً من موسى صلوات الله وسلامه عليه [لقومه، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعال على لسان موسى عليه السلام] لقومه: يذكرهم أمر القرون الأولى؛ ليعتبروا بأحوال المتقدمين.
روي عن عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قرأ هذه الآية ثمَّ قال:» كَذبَ النَّسَّابُونَ «.
وعن عبد الله بن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: بين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبين عدنان ثلاثون [أباً] لا يعلمهم إلا الله وكان مالك ابن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يكره أن يسنب الإنسانت [نفسه أباً أباً] إلى آدم صلوات الله وسلامه عليه وكذلك في حق النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لايعلم أولئك الآباء أحد إلا الله تعالى، ونظيره: قوله تعالى {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان: 38] وقوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] وكان صلوات الله وسلامه عليه في نسبه لا يجاوز معد بن عدنان.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» تَعلَّمُوا من أنْسَابِكُم ما تصلُونَ بِه أرحَامَكُمْ وتعلمُوا مِنَ النُّجُوم ما تَسْتدِلُّونَ بِهِ على الطَّريقِ «.(11/344)
وقيل: المراد بقولهم:» لا يَعْلمُهمْ «أي: عددهم، وأعمارهم، وكيفياتهم.
وقال عروة بن الزبير:» ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان، وإسماعيل «.
قوله:» قَوم نُوحٍ «بدل، أو عطف.
قوله: {والذين مِن بَعْدِهِمْ} » يجوز أن يكون عطفاً من الموصول الأول، أو على المبدل منه، وأن يكون مبتدأ خبره: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} ، {جَآءَتْهُمْ} خبر آخر وعلى ما تقدم يكون: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} حالاً من «الَّذينَ» أو من الضمير في: «مِنْ بعْدِهمْ» لوقوعه صلة «.
وهذا عَنَى أبو البقاءِ بقوله: حال من الضمير في:» مِنْ بَعْدهِمْ «ولا يريد به الضمير المجرور؛ لأنَّ مذهبه منع الحال من المضاف، وإن كان بعضهم جوزه في صورة وجوز أيضاً هو والزمخشري:» والجملة من قوله: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} اعتراض «.
ورد عليه أبو حيان: بأن الاعتراض إنما يكون بين جزءين، أحدهما يطلب الآخر.
ولذلك لما أعرب الزمخشريُّ:» والَّذينَ «مبتدأ، و» لا يَعْلمُهُمْ «خبره، قال:» والجملة من المبتدأ، والخبر اعتراض «، واعترضه أبو حيَّان أيضاً بما تقدَّم.
ويمكنُ أن يجاب عنه في الموضعين: بأن الزمخشري يمكن أن يعتقد أن:» جَاءَتْهُم «حال مما تقدَّم، فيكون الاعتراض واقعاً بين الحال وصاحبها، وهو كلامٌ صحيحٌ.
قوله
تعالى
: {فردوا
أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} يجوز أن تكون الضمائر للكفار، أي: فردّ الكفار أيديهم في أفواههم من الغيظ، لقوله: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119] قاله أبو عباس، وابن مسعود، والقاضي.
قال القرطبيُّ: وهذا أصح الأقوال، قال الشاعر: [الرجز](11/345)
3197 - لَوْ أنَّ سَلْمَى أبْصرَتْ تَخَدُّدِي ... ودِقَّةً في عَظْمِ سَاقِي ويَدِي
وبُعْدَ أهْلِي وجَفَاءَ عُوَّدِي ... عَضَّتْ مِنَ الوَجْدِ بأطْرافِ اليَدِ
وقد مضى هذا المعنى في آل عمران [119] ف «في» على بابها من الظرفية، أي: فردُّوا أيديهم على أفواههم ضحكاً، واستهزاء، ف «فِي» بمعنى «عَلَى» وأشاروا إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولهم: إنَّا كَفرنا، ف «عَنْ» بمعنى «إلى» ويوجوز أني كون المرفوع للكفار، والأحزان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن يراد بالأيدي: النّعم، أي: ردوا نعم الرسل وهي مصالحهم في أفواه الرسل؛ لأنهم إذا كذبوها كأنهم رجعوا بها من حيث جاءت على سبيل المثال، ويجوز أن يراد المعنى، والمراد بالأيدي: الجوارح، ويجوز أن يكون الأولان للكفَّار، والأخير للرسل، فرد الكفار أيديهم في أفواههم أي في أفواه الرسل، أي أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسُّكوت، أو وضعوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ.
وقيل: «في» هنا بمعنى الباء. قال الفراء: «قد وجدنا من العرب من يجعل» في «موضع الباء، يقال: أدخلتُ بالجنَّة، أدخلت في الجنَّة» وأنشد: [الطويل]
3198 - وأرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ ورَهْطهِ ... ولكنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لسْتُ أرْغَبُ
أي: أرغب بها.
وقال أبو عبيد رَحِمَهُ اللَّهُ: هذا ضرب مثل يقوله العربُ: رد يده إلى فيه إذا ترك ما أمره به.
ورد عليه: بأن من حفظ حجَّة على من لم يحفظ.
وقال أبو مسلم: المراد باليدِ: ما نطقت به الرُّسل من الحجج؛ لأنَّ إسماع الحجَّة إنعام عظيم، والإنعام يسمى يداً، يقال لفلان عندي، يد إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد، كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] فالبينات التي ذكرها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقرَّرها لهم نعم وأياد، وأيضاً: العهود التي أتوابها مع القوم أيادي. وجمع اليد في القلة: أيْدِي، وفي الكثرة أيَادي.
وإذا ثبت أنَّ بيانات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعهودهم يصح تسميتها بالأيدي والنصائح، والعهود إنَّما تظهر من الفمِ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردًّا في الأفواه.(11/346)
ونقل محمد بن جرير عن بعضهم: أنَّ معنى قوله تعالى: {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} أي: سكتوا عن الجواب، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب: ردَّ يدهُ في فيه، إذ لم يجبه، ثمَّ زيف هذا الوجه وقال: إنَّهم أجابوا بالتَّكذيب وقالوا: إنَّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا: «إنَّا كَفرْنَا بِمَا أرْسِلْتُم بِهِ»
قوله تعالى: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} قرأ طلحة: «تَدعُونَّا» بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما يدغم في نون الوقاية، والمعنى: في شكِّ مريب موقع في الريبة أي: ذي ريبة من أرابه، والريبة: لقلق النفس، وألاّ [تطمئن] إلى الأمر.
فإن قيل: لما ذكروا أنهم قالوا: إنَّا كافرون برسالتكم، وإن لم ندع هذا الجزم واليقين، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى هذا التقدير فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم.
قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ} الآية لما قالوا للرُّسلِ: وإنا لفي شك، قالت لهم رسلهم وهل تشكون في الله، وهو فاطر السموات، والأرض وفاطر أنفسنا، وأرواحنا، وأرزاقنا إنَّا لا ندعوكم إلا لعبادة هذا الإله المنعم، ولا نمنعكم إلا من عبادة غيره، وهذه المعاني يشهد لها العقل بصحتها، فكيف قلتم: وإنَّا لفي شكٍّ؟ .
قوله: {أَفِي الله شَكٌّ} استفهام بمعنى الإنكار، وفي «شكٌّ» وجهان:
أظهرهما: أنه فاعل بالجار قبله، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره الجار، والأولى أولى؛ بل كان ينبغي أن يتعين؛ لأنه يلزم من الثاني الفصب لبين الصفة، والموصوف بأجنبيّ، وهو المبتدأ وهذا بخلاف الأوَّل، فإ، الفاصل ليس أجنبيًّا، إذ هو فاعله، والفاعل كالجزء من رافعه.
ويدلُّ على ذلك تجوزيهم: «مَا رَأيْتُ رجلاً أحْسنَ في عَيْنهِ الكُحْلُ مِنهُ في عَيْنِ زيْدٍ» بنصب «أحْسَنَ» صفة ورفع «الكُحْلُ» فاعلاً ب «أفعل» ولم يضر الفصل به بين «أفْعَلَ» وبين «مِنْ» لكونه كالخبر من رافعه ولم يجيزوا رفع: أحْسَن «خبراً مقدماً، و» الكُحْلُ «مبتدأ مؤخر لئلا يلزم الفصل بين» أفعل «وبين» من «بأجنبي.
ووجه الاستشهاد في هذه المسألة: أنَّهم جعلوا المبتدأ أجنبيًّا بخلاف الفاعل ولهذه المسألة موضع غير هذا.
وقرأ العامة» فاطِرِ «بالجر وفيه وجهان: النعت والبدلية.
قال أبو البقاء وفيه نظر؛ لأنَّ الإبدال بالمشتقات يقلّ ولو جعله عطف بيان كان أسهل.(11/347)
قال الزمخشريُّ:» أدخلت همزة الإنكار على الظرف؛ لأنَّ الكلام ليس في الشكِّ إنَّما هو في المشكوك فيه، وأنَّه لا يحتمل الشَّك لظهور الأدلَّة، وشهادته عليه «.
قوله: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ} اللام متعلقة بالدُّعاءِ، أي: لأجل غفران ذنوبكم؛ كقوله: [المتقارب]
3199 - دَعَوْتُ لمَّا نَابَنِي مِسْوراً ... فَلبَّى فَلَبَّيْ يدي مِسْورِ
ويجوز أن تكون اللام معدية كقولك: «دعوتك لزيد» ، وقوله: «إذا تدعون إلى الإيمان» ، والتقدير: يدعوكم إلى غفران ذنوبكم.
لما استفهم بعمنى نفي ما اعتقدوه، أردفعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع المختار، فقال: «فاطر السموات والأرض» : أي خالق السماوات والأرض «يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم» أي: ذنوبكم و «من» صلة، وقيل: «من» تبعيضية، وقيل: بمعنى البدل، أي: بدل عقوبة ذنوبكم كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] وسيأتي الكلام على هذه الوجوه.
{وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى حين استيفاء أجلكم، ولا يعالجكم بالعذاب، قال بعض العلماء: إن الفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار قبل الوقوف على الدلائل، وذلك من وجوه:
الأول: قال بعضش العقلاء: إن من لطم وجه سبي لطمة، فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار، وعلى وجود التكليف، وعلى وجود دار الجزاء، وعلى وجود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
أما دلالتهم على وجود الصانع؛ فإن الصبي العاقل إذا لطم يصيح ويقول من ذا الذي لطمني؟ وما ذاك إلا أن فطرته شاهدة بأن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها موجب أن يكون حدوثها لأجل فعل فاعلها، فلما شهدت فطرته الأصلية بافتقار ذلك الحادث الحقير إلى الفاعل، فبأن تشهد جميع حوادث العالم بالافتقار إلى الفاعل أولى.
وأما دلالتها على وجود التكليف؛ فبأن الصبي يصيح ويقول: ضربني ذلك الضارب، وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي، ومندرجة تحت التكليف، وأن الإنسان ما خلق ليفعل ما اشتهى.
وأما دلالتها على وجود الجزاء فهو: أن ذلك الصبي يطلب بطبعة الجزاء على تلك اللَّطمة ولا يتركه، فلما شهدت فطرته الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل، فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع العباد والأعمال أولى.(11/348)
وأما دلالتها على وجوب النبوة للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم مقدار العقوبة الواجبة في تلك الجناية، كم هي؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي قدر هذه وبين هذه الأحكام؛ فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأربعة.
الوجه الثاني: في أنَّ الإقرار بوجود الصَّانع بديهي: وهو أنَّ الفطرة شاهدة بأن حدوث دار بنقوش عجيبة، وتركيبات لطفية موافقة للحكمة، والمصلحة تستحيلُ إلاَّ من نقاش عالم، وبانٍ حكيمٍ، ومعلوم أنَّ آثار الحكمة ف يالعالم العلوي، والسفلي أكثر من الآثار الموجودة في تلك الدار المختصرة، فلمَّا شهدت الفطرة الأصليَّة بافتقار النَّقش إلى النَّقاش، والبناء إلى البَاني، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم أولى.
الوجه الثالث: أنَّ الإنسان إذا وقع في محنة شديدة، فإنه بأصل فطرته، وخلقته يتضرَّع إلى من يخصله منها، وما ذاك إلاَّ شهادة فطرته بالافتقار إلى الصَّانع القادرم المدبر.
الرابع: أن الموجود إمَّا أن يكون غنيًّا عن المؤثر، أو لا يكون، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلاَّ الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره، وإن لم يكن غنيًّا عن المؤثر فهو محتاج، والمحتاجُ لا بد له من المحتاج إليه، وذلك هو الصَّانع المختار.
الوجه الخامس: أن الاعتراف بوجودو الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه، أما كون الإقرار بوجود الصَّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده، وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار.
وأمَّا كون الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً أحوط، فلأنهن إن لم يكن موجوداً فلا خير في الإقرار بكمونه مختاراً.
أمَّا لو كان موجوداً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار.
وأما كان كون الإقرار بكونه مكلفاً لعباده أحوط، فلأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار.
وأمَّا كون الإقرار [بوجود] المعاد أحوط؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجمسانية، وهني منقضية فانينة، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المضير إليه، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النَّفس بقدر الإمكان، والله أعلم.(11/349)
فصل
لما استدلْ بكونه فاطر السموات والأرض وصف نفسه بكمال الرحمة والكرم، والجود من وجهين:
الأول: قوله: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} .
قال الزمخشريًُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «لو قال قائل: ما معنى التعبيض في قوله تعالى: {مِّن ذُنُوبِكُمْ} » ؟ .
ثم أجاب: فقال ما جاء هكذا إلاَّ في خطاب الكفار، كقوله تعالى {واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 3، 4] ، و {ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] وقال في الخطاب للمؤمنين: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] إلى أن قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12] قال: والاستقراء يدلُّ على صحَّة ما ذكرناه.
ثم قال: وكان ذلك للتَّفرقة بين الخطابين لئلا يسوَّى بين الفريقين في المعاد.
وقيل: أريد به: يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بنيهم وبين العباد من المظالم.
وقال الواحدي: قال أبو عبيدة: «مِنْ» زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها وإذا قلنا: ليست بزائدة، ففيها وجهان:
أحدهما: أنه ذكر البعض هنا، وأراد الجمع توسعاً.
والثاني: أن «مِنْ» ههنا للبدل، أي: لتكون المغفرة بدلاً من الذُّنوبِ فدخلت «مِنْ» لتضمن المغفرة معنى إبدالها م الذُّنوبِ.
وقال القاضي: ذكر الأصم أنَّ كلمة «مِنْ» ههنا تفيد التبعيض، أي: أنكم إذا [تبتم] يغفر لكم الذُّنوب التي هي من الكبائر، وأمَّا التي تكون من الصغائر، فلا حاجة إلى غفرانها؛ لأنها في أنفسها مغفورة.
قال القاضي: وقد أبعد في هذا التأويل؛ لأنَّ الكفار صغائرهم، ككبائرهم لا تغفر إلا بالتَّوبة، وإنما تكون الصَّغائر مغفورة من الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابهم فأمَّا من لا ثواب له أصلاً، فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرة، فلا يغفر له له شيء، ثم قال: وفيه وجه آخر: وهو أنَّ الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته، وإيمانه؛ فلا يغفر له شيء من ذنوبه، فلا تكون المغفرة إلا لما ذكره وتاب عنه.(11/350)
فصل
قال ابن الخطيب: دجلت الآية على أنه تعالى يغفر الذنوب من غير توبة في حق المؤمن، لأنه قال {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} وعد بغفران الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة؛ فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان؛ فوجب أن يكون البعض الذي يغفر من غير التوبة ما عدا الكفر من الذنوب.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن كلمة «مِنْ صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول: المراد منه تمييز خطاب المؤمن عن الكافر على ما قاله الزمخشريُّ، أو نقول: المراد تخصيص الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم، أو نقول: المراد منه الذنوب التي ذكرها الكافر عند إسلامه، كما قاله القاضي.
فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة، أمَّا كونها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله عزَّ وجلَّ بأنَّها عبثٌ والعاقل لا يجوز له المصير إليه من غير ضرورة.
وأما قوله الواحدي: المراد من كلمة» مِنْ «ههنا الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة؛ لأن حاصه أنَّ قوله تعالى جل ذكره {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي: يغفر لكم ذنوبكم، وهذا عينُ ما نقله عن أبي عبيدة، وحكى عن سيبويه إنكاره.
وأما قوله: المراد منه إبدال السيئة بالحسنة، فليس في اللغة أنَّ كلمة» مِنْ «تفيد الإبدال.
وأما قول الزمخشري: المراد تمييز خطاب المؤمنين من خطاب الكافرين بمزيد التشريف فهو من باب الطاعات، لأن هذا التعبيض إن حصل، فلا حاجة إلى ذكر هذا الجةاب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً.
وأما قول الأصم، فقد سبق بطلانه.
وأمَّا قول القاضي: فجوابه أنَّ الكافر إذا أسلم؛ غُفِرَت ذُنوبُه بأسرها، لقوله عليه السلام:» التّائِبُ مِنَ الذنبِ كَمنْ لا ذَنْبَ لَهُ «.
وقال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}
[الأنفال: 38] فثبت أنَّ جميع ما ذكروه من التأويلات ضعيف ساقط، بل المراد ما ذكرناه هو أنَّه يغفر بعض ذنوبه من غير توبةٍ؛ بشرط أن يأتي بالإيمان، فبأن تحصل هذه الحال للمؤمن أولى.(11/351)
قال تعالى: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} . قيل: المعنى: إن آمنتم، أخر الله موتكم إلى أجل مسمى، وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال.
وقال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يمنعكم في الدُّنيا باللذات إلى الموت.
فِإن قيل: أليس قال: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] . فكيف قال هنا: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ؟ .
قلنا: تقدَّم الكلام في هذه المسألة في قوله: {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى} [الأنعام: 2] في الأنعام.
ولما ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام هذا الكلام للكفار قالوا: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} وهذا الكلام يشتمل على ثلاثة أنواع من الشبه:
الأولى: أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية فيتمنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد وهو أن الواحد منهم رسولاً من الله تعالى مطلعاً على الغيب، مخالطاً لزمرة الملائكة، والباقون غافلون عن هذه الأحوال أيضاً كانوا يقولون: إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أيضاً أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة، وهي الحاجة إلى ألاكل، والشرب، والحديث والوقاع، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} : أي في الصورة ولستم ملائكة، وإنَّما تريدنون بقولكم أن تصدُّونا عمَّا كان يعبد آباؤنا.
وهذه الشبهة الثانية: وهي التمسك بالتقليد، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم مطبقين على عبادة الأوثان.
قالوا: ويبعد أن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خاطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين.
الشبهة الثالثة: قالوا: المعجز لا يدلُّ على الصدق؛ لأن الذي جاء به أؤلئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنَّها أمور متعادة ليست من باب المعجزات الخارجية عن قوَّة البشر؛ فلذلك قالوا: «فأتُونَا بسُلْطانٍ مُبِينٍ» أي: بحجة بينة على صحَّة دعواكم.
قوله «تُرِيدُونَ» يجوز أن يكون صفة ثانية ل «بَشرٌ» وحمل على معناه، لأنه بمنزلة القوم والرهط، كقوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] وأن يكون مستأنفاً.
وقوله: «أنْ تَصدُّونَا» العامة على تخفيف النون، وقرأ طلحة بتشديدها كما شدد: «تدعونّا» وفيها تخريجان:(11/352)
أحدهما: ما تقدَّم في نظيرتها على أن تكون هي المخففة لا النَّاصبة، واسمها ضمير الشأن، وشذّ عدم الفصل بينها، وبين الجملة الفعلية.
والثاني: أنَّها ناصبة، ولكن أهلمت حملاً على «مَا» المصدرية كقراء: {أَن يُتِمَّ} [البقرة: 233] . برفع «يُتِمُّ» وقد تقدَّم القول فيه.
قوله تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} الآية لما حكمة عن الكفَّارم طعنهم في النُّبوة حكى عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جابهم فقالوا: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} سلموا أنَّ الأمر كذكل لكنهم بيَّنوا أن التماثل في البشرية لا يمننع من اختصاص بعض البشرِ بمنصب النبوة؛ لأنَّ هذا المنصب يمُنُّ الله به على من يشاء من عباده، وإذا كان كذلك سقطت شبهتكم.
وأمَّا الجواب عن شبهة التقليد وهي قولهم: إطباقُ السلف لذلك الدين يدل على كونه حقًّا، فجوابه عين الجواب المذكور، وهو أنَّه لا يبعدُ أ، يظهر الرَّجل الواحد مالم يظهر للخلق الكثير؛ لأن التمييز بين الحق، والباطل، والصدق، والكذب عطية من الله وفضل منه؛ فلا يبعد أن يخص عبده بهذه العطية، ويحرم الجمع العظيم منها.
وأما الجواب عن الشهبة الثالثة وهي قولهم: إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة أوقى منها، فأجابوا عنها بقولهم: {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: أنَّ المعجزة التي أتينا بها حجة قاطعة قوية ودليل تام، وأمَّا الأشياء التي تطلبتموها، فأمور زائدة والحكم فيه لله تعالى فإن أظهرها فله الفضل، وإن لم يظهرها فله العدل، ولا يحكم بعد ظهور قدر الكفاية.
قوله: {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ} يجوز أن يكون خبر: «كَانَ» «لَنَا» ، و: «إنْ نَأيِتَكُمْ» أسمها، أي: وما كان لنا إتيانكم بسورة، و {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} حالٌ، ويجوز أن يكون الخبر {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} ، و «لَنا» تبين.
والظاهر أنَّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لما أجابوا عن شبهاتهم بهذا الجواب أخذ القوم التَّخويف، والوعيد فعند ذلك قال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا نخاف من تخويفكم بعد أن تولكنا على الله: {وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} .
قوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله} كقوله سبحانه: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 246] .
والمعنى: ما لنا أن لا نتوكل على الله، وقد عرفنا أنه لاينال شيء إلا بقضائه وقدره: {على مَآ آذَيْتُمُونَا} بين لنا الرشد وبصرنا النجاة.
قوله: «ولنَصْبِرنَّ، جواب قسم، وقوله: {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} يجوز أن تكون» مَا «مصدرية، وهو الأرجح لعدم الحاجة إلى رابط ادعي حذفه على غير قياس.(11/353)
والثاني: أنها موصولة اسمية، والعائد محذوف على التدرج؛ إذ الأصل: آذيتمونا به، ثم حذف الباء فوصل الفعل إليه بنفسه وقرأ الحسن رَحِمَهُ اللَّهُ: بكسر لام الأمر في» فَليتَوكَّل «وهو الأصل.
والمراد بهذا التوكل على الله في دفع شر الكفار فلا يلزم التكرار وقيل: الأول لاستحداث التوكل، والثاني طلب دوامه.
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ} الآية لما حكى عن الأنبياء صلوات لله وسلامه عليهم توكلهم على الله في دفع شرور أعدائهم حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أي لا بد من أحد الأمرين.
قوله: «لنخرنكم» جواب قسم مقدر، كقوله: «ولنصبرن» وقوله: «أو لتعدن» في «أوْ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها على بابها من كونها لأحد الشيئين.
والثاني: أنها بمعنى: «حتَّى» .
والثالث: أنها بمعنى «إلاَّّ» كقولهم: لألزمَنَّكَ أوْ تَقْضِينِي حَقِّي.
والقولان: الأخيران مردودان، إذ لا يصح تركيب «حتَّى» ولا تركيب «إلاَّ» مع قوله «لتَعُودُن» بخلاف المثال المتقدم، والعود هنا يحتمل أن يكون على بابه أي: لترجعن و «في ملَّتنا» متعلق به، وأن يكون بمعنى الصيرورة، فيكون الجار في محل نصب خبراً لها.
فإن قيل: هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودا فيها.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنَّما نشئوا في تلك البلاد؛ وكانوا من تلك القبائل وفي أول الأمر ما ظهروا المخالفة مع الكفار، بل كانوا ساكتين إلى حين الوحي فظن القوم أنهم كانوا على ملتهم لسكوتهم، فلهذا قالوا: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} .
وثانيها: أن هذا الكلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين.
وثالثها: قال الزمخشريُّ: «لعَوْدُ هنا بمعنى الصِّيرورة كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون:» صَارَ «ولكن عاد: ما عدت أراه، وعاد لا يكلمني ما عاد لفلان مالٍ» .
ورابعها: أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أنَّ المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم، فغلبوا في الخطاب الجماعة، ولا بأس أن يقال: إنهم قبل ذلك الوقت كانوا على دين أولئك الكفار.(11/354)
وخامسها: لعل أولئك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا قبل إرسالهم على ملَّة من الملل، ثم إنه تعالى نسخه تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي تلك الأقوام على تلك الشريعة المنسوخة مصرين عليها، وعلى هذا التقدير، فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يعودوا إلى تلك الملّة.
ولما ذكر الكفَّار هذا الكلام أو حى الله عزَّ وجلَّ أليهم {لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} .
قوله: «لنُهْلِكنَّ» جوب قسم مضمر، وذلك القسم وجوابه فيه وجهان:
أحدهما: أنه على إضمار القول، أي: قال لنهلكن.
والثاني: أنه أجرى الإيحاء مجرى القول؛ لأنه ضرب منه.
وقرأ أبو حيوة «ليُهْلِكنَّ» و «ليُسْكِننَّكُمْ» بياء الغيبة مناسبة لقوله: «ربُّهُمْ» والمراد بالأرض: أرض الظالمين، وديارهم، وأموالهم وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ أذَى جَارهُ ورَّثُه اللهُ دارهُ»
وهذه الآية تدلُّ على أن من يتوكل على الله في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه.
قوله: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} «ذلِكَ» مبتدأ، وهو مشار به إلى توريث الأرض، ولمَنْ خَافَ «هو الخبر، و» مَقامِي «فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مقحم، وهو بعيد؛ إذ الأسماء لا تقحم.
الثاني: أنه مصدر مضاف للفاعل.
قال الفراء:» مَقامِي «مصدر مضاف لفاعله أي: مقامي عليه بالحفظ.
الثالث: أنه اسم مكان.
قال الزجاج:» مكان وقوفه بين يدي الحساب، كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كقولك: نَدِمْتُ على ضَربِكَ، أي: على ضَرْبِي أيَّاك، و «خَافَ وعِيدِ» أي: عقابي، أثبت الياء هنا، وفي «ق» في موضعين: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14] ، {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وصلاً، وحذفها وقفاً ورش، والباقون وصلاً ووقفاً «.
فصل
في تفسير المقام وجوه:
الأول: موقفي وهو موقف الحساب؛ لأنَّه الذي يقف فيه العباد يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 10] .
الثاني: أن المقام مصدر كالقيام، يقال: قَامَ قِيَاماً، ومقَاماً، أي: لمن خاف مقامي،(11/355)
أي: مقام العباد عندي، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
الثالث: لمن خاف مقامي، أي: لمن خافني، وذكر المقام هنا، كقولك سلامٌ على المَجْلسِ الفُلاني، والمراد: السَّلام على فلان.
قوله: {وَخَافَ وَعِيدِ} قال الواحدي: الوعيد اسمٌ من أوْعَد إيعَاداً وهو التَّهديد.
قال ابن عباس: خاف ما أوعدت من العذاب.
وهذا الآية تدلُّ على أنَّ الخوف من الله تعالى غير الخوف من عيده؛ لأن العطف يقتضي المغايرة.
قوله
: {واستفتحوا(11/356)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
} العامة على «اسْتفْتَحُوا» فعلاً ماضياً، وفي ضميره أقوال:
أحدها: أنه عائد على الرًّسلِ الكرام، ومعنى الاستفتاح: الاستنصار كقوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] .
وقيل: طلب الحكم من الفتاحة، وهي الحكومة، كقوله تعالى: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89] .
الثاني: أن يعود على الكفار، أي أستفتح أمم الرسل عليهم؛ كقوله تعالى: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] وقيل: عائد على القولين؛ لأن كلاَّ طلب النصر على صاحبه.
وقيل: يعود على قريش؛ لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا، وهو على هذا مستأنف، وأما علىغيره من الأقوال فهو عطف على قوله: «فاوحى إليهم» .
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «واستفتحوا» على لفظ الأمر أمراً للرسل بطلب النصرة، وهي تقوية لعوده في المشهورة على الرسل، والتقدير: قال لهم: لنهلكن، وقال لهم: استفتحوا.
قوله: «وخاب» هو في قراءة العامة عطف على محذوف، وتقيدره: استفتحوا، فنصروا، وخاب، ويجوز أن يكون عطفاً على «استفتحوا» على أن الضمير فيه للكفار، وفي غيرها على القول المحذوف وقد تقدم أنه يعطف الطلب على الخبر وبالعكس.
إن قلنا: المستفتحون الرسل عليهم الصلاة والسلام، فنصورا وظفروا، وهو قول مجاهد(11/356)
وقتادة، وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله، ودعوا على قومهم بالعذاب، كما قال نوح صلوات الله عليه: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] .
وإن قلنا: المستفتحون الكفرة كان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنًّا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل، وذلك أنههم قالوا: «اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا» نظيره: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . «وخَابَ» ما أفلح. وقيل: خر. وقيل: هلك كل جبّار عنيد. والجبَّارُ الذي لا يرى فوقه أحداً، والجبريةُ طلب العلوْ بما لا غاية وراءه، وهذا الوصف لا يكون إلا الله عزَّ وجلَّ.
وقيل: الجبَّار الذي يجبر الخلق على مراده، والجبَّار هنا: المتكبر على طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته، ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم: 14] .
قال أبو عبيدة: «الأجْبَر يقال فيه جبريّة، وجَبرُوَّة، وجَبرُوت» .
وحكى الزجاج: «الجِبْرُ، والجِبْرِية، والجِبَّارة، الجِبْرِيَاءُ» .
قال الواحديُّ: «فهذه سبع لغات في مصدر الجبَّار، ومنه الحديث:» أن امرأة حضرت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمَرهَا بِأمْرٍ فأبتْ عليْهِ، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «دَعُوهَا فإنَّها جَبَّارةٌ»
أي: مستكبرة «، وأمَّا العنيد فقال أهلُ اللغة في اشتقاقه:
قال البصريون: أصل العُنُود: الخلاف، والتباعد، والترك.
وقال غيرهم: أصله من العَنْد وهو النَّاحية، يقال: هو يمشي عنداً، أي: ناحية فهو المُعانِدُ للحق بجانبه، قاله مجاهد.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هوالمعرض عن الحق. وقال مقاتلٌ: هو المتكبّر وقال قتادة: العَنِيدُ الذي أبى أن يقال: لا إلهَ إلاَّ الله.
ثم ذكر كيفية عذابهن فقال:» مِنْ وَرائِهِ «جملة في محلّ جر صفة ل» جبَّارٍ «ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار، و» جهنم: فاعل به.(11/357)
وقوله: «ويسقى» صفة معطوفة على الصفة قبلها. عطف جملة فعلية على اسمية فإن جعلت الصفة الجار وحده، وعلقته بفعل كان من عطف فعلية على فعلية.
وقيل: عطف على محذوف، أي: يلقى فيها، ويُسْقَى.
و «وَرَاءِ» هنا على بابها، وقيل بمعنى أمام، فهو من الأضداد، وهذا عنى الزمخشري بقوله: «مِنْ بَيْنِ يَديْهِ» وأنشد: [الوافر]
3200 - عَسَى الكَرْبُ الَّذي أمْسَيْتُ فِيهِ ... يَكونُ وَراءَهُ فَرجٌ قَرِيب
وهو قول أبي عبيدة وابن السِّكيت، وقطرب، وابن جريرٍ؛ وقال الشاعر في ذلك: [الطويل]
3201 - أيَرْجُو بنُو مَرْوان سَمْعِي وطَاعتِي ... وقَوْمُ تَميمٍ والفَلاةُ وَرَئِيَا
أي: قُدَّامي؛ وقال الآخر: [الطويل]
3202 - أليْسَ وَرائِي إنَّ تَراخَتْ مَنيَّتِي ... لزومٌ العَصَا عليْهَا الأصابِعُ
وقال ثعلب: هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك، أم قدامك فيصح إطلاق لفظ الوراء على الحذف وقدام، ويقال: المَوْتُ وراء كُلُّ أحدٍ، وقال تعالى: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] أي: أمامهم.
وقال ابن الأنباري: وراء بمعنى بعد، قال الشاعر: [الطويل]
3203 - ... ... ... ... ... ... . ... وليْسَ ورَاءَ اللهِ للْخَلْقِ مَهْرَبُ
ومعنى الآية: أنه بعد الخيبة يدخلهم جهنم.
قوله: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} في «صديد» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه نعت ل «مَاءٍ» . وفي تأويلان:
أحدهما: أنه على حذف أداة التشبيه، أي: ماء مثل صديد، وعلى هذا فليس الماء(11/358)
الذي تشربونه صديداً، بل مثله في النَّتنِ، والغلظ، والقذارة، كقوله تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل} [الكهف: 29] .
والثاني: أنَّ الصديد لما كان يشبه الماء أطلق عليه ماء، وليس هو بماء حقيقة، وعلى هذا فيكون يشربون نفس الصديد المشبه للماء، وهو قول ابن عطية، وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره. وفيه نظرٌ، إذ ليس بمشتق إلاَّ على من فسَّره بأنه صديدق بمعنى مصدود، أخذه من الصَّدِّ، وكأنه لكراهته مصدودٌ عنه، أي: يمتنع عليه كل أحد.
الثاني: أنه عطف بيان ل «مَاءٍ» ، وإليه ذهب الزمخشري، وليس مذهب البصريين [جريانه] في النكرات إنَّما قال به الكوفيون وتبعهم الفارسي أيضاً.
الثالث: أن يكون بدلاً، وأعرب الفارسي «زَيْتُونةٍ» من قوله تعالى {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ}
[النور: 35] عطف بيان أيضاً.
واستدلّ من جوَّز كونه عطف بيان، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين.
والصَّديد: ما يسيلُ من أجسادٍ أهلِ النَّار. وقيل: ما حَالَ بين الجلدِ واللَّحمِ من القَيْحِ.
قوله: «يتَجرَّعهُ» يجوز أن تكون الجملة صفة ل «مَاءٍ» وأن تكمون حالاً من الضمير في «يُسْقَى» ، وأن تكمون مستأنفة، وتجرَّع: «تَفعَّل» وفيه احتمالات:
أحدها: أنه مطاو ل «جَرَّعْته» نحو «علَّمتهُ فتعلَّمَ» .
والثاني: أنه يكون للتكلف، نحو «تحَلَّم» ، أي: يتَكلَّف جرعهُ، ولم يذكر الزمخشري غيره.
الثالث: أنه دالٌّ على المهلة، نحو تفهَّمتهُ، أي: يتنوله شيئاً فشيئاً بالجرع كما يفهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم.
الرابع: أنه بمعنى جرع المجرد، نحو: عَددْتُ الشيء وتعَدَّيتُه.
والمعنى: يتحسَّاه ويشربه لا بمرة واحدة، بل يجرعهُ لِمرارَتهِ وحَرارَتهِ.
قوله: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} في «يَكادُ» قولان:
أحدهما: أن نفيهُ إثبات، وإثباتهُ نفيٌ، فقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي: يسيغه بعد إبطاء؛ لأن العرب تقول: ما كدت أقومُ أي: قمتُ بعد إبطاءٍ، قال تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] أي: فعلوا بعد إبطاء، ويدلّ على حصول الإساغة قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} [الحج: 20] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة. وقوله: «يَتجرَّعهُ» يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء.(11/359)
والقول الثاني: أنَّ «كَادَ» للمقاربة، فقوله «وَلا يَكادُ» لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه، فكيف تحصل إلا ساغة؟ .
كقوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] ، أي: لم يقرب من رؤياها، فكيف يراها؟ .
فإن قيل: فقد ذكرتم الدليل على الإساغة، فكيف يجمع بين القولين؟ .
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّ المعنى: ولا يسيغ جميعه.
والثاني: أنَّ الدَّليل الذي ذكرتم إنَّما دلَّ على وصول بعض ذلك الشَّراب إلى جوف الكافر، إلاَّ أن ذلك ليس بإساغة؛ لأنَّ الإساغة في اللغة: إجراء الشرب في [الحلق] بقبول النفس، واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه، أي: لا يستطيبه ولا يشربه شرباً مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل: «لا يَكَادُ» على نفي المقاربة.
قوله: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} أي: أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات.
واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواعه الحياة.
فمنهنا: ماهو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، كقوله تعالى: {يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17] .
ومنها: زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة، كقوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} [النمل: 80] .
ومنها: الحزن والخوف المكدران للحياة، كقوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] .
ومنهنا: النوم، كمقوله تعالى عزَّ وجلَّ {والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] .
وقد قيل: النوم: الموتُ الخفيف، والموتُ: النوم الثقيل، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل، والسؤال، والهرم، والمعصية، وغير ذلك، ومنه الحديث «أوْل من مَاتَ إبليسُ لأنَّهُ أوَّلُ من عَصَى» .
وحديث موسى صلوات الله سلامه عليه حين قال له ربه: « [أمَا] تَعْلَمْ أنَّ مَنْ أفْقرتُهُ فقَدْ أمَتُّهُ» .
ولنرجع إلى التفسير، فنقول: قيل: بحدوث ألم الموت من كل مكان من أعظائه.(11/360)
وقيل: يأتيه الموت من الجهات السّت {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} فيستريح.
قال ابن جريج: تعلق روحه عند حنجرته، ولا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيستريح فَتَنْفَعهُ الحياة، نظيره: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74] .
قوله: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} في الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه عائد على «كُلِّ جبَّارٍ» .
والثاني: أنه عائد على العذاب المتقدم.
قيل: العذاب الغليظ: الخلود في النار.
وقيل: إنَّهُ في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله، وتقدم الكلام على معنى «مِن وَرائهِ» .(11/361)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} الآية لما ذكر أنواع عذابهم بين عبده أن سائر أعمالهم تصير ضائعة باطلة، وذلك هو الخسران الشديد.
وفي ارتفاع: «مَثَلُ» أوجه:
أحدها: وهو مذهب سيبويه أنَّه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ربهم، وتكون الجملة من قوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} مستأنفة جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: كَيْتَ وكَيْتَ «والمثل: مستعار للصفة التي فيه غرابة، كقوله: صِفةٌ زيدٍ عِرْضهُ مصُونٍ، مالهُ مَبْذولٍ» .
الثاني: أن يكون «مثل» مبتدأ، و «أعمالهم» مبتدأ ثان، و «كَرمَادٍ» خبر الثاني، والثاني وخبره خبر المبتدأ الأوَّل.
قال ابن عطيَّة: «وهذا عندي أرجحُ الأقوال، وكأنك قلت: المتحصل في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملة المذكورة» وإليه نحا الحوفي.
قال أبو حيان: «وهو لا يجوز؛ لأن الجملة التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابط فيه يربطها بالمبتدأ، وليست نفس المبتدأ فيستغنى ع رابط» .
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «بل الجملة نفس المبتدأ، فإن نفس مثلهم هو» أعْمَالهُمْ كَرمَادٍ «في أنَّ كلاًّ منهما لا يفيد شيئاً، ولا يبقى له أثر، فهو نظير قولك:»(11/361)
هِجِّيرى أبي بكرٍ لا إلهَ إلاَّ اللهُ «وإلى هذا الوجه ذهب الزمخشري أيضاً؛ فإنه قال:» أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك: «صفةٌ زيْدٍ عرضهُ مصُون ومالهُ مَبذُول» فنفس عرضه مصون هو نفس صفة زيد «.
الثالث: أنَّ» مَثَلُ «زائدة، قاله الكسائي والفراء، أي: الذين كفروا أعمالهم كرماد، ف» الَّذينَ «مبتدأ، و» أعْمالهُمْ «مبتدأ ثاني، و» كَرَمادٍ «خبره، وزيادة الأسماء ممنوعمة.
الرابع: أن يكون» مثلُ «مبتدأ، و» أعْمَالهُم «بدل منه على تقدير: مثل أعمالهم و» كَرمَادٍ «الخبر، قاله الزمخشري. وعلى هذا فهو بدل كلِّ من كلِّ على حذف مضاف كما تقدم.
الخامس: أنه يكون» مثل «مبتدأ، و» أعمالهم «بدلٌ منه بدل اشتمال و» كرماد «الخبر. كقول الزباءِ: [الرجز]
3204 - مَا لِلْجمَالِ مَشْيهَا وَئيدَا ... أجَنْدَلاً يَحْملنَ أمْ حَديدَا(11/362)
السادس: أن يكون التقدير: مثل أعمال الذين كفروا، أو هذه الجملة خبراً لمبتدأ، قال الزمخشريُّ.
السابع: أن يكون» مَثَلُ «مبتدأ، و» أعْمَالهُم «خبره، أي: مثل أعمالهم فحذف المضاف، و» كَرمَادٍ «على هذا خبر مبتدأ محذوف.
وقال أبو البقاءِ حين ذكر وجه البدل:» ولو كان في غير القرآن لجاز إبدال «أعْمالهُمْ» من: «الَّذينَ» ، وهو بدل اشتمال «.
يعنى أنَّه كان يقرأ «أعْمَالهُمْ» مجرورة لكنَّه لم يقرأ به
«والرَّمادُ معروف وهو ما سحقته النار من الأجرام، وجمعه في الكثرة على رمُدٍ وفي القلة على أرْمِدةٍ، كجَمادٍ وجُمُد وأجْمِدَة، وجمعه على أرْمِدَاء شاذ» .
والرَّمادُ: الشبه المحكم، يقال: أرْمدَ الماءُ، أي: صار بلونِ الرَّمادِ.
والأرْمَدُ: مَا كَانَ على لَونِ الرَّمادِ، وقيل للبعوض: رمدٌ لذلك، ويقال: رمادٌ رَمْدٌ، أي: صار هباء.
قوله تعالى: {اشتدت بِهِ الريح} في محل جر صفة ل «رَمَادٍ» ، و «فِي يَوْمٍ» متعلق ب «اشْتَدَّتْ: وفي» عَاصِفٍ «أوجه:
أحدها: أنه على تقرير: عاصف ريحه، أو عاصف الريح، ثم حذف الريح وجعلت الصفة ل» يَوْم «مجازاً، كقولهم: يَومٌ ماطرٌ، وليْلٌ قَائمٌ.
قال الهرويُّ: فحذفت لقتدم ذكرها، كما قال: [الطويل]
3205 - إذَا جَاءَ يَومٌ مُظلِمُ الشَّمسِ كَاسفٌ..... ... ... ... ... ... ...(11/363)
أي: كاسف الشمس.
الثاني: أنه عائد على النِّسب، أي: ذي عصوف، كلابن وتامر.
الثالث: أنه خفض على الجوار، أي: كان الأصل أن يتبع العاصف الريح في الإعراب، فيقال: اشتدت الريحُ العاصفة في يومٍ، فلمَّا وقع بعد اليوم أعرب بإعرابه، كقولهم:» جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ «.
وفي جعل هذا من باب الفخض على الجوار نظر؛ لأنَّ من شرطه أني يكون بحيث لو جعل صفة لما قطع عن إعرابه ليصحَّ كمثال المذكور، وهنا لو جعلت صفة للريح لم يصحَّ لتخالفها تعريفاً، وتنكيراً في هذا [التركيب] الخاص.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: [» يَوْمٍ عَاصفٍ «] وهني على حذف الموصوف، اي: في يوم ريح عاصف، فحذف لفهم المعنى الدال على ذلك.
ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته عند من يرى ذلك نحو:» البَقْلةُ الحَمْقَاء «. ويقال: ريحٌ عاصفٌ ومُعْصِفٌ، وأصله من العصف، وهو ما يكبر من الزرع، فقيل ذلك للريح الشديد؛ لأنَّها تعصف، أي: تسكر ما تمرُّ به
قوله:» لاَ يَقدِرُونَ «مستأنف، ويضعف أن يكون صفة ب» يَوْمٍ: على حذف العائدِ أي: لا يقدرون فيه، و «ممَّا كَسبُوا» متعلق بمحذوف لأنه حالٌ من «شَيءٍ» إذ لو تأخر لكان صفة، والتقدير: على شيء مما كسبوا.
فصل
وجه المشابهة بين هذا المثل وبين أعمالهم: هو أنَّ الريح العاصفة تُطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر، فكذا كفرهم يبطل أعمالهم ويحبطها بحيث لا يبقى من أعمالهم معه أثرٌ. واختلفوا ف يالمراد بتلك الأعمال، فقيل: ما علموه من أعمال البرِّ كالصدقة، وصلة الرحم، وبر الواليدن، وإطعام الجائع، فتبطل وتحبط بسبب كفرهم بالله، ولولا كفرهم لانتفعوا بها.
وقيل: المراد بتلك الأعمال عبادتهم الأصنام، وكفرهم الذي اعتقدوه إيماناً وطريقاً لخلاصهم، وأتبعوا أبدانهم دهراً طويلاً لينتفعوا بها، فصارت وبالاً عليهم.
وقيل: المراد من أعمالهم كلا القسمين؛ لأن أعمالهم التي كانت في أنفسها خبرات قد بطلت، والأعمال التي اعتقدوها خيراً، وأفنوا فيها أعمالهم بطلت أيضاً، وصارت في(11/364)
أعظم الموجبات لعذابهم، ولا شك أنَّه يعظم حسرتهم وندامتهم ولذلك قال: {هُوَ الضلال البعيد} .
قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم، وإعراضهم عن قبول الحق، وأنَّ الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداءً، وكيف يليق بالححكمةم أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب؟
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} قرأ أبو عبد الرحمن رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: بسكون الراء، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
والثاني: أنَّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم، فقالوا: «ولوْ تَرَ مَا الصِّبْيَان» فلما دخل الجازم تخيلوا أنَّ الراء محل الجزم، ونظيره «لَمْ أبَلْ» فإن أصله: أبالِي، ثم حذفوا لامه رفعاً، فلمَّا جزموه لم يعتدوا بلامه، وتوهموا الجزم في اللام، والرُّؤية هنا قلبية ف «أنَّ» في محل المفعولين، أو أحدهما على الخلاف.
وقرأ الأخوان هنا: « (خالق السماوات والأرض) » خَالِقُ «اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه، وهو» الأرض «، وفي» النور «:» خالقُ كُلِّ دابّةٍ « [أية: 45] اسم فاعل مضاف لما بعده، والباقون:» خَلَقَ «فعلاً ماضياً، ولذلك نصبوا:» الأرْضَ «و {كُلَّ دَآبَّةٍ} [النور: 45] وكسر» السَّمواتِ «في قراءة الأخوين خفض، وفي قراءة غيرهما نصب، ولو قيل: في قراءة الأخوين: يجوز نصب» الأرْضَ «على أحد وجهين، إمَّا على المحمل وإمَّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، فتكون» السَّموات «منصوبة لفظاً وموضعاً لم يمتنع ولكن لم يقرأ به.
و» بِالحقِّ «متعلق به» خَلَقَ «على أنَّ الباء سببيَّة، أو بمحذوف على أنَّها حالية إمَّا من الفاعل، أي: محقَّا، أو من المفعول، أي: متلبسة بالحق.
قوله» بالحَقِّ «تقدم نظيره في يونس {مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} [يونس: 5] أي: لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح.
قم قال عزَّ وجلَّ {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} والمعنى: من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق، فبأن يقدر على [إفناء] قوم إماتتهم وعلى أيجاد آخرين(11/365)
أولى؛ لأنَّ القادر على الأصعب الأعظم؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هذا الخطاب مع كفَّار مكَّة يريد أميتكم يا معشر الكفَّار، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم.
{وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي: ممتنع لما ذكرنا من الأولوية.(11/366)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
قوله: {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً} الآية لما ذكر عذاب الكفار وبطلان أعمالهم ذكر هنا كيفية حجتهم عند تمسك أتباعهم، وكيفية افتضحاهم عندهم.
و «بَرَزَ» معناه في اللغة: ظَهَرَ بَعْدَ الخفاءِ، ومنه يقال للمكانِ الواسع البرَازُ لظهوره.
وقيل: في قوله تعالى: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] أي: ظاهرة لا يسترها شيء وامْرأةٌ بَرْزَةٌ: إذا كانت تعظهر للنَّاس، ويقال: فلانٌ برز على أقرانه، إذا فاقهم وسبقهم، وأصله في الخيل إذا سبق أحدهما قيل: بَرَزَ عَليْهَا كأنَّهُ قد خرج من غُمارها.
وورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال؛ لأنَّ كل ما أخبر الله عنه فهو حقٍّ وصدق، فصار كأنه قد حصل، ودخل في الوجود، كقوله تعالى: {ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50] .
فصل
البُرُوزُ في اللغة قد تقدَّم أنه بمعنى الظُّهور بعد الاستِتَارِ وهذا في حق الله محالٌ، فلا بد من التأويل، وهو من وجوه:
الأول: أ، هم كانوا يستترون من الغير عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا عند الله تعالى وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية.
والثاني: أنَّهم خرجوا من قبورهم، فبرزوا لحساب الله تعالى قالت الحكماءُ:(11/366)
إنَّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء، وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله تعالى.
ثم حكى أن الضعفاء يقولون للرؤساء «إنّا كنا لكم تعباً» أي: إنما اتبعناكم لهاذ اليوم «فَهلْ أنتُم مُّغنُونَ» دافعون: {عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ} .
و «تَبَعاً» يجوز أن يكون جمع تابع، كخَادِم وخَدَم، وغَائِب وغَيَب ونَافِر ونَفَر، وحَارِس وحَرَس، ورَاصِد ورَصَد.
ويجوز أن يكون مصدراً، نحو: قَوْمٌ عَدْلٌ، ففيه التأويلات المشهورة.
قوله: {مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ} في «مِنْ» و «مِنْ» [أربعة] أوجه:
أحدها: أنَّ «مِنْ» الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، تقديره: مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب اله، قاله الزمشخريُّ.
قال أبو حيان: هذا يقتضي التقديم في قوله: «مِنْ شيءٍ» علتى قوله: «من عذاب الله؛ لأنه جعل» من شيء «هو المبين بقوله:» من عذاب الله «و» من «التبيينية مقدم عليها ما تبينه ولا يتأخر.
قال شهاب الدِّين: كلام الزمخشري صحيح من حيث المعنى؛ فإن» من عذاب الله «لو تأخر عن» شيء «كان صفة له، ومبيناً، فلما تقدم انقلب إعرابه من الصفة إلى الحال، وأما معناه وهو البيان فباق لم يتغير.
الثاني: أن يكونا للتبعيض معاً، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله؛ أي: بعض بعض عذاب الله، قاله الزمخشري.
قال أبو حيان: وهذا يقتضى أن يكون بدلاً، فيكون بدل عام من خاص، وهذا لا يقال؛ فإن بعضيه الشيء مطلقة، فلا يكون لها بعض.
قال شهاب الدين: لا نزاع أنه يقال: بعض البعض، وهي عبارة متداولة، وذلك البعض المتبعض هو كل لأبعاضه بعض لكله، وهذا كالجنس المتوسط، هو نوع لما فوقه، جنس لما تحته.
الثالث: أن «مِنْ» في «مِنْ شَيءٍ» مزيدة، و «مِنْ» في «مِنْ عذابِ» فيها وجهان:
أحدهما: أن تتعلق بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفة ل «شيء» فلما تقدمت نصبت على الحال.
والثاني: أنها تتعلق بنفس «مغنون» على أن يكون «من شيء» واقعاً موقع المصدر، أي: غناء، ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال: و «من» زائدة أي شيئاً(11/367)
كائناً من عذاب الله سبحانه وتعالى، ويكون محمولاً على المعنى، تقديره: هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكون «شيء» واقعاً موقع المصدر، أي غناء، فيكون «من عذاب الله» متعلقاً ب «مغنون» ، و «من» في «من شيء» لاستغرق الجنس زائدة للتوكيد.
فصل
هذه التعبية يحتمل أن يكون المراد منها التعبية في الكفر، ويحتمل أن يكون المراد منها التعبية في أحوال الدنيا، فعند ذلك قال الذين استكبروا للضعفاء: «لو هدانا الله لهديناكم» قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم. قال الواحدي: معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال؛ لأن الله تعالى أضلهم فلم يهدهم، فدعوا أتباعهم إلى الضلال، ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى.
قال الزمخشري: لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ} [المجادلة: 18] .
واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة، فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخة، فلا يقبل.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف، فلطف بنا ربنا فهدانا إلى الإيمان لهديناكم إلى الإيمان.
وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال: لا يجوز حمل هذا على اللطف؛ لأن ذلك قد فعله الله تعالى.
وقيل: لو خلصنا الله من العذاب، وهدانا إلى طريق النجنة، لهديناكم؛ بدليل أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه.
قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ} إلى آخره فيه قولان:
أحدهما: أنه من كلام المستكبرين.
والثاني: أنه من كلام المستكبرين والضعفاء معاً، وجاءت كل جملة مستقلة من غير عاطف دلالة على أن كلاًّ من المعاني مستقل بنفسه كافٍ في الإخبار، وقد تقدَّم الكلام في التسوية والهمزة بعده في أول البقرة.
والجَزَعُ: عدمُ احتمالِ الشدَّة، قال امرؤ القيس: [الطويل]
3206 - جَزِعْتُ ولَمْ أجْزَعْ مِنَ البيْنِ مَجْزَعاً ... وعَزَّيْتُ قلْباً بالكَواعِبش مُولعَا(11/368)
وقال الراغب: «أصل الجَزْعِ: نقطعُ الحَبْلِ، يقال: جَزعْتهُ فانْجَزعَ ومنه: جِزْعُ الوادي لمنقطعة، ولانقطاع اللون بتغيره.
وقيل للخرز المتلون: جِزْع، واللحم المُجَزَّعُ: ما كان ذا لونين والبسرة المجزعة: أن تبلغ الأرطاب نصفها، والجَاذِعُ: خشبة تجعل في وسط لبيت فتلقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين، وصور الجزعة لما حمل عليه من العبء أو لقطعه بطوله وسط البيت» .
والجَزَع أخص من الحزن، فإن الجزع حزنٌ يصرف الإنسان عما هو بصدده.
والمَحِيصُ: يكون مصدراً كالمَغِيب والمَشِيب، ويكون اسم مكان، كالمَبِيت والمَضِيق ويقال: حَاصَ عنه وحَاضَ بمعنى واحد، ويقال: خاض بالضاد المعجمة، وجصنا بها بالجيم.
والمعنى: مالنا من ملجأ ولا مهرب. فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} .
قوله: {وَعْدَ الحق} يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف الصفته، كقوله تعالى: {وَحَبَّ الحصيد} [ق: 9] ومسجد الجامع، أي: الوعد الحق، وأن يراد ب «الحقِّ» صفة الباري تعالى، أي: وعدكم الله وعده الحق، وأن يراد ب «الحَقِّ» البعث، والجزاء على الأعمال، فتكون إضافة صريحة.
وقيل: وعدكم الحق ثمَّ ذكر المصد تأكيداً، وفي الكلام إضمارٌ من وجهين:
الأول: التقدير: أن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف لدلالة الحال على صدق ذلك الوعد؛ يقتضي مفعولاً ثانياً، وحذف للعلم به تقديره: ووعدتكم أن لا جنّة، ولا نار، ولا حشر، ولا حساب.
فصل
لما [ذكر] الله سبحانه وتعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه فقال: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر} قال المفسرون: إذا استقر أهلُ الجنَّة في الجنَّة، وأهل النَّار في النَّار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه، فيقوم فيما بينهم خطيباً، فيقول: «إنَّ اللهَ وعدَكُمْ وعْدَ الحقِّ ووَعدتُّكُمْ فأخْلفَتُكُمْ» .
وقيل: المراد من قوله تعالى: {لَمَّا قُضِيَ الأمر} أي: لما انقضت المحاسبة والمراد من الشيطان: إبليس لعنه الله! .(11/369)
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي: قدرة وتسلط، وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي.
قوله: {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه استثناء منطقع؛ لأنَّ دعاءه ليس من جنس السُّلطان، وهو الحجة البينة فهو كقولكم: ما تَحِيَّتُم إلاَّ الضرب.
والثاني: أنه متصل؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوسوسة في قلبه، فهو نوع من التسلُّط.
وقرىء «فَلا يَلُومُونِي» بالياء من تحت الالتفات، كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم}
[يونس: 22] .
ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه وإزالة عقله كما يقوله العوام.
ومعنى الآية: ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وأنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله؛ فكان من الواجب أن لا تغتروا بقولي، ولا تلتفتوا إليَّ، فملا رجحتم الوسوسة على الدلائل الظاهرة كان اللََّوم عليكم لا عليَّ.
قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أشياء:
أحدها: أنه لو كان الكفر والمعصية من الله تعالى لوجب أن يقال: فلا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم فإنَّ الله تعالى قضى عليكم بالكفر، وأجبركم عليه.
والثاني: أن ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان، ولا على تعويج أعضائه وإزالة عقله.
والثالث: يدل على أنَّ الإنسان لا يجوز لومه، وذمه، وعقابه بسبب فعل الغير، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم.
وأجاب بعضهم عن هذه الوجوه: بأن هذا قول الشيطان، فلا يجوز التمسك به.
وأجاب الخصم عنه: بأنه لو كان هذا الوقل منه باطلاً لبينه الله تعالى وأظهر إنكاره، فلا فائدة من ذلك اليوم في ذكر الكلام الباطل، والقول الفاسد.
ألا ترى أن قوله: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} كلام حق، وقوله {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} قول حق بدليل قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} [الحجر: 42] .(11/370)
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: دلت هذه الآية على أنَّ الشيطان [الأصلي] هو النفس؛ لأن الشيطان بين أنَّه ما أتى إلاَّ بالوسوسة، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة، والغضب، والوهم، والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتَّة، فدل على أنَّ الشيطان الأصلي هو النفس.
فإن قيل: لِمَ قال الشيطان: «فَلا تَلُومونِي ولُومُوا أنْفُسكمْ» وهو ملوم بسبب وسوسته؟ .
فالجواب: أراد لا تلوموني على فعلكم: «ولوموا أنفسكم» عليه؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم.
قوله تعالى: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} العامَّة على فتح الياءِ؛ لأ، الياء المدغم فيها تفتح أبداً، لاسيما وقبلها كسرتان.
وقرأ حمزة بكسرها، وهي لغة بني يربوع، وقد اضطربت أقوال النَّاسِ في هذه القراءة اضراباً شديداً، فمن مجترىء عليها، ملحن لقارئها، ومن مجوِّز لها من غير ضعف قال: إنَّها لغة بني يربوع، والأصل: بمُصرخينَ لي [فحذفت] النون للإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، ومن مجوِّز لها بضعف.
قال حسين الجعفيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سألت أبا عمرو عن كسر الياء؛ فأجازه وهذه الحكايةُ تحكى عنه بطرق كثيرة منها ما تقدَّم.
ومنها: سألت أبا عمرو، قلت: إنَّ أصحاب النحو يلحنوننا فيها، فقال: هي جائزة عن القرآن، فوجته به عالماً، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش، [واستقرأ] به: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بالجر، فقلا: هي جائزة، فلما أجازها وقرأ بها الأعمش أخذت بها.
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمرو تحسينه لهذه القراءة، ولا التفات إليه؛ لأَنَّه علم من أعلام القرآن، واللغة، والنحو، واطلع على ما لم يطلع عليه من فوق السجستاني: [البسيط](11/371)
3207 - وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرنٍ ... لمْ يَسْتطِعْ صَوْلشةَ البُزْلِ القَناعِيسِ
ثم ذكر العلماؤ في ذلك التوجيهات:
منها: أن الكسر على أصل التقاء الساكنين، وذلك أنَّ ياء الإعراب ساكنة وياء المتكلم أصلها السُّكون، فلما التقيا كسرت؛ لالتقاء الساكنين.
الثاني: أنها تشبه هاء الضمير في أنَّ كلاًّ منهما ضمير على حرف واحد و «هاء» الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة، وبياء إذا كانت مكسورة، وتكسر بعد الكسرة والياء ساكنة؛ فتكسر كما تكسر الهاء في: «عَليْهِ» ، وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو «
عليهي» بياء، فحمزة كسر هذه الياء من غير صلة، إذ أصله يقتضي عدمها.
وزعم قطربٌ أنها لغة بني يربوع.
قال: يزيدون على ياء الإضافة ياء؛ وأنشد: [الرجز]
3208 - مَاضٍ إذَا ما هَمَّ بالمُضِيِّ ... قَال لهَا: هَلْ لَكِ يَا تَفِيِّ
وأنشده الفراء وقال: فإن يك ذلك صحيحاً، فهو مما يلتقي من السكانيني فنخفض الآخر منها.
وقال أبو علي: قال الفرَّاءُ في كتاب التصريف له: زعم القاسم بن معنٍ أنه صواب، وكان ثقة بصيراً.
وممن طعن عليها أبو إسحاق قال: هذه القرءاة عند جميع النحويين رديئةٌ مرذولة، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف.
وقال أبو جعفر: «صار هذا إدغاماً، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله عزَّ وجلَّ على الشذوذ» .
وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول: [الرجز]
3209 - قَال لهَا: هَلْ لكِ يَا تَافيِّ ... قالتْ لهُ: مَا أنْتَ بالمَرْضِيِّ
وكأن قدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء سكانة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح؛ لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو: عَصَاي، فما بالها وقبلها ياء؟ .(11/372)
فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل.
قلت: هذا قياس حسنٌ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات.
قال أبو حياان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «أما قولهن: واستشهدوا لها ببيت مجهول، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي، وهي لغة باقية في أفواه كثير من النَّاس إلى اليوم، يقولون: ما فيِّ أفعلُ كذا بكسر الياء» .
قال شهابُ الدِّين: الذي ذكره صاحب هذا الرجز هو الشيخ أو شامة قال ورأيته أنا في أوَّل ديوانه، وأول هذا الرجز:
3210 - أقْبَلَ فِي ثَوْبٍ مَعَافِريِّ ... عِنْدَ اختلاطِ اللَّيْلِ والعَشِيَّ
ثم قال أبوة حيان: «وأما التقدير الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عن الزجاج وأما قوله: في غضون كلامه حيثُ قبلها ألف، فلا أعلم» حيث «يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف، نحو:» قعد زيد حيث أمام عمرو بكر، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع «.
قال شهابُ الدين رَحِمَهُ اللَّهُ:» إطلاق النحاة قولهم: إنها تضاف إلى الجمل كاف في هذا، ولا يحتاج تتبع كلَّ فرد فرد مع إطلاقهم القوانين الكلية «.
ثم قال: وأما قوله: لأن ياء الإضافة إلى آخره، قد روي بسكون الياء بعد الألف، وقد قرأ بذلك القراء، نحو: {وَمَحْيَايَ} [الأنعام: 162] .
قال شهاب الدين: مجيء السُّكون في هذه الياء لا يفيده ههنا، وإنَّما كان يفيده لو جاء بها مكسورة بعد الألف فإنهن محل البحث، وأنشد النحاة بيت الذبياني بالكسر والفتح، وهو قوله: [الطويل]
3211 - عَليَّ لِعمْرٍو نِعْمةٌ بَعْندَ نِعْمةٍ ... لِوالِدهِ ليْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ
وقال الفراء في كتاب» المَعانِي «له:» وقد خفض الياء من «مصرخي» الأعمش(11/373)
ويحيى بن وثاب جميعاً حدّثني بذلك القاسم بن معنٍ عن الأعمش، ولعلها من وهنم القراء فِإنه قلَّ من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أنَّ الياء في {بِمُصْرِخِيَّ} خافضة للفظ كله، والياء للمتكلم خارجة عن ذلك؟ قال: ومما [نرى] أنهم وهموا فيه قوله {نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] بالجزم في الهاء «، ثمَّ ذكر غير ذلك.
وقال أبوعبيدٍ: أمَّا الخفض فإنا نراه غلطاً؛ لأنَّهم ظنوا أنَّ الياء تكسر كل ما بعدها، وقد كان في القراء من يجعله لحناً، ولا أحبُّ أن أبلغ به هذا كله، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها.
وقال الأخفش:» ما سمعت بهذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين «.
قال النحسا: فصار هذا إجماعاً، ولا يجوز، فقد تقدَّم ما حكاهُ النَّاس من أنها لغة ثابتة لبعض العرب.
وقد انتدب لنصرة هذه القراءة أبو علي الفارسي قال في حجَّته:» وجه ذلك أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما وكالكاف في «أكْرَمْتُكَ» وهذا لك، فكما أنَّ الهاء قد لحقها الزيادة في «هذال لهو، وضربهو» ، ولحق الكاف أيضاً الزيادة في قول من ق ل: «أعْطَاكهُ» و «أعْطَيْتكَهُ» فيما حكاهُ سيبويه وهما أختا الياء، ولحقت الياء الزيادةم في قول الشاعر: [الهزج]
3212 -، رَمَيْتِيهِ فأصْمَيْتِ ... ومَا أخْطَأتِ [في] الرَّميَه
كذلك الحقوا الياء الزائدة من المد، فقالوا: فيِّ، ثمَّ حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال: [الطويل]
3213 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... . . لَهْ أرِقَانِ
وزعم أبو الحسن: أنَّها لغة «. ومراد أبي علي بالتنظير بالبيت في قوله:» له أرِقَانِ «حذف الصلة، واتفق أن في البيت أيضاً حذف الحركمة ولو مثل بنحو» عَليْهِ «و» فِيهِ «لكان أولى.
ثمَّ قال الفارسي: كما حذفت الزيادة من الكاف فقيلك أعطيتكه، وأعطيتكيه كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختها، وأقرت الكسرة التي كانت تلي(11/374)
الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرِ.
قال\: فإذا كانت الكسرة في الياء على هذه اللغةِ، وإن كان من غيرها أفشى منها، وعضده من القياس ما ذكرنا ما لم يجز.
لقائل أن يقول: إنَّ القراءة بذلك لحن، [لاستقامة] ذلك في السَّماع والقياس، وما كان كذلك لا يكون لحناً، وهذا [التوجيه] يوضح التوجيه الثاني الذي تقدَّم ذكره، وأما التوجيه الأول فأوضحه الفراء أيضاً.
قال الزجاج:» أجاز الفراء على وجه ضعيف الكسر؛ لأن أصل التقاء السكانين الكسر «.
قال الفراء:» ألا ترى أنهم يقولون: مذُ اليوم، ومُذِ اليوم، والرفع في الذال هو الوجه؛ لأنه أصل حركة «مُذْ» والخفض جائز، فكذلك الياء من «مُصرخِيِّ» خفضت ولها أصل في النصب «.
قال شهاب الدين: تشبيه الفراء المسألة ب» مُذُ اليَوْم «فيه نظر؛ لأن الحرف الأول صحيح لم يتوالى قبله كسر، بخلاف ما نحن فيه، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ قوله المتقدم: فكأنَّها وقعت فبعد حرف صحيح، وقد اضطرب النقل عن الفراء في هذه المسألة كما ترى من [نقل] بعضهم عنه، التخطئة مرة [والتصويب] أخرى، ولعل الأمر كذلك فإنَّ العلماء يسألون فيجيبون مما يحضرهم حال السؤال، وهني مختلفة التوجيه.
الثالث: أن الكسر للإتباع لما بعدها، وهو كسر الهمزة من» إنِّي «كقراءة» الحَمْدِ للهِ «وكقولهم: بِعِير وشِعِير، وشِهِيد، سكر أوائلها إتباعاً لما بعدها وهو ضعيف جدًّا.
التوجيه الرابع: أنَّ المسوغ لهذا الكسر في الياء، وإن كان مستقلاً أنها لما أدغمت فيها التي قبلها قويت بالإدغام، فأشبهت الحروف الصحاح فاحتملت الكسر لأنه إنما يستثقل فيها إذا حذفت، وانكسر ما قبلها، ألا ترى أن حركات الإعراب تجري على المشدد، ما ذاك إلا إلحاقه بالحروف الصحاح.
والمُصْرِخ: المُغِيثُ: يقال: استصرختُه فأصرخني، أي: فأغَاثِني فكأن همزة للسكت، أي: أزَالَ صُراخِي. والصَّارخُ: هو المُسْتَغِيثُ، قال: [الطويل]
3214 - فَلاَ تَجْزَعُوا إنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ ... ولَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي غَنَاءُ ولا نَصْر
ويقال: صَرَخَ يَصْرخُ صَرْخاً وصرخة؛ قال: [البسيط](11/375)
3215 - كُنَّا إذَا مَا أتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قرْعَ الظَّنَابِيبِ
يريد: كان [الصراخ] ، فحذف المضاف، وأقام المصدر الثلاثي مقام المصدر الرباعي، نحو {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] .
والصَّريخُ: القومُ المُسْتَرخُونَ، قال: [الكامل]
3216 - قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيْتهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجمِ مُهرهِ أو سَافِعِ
والصَّريخُ: أيضاً: المعينون، فهو من الأضداد، وهو محتملٌ أن يكون [وصفاً] على «فَعِيل» كالخليطِ، وأن يكو مصدراً في الأصل، قال «فَلا صَريخَ لَهُمْ» ، فهذا يحتمل، وأن يكون فعيلاً بمعنى المفعل، أي: فلا مُصْرِخَ لهم، أي: ناصر وتصرَّخَ تكلَّف الصُّراخ.
قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} يجوز في «ما» وجهان:
[أحدهما: أن يكون بمعنى الذي، ثمَّ في المراد بعد الموصول وجهان:]
أحدهما: أنه الأصنام، تقديره: بالصَّنم الذي أشركتموني به، أي: بالصنم الذي «اطعتموني كما أطعتموه، كذا قال أبو البقاء، والعائد محذوف، فقدره أبو البقاء: بما أشركتموني به، ثم حذف يعني بعد حذف الجار، ووصول العفل إليه، ولا حاجة إلى تقديره مجروراً بالياء؛ لأن هذا الفعل متعدّ لواحد، نحو: شركتُ زيداً، فلما دخلت همزة الفعل أكسبته ثانياً، هو العائد، تقول: أشْرَكْتُ زيْداً عَمْراً، أي جعلتهُ شريكاً له.
الثاني: أنه الباري تعالى، أي: بما أشركتموني به، أي: بالله تعالى.
قال القرطبي: المعنى: أن إبليس قال: إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم، أي: أنَّ كفره كان قبل كفر أتباعه، وتكون» مَا «بمعنى» مَنْ «والكلام في العائد كما تقدَّم، إلا أن فيه إيقاع» مَا «على العاقل والمشهور أنَّها لغير العاقل.
قال الزمخشري:» ونحو «مَا» هذه «مَا» في قوله: «سُبْحانَ مَا سخَّركُنَّ لنَا» ومعنى إشراكهم الشيطان بالله تعالى طاتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان «.
قال أبو حيان:» ومن منع ذلك جعل سبحان هنا علماً على معنى التَّسبيح، كما(11/376)
جعل «برَّة» علماً للمبرة، و «ما» مصدرية ظرفية «، أي: فيكون على حذف مضاف أي: سبحان صاحب تسخيركن؛ لأن التسبيح لا يليقُ إلا بالله عزَّ وجلَّ. .
الوجه الثاني: أن» ما «مصدرية، اي: بإشراككم إياي مع الله، لي الطاعة.
قوله» مِنْ قَبْلُ «متعهلق ب» كَفرْتُ «على القول الأوَّل؛ أي كفرت من قبل حين أبَيْتُ السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتموني وهو الله سبحانه وتعالى، وب» أشْرَكْتُ «على الثاني، أي: كفرت اليوم بإشراككم إيَّاي من قبل هذا اليوم أي: في الدنيا، كقوله {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14] ، هذا قول الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ.
وجوَّز أبو البقاء متعلقه ب» كَفرْتُ «وب» أشْرَكْتمُونِي «من غير ترتيب على كون:» مَا «مصدرية أوموصولة.
فقال: و «مِنْ قَبْلُ» متعلق ب «أشْرَكْتمُونِي» ، أي: كفرت الآن بما أشركتموني من قبل.
وقيل: هي متعلقة ب «كَفرْتُ» أي: كفرت من قبل إشراككم، فلا أنفعكم شيئاً.
وقرأ ابو عمرو بإثبات الياء في «أشْرَكْتمُونِي» وصلاً، وحذفها وقفاً، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً، وهنا تم كلام الشيطان.
وقوله {إِنَّ الظالمين} من كلام الله تعالى، ويجوز أن يكون من كلام الشيطان.
و «عَذابٌ» يجوز رفعه بالجار قبله على أنَّه الخبر، وعلى الابتداء وخبره الجار.
قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية لما شرح حال الأشقياء شرح أحوال السُّعداءِ فقال، عزَّ وجلَّ {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ} قرأ العامة «أدْخِلَ» ماضياً مبنياً للمفعول، والفاعل الله أو الملائكة.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: «أدخلُ» مضارعاً مستنداً للمتكلم وهو الله تعالى فمحل الموصول على الأولى رفع، وعلى الثانية نصبٌ.
قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} في قراءة العامة يتعلق ب «أدْخِلَ» أي: أدخلوا بأمره، وتيسيره.
ويجوز تعلقه بمحذوف على أنَّه حال، أي: ملتبسين بأمر ربهم.
وجوز أبو البقاء ِأن يكون من تمام: «خَالِدينَ» يعني: أنه متعلق به، وليس بممتنع، وكذا على قراءة الشَّيخين.(11/377)
فقال الزمخشريُّ: فإن قلت: «فَبِمَ يتعلَّق في القراءةِ الأخرى، وقولك: وأدخل أنا بإذن ربهم كلام غير ملتئم؟ .
قلت: الوجه في هذه القراءة أنَّه يتعلق بما بعده، أي: تحيتهم فيها سلام بإذنِ ربهم» .
ورد عليه أبو حيَّان هذا بأنه لا يتقدم معمول المصدر عليه.
وقد علقه غير الزمخشريِّ ب «أدْخِلَ» ، ولا تنافر في ذلك؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم أنَّ المتكلم في قوله: «وأدْخِلَ» أنه هو الله تعالى.
وأحسن من هذين أن يتعلق بما بعده، أي: تحيتهم فيها سلامٌ بإن ربهم ورد في هذه القراءة بمحذوف على أنَّه حال كما تقدَّم تقديره.
و «تَحِيَّتُهُمْ» مصدر مضاف لمفعوله، أي: يحييهم الله تعالى، أو ملائكته، ويجوزم أن يكون مضافاً لفاعله، أي: يحيى بعضهم بعضاً.
ويعضد الأول {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23، 24] و {فِيهَا} متعلق به.
فصل
أعلم أنَّ الثَّواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فأشار بقوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} إلى المنفعة الخالصة واشار بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} إلى دوامها، وأشار إلى كونها مقرونة بالتعظيم بقوله {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي: بإذن الله وأمره، وبقوله عزَّ وجلَّ {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [يونس: 10] أي: أنهم يحيى بعضهم بعضاً بهذه الكلمة، أو الملائكة يحيونهم بها، كما قال تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23، 24] والرَّب الرحيم أيضاً يحييهم [بهذه الكلمة] {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] والسلام مشتقش من السلامة، أي: أنهم سلموا من آفات الدنيا آمنوا من أمرضها وأسقامها.(11/378)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
قوله تعالى: {ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} لما شرح(11/378)
أحوال الأشقياء، وأحوال السعداء ذكر مثالاً للقسمين وف «ضَرَبَ» أوجه:
أحدها: أنه متعد لواحد بمعنى اعتمد مثلاً ووضعه، و «كَلِمةً» على منصوبة بمضمر، أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طييبة، وهو تفسير لقوله: «ضَربَ اللهُ مَثلاً» كقولك: شَرفَ الأمير زيْداً كَساهُ حُلَّةً، وحلمه على ضربين، وبه بدأ الزمخشريُّ.
قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وفيهن تكلف إضمار، ولا ضرورة تدعو إليه» .
قال شهاب الدين: «بل معناه محتاج إليه فيضطر إلى تقديره محافظة على لمح هذا المعنى الخاص» .
الثاني: أنَّ «ضَرَبَ» متعدية لاثنين؛ لأنها بمعنى «صَيَّرَ» لكن مع لفظ المثل خاصة، وقد تقدَّم تقرير هذا أوَّل الكتاب، فيكون «كَلمَةٌ» مفعولاً أولا، و «مَثلاً» هوالثاني مقدم.
الثالث: أنَّه متعدٍّ لواحد، وهو «مَثَلاً» ، و «كَلمَةً» بدل منه، و «كَشجَرةٍ» خبر مبتدأ مضمر، أي: هي كشجرة طيبة وعلى الوجهين قبله يكون «كَشجَرةٍ» نعتاً ل: «كَلِمَةً» .
وقرىء «كَلِمةٌ» بالرفع، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو، أي: المثل كلمة طيبة، ويكون «كَشجَرة» على هذا نعتاً ل «كَلِمَةٍ» .
والثاني: أنَّها مرفوعة بالابتداء، و «كَشجَرةٍ» خبر.
وقرأ أنس بن مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «ثَابِتٌ أصْلُهَتا» .
قال الزمخشريُّ: فِإن قلت: أي فربق بين القراءتين؟ قلت: قراءة الجماعة أقوى معنى؛ لأنَّ قراءة أنس أجرت الصفة على الشجرة، ولو قلت: مررتُ برجُلٍ أبُوهُ قَائِمٌ، فهو أقوى من «رَجُل قَائِم أبوهُ» ؛ لأنَّ المخبر عنه إنَّما هو الأب، لا «رجل» . والجملة من قوله: «أصْلُهَا ثَابتٌ» في محلِّ جرٍّ نعتاً ل «شَجَرةٍ» .
وكذلك «تُؤتِي أكلها» ويجوز فيهما أن يكونا مستأنفين، وجواز أبو البقاء في «تُوتِي» أن يكون حالاً من معنى الجملة التي قبلها، أي: ترتفع مؤتية أكلها، وتقدم الخلاف في «أكُلَهَا» .
فصل
المعنى: ألم تعلم، والمثل: قول سائر كتشبيه شيء بشيء: «كَلِمة طَيِّبةً» هي قول: لا إله إلا الله «كَشجَرةٍ طَيِّبةٍ» وهي النَّخلةُ يريد: كشجرة طيبة الثمر.(11/379)
وقال أبو ظيبان عن ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي شجرة في الجنَّة أصلها ثابت في الأرض، وفرعها أعلاها في السماء، كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة، والتصديق، فإذا تكلَّم بها عرجت، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عزَّ وجلَّ قال تعالى:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] . ووصف الشجرة بكونها طيبة وذلك يشمل طِيبَ الصورة والشكل والمنظر، والطعم، والرائحة والمنفعة ويكون أصلها ثابت، اي: راسخٌ آمن من الانقطاع، والزوال ويكون فرعها في السماء؛ لأن ارتفاع الأغصان يدلُّ على ثبات الأصل، وأنَّها متى ارتفعت كانت عبدية عن عفونات الأرض، فكانت ثمارها نقيّة طاهرة عن جميع الشَّوائبِ، ووصفها أيضاً بأنها: «تُؤتِي أكلها كُلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها» والحين في اللغة هو الوقت، والمراد أنَّ ثمار هذه الشجرة تكون أبداً حاضرة دائمة في كلِّ الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي تكون ثمارها حضارة في بعض الأوقات دون بعض.
وقال مجاهد وعكرمة: والحين: سنة كاملة؛ لأنَّ النخلة تثمر كلَّ سنةٍ. وقال سعيد بن جبير، وقتادة والحسن: ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى حين صرامها وروي ذلك عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقيل: أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها.
وقال سعيد بن المسيب: شهران من حين أن يؤكل منها إلى الصرام.
وقال الربيع بن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كل حين، أي: كل غدوة، وعشية، لأن ثمرة النخل تؤكل أبداً ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاء إما تمراً رطباً أو بسراً، كذلك عمل المؤمن يصعد أوَّل النهار وآخره، وبركة إيمانه لا تنطقع أبداً، بل تتصل في كلِّ وقت.
والحكمةٌ في تمثيل الإيمان بالشجرة، وهي أن الشجرة لا تكون إلا ثلاثة أشياء:(11/380)
عِرقٌ رَاسخٌ، وأصلٌ قَائِمٌ، وفَرعٌ عالٍ، كذلك الإيمان لا يتمُّ إلا بثلاثة أشياء: تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأبدان.
ثم قال تعالى جل ذكره {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} والمعنى: أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام، وتذكير وتصوير للمعاني.
وقوله: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} قرىء بنصب «مثَل» عطفاً على: «مَثلَ» الأوَّلِ.
و «اجْتُثَّتْ» «صفة ل» شَجَرَةٍ «، ومعنى:» اجْتُثَّتْ «قلعت جثتها، أي: شخصها والجثة شخص الإنسان قاعداً أو قائماً ويقال: اجتث الشيء أي اقتلعه، فهو افتعال من لفظ الجثة، وجَثَثْتُ الشيء: قلعتهُ.
قال لقيط الإيادي: [البسيط]
3217 - هذَا الجَلاءًُ الَّذي يَجْتَثُّ أصْلَكُمُ ... فمَنْ رأى مِثْلَ ذَا يَوْماً ومنْ سَمِعَا
وقال الراغب:» جُثَّةٌ الشيء: شخصه النَّاتىء، والمُجَيَّةُ: ما يجثُّ بِهِ والجَثِيثَةُ لما بَانَ جُثَّتهُ بعد طَبْخهِ، والجَثْجَاثُ: نَبْتٌ «.
و» مِنْ قرارٍ «يجوز أن يكون فاعلاً بالجار قبله لاعتماده على النَّفي، وأن يكون مبتدأ، والجملة المنفية إمَّا نعت ل» شَجَرةٍ «وإمَّا حال من ضمير:» اجْتُثَّتْ «.
فصل في المراد بالشجرة الخبيثة
الكلمة الخبيثة هي الشرك:» كَشجَرةٍ خَبِيثةٍ «وهي الحنظلُ وقيل: هي الثوم.
وقيل: هي الكشوث وهل العسَّة، وهي شجرةٌ لا ورق لها، ولا عروق في الأرض.
[قال الشاعر:] [البسيط]
3218 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وهيَ كَشُوثٌ فلا أصْلٌ ولا ثَمَر
وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّها شجرة لم تخلق على وجهِ الأرض.
«اجْتُثَّت» اقتلعت من فوق الأرض «مَا لهَا من قرارٍ» ثابت، أي: ليس لها أصلٌ ثابتٌ في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء، كذلك الكافر لا خير فيه، ولا صعد له قولٌ طيب، ولا عمل صالح.(11/381)
فصل
قوله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت} كلمة التوحيد، وهي قوله: لا إله إلا الله {فِي الحياة الدنيا} يعني قبل الموت، {وَفِي الآخرة} يعني في القبر هذا قول أكثر المفسرين.
وقيل: {فِي الحياة الدنيا} في القبر عند السؤال {وَفِي الآخرة} عند البعث، والأول أصح، لما روى البراء بن عازب أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «المُسْلِمُ إذَا سُئِلَ في القَبْرِ يَشهَدُ أنَّ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحمَّداً رَسُولُ اللهِ، فذَلِكَ قولهُ سُبحانَهُ {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} قال حين يُقالُ لَهُ: مَن ربُّكَ؟ ومَا دِينُكَ؟ ومَنْ نَبيُّكَ؟ فيقول: الله ربِّي، ودينِي الإسلامُ، ونَبِيِّي مُحمَّدٌ» واالمشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، فيلقّن الله المؤمن لكمة الحق في القبر عند السؤال، ويثبته على الحق.
ومعنى «الثَّابِتِ» هو أنَّ الله تعالى إنَّما يثبتهم في القبر لمواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول.
قوله: «بالقَوْلِ» فيه وجهان:
أحدهما: تعلقه ب «يُثَبِّتُ» .
والثاني: أنه متعلق ب «آمنُوا» .
وقوله تعالى: {فِي الحياة} متعلق ب «يُثَبِّتُ» ويجوز أن يتعلق ب «الثَّابتِ» .
ثمَّ قال تعالى: {وَيُضِلُّ الله الظالمين} أي: لايهدي المشركين للجواب بالصواب في القبر {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ} من التوفيق والخذلان والتثبيت، وترك التثبيت.(11/382)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} الآية اعلم أنَّه تعالى عاد إلى وصف الكافرين فقال عَزَّ وَجَلَّ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ} .
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: {الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} هم والله كفار قريش «بدَّلُوا» أي: غيروا «نعِْمةَ اللهِ» عليم في محمد صلوات الله وسلامه عليه حيث ابتعثه الله(11/382)
منهم كفروا به: «أحَلُّوا» أنزلوا: «قَوْمهُمْ» من على كفرهم: «دَارَ البَوارِ» الهلاك.
ثم بيَّن دار البوار فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} المستقر، وقال عليٌّ: هم كفار قريش نُحروا يوم بدرٍ.
وقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو [مخزوم] ، فأما بنو أمية فمُتِّعُوا إلى حين، وأما بنو مخزوم، [فأهلكوا] يوم بدر قاله على ابن أبي طالب، وعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
وعن ابن عباس وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: نزلت في منتصري العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه.
وقال الحسنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي عامَّة في جميع المشركين.
قوله تعالى: {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} فيه أوجه:
أحدها: أن الأصل: بدلوا شكر نعمة الله كفراً، كقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 83] أي شكر رزقكم؛ وجب عليهم الشكر؛ فوضعوا موضعه الكفر.
والثاني: أنَّهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنَّهم لما كفروها سلبوها، فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر حاصلاً لهم، قالهما الزمخشريُّ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف مضاف، وقد تقدَّم أن «بدَّل» يعتدى لاثنين:
أولهما: من غير حرف.
والثاني: بالباء، وأن الجمهور هو المتروكم والمنصوب هو الحاصل، ويجوز حذف الحروف فيكون المجرور بالباء هنا هو «نِعْمَةٌ» ؛ لأنها المتروكة.
وإذاً عرف أنَّ قول الحوفي، وأبي البقاءِ: أن «كُفْراً» هو المفعولُ الثاني ليس بجيد؛ لأنه هو الَّذي يصلُ إليه الفعل بنفسه لا بحرف الجر، ما كان كذا فهو المفعول الأول.
قوله: {جَهَنَّمَ} فيه ثلاثة أوجه:(11/383)
أحدها: أنه بدلٌ من «دَارَ» .
الثاني: أنه عطف بيان لها، وعلى هذين الوجهين؛ فالإحلال يقع في الآخرة.
الثالث: أن ينتصب على الاشتغل بفعل مقدر، وعلى هذا، فالإحلال يقع في الدُّنيا، لأن قوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} أي: واقع في الآخرة.
ويؤيَّدُ هذا التأويل: قراءة ابن أبي عبلة «جَهَنَّمُ» بالرفع على أنها مبتدأ، والجملة بعده الخبر.
وتحتمل قراءة ابن أبي عبلة وجهاً آخر: وهو أن ترتفع على خبر [مبتدأ] مضمر.
و «يَصْلونهَا» حال إمَّا من: «قَوْمَهُمْ» ، وإمَّا من «دَارَ» ، وإمَّا من: «جَهنَّمَ» .
وهذا التوجيه أولى من حيث إنه لم يتقدم ما يرجح النصب، ولا ما يجعله مساوياً والقراء الجماهير على النصب، فلم يكونوا ليتركوا الأفصح؛ إلا لأنَّ المسألة ليست من الاشتغال في شيء، وهذا الذي ذكرناه أيضاً مرجح لنصبه على البديلة أو البيان على انتصابه على الاشتغال.
و «البَوار» : الهلاكُ؛ قال الشاعر: [الوافر]
3219 - فَلمْ أرَ مِثْلهُم أبْطالَ حَربٍ ... غَداةَ الرَّوْع إذْ خِيفَ البَوارُ
وأصله من [الكساد] كما قيل: كَسَدَ حتَّى فسَدَ، ولما كان الكَسَاد يُؤدِّي إلى الفَساد والهلاك أطلق عليه البوار.
ويقال: بَارَ يَبُورُ بُوراً وبَوَاراً، ورجُلُ جَائِرٌ بائِرٌ، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12] ويحتمل أن يكون مصدراً وصف به الجمع، وأن يكون جمع بائرٍ في المعنى، ومن وقوع «بُور» على الواحد قوله: [الخفيف]
3220 - يَا رسُولُ المَلِيكِ إنَّ لِسَانِي ... رَائِقٌ ما فَتقْت إذْ أنَا بُورُ
أي: هَالِكٌ.
قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ} والمراد بهذا الجعل: الحم والاعتقاد، والفعل، والأنداد الأشباه، والشركاء.(11/384)
«لِيُضلُّوا» قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ} بفتح الياءِ والباقون بضمها من أصله، واللام هي لام الجر مضمرة: «أنْ» بعدها، وهي لام العاقبة لما كان مآلهم إلى ذلك ويجز أن تكون لللتعليل.
وقيل: هي مع فتح الياء للعاقبة فقط، ومع ضمها محتملة للوجهين كأنَّ هذا القائل توهم أنهم لم يجعلوا الأنداد لضلالهم، وليس كما زعم، لأن منهم من كفر عناداً واتخذ الآلهة ليضل بنفسه.
قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ} عيشوا في الدنيا: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} {إِلَى النار} خبر «إنَّ: والمصير مصدر، و» صَارَ «التامة، أي: فإنَّ مرجعكم كائن إلى النَّار.
وأجاز الحوفيُّ أن يتعلق {إِلَى النار} ب» مَصِيرَكُمْ «.
وقد ردَّ هذا بعضهم: بأنَّه لو جعلناه مصدراً صَارَ بمعنى انتقل، و {إِلَى النار} متعلق به، بقيت» إنَّ «بلا خبر، لا يقال: خبرها حينئذ محذوف؛ لأنَّ حذفه في مثل هذا يقلُّ، وإنَّما يكثر حذفه إذا كان الاسم نكرة، والخبر ظرفاً أو جارًّا، كقوله: [المنسرح]
3221 - إنَّ مَحَلا وإنَّ مُرْتَحَلاَ ... وإنَّ في السَّفْرِ ما مضَى مَهَلا(11/385)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
لما هدد الكفار، وأوعدهم بالتَّمتُّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين بترك التمتع في الدنيا، والمبالغة في الجهاد بالنفس والمال.
وفي «يُقِيمُوا» أوجه:(11/385)
أحدها: أنه مجزومٌ بلام محذوفة، تقديره: ليقيموا، فحذفت وبقي عملها، كما يحذف الجار ويبقى عمله، كقوله: [الوافر]
3222 - مُحَمَّدُ تَفْدِ نفْسكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خِفْتَ من شَيءٍ تَبَالا
يريد: لتفدِ.
وأنشده سيبويه إلا أنَّه خصه بالشعرِ.
قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون:» يُقِيمُوا، و «يُنْفِقُوا» بمعنى: ليقيموا ولينفقوا، وليكون هذا هو المقولُ، قالوا: وإنَّما جَازَ حذف اللاَّم؛ لأنَّ الأمر الذي هو «قُلْ» عوض منها، ولو قيل: يقيموا الصلاة، وينفقوا بحذف اللاَّم لم يجز «.
ونحا ابنُ مالكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى قريب من هذا، فإنَّه جعل محذف هذه اللاَّم على أضربٍ: قليل، وكثير ومتوسط. فالكثير: أن يكمون قبله قول بصيغة الأمر، كلآية الكريمة.
والقليل: ألا يتقدم قول؛ كقوله: [الوافر]
3233 - مُحَمَّدُ تَفْدِ ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... . .
والمتوسطُ: أن يتقدَّم بغير صيغة الأمر، كقوله: [الرجز]
3224 - قُلْتُ لبَوَّابٍ لَديْهِ دَرُهَا ... تِيذَنْ فإنِّي حَمؤُهَا وجَارُهَا
الثاني: أن» يُقِيمُوا «مجزوم على جواب:» قُلْ «، وإليه نحا الأخفش والمبرد.
وقد رد النَّاس عليهما هذا؛ بأنه لا يلزمُ من قوله لهم: أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر.
وقد أجيب عن هذا: بأنَّ المراد بالبعادِ المؤمنون، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً والمؤمنون متى أمروا؛ امتثلوا.
الثالث: أنه مجزومٌ على جواب المقولِ المحذوفِ، تقديره: قل لعبادي أقيموا وأنفقوا، أي: يقيموا وينفقوا، قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ وعزاه للمبرّد، كذا ذكره جماعةٌ ولم يتعرّضوا لإفساده، وهو فاسدٌ من وجهين:
أحدهما: أن جواب الشَّرط يخالف الشَّرط إما في الفعل، وإما في الفاعل، أو(11/386)
فيهما وأمَّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل، فهو خطأ، كقولك: قُمْ يَقُمْ، والتقدير على ما ذكره في وهذا الوجه: أن يُقِيمُوا يُقِيمُوا.
والوجه الثاني: أنَّ الأمر المقدر للمواجهة، و» يُقِيمُوا «على لفظ الغيبة، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً.
قال شهاب الدين:» أمَّا الإفساد الأوَّل فقريب، وأمَّا الثاني، فليس بشيء لأنَّه يجوز أن يقول: قل لعبدي أطعني يطعك، وإن كان للغيبة بعد الموجهة باعتبار حكاية الحال «.
الرابع: أن التقدير: أن يقول هلم: أقيموا يقيموا، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية، وهذا هو القول الثاني.
الخامس: قال ابن عطية:» يحتمل أن يكون «يُقِيمُوا» جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله «قُلْ» وذلك أن تجعل «قُلْ» في هذه الآية بمعنى بَلَّغ وَأدِّ الشَّريعة يقيموا الصَّلاة «.
السادس: قال الفراء: الأمر معه شرط مقدر، تقولُ: أطِعِ الله يُدخِلْكَ الجنَّة والفرق بين هذا، وبين ما قبله: أنَّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشَّرط، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمينٍ.
السابع: قال الفارسي إنَّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر، ومعناه: أقيموا.
وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالةٌ على إعرابه.
وأجيب عن هذا: بأنه بني لوقوعه موقع المبني، كما بني المنادى في نحو: يَا زَيْدُ لوقوعه موضع الضمير.
ولو قيل: بأنَّه حذفت نونه تخفيفاً على حد حذفها في قوله: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابروا» .
وفي معمول «قُلْ» ثلاثة أوجه:
الأول: الأمر المقدر، أي: قل لهم أقيما يقيموا.
الثاني: أنه نفس «يُقِيمُوا» على ما قاله ابن عطية.
الثالث: أنَّه الجملة من قوله: {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} إلى أخره، قاله ابن عطية؟
وفيه تفكيك النَّظم، وجعل الجملة: {يُقِيمُواْ الصلاة} إلى آخرها مفلتاً مما قبله وبعده، أو يكون جواباً فصل به بين القولين، ومعموله، لكنه لا يترتب على قوله ذلك: إقامة الصلاة، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدًّا.(11/387)
وقرأ حمزة والكسائي: «لِعبَادِيْ» بسكون الياء، والباقون بفتح الياءِ لالتقاءِ الساكنين.
قوله: {سِرّاً وَعَلانِيَةً} في نصبهما ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهما حالان مما تقدجم، وفيهما الثلاث التأويلات في: زيْدٌ عدْلٌ، أي: ذَوِي سرٍّ، وعلانيةٍ، أو مُسرِّينَ مُعلِنينَ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة.
الثاني: أنهما منصوبان على الظرف، أي: وقتي سر وعلانية.
الثالث: أنهما منصوبان على المصدر، أي: إنفاق سرِّ، وإنفاق علانية.
قوله: {مِن قَبْلِكُمْ} متعلق ب: «يُقِيمُوا» و «يُنْفِقُوا» أي: يفعلون ذلك قبل هذا اليوم.
وقد تقدَّم خلاف القراء في: «لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ» .
والخِلال المُخالة، وهي المُصاحبة، يقال: خاللته خِلالاً، ومخالَّة؛ قال طرفة: [السريع]
3225 - كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ ... لا تَراكَ اللهُ لَهُ وَاضِحَه
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
3226 - صَرْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيةِ الرَّدَى ... وَلسْتُ بِمقْليِّ الخِلالِ ولا قَالِ
وقال الأخفش: خِلال جمع ل «خلة» ، نحو «بُرمَة وبِرَام» .
فصل
قال مقاتلٌ: يوم لا بيع فيه، ولا شراء، ولا مخالفة، ولا قرابة. وقد تقدَّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [254] .
فإن قيل: كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] ؟ .
فالجواب: أن الآية الدَّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المُخَاللَة بسبب ميل الطبع، ورغبة النفس، والآية الدَّالة على حصول المُخَاللَة، محمولة على الخُلَّة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبَّتهِ.
قوله تعالى: {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} الآية لما وصف أحوال السعداء،(11/388)
وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى في حصول السَّعادة معرفة الله تعالى بذاته وصفاته، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله تعالى هذين الوصفين بالدَّلائل الدالة على وجود الصَّانع، وكمل عمله وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل:
أولها: خلق السَّموات.
وثانيها: خلق الأرض.
وثالثها: قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} .
«مِنَ السَّماءِ: يجوز أني تعلق ب» أنْزلَ «، و» من «لابتداءِ الغايةِ، وأن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من» مَاءٍ «؛ لأ، هـ صفته في الأصل، وكذلك» مِنَ الثَّمراتِ «في الوجهين.
وجوَّز الزمخشري وابن عطية: أن تكون:» مِنْ «لبيان الجنس، أي: ورزقاً هو الثمرات.
وردت عليهما بأن التي للبيان إنَّما تجيء بعد المبهم، وقد يجاب عنهما؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب، وقد تقدم ذلك في البقرة [البقرة 23، 25] .
ورابعها: قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ} يجوز أن يتعلق» بأمْرهِ «ب» تَجْرِي «أي: بسببه، أو بمحذوف على أنَّها للحال، أي: ملتبسة به.
وخامسها: قوله {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} .
وسادسها، وسابعها: {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ} دائبين حال من» الشمسِ والقَمرِ «، وتقدم اشتقاق الدَّأبِ.
وثامنها وتاسعها: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} .
وعاشرها: قوله تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} العكامة على أضافة:» كُلِّ «إلى ما. وفي» مِنْ «قولان:
أحدهما: أنَّها زائدة في المفعول الثاني، أي: كل ما سألتموه وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الأخفشِ.
والثاني: أن تكون تبعيضية، أي: آتاكم بعض جميع ما سألمتوه نظراً لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف، تقديره: وآتاكم من كل ما سألتموه، وهو رأي سيبويه و» مَا «يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، والمصدر واقع موقع المفعول، أي: مسئولكم، فإن كانت مصدرية فالضمير في:» سَألتُموهُ «عائد على الله تعالى وإن كانت موصولة، أو موصوفة كان عائداً عليها، ولا يجوز أن يكون عائداً على الله تعالى، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف، لأنه إما(11/389)
أن يقدر متصلاً سألتموهوه، أو منفصلاً سألتموه إيَّاه، وكلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} .
وقرأ ابن عباس، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، والحسن، والضحاك، وعمرو بن فائد وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع رضشي الله عنهم في رواية:» مِنْ كُلِّ «منونة، وفي» مَا «على هذه القراءة وجهان:
أحدهما: أنَّها نافية، وبيه بدأ الزمخشري، فقال: و» مَا سَألتْمُوهُ «نفي ومحله النَّصب على الحال، أي: آتاكم من جميع ذلك غير سائلين.
قال شهاب الدين: ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله: «مِنْ كُلِّ» كقوله تعالى {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] .
والثاني: أنها موصولة يمعنى الذي، وهي المفعول الثاني ل «آتَاكُمْ:.
وهذا التخريج الثاني أولى؛ لأنَّ في الأول منافاة ف يالظ اهر لقراءة العامة.
قال أبو حيَّان: ِ» ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة، وبين تلك قال: ويجوز أن تكون: «مَا» موصولة على: وآتاكم من كلِّ ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به، فكأنكم طلبتموه، وسألتموه بلسان الحالِ فتأول: «مَا سَألتْمُوهُ» بمعنى ما احتجتم إليه «.
فصل
اعلم أنَّه تعالى بدأ بذكر خلق السموات، والأرض، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده.
ثمَّ قال: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} فإنَّه لولا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها، ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود.
واعلم أنَّ الماء إنمّا ينزلُ من السَّحاب إلى الأرض، وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو؛ وقيل: ينزل من السماء إلى السحاب، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} .
قال أبو مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ: لفظ» الثَّمراتِ «يقع في الاغلب على ما يحصل من الأشجار، ويقع أيضاً على الزَّرعِ والنبات، كقوله تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] .(11/390)
ثم قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32] نظره {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام} [الشورى: 32] .
واعلم أنَّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنَّما يكمل بوجود الفلك؛ لأنَّ الله تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض، وبالعكس، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ، وهي الجمال، أو بسفن البحر، وهي الفلك.
فإن قيل: ما معنى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} منع أنَّ تركيب السفينة من أعمال العبادِ؟ .
فالجوابُ: أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى عند أهنل السُّنَّة، فلا سؤال.
وأمَّا عند المعتزلة: فأنه تعالى خلق الأشجار التي تركب منها السُّفن وخلق الحديد، وسائر الآلات، وعرف العباد صنعه التركيب، وخلق الرياح، وخلق الحركات القوية فيها، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقاً لجري السفن فيها، ولولا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن.
وأضاف التسخير إلى أمره؛ لأنَّ الملك العظيم لا يوصف بأنَّه فعل، وإنَّما يقال: أمر، قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
[النحل: 40] وسخر الفلك مجازاً؛ لأنها جمادات، ولما كانت تجري على وجه الماء، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخَّر.
ثم قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} ، لأنَّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات، فأنعم الله تعالى على الخلق بتفجير الأنهار، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات، وأيضاً: فماء البحر لا يصلحُ للشرب، وإنَّما يصلح له مياه الأنهار.
ثم قال عَزَّ وَجَلَّ {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر} والانتفاع بهما عظيم قال الله سبحانه وتعالى {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} [نوح: 16] {وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61] {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] ، وتأثيرهما في إزالة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، فلولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليِّة.
ثم قال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} ومنافعهما مذكورة في القرآن، كقوله {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 10، 11] ، وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] .
قال المتكلمون: تسخير الليل، والنهار مجاز؛ لأنهما عرضٌ، والأعراض لا تسخَّر.(11/391)
ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي: أنه لم يقتصر على هذه النعم بل أعطى عباده من المنافع مالا يأتي على بعضها التَّعداد.
ثمَّ قال {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} قال الواحديُّ: «النِّعْةُ ههنا أسم أقسم مقام المصدر، يقال: أنْعَمَ اللهُ عليْهِ ينعم إنْعَاماً، ونِعْمةً، أقيم الاسم مقام الإنعام، كقوله: أنْفَقتُ عليْكَ إنْفَاقاً ونَفقَةً شيئاً واحداً، ولذلك يجمع لأنَّهُ في معنى المصدر» .
وقال غيره: «النِّعمة هنا بمعنى المُنْعَم به» .
وخُتِمَت هذه الآية ب {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} ونظيرها في النحل ب {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18] لأن في هذه تقدم قوله عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} [إبراهيم: 28] وبعده {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} [أبراهيم: 30] فجاء قوله {إِنَّ الإنسان} شاهداً بقبح من فعل ذلك فناسب ختمها بذلك.
والتي في النَّحل ذكر فيها عدة تفضيلات، وبالغ فيها، وذكر قوله جلّ ذكره {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] أي: من أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لم يقدر منها على شيء، فذكر أيضاً أن من جملة تفضلاته اتصافه بهاتين الصفتين.
وقال ابن الخطيب: «كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة؛ فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها؛ فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما: كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند أعطائها وهما: كوني غفوراً رحيماً، فكأنه تعالى يقول: إن كنت ظلوماً فأنا غفورٌ، وإنت كنت كفاراً فأنا رحيم، أعلم عجزك، وقصورك، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء» .(11/392)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} الآية لما استدل على أنَّه لا معبود إلا الله تعالى وأنَّه لا يجوز عبادة غير الله تعالى ألبتَّة، وحكة عن إبراهيم عليه السلام أنَّه طلب من الله تعالى أشياء:(11/392)
أحدها: قوله: {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} ، وتقدَّم تحريه في البقرة «وهذا البلد آمناً» ، ومسوِّل الجعل التَّصيير.
قال الزمخشري: «فإن قلت: فرق بين قوله: {اجعل هذا البلد آمِناً} وبين قوله {هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126] .
قلت: قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها، ولا يخافون، في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمناً» .
قوله «واجْنُبْنِي» ، يقال: جنَّبهُ شرًّا، وأجْنَبهُ إيَّاه ثلاثياً، ورباعياً، وهي لغة نجد وجنَّبهُ إيَّاهُ مشدَّداً، وهي لغة الحجاز وهو المنعُ، وأصله من الجانب.
وقال الراغب: «قوله تعالى: {واجنبني وَبَنِيَّ} من جَنَبْتهُ عن كذا، أي: أبْعدتهُ منه، وقيل: من جَنَبْتُ الفرس، [كأنَّما] سألهُ أن يقُودَهُ عن جانبِ الشِّرك بألطافِ منهُ وأسبابٍ خفيَّة» .
و «أنْ نعبد» على حذف الحرف، أي: عن أن نَعْبُد.
وقرأ الجحدري وعيسى الثقفي رحمهما الله «وأجْنِبْنِي» بطقع الهمزة من «أجَنَبَ» .
قال بعضهم: يقال: جَنَبْتهُ الشَّيء، وأجْنَبْتُه تَجَنُّباً، وأجْنبتهُ إجْنَاباً، بمعنى واحد.
فإن قيل: ههنا إشكالٌ من وجوه:
أحدهما: أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه دعا ربَّه أن يجعل مكَّة بلداً آمناً وقد خرب جماعة الكعبة، وأغاروا على مكَّة.
وثانيها: أن الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ معصومون من عبادة الأصنام، فما فائدة هذا الدعاء.
وثالثها: أنَّ كثيراً من أبنائه عبدوا الأصنام؛ لأنَّ كفَّار قريش كانوا من أولاده وكانوا يعبدون الأصنام فأين الإجابة؟ .
فالجواب عن الأوَّل من وجهين:
الأول: أنه نقل عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه لما فرغ من بناء الكعبة دعا بأن يجعل الله الكعبة، وتلك البلدة آمنة من الخراب.
والثاني: أنَّ المراد جعل أهلها آمنين، كقوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] والمراد أهلها، وعلى هذا أكثر المفسرين، وعلى هذا التقدير، فالمراد بالأمن ما(11/393)
اختصت به مكة من زيادة الأمن، وهو أنَّ من التجأ إلى مكَّة أمن، وكان النَّاس مع شدة عداوتهم إذا التقوا بمكَّة لا يخاف بعضهم بعضاً، ولذلك أمن الوحش، فإنهم يقربون إذا كانوا بمكة ويستوحشون من النَّاس إذا كاناو خارج مكَّة.
وعن الثاني قال الزجاج: معناه: ثَبِّتْنِي على اجتناب عبادتها، كما قال:
{واجعلنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] أي: ثبتنا على الإسلام.
ولقائل أن يقول: السؤال باقٍ، لأنه من المعلوم أنَّ الله تبارك وتعالى ثبت الأنبياء على الإسلام، واجتناب عبادة الأصنام، فما الفائدةٌ من هذا السؤال؟ .
قال ابن الخطيب: والصحيح عندي في الجواب وجهان:
الأول: أنه صلوات الله وسلامه عليه وإن كان يعلم أنَّ الله تعالى يصعمه من عبادة الأصنام، إلاّ أنه ذكر ذلك للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى في كل المطالب.
والثاني: أنَّ الصوفية يقولون: إنَّ الشرك نوعان: شركٌ ظاهرٌ، وهو الذي يقوله المشركون، وشرك خفي، وهو تعلق القلب بالأسباب الظاهرة. والتوحيد هو أن يقطع نظره عن الوسائط، وأن لا يرى متوسطاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} المراد أن يعصمه عن هذا الشرط الخفي، والله تعالى أعمل.
والجواب عن الثالث من وجوه:
أحدها: قال الزمخشري: «قوله» وبَنِيَّ: أراد بنيه [من صلبه] «.
والفائدة في هذا الدعاء غير الفائدة التي ذكرناها في قوله:» واجْنُبْنِي وبَنِيََّ «.
وثانيها: قال بعضهم: أراد من أولاده، وأولاد أولاده كل من كان موجوداً حال الدُّعاء، ولا شك أنَّ دعوته مجابة فيهم.
وثالثها: قال مجاهد: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ صنماً، والصنم هو التمثال المصور، وما ليس بصنم هو من الوثن، وكفَّار قريش ما عبدوا التمثال، وإنما كانوا بعبدون أحجاراً مخصوصة.
وهذا الجواب ليس بقوي؛ لأنَّه صلوات الله وسلامه معليه لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله، والحجر كالصَّنم في ذلك.
واربعها: أنًَّ هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده، بدليل قوله في آخر الآية(11/394)
{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} ، وذلك يفيد أنَّ من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، وقوله تبارك وتعالى لنوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] .
وخامسها: لعلَّه، وإن كان عمّ في الدعاء إلاَّ أنَّه تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] .
قوله: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} دليل على أن الكفر، والإيمان من الله تعالى لأنًَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه طلب من الله تعالى أن يجنبه، ويجنب أولاده من الكفر.
والمعتزلة يحملون ذلك على الإلطاف، وهو عدول عن الظَّاهر، وتقدم فسادهذا التأويل.
قوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً} الضمير في:» إنَّهُنَّ «و» أضْلَلْنَ «عائد على الأصنام، لأنها جمع تكسير غير عاقل.
وقوله: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} أي: من أشياعي، وأهل ديني.
وقوله {وَمَنْ عَصَانِي} شرط، ومحل «مَنْ» الرفع بالابتداء، الجواب: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والعائد محذوف، أي: لهخ.
فصل
قال السديُّ: ومن عصاني ثمَّ تاب. وقال مقاتلٌ: {وَمَنْ عَصَانِي} فيما دون الشرط.
وقيل: قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنَّهُ لا يغفر الشرك، وهذه الآية تدلُّ على إثبات الشَّفاعة في أهل الكبائر؛ لأنَّه طلب المغفرة، والرَّحمة لأولئك العصاة، ولا تخلو هذه الشفاعة من أن تكون للكفار [أو للعصاة، ولا يجوز أن تكون للكفار] ؛ لأنه تبرَّأ منهم بقوله: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} .
وقوله: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} فإنه يدلُّ بمفهومه على أنَّ من لم يتعبه على دينه، فليس منه، والأمة مجتمعة على أنَّ الشفاعة في حق الكفَّار غير جائزة؛ فثبت أن قوله: م {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} شفاعة في العصاة غير الكفَّار.
ووتلك المعصية: إمَّا أن تكون من الصغائر، أو من الكبائر بعد التَّوبة [أو من الكبائر(11/395)
قبل التوبة، والأول والثاني بطلان؛ لأن وقوله: {وَمَنْ عَصَانِي} اللفظ فيه مطلق، فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر، وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة] وجبة الغفران عند الخصوم، فلا يمكن حمل اللفظ عليه، فثبت أنَّ هذه الشفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التَّوبة.
وإذا ثبت حصول الشفاعة لإبراهيثم صلوات الله وسلامه عليه ثبت حصولها لمحمَّد عليه أفضل الصلاة والسلام لأنه لا قائل بالفرق، ولأنََّ الشفاعة أعلى المناصب، فلو حصلت لإبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع أنَّها لم تحصل لمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ذلك نقصاً في حقِّ محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} يجوز أن يكون هذا الجار صفة لمفعول محذوف، أي: أسكنت ذرية من ذريتي، ويجوز أن تكون «مِنْ» مزيدة عند الأخفش.
«بوَادٍ» أي: في وادٍ، وهو مكّة؛ لأن مكَّة وادٍ بين جبلين.
وقوله: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} كقوله {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] .
قوله: {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} يجوز أن تكون صفة ل «وَادٍ» .
وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون بدلاً منه، يعني أنَّه يكون بدل بعضه من كل؛ لأنَّ الوادي أعم من حضرة البيت.
وفيه نظرٌ، من حيث أن «عِنْدَ» لا يتصرف.
فصل
سماه محرّماً؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره.
وقيل: لأنَّ الله حرم التعرض له، والتهاون به. قيل: لأنه لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبَّار كالشيء المُحرَّم الذي يجب أن يجتنب.
وقيل: لأنه حُرِّمَ من الطوفان، أي: منع منه، كما يسمى عتيقاً؛ لأنه أعْتِقَ من الطوفان وقيل: لأن موضع البيت حرم يوم خلق الله السموات، والأرض وحفَّ بسبعة من الملائكةِ وجعل مثل البيت المعمور الذي نباه آدم صلوات الله وسلامه عليه فرفع إلى السَّماءِ.
وقيل: إنَّ الله حرَّم على عباده أن يقربوه الدماء، والأقذار وغيرها.
قوله: «لِيُقِيمُوا» : يجوز أن تكون هذه اللام لام الأمر، وأن تكون لام علة، وفي متعلقها حينئذ [وجهان] :
أحدهما: أنها متعلقة ب «أسْكَنْتُ» وهو ظاهنر، ويكون النداء معترضاً.(11/396)
الثاني: أنَّها متعلقة ب «ألأجْنُبْنِي» أي: أجنبهم الأصنام. ليقيموا. وفيه بعد.
قوله: {اجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} العامة على: «أفْئِدةً» جمع فؤاد، ك «غُرَاب وأغْرِبَة» وقرأ هشام عن بان عامر بياء بعد الهمزة، فقيل: إشباع؛ كقوله: [الطويل]
3227 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... يُحِبَّكَ عَظْمٌ فِي التُّرابِ تَرِيبُ
أي: ترب؛ وكقوله: [الرجز]
3228 - أعُوذُ باللهِ مِنَ العَقْرَابِ ... الشَّائلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ
وقد طعن جماعة على هذه القراءة، وقالوا: الإشباعُ من ضرائر الشعر، فكيف يجعل في أفصح الكلام؟ .
وزعم بعضهم: أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيل الهمزة بين بين فظنها الراوي [أنها زائدة] ياء بعد الهمزة، قال: كما توهم عن أبي عمرو اختلاسه في: «بَارِئكُمْ» ، و «يَأمُرُكمْ» أنه سكن.
وهذا ليس بشيءٍ، فإنَّ الرُّواة أجلُّ من هذا.
وقرأ زيد بنُ عليِّ: «إفادة» بزنة «رِفادة» ، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يكون مصدراً ل «أفَادَ» ك «أقَامَ إقَامَة» أي: ذوي إفادَةِ، وهم النَّاس الذين ينتفع بهم.
والثاني: أن يكون أصلها: «وفَادة» فأبدلت الواو همزة، نحو إشاح وإعَاء.
وقرأت أم الهيثم: «أفْوِدَة» بكسر الواو وفيها وجهان:
أحدهما: أن يكون جمع: «فُؤاد» المُسَهَّل وذلك أنَّ الهمزة المفتوحة المضموم ما قبلها يطرد قبلها واواً، نحو «جُون» ففعل في: «فُؤاد» المفرد ذلك فأقرت في الجمع على حالها.
والثاني: قال صاحب اللَّوامح رَحِمَهُ اللَّهُ: هي جمع «وَفْد» .
قال شهاب الدين: «فكان ينبغكمي أن يكون اللفظ» أوْفِدَة «يتقدم الواو؛ إلا أن(11/397)
يقال: إنه جمع» وَفْداً «على» أوْفِدَة «، ثم قبله فوزنه» أعْفِلَة «كقولهم: آرام» في «أرْآم» وبابه، إلاَّ أنَّه جمع «فَعْل» على «أفْعِلَة» نحو: «نَجْد وأنْجِدَة» و «وَهْي وأوْهِيَة» وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من اللغةِ.
وقرىء «آفِدة» بزنة ضاربة وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون مقلوبة من «أَفْئِدَة» بتقديم الهمزة على الفاء، فقلبت الهمزة ألفاً فوزنه: «أعْفِلَة» ك «آرام» في «أرآم» .
والثَّاني: أنها اسم فاعل: من «أَفَدَ يَافَدُ» ، أي: «قَرُبَ ودَنَا» . المعنى: جماعمةٌ آفدة أو جماعات آفدة.
وقرِىء: أَفِدَة «بالقصر، وفيها وجهان أيضاً:
أحدهما: أن تكون اسم فالع على» فَعِل «ك» فَرِح فهو فَرِحٌ «، وأن تكون مخففة من» أفْئِدَة «بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وحذف الهمزة.
و» مِنْ «في» مِنَ النَّاسِ «فيها وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية. قال الزمخشريُّ:» ويجوز أن يكون «مِن» الابتداء الغاية، كقولك: القلبُ منِّي سقيمٌ، تريد: قَلْبي، كأنه قال: أفْئدةُ ناسٍ، وإنَّما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل، لتنكير «أفْئِدَة» لأنَّها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة «.
قال أبو حيَّان:» ولا ينظر كونها للغاية؛ لأنَّه ليس لنا فعل يبتدأ فيه بغاية ينتهي إلهيا، إذ لا يصح حعل ابتداء الأفئدة من الناس «.
والثاني: أنها للتعبيض، وفي التفسير: لو لم يقل من النَّاس لحج النَّاس كلهم.
قوله: تَهْوِي» هذا هو المفعول الثاني للجعل، والعامة على: «تَهْوِي» بكسر العين، بمعنى تسرع وتطير شوقاً إليه؛ قال: [الكامل]
3229 - وإذَا رَمَيْتَ بِهِ الفِجَاجَ رَأيْتَهُ ... يَهْوِى مَخَارِمَها هُويَّ الأجْدلِ
وأصله أن يتعدى باللام، كقوله: [البسيط]
3230 - حتَّى إذَا ما هَوتْ كفُّ الوَليدِ بِهَا ... طَارتْ وفِي كفِّه مِنْ رِشهَا بِتَكُ
وإنَّما عدي بإلى؛ لأ، هـ ضمن معنى تميلُ، كقوله: [السريع](11/398)
3231 - يَهْوِي إلى مكَّة يَبْغِي الهُدَى ... ما مُؤمِنُ الجِن ككُفَّارِهَا
وقرأ أمير المؤمنين علي، وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، ومجاهدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بفتح الواو، وفيه قولان:
أحدهما: أن «إلى» زائدة، أي: تهواهم.
والثاني: أنه ضمن معنى تنزع وتميل، ومصدر الأول على «هُوّى» ؛ كقوله: [الكامل]
3232 - ... ... ... ... ... ... ... . ... يَهْوِي مَخارِمَها هُوي الأجْدلِ
ومصدر الثاني على «هَوًى» .
وقال أبو البقاء: «معناهما متقاربان، إلا أنَّ» هوى «يعني بفتح الواو متعمد بنفسه، وإنَّما عدِّي ب:» إلَى «حملاً على تميلُ» .
وقرأ مسلمة بن عبد الله: «تُهْوى» بضم التاءِ، وفتح الواو مبنياً للمفعول، من «أهْوى» المنقول من «هَوَى» اللازم، أي: يسرع بها إليهم.
فصل
قال المفسرون: قوله {أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} أدخل «مِنْ» للتعبيض، والمعنى: أسكنت من ذريتي ولداً: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} وهو مكة؛ لأنَّ مكَّة وادٍ بين جبلين: {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} .
روي عن ابن عبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أول ما أتَّخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه اتخذت منطلقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت، وليس بمكَّة يومئذ أحد، وليس فيها ماء، ووضع عندها إناء فيه تمرٌ، وسقاء فيه(11/399)
ماء ثمَّ قال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه منطلقاً، فتبعته هاجر، فقالت: يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه إلى الله، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثمَّ رجعت، فانطلق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حتَّى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثمَّ دعا الله بقوله: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} الآية ثمَّ إنها عطشت وعطش الصبي؛ فجعل يتلوى، وهي تنظر إليه، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثمَّ استقبلت الوادي تنظر أحداً، فلم تر أحداً، وهبطت من الصَّفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثمَّ سمعت سعي المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقالت عليها ونظرت هل ترى أحداً؟ فمل ترا أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فلِذلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهمَا» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، فقالت: صه {تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت، فقالت: قد أسمعتن إن كان عندك غواث} فإذا هي بالملك عند مضع زمزم؛ فضرب بعقبه حتَّى ظهر الماء، أو قال: فضرب بجناحه فغارت عينها، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَحِمَ الله أمَّ إسْمَاعِيلَ لَولا أنَّها عَجلتْ لكَانَتْ زَمْزمُ عَيْناً مَعيناً» .
ثمَّ إنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عاد بعد كبر إسماعيل، وأقرَّاهو وإسماعيل قواعد البيت.
قال القاضي: «أكثر الأمور المذكورة في هذه القصَّة بعيدة؛ لأنه لا يجوز لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أن ينقل ولده حيث لا طعام ولا ماء معه مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا: إنَّ الله أعلمه أنه يجعل هناك ماء وطعام» .
وقوله: {مِن ذُرِّيَّتِي} ، أي إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه.
{لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} قال المفسرون: جمع، وقد تهوى: تحن وتشتاقُ إليهم. قال السدي: معناه: وأمل قلوبهم إلى هذا الموضع.
قال مجاهدٌ: لو قال: أفئدة النَّاس لزاحمكم فارس والروم والترك والهند.(11/400)
وقال سعيد بن جبير: لحجَّتِ اليهود، والمجوس، ولكنه قال: {أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} فهم المسلمون.
{ارزقهم مِّنَ الثمرات} ممَّا رقزت سكان القرى ذوات الماء: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} وذلك يدعل على أن المقصود من منافع الدنيا: أن يتفرغ لأداء العبادات.
ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} ما أمرونا.
قال ابن عباس ومقاتل: من الوجد بإسماعيل، وأمه حيث أسكنهما بوادٍ غير ذي زرع. {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} .
قيل: هذا كله قول إبراهيم عليه السلام، وقال الأكثرون: قول الله تعالى؛ تصديقاً لقول إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر} وجهان:
أحدهما: أن «عَلَى» على بابها من الاستعلاء المجازي.
والثاني: أنها معنى «مع» كقوله: [المنسرح]
3233 - إنِّي على مَا تَريْنَ مِنْ كِبَرِي ... أعْلَمُ من حَيْثُ تُؤكَلُ الكَتِفُ
قال الزمخشري: «ومحلّ هذا [الجار] النصب على الحال من الياء في» وهَبَ لِي «» .
الآية تدلُّ على أنه تعالى أعطى إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم على الكبر والشيخوخة فأمَّا مقدار السنة فغير معلوم من القرآن، فالمرجعُ فيه إلى الروايات.
فروي لما ولدت إسماعيل كمان سن إبراهيم صولات الله وسلامه عليه تسعاً وتعسين سنة، ولما ولد إسحاق ك ان سنة مائة واثنتي عشرة سنة.
وقيل: ولد إسماعيل لأربع وستين سنة، وولد إسحاق [لتسعين] سنة.
وعن سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لم يولد لإبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، [وإنما ذكر هذا الكبر؛ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم؛] لأنه زمن اليأس من الولد.(11/401)
فإن قيل: إن إبراهيم صلوت الله وسلامه عليه إنَّما دعا بهذا الدُّعاء عندما أسكن هاجر وابنها إسماعيل في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت لم يكن ولد إسحاق فيكف قال: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ؟ .
فالجواب: قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: «هذا الدَّليل يقتضي أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، إنَّما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدَّم من الدعاء ويمكن إيضاً أنه صلوت الله وسلامه عليه إنَّما ذكر هذا [الدعاء] بعد كبر إسماعيل وظهرو إسحاق صلوات الله وسلامه عليهما وإن كان ظاهر الروايات بخلافه» .
فصل
المناسبة بين قوله {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} وبين قوله {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ، وذلك أنه كان في قلبه أن يطلب من الله سبحانه وتعالى إعانتهما، وإعانة ذريتهما بعد موته، ولكنَّه لم يصرِّح بهذا المطلوب بل قال: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} أي: تلعم ما في قلوبنا وضمائرنا، فقوله: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} يدلُّ ظاهراً على أنَّهما يبقيان بعد موته على سبيل الرمز والتعريض، وذلك يدلُّ على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء.
قال صلوات الله وسلامه عليه حاكياً عن ربِّه عَزَّ وَجَلَّ أنه قال: «مَنْ شَغلهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفْضَل ما أعْطِي السَّائلينَ» .
ثم قال: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} لما ذكر الدعاء على سبيل التعريض لا على وجه التصريح، قال: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} من قولك: «سَمِعَ الأميرُ كلامَ فلانٍ» إذا اعتدَّ بِهِ وقلبهُ، ومنه «سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمدَهُ» .
قوله: {لَسَمِيعُ الدعآء} فيه أوجه:
أحدهما: أن يكون «فَعِيل» مثال مبالغة مضافاً إلى مفعوله وإضافته من نصب، وهذا دليل سيبويه على أن «فعيلاً» يعمل عمل اسم الفاعل، ون كان قد خالفهُ جمهور البصريين والكوفيين.
الثاني: أنَّ الإضافة ليست من نصب، وإنَّما هو كقولك: «هذا ضَارِب ازيد أمس» .
الثالث: أن «سميعاً» مضاف لمرفوعه، ويجعل دعاء الله سميعاً على المجاز والمراد: سماع الله، قاله الزمخشريُّ.
قال أبو حيَّان: «وهو بعيد لاستلازمه أن يكون من الصفة المشبهة والصفة متعدية(11/402)
وهذا إنما يتأتى على قول الفارسي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى فإنه يجيز أن تكون المشبهة من الفعل المتعدي بشرط أمن اللبس، نحو: زيدٌ ظالم العبيدَ، إذا علم أنَّ له عبيد ظالمين، وأما ههنا فاللبس حاصل، إذ الظاهر من إضافته المثل للمفعول لا الفاعل» .
قال شهاب الدين: «واللَّبس أيضاً هنا منتف؛ لأنَّ المعنى على الإسناد المجازي كما تقرر» .
قوله: {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة} أي: من المحافظين عليها.
واحتجُّوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنَّ قول إبراهيم عليه الصلاة والسلا م {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} يدلُّ على أنت ترك المنيهات لا يحصل إلا من الله تعالى.
وقوله: {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي} يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى.
قوله: {وَمِن ذُرِّيَتِي} «عطف على المفعول الأول ل» اجْعَلْنِي «أي: واجعل بعض ذريتي مقيم الصلاة، وهذا الجار في الحقيقة صفةٌ لذلك المفعول المحذوف، أي: وبعضاً من ذريتي» .
وإنَّما ذكر هذا التعبيض؛ لأنه علم بإعلام الله سبحانه وتعالى أنَّه يكون في ذريته جمعاً من الكفار لقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] .
وقوله {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} قرأ ابو عمرو، وحمزة وورش، والبزي بإثبات الياء وصلاَ وحذفها وقفاً، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، ووقد روى بعضهم بإثباتها وقفاً أيضاً.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: معناه: تتقبل عملي، وعبادتي، سمى العبادة دعاء.
قال صلوات الله وسلامه عليه «الدُّعَاءُ مُخٌّ العِبادَةِ» .
وقال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48] وقيل: معناه: استجب دعائي.
قوله: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} العامة على «والديَّ» بالألف بعد الواو وتشديد الياء،(11/403)
وإبن جبير كذلك إلا أنه سكن الياء أراد والده وحده، كقوله {واغفر لأبي} [الشعراء: 86] .
وقرأ الحسين بن علي، ومحمد بن زيد ابنا علي بن الحسين وابن يعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «ولِولدَيَّ» ودمن ألف، تثنية «وَلد» ، ويعنى بهما: إسماعيل، وإسحاق وأنكرها الجحدري بأن في مصحف أبي «ولأبويَّ» فهي مفسرة لقراءة العامة.
وروي عن ابن يعمر أنه قرأ: «وَلِوُلدِي» بضم الواو، وسكون الياء، وفيها تأويلان:
أحدهما: أنه جمع ولد كأسْد في أسَد.
وأن يكون لغة في الولد، الحُزْنِ والحَزَن، والعُدْمِ والعَدَم، والبُخْلِ والبَخَل، وعليه قول الشاعر: [الطويل]
3234 - فَليْتَ زِيَاداً كَان فِي بَطْنِ أمِّهِ ... وليْتَ زِيَاداً كَانَ وُلْدَ حِمَارِ
وقد قرىء بذلك في مريم، والزخرف، ونوح في السبعة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
و «يَوْمَ» [نصب] ب «اغْفِرْ» .
فِإن قيل: طلب المغفرة إنَّما يكون بعد الذنب، وهو صلوات الله وسلامه عليه كان قاطعاً بأن الله يغفر له، فكيف طلب ما كان قاطعاً بحصوله؟ .
فالجواب: المقصود منه الالتجاء إلى الله، وقطع الطَّمع إلاَّ من فضل الله تعالى وكرمه.
فإن قيل: كيف جاز أن يستغفر لأبويه، كانا كافرين؟ .
فالجواب: من وجوه:
الأول: أن المنع لا يعلم إلا بالتوقيف، فلعله لم يجد [منعاً] ، فظن جوازهن.
الثاني: أراد بالوالدين آدم وحواء صلوات الله وسلامه عليهما.
الثالث: كان ذلك بشرط الإسلام.
فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً، ولو لم يكن باطلاً لبطل قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة4] .(11/404)
فالجواب: أن الله تعالى بين عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.
وقال بعضهم: كانت أمه مؤمنة، ولهذا خص أباه بالذكر في قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] .
في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الحسابيوم يَقُومُ الحساب} قولان:
الأول: يقوم إلى بيت المقدس، وهو مشتقّ من قيام القائم على الرجل، كقولهم: قَامِتِ الحرُ على ساقها، ونظيره: قوله: قامت الشمس أي: اشتعلت، وثبت ضوؤها كأنَّها قامت على رجل.
الثاني: أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز، كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] ٍ.(11/405)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} لما بين دلائل التَّوحيد ثمَّ حكاى عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنه طلب من الله العظيم أن يصونه عن الشرك، وأن يوفقه للأعمال الصَّالحة، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة، ذكر بعده ما يدل على وجود القيامة، فهو قوله عزَّ وجلَّ {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} وذلك تنبيه على أنَّه تبارك وتعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظَّالم للزم إمَّا أن يكون غافلاً عن ذلك الظَّالم، أو عاجزاً عن الانتقام، أو كان راضياً بذلك الظُّلم ولما كانت الغفلة، والعجز، والرِّضا بالظُّلم محالاً على الله امتنع أن لاينتقم من الظَّالم للمظلوم.
فإن قيل: كيف يليقُ بالرَّسُول صلوات الله وسلامه عليه أن يحسب الله عزَّ وجلَّ موصوفاً بالغفلةِ؟ .(11/405)
فالجواب من وجوه:
الأول: المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب إن كان غافلاً، كقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ} [القصص: 88] .
والثاني: المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظالم، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً للك أحد لا جرم كان عدمُ الانتقام محالاً.
الثالث: أنَّ المراد: ولا تحسبنه يعاملهم الله معاملة الغافل عمَّا يعملون، ولكن معالمة الرَّقيب عليهم المحاسب على النقير، والقطمير.
الرابع: أنَّ هذا الخطاب، وإن كان خطاباً للنبِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الظاهر إلا أنه خطاب مع الأمَّة.
قال سفيان بن عيينة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هذا تسلية للمظلوم، وتهديد للظَّالم.
قوله: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} أي: لأجل يوم، فاللام للعلَّة.
وقيل: بمعنى «إلى» أي: للغاية.
وقرأ العامة «يُؤخِّرهُمْ» بالياء، لتقدم اسم الله تعالى. وقرأ الحسن والسلمي، والأعرج، [وخلائق] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «نُؤخِّرهُم» بنون العظمة.
ويروى عن أبي عمرو «نُؤخِّرُهمْ» بنون العظمة.
و «تَشْخَصُ» صفلة ل «يَوْمِ» . ومعنى شُخُوصِ البصرِ حدَّةُ النَّظر، وعدم استقراره في مكانه، ويقال: شَخَصَ سَمْعُه، وبَصَرُه، وأشْخَصَهُمَا صَاحِبهُما، وشَخَصَ بَصَره، أي: لم يطرف جفنهُ، وشخوص البصر يدلُّ على الحيرة والدهشة، ويقال: شخص من بلده أي: بعد والشخصُ: سواد الإنسان المرئيّ من بعيد.
قوله: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} حالان من المضاف المحذوف إذا التقدير: أصحاب الأبصار، إذا يقال: شَخَسَ زَيْدٌ بصرهُ، أو تكون الأبصار دلَّت على أربابها فجاءت الحال من المدلول عليه، قالهما أبو البقاءِ.
وقيل: «مُهْطِعين» منصوب بفعل مقدر، أي: تبصرهم مهطعين، ويجوز في «مُقْنِعِي» أن يكون حالاً من الضمير في: «مُهْطِعِينَ» فيكون حالاً، وإضافة: «مُقْنِعِي» غير حقيقة؛ فلذلك وقع حالاً.
والإهْطَاعُ: قيل: الإسرْاعُ في المشيِ؛ قال: [البسيط](11/406)
3235 - إذَا دَعانَا فأهْطَعْنَا لِدَعْوتهِ ... دَاعٍ سَمِيعٌ فَلفُّونَا وسَاقُونَا
وقال: [الكامل]
3236 - وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ عِنانَهُ ... فِي رَأْسِ جِذْعٍ ... ... ... ... ... ... ...
وقال أبو عبيدة: قد يكون الإسراع [مع] إدامة النَّظر.
وقال الراغب: «هَطَعَ» الرَّجلُ بِبصَرهِ إذَا صَوَّبهُ، وبَعِيرٌ مُهْطِعٌ إذا صوَّب عُنُقهُ «.
وقال الأخفش: هُو الإقْبَالُ على الإصغاءِ، وأنشد: [الوافر]
3237 - بِدجْلةَ دَراهُم ولقَدْ أرَاهُمْ ... بِدجْلةَ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ
والمعنى: مُقبلينَ برءوسهم إلى سماعِ الدَّاعِي.
وقال ثعلبٌ:» هَطَعَ الرَّجلُ إذا نظرَ بذُلِّ وخُشوعٍ لا يقلع بِبصَره إلى السماء «. وهذا موافقٌ لقول أبي عبيدة؛ فقد سمع فيه:» أهْطََعَ وهَطَعَ «رباعيًّا وثلاثيًّا.
والإقناعُ: رفع الرَّأسِ، وإدامة النَّظر من غير التفات إلى شغيره، قاله القتبيُّ، وابنُ عرفة.
ومنه قوله يصف إبلاً ترعى أعالي الشَّجر؛ فترفع رءوسها: [الوافر]
3238 - يُبَاكِرْنَ العِضاهَ بِمُقنَعَاتٍ ... نَواجِذُهُنَّ كالحِدَإ الوَقِيعِ
ويقال: أقْنَعَ رأسه، أي: طأطأها، ونكَّسها فهو من الأضداد، والقَناعةُ: الاجتزاءُ باليسيرِ، ومعنى قَنَعَ عن كذا: أي: رفع رأسه عن السؤال. وفَمٌ مُقَنَّعٌ: معطوف الأسنان إليه داخلة، ورجُلٌّ مُقنَّعٌ بالتشديد، ويقال: قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعَةً، وقَنَعاً، إذا رَضِيَ، وقنع قُنُوعاً، إذا سَألَ، [فوقع] الفرق بالمصدر.
وقال الراغب: قال بعضهم: أصل هذه الكلمة من القناعِ، وهو ما يُغطِّي الرَّأس(11/407)
والقَانِعُ: من يَلِجُّ في السؤال فيرضى بِما يَأتيهِ، كقوله: [الوافر]
3239 - لَمَالُ المَرْءِ يًصْلِحُه فيُغْنِي ... مَفَاقِرهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوعِ
ورجل مقنَّعٌ: تَقنَّعَ بِهِ؛ قال: [الطويل]
3240 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... شُهُودِي على ليْلَى عُدولٌ مَقانِعُ
ومنى الآية: أنَّ المعتاد فيمن شاهد البلاء أنَّه يطرق رأسه عنه لئلا يراه، فبين تعالى أنَّ حالهم بخلاف هذا المعتاد، وأنهم يرفعون رءوسهم.
والرُّءُوسُ: جمعُ رأسِ، وهو مؤنَّثٌ، ويُجمع في القلَّةِ على أرؤس، وفي الكثرة على» رُءُوس «والأرَاسُ: العظيم الرأس، ويعبر به عن الرَّجل العظيم كالوجه، والرِّسُّ مشتقًّ من ذلك ورِيَاسُ السَّيف مقبضه، وشاةٌ رَأْسَى: أسودَّتْ رأسَها.
قوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} في محل نصب على الحال من الضمير في:» مُقْنِعِي «ويجوزو أن يكون بدلاً من:» مُقْنِعِي «، كذا قاله أبو البقاء، يعني أنه يحل محله، ويجوز أن يكون استئنافاً، والطرف في الأصل مصدر، وأطلق على الفاعل، كقولهم:» مَا فِيهِمْ عينٌ تَطْرف «، الطَّرفُ هنا: العَيْنُ قال الشاعر: [الكامل]
3241 - وأغُضُّ طَرْفِي ما بَدتْ لِي جَارتِي ... حتَّى يُوارِي جَارتِي مَاوَاهَا
والطَّرفُ: الجِفْنُ أيضاً، يقال: ما طبق طرفهُ، أي: حفنهُ على الآخر، الطَّرفُ أيضاً: تحركُ الجِفْنِ.
ومعنى الآية: دوام ذلك الشُّخوصِ.
قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} » يجوز أن يكون استئنافاً، وأن يكون حالاً، والعامل فيه إمَّا «يَرتَدُّ» وإمَّا ما قبله من العوامل، وأفرد: «هَواءٌ» ، وإن كان خبراً عن جمع؛ لأنَّه في معنى فارغة متجوفة، ولو لم يقصد ذلك لقال: أهوية ليطابق الخبر مبتدأه «.
والهَواءُ: الخَالِي من الأجسامِ ويُعبَّرُ به عن الجُبْنِ، يقال: جوفهُ هواء، أي: فارغ؛ قال زهيرٌ: [الوافر](11/408)
3242 - كَانَّ الرَّجلَ مِنْهَا فوقَ صَعْل ... مِنَ الظِّلمانِ جُؤجؤهُ هَواءُ
وقال حسَّان بن ثابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [الوافر]
3243 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... فانْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَواءُ
النَّخْبُ: الذي أخذت نخبته أي: خِيارهُ، ويقال: قلب فلانٍ هواء: إذا كان جَباناً للقوة في قلبه.
والمعنى: أنَّ قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جمع الخواطر، والأفكار لعظم ما نالهم من الحيرة لما تحقَّقوهُ من العذاب، وخيالة من كلِّ سرور لكثرة ما هم فيه من الحزِنِ.
قوله: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} قال أبو البقاء: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ} معفول ثان ل: «أنْذر» ، أي: خوفهم عذاب يوم، وكذا قاله الزمخشريُّ.
وفيه نظرٌ، إذ يؤول إلى قولك: أنذرهم عذاب يوم يأتيهم العذاب، ولا حاجة إلى ذلك، ولا جائز أن يكون ظرفاً؛ لأنَّ ذلك اليوم لا إنذار فيه سواء قيل: إنه يوم القيامة، أو يوم هلاكهم، أو يوم تلقاهم الملائكةُ.
والألف واللام في: «العَذابُ» للمعهود السَّابق، أي: وأنذرهم يوم يأتيهم العذاب الذي تقدَّم ذكره، وهو شخوصُ الأبصار، وكونهم مهطعين مقنعي رءوسهم.
فصل
حمل أبو مسلم قوله: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} على أنه حال المعاينة، لأنَّ هذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] ، وظاهر الآية يشهد بخلافه؛ لأنه تعالى وصف اليوم بأن العذاب يأتيهم فيه، وأنهم يسألون الرجعة، ويقال لهم: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} ؟ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة.
ثمَّ حكى تعالى عنهم ما يقولون في ذلك اليوم: {فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} قال بعضهم: طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرَّطوا فيه.(11/409)
وقيل: طلبوا الرُّجوع إلى حال التَّكليف لقولهم: {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} ، فقوله: «نُجِبْ» جواب الأمرِ.
قوله: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ} قال الزمشخري: «على إرادة القول وفيه وجهان: أن تقولوا ذلك أشراً وبطراً، أو تقولوه بلسان الحال حيث بنوة شديداً، وأملوا بعيداً» .
و «مَا لكُمْ» جواب القسم، وإنَّما جاء بلفظ الخطاب لقوله: «أقْسَمْتُمْ» ، ولو جاء بلفظ المقسمين لقيل: «مَا لنَا» .
وقدَّر أبو حيَّان ذلك القول هنا من قول الله عزَّ وجلَّ أو الملائكة عليهم السلام أي: فيقال لهم: «أو لم تكونوا» ، وهوأظهر من الأول، أعني؟ : جريان القول من غيرهم لا منهم، والمعنى: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ} أراد قوله:
{وَأَقْسَمُواْ
بالله
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] إلى غير ذلك ممَّا كانوا ينكرونه.
قوله: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ} وأصل «سَكَنَ» التَّعدي ب «في» كما في هذه الآية، وقد يتعدى بنفسه.
قال الزمخشريُّ: «السكنى من السكونِ الذي هو اللَّبثُ، من الأصل تعديه ب» في «كقولك: قرَّ في الدَّارِ وأقام فيِهَا، ولكنَّه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه، فقيل: سكن الدَّار كما قيل: تَبَوَّأها، وأوطنَها، ويجوز أن يكون من السُّكونِ، أي: قرُّوا فيها واطمأنُوا» .
والمعنى: وسكنتم في مساكن الذين كفورا قبلكم كقوم نوح، وعادٍ، وثمود و: {ظلموا أَنفُسَهُمْ} بالكفر؛ لأن من شاهد هذه الحال؛ وجب عليه أنّ يعتبر، وإذا لم يعتبر يستوجب الذَّم والتقريع.
قوله: «وتَبيَّنَ لَكُمْ» فاعله مضمر لدلالة الكلام عليه، أي حالهم وخبرهم وهلاكهم، و «كَيْفَ» نصب ب «فَعلْنَا» وحملة الاستفهام ليست معمولة ل «تَبيَّنَ؛ لأنه من الأفعال التي لا تعلق، ولا جائز أن يكون:» كَيْفَ «فاعلاً؛ لأنَّها إمَّا شرطية، أو استفهامية وكلاهما لايعمل فيه ما تقدمه، والفاعل لا يتقدَّم عندنا.
وقال بعض الكوفيين: إنَّ جملة:» كَيْفَ فَعلْنَا «هو الفاعل، وهم يجيزون أن تكون الجملة فاعلاً، وقد تقدَّم هذا في قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] .
والعامة على» تَبيَّنَ «فعلاً ماضياً، وقرأ عمر بن الخطاب، والسلمي رَضِيَ اللَّهُ(11/410)
عَنْهما في رواية عنهما:» ونُبيِّنُ «بضمِّ النون الأولى والثانية، مضارع:» بيَّن «، وهو خبر مبتدأ مضمر، والجملة حالٌ، أي: ونحن نبين.
وقرأ السلمي فيما نقل المهدويُّ كذلك إلا أنه سكن النون للجزم نسقاً على» تَكُونُوا «فيكون داخلاً في حيز التقدير.
فصل
والمعنى: عرفتم عقوبتنا إياهم، وضربنا لكم الأمثال في القرآن ممَّا يعلم به أنَّه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وقادر على التَّعذيب المؤجَّل كما يفعل الهلاك المعجَّل.
قوله: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} قيل: الضمير عائدٌ إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.
وقيل: أراد قوم محمد صلى الله عليه سلم لقوله تعالى: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} يا محمد، وقد مكروا قومك مكرهم وذلك في قوله تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] .
وقيل: المراد من هذا المكر ما نقل: أن نمروذاً حاول الصُّعود إلى السماءِ، فاتَّخذ لنفسه تابوتاً، وربط قوائمه الأربعة بأربعة نسورٍ، وكان قد جوَّعها، وجعل لها في جوانب التابوت الأربعة عصياً، وعلم عليها اللحم، ثم جلس مع صاحب له في التابوت، فلمَّا أبصرت النسور اللحم تصاعدت في الجو ثلاثة أيام، وغابت الدنيا عن عين نمروذ، ثمَّ نكَّس العصيّ التي كان عليها اللحم فهبطت النُّسور إلى الأرض.
قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا بعيد جدًّا؛ لأنَّ الخطر فيه عظيم، ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء فيه خبر، ولا دليل» .
قال القشيري: وهذا جائزٌ بتقدير خلق الحياةِ في الحبالِ، وذكر الماورديُّ عن بان عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّ النمرود بن كعنان بنى الصَّرح في قرية الرسِّ من سواد الكوفة، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع، وخمسة وعشرين ذراعاً، وصعد فيه مع النُّّسور، فلمَّا علم أنه ليس له سبيل إلى السماء اتَّخذ حصناً، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه، فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعى الصَّرح علهيم، فهلكوا جميعاً فهذا معنى قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} .
قوله: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} يجوز أن يكون هذا المصدر مضافاً لفاعله كالأول بمعنى(11/411)
أنَّ مكرهم الذي مكروه جزاؤه عند الله، أو للمفعول، بمعنى أن عند الله مكرهم الذي يمكرهم به، أي: يعذبهم قالمها الزمخشريُّ.
قال أبو حيان: «وهذا لايصحُّ إلاَّ إن كان» مَكَرَ «يتعدى بنفسه كما قال هو إذ قد يمكرهم به، والمحفوظ أن» مَكَرَ «لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسه، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 30] وتقول: زيدٌ ممكور به، ولا يحفظ: زيدٌ ممكورٌ بسبب كذا.
قوله: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} قرأ العامة بكسر لام» لِتَزولَ «الأولى، والكسائي بفتحها.
فأما القراءة الأولى، ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّها نافيةٌ، واللام بعدها لام الجحودِ؛ لأنَّها بعد كونٍ منفيّ، وفي» كَانَ «حينئذ قولان:
أحدهما: أنَّها تامَّة، والمعنى؛ تحقير مكرهم، أنَّه ما كان لتزول منه الشَّرائع التي كالجبال في ثبوتها وقوَّتها.
ويؤيد كونها نافية قراءة عبد الله: (وما كان مَكْرُهُمْ) .
القول الثاني: أنَّها ناقصةٌ، وفي خبرها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين، هل هو محذوف، واللام متعلقة به؟ وإليه ذهب البصريون، أو هو اللام، وما جرته كما [هو مذهب] الكوفيين؟ وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران.
الوجه الثاني: أن تكون المخففة من الثقيلة.
قال الزمخشري:» وإن عظم مركهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته، أي: وإن كان مكرهم معدًّا لذلك «.
وقال ابن عطية:» ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءة: تعظيم مكرهم، أي: وإن كان شديداً إنما يفعل ليذهب به عظام الامور «، فمهوم هذين الكلامين أنها مخففةٌ؛ لأنَّه إثبات.
والثالث: أنها شرطيةٌ، وجوابها محذوفٌ، أي: وإن كان مكرهم مقدراً لإزالةِ أشباه(11/412)
الجبال الرَّواسي، وهي المعجزات، والآيات، فالله مجازيهم بمكرهم، وأعظم منه.
وقد رجِّح الوجهان الأخيران على الأوَّل، وهو: أنها نافية؛ لأنَّ فيه معارضة لقراءة الكاسئي في ذلك؛ لأنَّ قراءته تؤذن بالإثبات، وقراءة غيره تؤذن بالنَّفي.
وقد أجاب بعضهم عن ذلك: بأنَّ الجبال في قراءة الكسائي مشار بها إلى أمور عظام غير الإسلام، ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها، وفي قراءة الجماعة مشار لها إلى ما جاء به النبيُّ المختار صلوات الله وسلامه عليه من الدين الحق، فلا تعارض إذ لم يتوارد على معنى واحد نفياً، وإثباتاً.
وأمَّا قراءة الكسائيِّ ففي: «إنْ» وجهان:
مذهبُ البصريين أنََّها المخففة واللام فارقة، ومذهب الكوفيين أنَّها نافية، واللام بمعنى: «إلاَّ» وقد تقدَّم تحقيق المذهبين.
وقرأ عمر، وعلي، وعبد الله، وزيد بن علي، وأبو سلمة وجماعة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم (وإن كاد مكرهم لتزول) كقراءة الكسائي، إلاََّ أنهم جعلوا مكان نون: «كَانَ» دالاً، فعل مقاربة، وتخريجها كما تقدَّم، ولكن الزوال غير واقع.
وقرىءك «لَتَزُولَ» بفتح اللامين، وتخريجها على إشاكالها أنها جاءت على لغة من لا يفتح لام كي.
فصل
في الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان:
أحدهما: جبال الأرض.
الثاني: الإسلامُ، والقرآن؛ لأنَّ ثبوته، ورسوخه كالجبالِ.
وقال االقشيريُّ: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي: هو عالم بذلك فيجازيهم، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف.
قوله تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} لما بين في الآية الأولى أنه ينتصر للمظلوم من الظَّالم بين هاهنا أنه لا يخلف الوعد.
قوله: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ} العامة على إضافة: «مخْلِفَ» إلى «وعْدِهِ» وفيها وجهان:
أظهرهما: أن «مُخْلفَ» يتعدَّى لاثنين كفعله، فقدم المفعول الثاني، وأضيف إليه إسم الفاعل تخفيفاً، نحو: هذا كَاسِي جُبَّةِ زيْدٍ.
قال الفراء وقطرب: لما تعدَّى إليهما جميعاً، لم يبالِ بالتقديم والتأخير.(11/413)
وقال الزمخشري: فإن قلت: هلاَّ قيل: مُخْلف رسله وعده؟ ولم قدَّم المفعول الثاني على الأول؟ .
قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد، ثم قال: «رُسلهُ» ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، كيف يخلف رسله؟ .
وقال أبو البقاء: هو قريبُ من قولهم: [الرجز]
3244 - يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارِ ... وأنشد بعضهم نظير الآية الكريمة قول الشاعر: [الطويل]
3245 - تَرَى الثَّورَ فِيهَا مُدخِلَ الظلِّ رَأسَهُ ... وسَائرِهُ بَاردٍ إلى الشَّمْسِ أجْمعُ
والحسبان هنا: الأمر [المتيقن] ، كقوله: [الطويل]
3246 - فَلا تَحْسَبنْ أنِّي أضلُّ مَنيَّتِي ... وكُلُّ امرىءٍ كَأسَ الحِمام: ِ يَذُوقُ
الثاني: أنه متعد لواحد، وهو «وعْدهِ» ، وأمَّا «رُسلهُ» فمنصوب بالمصدر فإنَّه ينحلْ بحرف مصدريّ، وفعل تقديره: مخلف ما وعد رسله، ف «ما» مصدريَّة لا بمعنى الذي؟
وقرأت جماعة: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} بنصب: «وَعْدهُ» وجر: رسُلهِ «فصلاً بالمفعول بين المتضايفين، هي كقراءة ابن عامرٍ: {قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُكرائِهِمْ) .
قال الزمخشري مجرأة منه: «وهذه في الضعف [كقراءة] (قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُركائِهِمْ) .
ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام} غالب لأهل المكر، ذو انتقام لأوليائه منهم.
قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [لما بين أنه عزيز ذو انتقام، بين وقت انتقامه، فقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} ] ويجوز في» يَوْمَ «عدة أوجه:
أحدها: أن ينتصب منصوباً ب» انتقام «أي: يقع انتقامه في ذلك اليوم.
الثاني: أن ينتصب ب» اذكُر «.
الثالث: ِأن ينتصب بما يتلخص من معنى عزيز ذو انتقام.
الرابع: أن يكون بدلاً من:» يَوْمَ يَأتِيهِمْ «.(11/414)
الخامس: أن ينتصب ب:» مُخْلِفَ «.
السادس: أن ينتصب ب» وَعْدِهِ «، و» إنَّ «وما بعدها اعتراض.
ومنع أبو البقاء هذه الآخرين، قال:» لأن ما قبل «إنَّ» لا يعمل فيما بعدها «.
وهذا غير مانع؛ لأنه كما تقدَّم اعتراض، فلا يبالى به فاصلاً.
فصل
التَّبديلُ يحتمل وجهين:
الأول: أن تكون الذَّات باقية، وتبدل الصفة بصفة أخرى، كما تقول: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر، منه قوله تعالى: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، ويقال: بدلَّلتُ قَمِيصِي جُبَّة، إذا قلبت عَيْنَهُ فجعلتهُ جُبَّةٌ، وقال الشاعر: [الطويل]
3247 - فَمَا النَّاسُ بالنَّاسِ الذينَ عَرَفْتهُمْ ... ولا الدَّارُ بالدَّارِ الَّتي أنْتَ تَعْلمُ
الثاني: أنْ تُفني الذات، وتحدث ذاتاً أخرى، كقولك: بدَّلتُ الدَّراهمَ دنَانِيرَ ومنه قوله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] .
وإذا عرفت أن اللفظ محتمل للوجهين ففي الآية قولان:
الأول: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هي تلك الأرض، إلاَّ أنها تغير صفتها فتسيرُ عنها جبالها، وتفجر أنهارها، وتسوى، فلا {ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً} [طه: 107] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» تُبدَّلُ الأرضُ غيكر الأرْضِ، فيَبْسُطهَا، ويمُدُهَا مدَّ الأدِيم [العكاظي] لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً «وتبدل السموات باتثارِ كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها؛ وخسوف قمرها، وكونها تكن تارة كالمهل، وتارة كالدهان.
والقول الثاني: تبديل الذات. قال ابن مسعود رضي الله عه: تبدل بأرض كالفضَّة البيضاء النَّقية، لم يسفك فيها د مٌ، ولم يعمل عليها خطيئة.(11/415)
والقائلون بالقول الأول هم الذين يقولون عند قيام القيامةِ: لا يعدم الله الذوات والأجسام، وإنَّما يعدم صفاتها.
وقيل: المراد من تبديل الأرض والسموات: هو أنَّ الله تعالى، يجعل الأرض جهنم، ويجعل السموات الجنة بدليل قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ}
[المطففين: 7] وقوله عزَّ وجلَّ {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] .
وقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: سألتُ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] أيْنَ تكُون النَّاس يَوْمئذٍ؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «على الصِّراطِ» .
وروى ثوبانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن حبْراً من اليهودِ سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيْنَ تكُونُ النَّاسُ يَومَ تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ؟ قال: «هُمْ في الظُّلمةِ دون الجِسْرِ» .
قوله «والسَّمواتِ» تقديره: وتبدل السموات غير السموات.
وقرىء: «نُبَدّلُ» بالنون: «الأرض» نصباً «والسَّمواتِ» نسق عليه.
قوله «وبَرَزُوا» فيه وجهان:
أحدهما: أنها حملةٌ مستأنفة، أي: يبرزون، كذا قدَّره أبو البقاءِ، يعنى أنه ماض يراد به الاستقبال، والأحسن أنه مثل {ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50] {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} [الحجر: 2] {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] لتحقُّّق ذلك.
والثاني: أنها حال من «الأرض» ، و «قَدْ» معها مرادة، قاله أبو البقاءِ ويكون الضمير في: «بَرَزُوا» للخلق دلّ عليه السِّياق، والرَّابط بين الحال، وصاحبها الواو.
وقرأ زيد بن علي «وبُرِّزُوا» بضم الباء، وكسر الرَّاء مشددة عل التَّكثير في الفعل ومفعوله، وتقدَّم الكلام في معنى البروز عند قوله تعالى {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً} [إبراهيم: 21] ، وإنما ذكر «الوَاحدِ القهَّارِ» هنا؛ لأنَّ الملك إذا كان لمالك واحد غالبٍ لا يغلبُ،(11/416)
قهَّار لا يقهر، فلا يستغاث بأحد عغيره، فكان الأمر في غية الصعوبة ولما وصف نفسه تعالى بكونه قهاراً، بيَّن عجزهم، وذلتهم فقال: «وتَرَى المُجْرمينَ» وصفهم بصفات:
الأولى: قوله: {مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} «يجوز أن يكون حالاً على أنَّ الرؤية بصريّة، وأن يكون مفعولاً ثانياً على أنَّها علمية، و» فِي الأصْفادِ «متعلق به.
وقيل: بمحذوف على أنه حال أو صفة ل» مُقرَّنينَ «» .
والمُقرن: من جمع في القَرَن، وهون الحبل الذي يربط به، قال: [البسيط]
3248 - أوابنُ اللَّبُون إذَا ما لُزَّ فِي قرنٍ ... لَمْ يَستَطعْ صَولةَ البُزْلِ القَناعِيسِ
وقال آخر: [البسيط]
3248 - ب والخَيْرُ والشَّرُّ مَلْزُوزان في قَرنٍ ... وقال آخر: [البسيط]
3248 - ج إنِّي لَدَى الباب كلمَلزُوزِ في قَرنٍ ... يقال: قَرنْتُ الشَّيء بالشَّيء إذا شددتهُ بِهِ، ووَصلتهُ، والقرنُ: اسم للحَبْلِ الذي يُشَدُّ بِهِ، ونكَّرهُ لِكثرةِ ذلِك.
والأصْفَادُ: جمع صفدٍ، وهو الغلُّ، والقيد، يقال: صَفَدَهُ يَصْفِده صَفْداً، قيَّدهُ، بِهِ، والاسم الصَّفَد، وصفَّدهُ مشدداً للتكثير؛ قال: [الوافر]
3249 - فآبُوا بالنّهَابِ وبالسَّبَايَا ... وأبْنَا بالمُلُوكِ مُصفَّدِينَا
والأصفادُ من الصَّفْد، وأصفْدَه، أي: أعطاه، ففرَّقُوا بين «فَعَل» و «أفْعَلَ» .
وقيل: بل يستعملان في القَيْدِ، والعَطاءِ، قال النابغة الذبياني: [البسيط]
3250 - ... ... ... ... ... ..... فَلمْ أعرِّضْ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفدِ
أي: بالإعطاءِ، وسمي العطاء صفداً، لأنَّه يُقيَّدُ من يعطيه، منه: أنا مغلول أياديك، أسير نعمتك.
فصل
قيل: يقرن كل كافرٍ مع شيطانٍ في سلسلة، بيانهن قوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [(11/417)
الصافات: 22] يعنى: قرناءهم من الشَّياطين، وقوله جل ذكره: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] . أي قرنت.
وقيل: مقرونة أيديهم، وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد أي: بالقيود.
قوله: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من «المُجْرمينَ» وإمَّا من: «مُقرَّنِينَ» ، وإما من ضميره، ويجوز أن تكون مستأنفة وهو الظاهر.
والسَّرابِيلُ: الثِّيابُ، وسَرْبلتهُ، أي: ألْبَستهُ السِّربالَ؛ قال: [السريع]
3251 - ... ... ... ... ... ... . ... أوْدَى بِنعْليَّ وسِرْبَالِيَه
وتطلق على ما يحصن في الحرب من الدِّرع، وشبهه قال تعالى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 8] .
والقَطرانُ: ما يستخرج منن شجر يسمَّى الأبهل، فيطبخ ويطلى به الإبل الجُرْب ليذهب جربها [بحدته، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار] ، وهو أسود اللَّون منتن الرَّائحةِ، وفيه لغاتٌ: «قِطرانٍ» بفتح القاف وكمسر الطاء، وهي قراءة العامة.
و «قَطْران» بزنة سكران، وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وقال أبو النَّجْم: [الرجز]
3252 - لَبَّسَهُ القَطْرانَ والمُسُوحَا ... و «قِطْرَان» بكسر القاف، وسكون الطاء بزنة «سِرْحَان» ولم يقرأ بها فيما علمتُ.
قال شهابُ الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: وقرأ جماعة كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وةابن عباس، وأبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «قَطِرِ» بفتح الْقاف، وكسرها وتنوين الراء «آنٍ» بوزن «عَانٍ» جعلوها كلمتين، والقَطِر: النَّحاس، وال «آنِ» اسم فالع من أنَى يأني، أي: تَناهى في الحرارةِ؛ كقوله تعالى: {بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] .(11/418)
وعن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ليس بالطقران، ولكنَّه النحاس الذي يصير بلونه.
قال ابن الأنباري: «تلك النَّار لا تبطل ذلك القطران، ولا تفنيه، كما لا تهلك أجسادهم النَّار، والأغلال التي عليهم» .
واعلم أنه يطلى بذلك القطران جلود أهل النَّار حتَّى يصير ذلك الطِّلاء كالسِّربال، وهو القميص، فيحصل بسببه أربعة أنواع من العذاب: لذع القطران وحرقته، وإسراع النَّار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الرِّحِ، وأيضاً: التفاوت بين قطران القيامة، وقطران الدنيا كالتَّفاوت بين النارين.
قوله: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} قرىٍ «وتَغَشَّى» بتشديد الشِّين، أي: وتتغشى فحذفت إحدى التَّاءين.
وقرىء برفع: «وُجوهُهُم» ونصب «النَّار» على سبيل المجازِ، جعل ورود الوجوه النار غشياناً.
والجملة من قوله: «وتَغْشَى» قال أبو البقاءِ: «حال أيضاً» .
يعني أنَّها معطوفة على الحالِ، ولا يعني أنَّها حال، والواو للحال، لأنَّه مضارع مثبت.
فصل
المعنى: [تعلو] النَّار وجوههم، ونظيره قوله تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب} [الزمر: 24] وقوله: {يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] .
واعلم أنَّ موضع المعرفة والنَّكرة، والعلم، والجهل هـ والقلبُ، وموضع الفكر، والوهم والخيال هو الرَّأس، وتأثير هذه الأحوال يظهر في الوجه، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما، قال الله تعالى [في القلب] : {نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة} [الهمزة: 6، 7] وقال تعالى في الوجه: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} .
قوله: {لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} في هذه الأيام وجهان:
أظهرهما: أنَّها تتعلق ب «بَرَزُوا» وعلى هذا فقوله: «وتَرَى» جلمة معترضة بين المتعلق، والمتعلق به.
والثاني: أنها تتعلق بمحذوف، أي: فعلنا بالمجرمين، ذلك ليجزي كل نفس لأنه إذا عاقب المجرم؛ أثاب الطَّائع.(11/419)
قال الواحدي: «المرادُ: أنفسُ الكفَّار؛ لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهعل الإيمان، ويمكن إجراء اللفظ على عمومه، وأنه تعالى يجزي كلَّ نفسٍ ما كسبتن من عملها اللائق بها، فيجزي الكفار بهذا العقاب المذكور، ويجزي المؤمن المطيع الثَّواب وأيضاً، فالله تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم، فلأن يثيب المطيعين أولى» .
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي: لا يظلمهم، ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقه.
قوله تعالى: {هذا بَلاَغٌ} إشارة إلى ما تقدَّم من قوله: «ولا تحْسَبنَّ» إلى هنا، أو إلى كلِّ القرآن، نزل منزلة الحاضر بلاغ، أي: كافية في الموعظة.
قوله تعالى: {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} فيه أوجه:
أحدها: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: ولينذروا أنزلنا عليك.
الثاني: [أنه معطوف على محذوف، وذلك المحذوف متعلق ب «بلاغ» ، تقديره: لينصحوا ولينذروا] .
الثالث: أن الواو مزيدة: «ولِيُنْذَرُوا» متعلق ب «بَلاغٌ» ، وهو رأي الأخفش نقله الماورديُّ.
الرابع: أنه محمولٌ على المعنى، أي: ليبلغوا، ولينذروا.
الخامس: أن اللام لام الأمر، وهو حسنٌ، لولا قوله: «ولِيَذَكَّرَ» فإن منصوب فقط.
قال شهاب الدين: قال بعضهم: لا محذور في ذلك، فإن قوله: «لِيَذَّكرَ» ليس معطوفاً على ما تقدمه، بل متعلق بفعل مقدر، أي: وليذكر أنزلناه وأوحيناه.
السادس: أ، هـ خبر لمبتدأ مضمر، التقدير: هذا بلاغ، وهو لينذروا قاله ابن عطيَّة.
السابع: أنه عطف مفرداً على مفردٍ، أي: هذا بلاغ وإنذار، قاله المبردُ وهو تفسير معنى لا إعراب.
الثامن: أنه معطوف على قوله: «يُخْرجَ النَّاسَ» في أول السورة، وهذا غريب جدًّا.
التاسع: قال أبو البقاء: «المعنى هذا بلاغٌ للنَّاسِ، والإنذارُ متعلق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جعلت النَّاس صفة.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف، وتقديره: ولينذروا به أنزل، أو تلي» .(11/420)
قال شهاب الدين: «فيؤدّي التقدير إلى أن يبقى التركيب: هذا بلاغ للإنذار والإنذار لا يتأتي فيه ذلك» .
وقرأ العامة: «لِيُنذَرُوا» مبنيًّا للمفعول. وقرأ مجاهدٌ وحميد بن قيس: «ولتُنْذِرُوا» بتاء مضمومة، وكسر الذال كأن البلاغ للعموم، والإنذار للمخاطبين، وقرأ يحيى بن عمارة الدراع من أبيه وأحمد
بن يزيد بن أسيد السلمي «ولِيَنْذَرُوا» بفتح الياء والذال من نَذرَ بالشَّيء، أي: علم به فاستعد له.
قالوا: ولو لم يعرف مصدر فهو ك «عَسَى» ، وغيرها من الأفعال التي لا مصارد لها.
فصل
معنى «لِيُنْذَرُوا» أي: وليخوفوا به {وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي: يستدلُّوا بهذه الآيات على وحدانيَّة الله تعالى: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي: يتّعظ أولو العقول.
قال القاضي: أول هذه السورة، وأخرها يدلُّ على أنَّ العبد مستقل بفعله إن شاء أطاعه، وإن شاء عصى.
أمَّا أوَّل هذه السورة فقوله تعالى: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] وقد ذكرناه هناك.
وأمَّا آخر السورة فقوله تعالى: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} يدلُّ على أنَّه تعالى إنَّما أنزل هذه السورة، وذكر هذه المواعظ؛ لأجل أن ينتفع بها الخلق؛ ليصيروا مؤمنين مطيعين، ويتركوا الكفر والمعصية، وقد تقدم جوابه.
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة إبْرَاهِيم أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ عَشر حَسناتٍ بِعدَدِ مَنْ عَبدَ الأصْنامَ، ومَنْ لَمْ يَعْبُدهَا» .(11/421)
سورة الحجر(11/422)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
سورة الحجر مكية بالإجماع. وهي تسع وتسعون آية، وستمائة وأربعة وخمسون كلمة، وعدد حروفها: ألفان وتسعمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {ال ? رَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} تقدَّم نظير {تِلْكَ آيَاتُ} أول الرعد، والإشارة ب «تِلْكَ» إلى ما تظمنته السورة من الآيات، ولم يذكر الزمشخريُّ غيره.
وقيل: إشارة إلى الكتاب السالف، وتنكير القرآن للتفخيم، والمعنى: تلك آياتُ ذلك الكتاب الكالم في كونه كتاباً، وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان.
والمراد ب «الكِتَابِ» وال «قُرآن المبينِ» : الكمتاب الذي وعد به محمد صلوات الله وسلام عليه، أي: مبين الحلال من الحرامِ، والحقَّ من الباطل.
فإن قيل: لِمَ ذكر الكتاب، ثم مقال: «وقُرْءَانٍ» ، وكلاهما واحدٌ؟ .
قيل: كلُّ واحدٍ يفيد فائدة أخرى؛ فإنَّ الكتاب ما يكتبُ، والقرآن ما يجمع بضعه إلى بعض.
وقيل: المراد ب «الكِتَابِ» التَّوراةُ والإنجيلُ، فيكون اسم جنسٍ، وبال «قرآن» : هذا الكتاب.(11/422)
قوله: {رُّبَمَا يَوَدُّ} في «رُبَّ» قولان:
أحدهما: أنها حرف جرٍِّ، وزعم الكوفيُّون، وأبو الحسنِ، ابنُ الطَّراوة: أنها اسمٌ، ومعناها: التَّقليلُ على المشهور.
وقيل: تفيد التكثير في مواضع الاتفخار؛ كقوله: [الطويل]
3253 - فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهوْتَُ ولَيْلةٍ ... بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تِمْثَالِ
وقد أجيب عن ذلك: بأنها لتقليل النَّظير.
وفيها سبعة عشرة لغة وهي:
«رُبَّ» بضمِّ الراءِ وفتحها كلاهما مع تشديتد الباء، وتخفيفها، فهذه أربع، ورويت بالأوجه الأربعة، مع تاء التأنيث المتحركة، و «رُب» بضم الراء وفتحها مع إسكان الباء، و «رُبُّ» بضم الراء وةالباء معاً مشددة ومخففة، و «رُبَّت» .
وأشهرها: «رُبَّ» بالضم والتشديد والتخفيف، وبالثانية قرأ عاصمٌ ونافعٌ وباتصالها بتاء التأنيث، قرأ طلحة بن مصروف، وزيد بن علي: «رُبَّتما» ، ولها أحكام كثيرة:
منها: لزوم تصديرها، ومنها تنكير مجرورها؛ وقوله: [الخفيف]
3254 - رُبَّما الجَاملِ المُؤبل فِيهمْ ... وعَناجيجُ بَينهُنَّ المَهارِي
ضرورة في رواية من جرَّ «الجَاملِ» .
ويجر ضمير لازم التفسير بعده، ويستغنى بتثنيتها وجمعها، وتأنيثها عن تثنية الضمير، وجمعه، وتأنيثه؛ كقوله: [البسيط]
3255 - ... ... ... ... ... ... ... . ... ورُبَّهُ عَطِباً أنْقَذْتَ مِنْ عَطَبِهْ
والمطابقة؛ نحو: ربَّهُما رجُلَيْنِ، نادر، وقد يعطف على مجرورها ما أضيف إلى ضميره، نحو: رُبَّ رجُلٍ وأخيه، وهل يلزم وصف مجرورهنا؛ ومضيُّ ما يتعلق به على ضميره، نحو: رُبَّ رجُلٍ وأخيه، وهل يلزم وصف مجرورها؛ ومضيُّ ما يتعلق به على(11/423)
خلاف، والصحيح عندم ذلك؛ فمن مجيئه غير موصوف قول هند: [مجزوء الكامل]
3256 - يَا رُبَّ قائلةٍ غَدًا ... يَا لَهْفَ أم مُعاوِيًَه
ومن مجيء المستقبل، قوله: [الوافر]
3257 - فَإن أهْلِكَ فرُبَّ فتًى سَيَبْكِي ... عَليَّ مُهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ
وقول هند: [مجزوء الكامل]
3258 - يَا رُبَّ قَائلةٍ غَداً..... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقول سليم: [الطويل]
3259 - ومُعْتَصِمٍ بالحيِّ من خَشْيَةِ الرَّدَى ... سَيَرْدَى وغَازٍ مُشفِقٍ سَيَئُوبُ
فإن حرف التنفيس، و «غداً» خلَّصاه للاستقبال.
و «رُبَّ» تدخل على الاسم، و «رُبَّما» على الفعل، ويقال: ربَّ رجُلٍ جَاءنِي، ورُبَّما جَاءنِي.
و «ما» في «رُبمَا» ، تحتمل وجهين:
أظهرهما: أنها المهيئة، بمعنى أنَّ «رُبَّ» مختصة بالأسماءِ، فلما جاءت هنا «ما» هيَّأت دخولها على الأفعال وقد تقدم نظير ذلك [يونس: 27] في «إنَّ» وأخواتها ويكفها أيضاً عن العمل؛ كقوله: [الخفيف]
3260 - رُبَّما الجَامِلُ المُؤبَّلش فِيهِمْ..... ... ... ... ... ... ... ... ...
في رواية من رفعه كما جرى ذلك في كاف التشبيه.
والثاني: أنَّ «مَا» نكرة موصوفة بالجملة الواقعة بعدها، والعائد على «ما» محذوف تقديره: ربَّ شيء يوده الذين كفروا، ومن لم يلتزم مضيَّ متعلقها، لم يحتج إلى تأويل، ومن التزم ذلك قال: لأن المترقب في إخبار الله تعالى واقعٌ لا محالة، فعبَّر عنه بالماضي، تحقيقاً لوقوعه؛ كقوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ونحوه.
قوله: «لَوْ كَانُوا» يجوز في «لَوْ» وجهان: أحدهما: أن تكون الامتناعيَّة، وحينئذ، يكون(11/424)
جوابها محذوفاً، تقديره لو كانُوا مسلمين لسرُّوا أو تخلصوا مما هم فيه، ومفعول «يوَدُّ» محذوف على هذا التقدير، أي: ربما يودُّ الذين كفروا النجاة، دلَّ عليه الجملة الامتناعية.
والثاني: أنَّها مصدرية عند من يرى ذلك، كما تقدم تقريره في البقرة [البقرة: 96] ؛ وحنيئذ يكون هذا المصدر المؤولُ هو المفعول للودادة، أي: يودُّون كونه مسلمين، إن جعلنا «ما» كافة، وإن جعلناها نكرة، كانت «لَوْ» وما في حيِّزها بدلاً من «مَا» .
فصل
المعنى: يتمنَّى الذين كفورا لو كانوا مسلمين، واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها.
قال الضحاك: حال المعاينة.
وقيل: يوم القيامة.
والمشهور: أنه حين يخرجُ الله المؤمنين من النار.
روى أبو موسى الأشعريُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إذَا اجْتمعَ أهْلُ النَّار في النَّارِ، ومعهُمْ من شَاءَ اللهُ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ، قال الكفَّارُ لمِنْ في النَّار من أهْلِ القِبْلةِ: ألَسْتُم مُسْلمينَ؟ قالوا: بَلى، قالوا: فَمَا أغْنَى عَنْكُم إسْلامكُم، وأنْتُمْ معنا في النَّارِ، قالوا: كَانَتْ لنَا ذُنوبٌ فأُخِذْنَا بِهَا، [فيغفر] الله لَهُمْ، بِفضْلِ رَحْمتهِ، فيَأمرُ بإخْراجِ كُلِّ مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ في النَّار، فيَخْرجُونَ مِنْهَا، فحنيئذٍ يودُّ الذين كفروا لَوْ كَانُوا مُسْلمينَ» .(11/425)
فإن قيل: «رُبمَا» للتقليل، وهذا التَّمني يكثر من الكفار.
فالجواب: أنَّ «رُبمَا» يراد بها التكثير، والمقصود إظهار الترفع، والاستغناءُ عن التَّصريح بالغرض؛ فيقولون: ربَّما نَدمتُ على ما فعلتُ، ولعلَّكَ تَندمُ على فِعلِكَ؛ إذا كان العلمُ حَاصلاً بكثر النَّدمِ، قال: [البسيط]
3261 - أتْرك القِرْنَ مُصْفرًّا أنَاملهُ..... ... ... ... ... ... ... ... . .
وقيل: التقليل أبلغ في التهديد، والمعنى: أنَّ قليل الندم كافٍ في الزجر عن هذا العمل، فكيف كثره؟ .
وقيل: إنْ شغلهم بالعاذب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحياناً.
فإن قيل: إذا كان أهل القيامةِ، يتمنَّون أمثال هذه الأحوال، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلُّ ثوابه عن درجةِ المؤمنِ الذي يكثر ثوابه، والمُتمنِّي لما لم يجده يكونُ في الغصَّة وتَألُّمِ القلبِ.
فالجواب: أحوالُ أهل الآخرةِ، لا تقاس بأحوال الدنيا؛ فإن الله تعالى يُرضي كُلَّ واحدٍ بما هو فيه، وينزع عن قلوبهم الحسد، وطلب الزيادتِ؛ كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] .
قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} [الحجر: 3] الآية، أي دعْ يا محمد، الكفَّار يأخذوةا حفوظهم من دنياهم، فتلك خلاقهم، ولا خلاق لهم في الآخرةِ، {وَيُلْهِهِمُ} يشغلهم «الأملًُ» عن الأخذ بحظِّهم من الإيمان والطَّاعة، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} إذا [وردوا] القيامة، وذاقوا وبال [صنعهم] وهذا تهديدٌ ووعيدٌ.
وقال بعض العلماء: «ذَرْهُمْ» ، تهديدٌ، و {سَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، تهديدٌ آخر، فمتى يهدأ العيش بين تهديدين؟! والآية نسختها آية القتالِ.
قوله: «وذَرْهُمْ» ، هذا الأمرُ لا يستعمل له ماضٍ إلا قليلاً؛ استغناءً عنه ب «تَرَكَ» ، بل يستعمل منه المضارع نحو: {وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] ، ومن مجيء الماضي قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «ذَرُوا لحَبشَة ما وَذَرتْكُم» ، ومثله: دَعْ ويَدَعْ، ولا يقال: ودَعَ إلا نادراً، وقد قرىء: {مَا وَدَّعَكَ} [الضحى: 3] مخففاً؛ وأنشدوا: [الرمل]
3262 - أسَلْ أمِيري مَا الذي غَيَّرهُ ... عَنْ وصَالِي اليَوْمَ حتَّى وَدَعهْ؟(11/426)
و «يَأكلُوا» مجزومٌ على جواب الأمر، وقد تقدم [البقرة: 17، 278] أنَّ «تَرَكَ» و «وَذرَ» يكونان بمعنى «صيَّر» ، فعلى هذا يكون المفعول الثاني محذوفاً، أي: ذرهُم مهملين.
قوله تعالى: {وَيُلْهِهِمُ الأمل} ، يقال: لهيتُ عن الشَّيء ألهي لُهِيَّا؛ جاء في الحديث: أنَّ ابن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان إذا سمع صوت الرَّعدِ لَهِيَ عن الحديث «.
قال الكسائيُّ، والأصمعيُّ: كلُّ شيءٍ تركتهُ، فقد لهيتهُ؛ وأنشد: [الكامل]
3262 - ب صَرمتْ حِبالَكَ فالْهَ عَنْهَا زَيْنَبُ ... أي: اتركها، وأعرض عنها.
فصل في سبب شقاء العبد
قال القرطبي: أربعةٌ من الشقاءِ؛ جمودُ العين، وقساوة القلبِ، وطُولُ الأملِ، والحرصُ على الدُّنيا.
فطُول الأملِ: داء عضالٌ، ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه، واشتدَّ علاجه، ولم يفارقه داءٌ، ولا نجع فيه دواء، بل أعيا الأطبَّاء، ويئس من بُرئه الحكماء والعلماء.
وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا، والانكباب عليها، والحبُّ لها، والإعراض عن الآخرة، قال صلوات الله وسلامه عليه:» نَجَا أوَّلُ هذهِ الأمَّة باليَقِينِ والزُّهْدِ، ويهْلِكُ آخِرُهَا بالبُخْلِ والأمَلِ «.
وقال الحسن: ما أطال عبدٌ الأمل، إلا أساء العمل.
قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} ، أي: من أهل قرية، {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ} فيه أوجه:
أظهرها: أنها واو الحال، ثم لك اعتباران:
أحدهما: أن تجعل الحال وحدها الجارَّ، ويرتفع «كِتَابٌ» به فاعلاً.(11/427)
والثاني: أن تجعل الجارَّ مقدماً، و «كِتَابٌ» مبتدأ، والجملة حالٌ، وهذه الحال لازمةٌ.
الوجه الثاني: أنَّ الواو مزيدة، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة: «إلاَّ لَهَا» بإسقاطها، والزيادة ليست بالسهلةِ.
الثالث: أن الواو داخلة على الجملة الواقعة صفة؛ تأكيداً، قال الزمخشريُّ: والجملة واقعة صفة ل «قَرْيَةٍ» ، والقياس: ألاَّ تتوسط هذه الواو بينهما؛ كما قوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] وإنما توسَّطت، لتأكيد لصُوقِ الصفة بالموصوف؛ كما تقول: «جَاءنِي زيْدٌ عليْهِ ثَوبهُ، وجَاءنِي وعليْهِ ثوْبهُ» .
وقد تبع الزمخشري في ذلك أبا البقاء، وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] .
قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: «ولا نعلم أحداً قاله من النَّحويين» .
قال شهاب الدين: وفي محفوظِي أنَّ ابن جنّي سبقهما إلى ذلك «.
ثم قال أبو حيان:» وهو مبنيٌّ على جواز أنَّ ما بعد «إلاَّ» يكون صفة؛ وقد منعوا ذلك «.
قال الأخفش: لا يفصل بين الصفة والموصوف ب» إلا «، ثم قال: وأما نحو:» مَا جَاءَنِي رجٌلٌ إلاَّ راكِبٌ «على تقدير: إلاَّ رجلٌ راكبٌ، ففيه قُبح؛ لجعلك الصفة كالاسم.
وقال أبو علي: تقول ما مررتُ بأحَدٍ إلاَّ قائماً، وقائماً حالٌ، ولا تقول: إلاَّ قائمٌ؛ لأنَّ» إلاَّ «لا تعترض بين الصِّفة والموصوف.
قال ابن مالكٍ: وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله» مَا مَررْتُ بأحَدٍ إلاَّ زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْهُ «: إنَّ الجملة بعد» إلاَّ «صفة ل» أحَدٍ «: إنه مذهبٌ لا يعرف لبصريِّ، ولا كوفي فلا يلتفت إليه، وأبطل قوله:» إنَّ الواو توسَّطت لتأكيد لصوف الصفة بالموصوف «.
قال شهابُ الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: قولُ الزمخشريِّ قويٌّ من حيث القياس؛ فإنَّ الصفة في المعنى كالحال، وإن كان بينهما فرقٌ من بعض الوجوه.
فكما أنَّ الواو تدخل على الجملة الواقعة حالاً؛ كذلك تدخل عليها واقعة صفة، ويقويه أيضاً [نصره] به من الآية الأخرى في قوله: {مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] . ويقويه أيضاً: قراءة ابن أبي عبلة المتقدمة، وقال منذرُ بن سعيد: هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ، هي في الزمن قبل الحالة التي(11/428)
قبل الواو، ومنه قوله تعالى:
{حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] .
فصل
لما توعد مكذِّبي الرسل بقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} الآية أتبعه بما يؤكد الزجر، وهو قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} في الهلاك والعذاب، أي: أجلٌ مضروبٌ، لا يتقدم العذاب عليه، ولا يتأخر عنه، والمراد بهذا الهلاك: عذاب الاستئصال، وقيل: الموتُ.
قال القاضي: والأول أقرب؛ لأنه أبلغ في الزَّجر، فبيَّن تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغترَّ به العاقل. وقيل: المراد بالهلاك مجموع الأمرين.
قوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} «مِنْ أمةٍ» فاعل «تَسْبِقُ» ، و «مِنْ» مزيدة للتأكيد؛ كقولك: ما جَاءنِي من أحَدٍ.
قال الواحدي: «وقيل: ليست بزائدةٍ؛ لأنَّها تفيد التبعيض، أي: هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة، فيكون ذلك في إفادة عموم النَّفي، آكد» .
قال الزمخشري: «معنى:» سَبَقَ «: إذا كان واقعاً على شخصٍ، كان معناه أنَّه [جاز] ، وخلف؛ كقولك: سَبَقَ زيدٌ عمْراً، أي: جَاوزَهُ وخَلفهُ وراءهُ، ومعناه: أنه قصَّر عنه وما بلغه، وإذا كان واقعاً على زمانٍ، كان بالعكس في ذلك، كقولك: سَبٌ فُلانٌ عام كذا، معناه: أنه مضى قبل إتيانه، ولم يبلغه، فقوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} معناه: أنه لا يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده، وإنَّما يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده، وإنَّما يحصل في ذلك الوقت بعينه» .
وحمل على لفظ «أمََّةٍ» في قوله: «أجَلهَا» ، فأفرد وأنَّث، وعلى معناها في قوله: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} ، فجمع وذكَّر، وحذف متعلق «يَسْتَأخِرُون» وتقديره: عنه؛ للدلالة عليه، ولوقوعه فاصلاً.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ كل من ما أو قتل، فإنما مات بأجله، وأنَّ من قال: يجوز أن يموت قبل أجله مخطىء.
قوله: «وقَالُوا» ، يعنى مشركي مكَّة {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} ، أي: القرآن، وأراد به محمداً صلى الله وعليه وسلم.
والعامة على: «نُزِّلَ» مشدَّداً، مبنيًّا للمفعول، وقرأ زيد بن علي: «نَزلَ» ، مخفََّاً مبنيًّا للفاعل.(11/429)
{إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} وذكروا نزول الذِّكر؛ استهزاء، وإنما وصفوه بالجنون، إما لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يظهر عليه عند نزول الوحي، حالةٌ شبيهةٌ بالغشي؛ فظنُّوا أنَّها جنونٌ، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ} [الأعراف: 184] .
وإما لأنه كانا يستبعدون كونه رسولاً حقًّا من عند الله؛ لأن الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره، فربما قال: به جنون.
قوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} ، «لَوْ مَا» : حرف تحضيضٍ؛ ك «هَلاًّ» ، وتكون أيضاً حرف امتناع لوجودٍ، وذلك كما أنَّ «لولا» متردَّدةٌ بين هذين المعنيين، وقد عرف الفرق بينهما، وهو أنَّ التحضيضيَّة لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً أو مضمراً؛ كقوله: [الطويل]
3263 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... لَوْلاَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
والامتناعية لا يليها إلا الأسماء: لظفاً أو تقديراً عند البصريين.
وقوله: [الوافر]
3264 - ولَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً ... لمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالِي
مؤولٌ؛ خلافاً للكوفيين.
فمن مجيء «لَوما» حرف امتناعٍ قوله: [البسيط]
3265 - لَوْمَا الحيَاءُ ولَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكمَا ... بِبعْضِ ما فِيكُمَا إذْ عِبْتُما عَورِي
واختلف فيها: هل هي بسيطة أم مركبة؟ .
فقال الزمخشري: «لَوْ» ركبت مع «لا» ، ومع «مَا» ؛ لمعنيين، وأمَّا «هَلْ» فلم تركَّب إلاَّ مع «لا» وحدها؛ للتحضيض.
واختلف أيضاً في «لَوْمَا» هل هي أصلٌ بنفسها، أم فرعٌ على «لَوْلاَ» وأنَّ الميم مبدلة من اللام، كقولهم: خاللته، خالمته، فهو خِلِّي وخِلْمِي، أي: صديقي.
وقالوا: استولى على كذا، [واسْتَوَى] عليه؛ بمعنًى، خلاف مشهور، وهذه الجملة من التحضيض، دالةٌ على جواب الشرط بعدها.(11/430)
فصل في معنى الآية
المعنى: لو كنت صادقاً في أدَّعائك النُّبوَّة، لأتيتنا بملائكة يشهدون عندنا بصدقكم فيما تدَّعيه من الرسالة؛ ونظيره قوله تعالى في الأنعام: {وَقَالُواْ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} [الأنعام: 8] ويحتمل أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا خوَّفهُم بنزول العذاب، قالوا: لو ما تأتينا بالملائكة الذين ينزلون العذاب، وهو المراد من قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] .
ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم بقوله: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} فإذا كان المراد الأول، كان تقرير الجواب: أنَّ إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحقِّ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار، أنه لو أنزل عليهم ملائكة، لبقوا مصرِّين على كفرهم، فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً، ولا يكون حقًّا، فلهذا السبب ما أنزل الله تعالى الملائكة.
قال المفسرون: المراد بالحق هنا الموت، أي: لا ينزلون إلا بالموتِ، أو بعذابٍ الاستئصال، ولم يبق بعد نزولهم إنظارٌ، ولا إمهال، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة؛ فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة، وإن كان المراد استعجالهم بنزول العذاب فتقرير الجواب: أنَّ الملائكة لا تنزل إلاَّ بعذاب الاستئصال، ولا تفعل بأمَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك؛ بل يمهلهم لما علم من إيمان بعضهم، ومن إيمان أولاد الباقين.
قوله: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة} ، قرأ أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ما تُنزَّلُ» بضمِّ التاء، وفتح النون، والزاي مشدَّدة، مبنيًّا للمفعول، «المَلائِكةُ» : مرفوعاً لقيامه مقام فاعله، وهو موافقٌ لقوله تعالى:
{وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] ؛ لأنها لا تنزل إلاَّ بأمر من الله تعالى فغيرها هو المنزِّلُ لها، وهو الله تعالى.
وقرأ الأخوان، وحفص: بضمِّ النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الزاي مشددة مبنيًّا للفاعل المعظم نفسه وهو الباري جل ذكره. «المَلائِكةَ» ، نصباً: مفعول به؛ وهو موافق لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} [الأنعام: 111] ، ويناسب قوله قبل ذلك: «ومَا أهْلَكْنَا» ، وقوله بعده: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الحجر: 9] ، وما بعده من ألفاظ التَّعظيم.
والباقون من السبعة ما تنزَّلُ بفتح التاء والنون والزاي مشددة، و «المَلائِكةُ» مرفوعة على الفاعلية، والأصل: تَتنَزَّلُ، بتاءين، فحذفت إحداهما، وقد تقدم تقريره في:(11/431)
{تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] ، ونحوه، وهو موافق لقوله سبحانه وتعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} [القدر: 4] .
وقرأ زيد بن علي: «مَا نَزلَ» مخففاً مبنيًّا للفاعل، و «الملائكةُ» مرفوعة على الفاعلية، وهو كقوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعرا: 193] .
قوله: {إِلاَّ بالحق} يجوز تعلقه بالفعل قبله، أو بمحذوف على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي: ملتبسين بالحق، وجعله الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ نعتاً لمصدر محذوف، أي: إلاَّ تنزُّلاً ملتبساً بالحقِّ.
قوله «إذَنْ» قال الزمخشري: «إذَنْ حرف جواب وجزاء؛ لأنها جواب لهم، وجزاء الشرط مقدر، تقديره: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين، وما أخر عذابهم» .
قال صاحب النظم: «لفظة» إذَنْ «مركبة من» إذْ «، وهو اسم بملنزلة» حِينَ «؛ تقول: أتيتك إذْ جِئْتنِي، أي: حِينَ جِئْتنِي، ثم ضم إليه» إنْ «فصار: ِإذْ أنْ، ثما استثقلوا الهمزة؛ فحذفوها، فصار» إذَنْ «، ومجيْ لفظة» أنْ «دليل على إضمار فعلٍ بعدها، والتقدير: وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا» .
قوله: «نَحْنُ» إما مبتدأ، وإما تأكيدٌ، ولا يكون فصلاً؛ لأنه لم يقع بين اسمين، والضمير «لَهُ» للذكر، وهو الظاهرُ، وقيل: للرسول صلوات الله وسلامه عليه قاله الفراء، وقوَّاه ابن الأنباري، قال: لما ذكر الله الإنزال، والمنزل، دلَّ ذلك على المنزل عليه، فحسنت الكناية عنه؛ لكونه أمراً معلوماً، ك ما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] فإنَّ هذه الكناية عائد على القرآن، مع أنه لم يتقدم ذكره؛ وإنما حسنت الكناية لسبب معلوم، فكذا هاهنا، والأول أوضحُ «.
فإذا قلنا: الكناية عائدة إلى القرآن، فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن؟ .
فقيل: بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر يعجز الخلق عن الزيادة، والنقصان فيه، بحيث لو زادوا فيه أو نقصوا عنه، بغير نظم القرآن.
وقيل: صانه، وحفظه من أن يقدر أحدٌ من الخلق على معارضته.
وقيل: قيَّض جماعة يحفظونه، ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاءِ التكليفِ.
وقيل: المراد بالحفظِ: هو أنَّه لو أنَّ احداً حاول تغيير حرفٍ أو نقطةٍ، لقال له أهل الدنيا: هذا كذب، وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتَّفق له لحنٌ أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان: أخطأت أيُّها الشيخ،(11/432)
واعلم أنه لم يتفق لشيءٍ من الكتب مثل هذه الحفظ؛ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف، والتحريف، والتغيير، إما في الكثير منه، أو في القليل، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التَّحريف، مع أنَّ دواعي الملاحدة، واليهود، والنصارة، متوفرة على أبطاله وإفساده، فذلك من أعظم المعجزات.
فإن قيل: لم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف، وقد وعد الله عَزَّ وَجَلَّ بحفظه وما حفظ الله عَزَّ وَجَلَّ فلا خوف عليه؟ .
فالجواب: أنَّ جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه، فيَّضهم لذلك، وفي الآية دلالةٌ قويةٌ على كون البسملةِ آية من كل سورة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد وعد بحفظ القرآن، والحفظُ لا معنى له إلاَّ أن يبقى مصُوناً عن التغيير وعن الزيادة، وعن النقصان فلو لو تكن التسمية آية من القرآن، لما كان مصوناً من التغيير والزيادة، ولو جاز أن يظنَّ بالصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أنهم زادوا، لجاز أيضاً أن يظنَّ بهم النقصان؛ وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجَّة، وهذا لا دليل فيه؛ لأن أسماء السور أيضاً مكتوبةٌ معهم في المصحف، وليست من القرآن بالأجماع.(11/433)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} مفعوله محذوف، أي: أرسلنا رُسُلاً {مِن قَبْلِكَ} ف {مِن قَبْلِكَ} يجوز أن يتعلق ب «أرْسَلْنَا» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه نعتٌ للمعفو ل المحفوف.
و {فِي شِيَعِ الأولين} ، قال الفراء: هو من إضافة المصوف لصفته، والأصل: في الشِّيعِ الأوَّلين؛ كصَلاةِ الأولى، وجَانبِ الغربي حقِّ اليَقينِ، وجين القيمة.
والبصريون: يؤولنه على الحذف [الموصوف، أي: في شيعِ الأممِ الأولين، وجانب المكان الغربي، وصلاةِ السَّاعةِ الأولى.
والشِّيعُ: قال الفراء: الشَّاعُ واحدهم: شِيعَة، وشِيعَةُ الرجُلِ: أتْباعهُ، والشِّيعَةُ: وهم القوم المجتمعة المتفقة، سموا بذلك؛ لأن بعضهم يُشَاعُ بعضاً، وتقدم الكلام على هذا الحرف عند قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} [الأنعام: 65] .(11/433)
قوله: {وَمَا يَأْتِيهِم} قال الزمخشري: «حكاية حال ماضية؛ لأنَّ» مَا «لا تدخل على المضارع إلاَّ وهو في موضعِ الحالِ، ولا على ماضٍ إلا وهو قريبٌ من الحال» .
وهذا الذي ذكره هو الأكثر في لسانهم؛ لكنَّه قد جاءت ما مقارنة للمضارع المراد به الاستقبال؛ كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي} [يونس: 15] ، وأنشدوا للأعشى يمدحُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [الطويل]
3266 - لَهُ نَافِلاتٌ ما يَغِبُّ نَوالُهَا ... ولَيْسَ عطَاءُ اليَوْمِ مَانِعَهُ غَدا
وقال أبُو ذؤيب: [الكامل]
3267 - أوْدَى بَنِيَّ وأوْدَعُونِي حَسْرَةً ... عِنْدَ الرُّقَادِ وعَبْرَةً مَا تٌقلِعُ
قوله: «إلا كانوا» هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من مفعول «تَأتيهم» ، ويجوز أن تكمون صفة ل «رسُولٍ» فيكون في محلِّها وجهان الجرُّ باعتبار اللفظ، والرفع باعتبار الموضع، وإذا كانت حالاً فهي حالٌ مُقدَّرةٌ.
فصل في معنى الآية
المعنى: أنَّ عادة هؤلاء الجهَّال مع جميع الأنبياء والرسول صلوات لله وسلامه عليهم الاستهزاءُ بهم؛ كما فعلًُوا بك؛ ذكره تسليةً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
واعلم أنَّ السَّبَبَ الذي يحمِلُ هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة: إما لأنَّ الانتقال من المذاهب يشقُّ على الطِّباع.
وإمَّا لكونِ الرسول صلوات الله وسلامه عليه يكون فقِيراً، وليس له أعوان، ولا أنصارٌ؛ فالرؤساءُ يَثقُل عليهم خدمة من يكون بهذه الصِّفة.
وأمّا خذلانُ الله تعالى لهم، فبإلقاء دواعي الكفرِ والجهلِ في قلوبهم، وهذا هو السبب الأصليّ.
قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} ، يجوز في الكاف أن تكون مرفوعة المحلِّ على خبرها متبدأ مضمر، أي: الأمر كذلك، و «نَسْلكهُ» مستأنف، ويجوز أن(11/434)
تكون منصوبة المحل، إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: مثل ذلك السلك؛ ويجوز نسلكه، أي: نسلكُ الذكر، إما ح حالاً من المصدر المقدَّر، والهاء في «نَسْلكُهُ» يجوز عودها للذكر، وهو الظاهر، وقيل: يعود للاستهزاء، قيل: على الشركِ.
والهاء في «بِهِ» يجوز عودها على ما تقدم من الثَّلاثة، ويكون تأويلُ عودها على الاستهزاء والشرك، أي: لا يؤمنون بسببه.
وقيل: للرسول صلوات الله وسلامه عليه وقيل: للقرآن.
وقال ابو البقاء: «ويجوز أن يكون حالاً، أي: لا يؤمنون مستهزئين» كأنه جعل «بِهِ» متعلقاً بالحالِ المحذوفة قائمة مقامها.
وهو مردودٌ، لأن الجارَّ إذا وقع حالاً أو نعتاً أو صلة أو خبراً، تعلَّق بكون مطلق لا خاصِّ، وكذا الظرف.
ومحل «لا يُؤمِنُونَ» النَّصب على الحالِ، ويجوز ألاَّ يكون لها محلٌّ؛ لأنها بيان لقوله {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} ، وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} استئنافٌ، والسَّلكُ: الإدخال، يقال: سَلكْتُ الخَيْطَ في الإبْرةِ، والرُّمحَ في المَطْعُونِ ومنه {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] .
قال أبو عبيدة، وأبو عبيد: يقال: سَلكْتهُ وأسْلَكتهُ، أي: نظمته، قال: [الوافر]
3268 - وكُنْتُ لِزازَ خَصْمكَ لَمْ أعَرِّدْ ... وقَدْ سَلكُوكَ في يَوْمٍ عَصِيبِ
وقال الآخر في «أسْلكَ» : [البسيط]
3269 - حتَّى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدةٍ ... شَلاًّ كَمَا تَطْردُ الجَمَّالةُ الشُّردا
فصل في المعنى الإجمالي للآية
ق ل الزجاج: المعنى: قد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضَّلال في قلوبهم.
وقيل: نه تهديدٌ لكفار مكة، أي: قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من القرون الماضية، والأول أليق بظاهر اللفظ.
قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء} الآية، هذا هو المراد في سورة الأنعام، في قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] الآية يعني: أنَّ(11/435)
الذين يقولون: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [الحجر: 7] ، فلو أنزلنا الملائكة «،» فظلُّوا فيه «أي: فظلت الملائكة فيها» يَعْرجُونَ «، وزهم يرونها عياناً.
و» ظلَّ «هذه الناقصة، والضمير في» فظَلُّوا «يعود على الملائكةِ، وهو الصحيح وقال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يعود على الكفَّار المفتح لهم الباب.
وقرأ الأعمش، وأبو حيوة» يَعْرجُونَ «بكسر الراء؛ وهي لغةُ هذيل في عَرَجَ: يَعْرِجُ، أي: صعد.
قوله
: {لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} قرأ ابن كثير:» سُكِرَتْ «مبنياً للمعفول، مخفَّف الكاف، وباقي السبعة كذلك إلا أنهم شدَّدوا الكاف، والزهري: بفتح السين، وكسر الكاف خفيفة مبنياً للفاعل.
فأما القراءة الأولى: فيجوز أن تكون بمعنى المشددة؛ فإن التخفيف يصلح للقليل والكثير، وهما مأخوذتان من: السِّكر، بكسر السين، هو السَّدُّ.
والمعنى: حُبِسَتْ أبصارنا، وسُدَّت، وقيل: بمعنى: أخذت، وقيل: بمعنى: سُحِرَت، وقيل المشدد من: سَكِرَ الماءُ بالكسر، والمخفف من سَكُرَ الشَّراب بالضم.
والمشهور أن» سَكِرَ «لا يتعدى فيكف بُنِي للمفعول؟ .
فقال أبو علي:» يجوز أن يكون سمع متعدِّياً في البصر «.
والذي قاله المحقِّقون من أهل اللغةِ: أنَّ» سَكِر «إن كان من:» سَكِرَ الشَّرابُ، أو مِنْ سَكِرَ الرِّيحشُ «فالتضعيف فيه للتعدية، وإن كان من» سَكِرَ الماءً «فالتضعيف فيه للتكثير؛ لأنه متعد مخفَّفاً، وذلك أنه يقال: سَكرَت الرِّيحُ تَسْكرُ سَكْراً، إذا رَكدَت، وسَكِرَ الرَّجلُ منَ الشِّرابِ سَكْراً، ذا رَكَدَ، ولم ينقد لحاجته.
فهذان قاصران فالتضعيف فيها للتعدية، ويقال: سَكِرتُ الماء في مجاريه: إذا منعتهُ من الجَرِّي، فهذا متعدِّ، فالتضعيف فيه للتكثير.
وأما قراءةٌ ابن كثير: فإن كانت من «سَكِرَ الماءًُ» فهي واضحةٌ؛ لأنه متعدِّ، وإن كانت من «سَكُرَ الشَّرابُ أو سَكِرَ الرِّيحُ» فيجوز أن يكون الفعل استعمل لازماً تارة، ومتعدياً أخرى، نحو: «رَجَعَ زيْدٌ» ، ورَجَعه غَيْرُه، وسَعِندَ وسَعِدَه غَيْرُه «وقال الزمخشريُّ:»(11/436)
وسُكِّرَتْ: حُيِّرت أو حبست من السِّكرِ أو السُّكر، وقرىء: «سُكرَتْ» بالتخفيف، أي: حُبسَتْ كمَا يُحْبَسًُ المُهْرُ عنِ الجري «، فجعل قراءة التشديد محتملة لمعنيين، وقراءة التخفيف محمتلة لمعنى واحدٍ.
وأما قراءة الزهريِّ، فواضحةٌ، أي: غطيت، وقيل: هي مطاوع: اسْكرتُ المكان فَسَكرَ: أي: سَددْتهُ فانْسَدَّ.
{بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} ، أي عمل فينا السِّحْرُ، وسحرنا محمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فإن قيل: كيف يجوزز من الجماعة العظيمة أن يكونوا شاكِّين في وجود ما يشهدونه بالعين السليمة في النهار الوضاح؛ ولو جاز حصول الشكِّ في ذلك، ك انت السَّفسطةٌ لازمة، ولا يبقى حنيئذٍ اعتمادٌ على الحس والمشاهدة؟ .
أجاب القاضي رحمهن الله: بأنه تعالى ما وصفهم بالشكِّ فيما يبصرون، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول، وقد يجوز أن يقدم الإنسانُ على الكذب على سبيل العنادِ والمكابرة، ثم سأل نفسه، أيصحُّ من الجمع العظيم أن يظهر الشك في المشاهدات؟ .
وأجاب: بأنه يصحُّ ذلك، إذا جمعه9م عليه غرضٌ صحيحٌ معتبر من مواطأةٍ على دفع حجَّةٍ أو غلبة خصم، وأيضاً: فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين، سألُوةا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنزال الملائكةِ، وهذا السؤال إنما كان من رؤساءِ القوم، وكانوا قليلي العددِ، وإقدامُ العددِ القليلِ على ما يجري مجرى المكابرة، جائزٌ.
قوله:» فظلُوا «يقال: ظلّ فُلانٌ نَهارهُ يفعل كذا: إذا فعلهُ بالنَّهارِ، ولا تقول العربُ:» ظَلّ يَظَلْ «إلاَّ لكلِّ عملٍ بالنهارِ؛ كما لا يقولون: بَاتَ يَبِيتُ إلا بالليل، والمصدر الظُّلُول.
والعُروجُ: الصُّعودُ، يقال: عَرَج يَعْرجُ عُرُوجاً، ومنه: المَعَارجُ، وهي المصاعدُ التي يصعد عليها.
فإن قلنا: إن الضمير في:» فَظلُّوا «للملائكة، فقد تقدم بيانه، وإن قلنا: يعود على المشركين، فقال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:» فظلَّ المشركون يصعدون في تلك المعارج، وينظرون إلى ملكوتِ الله سبحانه وتعالى وقدرته، وسلطانه، وإلى عباده، وملائكته عليهم السلام لشكُّوا في تلك الرؤية، وأصرُّوا على جهلهم وكفرهم؛ كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاقِ القمرِ، ومجيء القرآن الذي لا يستطيع الجنُّ والإنس أن يأتوا بمثله «.(11/437)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
قوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} الأية، «جَعلْنَا» : يجوز أن يكون بمعنى «خَلقْنَا» فيتعلق به الجارُّ، وأن يكون بمعنى صيِّرنا؛ فيكون مفعلوه الأول: «بُرُوجاً» ومفعوله الثاني: الجارَّ، فيتعلق بمحذوفٍ، و «للنَّاظِرينَ» متعلق ب «زَينَّاهَا» ، والضمير ل «السَّماءِ» أي: زيَّناها بالشَّمس، والقمرِ، والنجوم.
وقيل: للبروج: وهي الكواكب، زَّنَّاها بالضوءِ، والنظر عينيّ.
وقيل: قلبي وحذف متعلقة؛ ليعُمَّ.
فصل في دلائل التوحيد السماوية والأرضية
لما أجاب عن منكري النبوة، وقد ثبت أنَّ القول بالنبوةِ فرعٌ على القول بالتوحيد، أتبعه تعالى بدلائل التوحيد وهي: منها سماويَّة، ومنها أرضية، فبدأ بذكر السماوية، فقال وعَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} .
قال اللَّيثُ رَحِمَهُ اللَّهُ: البُرُوج واحدها بُرْج من بُروجِ الفلك، والبُرُوج: هي النجوم الكبار، مأخوذة من الظهور، يقال: بَرجَتِ المرأةُ، أي: ظهرت، وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس، والقمر، والكواكب السيارة.
والعرب تعدُّ المعرفة بمواقعِ النُّجوم، وأبوابها من أجلِّ العُلومِ، ويستدلُّون بها على الطُّرقاتِ، والأوقاتِ، والخصب، والحدْبِ، وقالوا: الفلكُ: اثنَا عشر بُرْجاً، كلُّ برجٍ ميلان، ونصر للقمر.
وقال ابن عطية: هي قصورٌ في السماءِ، وعليها الحرسُ.
{وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} مَرجُومٍ، وقيل: ملعُون.
قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كانت الشياطين لا يحجبون عن السمواتِ، وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها؛ فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى صلوات الله وسلامه عليه منعوا من ثلاث سماواتٍ، فلما ولد محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من السموات أجمع، فما منهم من أحدٍ يريد استراق السمع، "إلاَّ رمي بشهابٍ.(11/438)
فلمَّا منعُوا من تلك المقاعد، ذكروا ذلك لإبليس، فقال: حدث في الأرض حدثٌ، قال: فبعثهم، فوجد رسول الله صلواتالله وسلامه عليه يتلوا القرآن، فقالوا والله حدث.
فإن قيل: ما معنى: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} والشيطانُ لا قدرة له على هدم السماء، فإيُّ حاجة إلى حفظ السماء منه؟ قلنا: لما منعمه من القرب منها، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان، فحفظ الله السماء منهم، كما قد يحفظ منازلنا ممَّن يخشى منه الفساد.
والرَّميُ في اللغة: الرميُ بالحجارة، والرَّجمُ أيضاً: السبُّ والشتمُ؛ لأنه رميٌ بالقولِ القبيح، والرجمُ: القول بالظنِّ؛ ومنه قوله تعالى: {رَجْماً بالغيب} [الكهف: 22] ؛ لأنه يرميه بذلك الظنِّ، والرجم أيضاً: اللَّعن، والطَّرد.
قوله: {إِلاَّ مَنِ استرق} فيه خمسة أوجه:
أحدهما في محل نصب على الاستثناء المتصل، والمعنى: فإنها لم تحفظ منه؛ قاله غير واحدٍ.
الثاني: منقطعٌ ومحله النصب أيضاً، أي: لكن من استرق السمع. قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ.
موضع «» مَنْ «نصبٌ على التقدير، قال:» وجاز أن يكون في موضع خفض، والتقدير: إلا ممَّن «.
الثالث: أنه بدلاٌ من» كُلِّ شَيطانٍ «فيكون محله الجرَّ، قاله الحوفي، وأبو البقاءِ، وتقدم عن الزجاج، وفيه نظر؛ لأن الكلام موجبٌ.
الرابع: أنه نعتٌ ل» كُلِّ شَيْطانٍ «فيكون محله الجر، على خلاف في هذه المسألة.
الخامس: أنَّه في محلِّ رفع بالابتداءِ، وخبره الجملة من قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ} ، وإنما دخلت الفاء؛ لأنَّ» مَنْ «إمَّا شرطيةٌ، وإمَّا موصولةٌ، مشبهةٌ بالشرطية. قاله أبو البقاء وحينئذٍ يكونُ من باب الاستثناءِ المنقطعه.
والشِّهَابُ: الشُّعلةُ مِنَ النَّارِ، وسُمِّي بها الكوكبُ؛ لشدَّة ضَوئِه، وبَريقه، وكذلك سُمَّي السِّنانُ شِهَاباً، ويجمع على:» شُهُبٍ «في الكثرةِ، و» أشْهُبٍ «في القلَّة، والشُّهْبَةُ: بياضٌ مختلطٌ بسوادٍ؛ تَشْبِيهاً بالشِّهاب؛ لاختلاطه بالدُّخانِ، ومنه: كَتيبةٌ شهباءُ لسوادِ القَوْمِ، وبياض الحديدِ، ومِنْ ثمَّ غلط الناس في إطلاقهم الشُّبهة على البياضِ الخالص.
وقال القرطبيُّ:» أتْبَعَه «: أدركهُ ولَحِقهُ، شهابٌ مُبِينٌ، أي: كوكبٌ مُضيءٌ، وكذلك: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7] أي: شُعلة نارٍ في رَأسِ عُودٍ، قاله ابن عزيزٍ؛ وقال ذُو الرُّمَّ: [البسيط](11/439)
3270 - كَأنَّه كَوكَبٌ فِي إثْرِ عِفْريَةٍ ... مُسَوَّمٌ فِي سَوادِ اللَّيْلِ مُنْقَضبُ
وسُمِّي الكَوكَبُ شِهَاباً، لأنَّ بَريقَهُ يُشْبِه النَّار.
وقيل: شهابٌ شُعلة من نار تبين لأهل الأرضِ، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقتهم، كما إذا أحرقت النارُ، لم تعد، بخلاف الكواكب فِإنه إذا أحرق، عاد إلى مكانه.
فصل
قال ابن عبَّاسٍِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» إلاَّ مِنَ اسْترقَ السَّمْعَ «يريد الخفطة اليسيرة، وذلك أن الشياطين يركبُ بعضهم بعضاً إلى سماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة، فيُرمون من الكواكب، فلا تخطيء أبداً، فمنهم من يقتله، منهم من يحرقُ وجهه وجنبه ويده حيث يشاء الله، ومنهم من تخبله؛ فيصير غولاً؛ فيقتل الناس في البراري.
روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» إذَا قَضَا اللهُ الأمْرَ فِي السَّماءِ، ضَربَتِ المَلائِكةُ بأجْنِحَتهَا خضعاناً لقوله كَأنَّه سِلسِلَةٌ على صِنْوانٍ، فإذَا فزعَ عَنْ قُلوبِهمْ، قالوا: مَاذَا قَال ربُّكُمْ؟ قَالُوا: الَّذي قَالَ الحَقُّ وهُوَ العليُّ الكَبيرُ، فَيُسْمعها مُسْترِقُ السَّمع، مُسْترِقُ السمعِ هَكَّذَا بَعضهُ فَوْقَ بَعْضٍ، ووَصفَ سُفْيَانُ بِكفِّه فحرَّقها وبدَّدَ بيْنَ أصَابعهِ، فيَسْمَعُ الكَلِمة، فيُلْقِهَا إلى مَنْ تَحْتهُ ثُمَّ يُلْقيها الآخرُ إلى مَنْ تَحْتهُ، حتَّى يُلقِيهَا على لِسانِ السَّاحر، والكَاهنِ، ورُبّضما أدْركهُ الشِّهابُ قبْلَ ِِأنْ يلقِيهَا، ورُبَّما ألْقَاهَا قبلَ أن يُدرِكَهُ، فيَكذِب مَعَهَا مِائةَ كِذْ، فيقالُ: ألَيْس قد قَالَ لَنَا اليَوْمَ كَذَا وكَذَا، فيصدق بتِلْكَ الكَلمةِ الَّتي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ «.
وهذا لم يكن ظاهراً قبل أن يبعث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمانه عليه السلام وإنما ظهر في بدء أمره وكان ذلك أساساً لنبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال يعقوب من عتبة بن المغيرة بن الأخنسِ بن شريق: إنَّ أول من قرع للرَّمي بالنجوم، هذا الحيُّ من ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رجُلٍ منهم يقال له: عمر بنُ امَّة، أحدُ بني علاج، وكان أدْهَى العرب، فقالوا له: ألَمْ تَرَ مَا حَدثَ في السماء من القذف بالنُّجُومِ؟ قال: بلى فانظروا، فإن كانت معالمُ النجوم التي يُهْتدَى بها في البرِّ، والبَحْر، ويعرف بها الأنواءُ من الصيف، والشتاء، لما يصلحُ الناس من معايشهم، هي التي يرمى بها، فهي والله طيُّ الدنيا، وهلاك الخلق الذين فيها، وإن كان نجوماً غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهذا الأمر أراد
الله لهذا الخلق.
قال معمرٌ: قلت للزهريِّ: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قال:(11/440)
أفرأيت قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9] الآية قال: وقد غلظتْ، وشدِّد أمرها حيث بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن قتيبة: إنَّ الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة بعد مبعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: إن النجم ينقضُّ، ويرمي الشيطان، ثم يعود إلى مكانه.
فصل
قال القرطبي: «اختلفوا في الشِّهاب: هل يقتل أم لا؟ .
فقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما الشِّهاب يَجرح، ويَحرِقُ، ويُخْبلُ، ولا يَقْتلُ.
وقال الحسنُ، وطائفةٌ: يقتل، فعلى هذا في قتلهم بالشهب قبل إلقائها السمع إلى الجنِّ قولان:
أحدهما: يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن، ولذلك ما يعودون إلى استراقه.
والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم، ولو لم يصل لا نقطع الاستراق، وانقطع الاحراقُ، ذكره الماوردي» .
قال القرطبي: «والقول الأول أصح؛ على ما يأتي بيانه في» الصافات «» .
فصل
قال ابن الخطيب: «في هذا الموضع أبحاثٌ دقيقة على ما ذكرناها في سورة الملك، وفي سورة الجن، ونذكر ههنا إشكالاً واحداً وهو: أنّ لقائل أن يقول: إذا جوَّزتم في الجملة، أن يصعد الشيطان إلى السماوات، ويختلط بالملائكةِ، ويسمع أخبار الغيوب منهم، ثم إنه ينزل، ويلقي تلك الغيوب، فعلى هذا يجب أن يخرج الإخبار عن المغيَّبات عن كونه معجزاً، لأنَّ كل غيبٍ يخبر عنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقوم فيه هذا الاحتمال؛ فيخرجُ عن كونه معجزاً دليلاً عل الصدقِ، ولا يقال: إن الله تعالى أخبر عنهم أنَّهم عجزوا بعد مولد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّا نقول: هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبكون القرآن الكريم حقًّا، والقطع بهذا، لا يمكن إلاَّ بواسطة المعجز، وكون الإخبار عن الغيب معجزاً، ولا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال، وحينئذٍ يلزم الدور، وهو محالٌ باطلٌ.
ويمكن أن يجاب عنه: بانا نثبت كون محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً، بسائر المعجزات، ثم بعد(11/441)
العلم بنبوته، نقطع بأن الله عَجَّزَ الشياطين عن تلقف الغيب، وبهذا الطريق يندفع الدَّور «.
قوله: {والأرض مَدَدْنَاهَا} » الأرْضَ «: نصبٌ على الاشتغال، ولم يقرأ بغيره؛ لأنه أرجع من حيث العطف على جملة فعلية قبلها، وهي قوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} [الحجر: 16] .
وقال أبو حيَّان:» ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية، كان النَّصب أرجح من الرفع «.
قال شهاب الدين: لَمْ يعدُّوةا هذا من القرائن المرجحة للنصب، إنما عندو عطفها على جملة فعلية قبلها، لا عطف جمعلة فعلية عليها، ولكنه القياس، إذ يعطف فيه فعلية على مثلها، بخلاف ما لو رفعت، إذ تعطف فعلية على اسمية، لكنهم لم يعتبروا ذلك.
والضمير في» فِيهَا «: للأرض. وقيل: للرَّواسي. وقيل: لهما.
فصل
لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التَّوحيد، أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع:
الأول: قوله: {والأرض مَدَدْنَاهَا} قال ابن عباسٍ: بسطناها على وجه الماءِ، وبسطت من تحته الكعبة.
النوع الثاني: قوله: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وهي الجبال الثوابت واحدها راسٍ، والجمع راسية وجم الجمع رواسي، قال ابن عباسٍ: لما بسط الله الأرض على الماء، مالت بأهلها كالسفينة؛ فأرساها الله بالجبال؛ لكيلا تميل بأهلها.
النوع الثالث: قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} ، يجوز فِي» مِنْ «أن تكمون تبعيضية، وهو الصحيح، وأن تكون مزيدة عند الكوفيين، والأخفش، والضمير في قوله:» فِيهَا «يحتمل أن يكون راجعاً إلى الأرض، وأن يكون راجعاً إلى الجبال الرواسي، إلاَّ أنَّ رجوعها إلى الأرض أولى؛ لأن أنواع النبات المنتفع بها، إنما تتولَّد في الأرض، وأما الجبلية، فقليلة النفع.
وقيل: رجوع الضمير إلى الجبال أولى؛ لأنَّ المعادن من الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، وغيرها؛ إنَّما تتولد في الجبال، والأشياء الموزونة في العرف والمعادة، هي المعادن لا النبات.
وفي المراد بالموزون وجوه:
قيل: المقَّدر بقدر الحاجة، أي: أنَّ الله تعالى يثبت ذلك المقدر بقدر ما يحتاج(11/442)
إليه الناس؛ لقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وقوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] .
وقيل: المناسب المطابق للحكمة كقولهم: كلامٌ موزونٌ، أي: متناسب بعيد عن اللغو، والمعنى: موزونٌ بميزان الحكمة، والعقل.
وقيل: موزونٌ؛ بمعنى أنَّ الذي تنبته الأرض نوعان: المعادنُ، والنباتُ، أما المعادن: فهي بأسرها موزنة، وأما النبات: فيرجع عاقبته إلى الوزنِ، كالمخترف، والفواكة في الأكثر.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} جحمع معيشة، أراد الله بها المطاعم، والمشارب، والملابس، وقيل: ما يعيش به المرءُ في الدنيا، وقد تقدَّم الكلام على المعايش في الأعرافِ.
قوله تعالى: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} ، يجوز في خمسة أوجه:
أحدها: قول الزجاج: أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ، تقديره: وأغنينا من لستم له برازقين، كالعبد، والدَّواب، والوحوش.
الثاني: أنه منصوب عطفاً على «مَعايِشَ» ، أي: وجعلنا لكم فيها معايش ومن لسْتُمْ له برازقين من الدَّواب المنتفع بها.
الثالث: أنه منصوب عطفاغً على محل «لَكُمْ» .
الرابع: أنه مجرور عطفاً على «كُمْ» المجرور بها اللام؛ وجاز ذلك من غير إعادة الجار على رأي الكوفيين، وبعض البصريين، وتقدم تحقيقه في البقرة، عند قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] .
الخامس: أنه مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، أي: ومن لستم له برازقين، جعلنا له فيها معايش، وسمع من العرب: ضربت زيداً، وعمروا، برفع «عمرو» ؛ مبتدأ محذوف الخبر، اي: وعمرو ضربته، و «مَنْ» يجوز أن يراد بها العقلاء، أي: من لستم له برازقين من مواليكم الذين تزعمون أنكم ترزقونهم، أو يراد بها غير العقلاء، أي: من لستم له برازقين من الدوابِّ، وإن كنتم تزعمون أنكم ترزقونهم؛ قال الله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45] ، وقال سبحانه: {يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] فذكرها بصيغة جمع العقلاء، ويجوز أن يراد بها النوعان؛ وهو حسنٌ لفظاً ومعنًى.
قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ} ، و «إنْ» : نافية، و «مِنْ» مزيدة في المبتدإ، و «عِنْدَنَ» خبره، و «خَزائِنهُ» فاعل به؛ لاعتماده على النَّفي، ويجوز أن يكون «عِندَنَا» خبراً ل «ما» بعده، والجملة خبر الأولى، والأولى أولى؛ لقرب الجارِّ من المفرد.(11/443)
قال الواحدي: «الخَزائِنُ: جمع الخِزانَة، وهي اسمُ المكمان الذي يُخْزنُ فيه الشيء، أي: يحفظ، والخِزانةٌ أيضاً عمل الخازن، ويقال: خَزَنَ الشَّيء يَخْزنهُ، إذ أحْرزَهُ» .
و «خَزَائِنهُ» هو المطر؛ لأنه سبب الأرزاق، والمعايش لبني آدم، وسائر الحيوانات.
قوله: «إلاَّ بقدَرٍ معلوم» يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنهخ حالٌ من المفعول، اي: إلا ملتبساً بقدرٍ.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يريد: قدر الكفايةِ، لكل ارضِ حدُّ مقدرٌ، وقال الحكم: ما من عامٍ بأكثر مطرٍ، من عام آخر؛ ولكنه يمطر قومٌ، ويحرمُ آخرون، وربما كان في البرح، يعني أنه تعالى ينزل المطر كلَّ عامٍ بقدرٍ معلومٍ، غير أنَّه يصرفه إلى من يشاء حيث يشاء.
ولقائل أن يقول: لفظ الآية لا يدلُّ على هذا المعنى، فإن قوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} ، لا يدلُّ على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوامِ على قدر واحد، فتفسير الآية بهذا المعنى تحكُّمٌ بغير دليلٍ.
وقال ابنُ الخطيب: «وتخصيص قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} بالمطر تحكم محضٌ؛ لأن قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ} يتناول جميع الأشياء، إلا ما خصه الدليل» .
روى جعفر، عن محمدٍ، عن أبيه، عن جده، قال: في العرش مثال جميع ما خلق الله في البر، والبحر، وهو تأويل قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} .
قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} الآية «لَواقِحَ» : حاتلٌ مقدرة من «الرِّياحِ» ، وفي اللواقح أقوال:
أحدها: أنها جميع «مُلْقِح» ؛ لأنه من ألْقَحَ يُلقحُ، فهو ملقحٌ، وجمعه مَلاقح، فحذفت اليمم؛ تخفيفاً، يقال: ألْقحَتِ الريحُ السَّحاب، كما يقال: ألْقحَ الفَحْلُ الأنثَى؛ ومثله: الطَّوائِحشُ، وأصله المطارحُ؛ لأنه من أطَاحَ يُطِيحُ، قال: [الطويل]
3271 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخصًومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ ممَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ
وهذا قول أبي عبيدة.
والثاني: أنه جمع لاَقِح، يقال: لقَحَتِ الريحُ: إذا حملتِ الماء، وقال الأزهري: حَوامِلُ تَحْمِلُ السَّحابَ؛ كقولك: ألقحتِ الناقةُ، فلَقِحتْ، إذا حملتِ الجَنين: َ في بَطْنِهَا، فشُبِّهتِ الريحُ بِهَا؛ ومنه قوله: [الطويل](11/444)
3272 - إذّا لَقِحَتْ حَرْبٌ عَوانٌ مُضرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تُهِرُّ النَّاس أنْيَابُهَا عُصْلُ
الثالث: أنَّها جمع لاقحٍ، على النسب؛ كالابنِ وتامرِ، أي: ذات لقاحٍ، لأنَّ الرِّحَ إذا مَرَّت على الماءِ، ثُم مرَّت على السَّحابِ، والماءِ، كان فيها لقاحٌ قاله الفراء.
فصل
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الرياحُ لوَاقِحُ الشَّجر والسَّحاب؛ وهو قول الحسن، وقتادة، والضحاك؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب؛ وأصله من قولهم: لقَحتِ الناقة، وألْقَحَهَا الفحلُ، إذا ألقى الماء فيها فحملت.
قال ابن مسعودٍ في تفسير هذه الآية: بعث الله الرياحَ؛ لتلقيح السحاب، فتحمل الماغء، وتمجّه في السحاب، ثم إنه يعصرُ السحاب، ويدره كما يدر اللقحة.
وقال عبيدٌ بن عيمر: يبعثُ الله الريح المبشرة، فتقم الأرض قماً، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث المؤلفة، فتؤلف السحاب بعضه إلى بعضٍ، فتجعله ركاماً، ثم ثبعث اللوَاقِحُ الشَّجر ثم تلا عبيد: «وأرسلنا الرياح لواقح» قال أبو بكر بنِ عيَّاشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لا تقطر القطرةُ من السماء إلا بعد أن تعمل الرياحُ الأربعة فيها، فالصَّبا تُهيِّجه، والشَّمالُ تَجمعُه والجَنوبُ تُدرُّه، والدَّبُور تُفرِّقه.
فصل
قال القرطبيُّ: «روي عن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} ، أي: ذوات لقح، فلقاحُ القمح عندي أن يحبب ويسنبل، ولقاح الشَّجر كُلها: أن تثمر ويسقط منها ما يسقط، ويثيبت منها ما يثبت» .
قال ابن العربيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنما عوَّل مالكٌ على هذا التفسير على تشبيه الشجر بلقاح الجملِ، وإنَّ الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه من الروحُ، كان بمنزلةِ تحبب الثَّمر، وتسنبله؛ لأنه سمِّي باسم تشتركُ فيه كلُّ حاملةٍ، وهو اللِّقاحُ، وعليه جاء الحديث:
«نَهَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَنْ بَيْعِ الحبِّ حتَّى يَشْتد» .
قال ابن عبد البرِّ: «الإبارُ عند أهل العلم في النخل: التَّلقيحُ، وهو أن يأخذ شيئاً(11/445)
من طَلع ذكور النخلِ؛ فيدخله بين ظهراني طلع الإناث، [ومعنى] ذلك في سائر الثمار [ظهور الثمرة] من التِّين، وغيره، حتَّى تكون الثَّمرة مرئية، حين ينظر إليها، والمعتبر عند مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأصحابه فيما يذكر من الثِّمار التذكر، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط، وفي الزروع ظهوره من الأرض» .
فصل
قال عليه الصلاة ولاسلام «مِنَ ابتَاعَ نَخْلاً بَعْندَ أن تُؤبَّر، فَثمَرتُهَا لِلبَائعِ، إلاَّ أن يَشْترِطَ المُبتَاعُ» فلا يدخل الثمر المؤبَّر مع الأصولِ ف يالبيع إلا بالشرط؛ لأنها موجودة يحاطُ بها أَمَنَةً من السقوط غالباً، بخلاف التي لم تؤبَّر، إذ ليس سقوطها غالباً، بخلاف التي لم تؤبر، إذ ليس سقوطها مأموناً، فلم يتحقق لها وجود، فلم يجز للبائع اشتراطها، ولا استثناؤها؛ لِأنها كالجنين.
فصل هل يجوز لمن اشترى النخل فقط أن يشتري الثمر قبل طيبه؟
اشترى النَّخل، وبقي الثمر للبائع، جاز لمشتري الأصل شراءُ الثمرة قبل طيبها، في المشهور عن مالكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ويرى لها حكم التعبيةِ، وإن انفردت بالعقدِ، وعنه في رواية أنه لا يجوز، وبه قال الشافعيُّ، وأبو حنيفة، والثَّوريُّ، وأهل الظاهر.
فصل في النهي عن بيع الملاقح والمضامين
نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن بَيعِ المَلاقحِ والمَضامِنيِ والمَلاقِحُ: الفحول من الإبلن، الواحد مقلحٌ، والمَلاقِحُ ما في بطون النوقِ من الأجنَّة، الواحدة: مَلْقُوحةٌ، من قولهم: لَقحْتُ، كالمَحْمُومِ من حَمّ، والمَجْنُون من جنّ، وفي هذا جاء النَّهيُ.
قال أبو عبدية: المَضامِينُ ما في البطونِ وهي الأجنَّةِ، والمَلاقِيحُ: ما في أصلابِ الفحُولِ، وهو قول سعيد بن المُسيَّبِ، وغيره.
وقيل: بالعكسِ.(11/446)
ونهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن بيع [المَجْر] وهو بيع ما في بطُونِ الأمَّهاتِ.
قال ابن عابس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ما هَبَّتْ ريح قَطُّ إلاَّ جَثَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلى رُكْبتَيْهِ، وقال: «اللَّهُمَّ اجْعلهَا رحْمةتً، ولا تَجْعلهَا عَذاباً، اللَّهُمَّ اجْعَلهَا رِيَاحاً ولا تَجْعلهَا رِيحاً» قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} [القمر: 19] ، {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} [الذاريات: 41] وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] وقال تعالى: {يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] .
قوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} ، قد تقدّم أنَّ الماء: هل ننزل من السماء أو من السحاب.
وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} ، قال الأزهريُّ: «تَقُولُ العربُ لِكُلِّ ما فِي بُطونِ الأنْعَامِ، ومِنَ السَّماءِ، أو نهْرٍ يَجْري: أسْقَيْتُه، أي: جعلته شَرْباً له، وجعلتُ له منها مَسْقى لشرب أرضه أو ماشيته، فإذا كانت السُّقْيَا لِسقْيهِ، قالوا: سَقاهُ، ولم يقولوا: أسْقَاه» .
ويؤكده اختلاف القراء في قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] ، فقرؤا باللغتين، وسيأتي بيانهما في السورة التي بعدها، ولم يختلفوا في قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الإنسان: 21] ، وفي قوله: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] .
قال أبو علي: سَقَيْتُه حتَّى رَوِيَ، وأسْقَيتهُ نَهْراً، جعلتهُ شُرْباً، وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} جعلناه سُقْياً لكم، وربما قالوا في «أسْقَى» سَقَى؛ كقول لبيدٍ يصفُ سحاباً: [الوافر]
3273 - أقُولُ وصَوْبُهُ منِّي بَعِيدٌ ... يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُللِ الجِبَالِ
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْراً والقَبائِلَ مِنْ هِلالِ
فقوله: «سَقَى قَوْمي» ليس يريد به ما يروى عطاشهم، ولكن يريد رزقهم سَقْياً لبلادهم، يخصبون بِها، وبعيدٌ أن يَسْألَ لِقومِهِ ما يروي العطاش به ولغيرهم ما يخصبون به، فأما سَقَيَا السَّقيَّة، فلا يقال فيها: أسْقاهُ. وأما قول ذي الرُّمة: [الطويل]
3274 - وأسْقِيهِ حتَّى كَادَ ممَّا أبُثُّهُ ... تُكلِّمُنِي أحْجَارهُ ومَلاعِبُه
[يريد بقوله: «أسقيه» : أدعو له بالسقاء، وأقول: سقاه الله] .(11/447)
واتَّصل الضميران هنا: لاختلافهما ربتة، ولو فصل ثانيهما، لجاز عند غير سيبويه وهذا كما تقدم في قوله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} [هود: 28] .
قوله تعالى: {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} جملة مستأنفة، و «لَهُ» متعلق ب «خَازِنينَ» ، والمعنى: أنَّ المطر في خَزائِننِا، ولا في خَزائِنكُمْ. [وقال سفيان: لستم بمانعين] .
قوله تعالى: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} الآية، هاذ النَّوع السادس من دلائل التوحيد، وهو الاستدلال بالإحياء، والإماتةِ على وجودِ الإلهِ القادر المختار.
قوله: «لَنَحْنُ» يجوز أن يكون مبتدأ، و «نُحْيِي» خبره، والجملة خبر «إنا» ويجحوز أن يكون تأكيداً ل «إنَّا» ، ولا يجوز أ، يكون فصلاً؛ لأ، هـ لم يقع بين اسمين، وقد تقدم نظيره [الحجر: 9] .
وقال أبو البقاء: لا يكون فصلاً لوجهين:
أحدهما: أن بعده فعلاً.
والثاني: أنَّ معه اللام.
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «الوجه الثاني: غلطٌ؛ فشإن لام التوكيد لا يمنع دخولها على الفصل، نصَّ النحاة على ذلك، ومنه قوله {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} [آل عمران: 62] ٍ، جوَّزوا فيه الفصل مع إقرانه باللام» .
فصل
من العلماءِ من حمل الأحياء على القدرِ المشتركِ بين إحياءِ النبات والحيوان، ومنهم من قال: وصف النبات بالإحياء مجاز؛ فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان، وقوله جل ذكره: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} يفيد الحصر، أي: لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا لنا، «ونَحْنُ الوَارثُونَ» إذا مات جميع الخلائق، فحينئذٍ يزول الملك كلِّ أحدٍ، ويكون الله سبحانه هو الباقي المالك لكلِّ المملوكات، وحده لا شريك له، فكان شبيهاً بالإرثِ.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين} قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما المستقدمين: الأموات، والمستأخرين: الأحياءُ.
وقال الشعبيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الأولين، والآخرين.
وقال عكرمة: المستقدمون: من خلق الله، والمستأخرون: من لم يخلق.(11/448)
وقيل: المستقدمين: القرون الأولى، والمستأخرين: أمة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال الحسن: المستقدمين: في الطَّاعة والخير، والمستأخرين: في صفِّ القتال.
وقال ابن عيينه: أراد من سلم، ومن لم يسلم.
وقال الأوزاعيُّ: أراد المصلِّين في أول الوقت، المؤخِّرين إلى آخره.
روى أبو الجوزاء، عن ابن عباس: كانت امرأةٌ حسناء تصلِّي خلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان قومٌ يتقدمون إلى الصف الأول؛ لئلا يرونها، وآخرون يتأخَّرون، ليرونها.
وفي رواية: أنَّ النساء كنَّ يخرجن إلى الجماعة، فيقفن خلف الرجال، من النساء من في قلبها ريبة، فتقدم إلى أول صفِّ النساء؛ لتقرب من الرجال؛ فنزلت الآية، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خَيْرُ صُفوفِ الرِّجالِ أوَّلُها وشَرُّها أخرُهَا، وخَيْرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُهَا وشَّرُّهَا أوَّلُهَا» .
وروري أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رغَّب في الصف الأول في الصلاة [فازدحم] النس عليه؛ فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية.
والمعنى: إنَّا نجزيهم على قدر نيَّاتهم.
فصل
قال القرطبي: «الآية تدلُّ على فضل أول الوقت في الصلاة، وعلى فضل الصف الأوَّل، كما تدل على فضل الصف الأول في الصَّلاة، كذلك تدلُّ على فضل الصفِّ الأول في القتال‘ فإنَّ القيام في وجه العدوِّ، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عملٌ، ولا خلاف في ذلك» .
واعلم أنَّ ظاهر الآية يدل على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم؛ فيدخل فيه(11/449)
علمه بتقدّمهم، وتأخرهم، في الحدوثِ، الوجود في الطاعات وغيرها؛ فلا ينبغي أن تخص بحالةٍ دون حالةٍ.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} على ما علم منهم، وذلك تنبيه على أنَّ الحشر، والنشر، البعث، والقيامة، أمرٌ واجبٌ {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي: أنَّ الحكمة تقتضي وجوب الحشر، والنشر، وعلى ما تقرر في أول سورة يونس عليه السلام.(11/450)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ} الآية هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد؛ لأنه ثبت بالدلائل القاطعه أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوَّل لها، وإذا ثبت هذا وجب انتهاء الحوادث إلى حادث أوَّل، هو أولُ الحوادث، وإذا كان كذلك، وجب انتهاء الناس إلى إنسانٍ هو أول الناس، وذلك الإنسان الأول، غير مخولقٍ من الأوبين؛ فيكون مخلوقاً لا محالة بقدرة الله تعالى.
فقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} إشارة إلى ذلك الإنسان الأول، وأجمع المفسرون على أن المراد آدمُ صلوات الله وسلامه عليه.
ونقل في كتب الشِّيعة، عن محمد بن علي الباقر، أنَّه قال: قد انقضى قبل آدم صلوات الله عليه الذي هو أبونا ألف ألف آدم، أو أكثر.
قال ابنُ الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «وها لا يقدحُ في حدوث العالم، بل الأمر كيف كان لا بدَّ من الانتهاء إلى إنسانٍ أول، هو أول الناس، فأما أن ذلك الإنسان الأول هو أبونا آدم، فلا طريق له إلاََّ من جهة السمع» .(11/450)
واعلم أنه تعالى قال: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] ، وقال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} [ص: 71] ، وقال هاهنا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} ، فطريقُ الجمع أنه جعل التُّرابَ طيناً، ثم تركه حتَّى صار حمأ مسنوناً، ثم خلقه منه، وتركه حتى جفّ، ويبس وصار له صلصلة.
واعلم أنه تعالى قادر على خقله من أي جنس أراد، بل هو قادرٌ على خلقه ابتداء، وإنما خلقه على هذا الوجه؛ إما لمحض المشيئة، أو لما فيه من دلالة الملائكة؛ لأنَّ خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلقِ الشَّيءِ من جنسه.
وسمِّي إنساناً: إما لظهوره وإدراك البصر إياه، وإمَّا من النسيان؛ لأنه عهد إليه فنسِي.
عن ابن مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: بعث الله تعالى جِبْريلَ عليه السلا إلى الأرض؛ ليأتيه بطينٍ منها، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص منِّي؛ فرجع ولم يأخذ، فقال يا ربِّ: أنها عاذتْ بك، فأعذتها، فبعث ميكايئيل صلوات الله عليه فعاذت منه، فأعاذها؛ فرجع، فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموتِ، فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذُ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخلطه، لم يأخذ من مكان واحدٍ، وأخذ من تربةٍ حمراء، وبيضاء، وسوجحاء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين.
وسُمِّي آدم؛ لأنه خلق من أديم الإرض، وصعد به، فقال الله تبارك وتعالى: «أما رَحِمْتَ الأرض حين تضرعت إليك» ؟ فقال: رأيتُ أمرك وأوجب من قولها، فقال جل ذكره: «أنت تقبض أرواح ولده قبل التراب حتى عاد طيناً لازباً، وهو يلتصُ بعضه ببعضٍ، ثم ترك، حتى أنتن، وصار حمأ مسنوناً، وهو المنتنُ.
ثم قال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} ، فخلقه الله بيده؛ لئلا يتكبَّر إبليس عليه، لقوله الله تعالى: أتتكبَّر على ما علمت بيدي، ولم أتكبر أنا عليه؟ .
فخلقه فكان جسداً من طينٍ أربعين عاماً، فلما رأتهُ الملائكة، فزعوا منه، وكان أشدَّهم منه فزعاً إبليسُ فكان يمرُّ به، فيضربه؛ فيصوتُ الجسدُ كما يصوتُ الفخَّار، وتكون له صلصلةٌ؛ فذلك قوله: {مِن صَلْصَالٍ كالفخار} [الرحمن: 14] ، ويقول: لأمر ما خلقت! ويدخل في فيه، ويخرج من دبره، ويقول للملائكة: لا ترهبوا منه؛ فإنه أجوف، ولئن سُلِّطت عليه، لأهلكنَّه، فلمَّا نفخ فيه الروح، ووصل إلى رأسه، عطس، فقالت الملائكة عليه السلام: قُل: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله له: رحمك ربُّك، فلما دخل الروح في عينيه، نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت الروحُ(11/451)
جوفه، اشتهى الطعام؛ فوثب قبل أن تبلغ الورح رجليه؛ عجلان إلى ثمار الجنَّة، فذلك قوله تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] .
قوله تعالى: {مِن صَلْصَالٍ} ، «مِنْ» : لابتداء الغاية، أو للتبعيضن، والصلصالُ: قال أبو عبيده هو الطين المختلط بالرمل، ثم يجفُّ؛ فسمع له صلصلةٌ، أي: تصويت، قال: والصلصلةُ: الصَّوتُ؛ وأنشدوا: [الكامل]
3275 - شَرِبَتْ أسَاوِيُّ القُطاةِ مِنَ الكَدرْ ... وسَرَتْ فَتَرْمِي أحْيَاؤهَا بِصَلاصِلِ
أراد: صوتَ أجْنحَةِ أفراخِهَا، حين تطيرُ، أو أصواتَ أفراخها.
وقال الزمخشريُّ: «الطِّينُ اليابس الذي يُصلصِلُ من غير طبخٍ، فإذا طبخ، فهو فخار» .
وقال أبو الهيثم: «هو صوتُ اللِّجامِ، وما أشبهه؛ كالقعقعة في الثوب» .
وقال الزمخشري أيضاً: قالوا: إذا توهَّمت في صوته مدًّا، فهو صليلٌ، وإن توهمت فيه خفاءً، فهو صلصلةٌ، وقيل: هو من تضعيف «صَلَّ» ، إذا أنتن أنتهى.
و «صَلْصَالٍ» هنا، بمعنى مُصَلْصِل؛ كزَلْزالٍ، بمعنى مُزَلْزِل، ويكون «فَعْلال» أيضاً مصدراً، ويجوز كسره أيضاً، وفي هذا النَّوع، أي: ما تكررت فاؤه، وعينه خلافٌ.
فقيل: وزنه: فَعْفَع؛ كُرِّرتِ الفاء والعين، ولا لام للكلمة؛ قاله الفراء، وغيره. وهو غلطٌ؛ لأنَّ أقلَّ الأصول ثلاثة: فاءٌ، وعينٌ، ولامٌ.
والثاني: أنَّ وزنه «فَعْفَل:؛ وهو قول الفرَّاء.
الثالث: أنه» فَعَّل «بتشديد العين، وأسله» صَلَّل «فلما اجتمع ثلاثة أميالٍ، أبدل الثاني من مجنس فاء الكلمة، وهومذهب كوفيٌّ، خصَّ بعضهم هذا لخلاف بما إذا لم يختل المعنى، بسقوطِ الثالث، نحو» لَمْلَمَ «و» كَبْكَبَ «فإنَّك تقول فيهما:» لَمَّ «، و» كَبَّ «، فول لم يصحَّ المعنى بسقوطه؛ نحو: سَمْسَمَ» ، قال: فلا خلافَ في أصالة الجميع.
قوله تعالى: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} فيه وجهان:
أحدهما أنه في محلِّ جر صفة ل «صَلْصَالِ» ؛ فيتعلق بمحذوف.
والثاني: أ، هـ بدل من «صَلْصالٍ» بإعادة الجارِّ. والحَمَأ: الطِّينُ الأسودُ المنتنُ.(11/452)
قال الليث رَحِمَهُ اللَّهُ: واحده «حَمَأة» بتحريك العين جمعله اسم جنسٍ؛ وقد غلط في ذلك؛ فإن أهل اللغة قالوا: لا يقال إلاَّ «حَمْأة» [بالإسكان] ، ولا يعرف التحريك؛ نصَّ عليه أبو عبيدة، وجماعة؛ وأنشدوا لأبي الأسودِ: [الوافر]
3276 - تَجِيءُ بمِلْئِهَا طُوْراً وطَوْراً ... تَجِيءُ بِحَمْأةٍ وقَلِيلِ مَاءِ
فلا يكون «الحَمَأة» واحدة «الحَمْأ» ؛ لاختلاف الوزنين.
والمَسْنُون: المَصْبُوب؛ من قولهم: سَنَنتُ الشَّرابَ، كأنَّه لِرُطُبتهِ جعل مَصْبُوباً، كغيره من المائعات، فكأن المعنى: أفرغ صورة إنسانٍ، كما تفرغ الجواهر المذابة.
قال الزمخشريُّ: وحقُّ «مَسْنُونٍ» بمعنى مصور: أن يكون صفة ل «صَلْصالٍ» ؛ كأنه أفرغ الحمَأ، فصوَّر منه تمثال شخصٍ. يعني أنه يصيرُ التقدير: من صلصالٍ مصوَّرٍ، ولكن يلزم تقديم الوصف المؤول على الصَّريح؛ إذا جعلنا: «مِنْ حَمَأ» صفة ل «صَلْصَالٍ» ، أمَّا إذا جعلناه بدلاً منه؛ فلا.
وقيل: مسنونٌ: مصوَّرٌ من سنَّة الوجه، وهي صورته؛ قال الشاعر: [البسيط]
3277 - تُرِيكَ سُنَّة وجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وقال الزمخشريُّ: والمَسْنُونُ: المَحْكُوكُ، مأخوذٌ من سننت الحجر، إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سَنَنٌ ولا يكون إلاَّ مُنْتِناً.
ومنه يسمَّى المسَن مسَنًّا؛ لأنَّ الحديد يحكُّ عليه.
وقيل: المسنونُ: المنسوب إليه، والمعنى ينسب إليه ذريته، وكأن هذا القائد أخذه من الواقع، وقيل: هو من أسنَّ الماء إذا تغيَّر، وهذا غلط؛ لاختلافِ المادتين.
رُوِيَ أنَّ الله تعالى خمَّر طينة آدم، وتركه حتى صار متغيِّراً أسود، ثم خلق منه آدم صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {والجآن خَلَقْنَاهُ} منصوب على الاشتغال، ورجَّح نصبه؛ لعطف جملة على جملة فعليةٍ.(11/453)
والجَّانُّ: أبُو الجنّ، هو إبليس؛ كآدم أبي الإنسِ، وقيل: هو اسمٌ لجنسِ الجن.
وقرأ الحسن: «والجَأن» بالهمز، وقد تقدّم الكلام في ذلك في أواخر الفاتحة.
فصل
قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الجان ِأبو الجن؛ كما أن آدم أبو البشر، وهو قول الأكثرين.
وروي أيضاً عن ابن عباسٍ، والحسن، ومقاتل، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: هو إبليس، خلق قبل آدم.
وقيل: الجانُّ أبو الجن: وإبليس أبو الشياطين، وفي الجنِّ: مسلمون، وكافرون، ويحيون ويموتون، وأما الشيَّاطين؛ فليس سفهم مسلمون، ويموتون إذا مات إبليس.
وذكر وهبٌ: أنَّ من الجن من يولد له، ويأكلُونَ، ويشربون بمنزلة الآدميِّين، ومن الجن من هم بمنزلةِ الرِّيح: لاتوالدون، ولا يأكلون، ولا يشربون.
قال ابن الخطيب: «والأصحُّ أن الشياطين قسمٌ من الجن، فمن كان منهم مؤمنٌ فإنه لا يسمَّى بالشيطان، ومن كان منهم كافرٌ، سمِّي بهذا الاسم. وسمُّوا جنًّا؛ لاستتارهم عن الأعين، ومنه يسمَّى الجنينُ؛ لاستتاره عن الإعين، في بطن أمِّه، والجنَّةُ: ما تَقِي صابحها، وتستره، ومنه سمِّيت الجنة؛ لا ستتارها بالأشجار» .
قوله تعالى: {مِن قَبْلِكَ} ، و «مِن نَارٍ» متعلقان ب: خَلَقْنَاهُ «؛ لأنَّ الأولى لابتداءِ الغاية، والثانية للتعبيض، وفيه دليلٌ على أنَّ» مِنْ «لابتداءِ الغاية في الزمان، وتأويل البصريين له، ولنظائره بعيد.
فصل
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:» يريد قبل خلق آدم صلوات الله وسلامه عليه «ز والسَّمومُ: ما يقتل من إفراطِ الحرّ من شمس، أو ريح، أو نار؛ لأنها تدخل المسامَّ فتَقْتلُ.
قيل: سُمِّيت سمُوماً؛ لأنها بلطفها تدخل في مسامِّ البدن، وهي الخروقُ الخفيَّة التي تكون في جلد الإنسان، يبرز منها عرقه وبخار بطنه.(11/454)
وقيل: السَّمومُ ما كان ليلاً، والحرورُ ما كان نهاراً. وعن ابن عباس: نارٌ لا خانلها.
قال أبو صالح: والصَّواعِقُ تكون منها، وهي نار بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله أمراً، خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به، فالهَدَّةُ التي تسمعون؛ خرق ذلك الحجاب.
وقيل: نار السموم: لهب النَّار. وقيل: نارُ جهنَّم.
وروى الضحاك، عن ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كان إبليس من جنسِ من الملائكة، يقال لهم الجن، خلقوا من نارِ السَّمومِ، وخلقت الجنُّ الذين ذكروا من مارج من نارِ، والملائكة خلقوا من نورٍ.
وقيل: {مِن نَّارِ السموم} من إضافةِ الموصوف لصفته.
قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ} الآية، لما استدلَّ بحدوثِ الإنسان؛ على وجود الإله القادر المختار؛ ذلك بعده واقعته، وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له، والمراد بكونه بشراً، أي: جسماً يباشر ويلاقى، والملائكة، والجن لا يبشارون؛ للطف أجسامهم، والبشرة: ظاهر الجِلدِ مِنْ كُلِّ حيوانٍ، وتقدَّم ذكر الصلصالِ، والحَمأ المَسْنُونِ.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي: شكلته بالصورة الإنسانية، والخلقة البشرية.
وقيل: سوَّيتُ أجزاء بدنه: باعتدالِ الطَّبائعِ، وتناسب الأمشاجِ، نَفخْتُ فيه من روحي؛ فصار بشراً حيًّا.
والرُّوحُ: جسمٌ لطيفٌ، يحيا به الإنسان، وقيل: الرُّوحُ: هي الرِّيح؛ لأنَّ النَّفخ أخذ الريح في تجاويف جسم آخر؛ فظاهر قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} يشعر بأنَّ الروح هي الريح، وإلا لما صحَّ وصفها بالنَّفخ، وسيأتي بقيةُ الكلام على الروح عند قوله: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ، وأضاف روح آدم صلوات الله وسلامه عليه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً.
قوله تعالى: {فَقَعُواْ لَهُ} ، يجوز أن تتعلق اللام بالفعل قبلها، وأن تتعلق ب» سَاجِدينَ «.
فصل
ظاهر قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} يدل على وجوب(11/455)
السجود على الملائكة؛ لأنه مذكمور بفاء التَّعقيب؛ وذلك يمنُ التَّراخي.
قوله «أجْمَعُونَ» تأكيد ثانٍ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت؛ خلافاً لبعضهم.
وقال سيبويه: قوله: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} «توكيدٌ بعد توكيدٍ» . وسئل المبرد عن هذه الآية فقال: لو قال: فَسجَدَ الملائِكَةُ «احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال: كُلُّهم زال هذا الاحتمال، فظهر أنهم بأسرهم سجدوا، ثم بعد هذا بقي احتمال وهو أنَّهم: هل سجدوا دفعة واحدة؟ أو سجد كل واحدٍ في وقت؟ . فلما قال: أجْمَعُون ظهر أن الكلَّ سجدوا دفعةً واحدةً. ولما حكى الزجاج هل القول، عن المبرد، قاتل:» وقول الخليل، وسيبويه أجودُ؛ لأن «أجْمَعِينَ» معرفةٌ؛ فلا يكون حالاً «.
قال أبو البقاء:» لكان حالاً لا توكيداً «. يعنى أنَّه يفيد إفادة الحال مع أنه توكيدٌ؛ وفيه نظر؛ إذ لا منافاة بينهما بالنسبة إلى المعنى، ألا ترى أنه يجوز:» جاؤوني جَمِيعاً «مع إفادته، وقد تقدم تحريرُ هذا [البقرة: 38] ، وحكاية ثعلب مع ابن قادم.
قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} تقدَّم الكلام على هذا الاستثناء في البقرة.
قال القرطبيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:» الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، حتَّى ولو قال له: عليَّ دينارٌ إلا ثوباً، أو عَشْرة أثْوابٍ، إلاَّ قفيز حِنظَةٍ، وما جانس ذلك يكون مقبُولاً، ويسقط عنه من المبلغ قيمة الثوبِ، والحِنْطةِ ويستوي في ذلك: المكِيلات، والمَوزونَات، والمُقدَّرات «.
وقال مالكٌ، وأبو حنيفة رضي الهل عنهما: استثناء المكيل من الموزون، والموزون من المكيل جائزٌ؛ حتى لو ساتثنى الدَّراهم من الحنطةِ، والحنطة من الدراهم، قُبِلَ، أمَّا إذا استثنى المقوَّماتِ من المكيلاتِ، أو الموزوناتِ، والمكيلاتِ من المقوماتِ؛ فلا يصحُّ؛ مثمل أن يقول: له عشرة دنانير إلاَّ ثوباً، أو عشرة أثواب إلاَّ ديناراً، فيلزم المقرُّ جميع المبلغ.
قوله تعالى: {أبى أَن يَكُونَ} ، استئنافٌ؛ وتقديره: أنَّ قائلاً قال: هلاَّ سجد؟ فقيل: أبي ذلك، واستكبر عنه.
قوله تعالى: {قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} قال بعض المتكلمين: إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس، على لسان بعض رسله؛ وهذا ضعيف؛ لأنَّ إبليس قال في الجواب: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ} ، فقوله:» خَلَقْتهُ «خطاب الحضورِ، لا خطاب الغيبة؛ فظاهره يقتضي أنَّ الله تعالى تكلم مع إبليس بعغير واسطة.(11/456)
فإن قيل: كيف يعقل هذا؛ مع أنَّ مكالمة الله تعالى من غير واسطةٍ من أعظم الناصب، وأعلى المراتب، فكيف يعقل حصوله لرأسِ الكفرِةِ؟ .
فالجواب: أنَّ مكالمة الله إنما تكون منصباً عالياً، إذا كان على سبيل الإكرامِ والإعظام، فأما إذا كان على سبيل الإهانة، والإذلال، فلا.
وقوله: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ} لتأكيد النَّفي، معناه: لا يصحُّ منَّي أن أسجد لبشر.
وحاصل كلامه: أن كون بشراً يشعر بكمونه جسماً كثيفاً، وهو كان روحانيًّا لطيفاً، فكأنه يقول: البشر جسماني كثيف، وأنا روحاني لطيف، والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف، فيكف يكون للأدنى سجود للأعلى؟ .
وأيضاً: فآدم مخلوقٌ من صلصالٍ، تولَّد من حمأ مسنون، وهذا الأصل في غاية الدناءة، وأصل «إبْليسَ» : هو النار، والنار هي أشرف العناصر فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم؛ فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدنى؛ فهذا مجموع [شبهة] إبليس.
{قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} ، وهذا ليس جواباً عن الشُّبهة على سبيل التصريح، بل جواب على سبيل التنبيه.
وتقديره: أن الذي قاله الله تعالى نصٌّ، والذي قاله إبليس قياس، ومن عارض النصَّ بالقياس، كان رجيماً ملعوناً، وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة الأعراف.
والضمير في: «مِنْهَا» : قيل: من جنَّة عدنٍ، وقيل: من السمواتِ، وقيل: من زمرة الملائكةِ.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يريد يوم الجزاء حيث يجازى العبادُ بأعمالهم.
و {إلى يَوْمِ} يجوز أن يتعلق بالاستقرار في: «عَليْكَ» ، ويجوز أن يتعلق بنفس اللعنة.
فإن قيل: كلمة «إلى» تفيد انتهاء الغايةِ؛ فهذا يشعر بأنَّ اللعن لا يحصل إلاَّ يوم الدِّين، وعند القيامة يزول اللَّعن.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن المراد التأبيد، وذكر القيامة أبعد غاية تذكرها الناس في كلامهم؛ كقولهم: {مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 108] في التَّأيد.
والثاني: أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين،(11/457)
من غير أن يعذب، فإذا جاء ذلك اليوم، عذِّب عذاباً [ينسى] اللعن معه، فيصير اللَّعن حنيئذٍ كالزائلِ؛ بسبب أنَّ شدّضة العذاب تذهل عنه.
قوله: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وهذا متعلق بما تقدم، والتدقير: إذا جعلتني رجيماً إلى يوم القيامة؛ فأنظريني، أراد ألاَّ يموت، والمراد من قوله: {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، يوم البعثِ، والنُّشورِ، وهو يوم القيامة؛ فقال تعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} قيل: وقت النفخةِ الأولى حين يموت الخلائق؛ لأن من المعلوم أن تموت الخلائق فيه.
وقيل: سمِّي معلوماً؛ لأنه لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] .
وقيل: يوم الوقت المعلوم: يوم القيامة.
فإن قيل: لمَّا أجابه الله إلى مطلوبه لزم ألاَّ يموت إلى وقت قيام القيامة، [و] وقت قيام القيامة لا موت، فلزم ألا يموت بالكلية فالجواب: يحمل قوله {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} : إلى ما يكون قريباً منه، و [الوقت] الذي يموت فيه كلُّ المكلفين قريبٌ من يوم البعث.
وقيل: {يَوْمِ الوقت المعلوم} لا يعلمه إلا الله.
قيل: لم تكن إجابة الله تعالى له في الإمهالِِ إكرماً له، بل كان زيادة في بلائه وشقائه.
قوله: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} الباء للقسم، و «مَا» مصدرية، وجواب القسم {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} والمعنى: أقسم بإغوائك إيايّ، لأزينن؛ كقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] إلاَّ أنه في هذا الموضع أقسم بعزة الله تعالى وهي من صفاتِ الذات، وفي قوله: {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} ، أقسم بإغواء الله، وهو من صفات الأفعال، والفقهاء قالوا: القسم بصفاتِ الذَّات صحيحٌ، واختلفوا في القسم بصفاتِ الأفعال.
ونقل الواحديُّ هنا عن بعضهم: أنَّ الباء هاهنا سببية، أي: بسبب كوني غاوياً، لأزيننَّ؛ كقول القائل: «أقْسمَ فُلانٌ بِمعْصِيتهِ، ليَدْخُلنَّ النَّار، وبِطاعَتهِ ليَدْخُلنَّ الجَنَّة» .
ومعنى: {أَغْوَيْتَنِي} : أضْللْتَنِي، وقيل: خَيَّبْتَنِي من رحمتك، {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} حبَّ الدنيا، ومعاصيك.
والضمير في: «لَهُمْ» لذرية آدم عليه السلام وإن لم يجر لهم ذكر؛ للعلم بهم.
و «لإْغْوِيَنَّهُمْ» : لأضلَّنَّهُم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين قرأ ابن كثير،(11/458)
وابن عامر، وأبو عمرو: «المُخْلصِينَ» بكسر اللام، والباقون: بفتح اللاَّم.
ومعنى القراءة الأولى: أنهم أخلصوا دينهم عن الشَّوائب؛ ومن فتح اللاَّم، فمعناه: الذين أخلصهم الله بالهداية.
فصل
قال ابن الخطيب: «واعلم أنَّ الذي حمل» إبليس «على ذكر هذا الاستثناء ألاَّ يصير كاذباً في دعواه، فلما احترز» إبليس «عن الكذب، علمنا أنَّ الكذب في غاية الخساسةِ» .
فصل
قال رويمٌ: «الإخلاص في العمل: وهو الأَّ يريد صاحبه عليه عوضاً في الدَّارين، ولا عوضاَ من المكلفين» .
وقال الجندي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الإخلاص: سرُّ بين العبد، وبين الله تعالى لا يعلمه ملكٌ فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوًى فيمليه.
وذكر القشيريُّ، وغيره عن النبي صلى الله علي هوسلم أنه قال: «سَألتُ جِبْريلَ عليه السلام عن الإخْلاًِ ما هُو؟ فقالَ: سَألتُ ربَّ العِزَّةِ عَنِ الإخْلاصِ ما هُو؟ فقال: سِرِّي اسْتودَعْتهُ قلبَ مَنْ أحْبَبْتهُ مِنْ عِبَادي» .
قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ} «هَذَا» إشارة إلى الإخلاص المفهوم من المخلصين.
وقيل: إلى انتفاء تزْيينه، وأغوائهه على من مرَّ عليه، أي: على رضواني، وكرامتي.
وقيل: «عَلى» بمعنى: «إلَى» ، نقل عن الحسنِ.
وقال مجاهدٌ: الحقُّ يرجع إلى الله تعالى وعليه طريقة، لا تعرج على شيءٍ.
وقال الأخفش: يعني عليَّ الدَّلالةُ على الصراطِ المستقيم.
وقال الكسائي: هذا على التّهديد والتوعيد؛ كما يقول الرجل لمن يخاصمه: طريقتك علي أن لا تفلت منِّي، قال تعالى: {لبالمرصاد} [الفجر: 14] .
وقرأ الضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، وأبن سيرين، ويعقوب في آخرين: «عليُّ» ، أي: عالٍ مرتفعٌ.
وعبَّر بعضهم عنه: رفيع أن ينال «مُسْتقِيمٌ» أن يمال.(11/459)
قوله تعالى: {عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أعلم أن إبليس لما قال {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} أوهم أنَّ له سلطاناً على غير المخلصين، فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطانٌ على أحد م نعبيد الله سواء كان مخلصاً أو غير مخلص، لكن من اتبع منهم إبليس باختياره؛ ونظيره قوله حكاية عن إبليس: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] ، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100] فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً.
قال الجبائيُّ: «هذه الآية تدلُّ على بطلان قول من زعم أنَّ الشيطان، والجنَّ يمكنهم صرع الناس، وإزالة عقولهم» .
وقيل: الاستثناء متصلٌ؛ لأنَّ المراد ب «عِبَادي» العموم، طائعهم، وعاصيهم وحينئذ يلزم استثناء الأكثر من الأقلِّ.
وأراد بالعباد الخلَّص؛ لأنه أضافهم إليه إضافة تشريفٍ، فلم يندرج فيه الغوون؛ للضمير في موعدهم.
قال القرطبي: «قال العلماء في معنى قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} : يعني على قلوبهم» .
وقال ابن عيينة: «يلقيهم في ذنب ثم أمنعهم بعفوي: أو: هم الذين هداهم الله، واجتباهم، وأختارهم، واصطفاهم» .
فإن قيل: قد أخبر الله تعالى، عن آدم، وحواء صلوات الله وسلامه عليهما بقوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان} [البقرة: 36] وعن جلمة من أصحاب نبيَّه {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} [آل عمران: 155] .
فالجواب: أنه ليس له سلطان على قلوبهم، ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهمخ في ذنب يؤول إلى عدم العفو، بل يزيله بالتوبة، ولم يكن خروج آدم عقوبة على ما تقدم بيانه في البقرة.
وأما أصحاب النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد مضى القول عليه في «آل عمران» ، ثم إنَّ قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} يحتمل أن يكون حاصلاً فيمن حفظ الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات، وقد يكون ي تسليطه تفريج كربه، وإزالة عمه؛ كما فعل ببلالٍ، إذْ أتاه يهديه، كما يهدَّى الصبيُّ حتى نام، ونام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، وفزعوا، وقالوا: ما كفَّارةُ ما صَنعنَا في تَفْريطِنَا في صَلاتِنَا؟ فقال لهُم النبيُّ صلى الله عليه سلم «ليْسَ في النَّوْمِ تَفْرِيطٌ» ؛ ففرَّج عَنْهُم.(11/460)
وقال ابن عطيَّة: تأكيد فيه معنى الحال من الضمير في «مَوْعِدهُم» ، والعامل فيه معنى الإضافة، قاله أبو البقاء «.
وفي مجىء الحال من المضاف إليه، خلافٌ، ولا يعمل فيها الموعد، إن أريد به الكان، فإن أريد به المصدر، جاز أن يعمل؛ لأنه مصدرٌ، ولكن لا بدَّ من حذف مضاف، عي: مكان موعدهم.
قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وهو الظاهر، ويجوز أن تكمون خبراً ثانياً، ولا يجوز أن تكون حالاً من» جَهنَّم «؛ لأن» إنَّ: «لا تعمل في الحال، قال ابو البقاء. وقياس ما ذكروه في» لَيْتَ، وكأنَّ، ولعلَّ «من أخواتها من أعمالها في لحال؛ لأنَّها بمعنى: تمنيَّتُ وشبهت، وترجيت أ، تعمل فيها» إنَّ «أيضاً؛ لأنَّها بمعنى أكدتُ، ولذلك عملت عمل الفعل، وهي أصل الباب.
فصل
قال عليٌّ كرم الله وجهه: هل تدرون كيف أبوا النًَّار؟ ووضع أحدى يديه على الأخرى، أي: سبعةٌ أبوابٍ، بضعها فوق بعض، وأنَّ الله تعالى وضع الجنان على العرض، ووضع النِّيران بعضها على بعض.
قال ابن جريج: النار سبع دركاتٍ: أولها جهنَّم، ثمَّ لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم الجحيم، ثم الهاوية.
قال الضحاك: الطبقة الأولى: فيها أهل التوحيد، يعذَّبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها، والثانية: لليهود والثالثة: للنَّصار، والرابعة: للصابئين، وروي أن الثانية: للنصارى، والثالثة: لليهودِ، والرابعة للصابئين، والخامسة: للمجوسِِ، والسادسة: للمشركين، والسابعة: للمنافقين؛ قال تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] .
قوله:» مِنهُمْ «يجوز أن يكون حالاً من» جُزءٌ «؛ لأنَّه في الأصل صفة له، فلما قدمت، انتصبت حالاً، ويجوز أن يكون حالاص من الضمير المستتر في الجارِّ، وهو:» لكُلِّ بابٍ «، والعامل في هذه الحال، ما عمل في هذا الجارِّ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في:» مَقسُومٌ «؛ لأنَّ الصفة لا تعمل فيها قبل الموصوف، ولا يجوز أن تكون صفة ل» بابٍ «؛ لأنَّ الباب ليس من النَّاس.
وقرأ أبو جعفر:» جُزٌّ «بتشديد الزَّاي من غير همزٍ، فكأنه ألقى حركة الهمزة على الزَّاي، ووقف عليها فشدَّدها؛ كقولك:» خَبّ «في» خبءُ خالد «ثم أجري الوصل مجرى الوقف.(11/461)
الجُزِْءُ: بعض الشيء، والجمع: أجزاء، وجَزَّأتهُ: جعلته أجزاء. والمعنى: أنه تعالى يُجزِّىء أبتاع إبليس أجزاءَ، أي: يجعلهم أقساماً، ويدخل في كل باب من أبواب جهنَّم طائفة؛ والسبب في ذلك: أنَّ مراتبَ الكفر مختلفةٌ بالغلظةِ والخفة.(11/462)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الآياتِ، لمَّا شرح أحوال أهل العقاب، أتبعه بصفة أهل الثَّواب.
وروي أنَّ سلمان الفارسيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما سمع قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] مَرَّ ثلاثةُ أيَّام من الخوفِ لا يعقلُ، فَجيء به إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم فسأله، فقال: يا رسول الله، نزلت هذه الآية: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] : فوالذي بعثك بالحق نبيًّا، لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: [أراد] بالمتقين: الذين اتقوا الشِّرك بالله تعالى، والكفر به، وبه قال جمهور الصحابة، والتَّابعين.
وهو الصحيح؛ لأنَّ المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة، كما أن الضَّارب هو الآتي بالضرب، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة، فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً، وقاتلاً، أن يكون آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل، ليس من شرط صدق الوصف بكونه متَّقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى؛ لأنَّ الآتي بفردِ واحدٍ من أفراد التقوى، يكون آتياً بالتقوى؛ لأنَّ كل فردٍ من أفراد الماهية، يجب كونه مشتملاً على تلك الماهيَّة، وبهذا التحقيق استدلُّوا على أنَّ الأمرَ لا يفيد التَّكرار.
وإذا ثبت هذا فنقول: أجمعت الأمة على أنَّ التقوى عن الكفر شرط في حصول المحكم بدخول الجنة.
وقال الجبائي، وجمهور المعتزلةِ: المتقين: هم الَّذين اتَّقوا جميع المعاصي، قالوا: لأنه اسم مدحٍ، فلا يتناولُ إلاَّ من [كان] كذلك.
واعلم أنَّ الجنات أربعةٌ؛ لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ثم قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] فيكمن [المجموع] أربعة.
قوله: «وعُيُونٍ» : قرأ ابن كثيرٍ، والأخوان، وأبو بكر، وابن ذكوان: بكسر عين «(11/462)
عِيُونٍ» منكراً، والعينُّ معرف حيث وقع؛ والباقون: بالضمِّ، وهو الأصل.
فصل
الجنَّاتُ: البَساتِينُ، والعُيونُ: يحتمل أن يكون المراد بها الأنهار المذكمورة في قوله تعالى: {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15] ، ويحتمل أن يكمون امراد من هذه العيون منافع مغايرة لتلك الأنهار.
قوله: {ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} العامة على وصل الهمزة من: دَخَلَ يَدخُل، وقد تقدم خلاف القراء في حركة هذا التنوين، لالتقاءِ السَّاكنين في البقرة: [173] .
وقرأ يعقوب رَحِمَهُ اللَّهُ بفتح التنوين وكسر الخاء، وتوجيهها: أنَّه أمرٌ من: أدْخَلَ يَدْخلُ فلما وقع بعد «عُيونِ» ألقى حركة الهمزة على التنوين؛ لأنها همزة قطع ثمَّ حذفها، والأمر من الله تعالى، للملائكةِ، أي: أدخلوها أيَّاهم.
وقرأ الحسن، ويعقوب أيضاً: «أُدخِلُوها» ماضياً مبنياً للمفعول، إلا أنَّ يعقوب ضمَّ التنوين ووجهه: أنه أخذه من أدخل رباعياً، فألقى حركة همزة القطع على التنوين كما ألقى حركة المفتوحةِ في قراءته الأولى، والحسن كسرهُ على أصل التقاءِ الساكنين، ووجهه: أن يكون أجرى همزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط.
وقراءة الأمر على إضمار القول، أي: يقال لأهل الجنَّة: أدخلوها، أو يقال للملائكة: أدخلوها إياهم، وعلى قراءة الإخبار يكون مستأنفاً من غير إضمارٍ، وقوله «بِسَلامٍ» حالٌ: أي: ملتبسين بالسلامة أو مسلماً عليكم.
و «آمنِينَ» حال أخرى، وهي بدلٌ مما قبلها، إما بدل كلُ من كلِّ وإما بدل اشتمالِ؛ لأن الأمن مشتملٌ على التحية أو بالعكسٍ، والمعنى: أمنين من الموت، والخورج، والآفات.
فإن قيل: إن الله تعالى [حكم] قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون، وإذا كانوا فيها فكيف يقال لهم: «ادْخُلُوها» ؟ .
فالجواب: أنَّهم لما ملكوا جنات كثيرة، فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم: {ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} .
قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} الغِلُّ: الشَّحناءُ، والعداوة الحقد الكامن(11/463)
في القلب، مأخوذ من قولهم: أغلَّ في جوفه، وتغلغل.
قوله: «إخْوَاناً» يجوز أن يكون حالاً من «هُمْ» في «صُدُورهِمْ» ، وجاز ذلك‘ لأنَّ المضاف جزءُ المضاف إليه.
وقال أبو البقاءِ: والعامل فيها معنى الإلصاق، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «ادْخُلوهَا» على أنها حال مقدرة، قاله أبو البقاء. ولا حاجة إليه بل هو حال مقارنة.
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في قوله: «جَنَّاتٍ» .
قوله «على سُررٍ» ، يجوز أن يتعلق بنفس «إخواناً» ، لانه بمعنى متصافين، أي: متصافين على سُررٍ، قاله أبو البقاء؛ وفيه نظر؛ حيث تأويل جامدٍ بمشتقٍّ، بعيد منه.
و «مُتَقابِلينَ» على هذا حالٌ من الضمير في «إخْواناً» ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل «إخْواناً» ، وعلى هذا ف «مُتقَابِلينَ» حالٌ من الضمير المستطنِّ في الجارِّ، ويجوز أن يتعلق ب «مُتَقَابلينَ» ، أي: متقابلين على سررٍ، وعلى هذا ف «مُتَقَابلينَ» من الضمير في «إخْواناً» أو صفة ل «إخْوَاناً» .
ويجوزم نصبه على المدحِ، يعني: أنه لا يمكن أن يكون نعتاً للضمير فلذلك قطعَ.
والسُّررُ: جمع سَريرٍ، وهو معروفٌ، ويجوز في «سُررٍ» ، ونحوه مما جمع على هذه الصيغةِ من مضاعف «فَعِيل» فتح العين؛ تخفيفاً؛ وهي لغة بني كلبٍ وتميم، فيقولون: سُرَرٌ وجُدَدٌ، وذلك في جمع سرير وجديد.
قال المفضل: لأنَّهم يستثقلون الضمتين المتوالتين في حرفين من جنس واحد.
فصل
قال بعض أهل المعاني: السَّريرُ: مجلسٌ رفيعٌ مهيَّأ للسُّرورِ، وهو مأخوذ منه؛ لأنه مجلس سرورٍ. متقابلينَ: يقالب بعضهم بعضاً، ولا ينظر أحد منهم إلى قفا صاحبه، والتَّقابلُ: التواجه، وهو نقيضُ التَّدابر.
قوله: {يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} يجوز أن تكون هذه مستأنفة، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير في «مُتَقَابلينَ» .
والنَّصَبُ: التَّعَبُ، يقال منه: نَصِبض يَنْصَبُ فهو نَصِبٌ ونَاصِبٌ، أنصبني كذا، قال: [الطويل]
3278 - تَأوَّبَنِي هَمٌّ مَعَ اللَّيْلِ مُنصِبُ..... ... ... ... ... ... ... ...
وهمَّ ناصبٌ، أي: ذُو نصبٍ، كلابن وتامر؛ قال النابغة: [الطويل](11/464)
3279 - كِلينِي لِهَمِّ يَا أمَيْمة نَاصبٍ ... ولْلٍ أقَاسيهِ بَطيءٍ الكَواكِبِ
و «مِنْهَا» متعلقه «بمُخْرجين» .
وهذه الآية أنصُّ آيةٍ في القرآن على الخلود.(11/465)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
قوله تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} أثبت الهمزة الساكنة في «نَبِّىء» صورة، وما أثبت في قوله: «دِفْءٌ» ؛ لأنَّ ما قبلها ساكنٌ، فهي تحذف كثيراً، وتلقى حركتها على الساكن قبلها ف «نَبِّىءْ» في الخط على تحقيق الهمزة، وليس قبل همزة «نَبِّىْ» ساكن؛ فأخَّروها على قياس الأصل.
وقوله: أنَا الغَفورُ «يجوز في» أنَا «أن يكون تأكيداً، أن يكون فصلاً» .
وقوله: {هُوَ العذاب} يجوزم في «هُوَ» الابتداء، والفصل، ولا يجوز التوكيد؛ إذ المظهر لا يؤكَّد بالمضمر.
فصل
ثبت في أصول الفقه أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناصب يشعر بغلبةِ ذلك الوصف، فهاهنا وصفهم بكونهم عباده، ثم ذكر عقب هذا الوصف الحكم بكونه غفوراً رحيماً، وهذا يدلُّ على أنَّ كلَّ من اعترف بالعبودية، وكان في حقِّه غفوراً رحيماً، ومن أنكر ذلك، كان مستوجباً للعذاب الأليم.
وفي الآية لطائف: أولها: أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: «عِبَادي» وهذا تشريفٌ عظيمٌ، ويدل عليه قوله: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] .
وثانيها: أنه لما ذكر المغفرة، والرحمة بالغ في التَّأكيدات بألفاظٍ ثلاثة:
أولها: قوله: «أنِّي» .
وثانيها: «أنَا» .
وثالثها: إدخال الألف واللام على قوله: «الغَفُور الرَّحيمُ» ، ولما ذكر العذاب، لم يقول: إني إنا ولَمْ يَصفْ نفسهُ بِذلكَ، بل قال عزَّ وجلَّ: {عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} .
وثالثها: أنه تعالى أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يبلغ إليهم هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه بالتزام المغفرة، والرحمة.
ورابعها: أنه تعالى لمَّا قال: {نَبِّىءْ عِبَادِي} كان معناه: كلّ من اعترف(11/465)