موضع كذا " فكانت براءة من آخر القرآن نزولا، فتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبين موضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقرنت بينهما.
قال الن العربي " هذا دليل على أن القياس أصل في الدين؛ ألا ترى إلى عثمان بن عفان وأعيان الصحابة، كيف نحوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الأنفال " فألحقوها بها؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الأحكام "؟
قال القاضي: " لا يبعد أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام بين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال؛ لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى، ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل، ولو جوزنا في بعض السور ألا يكون ترتيبها من الله تعالى على سبيل الوحي، لجوزنا مثله في سائر السورة، وفي آيات السورة الواحدة، وتجويزه يعضد ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة ".
والصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحيا، فإنه عليه الصلاة والسلام حذف " بسم الله الرحمن الرحيم " من أول هذه السورة وحيا.
الوجه الثاني: روي عن أبي بن كعب أنه قال: إنما توهموا ذلك، لأن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى، والسؤال المذكور عائد هنا، لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا: إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة.
الوجه الثالث: أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال، وسورة التوبة هل هما سورة واحدة أم سورتان؟ قال بعضهم: هما سورة واحدة؛ لأن كليهما نزلتا في القتال، ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال، وهي سبع، وما بعدها المئون، وهذا قول ظاهر؛ لأنهما معا مائتان وست آيات، فهما بمنزلة سورة واحدة.
ومنهم من قال سورتان، فلما ظهر الاختلاف من الصحابة في هذا الباب، تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول هما سورتان، وما كتبوا " بسم الله الرحمن الرحيم "(10/4)
تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة، وعلى هذا القول لا يلزم منه تجويز مذهب الإمامية؛ لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين، وهذا يدل على أن هذا الاشتباه كان حاصلا، فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير، وذلك يبطل قول الإمامية.
الوجه الرابع: أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكية. ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله: {براءة من الله ورسوله} فلما كان هذا عين ذلك الكلام، وتأكيدا له وتقريرا له، لزم الفاصل بينهما وكان إيقاع الفاصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين، وترك كتابة البسملة تنبيها على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى.
الوجه الخامس: قال القرطبي: " قيل: إنه كان من شأن العرب في الجاهلية، إذا كان بينهم وبين قوم عهد فأرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه البسملة، فلما نزلت سورة براءة ينقض العهد الذي كان بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين، أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتابته بغير بسملة، وبعث بها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة ".
قال ابن عباس: سألت عليا - رضي الله عنه -: لم لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " ههنا؟ قال: لأن " بسم الله الرحمن الرحيم " أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهد، وليس فيها أمان.
ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى وأكده بقوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} [النساء: 94] فقيل له: أليس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل الحرب " بسم الله الرحمن الرحيم "؟ فأجاب عنه: بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله تعالى، ولم ينبذ إليهم عهدهم، ألا ترى أنه قال في آخر الكتاب {والسلام على من اتبع الهدى} [طه: 47] .
وأما هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهد، فظهر الفرق.
الوجه السادس: قالت الشافعية: لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون " بسم الله الرحيم الرحيم " من القرآن، أمر بأن لا تكتب ههنا، ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة، فإنها لما لم تكن آية من هذه السورة لا جرم لم تكتب وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة، وقد يعكس عليهم ذلك فيقال: لو كانت آية من كل سورة لما أسقطها من هذه السورة؟ .(10/5)
قال القرطبي: " وروي عن عثمان أيضا. وقاله مالك فيما رواه وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم: أنه لما سقط أولها سقط " بسم الله الرحمن الرحيم " معا، وروي ذلك عن عجلان؛ أنه بلغه أن سورة " براءة " كانت تعدل البقرة أو قربها، فذهب منها؛ فلذلك لم يكتب بينهما " بسم الله الرحمن الرحيم " وقال سعيد بن جبير: كانت قبل سورة الطلاق البقرة ".
قال القرطبي والصحيح أن البسملة لم تكتب؛ لأن جبريل - عليه الصلاة والسلام - ما نزل بها في هذه السورة، قاله القشيري ".
وفي قول عثمان " قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبين لنا أنها منها " دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن " براءة " ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك، وكانتا تدعيان القرينتين؛ فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى؛ للوصف الذي لزمهما من الاقتران، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي.(10/6)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
قوله تعالى: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} الآية.
الجمهور على رفع بَراءَةٌ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّها رفعٌ بالابتداء، والخبرُ قوله {إِلَى الذين} وجاز الابتداءُ بالنَّكرة؛ لأنَّها تخَصَّصَتْ بالوَصْفِ بالجارِّ بعدها، وهو قوله مِنَ اللهِ كما تقولُ رجُلٌ من بني تميم في الدَّارِ.
والثاني: أنَّها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: هذه الآياتُ براءةٌ، ويجوز في مِنَ اللهِ أن يكون متعلقاً بنفس براءةٌ؛ لأنها مصدرٌ، كالثَّناءة والدَّناءة. وهذه المادة تتعدَّى ب «مِنْ» ، تقولُ: بَرِئتُ من فلانٍ، أبرأ براءةً، أي: انقطعتِ العُصبةُ بَيْنَنَا، وعلى هذا، فيجوزُ أن يكون المُسوِّغُ للابتداء بالنَّكرة على الوجه الأوَّل هذا. وإلى الَّذينَ متعلقٌ بمحذوف على الأوَّلِ، لوقوعهِ خبراً، وبنفس «بَرَاءَةٌ» على الثَّاني، ويقال: بَرِئْتُ، وبَرَأتُ من الدين، بالكسْرِ والفتح، وقال الواحديُّ: «ليس فيه إلاَّ لغةٌ واحدة، كسرُ العينِ في الماضي وفتحُها في المستقبل» . وليس كذلك، بل نقلهما أهلُ اللغةِ، وقرأ عيسى بن عمر «بَرَاءَةٌ» بالنصب على إضمار فعل أي اسمعُوا براءةً.(10/6)
وقال ابنُ عطيَّة «أي: الزموا براءة، وفيه معنى الإغراء» وقرىء «مِن اللهِ» بكسر نون «مِنْ» على أصل التقاءِ السَّاكنينِ، أو على الإتباع لميم «مِنْ» وهل لُغَيَّةٌ، فإنَّ الأكثر فتحها مع لام التَّعريفِ، وكسرها مع غيرها، نحو «مِن ابنك» ، وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما، وحكى أبُو عُمَرَ عن أهل نجران أنَّهم يَقْرَءُونَ كذلِك، بكسر النونِ مع لام التَّعريف.
فإن قيل: ما السَّبب في أنَّ نسب البراءة إلى الله ورسوله، ونسب المُعاهدةِ إلى المشركين؟ فالجوابُ: قد أذن اللهُ في معاهدة المشركين، فاتفق المسلمون مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعاهدهم، ثم إنَّ المشركين نقضُوا العهد؛ فأوجَبَ اللهُ النَّبْذَ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل لهم: اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا ممَّا عاهدتم من المشركين. روي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا خرج إلى تبوك وتخلف المنافقون، وأرجفوا بالأراجيف، وجعل المشركون ينقضون العهد، فأمر الله تعالى بنقض عهودهم، التي كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الزجاج: «بَراءَةٌ» أي: قد بَرِىء الله ورسولهُ من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا.
فإن قيل: كيف يجوزُ أن ينقض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العهد؟ .
فالجوابُ: لا يجوز أن ينقض العهد إلاَّ على ثلاثة أوجه:
فالأول: أن يظهر له منهم خيانةٌ مستورة ويخاف ضررهم، فينبذ العهد إليهم، حتَّى يستووا في معرفة نقض العهد، لقوله {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] وقال أيضاً: {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ}
[الأنفال: 56] .
الثاني: أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم بما أمر الله به، فلمَّا أمر الله تعالى بقطع العهدِ بينهم قطع لأجل الشرط.
الثالث: أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدَّةُ وينقضي العهدُ، ويكونُ الغرض من إظهار البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود للعهد، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة، فأمَّا فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوزُ نقض العهد ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى قال تعالى: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، وقيل: إنَّ أكثر المشركين نقضوا العهد إلاَّ بنُو ضمرة وبنُو كنانة.
قوله: {إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} الخطاب مع أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي عاهدهم وعاقدهم؛ لأنه عاهدهم وأصحابه بذلك راضون، فكأنَّهم «عَاقَدُوا» وعاهدوا.(10/7)
قوله: «فَسِيحُواْ» . قال ابنُ الأنباري: «هذا على إضمار القولِ، أي: قل لهم فسيحوا» ويكون التفاتاً من الغيبة إلى الخطابِ، كقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} [الإنسان: 21 - 22] ، ويقال: سَاحَ يَسيحُ سِياحةً وسُيُوحاً وسَيحَاناً أي: انساب، لِسَيْح الماء في الأماكن المنبسطة، قال طرفة: [السريع]
2742 - لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَني ... حتَّى ترى خَيْلاً أمَامِي تَسِيحْ
و «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» ظرف ل «سِيحُوا» ، وقرىء «غَيْرُ مُعْجِزي اللهَ» بنصب الجلالةِ على أنَّ النون حُذفتْ تخفيفاً، وقد تقدَّم تحريره.
فصل
المعنى: قال لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي: غير فائتين ولا سابقين: {وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين} أي: مذلهم بالقتال في الدُّنيا والعذاب في الآخرة.
واختلفوا في هذه الأشهر الأربعة، فقال الزهريُّ: «إن براءةَ نزلت في شوال، وهي أربعة أشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم» ، والصَّواب الذي عليه الأكثرون: أنَّ ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه إلى عشرين من ربيع الآخر، ومن لم يكن له عهد، فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك خمسون يوماً، وقيل: ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنَّ الحجَّ في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النَّسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السَّنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع ويدلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام:
«ألا إنَّ الزَّمَانَ قَد اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَق اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْض» .
فصل
اختلف العلماء في هذا التأجيل، وفي هؤلاء الذين برىء الله ورسوله من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال جماعة: هذا تأجيلٌ للمشركين، فمن كانت مدةُ عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر، ومن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر، ثمَّ هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله، فيقتل حيثُ يدرك ويؤسر إلاَّ أن يتوب.(10/8)
وقال الكلبيُّ: إنما كانت الأربعةُ أشهر من كان له عهد دون أربعة فأتموا له أربعة أشهر، فأمَّا من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله: {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} .
قال الحسنُ «أمر الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال مَنْ قاتله من المشركين، فقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وكان لا يقاتلُ إلاَّ من قاتله ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم، وأجلهم أربعة أشهر، فلم يكن لأحدٍ منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة، ولا من لم يكن له عهد، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل» .
والمقصود من هذا الإعلام أمور:
أولها: أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر، ويعلموا أنَّه ليس لهم بعد هذه المدة إلاَّ أحد أمور ثلاثة:
إمَّا الإسلامُ أو قبول الجزية أو السيف، فيصير ذلك حاملاً لهم على الإسلام.
وثانيها: لئلاَّ ينسب المسلمون إلى نكث العهد.
وثالثها: أراد اللهُ أن يعمَّ جميع المشركين بالجهاد، فعمَّ الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار، ولا يصحُّ ذلك إلا بنقض العهود.
ورابعها: أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحج في السَّنة الآتية، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلاَّ يشاهدة العراة، وقيل: نزل هذا قبل تبوك.
وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: نزلت في أهل مكَّة. وذلك أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عاهد قريشاً عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعةُ في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم عدتْ بنو بكر على خزاعة فنالت منها، وأعانتهم قريش بالسِّلاح فلمَّا تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، ونقضوا العهد، خرج عمرو بن سالم الخزاعيُّ، حتى وقف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: [الرجز]
2743 - لا هُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداَ ... حِلْفَ أبينَا وأبيهِ الأَتْلَدَا
كنتَ لَنَا أباً وكُنَّا وَلَدَا ... ثُمَّتَ أسلَمْنَا ولمْ نَنْزِعْ يَدَا
فانصُرْ هَداكَ اللهُ نَصْراً أبَدَا ... وادْعُ عِبَادَ اللهِ يأتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... فِي فَيْلقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزبدَا
أبْيَضَ مثلَ الشَّمسِ يَسْمُو صَعدَا ... إن سيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَربَّدَا
إنَّ قُريشاً أخلفُوكَ المَوْعِدَا ... ونَقَضُوا ميثاقَك المُؤكَّدَا(10/9)
هُمْ بَيَّتُونَا بالهَجيرِ هُجَّدَا ... وقَتلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا
وزعَمُوا أنْ لسْتَ تَدْعُو أحَدَا ... وهُمْ أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدَا
فقال رسُول الله «لا نُصِرتُ إنْ لَمْ أنصرْكم» ، ثمَّ تجهَّز إلى مكة، ففتح مكَّة سنة ثمان من الهجرة، فلمَّا كانت سنة تسع أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحُجَّ، ثم قال: إنَّه يحضر المشركون، فيطوفون عراةً.
فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم، ليقيم للنَّاس الحجَّ، وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة «براءة» ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث عليّاً على ناقته العضباء ليقرأ على النَّاس «براءة» وأمره أن يؤذن بمكَّة، ومنى، وعرفة أن قد برئت ذمة الله، وذمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من كلِّ مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أنزل في شأني شيء؟ قال: لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلاَّ رجل من أهلي، أما ترضى يا أبا بكر أنَّك كنت معي في الغار، وأنَّك صاحبي على الحوضِ؟ قال: بَلَى يا رسول الله، فسار أبو بكر أميراً على الحجِّ، وعليّ ليُؤذن ب «براءة» فلمَّا كان قبل التَّرْوية بيوم خطب أبو بكر النَّاس، وحدَُّهم عن مناسكهم، وأقام للنَّاس الحجَّ، والعرب في تلك السنةِ على منازلهم التي كانُوا عليها في الجاهلية من الحجِّ، حتَّى إذا كان يوم النَّحر، قام عليُّ بنُ أبي طالب فأذَّن في النَّاسِ بالذي أمر به، وقرأ عليهم سورة «براءة» .
قال زيدُ بن يثيع: سألنا عليّاً بأي شيء بعثت في الحجِّ؟ قال «بعثتُ بأربع: ألاَّ يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخلُ الجنَّة إلاَّ نفسَّ مؤمنةٌ، ولا يجتمعُ المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا» . ثمَّ حجَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سنة عشر حجة الوداع.
وكان السَّبب في بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليّاً، أنَّ العرب تعارفُوا فيما بينهم في العهود ونقضها ألاَّ يتولَّى ذلك إلا سيدهم، أو رجل من رهطه، فبعث عليّاً إزاحة للعلَّة، لئلاَّ يقولوا هذا خلاف ما نعرفه في نقض العهود.(10/10)
والدليل على أنَّ أبا بكر كان هو الأمير، أنَّ عليّاً لمَّا لحقهُ قال: أمير أو مأمور؟ فقال: مأمور، ثم ساروا وقال أبو هريرة «بعثني أبو بكر في تلك الحجَّة في مؤذنين يوم النَّحْر، يؤذِّن بمنى ألاَّ يحجَّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» .
قوله وأذانٌ. رفع بالابتداء، أي: أذان صادر، أو إعلام واصل، ومِنَ اللهِ إمَّا صفةً، أو متعلقٌ به، وإلى النَّاسِ الخبر، ويجوزُ أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ أي: وهذا إعلامٌ، والجارَّان متعلقان به، كما تقدَّم في براءة.
قال أبو حيَّان: «ولا وجه لقولِ من قال: إنه معطوف على» بَرَاءَةٌ «، كما لا يقال» عمرو «معطوف على» زيد «في: زيد قائم وعمرو قاعد» .
وقرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل «وإذْن» بكسر الهمزة وسكون الذَّال، وقرأ العامَّةُ «أنَّ الله» بفتح الهمزة على أحد وجهين، إمَّا كونه خبراً ل «أذانٌ» ، أي: الإعلامُ من اللهِ براءة من المشركين. وضعَّف أبو حيان هذا الوجه، ولم يذكر تضعيفه. وإمَّا على حذف حرفِ الجرِّ، أي: بأنَّ الله، ويتعلَّقُ هذا الجارَّ إمَّا بنفس المصدر، وإمَّا بمحذُوفٍ على أنه صفة ويَوْمَ منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله إلى النَّاسِ. وزعم بعضهم أنَّه منصوبٌ ب «أذَانٌ» وهو فاسدٌ من وجهين:
أحدهما: وصفُ المصدر قبل عمله.
الثاني: الفَصْلُ بينه وبين معموله بأجنبي، وهو الخبرُ، وقرأ الحسنُ والأعرج بكسر الهمزة وفيه المذهبان المشهوران، مذهبُ البصريين إضمارُ القول، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ الأذانِ مُجْرَى القول.
فصل
والأذانُ: الإعلامُ، قال الأزهري: «آذنْتُه إيذاناً. فالأذانُ يقوم مقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقي» ومنه: أذان الصَّلاة، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام للاّتي غسَّلن ابنته زينب: «فإذا فَرغتن فآذنَّني» أي: أعلمنني، فلمَّا فرغنا آذنَّاهُ، أي: أعلمناه، والأذانُ معروفٌ.(10/11)
ونقل النووي في «التهذيب» عن الهرويِّ قال: ويقال فيه الأذان، والأذين، والإيذان قال: وقال شيخي: الأذينُ هوالمؤذن المعلم بأوقات الصلوات «فعيل» بمعنى «مفعل» [وقوله عليه السلام: «ما أذِن الله كأذنه» بكسر الذال منه، وقوله: «كأذَنِهِ» بفتح الذال، والأذن بضم الذال وسكونها: أذن الحيوان، مؤنثة، وتصغيرها: أذينة. و «إذن» في قوله عليه السلام: «فلا إذن» حرف مكافأة وجواب، يكتب بالنون، وإذا وقفت على «إذن» قلت كما تقول: رأيت زيداً. قال الجوهري] .
قوله: «مِنَ المُشركِينَ» متعلقٌ بنفس «بَرِيءٌ» ، ما يقال: بَرئْتُ منه، وهذا بخلاف قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله} [التوبة: 1] فإنَّها هناك تحتمل هذا، وتحتمل أن تكون صفة ل «بَراءَةٌ» .
قوله ورسُولُهُ الجمهور على رفعه، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، والخبرُ محذوفٌ أي: ورسوله بريءٌ منهم، وإنَّما حذف، للدلالةِ عليه.
والثاني: أنه معطوفٌ على الضمير المستتر في الخبر، وجاز ذلك للفصل المسوِّغ للعطف، فرفعه على هذا بالفاعلية والتقدير: برئ الله ورسوله [من المشركين] .
الثالث: أنه معطوف على محلِّ اسم «أنَّ» وهذا عند من يجيز ذلك في المفتوحة قياساً على المكسورةِ، قال ابنُ عطيَّة «ومذهبُ الأستاذ - يعني ابن البَاذشِ - على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه [» أنَّ «إذ هو معربٌ، قد ظهر فيه عمل العامل، وأنه لا فرق بين» أنَّ «وبين» لَيْتَ «والإجماعُ على أن لا موضع لما دخلتْ عليه] هذه» .
قال أبو حيَّان: «وفيه تعقُّبٌ؛ لأنَّ كون» أنَّ «لا موضع لما دخلتْ عليه ليس ظهور عمل العامل بدليل» لَيْسَ زيد بقائم «وما في الدَّار من رجل، فإنه ظهرعمل العامل ولهما موضع وقوله:» بالإجماع «يريد أنَّ» ليت «لا موضع لما دخلت عليه بالإجماع، وليس كذلك؛ لأن الفراء خالف، وجعل حكم» لَيْتَ «وأخواتها جميعاً حكم» إنَّ «بالكسر» .
قال شهابُ الدين قوله: «بدليل ليس زيد بقائم. .» إلى آخره قد يظهر الفرقُ بينهما، فإنَّ هذا العامل، وإن ظهر عمله في حكم المعدُومِ، إذ هو زائد، فلذلك اعتبرنا الموضع معه، بخلاف «أنَّ» بالفتح، فإنَّه عاملٌ غيرُ زائد، وكانَ ينبغي أن يردَّ عليه قوله: وأنْ لا فرق بين «أنَّ» وبين «لَيْتَ» فإنَّ الفرق قائمٌ، وذلك أنَّ حكم الابتداء قد انتسخ مع «لَيْتَ» ،(10/12)
و «لَعلَّ» ، و «كأنَّ» لفظاً ومعنًى، بخلافه مع «إنَّ» ، و «أنَّ» ، فإنَّ معناه معهما باقٍ. وقرأ عيسى بن عمر، وزيد بن علي وابن أبي إسحاق «ورسوله» بالنَّصبِ، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة، والثاني: أنه مفعولٌ معه.
قال الزمخشريُّ. وقرأ الحسنُ «ورسُولِهِ» بالجرِّ، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه مقسمٌ به، أي: ورسوله إن الأمر كذلك، وحذف جوابه لفهم المعنى.
والثاني: أنه على الجواز، كما أنهم نَعَتُوا وأكَّدوا على الجواز، وقد تقدَّم تحقيقه. وهذه القراءةُ يبعدُ صحتُها عن الحسن، للإبهام، حتَّى يحكى أنَّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ «ورَسُولِهِ» بالجر، فقال الأعرابيُّ: إن كان الله قد بَرِىء من روسله فأنا بريء منه، فَلَبَّبه القارىء إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فحكى الأعرابيُّ الواقعة، فحينئذ أمر عمرُ بتعليم العربيَّة. ويحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ، وأبي الأسود الدُّؤلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال أبُو البقاءِ: «ولا يكون عطفاً على» المشركين «لأنَّه يؤدي إلى الكفر» . وهذا واضح.
فصل
قال بعض المفسرين قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} جملة تامة مخصوصة بالمشركين، وقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} جملة أخرى ثانية معطوفة على الجملة الأولى، وهي عامة في حق جميع النَّاسِ؛ لأنَّ ذلك يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك، من حيثُ إنَّ الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً، فيجبُ على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يباحُ فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه، فأمره تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر، وهو الجمع الأعظم، ليصل ذلك الخبر إلى الكل، فيشتهر.
وفي هذا العطف الإشكال الذي ذكره أبو حيان في صدر الآية عند قوله {وَأَذَانٌ مِّنَ الله} .
فصل
اختلفوا في يوم الحجِّ الأكبر، فقال ابن عباس في رواية عكرمة «إنَّه يومُ عرفةَ» وهو قول عُمر، وسعيد بن المسيب، وابن الزبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وإحدى الروايتين عن علي، ورواية المسور بن مخرمة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال: خطب رسول(10/13)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشيَّة عرفة، فقال: «أمَّا بعدُ فإنَّ هذا يوم الحج الأكبر» لأنَّ معظم أفعال الحج فيه، وروي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقف يوم النَّحر عند الجمرات، وقال: «هذا يومُ الحج الأكبر» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «الحج عرفةُ» ولأنَّ أعظم أعمال الحج الوقوف بعرفة؛ لأ، َّ من أدركه، فقد أدرك الحجَّ، ومن فاته فقد فاته الحجُّ.
وقال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء يوم الحج الأكبر: يوم النحر، وهو قول النخعيّ، والشعبيّ، والسديّ، وإحدى الروايتين عن عليٍّ، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير.
وروى ابن جريج عن مجاهد أنه قال: يوم الحجِّ الأكبر أيَّام منى كلها، وهو مذهب سفيان الثَّوريّ، وكان يقول: يوم الحجِّ الأكبر: أيامه كلها، كما يقال: يوم صفين، ويوم الجمل، ويراد به الحين والزمان.
وأما تسيمته بيوم الحج الأكبر، فإن قلنا: إنَّه يوم عرفة؛ فلأنه أعظم واجباته، ومن فاته الحجُّ، وكذلك إن قلنا: إنَّه يوم النحر، لأن معظم أفعال الحج يفعل فيه، وقال الحسنُ: سُمِّيَ بذلك لاجتماعِ المسلمين والمشركين فيه، وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمنٍ وكافر، وطعن الأصم في هذا الوجه وقال: عيدُ الكفَّارِ فيه سخط. وهذا الطَّعن ضعيفٌ؛ لأنَّ المرادَ أنَّ ذلك اليوم استعظمه جميع الطوائف، فلذلك وصف بالأكبر.
وقيل سُمِّي بذلك؛ لأن المسلمين والمشركين حَجُّوا في تلك السَّنة، وقيل: الأكبرُ الوقوف بعرفة والأصغر النَّحر، قاله مجاهدٌ، ونقل عن مجاهدٍ: الأكبر القرانُ، والأصغر الإفراد، فإن قيل: قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} وقوله {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} لا فرق بينهما، فما فائدة هذا التكرار؟
فالجواب من وجوه:
الأولُ: أنَّ المقصودَ من الأوَّلِ البراءة من العهد، ومن الثاني: البراءة التي هي(10/14)
نقيض الموالاة، ويدلُّ على هذا الفرقِ في البراءة الأولى برىء إليهم، وفي الثانية برئ منهم.
الثاني: أنَّهُ تعالى في الكلام الأوَّل، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد، وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معيّن، تنبيهاً على أنَّ الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم.
قوله «فإن تُبْتُمْ» عن الشكر، وأخلصتم التَّوحيدَ: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان {فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} وذلك وعيد عظيم.
ثم قال {وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في الآخرة، والبشارةُ - ههنا - وردت على سبيل الاستهزاء كما يقال: تحيتهم الضرب، وإكرامهم الشَّتم.
قوله {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين} في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه استثناءٌ منقطعٌ، والتقديرُ: لكن الذين عاهدتم فأتمُّوا إليهم عهدهم، وإلى هذا نحا الزَّمخشري، فإنه قال: «فإن قلت: ممَّا استثنى قوله:» إلاَّ الذينَ عاهَدتُّم «؟ قلت: وجهه أن يكون مستثنى من قوله:» فسيحُوا في الأرضِ «؛ لأنَّ الكلام خطابٌ للمسلمين ومعناه: براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم: سِيحُوا إلاَّ الذين عاهدتم منهم، ثُمَّ لَمْ ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم، والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في النَّاكثين، ولكن الذين لم ينكثوا، فأتمُّوا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم.
الثاني: أنَّه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملةٌ محذوفة، تقديره: اقتلوا المشركين المعاهدين إلاَّ الذين عاهدتم، وفيه ضعفٌ؛ قاله الزَّجَّاجُ، فإنَّه قال:» إنَّه عائد إلى قوله: «براءةٌ» والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلاَّ الذين لم ينقضوا العهد «.
الثالث: أنَّه مبتدأ، والخبر قوله:» فأتمُّوا إليهِمْ «قاله أبو البقاءِ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الفاء تزاد في غير موضعها، إذ المبتدأ لا يشبه الشَّرط؛ لأنَّه لأناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش، إذ يُجوِّز زيادتها مطلقاً، والأولى أنَّهُ منقطعٌ، لأنَّا لو جعلناهُ متصلاً مستثنى من المشركين في أوَّل السُّورة، لأدَّى إلى الفصل بين المستثنى، والمستثنى منه بجملٍ كثيرة.
قوله {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} الجمهور» يَنقصُوكُم «بالصَّاد المهملة، وهو يتعدَّى لواحدٍ، ولاثنين، ويجوزُ ذلك فيه هنا ف» كُمْ «مفعولٌ أول، و» شَيْئاً «إمَّا معفول ثان، وإمَّا مصدرٌ، أي: شيئاً من النقصان، أو: لا قليلاً، ولا كثيراً من النقصان.(10/15)
وقرأ عطاءُ بن السائب الكوفي وعكرمة، وابن السَّمَيْفع، وأبو زيد» يَنقُضُوكم «بالضَّاد المعجمة وهي على حذف مضاف، أي: ينقضُوا عهدكم، فحذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه.
قال الكرمانيُّ:» وهي مناسبة لذكر العهد «. أي: إنَّ النقضَ يُطابق العهد، وهي قريبة من قراءة العامَّة، فإنَّ من نقض العهد فقد نقص من المدة، إلاَّ أنَّ قراءة العامة أوقعُ لمقابلها التمام.
فصل
ومعنى قوله: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين} وهم بنو ضمرة حي من كنانة، أمر الله ورسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشعر وكان السَّبب فيه أنهم لم ينقضوا، أي: لم ينقضوا شيئاً من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه،» ولمْ يُظاهِرُوا «لم يعامونا» عَليكُمْ أحَداً «من عدوكم،» فأتمُّوا إليهم عهدَهُم «الذي عاهدتموهم عليه، أي: أوفوقا بعهدهم:» إلى مُدتِهِم «إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه» إنَّ الله يحبُّ المُتَّقِينَ «أي: إنَّ هذه الطائفة لما اتقوا النقض، ونكث العهد، استحقوا من اللهِ أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث.(10/16)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
قوله تعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} الآية.
قال الليثُ «يقال سلختُ الشهر: إذا خرجت منه» . و «الانسلاخُ» هنا من أحسن الاستعارات، وقد بيَّن ذلك أبو الهيثم، فقال: «يقال: أهْللنا شهر كذا، أي: دخلنا فيه، فنحنُ نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفه لباساً، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ» ؛ وأنشد: [الطويل]
2744 - إذا مَا سَلخْتُ الشَّهْرَ أهلَلتُ مِثلهُ ... كَفَى قَاتِلاً سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي(10/16)
والألف واللام في «الأشهر» يجوز أن تكون للعهد، والمراد بها: الأشهرُ المتقدمة في قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] ، والعربُ إذا ذكرت نكرة، ثم أرادت ذكرها ثانياً أتت بضميره؛ أو بلفظه مُعرَّفاً ب «أل» ، ولا يجوز حينئذ أن نصفهُ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة، فلو قيل: «رأيت رجلاً، فأكرمتُ الرَّجل الطَّويل» لمْ تُرد بالثَّاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز، كقولك: فأكرمت الرجل المذكور، ومنه هذه الآية، فإنَّ «الأشهر» قد وصفت ب «الحُرُم» ، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة، ويجوزُ أن يراد بها غيرُ الأشهر المتقدمة، فلا تكون «أل» للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين.
قالوا: المرادُ بالأشهر الحرم: الأربعة، رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وقال مجاهدٌ وابن إسحاق: «هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوماً» .
وقيل لها حرم: لأنَّ الله حرَّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتَّعرض لهم.
فإن قيل: هذا القدر بعض الأشهر الحرم، واللهُ تعالى يقول: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} . قيل: لمَّا كان القدر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع، ومعناه: مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم.
قوله {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} .
اعلم أنَّه تعالى أمر بعد انقضاءِ الأشهر الحرم بأربعة أشياء:
أولها: قوله: {فاقتلوا المشركين} أي: على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرمِ.
وثانيها: «وَخُذُوهُمْ» أي: أسروهم.
وثالثها: «واحصروهم» والحصر: المنع، أي: امنعوهم من الخروج إن تحصنوا، قاله ابن عباس.
وقال الفرَّاءُ «امنعوهم من دخول مكَّة والتَّصرف في بلاد الشام» .
ورابعها: قوله {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} . في انتصاب «كل» وجهان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف المكاني.
قال الزجاج «نحو: ذهبت مذهباً» . وردَّ عليه الفارسيُّ هذا القول من حيث إنَّه ظرف مكان مختص، والمكانُ المختصُّ لا يصلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة؛ في نحو: صَلَّيْتُ في الطريق وفي البيت، ولا يصل بنفسه إلاَّ في ألفاظٍ محصورةٍ بعضها ينقاس،(10/17)
وبعضها يسمع، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة: [الكامل]
2745 - لَدْنٌ بِهزِّ الكفِّ يعْسِلُ متنهُ ... فيهِ كما عسل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ
وهو أنَّهُ جعله ممَّا حذف فيه الحرفُ اتِّساعاً، لا على الظرف، لأنه ظرف مكان مختص.
قال أبو حيَّان «إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى» واقعُدُوا «لا يراد به حقيقةُ القعود، وإنما يراد: ارصدوهم، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المادة، ومتى أتفقا في المادة لفظاً، أو معنًى، وصل إليه بنفسه، تقول: جلست مجلس القاضي، وقعدت مجلس القاضي، والآيةُ من هذا القبيل» .
والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر، وهو «على» ، أي: على كلِّ مرصد قاله الأخفشُ، وجعله مثل قول الآخر: [الطويل]
2746 - تَحِنُّ فتبدي مَا بِهَا مِنْ صبابَةٍ ... وأخْفِي الذي لَوْلاَ الأسَى لَقَضانِي
وهذا لا ينقاس، بل يقتصر فيه على السَّماع، كقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} [الأعراف: 16] ، أي: على صراطك، اتفق الكل على تقدير «على» ، وقال بعضهم: هو على تقدير الباء، أي: بكل مرصد، نقله أبو البقاء، وحينئذٍ تكون الباء بمعنى «في» فينبغي أن تقدَّر «في» لأنَّ المعنى عليها؛ وجعله نظير قول الشاعر: [الوافر]
2747 - نُغَالِي اللَّحْمَ للأَضْيَافِ نَاسِياً ... أنَّ المنيَّةَ للْفَتَى بالمَرْصَدِ
والمِرْصَادُ: المكانُ المختص بالترصُّد، والمرصد: يقع على الرَّاصد، سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً، وكذلك يقع على «المرصُودِ» . وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 27] يحتمل كلَّ ذلك؛ وكأنَّهُ في الأصل مصدر، فلذلك التزم فيه الإفرادُ والتذكيرُ.(10/18)
ومعنى الآية: اقعدوا لهم على كلِّ طريق - والمرصدُ: الموضعُ الذي يرقب فيه العدو يريد: كونُوا لهم رصداً، لتأخذوهم من أي وجه توجهوا.
قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أي: دعوهم ليتصرفوا في أمصارهم، ويدخلوا مكَّة «إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ» لمن تاب «رَحيمٌ» به.
واحتجُّوا بهذه الآية على قتل تارك الصَّلاة؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباح دم الكفَّار مطلقاً ثم حرَّمها عند التوبة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد الثلاثة، فإباحة الدَّم بحالها.
قال الحسينُ بن الفضلِ: «هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصَّبر على أذى الأعداء» .
قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} الآية.
روى ابن عباس: أنَّ رجلاً من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجة أخرى، فهل نقتل؟ فقال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «لا» لأنَّ الله قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} أي: فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ.
فتقرير النظم: أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه، بل يطالب إمَّا بالإسلام، وإمَّا بالقتل، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة، أو طالباً لاستماع القرآن، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله.
قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ} كقوله {إِن امرؤ هَلَكَ} [النساء: 176] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور.
قال ابنُ الخطيب: «أَحَدٌ» مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ، وتقديره: «وإن استجارك أحد، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء، لأنَّ» إنْ «من عوامل الفعل لا تدخل على غيره» . قوله «حتَّى يسمَعَ» يجوز أن تكون هنا للغاية، وأن تكون للتَّعليلِ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله «فَأجِرهُ» ، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق «حتَّى» بقوله «استجاركَ» ، أو بقوله «فأجرهُ» إذ يجوز تقديره: وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ، حتَّى(10/19)
يسمع كلام الله. والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع، وأعملنا الأوَّل مثلاً، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ «حتَّى» تجرُّ المضمر، و «حتَّى» لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله: [الوافر]
2749 - فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ ... فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ
وأمَّا عند من يُجيزُ أن تجرَّ المضمر؛ فلا يمتنع ذلك عندهُ، ويكون من إعمال الثَّاني لحذفه، ويكون كقولك: فَرحْتُ ومررتُ بزيدٍ، أي: فرحْتُ به، ولو كان مِنْ إعمالِ الأوَّلِ لمْ يحذفْهُ من الثَّاني، وقوله: «كَلاَمَ الله» من بابِ إضافة الصِّفةِ لموصوفها، لا من بابِ إضافة المخلوقِ للخالِقِ، و «مَأْمنَهُ» يجوزُ أن يكون مكاناً، أي: مكان أمنه، وأن يكون مصدراً، أي: ثُمَّ أبلغْه أْمْنَهُ.
فصل في المراد من الآية
معنى الآية: وإن استجاركَ أحدٌ من المشركينَ الذين أمرتكَ بقتالهم وقتلهم أي: استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم، ليسمع كلام الله «فأجرهُ» ، وأمنه «حتَّى يسمع كلام الله» فيما له وعليه من الثواب والعقاب. «ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» أي: إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمنُ فيه، وهو دار قومه، فإن قاتلك بعد ذلك، وقدرت عليه فاقتله.
«ذلك
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ» ، لا يعلمون دين الله وتوحيده، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله.
قال الحسنُ «هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة» .
فصل
قالت المعتزلةُ: هذه الآية تدلُّ على أنَّ كلام اللهِ يسمعه الكافرُ، والمؤمنُ، والزنديقُ، والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق؛ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، فدلَّ ذلك على أنَّ كلام اللهِ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، ثمَّ من المعلوم بالضرورة، أنَّ الحروف والأصوات لا تكون قديمة، لأنَّ تكلم الله بهذه الحروف، إمَّا أن يكون معاً، أو على الترتيب، فإن تكلَّم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم؛ لأن الكلام لا يحصل مُنتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجودِ على التعاقب، فلو حصلت معاً، لما حصل الانتظام، فلم يحصل الكلام، وإن حصلت متعاقبةً؛ لزم أن ينقضي المتقدم، ويحدث المتأخر، وذلك يوجب الحدوث، فدلَّ هذا على أنَّ كلام الله مُحدثٌ - قالوا فإن قلتم: إنَّ كلام الله شيءٌ مغايرٌ لهذه الحروف والأصوات فهو باطلٌ؛(10/20)
لأن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يشير بقوله {كَلاَمَ الله} [التوبة: 6] إلا إلى هذه الحروف والأصوات.
وقال آخرون: ثبت بهذه الآية أنَّ كلام الله ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، وثبت أن كلام الله قديمٌ، فوجب القولُ بقدم الحروف والأصوات.
وقال ابنُ فورك: «إنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى» . وأنكروا عليه هذا القول؛ لأنَّ الكلام القديم، إمَّا أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات، وإمَّا أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها.
والأول قول الزجاج، وهو باطلٌ، لأنَّ ذلك لا يليقُ بالعقلاء.
والثاني باطلٌ، لأنَّا على هذا التقدير، لمَّا سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالفُ ماهيَّة هذه الحروف والأصوات لكنَّا نعلم بالضرورةِ أنا عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم يدرك سمعنا شيئاً مغايراً لها، فسقط هذا الكلام.
والجواب عن كلام المعتزلة: أن يقال هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم؛ لأنَّ كلام الله، ليس الحروف والأصوات التي خلقها أولاً، بل تلك الحروف والأصوات انقضت، وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم.
فصل
قال الفقهاءُ: إذا دخل الكافر الحربي دار الإسلامِ، كان مَغْنُوماً مع ماله، إلاَّ أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام، أو دخل لتجارة، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون، فأمانهما شبهة أمان؛ فيجب تبليغه مأمنه، وهو أن يبلغ مَحْرُوساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له، ومن دخل منهم دار الإسلام رسُولاً، فالرسالة أمانٌ، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام، ولماله أمان، فأمان ماله أمان له.
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} الآية.
في خبر «يكون» ثلاثةُ أوجهٍ:
أظهرها: أنَّهُ «كيف» ، و «عَهْدٌ» اسمُها والخبر هنا واجبُ التقديم، لاشتماله على ما لهُ صدر الكلام، وهو الاستفهامُ، بمعنى الاستنكار، كقولك: كيف يُسْتفتَى مثلك؟ أي: لا ينبغي أن يستفتى.
و «للمشركين» على هذا يتعلق إمَّا ب «يكُونُ» ، عند من يجيزُ في «كانَ» أن تعمل في الظَّرف وشبهه، وإمَّا بمحذوفٍ، على أنَّها صفةٌ ل «عَهْدٌ» ، في الأصلِ، فلمَّا قُدِّمتْ(10/21)
نصبت حالاً، و «عِند» يجوز أن تكون متعلقةً ب «يكون» أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «عَهْدٌ» أو متعلقة بنفس «عَهْدٌ» لأنه مصدرٌ.
والثاني: أن يكون الخبرُ «للمشركين» ، و «عند» على هذا فيها الأوجه المتقدمة، ويزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوزُ أن يكون ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به «للمُشركين» .
والثالث: أن يكون الخبرُ «عِندَ اللهِ» ، و «للمُشركينَ» على هذا إمَّا تبيين، وإمَّا متعلقٌ ب «يكون» عند من يُجيز ذلك - كما تقدَّم - وإمَّا حالٌ من «عَهْدٌ» . وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر، ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبر على الاسم لكونه حرف جرّ، «كَيْفَ» على هذين الوجهين مُشْبهةٌ بالظَّرفِ، أو بالحال، كما تقدَّم تحقيقه في: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] .
ولمْ يذكُرُوا هنا وجْهاً رابعاً - وكان ينبغي أن يكون هو الأظهر - وهو أن يكون الكونُ تاماً، بمعنى: كيف يوجدُ عهدٌ للمشركينَ عند اللهِ؟ والاستفهام هنا بمعنى النَّفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء ب «إلاَّ» ومن مجيئه بمعنى النفي أيضاً قوله:
2750 - فَهَذِي سُيوفٌ يا صُدَيُّ بن مالكٍ ... كثيرٌ، ولكنْ كيف بالسَّيْفِ ضَارِبُ
أي: ليس ضاربٌ بالسَّيْفِ، وفي الآية محذوفٌ تقديره: كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد.
قوله: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام} في الاستثناء وجهان:
أحدهما: أنَّهُ منقطعٌ، أي: لكن الذين عاهدتم، فإنَّ حكمهم كيت وكيت.
والثاني: أنَّهُ متَّصلٌ، وفيه حينئذٍ احتمالان:
أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ على أصْلِ الاستثناء من المُشركينَ.
والثاني: أنه مجرورٌ على البدل منهم؛ لأنَّ معنى الاستفهام المتقدم نفيٌ، أي: ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا، وقياسُ قول أبي البقاءِ فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ من قوله «فَمَا استقاموا» خبره.
فصل
معنى الآية: أي: لا يكون لهم عهد عند الله، ولا عند رسوله وهم يغدرون، وينقضون العهد، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام} .
قال ابنُ عباسٍ: «هُمْ قُريْش» .(10/22)
وقال قتادة «هم أهلُ مكَّة الذين عاهدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الحُديبيةِ» .
قال تعالى: {فَمَا استقاموا لَكُمْ} أي: على العهد {فاستقيموا لَهُمْ} [يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا] ونقضوا العهد، وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم، وإمَّا أن يلحقوا بأي بلاد شاءوا، فأسلموا قبل الأربعة أشهر.
وقال السدي والكلبي وابن إسحاق: إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمةُ، وبنو مدلج من ضمرة، وبنو الديل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض إلاَّ قريش، وبنو الديل من بكرٍ؛ فأمر بإتمام العهد لمنْ لم ينقض وهو بنو ضمرة، وهذا القول أقرب إلى الصواب؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكَّة؛ لأنَّ بعد الفتح كيف يقول قد مضى: {فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ} .
وإنَّما هم الذين قال الله - عزَّ وجلَّ - فيهم: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} [التوبة: 4] كما نقصكم قريش، ولم يظاهروا عليكم كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة، وهم حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله «فَمَا استقاموا» يجوزُ في «ما» أن تكون مصدرية ظرفيةً، وهي محلِّ نصب على ذلك أي: فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، ويجوزُ أن تكون شرطيةً، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان:
أحدهما: أنَّها في محلِّ نصب على الظَّرف الزماني، والتقدير: أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم، ونظَّره أبو البقاءِ بقوله: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] .
والثاني: أنها في محلِّ رفع بالابتداء، وفي الخبر الأقوال المشهورة، و «فاستقيمُوا لهُم» جواب الشرط، وقد نحا إليه الحوفيُّ، ويحتاجُ إلى حذف عائد، أي: أي زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم، وقد جوَّز ابنُ مالكٍ في «ما» المصدرية الزمانية أن تكون شرطية جازمة، وأنشد على ذلك: [الطويل]
2751 - فَمَا تَحْيَ لا تَسْأمْ حَيَاةٌ وإنْ تَمُتْ ... فَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا ولا العَيْشِ أَجْمَعَا
ولا دليل فيه، لأنَّ الظاهر الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدريَّة وزمانٍ.
قال أبُو البقاءِ: «ولا يجوز أن تكون نافيةً، لفساد المعنى، إذ يصير المعنى(10/23)
استقيموا لهم؛ لأنَّهم لم يستقيموا لكم» . ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} أي: من اتقى الله فوفى بعهده لمن عاهده.(10/24)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} الآية.
المستفهمُ عند محذوفٌ، لدلالة المعنى عليه، فقدَّره أبو البقاءِ «كيف تَطْمئنون، أو كيف يكونُ لهم عهدٌ» ؟ وقدَّره غيره: كيف لا تقاتلونهم؟ . والتقدير الثاني مِنْ تقديري أبي البقاء أحسنُ؛ لأنَّه من جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقْوى.
وقد جاء الحذفُ في هذا التركيب كثيراً، وتقدَّم منه قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} [آل عمران: 25] ، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} [النساء: 41] ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
2752 - وخَبَّرْتُمَاني أنَّما الموتُ في القُرَى ... فكيْفَ وهاتا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ
أي: كيف مات؟ وقال الحطيئةُ: [الطويل]
2753 - فَكيْفَ ولمْ أعلمْهُم خَذلُوكُمُ ... علَى مُعظمٍ ولا أديمَكُمُ قدُّوا
أي: كيف تلومونني في مدحهم؟
قال أبُو حيَّان: «وقدَّر أبو البقاءِ الفعل بعد» كيف «بقوله:» كيف تطمئنون «، وقدَّره غيره ب» كيف لا تقاتلونهم «؟ .
قال شهابُ الدِّين:» ولم يقدره أبُو البقاء بهذا وحده، بل به، وبالوجه المختار كما تقدَّم منه «.
قوله» كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا «» كيف «تكرار، لاستبعاد ثبات المشركينَ على العهد، وحذف الفعل، لكونه معلوماً، أي: كيف يكون لهم عهد وحالهم أنَّهُمْ إن يظهروا عليكم(10/24)
بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولا يبقوا عليكم. والجملة الشرطية من قوله:» إِن يَظْهَرُوا «في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ، وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169] ، و» لا يرْقُبوا «جوابُ الشرط، وقرأ زيد بن علي:» وإن يُظهَرُوا «ببنائه للمفعول، من أظهره عليه، أي: جعله غالباً له، يقال: ظهرت على فلان: إذا علوته، وظهرت على السطح: إذا صرت فوقه.
قال اللَّيْثُ:» الظُّهور: الظَّفر بالشَّيء، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين، أي: أعلاهُم عليهم «. قال تعالى: {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] أي: ليعليه.
قوله:» لاَ يَرْقُبُواْ «قال الليثُ» رقبَ الإنسانَ يرقبُ رقْبةً ورِقْبَاناً، هو أن ينتظره «.
والمعنى: لا ينتظروا، قاله الضحاكُ، ورقيب القوم: حارسهم، وقوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] أي: لم تحفظه.
وقال قطربٌ:» لا يراعوا فيكم إلاَّ «. قوله:» إلاًّ «مفعولُ به ب» يَرْقُبُوا «. وفي» الإِلِّ «أقوالٌ» .
أحدها: أنَّ المراد به العهد، قاله أبو عبيدة، وابن زيد، والسديُّ وكذلك الذمة، إلاَّ أنه كرر، لاختلاف اللفظين؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
2754 - لَوْلاَ بنُو مالكٍ، والإِلُّ مَرْقبةٌ ... ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
أي: الحِلْف؛ وقال آخر: [المتقارب]
2755 - وجَدْناهُمُ كَاذِباً إلُّهُمْ ... وذُو الإِلِّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ
وقال آخر: [الرمل]
2756 - أفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَعُوا الإِلَّ وأعْرَاقَ الرَّحِمْ
وفي حديث أمِّ زرع بنت أبي زرع: «وفيُّ الإلِّ، كريمُ الخِلِّ، بَرُودُ الظِّلِّ» أي؛ وفَيُّ العهد.(10/25)
الثاني: أنه القرابةُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ والضحاك، وبه قال الفراء وأنشدوا لحسان: [الوافر]
2757 - لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُريشٍ ... كإِلِّ السَّقْبِ من رَألِ النَّعَامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله: [الرمل]
2758 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... قَطَعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ
والظَّاهر أنَّ المراد به العهد - كما تقدَّم - لئلاَّ يلزم التكرار.
الثالث: أنَّ المراد به الله - تعالى - أي: هو اسم من أسمائه، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عرض عليه كلام مُسَيْلمة - لعنه الله - «إنَّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ» ، أي: الله - عَزَّ وَجَلَّ - قاله أبو مجْلزٍ، ومجاهد وقال عبيد بن عمير: يُقرأ جِبْرَئل بالتشديد، يعني عبد الله ولم يرتض هذا الزجاج، قال: «لأنَّ أسماءه - تعالى - معروفة في الكتابِ والسُّنَّةِ - ولم يُسمَعْ أحدٌ يقول: يا إلُّ، افعلْ لي كذا» .
الرابع: أنَّ: «الإلَّ» الجُؤار، وهو رفعُ الصَّوت عند التحالُف، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا، وتحالفوا، جأرُوا بذلك جُؤاراً. ومنه قول أبي جهل: [الطويل]
2759 - لإلِّ عَليْنَا واجب لا نُضيعُهُ ... مَتِينٍ قُوَاهُ غَيْرِ مُنْتكِثِ الحَبْلِ
الخامس: أنه من: ألَّ البرقُ، أي: لَمَعَ.
قال الأزهريُّ: «الأليل: البريق، يقال: ألَّ يؤلُّ، أي: صَفَا ولَمَعَ» ، ومنه الألَّة، للمعانها.
وقيل: الإلّ من التحديد، ومنه «الألَّةٌ» الحَرْبة، وذلك لحدَّتها، وقد جعل بعضهم بين هذه المعاني قدراً مشتركاً، يرجعُ إليه جميعُ ما تقدَّم، فقال الزَّجَّاجُ: «حقيقةُ الإلِّ عندي على ما تُوحيه اللغة: التحديد للشيء، فمن ذلك الألَّةُ: الحَرْبَةُ، وأذنٌ مُؤلَّلَة، فالإلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد، والقرابةِ، والجُؤارعلى هذا، فإذا قلت في(10/26)
العهد: بينهما إلٌّ، فتأويلُه أنَّهُمَا قد حَدَّدَا في أخْذ العهود، وكذلك في الجُؤار والقرابة» .
وقال الرَّاغبُ: «الإِلُّ» كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ، وحِلْفٍ، وقرابة تَئِلُّ، أي: تَلْمَعُ، وألَّ الفرسُ: أسرع. والألَّةُ: الحرْبَةُ اللاَّمعة «وأنشد غيرُهُ على ذلك قول حماس بن قيسٍ يوم فتح» مكَّة «: [الرجز]
2760 - إنْ تَقْتلُوا اليوْمَ فَمَا لِي عِلَّه ... سِوَى سِلاحٍ كاملٍ وألَّه ... وذِي غِرَارَيْنِ سَريعِ السَّلَّه ... قال: وقيل: الإلُّ والإيلُ: اسماه لله - تعالى -، وليس ذلك بصحيحٍ.
قال الأزهريُّ» «إيل» من أسماء الله بالعبرانية؛ فجاز أن يكون عُرِّب، فقيل: «إلّ» والأللان: صفحتا السكّين «. انتهى، ويجمع الإلُّ في القلَّة على آلِّ، والأصل:» أألُل «بزنة» أفْلُس «، فأبدلت الهمزةُ الثانية ألفاً، لسكونها بعد أخرى مفتوحة، وأدغمت اللاَّمُ في اللام، وفي الكثرة على» إلالٍ «ك» ذِئْب وذِئَاب «.
و «الألُّ» بالفتح: قيل: شدَّة القنوط. قال الهرويُّ في الحديث: «عجب ربكم من ألِّكُم وقُنوطكم» . قال أبو عبيدة: المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة، والمحفوظ عندنا فَتَحُها، وهو أشبَهُ بالمصادرِ، كأنَّه أرادَ: من شدَّة قنوطكم، ويجوزُ أن يكون من رفع الصَّوت، يقال: ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ، وأللاً، وألِيلاً، إذا رفع صوته بالبكاء، ومنه يقال له: الويل والألِيل؛ ومنه قول الكميت: [البسيط]
2761 - وأنتَ مَا أنتَ فِي غَبْراءَ مُظْلِمَةٍ ... إذَا دَعَتْ أَلَلَيْهَا الكَاعِبُ الفُضُلُ
انتهى.
وقرأ فرقة «ألاَّ» بالفتح، وهو على ما ذكر من كونه مصدراً، من «ألَّ يَؤلُّ إذا عاهد. وقرأ عكرمة:» إيلاً «بكسر الهمزة، بعدها ياءٌ ساكنة، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه اسمُ الله تعالى، ويُؤيِّده ما تقدم في: {لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] ، و {إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] أنَّ المعنى: عبدُ اللهِ.
الثاني: يجوزُ أن يكون مشتقاً مِن: آل يَؤُولُ: إذا صَارَ إلى آخر الأمر، أو من: آل(10/27)
يؤولُ: إذا سَاسَ، قاله ابنُ جني، أي: لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة، وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فقُلبتء ياءً، ك:» ريح «.
الثالث: أنه هو» الإِلُّ «المضعف، وإنَّما اسْتُثقل التَّضعيفُ، فأبدل إحداهما حرف علةٍ، كقولهم: أمْلَيْتُ الكتاب، وأمْلَلْتُه.
وقال الشاعر: [البسيط]
2762 - يَا لَيْتَمَا أمَّنَا شالتْ نَعامتُهَا ... أيْمَا إلى جنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ
قوله:» وَلاَ ذِمَّةً «الذِّمَّة قيل: العَهْد، فيكون ممَّا كُرِّرَ لاختلافِ لفظه، إذا قلنا: إنَّ الإلَّ العهدُ أيضاً، فهو كقوله تعالى: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، وقوله: [الوافر]
2763 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وألْقَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا
وقوله: [الطويل]
2764 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وهندٌ أتَى من دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقيل: الذِّمَّة: الضَّمان، يقال: هو في ذمَّتي، أي: في ضماني، وبه سُمِّي أهل الذِّمَّة، لدخولهم في ضمانِ المسلمين. ويقال: له عليَّ ذمَّةٌ، وذِمام ومذمَّة، وهي الذمُّ قال ذلك ابن عرفة، وأنشد لأسامة بن الحارث: [الطويل]
2765 - يُصَيِّحُ بالأسْحَارِ في كلِّ صارةٍ ... كمَا نَاشَدَ الذَّمَّ الكَفيلَ المُعَاهِدُ
وقال الرَّاغِبُ» الذِّمامُ: ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته من عهدٍ، وكذلك الذِّمَّة، والمَذمَّة والمِذمة، يعني بالفتح والكسر. وقيل: لي مَذَمَّةٌ فلا تهتكها «وقال غيره:» سُمِّيَتْ ذِمَّة، لأنَّ كُلَّ حُرْمة يلزمك من تضييعها الذَّمُّ، يقال لها: ذِمَّة، وتجمع على «ذِمِّ» ، كقوله: [الطويل]
2766 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... كَمَا نَاشَدَ الذَّمِّ ... ... ... ... ... ... . .
وعلى ذممٍ، وذِمَامٍ «. وقال أبو زيد:» مَذِمَّة، بالكسْرِ من الذِّمام، وبالفتح من الذَّمِّ «.(10/28)
وقال الأزهري:» الذِّمَّة: الأمان «. وفي الحديث:» ويسعى بذمَّتِهم أدْناهُمْ «.
قال أبو عبيد:» الذِّمَّة: الأمانُ ههنا، يقول إذا أعطى أدنى الناسُ أماناً لكافر نفذَ عليهم، ولذلك أجاز عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أمان عبدٍ على جميع العسكر «.
وقال الأصمعي «الذِّمَّة: ما لَزِم أن يُحفظَ ويُحْمَى» .
قوله: «يُرْضُونَكُم» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنفٌ، وهذا هو الظاهر، أخبر أنَّ حالهم كذلك.
والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «لاَ يَرْقُبُواْ» .
قال أبُو البقاءِ: «وليس بشيءٍ؛ لأنَّهم بعد ظهورهم لا يُرْضُون المؤمنين» .
ومعنى الآية: يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم.
قوله: «وتأبى قُلُوبُهُمْ» يقالُ: أبَى يَأبَى، أي: اشتد امتناعه، فكلَّ إباءٍ امتناعٌ من غير عكس، قال: [الطويل]
2767 - أبَى اللهُ إلاَّ عَدْلَهُ ووفاءهُ ... فَلاَ النُّكْر مَعْروفٌ ولا العُرْفُ ضَائِع
وقال آخر: [الطويل]
2768 - أَبَى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَليْهِ فأفْضَى والسُّيوفُ مَعَاقِلُهْ
فليس مَنْ فسَّره بمطلق الامتناع بمصيبٍ. ومجيءُ المضارعِ منه على «يفعل» بفتح العين شاذٌّ، ومثله «قَلَى يَقْلَى في لغة» .
فصل
المعنى: «وتأبى قُلُوبُهُمْ» الإيمان «وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» وفيه سؤالان:
السؤال الأول: أنَّ الموصوفين بهذه الصفة كفار، والكفر أقبح وأخبث من الفسق، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة؟
السؤال الثاني: أنَّ الكفار كلُّهم فاسقون، فلا يبقى لقوله: «وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» فائدة،(10/29)
والجواب عن الأوَّلِ: أنَّ الكافِر قد يكونُ عَدْلاً في دينه، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه، فالمرادُ أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود، «أكثرُهُمُ فَاسقُون» في دينهم، وذلك يوجب المبالغة في الذَّم.
والجوابُ عن الثَّاني عين الأوَّل؛ لأنَّ الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب، ونقض العهد، والمكر، والخديعة وقد يكون موصوفاً بذلك، ومثل هذا الشَّخص يكون مذموماً عند جميع النَّاسِ، وفي جميع الأديان.
ومعنى الآية: أنَّ أكثرهم موصوف بهذه الصفات الذميمة. وقال ابنُ عبَّاسٍ «لا يبعدُ أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم، وتاب، فلهذا السبب قال:» وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ «. ليخرج عن هذا الحكم، أولئك الذين أسْلَمُوا» .
قوله {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
قال مجاهدٌ «أطعم أبو سفيان حلفاءه، وترك حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة» . وقال ابنُ عبَّاسٍ: «إنَّ أهل الطائف أمدرهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» .
وقيل: لا يبعدُ أن تكون طائفة من اليهود، أعانوا المشركين على نقض العهود، فكان المراد من هذه الآية، ذم أولئك اليهود، وهذا اللفظُ في القرآن، كالأمر المختص باليهود، ويتأكد هذا بأنَّ الله تعالى أعاد قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} ولو كان المراد منه المشركين، لكان هذا تكراراً محضاً، وإذا حمل على اليهود لم يكن تكراراً، فكان أوْلَى.
ثم قال: «إِنَّهُمْ سَآءَ» أي: بئس «مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» .
قال أبُو حيَّان: يجوزُ أن تكون على بابها من التَّصرُّف والتعدِّي، ومفعولها محذوفٌ، أي: ساءهم الذي كانُوا يعملُونه، أو عملُهم، وأن تكون الجارية مَجْرى «بِئْسَ» فتُحَوَّل إلى «فَعُل» بالضمِّ، ويمتنع تصرُّفها، وتصيرُ للذَّم، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً، كما تقرَّر مراراً.
قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} أي: لا تبقوا عليهم أيها المؤمنون كما لا يبقُون عليكم لو ظهروا. {وأولئك هُمُ المعتدون} لنقض العهد، وتعديهم ما حدّ اللهُ في دينه، وما يوجبه العقد والعهد.(10/30)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} .
لمَّا بيَّن تعالى حال من لا يرقبُ في الله إلاًّ ولا ذمَّةً، وينقض العَهْدَ، ويتعدَّى ما حُدّ له. بيَّن بعده أنهم إن تابوا، وأقاموا الصَّلاة، وآتوا الزماة، فهم: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} .
فإن قيل: المعلق على الشيء بكلمة «إنْ» عدم عند عدم ذلك الشيء، فهذا يقتضي أنَّهُ متى لم توجد هذه الثلاثة، ولا تحصل الأخوة في الدِّين، وهو مُشْكلٌ؛ لأنَّه ربَّما كان فقيراً، أو كان غنيّاً، لكن قبل انقضاءِ الحول، لا تلزمه الزكاة.
فالجوابُ: أنَّه قد تقدَّم في تفسير قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] أن المعلق على الشَّيء بكلمة «إن» لا يلزم منه عدم ذلك الشَّيء، كذلك ههنا، ومن النَّاس من قال: إنَّ المعلق على الشَّيء بكلمة «إنْ» عدم عند عدم ذلك الشيء، فها هنا قال: المؤاخاة بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً، فإنَّ الله شرطها في إثبات المؤاخاة، ومنْ لمْ يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه؛ وجب عليه أن يقرَّ بحكمها فإذا أقرَّ بهذا الحكم دخل في الشَّرط الذي به تجبُ الأخوة.
قوله: فإِخوَانُكُم خبرُ مبتدأ محذوف، أي: فهم إخوانكم، والجملةُ الاسمية في محلِّ جزمٍ على جواب الشرط، وفِي الدِّينِ متعلِّقٌ ب «إخْوانُكُمْ» لِمَا فيه من معنى الفعل.
فصل
قال أبو حاتم «قال أهل البصرة أجمعون: الإخوة في النَّسب، والإخوان في الصَّداقة» . وهذا غلطٌ، يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء إخوة، وإخوان، قال الله تعالى {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ولم يَعْنِ النَّسبَ، وقال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [النور: 61] وهذا في النسب.
قال ابن عبَّاسٍ: «حرمت هذه الآية دماء أهل القبلةِ» ومعنى قوله: «فَإِخْوَانُكُمْ»(10/31)
أي: فهم إخوانكم «فِي الدين» لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، قال ابنُ مسعودٍ «أمرتم بالصَّلاةِ والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له» .
وروى أبو هريرة قال: لمَّا توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب فقال عمرُ: كيف تقاتل النَّاس، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أمِرْتُ أنْ أقاتل النَّاس حتَّى يقُولُوا لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فمَنْ قَالهَا فقد عَصَمَ منِّي مالهُ ونَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّها وحِسابُهُ على اللهِ» فقال: والله لأقاتلنَّ مَنْ فرَّق بين الصلاةِ والزكاةِ، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقاتلهم على منعه، قال عمر: «فوالله ما هو إلاَّ أن شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحقّ» .
قوله {وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قال الزمخشريُّ: وهذا اعتراض واقع بين الكلامين، والمقصود: الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها.
قوله {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم} نقضوا عهودهم، «الأيمان» جمع «يمين» بمعنى: الحلف. «مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ» عقدهم. يعني: مشركي قريش. قال الأكثرون: المرادُ: نكثهم لعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: المرادُ: حمل العهد على الإسلام، ويؤيدهُ قراءة من قرأ «وإن نكثُوا إيمانَهُم» بكسر الهمزة والأول أولى، للقراءة المشهورة؛ ولأنَّ الآية وردت في ناقضي العهد، وقوله: {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} أي: عابوه، وهذا دليلٌ على أنَّ الذِّمِّي إذا طعن في دين الإسلام ظاهراً لا يَبْقَى له عهد.
قوله: {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي: متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أئِمَّة» بهمزتين ثانيتهما مُسهَّلة بَيْنَ بَيْنَ، ولا ألف بينهما.
والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما، من غير إدخال ألف بينهما، وهشام كذلك، إلاَّ أنَّه أدخل بينهما ألفاً، هذا هو المشهور بين القراء السبعة، وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى، ونقل أبو حيان عن نافع ومن معه، أنَّهم يبدلون الثانية ياء صريحة، وأنَّهُ قد نُقِلَ عن نافعٍ المدُّ بينهما، أي: بين الهمزة والياء. فأمَّا قراءةُ التحقيق، وبينَ بينَ، فقد ضعَّفها جماعةٌ من النحويين، كأبي علي الفارسي، وتابعيه، ومن القرَّاء أيضاً من ضعَّف التَّحقيق مع روايته له وقراءتِهِ به لأصحابه، ومنهم من أنكر التسهيل بينَ بينَ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف، وقرءوا بياء خفيفة الكسر، نَصُّوا على ذلك في(10/32)
كتبهم، وأمَّا القراءةُ بالياء فهي التي ارتضاها الفارسيُّ، وهؤلاء الجماعة؛ لأنَّ النُّطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل، وهمزة بينَ بينَ بزنة المخففة.
والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لَحْناً، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين، قال: «فإن قلت: كيف لفظ» أئمة «؟ قلت: بهمزة بعدها همزةُ بين بين، أي: بين مخرج الهمزة والياء وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين، وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوزُ أن تكون، ومن قرأ بها فهو لاحن مُحرِّفٌ» .
قال أبُو حيَّان: «وذلك دَأبه في تلحين المقرئين، وكيف يكون لحناً، وقد قرأ بها رَأسُ النُّحاة البصريين أبو عمرو بن العلاءِ، وقارىءُ أهْلِ مكة ابنُ كثير، وقارىءُ أهل المدينة نافعٌ» ؟
قال شهابُ الدِّين: «لايُنقَمُ على الزمخشريُّ شيءٌ، فإنه إنَّما قال: إنَّها غيرُ مقبولة عند البصريين، ولا يلزم من ذلك أنه لا يقبلها، غاية ما في الباب أنَّه نقل عن غيره، وأمَّا التصريحُ بالياء فإنَّه معذورٌ فيه، لما تقدَّم من أنه اشتُهِر بين القراء التسهيل بين بين، لا الإبدال المحض، حتَّى إنَّ الشَّاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين، لا للقراء، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النُّحاة في هذه اللَّفظة» .
وقد رَدَّ أبو البقاء قراءة التَّسهيل بينَ بينَ، فقال: «ولا يجوزُ هنا أن تجعل بين بين، كما جعلت همزةث» أئذا «؛ لأنَّ الكسرة هنا منقولة، وهناك أصليةٌ، ولو خُفِّفت الهمزةُ الثانية على القياس لقُلبت ألفاً، لانفتاح ما قبلها، ولكن تُرِكَ ذلك لتتحرك بحركةِ الميم في الأصل» .
قال شهابُ الدِّين «قوله» منقولةٌ «لا يُفيد؛ لأنَّ النقل هنا لازم، فهو كالأصل، وقوله» ولوْ خُفِّفَتْ على القياس «إلى آخره، لا يُفيد أيضاً؛ لأنَّ الاعتناء بالإدغام سابقٌ على الاعتناء بتخفيف الهمزة» .
ووزن «أئِمَّة» «أفْعِلة» ، لأنَّها جمع «إمام» ك «حمار وأحْمِرة» والأصل: «أأمِمَة» فالتقى ميمان، فأريد إدغامهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للسَّاكن قبلها، وهو الهمزة الثانية، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة، فالنحويون البصريون يوجبون إبدال الثانية ياء، وغيرهم يحقق، أو يسهِّل بين بين، ومنْ أدخلَ الألف فللخفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين، والأحسنُ أن يكون ذلك في التحقيق، كما قرأ هشام، وأمَّا ما رواه أبو حيان عن نافع من المدِّ مع نقله عنه أنَّه يصرِّح بالياء فللمبالغة في الخفة.
قوله: «لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ» قرأ ابنُ عامر «لا أيمان» بكسر الهمزة، وهو مصدرُ آمَن(10/33)
يُؤمن إيمانً. هل هو من الأمان؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أنهم لا يؤمنون في أنفسهم، أي: لا يُعطون أماناً بعد نُكثهم وطعنهم، ولا سبيل إلى ذلك.
والثاني: الإخبار بأنهم لا يُوفُون لأحدٍ بعهدٍ يعقدُونَه له، أو من التصديق أي: إنَّهم لا إسلام لهم، واختار مكيٌّ التأويل الأوَّل، لما فيه من تجديد فائدة لمْ يتقدَّم لها ذكرٌ؛ لأنَّ وصفهم بالكفر وعدم الإيمان قد سَبَقَ وعُرِف.
وقرأ الباقون بالفتح، وهو جمعُ يمين وهذا مناسب للنكث، وقد أُجمع على فتح الثَّانية، ويعني نفي الأيمان عن الكُفَّارِ، أنَّهم لا يُوفُون بها وإن صدرتْ منهم وثَبتَتْ؛ وهذا كقول الآخر: [الطويل]
2769 - وإِنْ حَلَفْتَ لا يَنْقُضُ النَّأيُ عَهْدَهَا ... فَليْسَ لِمخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ
وبذلك قال الشَّافعي، وحمله أبو حنيفةَ على حقيقته أنَّ يمين الكافرِ لا تكونُ يميناً شرعيةً، وعند الشافعي يمينٌ شرعيةٌ.
فصل في المراد من الآية
معنى الآية: قاتلوا الكفار بأسرهم، وإنَّما خصَّ الأئمة، والسَّادة بالذِّكر، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأفعال الباطلة.
قال ابنُ عبَّاسٍ: «نزلت في أبي سفيان بن حربٍ، والحارث بن هشام، وسهل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذٍ، والذين نقضُوا العهد، وهم الذين همُّوا بإخراج الرسول» ، وقال مجاهدٌ «هم أهل فارس والروم» وقال حذيفة بن اليمان «ما قُوتل أهل هذه الآية، ولم يأت أهلها بعد» .
{إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} أي: لا عهود لهم. ثم قال: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} وهو متعلق بقوله: {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عن الكفر.
قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ}(10/34)
لما قال {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أتبعه بذكر السبب الباعث على مقاتلتهم، فقال {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ} نقضُوا عهودهم، وهم الذين نقضوا عهد الصُّلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة، {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} من مكة حين اجتمعُوا في دار النَّدوة. وقيل: المراد من المدينة، لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل، وقيل: بل همُّوا على إخراجه من حيثُ أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج، وهو نقيضُ العهدِ، وإعانة أعدائه، فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الدَّاعية إليه.
وقوله: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} إمَّا بالفعل، وإمَّا بالعزم عليه، وإن لمْ يُوجَدْ ذلك الفعل بتمامه، واعلم أنَّه ذكر ثلاثة أشايء، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم إذا انفرد، فكيف إذا اجتمعت؟
أحدها: نكثهم العهد.
والثاني: أنهم همُّوا بإخراج الرسول، وهذا من أوكد موجبات القتال.
والثالث: قوله {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني: بالقتال يوم بدر؛ لأنَّهم حين سلم العير، قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه.
وقال ناسٌ من المفسِّرين: أراد أنَّهُم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال الحسنُ: لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة.
وقوله: «أَوَّلَ مرَّةٍ» نصبٌ على ظرف الزَّمانِ، وأصلها المصدر من «مَرَّ يَمُرُّ، كما تقدم [الأنعام: 94] .
قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} الجلالةُ مبتدأ، وفي الخبر أوجهٌ:
أحدها: أنَّهُ» أحَقُّ «، و» أن تخْشَوْهُ «على هذا بدل من الجلالة بدل اشتمال، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، والتقدير: فخشية اللهِ أحَقُّ مِنْ خَشيتهم.
الثاني: أَنَّ» أَحَقُّ «خبر مقدم، و» أَن تَخْشَوهُ «مبتدأ مؤخر، والجملةُ خبرُ الجلالة.
الثالث: أنَّ» أَحَقُّ «مبتدأ، و» أن تَخْشَوهُ «خبره، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة، قاله ابن عطية، وحسن الابتداء بالنكرة، لأنها أفعل تفضيل، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو: اقصد رجلاً خيرٌ منه أبوه.
الرابع: أنَّ» أن تخشوه «في محلِّ نصب، أو جرٍّ، بعد إسقاطِ الخافضِ، إذ التقدير: أحقُّ بأن تخشوه، وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} شرطٌ حذف جوابه، أو قُدِّم على حسب الخلاف [الأنفال: 1] .(10/35)
فصل
هذا الكلامُ يقوي داعية القتال من وجوه:
الأول: أنَّ تقرير الموجبات القويَّة، وتفصيلها ممَّا يُقَوِّي هذه الداعية.
الثاني: أنَّك إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك؛ فكأنك تحرضه على القتال، أي: لا تخف منه.
والثالث: قوله {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} أي: إن كنت تَخْشَى أحَداً فالله أحقُّ أن تخشاه، لكونه في غاية القدرة، فالضَّررُ المتوقع منهم غايته القتل، وأمَّا المتوقع من اللهِ فالعقابُ الشديد في القيامة، والذم اللازم في الدُّنيا.
والرابع: قوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} أي: إن كنتم موقنين بالإيمان، وجب عليكم القتال، أي: إنكم إن لم تقدموا على القتال، وجب أن لا تكونوا مؤمنين.
فصل
حكى الواحديُّ عن أهل المعاني أنهم قالوا: «إذا قلت: ألا تفعل كذا، فإنَّما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده، وإذا قلت: ألست تفعل، فإنَّما تقول ذلك في فعل تحقَّق وجوده، والفرقُ بينهما أنَّ» لا «ينفى بها المستقبل، فإذا أدخلت عليها الألف كان تحضيضاً على فعل ما يستقبل، و» ليس «إنما تستعمل لنفي الحال، فإذا أدخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال» .
فصل
نقل عن ابن عباس أنه قال قوله: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً} ترغيب في فتح مكَّة وقوله: {قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ} أي: عهدهم، يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة، كما تقدم.
وقال الحسنُ «لا يجوزُ أن يكون المرادُ منه ذلك؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة» .
فصل
قال الأصم «دلَّت الآية على أنَّهم كرهوا هذا القتال، لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] فأمنهم الله تعالى بهذه الآيات» . قال القاضي «إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له، ولا مُقصراً فيه، فإن أراد أن مثل هذا التحريض على الجهاد لا يقع إلاَّ وهناك كره للقتال، لا يصح أيضاً، لأنَّهُ يجوز أن يحث تعالى بهذا الجنس على الجهاد، لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع» .(10/36)
فصل
قال القرطبيُّ «استدلُّوا بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدِّين، إذ هو كافر، والطعنُ هو أن ينسب إليه ما لا يليقُ به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدِّين، لما ثبت بالدليل القطعي على صحَّة أصوله، واستقامة فروعه» قال ابنُ المنذر: «أجمع عامَّةُ أهل العلم على أنَّ من سبَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقتل» . قال القرطبيُّ: «وأمَّا الذِّمي إذا طعن في الدِّين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك، لقوله تعالى: {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} [التوبة: 13] الآية، فأمر بقتلهم وقتالهم، وهو مذهب الشَّافعي وقال أبو حنيفة: يستتابُ، وإنَّ مجرَّد الطَّعن لا ينقض به العهد إلاَّ مع وجود النَّكث» .
فصل
[إذا حارب الذميُّ انتقض عهده، وكان ماله وولده فيئاً معه] .
فصل
قال القرطبيُّ: «أكثر العلماء على أنَّ من سبَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أهل الذِّمة، أو عرَّض، أو استخفَّ بقدره، أو وصفه بغير الوجه الذي نعت به فإنه يقتل؛ لأنَّا لَمْ نُعْطِه الذِّمة أو العهد على هذا، لقوله تعالى: {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم} الآية، وقال أبو حنيفة والثوريُّ وأتباعهما من أهل الكوفة: لا يقتلُ، لأنَّ ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدَّب» .
فصل
قال القرطبي: «اختلفوا فيما إذا سبَّه ثم اسلم تقية من القتل، فقيل: يسقطُ القتل بإسلامه، وهو المشهور من المذاهب؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله. بخلاف المسلم إذا سبَّه ثم تاب، قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . وقيل: لا يسقط الإسلام قتله، قاله في العتيبة» .
قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} الآية.
اعلم أنَّه تعالى لمَّا قال في الآية الأولى: «ألاَ تُقاتِلُونَ» وذكر الأشياء التي توجبُ إقدامهم على القتالِ، ذكر في هذه الآية خمسة أنواع من الفوائد، كلُّ واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف إذا اجتمعت؟ .
أولها: قوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} وسمى ذلك عذاباً؛ لأنَّ اللهَ تعالى يعذب الكافرين، إن شاءَ في الدُّنيا، وإن شاء في الآخرة، والمراد من هذا العذاب القتل تارةً، والأسر أخرى، واغتنام الأموال ثالثاً.(10/37)
فإن قيل: أليس قد قال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فكيف قال ههنا: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} ؟ .
فالجواب: المراد من قوله {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] عذاب الاستئصال والمراد من قوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} عذاب القتل والحرب، والفرق بين البابين: أنَّ عذابَ الاستئصال قد يتعدَّى إلى غير المذنب، وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب، أمَّا عذابُ القتل، فالظَّاهر أنه مقصورٌ على المُذْنب.
فصل
احتج أهل السنة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى بقوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} فإنَّ المراد من هذا العذاب، القتل والأسر، وظاهر هذا النص يدلُّ على أنَّ ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى، يدخله في الوجود على أيدي العباد.
وأجاب الجبائيُّ عنه فقال: لو جاز أن يقال إنَّهُ يعذب الكُفَّار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكُفار، ولجاز أن يقال: إنَّهُ يكذب الأنبياء على ألسنة الكُفَّار، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم، لأنَّه تعالى خالق لذلك، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك عند المجبرة، علم أنَّه تعالى لم يخلق أعمال العباد، وإنَّما نسب ما ذكر إلى نفسه على سبيل التوسع من حيثُ إنَّهُ حصل بأمره وألطافه، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير.
وأجيب: بأنَّ الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك، إلاَّ أنا لا نقوله باللِّسانِ، كما نعلم أنه تعالى هو الخالقُ لجميع الأجسام، ثم إنا لا نقول: يا خالق الأبوال والعذرات، ويا مكون الخنافس، والديدان، فكذا ههنا، وأيضاً: أنا توافقنا على أن الزِّنا واللِّواط وسائر القبائح، إنما حصلت بتقدير الله وتيسيره، ثمَّ لا يجوز أن يقال: يا مسهل الزنا واللواط، ويا دافع الموانع عنها.
وأما قوله: المراد إذن الإقدارُ، فهذا صرف للكلام عن ظاهره، وذلك لا يجوزُ إلاَّ لدليل قاهر، والدَّليل القاهر من جانبنا، فإنَّ الفعل لا يصدر إلاَّ عند الدَّاعية الحاصلة، وحصول تلك الدَّاعية ليس إلاَّ من الله تعالى.
وثانيها: قوله: «ويُخْزِهِمْ» أي: يذلهم بالأسر والقهر، قال الواحديُّ «إنهم بعد قتلكم إيَّاهم» وهذا يدلُّ على أنَّ الإخزاء وقع بهم في الآخرة، هذا ضعيف لما تقدَّم من أنَّ الإخزاء حاصلٌ في الدنيا.
وثالثها: قوله: «وينصُرْكُم عليْهِمْ» أي: لمَّا حصل لهم الخزي، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين [بسبب] كونهم قاهرين.
فإن قيل: لمَّا كان حصُولُ الخزي مستلزماً لحصول النصر، كان إفراده بالذِّكرِ عبثاً.
فالجوابُ: ليس الأمر كذلك؛ لأنه يحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة(10/38)
المؤمنين، إلاَّ أنَّ المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر، فلمَّا قال: «وينصُرْكم عليْهِمْ» دلَّ على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر.
ورابعها: قوله {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} . قرأ الجمهور بياء الغيبة، رَدّاً على اسم الله تعالى، وقرأ زيد بن علي «نشف» بالنُّون، وهو التفات حسن، وقال: «قَوْمٍ مُؤمنينَ» شهادة للمخاطبين بالإيمان، فهو من باب الالتفات، وإقامة الظَّاهر مقام المضمر، حيث لم يقل «صدوركم» .
والمعنى: ويبرىء داء قلوب قَوْمٍ مُؤمنين مِمَّا كانُوا ينالُونه من الأذى منهم.
ومعلوم أنَّ من طال تأذِّيه من خصمه، ثم مكَّنه الله منه على أحسنِ الوجوه، فإنَّهُ يعظم سروره به، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس، وثبات العزيمة.
وقال مجاهدٌ والسديُّ «أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله، حيث أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكّلوا بهم، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» .
وخامسها: قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} كرْبَهَا ووَجْدهَا بمعونة قريش بني بكر عليهم.
فإن قيل: قوله {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وبين قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فهذه المنافع الخمسة ترجع إلى تسكين الدَّواعي الناشئة من القوَّة الغضبيَّة، وهي التَّبشفي، ودرك الثَّأر وإزالة الغيظ، ولم يذكر فيها وجدان المال، والفوز بالمطاعم والمشارب؛ لأنَّ العرب جبلوا على الحميّة والأنفة، فرغبهُم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم.
وقرأ الجمهور: «ويُذْهب» بضمِّ الياء وكسرِ الهاء مِنْ: «أذْهَبَ» ، و «غَيْظَ» مفعول به وقرىء «ويَذْهَب» بفتح الياء والهاء، جعله مضارعاً ل «ذَهَبَ» ، و «غيظُ» فاعل به(10/39)
وقرأ زيد بن علي كذلك، إلاَّ أنَّه رفع الفعل مستأنفاً، ولم ينسقْه على المجزم قبله، كما قَرَءُوا «ويتوبُ» بالرفع عند الجمهور.
قوله: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} قرأ الجمهور بالرَّفع، وقرأ زيدُ بنُ علي، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وعمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وعيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية ويعقوب «ويتُوبَ» بالنَّصب، فأمَّا قراءةُ الجمهور فإنَّهَا استئنافُ إخبارٍ، وكذلك وقع، فإنه قد أسلم ناسٌ كثيرون، كأبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم.
قال الزجاج: وأبُو الفتح: وهذا أمرٌ موجودٌ، سواءٌ قوتلوا، أمْ لمْ يقاتلوا، ولا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في: «قَاتِلُوهم» . يعنيان بالشَّرط: ما فُهِمَ من الجملة الأمرية. قالوا: ونظيره: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} [الشورى: 24] وتمَّ الكلامُ ههنا، ثم استأنف فقال: {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] وأمَّا قراءةُ زيد ومنْ ذُكر معه فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلة في جواب الأمر من طريقِ المعنى، وفي توجيه ذلك غموضٌ، فقال بعضهم: إنَّه لمَّا أمرهُمْ بالمقاتلة شقَّ ذلك على بعضهم، فإذا أقدموا على المقاتلةِ صار ذلك العملُ جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة، قاله الأصمُّ. فيصير المعنى: إن تقاتلوهم يُعذِّبهمُ الله، ويتُبء عليكم من تلك الكراهة لقتالهم، وقال آخرون - في توجيه ذلك -: إنَّ حصول الظَّفَر وكثرة الأموال لذَّةٌ تطلبُ بطريقٍ حرام، فلمَّا حصلتْ لهُم بطريقٍ حلالٍ، كان ذلك داعياً لهم إلى التَّوبة ممَّا تقدم، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة.
وقال ابنُ عطية - في توجيه ذلك -: «يتوجه عندي إذا ذهب إلى أنَّ التوبة يراد بها هنا قتل الكافرين والجاهد في سبيل الله، هو توبةٌ لكم أيها المؤمنون، وكمالٌ لإيمانكم، فتدخلُ التسوية على هذا في شرطِ القتال» .
قال أبُو حيان «وهذا الذي قرروه من كون التَّوبة تدخلُ تحت جواب الأمر بالنسبة للمؤمنين الذين أمِرُوا بقتال الكُفَّارِ، والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكُفَّار، والمعنى: على من يشاء من الكفار، لأنَّ قتال الكفارِ، وغلبة المسلمين إياهم قد يكونُ سبباً لإسلام كثير، ألا ترى إلى فتح مكَّة، كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون، وحسنُ إسلامُ بعضهم جدّاً، ك: ابن أبي سرح، ومن تقدم ذكره، وغيرهم» فيصير المعنى: إن تقاتلوهم يتب الله على من يشاء من الكُفَّار، أي: يُسْلمُ من يشاء منهم، والمرادُ بالتَّوبة هنا: الهداية إلى الإسلام كما ذكره جمهور المفسرين، ثمَّ قال {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عليم بكل ما يفعل في(10/40)
ملكه «حَكِيمٌ» مصيب في أحكامه وأفعاله.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} الآية.
قال الفراء: «أمْ» من الاستفهام الذي يتوسط الكلام، ولو أريد به الابتداء لكان ب «الألفط أو ب» هل «.
فصل
هذا ترغيبٌ في الجهاد قيل: هذا خطابٌ للمنافقين، وقيل: للمؤمنين الذي شق عليهم القتال، فقال: أحسبتم أن تتركوا فلا تأمروا بالجهاد، ولا تمتحنوا، ليظهر الصادق من الكاذب، «ولمَّا يعلم اللهُ» أي يرى اللهُ الذين جاهدوا منكم، وذكر العلم والمراد منه: المعلوم، فالمراد أن يصدر الجهاد عنهم، إلاَّ أنه لما كان وجود الشيء يلزمه أن يكون معلوم الوجود عند الله، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده.
قوله {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} يجوزُ في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلة، لعطفها عليها، أي: الذين جَاهَدُوا ولم يتَّخذُوا.
الثاني: أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من فاعل: «جَاهدُوا» أي: جَاهَدُوا حال كونهم غير متخذين وليجَةً.
و: «وَليجَةً» مفعول، و «مِن دُونِ اللهِ» إمَّا مفعول ثان، إن كان الاتخاذُ بمعنى التَّصْيير، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ، إن كان على بابه، والوليجة: فَعِيلة، مِن الوُلُوج، وهُو الدُّخُولُ، و «الوَليجَةُ» من يداخلك في باطن أمورك، وقال أبو عبيدة: «كُلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ وليس منهُ، والرجل في القوم وليس منهم، يقال له وليجة» ويستعملُ بلفظٍ واحدٍ، للمفردِ، والمثنى، والمجموع، وقد يجمعُ على «ولاَئِج» ووُلُج، ك: صحيفة، وصحائف، وصحف وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي: [الطويل]
2770 - ولائجُهُمْ في كُلِّ مَبْدَى ومَحْضَرٍ ... إلى كُلِّ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَتخوَّفُ
فصل
معنى الآية: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} بطانة، وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم.
وقال قتادةُ: «وَليجةً» خيانة. وقال الضَّحَّاك. «خديعة» . والمقصودُ من ذكر(10/41)
هذا الشَّرط: أنَّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مُخْلصاً، بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره، فبيَّن أنَّهُ لا بد وأن يأتُوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن الرياءِ، والنفاقِ، والتَّودُّدِ إلى الكفار.
والمقصودُ: بيان أنَّه ليس الغرضُ منه إيجاب القتالِ فقط، بل الغرض أن يُؤتَى به انقياداً لأمر اللهِ، ولحكمه وتكليفه، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذٍ يحصل به الانتفاع.
قوله: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قرأ الحسنُ «بِمَا يَعْملُون» بالغيبةِ على الالتفات؛ وبها قرأ يقعوبُ في رواية سلاَّم، أي: عالم بنياتهم، وأغراضهم، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ الله لا يَرْضَى أن يكون الباطنُ خلاف الظَّاهِرِ، ولا الظَّاهر خلاف الباطن، وإنَّما يريدُ من خلقه الاستقامة، كما قال {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] ، قال: ولمَّا فرض القتالُ، تميَّز المنافقُ من غيره، وتميَّز من يوالي المؤمنين ممَّن يعادِيهمْ.(10/42)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} الآية.
اعلم أنَّهُ تعالى بَدَأ السُّورة بذكر البراءة من الكُفَّار، وبالغ في ذلك، وذكر من أنواع قَبَائِحِهمْ مَا يوجب تلك البراءةَ، ثمَّ إنَّه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أنَّ هذه البراءة غير جائزةٍ، وأنَّهُ يجبُ مخالطتهم ومناصرتهم، فأولها هذه الآية، وذلك أنَّهم ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدةٍ توجبُ مخالطتهم ومعاونتهم، ومناصرتهم، ومن جملةِ تلك الصِّفات، كونهم عامرين للمسجدِ الحرامِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: لمَّا أسر العبَّاسُ يوم بدرٍ، وعيَّرَهُ المسلمون بالكُفرِ، وقطيعة الرَّحمِ، وأغلظ له عليٌّ القول، فقال العبَّاسُ: ما لكم تذكرون مساوئنا، ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليٌّ: ألكُم محاسن؟ فقال: نعم، إنَّا لنعْمُرُ المسْجِدَ الحَرامَ، ونحجب الكَعْبَة، ونسْقِي الحاجَّ، ونفكُّ العاني؛ فأنزل اللهُ تعالى ردّاً على العبَّاسِ: {مَا كَانَ(10/42)
لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمرُوا مساجد الله، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأنَّ المساجد تعمر لعبادة الله وحده.
واعلم أنَّ عمارة المَسْجِد قسمان:
إمَّا بلزومها وكثرة إتيانها، يقال: فلان يعمرُ مجلس فلان إذا كثر غشيانه، وإمَّا بالعمارة المعروفة بالبناء، فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنَّه ليس للكافر أن يقدم على مرمَّةِ المسجد، لأنَّ المسجد موضع العبادة، فيجب أن يعظم، والكافرُ يهينه، وأيضاً فالكافرُ نجس في الحكم، لقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] ، وتطهير المسجد واجبٌ، لقوله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] ، وأيضاً فالكافرُ لا يحترز من النَّجاسة، فدخوله المسجد تلويث للمسجد، وقد يؤدّي إلى فسادِ عبادة المصلين.
وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المُصلين، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنّة على المسلمين، وقد ذهب جماعةٌ منهم الواحديُّ؛ إلى أنَّ المُرادَ منه: العمارة المعروفة من بناء المسجدِ، ومرمته عند الخراب، فيمنع منه الكافر، حتى ولو أوصى بها لم تقبل، ويمنع من دخول المساجدش، وإن دخل بغير إذن استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيمُ المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفد ثقيف في المسجد وهم كفَّار، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد، وهو كافر، وحمل بعضهم العمارة على المسجد على الوجه الأول.
«أَن يَعْمُرُواْ» اسم «كان» . قرأ ابنُ السميفع «يُعْمِرُوا» بضم الياء وكسر الميم، من: «أعمر» رباعياً، والمعنى: أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو «مسجد اللهِ» بالإفراد، وهي تحتملُ وجهين، أن يُراد به مسجدق بعينه، وهو المسجد الحرام، لقوله {وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} [التوبة: 19] ، وأن يكون اسم جنسٍ، فيندرج فيه سائر المساجد، ويدخل المسجدُ الحرامُ دخولاً أوليّاً وقرأ الباقون: «مَساجِد» بالجمع، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين، ووجه الجمع إمَّا لأنَّ كُلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يقال لها: مسجدٌ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد، فصَحَّ أن يُطْلقَ عليه لفظُ الجمع لذلك.
[قال الفرَّاءُ: ربما ذهب العربُ بالواحد إلى الجمع، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى إلى الرجل يركب البرذون؛ فيقول: أخذت في ركوب البراذين، وفلان يجالس الملوك، وهو لا يجلس إلا مع ملك واحد، ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار يريد: الدراهم والدنانير] .(10/43)
قوله: «شَاهِدِينَ» الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال من فاعل: «يَعْمُرُوا» أراد: وهم شاهدون. وقرأ زيد بن علي: «شَاهِدُون» بالواو رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر، والجملةُ حالٌ أيضاً.
قوله «على أَنْفُسِهِمْ» الجمهور على «أنفُسهم» جمع «نَفْس» وقرىء «أنفسهم» بضم الفاء، ووَجْهُهَا أن يُرادَ ب «الأنْفَس» - وهو الأشرف الأجل من النَّفَاسة -: رسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قيل: لأنه ليس بطنٌ من بطون العرب إلاَّ وله فيهم ولادة، وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً، وهو مع هذه القراءة أوضح.
فصل
قال الحسنُ: «لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر» .
وقال الضحاك عن ابن عبَّاسٍ: «شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، فكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكانت أصنامهم منصوبة بخارج البيت الحرام عند القواعد، وكلَّما طافُوا شَوْطاً سَجَدُوا لأصْنَامِهِمْ، ولم يَزْدَادُوا بذلك من الله إلاَّ بُعْداً» .
وقال السدي: «شهادتهم على أنفسهم بالكفر، هو أن النصراني يسأل من أنت؟ فيقول: أنا نصراني، واليهودي يقول أنها يهودي، ويقال للمشرك ما دينك؟ فيقول: مشرك» .
وقيل: إنَّهم كانُوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلاَّ شريك هو لك تملكه وما ملك، ونقل عن ابن عباس أنه قال: «المرادُ أنهم يشهدون على الرسول بالكفر، قال: وإنَّما جازَ هذا التفسيرُ، لقوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] .
قال القاضي» هذا عدول عن الحقيقة، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذَّر إجراءُ اللفظ على حقيقته، أمَّا لما بيَّنا أنَّ ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز «.
قوله {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} لأنها لغير الله، ثم قال: {وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ} هذه جملةٌ مستأنفة و» في النَّارِ «متعلقٌ بالخبرِ، وقُدِّم للاهتمام به، ولأجل الفاصلة.
وقال أبُو البقاءِ:» وهم خالدون في النَّارِ، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف(10/44)
والمعطوف «وفيه نظرٌ، من حيثُ إنَّه يوهم أنَّ الجملة معطوفةٌ على ما قبلها، عطف المفرد على مثله تقديراً، وليس كذلك، بل هي مستأنفةٌ، وإذا كانت مستأنفة فلا يقال فيها: فصل الظَّرف بين حرف العطف والمعطوف، وإنَّما ذلك في المتعاطفين المفردين، أو ما في تأويلهما، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى:
{رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] وفي قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} [النساء: 58] .
وقرأ زيد بن علي خالدين بالياء، نصباً على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ قبله، لأنَّ الجارَّ صار خبراً، كقولك: في الدار زيد قاعداً، فقد رفع زيد بن علي «شاهدين» ، ونصب «خالدون» عكس قراءة الجمهور فيها.
فصل
احتج أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الفاسق من أهل الصَّلاة، لا يخلد في النار من وجهين:
الأول: أن قوله {وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ} يفيد الحصر، أي: هم فيها خالدون لا غيرهم؛ لأنَّ هذا الكلام إنَّما ورد في حق الكفار.
الثاني: أنَّه تعالى جعل الخلود في النار للكافر جزاء على كفره، ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الكفار، لما صحَّ تهديد الكافر به.
قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله} جمهورُ القراء على الجمع، وقرأ الجحدريُّ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإفراد، والتَّوجيهُ يؤخذ ممَّا تقَدَّم، والظَّاهر أن الجمع هنا حقيقةٌ؛ لأن المراد: جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض.
فصل
اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن أنَّ الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد، بيَّن أنَّ المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربع، فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} فبين أنه لا بُدَّ من الإيمان بالله؛ لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه، والكافرُ يمتنع منه ذلك، وأمَّا كونه مؤمناً باليوم الآخر، لأنَّ عبادة الله إنَّما تفيد في القيامة، فمن أنكر القيامة، لم يعبد الله، ومن لم يعبد الله، لم يَبْنِ بناءً لعبادة الله.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر الإيمان بالرَّسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؟ .
فالجوابُ: من وجوه:(10/45)
الأول: أنَّ المشركين كانوا يقولون: إنَّ محمداً إنَّما ادَّعى الرِّسالةَ طلباً للرئاسة، فذكر ههنا الإيمان باللهِ واليوم الآخر، وترك ذكر النُّبوةِ، كأنه يقولُ: مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلاَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصليّ، وحذف ذكر النبوة، تنبيهاً للكفار على أنَّه لا مطلوب له من الرسالة إلاَّ هذا القدر.
الثاني: أنه لمَّا ذكر الصَّلاة، والصلاة لا تتم إلاَّ بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة، فكان كافياً.
الثالث: أنَّه ذكر الصلاة، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، والمعهود عند المسلمين هي الأعمال التي كان يأتي بها محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فكان ذكر الصَّلاة دليلاً على النبوة، وأمَّا قوله «وأَقَامَ الصَّلاةَ» فلأنَّ المقصود الأعظم من بناء المسجد إقامة الصلاة، وأمَّا قوله «وآتَى الزَّكاةَ» فلأنَّ الإنسانَ إذا كان مقيماً للصلاة، فإنَّه يحضرُ في المسجد، وفي المسجد طوائف الفقراء والمساكين، لطلب أخذ الزَّكاةِ، فتحصُل عمارة المسجد، وإن حملنا العمارة على البناء، فلأن الظَّاهرَ أنَّ الإنسان إذا لم يؤدّ الزكاة لا يعمر مسجداً.
وأما قوله {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} أي: لا يبني المسجد لأجل الرِّياء والسمعة، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله.
روي أنَّ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، والكفار يؤذونه بسببه، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة، ولمَّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفاً بهذه الصفات الأربع، نبَّه بذلك على أنَّ المسجد يجبُ صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث، وإصلاح مهمات الدنيا. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يأتِي في آخر الزمانِ ناسٌ من أمتِي يأتُون المساجدَ فيقعُدُون فيها حلقاً، ذكرُهُم الدُّنْيَا، وحُبُّ الدُّنْيَا، لا تُجالِسُوهُم فليْسَ للهِ بِهِمْ حَاجَة» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «الحديثُ في المسْجِدِ يَأكلُ الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قال الله تعالى: «إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنَّ زُوَّاري فيها عُمَّارها، فطُوبَى لعبدٍ تطهَّر في بيتهِ ثمَّ زَارنِي في بَيْتِي، فحقٌّ على المَزُورِ أن يُكرم زائرهُ» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «مَنْ ألفَ المَساجِد ألفهُ(10/46)
الله» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «إذَا رأيْتُم الرَّجلَ يعتادُ المسجدَ فاشْهَدُوا له بالإيمان» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «مَنْ أسرجَ في مسجدٍ سراجاً لم تزلِ الملائِكةُ وحملةُ العرشِ يَسْتغفرُونَ لهُ ما دامَ في ذلك المسْجدِ ضَوؤهُ» ، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريُّ.
قوله: {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} قال المفسرون: «عسى» من الله واجب، لكونه متعالياً عن الشّك والتردد.
وقال أبو مسلم: «عسى» ههنا راجع إلى العباد، وهو يفيدُ الرجاء، فكان المعنى: إنَّ الذين يأتون بهذه الطاعات، إنَّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء، لقوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة: 16] والتحقيق فيه: أنَّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال، لا يقطعُ على الفوز بالثَّواب؛ لأنه يجوزُ من نفسه أنه قد أخَلَّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول، وقال الزمخشريُّ «المرادُ منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها» . فبيَّن تعالى أنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين «لَعَلَّ» و «عَسَى» ، فما بالُ هؤلاء المشركين، يقطعون بأنَّهم مهتدون، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللهِ تعالى.(10/47)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} الآية.
الجمهور على قراءة «سِقايةَ» ، و «عِمارةَ» مصدرين على «فِعالةٍ» ، ك: الضِّيافة، والوِقاية والتِّجارة، ولم تقلب الياء همزة، لتَحصُّنها بتاء التأنيث، بخلاف «رِدَاءة،(10/47)
وعِباءة» ، لطروء تاء التأنيث فيهما، قاله الزمخشريُّ. واعلم أنَّ: السِّقاية فعلٌ، وقوله {مَنْ آمَنَ بالله} [التوبة: 18] إشارة إلى الفاعل، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل، والصفة بالموصوف، وإنّه محالن وحينئذ فلا بُدَّ من حذف مضاف، إمَّا من الأول، وإمَّا من الثَّاني، ليتصادق المجعولان، والتقدير: أجعلتم أهل سقايةِ الحاجِّ، وعِمارة المسجد الحرام كمَنْ آمَنَ، أو أجعلتم السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمَنَ، أو كعملِ من آمَنَ، ونظيره: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} [البقرة: 177] ، وقيل: السٌِّاية والعمارة يعني: السَّاقي والعامر، وهذا كقوله: {والعاقبة للتقوى} [طه: 132] ، أي: للمتقين، والمعنى: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام ك {كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} . ويدلُّ عليه قراءة أبي وابن الزبير والباقين كما يأتي قريباً.
وقرأ ابنُ الزُّبير، والباقر، وأبو وجزة «سُقَاة ... وعمرة» بضمِّ السين، وبعد الألف تاء التأنيث، و «عَمَرة» بفتح العين والميم دون ألف، وهما جمع «ساقٍ» ، و «عامر» ، كما يقال: قاضٍ وقُضاة، ورَام ورُمَاة، وبارٌّ وبَرَرة، وفاجِر وفَجَرة.
والأصل: سُقَيَة، فقُلبت الياء ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولا حاجة هنا إلى تقدير حذف مضافٍ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور.
وقرأ سعيد بن جبير كذلك، إلاَّ أنه نصب «المسجِد الحرَام» ب «عَمَرَة» ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [المتقارب]
2771 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولا ذَاكِرَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً
وقوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] . وقرأ الضحاك «سُقَاية» ، «عمرة» ، وهما جمعان أيضاً، وفي جمع «ساقٍ» على «فُعَالة» نظرٌ لا يَخْفى، والذي ينبغي أن يقال: أن يُجْعل هذا جمعاً ل «سِقْي» و «السِّقْي» هو الشيء المَسْقِي ك «الرِّعْي، والطِّحن» . و «فِعْل» يُجمع على «فُعال» ، قالُوا: ظِئْر وظُؤار، وكان من حقه ألا تدخل عليه تاء التأنيث، كما لم تدخل في: «ظُؤار» ، ولكنه أنَّث الجمع، كما أنَّث في قولهم: «حِجَارة، وفُحولة» ، ولا بُدّ حينئذٍ من تقدير مضافٍ، أي: أجعلتم أصحاب الأشياءِ المَسقيَّة كمَنْ آمَنَ؟ .
فصل
روى النُّعْمانُ بنُ بشيرٍ قال: كُنْتُ عِنْدَ منبَرِ رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رجلٌ: لا أُبَالِي ألاَّ(10/48)
أعملَ عملاً بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل ممَّا قلتم، فزَجرهُمْ عمرُ وقال: لا تَرفعُوا أصوَاتكُم عندَ مِنبرِ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهُو يَوْمُ الجُمعةِ - ولكنْ إذا صَلَّيتُ دخلتُ واستَفْتيْتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيمَا اختَلَفْتُم فيه، فدخل، فأنزلَ الله عزَّ وجلَّ هذه الآية إلى قوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} .
وقال ابنُ عبَّاسٍ «إنَّ عليّاً أغلظ الكلام للعبَّاس حين أسر يوم بدر، فقال العبَّاسُ: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام، والهجرة، والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله هذه الآية. وأخبر أنَّ عمارتهم المسجد الحرام، وقيامهم على السقاية، لا ينفعهم مع الشرك بالله، وأنَّ الإيمان بالله، والجهاد مع نبيه خيرٌ مِمَّا هُمْ عليه» .
وقال الحسنُ والشعبيُّ ومحمدُ بن كعبٍ القرظيُّ «نزلت في عليٍّ بن أبي طالب، والعباس، وطلحة بن أبي شيبة، افتخروا، فقال طلحةُ: أنا صاحبُ البيتِ، بيدي مفتاحه، ولو أردتُ بتُّ فيه، وقال العبَّاس: أنا صاحبُ السِّقاية، والقائم عليها، وقال علي: لا أدري ما تقولون، لقد صلَّيْتُ إلى القبلة ستة أشهر قبل النَّاس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله هذه الآية» .
وقيل: إنَّ عليّاً قال للعباس بعد إسلامه: يا عم ألا تهاجرون، ألا تحلقُون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال: ألستُ في أفضل من الهجرةِ؟ أسقي الحاج، وأعمر البيت الحرام؟ فنزلت هذه الآية، فقال العباس: ما أراني إلاَّ تارك سقايتنا، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أقيمُوا على سقَايتكُم فإنَّ لَكُم فيهَا خَيْراً» .(10/49)
وقيل: إنَّ المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج، وعمار المسجد الحرام، فنحن أفضل أم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه؟ فقالت اليهودُ لهم: أنتُمْ أفْضَلُ.
قال ابن الخطيب: «هذه المفاضلة تحتملُ أن تكون جرت بين المسلمين، ويحتمل أن تكون جرت بين المسلمين والكفار، أمَّا كونها جرت بين المسلمين، فلقوله تعالى بعد ذلك {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} ، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح درجة أيضاً عند الله، وذلك لا يليق إلاَّ بالمؤمنين، وأمَّا احتمال كونها جرت بين المؤمنين والكفار، فلقوله تعالى {كَمَنْ آمَنَ بالله} وهذا يدل على أنَّ هذه المفاضلة وقعت بين من لم يُؤمن بالله وبين من آمن بالله» .
وهذا هو الأقرب؛ لأن المفسرين نقلوا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله} [التوبة: 18] أنَّ العباس احتجَّ على فضائل نفسه، بأنَّهُ عمر المسجد الحرام، وسقي الحاج، فأجاب الله عنه بوجهين:
الأول: ما تقدَّم في الآية الأولى: أنَّ عمارة المسجد الحرام توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن، أمَّا إذا صدرت عن الكافر، فلا فائدة فيها ألبتة.
والثاني: هذه الآية، وهو أن يقال: سَلَّمنا أنَّ عمارة المسجد الحرام، وسقي الحاج، يوجب نوعاً من الفضيلة، إلاَّ أنها بالنسبة إلى الإيمان والجهاد كمقابلة الشيءِ الشَّريف الرفيع جدّاً بالشَّيء الحقير التافه جدّاً، وإنَّه باطل، وبهذا الطريق حصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها.
فصل
روى عكرمةُ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء إلى السِّقاية فاستسقى، فقال العبَّاسُ يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشراب من عندها، فقال: اسقني. فقال يا رسُول الله: إنَّهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنَّكم على عملٍ صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا، يعني: عاتقه وأشار إلى عاتقه.
وعن بكر بن عبد الله المزنيّ: قال: كنتُ جالساً مع ابنِ عبَّاسٍ عند الكعبة فأتاه أعرابيّ فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمِنْ حاجةٍ بكم؟ أمِنْ بُخْلٍ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: الحمدُ للهِ ما بِنَا من حاجة ولا بخل، إنَّما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على راحلته، وخلفه أسامة، فاستسقى، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب، وسقى فضله(10/50)
أسامة، فقال: أحسنتم وأجملتم، كذا فاصْنَعُوا، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الحسنُ: «كانت السِّقاية بنبيذ الزبيب» .
وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً، فكسر منه بالماء ثلاثاً، وقال: إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء. وأمَّا عمارة المسجد الحرامِ فهي تجهيزه وتحسين صورة جدرانه.
قوله {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} في الجملة وجهان:
أظهرهما: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر تعالى بعدم تساوي الفريقين.
والثاني: أن يكون حالاً من المفعولين للجعل، والتقدير: سَوَّيْتُم بينهم في حال تفاوتهم، ولمَّا نفى المساواة بينهما، وذلك لا يفيد من هُوَ الرَّاجح؛ فنبَّه على الرَّاجح بقوله {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي: إنَّ الكافرين ظلمُوا أنفسهم، لأنهم تركُوا الإيمان، ورضُوا بالكفر فكانوا ظالمين، لأنَّ الظُّلمَ عبارةٌ عن وضع الشيء في غير موضعه، وأيضاً ظلموا المسجد الحرام، فإنَّه تعالى جعله موضعاً لعبادة الله تعالى، فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان.
قوله تعالى: {
1649 - ;لَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله} الآية.
لمَّا ذكر ترجيح الإيمان، والجهاد على السِّقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز؛ أتبعه بذكر هذا التَّرجيح بالتَّصريح، أي: مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممَّن اتَّصف بالسِّقاية والعمارة، والسَّبب فيه؛ لأن الإنسان ليس له إلاَّ الروح، والبدن، والمال، فأمَّا الرُّوح فإنه لمَّا زال عنه الكفر، وحصل فيه الإيمان، فقد وصل إلى مراتب السعادات وأما البدن والمال، فبالهجرة والجهادِ صارا معرَّضين للهلاك، ولا شكَّ أنَّ النفس والمال محبوب الإنسان، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلاَّ عند الفوز بمحبوب أكمل من الأوَّلِ، فلولا أنَّ طلب الرضوان أتمُّ عندهم من النفس والمال؛ وإلاَّ لما رجَّحُوا جانب الآخرة على النفس والمال طلباً لمرضاة الله تعالى، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السِّقاية والعمارة بمجرد الاقتداء بالآباء، وطلب الرياسة والسُّمعة؟
قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} لم يقُلْ: أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة؛ لأنَّه لو ذكرهم، أوهم أن تلك الفضيلة بالنسبة إليهم، فلمَّا ترك ذكر المرجوح، دلَّ ذلك على أنَّهُمْ أفضل من كل من سواهم على الإطلاق.(10/51)
فإن قيل: لمَّا أخبرتم بأنَّ هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، فكيف قال في وصفهم: «أعْظَمُ دَرَجَةً» ؟ .
فالجوابُ من وجوه:
الأول: أن هذا ورد على ما قدَّرُوا لأنفسهم من الدَّرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله تعالى: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] ، وقوله {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} [الصافات: 63] .
الثاني: أنَّ المراد: أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات، تنبيهاص على أنَّهم لمَّا كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.
الثالث: أن المراد، أنَّ المؤمن المُهاجِرَ المجاهد أفضل ممَّن على السقاية والعمارة، والمراد منه: ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال، ولا شك أنَّ السِّقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنَّما بطل ثوابها في حقِّ الكفار؛ لأن الكفر منع من ظهور ذلك الأثر، ثُم بيَّن تعالى أنهم: «هُمُ الفائِزُون» وهذا للحصر، والمعنى: أنهم هم الفائزون بالدرجة العلية المشار إليها بقوله: «عِنْدَ اللهِ» وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان.
وقد تقدَّم اختلاف القراء في: «يُبَشِّرهُم» وتوجيه ذلك في «آل عمران» وكذلك في الخلاف في {وَرِضْوَانٌ} [آل عمران: 15] .
وقرأ الأعمش «رضُوان» بضمِّ الراء والضَّاد، وردَّها أبُو حاتم، وقال: «لا يجوز» . وهذا غيرُ لازم للأعمش فإنه رواها، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب، قالوا: «السُّلُطان» بضم السين واللام.
قوله {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ} يجوز أن تكون هذه الجملةُ صفةً ل «جَنَّاتٍ» وأنْ تكون صفةً ل «رَحْمَة» ؛ لأنَّهم جَوَّزُوا في هذه الهاء أن تعود للرَّحمة، وأنْ تعود للجنات، وجوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله: «يُبَشِّرهُمْ» ، كأنَّه قيل: لهم في تلك البشرى. وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً، وحالاً إن قدَّرْتَه معرفةً. ويجوزُ أن يكون «نعيمٌ» فاعلاً بالجارِّ قبله، وهو أولى، لأنَّه يصير من قبيل الوصف بالمفرد، ويجوزُ أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله، وقد تقدَّم تحقيق ذلك مراراً [الأنفال: 72] . قوله: «خَالِدِينَ» حالٌ من الضمير في «لهم» .
واستدل أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الخلود يدلُّ على طول المكث، ولا يدل على التأبيد، قالوا: لأنَّهُ لو كان الخلود يفيد التَّأبيد، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخُلُود تكراراً، وإنه لا يجوز(10/52)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ} الآية.
والمقصود من هذه الآية: أن تكون جواباً عن شبهة أخرى، ذكروها في أن البراءة من الكافر غيرُ ممكنة، فإنَّ المسلم قد يكون أبوه كافراً أو ابنُه والكافر قد يكون أبوهُ أو أخوه مسلماً والمقاطعة بين الرَّجُلِ وأبيه وابنه وأخيه كالمتعذر، فأزال اللهُ تعالى هذه الشبهة بهذه الآية. ونقل المفسِّرون عن ابنِ عبَّاسٍ «أنَّه تعالى لمَّا أمر المسلمين بالهجرةِ قبل فتح مكَّة، فمنْ لم يهاجر لم يقبل اللهُ إيمانه، حتى يجانب الآباء والأقرباء إن كانُوا كفاراً» .
قال ابنُ الخطيب «وهذا مشكل؛ لأنَّ الصحيح أنَّ هذه السورة إنَّما نزلت بعد فتح مكة، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه؟ وإنَّما الأقربُ أنَّهُ تعالى أمر المؤمنين بالتبرِّي عن المشركين بسبب الكفر، لقوله: {إَنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} أي: اختاروا الكفر على الإيمان، والاستحباب: طلب المحبة، يقال استحب له، بمعنى: أحبه، كأنه طلب محبته» .
ولمَّا نهى الله عن مخالطتهم، وكان النَّهي يحتملُ أن يكُون نَهْيَ تنزيهٍ وأن يكون نهي تحريم، ذكر ما يزيل الشبهة فقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} . قال ابن عباسٍ «يريدُ: مشركاً مثلهم، لأنه رضي بكفرهم، والرَّضى بالكُفرِ كفر، كما أنّض الرضا بالفسقِ فسق» .
قال القاضي: «هذا النَّهي لا يمنعُ أن يتبرأ المرءُ من أبيه في الدُّنيا، كما لا يمنع من قضاء دين الكافرن ومن استعمله في الأعمال» .
قوله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ} «آباؤكم» وما عطف عليه اسم «كان» ، و «أحب» خبرها، فهو منصوبٌ، وكان الحجاجُ بنُ يوسف يقرها بالرفع، ولحَّنَه يحيى بن يعمر فنفاه.
قال أبو حيَّان «إنَّما لحَّنَه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقلة، وإلاَّ فهي جائزةٌ في العربية، يُضمر في» كان «اسماً، وهو ضميرُ الشأن، ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر، وحينئذٍ تكونُ الجملة خبراً عن» كان «.(10/53)
قال شهاب الدِّين. فيكون كقول الشاعر: [الطويل]
2772 - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ ... وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنتُ أصْنَعُ
وهذا في أحد تأويلي البيت.
والآخر: أنَّ» صنفان: خبرٌ منصوب، وجاء به على لغةِ بني الحارث، ومن وافقهم.
والحكاية التي أشار إليها الشَّيْخُ من تلحين يحيى للحجَّاج هي: أنَّ الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه: هل تجدني ألحن؟ فقال: الأميرُ أجَلُّ من ذلك، فقال: عَزمْتُ عليك إلاَّ ما أخبرتني، وكانوا يُعظِّمون عزائم الأمراء، فقال: نعم، فقال: في أي شيءٍ؟ فقال: في القرآن، فقال: ويْلَك!! ذلك أقبحُ بي، في أيِّ آية؟ قال: سَمعتُك تقر: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى أن انتهيت إلى «أحَبّ» فرفعتها، فقال: إذن لا تسمعني ألْحَنُ بعدها، فنفاهُ إلى «خراسان» فمكث بها مدةً، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فجاءهم جيش، فكتب إلى الحجاج كتاباً، وفيه: «وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض، وصعدنا عُرعُرة الجبل» ، فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام، فقيل له: إنَّ يحيى هناك، فقال: إذن ذاك.
وقرأ الجمهور «عَشيرَتُكُمْ» بالإفراد، وأبو بكر عن عاصم «عَشِيراتكم» جمع سلام. [ووجه الجمع أنَّ لكلِّ من المخاطبين عشيرة، فحسن الجمع، وزعم الأخفشُ أنَّ «عشيرة» لا تجمع بالألف والتاء، وإنَّما تكسيراً على «عشائر» ، وهذه القراءة حجةٌ عليه، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وأبي رجاء.
وقرأ الحسن «عَشائرُكُم» قيل: وهي أكثر مِنْ «عشيراتكم» ] .
و «العَشِيرةُ» : هي: الأهلُ الأدنون. وقيل: هم أهلُ الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم، أي: يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل، وذلك أنَّ العشيرة هي العددُ الكاملُ، فصارت العشيرةُ اسماً لأقارب الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم، سواءً بلغوا العشرة أم فوقها.
وقيل: هي الجماعةُ المجتمعة بنسبٍ، أو وداد، لعقد العشرة.
فصل
هذه الآية هي تقريرُ الجواب المذكور في الآية الأولى، وذلك لأنَّ جماعة(10/54)
المؤمنين، قالوا: يا رسُول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكليَّة؟ وهذه الآية توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا، وإن نحن فعلنا ذلك، ذهبت تجارتنا، وهلكت أموالنا، وخربت ديارنا، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ} أي: تَسْتوطنُونَها راضين بسكناها {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ} فانتظروا {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} . قال عطاءٌ: «بقضائه» .
وقال مجاهدٌ ومقاتلٌ: «بفتح مكَّة» .
وهذا أمر تهديد، فبيَّن تعالى أنَّه يجب تحمل جميع هذه المضارّ في الدُّنيا، ليبقى الدِّين سليماً. ثم قال {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} أي: الخارجين عن الطاعةِ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه إذا وقع التَّعارضُ بين مصلحةٍ واحدة من مصالح الدِّين، وبين مهمات الدُّنيا؛ وجب ترجيح الدِّين على الدنيا.(10/55)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} الآية.
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء، والإخوان، والعشيرة، وعن الأموال، والتجارات، والمساكن، رعاية لمصالح الدِّين، وعلم أنَّ ذلك يشقّ على النفوس، ذكر ما يدلُّ على أنَّ من ترك الدُّنيا لأجل الدِّين، فإنَّهُ تعالى يوصله مطلوبه.
وضرب لهذا مثلاً، وذلك أنَّ عسكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في وقعة حنين، كانوا في غاية الكثرةِ والقوَّةِ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صارُوا منهزمين، فلمَّا تَضَرَّعُوا في حال الانهزام إلى اللهِ تعالى قوَّاهم حتَّى هزموا عسكر الكُفَّارِ، وذلك يدلُّ على أنَّ الإنسان متى اعتمد على الدُّنيا، فاته الدِّين والدنيا، ومتى أطاع الله، ورجَّحَ الدِّين على الدُّنيا، آتاه اللهُ الدِّين(10/55)
والدُّنيا على أحسن الوُجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباءِ والأبناءِ، لأجل مصلحة الدِّين، وعداً لهم بأنهم إن فعلُوا ذلك أوصلهم اللهُ تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه.
قال الواحديُّ: «النّصر: المعونةُ على العدوِّ خاصة» «المواطن» : جمع «مَوْطِن» بكسر العين، وكذا اسم مصدره، وزمانه، لاعتلال فائه ك «المَوْعد» ، قال: [الطويل]
2773 - وكَمْ مَوْطنٍ لوْلايَ طِحْتَ كَما هَوَى ... بأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
و «حُنَيْن» : اسمُ وادٍ بين مكة والطائف، فلذلك صرفه، وبعضهم جعله اسماً للبقعة، فمنعه في قوله: [الكامل]
2774 - نَصَرُوا نَبيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ ... بِحُنينَ يَوْمَ تواكُلِ الأبْطالِ
وهذا كما قال الآخرُ في «حراء» : اسم الجبل المعروف، اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله: [الوافر]
2775 - ألَسْنَا أكْثَرَ الثَّقليْنِ رَجْلاً ... وأعْظَمَهُمْ بِبطْنِ حِرَاءَ نَارَا
فصل
المرادُ بالمواطن الكثيرة: غزوات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويقال: إنها ثمانون موطناً، فأعلمهم أنه تعالى هو الذي تولَّى نصر المؤمنين، ومن نصره الله فلا غالب له، ثم قال «(10/56)
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ» أي: واذكر يوم حُنَيْن من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم، و «حنين» واد بين مكة والطائف.
وقيل: إلى جنب ذي المجاز. قال الرواةُ: لمَّا فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكّة، وقد بقيت أيامٌ من شهر رمضان، خرج متوجهاً إلى حنين، لقتال هوازن وثقيف، في اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف من المهاجرين، وألفان من الطلقاءِ.
وقال عطاءٌ: عن ابن عباس «كانوا ستة عشر ألفاً» .
وقال الكلبيُّ «كانوا عشرة آلاف» . وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، وعلى هوازن: مالكُ بن عوف النضري، وعلى ثقيف: كنانة بن عبد ياليل الثقفي، فلما التقى الجمعان، قال رجلٌ من الأنصار يقال له: سملة بنُ سلامة بن وقش: لن نغلب اليوم عن لقَّةٍ، وهو المراد من قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} ، فساء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل، وفي رواية: لم يرض الله قوله، ووكلُوا إلى أنفسهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ فانهزم المشركون وتخلّوا عن الذراري، ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح، فتراجعوا، وانكشف المسلمون.
قال قتادةُ: وذكر لنا أنَّ الطُّلقاء انجفلوا يومئذ بالنَّاسِ.
قوله: «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ» فيه أوجه:
أحدهما: أنَّهُ عطفٌ على محلِّ قوله: «فِي مَوَاطِنَ» عطف ظرف الزمان من غير واسطة «في» على ظرف المكان المجرور بها، ولا غرو في نسق ظرف زمان على مكان، أو العكس، تقول: سرت أمامك ويوم الجمعة، إلاَّ أنَّ الأحسن أن يُتركَ العاطفُ في مثله.
الثاني: زعم ابنُ عطية: أنَّه يجوز أن يُعطف على لفظ «مَواطِنَ» بقتدير: «وفِي يَوْمِ» ، فحذف حرف الخفض، وهذا لا حاجة إليه.
الثالث: قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: كيف عطف الزمان على المكان، وهو» يَوْمَ حُنينٍ «على» مَواطِنَ «؟ .
قلت: معناه: وموطن يوم حنين، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين» .
الرابع: أن يُراد ب «المواطِن» : الأوقاتُ، فحينئذٍ إنَّما عطف زمانٌ على زمان.
قال الزمخشريُّ - بعدما تقدَّم عنه -: «ويجوزُ أن يُراد ب» المواطن «: الوقت، ك:(10/57)
مقتل الحسين، على أنَّ الواجب أن يكون:» يَوْمَ حُنينٍ «منصوباً بفعل مضمر، لا بهذا الظَّاهر، ومُوجِبُ ذلك أنَّ قوله:» إِذْ أَعجَبَتْكُمْ «بدلٌ من» يَوْمَ حُنَينٍ «، فلو جعلتَ ناصبَه هذا الظاهر، لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرين في جميعها، فبقي أن يكون ناصبُه فعلاً خاصاً به» .
قال شهابُ الدِّين: «لا أدري ما حمله على تقدير أحد المضافين، وعلى تأويل» المواطن «بالوقت، ليصحَّ عطفُ زمانٍ على زمان، أو مكان على مكان، إذ يصحُّ عطفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟ وأمَّا قوله:» على أنَّ الواجب أن يكون «إلى آخره؛ كلامٌ حسنٌ، وتقريره أنَّ الفعل مُقيدٌ بظرف المكان، فإذا جعلنا» إذْ «بدلاً من» يَوْم «كان معمولاً له؛ لأنَّ البدل يَحُلُّ محلَّ المُبْدل منه؛ فيلزم منه أنه نصرهم إذ أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة، والفرض أنَّهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة، إلاَّ أنَّه قد ينقدح، فإنَّه - تعالى - لم يقل في جميع الموطن، حتَّى يلزم ما قاله» .
ويمكن أن يكون أراد بالكثرةِ: الجميع، كما يُراد بالقلة العدمُ.
قوله: «بِمَا رَحُبَتْ» «ما» مصدريةٌ، أي: رَحْبُها وسعتها.
وقرأ زيد بن علي في الموضعين «رَحْبَت» بسكون العين، وهي لغة تميم، يسكنون عين «فَعُل» فيقولون: في «شَرُف» «شَرْف» . و «الرُّحْب» بالضمِّ: السَّعَة، وبالفتح: الشيء الواسع، يقال: رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابَةٌ، وهو قاصر. فأمَّا تعدِّيه في قولهم: رَحُبَتكم الدار «فعلى التضمين، لأنه بمعنى» وسعتكم «.
فصل
قوله: {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} الإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة، أي: فلم يُعطِكم شيئاً يدفع حاجتكم. والمعنى: أنه تعالى أعلمهم أنَّهُم لا يغلبون بكثرتهم، وإنما يغلبون بنصر الله، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صاروا منهزمين، ثم قال: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} أي: مع رحبها، و» ما «ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر، والمعنى: إنكم لشدَّةِ ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرضُ، فلم تجدُوا فيها موضعاً يصلح لفراركم من عدوكم.
قال البراء بن عازب: كانت» هوازن «رماة، فلما حملنا انكشفوا وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، وانكشف المسلمون عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث. قال [البراء] : والذي لا إله إلاَّ هو ما ولَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(10/58)
قط، قال: رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول:» أنَا النبيُّ لا كذِبْ، أنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب «وطفق يركضُ بغلته نحو الكفار، ثم قال للعبَّاس: نادِ المهاجرين والأنصار - وكان العباس رجلاً صَيِّتاً - فجعل يُنَادِيك يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرةِ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً، وأخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيده كفاً من الحَصَى، فرماهم بها، وقال:» شَاهتِ الوُجوهُ «فما زال أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللهُ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلاَّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، فذلك قوله: {ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} .
والمراد بالسّكينة: ما يسكن إليه القلبُ، ويوجب الأمنة، ووجه الاستعارة فيه: أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك، وإذا أمن؛ سكن وثبت؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن. ثم قال تعالى: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} والمراد: أَنْزَلَ الملائِكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة، كما هو في قصة بدر، فقال سعيد بن جبير:» أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة «ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر.
وقال سعيدُ بن المسيبِ: حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال: لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، تلقانا رجال بيض الوجوه، فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا، وقال آخرون: إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر، وفائدة نزولهم في هذا اليوم: هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين.
ثم قال تعالى: {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} والمرادُ من هذا التَّعذيب: قتلهم وأسرهم، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق لله تعالى؛ لأنَّ المراد من هذا التَّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه.
قوله: {وذلك جَزَآءُ الكافرين} تَمسَّك الحنفيَّةُ في مسألة الجلد مع التعزير بقوله {الزانية والزاني} [النور: 2] قالوا: الفاءُ تدلُّ على كون الجلد جزاء، والجزاء اسم للكافي، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسماً للكافي؛ لأنه(10/59)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
تعالى سمَّى هذا التعذيب جزاء مع أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ العقوبة الدائمة في القيامة مُدَّخرة لهم، فدلت هذه الآية على أنَّ الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية.
قوله {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ} أي: أنَّ الله تعالى مع كل ما جرى عليهم من الخذلان يتوب عليهم، بأن يزيل عن قلبهم الكفر، ويخلق فيه الإسلام، وقال القاضي: معناهُ: أنَّهُ بعد ما جرى عليهم ما جرى، إذا أسلمُوا وتابُوا فإنَّ الله يقبل توبتهم «وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله:» ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ «ظاهره يَدُلُّ على أنَّ تلك التبوة إنَّما تحصل لهم من قبله تعالى، وتقدَّم الكلامُ على المعنى في البقرة عند قوله {فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] ثم قال: {والله غَفُورٌ} أي: لمن تاب {رَّحِيمٌ} لِمَنْ آمن وعمل صالحاً.
قوله
تعالى
: {ياأيها
الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} الآية.
اعلم أنه عليه الصَّلاة والسَّلام، لمَّا أمر عليّاً أن يقرأ على مشركي مكَّة أول سورة براءة، وينبذ إليهم عهدهم، وأنَّ الله بريء من المشركين ورسلوه، قال أناس: يا أهل مكَّة ستعلمون ما تلقونه من الشِّدَّة لانقطاع السبل وفقد الحمولات؛ فنزلت هذه الآية، لرفع الشُّبهةِ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي: فَقْراً وحاجةً، {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} قال الأكثرون: لفظ المشركين يتناولُ عبدة الأوثانِ، وقال قومٌ: يتناولُ جميع الكُفَّارِ، وقد تقدم ذلك.
قال الضحاكُ وأبو عبيدةَ: «نَجَسٌ» قذر.
وقيل: خَبِيثٌ، وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى، والتثنية والجمع. جعلوا نفس النَّجَس، على المبالغة، أو على حذفِ مضاف.
وقرأ أبو حيوة «نِجْسٌ» بكسر النُّون وسكون الجيم، وجهه أنَّه اسمُ فاعل في الأصلِ على «فَعِل» مثل: «كَتِف وكَبِد» ثم خُفِّف بسكون عَيْنه بعد إتباع فائه، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مقامه، أي: فريق نجس، أو جنس نجس، فإذا أفرد قيل «نَجس» بفتح النون.
قال البغوي «ولا يقال على الانفراد، بكسر النُّون وسكون الجيم، إنَّما يقال»(10/60)
رِجْسٌ نِجْسٌ «، فإذا أفرد قيل» نَجِسٌ «بفتح النون وكسر الجيم» وقرأ ابن السَّميفع «أنْجَاس» بالجمع، وهي تحتمل أن تكون جمع قراءةِ الجمهور، أو جمع قراءةِ أبي حيوة، وأراد به نجاسة الحكم، لا نجاسة العين، سُمُّوا نجساً على الذَم.
وقال ابنُ عبَّاس وقتادةُ «سماهم نجساً» ؛ لأنَّهم يجنبون، فلا يغتسلون، ويحدثون فلا يتوضؤون «ونقل الزمخشري عن ابن عباسٍ» أنَّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير «وعن الحسنِ» مَنْ صَافحَ مشركاً توضَّأ «وهذا قول الهادي من أئمة الزَّيدية.
وأمَّا الفقهاءُ: فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم، وهذا هلاف ظاهر القرآن، فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصلٍ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا من الخلاف.
واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شرب من أوانيهم، وأيضاً لو كان نجساً، لما تبدل ذلك بالإسلام، وأجاب القائلون بالنجاسة: بأنَّ القرآن أقوى من خبر الواحد وبتقدير صحَّةِ الخبر؛ يجب أن يعتقد أن حل الشرب من إنائهم كان متقدماً على نزول هذه الآية من وجهين:
الأول: أنَّ هذه السُّورة من آخر ما نزل من القرآن، وأيضاً كانت المخالطة مع الكُفَّار جائزة فحرَّمها الله تعالى، وكانت المعاهدة حاصلة معهم، فأزالها الله؛ فلا يبعد أن يقال أيضاً: الشرب من أوانيهم، كان جائزاً فحرمه اللهُ.
الثاني: أنَّ الأصل حل الشرب من أي إناء كان، فلو قلنا إنه حرم بحكم الآية، ثم حل بحكم الخبرِ، فقد حصل نسخان، أما لو قلنا إنَّه كان حلالاً بحكم الأصل، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل، ثم جاء التَّحريمُ بهذه الآيةِ، لم يحصل النَّسخ إلاَّ مرة واحدة؛ فوجب أن يكون هذا أولى.
وأما قولهم: لو كان الكافرُ نجس العين، لما تبدَّلت النجاسةُ بالطَّهارة بسبب الإسلام. فهذا قياس في معارضة النَّص الصَّريح، وأيضاً فالخمرةُ نجسة العين، فإذا انقلبت بنفسها خلاًّ طهرت، وأيضاً إنَّ الكافر إذا أسلم؛ وجب عليه الاغتسالُ، إزالة للنجاسةِ الحاصلة بحكم الكفر، وهذا ضعيفٌ؛ فإنَّ الأعيانَ النجسة لا تقبل التَّطهير بالغسل، إنما يطهر بالغسل ما ينجس.
فصل
قالت الحنفيَّةُ: أعضاءُ المحدث نجسة نجاسة حكمية، وبنوا عليه أنَّ الماء المستعمل(10/61)
في رفع الحدث نجس، ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أنَّهُ نجاسة خفيفة، وروى الحسنُ بن زيادٍ: أنَّه نجس نجاسة غليظة، وهذه الآية تدلُّ على فساد هذا القول؛ لأن كلمة «إِنَّمَا للحصر، فاقتضى أن لا نجس إلاَّ المشرك، فالقولُ بأنَّ أعضاءَ المحدث نجسة، يخالف هذا النَّص، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس، وفي أنَّ المؤمن ليس بنجس، ثم إنَّ قوماً قلبوا القضية، وقالوا: المشرك طاهرٌ، والمؤمن حال كونه محدثاً نجس، وزعموا أنَّ المياه التي يستعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة، والمياه التي يستعملها أكابرُ الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة، مع مخالفة قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» المُؤمنُ لا يَنْجُسُ حيّاً، ولا ميتاً «وأجمعوا على أنَّ إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته، ولو كان يده رطبة فوصلت إلى يدِ مُحدث لم تنجس يده، ولو عرق المحدثُ ووصل العرقُ إلى ثوبه لم ينجس الثوب، والقرآن، والخبر، والإجماع، تطابقت على القول بطهارة وأعضاء المحدث، فكيف يمكن مخالفته؟
فصل
قيل المرادُ بالمسجدِ الحرام: نفس المسجدِ، وقيل: جميع الحرم، وهو الأقربُ لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة، لما خافُوا بسبب هذا المنع من العَيْلَة، وإنَّما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواقِ والمواسم، ويؤكد هذا قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] مع أنَّهم أجمعُوا على أنه إنَّما رفع الرسول من بيت أم هانىء، ويؤيده قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» لا يجتمع دينان في جزيرة العربِ «وهي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشَّام عرضاً، واعلم أنَّ جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام:
أحدها: الحرم، فلا يجوزُ للكافر أن يدخله بحال ذمِّيّاً كان أو مستأمناً، لظاهر هذه الآية، وإذا جاء رسول من دار الكُفرِ إلى الإمام، والإمام في الحرمِ، لا يأذن له في دخول الحرم، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وإن دخلَ مشكر الحرم متوارياً فمرض فيه، أخرجناه مريضاً، وإن مات ودفن ولم نعلم نبشناه، وأخرجنا عظامه إذا أمكن، وجوَّز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
والقسم الثاني من بلاد الإسلام: الحجازُ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيَّامٍ، مقام السفرِ، لما روي عن عمر بن الخطابِ، أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(10/62)
يقول: «لَئِنْ عِشْتُ إنْ شاءَ الله لأخرجنَّ اليهُودَ والنَّصارى من جزيرةِ العربِ، حتى لا أدعُ إلاَّ مُسْلِماً» فمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأوصى فقال: «أخرجُوا المُشركينَ مِنْ جزيرةِ العرب» فلم يتفرَّغ لذلك أبو بكر، وأجلاهم عمر في خلافته، وأحل لمن يقدم منهم تاجراً ثلاثاً.
والقسم الثالث: سائر بلاد الإسلام؛ فيجوزُ للكافر أن يقيم فيها بذمَّة أو أمان، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم.
فصل
والمراد بقوله «بَعْدَ عامهم هذا» يعني العام الذي حجَّ فيه أبو بكرٍ بالنَّاس، ونادى علي بالبراءة، وهو سنة تسع من الهجرةِ.
قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} . العيلةُ: الفقرُ، يقالك عَالَ الرَّجُل يَعِيلُ عَيْلَةً: إذا افتقر. والمعنى: إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار: «فسَوْفَ يغنيكُم الله مِنْ فَضْلِهِ» قال مقاتل «أسلم أهلُ جدة وصنعاء وحنين، وحملوا الطعام إلى مكَّة، فكفاهم الله ما كانوا يخافون» .
وقال الحسنُ والضحاكُ وقتادةُ: «عوَّضهم الله عنها بالجزية» وقيل: أغناهم بالفيء. وقال عكرمة: «أنزل اللهُ عليهم المطر، وكثر خيرهم» .
فإن قيل: الغرضُ بهذا الخبر، إزالة الخوف بالعيلة، وقوله «إن شَاء اللهُ» يمنع من فائدة هذا المقصود.
فالجوابُ من وجوه:
الأول: ألاَّ يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب؛ فيكون الإنسان أبداً متضرّعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات، وفي دفع الآفات.
الثاني: أنَّ المقصود من ذكر هذا الشَّرط تعليم رعاية الأدب، كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله} [الفتح: 27] .
الثالث: المقصودُ: التَّنبيه على أنَّ حصول هذا المعنى لا يكون في كلِّ الأوقات،(10/63)
وفي جميع الأمكنة؛ لأنَّ إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال في دعائه: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126] وكلمة «مِنْ» للتبعيض، فقوله ههنا «إن شَاءَ اللهُ» المراد منه ذلك التبعيض.
ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بأحوالكم، «حَكِيمٌ» أي: لا يعطي ولا يمنع إلاَّ عن حكمة وصواب.
قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} الآية.
لمَّا بيَّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام، ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية.
قال مجاهدٌ «نزلت حين أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال الرُّوم، فغزا بعدها غزوة تبوك» وقال الكلبيُّ «نزلت في قريظة والنَّضير من اليهودِ، فصالحهم، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين» .
فإن قيل: أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر، فكيف أمر بقتالهم؟ .
فالجوابُ: لا يؤمنون كإيمان المؤمنين؛ فإنَّهم إذا قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، لا يكون ذلك إيماناً باللهِ.
قوله: {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} أي: لا يُحرِّمُون ما حرَّم الله في القرآن، وبينه الرسول، وقال أبو زيدٍ: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم.
قوله {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} أي: لا يدينون الدِّين الحق، أضاف الاسم إلى الصَّفةِ وقال قتادة: «الحَقّ» هو الله - عزَّ وجلَّ -؛ أي: لا يدينون دين الله، ودينه الإسلام. قال أبو عبيدة: معناه: لا يطيعون الله طاعة أهل الحقّ.
قوله: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيانٌ للموصول قبله، والمرادُ: اليهودُ والنصارى {حتى يُعْطُواْ الجزية} وهي الخراجُ المضروب على رقابهم، و «الجِزْيةُ» : «فِعْلَة» ، لبيان الهيئة، ك «الرِّكْبَة» . قال الواحديُّ: «الجزيةُ: ما يعطى المعاهد على عهده، وهي» فِعْلة «من جزى يجزي إذا قضى ما عليه» .
قوله: «عَن يَدٍ» حالٌ، أي: يُعْطُوها مقهورين أذِلاَّء، وكذلك: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} .(10/64)
قال الزمخشريُّ «قوله:» عن يدٍ «إمَّا أن يراد به عن يد المُعْطِي، أو يد الآخذ، فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان:
أحدهما: عن يد غير ممتنعة؛ لأنَّ مَنْ أبى وامتنع لم يعط عن يده، بخلافِ المطيع المنقاد.
وثانيهما: حتى يعطوها عن يد إلى يدٍ نقداً غير نسيئة، ولا مبعوثاً على يد أحدٍ، ولكن عن يد المُعطي إلى يد الآخذ.
وإن كان المرادُ به: يد الآخذ، ففيه وجهان:
الأول: حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم، كما تقولُ: اليد في هذا لفلان.
وثانيها: أنَّ المراد: عن إنعام عليهم؛ لأنَّ قبول الجزية منهم، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم» .
قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي: تؤخذ الجزية منهم على الصغار والذل والهوان، يأتي بها بنفسه ماشياً إلا راكباً، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس، ويؤخذ بلحيته ويقال له أدِّ الجزية.
وقال الكلبيُّ: «إذا أعْطَى يصفعُ في قفاهُ» . وقيل: يكتب ويجرُّ إلى موضع الإعطاء.
وقيل: إعطاؤه إيَّاها هو الصِّغار؛ وقال الشافعيُّ «الصِّغارُ: جريان أحكام الإسلام عليهم» .
فصل
الكفار فريقان، منهم عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا، فهؤلاء لا يقرَّون على دينهم بأخذ الجزية؛ ويجب قتالهم حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، ويصيروا مؤمنين.
والثاني: أهل الكتاب وهم اليهودُ والنصارى؛ فهؤلاء يقرون بالجزية، والمجوسُ أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «سُنُّوا بِهمْ سُنَّة أهْلِ الكِتابِ» ، وأخذه الجزية من مجوس هَجَرَ.
فصل
اتَّفَقَتْ الأمةُ على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب، وهم اليهودُ والنصارى إذا(10/65)
لم يكونوا عرباً، واختلفوا في أهل الكتابِ العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم؛(10/66)
فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذُ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال؛ لأنَّ النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذها من أَكَيْدِر دُومَةَ - وهو رجل من العرب يقال: غسان -، وأخذ من أهل دومة اليمنِ وعامتهم عرب؛ وذهب مالكٌ والأوزاعي إلى أنَّها تؤخذ من جميع الكُفَّارِ.
وقال أبُو حنيفة: تؤخذُ من أهل الكتابِ على العموم، وتؤخذُ من مشركي العجم، ولا تؤخذ من مشركي العربِ. وقال أبو يوسف: لا تؤخذُ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من العجمي كتابيّاً كان أو مشركاً، وأمَّا المجوس فاتفقت الصَّحابةُ على أخذ الجزية منهم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «سُنُّوا بِهمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ» .
فصل
قال القاضي: قسم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على كل محتلم ديناراً، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً، وعلى الأوْساطِ أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين، ولمَّا بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معاذاً إلى اليمن أمرهُ أن يأخذَ من كلِّ حالم ديناراً، أي: بالغ، ولم يفرِّق بين الغني والفقير والوسط، وذلك دليل على أنها لا تجب على الصبيان، وكذلك لا تجب على النساء، إنَّما تؤخذ من الأحرار البالغين العقلاء من الرجالِ.
فصل
تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة في أوَّل السنة، وعند الشافعي وغيره في آخرها. وتسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة وغيره لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لَيْسَ عَلى المُسلمِ جزيةٌ» وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا تسقطُ.
فصل
قال بعضُ العلماءِ: هؤلاء إنَّما أقرُّوا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم(10/67)
الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل، وأيضاً فكتابهم في أيديهم، فربَّما يتفكرون فيه فيعرفون صدق محمد ونبوته، فأمهلوا لهذا المعنى.
فصل
طعن ابنُ الراوندي في القرآن وقال: إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى، قوله: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90 - 91] فبيَّن أنَّ إظهارهم لهذا القولِ بلغ إلى هذا الحدِّ، ثم إنَّه أخذ منهم ديناراً واحداً وأقرهم عليه، وما منعهم منه.
والجواب: ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكُفرِ، بل المقصودُ حقن دمه وإمهاله مدَّة، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسنِ الإسلام وقوَّة دلائله؛ فينتقل من الكفر إلى الإيمان.(10/68)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
{وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} الآية.
قرأ عاصم والكسائيُّ بتنوين «عُزَيْرٌ» ، والباقون من غير تنوين، فأمَّا القراءةُ الأولى فيحتمل أن يكون اسماً عربياً مبتدأ، و «ابنُ» خبره، فتنوينه على الأصل، ويحتمل أن يكون أعجمياً، ولكنهُ خفيفُ اللَّفظِ، ك «نُوحِ» ، و «لُوطٍ» ، فصُرفَ لخفَّة لفظه، وهذا قول أبي عبيد، يعني: أنَّهُ تصغيرُ «عَزَر» ، فحكَمه حكم مُكَبَّره، وقال: هذا ليس منسوباً إلى أبيه، إنَّما هو كقولك: زيد ابن الأمير، وزيد ابن أخينا، و «عُزَيْرٌ» مبتدأ وما بعده خبره، ورُدَّ هذا بأنَّه ليس بتصغير، إنَّما هو أعْجَمي، جاء على هيئة التَّصغيرِ في لسان العرب، ك «سُلَيْمَان» ، جاء على مثال «عُثَيْمَان، وعُمْيَران» .
وأمَّا القراءةُ الثانية؛ فيحتمل حذفُ التنوين ثلاثة أوجه:(10/68)
أحدها: أنَّه حذف التنوين لالتقاء الساكنين على حدِّ قراءة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] . قال الفرَّاء: نون التنوين في «عُزَيْرٌ» ساكنة، والباء في قوله «ابْنُ اللهِ» ساكنة، فالتقى ساكنان، فحذف نون التنوين للتخفيف؛ وأنشد: [المتقارب]
2776 - وألْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذَاكِرٍ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً
وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء، و «ابن» خبره.
الثاني: أنَّ تنوينه حذف، لوقوع الابن صفة له، فإنَّه مرفوعٌ بالابتداء، و «ابن» صفته، والخبرُ محذوفٌ، أي: عُزَيرٌ ابْنُ الله نَبيُّنا، أو إمامُنَا، أو رسولُنَا، وقد تقدَّم أنَّه متى وقع «الابن» صفة بين علمين، غير مفصولٍ بينه وبين موصوفه، حذفت ألفه خطّاً، وتنوينه لفظاً، ولا تثبت إلاَّ ضرورة، وتقدم الاشتشهادُ عليه آخر المائدة. ويجوز أن يكون «عُزَيْرٌ» خبر مبتدأ مضمر، أي: نَبيُّنا عُزير، و «ابن» صفةٌ له، أو بدل، أو عطف بيان.
الثالث: أنه إنَّما حذف، لكونه ممنوعاً من الصَّرف، للتعريف والعجمة. ولم يرسم في المصحف إلاَّ بإثبات الألف، وهي تنصرُ من يجعله خبراً.
وقال الزمخشري: «عزير ابن» مبتدأ وخبره، كقوله: {المسيح ابن الله} و «عُزَيْرٌ» اسم أعجمي،: «عَزرَائيل، وعيزار» ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه، ومن صرفه جعله عربياً. وقول من قال بسقوط التنوين؛ لالتقاء الساكنين، كقراءة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1، 2] ولأنَّ «الابن» وقع وصفاً، والخبر محذوف، وهو «معبودنا» فتمحُّلٌ عن مندوحة «.
فصل
لمَّا حكم تعالى في الآيةِ المتقدِّمة على اليهودِ والنَّصارى بأنهم لا يُؤمنونَ بالله، شرح ذلك في هذه الآية، بأن نقل عنهم أنهم أثبتُوا للهِ ابناً ومنْ جوَّز ذلك في حق الإله، فقد أنكر الإله في الحقيقة، وأيضاً بيَّن تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة، إذ لا فرق بين من يعبد الصَّنم وبين من يعبد المسيح وغيره، لأنه لا معنى للشرك إلاَّ أن يتَّخذ الإنسانُ مع الله معبوداً، وهذا معنى الشِّرك، بل لو تأمَّلنَا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخَفّ من كفر النصارى؛ لأنَّ عابد الوثن لا يقولُ: إنَّ هذا الوثن خالق للعالم، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسَّلُ به إلى طاعة الله، والنَّصارى يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح؛ فثبت أنَّه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين.
فإن قيل: اليهودُ قسمان: منهم مشبهة، ومنهم موحدة، كما أنَّ المسلمين كذلك، فهَبْ أنَّ المشبهة منهم منكرون لوجود الإله، فما قولكم في موحدة اليهود؟ .(10/69)
فالجوابُ: أولئك لا يكونوا داخلين تحت هذه الآية، وإنما وجبت الجزيةُ عيهم؛ لأنَّه لمَّا ثبت وجوب الجزية على بعضهم؛ وجب القول به في حل الكلِّ؛ لأنه لا قائل بالفرق.
وأما النَّصارى فيقولون بالأب والابن وروح القُدسِ، والحلول والاتحاد، وذلك ينافي الإلهيَّة.
وإنَّما خصَّ الله الطائفتين بقبول الجزية منهم؛ لأنَّهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام -، وادَّعُوا أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل؛ فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين، وكتابيهما المعظمين، ولتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى، لأنهم كانوا على الدِّين الحق، حكم الله بقبول الجزية منهم، وإلاَّ ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين.
فصل
في قوله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} أقوال:
أحدها: قال عبيد بن عمير: إنَّما قال هذا رجلٌ واحد من اليهود اسمه: فنحاص بن عازوراء، وهو الذي قال: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] .
وثانيها: روى سعيدُ بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال: «أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جماعة من اليهود سلام بن مشكم، والنعمان بن أبي أوْفَى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، ولا تزعم أنَّ عُزيراً ابن الله؟ فنزلت هذه الآية. وعلى هذين القولين، فالقائل بهذا بعض اليهود، وإنما نُسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحدِ، يقال: فلانٌ ركبَ الخيولَ وجالسَ السَّلاطينَن ولعله لم يركب ولم يجالس إلا واحداً.
وثالثها: لعلَّ هذا المذهب كان فَاشياً فيهم ثمَّ انقطع، فحكى الله ذلك عنهم، ولا عبرة بإنكار اليهُودِ ذلك، فإنَّ حكاية الله عنهم أصدق، والسَّبب في ذلك ما روى عطية العوفي عن ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فأنساهم الله التوراة، ونسخها من صدورهم، فتضرَّع عزير إلى الله وابتهل إليه، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه، فأنذر قومه به فلمَّا حرَّبُوه وجدوه صادقاص فيه، ثم إنَّ التابوت نزل بعد دعائه منهم، فلمَّا رأوا التَّابُوتَ عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير؛ فوجدوه مثله، فقالوا: ما أوتي عزير هذا إلاَّ أنه ابن الله.(10/70)
وقال الكلبيُّ: «لمَّا قتل بُخْتنصَّر علماءهم، فلمْ يبق فيهم أحدٌ يعرف التوراة، وكان عزير ابن ذاكَ صغيراً؛ فاستصغره فلم يقتله، فلمَّا رجع بنو إسرائيل إلى بيتِ المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيراً، ليجدِّد لهم التوراة، ويكون لهم آية بعدما أماته مائة عام، يقال: أتاهُ ملكٌ بإناءٍ فيه ماء؛ فسقاه، فمثلت التوراة في صدره، فلمَّا أتاهُم وقال: أنا عُزَيرٌ فكذَّبُوه وقالوا: إنْ كنت كما تزعُمُ فأملِ علينا التوراة فكتبها لهم، ثمَّ إنَّ رجلاً قال: إنَّ أبي حدَّثَنِي عن جدِّي أنَّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم، فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعرضوها على ما كتب عزير، فلم يغادر حرفاً، فقالوا: إنَّ الله لم يقذف التوراة في قلب رجلٍ إلاَّ أنه ابنه، فقالوا: عُزيرٌ ابنُ الله» .
فصل
وأمَّا قولُ النَّصارى المسيح ابن اللهِ، فظاهرٌ، وفيه إشكال، وهو أنَّا نقطع أن المسيح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان مبرأً من دعوة النَّاس إلى الأبوة والبنوة؛ فإنَّ هذا أفحش أنواع الكُفْرِ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء؟ وإذا كان كذلك، فكيف يعقلُ إطباق محبي عيسى من النصارى عليه، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسدَ؟
وأجاب المفسِّرُون عن هذا: بأنَّ أتباع عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كانُوا على الحقِّ بعدما رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: بولص قتل جماعةً من أصحاب عيسى، ثم قال لليهود: إن كان الحقُّ مع عيسى؛ فقد كفرنا، والنَّار مصيرنا، ونحن مغبونون إنْ دخلوا الجنَّة ودخلنا النارَ، وإني أحتال؛ فأضلهم حتى يدخلوا النَّار، وكان له فرس يقال له: العقاب، يقاتلُ عليه، فعرقب فرسه، وأظهر الندامة، ووضع التراب على رأسه، فقالت له النَّصارى: مَنْ أنتَ؟ قال: بولص عدوكم، تبتُ، فنوديت من السَّماء ليس لك توبة إلاَّ أنْ تَتَنَصَّر؛ وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة، ومكث سنةً لا خرج ليلاً ولا نهاراً، حتَّى تعلَّم الإنجيل وقال: نوديت أنَّ الله قبل توبتك؛ فصدقوه وأحبوه.
ثم مضى إلى بيتِ المقدسِ، واستخلف عليهم رجلاً اسمه: نسطور، وعلمه أنَّ عيسى، ومريم والإله كانوا ثلاثة، وتوجه إلى الرُّوم وعلَّمهم اللاهوت والنَّاسوت، وقال: ما كان عيسى إنساناً، ولا جسماً ولكنه ابن الله، وعلَّم رجلاً يقال له: يقوبُ ذلك، ثم دعا رجلاً يقال له ملكا فقال له: إنَّ الإله لم يزل، ولا يزال عيسى، ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكلِّ واحد منهم أنت خالصتي فادع النَّاس إلى إنجيلك، ولقد رأيتُ عيسى في المنام ورضي عنِّي، وإنِّي غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح، فذبح نفسه، فلمَّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم النَّاس إلى مذهبه؛ فتبع كلُّ واحد منهم طائفة، فاختلفوا واقتتلوا، هذا ما حكاه الواحديُّ وغيره.(10/71)
قال ابنُ الخطيبِ: «والأقربُ عندي أن يقال: لعلَّه ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التِّشريفِ، ثم إنَّ القومَ لأجل عداوة اليهود؛ ولأجل أن يقاتلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطَّرف الثاني، فبالغوا وفسَّرُوا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية، والجهال قبلوا ذلك، وفشا هذا المذهبُ الفاسدُ في أتباع عيسى، والله أعلم بحقيقة الحال» .
قوله: {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} واعلم أنَّ كلَّ قول إنَّما يقال بالفمِ، فما معنى تخصيصهم بهذه الصفة؟ والجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ معناه قول لا يعضده برهانٌ، وإنّما هو لفظ يفوهُون به فارغ من معنى معتبر لحقه؛ لأن إثبات الولد للإله مع أنه مُنزَّهٌ عن الحاجة والشهوة، والمضاجعة، والمباضعة قولٌ باطلٌ، ليس له تأثير في العقل، ونظيره قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] .
وثانيها: أنَّ الإنسان قد يختار مذهباً إمَّا على سبيل الكناية، وإمَّا على سبيل الرَّمز، وأمَّا إذا صرَّح بلسانه فهو الغاية في اختيار ذلك المذهب، والمعنى على هذا: أنَّهم يُصرِّحون بهذا المذهبِ ولا يخفونه ألبتة.
وثالثها: أنَّ المعنى: أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة والمرادُ: مبالغتهم في دعوة الخلقِ إلى هذا المذهب.
قال أهل المعاني: لم يذكر اللهُ قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلاَّ كان ذلك زوراً.
قال ابنُ العربي: «في هذه الآية دليلٌ من قول ربنا تبارك وتعالى على أنَّ من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدىء به لا حرج عليه؛ لأنَّه إنَّما ينطق به على سبيل الاستعظام له والرَّد عليه، ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد، فإذا أمكن من إطلاق الألسنة به فقد أذن بالإخبار عنه، على معنى إنكاره بالقلب واللسان، والردّ عليه بالحجَّة» .
قوله «يُضَاهِئُونَ» قرأ العامة «يُضَاهُون» بضمِّ الهاءِ، بعدها واو، وعاصم بهاءٍ مكسورة، بعدها همزةٌ مضمومة، بعدها واو، فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وهو المشابهة، وفيه لغتانِ: «ضَاهَأتُ وضَاهَيْتُ» بالهمز والياءِ، والهمزُ لغة ثقيف.
وقيل: الياء فرع عن الهمزةِ، كما قالوا: قرأ وقَرَيْت، وتوضَّأت وتوضَّيت، وأخْطَأت وأخْطَيْت. وقيل: بل «يُضَاهِئُونَ» بالهمزِ مأخوذ من «يُضَاهِيونَ» ، فلمَّا ضُمَّت(10/72)
الياء قُلبتْ همزةً، وهذا خطأٌ؛ لأنَّ مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا الموضع حتى تقلبَ همزةً، بل يؤدي تصريفه إلى حذف الياء، نحو: يُرامُونَ، من «الرمي» ، ويُماشُونَ، من «المشي» وزعم بعضهم: أنَّهُ مأخوذٌ من قولهم: «امرأة ضَهْيَا» بالقصر، وهي التي لا ثَدْيَ لها، أو الَّتي لا تحيضُ، سُمِّيت بذلك، لمشابهتها الرجال، يقال امرأة ضَهْيَا، بالقصر وضَهْيَاء، بالمد، ك: حمراء، وضَهْيَاءة، بالمدِّ وتاءِ التأنيث، ثلاث لغات، وشذِّ الجمعُ بين علامتي تأنيث في هذه اللَّفظة، حكى اللغة الثالثة الجرميُّ، عن أبي عمرو الشيباني.
قيل: وقولُ من زعم أنَّ المضاهأة بالهمز مأخوذةٌ من: امرأة ضَهْيَاء، في لغاتها الثلاث، فقوله خطأ، لاختلاف المادتين، فإنَّ الهمزة في «امرأة ضَهْيَاء» زائدة في اللُّغاتِ الثلاث، وهي في «المضاهأة» أصلية.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يُدَّعَ أنَّ همزة «ضهياء» وباؤها زائدة؟ .
فالجوابُ: أنَّ «فَعْيَلاً» بفتح الياء يَثْبُتْ.
فإن قيل: فَلِمَ لم يُدَّعَ أنَّ وزنها «فَعْلل» ، ك: «جَعْفَرٍ» ؟ .
فالجوابُ: أنه قد ثبت زيادة الهمة في «ضَهْيَاء» بالمدِّ، فثبت في اللُّغة الأخرى، وهذه قاعدة تصريفية، والكلامُ على حذف مضاف تقديره: يُضَاهي قولهم قول الذين، فحذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مقامه، فانقلب ضمير رفع بعد أن كان ضمير جرٍّ.
والجمهور على الوقف على «بأفواههم» ، ويبتدئون ب «يُضَاهِئُونَ» .
وقيل: الباء تتعلَّق بالفعل بعدها، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف هذا المضاف. واستضعف أبو البقاءِ قراءة عاصم، وليس بجيِّدٍ لتواترها، وقال أحمدُ بنُ يحيى: لم يتابع أحد عاصماً على الهمز.
والمضاهاة: المشابهة، في قول أكثر أهل اللُّغة. وقال شمرُ: «المضاهاة: المتابعة، يقال: فلان يضاهي فلاناً، أي: يتابعه» .
فصل
قال مجاهدٌ: «» يضاهئون «قول المشركين من قبلن كانوا يقولون: اللاَّت والعُزَّى بنات الله» .
وقال قتادة والسديُّ: «ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقالوا: المسيحُ ابنُ الله، كقول اليهود من قبل عزير ابنُ الله؛ لأنهم أقدم منهم» وقال الحسنُ: «شبَّه كفرهم(10/73)
بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة» كما قال في مشركي العرب: {كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] .
وقال القتيبي: «يريد من كان في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اليهود والنصارى، يقولون ما قال أسلافهم» .
قوله: «قَاتَلَهُمُ الله» قال ابنُ عبَّاسٍ: لعنهم الله. وقال ابن جريج: قتلهم اللهُ.
وقيل: هذا بمعنى التَّعجب من شناعةِ قولهم، كما يقال: ركبوا شنيعاً، قاتلهم اللهُ ما أعجب فعلهم، وهذا التعجب إنَّما هو راجع إلى الخلقِ، والله لا يتعجَّبُ من شيء، ولكن هذا الخطابُ على عادة العرب في مخاطبتهم، والله عجب منهم في تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.
«أنى يُؤْفَكُونَ» أي: كيف يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه.
قوله {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} .
الأحْبَارُ: العلماءُ. قال أبو عبيد: «الأحبارُ: الفقهاءُ قد اختلفوا في واحده، فقال بعضهم:» حَبْرٌ «، وقال بعضهم» حِبْرٌ «.
وقال الأصمعيُّ: لا أدري أهو الحِبْرُ أو الحَبْرُ «. وكان أبو الهيثم يقول:» واحد «الأحبار» «حَبْرٌ» بالفتح لا غير، وينكر الكسر «وكان الليثُ، وابن السِّكيت يقولان» حِبْر «و» حَبْر «للعالم ذِمِّيّاً كان أو مسلماً، بعد أن يكون من أهل الكتاب» . وقال أهل المعاني: «الحبر» : العالم الذي صناعتُه تحبير المعاني بحس البيان عنها، وإتقانها، ومنه: ثوب محبر، أي: جمع الزينة، والرَّاهبُ: الذي تمكنت الخشية والرهبة في قلبه، وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه. وفي عرف الاستعمال، صار الأحبارُ مختصاً بعلماء اليهود من ولد هارون.
والرُّهبان: علماء النَّصارى أصحاب الصَّوامع. ومعنى اتخاذهم أرباباً: أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، واستحلُّوا ما أحلوا، وحرموا ما حرموا.
قال أكثرُ المفسرين: «ليس المراد من الأرباب أنَّهم اعتقدوا إلهيتهم، بل المراد: أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم» .
قال عدي بن حاتم: «أتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي عنقي صليب من ذهب وهو يقرأ سورة براءة، فقال:» يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك «فطرحته، ثم انتهى إلى قوله: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} فقلت: إنّا لنسا نعبدهم، فقال:» أَلَيْسَ(10/74)
يحرِّمون مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ويُحلون ما حرَّم اللهُ؛ فَتَسْتحلُّونَهُ؟ «قال قلت: بلى، قال:» فَتِلْكَ عبادتُهُمْ «.
وقال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالفُ أقوال الأحبار والرهبان؛ فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتابِ الله تعالى. فإن قيل: إنَّه تعالى لمَّا كفرهم بسبب طاعتهم للأحبار والرُّهبان، فالفاسقُ يطيع الشيطانَ؛ فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارجِ.
فالجوابُ: أنَّ الفاسق إن كان يطيع الشيطان إلاَّ أنَّه لا يُعظِّمه، لكنه يلعنه، فظهر الفرق.
فصل
قوله {والمسيح ابن مَرْيَمَ} عطف على» رُهبانهم «، والمفعول الثَّاني محذوف، والتقدير: اتخذ اليهودُ أحبارهم أرباباً، والنصارى رهبانهم والمسيح ابن مريم أرْبَاباً، وهذا لأمْنِ اللَّبْس خلط الضمير في» اتَّخَذُوا «، وإن كان مقسماً لليهود والنَّصارى، وهذا مراد أبي البقاءِ في قوله:» أي: واتخذوا المسيح ربًّا، فحذف الفعل وأحد المفعولين «. وجوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي: وعبدُوا المسيح ابن مريم.
ثم قال: {وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: سبحانه أن يكون له شريك في الأمر والتكليف، وفي كونه معبوداً، وفي وجوب نهاية التعظيم.
قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} الآية.
ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعاً ثالثاً من أفعالهم القبيحة، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
والمراد من «النور» قال الكلبيُّ: هو القرآن، أي: يردُّوا القرآن بألسنتهم تكذيباً. وقيل: النور: الدَّلائل الدَّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه. وسمى الدلائل نوراً؛ لأنَّ النور يهتدي به إلى الصَّواب.
قوله: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} «أن يتمّ» مفعول به، وإنَّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب؛ لأنَّهُ في معنى النفي، فقال الأخفشُ الصغيرُ «معنى يأبَى: يمنع» وقال الفرَّاء: «دخلتْ» إلاَّ «لأن في الكلام طرفاً من الجحد» وقال الزمخشريُّ: «أجْرَى» أبَى «مُجْرى» لَمْ يُرِدْ «، ألا ترى كيف قُوبل: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} بقوله: {ويأبى الله} ، وأوقع موقع: ولا يريد الله إلا أن يتمَّ نوره؟» .(10/75)
والتقدير: لا يريد إلا أن يتمَّ نوره، إلاَّ أنَّ الإبَاءَ يفيد زيادة عدم الإرادة، وهي المنع والامتناع.
والدليل عليه قوله عليه السلام: «وإذا أرادوا ظلمنا أبينا» فامتدح بذلك، ولا يجوز أن يمتدح بأنَّه يكره الظلم؛ لأنَّ ذلك يصح من القوي والضعيف.
وقال الزَّجاج «إنَّ المستثنى منه محذوفٌ، تقديره: ويَأبَى أي: ويكره كلَّ شيء إلاَّ أن يُتمَّ نوره» وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج، ومذهب غيره فجعلهما مذهباً واحداً فقال: «يَأبَى بمعنى: يَكْره، ويكره بمعنى يمنع، فلذلك استثنى، لما فيه من معنى النَّفْي، والتقدير: يأبَى كُلَّ شيء إلاَّ إتمام نوره» . أي: يعلي دينه ويظهر كلمته، ويتم الحق الذي بعث به محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} .
قوله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} . يعني: الذي يأبى إلاَّ إتمام دينه، هو الذي أرسل رسوله محمداً: «بالهُدَى» ، أي: القرآن، وقيل: ببيان الفرائض «ودين الحقِّ» وهو الإسلام، «لِيُظهِرَهُ» ليعليه وينصره، {عَلَى الدين كُلِّهِ} على سائر الأديان كلها {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} فإن قيل: ظاهر قوله {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} يقتضي كونه غالباً لجميع الأديان، وليس الأمر كذلك، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة.
فالجواب من وجوه:
أحدها: قال ابن عباسٍ «الهاءُ في» لِيُظهِرَهُ «عائدة إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: ليعلمه شرائع الدِّين كلها، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء» .
وثانيها: قال أبو هريرة والضحاك: هذا وعدٌ من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا يحصلُ عند خروج عيسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ.
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نزول عيسى قال: «ويهلكُ في زمانِهِ الملل كُلُّهَا إلاَّ الإسلام» .
وروى المقدادُ قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُ: «لا يَبْقَى على ظهْرِ الأرض بيتُ مدر ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ الله كلِمَة الإسلام، بِعِزِّ عزيز، أو بذُلِّ ذليلٍ، إمَّا أن يُعزَّهمُ اللهُ فيجعلهُمْ من أهْلِهِ فيعزُّوا بهِ، وإمَّا أن يُذلَّهُمْ فيَدِينُون لَهُ» .(10/76)
وقال السديُّ: ذلك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلاَّ دخل في الإسلام، أو أدَّى الخراج.
وثالثها: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} في جزيرة العربِ، وقد حصل ذلك، فإنَّه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكُفَّارِ.
ورابعها: أنَّهُ لا يدين يخالف دين الإسلام، إلاَّ وقد قهرهم المسلمون، وظهروا عليهم في بعض المواضع، وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم، فقهروا اليهُود، وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الرُّوم والغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم ممَّا يلي الترك والهند.
وخامسها: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} بالحُجَّةِ والبيانِ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ هذا وعد بأنه تعالى سيفعله، والقوة بالحُجَّة والبيان كانت حاصلة من أوَّلِ الأمْرِ. ويمكن أن يجاب عنه، بأنَّهُ في مبدأ الأمر كثرت الشبهات، بسبب ضعف المؤمنين، واستيلاء الكُفَّارِ، ومنعهم للنَّاسِ من التأمل في تلك الدلائل، وأمَّا بعد قوة الإسلام، وعجز الكُفَّار، ضعفت الشبهات فقوي دلائل الإسلام.(10/77)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} الآية.
لمَّا وصف اليهود والنصارى بالتكبّرِ وادعاءِ الربوبية، وصفهم في هذه الآية بالطَّمع والحرص على أخذ أموالِ الناس بالباطل. فقوله: «كثيراً» يدلُّ على أنَّ هذه طريقة بعضهم، لا طريقة الكل، فإنَّ العالم لا يخلو عن الحق، وإطباق الكُل على الباطل،(10/77)
كالممتنع، وهذا يدلُّ على أنَّ إجماع هذه الأمة على الباطل، لا يحصلُ؛ فكذلك في سائر الأمم، وعبَّر عن أخذ الأموال ب «الأكلِ» ؛ إمَّا لأنَّ المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، وإمَّا لأنَّ من أكل شيئاً، فقد ضمَّه إلى نفسه، ومنع غيره من الوصول إليه؛ وإمَّا لأنَّ من أخذ أموال الناس، إذا طولب بردّها، قال: أكلتها، فلهذه الوجوه سمى الأخذ بالأكل.
واختلفوا في تفسير هذا «الباطل» . فقيل: كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام، والمسامحة في الشرائع، وقيل: كانوا يدَّعُون عند العوام منهم، أنَّه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلاَّ بخدمتهم وطاعتهم، وبذل الأموال في مرضاتهم، والعوامُ كانوا يغْتَرُّونَ بتلك الأكاذيب، وقيل: كانوا يُغَيِّرُونَ الآيات الدَّالة على مبعث محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وعلى صدقه، ويذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدةً، ويُطَيِّبُون قلوب عوامهم بهذا السَّبب، ويأخذون الرشوة عليهم، وقيل: كانوا يُحرِّفُون كتاب الله، ويكتبون كتباً ويقولون هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمناً قليلاً من سفلتهم.
قوله «وَيَصُدُّونَ» يحتمل أن يكون متعدياً، أي: يصدُّون النَّاسَ، وأن يكون قاصراً، كذا قال أبو حيان، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه متعدٍّ فقط، وإنَّما يحذف مفعوله، ويراد، أو لا يُراد، كقوله {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} [البقرة: 60] .
قوله {والذين يَكْنِزُونَ الذهب} الجمهورُ على قراءته بالواو، وفيها تأويلان:
أحدهما: أنَّها استئنافيةٌ، و «الذينَ» مبتدأ ضُمِّنَ معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاءُ في خبره.
الثاني: أنَّه من أوصافِ الكثير من الأحبارِ والرُّهبان، وهو قول عثمان ومعاوية.
قال زيدُ بنُ وهبٍ: مررتُ بأبي ذر بالربذة، فقلت: يا أبا ذرّ ما أنزلك هذه البلاد؟ فقال: كنت بالشام، فقرأت: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} فقال معاويةُ: هذه الآية في أهل الكتابِ، فقلتُ: إنها فيهم وفينا، فصار ذلك سبباً للوحشة بين وبينه، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليَّ، فلمّا قدمت المدينة انحرف النَّاس عنِّي؛ كأنهم لم يَرَوْنِي من قبل، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تنح قريباً، فقلت: والله إنّي لم أدع ما كنت أقول.
ويجوزُ أن يكون «الَّذينَ» منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، يُفسِّره، «فَبشِّرهُم» وهو أرجحُ، لمكان الأمر.
وقرأ طلحة بن مصرف «الَّذينَ» بغير واو، وهي تحتملُ الوجهين المتقدمين، ولكنَّ(10/78)
كونها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرُّهبان أظهر من الاستئناف، عكس التي بالواو.
و «الكَنْزُ» الجمعُ والضَّم، ومنه: ناقة كناز، أي: منضمَّة الخَلْق. ولا يختص بالذهب والفضة، بل يقال في غيرهما، وإن غلب عليهما؛ قال: [البسيط]
2777 - لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أطعَمْتُ جَائِعَهُمْ ... قِرْفَ الحَتِيِّ وعِنْدِي البُرُّ مَكْنُوزُ
وقال آخر: [الرجز]
2778 - على شَديدٍ لحمُهُ كِنَاز ... بَاتَ يُنَزِّينِي على أوفَازِ
قوله: «وَلاَ يُنفِقُونَهَا» تقدَّم شيئان وعاد الضمير مفرداًن فقيل: إنه من باب ما حذف، لدلالة الكلام عليه، والتقدير: والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه. وقيل: يعود على المكنوزات، ودلَّ على هذا جُزْؤه المذكورُ؛ لأنَّ المكنوزَ أعمُّ من النقدين وغيرهما، فلمَّا ذكر الجزءَ دلَّ على الكُل، فعاد الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار؛ ونظيره قول الآخر: [الطويل]
2779 - ولَوْ حَلفَتْ بَيْنَ الصَّفَا أمُّ عَامِرٍ ... ومَرْوَتِهَا باللهِ بَرَّتْ يَمينَهَا
أي: ومروة مكة، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤها، وهو الصَّفا، كذا استدل به ابن مالك، وفيه احتمالٌ، وهو أن يكون الضميرُ عائداً على «الصَّفا» ، وأنَّثَ حملاً على المعنى، إذْ هو في معنى البقعة والحدبة.
وقيل: الضميرُ يعودُ على الذهب؛ لأنَّ تأنيثه أشهر، ويكون قد حذف بعد الفضة أيضاً.
وقيل: إنَّ كلَّ واحد منهما جملة وافية، دنانير ودراهم، فهو كقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] .
وقيل: التقدير: ولا ينفقون الكنوز.
وقال الزجاجُ: «ولا ينفقون تلك الأموال» وقيل: يعودُ على الزَّكاة.
وقال القرطبيُّ «قال ابنُ الأنباريّ» قصد الأغلب والأعم وهي الفضة، ومثله قوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] .
ردَّ الكناية إلى الصلاة؛ لأنَّها أعم، ومثله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] فأعاد الهاء إلى التجارة؛ لأنها الأهم «. وردَّ هذا بعضهم، قال: ليس هذا نظيره؛ لأنَّ» أو «فصلت التجارة عن اللَّهْو، فحسن عود الضمير على أحدهما» .(10/79)
وإنَّما خصَّ الذهبَ والفضة بالذِّكر من بين سائر الأموالِ؛ لأنهما الأصل المعتبر في الأموال، وهما اللذان يقصدان بالكنز، ثم قال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: فأخبرهم على سبيل التَّهكم لأنَّ الذين يكنزون الذَّهب والفضة، إنَّما يكنزوهما، ليتوسَّلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل: هذا يوم الفرج، كما يقال: تحيتهم ليس إلاَّ الضرب، وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضاً: فالبشارةُ: عبارة عن الخيرِ الذي يؤثر في القلبِ؛ فيتغير بسببه لون بشرة الوجهِ وهذا يتناول ما إذا تغيَّرت البشرة بسبب الفرح أو بالغم.
قوله: «يَوْمَ يحمى» منصوبٌ بقوله: «بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» .
وقيل: بمحذوفٍ يدلُّ عليه «عذاب» أي: يُعذَّبُون يوم يُحْمَى، وقيل: هو منصوبٌ ب «أليم» . وقيل: الأصلُ: عذاب يوم، و «عذاب» بدل من «عذاب» الأوَّلُ، فلمَّا حذف المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامه.
وقيل: منصوبٌ بقولٍ مضمر، وسيأتي بيانه.
و «يحمى» يجوزُ أن يكون من «حَمَتْيُ أوْ أحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً، يقالُ: حَمَيْتُ الحديدة، وأحميتُهَا، أي: أوْقَدْتُ عليها، لِتَحْمَى، والفاعلُ المحذوفُ هو» النَّارُ «تقديره: يوم تُحْمَى النارُ عليها، فلما حذف الفاعل، ذهب علامةُ التأنيث، لذهابه كقولك: رُفِعَت القضية إلى الأمير، ثم تقول: رُفع إلى الأمير.
وقيل: لأنَّ تأنيثَ» النَّار «مجازي، والفعل غيرُ مسند في الظَّاهر إليه، بل إلى قوله» عَلَيْهَا «فلهذا حسن التَّذكير والتأنيث.
وقيل: المعنى: يُحْمَى الوقود. وقرأ الحسنُ» تُحْمَى «بالتَّاءِ من فوق، أي: النَّار، وهي تؤيد التأويل الأوَّل.
وقرأ أبو حيوة» يُكْوى «بالياء من تحت؛ لأنَّ تأنيث الفاعل مجازيٌّ.
وقرأ الجمهور:» جِباهُهُم «بالإظهارِ وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإدغام، كما أدغم {سَلَكَكُمْ} [المدثر: 42] ، و {مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] ، ومثل» جِباهُهم «، {وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] ، والمشهور الإظهار.
قوله: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أي: جزاء ما كنتم؛ لأنَّ المكنوز لا يُذاق و» ما «يجوزُ أن تكون بمعنى» الذي «، فالعائدُ محذوفٌ، وأن تكون مصدرية. وقرىء» تَكْنُزُون «بضم عين المضارع، وهما لغتان، يقال: كَنَزَ يَكْنِزُ، ويَكْنُزُ، ك: يقتل.(10/80)
فصل
أصل الكنز في كلام العرب: الجمع، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز. واختلف علماءُ الصحابة في المرادِ بهذا الكَنْزِ المذموم، فقال الأكثرون: هو المالُ الذي لم تؤد زكاته، قال عمرُ بنُ الخطَّابِ:» ما أدِّي زكاته فليس بكنز وإن كن تحت سبع أرضين، وكلُّ ما لم تؤد زكاتُه فهو كنز وإن كان فوق الأرضين «. وقال ابنُ عبَّاسٍ في قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} يريد: الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم. وروى أبُو هرية قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا مِنْ صاحبِ ذهَبٍ ولا فضَّةٍ لا يُؤدِّي منْهَا حقَّها إلاَّ إذا كانَ يَوْمَ القيامةِ صُفِّحَتْ لهُ صَفَائِحُ من نارٍ فأحْمِيَ عليْها في نَارِ جهنَّم فيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظهرُه كُلَّما بَردتْ أعيدتْ لهُ في يوْم كان مقدارُهُ خَمسينَ ألفَ سنةٍ حتَّى يُقْضَى بيْنَ العبادِ فَيَرَى سبيلهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النَّارِ «.
قال القاضي» تخصيص هذا المعنى بمنع الزَّكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال: الكنزُ: هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة، وبين ما يجبُ إخراجه في الديون والحقوق، والإنفاق على الأهل والعيال، وضمان المتلفات، وأروش الجنايات؛ فيجب دخول كل هذه الأقسام في هذا الوعيد «.
وروي عن علي بن أبي طالب أنَّه قال: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم؛ فهو كنز، أدِّيتُ منه الزكاة أو لم تُؤدِّ، وما دونها نفقة. وروي عن أبي ذرٍّ أنَّهُ كان يقولُ: «مَنْ ترك بيضاء أو حمراء كُوي بها يوم القيامةِ» وقيل: ما فضل عن الحاجةِ كنز، لما روى أبو أمامة قال: «مات رجلٌ من أهل الصفة فوجدَ في مئزَرِهِ دينارٌ، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كَيُّةٌ، ثم توفي آخر فوجدَ في مِئْزره ديناران، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كَيتانِ» والقولُ الأول أصح، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «نِعمَ المالُ الصَّالح للرجلِ الصَّالحِ» وقوله عَلَيْهِ(10/81)
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ما أدي زكاتُهُ فليْسَ بِكَنْزٍ» وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ قال: لمَّا نزلت هذه الآيةُ كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيعُ أحد منَّا أن يدع لولده شيئاً، فذكر ذلك عمر للرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: «إنَّ الله لمْ يفْرضِ الزَّكاةَ إلاَّ ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكُم» وسئل ابنُ عمر عن هذه الآية فقال: كان هذا قبل أن تنزل الزَّكاة، فلمَّا نزلت جعلها اللهُ طُهْراً للأموال. وقال ابنُ عمر: «مَا أبَالي لوْ أنَّ لي مثلَ أحُدٍ ذهباً أعلم عددهُ أزكيه، وأعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ» .
وكان في زمان الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - جماعة مياسير كعثمان، وعبد الرحمن بن عوف وكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يعدُّهم من أكابر المؤمنين، وندب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض، ولو كان جمع المال محرماً لكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يأمر المريض بالتَّصدق بكله، بل كان يأمر الصحيحَ في حال صحته بذلك، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لسعد بن أبي وقاص: «إنَّك إن تَدعْ ورثَتَكَ أغْنياءَ خيرٌ مِنْ أنْ تدعهُم عالة يتكَفَّفُون النَّاسَ» .
فصل
اختلفوا في وُجُوب الزَّكاةِ في الحليّ، فقال مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور وأبو عبيد: لا زكاة فيه. وهو قول الشافعي بالعراقِ، ووقف فيه بعد ذلك بمصر، وقال الثوريُّ وأبو حنيفة والأوزاعي: فيه الزكاة.
فإن قيل: مَنْ لمْ يكنُزْ ولم يُنفِقْ في سبيل الله وأنفقَ في المعاصي، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم يُنْفق في سبيل الله. قيل: إنَّ ذلك أشدّ، فإن من بذل ماله في المعاصي، عصى من جهتين: بالإنفاق والتناول، ك: شراء الخَمْرِ وشربها. بل من(10/82)
جهات إذا كانت المعصية ممَّا تتعدَّى كمنْ أعانَ على ظُلْمِ مسلم من قتله أو أخذ ماله.
فإن قيل: لِمَ خُصت هذه الأعضاءُ؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ المقصودَ من كسب الأموال، حصول فرح القلب، فيظهر أثره في الوجه، وحصول الشبع ينفتح بسببه الجنبان، وليس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم، فلمَّا طلبوا تزيين هذه الأعضاء الثلاثة، حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور.
وثانيها: أنَّ هذه الاعضاء مجوفة وفي داخلها آلات ضعيفة يعظم تألُّمها بسبب وصول أدنى أثر غليها، بخلاف سائر الأعضاء.
وثالثها: قال أبُو بكر الوراق: خصت هذه المواضع بالذكر؛ لأنَّ صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقيرُ بجنبه تباعد عنه وولَّى ظهره.
ورابعها: أنهم يُكوون على الجهات الأربع، أمَّا من مقدمه فعلى الجبهة، وأمَّا من خلفه فعلى الظهر، وأما من يمينه ويساره فعلى الجنبين.(10/83)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} الآية.
«العِدَّة» مصدر بمعنى «العَدَد» . و «عِندَ اللهِ» منصوبٌ به، أي: في حُكْمه. و «اثْنَا عشرَ» خبرُ «إنَّ» ، وقرأ ميسرة عن حفص، وهي قراءةُ أبي جعفر «اثْنَا عَشْرَ» بسكون العين مع ثبوتِ الألف قبلها، واستكرهتْ من حيثُ الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما، كقولهم: «التقَتْ حَلْقتَا البطانِ» بإثباتِ الألف من «حَلْقتَا» . وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حمل «عشر» في المذكر على «عشرة» في المؤنث، و «شَهْراً» نصب على التمييز، وهو مؤكِّد؛ لأنه قد فُهِم ذلك من الأول، فهو كقولك: عندي من الدَّنانير عشرون ديناراً. والجمعُ متغاير في قوله «عِدَّة الشُّهورِ» وفي قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] ؛ لأنَّ هذا جمعُ كثرة، وذاك جمعُ قلة.(10/83)
قوله: {فِي كِتَابِ الله} يجوزُ أن يكون صفةً ل «اثْنَا عَشَرَ» ، والتقديرُ: اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله. ثمَّ لا يجوزُ أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب، لأنَّه متعلقٌ بقوله: {يَوْمَ خَلَقَ السماوات} وأسماء الأعيان لا تتعلَّق بالظروفِ، فلا تقول: غلامك يوم الجمعة، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير: إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، أي: في حكمه الواقع يوم خلق السموات والأرض.
ويجوزُ أن يكون بدلاً من الظرفِ قبله، وهذا لا يجوزُ، أو ضعيفٌ، لأنَّه يلزمُ منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته، فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيل البدلية، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة، فكيف يصحُّ من جهة المعنى؟ ولا يجوزُ أن يكون «فِي كتابِ اللهِ» متعلقاً ب «عِدَّة» لئلاَّ يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بخبره وقياس مَنْ جوَّز إبداله من الظرف أن يجوِّز هذا، وقد صرَّح بجوازه الحوفيُّ.
قوله: «يَوْمَ خَلَقَ» يجوز فيه أن يتعلَّق ب «كِتَاب» على أنَّه يُرادُ به المصدر، لا الجثة ويجوزُ أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور، وهو «في كِتابِ الله» ويكونُ الكتابُ جثةً لا مصدراً، وجوَّز الحوفيُّ أن يكون متعلقاً ب «عِدَّة» وهو مردودٌ بما تقدَّم، ويجوزُ أن يتعلَّق بفعل مقدر، أي: كتب ذلك يوم خلق.
فصل
هذه الآية أيضاً من شرح قبائح اليهود والنَّصارى والمشركين، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى؛ لأنَّه تعالى، حكم في كل وقت بحكم خاص، فإذا غَيَّرُوا تلك الأوقات بسبب النَّسيء، كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السَّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم.
فإنَّ السَّنة عند العربِ: عبارة عن اثني عشر شهراً قمرية، ويدُلُّ عليه هذه الآية وقوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلاً على السنين، وإنَّما يصح ذلك إذا كانت السَّنة معلقة بسير القمر، وقال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] وعند سائر الطوائف: السَّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرَّة، وفي الصيف أخرى، فشقَّ الأمر عليهم بهذا السَّبب.
وأيضاً إذا حضروا الحجَّ حضروا للتجارة، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية، فلذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت معين موافق لمصلحتهم، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم، فهذا النَّسيء وإن كان سبباً لحصولِ المصالحِ الدنيوية، إلاَّ أنَّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى، لمَّا خصَّ الحجَّ بأشهر معلومة على التّعيين، وكان بسبب ذلك النَّسيء يقع في سائر الشُّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه؛ فلهذا المعنى استوجبُوا الذَّمَّ العظيمَ في هذه الآية. والمرادُ بالكتابِ: حكمه(10/84)
وإيجابه. قال ابن عباس «إنه اللَّوحُ الحفوظ» وقيل: القرآن.
فصل
قال القرطبيُّ: قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور} وهي جمع شهر. فإذا قال الرجل لأخيه: لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً، قالهُ بعض العلماء وقيل: لا يكلمه أبداً. قال ابنُ العربي: وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة «فُعول» في جمع «فَعْل» .
قوله {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون صفةً ل «اثْنَا عَشَرَ» .
الثاني: أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار.
الثالث: أن تكون مستأنفة. والضمير في «منها» عائدٌ على اثنا عشر شهراً، لأنه أقربُ مذكورٍ، على «الشُّهور» والضمير في «فيهنَّ» عائدٌ على «الاثني عشر» أيضاً. وقال الفرَّاءُ، وقتادةُ: يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ، لوجهين:
أحدهما: أنه أقرب مذكور. والثاني: أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة، والجمعُ الكثيرُ بالعكس، تقول الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويجوزُ العكس.
فصل
أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، وهي: ذُو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وواحد فرد، وهو: رجبٌ، ومعنى الحرم: أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له.
فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السَّببُ في هذا التَّمييز؟
فالجوابُ: هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة.
وفيه فائدة أخرى وهي: أنَّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقٌّ عليهم، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم(10/85)
والاحترام، حتى إنَّ الإنسانَ ربما امتنع في تلك الأزمنة، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح، وذلك يوجب أنواعاً من الفوائد.
أحدها: أنَّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب؛ لأنه يقل القبائح.
وثانيها: أنَّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سبباً لميل طبعه إلى الإعراضِ عنها مطلقاً.
وثالثها: أنَّه إذا أتى بالطَّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناءِ والمشقَّةِ في أداء الطَّاعات في تلك الأوقات، والظَّاهر من حال العاقل أنَّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلِّية، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة، وبعض الأمكنة، بمزيد التعظيم.
قوله {ذلك الدين القيم} أي: الحساب المستقيم، يقال: «الكَيِّسُ من دَانَ نَفسَهُ» أي: حاسبها، وقال الحسنُ: «ذلكَ الدِّينُ القَيّم» الذي لا يبدلُ ولا يُغير، «القَيِّم» - ههنا - بمعنى: القائم الدائم الذي لا يزول، وهو الدِّينُ الذي فَطَرَ الناس عليه.
قوله {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} بفعل المعصية، وترك الطَّاعاتِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: «المراد، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم، والمراد: منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر» . وقال الأكثرون الضَّمير في قوله «فِيهِنَّ» عائدٌ على الأربعة الحرم، وقد تقدَّم. وقيل: المرادُ ب «الظلم» النَّسيء الذي كانُوا يعملونه، فينقلون الحجَّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهرٍ آخر، وقيل: المرادُ ب «الظُّلمِ» ترك المقاتلة في هذه الأشهر.
قوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} نصب «كَافَّةً» على الحالِ، إمَّا من الفاعل، أو من المفعول، وقد تقدَّم أن «كَافَّةً» لا يُتصرَّف فيها بغير النصب على الحال، وأنَّها لا تدخلها «أل» ؛ لأنها بمعنى قولك: قامُوا جميعاً، وقامُوا معاًن وأنَّها لا تُثَنَّى، ولا تُجْمع، وكذلك «كافة» الثانية، ومعنى «كافة» أي: جميعاً.
فصل
معنى الآية: قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم، كما أنَّهم يقاتلونكم على هذه الصِّفة، أي: تعاونوا وتناصروا على ذلك؛ ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء.(10/86)
وقال ابنُ عبَّاسٍ: «قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال، كما أنَّهُم يستحلُّون قتال جميعكم» {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي: مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطَّاعات والاجتناب عن المحرمات.
واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم، فقيل: كان مُحرماً ثم نسخ بقوله تعالى {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} أي: فيهن، وفي غيرهن، وهو قول قتادة، وعطاء الخراساني، والزهريُّ وسفيان الثوري، وقالوا: لأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غزا هوازن بحنين، وثقيفاً بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال آخرون: غير منسوخ. قال ابن جريج «حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنَّهُ ما يحلُّ للنَّاس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم إلاَّ أن يقاتلوا فيها، وما نسخت» .
قوله {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} في «النَّسِيء» قولان:
أحدهما: أنَّه مصدرٌ على «فَعِيل» مِن: «أنْسأ» ، أي: أخَّرَ، ك «النذير» من أنذر، و «النكير» من أنْكَر، وهذا ظاهرُ قول الزمخشري فإنَّه قال: «النَّسيء: تأخيرُ حرمة الشهر إلى شهر آخر» ، وحينئذٍ. فالإخبارُ عنه بقوله «زيادة» واضحٌ، لا يحتاج إلى إضمار.
وقال الطبريُّ: «النَّسيء - بالهمز - معناه: الزيادة» ؛ لأنَّه تأخير في المدة، فيلزمُ منه الزيادة، ومنه النَّسيئة في البيع، يقال: أنْسَأ الله أجلهُ، ونسأ في اجله أي أخّر وهو ممدود عند أكثر القراء.
الثاني: أنَّه «فَعِيلٌ» بمعنى «مَفْعُول» مِنْ نسأهُ أي: أخَّره فهو منسوءٌ، ثم حُوِّل «مفعول» إلى «فَعِيلٍ» ، وإلى ذلك نَحَا أبُو حاتمٍ، والجوهري - وهذا القول ردَّه الفارسي فإنَّه يكون المعنى: إنَّما المؤخَّر زيادة، والمؤخَّر الشهر، ولا يكون الشهرُ زيادة في الكفرِ، وأجيب عن هذا بأنَّه على حذف مضاف إمَّا من الأول، أي: إنَّما إنساءُ النَّسيء زيادة في الكفر، وإمَّا من الثاني، أي: إنما النسيء ذُو زيادة. وقرأ الجمهورُ «النَّسيء» بهمزة بعد الياءِ، وقرأ ورش عن نافع «النسيّ» بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء فيها، ورُويت هذه عن أبي جعفر، والزهري وحميد، وذلك كما خفّفوا «برية» و «خطية» .
وقرأ السلمي، وطلحة، والأشهب، وشبل، «النَّسْء» بإسكان السين. وقرأ(10/87)
مجاهدٌ والسلمي وطلحةُ أيضاً «النَّسُوء» بزنة «فعُول» بفتح الفاءِ، وهو التأخير، و «فعول» في المصادر قليل، قد تقدَّم منه ألفاظ في أوائل البقرة، وتقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشُّهُور عن بعض؛ قال: [الوافر]
2780 - ألَسْنَا النَّاسِئِينَ على مَعَدٍّ ... شُهُورَ الحِلِّ نجعَلُهَا حَرَامَا
وقال آخر: [الكامل]
2781 - نَسَئُوا الشُّهُورَ بها وكانُوا أهلهَا ... مِنْ قبلِكُم والعِزُّ لمْ يتحوَّلِ
قوله «يُضَلُّ بِهِ» قرأ الأخوان، وحفص «يُضَلُّ» مبنياً للمفعول وأبو عمرو في رواية ابن مقسم «يُضِلّ» مبنياً للفاعل، وفيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: يضل اللهُ به الذين كفروا.
والثاني: يضل الشيطان به الذين كفروا.
والثالث: يضل به الذين كفروا تابعيهم. والباقون مبنياً للفاعل، والموصول فاعل به. وقرأ ابن مسعود والحسن، ومجاهد، وقتادة ويعقوب، وعمرو بن ميمون «يُضِلّ» مبنياً للفاعل، من «أضَلَّ» وفي الفاعل وجهان:
أحدهما: ضمير الباري تعالى، أي: يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا.
والثاني: أنَّ الفاعل «الذينَ كفرُوا» وعلى هذا فالمفعولُ محذوف، أي يُضل الذين كفروا أتباعهم.
وقرأ أبُو رجاء «يَضَلُّ» بفتح الياء والضَّاد، وهي مِنْ «ضَلِلْتُ» بكسر اللام، «أضَلُّ» بفتحها، والأَصْلُ «فَنُقِلت فتحة اللام إلى الضَّاد، لأجل الإدغام، وقرأ النَّخغي، والحسن في رواية محبوب» نُضِلُّ «بضم نون العظمة، و» الَّذشينَ «مفعول، وهذه تقوِّي أنَّ الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود.
قوله:» يُحِلُّونه «فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الجملة تفسيريةٌ للضلال.(10/88)
والثاني: أنها حاليةٌ. وقوله:» ليواطِئُوا «في هذه اللام وجهان:
أحدهما: أنها متعلقةٌ ب» يُحَرِّمُونَه «وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين.
والثاني: أنَّها تتعلَّق ب» يُحِلُّونَهُ «وهذا مقتضى مذهب الكوفيين، فإنهم يعملون الأول، لسبقه. وقول من قال: إنَّها متعلقةٌ بالفعلين معاً، فإنَّما يعني من حيث المعنى، لا اللفظ. وقرأ أبُو جعفرٍ» ليُواطِئُوا «بكسر الطَّاءِ وضمِّ الياءِ الصَّريحة.
والصحيحُ أنه ينبغي أن يقرأ بضمِّ الطاء وحذف الياء؛ لأنَّه لمَّا أبدل الهمزة ياءً استثقل الضمة عليها فحذفها، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وضمت الطاء، لتجانس الواو والمواطأة: الموافقةُ والاجتماع، يقال: تواطئوا على كذا، أي: اجتمعوا عليه كأنَّ كلَّ واحدٍ يَطَأ حيث يَطَأ الآخر، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} [المزمل: 6] . وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقرأ الزهريُّ» لِيُواطِيُّوا «بتشديد الياء، هكذا ترجموا قراءته، وهي مشكلةٌ، فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء، وتخليصها من الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهها وهو كما قال.
قوله:» زُيِّنَ «الجمهور على» زُيِّنَ «ببنائه للمفعول، والفاعل المحذوف هو الشيطان. وقرأ زيد بن علي» زَيَّن «ببنائه للفاعل، وهو الشيطان أيضاً، و» سوء «مفعوله.
فصل
معنى النَّسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك ممَّا تمسكت به من ملة إبراهيم، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، وربَّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم، فيكرهون تأخير حربهم، فنسئوا، يعني: أخَّرُوا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخِّرُون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر، ويستحلُّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل؛ فكانوا يصنعون هكذا شهراً بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم إلى السَّنة كلها، فقام الإسلامُ وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وذلك بعد دهر طويل، فخطب النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:
«ألاّ إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السَّنة(10/89)
اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان ... » الحديث. فأمرهم بالمحافظة لئلاَّ يتبدل في مستأنف الأيام.
واختلفوا في أوَّل من نسأ النَّسيء. فقال ابنُ عباس والضحَّاك وقتادة ومجاهد «أوَّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة» .
وقال الكلبيُّ «أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، وكان يقومُ على الناس بالموسم، فإذا همَّ الناسُ بالصدودِ، قام فخطب، فقال: لا مردّ لما قضيتُ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألونه أن ينسأهم شهراً يغيرون فيه، فيقول: إنَّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار، ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال حلال، عقدوا الأوتار، وشدوا الأزجة، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له: القَلَمَّسُ. قال شاعرهم: [الوافر]
2782 - ومِنَّا نَاسِىءُ الشَّهْرِ القَلمَّسْ ... وكانوا لا يفعلون ذلك إلاَّ في الحجِّ إذا اجتمعت العرب في الموسم. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس:» إنَّ أول من سنَّ النَّسيء: عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن خندف «.
ثم قال: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} تقدَّم الكلام عليه. {يُحِلُّونَهُ عَاماً} يعني: النَّسيء {وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ} أي: يوافقوا. {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أي: إنهم لم يحلوا شهراً من الحرام إلاَّ حرَّمُوا مكانه شهراً من الحلال، ولم يحرِّمُوا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرام، لئلاَّ يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، فتكون الموافقة في العدد.
{زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ} قال ابنُ عبَّاس: زين لهم الشيطان: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} .(10/90)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} الآية. لمَّا ذكر فضائح الكفار عاد إلى التَّرغيب في مقاتلتهم.
قال ابنُ عبَّاس: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك لأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا رجع من الطائف أقام بالمدينة أمر بجهاد الرُّوم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر، حين طابت ثمار المدينة، واستعظم النَّاسُ غزو الرُّوم وهابوه، وكان ذلك في حر شديد، وسفر بعيد، ومفاوز، وعدُو كثير، وذلك حين طابت ثمار المدينة، وظلالها فأمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فشقَّ عليهم الخروج، وتثاقلُوا، فنزلت هذه الآية.
ومعنى: «إِذَا قِيلَ لَكُمُ» أي: قال لكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «انفِرُوا» اخرجوا، واسم القوم الذين يخرجون النفير.
قوله: «اثاقلتم» أصله «تثَاقلْتُم» فلمَّا أريد الإدغام سكنت الثَّاءُ فاجتلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم في {فادارأتم} [البقرة: 72] ، والأصل: «تَدَارَأتُم» . وقرأ الأعمشُ «تثاقَلْتُم» بهذا الأصل و «ما» في قوله: «مَا لَكُمْ» استفهامية، وفيها معنى الإنكار.
وقيل: فاعله المحذوف هو الرسول. «اثَّاقَلْتُمْ» ماضي اللَّفظ، مضارع المعنى، أي: تتثاقلون، وهو في موضع الحالِ، وهو عاملٌ في الظَّرف، أي: ما لكم متثاقلين وقت القول.
وقال أبُو البقاءِ: «اثَّاقلتم: ماض بمعنى المضارع أي: ما لكم تتثاقلون، وهو في(10/91)
موضع نصب، أي: أيُّ شيء لكم في التَّثاقل، أو في موضع جر على رأي الخليلِ. وقيل: هو في موضع حال» .
قال أبو حيان: وهذا ليس بجيد؛ لأنه يلزم منه حذفُ «أنْ» لأنه لا ينسبِكُ مصدرٌ إلاَّ من حرف مصدري والفعل وحذفُ «أنْ» في هذا قليلٌ جداً، أو ضرورة. وإذا كان التقديرُ في التثاقل، فلا يمكن عمله في «إذا» لأنَّ معمول المصدر الموصول لا يتقدَّمُ عليه، فيكون النَّاصب ل «إذا» والمتعلِّق به في التثاقل ما تعلَّق به «لَكُم» الواقعُ خبراً ل «ما» وقرىء «أثَّاقلْتُم» بالاستفهام الذي معناه الإنكار، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يعمل في «إذا» ؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله، فيكونُ العاملُ في هذا الظَّرف إمَّا الاستقرارُ المقدَّر في «لكم» ، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللَّفظ، والتقدير: ما تصنعون إذا قيل لكم، وإليه نحا الزمخرشي.
والظَّاهر أن يقدَّر: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى.
وقوله: «إِلَى الأرض» ضُمِّنَ اثَّاقلتم معنى المَيْلأ والإخلاء، فعدي ب «إلى» والمعنى: تباطأتم إلى الأرض، أي: لزمتم أرضكم ومساكنكم، وملتم إلى الدنيا وشهواتها، وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه، ونظيره قوله {أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ} [الأعراف: 176] قال المفسِّرون: معناه: اثاقلتم إلى نعيم الأرض، وإلى الإقامة وبالأرض.
قوله
{أَرَضِيتُمْ
بالحياة
الدنيا} أي: بخفض الدنيا ودعتها. وقوله: {إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} جناس لفظي] ، وكذا قوله: {اصبروا وَصَابِرُواْ} [آل عمران: 200] ، وقوله: {أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48] وقوله: {ياأسفا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] ، وقوله: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] ، وقوله: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] ، وقوله: {على عِلْمٍ عَلَى العالمين} [الدخان: 32] وقوله {مَالِكَ الملك} [آل عمران: 26] .
قوله «مِنَ الآخرة» تظاهرت أقوالُ المعربين، والمفسرين على أنَّ «مِنْ» بمعنى «بدل» كقوله {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} [الزخرف: 60] ، أي: بدلكم؛ ومثلة قول الآخر: [الرجز]
2783 - جَارِيةٌ لَمْ تأكُلِ المُرقَّقَا ... ولمْ تَذُقْ مِن البُقُولِ الفُسْتُقَا
وقول الآخر: [الطويل]
2784 - فَليْتَ لَنَا مِنْ ماءِ زَمْزمَ شَرْبَةٌ ... مُبرَّدَةً باتَتْ على طَهَيَانِ(10/92)
إلاَّ أنَّ أكثر النَّحويين لم يثبتُوا لها هذا المعنى، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك، والتقدير هنا: اعتصمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياةِ الدُّنيا، وكذلك باقيها.
وقال أبُو البقاءِ: «مِنَ الآخرة» في موضع الحال، أي: بدلاً من الآخرة. فقدَّر المتعلَّقَ كوناً خاصاً، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى. ثم قال: «فما متاع الحياة الدنيا» أي: لذاتها. وقوله «فِي الآخرةِ» متعلقٌ بمحذوفٍ من حيثُ المعنى، تقديره: فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة ف «محسوباً» حالٌ مِنْ «متاعُ» .
وقال الحوفي: إنَّه متعلق ب «قَلِيلٌ» ، وهو خبر المبتدأ قال: «وجاز أن يتقدَّم الظَّرفُ على عامله المقترن ب» إلاَّ «؛ لأنَّ الظروف تعمل فيها روائحُ الأفعال، ولو قلت: ما زيدٌ عمراً إلاَّ يضرب، لم يَجُزْ» .
فصل
الدَّليلُ على أنَّ متاع الدُّنيا في الآخرة قليل، أنَّ لذات الدُّنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفاتِ والبليات، ومنقطعة عن قريبٍ لا محالة، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفاتِ، ودائمة أبدية سرمدية، وذلك يوجب القطع بأنَّ متاع الدُّنيا في جنب متاع الآخرة قليل حقير.
قوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} .
في الآخرة، وقيل: هو احتباس المطر عنهم في الدنيا.
قال القرطبيُّ: «هذا شرطٌ، فلذلك حذفت منه النُّون. والجوابُ» يُعذِّبْكُم «و {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وهذا تهديدٌ ووعيدٌ لتارك النَّفير» . {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} خيراً منكم وأطوع.
قال ابنُ عبَّاسٍ: «هم التابعون» .
وقال سعيدُ بن جبير: «هم أبناء فارس» وقيل: هم أهلُ اليمن. «وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً» بترككم النفير.
قال الحسنُ «الكناية راجعة إلى الله تعالى، أي: لا تضروا الله» ، وقال غيره تعود إلى الرسول؛ لأنَّ الله عصمه من الناس، ولا يخذله إن تثاقلتم عنه.
{والله
على
كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} .(10/93)
قال الحسنُ وعكرمةُ: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122] وقال المحقِّقون: الصحيح أنَّ هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم ينفروا، وعلى هذا فلا نسخ.
قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} . هذا الشرط جوابه محذوف، لدلالة قوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} عليه، والتقدير: إلاَّ تنصروه فسينصره. وذكر الزمخشريُّ فيه وجهين:
أحدهما: ما تقدَّم. والثاني: قال «إنه أوجب له النُّصْرَة، وجعله منصوراً في ذلك الوقتِ، فلنْ يُخْذَلَ من بعده» . قال أبُو حيَّان: «وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشَّرط؛ لأنَّ إيجابَ النصرة له أمْرٌ سبق، والماضي لا يترتَّب على المستقبل والذي يظهرُ الوجهُ الأول» . وهذا إعلام من الله أنَّه المتكفلُ بنصر رسوله، وإعزاز دينه، أعانوه، أو لَمْ يُعينُوه، وأنه قد نصرهُ عند قلة الأولياءِ، وكثرة الأعداء، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَدِ.
وقوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} أي: أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخُروج من مكَّة، حين مكروا به وأرادوا تثبيته، وهمُّوا بقتله.
قوله «ثَانِيَ اثنين» منصوبٌ على الحالِ من مفعول «أخْرَجهُ» وقد تقدَّم معنى الإضافة في نحو هذا التَّركيب عند قوله: {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] .
وقرأت جماعة «ثَانِي اثنَيْنِ» بسكون الياء. قال أبُو الفَتْحِ: «حكاها أبو عمرو» .
ووجهها أنَّ يكون سكَّن الياء تشبيهاً لها بالألفِ وبعضهم يخصُّه بالضرورة، والمعنى: هو أحد الاثنين، والاثنان أحدهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والآخر أبو بكر الصديق.
قوله: {إِذْ هُمَا فِي الغار} . و «الغارُ» بيت يكون في الجبل، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكَّة، ويجمع على «غِيران» ، ومثله: «تاج وتِيجَان» ، و «قاعٌ وقيعان» ، والغارُ أيضاً: نَبْتٌ طيبُ الريح، والغارُ أيضاً: الجماعة والغاران: البطنُ والفرجُ. وألف «الغَارِ» عن واو.
قوله: «إِذْ يَقُولُ» بدل ثان من «إذْ» الأولى. وقال أبُو البقاءِ: أي: إذ هما في الغار، و «إذْ يَقُول» ظرفان ل «ثَانِي اثنَيْنِ» .
فصل
عن ابن عمر أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأبي بكر: «أنت صاحبي في الغارِ وصاحبِي(10/94)
على الحَوْضِ» . قال الحسينُ بن الفضل «من قال إنَّ أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله فهو كافر؛ لإنكاره نص القرآن، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً» .
فإن قيل: إنَّ الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن في قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ} [الكهف: 37] .
فالجوابُ: أنَّ هناك وإن وصفه بكونه صاحباً إلاَّ أنَّه أردفهُ بما يدلُّ على الإهانة والإذلال وهو قوله: «أكفرتَ» ؟ أمَّا ههنا فبعد أن وصفه بكون صاحباً ذكر بعده ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} فأيّ مناسبة بين البابين؟ .
روي أنَّ قريشاً لمَّا بيَّتُوا على قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر عليّاً أن يضطجع على فراشه، ليمنعهم السواد من طلبه، جعل أبُو بكر يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما لك يا أبا بكر؟ فقال: أذكر الطلب؛ فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك؛ فلما انتهينا إلى الغار دخل أبو بكر أولاً، يلتمس ما في الغار، فقال له رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ما لك؟ فقال بأبي أنت وأمِّي، الغيرَانُ مأوى السِّباع والهوام، فإن كان فيه شيء كان بِي لا بِكَ وكان في الغارِ حجر، فوضع عقبه عليه، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا «فقال أبو بكر: إن الله لمعنا، فقال الرسول» نعم «فجعل يمسح الدموع عن خدِّه، ولم يكن حزن أبي بكر جبناً منه، وإنَّما إشفاقاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: إن أقتل فأناً رجلٌ واحدٌ، وإن قتلت هلكت الأمة.»
وروي أنَّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغارِ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اللَّهُمَّ أعْمِ أبصارهم» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً.
فصل
دلَّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من وجوه:
أحدها: أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا ذهب إلى الغار كان خائفاً من الكفار أن يقتلوه، فلولا أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قاطعاً بأنَّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصِّيقين، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنُه بخلاف(10/95)
ظاهره، لخافه أن يدل أعداءه عليه، أو لخافه أن يقدم هو على قتله، فلمَّا استخلصه لنفسه في تكل الحالة، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره.
وثانيها: أن الهجرة كانت بإذن الله، وكن في خدمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جماعة من المخلصين، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أقرب من أبي بكر، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين.
وثالثها: أنَّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أمَّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره، ولا تخلَّف عنه كغيره، بل صبر على مؤانسته، وملازمته، وخدمته عند الخوفِ الشَّديد الذي لم يبق معه أحد، وذلك يوجب الفضل العظيم.
ورابعها: أنَّه تعالى سمَّاه: «ثَانِيَ اثْنَيْنِ» فجعله ثاني محمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في أكثر المناصب الدينية، فإنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا أرسل إلى الخلقِ وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة، والزبير، وعثمان، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلُّ على يده، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أيام قلائل، فكان هو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «ثَانِي اثْنَيْن» في الدَّعوة إلى الله تعالى، وكلَّما وقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزوة، كان أبو بكر يقف في خدمته، فكان «ثَانِيَ اثنين» في المواقف كلِّها، وكلما صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقف خلفه، وكلَّما جلسَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان «ثَانِيَ اثنين» في مجلسه، ولمَّا مرض رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قام مقامه في الإمامة، فكان «ثَانِيَ اثْنَيْنِ» ولمَّا مات دفن بجنبه، فكان «ثاني اثنين» هناك.
وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال: كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية. ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافرن فلمَّا لم يكن هذا المعنى من الله دالاًّ على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على فضيلة الإنسان أولى؟ .
والجوابُ: أنَّ هذا تعسف بارد؛ لأنَّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير، وكونه مطلقاً على ضمير كل أحد، أمَّا هنا فالمراد بقوله تعالى: {ثَانِيَ اثنين} تخصيصه بهذه الصِّفة في معرض التعظيم.
قوله: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فالضمير في «عَلَيْه» يعودُ على أبي بكر؛ لأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان عليه السكينة دائماً، وقد تقدَّم القولُ في السكينة. والضميرُ في «أيَّدهُ» للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو إشارة إلى قصَّة بدر، وهو معطوف على قوله {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} . وقرأ(10/96)
مجاهد «وأيَدَه» بالتَّخفيف. و «لَمْ تَرَوْهَا» صفة ل «جُنُود» .
قوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} كلمتهم: الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة، {وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} إلى يوم القيامة. قال ابنُ عبَّاسٍ «هي قول: لا إله إلاَّ الله» .
وقيل: كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية، وكلمة الله: وعده أنه ناصره.
والجمهور على رفع «كَلِمة» على الابتداء، و «هي» يجوزُ أن تكون مبتدأ ثانياً، و «العُليا» خبرها، والجملة خبر الأوَّل. ويجز أن تكن «هي» فصلاً «، و» العُليا «الخبر. وقرأ يعقوب» وكلمةَ اللهِ «بالنَّصب، نسقاً على مفعولي» جعل «أي: وجعل كلمة الله هي العليا.
قال أبُو البقاء: وهو ضعيفٌ، لثلاثة أوجه:
أحدها: وضعُ الظَّاهر موضع المضمر، إذ الوجه أن يقول: وكلمته.
الثاني: أنَّ فيه دلالةً أنَّ كلمة الله كانت سُفْلَى، فصارت عليا، وليس كذلك.
الثالث: أنَّ توكيد مثل ذلك ب» هي «بعيد، إذ القياسُ أن يكون» إياها «.
قال شهابُ الدِّين: أما الأولُ فلا ضعف فيه؛ لأنَّ القرآن ملآن من هذا النَّوعِ، وهو من أحسن ما يكون؛ لأنَّ فيه تعظيماً وتفخيماً.
وأمَّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر، وهو أن يكون الشَّيء المصيَّر على الضد الخاص، بل يدلُّ التَّصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة.
وأمَّا الثالثُ ف» هِيَ «ليست تأكيداً ألبتة، إنما هي ضمير فصل على حالها، وكيف يكونُ تأكيداً، وقد نصَّ النحويون على أنَّ المضمر لا يؤكد المظهر؟ .
ثم قال: {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: قاهر غالب» حَكِيمٌ «لا يفعل إلاَّ الصَّواب.(10/97)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
قوله تعالى: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} الآية.(10/97)
لمَّا توعد من لا ينفر مع الرسول، أتبعه الأمر الجزم، فقال: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} نصبهما على الحال من فاعل «انفرُوا» . قال الحسنُ، والضحاكُ، ومجاهد، وقتادة وعكرمة: «شُباناً وشُيوخاً» . وعن ابن عباسٍ: نشاطاً وغير نشاط. وقال عطيةُ العوفي: ركباناً ومشاةً. وقال أبو صالحٍ: «خفافاً من المال، أي: فقراء» ثقالاً «أي: أغنياء» . وقال ابن زيد «الثقيل: الذي له الضيعة، والخفيف: الذي لا ضيعة له» .
وقيل: «خفافاً» من السلاح أي: مقلين منه، و «ثِقالاً» مستكثرين منه. وقال مرة الهمداني: صحاحاً ومراضاً.
وقال يمان بن رباب «عزاباً ومتأهلين» ، وقيل غير ذلك. والصحيح أنَّ الكلَّ داخل فيه؛ لأنَّ الوصف المذكور وصف كلّي؛ فيدخل فيه كل هذه الجزئيات، فقد روى ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أعَلَيَّ أنَّ أنفر؟ قال: «ما أنت إلاَّ خفيفٌ أو ثقيلٌ» فرجع إلى أهله ولبس سلاحه، ووقف بين يديه؛ فنزل قوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} [النور: 61 والفتح: 17] .
وقال مجاهدٌ: «إنَّ أبا أيُّوب شهد بدراً مع الرسول، ولم يتخلف عن الغزوات مع المسلمين، ويقول قال الله تعالى: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} فلا أجدني إلاَّ خفيفاً أو ثقيلاً» . وعن صفوان بن عمرو قال: كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو، فقلت: يا عم أنت معذور عند الله، فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، إلا أنَّ من أحبَّه ابتلاه. وعن الزهري: خرج سعيدُ بنُ المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنَّك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع. وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور، فقال: أنْزلَ اللهُ علينا في سورة براءة: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] والقائلون بهذا القول يقولون: إنَّ هذه الآية نسخت بقوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} [النور: 61] وبقوله: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91](10/98)
الخراساني نسخت بقوله {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122] .
ولقائل أن يقول: اتفقوا على أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك، واتفقوا على أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا الوجوب ليس على الأعيان، بل من فروض الكفايات، فمنْ أمره الرسولُ بالخروج، لزمه خفافاً وثقالاً، ومن أمره بأن يبقى ترك النفير. وحينئذٍ لا حاجة إلى التزام النسخ.
وأيضاً فقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة: 42] دليل على أنَّ قوله: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} إنَّما يتناولُ من كان قادراً متمكناً، إذ لو لم تكن الاستطاعة معتبرة في ذلك التكليف، لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف، فدلَّ على عدم النسخ فيها.
قوله: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله} .
فيه قولان:
الأول: أنَّها تَدُلُّ على أنَّ الجهادَ يجبُ على من له المال والنفس، ومن لم يكن له ذلك، لم يجب عليه الجهاد.
والثاني: أنَّ الجهاد بالنفس يجب إذا انفرد وقوي، ويجب بالمالِ إذا ضعف عن الجهادِ بنفسه؛ فيلزمه أن ينيبَ من يغزُو عنه بنفقة من عنده، وذهب إلى هذا كثيرٌ من العلماء.
ثم قال: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
فإن قيل: كيف يصح أن يقال: الجهادُ خير من القعُودِ ع نه، ولا خير في القعود؟
فالجوابُ: من وجهين:
الأول: أنَّ لفظ «خير» يستعمل في شيئين:
أحدهما: بمعنى: هذا خير من الآخر. والثاني: أنه خير في نفسه، كقوله تعالى {إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] .
وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] ، وعلى هذا سقط السُّؤال.
والثاني: سلمنا أنَّ المراد كونه خيراً من غيره، إلا أن التقدير: أن ما يستفاد من نعيم الآخرة بالجهاد خير ممَّا يستفيده القاعد عنه من الرَّاحة والتنعم بها، ولذلك قال تعالى: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} الآية.
لمَّا بالغ في ترغيبهم في الجهادِ، وأمرهم بالنَّفير، عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، بقوله: {لَوْ كَانَ عَرَضاً} اسم «كان» ضميرٌ يعودُ على ما دل عليه السِّياق، أي: لو كان ما دعوتَهم إليه.
والعرض: ما عرض لك من منافع الدُّنيا، والمراد هنا: غنيمة قريبة المتناول،(10/99)
{وَسَفَراً قَاصِداً} أي: سَهْلاً قريباً ههنا. {لاَّتَّبَعُوكَ} لخرجوا معك. ومثل بالقاصد، لأنَّ المتوسط، بين الإفراد والتفريط، يقال له: مُقتصدٌ. قال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [فاطر: 32] ومعنى القاصد: ذو قصد، كقولهم: لابنٌ، وتامرٌ، ورابحٌ {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} . قرأ عيسى بن عمر، والأعرج «بَعِدَت» بكسر العين. وقرأ عيسى «الشِّقَّة» بكسر الشين أيضاً قال أبو حاتمٍ: هما لغة تميم.
والشُّقَّة: الأرض التي يُشَقُّ ركوبُها، اشتقاقاً من المشقَّة.
وقال الليثُ، وابن فارسٍ: هي الأرضُ البعيدة المسير، اشتقاقاً من الشِّق، أو من المشقَّة، والمعنى: بعدت عليهم المسافة وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزوة تبوك.
قوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بالله} الجارُّ متعلقٌ ب «سَيَحْلِفُونَ» .
وقال الزمخشريُّ «بِاللهِ» متعلقٌ ب «سَيحْلفُونَ» ، أو هو من جملة كلامهم، والقولُ مرادٌ في الوجهين، أي: سَيحْلِفُون، يعني: المتخلِّفين عند رجوعك معتذرين يقولون: باللهِ لو استطعنا أو سَيحْلفُونَ بالله يقولون: لو اسْتَطعْنَا.
وقوله: «لَخَرجْنَا» سدَّ مسدَّ جواب القسم، و «لَوْ» جميعاً.
قال أبو حيان: قوله: «لخَرجْنَا» سدَّ مسدَّ جواب القسمِ، و «لو» جميعاً «؛ ليس بجيد، بل للنحويين في هذا مذهبان:
أحدهما: أنَّ» لَخَرجْنَا «جوابُ القسم وجوابُ» لَوْ «محذوفٌ، على قاعدة اجتماع القسم والشَّرط، إذا تقدَّم القسم على الشَّرط، وهذا اختيارُ ابن عصفورٍ. والآخر: أنَّ» لخَرجْنَا «جوابُ» لَوْ «و» لَوْ «وجوابها جواب القسم، وهذا اختيارُ ابن مالكٍ. أمَّا أنَّ» لخَرَجْنَا «سد مسدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذهب إلى ذلك، ويحتمل أن يتأول كلامه على أنَّه لمَّا حذف جواب» لو «ودلَّ عليه جواب القسم جعل كأنَّهُ سدَّ مسدَّ جواب القسمِ، وجواب» لو «.
وقرأ الأعمشُ، وزيدُ بنُ عليٍّ» لوُ استطَعْنَا «بضم الواو، كأنَّهما فَرَّا من الكسرة على الواو وإن كان الأصل، وشبَّها واو» لَوْ «بواو الضَّمير، كما شبَّهوا واو الضَّمير بواو» لَوْ «حيث كسرُوها، نحو: {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] ، لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسنُ: {اشتروا الضلالة} ، و {لَوِ استطعنا} بفتح الواو تخفيفاً.(10/100)
ولو قلت:» وأنا قائمٌ «حالاً من ضمير» ليفعلنَّ «لم يجز، وكذا عكسه، نحو: حلفَ زيدٌ لأفعلنَّ يقوم، تريد: قائماً، لم يجز.
وأمَّا قوله:» وجاء به على لفظ الغائب؛ لأنه مُخْبرٌ عنهم «فمغالطةٌ، ليس مخبراً عنهم بقوله:» لَوِ استطَعْنَا لخَرجْنَا «، بل هو حاكٍ لفظ قولهم. ثمَّ قال: ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديداً ... إلى آخره. كلامٌ صحيحٌ، لكنه - تعالى - لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكايةٌ، والحالُ من جملة كلامهم المحكيّ، فلا يجوزُ أن يخالف بين ذي الحال وحاله، لاشتراكهما في العامل، لو قلت: قال زيدٌ: خرجت يضربُ خالداً، تريد: اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت: قالت هندٌ: خرج زيد أضرب خالداً، تريد: خرج زيد ضارابً خالداً، لم يَجُزْ، انتهى.
الرابعُ: أنَّها جملةٌ استئنافيةٌ، أخبر اللهُ عنهم بذلك.
فصل
معنى الآية: أنَّه لو كانت المنافع قريبة، والسَّفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوزِ بتلك المنافع، ولكن طال السفرُ، وكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة، بسبب استعظامهم غزو الرُّوم، فلهذا تخلَّفُوا، ثمَّ أخبر تعالى أنه إذا رجع من الجهادِ يجدهم: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} إمَّا عند ما يعاتبهم بسبب التخلف، وإمَّا ابتداءً على طريقة إقامة العذر في التخلف، ثم بيَّن أنَّهم يهلكون أنفسهم بسبب الكذب والنِّفاق، وهذا يَدُلُّ على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام» اليمينُ الغموسُ تدعُ الدِّيارَ بلاقعَ «ثم قال: {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج، فكانوا كاذبين في أيمانهم.
فصل
قالوا: الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أخبر عنهم أنَّهم سيحلفون، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل، والأمر لمَّا وقع كما أخبر كان إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً.
قوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} الآية.
لمَّا بيَّن تعالى بقوله: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ} أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو، وليس فيه بيان أنَّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا؟ فلمَّا قال بعده: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} دلَّ هذا، على أنَّ فيهم من تخلَّف بإذنه.
قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} «لِمَ» ، و «لَهُمْ» كلاهما متعلقٌ ب «أذِنْتَ» ، وجاز ذلك؛ لأنَّ معنى اللاَّمين مختلف؛ فالأولى للتعليل، والثانية للتبليغ. وحذفت ألفُ «ما» الاستفهامية(10/101)
لانجرارها، وتقديمُ الجارِّ للأول واجبٌ؛ لأنَّه جرَّ ما له صدرُ الكلام، ومتعلَّقُ الإذن محذوفٌ، يجوزُ أن يكون القُعود، أي: لِمَ أذنت لهم في القعود، ويدل عليه السِّياق من اعتذارهم عن تخلُّفِهم عنه عليه السلام. ويجوزُ أن يكون الخروج، أي: لِمَ أذنت لهم في الخروج، لأنَّ خروجهم فيه مفسدةٌ من التخذيل، وغيره، يدلُّ عليه: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] .
قوله: {حتى يَتَبَيَّنَ} يجوزُ في «حتى» أن تكون للغاية، ويجوز أن تكون للتعليل، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ، إمَّا بمعنى «إلى» ، وإمَّا بمعنى اللام، و «أنْ» مضمرةٌ بعدها، ناصبة للفعل، وهي متعلقة بمحذوفٍ.
قال أبُو البقاءِ: «تقديرهُ: هَلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يَتبيَّنَ، أو ليتبيَّن، وقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} يدُلُّ على المحذوف، ولا يجُوزُ أن تتعلَّق» حتَّى «ب» أذِنْتَ «لأنَّ ذلك يوجب أن يكون أذنَ لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التَّبيين، وذلك لا يُعاتبُ عليه» وقال الحوفيُّ: «حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ، أي: ما كان له أن يأذن لهم، حتى يتبيَّن له العُذْر» .
وفي هذه العبارة بعضُ غَضَاضةٍ.
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع، ولدخوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ تحت قوله تعالى: {فاعتبروا ياأولي الأبصار} [الحشر: 2] والرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان سيداً لهُم، ثمَّ أكَّدُوا ذلك بهذه الآية فقالوا: إمَّا أن يقال: إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن، أو منعه عنه، أوْ مَا أذن له فيه وما منعهُ عنه والأول باطلٌ، وإلاَّ امتنع أن يقول له: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ، والثاني باطل؛ لأنه يلزم منه أن يقال: إنَّه حكم بغير ما أنزل الله، فيدخل تحت قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله} [المائدة: 44 - 47] الآيات. وذلك باطل بصريح القول.
فلمْ يبق إلاَّ أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه، فإمَّا أن يكون ذلك عن اجتهاد، أو لا، والثاني باطل؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] فلمْ يبق إلاَّ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد.
فإن قيل: الآية تدلُّ على أنَّهُ لا يجوز له الاجتهاد؛ لأنه تعالى منعه بقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ؟ فالجوابُ: أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقاً، لقوله تعالى: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} [التوبة: 43] والحكم الممدود إلى غاية ب «حتّى» يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلَّ على صحة قولنا.
فإن قالوا: لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ من ذلك التَّبيين هو التَّبيين بطريق الوحي؟ .(10/102)
فالجواب: ما ذكرتموه محتمل؛ إلاَّ أنه على تقديركم، يصير تكليفه، أن لا يحكم ألبتة، حتى ينزل الوحين فلمَّا ترك ذلك، كان كبيرة، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه، لقوله: «ومن اجتهد فأخطأ فله أجر» فكان حمل الكلامِ عليه أولى.
فصل
دلَّت هذه الآية على وجوب التثبت، وعدم العجلة، والتَّأنِّي، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتَّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه.
فصل
قال قتادةُ: عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثمَّ رخَّص له في سورة النُّور فقال: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] .
فصل
قال أبُو مسلم الأصفهاني في قوله {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} : ليس فيه ما يدل على أنَّ الإذن في ماذا؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القُعُودِ؛ فأذن له، ويحتملُ أن بعضهم استأذن في الخروجِ؛ فأذن له، مع أنَّ ما كان خروجهم معه صواباً، لكونهم عيوناً للمنافقين على المسلمين، وكانوا يثيرون الفتنَ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرَّسُول مصلحة، قال القاضي «هذا بعيدٌ؛ لأن هذه الآية نزلتْ في غزوة تبوك على وجه الذَّم للمتخلفين، والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم» .(10/103)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
قوله تعالى: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} الآية.
أي: لا يستأذنوك في التخلف {والله عَلِيمٌ بالمتقين} .
قوله: «أَن يُجَاهِدُواْ» فيه وجهان:(10/103)
أظهرهما: أنَّهُ متعلقُ «الاستئذان» ، أي: لا يستأذنوك في الجهادِ، بل يمضُون فيه غير مترددين.
والثاني: أن متعلق «الاستئذان» محذوف و «أن يُجاهدُوا» مفعولٌ من أجله، تقديره: لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعود كراهة أن يجاهدوا، بل إذا أمرتُهم بشيءٍ بادروا إليه. وقال بعضهم: لا بدّ في الكلام من إضمار آخر؛ لأنَّ ترك استئذان الإمام في الجهادِ غير جائز، فلا بدَّ من إضمار، والتقديرُ: لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا، إلاَّ أنَّه حذف حرف النفي كقوله: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] ويدلُّ على هذا المحذوف أنَّ ما قبل الآية، وما بعدها يدل على أن هذا الذم إنَّما كان على الاستئذان في القعود.
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية.
بيَّن أنَّ هذا الاستئذان لا يصدر إلاَّ عند عدم الإيمان باللهِ واليوم الآخر، ولمَّا كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشَّك فيه، وقد يكون بسبب القطع والجزم بعدمه، بيَّن تعالى أنَّ عدم إيمان هؤلاء، إنَّما كان بسبب الشك والريب، فدلَّ على أنَّ الشَّاك المرتاب غير مؤمن بالله وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في سورة الأنفال عند قوله: {أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} [الأنفال: 4] ثم قال: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي: متحيرين.
قوله: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} .
قرأ العامة «عُدَّة» بضمِّ العين وتاء التأنيث، وهي الزَّادُ والراحلةُ، وجميعُ ما يحتاج إليه المسافرُ.
وقرأ محمد بنُ عبد الملك بن مروان، وابنه معاوية «عُدَّهُ» كذلك، إلاَّ أنَّهث جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب، يعود على «الخُرُوجِ» . واختلف في تخريجها، فقيل: أصلها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث، ولكنهم يحذفونها للإضافةِ، كالتَّنوين، وجعل الفراء من ذلك قوله تعالى: {وَإِقَامَ الصلاة} [الأنبياء: 73] .
ومنه قول زهير: [البسيط]
2785 - إنَّ الخليطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا ... وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذي وعَدُوا
يريد: عدة الأمْرِ.
وقال صاحبُ اللَّوامح «لمَّا أضاف جعل الكناية نائبةً عن التاء، فأسقطها، وذلك لأن العُدَّ بغير تاء، ولا تقديرها، هو» البئرُ الذي يخرج في الوجه «. وقال أبو حاتم:» هو جمع «عُدَّة» ، ك: «بُرّ» جمع «بُرّة» ، و «دُرّ» جمع «دُرَّة» والوجهُ فيه «عُدَد» ولكن لا(10/104)
يوافق خطَّ المصحف «. وقرأ زر بن حبيش، وعاصم في رواية أبان» عِدَّهُ «بكسر العين، مضافة إلى هاء الكناية.
قال ابن عطيَّة: هو عِنْدِي اسمٌ لما يُمَدُّ، ك «الذَّبْح» ، و «القِتْل» .
وقُرىء أيضاً «عِدَّة» بكسر العين، وتاء التأنيث، والمرادُ: عدة من الزَّاد والسلاح، مشتقاً من «العَدَدِ» .
قوله: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} . الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ، فلذلك قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلتُ: لمَّا كان قوله: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج} معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} كأنه قيل: ما خرجوا، ولكن تَثَبَّطُوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم،: «ما أحْسَنَ زَيْدٌ إليَّ ولكن أساءَ إليَّ» . انتهى. يعني أنَّ ظاهرَ الآية يقتضي أنَّ ما بعد «لكن» موافقٌ لما قبلها، وقد تقرَّر فيها أنَّها لا تقع إلاَّ بين ضدين، أو نقيضين، أو خلافين، على خلاف في هذا الأخير، فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور.
قال أبُو حيان «وليست الآيةُ نظير هذا المثالِ - يعني: ما أحْسَنَ زيدٌ إليَّ، ولكن أساء -، لأنَّ المثال واقعٌ فيه» لكن «بين ضِدَّيْن، والآيةُ واقعٌ فيها» لكن «بين متفقين من جهة المعنى» .
قال شهابُ الدِّين «مُرادُهم بالنقيضين: النفيُ والإثبات لفظاً، وإن كانا يتلاقيان في المعنى ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً» .
والانبعاثُ: الانطلاقُ، يقال: بعثتُ البعير فانبعث، وبعثته لكذا فانبعث، أي: نفذ فيه والتَّثْبِيطُ: التَّعْويق، يقالُ: ثَبَّطْتُ زيداً، أي: عُقْتُه عمَّا يريده، من قولهم: ناقة ثَبِطَة أي: بطيئة السير، والمراد بقوله: «اقْعُدُوا» : التَّخْلية، وهو كنايةٌ عن تباطئهم، وأنَّهم تشبهوا بالنساء، والصبيان، والزَّمْنَى، وذوي الأعذار، وليس المرادُ قعوداً؛ كقوله: [البسيط]
2786 - دَعِ المكَارِمَ لا تَقْصِدْ لبُغْيتهَا ... واقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي(10/105)
والمعنى: أنَّه تعالى كره خروجهم مع الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فصرفهم عنه.
فإن قيل: خروجهم مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إمَّا أن يقال إنَّه كان مفسدة، وإمَّا أن يقال إنه مصلحة، فإن كان مفسدة، فلمَ عاتبَ الرسول في إذنه لهم بالقعود؟ وإن كان مصلحة فَلِمَ قال تعالى: إنه كره انبعاثهم وخروجهم؟
والجوابُ: أنَّ خروجهم مع الرَّسولِ ما كان مصلحة؛ لأنَّه تعالى صرَّح بعد هذه الآية بذكر المفاسد بقوله: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} ، بقي أن يقال: فلمَّا كان الأصلح أن لا يخرجوا، فلِمَ عاتب الرسول في الإذن؟ فنقولُ: قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال: ليس في قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قد أذن لهم بالقُعُود، بل يحتمل أن يقال: إنهم استأذنوه في الخروج معه، فأذن لهم، وعلى هذا يسقط السؤال.
قال أبو مسلم «ويدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ خُروجَهُمْ معه كان مفسدةً؛ فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أذن لهم في الخروج معه» ويؤكد ذلك قوله تعالى:
{فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] وقوله تعالى: {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح: 15] فاندفع السُّؤال على طريق أبي مسلم.
والجوابُ على طريقة غيره، وهو أن نسلم أنَّ العتاب في قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] يوجب أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أذن لهم في القعود، فنقولُ: ذلك العتابُ ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة، بل لأجل أنَّ إذنه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك القعود مفسدة، وبيانه من وجوه:
الأول: أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل، ولهذا قال تعالى {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} [التوبة: 43] .
والثاني: أن التقدير أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان يأذن لهم في القعود، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم، ولم يغتَرُّوا بقولهم، فلمَّا أذن الرَّسولُ في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفياً، وفاتت تلك المصالح.
والثالث: أنَّهم لمَّا استأذنوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غضب عليهم وقال: {اقعدوا مَعَ القاعدين} ثم إنَّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا: قد أذن لنا، فقال تعالى: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] أي: لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم.
الرابع: أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، قالوا: إنه إنَّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز؛ لأنهم لمَّا تمكنوا من الوَحْيِ، وكان(10/106)
الإقدامُ على الاجتهاد مع التَّمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النَّص، فلمَّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك.
ثم قال تعالى: {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} . واختلفوا في تأويل هذا القول، فقيل: هو الشيطان على طريق الوسوسة، وقيل: قاله بعضهم لبعضٍ. وقيل: قاله الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، لمَّا أذن لهم في التخلف، فعاتبه الله. وقيل: القائل هو الله تعالى؛ لأنه كره خروجهم؛ لأجل الإفساد، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص. ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} أي: في جيشكم، وفي جمعكم. وقيل: «فِي» بمعنى «مع» أي: معكم.
قوله: «إِلاَّ خَبَالاً» جَوَّزُوا فيه أن يكون استثناء متصلاً، وهو مفرَّغٌ؛ لأنَّ زاد يتعدى لاثنين.
قال الزمخشري المُسْتَثنى منه غيرُ مذكورٍ، فالاستثناءُ من أعمِّ العام، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً، فإنَّ «الخبال» بعض أعمِّ العام، كأنه قيل: «ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً» وجوَّزُوا فيه أن يكون منقطعاً، والمعنى: ما زادوكم قوةً ولا شدةً، ولكنْ خبالاً.
وهذا يجيءُ على قول من قال: إنَّه لم يكن في عسكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خبال، كذا قال أبو حيان. وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا لم يكن في العسكر خبال أصلاً، فكيف يُسْتثنى شيءٌ لم يكن ولم يتوهَّمْ وجوده؟ . وتقدم تفسير «الخبال» في آل عمران. قال الكلبيُّ: إلاَّ شراً وقال يمان: إلاَّ مكراً، وقيل: إلاَّ غيّاً، وقال الضحاك: إلاَّ غَدْراً.
وقرأ ابن أبي عبلة: «ما زادكُمْ إلاَّ خَبَالاً» ، أي: ما زادكم خروجهم.
قوله: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} . الإيضاعُ: الإسراعُ، يقال: أوضع البعيرُ، أي: أسرعَ في سيرهِ؛ قال امرؤ القيس: [الوافر]
2787 - أرَانَا مُوضِعينَ لأمْرِ عَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ
وقال آخر: [منهوك الرجز]
2788 - يَا لَيْتنِي فيهَا جَذَعْ ... أخُبُّ فيها وأضَعْ
ومفعول: «أوْضَعُوا» محذوف، أي: أوضعوا ركائبهم؛ لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي.(10/107)
قال الواحديُّ «قال أكثر أهل اللُّغةِ: إن الإيضاع حمل البعير على العدو، ولا يجوزُ أن يقال: أوضع الرَّجلُ إذا سار بنفسه سَيْراً حثيثاً. يقال: وضع البعيرُ: إذا عدا، وأوضعه الراكب: إذا حمله عليه» .
وقال الفرَّاءُ: «العرب تقول: وضعتْ النَّاقةُ، وأوضع الراكبُ، وربَّما قالوا للرَّاكب: وضَعَ» .
وقال الأخفشُ وأبو عبيد: يجوزُ أن يقال: أوضع الرَّجُلُ: إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد وضع ناقته. روى أبو عبيد أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أفاض من عرفة وعليه السَّكينة وأوضعَ في وادي مُحَسِّر» . قال الواحديُّ «والآية تشهد لقول الأخفشِ وأبي عبيد» والمراد من الآية: السَّعي بينهم بالعداوة والنميمة.
و «الخِلال» جمع «خَلَل» ، وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين. ومنه قوله: {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: 43] ، وقرىء «مِنْ خلله» وهي مخارج صب القطر. ويستعار في المعاني فيقال: في هذا الأمْر خلل.
وقرأ مجاهدٌ، ومحمد بن زيدٍ «ولأوْفَضُوا» ، وهو الإسراع أيضاً؛ من قوله تعالى: {إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] .
وقرأ ابنُ الزبير «ولأرْفَضُوا» بالفراء والفاء والضاد المعجمة، من: رفض، أي: أسرع أيضاً؛ قال حسَّان: [الكامل]
2789 - بِزُجَاجةٍ رفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا ... رَفَضَ القَلُوصِ بِراكبٍ مُسْتعْجِلِ
وقال: [الكامل]
2790 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... والرَّافِضَاتِ إلى مِنى فالغَبْغَبِ
يقال: رَفَضَ في مشيه رفْضاً، ورَفَضاناً.(10/108)
فإن قيل: كتب في المصحفِ «ولاَ أوْضَعُوا» بزيادة ألف. أجاب الزمخشريُّ «أنَّ الفتحة كانت تُكْتَب ألفاً قبل الخطِّ العربي، والخطُّ العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقى من ذلك الألف أثرٌ في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً، وفتحتها ألفاً أخرى، ونحوه {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] . يعني: في زيادة الألف بعد» لا «وهذا لا يجوزُ القراءةُ به ومن قرأ به متعمداً بكفّر» .
قوله: «يَبْغُونَكُمُ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ، من فاعل «أوْضَعُوا» أي: لأَسْرعُوا فيما بينكم، حال كونهم باغين، أي: طالبين الفتنة لكم، ومعنى الفتنة: افتراقُ الكلمة.
قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول «يَبْغُونكُمْ» أو من فاعله، وجاز ذلك؛ لأنَّ في الجملة ضميريهما. ويجوزُ أن تكون مستأنفةً، والمعنى: أنَّ فيكم من يسمع لهم، ويُصْغِي لقولهم.
فإن قيل: كيف يجوزُ ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟
فالجوابُ: لا يمتنع لمنْ قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم، أو يكون بعضهم مجبولاً على الجبن والفشل؛ فيؤثر قولهم فيهم، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساءِ المنافقين فينظرون إليهم بعض الإجلال والتَّعظيم؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد: وفيكم جواسيس منهم، يسمعون لهم الأخبار منكم، فاللاَّمُ على الأوَّلِ للتقوية لكون العامل فرعاً، وفي الثاني للتعليل، أي: لأجلهم. ثم قال تعالى: {والله عَلِيمٌ بالظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات.
فصل
{لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ} . أي: طلبُوا صد أصحابك عن الدِّين وردهم إلى الكُفْرِ، وتخذيل النَّاس عنكَ قبل هذا اليوم، كفِعْلِ عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه. وقال ابنُ جريج: هو أنَّ اثني عشر رجلاً من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة، ليفتكوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} . قرأ مسلمة بن محارب «وقلبُوا» مخففاً. والمرادُ بتقليب الأمر: تصريفه وترديده، لأجل التدبر والتأمل فيه، أي: اجتهدوا في الحيلةِ والكيدِ لك يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل: فلان حُوَّلٌ قلبٌ، أي: يتقلب في وجوه الحيل.
ثم قال تعالى: {حتى جَآءَ الحق} أي: النصرُ والظفرُ.(10/109)
وقيل: القرآن. {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} دين الله. {وَهُمْ كَارِهُونَ} حالٌ، والرَّابط الواو؛ أي: كارهون لمجيء الحق ولظهور أمر الله.(10/110)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} الآية.
{مَّن يَقُولُ ائذن لِّي} كقوله: «يَا صالحُ ائتنا» من أنه يجوزُ تحقيقُ الهمزة، وإبدالها واواً، لضمة ما قبلها، وإن كانت منفصلةً من كلمةٍ أخرى. وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة، وقد كان قبلها همزة وصلٍ سقطت درجاً.
قال أبو جعفرٍ «إذا دخلت» الواو «و» الفاء «على» ائذن «فهجاؤها: ألف وذال ونون، بغير ياء. أو» ثم «فالهجاءُ: ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونونٌ. والفرق: أنَّ» ثُمَّ «يوقف عليها وينفصل، بخلافهما» .
قال شهابُ الدِّين «يعني إذا دخلت واوُ العطف، أو فاؤه، على هذه اللفظة اشتدَّ اتصالهما بها، فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ، فتكتب» فأذَنْ «، و» أذَنْ «فهذه الألف هي صورة الهمزة، التي هي فاء الكلمة» .
وإذا دخلت عليها «ثم» كُتِبَتْ كذا: ثم ائتُوا، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة.
قال شهابُ الدين: وكأنَّ هذا الحُكْمَ الذي ذكره مع «ثم» يختصُّ بهذه اللَّفظة، وإلاَّ فغيرها مما فاؤه همزةٌ، تسقط صورة همزة وصله خطّاً، فيكتب الأمرُ من الإتيان مع «ثم» هكذا: «ثُمَّ أتُوا» ، وكان القياس على «ثُم ائْذَانْ» «ثم ائْتُوا» ، وفيه نظرٌ، وقرأ عيسى بن عمر، وابن السَّميفع، وإسماعيل المكي، فيما روى عنه ابن مجاهد «ولا تُفْتِنِّي» بضم حرف المضارعة، من «أفتنه» رباعياً. قال أبُو حاتم «هي لغة تميمٍ» وقيل: أفتنه: أدخله فيها، وقد جمع الشاعر بين اللغتين، فقال: [الطويل](10/110)
2791 - لَئِنْ فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمْسِ أفْتَنَتْ ... سَعِيداً فأمْسَى قَدْ قَلاَ كُلَّ مُسْلِمِ
ومتعلق «الإذن» : القعودُ، أي: ائذن لي في القعود والتخلف عن الغزو، ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك. أي: لا تهلكني بخروجي معك، فإنَّ الزمانَ شديد الحرّ، ولا طاقة لي به. وقيل: لا تفتنيِّي؛ لأنِّي إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي، وقيل: نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا تجهَّز لغزو تبوك، قال له: «يا أبا وهب، هل كل في جلاد بني الأصفر؟ يعني: الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء» فقال جدُّ: يا رسول الله، لقد عرف قومي أني رجل مغرمٌ بالنِّساءِ، وإنِّي أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألاَّ أصبر عنهنَّ، ائذن لي في القعود، ولا تفتنِّي بهنّ، وأعينكم بمالي.
قال ابن عباسٍ: «اعتلَّ جدُّ بن قيس، ولم تكن علته إلا النفاق، فأعرض عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:
«قد أذنت لك» ، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي} الآية.
قوله: {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} أي: في الشّرك والإثم وقعوا بنفاقهم، وخلافهم أمر الله ورسوله.
وفي مصحف أبي «سَقَطَ» لأنَّ لفظة «مِنْ» موحد اللفظ، مجموع المعنى، وفيه تنبيه على أنَّ مَنْ عصى الله لغرض، فإنَّهُ تعالى يبطل عليه ذلك الغرض؛ لأنَّ القوم لمَّا اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، بيَّن اللهُ تعالى أنهم واقعون ساقطون في عينِ الفتنة - ثم قال {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} مطبقة عليهم.
قوله: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} نصر وغنيمة «تَسُؤهُمْ» تُحزنهم، يعني المنافقين {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} نكبة وشدة ومكروه، يفرحوا، و {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} أي: حذرنا، «ويتَولَّوا» يدبروا عن مقام التحدث بذلك إلى أهليهم {وَّهُمْ فَرِحُونَ} مسرورون.
ونقل عن ابن عبَّاسٍ «أنَّ الحسنة في يوم بدرٍ، والمصيبة في يوم أحدٍ، فإن ثبت أنَّ المراد هذا بخبر وجب المصير إليه، وإلاَّ فالواجب حمله على كل حسنة، وعلى كل مصيبة» .(10/111)
قوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ} قال عمر بن شقيق: سمعت «أعين» قاضي الرَّيِّ يقرأ «لن يُصيبنَّا» بتشديد النون.
قال أبُو حاتم: ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ النُّونَ لا تدخلُ مع «لَنْ» ، ولو كانت لطلحة بن مصرف، لجاز، لأنها مع «هل» ، قال الله تعالى {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] .
يعني أبو حاتم: أنَّ المضارع يجوز توكيده بعد أداة الاستفهام، وابن مصرف يقرأ «هَلْ» بدل «لَنْ» ، وهي قراءة ابن مسعود. وقد اعتذر عن هذه القراءة بأنَّها حملت «لن» على «لم» و «لا» النافيتين، و «لم» و «لا» يجوز توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما.
أمَّا «لا» فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال. وأما «لم» فقد سمع ذلك فيها؛ وأنشدوا: [الرجز]
2792 - يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا ... شَيْخاً عَلَى كُرسيِّهِ مُعَمَّمَا
أراد: «يَعْلمَنْ» فأبدل الخفيفة ألفاً بعد فتحة، كالتنوين. وقرأ القاضي أيضاً، وطلحة «هَلْ يُصَيِّبنا» بتشديد الياء. قال الزمخشريُّ: ووجهه أن يكون «يُفَيْعِل» لا «يُفَعِّل» لأنَّهُ من ذوات الواو، كقولهم: الصَّواب، وصَابَ يَصوبُ، ومَصَاوب، في جمع «مصيبة» فحقُّ «يُفَعِّل» منه «يُصَوِّب» ، ألا ترى إلى قولهم: صوَّب رأيه، إلاَّ أن يكون لغة من يقول: صَابَ السَّهْمُ يصيبُ؛ كقوله: [المنسرح]
2793 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... أسْهُمِيَ الصَّائِبَاتُ والصُّيُبُ
يعني: أن أصله «يُصَوْيب» فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغم فيها.
وهذا كما تقدم في «تَحَيَّزَ» أنَّ أصله «تَحَيْوزَ» ، وأمَّا إذا أخذناه من لغة من يقول: صَاب السَّهم يصيب، فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة «فَعَّلط.
فصل
المعنى: قل لهم يا محمد {لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي: علينا، وقدره في اللوح المحفوظ، أو يكون المعنى» لنْ يُصيبنَا إلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنَا «أي: في عاقبة أمرنا من(10/112)
الظفر بالعدو، والاستيلاء عليهم. وقال الزجاج: المعنى: إذا صرنا مغلوبين، صرنا مستحقين للأجر العظيم، والثَّواب الكثير، وإن صرنا غالبين، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير، والثناء الجميل في الدنيا والصحيح الأول.
ثم قال:» هُوَ مَوْلاَنَا «ناصرنا، وحافظنا. قال الكلبي» هو أوْلَى بنا من أنفسنا، في الحياة والموت «. {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك، وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية الفانية.
فصل
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} الآية.
هذا الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين، أي:» هَلْ تَربَّصُونَ «، أي: تنتظرون،» بنا «أيها المنافقون، {إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} إمَّا النصر والغنيمة، فيحصل لنا الفوز بالأموال في الدنيا والنصر، والفوز بالثواب العظيم في الآخرة، وإمَّا الشهادة، فيحصل لنا الثواب العظيم في الآخرة.
قوله: {إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} مفعول» تربَّص «، فهو استثناء مفرغ. وقرأ ابن محيصنٍ:» إلاَّ احدى «بوصل ألف» إحدى «؛ إجراءً لهمزة القطع مجرى همزة الوصل؛ فهو كقول الشاعر: [الرجز]
2794 - إنْ لَمْ أقَاتِلْ فالبسُونِي بُرقَعَا ... وقول الآخر: [الكامل]
2795 - يَا بَا المُغيرةَ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ ... فرَّجْتهُ بالمكْرِ مِنِّي والدَّهَا
قوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى السوأتين إمَّا {أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} فيهلككم كما أهلك تلك الأمم الخالية، {أَوْ بِأَيْدِينَا} أي: بأيدي المؤمنين، إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق، فيقع بكم القتلِ والنَّهب مع الخزي والذلّ، ومفعول: التربص» أَن يُصِيبَكُمُ «ثم قال:» فتربصوا «أي: إحدى الحالتين الشريفتين {إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} أي: مواعيد الله من إظهار دينه، واستئصال من خالفه، فقوله:» فتربصوا «وإن كان صيغة أمر، إلاَّ أنَّ المراد منه: التهديد، كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] .
قوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْها} الآية.
» طوعاً، أو كرهاً «مصدران في موضع الحال، أي: طائعين، أو كارهين. وقرأ(10/113)
الأخوان» كُرهاً «بالضَّمِّ، وقد تقدم تحقيقُ ذلك في النساء. وقال أبُو حيان هنا:» قرأ الأعمش وابن وثاب «كُرهاً» بضم الكاف «. وهذا يُوهم أنَّها لم تُقْرأ في السبعة. قال الزمخشري: هو أمرٌ في معنى الخبر، كقوله:
{فَلْيَمْدُدْ
لَهُ
الرحمن
مَدّاً} [مريم: 57] ، ومعناه لن يُتقبَّل منكم؛ أنفقتم طوعاً أو كرهاً، ونحوه قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] ؛ وقول كثير عزة: [الطويل]
2796 - أسيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَة..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
أي: لن يغفر اللهُ، استغفرت لهم، أو لم تستغفر. ولا نلومُكِ أحسنتِ إلينا، أم أسَأتِ؛ وفي معناه قول القائل: [الطويل]
2797 - أخُوكَ الذي إنْ قُمْتَ بالسَّيفِ عَامِداً ... لِتضْربَهُ لَمْ يَسْتغشَّكَ في الوُدِّ
وقال ابن عطيَّة «هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ، والتقدير: إنْ تنفقوا لن يُتقبَّل منكم. وأمَّا إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس يصحبه تضمُّنُ الشَّرط» قال أبُو حيَّان «ويقَدْح في هذا التَّخريجِ، أنَّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط، كان الجواب كجواب الشرط. فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب:» فلن يتقبل «بالفاء، لأنَّ» لَنْ «لا تقعُ جواباً للشَّرط إلاَّ بالفاء فكذلك ما ضُمِّنَ معناه؛ ألا ترى جزمه الجواب، في قوله: اقصد زيداً يُحْسِنْ إليكَ» .
قال شهابُ الدِّينِ «إنَّما أراد أبو محمد تفسير المعنى، وإلا فلا يجهلُ مثل هذه الواضحات، وأيضاً فلا يلزمُ أن يعطى الأمر التقديري حكم الشَّيء الظاهر من كل وجه» .
وقوله: «إنَّكمُ» وما بعده جارٍ مجرى التعليل. وقوله: {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} يحتملُ أن يكون المراد أن الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يتقبل تلك الأموال منهم، ويحتملُ أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله تعالى.
قيل: نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود، وقال: أعينكم بمالي، والمرادُ بالفسق هنا: الكفر، لقوله بعده {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} [التوبة: 54] .(10/114)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} الآية.
«أنْ تُقْبَلَ» فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول ثانٍ، ل «مَنَعَ» إمَّا على تقدير إسقاطِ حرف الجر، أي: من أن يقبل، وإمَّا لوصول الفعل إليه بنفسه؛ لأنَّك تقول: منعتُ زيداً حقَّه ومن حقه. والثاني: أنَّهُ بدلٌ من «هم» في: «مَنَعَهُمْ» ، قاله أبو البقاءِ، كأنَّهُ يريد: بدل الاشتمال، ولا حاجة إليه. وفي فاعل «مَنَعَ» وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ} أي: ما منعهم قبول نفقتهم إلاَّ كفرهم.
والثاني: أنَّهُ ضمير الله تعالى: أي وما منعهم الله، ويكون «إِلاَّ أَنَّهُمْ» منصوباً على إسقاط حرف الجر، أي: لأنَّهم كفروا. وقرأ الأخوان «أن يُقْبَلَ» بالياءِ من تحت. والباقون بالتَّاء من فوق. وهما واضحتان، لأنَّ التأنيث مجازي. وقرأ زيد بن علي كالأخوين إلاَّ أنَّه أفرد النفقة. وقرأ الأعرج «تُقبل» بالتاء من فوق، «نَفَقَتهُم» بالإفراد. وقرأ السُّلمي «يَقْبل» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى. وقرىء «نَقْبل» بنون العظمة، «نفقتهم» بالإفراد.
فصل
ظاهر اللفظ يدل على أنَّ منع القبول معلل بمجموع الأمور الثلاثة، وهي الكفر بالله ورسوله، وإتيان الصَّلاة وهم كسالى، والإنفاق على سبيل الكراهية.
ولقائل أن يقول: الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبولِ، فلا يبقى لغيره أثر، فكيف يمكن إسناد الحكم إلى السببين الباقيين؟ .(10/115)
وجوابه: أنَّ هذا الإشكالِ إنما يتوجَّهُ على قول المعتزلةِ، حيث قالوا: إنَّ الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم، أما عند أهْلِ السُّنَّةِ: فإنَّ شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً وإنَّما هي معرفات، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز.
فصل
دلَّت الآية على أنَّ شيئاً من أعمال البر لا يقبل مع الكفر بالله تعالى.
فإن قيل: كيف الجمع بينه وبين قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ؟ فالجوابُ: أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقابِ، ودلت الآية على أنَّ الصلاة تجب على الكافر، لأنه تعالى ذمَّ الكافر على فعل الصَّلاة على وجه الكسل.
قال الزمخشريُّ «كُسَالَى» بالضمِّ والفتح جمع: «كَسْلان» نحو «سَكَارى» . قال المفسِّرون: معنى هذا الكسل، أنَّهُ إن كان في جماعة صلَّى، وإن كان وحده لم يصلِّ.
وقوله: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} أي: لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة.
قوله تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} الآية.
لمَّا قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بيَّن ههنا أنَّ الأشياء التي يظنونها من منافع الدنيا؛ فإنه تعالى جعلها أسباباً لتعذيبهم في الدُّنيا.
والإعجاب: هو السرور بالشَّيء من نوع الافتخار به، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه. قوله {فِي الحياة الدنيا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ ب «تُعْجِبْكَ» ، ويكون قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ} جملة اعتراض، والتقدير: فلا تعجبك في الحياةِ، ويجوز أن يكون الجارُّ حالاً من «أمْوالُهُمْ» وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهد، وقتادة، والسدي وابن قتيبة، قالوا في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم، ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنَّما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
قال أبو حيان: «إلاَّ أنَّ تقييد الإعجاب المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنَّه لا يكون إلاَّ في الحياة الدُّنيا، فيبقى ذلك كأنَّهُ زيادة تأكيد بخلاف التَّعذيب، فإنَّه قد يكون في الدنيا، كما يكون في الآخرة، ومع أنَّ التقديم والتأخير يخصُّه أصحابنا بالضرورة» .(10/116)
قال شهابُ الدين: «كيف يقال - مع نصِّ من قدَّمتُ ذكرهم - أصحابنا يخصُّون ذلك بالضَّرورة؟ على أنه ليس من التقديم الذي يكون في الضرورة في شيءٍ، إنَّما هو اعتراض، والاعتراض لا يقال فيه تقديم وتأخير، بالاصطلاح الذي يخصُّ بالضرورة. وتسميتهم - أعني: ابن عباس، ومن معه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إنَّما يريدون به الاعتراض المشار إليه، لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة» .
والثاني: أنَّ «فِي الحياةِ» متعلقٌ بالتعذيب، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ: مصائبُ الدُّنيا ورزاياها أو ما لزمهم من التكاليف الشَّاقة، فإنَّهم لا يرجون عليها ثواباً، قاله ابنُ زيد: أو ما فُرِض عليهم من الزكوات، قاله الحسنُ. وعلى هذا فالضميرُ في «بها» يعود على الأموال فقط، وعلى الأول يعود على «الأولاد، والأموال» .
فإن قيل: أيُّ تعذيب في المال والولد وهما من جملة النّعم؟ .
فالجوابُ: على القول الأول بالتقديم والتأخير، فالسؤالُ زائل. وعلى الثاني المصائب الواقعة في المال والولد. وقيل: بل لا بدَّ من تقدير حذف، بأن يقال: أراد بالتعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب، أمَّا في الدُّنيا، فإن من أحب شيئاً كان تألمه على فراقه شديداً، وأيضاً يحتاج في تحصيلها إلى تعب شديد، ومشاقّ عظيمة، ثم في حفظها كذلك، وأمَّا في الآخرة فالأموال حلالها حساب، وحرامها عذابٌ.
فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكلِّ، فما فائدة تخصيص المنافقين؟ .
فالجوابُ: أن المنافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فلا ينفق ماله في سبيل الله لأنَّهُ يراه ضياعاً لا يرجو ثوابه، وأما المؤمن فينفق ماله طيبة بها نفسه، يرجو الثواب في الآخرة والمنافق لا يجاهدث في سبيل الله خوفاً من أن يقتل، والمؤمن يُجَاهدُ، يرجو ثواب الآخرة ثم قال: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي: تخرجُ أنفسهم وهم كارهون.
أي: يموتون على الكفر.
قوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} على دينكم {وَمَا هُم مِّنكُمْ} أي: ليسوا على دينكم {ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا.
قوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ} . «المَلْجَأ» : الحِصْن. وقال عطاءٌ: المَهْرب وقيل: الحِرْز وهو «مَفْعَل» ، مِنْ: لَجَأ إليه، يلجأ، أي: انحاز. يقال: ألجَأتُهُ إلى كذا أي: اضطررته إليه فالتَجَأ. و «الملجأ» يصلحُ للمصدر، والزمان، والمكان. والظَّاهرُ منها - المكان. و «المغارات» جمع «مغارة» ، وهي الموضع الذي يغور(10/117)
الإنسان فيه، أي: يستقر. وقال أبُو عبيدٍ: كل شيءٍ جزتَ فيه فغبتَ فهو مغارة لك، ومنه: غار الماء في الأرض، وغارت العين. وهي مفعلة، مِنْ: غَارَ يغُورُ، فهي كالغَار في المعنى. وقيل: المغارة: السِّرْب، كنفق اليربوع.
والغار: النَّقْبُ في الجبل. والجمهورُ على فتح ميم «مغارات» . وقرأ عبدُ الرحمن بن عوف «مُغارات» بالضم، وهو من: أغار، و «أغار» يكون لازماً، تقول العربُ: «أغار» بمعنى «غار» أي: دخل. ويكون متعدّياً، تقول العرب: أغرت زيداً، أي: أدخلته في الغار، فعلى هذا يكون من «أغار» المتعدِّي، والمفعول محذوف، أي: أماكنُ يغيرون فيها أنفسهم، أي: يُغَيِّبُونها. و «المُدَّخل» : «مُفْتَعَل» مِنَ: الدخول، وهو بناء مبالغة في هذا المعنى، والأصل: «مُدْتَخل» فأدغمت «الدال» في «تاء» الافتعال ك: «ادَّانَ» من «الدَّين» . وقرأ قتادة، وعيسى بن عمر، والأعمش «مُدَّخَّلاً» بتشديد الدال والخاء معاً. وتوجيهها أن الأصل «مُتدَخَّلاً» ، من: تدخَّل «بالتَّضعيف، فلمَّا أدغمت التاء في الدال صار اللفظ» مُدخَّلاً «نحو» مُدَّيَّن «من» تَديَّن «.
وقرأ الحسنُ أيضاً، ومسلمةُ بن محاربٍ، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وابن كثير، في رواية» مَدْخَلاً «بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة، مِنْ» دخل «. وقرأ الحسنُ في رواية محبوب كذلك، إلاَّ أنه ضمَّ الميم، جعله من» أدخل «. وهذا من أبدع النَّظم، ذكر أولاً الأمر الأعم، وهو» الملجأ «من أي نوع كان، ثم ذكر الغيران التي يُخْتفى فيها في أعلى الأماكن، وهي الجبالُ، ثم ذكر الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة، وهي السُّروب، وهي التي عبَّر عنها ب» المُدَّخل «. وقال الزجاج: يصحُّ أن تكون» المغارات «من قولهم:» حَبل مُغار «أي: محكم الفتل، ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم فيجيء التأويل على هذا: لو يجدون نصرة، أو أموراً مشددة مرتبطة تعصمهم منكم وجعل» المُدَّخَل «أيضاً قوماً يدخلون في جملتهم.
وقرأ أبي «مُنْدَخَلاً» بالنون بد الميم، من «انْدخَلَ» ؛ قال: [البسيط]
2798 - ... ... ... ... ... ... ... . ... ولا يَدِي في حَميتِ السَّمْنِ تَنْدخِلُ(10/118)
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه، وقال: إنَّما هي بالتاء، وهو معذورٌ، لأنَّ «انفعل» قاصر لا يتعدى، فكيف يبنى منه اسم مفعول؟ وقرأ الأشهب العقيلي «لوالَوْا» ، أي: لتتابعوا وأسرعوا وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل، عن أبيه، عن جده وكانت له صحبة من الموالاة. وهذا مما جاء فيه «فعَّل» ، و «فاعل» بمعنى، نحو: ضَعَّفْتُه، وضَاعَفْتُه.
قال سعيد بن مسلم: أظنها «لَوألُوا» بهمزة مفتوحة بعد الواو، من «وأل» ، أي: التجأ وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري عن أبيّ، وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء. و «الجُموح» النُّفُور بإسراع؛ ومنه: فرس جمُوحٌ، إذا لم يرُدَّهُ لِجَامٌ؛ قال: [المتقارب]
2799 - سَبُوحاً جَمُوحاً وإحْضَارُهَا ... كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُوقَدِ
وقال آخر: [البسيط]
2800 - وقد جَمَحْتُ جِمَاحاً في دِمَائِهِمُ ... حتَّى رأيتُ ذوي أحْسابِهِمْ جَهَزُوا
وقرأ أنس بن مالك، والأعمش: يَجْمِزُون. قال ابن عطية يُهرولُونَ في مَشيهمْ وقيل: يَجْمِزُونَ، ويَجْمَحُونَ، ويشتدُّون بمعنى «.
وفي الحديث:» فلمَّا أذْلقَتهُ الحجارةُ جَمَزَ «وقال رؤبة: [الرجز]
2801 - إمَّا تَرَيْنِي اليومَ أمَّ حَمْزٍ ... قَاربْتُ بين عَنقي وجمْزِي
ومنه» يَعْدُو الجَمَزَى «وهو أن يجمع رجليه معاً، ويهمز بنفسه، هذا أصله في اللغة وقوله:» إليهِ «عاد الضميرُ على» الملجأ «أو على» المُدَّخل «، لأنَّ العطف ب» أوْ «، ويجوز أن يعود على» المغارات «لتأويلها بمذكر. ومعنى الآية: أنهم لو يجدون مخلصاً منكم أو مهرباً لفارقوكم.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} الآية.
قرأ العامة» يَلْمِزُكَ «بكسر الميم، من: لَمَزه يَلْمِزه، أي. عابه، وأصله: الإشارة بالعين ونحوها.(10/119)
قال الأزهري أصله: الدفع، لَمَزتُهُ دفعته وقال الليث هو الغمز في الوجه ومنه: هُمزةٌ لُمَزَة. أي: كثيرُ هذين الفعلين. وقال أبو بكر الأصم» اللَّمز: أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه. والهمز: أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه «. وقرأ يعقوب، وحماد بن سلمة عن ابن كثير، والحسن، وأبو رجاء، ورويت عن أبي عمرو بضمها، وهما لغتان في المضارع. وقرأ الأعمش» يُلْمِزُكَ «مِنْ» الْمَز «رباعياً. وروى حماد بن سلمة» يُلامِزُكَ «على المفاعلة من واحدٍ، ك: سافرَ، وعاقب.
هذا شرح نوع آخر من طباعهم وأفعالهم، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات، ونزلت في ذي الخويصرة التميمي، واسمه: حرقوص بن زهير، أصل الخوارج.
قال أبو سعيد الخدري بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم مالاً إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي، وقال: يا رسول الله اعدل، فقال: «ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟» فنزلت هذه الآية.
وقال الكلبي: قال رجل من المنافقين ويقال له: أبو الجواظ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتزعم بأن الله أمرك بأن تضع صدقات في الفقراء والسماكين، فلم تعضها في رعاة الشاء؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا أبا لك، فإنما كان موسى راعياً وإنما كان داود راعياً» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما ذهب قال عليه السلام: «احذروا هذا وأصحابه، فإنهم منافقون» .
وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه عليه السلام قال لرجل من أصحابه: «ما علمك بفلان؟» قال ما لي به علم إلا أنك تدينه في المجلس وتجزل له العطاء، فقال عليه السلام: «إنه منافق أداريه عن نفاقه، وأخاف إفساده.»
قال ابن عباس «يلمزك» : يغتابك، وقال قتادة: يطعن عليك، وقال الكلبي: يعيبك في أمرٍ ما، قال أبو علي الفارسي: هنا محذوف والتقدير: يعيبك في تفريق الصدقات فإن أعطوا كثيراً فرحوا، وإن أعطوا قليلاً فإذا هم يسخطون. وقد تقدم الكلام(10/120)
على «إذا» الفجائية، والعامل فيها. قال أبو البقاء: «يسخطون» لأنه قال: إنها ظرف مكان، وفيه نظر تقدم نظيره.
قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ} . الظاهر أنَّ جواب «لَوْ» محذوفٌ، تقديره: لكان خيراً لهم.
وقيل: جوابها «وقالوا» ، والو مزيدةٌ، وهذا مذهبُ الكوفيين. والمعنى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ} ما نحتاج إليه {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ} هاتانِ الجملتان كالشَّرح لقولهم: «حَسبُنَا اللهُ» ، فلذلك لم يتعاطفا، لأنَّهُمَا كالشَّيء الواحد، فشدَّه الاتصال منعت العطف.(10/121)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قوله تعالى: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} الآية.
اعلم أنَّ المنافقين لمَّا لمزوا الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الصدقات، بيَّن لهم أنَّ مصرف الزكاة هؤلاء، ولا تعلق لي بها، ولا آخذ لنفسي نصيباً منها.
وقد ذكر العلماء في الحكمة في وجوب الزكاة أموراً:
منها: قالوا: شكر النِّعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم، والزكاة شكر النعمة. فوجب القولُ بوجوبها؛ لأنَّ شكر المنعم واجب.
ومنها: أنَّ إيجاب الزكاة توجب حصول الألفة بالمودَّة، وزوال الحقد والحسد بين المسلمين فهذه وجوهٌ معتبرةٌ في الحكمة الناشئة لوجوب الزَّكاة.
ومنها: أنَّ الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان عطَّله عن المقصود(10/121)
الذي لأجله خلق المالُ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى، وهو غير جائز، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتَّى لا تتعطل تلك الحكمة.
ومنها: أنَّ الفقراء عيالُ الله، لقوله تعالى {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] والأغنياء خزان الله؛ لأنَّ الأموال التي في أيديهم لله تعالى، ولولا أن الله ألقاها في أيديهم، لما ملكوا منها حبة واحدة.
ومنها: أنَّ المال بالكليَّة في يد الغني مع أنَّه غير محتاج إليه، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكليَّة، لا يليقُ بحكمة الرحيم؛ فوجب أن يجب على الغنيّ صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير.
ومنها: أنَّ الأغنياء لو لم يقوموا بمهمات الفقراء ربّما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين، أو على الإقدامِ على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها؛ فإيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة؛ فوجب القول بوجوبها وقيل غير ذلك.
فصل
كلمة «إنَّما» للحصر، فدلَّت على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلاَّ لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه، ويدلُّ على أنَّ كلمة «إنَّما» للحصر؛ لأنها مركبة من «إن» و «ما» ، و «إن» للإثبات و «ما» للنفي «، واجتماعهما يوجب بقاءهما على ذلك المفهوم، وكذلك تمسَّك ابنُ عبَّاسٍ في نفي ربا الفضل بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» إنَّما الرِّبَا في النَّسيئَةِ «، وتمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» إنما الماءُ من الماءِ «، ولولا إفادتها الحصر، لما كان كذلك، وقال تعالى {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} [النساء: 171] فدلَّت على نفي إلهية الغير؛ وقال الأعشى: [السريع]
2802 - ولسْتَ بالأكْثَرِ منهُم حَصًى ... وإنَّما العِزَّةُ لِلكَاثِرِ
وقال الفرزدق: [الطويل](10/122)
2803 - أنَا الذَّائدُ الحَامِي الذِّمارَ وإنَّما ... يدافعُ عنْ أحسابهِمْ أنَا أوْ مِثْلِي
فدلَّت هذه الوجوه على أنَّ كلمة» إنَّما «للحصر.
وروى زياد بن الحارث الصُّدانئي قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصَّدقة فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
«إنَّ اللهَ لَمْ يرضَ بحُكْم نبي، ولا غيره في الصَّدقاتِ حتَّى حكم فيها فجَزَّأها ثمانيةَ أجزاء، فإنْ كنتَ من تلكَ الأجزاءِ أعطيتُك حقَّك» .
فصل
مذهب أبي حنيفة: أنه يجوز صرف الصَّدقة إلى بعض الأصناف، وهو قول عمر وحذيفة، وابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والنخعي. قال سعيدُ بن جبير: لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقرأ متعففين فحبوتهم بها كان أحب إليَّ وقال الشافعي لا بُدَّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قوك عكرمة، والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بظاهر الآية. قال ولا بدَّ في كلِّ صنف من ثلاثة، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث، وهو ثلث سهم الفقراءِ قال: ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية، مثاله لو وجد خمسة أصناف، ولزمه أن يتصدَّق بعشرة دراهم؛ لزمه أن يجعل العشرة خمسة أسهم.
واختلفوا في صفة الفقير والمسكين، فقال ابن عباسٍ، والحسنُ، ومجاهدٌ، وعكرمةُ والزهريُّ: الفقير: الذي لا يسأل، والمسكين: السَّائل. قال ابن عمر: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة، ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على شيء: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} [البقرة: 273] .(10/123)
وقال قتادة: الفقير: المحتاج الزَّمِنُ، والمسكين: الصحيح المحتاج. وروي عن عكرمة الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الكتاب. وقال الشافعي الفقير من لا مال ولا حرفةَ تقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن، والمسكين من له مال أو حرفة لا تغنيه سائلاً كان أو غير سائل.
واستدل بقوله: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] فأثبت لهم ملكاً، وكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يتعوذ من الفقر، وقال: كاد الفقرُ أن يكون كُفْراً. وكان يقول: اللَّهُمَّ أحْيِني مِسْكيناً وأمِتْنِي مسْكِيناً، فكيف كان يتعوذ من الفقر، ويسأل ما هو دونه وهذا تناقض؟
وقال أصحاب الرأي: الفقيرُ أحسن حالاً من المسكين. وقيل: الفقير من له المسكن والخادم والمسكين من لا ملك له، وقالوا كل محتاج إلى شيء فهو فقير إليه، وإن كان غنياً عن غيره قال تعالى: {يا أيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله} [فاطر: 15] ، والمسكين المحتاج إلى كلِّ شيءٍ ألا ترى كيف حضَّ على طعامه، وجعل طعام الكفارة له، ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة.
وقال إبراهيمُ النخعيُّ: الفقراء هم المهاجرون، والمسكين من لم يهاجر، وقيل: لا فرق بين الفقراء والمساكين فالله تعالى وصفهم بهذين الوصفين، والمقصود شيءٌ واحد، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة: وهي أنَّه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين، فالذين قالوا: الفقراء غير المساكين، قالوا: لفلان الثلث، والذين قالوا: الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف.
واختلفوا في حدِّ الغني الذي يمنع أخذ الصَّدقة، فقال الأكثرون: حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أصحاب الرأي: حدُّه أن يملك مائتي درهم. وقيل: من ملك خمسين درهماً، لا يحلُّ له أخذ الصدقة. روي أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ سَألَ النَّاسَ ولهُ ما يُغْنِيه جاء يوم القيامةِ ومسْألتُهُ في وجهه خُموش أو خُدُوش. قيل: وما يُغنيهِ؟ قال:» خَمْسُونَ دِرْهماً أو قيمتها(10/124)
من الذَّهب «، وهو قول الثوري، وابن المباركِ، وأحمد وإسحاق وقالوا: لا يجوزُ أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين، وقيل: أربعون درهماً لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» مَنْ سَأل ولهُ أوقيةٌ أو عَدْلُهَا فقدْ سَألَ إلْحَافاً «.
قوله: {والعاملين عَلَيْهَا} وهم السُّعاةُ لجباية الصدقة، يعطون بقدر أجور أمثالهم.
وقال مجاهدٌ والضحاكُ: يعطون الثمن، ولا يجوزُ أن يكُون العاملُ على الصدقة هاشمياً ولا مطلبياً؛ لأنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أبَى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصَّدقاتِ وقال: أما علمت أن مولى القومِ منهم.
قوله: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} قال ابنُ عباسٍ: هم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم حنين، وكانوا خمسة عشر رجلاً: أبُو سفيانَ، والأقرعُ بنُ حابسٍ، وعيينةُ بن حصنٍ، وحويطبُ بنُ عبد العزى، وسهلُ بنُ عمرو من بني عامر، والحارثُ بنُ هشام، وسهيلُ بن عمرو الجهنيُّ، وأبُو السنابل، وحكيم بن حزامٍ، ومالكُ بن عوف وصفوانُ ابنُ أمية، وعبد الرحمن بنُ يربوع، والجدُّ بنُ قيس، وعمرو بنُ مرداس، والعلاءُ بنُ الحرث،» أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلَّ رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام، إلاَّ عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل، وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل، فقال: يا رسول الله ما كنت أرى أنَّ أحداً من النَّاس أحق بعطائك مني فزاده عشرة، وهكذا حتى بلغ مائة، ثم قال حكيمٌ: يا رسول الله، أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها؟ فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: بل التي رغبت عنها، فقال: والله لا آخذ غيرها «فقيل: مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً، وشقَّ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلك العطايا، لكن ألفهم بذلك. قال ابنُ الخطيبِ: وهذه العطايا إنَّما كانت يوم حنين، ولا تعلق لها بالصدقات، ولا أدري لأي سبب ذكر ابنُ عبَّاسٍ هذه القصة في تفسير هذه الآية وإنَّما ذكر ابنُ عباسٍ ذلك بياناً للمؤلَّفة من هم، فذكر ذلك مثالاً.
واعلم أنَّ المؤلفة قسمان، مسلمون وكفار، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام، أو خشية من شرهم، كما أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام.
قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة.
واعلم أنَّ المؤلفة قسمان، مسلمون وكفار، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام، أو خشية من شرهم، كما أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام.
قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة.(10/125)
وقال جماعةٌ من أهل العلم: إنَّ المؤلفة منقطعة، وسهمهم ساقط، روي ذلك عن عمر وهو قول الشعبي، وبه قال مالكٌ، والثوريُّ، وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه وقال قومٌ: سهمهم ثابت مروي ذلك عن الحسنِ، وهو قول الزهري، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي ثور، وقال أحمدُ: يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك.
قوله: وفِي الرقابِ قال الزجاجُ فيه محذوف، والتقديرُ: «وفي فك الرقاب» وقد تقدم الكلامُ في تفسير «الرقاب» في قوله: {والسآئلين وَفِي الرقاب} [البقرة: 177] . ثمَّ في تفسير «الرقاب» أقوال:
أحدها: أنَّهم المكاتبون ليعتقوا من الزكاة، وقال مالكٌ وغيره: إنه لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب؛ لأن قوله: {وَفِي الرقاب} يقتضي أن يكون له فيه مدخل، وذلك يُنَافِي كونه تاماً فيه، وقال الزهريُّ: سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين المسلمين، ونصفٌ يشترى به رقاب ممَّن صلوا وصاموا.
قال بعض العلماء: والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السَّيد بإذن المكاتب؛ لأنَّه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدم ذكرهم بلام التمليك بقوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} ولمَّا ذكر «الرقاب» أبدل حرف اللام بحرف «في» فقال: «وفِي الرِّقابِ» فلا بدَّ لهذا الفرق من فائدة، وهي أنَّ الأصنافَ الأربعة يدفع إليهم نَصِيبُهُمْ. وأما الباقون فيصرف نصيبهم في المصالح المتعلقةِ بهم لا إليهم.
قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ عدل عن اللاَّمِ إلى» فِي «في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنَّهم أرسخُ في استحقاقِ التصدُّق عليهم ممَّن سبق ذكرهُ؛ لأنَّ» في «للوعاء، فنبَّه على أنهم أحقاءُ بأن توضع فيهم الصدقات وجعله مظِنَّة لها ومصَبّاً» .
ثم قال: «وتكرير» في «في قوله: {وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل} فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين» .
قوله: والغَارمينَ قال الزجاجث: أصل الغرم في اللغةِ: لزوم ما يشق، والغرام العذاب اللاَّزم، وسمي العشق غراماً، لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له، ومنه: فلان مغرم بالنِّساءِ إذا كان مولعاً بهنَّ، وسمي الدَّين غراماً، لكونه شاقاً، والمرادُ بالغارمين المديونون، فالدِّيْنُ إن حصل بسبب معصيةٍ لا يدخلُ في الآية؛ لأنَّ المقصود من صرف المال إليه الإعانة، والمعصية لا تستوجب الإعانة، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان: دينٌ حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة، ودين بسبب حمالات وإصلاح ذات بين، والكل داخل في الآية.
روى الأصمُّ في تفسيره «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة: لا(10/126)
نملك الغرَّة يا رسول الله، فقال لحمل بن مالك بن النَّابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم» وكان حمل على الصدقة يومئذ.
قوله: {فِي سَبِيلِ الله} قال المفسِّرون: يعني الغزاة، قال أكثرُ العلماء: يجوز له أن يأخذ من الزَّكاة وإن كان غنياً. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلاَّ مع الحاجة.
ونقل القفالُ في تفسيره عن بعض العلماء أنَّهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ الله} عام في الكل وقال أكثر أهل العلم: لا يعطى منه شيء في الحج. وقال قومٌ: يجوزُ أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن، وأحمد، وإسحاق.
قوله: {وابن السبيل} وهو كل من يريدُ سفراً مباحاً ولم يكن له ما يقطعُ به المسافة يعطى له قدر ما يقطع به تلك المسافة، وإن كان ذا يسار في بلده. وقال قتادةُ: ابن السبيل: هو الضعيف وقال فقهاءُ العراقِ: ابن السبيل: الحاج المنقطع.
واعلم أنَّ مال الزَّكاة لا يخرج عن هذه الثمانية. واختلفوا هل يجوزُ وضعه في بعض الأصناف؟ إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف، فإنَّما يجوز في غير العامل، فأمَّا وضعه بالكليَّةِ في العامل فلا يجوز بالاتفاق.
فإن قيل: ما الحكمةُ في أنه تعالى ذكر الأصناف الستة وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون والمؤلفة، والرقاب، والغارمون، بصيغة الجمع، وذكر الصنفين الآخرين، وهما: في سبيل الله وابن السبيل بصيغة الإفراد؟
فالجوابُ: أنَّ المراد بهما الجنس هو جمع حقيقة، ولا يقال: هلاَّ ذكر الأصناف الستَّة بصيغة الإفراد ويكون المراد الجنس كهذين؛ لأنا نقول: لو أفرد في الجميع، فلا يخلو إمَّا أن يفردهم معرفين بالألف واللام للعهد؛ فينصرف بين السَّامع إلى صرف الزَّكاة إلى معهودٍ سابق معين وليس هو المقصود من الآية بالإجماع، وإن أفردهم منكرين، فهم منه أنَّ الزَّكاة لا يجوز دفعها إلى فقير واحد، أو مسكين واحد، وكذلك سائرها، ولا يجوزُ دفعها لاثنين فما زاد، وهو خلاف الإجماع
فصل
والسَّبيل: الطريقُ، ونسب المسافر إليها لملازمته إيَّاها، ومروره عليها قال بعضُ(10/127)
العلماءِ: إذا كان المسافر غنيّاً في بلده، ووجد من يسلفه فلا يعطى وهو الصحيح.
ولا يلزمه أن يدخل تحت مِنَّة أحد إذا وجد منة تعالى.
فصل
إذا جاء وادَّعى وصفاً من الأوصاف الثمانية، هل يقبل قوله أو يقال: أثبت ما تقولُ؟ أمَّا الدَّينُ فلا بدّ أن يثبته، وأمَّا البقية فظاهرُ الحال يَكْفِي.
قوله: «فَرِيضَةً» في نصبها وجهان:
أحدهما: أنَّها مصدرٌ على المعنى لأنَّ معنى {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ} في قوة: فرض الله ذلك.
والثانيك أنَّها حالٌ من الفقراء، قاله الكرماني، وأبُو البقاءِ.
يعنيان من الضمير المستكن في الجار، لوقوعه خبراً، أي: إنَّما الصدقاتُ كائنة لهم حال كونها فريضة، أي: مفروضة. ويجوزُ أن يكون فريضةً حينئذٍ بمعنى مفعولة، وإنَّما دخلت التاءن لجريانها مجرى الأسماء، ك «النَّطيحة» . ويجوزث أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال، ونُقل عن الفرَّاء أنَّها منصوبة على القطع. ثم قال: {والله عَلِيمٌ} بمقادير المصالح {حَكِيمٌ} لا يشرع إلاَّ ما هو الأصوب والأصلح.
فصل
وهذه الآية المراد بها فريضة الزكاة، فأمَّا صدقة التطوع فيجوزُ دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم، من بني هاشم ومواليهم، ومن لا يجوز لهم أخذ الزكاة الواجبة، يجوزُ له الأخذ إذا كان غارماً أو مؤلفاً، أو عاملاً.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} الآية.
وهذا نوع آخر من طعن المنافقين، وهو أنَّهُم كانُوا يقولون في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه أذن. نزلت في جماعة من المنافقين، كانوا يؤذون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضُهم لا تفعلوا فإنَّا نخافُ أن يبلغه ما نقولُ، فيقع بنا فقال الجلاس بنُ سويد: نقول ما شئنا، ثم نأتيه ونُنْكر ما قلنا، ونحلف فيصدِّقنا بما نقول، إنَّما محمدٌ أذنٌ، أي سامعة، يقال: فلان «أذنٌ وأذنٌ» على وزن «فُعُل» ، إذا كان يسمع كل ما قيل ويقبله.
وأصله من «أذن» له «أذَناً» إذا استمع، وقال محمد بن إسحاق بن يسار: «نزلت في رجل من المنافقين يقال له: نبتل بن الحارث، وكان رجُلاً أزلم، ثائر الشعر، أحمر(10/128)
العينين، أسفع الخدين، مشوَّه الخلقة، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث.»
وكان ينمّ حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل فقال: إنَّما محمد أذن، فمن حدَّثه شيئاً صدَّقه؛ فنقول ما شئنا، ثُمَّ نأتيه فنحلف له، فيصدقنا، فنزلت الآية.
قال الأصمُّ أظهر الله عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها، لتكون حجة للرسول، ولينزجروا، فقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} [التوبة: 58] {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} [التوبة: 61] {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} [التوبة: 75] إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب، وكل ذلك دليل على كونه نبياً حقاً من عند الله.
ومعنى «أذنٌ» أي: أنَّه ليس له ذكاء ولا بعد غور، بل هو سليمُ القلبِ، سريع الاغترار بكل ما يسمع.
قوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ} «أذُنُ» خبر مبتدأ محذوف، أي: قل هو أذُنُ خيرٍ والجمهور على جَر خَيْرٍ بالإضافة، وقرأ الحسنُ، ومجاهدٌ، زيد بن علي وأبو بكر عن عاصم «أذُنٌ» بالتنوين، «خَيْرٌ» بالرفع، وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّها وصف «أذُن» .
والثاني: أن يكون خبراً بعد خبر، و «خير» يجوزُ أن يكون وصفاً، من غير تفضيل، أي: أذُنٌ ذُو خير لكم، ويجوزُ أن يكون للتفضيل - على بابها - أي: أكثر خيراً لكم. وجوَّز صاحب اللوامح أن يكون «أذُن» مبتدأ، و «خَيْر» خبرها، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة؛ لأنَّها موصوفةٌ تقديراً، أي: أذُنٌ لا يؤاخذكم من أذُنٍ يؤاخذكم، ويقال: رجَلٌ أذنٌ، أي: يسمع كل ما يقال، وفيه تأويلان:
أحدهما: أنَّهُ سُمِّي بالجارحة؛ لأنَّها آلة السماع، وهي معظم ما يقصد منه؛ كقولهم للربيئة: عَيْنٌ.
وقيل: المرادُ ب «الأذُن» هنا الجارجة، وحينئذٍ يكونُ على حذفِ مضاف أي: ذُو أذن.
والثاني: أنَّ الأذن وصفٌ على «فُعُل» ، ك «أنُف» و «شُلُل» يقال: أذِنَ يَأذَن، فهو أذُن؛ قال: [الطويل]
2804 - وَقَدْ صِرْت أذْناً لِلوُشَاةِ سَمِيعَةً ... يَنالُونَ مِنْ عِرْضي ولوْ شِئْت ما نَالُوا(10/129)
ومعنى قراءة عاصم: إن كان تقولون إنَّهُ أذُنٌ، فأذن خير لكم، يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم. ومعنى قراءة الجرِّ: أي: هو أذُنُ خير، لا أذُنُ شر وقرأ نافع «أذْن» ساكنة الذَّال في كلِّ القرآن، والباقون بالضَّم وهما لغتان مثل: عنق وظفر.
ثم بيَّن كونه «أذُنُ خَيْرٍ» بقوله: {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} فجعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «أذُنُ خَيْرٍ» ، أمَّا قوله {يُؤْمِنُ بالله} فلأنَّ كلَّ من آمن بالله كان خائفاً من الله، والخائف من الله لا يؤذي بالباطل. ويُؤمِنُ للمؤمنينَ أي: يسلمُ للمؤمنين قولهم، إذا توافقُوا على قولٍ واحدٍ وهذا بيان كونه سليم القلب.
فإن قيل: لِمَ عدي الإيمان باللهِ بالباءِ، وإلى المؤمنين باللاَّم؟ .
فالجواب: أنَّ المراد بالإيمان بالله، المراد منه: التَّصديق الذي هو نقيض الكفر فعدي بالباء والإيمان المعدَّى إلى المؤمنين، معناه: الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللاَّم، كقوله:
{وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] وقوله {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} [يونس: 83] وقوله: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] وقوله {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} [طه: 71] .
وقال ابن قتيبة «هما زائدتان، والمعنى: يصدِّق الله، ويصدِّق المؤمنين» وهذا مردود؛ ويدلُّ على عدم الزيادةِ تغايرُ الحرف الزَّائد، فلو لم يُقصدْ معنًى مستقلٌ، لما غاير بين الحرفين.
وقال المبرد: هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدّر من الفعل، كأنَّه قال: وإيمانه للمؤمنين وقيل: يقال: آمنتُ لك، بمعنى: صدَّقتكَ، ومنه {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] . قال شهابُ الدِّينِ وعندي أنَّ هذه اللاَّم في ضمنها «ما» ، والمعنى: ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به وقال أبُو البقاءِ: واللاَّم في للمؤمنين زائدةٌ، دخلت لتفرِّق بين «يُؤمن بمعنى: يُصدِّق، وبين» يؤمن «بمعنى: يثبت الإيمان وقوله: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} فهذا أيضاً يوجبُ الخير به؛ لأنَّه يجري منكم على الظَّاهرِ، ولا يبالغ في التفتيش على بواطنكم، ولا يهتكُ أستاركم، فدلَّت هذه الأوصاف الثلاثة على وجوب كونه» أذُن خَيْرٍ «وقرأ الجمهورُ» ورَحْمَةٌ «رفعاً نسقاً على» أذُنُ «أي: وهو رحمة للذين آمنوا. وقال بعضهم: هو عطفٌ على» يُؤمن «، لأنَّ» يُؤمن «في محل رفع صفة ل:» أذُن «، تقديره:(10/130)
أذُن يؤمن ورحمة. وقرأ حمزة والأعمش» ورحمةٍ «بالجر نسقاً على» خيرٍ «المخفوض بإضافة» أذُنُ «إليه، والجملةُ على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين، تقديره: أذُنُ خيرٍ ورحمةٍ. وقرأ ابنُ أبي عبلةٍ:» ورَحْمَةٌ «نصباً على أنَّه مفعول من أجله، والمعلل محذوف، أي: يأذن لكم رحمةً بكم، فحذف لدلالة قوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ} .
فإن قيل: كل رحمة خير، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذِكْر الخير؟
[فالجواب: إنَّ أشرف أقسام الخير هو الرحمة، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير] كقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . ولمَّا بيَّن كونه سبباً للخير والرحمة، بيَّن أنَّ كلَّ من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنَّه يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم وهو يقابلون إحسانه بالإساءة، وخيره بالشَّر؛ فلذلك استوجبوا العذاب الأليم.
قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} الآية.
وهذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين، وهو إقدامهم على الأيمان الكاذبة، قال قتادةُ والسديُّ: اجتمع ناس من المنافقين، فيهم الجلاس بنُ سويدٍ، ووديعة بنُ ثابت فوقعوا في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شرٌّ من الحمير، وكان عندهم غلام من الأنصار، يقال له: عامر بن قيس، فحقَّروه، وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلامُ وقال: والله إنَّ ما يقول محمد حق، وأنتم شرٌّ من الحمير ثم أتَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبره فدعاهم، فسألهم؛ فحلفوا أنَّ عامراً كذَّاب وحلف عامر أنهم كذبة، فصدقهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجعل عامرٍ يدعو ويقول اللَّهُمَّ صدق الصَّادق وكذب الكاذب، فأنزل اللهُ هذه الآية.
وقال مقاتلٌ والكلبيُّ: نزلت في رهطٍ من المنافقين، تخلَّفُوا عن غزوة تبوك فلمَّا رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتوهُ يعتذرون ويحلفون، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} .
إنَّما أفرد الضمير، وإن كان الأصلُ في العطف ب «الواو» المطابقة، لوجوهٍ:
أحدها: أنَّ رضا الله ورسوله شيءٌ واحد، {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ،(10/131)
{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] ؛ فلذلك جعل الضميرين ضميراً واحداً، تنبيهاً على ذلك.
الثاني: أنَّ الضمير عائدٌ على المثنى بلفظِ الواحد بتأويل المذكور؛ كقول رؤبة: [الرجز]
2805 - فِيهَا خُطُوطٌ من سوادِ وبلق ... كأنَّهُ في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ
أي: كأن ذلك المذكور، وقد تقدم بيان هذا في أوائل البقرةِ. الثالث: قال المبرد: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، تقديره: واللهُ أحقُّ أن يرضوه ورسوله وهذا على رأي من يدَّعي الحذف من الثاني.
الرابع - وهو مذهب سيبويه -: أنَّه حذف خبر الأوَّل، وأبقى خبر الثَّاني، وهو أحسنُ من عكسه، وهو قول المبرِّدِ؛ لأن فيه عدم الفصل بين المبتدأ أو خبره بالإخبار بالشيء عن الأقرب إليه؛ وأيضاً فهو متعين في قول الشَّاعر: [المنسرح]
2806 - نَحْنُ بِمَا عندنَا وأنتَ بِما ... عِندكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُختَلِفُ
أي: نحن راضون، حذف «راضُون» ، لدلالةِ خبر الثاني عليه.
قال ابنُ عطية: «مذهبُ سيبويه أنَّهُما جملتان، حذفت الأولى، لدلالة الثانية عليها» .
قال أبُو حيان: «إن كان الضمير في» أنَّهُمَا «عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين، فكيف يقول» حُذفت الأولى «والأولى لم تحذف، إنما حذفَ خبرها؟ وإن كان عائداً على الخبر وهو {أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} فلا يكونُ جملة إلاَّ باعتقاد أن يكون» أن يُرضُوهُ «مبتدأ وخبره» أحَقُّ «مقدماً عليه، ولا يتعيَّنُ هذا القول؛ إذْ يجوزُ أن يكون الخبرُ مفرداً بأن يكون التقدير: أحقُّ بأنْ تُرضُوه» .
قال شهابُ الدِّين: إنما أراد ابنُ عطية التقدير الأول، وهو المشهورُ عند المعربين يجعلون «أحقُّ» خبراً مقدَّماً، و «أن يُرْضوهُ» مبتدأ مؤخراً، والله ورسوله إرضاؤه أحقُّ. وقتد تقدم تحرير هذا في قوله: {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} [التوبة: 13] . قوله {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} شرطٌ جوابه محذوف أو متقدم.
فصل
قال القرطبيُّ «تضمَّنتْ هذه الآية قبول يمين الحالف، وإن لم يلزم المحلوف له(10/132)
الرضا، واليمين حق للمدَّعي، وأن يكون اليمينُ بالله عزَّ وجلَّ حسبُ. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَنْ حَلفَ فليَحْلفْ باللهِ أو ليَصْمتْ، ومَنْ حُلفَ لَهُ فليُصدِّق «.
قوله: {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} الآية.
والمقصود من هذه الآية: شرح أحوال المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك.
قرأ الجمهور «يَعْلمُوا» بياء الغيبة، رَدّاً على المنافقين، وقرأ الحسنُ، والأعرجُ «تَعْلَمُوا» بتاء الخطاب، فقيل: هو التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ إن كان المرادُ المنافقين.
وقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً؛ كقوله: [الطويل]
2807 - فإنْ شِئْتُ حرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقيل: الخطابُ للمؤمنين. وبهذه التقادير الثلاثة يختلف معنى الاستفهام، فعلى الأول يكون الاستفهام للتقريع والتوبيخ، كقول الإنسان لمن حاول تعليمه مدة وبالغ في التعليم فلم يتعلم، يقال له ألمْ تتعلَّم؟ وإنما حسن ذلك؛ لأنَّهُ طال مكث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معهم، وكثر تحذيره من معصية الله، والترغيب في طاعة الله.
وعلى الثاني يكون للتعجب من حالهم، وعلى الثالث يكون للتقرير. والعلم هنا: يحتمل أن يكون على بابه، فتسدَّ «أن» مسدَّ مفعولين عند سيبويه، ومسدَّ أحدهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش.
وأن يكون بمعنى العرفان، فتسدَّ «أنَّ» مسدَّ مفعوله. و «مَنْ» شرطيَّة، و «فأنَّ لهُ نار» جوابها. وفتحت «أنَّ» بعد الفاءِ، لما تقدَّم في الأنعام. والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعِ خبر «أنَّ» الأولى وهذا تخريجٌ واضحٌ. وقد عدل عن هذا التخريج جماعة إلى وجوهٍ أخر، فقال الزمخشريُّ «ويجوزُ أن يكون» فأنَّ لَهُ «معطوفاً» أنَّه «على أنَّ جواب» مَنْ «محذوفٌ، تقديره: ألم يعلموا أنَّه من يُحادد الله ورسوله يهلكْ، فأنَّ لهُ نَار جَهَنَّمَ» وقال الجرمي والمبرد: «أنَّ» الثانية مكررةٌ للتَّوكيد، كأن التقدير: فلهُ نارُ جهنم، وكُرِّرت «أنَّ» توكيداً، وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء} [النحل: 119] ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} [النحل: 119] ، قال: والفاءُ على هذا جوابُ الشرط. وردَّ أبو حيان على الزمخشري قوله: بأنَّهم نصُّوا على أنَّه إذا حذف جوابُ الشَّرطِ، لزمَ أن يكون فعلُ الشرط ماضياً، أو مضارعاً مقروناً ب «لَمْ» ، والجوابُ على قوله محذوفٌ وفعل الشَّرطِ مضارعٌ غير مقترنٍ ب «لَمْ» وأيضاً فإنَّا نجدث الكلامَ تامّاً بدون هذا الذي قدَّره.(10/133)
ونُقل عن سيبويه أنَّه قال: الثانيةُ بدلٌ من الأولى. وهذا لا يصحُّ عن سيبويه، فإنَّه ضعيفٌ، أو ممتنع، وقد ضعفه أبو البقاءِ بوجهين:
أحدهما: أنَّ الفاء تمانعُ من ذلك والحكمُ بزيادتها ضعيفٌ.
والثاني: أنَّ جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب «مَنْ» من الكلام. وقال ابنُ عطية «وهذا يُعترضُ بأنَّ الشَّيء لا يبدل منه حتى يستوفى، والأولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرها بعد، إذ لم يأتِ جوابُ الشَّرط، وتلك الجملةُ هي الخبرُ، وأيضاً فإنَّ الفاء تُمانعُ البدل، فهي معنى آخر غير ابلدل فيقلقُ البدل» .
وقال بعضهم: فتحت على تقدير اللام، أي: فلأنَّ لهُ نار جهنم. وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ، لا يحتاج إليها.
فالأولى ما تقدم ذكره، وهو أن يكون «أنَّ لهُ نارَ جهنَّمَ» في محل رفع بالابتداء والخبر محذوفٌ، وينبغي أن يقدِّرَهُ متقدماً عليها، كما فعل الزمخشريُّ، وغيرُه، أي: فحقٌّ أنَّ لهُ نار جهنَّم. وقدَّرهُ غيره متأخراً، أي: فأنَّ له نار جهنَّمَ واجبٌ، كذا قدَّره الأخفش وردُّوه عليه بأنَّها لا يبتدأ بها.
وهذا لا يلزمه، فإنَّه يجيز الابتداء ب «أنَّ» المفتوحةِ من غير تقديم خبره. وغيره لا يجيز الابتداء بها إلاَّ بشرطِ تقدُّم «أمَّا» ، نحو: أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي، أو بشرط تقدُّم الخبر، نحو: عندي أنَّك منطلق. وقيل: «فأنَّ لهُ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ أنَّ لهُ، وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاءِ في محلِّ جزم، جواباً للشَّرط. وقرأ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة، والحسن، وابن أبي عبلة: «فإنَّ» بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية، تقدَّم أنَّهُ قرأ بها بعضُ السبعة في الأنعام، وتقدَّم هناك توجيهها.
والمحادّة: المخالفةُ، والمعاندةُ، ومجاوزةُ الحدِّ، والمعاداة. قيل: مشتقةٌ من الحد وهو حدُّ السِّلاح الذي يحاربُ به من الحديد. وقيل: من الحد الذي هو الجهةُ كأنه في حدِّ غير حدِّ صاحبه كقولهم: شاقَّه، أي: كان في شقٍّ غير شقِّ صاحبه وعاداه، أي: كان في عدوة غير عدوته. قال ابن عباس: معناه: يخالف الله وقيل: يحارب الله، وقيل: يعاند الله، وقيل: يعادي الله.
واختار بعضهم قراءة الكسر، بأنَّها لا تحوج إلى إضمار، ولم يُرْوَ قوله: [الوافر]
2808 - فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فإنِّي ... وجِرْوةَ لا تُعارُ ولا تُبَاعْ(10/134)
إلاَّ بالكسرِ.
وهذا غيرُ لازمٍ، فإنَّه جاء على أحد الجائزين، و «خَالِداً» نصبٌ على الحال.
قال الزجاج: «ويجوز كسر» أنّ «على الاستئناف بعد الفاءِ» . وجهنم: من أسماء النار وحكى أهل اللغة عن العربِ: أنَّ البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام، فيجوزُ أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ، ومعنى بعد قعرها أنَّه لا آخر لعذابها، وتقدم معنى الخلود، والخزي: قد يكون بمعنى النَّدم، وبمعنى الاستحياء، والمراد به ههنا: النَّدم، لقوله: {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} [يونس: 54] .
قوله تعالى: {يَحْذَرُ المنافقون} الآية.
قال قتادة «هذه السُّورة كانت تُسمَّى الفاضحة، والحافرة، والمبعثرة، والمثيرة، أثارت مخازيهم ومثالبهم» قال ابن عباسٍ: «أنزل اللهُ تعالى ذكر سبعين رجلاً من المنافقين بأسمائهم، وأسماء آبائهم، ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين، لئلاَّ يُعيّر بعضهم بعضاً؛ لأن أولادهم كانوا مؤمنين» .
وقال الجبائيُّ:
«اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على النِّفاقِ، وأخبر جبريل الرسول بأسمائهم، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» إنَّ أناساً اجتمعُوا على كَيْت وكَيْت، فليقُومُوا وليعتَرِفُوا وليسْتغفِرُوا ربَّهم حتَّى أشفع لهُمْ «فلم يقوموا، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعد ذلك» قُمْ يا فلانُ ويا فلانُ «حتى أتى عليهم ثم قالوا: نعترف ونستغفر فقال:» الآن أنَا كُنْتُ في أوَّل الأمْرِ أطيب نَفْساً بالشَّفَاعةِ، والله كانَ أسْرعَ في الإجابةِ، اخرُجُوا عنِّي «فلم يزلْ يقول حتى خرجوا بالكليَّةِ.»
وقال الأصمُّ: إنَّ «عند رجوع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به؛ فأخبره جبريل، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال:» مَنْ عرفت من القوْمِ «؟ فقال: لم أعرف منهم أحداً، فذكر النبيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أسماءهم وعدهم له، وقال:» إنَّ جبريل أخبرني بذلك «فقال حذيفة: ألا تَبْعَثُ إليه فتقتلهم، فقال:» أكره أن تقول العرب قاتل أصحابه حتَّى إذا ظفر صار يقتلهم، بل يَكْفِينَاهُمُ اللهُ بالدبيلة «.(10/135)
فإن قيل: الكافرُ منافق، فكيف يحذرُ نزول الوحي على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؟ فالجوابُ، من وجوه:
أحدها: قال أبُو مسلم:» هذا حذر أظهرهُ المنافقون استهزاء حين رأوا الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يذكر كلَّ شيء ويدعي أنَّهُ عن الوحي، وكان المنافقُون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنَّه يظهر سرهم الذي حذروا ظهره، ويدلُّ على ذلك قوله: استَهْزئُوا «.
وثانيها: أنَّ القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنَّهم شاهدوا أنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يخبرهم بما يفسرونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم.
وثالثها: قال الأصمُّ: إنَّهم كانوا يعرفونه كونه رسولاً حقاً من عند الله، إلاَّ أنَّ كفرهم كان حسداً وعناداً.
ورابعها: معنى الحذر الأمر بالحذر، أي: ليحذر المنافقون ذلك.
وخامسها: أنَّهم كانُوا شاكين في صحَّة نبوته، والشَّاك خائف، فلهذا خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم.
قوله:» أَن تُنَزَّلَ «مفعولٌ به، ناصبه» يَحْذَرُ «، فإنَّ» يَحْذَرُ «متعدٍّ بنفسه كقوله تعالى: {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] ، لولا أنه متعدِّ في الأصل لواحدٍ، لما اكتسب بالتضعيف مفعولاً ثانياً؛ ويدلُّ عليه أيضاً ما أنشده سيبويه: [الكامل]
2809 - حَذِرٌ أمُوراً لا تَضِيرُ وآمِنٌ ... مَا لَيْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ
وفي البيت كلامٌ، قيل: إنه مصنوع. وقال المبردُ: إنَّ» حَذِر «لا يتعدَّى، قال: لأنَّهُ من هيئات النفس، ك» فَزع «. وهذا غير لازم. فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍّ ك:» خاف «، وخشي، فإنَّ» تُنَزَّل «عند المبرد على إسقاط الخافض أي: مِنْ أن تُنَزَّل.
وقوله: «تُنَبِّئُهُمْ» في موضع الرفع صفةً ل «سورة» .
قال الزمخشريُّ «الضميرُ في قوله» عليهم «و» تنبّئهم «للمؤمنين، و» في قُلُوبهمْ «للمنافقين، ويجوزُ أيضاً أن تكون الضمائرُ كلها للمنافقين؛ لأنَّ السُّورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم، ومعنى» تُنبِّئُهم بما في قلوبهم «أنَّ السورة كأنَّها تقول لهم في قلوبكم كيت وكيت، يعني أنَّها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنَّها تخبرهم بها» .
ثم قال: {قُلِ استهزءوا} هذا أمر تهديد، {إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} .
قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} الآية.(10/136)
قال الكلبي، ومقاتل، وقتادةُ: «إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول، والآخر يضحك.
قيل: كانوا يقولون: إنَّ محمداً يزعم أنه يغلب الروم، ويفتح مدائنهم، هيهات هيهات ما أبعده عن ذلك.
وقيل: كانوا يقولون: إنَّ محمداً يزعمُ أنَّهُ نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن، وإنما هو قوله وكلامه، فأطع اللهُ نبيهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ذلك فقال:» احبسُوا الرَّكبَ عليَّ «فدعاهُم وقال لهُم:» قُلْتُم كذا وكذا «فقالوا: إنَّما كُنَّا نتحدثُ ونخوض في الكلامِ، كما يفعلُ الرَّكبُ لقطع الطريق بالحديث واللعب.»
قال ابن عمر: «رأيتُ عبد الله بن أبيّ يشتد قدام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والحجارة تنكيه، وهو يقولُ:» إنَّما كُنَّا نخوضُ ونلعبُ «. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول» أباللهِ وآياتهِ ورسولهِ كُنتُم تَسْتهزِئُونَ «. ولا يلتفتُ إليه.»
وقال أبُو مسلم: قوله: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} التوبة: 64 إنَّ القوم أظهروا هذا الخبر استهزاء، فبيَّن تعالى في هذه الآية أنَّهُ إذا قيل لهم: لِمَ فعلتُم ذلك؟ قالوا: لم نقل ذلك إلاَّ لأجل أنا كنا نخوض ونلعب.
فصل في بيان أصل الخوض
قال الواحديُّ: أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى، والمعنى: إنَّما كُنَّا نخوضُ في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق، فأجابهم الرسولُ بقوله: «أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون» .
قوله: « ... أباللهِ ... » متعلقٌ بقوله: «تَستهْزئُونَ» . و «تَسْتهْزِئُونَ» خبرُ «كان» وفيه دليلٌ على تقديم خبر «كان» عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل، وقد تقدَّم معمول الخبر على «كان» فليَجُزْ تقديمه بطريق الأولى.
وفيه بحث، وذلك أنَّ ابن مالك قدح في هذا الدَّليل، بقوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10] قال: ف «اليتيم» ، والسائل قد تقدما على «لا» الناهية، والعاملُ فيهما ما بعدهما ولا(10/137)
يجوز تقديم ما بعد «لا» الناهية عليها، لكونه مجزوماً بها، فقد تقدَّم المعمولُ، حيث لا يتقدَّم للعامل ذكر، ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر «ليس» بقوله {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] .
فصل
فرق بين قولك: أتستهزىء بالله، وبين قولك: أبالله تستهزىء، فالأوَّلُ يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء، والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله، كأنه يقول: هَبْ أنك تقدم على الاستهزاء إلا أنه كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله كقوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] والمقصود: ليس نفي الغول، بل نفي أن يكون خمر الجنَّة محلاًّ للغول. ومعنى الاستهزاء بالله: هو الاستهزاء بتكاليفِ الله، والاستهزاء بذكر الله، فإنَّ أسماء الله قد يستهزىء بها الكافرُ، كما أنَّ المؤمن يعظمها. والمرادُ بالاستهزء ب «آيَاتِهِ» هو القرآن، وسائر ما يدلُّ على الدين، والرسول معلوم.
قوله: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ} .
نقل الواحديُّ عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين، الأول: أنَّه عبارة عن محو أثر الذنب، وأصله من: تعذرت المنازل، أي: دَرَسَتْ، وامَّحت آثارها؛ قال ابن أحمر: [البسيط]
2810 - قَدْ كُنتَ تَعْرفُ آياتٍ فقدْ جَعَلتْ ... أطْلالُ إلفِكَ بالوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ
فالمعتذر يزاولُ محو ذَنْبِهِ.
والثاني: قال ابنُ الأعرابي: أصله من العذر، وهو القطع، ومنه العُذْرة؛ لأنَّها تقطع بالافتراغ.
ويقولون: اعتذرت المياه، أي: انقطعت، فكأنَّ المعتذر يحاولُ قطع الذمّ عنه. قوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يدلُّ على أنَّ الاستهزاء بالدِّين كيف كان كفراً؛ لأنه استخفاف بالدين، والعمدة في الإيمان تعظيم الله تعالى، ويدل على أنَّ القول الذي صدر منهم كان كفراً في الحقيقة.
فإن قيل: كيف قال {كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وهم لم يكونوا مؤمنين؟
فالجواب: قال الحسنُ: أظهرتم الكفر بعد ما أظهرتم الإيمان.
فصل
قال ابنُ العربي: «لا يخلو ما قالوا من أن يكون جداً، أو هزلاً، وهو كيفما كان(10/138)
كفراً فإنَّ القول بالكفر كفر بلا خلاف بين الأئمة، قال تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} [البقرة: 67] .
فصل
اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق، قيل: يلزم وقيل: لا يلزم، وقيل: يفرق بين البيع وغيره. فيلزمُ في النكاح والطلاق، ولا يلزم في البيع وحكى ابنُ المنذر الإجماع في أن جدَّ الطلاق وهزله سواء. وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جد وهزلهُنَّ جِدّ، النِّكاحُ والطلاقُ والرَّجْعَةُ «
قال الترمذيُّ «حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغيرهم» .
قال القرطبي: «وفي الموطأ عن سعيد بن المسيِّب قال ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق» .
قوله: « ... إن نَعْفُ» قرأ عاصم «نَعْفُ» بنون العظمة، «نعذِّب» كذلك، «طَائفَة» نصباً على المفعول به، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السُّلمي، وزيد بن علي. وقرأ الباقون «يُعْفَ» في الموضعين بالياء من تحت مبنياً للمفعول، ورفع «طَائفةٌ» ، على قيامها مقام الفاعل والقائمُ مقام الفاعل في الفعل الأوَّلِ الجارُّ بعده. وقرأ الجحدريُّ «إن يَعْفُ» بالياء من تحت فيهما، مبنياً للفاعل، وهو ضميرُ الله تعالى، ونصب «طائفة» على المفعول به. وقرأ مجاهدٌ «تُعْف» بالتاء من فوق فيهما، مبنياً للمفعول، ورفع «طائفة» ، لقيامها مقام الفاعل. وفي القائم مقام الفاعل في الفعل الأوَّل وجهان:
أحدهما: أنَّهُ ضمير الذنوب، أي: إن تُعْفَ هذه الذنوب.
والثاني: أنَّه الجارُّ، وإنَّما أنِّث الفعل حملاً على المعنى.
قال الزمخشريُّ «الوجه التذكير؛ لأنَّ المسند إليه الظرفُ، كما تقول: سِيرَ بالدَّابة، ولا تقول: سِيرت بالدَّابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل: إن تُرْحَمْ طائفة فأنَّث لذلك، وهو غريبٌ» .(10/139)
فصل
قال مجاهدٌ: وابن إسحاق: الذي عُفِيَ عنه رجل واحد، وهو مخاشن بنُ حمير الأشجعي، يقال هو الذي كان يضحكُ ولا يخوض، وكان يمشي مجانباً لهم، وينكر بعض ما يسمع فلمَّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وقال: اللَّهُمَّ إني لا أزال أسمعُ آية تَقْرَعُني بها تقشعر الجلودُ، وتجب منها القلوبُ، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقولُ أحدٌ: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه.
فصل
ثبت بالروايات أنَّ الطائفتين كانوا ثلاثة؛ فوجب أن تكون إحدى الطَّائفتين إنساناً واحداً. قال الزجاجُ: والطَّائفة في اللغةِ أصلها الجماعة؛ لأنَّها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة، قال تعالى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] . وأقله الواحد، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الواحد فما فوقه، وقال تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} [الحجر: 9] .
قال ابن الأنباري: العرب توقع لفظ الجمع على الواحد، فتقولُ: خرج فلانٌ إلى مكَّة على الجمال، وقال تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني: نعيم بن مسعود، ثم إنه تعالى علَّل تعذيبه لهم: {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}(10/140)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} الآية.(10/140)
لمَّا شرح أنواع قبائح أفعالهم، بيَّن أنَّ إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة.
قوله: {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} مبتدأ وخبر، أي: من جنس بعضن ف «من» هنا لبيان الجنس وقيل: للتبعيض، أي: إنَّهم إنما يتوالدون بعضهم من بعض على دينٍ واحدٍ، وقيل: أمرهم واحد بالاجتماع على النفاقِ، ثمَّ فصَّل هذا الكلام فقال: «يَأْمُرُونَ بالمنكر» . هذه الجملةُ لا محلَّ لها؛ لأنَّها مفسرةٌ لقوله: «بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ» ، وكذلك ما عطف على «يَأْمُرُون» ولفظ المنكر يدخلُ فيه كل قبيح، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر يدخلُ فيه كل قبيح، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر الشرك والمعصية، والمراد الأعظم ههنا من المعروف الإيمان بالرسول {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي: يمسكونها عن الصَّدقة، والإنفاق في سبيل الله. {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} تركوا طاعة الله فتركهم من توفيقه وهدايته في الدُّنيا ومن رحمته في العقبى.
وإنَّما حملنا النِّسيان على التَّركِ، لأنَّ من نسي شيئاً لم يذكره، فجعل اسم الملزوم كناية عن اللاَّزم، ولأنَّ النسيان ليس في وسع البشر، وهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل، وهو ما ذكرنا من التَّرك؛ لأنَّهم تركوا أمر الله حتى صارُوا كالنسي المنسي، فجازاهم بأنَّ صيَّرهم كالشَّيء المنسيّ، كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ثم قال: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الكاملُونَ في الفِسْقِ.
قوله تعالى: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات} الآية.
قال القرطبيُّ وغيره: يقالُ: وعد الله بالخير وعْداً، ووعدَ بالشَّر وعيداً. وقيل: لا يقال من الشر إلاَّ «أوْعدته» و «توعدته» وهذه الآية رد عليه. لمَّا بيَّن في المنافقين والمنافقات أنه نسيهم، أي: جازاهم على تركهم التَّمسك بطاعةِ الله، أكَّد هذا الوعيد وضمَّ المنافقين إلى الكفار فيه، فقال: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ} الآية.
وقوله: «خالدين» حالٌ من المفعول الأول للوعد، وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّ هذه الحال لم تقارن الوعد. وقوله: «هِيَ حَسْبُهُم» لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية. والمعنى: أنَّ تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها، ولا يمكنُ الزيادة عليها.
ثم قال: {وَلَعَنَهُمُ الله} أبعدهم الله من رحمته، {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم.
فإن قيل: معنى المقيم والخالد واحد فيكون تكراراً.
فالجوابُ: من وجهين:
الأول: أنَّ لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنَّار والخلود المذكور أولاً، ولا يدل على أنَّ العذاب بالنَّارِ دائم. وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} يدلُّ على أنَّ لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذابِ.
فإن قيل هذا مشكل؛ لأنه قال في النَّار المخلدة: «هِيَ حَسْبُهُم» وكونها حسباً يمنع(10/141)
من ضمّ شيء آخر إليه. فالجوابُ: أنَّها حسبهم في الإيلام، ومع ذلك يضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم.
والثاني: أنَّ المراد بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} العذاب العاجل الذي لا ينفك عنهم وهو ما يُقاسُونَه من الخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم، وما يحذرونه من أنواع الفضائح.
قوله: {كالذين مِن قَبْلِكُمْ} .
فيه أوجه:
أحدها: أنَّ هذه الكاف في محلِّ رفعٍ، تقديره: أنتم كالذين، فهي خبر مبتدأ محذوف.
الثاني: أنَّها في محلِّ نصب. قال الزجاجُ: المعنى: وعد كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلقٌ ب «وَعَدَ» . قال ابن عطيَّة «وهذا قلقٌ» . وقال أبو البقاءِ: ويجُوز أن يكون متعلقاً ب {تَسْتَهْزِءُونَ} [التوبة: 65] . وفي هذا بعدٌ كبيرٌ.
وقوله: «كانُوا أشدَّ» تفسيرٌ لشبههم بهم، وتمثيل لفعلهم بفعلهم، وجعل الفراءُ محلَّها نصباً بإضمار فعلٍ، قال: «التَّشبيهُ من جهة الفعل، أي: فعلتم كما فعل الذين من قبلكم» فتكون الكافُ في موضع نصب. وقال أبو البقاءِ: «الكافُ في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف وفي الكلام حذف مضافٍ، تقديره: وعداً كوعد الذين» . وذكر الزمخشريُّ وجه الرفع المتقدم، والوجه الذي تقدم عن الفراء، وشبَّهه بقول النمر بن تولب: [الكامل]
2811 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاليَوْم مَطْلُوباً ولا طَلَبَا
بإضمار: «لَمْ أرَ» .
قوله: «كَمَا اسْتَمْتَعَ» الكافُ في محلِّ نصب، نعتاً لمصدر محذوف، أي: استمتاعاً كاستمتاع الذين.
قوله: {كالذي خاضوا} الكافُ كالَّتي قبلها. وفي «الَّذِي» وجوهٌ:
أحدها: أنَّ المعنى: وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا، فحُذفت النُّونُ تخفيفاً، أو وقع المفردُ موقع الجمع وقد تقدَّم تحقيقه في أوائل البقرةِ، فحذف المصدرُ الموصوفُ، والمضافُ إلى الموصول وعائدُ الموصول تقديره: خاضوه، والأصل: خاضوا فيه؛ لأنَّهُ يتعدَّى ب «في» فاتَّسع فيه فحذف الجارُّ، فاتصل الضميرُ بالفعل، فساغ حذفه، ولولا هذا التَّريجَ لما ساغَ الحذف، لما تقدم أنَّهُ متى جُرَّ العائد بحرف اشترط في جواز حذفه جرُّ الموصول بمثل ذلك الحرف وأن يتحد التعلَّق مع شروط أخر تقدمت.(10/142)
الثاني: أنَّ «الذي» صفةٌ لمفردٍ مُفهم للجمع، أي: وخضتم خَوَْضاً كخوض الفوج الذي خاضُوا، أو الفريق الذي خاضوا والكلامُ في العائد كما سبق قبل.
قال بعضُ المفسِّرين: «الَّذي» اسم ناقص مثل «ما، ومن» ، يعبَّر عن الواحد والجمع، كقوله تعالى: {كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} ثم قال {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] .
الثالث: أن «الَّذي» من صفة المصدر، والتقدير: وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه وعلى هذا فالعائدُ منصوبٌ من غير واسطةِ حرفِ جر. وهذا الوجهُ ينبغي أن يكون هو الراجح، إذ لا محذور فيه.
والرابع: أنَّ «الذي» تقعُ مصدرية، والتقدير: وخضتم خوضاً. ومثله: [البسيط]
2812 - فَثَبَّتَ الهُ ما آتَاكَ مِنْ حسبٍ ... في المُرسلينَ ونَصْراً كالَّذِي نُصِرُوا
أي: كنَصْرهم. وقول الآخر: [البسيط]
2813 - يَا أمَّ عَمْرو جَزاكِ اللهُ مَغْفِرةً ... رُدِّي عليَّ فُؤادِي كالذي كَانَا
أي: ككون. وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهب الفراء، ويونس، وقد تقدَّم تأويل البصريين لذلك قال الزمخشريُّ «فإن قلت: أيُّ فائدة في قوله: {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ} ، وقوله {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} مغنٍ عنه، كما أغْنَى» كالَّذِي خَاضُوا «؟ قلت: فائدته أن يذُمَّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدُّنيا، ورضاهم بها عن النَّظرِ في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يُخَسِّس أمر الاستمتاع ويُهَجِّن أمر الراضي به، ثم شبَّه حال المخاطبين بحالهم، وأمَّا {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} فمعطوفٌ على ما قبله ومسندٌ إليه، مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة يعني: أنه استغنى عن أن يكون التَّركيبُ: وخاضُوا، فخضتم كالذي خاضوا» . وفي قوله {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} إيقاعٌ للظَّاهر موقع المضمر، لنُكتَةٍ، وهو أنَّه كان الأصلْ: فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم؛ فأبرزهم بصورةِ الظَّاهر تحقيراً لهم، كقوله: {لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} [مريم: 44] ، وكقوله قبل ذلك: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} ، ثم قال: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] وهذا كما يدلُّ بإيقاع الظَّاهر موقع المضمر على التفخيم والتعظيم، يدُلُّ به على عكسه، وهو التَّحقير.
فصل
معنى الآية: إنَّكُم فعلتم كفعل الذين من قبلكم، بالعدولِ عن أمر الله والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات، و {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً}(10/143)
بَطْشاً ومنعَةً، {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً} إنما استمتعوا مدة بالدُّنيا، باتباع الشَّهوات، ورضوا به عوضاً عن الآخرة، {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} ، والخلاق: النصيب وهو ما قدر للإنسان من خير. {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} وسلكتم سبيلهم «وخُضْتُم» في الباطلِ والكذب على الله وتكذيب رسله، والاستهزاء بالمؤمنين، «كالذي خاضوا» أي: كما خاضوا.
{أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة} أي: بطلت حسناتهم في الدُّنيَا بسبب الموت والفقر والانتقال من العزِّ إلى الذُّل ومن القوة إلى الضَّعْفِ، وفي الآخرة؛ لأنَّهُم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب. {َأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} حيثُ أتعبوا أنفسهم في الردِّ على الأنبياء، ولم يجدوا منه إلا فوات الخير في الدُّنيا والآخرة، فكما حبطت أعمالهم وخسروا حبطت أعمالكم وخسرتم.
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لتتَّبِعُنَّ سُنَنَ من قبلكمُ شِبْراً بِشبرٍ، وذِرَاعاً بذرَاع، حتَّى إذا دخلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لاتَّبعْتُموهُمْ» قيل: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: «فَمَنَّ؟» وفي رواية أبي هريرة: فهل النَّاسُ إلاَّ هُمْ؟ فلهذا قال في المنافقين «بَعْضُهم من بَعْضٍ» ، وقال في المؤمنين: «بَعْضُهمْ أولياءُ بَعْض» أي: في الدِّين واتفاق الكلمة، والعون، والنصرة، «يَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ» بالإيمان والطَّاعة والخير، وقد تقدَّم الكلام على «يَأمُرونَ بالمَعْرُوفِ» .
«ويَنْهونَ عن المُنكَرِ» عن الشِّرك والمعصية، وما لا يعرف في الشَّرع «ويُقِيمُونَ الصَّلاة» المفروضة {وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله} فالسين للاستقبال، إذ المراد رحمةٌ خاصةٌ، وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة. وادَّعَى الزمخشريُّ: أنَّها تُفيدُ وجوب الرحمةِ وتوكيد الوعدِ والوعيد، نحو: سأنتقم منك، يعني لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونظيره {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} [مريم: 96] {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} [الضحى: 5] {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} [النساء: 152] .
ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وذلك يوجبُ المبالغة في التَّرغيب والتَّرهيب؛ لأنَّ العزيز هو الذي لا يمنعُ من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة، والحكيمُ هو المدبر أمر عبادة على ما تقتضيه الحكمة.(10/144)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
قوله: {وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التوبة: 72] .
والأقرب أنه تعالى أراد بها البساتين التي تبنى فيها المناظر؛ لأنَّهُ تعالى قال بعده {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} والمعطوفُ يجبُ أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنَّات عدنٍ ومناظرهم التي هي البساتين، وتكون فائدة وصفها بأنَّها عدنٌ، أنَّها تجري مجرى دار السَّكن والإقامة.
وقوله: «خَالِدِينَ» حالٌ مقدَّرة، كما تقدَّم. وقوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} أي: منازل طيبة {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: خلد وإقامة، وفي «عدن» قولان:
أحدهما: أنَّهُ اسم على لموضع معين في الجنَّةِ.
قال عبدُ الله بنُ عمرو «إنَّ في الجنَّة قصراً يقال له عدنٌ، حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كلِّ باب خمسة ألاف حرة، لا يدخله إلاَّ نبيٌّ، أو صديقٌ أو شهيدٌ» .
قال الزمخشريُّ: و «عدن» علم بدليل قوله {جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ} [مريم: 61] .
والقول الثاني: أنه صفة للجنة. قال الأزهريُّ: «العَدْنُ» مأخوذ من قولك: عَدَنَ بالمكان إذا أقام به، يَعْدِنث عُدوناً. وتقول: تركت إبل بني فلان عوادن بمكان كذا، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه، ومنه المعدن، لمُسْتقرِّ الجواهر. يقال: عدن عُدُوناً، فله مصدران. هذا أصلُ هذه اللفظة لغة. وذكر المفسِّرون لها معان كثيرة وقال الأعشى في معنى الإقامة [المتقارب]
2814 - وإنْ يَسْتَضِيفُوا إلى حِلْمِهِ ... يُضَافُوا إلى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ(10/145)
أي: ثَبَتَ واستقرَّ. ومنه «عدن» لمدينة باليمن، لكثرة المقيمين بها.
قوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} التَّنكيرُ يفيدُ التقليل، أي: أقلُّ شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدَّم من الجنَّات ومساكنها.
ثم قال: {ذلك هُوَ الفوز العظيم} أي: هذا هو الفوزُ العظيمُ، لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا. روى أبو سعيدٍ الخدريُّ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لأهل الجنَّة: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: ربنا أي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول:» أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً «.
قوله تعالى: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين} الآية.
لمَّا وصف المنافقين بالصِّفات الخبيثةِ، وتوعدهم بأنواع العقاب، ثمَّ ذكر المؤمنين بالصفات الحسنة، ووعدهم بالثَّوابِ، عاد إلى شرح أحوال الكُفَّارِ والمنافقين في هذه الآية.
فإن قيل: مجاهدة المنافقينَ غيرُ جائزة، فإنَّ المنافق يستر كفره وينكره بلسانه.
فالجوابُ من وجوه:
أحدها: قال الضحاكُ: مجاهدة المنافق: تغليظُ القول، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ ظاهر قوله {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} يقتضي الأمر بجهادهما معاً، وكذا ظاهر قوله: {واغلظ عَلَيْهِمْ} راجع إلى الفريقين.
وثانيها: أنَّ الجهاد عبارة عن بذل الجهد وليس في اللفظ ما يدلُّ على أنَّ الجهاد بالسَّيف أو باللِّسانِ أو بطريق آخر. فقال ابن مسعودٍ: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لَمْ يَسْتَطعْ فبقَلبِهِ. وقال: لا يلقى المنافق إلاَّ بوجه مكفهر. وقال ابنُ عبَّاسٍ: باللِّسانِ وترك الرفق.
وثالثها: قال الحسنُ وقتادةُ: بإقامةِ الحدودِ عليهم(10/146)
قال القاضي: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ إقامة الحدود واجبةٌ على من ليس بمُنافقٍ.
قوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} قال أبُو البقاءِ: إن قيل كيف حسنتِ الواوُ هنا والفاء أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ الواو واو الحالِ والتقدير: افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنَّم، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم.
والثاني: أنَّ الواو جيء بها تنبيهاً على إرادة فعل محذوف، تقديره: واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم.
الثالث: أنَّ الكلام حمل على المعنى والمعنى أنَّه قد اجتمع لهم عذابُ الدُّنيا بالجهاد والغلظة، وعذابُ الآخرة بجعل جهنَّم مأواهم. ولا حاجة إلى هذا كُلِّه، بل هي جملةُ استثنافية.
قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} الآية.
قال ابنُ عبَّاسٍ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالساً في ظلِّ شجرةٍ، فقال: «إنهُ سيَأتِيكُمْ إنْسانٌ ينْظرُ إليْكُمْ بعيْنِ الشَّيطانِ، فإذا جَاءَ فلا تُكَلِّمُوهُ» فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: «عَلامَ تَشْتمُنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ» فانطلق الرَّجُل؛ فجاء بأصحابه، فحلفُوا بالله ما قالوا، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ الآية.
وقال الكلبيُّ: نزلت في جلاس بن سويدٍ، وذلك أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطب ذات يوم بتبوك، فذكر المنافقين، فسمَّاهم رجْساً وعابهم، فقال جلاسٌ: لئن كان محمد صادقاً، لنحنُ شرٌّ من الحمير فلمَّا انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة أتاه عامر بن قيس، وأخبره بما قال جلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله؛ فأمرهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحلفا عند المنبر؛ فقام الجلاسُ عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما قاله، ولقد كذب عليَّ عامر، فقام عامرٌ فحلف بالله الذي لا إله إلا هو: لقد قاله، وما كذبتُ عليه، ثم رفع عامرٌ يديه إلى السَّماء فقال: اللَّهُمَّ انزلْ على نبيِّكَ تصديق الصادقِ منَّا.
فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنون: «آمين» ، فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتَفرَّقُوا بهذه الآية، حتى بلغ {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} ، فقام الجلاسُ، فقال: يا رسول الله، وأتوب إليه، فقبلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك منه، ثم تاب وحَسُنَتْ توبتُه.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبيّ لما قال {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا(10/147)
الأَذَلَّ}
[المنافقون: 8] . وأراد به الرسول - عليه الصَّلاة والسلام -، فسمع زيدُ بنُ أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فهمَّ عمرُ بقتل عبد الله بن أبيّ، فجاء عبد الله وحلف أنَّهُ لم يقل فنزلت الآية. وقال القاضي: الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أنَّ المنافقين همُّوا بقتله عند رجوعه من تبوك، وهم خسمة عشر رجلاً تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي باللَّيل، وكان عمَّار بن ياسر آخذاً بخطام راحلته وحذيفة خلفها يسوقها، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل، وقعقة السلاح، فالتفت، فإذا قوم متلثمُون. فقال: إليكم يا أعداء الله، فهربوا والظَّاهر أنهم لمَّا اجتمعوا لذلك الغرض، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب في ادِّعاءِ الرسالة، وذلك هو قولهم كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج.
فإن قيل: قوله: {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} يدلُّ على أنَّهم أسلمُوا من قبل، وهم لم يكونوا مسلمين.
فالجوابُ: أنَّ المراد من الإسلام السلم الذي هو ضد الحرب؛ لأنَّهم لمَّا نافقوا، فقد أظهروا الإسلام، وقوله: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} المراد إطباقهم على الفتك بالرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والله تعالى أخبر الرسول بذلك حتى احترز عنهم، ولم يصلُوا إلى مقصودهم وقال السُّديُّ: «هو قولهم إذا قدمنا المدينة؛ عقدنا على رأس عبد الله بن أبيّ تاجاً فلم يصلوا إليه» .
قوله: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} .
في الاستثناء وجهان:
أحدهما: أنَّهُ معفول به، أي: وما كرهُوا وعابُوا إلاَّ إغناءَ الله إيَّاهم وهو من باب قولهم: ما لي عندك ذنبٌ إلاَّ أن أحسنت إليك، أي: إن كان ثم ذنبٌ فهو هذا، فهو تهكمٌ بهم؛ كقوله: [الطويل]
2815 - ولا عَيْبَ فينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ ... كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النَّمْلِ
وقول الآخر: [المنسرح]
2816 - مَا نَقمُوا مِنْ بَنِي أمَيَّة إلْ ... لا أنَّهُم يَحْلُمُون إن غضبُوا
وأنَّهُمْ سَادَةُ الملُوك ولا ... يَصْلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ(10/148)
والثاني: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، وعلى هذا فالمفعولُ به محذوف، تقديره: وما نقموا منهم الإيمان إلاَّ لأجل إغناء الله إيَّاهم. وقد تقدَّم الكلامُ على «نَقِمَ» [الأعراف: 126] .
قيل: إن مولى الجلاس قتل، فأمر له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى.
وقال الكلبيُّ: كانوا قبل قدوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة في ضنكٍ من العيشِ فلمَّا قدمَ عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استغنوا بالغنائم.
قوله: {فَإِن يَتُوبُواْ} أي: من نفاقهم: {يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي: يعرضوا عن التوبة {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا} بالخزي، وفي {الآخرة} بالنَّارِ {وَمَا لَهُمْ} في الأَرض {مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي: أنَّ عذاب الله إذا حق لم ينفعه وليّ ولا نصير.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} الآية.
«عاهد الله» فيه معنى القسم، فلذلك أجيب بقوله: «لنصَّدقنَّ» ، وحذف جوابُ الشرط لدلالة هذا الجواب عليه، و «اللاَّم» للتوطئةِ، ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللاَّم الموطئة له.
وقال أبُو البقاءِ: فيه وجهان:
أحدهما: تقديره: «عاهد، فقال: لئِنْ آتَانَا» .
والثاني: أن يكون «عاهد» بمعنى: قال، فإنَّ العهد قول. ولا حاجة إلى هذا.
قوله: {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ} قرأهما الجمهور بالنُّون الثقيلة. والأعمش بالخفيفة.
قال الزجاج الأصل: «لنتَصدَّقنَّ» ، ولكن التَّاء أدغمت في الصَّاد، لقربها منها.
قال الليثُ: المُتصدق: المعطي، والمُتصدق: السائل. قال الأصمعيُّ، والفرَّاءُ: هذا خطأ، فالمتصدق هو المعطي، قال تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} [يوسف: 88] واعلم أنَّ هذه السورة نزل أكثرها في شرح أحوال المنافقين؛ فلهذا ذكرهم على التفصيل فقال: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} [التوبة: 62] {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} [التوبة: 58] {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} [التوبة: 49] {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 75] .
والمشهور في سبب نزول هذه الآية: ما روى أبو أمامة قال: جاء ثعلبةُ بنُ حاطبٍ الأنصاريُّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ويحْكَ يا ثعلبةُ قليلٌ تُؤدِّي شُكرَهُ خيرٌ من كثيرٍ لا تُطِيقهُ» ثمَّ أتاهُ بعد ذلك فقال: «أمّا(10/149)
لكَ في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ؟ والذي نفسي بيدهِ لوْ أردتُ أن تسيرَ الجبالُ معي ذهباً وفضةً لسَارَتْ»
ثمَّ راجعه بعد ذلك، فقال: يا رسول الله: ادعُ الله أن يرزقني مالاً، والذي بعثك بالحقِّ لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اللَّهُمَّ ارزقْ ثعلبةَ مالاً» قال: فاتَّخذ غنماً؛ فنمت كما ينمو الدُّودُ، حتى ضاقَتْ بها المدينةُ فتنحَّى عنها، ونزل وادياً من أوديتها، وكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر، ويصلي في غنمة سائر الصلوات، ثم كثُرتْ ونمتْ، فتباعد حتى كان لا يشهدُ جمعةً ولا جماعة؛ فكان إذا كان يوم الجمعة خرجَ يتلقَّى النَّاس يسألهم عن الأخبار، فذكرهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم فقال: «ما فعل ثعلبةُ؟»
قالوا: يا رسول الله؛ اتَّخذَ غنماً ما يسعها وادٍ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يا ويْحَ ثَعلبةَ» فأنزل الله تعالى آية الصدقات؛ فبعث رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً من بني سليم، ورجلاً من جهينة، وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذانها، وقال لهما: «مُرَّا بثعلَبَة بنِ حاطبٍ، وبرجُلٍ من بنِي سليمٍ، فخذا صدقاتهما» فخرجا حتى أتيا ثعلبة؛ فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: هذه إلاَّ الجزية، ما هذه إلاَّ أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ، فانطلقا وسمع بهما السُّلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصَّدقة، ثم استقبلهما بها، فلمَّا رأياها قالا: ما هذه عليك؛ قال خذاه فإنَّ نفسي بذلك طيبة، فمرَّا على الناس، وأخذَا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال: أروني كتابكما؛ فقرأه ثم قال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلاَّ أختُ الجزية، اذهبا حتَّى أرى رأيي، قال فأقبلا، فلما رآهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال قبل أن يكلماه: يا ويْحَ ثعلبةَ، ثُمَّ دعا للسلميّ بخيرٍ؛ فأخبراه بالذي صنع ثعلبة؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} الآية على قوله: {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] وعند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلٌ من أقارب ثعلبةَ؛ فسمع ذلك، فخرج حتَّى أتاهُ فقال: ويْحَكَ يا ثعلبة، قد أنزل الله عزَّ وجلَّ فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسأله أن يقبل صدقته، فقال:
«إنَّ الله مَنَعنِي أن أقبلَ مِنْكَ صدقَتكَ» فجعل يَحثُو التُّرابَ على رأسِهِ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قد أمرتُك فلمْ تُطِعْنِي» ؛ فرجع إلى منزله، وقبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أتى أبا بكر بصدقته؛ فلم يقبلها اقتداء بالرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقبض أبو بكر، ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر، ثمَّ لم يقبلها عثمان، وهلك ثعلبةُ في خلافه عثمان.(10/150)
وقال ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بن جبير، وقتادةُ: أتى ثعلبة مشهداً من الأنصار؛ فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، وتصدقت منه، ووصلت منه القرابة، فمات ابن عمٍّ له، فورث منه مالاً، فلم يف بما قال؛ فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن ومجاهدٌ: نزلت في ثعلبةَ بن حاطبٍ، ومعتب بن قشير، وهما من بني عمرو بن عوف قد جاءا على ملأ قعوداً وقالا: والله لئن رزقنا الله لنصدقنَّ، فلما رزقهما بخلا به. والمشهورُ الأول.
فإن قيل: إنَّ الله أمره بإخراج الصَّدقة؛ فكيف يجوزُ للرسول أن لا يقبلها منه؟ .
فالجواب: لا يبعد أن يقال: إنَّ الله تعالى منع الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من قبول الصدقة منه إهانة له ليعتبر غيره؛ فلا يمتنع عن أداء الصدقات، أو أنَّه أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء، لا على وجه الإخلاص، وأعلم الله الرسول بذلك؛ فلذلك لم يقبل تلك الصدقة، ويحتمل أيضاً أن الله تعالى لما قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] كان هذا غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه؛ فلهذا امتنع الرَّسولُ - عليه الصلاو والسلام - من أخذ تلك الصَّدقةِ.
فإن قيل: المنافق كافرٌ، والكافر لا يمكنه أن يعاهد الله.
فالجواب: أنَّ المنافق قد يكون عارفاً بالله، إلاَّ أنه كان منكراً لنبوةِ محمدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله، ولكونه منكراً لنبوة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، كان كافراً.
وكيف لا أقول ذلك وأكثر العالم مقرون بوجود الصانع؟ أو لعله حين عاهد الله كان مسلماً، ثم لمَّا بخل بالمال، ولم يف بالعهدِ صار منافقاً، ولفظ الآية يدلُّ على ذلك لقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً} [التوبة: 78] .
فإن قيل: هل من شرط المعاهدة أن يتلفظ بها باللسان، أو يكفي النِّيَّة؟ .
فالجواب: قال بعضهم: تكفي النيةُ، وأن قوله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} [التوبة: 75] كان شيئاً نووه في أنفسهم لقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة: 78] . وقال المحققون: هذه المعاهدة مقيدة بالتَّلفظ باللسان، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ الله عفا لأمَّتي ما حدَّثتْ به أنفُسهَا ما لم تتكلَّم به أو تعمل» وأيضاً فقوله {لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} يشعر ظاهره بالقول باللسانِ.
فإن قيل: المراد من الصدقة إخراج المال، وهو على قسمين واجبٌ وغير واجب والواجبُ قسمان:(10/151)
قسم واجبٌ بأصل الشرع كالزَّكاة، والنفقات الواجبةِ.
وقسم لم يجب إلاَّ إذا التزمه العبد كالنذور.
فقوله: «لنصَّدَّقنَّ» هل يتناولُ الأقسام الثلاثة، أو لا؟
فالجوابُ: أنَّ الصَّدقات الَّتي ليست واجبة، غير داخلة في الآية، لقوله: «بخلوا به» والبخل في عرف الشَّرْعِ عبارة عن منع الواجب؛ ولأنَّه تعالى ذمَّهُم بهذا الترك، وتارك المندوب لا يذم.
بقي القسمان الواجبان؛ فالواجب بأصل الشرع داخل في الآية، لا محالة بقي الواجب بالنَّذر، والظَّاهر أن اللفظ لا يدلُّ عليه؛ لأنه ليس في الآية إلاَّ قوله {لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} وهذا ليس فيه إشعارٌ بالنَّذر، لأنَّ الرجل قد يعاهدُ ربَّهُ في أن يقوم بما يلزمه من الزَّكوات والنفقات الواجبة إن وسَّعَ اللهُ عليه.
فإن قيل: لفظ الآية يدلُّ على أنَّ الذي لزمهم إنَّما بسبب هذا الالتزام، والزكاةُ لا تلزم بسبب هذا الالتزام، وإنما تلزمُ بملك النصاب وحلول الحولِ.
فالجوابُ: قوله: «لنصَّدقنَّ» لا يوجبُ أن يفعلوا ذلك على الفور؛ لأنَّهُ إخبار عن إيقاع هذا الفعل في المستقبل، وهذا النذر لا يوجبُ الفور؛ فكأنهم قالوا: لنصدقن في وقته كما قالوا: {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} أي: في أوقات لزوم الصَّلاة؛ فثبت بما قرَّرْنَا أنَّ الدَّاخل تحت هذا العهد، إخراج الأموال الواجبة بأصل الشَّرع، ويؤكد هذا ما روي في سببن النُّزولِ أنَّ الآية إنَّما نزلت في حق من امتنع من أداة الزَّكاةِ.
فصل
المرادُ من «الفضل» ههنا: إيتاء المالِ بأي طريق كان، إمَّا بتجارة، أو غنيمةٍ أو غير ذلك. والمرادُ ب «الصَّالحينَ» : الصالح ضد المفسد، والمفسد عبارة عمَّن بخل بما يلزمه في التكليف، فالصَّالح: من يعملُ بعمل أهل الصَّلاحِ من صلة الرَّحمِ والنَّفقةِ في الخير، ونحو ذلك.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} .
قال الليثُ: يقال: أعقب فلاناً ندامةٌ، إذا صيرت عاقبة أمره ذلك، قال الهذليُّ: [الكامل]
2817 - أودى بنيَّ وأعقبُوني حَسْرَةً ... بَعْد الرُّقادِ وعبْرَةٌ لا تُقْلِعُ(10/152)
ويقال: أكل فلانٌ أكلةً فأعقبتهُ سُقْماً، وأعقبه الله خيراً، والمعنى: أخلفهم في قلوبهم أي: صير عاقبة أمورهم النفاق، عاقبهم بنفاق في قلوبهم، يقال: عاقبته وأعقبته بمعنى.
فصل
«فأعقبهم» فعل، ولا بد من إسناده إلى شيء تقدَّم ذكره، والذي تقدَّم ذكره هو الله تعالى، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض، ولا يجوزُ إسناد إعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التَّصدق أو الصلاح، لأنَّ هذه الثلاثة أعمال الخير؛ فلا يجوز جعلها مؤثرة في حصول النفاق في القلب؛ لأنَّ النفاقَ عبارة عن الكُفْرِ، وهو جهل وترك بعض الواجب لا يكون مؤثراً في حصول الجهلِ في القلب؛ لأنَّ ترك الواجب عدمٌ، والجهل وجود، والعدم لا يكون مؤثراً في الوجود؛ لأنَّ البخل والتولي والإعراض، قد يوجدُ في كثير من الفُسَّاقِ، مع أنَّهُ لا يحصلُ معه النفاق؛ ولأنَّ هذا الترك لو أوجب حصول الكفرِ في القلب لأوجبه، سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو محرماً شرعاً؛ لأنَّ سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً؛ ولأنه تعالى قال: {بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] فلو كان فعل الإعقاب مسنداً إلى البخل، والتولي، والإعراض لصار تقدير الآية: فأعقبهم ببخلهم وتوليهم وإعراضهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفُوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، وذلك لا يجوز؛ لأنَّه فرق بين التَّولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي، ومعلومٌ أنه كلام باطل؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يجوز إسناد الإعقاب إلى شيء من الأشياءِ المتقدم ذكرها إلاَّ إلى الله تعالى؛ فوجب إسناده إليه؛ فصار المعنى: أنَّ الله تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم، وذلك يدلُّ على أنَّ خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى، وهذا هو الذي قاله الزجاجُ، إنَّ معناه: أنَّهُم لمَّا ضلُّوا في الماضي فهو تعالى أضلَّهُم عن الدِّين في المستقبل، ويؤكدُ ذلك قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} فالضميرُ في قوله: «يَلقَوْنَهُ» عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله: «فأعْقَبَهُمْ» مسنداً إلى اللهِ تعالى.
قال القاضي «المرادُ من قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} أي: فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي: حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذُّل والذنب ويدوم بهم ذلك إلى الآخرة» .
وهذا بعيدٌ؛ لأنه عدولٌ عن الظَّاهر من غير دليل فإن ذكروا دليلاً عقلياً، قوبلوا بدليل عقلي. والله أعلم.
فصل
ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّ نقض العهد، وخلف الوعد، يورثُ النِّفاقَ، فيجب على المسلم الاحتراز عن ذلك، ويجتهد في الوفاءِ. ومذهب الحسنِ البصري: أنَّه يوجب(10/153)
النفاق لا محالة لهذه الآية، ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقاً وإن صلَّى وصامَ وزعمَ أنَّهُ مؤمنٌ، إذا حدَّث كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا ائْتُمِنَ خَانَ» .
ونقل أن واصل بن عطاء قال: أتى الحسن رجلٌ فقال له: إن أولاد يعقوب حدَّثُوه في قولهم {فَأَكَلَهُ الذئب} [يوسف: 17] فكذبوهُ، ووعدوه في قولهم: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] فأخلفوه، وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه، فهل نحكمُ بكونهم منافقين؟ قيل: فتوقف الحسن في مذهبه.
وفسَّر عمر بن عبيد الحديث فقال «إذا حدَّث عن الله كذب عليه، وعلى دينه، وعلى رسوله وإذا وعد أخلف كما ذكر الله فيمن عاهد الله، وإذا ائتمن على دين الله خان في السرِّ فكان قلبه على خلاف لسانه» .
قوله: {إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} قال الجبائيُّ «تمسَّكُوا في إثبات رُؤية الله بقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} [الأحزاب: 44] قال: واللقاء ليس عبارة عن الرؤية، بدليل قوله في صفة المنافقين {إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} وأجمعوا على أنَّ الكفَّار لا يرونه؛ فدلَّ على أنَّ اللقاء ليس عبارة عن الرؤية.
ويؤيدُه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» من حلفَ على يمينٍ كاذبةٍ ليقتطع بهَا حق امرئ مُسلمٍ لقيَ الله وهُو عليه غَضبَانُ «وأجمعوا على أنَّ المراد من اللقاء ههنا: لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا» .
قال ابن الخطيب «وهذا دليلٌ ضعيفٌ؛ لأنَّا إذا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرُّؤيةِ في هذه الآية، وفي الخبر لدليل منفصل؛ فلا يلزمنا ذلك في سائر الصُّور، كما إذا أدخلنا التَّخصيصَ في بعض العمومات لدليل منفصل؛ فلا يلزمنا أن نُخَصّصَ جميع العمومات من غير دليل فكما لا يلزمنا هذا لا يلزمنا ذلك» .
قوله: {بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} أي: أنَّ الله أعقبهم ذلك النِّفاق في قلوبهم لأجل إخلافهم الوعد، وعلى كذبهم. وقرأ الجمهور «يَكْذبُونَ» مخففاً، وأبو رجاء مثقلاً.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} الآية.
قرأ الجمهور «يَعْلمُوا» بالياء من تحت. وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ، والحسنُ،(10/154)
والسلمي بالخطاب، التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين والسِّر: ما ينطوي عليه صدورهم والنَّجْوَى: ما يفاوضُ فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم، مأخوذ من «النَّجْوِ» وهو الكلام الخفي كأنَّ المتناجين منعا إدخال غيرهما معهما، ونظيره قوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] وقوله تعالى: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً} [يوسف: 80] وقوله: {فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى}
[المجادلة: 9] ، والمعنى: أنَّ الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرَّءون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتَّناجي فيما بينهم، مع علمهم بأنَّهُ تعالى يعلم ذلك من حالهم، كما يعلم الظَّاهر، وأنَّهُ يعاقب عليه كما يعاقب على الظَّاهر.
قال: {وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب} والعَلاَّمُ: مبالغة في العالم، والغيب: ما كان غَائِباً عن الخلق.
قوله تعالى: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية.
في «الذين يَلْمِزُونَ» أوجه:
أحدها: أنه مرفوعٌ على إضمار مبتدأ، أي: هم الذين.
الثاني: أّنَّه في محل رفع بالابتداء، و «مِنَ الُمؤمنينَ» حالٌ من «المطَّوِّعين» .
و «في الصَّدقاتِ» متعلق ب «يَلْمِزُونَ» ، و «الَّذشينَ لا يَجِدُونَ» نسقٌ «المُطَّوِّعينَ» أي: يَعيبُونَ المياسير، والفقراء. وقال مكيٌّ: «والَّذينَ» خفضٌ، عطفاً على «المُؤمنينَ» ولا يَحْسُن عطفهُ على «المُطَّوِّعين» ؛ لأنه لمْ يتمَّ اسماً يعد؛ لأنَّ «فَيَسْخَرُونَ» عطف على «يَلْمِزُونَ» هكذا ذكره النَّحاسُ في الإعراب له، وهو عندي وهمٌ منه.
قال شهابُ الدِّين: «والأمر فيه كما ذكر، فإنَّ» المُطَّوِّعينَ «قد تمَّ من غير احتياجٍ لغيره» .
وقوله: «فَيَسْخرُونَ» نسقٌ على الصِّلةِ، وخبر المبتدأ: الجملةُ من قوله «سَخِرَ اللهُ منهُمْ» هذا أظهرُ إعراب قيل هنا.
وقيل: «والَّذينَ لا يَجِدُونَ» نسقٌ على «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ» ، ذكره أبُو البقاءِ وهذا لا يجُوزُ؛ لأنَّهُ يلزمُ الإخبارُ عنهم بقوله: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} ، وهذا لا يكون، إلاَّ بأنْ كان «الَّذِينَ لا يَجِدُون» مُنافقينَ، وأمَّا إذَا كانُوا مؤمنين، كيف يسخرُ الله منهم؟ . وقيل: «والَّذِينَ لا يَجِدُونَ» نسقٌ على «المُؤمنينَ» ، قاله أبُو البقاءِ.
قال أبُو حيَّان: «وهُو بعيدٌ جدّاً» . ووجهُ بعده: أنَّه يفهمُ أنَّ «الَّذِينَ لا يجدُونَ» ليسوا مؤمنين؛ لأن أصل العطف الدلالةُ على المُغايرةِ، فكأنَّنهُ قيل: يَلْمِزُونَ المطَّوِّعينَ من(10/155)
هذين الصنفين: المؤمنين، والذين لا يجدُونَح فيكون «الَّذِينَ لا يجدون» مطَّوِّعين غير مؤمنين.
وقال أبُو البقاءِ: «فِي الصَّدقاتِ» متعلقٌ ب «يَلمِزُونَ» ، ولا يتعلَّق ب «المُطَّوِّعينَ» لئلاَّ يفصل بينهما بأجنبي. وهذا فيه نظر؛ إذ قوله «مِنَ المؤمنينَ» حال، والحالُ ليست بأجنبيّ، وإنَّما يظهر في ردِّ ذلك أن «يطَّوَّع» إنَّما يتعدى بالياءِ، لا ب «في» وكون «في» بمعنى «الباء» خلاف الأصل. وقيل: «فَيَسْخَرُونَ» خبرُ المبتدأ ودخلتِ الفاءُ، لمَا تضمَّنهُ المبتدأ من معنى الشرط، وفي هذا الوجه بُعدٌ من حيثُ إنَّه يقرُب من كون الخبر في معنى المبتدأ فإنَّ من عاب إنساناً وغمزهُ علم أنَّهُ يسخرُ منه فيكون كقولهم: «سَيِّدُ الجاريةِ مالِكُهَا» .
الثالث: أن يكون محلُّه نصباً على الاشتغال، بإضمار فعل يُفسِّره «سَخِرَ اللهُ منهُم» من طريق المعنى، نحو: عاب الذين يلمزُون، سخر الله منهم.
الرابع: أنْ ينصب على الشتم.
الخامس: أن يكون مجروراً بدلاً من الضمير في «سِرَّهُم ونجْواهُمْ» .
وقرئ «يلْمُزون» بضم الميم، وقد تقدَّم أنَّها لغة، وقرأ الجمهور «جُهْدَهم» بضمِّ الجيمِ.
وقرأ ابنُ هرمز وجماعة «جَهْدهم» بالفتح. فقيل: لغتان بمعنى واحد. وقيل المفتوحُ المشقَّةُ والمضمومُ: الطَّاقةُ، قالهُ القتيبيُّ، وقيل: المضمومُ شيءٌ قيلٌ يعاشُ به والمفتوحُ: العملُ.
وقوله: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} يحتملُ أن يكون خبراً محضاً، وأن يكون دعاءً.
فصل
اعلم أنَّ هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة، وهو لمزهم من يأتي بالصَّدقاتِ.
قال المفسِّرون: حثَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الصَّدقةِ؛ فجاء عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ بأربعة آلافِ درهم، فقال: يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف درهم، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله، وأمسكتُ أربعة آلاف لعيالي.
فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أعْطيْتَ، وفيمَا أمْسَكْتَ» فبارك اللهُ في مال عبد الرحمن، حتَّى إنَّهُ خلف امرأتين يوم أن مات؛ فبلغ ثمنُ ماله لهما مائة وستون ألفاً وتصدق يومئذ عاصمُ بن عدي العجلاني بمائة وسْقٍ من تمر.(10/156)
وجاء أبُو عقيلٍ الأنصاري واسمه الحبحاب، بصاعٍ من تمرٍ، وقال: يا رسُول الله بتُّ ليلتي أجر بالجرير حتى نلتُ صاعين من تمرٍ؛ فأمسكتُ أحدهما لعيالي، وجئتُ بالآخر؛ فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينثره على الصَّدقاتِ؛ فلمزهم المنافقُون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياءً، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنَّهُ أحب أن يزكي نفسه ليعطى من الصَّدقات؛ فأنزل الله تعالى: «الَّذِينَ يلْمِزُون» أي: يعيبون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات، يعني: عبد الرحمن بن عوف وعاصماً، {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} أي: طاقتهم.
والجُهْدُ: شيء قليلٌ يعيش به المقلُّ، والجهد بالفتح، والجُهْد بالضمِّ بمعنى واحد يعني: أبا عقيل: «فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ» يستهزئون منهم، {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} أي: جازاهم على السخرية، وقال الأصمُّ: المرادُ أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروهُ من أعمال البرِّ مع أنَّهُ لا يثيبهم عليها؛ فكان ذلك كالسخرية، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية.
قال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ عند نزول الآية في المنافقين، قالوا: يا رسول الله، استغفر لنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سأسْتغفرُ لَكُمْ» ؛ فنزل قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} قد تقدَّم الكلام على هذا عند قوله: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} [التوبة: 53] ؛ وأنَّهُ نظيرُ قوله: [الطويل]
2818 - أسِيئِي بِنَا أوْ أحْسِني لا مُسِيئةٌ ... لدَينَا ولا مقليَّةٌ إنْ تقَلَّتِ(10/157)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
قوله تعالى: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ} الآية.
«بِمَقْعدِهِم» متعلقٌ ب «فرح» ، وهو يصلحُ لمصدر «قَعَدَ» ، وزمانه ومكانه.
قال الجوهريُّ «قَعَدَ قُعُوداً ومَقْعَداً» ، جَلس، وأقعَده غيره «والمخلف: المتروكُ، أي: خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والمؤمنون، لمَّا علموا تثاقلهم عن الجهادِ والمرادُ ب» المقعد «ههنا المصدر، أي؛ بقُعُودِهِمْ وإقامتهم بالمدينة. وقال ابنُ عبَّاسٍ: يريدُ: المدينة؛ فعلى هذا هو اسمُ مكانٍ.
فإن قيل: إنَّهم احتالُوا حتى تخلَّفُوا عن رسول الله؛ فكان الأولى أن يقال: فرح المتخلفون فالجوابُ من وجوه:
أحدها: أنَّ الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منع أقواماً من الخروج معه لعلمه أنَّهم يفسدون ويشوشون، وكان هذا في غزوة تبوك؛ فهؤلاء كانوا مخلَّفين لا متخلِّفين.
وثانيها: أنَّ أولئك المتخلفين صارُوا مخلفين في قوله بعد هذه الآية: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] ، فلمَّا منعهم الله من الخروج صارُوا مخلفين.
وثالثها: أنَّ من يتخلَّف عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد خروجه إلى الجهاد، يوصف بأنَّه مخلف من حيث إنَّهُ لم ينهض، وبقي وأقام.
قوله: {خِلاَفَ رَسُولِ الله} فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله» مَقْعدِهِمْ «؛ لأنَّه في معنى تخلَّفوا، أي: تخلَّفوا خلاف رسول الله.
الثاني: أنَّ» خلاف «مفعولٌ من أجله، والعامل فيه إمَّا» فَرِحَ «، وإمَّا» مَقْعَد «أي: فَرِحُوا؛ لأجل مخالفتهم رسول الله، حيثُ مضى هو للجهاد، وتخلَّفوا هم عنه، أو بقعودهم لمخالفتهم له، وإليه ذهب الطبريُّ، والزجاج، ومؤرِّج، وقطرُب، ويُؤيدُ ذلك قراءةُ من قرأ» خُلْف «بضم الخاء وسكون اللاَّم.
والثالث: أن ينتصب على الظرف، أي: بعد رسول الله، يقال: أقام زيد خلاف القوم، أي: تخلَّف بعد ذهابهم.(10/158)
قال الأخفش وأبو عبيدة: إنَّ» خلافَ «بمعنى:» خَلْف «، وأنَّ يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه: بعد رسول الله. ويؤيده قراءة ابن عبَّاسٍ، وأبو حيوة، وعمرو بن ميمون» خَلْفَ «بفتح الخاءِ وسكون اللاَّمِ.
وعلى هذا القول، الخلاف: اسم للجهةِ المعينة كالخلف، وذلك أنَّ المتوجِّه إلى قُدَّامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قُدَّامه في كونها جهة مُتوجِّهاً إليها، و» خِلافَ «بمعنى» خَلْف «مستعمل، وأنشد أبو عبيدة للأحوص: [الكامل]
2819 - عَقَبَ الرَّبيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا
وقول الآخر: [الطويل]
2820 - فَقُلْ للَّذِي يَبْقَى خلافَ الذي مَضَى ... تَأهَّبْ لأخْرَى مِثلهَا فكأنْ قَدِ
قوله تعالى: {وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} أي: إنَّهم فرحوا بسبب التخلف، وكرهُوا الذهاب إلى الغزو.
واعلم أنَّ الفرح بالإقامة يدل على كراهيةِ الذهاب، إلاَّ أنَّهُ أعاده للتَّأكيد، أو لعلَّ أن المراد أنَّ طبعه مال إلى الإقامة؛ لأجل إلفه البلدة، واستثنائه بأهله وولده، وكره الخروج إلى الغزو؛ لأنَّهُ تعريضٌ للمال والنفس للقتلِ، وأيضاً منعهم عن الخروج شدة الحرِّ في وقت خروج رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو المرادُ من قوله: {لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر} ، فأجاب اللهُ عن هذا الأخير بقوله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي: يعلمون، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود، أي: بعد هذه الدَّار، دار أخرى، وبعد هذه الحياة حياة أخرى، وأيضاً هذه مشقة منقضية، وتلك مشقة باقية.
وأنشد الزمخشريُّ لبعضهم: [الطويل]
2821 - مَسَرَّةَ أحْقابٍ تلقَّيْتُ بَعْدهَا ... مسَاءةَ يَوْمٍ أريُهَا شَبَهُ الصَّابِ
فَكيفَ بأنْ تَلْقَى مسرَّةَ سَاعَةٍ ... ورَاء تَقَضِّيها مَسَاءَةُ أحْقَابِ
قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرا} الآية.
«قَلِيلاً» ، و «كَثِيراً» فيهما وجهان:(10/159)
أظهرهما: أنَّهما منصوبان على المصدر، أي: ضحكاً قليلاً وبكاءً كثيراً؛ فحذف الموصوفَ، وهو أحدُ المواضع المُطَّردِ فيها حذفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مقامه.
والثاني: أنَّهما منصوبان على ظرفي الزمان، أي: زماناً قليلاً، وزماناً كثيراً والأول أولى؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على المصدر بشيئين: بلفظه ومعناه، بخلاف ظرف الزمان فإنه لا يدلُّ عليه بلفظه، بل بهيئته الخاصَّةِ.
وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلاَّ أنَّ معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، لقوله تعالى بعده {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
قوله: «جَزَاءً» فيه وجهان:
الأول: قال الزَّجَّاج: إنَّه مفعولٌ لأجله، أي: سبب الأمر بقلَّة الضَّحكِ، وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم. و «بِمَا» متعلق ب «جزاء» ، لتعديته به ويجوزث أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفته.
والثاني: أن ينتصب على المصدر بفعلٍ مقدَّرٍ، أي: يُجْزونَ جزاءً. {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} في الدنيا من النِّفاق.
قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} الآية.
«رَجَعَ» يتعدَّى كهذه الآية الكريمة، ومصدرُهُ: «الرَّجْع» ، كقوله {والسمآء ذَاتِ الرجع} [الطارق: 11] . ولا يتعدَّى، نحو: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] في قراءة من بَنَاهُ للفاعل. والمصدر: الرُّجوعُ، كالدُّخُولِ.
والمعنى: فإن ردَّك الله من غزوة تبوك إلى المدينة، ومعنى «الرجع» مصير الشَّيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال: رجعته رجعاً، كقولك: رددته رداً.
وقوله: {إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} إنَّما خصَّصَ؛ لأنَّ جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان بعضهم مخلصين معذورين، {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} معك في غزوة أخرى {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} في سفر، {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} وهذا يجري مجرى الذَّم واللَّعن لهم، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم؛ لأنَّ ترغيب المسلمين في الجهاد أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين محمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولمَّا منعوا هؤلاء من الخروج إلى الغزو بعد ذلك الاستئذان، كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام، ونظيره قوله تعالى
{سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم} [الفتح: 15] {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15] ، ثم إنَّه تعالى علَّل ذلك المنع بقوله {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ} أي: لأنكم رضيتم {بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ} في غزوة تبوك.
قال أبُو البقاءِ: «أوَّل مرَّةٍ» ظرف. قال أبُو حيَّان «يعني ظرف زمان وهو بعيد» .(10/160)
قال شهابُ الدِّين «لأنَّ الظَّاهر منصوبةٌ على المصدر. وفي التفسير: أول خرجةٍ خرجها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالمعنى: أول مرَّة من الخروج» .
قال الزمخشريُّ «فإن قلت:» مَرَّةٍ «نكرة، وضعت موضع المرات، للتفضيل، فلمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيل المضافُ إليها، وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرَّاتِ؟ قلت: أكثرُ اللُّغتين: أن يقال هند أكبرُ النساء، وهي أكبرهنَّ، ثم إنَّ قولك: هي كبرى امرأة، لا يكادُ يُعثر عليه، ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة وآخر مرة» .
والمعنى: أنَّ الحاجةَ في المرَّة الأولى إلى موافقتكم كانت أشدّ، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلَّفْتُم عند مسيس الحاجة إلى حضُورِكُم؛ فبعد ذلك لا نقبلكم، ولا نلتفتُ إليكم.
قوله: «مَعَ الخالفين» هذا الظَّرفُ يجوز أن يكون متعلقاً ب «اقْعُدُوا» ، ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّه حال من فاعل «اقْعُدُوا» . والخَالِفُ: المتخلِّفُ بعد القوم.
قال الأخفشُ، وأبو عبيده: «الخَالِفُونَ» جمع، واحدهم «خالف» ، وهو من يخلف الرجل في قومه. والمعنى: مع الخالفينَ من الرِّجال الذين يخلفون في البيت، فلا يبرحون.
وقال الفرَّاءُ: المراد: ب «الخَالِفينَ» ، يقالُ: عبد خالف، إذا كان مخالفاً. وقال الأخفشُ: فلان خالفةُ أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم، وقال الليثُ: يقال هذا رجل خالفةٌ، أي: مخالف كثير الخلاف، فإذا جمع قلت: الخالفُونَ. وقال الأصمعيُّ: الخالفُ: هو الفاسد، يقال: خلف فلان عن كل خير يخلف خلوفاً، إذا فسد ومنه «خُلُوف فَمِ الصَّائمِ» ، والمراد بهم: النِّساءُ والصبيانُ والرِّجالُ العاجزون؛ فلذلك جازَ جمعهُ للتَّغليب. وقال قتادةُ: الخَالِفُونَ: النِّسَاء «وهو مردودٌ، لأجْلِ الجمع. وقرأ عكرمة، ومالكُ بن دينارٍ» مَعَ الخَلِفينَ «مَقصُوراً من» الخَالِفِينَ «؛ كقوله: [الرجز]
2822 - مِثْلُ النَّقَا لَبَّدَهُ ضَرْبُ الظِّلَلْ ... وقوله: [الرجز]
2823 - ... ... ... ... ... ... ... . عَرِدَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... بَرِدَا
يريد:» الظِّلال «و» عَرِدّا «: بَارِداً.(10/161)
قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم} الآية.
» مِنْهُم «صفةٌ ل» أحَدٍ «، وكذلك الجملة من قوله:» مَاتَ «، في موضع جر أيضاً كأنه قيل: على أحدٍ منهم ميت، ويجوزُ أن يكون» مِنْهُم «حالاً من الضَّمير في» مَاتَ «أي: مات حال كونه منهم، أي: مُتَّصِفاً بصفة النِّفاقِ، كقولهم: أنت مني، يعني: على طريقتي و» أبَداً «ظرف منصوب بالنهي، وهذا الظَّرفُ متعلق ب» أحَد «، والتقدير: ولا تصل أبداً على أحدٍ منهم.
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى أمر رسوله أن يُهينَهُم، ويذلهم، بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات ثمَّ منعه في هذه الآية من أن يُصلي على من مات منهم. روى ابنُ عبَّاسٍ: أنَّه مات، ويقوم على قبره، ثمَّ إنه أرسل إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وطلب منه قميصه، ليكفن فيه؛ فأرسل إليه القميص الفوقاني، فردَّه، وطلب الذي يلي جلده ليكفَّن فيه، فقال عمرُ: لِمَ تُعطِي قميصَك للرجس النَّجس؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّ قميصِي لا يُغْنِي عنهُ مِنَ اللهِ شيئاً، ولعلَّ اللهَ أن يُدخلَ بِه ألفاً في الإسلام» وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله؛ فلمَّا رأوه يطلبُ القميص، ويرجو أن ينفعه، أسلم منهم يومئذ ألفٌ.
فلمَّا مات جاء ابنُهُ يعرفه، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لابنه: «صَلِّ عليْهِ واذْفِنْهُ» ، فقال: إن لم تُصل عليه يا رسول الله لم يُصَلّ عليه مسلمٌ، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ليصلِّي عليه؛ فجاء عمر فقام بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين القبلة؛ لئلاَّ يصلي عليه، فنزلت الآية وأخذ عمر بثوبه وقال: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} ، وهذا يدلُّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر؛ وذلك لأنَّ الوَحْيَ نزل على وَفْق قوله في آيات كثيرة منها: آية أخذ الفداء عن أسارى بدر كما سبق، ومنها: «آية تحريم الخمر» [المائدة: 90] ، ومنها: «آية تحويل القبلة» [البقرة: 142] ، ومنها: آية أمر النِّساء بالحجاب، وهذه الآية؛ فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً، ودرجة رفيعة في الدِّين، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لوْ لَمْ أبْعَثْ لبعثتَ يا عمر نبيّاً» .
قال القرطبيُّ: إن قال قَائِلٌ، كيف قال له عمر: أتصلي عيه، وقد نهاكَ اللهُ أنْ(10/162)
تُصَلِّي عليه ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم؟ قيل له: يحتملُ أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد كان القرآن ينزل على وفق مراده، كما قال: وافقت ربي في ثلاث، وجاء: في أربع؛ فيكون هذا من ذاك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، ويحتملُ أن يكون فهم ذلك من قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] فإن قيل: كيف يجوزُ أن يرغب الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الصَّلاة عليه بعد علمه بأنه كافر وقد مات على كفره، وأنَّ صلاة الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تجري مجرى الإجلال والتَّعظيم وأيضاً فالصَّلاة عليه تتضمَّنُ الدُّعاء له، وذلك محظورٌ؛ لأنَّه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكافرِ ألبتة، وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه؟ .
فالجواب: لعلَّ السَّبب فيه، أنَّه لمَّا طلب من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - القميص الذي يمسّ جلده، ليدفن فيه، غلب على ظنّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه آمن؛ لأنَّ ذلك الوقت وقت توبة الفاجر، وإيمان الكافر، فلمَّا رأى منه إظهار الإسلام، وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على إسلامه، غلب على ظنِّه إسلامه؛ فبنى على هذا الظَّن، ورغب في الصلاة عليه، فلمَّا نزل جبريلُ عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه؛ امتنع من الصلاة عليه وأمَّا دفع القميص إليه، وكان رجلاً طويلاً؛ فكساهُ عبد الله قميصه. وقيل: إنَّ المشركين قالوا له يوم الحديبيةِ: إنَّا لا ننقادُ لمحمَّدٍ، ولكنَّا ننقاد لك، فقال: لا، إنَّ لي في رسول الله أسوةً حسنةً؛ فشكر رسولُ الله له ذلك. قال ابنُ عيينة: كانت له عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدٌ فأحبَّ أن يُكافِئَهُ.
وقيل: إنَّ الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً، لقوله تعالى: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 10] فلمَّا طلب القميص منه دفعه إليه، لهذا المعنى. وقيل: إنَّ منع القميص لا يليقُ بأهل الكرم وذلك أنَّ ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ كان من الصالحين؛ فالرسولُ أكرمه لمكان ابنه وقيل: لعلَّ اللهَ تعالى أوحى إليه، أنَّك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك سبباً لدخول نفر من المنافقين في الإسلامِ، فقيل لهذا الغرض، كما روي فيما تقدَّم، وقيل: إنَّ الرّأفة والرحمة كانت غالبةً عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فامتنع من الصَّلاة عليه، لأمر الله تعالى، ودفع القميص رأفة ورحمة.
واعلم أنَّ قوله {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} يحتملُ تأبيد النَّفي، ويحتملُ نفي التأبيد والأول هو المقصودُ؛ لأنَّ قرائن هذه الآية دالَّة على أنَّ المقصود منعه من أن يصلِّي على أحد منهم منعاً كُلِّيّاً دائماً.
ثم قال: {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} وفيه وجهان:(10/163)
الأول: قال الزَّجَّاجُ «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له» فمنع منه ههنا. الثاني: قال الكلبي: «لا تقم بإصلاح مُهمَّات قبره، ولا تتولّ دفنه» ، من قولهم: قام فلانٌ بأمر فلان، إذا كفاه أمره، ثمَّ إنه تعالى علَّل المنع من الصَّلاة عليه، والقيام على قبره بقوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} .
فإن قيل: الفسقُ أدْنَى حالاً من الكفر، فلما علل بكونه كافراً؛ فما فائدةُ وصفه بعد ذلك بالفسق؟ .
فالجوابُ: أنَّ الكافر قد يكونُ عدلاً في دينه، وقد يكون فَاسِقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه، بالكذب، والخداع، والمكر، وهذه أمورٌ مستقبحةٌ في جميع الأديان، فالمنافقون لمَّا كانوا موصوفين بهذه الصفات، وصفهم الله تعالى بالفسقِ بعد أن وصفهُم بالكفر، تنبيهاً على أنَّ طريقة النِّفاق طريقة مذمُومة عند جميع العالم.
فإن قيل: قوله {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله} صريح بأنَّ ذلك النَّهي معلّلٌ بهذه العلة، وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى، وهو محال، فإنَّ حكم الله قديمٌ، وهذه العلة محدثة، وتعليل المحدث بالقديم محال.
فالجوابُ: أنَّ البحث في هذه المسألة طويل، وظاهرُ هذه الآية يدلُّ عليه.
فصل
قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} نصّ في الامتناع من الصلاة على الكُفَّار، وليس فيه دليل على الصَّلاة على المؤمنين، واختلفوا هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين؟ فقيل: يُؤخذ؛ لأنَّه علَّل المنع من الصَّلاة على الكُفَّار لكفرهم لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ، فإذا زال وجبت الصَّلاةُ، لقوله تعالى {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] يعني: الكفَّار؛ فدلَّ على أنَّ غير الكفار يرونه وهم المؤمنون.
وقيل: إنَّما تؤخذ الصَّلاة من دليلٍ خارج، وهو الأحاديث، والإجماع. ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطابِ وتركه.
فصل
جمهورُ العلماءِ على أنَّ التكبير في الصَّلاة على المَيّت أربع تكبيرات. وقال ابنُ سيرين: كان التكبير ثلاثاً فزادُوا واحدةً، وعن ابن مسعود، وزيد بن أرقم، يكبر خَمْساً وعن عليٍّ: ست تكبيرات.(10/164)
فصل
قال القرطبيُّ: ولا قراءة في صلاة الجنازة في المشهور من مذهب مالكٍ. وكذا أبو حنيفة والثوري، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذا صلَّيْتُم على المَيِّت فأخْلِصُوا له الدُّعاءِ» وذهب الشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، ومحمدُ بنُ سلمة، وأشهب، وداوود: إلى أنه يقرأ بالفاتحة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا صلاةَ لِمَنْ لا يَقْرَأ بفَاتِحَةِ الكتابِ» .
والسُّنَّةُ أن يقفَ الإمامُ عند رأسِ الرجل، وعند عجيزةِ المرْأةِ.
قوله تعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ} الآية.
قيل: هذا تأكيدٌ للآيةِ السَّابقة. وقال الفارسيُّ: «ليست للتأكيد؛ لأنَّ تيكَ في قومٍ وهذه في آخرين، وقد تغاير لفظا الآيتين؛ فهنا» ولاَ «بالواو، لمناسبة عطف نَهْي على نَهْي قبله في قوله:» ولا تُصَلِّ. . ولا تَقُمْ «،» ولاَ تُعْجِبكَ «، فناسبَ ذلك» الواو «، وهناك ب» الفاء «، لمناسبة تعقيب قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] أي: للإنفاق، فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ، فنهاهُ عن الإعجاب ب» فاء «التعقيب. وهنا» وأولاَدهُمْ «دون» لا «نهيٌ عن الإعجاب بهما مجتمعين، وهناك بزيادة» لا «لأنَّه نهيٌ عن كل واحد واحد، فدلَّ مجموعُ الآيتين على النَّهي بالإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين» .
قال ابنُ الخطيبِ «السَّبَبُ فيه: أنَّ مثل هذا التَّرتيب يبتدأُ فيه بالأدْنَى ثمَّ يترقَّى إلى الأشرف، فيقال: لا يُعْجِبُنِي أمر الأمير، ولا أمر الوزير، وهذا يدلُّ على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم» .
وهنا قال «أن يُعذِّبَهُم» ، وهناك قال «ليُعَذِّبَهُم» ، فأتى ب «اللاَّم» المشعرة بالغلية ومفعول الإرادةِ محذوفٌ، أي: إنَّما يريد الله اختبارهم بالأموالِ والأولادِ - وأتى ب «أنْ» ؛ لأنَّ مصبَّ الإرادة التَّعذيبُ، أي: إنَّما يريد الله تَعْذيبَهُم، فقد اختلف مُتعلَّقُ الإرادة في الآيتين. هذا هو الظَّاهر. وقال ابنُ الخطيب «فائدته: التَّنبيه على أنَّ التعليلَ في أحكام الله تعالى محالٌ، وإنَّما ورد حرفُ التعليل زائداً ومعناه» أنْ «لقوله تعالى {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} [البينة: 5] ، أي:» وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله «. وهناك» فِي الحياةِ الدُّنْيَا «، وهنا(10/165)
سقطت» الحَيَاة «، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدُّنْيَا وأنَّها لا تَسْتحق أن تُسمَّى حياة، لا سيما وقد ذُكرت بعد ذكر موتِ المنافقين؛ فناسبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة» .(10/166)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
قوله تعالى: {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} الآية.
«إذَا» لا تقتضي تكراراً بوضعها، وإن كان بعضُ النَّاسِ فهم ذلك منها هنا، وقد تقدَّم ذلك أوَّل البقرة؛ وأنشد عليه: [البسيط]
2824 - إذَا وَجَدْتُ أوَارَ الحُبِّ فِي كَبِدِي..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وأنَّ هذا إنَّما يُفهَمُ من القرائنِ، لا منْ وضع «إذَا» .
قوله: «أَنْ آمِنُواْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها تفسيريةٌ؛ لأنَّه فيه تقدَّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه.
والثاني: أنَّها مصدريةٌ، على حذف حر الجرّ، أي: بأنْ آمنُوا.
وفي قوله: «استأذنك» التفاتٌ من غيْبَةٍ إلى خطابٍ، وذلك أنَّهُ قد تقدَّم لفظُ «رسُوله» ، فلو جاء على الأصل لقيل: اسْتَأْذَنَهُ «.
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى بيَّن في الآيات المتقدمة احتيال المنافقين في التَّخلف عن رسُول الله - عليه الصَّلاة والسَّلام -، والقعود عن الغَزْوِ، وزاد ههنا، أنَّهُ متى نزلت أية فيها الأمر بالغزو مع الرسولِ، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلُّف عن الغزو، وقالوا للرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ذَرْنَا نكُن مع القاعدين، أي: مع الضُّعفاء من النَّاس والسَّاكنين في البلد.
و» السُّورة «يجوزُ أن يراد تمامها وأن يراد بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كلِّه وبعضه وقيل: المرادُ ب» السُّورة «براءة؛ لأنَّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد.
قوله {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} .(10/166)
الخَوالِفُ: جمع خالفٍ من صفة النِّساءِ، وهذه صفةُ ذمّ؛ كقول زهير: [الوافر]
2825 - ومَا أدْرِي وسَوْفَ إخَالُ أدْرِي ... أَقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ؟
فإنْ تَكُنِ النِّساءُ مُخَبَّآتٍ ... فحُقَّ لِكُلِّ مُحْصَنَةٍ هِدَاءُ
وقال آخر: [الخفيف]
2826 - كُتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا ... وعَلَى الغَانياتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وقال النَّحَّاسُ» يجوزُ أن تكون الخوالف من صفة الرِّجالِ، بمعنى أنَّها جمعُ «خالفة» يقال: رجل خالفة، أي: لا خير فيه «. فعلى هذا يكونُ جمعاً للذكور، باعتبار لفظه. وقال بعضهم: إنَّه جمع» خالف «، يقال: رجل خالفٌ، أي: لا خير فيه. وهذا مردودٌ، فإنَّ» فواعِل «لا يكونُ جمعاً ل» فَاعلِ «، وصفاً لعاقل، إلاَّ ما شذَّ، من نحو: فَوَارِس، ونَواكِس وهَوالك.
ثم قال تعالى: {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 87] وقد تقدَّم الكلامُ في الطَّبْعِ والختم، أوَّل البقرة.
قوله تعالى: {لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ} الآية.
ومعنى هذا الاستدراك: أنَّه إن تخلَّف هؤلاء المنافقون عن الغزو؛ فقد توجه إليه من هو خير منهم ونظيره: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] وقوله: {فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار} [فصلت: 38] ، ولمَّا وصفهم بالمُسارعةِ إلى الجهادِ، ذكر ما حصل لهم من الفوائدِ، وهي أنواع، أوَّلها: قوله {وأولئك لَهُمُ الخيرات} والخيراتُ: جمع خَيْرة، على» فَعْلة «بكسون العين، وهو المُسْتَحْسَنُ من كُلِّ شيءٍ، وغلبَ استعماله في النِّساء، ومنه قوله تعالى:
{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] ؛ وقول الشَّاعر: [الكامل]
2827 - ولقَدْ طَعَنْتُ مَجامِعَ الرَّبَلاتِ ... ربلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الملكاتِ
قال المُفسَّرونَ: هي الجواري الحسان والجنَّة. وقال ابنُ عبَّاس: «الخيْرَاتُ» لا يعلم معناهُ إلاَّ الله، كما قال جلَّ ذكرهُ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ٍ. وقيل: المرادُ: ب «الخَيْرَات» الثَّواب.(10/167)
وثانيها: قوله: {وأولئك هُمُ المفلحون} ، والمرادُ منه: التخلص من العقاب.
وثالثها: قوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} يحتملُ أن تكون هذه الجنات كالتَّفسير للخيراتِ والفلاحِ، ويحتملُ أن تحمل الجنات على ثواب الآخرة، والفلاح على منافع الدُّنيا، كالغزو، والثروة، والقدرةِ، والغلبةِ، و «الفَوزُ العظيمُ» عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعه، ودرجة عالية.
قوله تعالى: {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب} الآية.
لمَّا شرح أحوال المنافقين الذين كانُوا في المدينة، شرح في هذه الآية أحوال المنافقين من الأعراب.
قرأ الجمهور «المُعذِّرُونَ» بفتح العين وتشديد الذَّال، وهي تحتمل وجهين:
أن يكون وزنه «فعَّل» مضعّفاً، ومعنى التَّضعيف فيه التكليف، والمعنى: أنه توهَّم أنَّ لهُ عُذراً، ولا عذر لهُ.
والثاني: أن يكون وزنه «افْتَعَل» ، والأصلُ: «اعتذرَ» ، فأدغمت التاءُ في الذال بأن قلبت تاءُ الافتعال ذالاً، ونُقِلت حركتها إلى السَّاكن قبلها، وهو العين، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جُبير «المُعْتَذِرُونَ» على الأصل، وإليه ذهب الأخفشُ، والفرَّاءُ وأبو عبيد، وأبو حاتم، والزَّجَّاجُ، وابن الأنباري، والاعتذار قد يكُون بالكذبِ، كما في قوله {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 94] ، وكان ذلك الاعتذار فاسداً، لقوله: «لا تَعْتَذِرُوا» ، وقد يكون بالصِّدقِ، كقول لبيد: [الطويل]
2828 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقدِ اعتذرْ
يريد: فقد جاء بعُذْرٍ.
وقرأ زيد بن عليّ، والضحاكُ، والأعرجُ، وأبو صالح، وعيسى بن هلال، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أيضاً، ويعقوب، والكسائي «المُعْذرُونَ» بسكون العين وكسر الذَّال مخففة من أعْذَر، يُعْذِر ك «أكْرَم، يُكْرِم» ، وهم المبالغون في العُذْرِ.
وقرأ مسلمةُ «المُعَّذِّرُون» بتشديد العين والذال، من «تعذَّرَ» بمعنى اعْتذرَ.(10/168)
قال أبُو حاتمٍ: أراد «المتعذَّرون» والتاء لا تدغم في العين، لبُعد المخارجِ وهي غلطٌ منه، أو عليه.
قوله: «ليُؤذنَ» متعلقٌ ب «جَاءَ» وحذفَ الفاعلُ، وأقيمَ الجارُّ مقامه، للعلم به، أي: ليأذن لهم الرسول.
فصل
أمَّا قراءةُ التخفيف فهم الكاذبون في العذر، وأمَّا قراءة التشديد، فمحتملة لأن يكونُوا صادقين، وأن يكُونُوا كاذبينَ. قال ابنُ عبَّاسٍ «هم الَّذِين تخلَّفُوا بعذرٍ بإذن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وهو قول بعض المفسرين أيضاً، قال: المعذرون، كانوا صادقين؛ لأنَّه تعالى لمَّا ذكرهم قال بعدهم {وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} ، فلمَّا ميَّزهم عن الكاذبين دلَّ على أنَّهم لَيْسُوا كاذبينَ.
وقال الضَّحَّاكُ: هُم رهطُ عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دفاعاً عن أنفسهم، فقالُوا: يا نبيَّ الله: إنْ نحنُ غزونَا معك أغارت أعرابُ طيىءٍ على حلائلنا، وأولادنا، ومواشينا، فقال لهم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نَبَّأني الله من أخباركم، وسيغنيني الله عنكم.
وروى الواحديُّ عن أبي عمرو: أنَّهُ لمَّا قيل له هذا الكلام قال: إنَّ أقواماً تكلَّفُوا عُذْراً بباطل فهمُ الذين عناهم بقوله: «وَجَآءَ المعذرون» ، وتخلَّف آخرون لا بعُذر ولا بشبهةِ عذرٍ جراءة على الله تعالى؛ فهم المرادون بقوله {وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} ، فأوعدهُم بقوله: {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} في الدُّنيا بالقتلِ، وفي الآخرة بالنَّارِ.
وإنَّما قال «مِنْهُم» ؛ لأنَّه تعالى كان عالماً بأنَّ بعضهم سيؤمن، فذكر بلفظة «مِنْ» الدَّالة على التَّبعيض.
وقرأ الجمهور «كَذبُوا» بالتَّخفيف، أي: كذبُوا في أيمانهم. وقرأ الحسنُ في المشهور عنه وأبيٌّ، وإسماعيل «كذَّبُوا» بالتَّشديد، أي: لَمْ يُصدِّقُوا ما جاء به الرَّسولُ عن ربِّه ولا امتثلوا أمره.(10/169)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
ثمَّ ذكر أهل العذر فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء} قال ابنُ عبَّاسٍ: يعني: الزَّمنى، والمشايخ والعجزة.
وقيل: هم الصُّبيان. وقيل: النِّسوان. {وَلاَ على المرضى} وهم أصحاب العمى، والعرج والزمانة ومن كان موصُوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة، {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} يعني: الفقراء؛ لأنَّ حضورهُم يكون كلاًّ ووبالاً على المجاهدين، «حَرَجٌ» إثم. وقيل: ضيق عن القعود في الغزو. ثم إنَّه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً مُعيَّناً، فقال {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} . قرأ أبو حيوةَ: «نَصَحُوا اللهَ» بغير لام. وقد تقدَّم أن «نَصَحَ» يتعدَّى بنفسه وباللامِ. والنُّصح: إخلاص العملِ من الغِشّ. ومنه: التَّوبة النصُوح. قال نفطويه: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول: أي: أخلصه له. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الدِّينُ النَّصيحَةُ» ثلاثاً. قالوا لمنْ؟ قال: «للهِ ولكتابِهِ ولرسُوله ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتهمْ» .
قال العلماءُ: النَّصيحة للهِ: إخلاص الاعتقاد في الوحدانيَّةِ، ووصفه بصفات الألوهيَّةِ وتنزيهه عن النَّقائص، والرَّغبة في محابه، والبُعْد من مساخطه، والنَّصيحة لرسوله: التصديق بنُبُوَّتِهِ والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبَّتِهِ ومحبَّةِ آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنَّته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والنفقة فيها، والذب عنها، ونشرها، والدُّعاء إليها، والتخلُّق بأخلاقه الكريمة، وكذا النصح لكتاب الله قراءته، والتفقه فيه، والذَّب عنه، وتعليمه وإكرامه، والتخلُّق به.
والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحقِّ، وتثبيتُهُمْ فيما أغفلوه من أمر المسلمين، ولزوم طاعتهم، والقيام بواجب حقهم. وأمَّا النصحُ للعامَّةِ: فهو ترك معاداتهم وإرشادهم، وحب الصَّالحين منهم، والدعاء لجميعهم، وإرادة الخير لكافتهم. والمعنى: أنَّهُمْ إذا أقاموا لا يلقوا الأراجيف، ولا يثيروا الفتنَ، ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين ويقوموا بإصلاح مهمَّات بيوتهم، ويسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم، ويخلصوا الإيمان والعمل لله، فهذه أمورٌ جارية مجرى الإعانة على الجهادِ.(10/170)
ثم قال تعالى: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} فقوله «مِنْ سبيلٍ» فاعلٌ بالجار قبله لاعتماده على النَّفْي، ويجوز أن يكون مبتدأ، والجار قبله خبره. وعلى كلا القولين ف «مِنْ» مزيدةٌ فيه، أي: ما على المحسنين سبيل. والمعنى: أنَّهُ لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد.
{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال قتادةُ: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه. وقال الضحاكُ نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أم مكتوم، وكان ضريراً.
فصل
قال بعضهم: في هذه الآية نوعٌ من البديع، يُسمَّى التلميح، وهو أن يشارَ إلى قصةٍ مشهورةٍ، أو مثل سائرٍ، أو شعرٍ نادرٍ، في فحوى كلامك من غير ذكره؛ ومنه قوله: [البسيط]
2829 - اليَوْمَ خَمْرٌ ويبْدُو في غدٍ خبرٌ ... والدَّهْرُ مِنْ بيْنِ إنعامٍ وإبْآسِ
يُشير إلى قول امرئ القيس لمَّا بلغه قتلُ أبيه: «اليوم خَمْرٌ، وغداً أمرٌ» .
وقول الآخر: [الطويل]
2830 - فواللهِ مَا أدْرِي أأحلامُ نَائِمٍ ... ألمَّتْ بِنَا أم كان في الرَّكْبِ يُوشَعُ؟
يشير إلى قصَّة يوشع عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، واستيقانه الشَّمس.
وقول الآخر: [الطويل]
2831 - لَعمرٌو مَعَ الرَّمضَاءِ والنَّارُ تَلتَظِي ... أرَقُّ وأحْفَى مِنْكَ في ساعةِ الكَرْبِ
أشار إلى البيت المشهور: [البسيط]
2832 - المُسْتجيرُ بعمْرٍو عندَ كُرْبتِهِ ... كالمُسْتَجيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ
فكأنه قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} اشتهر ما هو بمعناه بين النَّاس؛ فأشار إليه من غير ذكر لفظه. ولمَّا ذكر أبو حيان التلميح لم يُقَيِّدَهُ بقوله: «من غير ذكره» . ولا بُدَّ منه لأنَّه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً.(10/171)
فصل
اختلفوا في قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} هل يفيدُ العموم؟ فقال بعضهم: لا؛ لأنَّ اللفظ مقصورٌ على أقوام مُعَيَّنينَ نزلت الآية فيهم. وقال آخرون: بلى؛ لأنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السَّببِ، والمُحسن هو الآتي بالإحسان، ورأس الإحسان لا إله إلاَّ اللهَ، فكلُّ مَنْ قالها واعتقدها، كان من المسلمين، فاقتضت نفي جميع المسلمين؛ فدلَّ هذا اللفظ بعمومه على أنَّ الأصلَ حرمة القتلِ، وحرمة أخذ المالِ وأن لا يتوجه عليه شيء من التَّكاليفِ، إلاَّ بدليلٍ منفصل، فصارت هذه الآية بهذا الطريق أصلاً مُعتبراً في الشريعة، في تقرير أنَّ الأصل براءة الذِّمة، إلى أن يرد نص خاص.
قوله: {وَلاَ عَلَى الذين} . فيه أوجه:
أحدها: أن يكون معطوفاً على «الضُّعفاء» ، أي: ليس على الضعفاءِ، ولا على الذين إذا ما أتوكَ، فيكونون داخلين في خبر «ليس» مُخْبراً بمتعلقهم عن اسمها، وهو «حَرَجٌ» .
الثاني: أن يكون معطوفاً على «المُحْسنينَ» فيكونون داخلين فيما أخبر به من قوله: «مِنَ سبيلٍ» ، فإنَّ «مِنْ سبيلٍ» يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون اسم «ما» الحجازية، و «مِنْ» مزيدةٌ في الوجهين.
الثالث: أن يكون «ولا علَى الَّذِينَ» خبراً لمبتدأ محذوف، تقديره: ولا على الذين إذا ما أتوكَ. . إلى آخر الصلة، حرجٌ، أو سبيلٌ وحذف لدلالةِ الكلامِ عليه، قاله أبُو البقاءِ. ولا حاجةَ إليه، لأنَّه تقديرٌ مُسْتغنًى عنه إذ قدَّر شيئاً يقومُ مقامهُ هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى. وهذا الموصولُ، أعني قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ} ، يحتملُ أن يكون مندرجاً في قوله: {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم، وألا يكونوا مندرجين، بل أن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقونَ، إلاَّ أنَّهُمْ لمْ يَجدُوا مرْكُوباً. وقرأ معقل بنُ هارون «لنَحْملَهُمْ» بنون العظمة، وفيها إشكالٌ، إذ كان مقتضى التركيب: قلت: لا أجدُ ما يحملكم عليه الله.
قوله: «قُلْتَ» فيه أربعة أوجهٍ، أحدها: أنَّهُ جواب «إذا» الشَّرطيَّة، و «إذَا» وجوابها في موضع الصِّلةِ، وقعت الصِّلةُ جملة شرطية، وعلى هذا؛ فيكونُ قوله: «تولَّوا» جواباً لسؤال مقدر كأنَّ قائلاً قال: ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب؟ فأجيب بقوله: «تَوَلَّوْا» .
الثاني: أنَّه في موضع نصب على الحال، من «أتوكَ» ، أي: إذَا أتوكَ، وأنت قائلٌ: لا أجدُ ما أحملكم عليه، و «قَدْ» مقدرة، عند من يشترطُ ذلك في الماضي الواقع حالاً،(10/172)
كقوله: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] في أحد أوجهه كما تقدَّم، وإلى هذا نحا الزمخشريُّ.
الثالث: أن يكون معطوفاً على الشَّرط؛ فيكون في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف، والتقدير: وقلت، وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني، وتبعه ابنُ عطيَّة، إلا أنَّه قدَّر العاطف فاءً أي: فقلت.
الرابع: أن يكون مستأنفاً. قال الزمخشريُّ «فإن قلت: هل يجُوزُ أن يكون قوله:» قلت لا أجدُ «استئنافاً مثله؟ - يعني مثل: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} [التوبة: 93]- كأنَّه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولَّوا، فقيل: ما لهُم تولَّوا باكينَ؟ قلت لا أجدُ ما أحملهم عليه إلاَّ أنَّه وسط بين الشرط والجزاء، كالاعتراض؟ قلتُ: نعم، ويحسنُ» انتهى.
قال أبُو حيَّان «ولا يجوزُ، ولا يحسن في كلام العربِ، فكيف في كلام الله؟ وهو فهم أعجمي» قال شهابُ الدين: وما أدري ما سببُ منعه، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنًى؟ وذلك لأنَّ تولِّيهم على حالة فيض الدَّمع ليس مرتباً على مجرَّد مجيئهم له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لهم ذلك سببٌ في بكائهم؛ فحسن أن يجعل قوله: {قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ} جواباً لمنْ سأل عن علةِ تولِّيهم، وأعينُهم فائضةٌ دمعاً وهو المعنى الذي قصده أبُو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في «قُلْتَ» يكون جواب الشَّرط قوله: «تولَّوا» ، وقوله «لِتحْمِلهُمْ» علة ل «أتَوْكَ» . وقوله: «لا أجدُ» هي المتعديةُ لواحدٍ؛ لأنَّها من «الوُجْد» ، و «مَا» يجوز أن تكون موصولةً، أو موصوفةً.
فصل
قال أبُو العباس المقرىء: ورد لفظ التَّولِّي في القرآن على أربعة أوجه:
الأول: بمعنى الانصراف، قال تعالى: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} [التوبة: 92] ومثله قوله تعالى {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} [القصص: 24] أي: انصرف.
الثاني: بمعنى: «أبَى» ، قال تعالى {فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم} [المائدة: 49] أي: أبَوْا أن يؤمنوا؛ ومثله قوله تعالى
{فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} [النساء: 89] .
الثالث: بمعنى: «أعرض» قال تعالى {وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80] .
الرابع: الإعراض عن الإقبال، قال تعالى {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} [الأنفال: 15] .
قوله: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «تولَّوا» . قال الزمخشريُّ «تفيضُ من الدَّمع، كقولك: تفيض دمعاً» . وقد تقدَّم الكلام على هذا في المائدة مستوفًى عند قوله {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} [المائدة: 83] وأنَّهُ جعل «من الدَّمع» تمييزاً، و «مِنْ» مزيدة وتقدَّم الرَّد عليه في ذلك هناك.(10/173)
قوله: «حَزَناً» في نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، والعاملُ فيه «تَفِيضُ» قاله أبو حيان. لا يقال: إنَّ الفاعل هنا قد اختلف، فإنَّ الفيض مسند للأعين، والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين، وإذا اختلف الفاعل وجب جرُّه بالحرف؛ لأنَّا نقول: إنَّ الحزنَ يُسندُ للأعين أيضاً مجازاً، يقال: عين حزينةٌ وسخينةٌ، وعين مسرورةٌ وقريرة، في ضد ذلك. ويجوز أن يكون النَّاصب له «تولَّوا» ، وحينئذٍ يتَّحدُ فاعلا العلَّةِ والمعلولِ حقيقةً.
الثاني: أنَّهُ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: تولَّوا حزينين، أو تفيض أعينهم حزينةً، على ما تقدَّم من المجاز.
الثالث: أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ من لفظه، أي: يحزنون حزناً، قاله أبو البقاء. وهذه الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال، إمَّا من فاعل «تولَّوا» ، وإمَّا من فاعل «تَفِيضُ» .
قوله: «أَلاَّ يَجِدُوا» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، والعامل فيه «حزناً» إن أعربناه مفعولاً له، أو حالاً. وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا؛ لأنَّ المصدر لا يعملُ إذا كان مؤكداً لعامله. وعلى القول بأنَّ «حَزَناً» مفعول من أجله، يكون «ألاَّ يَجِدُوا» علة العلة يعني أن يكون علَّل فيض الدَّمع بالحزن، وعلَّل الحزن بعدم وجدان النَّفقة، وهو واضحٌ وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في قوله: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} [المائدة: 38] .
الثاني: أنه متعلق ب «تَفِيضُ» . قال أبو حيان: ولا يجوز ذلك على إعرابه «حَزَناً» مفعولاً له والعاملُ فيه «تفيضُ» ، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلاَّ بالعطفِ، أو البدلِ.
فصل
قال المفسِّرون: هم سبعة نفر سموا البكائين، معقل بن يسار، وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلية بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبد الله بن معقل المزني، أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا رسول الله: إنَّ الله ندبنا للخروج معك، فاحملنا. واختلفوا في قوله «لِتحْمِلهُم» قال ابنُ عبَّاس: سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا معه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«لا أجِدُ ما أحملكُم عليهِ» فتولَّوا وهم يبكُون(10/174)
وقال الحسنُ: «نزلت في أبي موسى الأشعري، وأصحابه، أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستحملونه، ووافق ذلك منه غضباً فقال:» والله لا أحْملكُمْ ولا أجِدُ ما أحْملُكُم عليْهِ «فتولَّوا يبكون، فدعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأعطاهم ذوداً. فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله؟ فقال:» أما إنِّي إن شاء الله لا أحْلِفُ فأرَى غيرَها خيراً منها، إلاَّ أتَيْتُ الذي هُو خَيْرٌ وكفَّرتُ عنْ يَمِيني «.
ولمَّا قال تعالى: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} قال في هذه الآية: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} في التخلف:» وهُمْ أغنِيَاءُ «.
قوله:» ... رضُوا «فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ مستأنفٌ، كأنَّهُ قال قائلٌ: ما بالهم استأذنوا في القعودِ، وهُم قادرُون على الجهادِ؟ فأجيب بقوله: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} ، وإليه مال الزمخشريُّ.(10/175)
والثاني: أنَّه في محلِّ نصب على الحالِ، و» قَدْ «مقدَّرةٌ في قول. وتقدَّم الكلام في:» الخَوالفِ «.» وطبعَ اللهُ على قُلوبِهِمْ «قوله:» وطبعَ «نسقٌ على» رَضُوا «تنبيهاً على أنَّ السَّبب في تخلُّفهم رضاهم بقُعُودهم، وطبعُ الله على قلوبهم، وقوله:» إنَّما السَّبيلُ على «فأتَى ب» عَلَى «، وإن كان قد يصلُ ب» إلَى «؛ لأنَّ» عَلى «تدلُّ على الاستعلاء، وقلة منعة من تدخل عليه، نحو: لي سبيل عليك، ولا سبيل لي عليك، بخلاف» إلى «فإذا قلت: لا سبيل عليك، فهو مُغايرٌ لقولك: لا سبيل إليك، ومن مجيء» إلَى «معه قوله: [الطويل]
2833 - ألاَ ليْتَ شِعْرِي هَلْ إلى أمِّ سالمٍ ... سبيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فلا صَبْرَا
وقول الآخر: [البسيط]
2834 - هَلء مِنْ سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشْربهَا ... أمْ مِنْ سبيلٍ إلى نصْرِ بنِ حجَّاجِ
قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} .
روي أنَّ المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفراً، فلمَّا رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاءوا يعتذرون بالباطل، فقال الله {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} لم نصدقكم.
قوله: {قَدْ نَبَّأَنَا الله} فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها المتعدِّيةُ إلى مفعولين.
أولهما:» ن «، والثاني:» مِنْ أخْبارِكُمْ «، وعلى هذا ففي» مِنْ «وجهان:
أحدهما: أنَّها غيرُ زائدةٍ، والتقدير، قد نبَّأنا اللهُ أخْبَاراً من أخباركم، أو جملة من أخباركم، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف.
والثاني: أنَّ» مِنْ «مزيدةٌ عند الأخفشِ؛ لأنَّه لا يشترط فيها شيئاً، والتقدير: قد نبَّأنا الله أخباركم.
الوجه الثاني - من الوجهين الأولين -: أنَّها متعديةٌ لثلاثة، ك» أعْلَم «، فالأولُ، والثاني ما تقدَّم، والثالث محذوفٌ اختصاراً للعلم به، والتقدير: نبَّأنا الله من أخباركم كذباً، ونحوه.
قال أبو البقاء: «قد يتعدَّى إلى ثلاثةٍ، والاثنان الآخران محذوفانِ تقديره: أخباراً من أخباركم مثبتة. و» مِنْ أخباركُم «تنبيه على المحذُوف وليست» مِنْ «زائدة، إذ لو كانت زائدة، لكانت مفعولاً ثانياً، والمفعول الثالث محذوفٌ، وهو خطأ، لأنَّ المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا الباب لزم ذكرُ الثالث» .
وقيل: «مِنْ» بمعنى «عن» . قال شهابُ الدِّين «قوله: إنَّ حذف الثالث خطأ» إن(10/176)
عنى حذف الاقتصارِ فمُسلَّم، وإن عنى حذف الاختصار فممنوعٌ، وقد تقدَّم مذاهب النَّاس في هذه المسألة.
وقوله: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} علّة لانتفاءِ تصديقهم. ثم قال: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} فلمَ لَمْ يقل، ثُمَّ تردُّونَ إليْهِ؟ .
فالجواب: أنَّ في وصفه تعالى بكونه {عَالِمِ الغيب والشهادة} ما يدلُّ على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة، وضمائرهم المملوءة بالكذب والكيد، وفيه تخويف شديد، وزجر عظيم لهم.(10/177)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ} الآية.
لمَّا حكى عنهم أنَّهم يعتذرون إليكم، ذكر هنا أنَّهم يؤكدون تلك الأعذار بالأيمانِ الكاذبة «إذَا انقَلبْتُم» انصرفتم إليهم أنهم ما قدروا على الخروجِ. «لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ» أي: لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم.
ثم قال تعالى: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام.(10/177)
وقال مقاتل: قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قدم المدينة: «لا تُجالسُوهم ولا تكلموهم» . ثمَّ ذكر العلَّة في وجوب الإعراض عنهم، فقال: «إنَّهُم رجْسٌ» والمعنى: أن خبث بواطنهم رجس روحاني، فكما يجبُ الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية؛ فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى. وقيل: إنَّ عملهم قبيحٌ. {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي: منزلهم. قال الجوهريُّ: المأوى: كل مكان يأوي إليه شيء ليلاً أو نهاراً، وقد أوى فلانٌ إلى منزله يأوي أويًّا، على «فُعُول» ، وإوَاءً، وأوَيْتُه إذا أنزَلْتَهُ بك، فعلتُ وأفعلتُ، بمعنى عن أبي زيدٍ. ومَأوِي الإبل - بكسر الواو - لغةٌ في مأوى الإبل خاصَّةً، وهو شاذ.
قوله: «جَزَاءً ... » يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظه مقدر، أي: يُجْزونَ جزاء، وأن ينتصب بمضمون الجملة السابقة؛ لأنَّ كونهُم يأوونَ في جهنم في معنى المجازاة، ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله.
قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} الآية.
لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّهُم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم، بين ههنا أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم، ثمَّ إنَّه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم، وذكر العلَّة في ذلك النهي وهي أن: {الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} .
قوله تعالى: {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} الآية.
لمَّا ذكر الله تعالى أحوال المنافقين في المدينة ذكر من كان خارجاً منها، ونائباً عنها من الأعراب فقال: كفرهم أشد. قال قتادةُ: «لأنَّهم أبعد عن معرفة السنن» وقيل: لأنَّهم أقسَى قلباً، وأكذبُ قولاً، وأغلظُ طبعاً، وأبعد عن استماع التنزيل، ولذا قال تعالى في حقِّهم: «وأجْدَرُ» أي: أخلق. «أَلاَّ يَعْلَمُواْ» . ولمَّا دلَّ ذلك على نقصهم من المرتبة الكاملة عن سواهم، ترتب على ذلك أحكام:
منها: أنَّهُ لا حقَّ لهم في الفيء والغنيمة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حديث بريدة: « ... ولا يكُون لهُمْ فِي الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ إلاَّ أنْ يُجاهدُوا مع المسلمينَ» ومنها: إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة، لتحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة؛ لأنَّها لا تراعى كل تهمة والمسلمون كلهم عنده عدول، وأجازها الشافعيُّ إذا كان عدلاً، وهو الصحيحُ.
قوله: «الأعراب» صيغة جمعٍ، وليس جمعاً ل «عَرَب» قاله سيبويه، وذلك لئلاَّ يلزم(10/178)
أن يكون الجمع أخصَّ من الواحد، فإنَّ العرب هذا الجيل الخاص، سواء سكن البوادي، أم سكن القرى.
وأمَّا الأعراب، فلا يطلق إلاَّ على من كان يسكن البوادي فقط، وقد تقدَّم عند قوله تعالى: {رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] ، أوَّل الفاتحة. ولهذا الفرق نسب إلى «الأعْراب» على لفظه فقيل: أعرابي ويجمع على «أعَارِيب» . قال أهلُ اللغة: «يقال: رجلٌ عربيّ، إذا كان نسبه في العربِ، وجمعه العربُ، كما يقال: يهُوديٌّ ومجُوسيٌّ، ثم تحذف ياء النسب في الجمع، فيقال: اليهُودُ والمجُوسُ، ورجلٌ أعرابي بالألف إذا كان بدوياً، ويطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العربِ، أو من مواليهم. ويجمع الأعرابي على الأعراب، والأعاريب، والأعرابي إذا قيل له: يا عربي، فرح والعربي إذا قيل له: يا أعرابيّ، غضب، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعرابٌ ويدلُّ على الفرق قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» حُبُّ العربِ من الإيمانِ «وأما الأعرابُ فقد ذمَّهم الله تعالى في هذه الآية. وأيضاً لا يجُوزُ أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنَّما هُمْ عرب، وهم متقدِّمون في مراتب الدِّين على الأعراب، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» لا تُؤُمَّنَّ امرأةٌ رجُلاً ولا فاسقٌ مُؤمناً ولا أعرابيٌّ مُهاجِراً «.
فصل
قال بعضُ العلماء: الجمع المحلى بالألف واللاَّم الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق، حمل على الاستغراق للضرورة، قالوا: لأنَّ صيغة الجمع تكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها، والألف واللام للتعريف، فإن حصل جمع هو معهود سابق؛ وجب الانصراف إليه، وإن لم يوجد حمل على الاستغراق، دفعاً للإجمال. قالوا: إذا ثبت هذا فقوله:» الأعرابُ «المرادُ منه جمع مُعَيَّنُون من منافقي الأعراب، كانوا يوالون منافقي المدينة، فانصرف هذا اللَّفْظُ إليهم.
فصل
سمي العربُ عرباً، لأنَّ أباهُم: يعربُ بنُ قطعان، فهو أوَّلُ من نطق بالعربيَّةِ، وقيل: سمُّوا عرباً؛ لأنَّ ولد إسماعيل نشئوا ب» عربة «وهي تهامة، فنسبوا إلى بلدهم،(10/179)
وكلُّ من يسكن جزيرة العرب وينطقُ بلسانهم؛ فهو منهم؛ لأنَّهم إنَّما تولَّدُوا من ولد إسماعيل، وقيل: سمُّوا عرباً؛ لأنَّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم، وهذه الأقوال ليست بشيء من الأول، فلأن إسماعيل حين ولدته هاجر نزلت عندهم» جُرهم «فربي بينهم، وكانوا عرباً قبل إسماعيل، ولأن» يعرب «من ولد إسماعيل، وكان حميلاً عربياً.
وأمَّا الثاني لأن إسماعيل تعلَّم العربيَّة في» جُرهم «حين نزلوا عند هاجر بمكَّة.
والصحيحُ أنَّ العرب العاربة قبل إسماعيل منهم: عادٌ وثمود، وطسْم، وجديس، وجرهم، والعماليق، وآدم يقال: إنَّه كان ملكاً، وأنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر، وبنوه قبيلة يقال لها» وبار «هلكوا بالرما.
انثال عليهم؛ فأهلكهم وطمَّ منازلهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء: [الرجز]
2835 - وكَرَّ دَهْرٌ على وَبَار ... فَهَلَكَتْ جَهْرَةً وبَارُ
وأمَّا الثالثُ، فكلُّ لسان معرب عمَّا في ضمير صاحبه، وإنَّما يظهر ما قاله النسابُون، أنَّ سام بن نوح أبو العرب، وفارس، والروم، فدل على أنَّ العرب موجودون من زمن سام بن نوح.
قال بعضهم: والصحيحُ إن شاء الله تعالى - أن آدم نطق بالعربيَّة، وغيرها من الألسنةِ، لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31] .
ولا شكّ أنَّ اللِّسان العربيّ مختصّ بأنواع الفصاحةِ والجزالة، لا توجدُ في سائرِ الألسنةِ.
قال بعضُ الحكماءِ: حكمة الرُّوم في أدمغتهم؛ لأنَّهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمةُ الهندِ في أوهامهم، وحكمةُ اليونانِ في أفئدتهم لكثرةِ ما لهم من المباحث العقليَّةِ، وحكمة العرب في ألسنتهم بحلاوةِ ألفاظهم، وعذوبة عباراتهم.
فصل
اعلم أن الله تعالى حكم على الأعراب بحكمين:
الأول: أنَّهُم أشدّ كفراً ونفاقاً، والسبب فيه وجوه:
أحدها: أنَّ أهل البدو يشبهون الوحوش.
وثانيها: استيلاءُ الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك يزيدُ في التيه، والتَّكبر، والفخر، والطيش عليهم.(10/180)
وثالثها: أنَّهُم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب؛ فنشأوا كما شاءوا، ومن كان كذلك؛ خرج على أشدِّ الجهات فساداً.
ورابعها: أنَّ من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبياناته الشافية، كيف يكون مُساوياً لمن لم يؤثر هذا الخير، ولم يسمع خبره؟
وخامسها: قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية، لتعرف الفرق بين أهل الحضرِ والباديةِ. و «أشَدّ» أصله: أشدد، وقد تقدم. وقوله «كُفْراً» نصب على الحال، و «نِفَاقاً» عطف عليه، و «أجْدَرُ» عطف على «أشَدّ» .
الحكم الثاني: قوله: {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ. .} «أجْدَر» أي: أحَقُّ وأولى؛ يقال: هو جديرٌ وأجدرُ، وحقيقٌ وأحقُّ، وخليقٌ وأخلقُ، وقمنٌ بكذا، كلُّه بمعنى واحد، قال الليثُ: جَدَر يَجْدرُ جدارَةً، فهو جَديرٌ، ويُثَنَّى ويُجمع؛ قال الشاعر: [الطويل]
2836 - بخيْلٍ عليْهَا جِنَّةٌ عبْقريَّةٌ ... جَديرُونَ يَوْماً أنْ ينَالُوا فَيسْتَعْلُوا
وقد نبَّه الرَّاغبُ على أصل اشتقاقِ هذه المادة، وأنَّها من الجدار، أي: الحائط، فقال: «والجديرُ: المُنتهى، لانتهاء الأمر إليه، انتهاءَ الشَّيء إلى الجدارِ» . والذي يظهر أنَّ اشتقاقه من: «الجَدْر، وهو أصل الشجرة؛ فكأنَّه ثابتٌ كثبوتِ الجدر في قولك: جدير بكذا.
وقوله: {أَلاَّ يَعْلَمُواْ} أي: بألاَّ يعلمُوا، فحذف حرف الجر؛ فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي، مع سيبويه والفراء. والمراد بالحدُودِ: ما أنزل الله على رسوله، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السُّننِ. {والله عَلِيمٌ} بما في قلوب خلقه:» حَكِيمٌ «فيما ف رض عليهم من فرائضه.
قوله تعالى: {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً} .
نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم. «مَنْ» بمتدأ، وهي إما موصولةٌ، وإمَّا موصوفةٌ.
و «مَغْرَماً» مفعول ثانٍ؛ لأنَّ «اتَّخَذَ» هنا بمعنى «صيَّر» . والمَغْرَمُ: الخسران، مشتق من الغرام، وهو الهلاك؛ لأنَّه سببه، ومنه: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] . وقيل أصله الملازمةُ، ومنه الغريمُ: للزومه من يطالبه، والمغرم: مصدر كالغرامةِ، والمغرم التزام ما لا يلزمُ. قال عطاءٌ: لا يرجُون على إعطائه ثواباً؛ ولا يخافون على إمساكه عقاباً، وإنَّما ينفقُ مغرماً ورياءً. و «يتربَّصُ» عطفٌ على «يتَّخِذ» ، فهو إمَّا صلة، وإما صفة. والتَّربُّصُ: الانتظارُ. وقوله: {بِكُمُ الدوائر} فيه وجهان:(10/181)
أظهرهما: أنَّ الياء متعلقةٌ بالفعل قبلها.
والثاني: أنها حالٌ من «الدَّوائر» قاله أبو البقاءِ وليس بظاهرٍ، وعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر. و «الدَّوائرِ» جمعُ «دائرةٍ» وهي ما يُحيط بالإنسان من مُصيبة ونكْبَةٍ، تصوُّراً من الدَّائرة المحيطة بالشَّيء من غير انفلاتٍ منها، وأصلها: «دَاوِرَة» ؛ لأنَّها من دَارَ يدُورُ، أي: أحَاطَ، ومعنى «تَربُّص الدَّوائر» أي: انتظار المصائب؛ قال: [الطويل]
2837 - تَربَّصْ بهَا رَيْبَ المنُونِ لعلَّها ... تُطلَّقُ يوْماً أو يَمُوتُ حليلُهَا
قال يمانُ بن رئابٍ: «يعني ينقلبُ الزَّمانُ عليكم فيموت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويظهر المشركون» . قوله: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} هذه الجملةُ معترضةٌ بين جمل هذه القصَّةِ، وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين، وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو هنا: «السُّوءِ» ، وكذا الثانية في الفتحِ بالضَّم والباقون بالفتحِ.
وأمَّا الأولى في الفتح، وهي «ظنَّ السوءِ» .
فاتفق على فتحها السبعةُ. فأمَّا المفتوح فقيل: هو مصدر.
قال الفرَّاءُ: «فتحُ السِّين هو الوجه؛ لأنَّه مصدرٌ يقالُ: سُؤتُه سَوْءاً، ومَساءةٌ، وسَوائِيَةٌ، ومَسَائِيَةٌ، وبالضَّم الاسم، كقولك: عليهم دائرةُ البلاءِ والعذاب» .
قال أبُو البقاء: «وهو الضَّرَرُ، وهو مصدر في الحقيقة» . يعني أنَّه في الأصل كالمفتوح، في أنَّهُ مصدرٌ، ثُمَّ أطلقَ على كل ضررٍ وشرٍّ. وقال مكي: «مَنْ فتح السِّين فمعناه الفساد والرَّداءة، ومنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضَّرر» . وظاهرُ هذا أنَّهما اسمان لما ذكر. ويحتملُ أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أطلقا على ما ذكر. وقال غيره: المضمومُ العذاب والضرر، والمفتوح: الذم، ألا ترى أنَّه أجمع على فتح {ظَنَّ السوء} [الفتح: 6] وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} [مريم: 28] ، إذ لا يليقُ ذكرُ العذاب بهذين الموضعين. وقال الزمخشري فأحسن: «المضمومُ: العذاب، والمفتوحُ ذمٌّ ل» دائرة «كقولك: رجُل سوءٍ، في نقيض رجل عدل؛ لأنَّ منْ دَارتْ عليه يذُمُّهَا» . يعني أنَّها من باب إضافة الموصوف إلى صفته، فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً، ثم أضيفَتْ لصفتها، كقوله تعالى:
{مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} [مريم: 28] . قال أبُو حيَّان «وقد حكي بالضَّمِّ» ؛ وأنشد الأخفشُ: [الطويل](10/182)
2838 - وكُنْتَ كَذِئْبِ السُّوءِ لمَّا رَأى دَماً ... بِصَاحبهِ يَوْماً أحَالَ عَلى الدَّمِ
وفي «الدائرة» مذهبان:
أظهرهما: أنها صفةٌ على فاعلة، ك «قائمة» . وقال الفارسيُّ: «يجوز أن تكون مصدراً كالعافية، ولو لم تضف الدائرة إلى السوء، أو السوء لما عرف منها معنى السُّوء؛ لأنَّ دائرة الدَّهر لا تستعملُ إلاَّ في المكروهِ، والمعنى: يدور عليهم البلاءُ والحزنُ، فلا يرون في محمد، ودينه إلاَّ ما يَسُوؤهم» . ثم قال: {والله سَمِيعٌ} لقولهم، {عَلِيمٌ} بنيَّاتهم.
قوله تعالى: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} الآية.
لمَّا بيَّن أنَّ في الأعرابِ من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مَغْرَماً، بيَّن هنا أنَّ منهم أيضاً من يؤمن بالله واليوم الآخر. قال مجاهدٌ: هم بنو مقرن من مزينة. وقال الكلبيُّ هم أسلم، وغفار، وجهينة. وروى أبو هريرة قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لأسْلمُ وغفارٌ، وشيءٌ مِنْ مُزَيْنَة وجُهَيْنةَ، خَيْرٌ عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ، مِنْ أسَدٍ وغطفان وهوَازنَ وتَميمٍ» .
قوله: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ} ف «قُرُباتٍ» مفعولٌ ثانٍ ل «يتَّخذَ» كما مرَّ في {مَغْرَماً} [التوبة: 98] ولم يختلف قُرَّاء السبعة في ضمِّ الرَّاء من «قُربَات» ، مع اختلافهم في راء «قُرْبة» كما سيأتي، فيحتملُ أن تكون هذه جمعاً ل «قُرْبة» بالضَّم، كما هي قراءة ورشٍ عن نافعٍ، ويحتملُ أن تكون جمعاً للساكنها، وإنَّما ضُمَّت إتباعاً، ك «غُرُفَات» ، وقد تقدَّم التَّنبيه على هذه القاعدة، وشروطها عند قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] أول البقرة.
قال الزجاجُ: يجوزُ في «القُرُبَات» أوجه ثلاثة، ضم الراء، وإسكانها، وفتحها.
والمعنى: أنَّهم يتخذون ما ينفقونه سبباً لحصول القربات عند اللهِ.
قوله: «عِندَ الله» في هذا الظرف ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّه متعلقٌ ب «يتَّخذ» والثاني: أنَّهُ ظرف ل «قُرُبات» ، قاله أبو البقاءِ. وليس بذلك.
الثالث: أنه متعلقٌ بمحذُوفٍ، لأنَّه صفةٌ ل «قربات» . قوله: {وَصَلَوَاتِ الرسول} فيها وجهان:(10/183)
أظهرهما: أنَّها نسق على «قُربات» ، وهو ظاهرُ كلام الزمخشري، فإنَّه قال: «والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصول القربات عند اللهِ وصلوات الرسول، لأنَّهُ كان يدعو للمتصدِّقين بالخيرِ، كقوله:» اللَّهُمَّ صلِّ على ألِ أبِي أوْفَى «والثاني - وجوَّزهُ ابنُ عطية ولم يذكر أبُو البقاءِ غيره -: أنها منسوقةٌ على» ما يُنفقُ «، أي: ويتَّخذ بالأعمال الصَّالحة صلوات الرسول قربة.
قوله: {ألاا إِنَّهَا قُرْبَةٌ} الضمير في» إنَّها «قيل: عائدٌ على» صَلواتِ «.
وقيل: على النَّفقات أي: المفهومة من «يُنفِقُون» . وقرأ ورشٌ «قُرُبَة» بضمِّ القاف والرَّاء، والباقون بسكونها، فقيل: لغتان. وقيل: الأصلُ السكون، والضَّم إتباع. وقد تقدَّم الخلاف بين أهل التصريف، هل يجوزُ تثقيل «فُعْل» إلى «فُعُل» ؟ وأنَّ بعضهم جعل «يُسُرا، عُسُرا» بضمِّ السين فرعين على سكونها، وقيل: الأصلُ «قُرُبة» بالضَّمِّ، والسكون تخفيف، نحو: كتب ورسل، وهذا أجْرَى على لغة العرب، إذ مبناها الهرب من الثِّقل إلى الخفة. وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرها بحرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثباتِ الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه. قال معناه الزمخشريُّ، قال: وكذلك سيدخلهم وما في السِّين من تحقيقِ الوعدِ. ثم قال: {إِنَّ الله غَفُورٌ} لسيِّآتهم «رَّحِيمٌ» بهم حيث وفقهم لهذه الطَّاعات.
قوله تعالى: {والسابقون الأولون} الآية.
«وَالسَّابقُون» فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه مبتدأ، وفي خبره ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّه الجملة الدعائية من قوله: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ} .
والثاني: أنَّ الخبر قوله: «الأوَّلون» ، والمعنى: والسَّابقون إلى الهجرة الأوَّلُون من أهل هذه المِلَّةِ، أو السابقون إلى الجنَّة الأولون من أهل الهجرة.
الثالث: أنَّ الخبر قوله: {مِنَ المهاجرين والأنصار} والمعنى فيه الإعلام بأنَّ السابقين من هذه الأمَّةِ من المهاجرين والأنصار، ذكر ذلك أبو البقاءِ. وفي الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ.
الثاني من وجهي «السَّابقين» : أن يكون نسقاً على «مَنْ يُؤمِنُ باللهِ» ، أي: ومنهم السابقون، وفيه بعدٌ، والجمهور على جرِّ «الأنْصارِ» نسقاً على «المُهاجِرينَ» يعني أنَّ السابقين من هذين الجنسين.
وقرأ جماعة كثيرة أجلاَّء: عمرُ بنُ الخطَّابِ، وقتادةُ، والحسنُ، وسلامُ، وسعيدُ(10/184)
ابنُ أبي سعيد، وعيسى الكوفيُّ، وطلحة، ويعقوب «والأنصارُ» برفعها، وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّه مبتدأ، وخبره «رضِيَ الله عنهُم» . والثاني: عطفه على «السَّابقُون» ، وقد تقدَّم ما فيه، فيُحكم عليه بحكمه.
قوله: «بإِحْسانٍ» متعلقٌ بمحذوف، لأنَّه حالٌ من فاعل «اتَّبَعُوهُم» . وكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يرى أن الواو ساقطة من قوله: «والذين اتبعوهم» ويقول: إنَّ الموصول صفةٌ لمن قبله، حتى قال له زيدُ بنُ ثابتٍ: إنَّها بالواو، فقال: ائتوني بأبيّ، فأتوه به، فقال له: تصديق ذلك في كتاب اللهِ في أول الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} [الجمعة: 2] ، وأوسط الحشر {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وآخر الأنفال {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ} [الأنفال: 75] . وروي أنَّهُ سمع رجلاً يقرؤها بالواو، فقال: من أقْرأكَ؟ فقال: أبيّ، فدعاه، فقال: أقرأنيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنَّك لتبيع القرظ بالبقيع، قال: صَدقْتَ، وإن شئت قل: شهدنَا وغبْتُم، ونصَرْنَا وخذلْتُم، وآوَيْنَا وطَرَدْتم، ومن ثمَّ عمرُ: لقد كنتُ أرانا رُفِعْنَا رفعة، لا يبلغُها أحدٌ بعدنا.
فصل
لمَّا ذكر فضائل الأعراب الذين يتَّخذُونَ ما ينفقُون قربات عند الله، وما أعد لهم، بين أنَّ فوق منزلتهم منازل أعلَى وأعظم منها، وهي منازلُ السَّابقين الأولين. واختلفوا فيهم، فقال ابنُ عبَّاس، وسعيدُ بنُ المسيب، وقتادة، وابن سيرين، وجماعة: هم الذين صلُّوا إلى القبلتين، وقال عطاءُ بن أبي رباح: هم الذين شهدوا معه بيعة الرضوان، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية. وقال أبو مسلم: من تقدم موته بعد الإسلام من الشهداء وغيرهم. وقال ابنُ الخطيبِ: «والصحيحُ عندي أنَّهم السَّابقون في الهجرة، والنصرة، لكونه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً» . واختلفوا هل يتناولُ جميع الصحابة الذين سبقوا إلى الهجرة، والنصرة أم يتناول بعضهم؟ فقال قومٌ: إنَّه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة وعلى هذا، فلا يتناول إلا قدماء الصحابة، لأنَّ كلمة «مِنْ» للتَّبعيض.(10/185)
ومنهم من قال: بل يتناولُ جميع الصحابةِ؛ لأنَّ جملة الصَّحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة «مِنْ» في قوله «مِنَ المُهاجرينَ والأنصَارِ» ليست للتَّبعيض، بل للتبيين، كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ، وذهب إلى هذا كثيرٌ من النَّاس.
روى حميدُ بن زيادٍ أنَّهُ قال: قلت يوماً لمحمَّدِ بن كعب القرظيِّ: ألا تُخْبرني عن أصحاب الرسول فيما كان بينه؟ وأردت الفتن، فقال: إنَّ الله قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنَّة في كتابه، محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أيّ موضع أوجب لهم الجنّة؟ قال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} [التوبة: 100] إلى آخر الآية؟ فأوجب الله لجميع أصحاب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الجنَّة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً، قلت: وما ذاك الشَّرط؟ فقال: شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المرادُ أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو ألاَّ يقولوا فيهم سوءاً، وألاَّ يوجهوا الطَّعْنَ فيما أقدموا عليه. قال حميدُ بن زياد: فكأنِّي ما قرأتُ هذه الآية قط، قال أبو منصور البغداديُّ التميمي: أصحابنا مجمعون على أنَّ أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريُّون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
فصل
واختلفوا في أول من آمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد امرأته خديجة مع اتفاقهم على أنَّها أوَّلُ من آمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال جابر: أوَّل من أسلم وصلَّى عليُّ بن أبي طالبٍ. قال مجاهدٌ وابن إسحاق: أسلم وهو ابن عشر سنين. وقال ابنُ عباسٍ، وإبراهيم النخعي، والشعبي: أوَّلُ من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق. وقال الزهريُّ وعروة بنُ الزُّبير: أوَّلُ من أسلم زيدُ بن حارثة.
وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بجمع بين هذه الأخبار فيقول: «أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساءِ خديجة ومن الصِّبيان عليّ، ومن العبيد زيد بن حارثة» . قال ابن إسحاق: لمَّا أسلم أبُو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان رجُلاً محسناً سَهْلاً، وكان تَاجِراً، ذا خُلِقٍ، وكان رجال قومه يأتُونهُ ويألفونهُ، لعلمه وحُسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يده فيما بلغني عثمان والزبيرُ بنُ العوام وعبدُ الرحمن بن عوفٍ وسعدُ(10/186)
بنُ أبي وقَّاص وطلحةُ بنُ عبيد الله؛ فجاء بهم إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أسلمُوا وصلُّوا معه، فكان هؤلاء الثمانية نفر الذين سبقوا إلى الإسلامِ، ثم تتابع النَّاسُ في الدُّخُولِ في الإسلامِ، أمَّا السابقُون من الأنصار الذين بايعُوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة العقبة الأولى وكانوا ستة نفر ثم أصحاب العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً، ثم العقبة الثالثة وكانوا سبعين فهلاء سباق الأنصار. ثمَّ بعثَ رسُول الله، مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلِّمهم القرآن؛ فأسلم على يده خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان.
والمراد بالمهاجرين الذين هاجروا قومه وعشيرتهم، وفارقُوا أوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أعدائه، وآووا أصحابه.
{والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] قيل: هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين وعلى هذا أتي ب «مِنْ» للتبعيض. وقيل: هم الذين سلكُوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة. وقال عطاءٌ: الذين يذكرُون المهاجرين والأنصار بالتَّرحم والدُّعاء. ثم جمع الله في الثَّواب فقال: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} وقرأ ابنُ كثير: «تَجْري من تحْتِهَا» ب «مِن» الجارَّة، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكَّة. والباقون «تَحْتها» بدونها ولم تُرسَمْ في مصاحفهم. وأكثرُ ما جاء القرآن موافقاً لقراءةِ ابنِ كثير في غير موضع.
قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ... } خبر مقدَّم، و «مُنَافقُونَ» مبتدأ، و «مِنَ الأعْرابِ» لبيان الجنسِ. «ومِنْ أهْلِ المدينةِ» يجوزُ أن يكون نسقاً على «مَنْ» المجرورة ب «مِنْ» ، فيكون المجروران مشتركين في الإخبار عن المبتدأ، وهو «مُنافقُونَ» بهما، كأنَّه قيل: المنافقون من قوم حولكم، ومن أهل المدينة، وعلى هذا هو من عطف المفردات، إذ عطفت خبراً على خبر، وعلى هذا، فيكون قوله: «مَرَدُوا» مستأنفاً لا محلَّ له. ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله: «مُنافقُونَ» ويكونُ قوله «ومِنْ أهْلِ المدينةِ» خبراً مقدماص، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مقامه وحذفُ الموصوفِ وإقامةُ صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع «مِنْ» التَّبعيضية، وقد مرَّ تحريره، نحو: «مِنَّا صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع» مِنْ «التَّبعيضية، وقد مرَّ تحريره، نحو:» مِنَّ ظعن، ومِنَّا أقامَ «والتقدير: ومن أهلِ المدينةِ قومٌ، أو أناسٌ مرَدُوا، وعلى هذا فهو من عطف الجمل.
ويجوز أن يكون «مَرَدُوا» على الوجه الأوَّلِ صفةً ل «مُنَافِقُون» وقد فُصل بينه وبين صفته بقوله: «ومِنْ أهل المدينةِ» ، والتقدير: وممَّن حولكم، ومنْ أهْلِ المدينةِ منافقون ماردون.
قال ذلك الزجاجُ، وتبعه الزمخشريُّ، وأبو البقاء، واستبعده أبو حيَّان، للفصل بين الصِّفة وموصوفها.(10/187)
قال: «فيصير نظيره في الدَّارِ زيدٌ، وفي القصر العاقل» . يعني ففصلت بين «زيد» ، و «العاقل» بقولك: «وفي القصر» . وشبَّه الزمخشريُّ حذف المبتدأ الموصوف في الوجه الثَّاني، وإقامة صفته مقامه بقوله: [الوافر]
2839 - أنَا ابْنُ جَلاَ ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ...
قال أبُو حيَّان: «إن عنى في مطلق حذف الموصوف فحسنٌ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ؛ لأنَّ حذفَ الموصوف مع» مِنْ «مُطَّردٌ؛ وقوله: [الوافر]
2840 - أنَا ابْنُ جَلاَ ... ... ... ... ... ....... ... ... ... ... ... ... ...
ضرورة؛ كقوله: [الرجز]
2841 - يَرْمِي بِكَفِّي كَان مِنْ أرمَى البَشَرْ ... والبيت المشار إليه، هو قوله: [الوافر]
2842 - أنَا ابنُ جَلاض وطلاَّعُ الثَّنَايَا ... مَتَى أضَعِ العِمامةَ تَعرِفونِي
وللنُّحاة في هذا البيت تأويلات:
أحدها: ما تقدم. والآخر: أنَّ هذه الجملة محكيّة؛ لأنَّها قد سُمِّي بها هذا الرَّجلُ، فإنَّ» جَلاَ «فيه ضمير فاعل، ثم سُمِّي بها وحُكيَتْ كما قالُوا: شَابَ قَرْنَاهَا، وذَرَّى حَبّاً، وقوله: [الرجز](10/188)
2843 - نُبِّئْتُ أخْوالِي بَنِي يَزِيدُ ... ظُلْماً عليْنَا لهُمُ فَدِيدُ
والثالث: وهو مذهب عيسى بن عمر: أنَّهُ فعلٌ فارغ من الضَّمير، وإنَّما لم يُنوَّن؛ لأنَّه عنده غيرُ منصرفٍ، فإنه يُمْنَع بوزن الفعل المشترك، فلو سُمِّي ب» ضرب، وقتل «منعهما، أمَّا مجردُ الوزن من غير نقل من فعل فلا يمنع ألْبَتَّة، نحو: جَمَل، وجَبَل. والمراد بأهل المدينةِ: الأوس والخزرج. و» مَرَدُوا «أي: مَهَرُوا، وتمرَّنُوا، وثبتوا على النفاق.
وقال ابن إسحاق: لجوُّا فيه وأبوا غيره. وقال ابنُ زيدٍ: أقاموا عليه ولم يتوبوا. وقد تقدَّم الكلام على هذه المادَّة في النِّساءِ، عند قوله: {شَيْطَاناً مَّرِيداً} [النساء: 117] .
قوله:» لا تَعْلمُهُم «هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ل» مُنَافِقُون «، ويجوزُ أن(10/189)
تكون مستأنفةً، والعلم هنا يحتمل أن يكون على بابه؛ فيتعدَّى لاثنين، أي: لا تعلمهم منافقين فحذف الثَّاني للدلالة عليه بتقدُّم ذكر المنافقين؛ ولأنَّ النفاق من صفاتِ القلب، لا يطلع عليه. وأن تكون العرفانية فتتعدَّى لواحد، قاله أبُو البقاءِ. وأمَّا» نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ «فلا يجوزُ أن تكون إلاَّ على بابها، لما تقدَّم في الأنفال، وإن كان الفارسيُّ في إيضاحه صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى، وهو محذُورٌ لما تقدَّم.
قوله: «سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ» تقدَّم الكلامُ في نصب {مَرَّةٍ} [التوبة: 13] ، وأنَّه من وجهين، إمَّا المصدرية، وإمَّا الظرفية، فكذلك هذا، وهذه التثنيةُ يحتملُ أن يكون المرادُ بها شفعَ الواحد، وعليه الأكثر، واختلفُوا في تفسيرها، وألاَّ يُرادَ بها التثنية الحقيقية، بل يُراد بها التَّكثيرُ، كقوله تعالى: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] ، أي: كرَّاتٍ، بدليل قوله: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] ، أي: مزدجراً، وهو كليلٌ، ولا يصيبه ذلك إلاَّ بعد كرَّات، ومثله «لبَّيْكَ، وسعْديكَ، وحنَانيْكَ» .
وروى عياشٌ عن أبي عمرو «سنُعذِّبْهُم» بسكون الباءِ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركاتِ ك {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] وبابه، وإن كان باب «ينْصُركُم» أحسن تَسْكِيناً، لكون الرَّاءِ حرف تكرار؛ فكأنه توالى ضمَّتان، بخلاف غيره، وقد تقدَّم تحريره.
وقال أبُو حيَّان: وفي مصحف أنس «سيُعذِّبهُم» بالياءِ، وقد تقدَّم أنَّ المصاحفَ كانت مهملة من النقط والضبط بالشكْلِ، فكيف يقال هذا؟!
فصل
وأمَّا اختلافهم في هذين العذابين: فقال السُّديُّ والكلبيُّ: قام النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطيباً يوم الجمعة فقال: «اخْرُجْ يا فلانُ فإنَّك مُنافقٌ اخْرُجْ يا فُلانُ ... » فأخرج من المسجد ناساً، وفضحهم، فهذا هو العذابُ الأولُ.
والثاني: عذاب القبر. وقال مجاهدٌ: الأولُ القتل والسبي، والثاني عذاب القبر، وعنه رواية أخرى عُذِّبُوا بالجوع مرَّتين. وقال قتادةُ: بالدبيلة في الدُّنيا، وعذاب القبر. وقال ابن زيد: الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدُّنيا،(10/190)
والأخرى عذاب القبر. وعن ابن عبَّاسٍ: الأولى إقامة الحدود عليهم، والأخرى عذاب القبر. وقال ابنُ إسحاق: هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام، ودخولهم فيه من غير حسبة، ثم عذاب القبر. وقيل: أحدهما ضرب الملائكة وجوههم، وأدبارهم عند قبض أرواحهم، ثم عذاب القبر، وقيل: الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضّرار، والأخرى إحراقهم بنار جهنَّم ثُمَّ يردُّون إلى عذابٍ عظيم أي: عذاب جهنم يخلدون فيه وقال الحسنُ: الأولى أخذ الزكاة من أموالهم، وعذاب القبر.
قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية.
«وآخرون» نسقٌ على «مُنافِقُون» أي: وممَّن حولكم آخرون، أو من أهلِ المدينة آخرون. ويجوزُ أن يكون مبتدأ، و «اعترفُوا» صفته، والخبر قوله: «خلطُوا» . قوله: «وآخَرَ» نسقٌ على «عَمَلاً» . قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: قد جُعِلَ كُلُّ واحد منهما مخلُوطاً، فما المخلُوط به؟ قلتُ: كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به؛ لأنَّ المعنى: خلط كل واحدٍ منهما بالآخر، كقولك: خلَطْتُ الماءَ واللَّبن، تريدُ: خلطتُ كُلَّ واحدٍ منهما بصاحبه. وفيه ما ليس في قولك: خلطتْ الماءَ باللَّبَنِ؛ لأنَّك جعلت الماء مَخْلُوطاً، واللَّبنَ مخلوطاً به، وإذا قلته بالواو جعلتَ الماءَ واللَّبنَ مخلوطين، ومخلوطاً بهما، كأنَّك قلت: خلطتُ الماءَ باللبن، واللبن بالماءِ» .
ثمَّ قال «ويجوزُ أن يكون من قولهم: بِعْتُ الشَّاة: شاةً ودرهماً، بمعنى: شاة بدرهم» .
قال شهابُ الدِّينِ: «لا يريدُ أنَّ الواو بمعنى الباءِ، وإنَّما هذا تفسيرُ معنى» وقال أبُو البقاءِ: «ولو كان بالباءِ جاز أن تقول: خلطتُ الحنطة والشعير، وخلطت الحنطةَ بالشَّعير» .
قوله: «عَسَى الله» يجوزُ أن تكون الجملةُ مستأنفةً، ويجوزُ أن تكون في محلِّ رفع خبراً ل «آخرون» ويكون قوله «خلطُوا» في محلِّ نصب على الحالِ، و «قَدْ» معه مقدَّرةٌ، أي: قد خلطوا. فتلخَّص في: «آخرُونَ» أنَّهُ معطوف على «مُنافِقُون» ، أو مبتدأ مخبر عنه ب «خَلطُوا» ، أو بالجملة الرجائية.
فصل
قيل: إنَّهم قوم من المنافقين، تابُوا عن النِّفاقِ؛ لأنَّهُ عطف على قوله {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ(10/191)
الأعراب مُنَافِقُونَ} والعطفُ يوهم التَّشريكَ، إلاَّ أنَّهُ تعالى وفقهم للتوبة. وقيل: إنَّهُم قوم من المسلمين تخلَّفوا عن غزوة تبُوك، كسلاً، لا نفاقاً، ثم نَدِمُوا على ما فعلوا وتابوا.
وروي أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام. وروى عطية عن ابن عباس: كانوا خمسة، أحدهم أبو لبابة. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثمانية. وقال قتادةُ والضحاك: كانوا سبعة. وقالو جميعاً أحدهم أبو لبابة. وقال قومٌ: نزلت في أبي لبابة خاصة، وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس: أنهم كانوا عشرة، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لمَّا بلغهم ما نزل في المتخلفين، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، فقدم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ودخل المسجد وصلى ركعتين، وكانت عادته كُلَّما قدم من سفرٍ، فرآهم موثقين، فسأل عنهم؛ فقالوا: هؤلاء تخلَّفُوا عنك، فعاهدُوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلقهم ويرضى عنهم، فقال: «وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم» ؛ فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم، فقالوا: يا رسُول الله هذه أموالنا التي خلَّفتنا عنك، فتصدق بها عنَّا وطهرنا، فقال: «ما أمرتُ أن آخذَ مِنْ أموالكُم شيئاً» ؛ فنزل قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية.
والاعترافُ: عبارة عن الإقرار بالشَّيءِ عن معرفةٍ، ومعناه: أنَّهُم أقَرُّوا بذنبهم.
والعمل الصَّالح: هو توبتهم واعترافهم بذنبهم وربطهم أنفسهم. والعمل السيّىء: هو تخلُّفهم.
وقيل: العمل الصَّالح: خروجهم مع الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى سائر الغزوات، والعمل السيّىء: تخلفهم عن غزوة تبوك.
فصل
قالوا: إنَّ الكلام ينزلُ على عرف النَّاسِ، فالسُّلطانُ إذا التمس المحتاج منه شيئاً؛ فإنه لا يجيب إلاَّ بالتَّرجي ب «لعل، أو عسى» ، تنبيهاً على أنَّه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً؛ بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضّل، فهذا المعنى هو فائدة ذكر «عَسَى» .
والاعتراف بمجرَّدِهِ لا يكون توبة، إلاَّ إذا اقترن به النَّدم على الماضي، والعزم على تركه في المستقبل.
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على عدم القولِ بالإحباط، وأنَّ الطَّاعة تبقى موجبة للمدح(10/192)
والثَّواب، والمعصية تبقى موجبة للذّم والعقاب؛ لأنَّ قوله تعالى: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} [التوبة: 102] يدلُّ على أن كلَّ واحدٍ منهما يبقى كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر، لأنه وصفه بالاختلاط، والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهم، لأن الاختلاط صفة للمختلطين، وحصول الوصفِ حال عدم الموصوف محال؛ فدلَّ على بقاء العملين حال الاختلاط.
فصل
قوله: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} يقتضي أنَّ هذه التَّوبة إنَّما تحصل في المستقبل. وقوله: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} يدلُّ على أنَّ ذلك الاعتراف حصل في الماضي، وذلك يدلُّ على أن ذلك الاعتراف ما كان مقروناً بنفس التوبة؛ بل كان مقدماً على التوبةِ، والتوبة إنما حصلت بعده.(10/193)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} قال الحسنُ: هذا راجع إلى الذين تابُوا؛ لأنهم بذلُوا أموالهم للصَّدقة؛ فأوجب الله تعالى أخذها، وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم، فتكون جارية مجرى الكفارة. وليس المراد منها الصدقة الواجبة، وإنَّما هي كفارة الذنبِ. وهذا بناء على القول بأنَّهُم ليسوا منافقين، ويدلُّ عليه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ما أمرتُ أن آخُذَ مِنْ أموالكُمْ شَيْئاً» فلو كانت واجبة لم يقل ذلك. وأيضاً روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: أخذ الثلث وترك الثلثين. والواجبةُ ليست كذلك. وقيل: إنَّ الزكاة كانت واجبة عليهم، فلمَّا تابُوا عن تخلفهم عن الغزوِ، وحسن إسلامهم، وبذلوا الزكوات أمر الله رسوله أن يأخذها منهم. وهذا بناء على أنَّهم كانوا منافقين.
وقيل: هذا كلام مبتدأ، والمقصود منه إيجاب أخذ الزَّكاة من الأغنياء، وعليه أكثر الفقهاء، واستدلُّوا بقوله {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} . فدلَّ على أنَّ المأخوذَ بعض تلك الأموال لا كلها؛ لأنَّ «مِنْ» للتبعيض، ثم إن مقدار ذلك البعض غير مصرّح به، بل المصرح به قوله: «صدقَة» ، وليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخذ أيّ جزء كان، وإن كان في غاية(10/193)
القلَّة مثل الحبَّة الواحدة من الحنطة، أو الجزء الحقير من الذَّهبِ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفيَّة والكمية عندهم، حتى يكون قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] أمراً بأخذ تلك الصَّدقة المعلومة، لكي يزول الإجمالُ. وليست إلاَّ الصدقة التي وصفها رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن يأخذ في خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، إلى غير ذلك، وأجاب الأوَّلُون بأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيَّنها بأخذ الثلث فزال الإجمال، وظهر تعلق الآية بما قبلها، وعلى قولكم لا يظهر تعلق الآية بما قبلها.
قوله: {. . مِنْ أَمْوَالِهِمْ. .} يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ ب «خُذْ» ، و «مِنْ» تبعيضية.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّها حالٌ من «صدقةً» ، إذ هي في الأصل صفةٌ لها، فلمَّا قُدِّمت نُصبَتْ حالاً. والصَّدقة: مأخوذة من الصِّدْقِ، وهي دليل على صحَّة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنَّهُ ليس من المنافقين الذين يَلْمِزُون المُطَّوعين من المُؤمنينَ في الصَّدقاتِ.
قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} يجوزُ أن تكون التَّاء في «تُطَهِّرُهمْ» خطاباً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأن تكون للتنبيه، والفاعل ضمير الصدقة، فعلى الأوَّل تكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «خُذْ» . ويجوز أن تكون صفةً ل «صَدقَةً» ، ولا بدَّ حينئذ من حذف عائد، تقديره: تُطهِّرُهُم بها، وحذف «بها» ، لدلالة ما بعده عليه.
وعلى الثاني تكون الجملة صفة ل «صدقة» ليس إلاَّ، وأمَّا «تُزَكِّيهم» فالتاء فيه للخطاب لا غير، لقوله «بها» ، فإنَّ الضمير يعود على الصَّدقة فاستحال أن يعود الضميرُ من «تُزكِّيهم» إلى الصَّدقة. وعلى هذا فتكونُ الجملةُ حالاً من فاعل «خُذ» على قولنا: إنَّ «تَطهِّرهُم» حال منه، وإنَّ التَّاء فيه للخطاب. ويجوزُ أيضاً أن تكون صفةً إن قلنا: إنَّ «تُطهِّرهم» صفةٌ، والعائدُ منها محذوفٌ. وجوَّز مكيٌّ أن يكون «تُطهِّرُهُم» صفةً ل «صَدقةً» ، على أنَّ التَّاء للغيبة، و «تُزكِّيهم» حالاً من فاعل «خُذْ» ، على أنَّ التاء للخطاب، ورَدُّوهُ عليه بأنَّ الواو عاطفةٌ، أي: صدقة مطهِّرة، ومُزكياً بها، ولو كان بغير واوٍ جاز، ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ، فإنَّ الواو مُشتركةٌ لفظاً ومعنى، فلو كانت «وتُزكِّيهم» عطفاً على «تُطهِّرُهم» للزمَ أن يكون صفةً كالمعطوفِ عليه؛ إذْ لا يجُوزُ اختلافهما، ولكن يجوزُ ذلك على أن «تُزكِّيهم» خبر مبتدأ محذوف، وتكون الواوُ للحالِ، تقديره: وأنت تزكِّيهم، وفيه ضعفٌ، لقلَّةِ نظيره في كلامهم. وتلخَّص من ذلك أنَّ الجملتين يجُوزُ أن تكونا حالين من فاعل «خُذْ» على أن تكون التاءُ للخطابِ، وأن تكونا صفتين ل «صَدقَة» على أنَّ التاء للغيبة، والعائد محذوفٌ من الأولى، وأن يكُون «تُطهِّرهُم» حالاً، أو صفة، و «تُزكِّيهم» حالاً على ما جوَّزه مكيٌّ، وأن يكون «تزكِّيهم» خبر مبتدأ محذوف، والواوُ للحال. وقرأ الحسنُ «تُطْهرُهم» مُخَفَّفاً من «أطهر» عدَّاهُ بالهمزة.(10/194)
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الزَّكاة تتعلَّق بالأموال لا بالذِّمة، لقوله {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فلو مات أخذَت من التَّركة. وقال الشَّافعيُّ: إنَّها تتعلَّق بالذِّمة، فلو فرط حتى هلك النصاب، وجبت الزَّكاةُ؛ لأنَّ الذي هلك ما كان محلاً للحق. ودلَّت الآية أيضاً على أنَّ الزَّكاة إنَّما وجبت طهرة للآثام؛ فلا تجبُ إلا على البالغِ. وهو قول أبي حنيفة. وإذا قلنا: تتعلَّق بالمالِ وجبت في مال الصَّبي، وفي مال المديُونِ.
فصل
معنى التَّطَهُّر ما روي أن الصدقة أوساخ النَّاسِ، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخُ؛ فكان دفعها جارياً مجرى التَّطهر. والتَّزكية: مبالغة في التطهر، وقيل: التَّزكية بمعنى الإنماءِ، وقيل: الصَّدقة تطهرهم من نجاسةِ الذَّنب والمعصية، والرسول يزكيهم، ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء. ولذلك يقولُ السَّاعي له: آجرك اللهُ فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً.
قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} . قرأ الأخوان، وحفص «إنَّ صلاتكَ» ، وفي هود
{أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87] بالتَّوحيد - والباقون «إنَّ صلواتك» «،» أصَلواتُك «بالجمع فيهما، وهما واضحتان، إلاَّ أنَّ الصلاة هنا: الدُّعاء، وفي تيكَ: العبادة. قال أبو عبيدٍ: وقراءة الإفراد أوْلَى؛ لأنَّ الصَّلاة أكثر، قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} [البقرة: 43] والصلواتُ جمع قلَّة، تقول: ثلاث صلوات، وخمس صلوات.
قال أبو حاتم: وهذا غلطٌ، لأنَّ بناء الصلوات ليس للقلة، قال تعالى: {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27] ولم يرد التَّقليل، وقال: {وَهُمْ فِي الغرفات} [سبأ: 37] ، وقال {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] . والسَّكَنُ: الطمأنينة. وقال ابنُ عبَّاسٍ: رحمة لهم. وقال أبو عبيدة: تَثْبِيتاً لقلوبهم؛ ومن الطمأنينة قوله: [البسيط]
2844 - يا جَارَة الحَيِّ ألاَّ كُنْتِ لِي سَكَناً ... إِذْ لَيْسَ بعضٌ مِنَ الجيرانِ أسْكننِي
ف» فَعَل «بمعنى» مفعول «، كالقبض بمعنى: المقبوض، والمعنى: يَسْكُنون إليها.
قال أبُو البقاءِ:» ولذلِكَ لمْ يُؤنِّثْهُ «. لكن الظَّاهر أنَّهُ هنا بمعنى» فاعل «، لقوله:» لهم «. ولو كان كما قال لكان التَّركيب» سكنٌ إليها «أي: مَسْكُون إليها، فقد ظهر أنَّ المعنى: مُسَكِّنة لهم.(10/195)
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ: معنى الصَّلاةِ عليهم: أن يدعو لهم. وقال آخرون: معناه أن يقول لهم اللَّهُمَّ صلِّ على فلان، ونقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أنَّ آل أبي أوفى لمَّا أتوه بالصَّدقة قال:» اللَّهُمَّ صلِّ على آلِ أبِي أوْفَى «.
واختلفوا في وجوب الدُّعاء من الإمام عند أخذ الصدقة، قال بعضهم: يجبُ. وقال بعضهم: يستحبُّ. وقال بعضهم: يجب في صدقة الفرضِ، ويستحب في التَّطوع. وقيل: يجب على الإمام، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي. ثم قال: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قوله تعالى: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} الآية.
لمَّا قال في الآية الأولى {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] ولمْ يُصرِّح في قبول توبتهم، صرَّح في هذه الآيةِ بأنه يقبلُ التَّوبةَ عن عباده، وأنَّهُ يأخذُ الصَّدقات، أي: يقبلها. قال أبُو مسلمٍ قوله:» أَلَمْ يعلموا «وإن كان بصيغة الاستفهام، إلاَّ أنَّ المقصود منه التقدير في النَّفس، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب، وإزالة الشَّك عنه أن يقولوا: أما علمتَ أنَّ من علَّمكَ يجبُ عليك خدمته، أما علمت أنَّ من أحسن إليك يجبُ عليك شكره، فبشَّر اللهُ هؤلاء التَّائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم. ثم زاده تأكيداً بقوله: {هُوَ التواب الرحيم} .
وقرأ الحسن بخلاف عنه» ألَمْ تعْلمُوا «قال أبُو حيَّان:» وفي مصحف أبَيّ «ألَمْ تَعْلمُوا» بالخطاب، وفيه احتمالات، أحدها: أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا: ما هذه الخاصّيّة التي اختصّ بها هؤلاء؟ وأن يكون التفاتاً من غير إضمارِ قولٍ، والمرادُ: التَّائبون، وأن يكون على إضمار قولٍ، أي: قل لهم يا محمد: ألمْ تعلمُوا «.
قوله: «هُوَ يَقْبَلُ» «هو» مبتدأ، و «يَقْبَلُ» خبره، والجملةُ خبر «انَّ» ، و «أنَّ» وما في حيِّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين، أو مسدَّ الأول. ولا يجوزُ أن يكون «هو» فصلاً، لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، قوله: «عَنْ عبادِهِ» معلقٌ ب «يَقْبَلُ» وإنَّما تعدَّى ب «عَنْ» فقيل: لأنَّ معنى «مِنْ» ومعنى «عَنْ» متقاربان.
قال ابنُ عطيَّة: «وكثيراً ما يتوصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه، نحو:» لا(10/196)
صدقَةَ إلاَّ عَنْ غنى، ومِنْ غنى «، وفعل ذلك فلانٌ من أشره وبطره، وعن أشره وبطره» . وقيل: لفظة «عَنْ» تُشْعر ببعدٍ ما، تقول: جلسَ عن يمين الأمير، أي: مع نَوْعٍ من البُعْدِ. والظَّاهِرُ أنَّ «عَنْ» للمجاوزة على بابها، والمعنى: يتجاوزُ عن عباده بقبول توبتهم، فإذا قلت: أخذت العلم عن زيد؛ فمعناه المجاوزةُ، وإذا قلت «منه» فمعناه ابتداء الغاية. قال القاضي: «لعلَّ» عَنْ «أبلغ؛ لأنَّهُ ينبىء عن القبُولِ مع تسهيل سبيله إلى التَّوبة التي قبلت» قوله: «وَيَأْخُذُ الصدقات» فيه سؤالٌ: وهو أنَّ ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الله تعالى، وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمعاذ «خذها من أغنِيائهم» يدلُّ على أنَّ آخذ تلك الصدقات معاذ، وإذا دفعت إلى الفقير فالحسُّ يشهد أن آخذها هو الفقير، فكيف الجمع بين هذه الألفاظ؟ .
والجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّهُ تعالى لمَّا قال {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ثمَّ ذكر ههنا أنَّ الآخذ هو، علم منه أنَّ أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله، والمقصود منه: التنبيه على تعظيم شأنِ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ونظيره قوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] .
والثاني: أنَّهُ أضيف إلى الرسول، بمعنى أنَّهُ يأمر بأخذها، ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى النَّاس، وأضيف إلى الفقير، بمعنى أنَّهُ هو الذي يباشرُ الأخذ، ونظيره أنَّهُ أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم} [الأنعام: 60] ، وأضافه إلى ملك الموتِ بقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت بقوله: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] ، فأضيف إلى الله بالخلق، وإلى ملك الموت بالرئاسة في ذلك النَّوع من العمل، وإلى أتباع ملك الموت بالمباشرة التي عندها يخلق الله الموت، فكذا ههنا.
قوله: «هُوَ التواب» يجوزُ أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ بخلاف ما قبله.
فصل
روى أبو هريرة قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُ:
«والَّذي نَفْسِي بيدهِ مَا مِنْ عبْدٍ يتصدَّقُ بصدقةٍ من كَسْب طيِّب ولا يَقْبلُ اللهُ إلاَّ طيباً، ولا يصْعَدُ إلى السَّماء إلاَّ الطَّيِّبُ إلاَّ كأنما يضعُها في يدِ الرَّحمنِ فيُربيها لهُ كما يُرَبِّي أحدُكمْ فلُوَّهُ حتَّى إنَّ اللُّقْمةَ لتأتِي يَوْمَ القيامةِ، وأنَّها لمِثْلُ الجبل العظيم» ، ثم قرأ: {أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} .
قوله تعالى: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} الآية.(10/197)
قال ابنُ الخطيبِ: «هذا كلامٌ جامع للتَّرغيب والتَّرهيب؛ لأنَّ المعبودَ إذا كان لا يعلمُ أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله أبداً، ولهذا قال إبراهيمُ لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} [مريم: 42] ، وليس المقصودُ من هذه الحُجَّة التي ذكرها إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - القدح في إلهيّة الصَّنم؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم بالضَّرورة أنَّهُ حجر وخشب، وأنَّه عرضة لتصرف المتصرفين، فمن شاء أحرقه، ومن شاء كسره، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقلُ كونه إلهاً؟ بل المقصودُ أنَّ أكثر عبدة الأصنام كانُوا في زمن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أتباع الفلاسفةِ القائلين بأنَّ إله العالم موجب بالذَّات، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار، فقال: الموجب بالذَّات إذا لم يكن عالماً بالجزئيات، ولم يكن قادراً على نفع ولا إضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين، ولا يرى تضرُّع المساكين، فأيُّ فائدة في عبادته؟ فكان المقصودُ من دليل إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الطَّعن في قول من يقول: إنَّ إله العالم موجب بالذَّات.
أمَّا إذا كان فاعلاً مختاراً، وكان عالماً بالجزئيات، فحينئذٍ يحصلُ للعبادِ الفوائدُ العظيمةُ وذلك لأنذَ العبد إذا أطاع المعبود علم طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدُّنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدُّنيا والآخرة، فقوله: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ترغيبٌ عظيم للمُطيعين، وترهيبٌ عظيم للمذنبين فكأنَّه قال: اجتهدُوا في المستقبل، فإنَّ لعملكُم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً.
أمَّا حكمه في الدُّنيا، فهو أنَّهُ يراه اللهُ ويراهُ الرسول ويراه المؤمنون، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا، والثواب في الآخرة، وإن كان معصية حصل منه الذَّم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة، فثبت أنَّ هذه اللفظة جامعة لجميع ما يحتاجُ إليه المرء في دينه ودنياه ومعاده» .
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على كونه تعالى رائياً للمرئيات؛ لأنَّ الرُّؤيةَ المعدَّاة إلى مفعول واحد، هي الإبصار، والمعدَّاة إلى مفعولين هي العلمُ، كقولك: رأيتُ زيداً فقيهاً، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد، فتكون بمعنى الإبصار، فدلَّت على كونه مبصراً للأشياء كما أنَّ قول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} [مريم: 42] يدلُّ على كونه مبصراً للأشياء، ويقوِّي هذا أنَّهُ تعالى وصف نفسه بالعلم بعده فقال: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} فلو كانت هذه الرؤيةُ هي العلم؛ لزم التِّكرارُ الخالي عن الفائدة.
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ كلَّ موجود فإنَّهُ يصحُّ رؤيته، لما بيَّنَّا من أنَّ الرُّؤية معدَّاة إلى مفعولٍ واحدٍ، والقوانين اللُّغوية شاهدةٌ بأنَّ الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد(10/198)
معناها: الإبصار ثم إنَّه تعالى عدَّى هذه الرؤية إلى عملهم، والعمل ينقسمُ إلى أعمال القلوب، كالإرادات والكراهاتِ والخواطر، وإلى أعمال الجوارح، كالحركات والسَّكنات؛ فوجب كونه تعالى رائياً للكل وأما الجبائي فإنه استدل بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسَّكنات فلمَّا قيل له: فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القُلوبِ، فأجابَ بأنَّه تعالى عطف عليه قوله {وَرَسُولُهُ والمؤمنون} وهم إنَّما يَرَوْنَ أفعال الجوارحِ؛ فلما تقيَّدت هذه الرؤية بأعمالِ الجوارح في حقِّ المعطوف؛ وجب تقييدها بهذا القيد في حقِّ المعطوفِ عليه، وهذا استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ العطف لا يفيدُ إلاَّ أصل التَّشريك. فأمَّا التسوية في كُلِّ الأمُورِ فغير واجب فدخولُ التَّخصيص في المعطوف لا يوجبُ دخول التَّخصيص في المعطوف عليه، ويمكنُ بأن يقول الجبائيُّ: رؤيةُ الله تعالى حاصلة في الحالِ، ولفظ الآية مختصّ بالاستقبال، لقوله: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} فدلَّ على أنَّ المرادَ ليس هو الرُّؤيةُ، بل المرادُ منه الجزاء على الأعمال، أي: فسيوصل لكم جزاء أعمالكم، وقد يجابُ: بأنَّ إيصال الجزاءِ إليهم مذكور بقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فلوْ حملنا هذه الرُّؤيةِ على إيصال الجزاءِ، لزم التَّكرارِ وهو غير جائز.
فصل
ذكروا في الفائدة في ذكر الرسولِ، والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين وجهين:
الأول: أنَّ أجدر ما يدعو المرءُ إلى العمل الصَّالح هو ما يحصلُ له من المدح والتَّعظيم، فإذا علم أنَّهُ إذا فعل ذلك الفعل عظَّمه الرسولُ والمؤمنون، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه، فكأنه قيل: إن كنت من المُحِقِّين في عبودية الحق، فاعمل الأعمال الصالحة للفوز بثناء الخلقِ، وهو الرسول والمؤمنون.
الثاني: ما ذكره أبو مسلم: أنَّ المؤمنين شهداء الله يوم القيامة، لقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143] ، والرسول شهيد الأمَّة، لقوله: {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] ؛ فثبت أنَّ الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامةِ، والشهادة لا تصحُّ إلاَّ بعد الرُّؤيةِ؛ فذكر الله أنَّ الرسول والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصودُ التنبيه على أنَّهم يشهدون يوم القيامة عند حضورِ الأولين والآخرين، بأنَّهم أهل الصِّدق والسّداد والعفافِ والرشاد.
قوله: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} . قال ابنُ عباسٍ: الغيبُ: ما يسرونه والشهادة: ما يظهرونه. قال حكماءُ الإسلامِ: الموجوداتُ الغائبةُ عن الحسّ علل أو(10/199)
كالعلل للموجودات المحسوسة، وعندهم أنَّ العلم بالعلَّةِ علة للعلم بالمعلول؛ فوجب كونُ العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشَّهادة؛ فلهذا السَّبب أينما جاء الكلامُ في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة.
فصل
إن حملنا قوله تعالى: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} على الرُّؤية، ظهر أنَّ معناه مُغايراً لمعنى قوله: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} ، وإنْ حملنا تلك الرُّؤية على العلم أو على إيصال الثواب، كان قوله {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} جارياً مجرى التفسير لقوله {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} ومعناه: بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدُّنيا أو بإظهار أضدادها. وقوله: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} أي: ما يظهر في القيامة من حالِ الثَّوابِ والعقابِ.
{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يعرّفكم أحوال أعمالكم ثمَّ يجازيكم عليها؛ لأنَّ المجازاة من الله تعالى لا تحصلُ في الآخرة إلاَّ بعد التَّعريفِ، ليعرف كلُّ أحدٍ أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم.
قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} الآية.
قرأ ابنُ كثير، وأبو عمرو، وابنُ عامرٍ، وأبُو بكرٍ عن عاصم «مُرْجؤونَ» بهمزة مضمومة بعدها «واو» ساكنة. والباقون «مُرجَوْنَ» دون همز، وهذا كقراءتهم في الأحزاب «ترجىء» [الأحزاب: 51] بالهمز، والباقون بدونه.
وهما لغتان، يقال: أرْجَأتُه، وأرْجَيْتُه، ك: أعْطَيْته. ويحتملُ أن يكونا أصلين بنفسهما وأن تكون الياءُ بدلاً من الهمزة؛ ولأنه قد عهد تحقيقها كثيراً، ك: قرأت، وقرَيْت، وتوضَّأت وتوضَّيت. والإرجاء: التأخير. وسميت المرجئةُ بهذا الاسم؛ لأنَّهم لا يجزمون القولَ بمغفرة التَّائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئةِ الله. وقال الأوزاعي: لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان.
قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} يجوزُ أن تكون هذه الجملةُ في محل رفع خبراً للمبتدأ، و «مُرْجَونَ» يكونُ على هذا نعتاً للمبتدأ، ويجوزُ أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: هم مؤخَّرُون إمَّا مُعذَّبين، وإمَّا متوباً عليهم، و «إمَّا» هنا للشَّك بالنسبة للمخطاب، فناسٌ يقولون: هلكوا إذ لم يقبل الله لهم عُذْراً، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم. وإمَّا للإبهامِ بالنِّسبة إلى أنَّه أبهمَ على المُخاطبين.(10/200)
فصل
اعلم أنَّه تعالى قسَّم المتخلفين ثلاثة أقسام:
أحدها: المنافقون الذين مردُوا على النفاق.
والثاني: التَّائبون وهم المُرادُون بقوله: {وَآخَرُونَ اعترفوا} وبيَّن تعالى أنَّه قبل توبتهم.
والثالث: الذين بقوا موقوفين، وهم المذكورون في هذه الآية، والفرق بين هؤلاء وبين القسم الثاني، أنَّ هؤلاء لم يُسارعُوا إلى التَّوبة وأولئك سارعُوا إليها. قال ابنُ عبَّاسٍ: نزلت هذه الآية في الذين تخلَّفوا: كعبُ بنُ مالكٍ، ومرارةُ بن الربيع، وهلالُ بنُ أميَّة، لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة، فوقفهم رسُول الله خمسين ليلة، ونهى النَّاسَ عن مخالطتهم، حتَّى شفَّهم القلقُ، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت وكانُوا من أهل بدر؛ فجعل أناس يقولون: هلكُوا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم، فصاروا مرجئين لأمْرِ الله، إمَّا يعذبهم وإمَّا يرحمهم، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة.
{والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} «عَليمٌ» بما في قلوبِ هؤلاء المرجئين «حَكِيمٌ» بما يحكم فيها.
فإن قيل: إنَّهم ندموا على تأخرهم عن الغزوِ، وتخلفهم عن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ثمَّ إنَّهُ لم يحكم بكونهم تائبينَ، بل قال: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وذلك يدلُّ على أنَّ النَّدمَ وحده لا يكفي في صحَّة التوبةِ.
فالجوابُ: لعلَّهم حين ندمُوا خافُوا أن يفضحهم الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وعلى هذا، فلا تكونُ توبتهم صحيحة، فاستمرّ عدم قبُولِ التوبة إلى أن نزل مدحهم؛ فعند ذلك ندمُوا على المعصيةِ لنفس كونها معصية، فحينئذٍ صحَّت توبتهم.
فصل
احتجّ الجُبائيُّ بهذه الآيةِ على أنَّه تعالى لا يعفو عن غير التَّائبِ؛ لأنَّهُ قال في حقِّ هؤلاء المذنبين {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وذلك يدلُّ على أنَّه لا حكم إلاَّ أحد هذين الأمرين، وهو إمَّا التعذيب وإما التوبة، وأمَّا العفو عن الذَّنب من غير توبة؛ فهو قسم ثالث. فلمَّا أهمل الله تعالى ذكره، دلَّ على بطلانه.
وأجيب: بأنَّا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين، بل نقطعُ بحصول العفو في الجملة وأمَّا في حقِّ كل واحد؛ فذلك مشكوكٌ فيه، قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] فقطع بغفران ما سوى الشرك، لكن لا في حقِّ كل أحدٍ، بل في حقِّ من يشاء؛ فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء، عدم العفو على الإطلاق، وأيضاً(10/201)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
فعدم الذِّكر لا يدلُّ على العدم، ألا ترى قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39] وهم المؤمنون {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 40 - 42] فذكر المؤمنين والكافرين، ثم إنَّ عدم ذكر القسم الثَّالث، لم يدل عند الجبائيُّ على نفيه؛ فكذا ههنا.
قوله
تعالى
: {والذين
اتخذوا
مَسْجِداً ضِرَاراً} الآية.
قرأ نافع، وابن عامر «الذين اتَّخَذُوا» بغير «واو» . والباقون بواو العطف. فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقةِ مصاحفهم، فإنَّ مصاحف المدينة والشَّام حذفت منها الواوُ، وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم. فمنْ أسقط الواوَ ففيه أوجه:
أحدها: أنَّها بدلٌ من «آخرون» قبلها، وفيه نظر؛ لأنَّ هؤلاء الذين اتَّخَذُوا مسجداً ضراراً، لا يقال في حقِّهم: إنَّهم مُرجَوْن لأمر الله؛ لأنَّهُ رُوي في التفسير أنَّهم من كبار المنافقين، ك: أبي عامر الرَّاهب.
الثاني: أنَّهُ مبتدأ، وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ، أحدها: أنَّهُ «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ» والعائدُ محذوفٌ تقديره: بنيانه منهم.
الثاني: أنَّهُ «لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ» قاله النَّحاسُ والحوفيُّ وفيه بعدٌ لطول الفصل.
الثالث: أنه «لا تقُمْ فيهِ» قالهُ الكسائيُّ. قال ابن عطيَّة: «ويتجه بإضمارٍ، إمَّا في أول الآية، وإمَّا في آخرها، بتقدير: لا تقمْ في مسجدهم» .
الرابع: أنَّ الخبر محذوفٌ، تقديره: يعذبون، ونحوه، قاله المهدويُّ.
الوجه الثالث: أنَّه منصوبٌ على الاختصاص، وسيأتي هذا الوجه أيضاً في قراءة الواو.
وأما قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم، إلاَّ أنَّه يمتنع وجه البدل من «آخرون» ؛ لأجل العاطف.(10/202)
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: {والذين اتخذوا} ما محلُّه من الإعراب؟ قلتُ: محله النصب على الاختصاص، كقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} [النساء: 162] . وقيل: هو مبتدأ، وخبره محذوفٌ، معناه: فيمن وصفنا الذين اتَّخذُوا، كقوله: {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] . يريد على مذهب سيبويه فإنَّ تقديرهُ: فيما يُتْلى عليكم السارق؛ فحذف الخبر، وأبقى المبتدأ، كهذه الآية.
قال القرطبي: {والذين اتخذوا مَسْجِداً} معطوف، أيك ومنهم الذين اتَّخذُوا مسجداً، عطف جملة على جملة.
قوله: «ضِرَاراً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، أي: مُضَارَّةً لإخوانهم.
الثاني: أنَّهُ مفعولٌ ثان ل «اتَّخذوا» قاله أبُو البقاءِ.
الثالث: أنَّه مصدر في موضع الحال من فاعل «اتخذوا» ، أي: اتخذوه مضارين لإخوانهم. ويجوزُ أن ينتصبَ على المصدريَّةِ أي: يَضُرُّون بذلك غيرهم ضراراً. ومتعلقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ، أي: ضراراً لإخوانهم، وكفراً بالله.
فصل
قال ابنُ عباسٍ، ومجاهدٌ، وقتادةُ، وعامة المفسِّرين: الذين اتَّخَذُوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين، وديعة بن ثابت، وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد، وثعلبة بن حاطب، وحارثة بن عامرٍ، وابناهُ مجمع وزيدُ بنُ حارثة، ومعتبُ بنُ قشير وعبادُ بنُ حنيفٍ أخو سهل بن حنيفٍ، وأبُو حبيبةَ بن الأزهرِ، ونبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، ورجل يقال له: بحزَجٌ، بنوا هذا المسجد ضراراً، يعني مضارة للمؤمنين، والضرار: محاولة الضّر، كما أنَّ الشقاقَ محاولة ما يشُق.
و «كُفْراً» قال ابنُ عباسٍ: يريدُ به ضراراً للمؤمنين، وكُفْراً بالنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وما جاء به. قال ابنُ عباسٍ، ومجاهد وقتادة وغيرهم: إنَّ أبا عامر الرَّاهب كان خرج إلى قيصر وتنصَّر، ووعدهم قيصر أنَّه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضّرار يرصدون مجيئه فيه. وقال غيرهم: اتخذوه ليَكْفُرُوا فيه بالطَّعْنِ على النبيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. «وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين» أي: يفرقُون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن المنافقين قالوا: نبني مسجداً فنُصلِّي فيه؛ ولا نصلِّي خلف محمَّدٍ، فإن أتانا فيه صلينا خلفه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده، فيؤدي ذلك إلى اختلافِ الكلمة وإبطال الألفة.
وكان يُصلِّي لهم مجمعُ بنُ حارثة، فلمَّا فرغوا أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو يتجهَّزُ إلى(10/203)
تبوك، فقالوا يا رسول الله: إنَّا بنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة، والليلةِ المطيرةِ، والليلة الشاتية، وإنَّا نحب أن تأتينا تصلي لنا فيه، وتدعو بالبركةِ، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي على جناح سفرٍ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه» .
فصل
قال القرطبيُّ: «تفطَّن مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - من هذه الآية وقال: لا يُصلِّي جماعتان في مسجدٍ واحدٍ بإمامين، خلافاً لسائر العلماء. وروي عن الشَّافعي المنع؛ لأنَّ في ذلك تشتيتاً للكلمة، وإبطالاً لهذه الحكمة، وذريعة إلى أن نقول: من يريدُ الانفراد عن الجماعةِ كان له عذر فيقيمُ جماعة، ويقدم إمامه فيقعُ الخلاف بينهم، ويبطل الكلام وخفي ذلك عليهم» .
قوله: {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} .
الإرصاد: الانتظارُ، قاله الزجاجُ: وقال ابنُ قتيبة: الانتظارُ مع العداوةِ. قالوا: والمرادُ به: أبو عامر الرَّاهبُ، وهو والد حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد ترهَّب في الجاهليَّة، وتنصَّر ولبس المسوح، فلمَّا قدم النبيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - المدينة قال له أبُو عامرٍ: ما هذا الذي جِئْتَ به؟ قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم» ، قال أبو عامرٍ: أنا عليها، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّكَ لَسْتَ عليهَا» قال بلى، ولكنك أدخلتَ في الحنيفيَّة ما ليس منها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ما فعلتُ ولكنِّي جئتُ بها بيضَاءَ نقيَّةٌ» فقال أبُو عامرٍ، أمات اللهُ الكاذبَ طريداً وحيداً غريباً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آمين» وسمَّاه أبا عامر الفاسق فلمَّا كان يوم أحد، قال أبُو عامر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا أجدُ قوماً يقاتلُونك إلاَّ قاتلتك معهم؛ فلمْ يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلمَّا انهزمت هوازن يئس، وخرج هارباً إلى الشَّام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدُّوا لما استطعتم من قوَّة وسلاح، وابنُوا لِي مسجداً فإنِّي ذاهب إلى قيصر ملك الرُّوم، فآتي بجندٍ من الرُّوم، فأخرج مُحمَّداً وأصحابه من المدينة فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله: {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} [التوبة: 107] وهو أبو عامر الفاسق، ليصلي فيه إذا رجع من الشَّام.
قوله: «مِنْ قبلُ» فيه وجهان:
أحدهما - وهو الذي لم يذكر الزمخشريُّ غيره -: أنَّهُ متعلقٌ بقوله: «اتَّخَذُوا» ، أي: اتَّخذُوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء.
والثاني: أنه متعلقٌ ب «حَاربَ» ، أي: حارب من قبل اتِّخاذ هذا المسجد.
قوله: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} «ليَحْلفُنَّ» جوابُ قسم مقدر، أي: والله ليحْلِفنَّ. وقوله «إنْ أردْنَا» جوابٌ لقوله: «ليَحْلِفُنَّ» فوقع جوابُ القسم المقدر فعل قسم مجاب بقوله «إنْ أرَدْنَا» . و «إنْ» نافية، ولذلك وقع بعدها «إلاَّ» . و «الحُسْنَى» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ،(10/204)
أي: إلاَّ الخصلة الحسنى، أو إلاَّ الإرادة الحسنى. وقال الزمخشريُّ «مَا أرَدْنَا ببناء هذا المسجد إلاَّ الخصلة الحسنى، أو إلا الإرادة الحسنى، وهي الصلاةُ» . قال أبو حيَّان كأنَّه في قوله: «إلاَّ الخَصْلةِ الحسْنَى» جعله مفعولاً، وفي قوله: «أو إلاَّ الإرادة الحسنى» علةً؛ فكأنه ضمَّن «أرادَ» معنى «قَصَدَ» ، أي: ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلاَّ الإرادة الحسنى. قال «وهذا وجهُ متكلف» وأرادوا بالفعلة الحسنى: الرفق بالمسلمين، والتوسعة على أهل الضعف، والعلة، والعجز عن المصير إلى مسجد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّهم قالوا لرسُول الله: إنَّا بَنينا مسجداً لذي العلَّةِ والحاجة واللَّيلة المطيرة. ثم قال تعالى: {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: أنَّ الله أطلعَ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على أنَّهم حلفُوا كاذبين.
روي أنه لمّا انصرفَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تبوك؛ فنزل بذي أوان موضع قريب من المدينةِ، أتوهُ فسألوهُ إتيان مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه، ويأتيهم، فنزل القرآن عليه وأخبره خبر مسجد الضرار، وما همُّوا به، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مالك بن الدخشم، ومعن بن عديّ، وعامر بن السكن، والوحشي قاتل حمزة، وقال لهم: «انْطلقُوا إلى هذا المَسْجدِ الظَّالم أهلُه فاهدمُوهُ وأحْرِقُوهُ» فخرجوا مسرعين حتَّى أتوا سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي، فدخل أهلهُ فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد، وفيه أهله فحرقوه وهدموهُ، وتفرَّق عنه أهله، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف، والنتن، والقمامة، ومات أبُو عامرٍ الرَّاهب بالشَّام وحيداً غريباً.
ورُوي أنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة، فيؤمّهم في مسجدهم، فقال: لا والله ولا نعمة عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليّ، فوالله لقد صليتُ فيه وأنا لا أعلم ما أضمرُوا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيتُ معهم، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شُيُوخاً لا يقرؤون فصليت ولا أحسب إلاَّ أنهم يتقرَّبُون إلى الله، ولم أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر وصدَّقه وأمره بالصلاةِ في مسجد قباء. قال عطاءٌ «لمَّا فتح الله على عُمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجدَ، وأمرهم ألاَّ يبنوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه» .
قوله: «لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً» .
قال ابن عباس «لا تُصلّ فيه» منع اللهُ نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُصلِّي في مسجد الضِّرارِ.
قال ابنُ جريج: فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلُّوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين.(10/205)
ثم إنَّه تعالى بيَّن العلَّة في هذا النَّهْي، وهي أنَّ أحد المسجدين لمَّا كان مبنياً على التَّقوَى من أول يوم، وكانت الصَّلاة في مسجد آخر تمنع من الصَّلاة في مسجد التقوى، علم بالضرورة أنه يمنع من الصَّلاة في المسجد الثاني.
فإن قيل: كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.
فالجواب: علة المنع وقعت بمجموع الأمرين، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد المذكورة وهي المضارة والكفر والتَّفريق بين المؤمنين وإرصاده لمن حارب الله ورسولهُ، وكون مسجد التقوى يشتمل على الخيرات الكثيرة.
فصل
قال القرطبي «قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جانب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه، لئلاَّ ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلاَّ أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجدٌ واحدٌ فيبنى حينئذٍ. وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلَّى فيه الجمعة لم تجزه. وقال علماؤنا: كلَّ مسجد بُنِيَ على ضرارٍ أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضِّرارِ لا تجوز الصلاة فيه» .
فصل
قال النقاش «ويلزمُ من هذا ألاَّ يصلى في كنيسة ونحوها؛ لأنَّها بنيت على شر» .
قال القرطبي «وهذا لا يلزمُ؛ لأنَّ الكنيسة لم يقصد ببنائها الضَّرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شرٍّ، وإنما اتَّخذت النَّصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً لعبادتهم بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا، وقد أجمع العلماء على أن من صلَّى في كنسةٍ، أو بيعة على موضع طاهرٍ أنَّ صلاته صحيحةٌ جائزةٌ. وذكر البُخاريُّ أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمره أن يبني مسجد الطائف حيثُ كان طواغيتُهم» .
فصل
قال القرطبيُّ «قال علماؤنا: من كان إماماً لظالم لا يصلِّي وارءه، إلاَّ أن يظهر عذره أو يتوب؛ لأنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة أن يصلِّي بهم في مسجدهم، فقال: لا والله ولا نعمة(10/206)
عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صليتُ فيه، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيْتُ بهم فيه، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شُيُوخاً قد عاشوا على جاهليتهم، وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئاً، فصلَّيْتُ ولا أحسب ما صنعت إثماً، ولمْ أعلمْ ما في أنفسهم؛ فعذرهُ عمر، وصدَّقه وأمره بالصلاة في مسجد قُبَاء» .
فصل
قال القرطبيُّ «قال علماؤنا: إذا كان المسجد الذي يتَّخذ للعبادة وحضَّ الشارع على بنائه بقوله:» مَنْ بنَى للهِ مسجداً، ولوْ كَمَفْحَصِ قطاةٍ بنى اللهُ لهُ بيتاً في الجنَّةِ «يُهْدم إذا كان فيه ضرر بغيره؛ فما ظنُّك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم. كمنْ بنى فرناً أو رحًى أو حفر بئراً، أو غير ذلك ممّا يدخل ضرراً على الغير. والضَّابطُ فيه: أنَّ منْ أدخَلَ ضرراً على أخيه منع، فإن أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله، فأضرَّ ذلك بجاره، أو غير جاره، نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضَّررِ الدَّاخل على الفاعل قطع أكبر الضَّررين. مثل من فتح كُوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهلُ، ومن شأن النساء في بيوتهن التجرد من بعض ثيابهنّ والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أنَّ الاطلاع على العورات محرّم، نهى الشَّارعُ عن الاطلاع إلى العورات فرأى العلماء أن يغلقوا الكُوَّة وإن كان فيها منفعة وراحة؛ لأنَّ ضرر الكُوَّة أعظم من ضرر سدِّها، خلافاً للشافعي، فإنَّ أصحابه قالوا: لو حفر في ملكه بئراً، وحفر آخر في ملكه بئراً يسرقُ منه ماء البئر الأولى جاز؛ لأنَّ كلَّ واحد حفر في ملكه؛ فلا يمنع، ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسد عليه ماءه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه، والقرآنُ والسُّنَّةُ يردان هذا القول. ومن هذا النوع من الضَّرر الذي منع العلماء منه، دُخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدُّود المتولد من الزبل المنشور في الرحاب؛ فإنه يمنع منه ما كثر ضرره وخشي تماديه» .
قوله: « ...
لمَسْجِدٌ ... «فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها لامُ الابتداء.
والثاني: أنَّها جوابُ قسمٍ محذوف تقديره: والله لمسجدٌ أسِّسَ، أي: بني أصله على التقوى.
وعلى التقديرين فيكون» لمَسْجِدٌ «مبتدأ، و» أسِّسَ «في محل رفع نعتاً له، و» أحقُّ «خبره. والقائمُ مقام الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف، أي: أسِّسَ بنيانه، و» مِنْ أوَّلِ «متعلقٌ به، وبه استدلَّ الكوفيون على أنَّ» مِنْ «تكون لابتداء الغاية في الزمان؛ واستدلُّوا أيضاً بقوله: [الطويل](10/207)
2845 - مِنَ الصُّبْحِ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ لا تَرَى ... من القَوْمِ إِلاَّ خَارِجيّاً مُسَوَّمَا
وقول الآخر: [الطويل]
2846 - تُخَيَّرنَ مِنْ أزمانِ يوْمِ حليمَةٍ ... إلى اليوْمِ قَدْ جُرِّيْنَ كُلَّ التَّجاربِ
وقد تأوَّله البصريون على حذف مضاف، أي: من تأسيس أول يوم، ومن طلوع الصُّبحِ، ومن مجيء أزمان يوم. قال القرطبي:» مِنْ «عند النحويين مقابلة» مُنذ «، ف» منذ «في الزمان بمنزلة» من «في المكان، أي: من تأسيس أوَّل الأيام؛ فدخلت على مصدر الفعل الذي هو» أسس «؛ كقوله: [الكامل]
2847 - لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحَجْرِ ... أقْويْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ؟
أي من مرور حجج ومن مرور دهر، وإنَّما دعا إلى هذا أنَّ من أصول النحويين أنَّ» مِنْ «لا يجر بها الأزمان، وإنَّما تُجَرّ الأزمانُ ب» مِنْذُ «، تقولُ: ما رأيته منذُ شهرٍ، أو سنة. قال أبو البقاءِ» وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ التأسيسَ المقدر ليس بمكانٍ، حتَّى تكون لابتداءِ الغاية ويدلُّ على جواز ذلك قوله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] ، وهو كثيرٌ في القرآن وغيره «.
قال شهابُ الدِّين: البصريون إنَّما فرُّوا من كونها لابتداء الغاية في الزَّمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكونُ إلا لابتداء الغاية في المكان حتَّى يردّ عليهم بما ذكر، والخلاف في هذه المسألة قوي، ولأبي علي فيها كلامٌ طويلٌ. وقال ابنُ عطيَّة:» ويحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير، وأن تكون «من» تجر لفظة «أول» ؛ لأنَّها بمعنى: البداءة، كأنَّهُ قال: من مبتدأ الأيام، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو «.
وقوله:» أَحَقُّ «ليس للتفضيل، بل بمعنى» حقيقٌ «، إذْ لا مفاضلة بين المسجدينِ.(10/208)
قال القرطبيُّ» أحقُّ «هو أفعل من الحق، و» أفعل «لا يدخلُ إلاَّ بين شيئين مشرتكين لأحدهما مزيَّة في المعنى الذي اشتركا فيه على الآخر، فمسجدُ الضِّرار وإن كان باطلاً لا حقَّ فيه، فقد اشتركا في الحقِّ من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظُن أنَّ القيام فيه جائز للمسجدية، لكن أحد الاعتقادين باطل باطناً عند الله، والآخر حق باطناً وظاهراً، ومثله قوله تعالى:
{أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] ومعلومٌ أنَّه لا خيرية في النَّارِ، لكنه جرى على اعتقاد كلِّ فرقة أنَّها خير، وأنَّ مصيرها إلى خير، إذ كل حزب بما لديهم فرحُون. و «أنْ تقُوم» أي: بأن تقوم. والتاء لخطاب الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. و «فِيهِ» متعلقٌ ب÷. قوله: «فِيهِ رجالٌ» يجوزُ أن تكون «فيه» صفةً لمسجد و «رِجَالٌ» فاعلٌ، وأن تكون حالاً من الهاء في «فِيهِ» ، و «رِجَالٌ» فاعلٌ به أيضاً، وهذان أولى من حيث إنَّ الوصف بالمفرد أصل، والجارُّ قريبٌ من المفرد.
ويجوزُ أن يكون «فيهِ» خبراً مقدَّماً، و «رِجَالٌ» مبتدأ مؤخر. وفي هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه:
أحدها: الوصف.
والثاني: الحالُ على ما تقدم.
والثالث: الاستئناف.
وقرأ عبد الله بن زيدٍ «فِيهِ» بكسر الهاء، و «فِيهُ» بضمها، وهو الأصل، جمع بذلك بين اللغتين، وفيه أيضاً رفع توهُّم التوكيد، ورفع توهُّم أنَّ «رِجَالٌ» مرفوع ب «تَقُوم» . وقوله «يُحِبُّون» صفة ل «رِجَالٌ» ، و «أنْ» مفعول به. وقرأ طلحة بن مصرف، والأعمش «يَطَّهَّرُوا» بالإدغام، وعلي بنُ أبي طالب «المُتَطهِّرين» بالإظهار عكس قراءة الجمهور في اللفظتين.
فصل
معنى «أسس» أي: بُني أصله {عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ} بُني ووضع أساسه {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} مُصلياً. واختلفوا في المسجدِ الذي أسِّسَ على التقوى، فقال ابنُ عمر وزيدُ ابنُ ثابت، وأبو سعيد الخدري: هو مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويدلُّ عليه ما روى حميد الخراط قال: سمعتُ أبا سلمة بن عبدِ الرَّحمنِ قال: مرَّ بي عبدُ الرحمن بن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: قُلتُ لهُ: كيفَ سمعت أباكَ يذكرُ في المسجدِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى؟ قال: قال أبِي: دخلتُ على رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بيتِ بعضِ نسائِهِ فقلتُ يا رسُول الله، «أيُّ المَسْجدينِ(10/209)
الذي أسِّسَ على التَّقْوَى؟ قال: فأخَذَ كفّاً من حَصْبَاءَ فضرب به الأرض ثُمَّ قال:» هُوَ مسجدُكُمْ هذا «لِمسجدِ المدينةِ. قال: فقُلتُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذكره. وهذا قول سعيد بن المسيّب. وقال قوم: إنَّهُ مسجد قباء، وهي رواية عطية عن ابن عباس، وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة لما روي عن ابن عمر قال: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشياً وراكباً، وكان عبدُ الله يفعله، وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فيُصلِّي فيه رَكعتَيْنِ «.
وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات.
قال عطاءٌ: كانوا يستنجون بالماءِ، ولا ينامون الليل على جنابة. روى أبو هريرة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: نزلت هذه الآيةُ في أهل قُباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} قال: كانوا يستنجون بالماءِ؛ فنزلت فيهم هذه الآية، {والله يُحِبُّ المطهرين} .
وروي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقف على باب مسجد قباء وقال: «يا معْشَر الأنْصَارِ إنَّ الله أثْنَى عليكُم، فما الذي تصْنَعُونَ فِي الوضُوءِ؟» فقالوا: نتبع الأحجار بالماءِ، فقرأ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} الآية. «
قالوا: المرادُ منه: الطهارة بالماء بعد الحجر. وقيل: المرادُ منه: الطَّهارة من الذنوب والمعاصي.
وقيل: محمول على الأمرين.
فإن قيل: لفظ الطَّهارة حقيقة في إزالة النَّجاسات، ومجاز في البراءة عن المعاصي،(10/210)
واستعمال اللفظ الواحدة في الحقيقة، والمجاز معاً لا يجوزُ.
فالجوابُ: أنَّ لفظ النَّجس اسم للمستقذر، وهذا القذرُ مفهوم مشترك فيه بين القسمين، فزال السُّؤال.
قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} .
قرأ نافع، وابن عامر» أسِّسَ «مبنياً للمفعول،» بُنيانُه «بالرفع، لقيامه مقام الفاعل.
والباقون» أسَّسَ «مبنياً للفاعل،» بُنيانَهُ «مفعول به، والفاعل ضمير» مَنْ «وقرأ عمارة بن عائذ الأوَّل مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل، و» بُنْيَانهُ «مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لما تقدَّم.
وقرأ نصر بن علي، ونصر بن عاصم» أسسُ بُنيانِهِ «. وقرأ أبُو حيوة» أساسُ بُنيانِهِ «جمع» أُسِّ «. وروي عن نصر بن عاصم أيضاً» أَسُّ «بهمزة مفتوحة وسين مضمومة.
وقرىء» إسَاسُ «بالكسر، وهي جموع أضيفت إلى» البُنيانِ «. وقرىء» أسَاسُ «بفتح الهمزة و» أسّ «بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان.
ونقل صاحبُ اللوامح فيه» أسَسُ «بالتخفيف ورفع السين،» بنيانِهِ «بالجر، ف» أسس «مصدر أسس الحائط، يؤسسُه أسَساً، وأسًّا. فهذه عشر قراءات، والأسُّ والأسَاسُ القاعدةُ التي يبنى عليها الشيءُ. ويقالُ: كان ذلك على أس الدهر، كقولهم: على وجه الدهر. ويقال: أسَّ، مضعفاً: أي: جعل له أسَاساً، وآسَسَ، بزنة» فاعل «.
و» البُنْيَان «فيه قولان:
أحدهما: أنَّهُ مصدر، ك: الغُفْران، والشُّكران، وأطلق على المفعول ك» الخَلْق «بمعنى المخلوق، وإطلاق المصدر على المفعول مجاز مفهومٌ، يقالُ: هذا ضربُ الأمير ونسج زيدٍ، أي: مضروبه، ومنسوجه.
والثاني: أنَّهُ جمعٌ، وواحده» بُنْيَانة «؛ قال الشاعرُ:
2848 - كَبُنْيَانَةِ القَرْيِيِّ موضِعُ رَحْلِهَا ... وآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنْ الدَّفِّ أبْلَقُ(10/211)
يعنون أنه اسم جنسٍ، ك: قمح وقمحة.
قوله: «على تقوى» يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ بنفس «أسَّسَ» فهو مفعول في المعنى.
والثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من الضَّميرِ المستكن في «أسَّسَ» أي: قاصداً بنيانه التقوى، كذا قدَّره أبُو البقاءِ.
وقرأ عيسى بن عمر «تَقْوًى» منونة. وحكى هذه القراءة سيبويه، ولم يرتضها الناسُ لأنَّ الفها للتأنيث، فلا وجهَ لتنوينها، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكون ألفها للإلحاق.
قال ابنُ جني: قياسُها أن تكون ألفها للإلحاق، ك «أرْطَى» . قوله: «خَيْرٌ» خبر المبتدأ. والتفضيل هنا باعتبار معتقدهم. و «أمْ» متصلة، و «مِنْ» الثانية عطف على «مِنْ» الأولى، و «أسَّسَ بُنْيانَهُ» كالأولى، قوله: «على شَفَا جُرُفٍ» كقوله: «على تقوى» في وجهيه. والشَّفا: الشَّفير، وشفا الشيء حرفه، يقال: أشْفَى على كذا إذا دنا منه. وتقدَّم الكلامُ عليه في آل عمران. وقرأ حمزة، وابنُ عامرٍ، وأبو بكر عن عاصم «جُرْفٍ» بسكون الرَّاءِ والباقون بضمها. فقيل: لغتان. وقيل: السَّاكن فرعٌ على المضموم، ك: «عُنْق» في «عُنُق» و «طُنْب» في «طُنُب» . وقيل: العكس ك: «عُسُر ويُسُر» . و «الجُرْف» البئر التي لم تُطْوَ. وقيل: هو الهُوَّةُ، وما يَجْرفُه السَّيْلُ من الأودية، قاله أبُو عبيدة.
وقيل: هو المكان الذي يأكلهُ الماء، فيجْرفه، أي: يذهب به، ورجُلٌ جراف، أي: كثير النكاح كأنَّه يجرفُ في ذلك العملِ، قاله الراغبُ.
قوله: «هَارٍ» نعت ل: «جُرُفٍ» ، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو المشهورُ -: أنَّهُ مقلوبٌ بتقديم لامه على عينه، وذلك أنَّ أصله: هاورٌ، أو هايرٌ بالواو والياء؛ لأنه سمع فيه الحرفان قالوا: هَارَ يَهُور فانهارَ، وهَارَ يَهير، وتهَوَّر البناءُ، وتهَيَّر فقُدِّمت اللام، وهي «الراء» على العين - وهي «الواو» أو «الياء» - فصار ك: غازٍ، ورامٍ، فأعلَّ بالنقص كإعلالهما، فوزنه بعد القلب: «فَالِع» ، ثم تزنُه بعد الحذف ب «فَالٍ» .
الثاني: أنه حذفت عينه اعتباطاً، أي: لغير موجبٍ، وعلى هذا، فيجري بوجوه الإعراب على لامه، فيقال: هذا هارٌ، ورأيت هاراً، ومررتُ بهارٍ، ووزنه أيضاً «فال» .
والثالث: أنَّهُ لا قلب فيه ولا حذف، وأنَّ أصله «هَوِر» ، أو «هَيِر» بزنة «كَتِف» ،(10/212)
فتحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله، فقُلِب ألفاً، فصار مثل قولهم: كبشٌ صافٌ. أي: صَوِف، ويومٌ راحٌ، أي: روحٌ. وعلى هذا، فيجري بوجوه الإعراب أيضاً كالذي قبله، كما تقولُ: هذا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررت ببابٍ.
وهذا أعدل الوُجُوهِ، لاستراحته من ادِّعاءِ القلبِ، والحذف اللذين هما على خلاف الأصلِ، لولا أنه غير مشهور عند أهل التَّصريف. ومعنى: «هَارٍ» أي: ساقط متداع منهال.
قال الليثُ: الهورُ: مصدر هَارَ الجُرفُ يهورُ، إذا انصدَعَ من خلفه، وهو ثابتٌ بعدُ في مكانه، وهو جرفٌ هارٍ أي: هائر، فإذا سقط؛ فقد انهارَ وتَهيَّر. ومعناه السَّاقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرَّمل والشيء الرخو.
قوله: «فانهار» فاعله إمَّا ضميرُ البنيان، والهاءُ في «به» على هذا ضمير المؤسس الباني أي: فسقط بنيان الباني على شفا جرفٍ هار، وإمَّا ضمير الشَّفَا، وإمَّا ضمير الجرف أي: فسقط الشَّفَا، أو سقط الجرفُ، والهاء في «بِهِ» للبنيان، ويجوزث أن يكون للباني المؤسس. والأولى أن يكون الفاعل ضميرَ الجرف؛ لأنَّهُ يلزمُ من انهياره انهيارُ الشَّفَا والبنيان جميعاً، ولا يلزمُ من انهيارهما أو انهيار أحدهما انيهارهُ. والباءُ في «به» يجوز أن تكون المعدِّية، وأن تكون التي للمصاحبة، وقد تقدَّم الخلاف في أول الكتاب أنَّ المعدِّيةَ عند بعضهم تستلزم المصاحبة. وإذا قيل إنَّها للمصاحبة هنا؛ فتتعلقُ بمحذوفٍ؛ لأنَّها حال أي: فانهار مصاحباً له.
فصل
معنى الآية: أفمَنْ أسَّس بنيان دينه على قاعدةٍ قويَّة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير، أمَّنْ أسَّسَ على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطلُ والنِّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم؟ وكونه شفا جرف هار كان مشرفاً على السُّقوط ولكونه على طرف جهنم، كان إذا انهار فإنَّما ينهار في قعر جهنم، فالمعنى أنَّ أحد البنائين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء، والبناء الثاني خسيساً واجب الهدم؛ فلا يرى مثال أخس مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال، {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} .
قوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} .
أي: ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم. و «بُنيَانهُم» يحتملُ أن يكون مصدراً على حاله، أي: لا يزالُ هذا الفعلُ الصَّادرُ منهم، ويحتملُ أن يكون مراداً به المبني، وحينئذٍ يضطرُّ إلى حذف مضاف، أي: بناء بنيانهم؛ لأن المبنيَّ ليس ريبةً، أو يقدَّر الحذف من الثاني أي: لا يزال مبنيُّهم سبب ريبة. وقوله: «الذي بَنَوا» تأكيدٌ دفعاً لوهم من يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة، وإنَّما دبَّرُوا أموراً، من قولهم: كم أبني وتهدمُ، وعليه قوله: [الطويل](10/213)
2849 - متى يبلغُ البُنْيانُ يَوْماً تَمَامَهُ ... إذَا كُنْتَ تَبْنيهِ وغيْرُكَ يَهْدِمُ؟
فصل
في كونه سبباً للريبة وجوه: الأول: أنَّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضَّرار، فلمَّا أمر الرسول بتخريبة ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته.
وثانيها: أنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما أمر بتخريبه، ظنُّوا أنَّهُ إنَّما أمر بتخريبه حسداص، فارتفع أمانهم عنه، وعظم خوفهم منه، وصاروا مرتابين في أنَّهُ هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟
وثالثها: أنَّهم اعتقدوا كونهم محسنين في بناء ذلك المسجد، كما حبب العجل إلى قوم موسى، فلمَّا أمر الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ قاله ابن عباس. وقال الكلبيُّ: «ريبة» أي: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه. وقال السُّدي: لا يزال هدم بنيانهم ريبة، أي: حزازة وغيظاً في قلوبهم.
قوله: «إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ» المستثنى منه محذوفٌ، والتقدير: لا يزالُ بنيانهم ريبةً في كلِّ وقت إلاَّ وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلاَّ حال تقطيعها.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص «تقطَّع» بفتح التَّاء، والأصل تتقطع بتاءين، فحذفت إحداهما.
وعن ابن كثير «تَقْطع» بفتح الياء وتسكين القاف «قُلوبَهُم» بالنصب، أي: تفعلُ أنت بقلوبهم هذا الفعل. وقرأ الباقون «تُقَطَّع» بضمِّها، وهو مبني للمفعول، مضارع «قطَّع» بالتشديد. وقرأ أبيّ «تَقْطَع» مخففاً من «قطع» . وقرأ الحسنُ، ومجاهد وقتادة، ويعقوب «إلى أن» ب «إلى» الجارة. وأبو حيوة كذلك، وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى، إلاَّ أنَّا أبا حيوة قرأ «تُقَطِّع» بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً والفاعل ضميرُ الرسول، «قُلُوبَهُم» نصباً على المفعول به، والمعنى بذلك أنه يقتلهم ويتمكَّن منهم(10/214)
كلَّ تمكُّن. وقيل: الفاعلُ ضمير «الرِّيبة» ، أي: إلى أنْ تقطع الرِّيبةُ قلوبهم وفي مصحف عبد الله «ولو قُطِّعَتْ» وبها قرأ أصحابه، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس. والمعنى أنَّ هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على النِّفاق. وقيل: معناه إلاَّ أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقيل: حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة. «والله عَلِيمٌ» بأحوالهم، «حَكِيمٌ» في الأحكام التي يحكمُ بها عليهم.(10/215)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية.
لمَّا شرح أحوال المنافقين، عاد إلى بيانِ فضيلة الجهادِ. قيل: هذا تمثيلٌ كقوله تعالى {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] قال مُحمَّدُ بن كعب القرظيُّ: «لمَّا بايعت الأنصارُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة العقبة بمكَّة وهم سبعون نفساً، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربِّك ولنفْسِكَ ما شئتَ. فقال:» أشترطُ لربِّي أن تعبُدُوهُ ولا تُشرِكُوا بِهِ شَيْئاً ولنفْسِي أن تمنعوني ممَّا منعون منه أنفسكُم وأموالكُم «قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال:» الجنَّة «قالوا ربح البيعُ لا نقيلُ ولا نستقيلُ» ، فنزل: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} .
قال الحسنُ، ومجاهدٌ، ومقاتل: «ثامنَهُم فأغْلَى ثمنهُمْ» .
قوله: «بِأَنَّ لَهُمُ» متعلقٌ ب «اشْتَرَى» ، ودخلت الباءُ هنا على المترُوكِ على بابها،(10/215)
وسمَّاها أبُو البقاءِ «باء» المقابلةِ، كقولهم: «باء» العوض، و «باء» الثمنية. وقرأ عمرُ ابنُ الخطاب والأعمش «بِالجنَّةِ» . قال أهلُ المعاني: لا يجوزُ أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة؛ لأنه مالك الكل، ولهذا قال الحسنُ: اشترى أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، وإنَّما ذكر اللهُ ذلك، لحسن التَّلُّطفِ في الدُّعاءِ إلى الطَّاعةِ؛ لأن المؤمنَ إذا قاتل في سبيل اللهِ حتى يقتل؛ فتذهب روحه، وينفق ماله في سبيل الله تعالى جزاؤه في الآخرة الجنَّة، فكان هذا استبدالاً وشراءً. قال الحسنُ: «والله بيعة رَابحةٌ، وكفةٌ راجحةٌ، بايع اللهُ بها كلَّ مُؤمِنٍ والله ما على الأرض مؤمن إلاَّ وقد دخل في هذه البيعة» .
وفيه لطيفةٌ، وهي أن المشتري لا بدَّ وأن يغاير البائع، وههنا البائعُ هو اللهُ تعالى، والمشتري هو الله، وهذا إنما يصحُّ في حقِّ القيم بأمر الطفل الذي لا يمكُنُه رعاية المصالح في البيع والشراء وصحَّة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة؛ فهذا جارٍ مجرى التَّنبيه على كون العبد كالطِّفلِ الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه؛ وأنَّهُ تعالى هو الرَّاعي لمصالحه بشرط الغبطةِ.
فصل
قال القرطبيُّ: «هذه الآية دليلٌ على جواز معاملة السيد مع عبده، وإن كان الكل للسَّيد، لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه، وجاز بين السيد وعبده ما لا يجوزُ بينه وبين غيره؛ لأنَّ ماله له، وله انتزاعه» .
فصل
أصل الشراءِ من الخلق أن يعوضوا بما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم، أو مثل ما خرج عنهم في النفع، فاشترى الله من العباد إتلاف أنفسهم، وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته وأعطاهم الجنَّة عوضاً عنها إذا فعلوا ذلك، وهو عوض عظيمٌ لا يدانيه المعوض، فأجرى ذلك على مجرى ما يتعارفونه في البيع والشراء، فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثَّواب والنَّوال فسمّي هذا شراء.
فصل
قال بعضُ العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغينَ المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم، وأسقمهم، لما في ذلك من المصلحة ومن الاعتبار للبالغين، فإنهم لا يكونُون عند شيءٍ أكثر صلاحاً، وأقل فساداً منهم عند ألم الأطفالِ، وما يحصلُ للوالدين من الثَّواب فيما ينالهم من الهم، ثم إنَّ الله تعالى يعوض هؤلاء الأطفال عوضاً إذا صارُوا إليه.
قوله: «يُقَاتِلُون» يجوز أن يكون مستأنفاً، ويجوز أن يكون حالاً. وقال(10/216)
الزمخشري: «يُقَاتلُون» فيه معنى الأمر، كقوله: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 11] . وعلى هذا فيتعيَّنُ الاستئناف، لأنَّ الطَّلبَ لا يقع حالاً. وقد تقدَّم الخلاف في {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} في آل عمران قرأ حمزة والكسائيُّ: «فيُقْتلُونَ» بتقديم المفعول على الفاعل. وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول.
قوله: «وَعْداً» منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة؛ لأنَّ معنى «اشْتَرَى» معنى: وعدهم بذلك، فهو نظير: «هَذَا ابني حقّاً» . ويجوزُ أن يكُون مصدراً في موضع الحال وفيه ضعفٌ. و «حَقّاً» نعت له. و «عَلَيْهِ» حالٌ من «حَقّاً» ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ لو تأخَّر.
قوله: «فِي التوراة» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ متعلقٌ ب «اشْتَرَى» ، وعلى هذا فتكُونُ كل أمَّةٍ قد أمِرَت بالجهادِ، ووعدتْ عليه الجنَّة.
والثاني: أنَّهُ متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفةٌ للوعد، أي: وعداً مذكوراً وكائناً في التَّوراة.
وعلى هذا فيكون الوعد بالجنَّة مذكوراً في كتب الله المنزلةِ، وقال الزمخشريُّ في أثناء الكلامِ: «لا يجُوزُ عليه قبيحٌ قطّ» قال أبُو حيَّان: «استعمل» قَطْ «في غير موضوعه، لأنَّهُ أتَى به مع قوله» لا يجُوزُ عليه «، و» قطّ «ظرفٌ ماضٍ، فلا يعمل فيه إلاَّ الماضي» .
قال شهابُ الدِّين «ليس المرادُ هنا زمناً بعينه» .
ثم قال تعالى: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} أي: أنَّ نقض العهد كذبٌ، ومكرٌ، وخديعة وكل ذلك من القبائح، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها، فالغني عن كلِّ الحاجات أولى أن يكون مُنزهاً عنها. أي لا أحد أوفى بعهده من الله، وهذا يتضمَّنُ وفاء الباري بالكل فأمَّا وعده فللجميع، وأمَّا وعيده فمخصوصٌ ببعض المذنبين وببعض الذُّنُوب، وفي بعض الأحوال.
قوله: «فاستبشروا» فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب؛ لأنَّ في خطابهم بذلك تشريفاً لهم و «استفعل» هنا ليس للطلب، بل بمعنى «أفعل» ، ك «اسْتوْقَدَ» ، و «أوقد» والمعنى: أظهروا السُّرورَ بذلك، والبشارة: إظهار السُّرور في البشرة.
وقوله: {الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} توكيد، كقوله: {الذي بَنَوْاْ} [التوبة: 110] ، لينصَّ لهم على هذا البيع بعينه.(10/217)
قوله تعالى: {التائبون} الآية.
لمَّا بينَّ أنَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم، بيَّن ههنا أنَّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات. وقال جماعةٌ: الآية الأولى مستقلة بنفسها، يقع تحت تلك المبايعة كل مُوحّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإنْ لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية.
قوله: «التائبون» فيه خمسةُ أوجه:
أحدها: أنَّهُ مبتدأ، وخبره «العابدون» وما بعده أوصاف، أو أخبار متعددة عند من يرى ذلك.
الثاني: أنَّ الخبر قوله «الآمرون» .
الثالث: أنَّ الخبر محذوفٌ، أي: التَّائِبُون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة، أي من لم يجاهد غير معاندٍ، ولا قاصد لترك الجهادِ فله الجنَّةُ، قال الزجاجُ: وهو حسن، كأنه وعد الجنَّة لجميع المؤمنين، كقوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] ويؤيده قوله: {وَبَشِّرِ المؤمنين} ، وهذا عند من يرى أنَّ هذه الآية منقطعةٌ ممَّا قبلها وليست شرطاً في المجاهدةِ. وأمَّا من زعم أنَّها شرطٌ في المجاهدة، كالضَّحاك وغيره فيكون إعراب التَّائبين خبر مبتدأ محذوف، أي: هم التائبون، وهذا من باب قطع النُّعُوتِ، وذلك أنَّ هذه الأوصاف عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى: {مِنَ المؤمنين} ويؤيِّدُ ذلك قراءة أبيّ، وابن مسعود، والأعمش «التَّائبينَ» بالياءِ، ويجوزُ أن تكون هذه القراءةُ على القطع أيضاً؛ فيكون منصوباً بفعل مقدر، وقد صرَّح الزمخشري، وابنُ عطية بأنَّ التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ للمؤمنين.
الخامس: أنَّ «التَّائبُونَ» بدلٌ من الضمير المتصل في «يُقاتِلُونَ» .
ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً فلم يقل: التَّائبُون من كذا لله، ولا العابدون لله لفهم ذلك، إلاَّ صفتي الأمر والنَّهي، مبالغةً في ذلك. ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف، لمناسبتها لبعضها، إلاَّ في صفتي الأمر والنَّهي، لتبايُن ما بينهما، فإنَّ الأمر طلبُ فعلٍ، والنَّهْيَ طلبُ تركٍ، أو كفٍّ. وكذا «الحَافِظُونَ» عطفه وذكر متعلقه وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نظمٍ، وهو ظاهرٌ بالتأمل، فإنَّهُ قدَّم التوبة أولاً، ثم ثنَّى بالعبادة إلى آخرها.
وقيل: إنَّما دخلت الواوُ؛ لأنها «واوُ» الثمانية، كقولهم: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] لمَّا كان للجنَّة ثمانية أبواب أتى معها بالواو. قال بعض النَّحويين: هي لغة فصيحةٌ لبعض العربِ، يقولون إذا عدُّوا: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، عشرة. قال القرطبيُّ: «وهي لغة قريش» وقال أبو البقاءِ: «إنَّما دخلت» الواو «في الصفة الثامنة، إيذاناً بأنَّ(10/218)
السبعة عندهم عدد تام، ولذلك قالوا: سبع في ثمانية، أي: سبع أذرع في ثمانية أشبارٍ، وإنَّما دلَّت الواوُ على ذلك لأنَّ الواو تُؤذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها، ولذلك دخلت في باب عطفِ النَّسق» .
وهذا قولٌ ضعيفٌ جدّاً، لا تحقيقَ له.
فصل في تفسير هذه الصفات
قوله «التائبون» قال ابنُ عبَّاسٍ: التَّائِبُونَ من الشِّرْكِ وقال الحسنُ: من الشِّرك والنفاق. وقيل: التائبون الراجعون عن الحالة المذمومة قال القرطبيُّ: «الراجع إلى الطَّاعة أفضل من الراجع عن المعصية، لجمعه بين الأمرين» وقال الأصوليُّون: التَّائبُونَ من كلِّ معصيةٍ، لأنَّها صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل، فالتخصيص تحكم. و «العَابِدُونَ» قال ابنُ عباسٍ «الذين يؤدُّون العبادة الواجبة عليهم» وقال غيره: المطيعون الذين أخلصُوا العبادة لله تعالى وقال الحسنُ «هم الذين عبدُوا الله في السَّراء والضَّراء» وقال قتادةُ «قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم» الحامدون «الذين يحمدون الله على كُلِّ حال في السّراء والضّراء. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أوَّلُ مَنْ يُدعَى إلى الجنَّةِ يوْمَ القيامةِ الذين يَحمدُونَ الله فِي السَّراءِ والضَّراءِ «.
» السائحون «قال ابنُ مسعودٍ: الصائمون. وقال ابن عباس» ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام «وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» سياحةُ أمتي الصيامُ «.» وعن الحسن «أنَّ هذا صوم الفرض» وقيل: هم الذين يديمون الصيام. قال سفيانُ بنُ عيينة «إنَّما سُميَ الصَّائمُ سائحاً، لتركه اللذات كلها، من المطعم والمشرب والنكاح» وقال عطاءٌ: «السَّائحون هم الغزاةُ في سبيل الله» وهو قول مسلم. وقال عكرمةُ: «هم طلبة(10/219)
العلم، ينتقلون من بلدٍ إلى بلدٍ» وقوله {الراكعون الساجدون} يعني: المُصلِّين. وقوله {الآمرون بالمعروف} بالإيمان {والناهون عَنِ المنكر} عن الشّرك. وقيل: المعروفُ: السنّةُ، والمنكر: البدعة.
قوله: {والحافظون لِحُدُودِ الله} القائمون بأوامر الله. وقال الحسنُ «أهلُ الوفاءِ ببيعة الله» .
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآيات.
لمَّا بيَّن في أول السُّورة إلى هذا الموضع وجوب البراءة عن المشركين، والمنافقين من جميع الوجوه، بيَّن في هذه الآية وجوب البراءة عن أمواتهم، وإن كانوا في غاية القُرْبِ من الإنسان كالأب والأم، كما أوجب البراءة عن الأحياء منهم.
قال ابنُ عباسٍ: لمَّا فتح رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكَّة، أتى قبر أمه آمنة، فوقف عليه حتى حميت الشمسُ، رجاء أن يؤذن له ليستغفر لها، فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} وعن أبي هريرة قال: «زَارَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبرَ أمه فبكَى وأبْكَى من حولهُ، فقال:» اسْتأذَنْتُ ربِّي في أنْ أسْتَغْفِرَ لها؛ فَلمْ يُؤذَنْ لِي واسْتَأذَنتُهُ في أنْ أزُورَ قَبْرهَا فأذِنَ لِي، فزُورُوا القُبُور فإنَّهَا تُذكرُ المَوْتَ «.
قال قتادة: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لأستغفرنَّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله هذه الآية. وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال: «لمَّا حضرت أبَا طالب الوفاةُ جاءَهُ رسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجدَ عندهُ أبَا جهْلٍ، وعبد الله بنَ أبِي أميَّة بن المُغِيرة - فقال: يا عم قُلْ لا إله إلاَّ اللهُ أحَاجُّ لَكَ بِها عند اللهِ» فقال أبو جَهْلٍ وعبدُ الله بنُ أبي أميَّة: أتَرغَبُ عن ملَّةِ عَبْدِ المُطلبِ؟ فلمْ يزلْ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَعْرِضُها عليْهِ ويُعيدُ لَهُ تِلكَ المقالةَ، حتَّى قَالَ أبُو طالب آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ: على مِلَّة عبدِ المُطَّلبِ وأبَى أنْ يقُولَ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لأسْتَغفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أنه عَنْكَ» فأنزل الله هذه الآية، وقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [(10/220)
القصص: 56] . وفي رواية قال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِعَمِّهِ «قُلْ: لا إله إلاَّ اللهُ أشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القيامةِ» ، قال: لَوْلاَ أنْ تُعَيِّرنِي قُريشٌ، يقُولُونَ: إنَّما حملهُ على ذَلِكَ الجَزَعُ لأقْرَرْتُ بها عيْنكَ؛ فنزل قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] الآية. قال الواحديُّ: «وقد استبعده الحسينُ بنُ الفضلِ؛ لأنَّ هذه السُّورة من آخر القرآن نزولاً، ووفاة أبي طالب كانت بمكة أول الإسلام» .
قال ابنُ الخطيب «وليس هذا بمُسْتَبعدٍ؛ فإنَّهُ يمكن أن يقال: إنَّ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى حين نزول {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وروي عن علي بن أبي طالبٍ أنَّه سمع رجُلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، قال: فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو ليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان؟ فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت هذه الآية» .
وفي رواية: فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] .
فصل
قال القرطبيُّ: «تضمَّنَتْ هذه الآية قطع موالاة الكُفَّارِ حيِّهم وميِّتهم؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين؛ فطلب الغفران للمشرك لا يجوز، فإن قيل: صحَّ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال يوم أحد حين كُسِرَتْ رباعيتُه وشُجَّ وجهه:» اللَّهُمَّ اغفر لِقوْمِي فإنَّهُم لا يَعْلمُونَ «فكيف الجمع بين الآية والخبر؟ فالجوابُ أنَّ ذلك القول من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان على سبيل الحكاية عمَّنْ تقدَّمه من الأنبياء، بدليل ما رواه مسلم عن عبد الله قال: كأنِّي أنظرُ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَحْكِي نبيّاً من الأنبياءِ ضربهُ قومهُ وهو يمسَحُ الدَّمَ عَنْ وجههِ ويقُولُ
«ربِّ اغفرْ لِقوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» وروى البخاريُّ نحوه وهذا صريح في الحكاية عمَّن قبله «.
قال القرطبيُّ:» لأَنَّهُ قاله ابتداء عن نفسه. وجواب ثان: أنَّ المراد بالاستغفار في الآية: الصّلاة. قال عطاءُ بن أبي رباح: الآية في النَّهْي عن الصَّلاةِ على المشركين، والاستغفار هنا يراد به الصلاة.
جواب ثالث: أنَّ الاستغفارَ للأحياءِ جائز؛ لأنَّهُ مرجو إيمانهم، ويمكن تألفهم بالقول الجميل، وترغيبهم في الدِّين بخلاف الأموات «.
قوله: {وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} كقوله:» أعطوا السائل ولو على فرس «وقد تقدَّم أنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة. وقوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم} [التوبة: 113] كالعلَّةِ للمنع من الاستغفار لهم.(10/221)
قوله: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} .
في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ: أحدها: أنَّهُ لا يتوهم إنسان أنَّه تعالى منع محمّداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه.
وثانيها: أنه تعالى لمَّا بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات، بيَّن ههنا أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، بل وجوب الانقطاع مشروع أيضاً في دين إبراهيم؛ فتكون المبالغة في تقرير وجوبِ المقاطعةِ أكمل، وأقوى.
وثالثها: أنَّهُ تعالى وصف إبراهيم بكونه حليماً أي: قليل الغضب، وبكونه أوهاً، أي: كثير التَّوجع والتَّفجُّع عند نزول المضار بالنَّاس، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفةِ كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً؛ فكأنه قيل: إنَّ إبراهيم مع جلالة قدره، وكونه موصوفاً بالأواهية والحلمية منعه الله من الاستغفار لأبيه الكافر، فمنع غيره أولى.
قوله:» وَعَدَهَآ إِيَّاهُ «. اختلف في الضمير المرفوعِ، والمنصوبِ المنفصل، فقيل - وهو الظاهرُ - إنَّ المرفوعَ يعودَ على» إبراهيم «، والمنصُوب على» أبيه «، يعني: أنَّ إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفر له، ويؤيد هذا قراءةُ الحسنِ، وحماد الرَّاوية. وابنُ السَّميفَع ومعاذ القارئ» وعدهَا أباهُ «بالباءِ الموحَّدةِ. وقيل: المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب ل» إبراهيم «. وفي التفسير أنه كان وعد إبراهيم أنَّه يُؤمنُ؛ فذلك طمع في إيمانه.
فصل
دلَّ القرآن على أنَّ إبراهيم استغفر لأبيه، لقوله: {واغفر لأبي} [الشعراء: 86] وقوله: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} [إبراهيم: 41] وقال: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] وقال أيضاً {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] ، والاستغفار للكافر لا يجوز.
فأجاب تعالى عن هذا الإشكال بقوله {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} والمعنى: أن أباه وعده أن يؤمن؛ فلذا استغفر لهُ، فلمَّا تبيَّن له أنَّهُ لا يؤمن وأنَّهُ عدو لله، تبرَّأ منه. وقيل: إنَّ الواعدَ» إبراهيم «وعد أباهُ أن يستغفر لهُ رجاء إسلامه وقيل في الجواب وجهان آخران:
الأول: أنَّ المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام، وكان يقول له آمنْ حتى تتخلَّص من العقاب، ويدعو الله أن يرزقه الإيمان فهذا هو الاستغفارُ، فلمَّا أخبره تعالى بأنَّه يموتُ كافراً وترك تلك الدَّعوة.(10/222)
والثاني: أنَّ من النَّاس من حمل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} على صلاة الجنازة لا على هذا الطريق، قالوا: ويدل عليه قوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} [التوبة: 84] .
فصل
اختلفوا في السَّببِ الذي تبيَّن إبراهيم به أنَّ أباهُ عَدُوّ للهِ. فقيل: بالإصْرارِ والموت وقيل: بالإصْرارِ وحده. وقيل: بالوحي. فكأنه تعالى يقولُ: لمَّا تبيَّن لإبراهيم أنَّ أباهُ عدو لله تبَّرأ منه؛ فكونوا كذلك، لأنِّي أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله: {اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] . قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} . الأوَّاهُ: الكثيرُ التأوه، وهو من يقولُ: أوَّاه، وقيل: من يقولُ: أوَّهْ، وهو أنْسَبُ؛ لأنَّ «أوه» بمعنى: أتوجع، ف «الأوَّاهُ» : فعَّال مثالُ مبالغة من ذلك، وقياسُ فعله أن يكون ثلاثياً؛ لأنَّ أمثله المبالغة إنَّما تطَّرد في الثُّلاثي وقد حكى قطربٌ فعله ثلاثياً، فقال: يقال: آهَ يَئُوهُ، ك «قَامَ يقُومُ،» أوْهاً «.
وأنكر النحويون هذا القول على قطرب، وقالوا: لا يقال من» أوَّهْ «بمعنى: أتوَجَّعُ، فعلٌ ثلاثي، إنما يقال: أوَّه تأويهاً، وتأوَّه تأوهاً؛ قال الراجز: [الرجز]
2850 - فَأوَّهَ الرَّاعِي وضَوْضَى أكْلُبُهْ ... وقال المثقبُ العَبْدِيُّ: [الوافر]
2851 - إِذَا ما قُمْتُ أرْحَلُهَا بليْلٍ ... تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزينِ
وقال الزمخشريُّ:» أوَّاه: فعَّال، مِنْ أوَّهْ، ك: «لئَّالٍ» من اللُّؤلؤ، وهو الذي يكثر التَّأوُّه «.
قال أبُو حيان» وتشبيه «أوَّاه» مِنْ «أوَّهْ» ك «لَئّال» من اللؤلؤ ليس بجيدٍ؛ لأنَّ مادة «أوَّهْ» موجودةٌ في صورة «أوَّاه» ، ومادة «لؤلؤ» مفقودةٌ في «لَئّال» ؛ لاختلاف التركيب إذ «لَئّال» ثلاثي، و «لؤلؤ» رباعيّ، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية «.
قال شهابُ الدِّين:» لَئّال «، و» لؤلؤ «كلاهما من الرُّباعي المكرر، أي: إنَّ الأصل لام وهمزة ثم كرَّرْنا، غاية ما في الباب أنَّهُ اجتمع الهمزتان في» لَئّال «فأدغمت أولاهما في الأخرى، وفُرق بينهما في» لؤلؤ «وقال ابن الأثير في قوله عليه السلام:» أوْه عن الرِّبا «كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجُّع وهي ساكنة الواو ومكسورة الهاء، وربَّما(10/223)
قلبُوا الواو ألفاً فقالوا: آهِ من كذا، وربَّمَا شدَّدُوا الواو وكسرُوها وسكَّنُوا الهاء فقالوا» أوّهْ «وربما حذفُوا مع التَّشديد الهاء فقالوا:» أوّ «وبعضهم فتح الواو مع التشديد فيقول» أوَّهْ «.
وقال الجوهريُّ: بعضهم يقول «آوَّه» بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاءِ؛ لتطويل الصوت بالشِّكاية، ورُبَّمَا أدخلُوا فيه التَّاء فقالوا «أوَّتَاهُ» بمدِّ وبغير مدّ.
فصل
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الأوَّاه: الخاشع المُتضرِّع» وعن عمر: «الدُّعَّاءُ أنَّهُ سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الأوَّاه، فقال:» ويروى «أن زينب تكلَّمت عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما غيَّر لونه؛ فأنكر عمر، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: دعهَا فإنَّها أوَّاهَةٌ» فقيل يا رسُول الله، وما الأواهةُ؟ قال: «الدَّاعيةُ الخاشِعةُ المُتضرِّعَةُ» .
وقيل: معنى كون إبراهيم أوَّاهاً، كلَّما ذكر لنفسه تقصيراً، أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوَّه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً لهُ. وعن عبَّاسٍ: الأوَّاه، المؤمن التَّواب.
وقال عطاءٌ وعكرمةُ: هو الموقن. وقال مجاهدٌ والنخعيُّ: هو الفقيه. وقال الكلبيُّ وسعيد بنُ المسيِّب: هو المُسبِّحُ الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة.
وقال أبُو ذرٍّ: هو المتأوه؛ لأنه كان يقول «آهٍ من النَّار قَبْلَ ألا تنفعَ آهُ» . و «الحَلِيمُ» معلوم.
وإنَّما وصفهُ بهذين الوصفين ههنا؛ لأنَّه تعالى وصفه بشدّة الرقة والشَّفقة والخوف، ومن كان كذلك فإنَّه تعظم رقته على أبيه وأولاده، ثم إنَّهُ مع هذه الصفات تَبَرَّأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لمَّا ظهر له إصراره على الكُفْرِ، فأنتم بهذا المعنى أولى.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} الآية.(10/224)
لمَّا منع المسلمين من أن يستغفرُوا للمشركين، والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول الآية، فلمَّا نزلت هذه الآية خافُوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين.
وأيضاً فإنَّ أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين، كانوا ماتوا قبل نزولِ هذه الآية فوقع الخوفُ في قلوب المسلمين أنَّهُ كيف يكون حالهم؛ فأزال الله ذلك عنهم بهذه الآية وبيَّن أنه لا يؤاخذهم بعمل إلاَّ بعد أن يُبيِّنَ لهم أنَّه يجبُ عليهم أن يتَّقُوهُ ويحترزوا عنه فهذا وجهٌ حسنٌ في النَّظْمِ.
فصل
معنى الآية: ما كان الله ليحكم عليكم بالضَّلالةِ بترك الأوامرِ باستغفاركم للمشركين {حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} .
قال مجاهدٌ: «بيان الله للمؤمنين في ترْكِ الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة» . وقال الضحاك: «ما كان اللهُ ليُعذِّبَ قوماً حتى يُبيِّنَ لهم ما يأتون وما يذَرُونَ» . وقال مقاتلٌ والكلبيُّ: هذا في المنسوخ، وذلك أنَّ قوماً قدمُوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأسلمُوا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبةِ؛ فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة، ولا علمَ لهم بذلك، ثم قدمُوا بعد ذلك المدينة؛ فوجدُوا الخمر قد حُرِّمَتْ والقبلة قد صُرفتْ، فقالوا يا رسول الله: قد كنت على دينٍ ونحن على غيره، فنحن ضلال؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم} الناسخ، وقيل: المعنى: أنَّهُ أضلهُ عن طريق الجنَّةِ أي: صرفه ومنعه من التوجّه إليه.
وقالت المعتزلة: المراد من هذا الإضلال، الحكم عليهم بالضلال؛ واحتجُّوا بقول الكميت: [الطويل]
2852 - وطَائِفَةٍ قَدْ أكفرُونِي بحُبِّكُم..... ... ... ... ... ... ... ... .
قال ابنُ الأنباري «وهذا التَّأويلُ فاسدٌ؛ لأنَّ العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا: ضلل يضلل، واحتجاجهم ببيت الكميت باطلٌ؛ لأنه يلزم من قولنا: أكفر في الحُكْم صحة قولنا: أضَلّ. وليس كل موضع صح فيه» فعل «صح فيه» أفعل «. فإنَّه يجوزُ أن يقال» كسر «، و» قتل «، ولا يجوزُ» أكْسَرَ «، و» أقْتَلَ «؛ بل يجبُ فيه الرُّجوع إلى السماع» .(10/225)
قوله: {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} الآية.
فيها فوائد:
أحدها: أنَّه تعالى لمَّا أمر بالبراءة من الكُفَّارِ، بيَّن أنَّه له ملك السموات والأرض، فإذا كان هو ناصركم فهم لا يقدرون على إضراركم.
وثانيها: أنَّ المسلمين قالوا: لمَّا أمرتنا بالانقطاع عن الكُفَّار؛ فحينئذٍ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا، وأولادنا، وإخواننا، فكأنَّهُ قيل: إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم، فالإله المالكُ للسَّمواتِ والأرضِ، المُحْيِي المُمِيت ناصركم؛ فلا يضركم انقطاعهم عنكم.
وثالثها: أنَّهُ تعالى لمَّا أمر بهذه التكاليف الشَّاقة كأنَّهُ قال: وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي، لكوني إلهكم، ولكونكم عبيداً لي.(10/226)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
قوله: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار} الآية.
لمَّا شرح أحوال غزوة تبوك، وأحوال المتخلِّفين عنها، عاد إلى شرح ما بقي من أحكامها فقال: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي} الآية. تاب الله: تجاوز وصفح، ومعنى توبته على النبيِّ: مؤاخذته بإذنه للمنافقين في التخلُّف، فقال: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلُّفِ عنه.
وقيل: توبةُ الله عليهم استنقاذهم من شدَّةِ العسرةِ. وقيل: خلاصهم من نكايةِ العدوِّ وعبَّر عن ذلك بالتوبة - وإن خرج عن عرفها - لوجود معنى التَّوبة فيه، وهو الرُّجُوع إلى الحالة الأولى. وقيل: افتتح الكلام به؛ لأنَّه كان سبب توبتهم، فذكره معهم، كقوله تعالى: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] . وقيل: لا يبعدُ أن يكون صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلاَّ أنَّه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم، لأجْلِ تحملهم مشاق السفر في شدة الحر للجهاد، ثم إنَّه تعالى ضمَّ ذكر الرسول إلى ذكرهم، تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدِّين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إليهم في قبول التوبة.
قوله: « ... اتبعوه» يجوز فيه وجهان:(10/226)
أحدهما: أنَّهُ اتباعٌ حقيقي، ويكون عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خرج أولاً، وتبعه أصحابه. وأن يكون مجازاً، أي: اتبعوا أمرهُ ونهيهُ. وساعةُ العُسْرة عبارةُ عن وقتِ الخروج إلى الغزوِ، وليس المرادُ حقيقة السَّاعة، بل كقولهم «يَوْم الكُلاَب» ، و: [الطويل]
2853 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عَشِيَّة قَارعْنَا جُذَامَ وحمْيَرا
فاستعيرت «السَّاعة» لذلك؛ كما استعير «الغداة» و «العَشيَّة» في قوله: [الطويل]
2854 - غَداةَ طفَتْ عَلماءِ بكرُ بنُ وَائِلٍ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقوله: [الطويل]
2855 - إذَا جَاءَ يَوْماً وارثي يبتَغِي الغِنَى..... ... ... ... ... ... ... .
فصل
في المراد بساعة العسرةِ قولان:
الأول: أنها غزوةُ تبوك، والمرادُ منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدّاً في ذلك السَّفرِ. والعسرة: تعذر الأمر وصعوبته. قال جابِر «حصلت عسرة الظهر، وعسرة الماءِ، وعسرة الزَّادِ» .
أمَّا عُسرةُ الظهرِ؛ فقال الحسنُ: كان العشرةُ من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم.
وأمَّا عسرة الزَّادِ، فريما مصَّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها، حتَّى لا يبقى من(10/227)
التَّمرة إلاَّ النواة، وكان معهم شيء من شعير مُسَوَّسٍ، فكان أحدهم إذا وضع اللُّقْمَة في فيه أخذ أنفه من نتن اللُّقمةِ. وأمَّا عسرة الماءِ، فقال عمرُ: خرجنا في قيظٍ شديدٍ، وأصابنا فيه عطشٌ شديدٌ؛ حتَّى إنَّ الرجُل لينحر بعيرهُ فيعصر فرثهُ، ويشربهُ.
وهذه تسمى غزوة العسرة، ومن خرج فيها فهو جيش العُسرةِ، وجهزهم عثمان وغيره من الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
والثاني: قال أبو مسلم «يجوزُ أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال، والأوقات الشديدة على الرَّسُولِ، وعلى المؤمنين؛ فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها.
وقد ذكر الله تعالى بعضها في القرآن، كقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10] وقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران: 152] الآية، والمقصود منه وصف المهاجرين، والأنصار بأنَّهُم اتَّبعُوا الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة، وذلك يفيدُ نهاية المدح والتعظيم «.
قوله: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ} قرأ حمزة وحفص عن عصام» يَزِيغُ «بالياءِ(10/228)
من تحت والباقون بالتاء من فوق. فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكون اسمُ» كاد «ضمير الشَّأن و» قلوبُ «مرفوع ب» يزيغُ «، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها، وأن يكونَ اسمها ضمير القوم، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذكرُ» المهاجرين والأنصار «، ولذلك قدَّرهُ أبو البقاءِ، وابنُ عطيَّة:» من بعد مَا كَادَ القَوْمُ «. وقال أبو حيان - في هذه القراءة -» فيتعيَّن أن يكونَ في «كاد» ضميرُ الشَّأن، وارتفاع «قُلوبُ» ب «يزيغُ» ، لامتناع أن يكون «قلوب» اسم «كاد» ، و «يزيغُ» في موضع الخبر؛ لأنَّ النِّيةَ فيه التأخير ولا يجوزُ: من بعد ما كاد قلوب يزيغُ بالياء «قال شهابُ الدِّين: ولا يتعيَّن ما ذكر في هذه القراءة، لما تقدَّم من أنَّهُ يجوزُ أن يكون اسمُ» كاد «ضميراً عائداً على الجمع أو القوم، والجملة الفعليَّة خبرها، ولا محذور يمنع ذلك من ذلك. وقوله: لامتناع أن يكون» قُلُوب «اسم» كَادَ «لزم أن يكون» يزيغُ «خبراً مقدماً؛ فيلزمُ أن يرفع ضميراً عائداً على» قُلوبُ «، ولو كان كذلك للزم تأنيثُ الفعل؛ لأنَّهُ حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي؛ لأنَّ جمع التَّكسير يجري مجرى المؤنث مجازاً. وأمَّا قراءة التَّاء من فوق؛ فتحتمل أن يكون في» كَادَ «ضميرُ الشَّأن، كما تقدَّم، و» قلوبُ «مرفوع ب» تزيغُ «وأنَّثَ لتأنيث الجمع، وأن يكون» قُلبوُ «اسمها، و» تزيغُ «خبر مقدَّم، ولا محذور في ذلك؛ لأنَّ الفعل قد أنَّثَ.
وقال أبُو حيَّان: وعلى كُلِّ واحدٍ من هذه الأعرايب الثلاثة إشكال على ما تقرَّر في علم النَّحو مِنْ أنَّ خبر أفعالِ المقاربةِ لا يكون إلاَّ مضارعاً رافعاً ضمير اسمها؛ فبعضهم أطلق وبعضهم قيَّد بغير» عَسَى «من أفعال المقاربة، ولا يكونُ سبباً، وذلك بخلاف» كان «فإن خبرها يرفع الضمير والسبي لاسم» كان «، فإذا قدَّرْنَا فيها ضمير الشَّأن كانت الجملةُ في موضع نصب على الخبرِ، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم» كاد «، بل ولا سبباً له، وهذا يلزمُ في قراءة التَّاءِ أيضاً.
وأما توسط الخبر؛ فهو مبنيٌّ على جوازِ مثل هذا التركيب في مثل: «كان يقُومُ زيد» ، وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع. وأمَّا الوجه الأخير؛ فضعيف جداً، من حيثُ أضمر في «كاد» ضميراً، ليس له علىمن يعود إلاَّ بتوهُّم ومن حيثُ يكونُ خبر «كاد» رافعاً سبباً. قال شهابُ الدِّين: كيف يقولُ «والصَّحيحُ المنعُ» وهذا التركيب موجود في القرآن، كقوله تعالى: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} [الأعراف: 137] {كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن: 4] ، وفي قول امرىء القيس: [الطويل]
2856 - وإنْ تَكُ سَاءَتْكَ مِنِّي خَليقَةٌ..... ... ... ... ... ... ... ... . .
فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالة. وإنَّما اختلفوا في تقديره: هل من باب تقديم الخبر،(10/229)
أم لا؟ فمن منع؛ لأنه كباب المبتدأ والخبر الصريح، والخبرُ الصريح متى كان كذلك؛ امتنع تقديمهُ على المبتدأ، لئلاَّ يلتبس بباب الفاعل؛ فكذلك بعد نسخه، ومن أجازَ فلأمن اللَّبْس. ثم قال أبُو حيَّان: «ويُخَلِّصُ من هذه الإشكالات اعتقادُ كون» كَادَ «زائدة، ومعناها مراد، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر، فتكُون مثل» كَانَ «إذا زيدتْ، يُراد معناها ولا عمل لها، ويؤيِّدُ هذا التأويل قراءةُ ابن مسعودٍ» مِنْ بعْدِ ما زَاغَتْ «بإسقاط» كاد «وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] مع تأثُّرها بالعامل وعملها فيما بعدها؛ فأحرى أن يُدَّعَى زيادتها، وهي ليست عاملةً ولا معمولةً» قال شهابُ الدِّين زيادتُها أباهُ الجمهور، وقال به من البصريين الأخفشُ وجعل منه {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] وتقدَّم الكلام [البقرة: 205] على ذلك. وقرأ الأعمشُ، والجحدريُّ «تُزيغ» بضم التاء، وكأَّنه جعل «أزَاغَ» ، و «زَاغَ» بمعنى. وقرأ أبَيّ «كَادَتْ» بتاء التأنيث.
فصل
«كاد» عند بعضهم تفيد المقاربة، وعند آخرين تفيدُ المقاربة مع عدم الوقوع و «الزيغ» الميل، أي: من بعد ما كاد تميلُ قلوب فريق منهم، أو بعضهم، ولم يرد الميل عن الدِّين بل أراد الميل للتخلف، والانصراف؛ فهذه التوبةُ توبةٌ عن تلك المقاربة.
واختلفوا في الذي وقع في قلوبهم، فقيل: هَمَّ بعضهم عند تلك الشدَّة العظيمة أن يفارق الرسول، لكنه صبر واحْتَسبَ؛ فلذلك قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} لمَّا صبرُوا وندمُوا على ذلك الأمر اليسير. وقال آخرون: بل كان ذلك تحدث النفس الذي كان مقدمة العزيمة، فلمَّا نالتهم الشِّدة، وقع ذلك في قلوبهم، ومع ذلك تلافوا هذا اليسيرَ خوفاً من أن يكون معصية؛ فلذلك قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} .
فإن قيل: ذكر التوبة في أوَّل الآية، وفي آخرها، فما فائدة التَّكرارِ؟
فالجوابُ من وجوه:
أحدها: أنَّهُ تعالى ابتدأ بذكر التَّوبةِ قبل ذكرِ الذَّنبِ تَطْيبباً لقلوبهم ثم لمَّا ذكر الذَّنبَ أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيماً لشأنهم.
وثانيها: إذا قيل: عفا السُّلطان عن فلان ثمَّ عفا عنه، دلَّ على أنَّ ذلك العفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمالِ والقوَّةِ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ اللهَ ليغفِرُ ذَنْبَ الرَّجُلِ المُسلمِ عشرينَ مرَّة» وهذا معنى قول ابنِ عبَّاس في قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}(10/230)
يريدُ ازداد عنهم رضا. قال ابنُ عبَّاسٍ: مَنْ تاب اللهُ عليه لمْ يُعذِّبْه أبَداً. وتقدمت هذه الآثار في سورة النساء.
وثالثها: أنه قال {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} وهذا الترتيبُ يدلُّ على أنَّ المراد أنَّهُ تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقعُ في قلوبهم في ساعة العسرةِ، ثمَّ إنه تعالى زاد عليه فقال: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلاَّ يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس. ثمَّ قال تعالى {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وهما صفتان لله تعالى، ومعناهما متقارب، ويمكنُ أن تكون الرَّأفة عبارة عن إزالة الضَّرر، والرحمة عبارة عن إيصال المنفعة.
وقيل: إحداهما للرَّحمة السَّالفة، والأخرى للمستقبلة.
قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} الآية.
قوله «وعَلى الثَّلاثةِ» يجوزُ أن ينسقَ على «النبيِّ، أي: تاب على النبي، وعلى الثلاثة، وأن ينسقَ على الضَّمير في» عَليْهِمْ «أي: تاب عليهم، وعلى الثلاثة، ولذلك كُرِّرَ حرفُ الجر.
وقرأ جمهورُ النَّاس» خُلِّفُوا «مبنيّاً للمفعول مشدداً، من: خلَّفه يخلِّفه.
وقرأ أبُو مالك كذلك إلاَّ أنَّه خفَّف اللاَّم. وقرأ عكرمةُ، وزر بنُ حبيشٍ، وعمرُو بنُ عبيدٍ، وعكرمة بنُ هارُونَ المخزميّ، ومعاذ للقارئ» خَلَفُوا «مبنيّاً للفاعل مخففاً من:» خَلَفَه «.
والمعنى: الذين خلفوا، أي: فسدُوا، مِنْ: خُلُوف الفمِ. ويجُوزُ أن يكون المعنى أنهم خلفُوا الغازينَ في المدينة. وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء كذلك، إلاَّ أنَّهُمَا شدَّدَا اللام وقرأ أبو رزين، وعلي بنُ الحسينِ، وابناه: زيدٌ، ومحمد الباقرُ، وابنه جعفر الصادقُ:» خَالفُوا «بألف، أي: لم يُوافِقُوا الغازين في الخروج.
قال الباقرُ» ولوْ خُلِّفُوا لم يكن لهم «.
وقرأ الأعمش» وعلى الثَّلاثة المخلَّفين «. و» الظَّن «هنا بمعنى العلم؛ كقوله: [الطويل](10/231)
2857 - فقُلْتُ لهُم: ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سراتهُم في الفَارسيِّ المُسَرَّدِ
وقوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] ؛ لأنَّه تعالى ذكر هذا الوصفَ في معرض المدح والثناء، ولا يكونُ ذلك إلا مع علمهم. وقيل: هو على بابه؛ لأنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقف أمرهم على الوحي، فهم لم يقطعوا بأنَّ الله ينزل في شأنهم قرآناً، بل كانوا مُجَوِّزين لذلك، أو كانُوا قاطعين بأنَّ الله ينزل الوحي ببراءتهم، ولكنهم جوَّزُوا أن تطول المدّة في بقائهم في الشِّدَّة، فالظَّن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة.
قوله: {أَن لاَّ مَلْجَأَ} «أنْ» هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين، و «لا» وما في حيَّزها الخبرُ، و {مِنَ الله} خبرها، ولا يجوزُ أن تتعلق ب «مَلْجَأ» ، ويكون «إلاَّ إليْهِ» الخبر لأنه كان يلزم إعرابه؛ لأنَّهُ يكون مطوَّلاً.
وقد قال بعضهم: إنَّه يجوزُ تشبيهُ الاسم المُطَوَّل بالمضاف فيُنتزعُ ما فيه من تنوينٍ ونونٍ، كقوله: [الطويل]
2858 - أرَانِي ولا كُفرانَ للهِ أيَّةً..... ... ... ... ... ... ... .
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا صَمْتَ يومٌ إلى اللَّيْلِ» برفع «يومٌ» وقد تقدم ذلك [الأنفال: 48] .
قوله: «إلاَّ إليه» استثناء من ذلك العامِّ المحذوفِ، أي: لا ملجأ لأحدٍ إلاَّ إليه كقولك: «لا إله إلاَّ الله» .
فصل
هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 106] .
واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين فقيل: ليس المراد أنهم أمروا بالتَّخلفِ، أو حصل الرِّضا من الرَّسول بذلك، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً؟ فيقولُ: بموضع كذا، لا يريدُ به أنَّهُ أمره بالتخلُّف، بل لعلَّه قد نهاهُ عنه، وإنَّما يريدُ أنَّهُ تخلَّف عنه.
وقيل: لا يمتنعُ أن هؤلاء الثلاثة كان عزمهم الذهاب إلى الغزوِ؛ فأذن لهُمُ الرَّسُولُ -(10/232)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في قدر تحصيل الآلات، فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل، فصح أن يقال: خلفهم الرسول.
وقيل: إنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 106] والمرادُ من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة. قال كعبُ بنُ مالكٍ، وهو أحد الثلاثةِ: قول الله في حقنا {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} ليس من تخلفنا إنَّما هو تأخيرُ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمرنا؛ يشير إلى قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 106]
فصل
هؤلاء الثلاثةُ هم: كعب بنُ مالكٍ الشَّاعر، وهلالُ بنُ أميَّة الذي نزلت فيه آية اللعان، ومُرارةُ بنُ الرَّبيع.
وفي قصتهم قولان:
الأولُ: أنَّهم ذهبوا خلف الرَّسولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، قال الحسنُ: كان لأحدهم أرضٌ ثمنها مائة ألف درهم فقال: يا أرضاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ أمرك؛ فاذهبي في سبيل الله، فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفعل، وكان للثاني أهلٌ فقال: يا أهلاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا أمرك؛ فلأكابدن المفاوز حتَّى أصل إليه وفعل. والثالث: ما كان ذا مال ولا أهل فقال: ما لي سبب إلا الضَّن بالحياةِ، والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فلحقوا برسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزل قوله
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 106] .
والثاني - وهو قول الأكثرين -: أنهم ما ذهبوا خلف الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال كعبٌ: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب حديثي، فلما أبطأت عليه في الخروج قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ما الذي حبس كعباً فلمَّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم، وأتيته فقلتُ: إن كراعي، وزادي كان حاضراً، واحتبست بذنبي، فاستغفر لي فأبى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، ثمَّ إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم، حتى أمر بذلك نساءهم؛ فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبتْ وجاءت امرأة هلال بن أميَّة وقالت: يا رسول الله لقد بكى، حتَّى خفتُ على بصره، حتَّى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين} [التوبة: 117] وقوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى حجرته، وهو عند أمِّ سلمة فقال: اللهُ أكبرُ؛ قد أنزلَ اللهُ عُذْرَ أصحَابِنَا» فلمَّا صلَّى الفَجْرَ ذكر ذلك لأصحابه، وبشرهم بأنَّ الله تاب عليهم؛ فانطلقُوا إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعبٌ: توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال: «لا» فقلتُ: نصفه، قال: «لا» ، قلت: فثلثه، قال: «نعم» .(10/233)
فصل
معنى: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} تقدَّم تفسيره في هذه السُّورةِ وسببه: إعراض الرسول عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، وبقائهم على ذهه الحالة خمسين يوماً، وقيل: أكثر حتَّى ضاقت عليهم أنفسهم، أي: ضاقت صدورهم بالغمِّ والهمِّ، ومجانية الأولياء، ونظر الَّاس إليهم بعين الإهانةِ، و «ظَنُّوا» أي: استيقنوا «أن لا مَلْجَأ» لا مفزع من الله إلا إليه.
قال ابنُ الخطيبِ: يقرب معناه من قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أعوذُ برضَاكَ مِنْ سُخْطكَ وأعُوذُ بعَفوكَ مِنْ غضبِك، وأعوذُ بكَ مِنْكَ» .
قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} فيه وجوه:
أحدها: قال أهلُ السُّنَّةِ: المرادُ منه أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى، فقوله: «تَابَ عليْهِمْ» يدلُّ على أنَّ التوبة فعل الله وقوله: «لِيتُوبُوا» يدلُّ على أنَّها فعل العبدِ؛ فهو نظير قوله: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} [التوبة: 82] مع قوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ} [النجم: 43] وقوله {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} [الأنفال: 5] مع قوله {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} [التوبة: 40] وقوله {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ} [يونس: 22] مع قوله: {قُلْ سِيرُواْ} [الأنعام: 11] .
وثانياً: تاب عليهم في الماضي ليكون داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل.
وثالثها: أصلُ التوبة الرُّجوع أي: تاب عليهم؛ ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك.
ورابعها: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} أي: ليداوموا على التوبةِ ولا يراجعوا ما يبطلها.
وخامسها: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} لينتفعوا بالتوبة {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} .
واعلم أنَّ ذكر «الرَّحيم» عقب ذكر «التَّواب» يدلُّ على أنَّ قبول التوبةِ لمحض الرحمة والكرم، لا لأجل الوجوب، كما تقولُ المعتزلةُ، وذلك يقوي أنَّهُ لا يجبُ عقلاً على الله قبول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} الآية.
لمَّا قبل توبة هؤلاء الثلاثة، ذكر ما يكون كالزَّاجر عن فعل مثل ما مضى، وهو التخلف عن رسول الله في الجهاد، أي: اتَّقُوا الله في مخالفة أمر الرسُول {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} أي: مع النبي وأصحابه في الغزوات، ولا تتخلَّفُوا عنها، وتجلسوا مع المنافقين في البيوتِ.
قال نافعٌ: «مَعَ الصادقين» أي: مع محمد. وقال سعيدُ بن جبيرٍ: مع أبي بكر وعمر.(10/234)
وقال ابن جريج: مع المهاجرين، لقوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] إلى قوله {أولئك هُمُ الصادقون} [الحشر: 8] .
وقال ابن عباس: مع الذين صدقت نياتهم؛ فاستقامت قلوبهم وأعمالهم، وخرجُوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى تبوك بإخلاصٍ ونيّة. وقيل: من الذين صدقوا في الاعتراف بالذَّنب، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة.
فصل
دلَّت الآية على فضيلة الصِّدق، وكمال درجته، قال ابن مسعودٍ: إنَّ الكذب لا يصلحُ في جدٍّ ولا هزلٍ، ولا أن يعد أحدُكم صبيَّة شيئاً ثم لا ينجزُ له، اقرءوا إن شئتم، وقرأ الآية.
«وروي أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: إنّي أريد أن أومن بك إلاَّ أنِّي أحبُّ الزِّنا، والخمر، والسرقة، والكذب، والناس يقولون: إنك تُحرم هذه الأشياء، ولا طاقة لي على تركها بأسرهَا، فإن قنعت منِّي بتركِ واحد منها آمنت بك، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلام:» فقبل ذلك ثُمَّ أسلم، فلمَّا خرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عرضوا عليه الخمر، فقال: إن شربتُ الخمر فسألني رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن شربها، وكذبت فقد نقضت العهد، وإن صدقتُ أقام الحدَّ عليَّ، فتركها، ثمَّ عرضوا عليه الزِّنا؛ فجاء ذلك الخاطرُ، فتركه، وكذا في السرقة، فعاد إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: ما أحسن ما قلت، لمَّا منعتني من الكذب انسدت أبوابُ المعاصي عليَّ، «وتاب عن الكُلِّ وقال ابنُ مسعود:» عَليْكُم بالصِّدقِ فإنَّه يقربُ إلى البرِّ، والبرُّ يقرب إلى الجنَّة، وإنَّ العبْدَ ليصدق؛ فيكتب عند الله صدِّيقاً، وإياكم والكذبَ، فإنَّ الكذب يقربُ إلى الفُجُورِ، والفُجُورِ يُقرِّبُ إلى النار، وإن الرَّجُلَ ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّاباً، ألا ترى أنه يقال: صَدَقْتَ، وبَرَرْتَ، وكذَبْتَ، وفَجَرْتَ «.
وقيل في قول إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82، 83] إن إبليس لو لمْ يذكر هذا الاستثناء لصادر كاذباً في ادعاء إغواء الكلِّ، فكأنه استنكفَ عن الكذبِ؛ فذكر هذا الاستثناء، وإذا كان الكذبُ شيئاً يستنكفُ منه إبليس، فالمسلم أوْلَى أن يستنكفَ منه ومن فضائل الصِّدق أنَّ الإيمان منه لا من سائر الطَّاعات، ومن معايب الكذب أنَّ الكفر منه لا من سائر الذنوب.(10/235)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
قوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب} الآية.
لمَّا أوجب عليهم موافقة الرسول في جميع الغزوات والمشاهد؛ أكد ذلك بالنَّهي في هذه الآية عن التخلف عنه. قال المفسرون: ظاهره خبر ومعناه نهي، كقوله تعالى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] ، {وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب} سكان البوادي: مزينة وجُهينة، وأشجع وأسلم، وغفار، قاله ابنُ عباسٍ. وقيل: يتناولُ جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة، فإنَّ اللفظ عامٌّ، والتخصيص تحكم، وعلى القولين فليس لهم أن يتخلَّفُوا عن رسُولِ الله إذا غزا، {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي: لا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدَّعة حال ما يكونُ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحرِّ والمشقَّةِ، والمعنى: ليس لهم أن يكرهُوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لنفسه. يقال: رَغِبْتُ بنفسي عن هذا الأمر، أي: توقفتُ عنه وتركته، وأرغب بفلان عن هذا الأمر، أي: أبخل به عليه ولا أتركه.
وظاهر الآية وجوب الجهادِ على الكل، إلاَّ ما خصَّه الدَّليل من المرضى، والضعفاء، والعاجزين. ولمَّا منعهم من التخلف، بيَّن أنهم لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من المشقة إلاَّ وهو يوجب الثَّواب العظيم عند الله تعالى.
وذكر أموراً منها بقوله: «ذلك بِأَنَّهُمْ» مبتدأ وخبر، والإشارة به إلى ما تضمَّنهُ انتفاء التخلف عن وجوب الخروج معه. «لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ» وهو العطشُ، يقال: ظَمِىءَ يَظْمَأُ ظَمَأ، فهو ظمآنُ وهي ظَمْأى، وفيه لغتان: القصر والمد، وبالمد قرأ عمرو بنُ عبيدٍ، نحو: سَفِه سَفَاهاً، والظَّمءُ: ما بين الشَّربتيْنِ.
ومنها: قوله: «ولاَ نَصَبٌ» أي: إعياء وتعب. {وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله} أي: مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن، يقال: فلان خميص البطنِ، ومنها قوله: {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار} . «مَوْطِئاً» مفعل، مِن: وَطِىءَ، ويحتملُ أن يكون مصدراً(10/236)
بمعنى: الوطْء وأن يكون مكاناً، والأوَّلُ أظهر؛ لأنَّ فاعل «يَغِيظُ» يعودُ عليه من غير تأويل، بخلاف كونه مكاناً، فإنَّهُ يعُودُ على المصدر، وهو الوطْءُ، الدالُّ عليه مكان المُوطِىءُ. والمعنى: لا يضعُ الإنسان قدمه، ولا يضع فرسه حافره، ولا يضع بعيره خفه، بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار. قوله: «يَغِيظُ الكفار» قال ابنُ الأعرابي: يقال: غَاظَه، وغيَّظَه، وأغَاظَه بمعنًى واحدٍ، أي: أغضبه. وقرأ زيدُ بنُ عليّ «يُغِيظُ» بضمِّ الياءِ.
وقوله: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} النَّيْلُ: مصدرٌ؛ فيحتمل أن يكون على بابه، وأن يكون واقعاً موقع المفعول به، وليس ياؤه مبدلةً من «واو» كما زعم بعضهم، بل نالهُ يَنولُه مادةٌ أخرى، وبمعنى آخر، وهو «المناولة» ، يقال: نِلْتُه أنوله، أي: تناولتُه، ونِلْتُه أنَالُهُ، أي: أدركتُه.
والمعنى: ولا ينالهم من العدو أسراً، أو قتلاً، أو هزيمةً قليلاً كان أو كثيراً {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} أي كان ذلك قربة عند الله لهم.
قال قتادة: «هذا الحكم من خواص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلَّف عنه إلاَّ بعذر» وقال ابنُ زيدٍ: هذا حين كان المسلمون قلّة فلمَّا كثروا نسخها الله بقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} . وقال عطيَّة: ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم، وهذا هو الصحيحُ؛ لأنَّ إجابة الرَّسُولِ واجبة، وكذلك غيره من الأئمة.
قال الوليدُ بنُ مسلم: سمعتُ الأوزاعيَّن وابن المباركِ، وابن جابرٍ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: إنَّها لأوّلِ هذه الأمَّةِ وآخرها، وذلك لأنا لو سوَّغْنَا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعضٌ دون بعض فيؤدي ذلك إلى تعطيل الجهادِ.
قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} أي: تمرة فما فوقها، وعلاقة سوط فما فوقها {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً} قال الزمخشريُّ: «الوَادِي» : كل منفرجٍ بين جبال وآكام يكونُ منفذاً للسبيل، وهو في الأصل فاعل من: ودَى، إذا سَالَ، ومنه «الوَدِيّ» . وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض. وجمع على «أوْدِيَة» ، وليس بقياس، وكان قياسُه «الأوداي» ، ك «أواصل» جمع: «واصل» ، والأصلُ: ووَاصل، قلبت «الواو» الأولى همزة. وهم قد يستثقلون واحده، حتى قالوا: «أقَيْتُ» في «وَقيْتُ» . وحكى الخليل، وسيبويه، في تصغير واصل اسم رجل «أوَيْصِل» ، ولا يقولون غيره قال النَّحَّاسُ «ولا أعرفُ فاعلاً وأفعلة سواهُ» وقد استدركَ هذا عليه؛ فزادُوا: نَادٍ وأندية؛ وأنشدوا: [الطويل](10/237)
2859 - وفِيهمْ مقامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ... وأنديَةٌ ينْتَابُهَا القوْلُ والفِعْلُ
والنَّادي المجلسُ.
وقال الفرَّاءُ: إنَّه يجمع على «أوْدَاء» ك «صاحب وأصحاب» ؛ وأنشد لجرير: [الوافر]
2860 - عَرَفتْ بِبُرقَةِ الأوْدَاءِ رَسْماً ... مُحِيلاً طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ
وزاد الرَّاغبُ في «فاعل وأفْعِلَة» : «نَاجٍ وأنْجِيَة» فقد كمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظٍ، في «فاعل وأفْعِلَة» . ويقالُ: أوداه: أي: أهلكه؛ كأنهم تصَوَّرُوا منه إسالة الدَّم. وسمي الدِّية ديةً؛ لأنَّها في مقابلة إسالة الدَّم. ومنه «الوَدْيُ» وهو ماءُ الفَحْل عند المداعبة، وما يخرجُ عند البول، و «الوَدِيُّ» بكسر الدال وتشديد الياء: صغار النَّحل.
قوله: «إلاَّ كُتِبَ» هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «ظَمَأ» وما عطف عليه أي: لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً. وأفرد الضَّمير في «به» ، وإن تقدَّمته أشياء، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة، أي: كُتبَ لهم بذلك عملٌ صالحٌ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنةٍ.
وقوله: «إِلاَّ كُتِبَ» كنظيره. يُحتمل أن يعُود على العمل الصالح المتقدم، وأن يعود على أحد المصدرين المفهومين من «يُنفقُونَ» و «يقْطَعُونَ» ، أي: إلاَّ كتب لهم الإنفاق أو القطع. وقوله: «ليَجْزيهُم» متعلق ب «كُتِبَ» وقوله: {أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فيه وجهان:
الأول: أنَّ الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح، واللهُ تعالى يجزيهم على الأحسنِ، وهو الواجبُ والمندوب دون المباح.
والثاني: أن الأحسن صفةٌ للجزاء، أي: يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل، وهو الثواب. روى خريم بن فاتك قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «من أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ وكتب اللهُ لهُ سبعمائة ضعفٍ» .
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} الآية.
يمكن أن يقال هذه الآية من بقيَّةِ أحكام الجهادِ، ويمكن أن يقال إنَّهُ كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهادِ.(10/238)
أمَّا الأول فنقل عن ابن عبَّاسٍ أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان إذا خرج إلى الجهاد لم يتخلَّف عنه إلاَّ منافق أو صاحب علة. فلمَّا بالغ الله تعالى في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلَّف عن شيء من الغزوات مع الرسولِ، ولا عن سرية. فلمَّا قدم الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - المدينة، وأرسل السَّرايَا إلى الكُفَّار، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحدهُ بالمدينة؛ فنزلت هذه الآية. والمعنى: لا يجُوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد، بل يجبُ أن يصيروا طائفتين، طائفةٌ تبقى في خدمة الرسول، وطائفة أخرى تنفرُ للجهاد، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الجهاد، وأيضاً كانت التَّكاليف والشَّرائع تنزلُ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يتعلَّم تلك الشرائع والتكاليف، ويبلغها للغائبين، وبهذا الطريق يتمُّ أمرُ الدِّين، وعلى هذا القول ففيه احتمالان:
أحدهما: أن تكون الطَّائفة المقيمة هم الذين يتفقَّهُونَ في الدِّين لملازمتهم الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ومشاهدتهم التنزيل؛ فكُلما نزل تكليفٌ وشرع؛ عرفوه وحفظوه، فإذا رجعت الطائفةُ النَّافرة من الغزو؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التَّكاليف والشرائع، وعلى هذا فلا بد من إضمار، والتقدير: فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة لتفقه المسلمين في الدين، ولينذروا قومهم، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى.
والاحتمال الثاني: أنَّ التفقهة صفة للطائفة النافرة قاله الحسنُ. والمعنى: فلولا نفر من كُلِّ فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين، أي: أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين، وأنَّ العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أنَّ الله تعالى خصهم إلى قومهم من الكُفَّار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر، والفتح، والظفر، لعلهم يحذرون؛ فيتركوا الكفر والنفاق.
وأما الثاني: وهو أن هذا حكم مبتدأ؛ فتقريره أنَّ الله تعالى، لمَّا بيَّن في هذه السورة أمر الهجرة، ثم أمر الجهاد، وهما عبادتان بالسَّفر، بيَّن أيضاً عبادة التفقه من جهة الرَّسُول وله تعلق بالسفر، فقال: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} إلى حضرة الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ليتفقهوا في الدِّين، بل ذلك غيرُ واجب، وليس حاله كحال الجهادِ مع الرسول الذي يجبُ أن يخرج فيه كل من لا عُذْرَ لهُ.
ثم قال: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ} يعني من الفرق الساكنين في البلاد، طائفة(10/239)
إلى حضرة الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ليتفقهوا في الدِّين، وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى قومهم؛ فينذروا ويحذروا قومهم، لكي يرجعوا عن كفرهم، وعلى هذا فالمرادُ وجوب الخروج إلى حضرة الرَّسُول للفقه والتعلُّم.
فإن قيل: أفتدلُّ الآيةُ على وجوب الخروجِ للتفقه في كُلِّ زمان؟
فالجواب: متى عجز عن التفقه إلاَّ بالسَّفر؛ وجب عليه السَّفر، وفي زمان الرسول - عليه الصلاة السلام - كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الشريعة ما كانت مستقرة، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد، وشرع حادث. وأمَّا الآن فقد صارت الشريعة مستقرة؛ فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يجب السَّفرُ.
قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} «لولا» تحضيضية، والمرادُ به الأمر؛ لأنَّ «لوْلاَ» إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل «هَلاَّ» ؛ لأنَّ «هَلاَّ» كلمتان «هل» وهو استفهام وعرض؛ لأنك إذا قلت للرَّجُلِ: هل تأكلُ؟ فكأنَّك عرضت ذلك عليه، و «لا» وهو جحد، ف «هلاَّ» مركب من أمرين: العرض، والجحد. فإذا قلت: هلا فعلت كذا؟ فكأنك قلت: هل فعلت. ثم قلت معه «لا» أي: ما فعلت، ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب، وهكذا الكلام في «لوْلا» لأنك إذا قلت: لوْلاَ دخلتَ عليَّ، ولوْلا أكلتَ عِنْدِي، فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به، لو فعل، وهكذا الكلام في «لوما» ومنه قوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [الحجر: 7] ف «لَوْلاَ» ، و «هَلاَّ» و «لوْمَا» ألفاظ متقاربة، والمراد بها: الترغيب والتحضيض. و «مِنْهُم» يجوزُ أن يكون صفةً ل «فِرْقَةٍ» ، وأن يكون حالاً من «طَائِفَةٌ» ؛ لأنَّها في الأصل صفة لها.
وعلى كلا التَّقديرين فيتعلقُ بمحذوف. والذي ينبغي أن يقال: إنَّ «مِن كُلِّ فرقةٍ» حال من «طَائفَةٌ» و «مِنْهُم» صفة ل «فِرْقَةٍ» . ويجوزُ أن يكون «مِن كُلِّ» متعلقاً ب «نفر» . وفي الضمير من قوله «لتفَقَّهُوا» قولان:
أحدهما: أنَّهُ للطَّائفة النَّافرة.
والثاني: للطائفة القاعدة، والضَّمير في «رَجَعُوا» عائدٌ على النَّافرة. قال ابنُ العربي، والقاضي أبو بكرٍ، والشيخُ أبو الحسن: «إنَّ الطَّائفة ههنا واحد، ويقضون على وجوب العملِ بخبر الواحد، وهو صحيح، لا من جهة أن الطائفة تطلق على الواحد ولكن من جهة أنَّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأنَّ مقابله وهو التَّواتر لا ينحصر» .
قال القرطبي: «أنص ما يستدل به على أنَّ الواحد يقال له: طائفة قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] أي: نفسين، بدليل قوله: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فجاء بلفظ التثنية، وأما الضمير في:» اقْتَتلُوا «وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين» .(10/240)
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ خبر الواحد حجة، وأنَّ كلَّ ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كلِّ فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة يكون اثنين، أو واحداً؛ فوجب أن تكون الطائفة إمَّا اثنين أو واحداً، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم، لقوله «وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ» وهو عبارة عن أخبارهم. وقوله «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» إيجاب على قومهم أن يعملوا بأخبارهم، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع.
قال القاضي: «لا تدل الآية على وجوب العمل بخبر الواحد؛ لأنَّ الطائفة قد تكونُ جماعة يقع بخبرها الحجة؛ ولأنَّ قوله:» وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ «يصجُّ وإن لم يجب القبول، كما أنَّ الشَّاهدَ الواحد يلزمه الشهادة، وإن لم يلزم القبول؛ ولأن الإنذار يتضمَّنُ التخويف، وهذا العذرُ لا يقتضي وجوب العمل به» .
والجوابُ: أنَّا بينَّا أنَّ كل ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله أن يخرج من كل فرقة طائفة؛ فلزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً؛ فبطل كون الطائفة جماعة يحصلُ العلم بخبرهم، فإن قيل: إنَّه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف، فلعلهم بلغُوا في الكثرة إلى حيث يحصلُ العلم بخبرهم.
فالجوابُ: أنه تعالى أوجب على كُلِّ طائفة أن يرجعوا إلى قومهم، فاقتضى رجوع كل طائفة إلى قوم خاص، ثم إنَّه تعالى أوجب العمل بقول تلك الطائفة، وهو المطلوب.
وأمَّا قوله: «وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ» يصحُّ وإن لم يجب القبولُ؛ فالجوابُ: أنَّا لا نتمسَّكُ في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله: «وليُنذِرُوا» بل بقوله: «لعَلَّهُم يَحْذرُون» فإنَّه ترغيبٌ منه تعالى في الحذرِ، بناءً على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار.
فصل
الفقه معرفة أحكام الدِّين، وهو ينقسمُ إلى فرض عين، وفرض كفاية، ففرض العين مثل: علم الطهارة والصلاة والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «طلبُ العِلْمِ فريضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ» وكذلك كل عبادة أوجبها الشَّرع على كل واحد يجب عليه معرفة علمها مثل: علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه.
وأما فرض الكفاية، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد؛ فإذا قعد أهل بلد عن(10/241)
تعلمه عصوا جميعاً، وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَضْلُ العَالم على العَابدِ كفَضْلِي على أدْنَاكُم» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «فقيهٌ واحدٌ أشَدُّ على الشَّيطانِ من ألْفِ عابدٍ» وتقدم الكلام على حد الفقه في اللغةِ في سورة النساء عند قوله {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78] .(10/242)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} الآية.
نقل عن الحسن أنَّه قال هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة. وأنكر المحقِّقُون هذا النسخ وقالوا: إنَّهُ تعالى لمَّا أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطَّريق الأصلح وهو أن يَبْتَدِئوا من الأقرب، فالأقرب، منتقلاً إلى الأبعدِ. ألا ترى أنَّ أمر الدعوةِ وقع على هذا الترتيب قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب؛ لأنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حارب قومه أولاً، ثم انتقل إلى غزو سائر العربِ، ثم انتقل إلى غزو الشَّام، والصَّحابة لمَّا فرغوا من أمر الشَّام دخلوا العراق. والعلَّة في الابتداء بالأقرب وجوه:
أحدها: أنَّ مقابلة الكل دفعة واحدة متعذّر، والكُلُّ متساوٍ في وجود القتال لما فيه من الكُفْرِ والمحاربة، والجمع متعذِّر، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة.(10/242)
وثانيها: أنَّ النفقات في الأقرب أقلّ، والحاجة إلى الدواب والآلات أقلّ.
وثالثها: أن المجاهدين إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد، فقد عرضوا الذراري للفتنة، وأموالهم إلى النهب.
ورابعها: أنَّ المجاورين لدار الإسلام إمَّا أن يكونوا أقوياء ضعفاء، فإن كانوا أقوياء فتعرّضهم لدار الإسلام أشدّ وأكثر من تعرض الأبعد، والشَّرُّ الأكثر أولى بالدفع، وإن كان ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل؛ فكأن الابتداء بهم أولى.
وخامسها: أن القريب يعلم أكثر من علم حال البعيد، فيكون غزوه أسهل.
وسادسها: أنَّ دار الإسلام واسعة، فإذا اشتغل أهلُ كل بلدٍ بقتال من يليهم من الكفار كانت المؤمنة أسهل.
وسابعها: أنَّهُ إذا اجتمع واجبات قدم أيسرها حصولاً.
وثامنها: ما تقدَّم من أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابتداء في الدعوة بالأقرب، وبالغزو بالأقرب، وفي جميع المهمات كذلك. حتَّى إنَّ الأعرابي الذي جلس على المائدة، وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «كُلْ مِمَّا يَليكَ» فدلت الآيةُ على أنَّ الابتداء بالأقرب واجبٌ.
فإن قيل: ربَّمَا كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح؛ لأنَّ الأبعد يقع في قلبه أنما جاوز الأقرب؛ لأنَّهُ لا يقيمُ له وزناً.
فالجوابُ: أنَّ ذلك احتمالٌ واحد، وما ذكرنا احتمالات كثيرة، ومصالح الدنيا مبنيةٌ على ترجيح الأكثر مصلحة، وهذا الذي قلناه إنَّما هو فيما إذا تعذَّر الجمعُ بين مقابلة الأقرب والأبعد وأما إذا أمكن الجمع بين الكل، فالأولى هو الجمع.
قوله: «وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ» هو من باب: «لا أرينَّك ههنا» ، وتقدم شرحه [الأنفال: 25] . «غِلْظَةً» قرأ الجمهور بكسر الغين، وهي لغة أسد. وقرأ الأعمشُ، وأبانُ بن تغلب، والمفضَّلُ كلاهما عن عاصم بفتحها، وهي لغة الحجاز. وقرأ أبُو حيوة، والسُّلمي، وابنث أبي عبلة والمفضل، وأبانُ في رواية عنهما «غُلْظة» بالضَّم، وهي لغةُ تميم، وحكى أبُو عمرو اللغات الثلاث.
والغِلْظَة: أصلها في الأجْرَام، فاستعيرت هنا للشِّدَّة والصَّبر والتَّجلد قال المفسرون: شجاعة، وقيل: عنفاً، وقيل: شدة. والغلظة ضد(10/243)
الرِّقة، وفائدتها أنها أقوى تأثيراً في الزَّجْرِ، والمنع عن القبيح، وهذا غيرُ مطَّرد، بل يحتاجُ تارة إلى الرِّفْقِ واللُّطفِ، وتارة إلى العنف، ولهذا قال: {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنَّه ينفرُ ويوجب تفرق القوم، فقوله: {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} يدلُّ على تقليل الغلظة، كأنَّهُ قيل لا بد وأن يكونوا بحيثُ لو فتَّشُوا عن أخلاقكم، وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة، وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة؛ فلا يخلو عن نوع غلظة. وهذه الغلظةُ إنَّما تعتبرُ فيما يتعلَّق بالدَّعوة إلى الدِّين، إمَّا بإقامة الحُجَّةِ، وإمَّا بالقتال فأمَّا فيما يتعلقُ بالبيع، والشراء، ونحوه فلا.
ثم قال {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي: بالفوز والنصر، ويكون إقدامه على القتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه.
قوله تعالى {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ} الآية.
لمَّا ذكر مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة قال: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} «ما» صلة مؤكدة «فَمِنْهُم» أي: من المنافقين: «مَنْ يقُولُ» قيل: يقولُ بعضهم لبعض، ليثبتوهم على النِّفاقِ وقيل: يقولونه لعوام المسلمين، ليصرفوهم عن الإيمان، وقيل: يقولون ذلك على سبيل الهزؤ.
قوله: «أيُّكُمْ» الجمهور على رفع «أيُّكُمْ» بالابتداءِ، وما بعده الخبر. وقرأ زيدُ بنُ عليّ وعبيد بن عمير بالنصب، على الاشتغال، ولكن يُقدَّر الفعل. متأخراً عنه من أجلِ أنَّ لهُ صدر الكلام.
والنَّصب عند الأخفش في هذا النحو أحسنُ من الرفع؛ لأنَّهُ يجري اسم الاستفهام مجرى الأسماء المسبوقةِ بأداة الاستفهام، نحو: أزيداً ضربته، في ترجيح إضمار الفعلِ.
قوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} أي: يقيناً وتصديقاً؛ لأنَّهُم يقرُّون بها ويعترفون بأنَّها حقٌّ من عند الله، وتقدم الكلامُ في زيادة الإيمان، ونقصانه في أول سورة الأنفال [الأنفال: 2] ثم قال: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي: يفرحون بنزول القرآن، وقيل: بثوابِ الآخرة، وقيل: بالنَّصر والظفر. والاستبشار: استدعاء البشارة؛ لأنَّهُ كُلَّما يذكر النعمة حصلت البشارة فهو بالتذكر يطلب تجدُّد البشارة، ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للمذكورين في المؤمنين.
فقال: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي: شكٌّ ونفاق: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} والمرادُ بالرِّجْسِ: إمَّا العقائد الباطلةُ، وإما الأخلاقُ المذمومة، فعلى الأول يكون المعنى: كانوا مكذبين بالسُّورِ النَّازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذِّبين بهذه السُّورة الجديدة، فقد انضمَّ كفرٌ إلى كفرٍ.(10/244)
وعلى الثاني: أنَّهم كانُوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد، والآن زادت تلك الأخلاق الذَّميمة بسبب نزول هذه السُّورة الجديدة.
والأمر الثاني: أنَّهم يموتون على كفرهم، وهذه الحالة مضادة للاستبشار الذي حصل في المؤمنين، وهذه الحالة أقبحُ من الحالةِ الأولى؛ لأنَّ الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرَّجاسة وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكُفْرِ وموتهم عليه.
قال مجاهدٌ: «في هذه الآية الإيمان يزيدُ وينقصُ، وكان عمر يأخذُ بيد الرَّجُلِ والرجلين من أصحابه فيقولُ تعالوا نزداد إيماناً، وقال عليُّ بن أبي طالبٍ: إنَّ الإيمان يبدو نقطة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياضُ حتَّى يبيضَّ القلب كله وأيْمُ الله لو شققتم عن قلبِ المؤمنِ لوجدتموه أبيضَ، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود.
قوله:» أَوَلاَ يَرَوْنَ «قرأ حمزة، ويعقوب بتاء الخطابِ، وهو خطابُ للذينَ آمنُوا والباقون بياءِ الغيبة، رجُوعاً على {الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} . والرُّؤية هنا تحتمل أن تكون قلبية وأن تكون بصريةً. قال الواحديُّ: قوله:» أولا تَروْنَ «هذه ألف الاستفهام دخلت على» واو «العطف، فهو متصل بذكر المنافقين، وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليلِ في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} [الحج: 63] المعنى: أنزل الله من السماءِ ماء؛ فكان كذا وكذا.
قوله: {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} أي: يبتلون» في كُلِّ عام مرَّةً أو مرَّتين «بالأمراض والشدائد.» ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ «عن ذلك النِّفاق، ولا يتَّعظُون كما يتَّعظُ المؤمنُ إذا مرض، فإنَّهُ يتذكَّرُ ذنوبه، وموقفه بين يدي الله، فيزيده ذلك خوفاً وإيماناً، قاله ابنُ عبَّاسٍ. وقال مجاهدٌ: يفتنون بالقحطِ والشِّدة والجوع. وقال قتادة: بالغزو والجهاد؛ لأنَّهُم إذا تخلَّفوا وقعوا في ألسنة النَّاس باللَّعْن والخزي والذكر القبيح، وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين فقد عرَّضُوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنَّهْبِ من غير فائدة. قال مقاتل: يفضحون بإظهار نفاقهم. وقال عكرمةُ: ينافقون ثم يؤمنون ثم(10/245)
ينافقون. وقال يمان: ينقضون عهدهم في السَّنة مرة أو مرتين» ثُمَّ لا يتوبُونَ «من نقض العهدِ، ولا يرجعون إلى الله من النِّفاقِ؛» وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ «أي: لا يتَّعظُون بما يرونَ من تصديق وعد الله بالنَّصر والظفر للمسلمين.
قوله تعالى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} الآية.
هذا نوع آخر من مخازي المنافقين، وهو أنَّهُ كلما نزلت سورة مشتملة على شرح فضائح المنافقين وسمعوها تأذّوا من سماعها، ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطَّعْن في تلك السُّورة والاستهزاء بها، وتحقير شأنها، ويحتملُ أنَّهُمْ كانوا يستحقرون القرآن كُلَّهُ؛ فكلما سمعوا سورة، استهزءوا بها وطعنوا فيها، وضحكوا وتغامزوا، وقيل: نظر بعضهم إلى بعض يريدون الحرب.
قوله: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} في محل نصب بقول مضمر، أي: يقولون: هل يراكم، وجملةُ القول في محل نصب على الحال، و» مِنْ أحَدٍ «فاعل.
والمعنى: أنَّهم عند سماع تلك السُّورةِ يتأذون، ويريدون الخروج من المسجد، يقول بعضهم لبعض {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} من المؤمنين إن قمتم، فإن لم يراهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أنَّ أحداً يراهم أقاموا وثبتوا. وقيل: إنهم كانُوا إذا نزلت سورةٌ اشتدَّ كفرهم ونفاقهم، وذلك النظر دالٌّ من الإنكار الشديد، والنفرة التامة، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النَّظر وتلك الأحوال الدَّالة على النِّفاقِ والكفر؛ فعند ذلك قالوا: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} أي: لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدّاً.
ثم قال تعالى: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} قال ابنُ عبَّاسٍ: عن كل رشد وخير وهدى وقال الحسن: طبع الله على قلوبهم. وقال الزجاج «أضلهم اللهُ تعالى مجازاةً على فعلهم» . ذلك: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} عن الله دينه. قال ابنُ عبَّاسٍ: لا تقولُوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإنَّ قوماً انصرفوا؛ فصرف اللهُ قلوبهم، ولكن قولوا: قد قضينا الصلاة. والمقصود: التفاؤل بترك هذه اللَّفظة الواردة فيما لا ينبغي، والتَّرغيب في تلك اللفظةِ الواردة في الخير قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} [الجمعة: 10] .
قوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} الآية.
لمَّا أمر رسوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يبلغ التكاليف الشاقَّة في هذه السورة إلى(10/246)
الخلق وهي مما يعسر تحملها؛ إلاَّ لمن خصَّه الله بالتوفيق، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف، وهو أنَّ هذا الرسول منكم؛ فكلُّ ما يحصلُ له من العزّ والشَّرف، فهو عائدٌ إليكم فهو كالطبيب المشفق، والأب الرحيم في حقكم، وإن كان كذلك صارت تلك التكاليف، وتلك التأديبات جارية مجرى الإحسان.
قوله «مِّنْ أَنفُسِكُمْ» صفة ل «رسُول» أي: من صميم العربِ. قال ابنُ عباسٍ: ليس من العرب قبيلة إلاَّ وقد ولدت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وله فيهم نسب. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَا ولدَنِي مِنْ سفاحِ أهْلِ الجاهليَّة شيءٌ، ما ولدَنِي إلاَّ نكاحٌ كنِكَاحِ الإِسلامِ» .
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو، والزهري، وعبدُ الله بن قسيط المكي، ويعقوبُ من بعض طرقه، وهي قراءةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفاطمة، وعائشة بفتح الفاء، أي: من أشْرفكُم، من النَّفاسة.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمس صفات، أولها: قوله «مِنْ أنفُسِكُم» وفيه وجوه: أحدها: ما تقدم عن ابن عباس، والمراد منه: ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته، أي: كلّ ما يحصل له من الدولة والرفع في الدنيا، فهو سبب لعزكم، فإنه منكم، ومن نسبكم. وثانياً: يريد أنه بشر مثلكم، كقوله
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} [يونس: 2] وقوله: {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف: 110] والمعنى: أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على النَّاسِ، كما قرر في الأنعام.
وثالثها: أنَّ هذا خطاب لأهل الحرم؛ لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته، وكانوا يخدمونهم، فكأنه قيل للعرب: كنتم قبل مقدمه مجتهدين في خدمة أسلافه، فلم تتكاسلوا عن خدمته مع أنَّهُ أعلى في الشَّرفِ من أسلافه.
والصفة الثانية: قوله «عَزِيزٌ» فيه أوجه:
أحدها: أنَّهُ صفة ل «رسُول» ، وفيه أنه تقدَّم غيرُ الوصف الصَّريح على الوصف الصَّريح.
وقد يجاب بأنَّ «مِنْ أنفُسِكُم» متعلق ب «جَاءَ» و «ما» يجوزُ أن تكون مصدرية، أو بمعنى «الذي» .(10/247)
وعلى كلا التقديرين فهي فاعل ب «عَزِيز» ، أي: يعزُّ عليه عنتُكم، أو الذي عنتُّمُوهُ، أي: عنتُهم يُسيئه، فحذف العائد على التدرج؛ وهذا كقوله: [الوافر]
2861 - يَسُرُّ المَرْء ما ذهبَ اللَّيَالِي ... وكانَ ذهَابُهُنَّ لهُ ذَهَابَا
أي: يَسُرُّه ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون «عزيزٌ» خبراً مقدماً، و «مَا عَنتُّمْ» مبتدأ مؤخراً والجملةُ صفة ل «رسُول» وجوَّزَ الحوفي: أن يكون «عزيزٌ» مبتدأ، و «ما عنتم» خبره وفيه الابتداء بالنَّكرةِ؛ لأجْلِ عملها في الجارِّ بعدها. وتقدَّم معنى {العنت} [النساء: 25] . والأرجح أن يكون «عَزيزٌ» صفة ل «رسُولٌ» لقوله بعد ذلك «حَرِيصٌ» فلم يجعل خبراً لغيره وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو حريصٌ، لا حاجة إليه. قال الفرَّاءُ: «ما» في قوله: «مَا عنِتُّم» في موضع رفع، أي: عزيز عليه عنتكم، أي: يشقُّ عليه مكروهكم. وقال القتيبيُّ: ما أعنتكم وضركم. وقال ابن عباس: ما ضللتم. وقال الضحاكُ والكلبيُّ: ما آثمكم.
والصفة الثالثة: قوله: «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» والحريص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم، بل المراد حريص على إيصال الخيراتِ إليكم في الدُّنيا والآخرة، وعلى هذا التقدير يكونُ قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: شديد معزَّته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم؛ لأنَّ العزيز هو الغالب الشَّديد، وبهذا التقدير لا يحصلُ التَّكرار.
والصفة الرابعة والخامسة قوله: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} «بالمُؤمنينَ» متعلقٌ ب «رَءُوفٌ» ولا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع؛ لأنَّ شرطه تأخُّر المعمول عن العاملين، وإن كان بعضهم قد خالف، ويجيزُ: زيداً ضربتُ وشتمته، على التَّنازع.
وإذا فرَّعنا على هذا الضعيف، فيكون من إعمال الثاني، لا الأول، لما عُرف أنَّهُ متى أعمل الأوَّلُ أضمر في الثاني من غير حذف.
فصل
قال ابن عباس: سمَّاه الله تعالى ههنا باسمين من أسمائه. والمعنى: رءوفٌ بالمطيعين.
فإن قيل: كيف يكون كذلك، وقد كلَّفهم في هذه السُّورة بأنواعٍ من التَّكاليفِ الشَّاقَّة التي لا يقدرُ على تحملها إلا من وفقه الله تعالى.
فالجوابُ: قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق، والأدب المشفق، والمعنى:(10/248)
أنه فعل بهم ذلك ليتخلَّصُوا من العقاب المؤبد، ويفُوزُوا بالثَّواب المؤبد.
فإن قيل: لمَّا قال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} فهذا النَّسق يوجب أن يقال: رءوف رحيم بالمؤمنين، فلم ترك هذا النسق وقال: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
فالجواب: أنَّ هذا يفيد الحصر، أي: لا رأفة ولا رحمة إلا بالمؤمنين. فأما الكفار فليس له عليهم رأفة ولا رحمة، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التَّغليظِ، كأنَّهُ يقول: إنِّي وإن بالغت في التَّغليظِ في هذه السُّورة، إلاَّ أنَّ ذلك التَّغليظ على الكُفَّارِ والمنافقين، وأما رحمتي، ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين.
قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يعني: المشركين والمنافقين، أي: أعرضوا عنك وقيل: تولوا عن طاعة الله وتصديق الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقيل: تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السُّورة. وقيل: تولوا عن نصرتك في الجهاد. {فَقُلْ حَسْبِيَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ} والمرادُ: أنَّه لا يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف؛ لأنَّ الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء. «عليْهِ توكَّلتُ» أي: لا أتوكل إلاَّ عليه: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} .
فإن قيل: العرشُ غير محسوس، فلا يعرف وجوده إلاَّ بعد ثُبوتِ الشريعةِ، فكيف يمكنُ ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى؟ .
فالجواب: وجود العرش أمرٌ مشهورٌ، والكفار سمعوه من اليهود والنصارى وأيضاً لا يبعد أنَّهُم كانوا قد سمعُوهُ من أسلافهم.
وقرأ الجمهور بجرِّ الميم من «العَظيمِ» صفة للعرش. وقرأ ابنُ محيصنٍ برفعها نعتاً للرب ورويت هذه قراءة عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم: «وهذه القراءة أعجبُ إليَّ؛ لأنَّ جعل» العظيم «صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش» وأيضاً قال «فإن جعلناه صفة للعرش، كان المراد من كونه عظيماً كبر جثته وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار وإن جعلناه صفة لله تعالى كان المرادُ من العظمة وجوب التقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض، وكمال العلم والقدرة، وكونه منزَّهاً عن أن يتمثل في الأوهام، أو اتصل إليه الأفهام» .
فصل
روي عن أبيّ بن كعب والحسن قالا: آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] إلى آخرها. وقال أبي بن كعب: «هما(10/249)
أحدث الآيات بالله عهداً» وفي رواية: «أقرب القرآنِ من السَّماءِ عهداً» وهو قول سعيد بن جبير.
وقيل: آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] .
قال القرطبي «يحتمل أن يكون قول أبيّ: أقرب القرآن من السماء عهداً بعد قوله» واتقوا يَوْماً «والله أعلمُ.
ونقل عن حذيفة أنَّهُ قال: أنتم تسمُّون هذه السورة بالتوبة وهي سورة العذاب، ما تركت أحداً إلاَّ نالتْ منه «.
قال ابنُ الخطيبِ:» وهذه الرواية يجب تكذيبها؛ لأنَّا لو جوزنا ذلك؛ لكان ذلك دليلاً على تطرُّق الزيادة والنقصان إلى القرآن وهو باطلٌ «.
وروت عائشة قالت: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّه ما نزل عليَّ القرآنُ إلاَّ آيةً آيةً وحَرْفاً حَرْفاً ما خلا سُورة براءة، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فإنَّما نزلتَا عليَّ ومعهما سَبْعُونَ ألف صف مِنَ الملائكةِ كُلُّهُم يقُولُ: يا مُحمدَّدُ استوصِ بنسبةِ اللهِ خَيْراً «.(10/250)
سورة يونس - عليه السلام -
قالت فرقة: نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة، وباقيها بالمدينة، وهي مائة وتسع آيات. وهي مكية في قول عكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس إلا ثلاثة آيات وقال مقاتل: إلا آيتين من قوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} [الآية 94] وقال الكلبي: إنها مكية إلا قوله {ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين} [الآية 40] فإنها مدنية نزلت في اليهود، وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وحروفها سبعة آلاف وخمس مائة وسبعة وستون حرفا.(10/251)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
قوله: بسم الله الرحمن الرحيم «الر» تقدم الكلامُ على الحروف المقطعة في أول الكتاب، واختلافُ القُرَّاء في إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ، وهي: را، وطا، وها، ويا، وحا. فأمال «را» من جميع سورها إمالة محضة الكوفيون إلا حفصاً، وأبو عمرو وابن عامر. وأما الأخوان وأبو بكر «طا» من جميع سورها نحو: {طس} [النمل: 1] ، {طسم} [الشعراء: 1] ، {طه} [طه: 1] ، و «يا» من «يس» ، وافقهم ابنُ عامر، والسوسي على «يا» من {كهيعص} [مريم: 1] ، بخلاف عن السوسي. وأمال الأخوان وأبو عمر، وورش، وأبو بكر «ها» من «طه» ، وكذلك أمالها من «كهيعص» أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر دون حمزة وورش.
وأمال أبو عمرو، وورش، والأخوان، وأبو بكر، وابن ذكوان «حا» من جميع سورها السبع [غافر: 1] . إلاَّ أن أبا عمرو، وورشاً يميلان بين بين، وللقرَّاء في هذا عمل كثير مذكورٌ في كتب القراءات، وكلُّها لغات صحيحةٌ.(10/251)
قال الواحدي: «الأصلُ ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو» مَا «و» لا «؛ لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء، وأمَّا من أمال فلأنَّ هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصُوصة، فقصد بذكر الإمالة التَّنبيه على أنَّها أسماء لا حروف» .
فصل
اتفقوا على أنَّ قوله «الر» وحده ليس آية، واتفقوا على أنَّ قوله «طه» وحده آية، والفرق أن قوله «الر» لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده، بخلاف قوله «طه» فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده.
قال ابن عبَّاس والضحاك: «الر» معناه: أنا الله أرى، وقيل: أنا الربُّ لا ربَّ غيري. وقال سعيد بن جبير: «الر» و «حم» و «ن» حروف اسم الرحمن مُفرقة، ورواه أيضاً يزيد عن عكرمة عن ابن عبَّاس. قال الرَّاوي: فحدَّثت به الأعمش فقال: «عندك أشباه هذا ولا تخبرني به» .
قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} «تلك» يحتمل أن تكون إشارة إلى آيات هذه السورة، وأن تكون إشارة إلى ما تقدَّم هذه السورة من آيات القرآن، لأن «تلك» إشارة إلى غائبٍ مؤنَّث، وقيل: «تلك» بمعنى «هذه» أي: هذه آياتٌ، ومنه قول الأعشى: [الخفيف]
2862 - تِلْكَ خَيْلِي منهُ وتِلْكَ رِكابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أولادُهَا كالزَّبيبِ
أي: هذه خَيْلِي، وهذه رِكَابِي.
«والكتاب» : يحتمل أن يكون المراد به القرآن، ويحتمل أن يراد به الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي نسخ منه كل كتاب، لقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ}
[الواقعة: 77، 78] ، وقوله: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا} [الزخرف: 4] ، وقوله: {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39] . وقيل: المراد من «الكتابِ الحكيمِ» : التوراة والإنجيل، والتقدير: إنَّ الآيات المذكورة في هذه السُّورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل، والمعنى: إنَّ القصص المذكُورة في هذه السُّورة موافقة للقصص(10/252)
المذكورة في التوراة والإنجيل، فحصول هذه الموافقة في هذه السورة موافقة للقصص لا يمكن إلا إذا خص الله محمداً بإنزال الوحي عليه، وقال أبُو مسلم: قوله «تِلْكَ» إشارة إلى حروف التهجِّي، فقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} يعني: أنَّ هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت آيات وعلامات لهذا الكتاب الذي وقع به التَّحدِّي، فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام النَّاسِ بالوصف المعجز، وإلا لكان اختصاصُه بهذا النظم دون سائر النَّاس القادرين على التَّلفُّظ بهذه الحروف محالاً.
قوله: «الحكيم» قيل: ذُو الحكمة، بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة. وقيل: وصف الكتاب بصفة من تكلم به؛ كقول الأعشى: [الكامل]
2863 - وغريبةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكيمَةٍ ... قَدْ قُلْتُهَا ليُقالَ: مَنْ ذَا قالهَا؟
فيكون «فعيل» بمعنى «مُفْعَلٍ» .
وقال الأكثرون: «الحَكِيم» بمعنى الحاكم، «فعيل» بمعنى «فاعل» ؛ لقوله تعالى {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس} [البقرة: 213] وقيل: بمعنى: المُحْكَم، «فَعِيل» بمعنى «مُفْعَل» ، أي: محكم، والمحكم معناه: المنع من الفساد، فيكون المعنى: لا تُغَيِّرهُ الدُّهور، والمراد: براءته عن الكذب والتناقض. وقال الحسن «حكم فيه بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القُربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنَّة لمنْ أطاعهُ، وبالنَّار لمن عصاه» .
فعلى هذا «الحَكيم» يكون بمعنى المحكُوم فيه. وقيل: «الحَكِيم» في أصل اللغة: عبارة عن الذي يفعل الحِكْمَة والصواب، فمن حيث إنَّه يدل على هذه المعاني صار كأنَّه هُوَ الحكيم في نفسه.(10/253)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ} الهمزة للإنكار، و «أَنْ أَوْحَيْنَآ» «أن» والفعل في تقدير المصدر وهو اسم «كان» ، و «عَجَباً» خبرها، و «للنَّاس» متعلِّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من «عَجَباً» لأنه في الأصل صفة له، أو متعلِّقٌ ب «عَجَباً» ، ولا يضُرُّ كونه مصدراً؛ لأنَّه يُتَّسع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسع في غيرهما. وقيل: لأنَّ «عَجَباً» مصدرٌ واقعٌ موقع اسم الفاعل أو اسم المفعول، ومتى كان كذلك جاز تقديمُ معموله. وقيل:(10/253)
هو متعلِّق ب «كَانَ» النَّاقصة، وهذا على رأي مَنْ يُجيز فيها ذلك. وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة «كان» النَّاقصة على الحدث، فإن قلنا: إنَّها تدلُّ على ذلك فيجُوزُ وإلاَّ فلا. وقيل: هو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على التَّبيين، والتقدير في الآية: أكان إيحاؤنا إلى رجُلٍ منهم عجباً لهم. و «منهم» صفة ل «رجُل» .
وقرأ رُؤبة «رَجْل» بسكون الجيم، وهي لغة تميم، يُسَكِّنُون «فَعُلاً» نحو: سبع وعضد.
وقرأ عبد الله بن مسعود «عَجَبٌ» . وفيه تخريجان، أظهرهما: أنَّها التَّامة، أي: أحدث للنَّاس عجب و «أنْ أوْحَيْنَا» متعلِّق ب «عجب» على حذف لامِ العلَّة، أي: عجبٌ ل «أنْ أوْحَيْنَا» ، أو يكون على حذف «مِنْ» ، أي: مِنْ أنْ أوحينا. والثاني: أن تكون الناقصة، ويكون قد جعل اسمها النَّكرة وخبرها المعرفة، على حدِّ قوله: [الوافر]
2864 - ... ... ... ... ... ... ... . ... يكُونُ مزاجها علسلٌ ومَاءُ
وقال الزمخشري: والأجودُ أن تكون التَّامة، و «أنْ أوحَيْنَا» : بدلٌ من «عَجَبٌ» . يعني به بدل اشتمال أو كل من كل، لأنه جعل هذا نفس العجب مبالغة، والتخريج الثاني لابن عطيَّة.
فصل
التعجُّب: حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة، وسبب نزول هذه الآية: أنَّ الله - تعالى - لمَّا بعث محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً، تعجَّب كفار قريش وقالوا: إنَّ الله أعظم من أن يكون رسُوله بشراً، فأنكر الله عليهم ذلك التعجُّب، أما بيان تعجُّبهم من تخصيص محمَّدٍ بالرسالة فمن وجوه:
الأول: قوله تعالى: {وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ} [ص: 4] إلى قوله: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] .
والثاني: أن أهل مكَّة كانوا يقولون: إنَّ الله تعالى ما وجد رسُولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب.
والثالث: أنهم قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] ؛ فأنرك الله عليهم هذا التعجُّب بقوله {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} فلفظه استفهام؛ ومعناه الإنكار لأنْ يكون ذلك عجباً، والمراد ب «النَّاس» : أهل مكة، والألف فيه للتوبيخ.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: أكان عند الناس عجباً، بل قال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} ؟ .(10/254)
فالجواب: أن قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجَّبُون منها، وعيَّبوه ونصَّبُوه للاستهزاء والتعجُّب إليه وليس في قوله: «أكان عند النَّاس عجباً» هذا المعنى.
وقوله: {أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} يعني: محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: {أَنْ أَنذِرِ الناس} يجوز أن تكون المصدريَّة، وأن تكون التفسيريَّة، ثم لك في المصدريَّة اعتباران:
أحدهما: أن تجعلها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشَّأن محذوف.
كذا قال أبو حيَّان، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ أخبارَ هذه الحروف لا تكون جملة طلبيَّة، حتى لو ورد ما يوهمُ ذلك يُؤوَّلُ على إضمار القول؛ كقول الشاعر: [البسيط]
2865 - ولوْ أصَابَتْ لقالتْ وهيَ صَادِقَةٌ ... إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشَّيبِ
وقول الآخر: [البسيط]
2866 - إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدهُمْ ... لا تَحْسَبُوا ليْلَهُمْ عنْ ليْلِكُمْ نَامَا
وأيضاً فإنَّ الخبر في هذا الباب إذا وقع جملة فعلية، فلا بد من الفصل بأشياء تقدَّمت في المائدة. ولكن ذلك الفاصل هنا متعذِّرٌ.
والثاني: أنَّها التي بصدد أن تنصب الفعل المضارع، وهي توصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً، نحو: «كَتبتُ إليْه بأنْ قُمْ» . وقد تقدم البحث في [النساء66] ، ولم يذكر المنذرُ به وذكر المُبَشَّرَ به؛ لأنَّ المقام يقتضي ذلك، وقدَّم الإنذار على التَّبشير، لأنَّ إزالة ما لا ينبغي مقدَّم في الرتبة على ما لا ينبغي، والإنذار للكفَّار والفساق ليرتدعوا عن فعل ما لا ينبغي، والتَّبشير لأهلِ الطَّاعةِ؛ لتقوى رغبتهم فيها.
قوله: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} «أنَّ» وما في حيَّزها هي المُبشَّرُ بها، أي: بشِّرهُم باستقرارِ قدمِ صدْق، فحذفت الباءُ، فجرى في محلِّها المذهبان، والمرادُ ب «قدم صِدْقٍ» : السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرَّفيعة، وإليه ذهب الزجاج والزمخشريُّ؛ ومنه قولُ ذِي الرُّمَّة: [الطويل]
2867 - لَكُم قدمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أنَّهَا ... مَعَ الحسَبِ العَاديِّ طمَّتْ على البَحْرِ(10/255)
لمَّا كان السعي والسبقُ بالقدم سُمِّي السَّعي المحمود قدماً، كما سُمِّيت اليدُ نعمةً لمَّا كانت صادرةً عنها، وأضيف إلى الصدق دلالةً على فضله، وهو من باب «رجُلُ صدقٍ، ورجلُ سوءٍ» .
وقيل: هو سابقةُ الخير التي قدَّمُوها؛ ومنه قول وضَّاح اليمن: [المنسرح] .
2868 - مَالكَ وضَّاحُ دَائِمَ العَزَلِ ... ألَسْتَ تَخْشَى تقارُبَ الأجَلِ
صلِّ لذي العَرْشِ واتَّخِذْ قَدَماً ... يُنْجِيكَ يَوْمَ العَثَارِ والذَّلَلِ
وقيل: هو التقدُّم في الشرف؛ ومنه قول العجَّاج: [الرجز]
2869 - ذَلَّ بنُو العوَّامِ عنْ آلِ الحَكَمْ ... وتَرَكُوا المُلْكَ لملكٍ ذي قَدَمْ
أي: ذي تقدُّم وشرف.
قال ابن عبَّاس: أجراً حسناً بما قدَّمُوا من أعمالهم، وروى عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو السعادة في الذكر الأول.
وقال زيد بن أسلم: هو شفاعة الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وقال عطاء: مقام صدق، لا زوال له، ولا بؤس فيه. وأضيف القدمُ إلى الصِّدق وهو نعته، كقولهم: مَسْجِد الجَامِع، {وَحَبَّ الحصيد} [ق: 9] .
وقال أبُو عبيد: كل سابق في خير أو شرٍّ فهو عند العرب قدم، يقال لفُلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق وقدم سوءٍ، وهو يؤنثُ. وقد يذكر، فيقال: قدم حسن، وقدم صالحة. و «لَهُمْ» خبر مقدَّم، و «قَدَمَ» اسمها، و «عِندَ ربِّهِمْ» صفة ل «قَدَمَ» ، ومنْ جوَّز أن يتقدَّم معمُولُ خبر «أنَّ» على اسمها إذا كان حرف جرٍّ؛ كقوله: [الطويل]
2870 - فَلاَ تَلْحَنِي فيهَا فإنَّ بحُبِّهَا ... أخاكَ مُصَابُ القَلْبُ جَمٌّ بلابِلُهْ(10/256)
قال: ف «بِحُبِّهَا» متعلقٌ ب «مُصَاب» ، وقد تقدَّم على الاسم، فكذلك «لَهُمْ» يجوز أن يكون متعلقاً ب «عِنْدَ ربِّهِمْ» لمَا تضمَّن من الاستقرار، ويكونُ «عندَ ربِّهِمْ» هو الخبر.
قوله: {قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} لمَّا جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشَّرهُم قالوا مُتعجِّبين: «إنَّ هذا لسَاحِرٌ مُبِينٌ» ، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر «لسِحْرٌ» والباقون «لَسَاحر» ، ف «هَذَا» يجوزُ أن يكون إشارةً للقرآن، وأن يكون إشارةً للرسُول على القراءة الأولى، ولكن لا بد من تأويل على قولنا: هو إشارة للرسول، أي: ذو سحر أو جعلوه إيَّاه مبالغةً، وعلى القراءة الثانية فالإشارةُ للرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقط.
واعلم أنَّ إقدامهم على وصف القرآن بأنَّه سحرٌ، يحتمل أنَّهم ذكروه في معرض الذَّمِّ، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح، فلهذا قال بعضُ المُفَسِّرين: أرَادُوا به أنَّه كلام مزخرف حسن الظَّاهر، لكنه باطِل في الحقيقة، ولا حاصل له، وقال آخرون: أرادُوا به أنَّه لكمال فصاحته، وتعذر مثله، جارٍ مجرى السِّحْر. وهذا كلام فَاسِد، فلهذا لم يذكر جوابه، وبيان فساده: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان منهم، ونشأ بينهم، وما غَابَ عنهم، ولم يُخالط أحداً سواهم، ولم تكن مكَّة بلدة العُلماء، حتى يقال: إنَّه تعلَّم السحر منهم، أو تعلم العلوم الكثيرة منهم، فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن. وإذا كان الأمر كذلك، كان حمل القرآن على السِّحْر كلاماً في غايةِ الفسادِ، فلهذا السَّبب ترك جوابه.(10/257)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
لمَّا حكى عن الكُفَّار تعجُّبهم من الوَحْي والبَعْثَة والرِّسالة، أزال ذلك التعجُّب بأنه لا يبعد أن يبعث خالق الخلْقِ إليْهِم رسولاً يُبشِّرهم على الأعمال الصَّالحة بالثَّواب، وعلى الأعمال الباطلة بالعقاب، وهذا الجوابُ إنَّما بإثبات أمرين آخرين:
أحدهما: إثبات أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً قاهراً، نافِذَ الحُكم بالأمْر والنَّهي والتَّكليف.
والثاني: إثبات الحَشْر والنَّشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثَّواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام - عن حصولهما، فلذلك ذكر ما يدلُّ على تحقيق هذين الأمرين.(10/257)
فإمَّا إثبات الإله، فبقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} ، وأمَّا إثبات المعاد، فبقوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً} [يونس: 4] فهذا ترتيبٌ في غاية الحسن، فإن قيل: كلمة «الَّذي» وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السَّامع، كما إذا قيل لك: مَنْ زَيْدٌ؟ فتقول: الذي أبوه مُنْطلق، فهذا التعريف إنَّما يحسنُ لو كان أبوهُ منطلقاً أمراً معلوماً عند السَّامع، فهاهنا لما قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} يوجب أن يكون ذلك أمراً معلوماً عند السَّامع، والعرب ما كانوا عالمين بذلك، فكيف يحسن هذا التعريف؟ .
فالجواب: أنَّ هذا كان مشهُوراً عند اليهود والنصارى؛ لأنَّه مذكور عندهم في التَّوراة والإنجيل، والعرب كانوا يُخالطُونَهُم، فالظَّاهر أنَّهم كانوا سمعُوه منهُم، فلهذا حَسُنَ هذا التعريف. فإن قيل: ما الفائدةُ في بيان الأيَّام التي خلق الله فيها السموات والأرض، مع أنَّه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقلِّ من لمْح البصرِ؟
فالجواب على قول أهل السُّنَّة: أنَّه تعالى يحْسُن منه كلّ ما أراد، ولا يُعَلَّلُ شيء من أفعاله بشيء من الحِكْمَة والمصالح، وأمَّا على قول المعتزلة: وهو أنَّ أفعالهُ تعالى مشتملةٌ على المصالحِ والحكمة، فقال القاضي: «لايبْعُد أنْ يكون خلق الله السموات والأرض في هذه المُدَّة المخصوصة، أدخل في الاعتبار في حقِّ بعض المُكَلِّفين» ثم قال: فإن قيل: فمن المُعْتَبر؟ ثم أجاب فقال: أما المعتبر فهو أنَّه لا بد من مُكلَّفٍ أو غير مكلَّف خلقه الله تعالى قبل خلقه السموات والأرض وإلاَّ لكان خلقُهُمَا عبثاً.
فإن قيل: فَهَلاَّ جَازَ أن يَخْلقهمَا لأجل حيوان يَخْلقُهُ من بعد؟ .
قلنا: إنَّه تعالى لا يخاف الفوْت، فلا يجُوزُ أن يقدم على خلق لأجل حيوان سيحدُث بعد ذلك، وإنَّما يصحُّ ذلك منَّا في مُقدِّمَات الأمُور، لأنَّا نخشى الفَوْت، ونخافُ العَجْز.
قال: وإذا ثَبَتَ هذا، فقد صحَّ ما روي في الخبر أنَّ خلق الملائكة والجنِّ، كان سابقاً على خلقِ السموات والأرض.
فإن قيل: أولئك الملائكةَ لا بدَّ لهم من مكانٍ، وقبل خلق السموات والأرض لا مكان، فكيف يمكن وُجُودهُم بلا مكان؟
قلنا: الذي يقدر على تَسْكِين العَرْش والسموات والأرض في أمكنتها، كيف يعجزُ عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟ وأمَّا وجه الاعتبار في ذلك فهُو أنَّه لمَّا حصل هناك مُعْتَبر، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما شاهده حالاً بعد حال أقوى.
لأنَّ ما يحدث على هذا الوجه، فإنه يدلُّ على أنه صادر من فاعل حكيمٍ. وأمَّا المخلُوق دفعةً واحدةً فإنَّه لا يدلُّ على ذلك.
فإن قيل: هذه الأيام كأيَّام الدُّنيا، أو كما قال ابن عباس: إنَّها ستَّة أيَّام من أيَّام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مِمَّا تعُدُّون(10/258)
فالجواب: قال القاضي: الظَّاهرُ في ذلك أنَّهُ تعريف لعباده مدَّة خلقه لهما، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً إلاَّ والمدَّة هذه الأيَّام المعلومة، ويمكن أن يقال: لمَّا وقع التعريف في الأيَّام المذكورة في التوراة والإنجيل، وكان المذكُورُ هناك أيَّام الآخرة لا أيَّام الدنيا، لم يكن ذلك قادحاً في صحَّة التعريف بها.
فإن قيل: هذه الأيام إنما تعد بطُلوع الشمس وغروبها، وهذا المعنى مفقودٌ قبل خلقها، فكيف يعقل هذا التعريف؟
فالجواب: التعريف يحصل بما أنَّه لَوْ وقع حدوثُ السموات والأرض في مدَّة، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمسٌ وقمر، لكانت تلك المُدَّة مساوية لستَّة أيَّام.
فإن قيل: هذا يقتضي حصول مدَّة قبل خلقِ العالم، يحصل فيها حدوث العالم، وذلك يوجبُ قدم المُدَّة.
فالجواب: أن تلك المُدَّة غير موجودة، بل هي مفروضة موهُومة، لأنَّ تلك المُدَّة المعينة حادثةٌ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدَّة أخرى، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محالٌ، فكلُّ ما يقولونه في حدوث المدَّة، فنحن نقوله في حدوث العالم.
فإن قيل: اليومُ قد يُراد به اليوم مع ليلتِهِ، وقد يُرَاد به النَّهَار وحده، فما المرادُ بهذه الآية؟ فالجواب: أنَّ الغالبَ في اللُّغة هو اليوم بليلته.
قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} قال ابنُ الخطيب: لا يمكن حمل الآية على ظاهرها، لأنَّ الاستواء على العرش معناه كونه مستقرًّا عليه، بحيث إنَّه لولا العرش لسقط ونزل، وإثبات هذا المعنى يقتضي كونه تعالى محتاجاً إلى العرش، وإنه لولا العرش لسقط ونزل، وذلك محالٌ، لإجماع المسلمين على أنَّه تعالى هو المُمْسِكُ له والحافظُ له، وأيضاً فإن قوله: «ثُمَّ استوى» يدل على أنه قبل ذلك ما كان مُسْتَوياً عليه، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى يتغيَّر من حالٍ إلى حالٍ، وكل متغير محدث، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق. وأيضاً: لمَّا حدث الاستواء في هذا الوقت دلَّ على أنَّ تعالى كان قبل هذا الوقت مُضْطَرباً متحرِّكاً، وذلك من صفاتِ المُحدثات. وأيضاً ظاهرُ الآية يدلُّ على أنه تعالى إنَّما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض؛ لأنَّ كلمة «ثُمَّ» للتَّراخي، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى كان قبل العرش غنيّاً عن العرش، فلمَّا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقتُه وذاته من الاستغناء إلى الحاجة، فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيّاً عن العرش، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرّاً على العرش، فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها، وإذا كان كذلك امتنع بالاستدلال بها في إثبات المكان والجهة، وإذا تقرَّر هذا، فقال جمهور المفسِّرين: المراد بالعرش هنا: هو الجسم العظيم الذي في السَّماء، وهو مخلوق قبل خَلْق السموات والأرض، بدليل قوله:
{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} [هود: 7] .(10/259)
وقيل: المراد من العرش: الملك، يقال: فلان على عرشه أي: ملكه. وقال أبُو مسلم الأصفهاني. «المراد بالعَرْش: أنَّه تعالى لمَّا خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإنَّ كلَّ بناء يسمَّى عَرْشاً، وبانيه يسمَّى عارشاً، قال تعالى {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] أي: يبنون، وقال: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] ، والمراد: أنَّ القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقفها، وقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} [هود: 7] أي: بناؤه على الماءِ، وإنَّما ذكر الله تعالى ذلك، لأنه أعجب في القدرة، لأنَّ الباني يتباعد عن الماء إلى الأرض الصلبة، لئلاَّ ينهَدِم بناؤُه، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء، ليعرف العُقلاء كمال قُدْرتِهِ، فالمُرَاد بالاستواء على العرش: هو الاستعلاء عليه بالقَهْر، لقوله {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} [الزخرف: 12، 13] ، فوجب حَمْلُ اللفظ على ذلك، ولا يجوزُ حمله على العرش الذي في السَّماء، لأنَّ الاستدلال على وجود الصَّانع، يجب أن يكون بشيء معلُوم ومشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأمَّا أجرام السموات والأرض فهي مشاهدة مَحْسُوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصَّانع صواباً حسناً» .
وبهذا الوجه تصير هذه الآية موافقةٌ لقوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا} [النازعات: 27] الآية.
قوله: {يُدَبِّرُ الأمر} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل «إنَّ» .
الثاني: أنَّه حالٌ.
الثالث: أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإعراب. ومعنى «يدبِّر الأمر» : يقضيه وحده على حسب مقتضى الحكمة، أي: يُدبِّر أحْوَال الخَلْقِ، وأحوال ملكوت السموات والأرض. قوله {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} أي: يدبر الأشياء، لا بشفاعة شفيعٍ، ولا تدبير مدبر، فمعناه: أن الشفعاء لا يشفعون إلا من بعد إذنِهِ.
فإن قيل: كيف يليق ذكر الشَّفيع مع ذكر مَبْدَأ الخَلْقِ، وإنَّما يليق ذكره بأحْوال القيامة؟ فالجواب: قال الزَّجَّاج: إنَّ الكفَّار الذين كانوا مخاطبينَ بهذه الآية كانوا يقولون: إنَّ الأصنام شفعاؤنا عند الله. وهذا ردٌّ على النضر بن الحارث، كان يقول: إذا كان يوم القيامة تشفعني اللاَّت والعُزَّى.
وقال أبو مسلم: «الشَّفيعُ هاهنا هو الثاني، مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر، كما يقال: الزوْج والفرد» .
فمعنى الآية: خلق الله السموات والأرض وحدهُ لا شريكَ يعينه، ثم خلق الملائكة والجنَّ والبشر، وهو المراد من قوله {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} أي: لم يحدُث أحدٌ ولم يدخل في الوجود، إلاَّ من بعد أن قال له: كُنْ حتَّى كان. ثم قال(10/260)
{ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} مُبَيِّناً بذلك أنَّ العبادة لا تصلح إلا له، وأنه هو المستحقُّ لجميع العبادات، لأنه هو المنعمُ بجميع النِّعم التي ذكرها.
ثم قال: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} دالاًّ بذلك على وُجُوب التَّفكُّر في تلك الدَّلائل القاهرة الباهرة.
قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} الآية.
لمَّا ذكر الدَّلائل الدَّالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدلُّ على صحَّة القول بالمعاد فقوله «إليه مرجعكم» الرجع بمعنى الرجوع و «جميعها» نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت.
وقوله: «وعْدَ اللهِ» منصوبٌ على المصدر المؤكَّدِ؛ لأنَّ معنى «إلَيْهِ مرْجِعكُمْ» : وعدكم بذلك.
وقوله: «حَقّاً» مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبه مضمر، أي: أحَق ذلك حقّاً.
وقيل: انتصب «حَقّاً» ب «وَعْدَ» على تقدير «في» ، أي: وَعْدَ الله في حق، يعني على التَّشْبيه بالظرف. وقال الأخفش الصغير: التقدير: وقت حق؛ وأنشد: [الطويل]
2871 - أحَقّاً عِبَادَ الله أنْ لَسْتُ ذَاهِباً ... وَلاَ وَالِجاً إِلاَّ عليَّ رَقيبُ
«إنَّهُ يَبْدَؤا» الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف، وقرأ عبد الله، وابن القعقاع، والأعمش، وسهيل بن شعيب بفتحها، وفيها تأويلاتٌ:
أحدها: أن تكون فاعلاً بما نصب «حَقّاً» أي: حقَّ بدءُ الخَلْقِ، ثُمَّ إعادته؛ كقوله: [الطويل]
2872 - أَحَقّاً عبادَ اللهِ أنْ لَسْتُ جَائِياً..... ... ... ... ... ... ... ... . .
البيت.
وهو مذهبُ الفرَّاء، فإنَّه قال «والتقدير: يحقُّ أنَّه يبدأ الخَلْق» .
والثاني: أنه منصوبٌ بالفعل الذي نصب «وَعْدَ اللهِ» ، أي: وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى: إعادةُ الخلْقِ بعد بدئه.(10/261)
الثالث: أنه على حذفِ لام الجرِّ، أي: لأنَّهُ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري وغيره.
الرابع: أنَّهُ بدلٌ من «وَعْدَ اللهِ» قالهُ ابن عطية.
الخامس: أنه مرفوعٌ بنفس «حَقّاً» أي: بالمصدر المنون، وهذا إنَّما يتأتَّى على جَعْل «حَقّاً» غير مؤكدٍ، لأنَّ المؤكَّدَ لا عمل له إلاَّ إذا نَابَ عن فعله، وفيه بحث.
السادس: أن يكون «حَقّاً» مشبهاً بالظَّرف خبراً مقدماً، و «إنَّه» في محلِّ رفع مبتدأ مؤخراً، كقولهم: أحقاً أنَّك ذاهبُ، قالوا: تقديره: أفي حقٍّ ذهابك.
وقرأ ابن أبي عبلة «حَقٌّ أنَّه» برفع حق وفتح «أنّ» على الابتداء والخبر، قال أبو حيَّان: وكون «حق» خبر مبتدأ، و «أنه» هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب، كما تقول: صحيحٌ أنك مخرج؛ لأنَّ اسم «أن» معرفة، والذي تقدَّمه في هذا المثال نكرة، فظاهرُ هذه العبارة يُشْعر بجواز العكس، وهذا قد ورد في باب «إنَّ» ؛ كقوله: [الطويل]
2873 - وإنَّ حراماً أنْ أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ
وقوله: [الطويل]
2874 - وإنَّ شفَاءً عبْرَةٌ أنْ سَفَحْتُهَا ... وهَلْ عندَ رسْمٍ دارٍ مِنْ مُعَوَّلِ
على جَعْلِ «أنْ سَفَحْتُهَا» بدلاً من «عَبْرَة» ، وقد أخبر في «كان» عن نكرةٍ بمعرفةٍ، كقوله: [الوافر]
2875 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولا يَكُ موقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا
وقوله: [الوافر]
2876 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... يكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ
قال مكِّي: «وأجاز الفرَّاء رفع» وَعْد «، بجعله خبراً ل» مَرْجِعُكُمْ «. وأجاز رفعَ» وَعْد «و» حَقّ «على الابتداء والخبر، وهو حسنٌ، ولم يقرأ به أحد» .(10/262)
قال شهابُ الدِّين: نعم لم يرفع «وَعْد» ، و «حَقّ» معاً أحد، وأمَّا رفعُ «حَقٌّ» وحده فقط تقدَّم أن ابن أبي عبلة قرأه، وتقدَّم توجيهه، ولا يجوز أن يكون «وعْد الله» عاملاً في «أنَّه» لأنه قد وُصِفَ بقوله «حَقّاً» قاله أبو الفتح، وقرىء «وعَدَ اللهُ» بلفظ الفعل الماضي ورفع الجلالة فاعلةً، وعلى هذه يكون «إنَّه يَبْدأ» معمولاً له إنْ كان هذا القَارِىءُ يفتح «أنه» ، والجمهُور على يَبْدَأ بفتح الياء من بَدَأ، وابنُ أبي طلحة «يُبْدِىء» مِنْ أبْدَأ، وبَدَأ وأبْدَأ بمعنى واحد.
فصل
في هذه الآية إضمار، تقديره: إنَّه يبدأ الخلق؛ ليأمرهم بالعبادة، ثم يُميتُهُم ثم يعيدهم، كقوله في البقرة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] .
إلاَّ أنَّه - تعالى - حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا؛ لأنَّه - تعالى - قال من قبله {ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} وحذف ذكر الإماتة، لأنَّ ذكر الإعادة يدلُّ عليها. وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى يعيد جميع المخلوقات، وإعادتها لا يمكن إلاَّ بعد إعدامها، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محالٌ، ونظيره قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] فحكم بأنَّ الإعادة تكون مثل الابتداء.
قوله: «ليَجْزِي» متعلِّق بقوله «ثُمَّ يُعِيدُهُ» ، و «بالقِسْطِ» متعلقٌ ب «يَجْزِيَ» ويجوز أن يكون حالاً: إمَّا من الفاعل أو المفعول، أي: يَجْزيهُم مُلْتَبِساً بالقِسْطِ أو ملتبسين به، والقِسْطُ: العدل.
فصل
قال الكعبيُّ: «اللاَّم في قوله» ليَجْزِيَ الذينَ آمَنُوا «تدل على أنَّه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة، وأيضاً فإنَّه أدخل» لام «التعليل على الثواب، ولم يدخلها على العقاب، بل قال: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} فدل على أنَّه خلق الخلق للرَّحمةِ لا للعقاب، وذلك يدلُّ على أنَّه - تعالى - ما أراد منهم الكفر، ولم يخلق الكفر فيهم» .
والجواب: أنَّ لامَ التعليل في أفعال الله - تعالى - محالٌ؛ لأنه - تعالى - لو فعل فعلاً لعلَّةٍ لكانت تلك العِلَّة، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة فيلزم التسلسل، وهو محال.
فصل
في تفسير «القِسْط» وجهان:(10/263)
الأول: أنَّه العدل، كما تقدم؛ والعدلُ هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى لا يزيدهُم على ما يستحقونه بأعمالهم، ولا يتفضَّل عليهم بشيء.
فالجواب: أنَّ الثواب أيضاً محضُ التَّفضُّل، وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أنَّ لفظ «القِسْطِ» يدلُّ على توفية الأجْرِ، فأمَّا المنع من الزِّيادة فلفظ «القِسْط» لا يدلُّ عليه، فإن قيل: لِمَ خصَّ المؤمنين بالقسطِ مع أنَّه - تعالى - يجازي الكافرين أيضاً بالقسطِ؟
فالجواب: أنَّ تخصيصَ المؤمنين يدلُّ على مزيد العناية في حقِّهم، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد الإحسان.
الوجه الثاني - في تفسير القِسْطِ -: أن المعنى: ليجزي الذين آمنُوا بقسطهم، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حين آمنُوا وعملو الصَّالحات، لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ، قال تعالى {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وهذا أقوى؛ لأنه في مقابلة قوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} .
قوله: {والذين كَفَرُواْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداءِ، والجملة بعده خبره.
والثاني: أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبله، وتكونُ الجملةُ بعده مُبَيِّنَة لجزائهم. و «شَرابٌ» يجُوزُ أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأن والأولُ أولَى.
قوله: «بِمَا كَانُوا» الظَّاهرُ تعلُّقه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً، والتقدير: استقرَّ لهم شرابٌ من حميم وعذاب أليمٌ بما كانُوا. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما:
الأول: أن يكون صفة أخرى ل «عَذاب» .
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وهذا لا معنى له، ولا حاجة إلى العدول عن الأوَّل. قال الواحدي: الحَميمُ: الذي أسخنَ بالنَّار حتى انتهى حرُّه، يقال: حَمَمْتُ الماءَ، أي: أسْخَنْتُهُ، أحْمِيهِ، فهو حميمٌ، ومنه الحَمَّام.
فصل
دلَّت الآية على أنَّه لا واسطة بين أن يكون المكلَّف مُؤمناً، وبين أن يكون كافراً، لأنَّه اقتصر في الآية على ذكر هذين القسمين.
وأجاب القاضي: بأنَّ ذكر هذين القسمين لا ينفي القسم الثالث؛ لأنَّ قوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ}
[النور: 45] ولم يدلَّ على نفي القسم الرابع، بل ربما ذكر المقصود أو الأكثر،(10/264)
وترك ما عداه، إذا كان قد بيِّن في موضع آخر، وقد بيَّن الله حال القسم الثالث في سائر الآيات.
وجوابه: إنَّما يترك القسمُ الذي يجري مجرى النَّادر، ومعلوم أنَّ الفسَّاق أكثر من أهل الطَّاعةِ، فكيف يجُوز ترك ذكرهم في هذا الباب؟ وأما قوله تعالى {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} [النور: 45] فإنَّما ترك ذكر القسم الرابع، لأنَّ أقسام دواب الأرض كثيرة، فكان ذكرها بأسرها يوجبُ الإطناب، بخلاف مسألتنا، فإنه ليس هنا إلاَّ القسم الثَّالث، وهو الفاسقُ الذي يزعم الخصمُ أنَّه لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، فظهر الفرق.(10/265)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
قوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً} الآية.
لمَّا ذكر الدلائل الدَّالة على الإلهيَّة، وهي التَّمسُّك بخلق السموات والأرض، ثم فرع عليها صحَّة القول بالحشر والنشر، عاد إلى ذكر الدَّلائل الدَّالة على الإلهيَّة، وهي التمسُّك بأحوال الشمس والقمر، وهو إشارةٌ إلى توكيد الدَّليل على الحشر والنشر؛ لأنَّه - تعالى - أثبت القول بالحشر والنشر بناءً على أنَّه لا بد من إيصالِ الثَّواب إلى أهل الطَّاعة، والعقاب إلى الكُفَّار، وأنَّه يجب تمييزُ المُحْسن عن المُسِيء.
ثم ذكر في هذه الآية أنَّه جعل الشمس ضياءً والقمر نُوراً وقدَّرَهُ منازل، ليتوصَّل المُكلَّف بذلك إلى معرفة السنين والحساب، فيُرتِّب مهمات معاشه وزراعته وحراثته، ويُعدَّ مهمات الشِّتاء والصَّيف، فكأنَّه تعالى يقول: تمييز المحسن على المسيء، أوجب وأوْلَى من تعليم أحوال السِّنين والشُّهُور، فلمَّا اقتضت الحكمة بخلق الشمس والقمر لهذا المهمِّ الذي لا نفع له فبأن تقتضي الحكمة والرَّحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت، مع أنَّه يقتضي النفع الأبَدِيّ والسعادة السَّرمديَّة كان أولى، فلمَّا كان الاستدلال بأحوال الشَّمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية ممَّا يدلُّ على التَّوحيد من وجهٍ، وعلى صحَّة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه، لا جرم ذكر الله تعالى هذا الدَّليل بعد ذكر الدَّليل على صحَّة المعاد.
قوله: «ضِيَاءً» : إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أنَّ الجعل للتصيير، وإمَّا حالٌ على أنَّه بمعنى الإنشاءِ، والجمهُور على «ضِيَاءً» بصريح اليَاءِ قبل الألف، وأصلها واو؛ لأنَّه من الضَّوْء. وقرأ قُنْبُل عن ابن كثيرٍ هنا وفي الأنبياء والقصص «ضِئَاء» بقلب الياء همزة، فتصير(10/265)
ألفٌ بين همزتين. وأوِّلت على أنه مقلوبٌ قدِّمت لامُه وأخِّرت عينه، فوقعت الياءُ طرفاً بعد ألف زائدة فقلبت همزة على حدِّ «رِدَاء» وأرْدِية، وإن شئت قلت: لمَّا قلبت الكلمة صارت «ضِيَاواً» بالواو، عادت العين إلى أصلها من الواو لعدم موجب قلبها ياء وهو الكسر لسابقها، ثم أبدلت الواو همزة على حدِّ «كِسَاء» . وقال أبو البقاء: «إنَّها قُلبتْ ألفاً، ثُمَّ قُلِبت الألفُ همزة، لئلاَّ تجتمع ألفان» ، واستُبْعِدت هذه القراءة من حيث إنَّ اللغة مَبْنِيَّة على تسهيل الهمزِ فكيف يتخيَّلُون في قلب الحرفِ الخفيف إلى أثقل منه؟ لا غرو في ذلك، فقد قلبُوا حروف العلَّة الألف والواو والياء همزةً في مواضع لا تُحْصرُ إلا بعُسْرٍ، إلاَّ أنه هنا ثقيلٌ؛ لاجتماع همزتين.
وأكثر النَّاس على تغليط هذه القراءة؛ لأنَّ ياء «ضِيَاء» منقلبة عن واو، مثل: ياء قيام، وصيام، فلا وجه للهمزة فيها، قال أبو شامة: «وهذه قراءةٌ ضعيفةٌ، فإنَّ قياس اللُّغةِ الفرارُ من اجتماع همزتين إلى تخفيفِ إحداهُمَا، فكيف يُتَخيَّل بتقديمٍ وتأخيرٍ يُؤدِّي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل؟ هذا خلافُ حكم اللُّغة» .
وقال أبو بكر بن مُجاهد - وهو ممَّنْ قرأ على قنبل -: «قرأ ابن كثير وحده» ضِئَاء «بهمزتين في كل القرآن الهمزة الأولى قبل الألف، والثانية بعدها، كذلك قرأتُ على قنبل وهو غلط، وكان أصحاب البزّي، وابن فليح يُنكرُونَ هذا ويقْرؤُون» ضِيَاء «مثل الناس» .
قال شهابُ الدِّين: «كثيراً ما يَتَجَرَّأ أبو بكر على شيخه ويُغَلِّطه، وسيمرُّ بكَ مواضع من ذلك، وهذا لا ينبغي أن يكون، فإنَّ قُنْبُلاً بالمكان الذي يمنع أن يتكلَّم فيه أحد» .
وقوله في جانب الشمس: «ضِيَاءً» ؛ لأنَّ الضوءَ أقوى من النُّور، وقد تقدم ذلك أوَّل البقرة و «ضِيَاء ونُوراً» يحتمل أن يكونا مصدرين، وجُعِلا نفسَ الكوكبين مبالغة، كما يقال للكريم: إنه كرم وجود، أو على حذف مضافٍ أي: ذاتِ ضياء وذا نُورٍ، و «ضِيَاء» يحتمل أن يكون جمع «ضَوْء» كسَوْط وسِيَاط، وحَوْض وحِيَاض.
قوله: «مَنَازِلَ» نُصب على ظرف المكان، وجعله الزمخشريُّ على حذفِ مضافٍ: إمَّا من الأول أي: قدَّر مسيره، وإمَّا من الثاني أي: قدَّرهُ ذا منازل، فعلى التقدير الأول يكون «مَنازِلَ» ظرفاً كما مَرّ، وعلى الثاني يكون مفعولاً ثانياً على تضمين «قدَّرَ» معنى صيَّره ذا منازل بالتقدير، وقال أبو حيَّان - بعد أن ذكر التقديرين، ولم يعزُهما للزمخشري: أو قَدَّر له منازل، فحذف وأوصل الفعل إليه، فانتصب بحسب هذه التَّقادير على الظَّرف أو الحال أو المفعول، كقوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] وقد سبقهُ إلى ذلك أبُو البقاء.(10/266)
والضمير في «قدَّرهُ» يعود على القمر وحده، لأنَّه هو عُمدةُ العرب في تواريحهم.
وقال ابنُ عطيَّة: «ويحتمل أن يريدهما معاً بحسبِ أنهم يتصرَّفان في معرفة عدد السِّنين والحساب لكنَّه اجتزىء بذكر أحدهما، كقوله تعالى {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ؛ وكما قال الشاعر: [الطويل]
2877 - رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنْهث ووَالدِي ... بَرِيئاً ومنْ أجْلِ الطَّوِيِّ رمَانِي
قوله:» لِتَعْلَمُواْ «: متعلِّق ب» قدَّرَهُ «، وسُئل أبو عمرو عن الحساب: أتَنْصبُه أم تَجُرُّه؟ فقال: ومن يدري ما عدد الحساب؟ يعني أنه سئل: هل تعطفه على» عَدَدَ «فتنصبه أم على» السِّنين «فتجرَّه؟ فكأنَّه قال: لا يمكن جرُّه، إذ يقتضي ذلك أن يعلم عدد الحسابِ ولا يقدر أحدٌ أن يعلم عدده.
فصل
معنى الآية: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً} بالنهار، {والقمر نُوراً} بالليل. وقيل: جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نُورٍ، {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي: قدَّر له، يعنى: هَيَّأ له منازل لا يجاوزها ولا يقصُر دونها، ولم يقل قدرهما.
قيل تقدير المنازل منصرفٌ اليهما، واكتفى بذكر أحدهما لما قدَّمنا. وقيل: ينصرف إلى القمر خاصة، لأن بالقمر خاصة يعرف انقضاء الشُّهور والسِّنين، لا بالشمس. ومنازل القمر هي: المنازل المشهورة، وهي الثمانية والعشرون منزلاً، وهذه المنازل مقسومة على البُروجِ الاثني عشر، لكل برج منزلتان واحدة إن كان الشهر تسعاً وعشرين، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل، ويكون مقام الشهر في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها.
واعلم: أنَّ الشمس سلطان النهار وأنَّ القمر سلطان الليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظمُ مصالحُ هذا العالم، وبحركة القمر تحصُل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة ضوئه ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، فالنهار زمان التَّكسُّبِ والطلب، والليل زمان للرَّاحة، وهذا يدلُّ على كثرة رحمة الله - تعالى - للخلق وعظم عنايته لهم.
قال حكماء الإسلام: هذا يدلُّ على أنه - تعالى - أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواصَّ معينة، وقوى مخصوصة باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السُّفلي، إذ لَوْ لَمْ يكُنْ لها آثارٌ وفوائد في هذا العالم، لكان خلقها عبثاً وباطلاً بغير فائدة، وهذه النُّصوص تُنافي ذلك.
قوله: {مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} «ذلك» إشارةٌ إلى الخلق، والتقدير: ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبساً بالحقِّ، فيكون حالاً: إمَّا من الفاعل وإمَّا من المفعول. وقيل:(10/267)
الباء بمعنى اللاَّم أي: للحقِّ، ولا حاجة إليه، والمعنى: لم يخلقه باطلاً، بل إظهاراً لصنعته، ودلالة على قدرته.
قوله: «يُفَصِّلُ» قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب «يُفصِّل» بياء الغيبة جرياً على اسم الله - تعالى -، والباقون: بنون العظمة، التفاتاً من الغيبة إلى التَّكلُّم للتَّعظيم.
ومعنى التَّفصيل: هو ذكر هذه الدلائل الباهرة، واحدة عقب الأخرى مع الشَّرح والبيان، ثم قال «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» قيل: المراد منه: العقل الذي يعمُّ الكل. وقيل: المراد منه تفكر وعلم فوائد مخلوقاته، وآثار إحسانه، لأنَّ العلماء هم المنتفعون بهذه الدلائل، كقوله {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] مع أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان منذراً للكُلِّ.
قوله تعالى: {نَّ فِي اختلاف الليل والنهار} الآية.
اعلم أنَّه تعالى استدلَّ على التوحيد والإلهية.
أولاً: بتخليق السموات والأرض.
وثانياً: بأحوال الشمس والقمر.
وثالثاً: في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة عند قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} [البقرة: 164] .
واعلم أنَّ الحوادث الحادثة في هذا العالم أربعة أقسام:
أحدها: الأحوالُ الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرَّعد والبَرْق والسَّحاب والأمطار والثُّلُوج، ويدخل فيها أحوال البحار، وأحوال المَدِّ والجزْرِ، وأحوال الصَّواعق والزَّلازل والخَسْفِ.
وثانيها: أحوال المعادن وهي عجيبةٌ كثيرةٌ.
وثالثها: اختلاف أحوال النَّبات.
ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات، وكلُّها داخلةٌ في قوله: {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} .
ثم قال: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} خصَّها بالمتَّقين؛ لأنَّهم يحذرون العاقبة.(10/268)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
قوله تعالى: {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} الآية.
لمَّا ذكر الدَّلائل القاهرة على إثبات الإلهيَّة، وعلى صحَّة القول بالمعاد، والحَشْرِ،(10/268)
والنَّشْرِ، شرح بعده أحوال من يكفُر بها، ومن يؤمن بها؛ فأما شرح أحوال الكُفَّار، فهو المذكور في هذه الآية، وصفهم فيها بأربع صفاتٍ:
الأولى: قوله: {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} .
قال ابن عبَّاس، ومقاتل، والكلبي: معناه: لا يخافون البعث؛ لأنَّهم لا يؤمنون به، والرَّجاء: الخوف؛ لقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] ، وقوله: {وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49] ، وقوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] ؛ وقال الهذليُّ: [الطويل]
2878 - إذَا لسَعَتْهُ النَّحْلُ لمْ يَرْجُ لسْعَهَا ... وخَالفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
وقال الزَّجَّاج: الطَّمع؛ والمعنى: لا يطمعُون في ثوابنا، واعلم أنَّ اللِّقاء: هو الوصول إلى الشيء، وهذا في حقِّ الله - تعالى - محالٌ؛ لأنه مُنَزَّهٌ عن الحدِّ؛ فوجب أن يكون مجازاً عن الرُّؤية؛ فإنه يقال: لقيتُ فُلاناً، إذَا رأيْتَهُ.
الصفة الثانية: قوله: {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} ، وهذه إشارة إلى استغراقهم في طلب اللَّذاتِ الجسمانيَّة.
والصفة الثالثة: قوله: «واطمأنوا بِهَا» يجوز أن يكون عطفاً على الصِّلة، وهو الظاهرُ، وأن تكون الواو للحال، والتقدير: وقد اطمأنُّوا. وهذه صفةُ الأشقياء، وهي أن تحصل لهم الطُّمأنينة في حُبّش الدُّنْيا والاشتغال بلذَّاتها، فيزول عن قُلُوبهم الوجلُ، فإذا سمعُوا الإنذارَ والتَّخويفَ لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله - تعالى -، وهذا بخلاف صفة السُّعداء، فإنَّهم يحصُلُ لهم الوجل عند ذكر الله - تعالى -، كما قال: {إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] ، ثُمَّ إذا قويت هذه الحالةُ اطمأنُّوا بذكر الله، كما قال: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] .
ومقتضى اللُّغة أن يقال: واطمأنُّوا إليها، إلاَّ أنَّ حروف الجرِّ يحسن إقامة بعضها مقام البعض.
الصفة الرابعة: قوله: {والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} . يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات، بمعنى أنَّهم جامعُون بين عدم رجاء لقاءِ الله وبين الغفلة عن الآياتِ، والمراد بالغفلة الإعراض، وأن يكون هذا الموصولُ غير الأولِ، فيكون عطفاً على اسم «إنَّ» ، أي: إنَّ الذين لا يَرْجُون، وإنَّ الذين هُمْ.(10/269)
و «أولئك» مبتدأ، و «مَأواهُمُ» مبتدأ ثانٍ، و «النَّار» خبر هذا المبتدأ الثاني، والثاني وخبره خبر «أولئك» ، و «أولئك» وخبره خبر «إنَّ الذينَ» ، و «بِمَا كَانُوا» متعلِّقٌ بما تضمَّنتهُ الجملةُ من قوله: «مَأواهُمُ النَّارُ» والباءُ سببيَّةٌ، و «ما» مصدريةٌ، وجيء بالفعل بعدها مضارعاً دلالةً على استمرار ذلك في كلِّ زمان. وقال أبو البقاء: «إن الباء تتعلَّق بمحذوفٍ، أي: جُوزُوا بما كانُوا» .(10/270)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
لمَّا شرح أحوال المشركين ذكر أحوال المؤمنين، قال القفال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي: صدقُوا بقُلوبهم، ثم حَقَّقُوا التَّصديقَ بالعملش الصَّالحِ الذي جاءت به الأنبياء من عند الله.
ثم ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم فقال: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} فقيل: يهديهم إلى الجنَّة ثواباً على إيمانهم وأعمالهم الصَّالحة، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} [الحديد: 12] ، وما روي أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «إنَّ المُؤمِنَ إذا خرج مِنْ قَبْرِهِ صوِّرَ لَهُ عملهُ في صُورةٍ حسنةٍ، فيقول لهُ: أنا عملك، فيكون له نُوراً وقائداً إلى الجنَّةِ، والكافر إذا خرج من قبرهِ صُوِّر لهُ عملهُ في صُورةٍ سيِّئةٍ، فيقول له: أنا عملُكَ، فينطلقُ به حتَّى يدخله النَّار» ، وقال مجاهد: المؤمنُ يكون له نُورٌ يَمْشِي به إلى الجنَّة. قال ابن الأنباري: إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة، ولوامع من النُّور تشرقُ بها قُلوبُهم، وتزول بواسطتها الشُّكُوك والشُّبهات، كقوله - تعالى -: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] وهذه الفوائدُ يجوزُ حصولها في الدُّنيا قبل الموت، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت؛ قال القفال: وإذا حملنا الآية على هذا الوجه؛ كان المعنى: يهديهم ربُّهم بإيمانهم، وتجري من تحتهم الأنهار، إلاَّ أنَّه حذف الواو، وقيل: «تَجْرِي من تَحْتِهمْ» مُستأنفاص مُنقطعاً عمَّا قبله، ويجوز أن يكون حالاً من مفعول «يهديهم» .
قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} المراد: أن يكونوا جالسين على سُرُرٍ(10/270)
مرفوعة في البساتين، والأنهار تجري من بين أيديهم، كقوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم: 24] ، وهي ما كانت قاعدة عليه بل المعنى: بين يديك، وكذا قوله: {وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا} [الزخرف: 51] أي: بين يدي، وقيل: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ} أي: بأمرهم.
قوله: «فِي جَنَّاتِ» يجوز أن يتعلَّق ب «تَجْري» ، وأن يكون حالاً من «الأَنْهَار» ، وأن يكون خبراً بعد خبر ل «إنَّ» ، وأن يكون متعلِّقا ب «يَهْدِي» .
قوله: «دَعْوَاهُمْ» مبتدأ، و «سُبْحانَكَ» معمول لفعل مقدَّر لا يجوز إظهاره هو الخبر، والخبرُ هنا هو نفسُ المبتدأ، والمعنى: أن دعاؤهم هذا اللفظ، ف «دَعْوَى» يجوزُ أن يكون بمعنى الدعاء، ويدلُّ عليه «اللَّهُمَّ» ؛ لأنَّه نداء في معنى يا الله، يقال: «دَعَا يَدْعُو دُعَاء ودَعْوَى» ، كما يقال: «شكى يَشْكُو شِكَايةً وشَكْوى» ، ويجوز أن يكون الدُّعاء هنا بمعنى العبادة، نظيره قوله تعالى: {وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48] أي: وما تعبدون، ف «دَعْوَى» : مصدرٌ مضاف للفاعل، ثم إن شئتَ أن تجعل هذا من باب الإسناد اللفظي، أي: دعاؤهُم في الجنَّة هذا اللفظُ بعينه، فيكون نفسُ «سُبْحانَكَ» هو الخبر، وجاء به مَحْكيّاً على نصبه بذلك الفعل، وإن شئتَ جعلتهُ من باب الإسناد المعنوي؛ فلا يلزمُ أن يقولوا هذا اللفظ فقط، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جَميع صفات التنزيه والتَّقديس، وقد تقدَّم نظير هذا عند قوله تعالى:
{وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: 58] .
وقيل: المراد من الدَّعْوَى: نفس الدَّعوى التي تكون للخَصْمِ على خَصْمِه.
والمعنى: أنَّ أهل الجنَّة يعون في الدُّنيا وفي اآخرة تنزيه الله عن كل المعايب، والإقرار له بالإلهيَّة.
قال القفال: وأصل ذلك من الدُّعاء، لأن الخصم يدعُو خصمهُ إلى من يحكم بينهما.
قال أبو مسلم: «دَعْوَاهُمْ» أي: فعلهم وإقرارهم، ونداؤهُم هو قولهم «سُبْحَانَكَ اللهم» قال القاضي: «دَعْواهُمْ» أي: طريقتهم في تمجيد الله وتقديسه وشأنهم وسنَّتهم؛ لأنَّ قوله «سُبْحَانَكَ اللهم» ليس بدعاءٍ ولا بدعوى، إلاَّ أنَّ المُدَّعي للشيء يكون مواظباً على ذكره، لا جرم جعل لفظ «الدَّعْوى» كناية عن تلك المواظبة والملازمة. فأهلُ الجنَّة لمَّا كانُوا مواظبين على هذا الذكر، أطلق لفظ «الدَّعْوَى» عليهم، وقال القفال: قيل في قوله: {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} [يس: 57] أي: ما يتمنونهُ، والعرب تقول: ادع ما شئت عليّ أي: تمنّ ما شِئْتَ.
وقال ابن جريج: أخبرت أن قوله {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم} : هو أنَّه إذا مرَّ بهم طيرٌ يشتهونه، قالوا: سبحانك اللَّهُمَّ، فيأتيهم الملك بذلك المشتهى. قال ابن الخطيب: «وفيه وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: أنَّ تمنيهم في الجنَّة أن يسبحوا الله - تعالى -،(10/271)
أي: تمنيهم لما يتمنَّونهُ، ليس إلاَّ في تسبيح الله، وتقديسه، وتنزيهه» .
قوله: «سُبْحَانَكَ اللهم» قال بعض المفسِّرين: إنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر علامة على طلب المشتهيات فيؤتَوْنَ بذلك المشتهى فإذا نالوا من شهرتهم، قالوا: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} ، وضعف ابن الخطيبِ هذا من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر العالي المُقدَّس علامة على طلب المأكول والمنكوح، وهذا في غاية الخساسة.
وثانيها: أنَّه - تعالى - قال في صفة أهل الجنة {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] ، فإذا اشتهوا أكل ذلك الطَّيْر، فلا حاجة بهم إلى الطَّلب، فسقط هذا الكلام.
وثالثها: أنَّ هذا صرف للكلام عن ظاهره الشريف العالي، إلى محل خسيس لا إشعار للفظ به. وإنما المرادُ: أنَّ اشتغالَ أهل الجنَّة بتقديس الله - سبحانه -، وتحميده، والثناء عليه؛ لأنَّ سعادتهم، وابتهاجهم، وسرورهم بهذا الذِّكر.
قال القاضي: إنَّه - تعالى - لمَّا وعد المتَّقين بالثَّواب العظيم، في قوله أوَّل السورة:
{لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} [يونس: 4] ، فإذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّة، ووجدوا تلك النعم العظيمة، عرفوا أن الله - تعالى - كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم، فعند هذا قالوا: «سُبْحَانَكَ اللهم» أي: سبحانك من الخلف في الوعد، والكذب في القول.
قوله: «وَتَحِيَّتُهُمْ» مبتدأ، و «سَلاَمٌ» خبره، وهو كالذي قبله، والمصدر هنا يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، أي: تحيَّتهم التي يُحيُّون بها بعضهم سلامٌ.
ويحتمل أن يكون مضافاً لمفعوله، أي: تحيَّتهُم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلامٌ؛ ويدلُّ له قوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23، 24] ، و «فيهَا» في الموضعين متعلقٌ بالمصدر قبله. وقيل: يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وليس بذاك، وقال بعضهم: يُحَيِّي بعضهم بعضاً، ويكون كقوله - تعالى -: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] ، حيث أضافهُ ل «داود وسليمان» ، وهما الحاكما، وإلى المحكوم عليه، وهذا مبنيٌّ على مسألة أخرى، وهي أنَّه: هل يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أم لا؟ .
فإن قلنا: نعم، جاز ذلك، لأنَّ إضافة المصدر لفاعله حقيقةٌ، ولمفعوله مجاز، ومنْ منعَ ذلك، أجاب: بأنَّ أقلَّ الجمع اثنان، فلذلك قال: «لِحُكْمِهِمْ» .
قوله: «وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ» مبتدأ، و «أنْ» : هي المخففة من الثَّقيلة، واسمها ضمير الأمر والشَّأن حذف، والجملةُ الاسمية بعدها في محلِّ الرفع خبراً لها؛ كقول الشَّاعر: [البسيط](10/272)
2879 - فِي فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ علمُوا ... أنْ هالكٌ كُلٌّ منْ يَحْفَى وينْتَعِلُ
و «أن» واسمها وخبرها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ الأول، وزعم الجرجانيُّ: أن «أنْ» هنا زائدةٌ، والتقدير: وآخرُ دعواهم الحمدُ الله، وهي دعوى لا دليل عليها، مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويِّين، وزعم المبرِّد أيضاً: أنَّ «أنْ» المخففة يجُوز إعمالها مخففة، كهي مشدَّدةً، وقد تقدَّم ذلك.
وتخفيفُ «أنْ» ، ورفع «الحَمْدُ» هي قراءةُ العامة، وقرأ عكرمة، وأبو مجلز، وأبو حيوة، وقتادة، ومجاهد، وابن يعمر، وبلال بن أبي بردة، وابن محيصن ويعقوب بتشديدها، ونصب «الحَمْد» على أنَّهُ اسمها؛ وهذه تُؤيِّدُ أنَّها المخففةُ في قراءة العامَّة، وتردُّ على الجُرجاني، ومعنى الآية: أنَّ أهل الجنَّة يفتتحُون كلامهم بالتَّسبيحِ، ويختمُونَهُ بالتَّحْميدِ.(10/273)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله ... } الآية.
هذا الامتناعُ نفيٌ في المعنى، تقديره: لا يُعَجِّلُ الله لهم الشَّر، قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف اتَّصل به قوله: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} ، وما معناها؟ قلت: قوله» وَلَوْ يُعَجِّلْ «متضمِّن معنى نفي التَّعجيلِ، كأنَّه قيل: ولا نُعَجِّل لهم بالشَّرِّ، ولا نقضي إليهم أجلهم» .
قوله «استعجالهم» فيه أوجهٌ:
أحدها: أنَّه منصوبٌ على المصدر التَّشبيهيِّ، تقديره: استعجالاً مثل استعجالهم، ثُمَّ حذف الموصوف، وهو «اسْتِعْجَال» ، وأقام صفته مقامه، وهي «مِثل» ، فبقي: ولو يعجِّل الله مثل استعجالهم، ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، قال مكِّي: «وهذا مذهبُ سيبويه» ، وقد تقدَّم مراراً أنَّ مذهب سيبويه في هذا، أنَّه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المُقدَّرِ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْربين غيره، ففي نسبةِ ما ذكرناه أولاً لسيبويه نظرٌ.(10/273)
والثاني: أن تقديره: تعجيلاً مثل استعجالهم، ثم فعل به ما تقدَّم قبله، وهذا تقديرُ أبي البقاء، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلهُ؛ فإنَّ «تَعْجِيلاً» مصدر ل «عَجّلَ» ، وما ذكره مكِّي موافقٌ للمصدر الذي بعده.
والذي يظهر؛ ما قدَّره أبو البقاء؛ لأنَّ موافقة الفعل أولى، ويكون قد شبَّه تعجيله تعالى باستعجالهم، بخلاف ما قدَّره مكِّ] ، فإنَّه لا يظهر؛ إذ ليس «اسْتِعْجَال» مصدراً ل «عَجَّل» ، وقال الزمخشري: «أصله: ولو يعجِّل الله للنَّاس الشرَّ تعجيله لهم الخير، فوضع» اسْتِعْجَالهُم بالخَيْرِ «موضع تعجيله لهم الخبرَ؛ إشعاراً بسُرعةِ إجابته لهُمْ وإسعافه بطلبهم، كأنَّ استعجالهُم بالخير تعجيلٌ لهُم» ، قال أبو حيَّان: «ومدلُولُ» عَجَّل «غير مدلول» اسْتَعْجَل «؛ لأنَّ» عَجَّل «يدلُّ على الوقوع، و» اسْتَعْجَل «يدلُّ على طلب التَّعجيل، وذلك واقعٌ من الله - تعالى -، وهذا مضافٌ إليهم، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون التقدير: تَعْجِيلاً مثل استعجالهم بالخير، فشبَّه التَّعجيل بالاستعجالِ؛ لأنَّ طلبهم للخَيْر، ووقوع تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كلِّ شيء.
والثاني: أن يكون ثمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدر تقديره: ولو يُعَجِّل اللهُ للنَّاسِ الشرَّ، إذا استعجلوا به اسْتعْجَالهُم بالخير؛ لأنَّهم كانوا يَسْتَعْجِلُون بالشرِّ ووقوعه على سبيل التَّهكم، كما كانُوا يَسْتعجلُون بالخير» .
الثالث: أنَّه منصوبٌ على إسقاط الخافض، وهو كاف التَّشبيه، والتقدير: كاستعجالهم.
قال أبُو البقاء: «وهو بعيدٌ؛ إذ لو جاز ذلك، لجاز» زيدٌ غلام عمرو «أي: كغلام عمرو» . وبهذا ضعَّفهُ جماعةٌ، وليس بتضعيفٍ صحيحٍ؛ إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدَّى بنفسه عند حذف الجارِّ، وفي الآية فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك، وهو قوله: «يُعَجل» ، وقال مكِّي: «ويَلزَمُ مَنْ يجُوِّز حذفَ حرفِ الجر منه، أن يُجيز» زيدٌ الأسدُ «، أي: كالأسد» .
قال شهابُ الدِّين: «قوله: ويَلْزَمُ. . إلى آخره» ، لا رَدَّ فيه على هذا القائل، إذ يلتزمه، وهو التزامٌ صحيحٌ سائغٌ؛ إذ لا يُنكِرُ أحَدٌ «زيدٌ الأسد» ، على معنى: كالأسَد، وعلى تقدير التَّسليم، فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء، أي: إنَّ الفعل يطلب مصدراً مُشَبَّهاً، فصار مدلُولاً عليه.
وقال بعضهم: تقديره: في استعجالهم؛ نقله مكِّي، فلمَّا حذفت «في» انتصبَ، وهذا لا معنى له، وقال البغوي: المعنى «ولو يُعَجِّل الله إجابة دعائهم في الشرِّ والمكروه استعجالهم بالخير، أي: كما يحبُّون استعجالهم بالخير» .(10/274)
وقال القرطبي: قال العلماء: التَّعجيلُ من الله، والاستعجال من العبدِ، وقال أبو عليّ: هُمَا من الله.
فصل
في كيفية النَّظم وجوه:
أحدها: قال ابن الخطيب: «إنَّه ابتدَأ السورة بذكر شُبُهَاتِ المنكرينَ للنُّبوَّة مع الجواب عنها:
فالشبهة الأولى: أنَّ القوم تعجَّبُوا من تخصيص الله محمداً بالنُّبوة، فأزال الله ذلك التعجُّب بقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} [يونس: 2] ، ثم ذكر دلائل التَّوحيد، ودلائل صحَّة المعاد.
وحاصل الجواب أن يقول: إنِّي ما جئتُكُم إلاَّ بالتوحيد، والإقرار بالمعاد، وقد دَلَّلنا على صحتهما، فلمْ يَبْقَ للتعجُّب من نبوَّتِي معنى.
والشبهة الثانية: أنَّهم كانوا يقولون: اللَّهُمَّ إن كان ما يقول محمدٌ حقاً في ادِّعاء النُّبوَّة والرٍِّسالة، فأمطر علينا حجارة من السَّماء، أو ائتِنَا بعذابٍ أليمٍ، فأجاب الله - تعالى - عن هذه الشبهة بهذه الآية.
وثانيها: قال القاضي:» لمَّا بيَّن الله - تعالى - الوعْد والوعِيدَ، أتبعهُ بما يدلُّ على أن من حقِّهما، أن يتأخَّرا عن ههذ الحياة الدُّنيويَّة؛ لأنَّ حصولهما في الدُّنيا، كالمانع من بقاءِ التَّكليف.
وثالثها: قال القفال: إنَّه لمَّا وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله، ورضوا بالحياةِ الدُّنيا، واطمأنوا بها، وكانُوا عن آيات الله غافلين، بيَّن أنَّ من غفلتهم، أنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً.
فصل
أخبر - تعالى - في آيات كثيرة: أنَّ هؤلاء المشركين متى خُوفوا بنزول العذاب في الدُّنيا، استعجلوا ذلك العذاب، كقولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ، وقوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] الآية، ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية، بقوله {أولئك مَأْوَاهُمُ النار بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [يونس: 8] ، استعجلوا ذلك العذاب، وقالوا متى يحصل ذلك؟ كما قال - تعالى -: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا}
[الشورى: 18] ، وقال بعد هذه الآية، في هذه السورة: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] ؛ إلى قوله {الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [يونس: 51] وقال - تعالى - في(10/275)
سورة الرعد: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} [الرعد: 6] .
فبيَّن - تعالى - أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشرّ إليهم؛ لأنه - تعالى - لو أوصل ذلك إليهم لماتوا، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنُوا بعد ذلك، أو خرج من صلبهم من يؤمن، وذلك يقتضي ألاَّ يُعَاجلهُم الله بإيصال الشرِّ إليهم.
وسمى العذاب شرّاً؛ لأنه أذى في حقِّ المعاقب، كما سماه سيئة في قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} [الرعد: 6] ، وفي قوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] .
والمراد من استعجالهم الخير: أنَّهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها؛ لقوله: {إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] ، {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا} [الزمر: 49] .
قوله: «لقُضِيَ» قرأ ابنُ عامر: «لقَضَى» بفتح القاف مبنياً للفاعل، «أجلهم» بالنصب مفعولاً، والباقون: بالضمِّ والكسر مبنياً للمفعول، «أجلهم» رفعاً لقيامه مقام الفاعل، وقرأ الأعمش، ويعقوب، وعبد الله: «لقَضَيْنَا» مسنداً لضمير المُعَظِّم نفسه، وهي مؤيِّدةٌ لقراءةِ ابنِ عامرِ.
فصل
معنى {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي: لفرغ من هلاكهم ولماتُوا جميعاً، وقيل: إنَّها نزلت في النَّضر بن الحارث، حين قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية. قوله: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه معطوفٌ على قوله: «ولوْ يُعجل اللهُ» ، على معنى أنَّه في قُوَّة النَّفي، وقد تقدَّم تحقيقه في سؤال الزمخشري، وجوابه فيه، إلاَّ أنَّ أبا البقاء ردَّ عطفه على «يُعَجِّلُ» ، فقال: «ولا يجُوزُ أن يكون معطوفاً على» يُعَجِّلُ «؛ إذ لو كان كذلك لدخل في الامتناع الذي تقتضيه» لَوْ «، وليس كذلك؛ لأنَّ التعجيل لم يقع، وتركهم في طغيانهم وقع» .
قال شهاب الدِّين: «إنَّما يتمُّ هذا الرَّدُّ، لو كان معطوفاً على» يُعَجِّلُ «فقط، باقياً على معناه، وقد تقدَّم أنَّ الكلام صار في قُوَّة: لا نُعجل لهم الشَّرَّ: فنذرهم، فيكون» فَنَذَرُهُم «معطوفاً على جملة النَّفي، لا على الفعل الممتنع وحده، حتَّى يلزم ما قال» .
والثاني: أنَّه معطوفٌ على جملةٍ مقدَّرة: أي: ولكن نمهلهم فنذر، قالهُ أبو البقاء.(10/276)
والثالث: أن تكون جملة مستأنفة، أي: فنحنُ نذر الذين؛ قاله الحوفي.
فصل
المعنى: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} : لا يخافون البعث، والحساب {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
قال أهل السنة: إنَّه - تعالى - لمَّا حكم عليهم بالطُّغيان والعمه، امتنع أن لا يكونوا كذلك، وإلا لزم أن يَنْقَلِبَ خبر الله تعالى الصِّدق كذباً، وعلمهُ جهلاً، وحكمه باطلاً، وكلّ ذلك محالٌ.
قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} : الجهد والشدة {دَعَانَا لِجَنبِهِ} أي: على جنبه مضطجعاً {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} يريد في جميع حالاته؛ لأنَّ الإنسان لا يعدُو إحدى هذه الحالات، وفي كيفية النظم وجهان:
الأول: أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّه لو أنزل العذاب على العبد في الدُّنيا، لهلك ولقُضِيَ عليه؛ فبيَّن في هذه الآية ما يدُلُّ على ضعفه، ونهاية عجزه؛ ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره، من أنَّه لو أنزل عليه العذاب لمات.
الثاني: أنه - تعالى - حكى عنهم: أنَّهُم يستعجلُون نُزُول العذاب، فبيَّن في هذه الآية، أنَّهم كاذبُون في ذلك الاستعجال؛ لأنَّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يُؤذيه، فإنَّه يتضرَّعُ في إزالته عنه، فدلَّ على أنَّهُ ليس صادقاً في هذا الطَّلب.
قوله: «لِجَنْبِهِ» في محلِّ نصبٍ على الحال؛ ولذلك عطف الحال الصَّريحة عليه، والتقدير: دعانا مضطجعاً لجنبه، أو مُلْقياً لجنبه، واللاَّمُ على بابها عند البصريين، وزعم بعضهم: أنَّها بمعنى: «عَلَى» ، ولا حاجة إليه، واختلف في صاحب الحال: فقيل: الإنسان والعامل فيها «مسَّ» ، قاله ابن عطية، ونقله أبو البقاء عن غيره، واستضعفه من وجهين:
أحدهما: أنَّ الحال على هذا واقعةٌ بعد جواب «إذا» ، وليس بالوجه، كأنه يعني: أنَّه ينبغي ألاَّ يجاب الشَّرطُ، إلاَّ إذا استوفى معمولاته، وهذه الحال معمولةٌ للشرط، وهو «مسَّ» ، وقد أجيب قبل أن يستوفي معموله.
ثم قال: «والثاني: أن المعنى: كثرةُ دعائه في كلِّ أحواله، لا على أن الضُّرَّ يُصيبُهُ في كل أحواله، وعليه جاءت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن» ، وقال أبو حيَّان: «وهذا الثاني يلزم فيه من مسِّه الضُّرَّ، دعاؤه في هذه الأحوال؛ لأنَّه جوابُ ما ذكرت فيه هذه الأحوال، فالقَيْدُ في الشرط قيدٌ في الجواب، كما تقول: إذا جاءنا زيدٌ فقيراً أحْسَنَّا إليه، فالمعنى، أحْسَنَّا إليه في حال فَقْرِه» .
وقيل: صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في «دعانا» ، وهو واضحٌ، أي: دعانا في(10/277)
جميع أحواله؛ لأنَّ هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإنسان عن واحدةٍ منها.
فصل
قيل: المراد ب «الإنسان» هنا: الكَافِر.
وقيل: أبو حذيفة بن المغيرة، تصيبه البأساء والشدة والجهد، {دَعَانَا لِجَنبِهِ} أي: على جنبه مضطجعاً {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} وإنَّما أرادَ تسمية حالاته؛ لأنَّ الإنسانَ لا يعدُو هذه الحالات.
وقيل: وإنَّما بدأ بالمضطجع؛ لأنَّه بالضُّر أشدّ في غالب الأمْرِ، فهو يدعُو أكثر، والاجتهاد فيه أشدّ، ثمَّ القاعد ثم القَائم.
وقيل: المراد بالإنسان: الجنسُ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع، أي: مِنْهم من يدعُو مُسْتلقياً، ومنهم مَنْ يدعُو قَائِماً، أو يرادُ به شخصٌ واحدٌ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات، فيدعو في وقت على هذه الحال، وفي وقت على أخرى، والصحيحُ أنَّ المراد ب «الإنسان» : الجنس، وقال آخرون: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به: الكافر، وهذا باطل؛ لقوله:
{يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإنشقاق: 6، 7] لا شبهة في أنَّ المؤمنَ داخلٌ، وكذا قوله: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} [الإنسان: 1] ، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] ، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 19] ، والحقُّ: أنَّ اللفظ المفرد، المحلَّى بالألف واللام، إن حصل معهودٌ سابقٌ، صرف إليه، وإن لم يحصل معهودٌ سابقٌ، حمل على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتَّعطيل، وقال صاحبُ النَّظْم: قوله {وَإِذَا مَسَّ الإنسان} وضعهُ للمستقبل، وقوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا} للماضي، فهذا النَّظْمُ يدلُّ على أنَّ معنى الآية يدل: على أنَّهُ كان هكذا فيما مضى، وهكذا يكون في المستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الماضي، على الماضي «.
قوله: {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ} قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا، عند قوله: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ} [النساء: 73] ، تقديره: كأنَّه لم يدعنا، ثم أسقط الضمير تخفيفاً، كقوله تعالى {كَأَن لَّمْ يلبثوا} [يونس: 45] قال الزمخشري:» فحذف ضمير الشَّأن؛ كقوله: [الهزج]
2880 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كأنْ ثَدْيَاهُ حُقَّانِ «
يعني: على رواية من رواه» ثَدْيَاهُ «بالألف، ويروى:» كأن ثَدْيَيه «بالياء، على أنها أعملت في الظَّاهر، وهو شاذٌّ، وهذا البيت صدره: [الهزج](10/278)
2881 - وَوجهٍ مُشْرقِ النَّحْرِ ... كَأنْ ثدْيَاهُ حقَّانِ
وهذه الجملةُ التَّشبيهيَّةُ: في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل» مرَّ «، أي: مضى على طريقته، مشبهاً من لم يدعُ إلى كشف ضُرٍّ، و» مسَّهُ «صفةً ل» ضُرّ «، وقيل:» مَرَّ «عن موقف الابتهال والتضرُّع لا يرجع إليه، ونسي ما كان فيه من الجهدِ والبلاء، كأن لم يدعنا، ولم يطلُب منَّا كشف ضُرِّه.
قوله: {كذلك زُيِّنَ} الكاف من» كذلِكَ «في موضع نصب على المصدر، أي: مثل ذلك التَّزيين والإعراض عن الابتهال، وفاعل» زُيِّنَ «المحذوف: إمَّا الله - تعالى -، وإمَّا الشيطان، و {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في محل رفع لقيامه مقام الفاعل، و» مَا «يجوز أن تكون مصدريَّة، وأن تكون بمعنى» الذي «.
فصل
قال أبو بكر الأصم: سُمّي الكافرُ مُسْرفاً؛ لأنَّه ضيَّع ماله ونفسه، أمَّا النَّفس، فإنه جعلها عبداً للوثن؛ وأمَّا المالُ؛ فلأنهم كانوا يُضَيِّعُون أموالهم في البحيرة، والسَّائبة، والوصيلة والحامِ.
وقيل: من كانت عادتُه كثرة التضرُّع والدعاء، عند نزول البلاء، وعند زوال البلاء بعرضُ عن ذكرِ الله وعن شكره، يكون مُسْرِفاً في أمر دينه، وقال ابن الخطيب:» المُسرفُ هو الذي ينفقُ المال الكثير؛ لأجل الغرضِ الخسيس، ومعلومٌ أنَّ لذَّاتِ الدنيا وطيباتها خسيسةٌ جداً، في مقابلة سعادات الآخرة، والله - تعالى - أعطى الحواسَّ، والعقل والفهم، والقدرة، لاكتساب السعادات العظيمة الأخرويَّة، فمن بذل هذه الآلات العظيمة الشريفة؛ ليفوز بالسعادات الخسيسة، كان قد أنفق أشياء عظيمة؛ ليفوز بأشياء حقيرة؛ فوجب أن يكون من المسرفين «.(10/279)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ} الآية.(10/279)
لما حكى عنهم أنَّهم كانوا يقولون: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال: 32] الآية.
وأجاب بأن ذكر أنَّه: لا صلاح في إجابة دعائهم، ثم بيَّن أنَّهم كانوا كاذبين في هذا الطلب؛ لأنَّه لو نزلت بهم آفةٌ، تضرَّعُوا إلى الله تعالى في إزالتها، بيَّن ههنا ما يجري مجرى التهديد: وهو أنَّه تعالى قد أنزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم؛ ليكون ذلك رَادعاً لهم عن قولهم: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] ؛ لأنَّهم متى سمعُوا أنَّ الله قد يجيبُ دعاءهم، وينزل بهم عذاب الاستئصال، ثم سمعوا من اليهُود والنَّصارى، أنَّ ذلك قد وقع مراراً كثيرة، صار ذلك رَادِعاً عن ذكر هذا الكلام.
قوله: «مِن قَبْلِكُمْ» متعلقٌ ب «أهْلَكْنَا» ، ولا يجوز أن يكون حالاً من «القُرُون» ؛ لأنَّه ظرف زمانٍ، فلا يقعُ حالاً عن الجثَّة، كما لا يقع خبراً عنها، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا أوَّل البقرة [البقرة: 21] ، وتقدم الكلامُ على «لمَّا» [البقرة: 17] ، قال الزمخشري: «لما» ظرف ل «أهْلَكْنَا» ، و «وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم» يجوز أن يكون معطوفاً على «ظَلَمُوا» ، فلا محلَّ له عند سيبويه، ومحلُّه الجر عند غيره؛ لأنَّه عطف على ما هو في محلِّ جرِّ بإضافة الظرف إليه، ويجوز أن يكون في محلِّ نصب على الحال، أي: ظلمُوا بالتَّكذيب، وقد جاءتهُم رُسُلُهم بالحُجَجِ والشَّوَاهدِ على صدقهم. و «بالبَيِّنَاتِ» يجوز أن يتعلَّق ب «جَاءتْهُم» ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنَّه حالٌ من «رُسلهُمْ» ، أي: جاءُوا مُلتبسِين بالبيِّناتِ، مُصاحبين لها.
قوله: «وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ» يجوز عطفه على «ظَلَمُوا» ، وهو الظَّاهرُ، وجوَّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً قال: واللامُ لتأكيد نفي إيمانهم، ويعني بالاعتراض: كونه وقع بين الفعل، ومصدره التشبيهي في قوله: «كذلِكَ نَجْزِي» والضميرُ في «كانُوا» عائد على «القُرُون» ، وجوَّز مقاتلٌ: أن يكون ضمير أهل مكة، وعلى هذا يكونُ التفاتاً، إذ فيه خُرُوجٌ من ضمير الخطابِ في قوله: «قَبْلِكُمْ» ، إلى الغيبة، والمعنى: وما كنتم لتُؤمِنُوا.
و «كذلِكَ» نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: مثل ذلك الجزاء نجزي. وقرىء «يَجْزِي» بياء الغيبة؛ وهو التفاتٌ من التكلُّم في قوله: «أهْلَكْنَا» ، إلى الغيبةِ.
قوله: «ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ» أي: خلفاء «فِي الأرض مِن بَعْدِهِم» أي: من بعد القرون التي أهلكناهم، وهذا خطابٌ للذين بعث إليهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: «لِنَنظُرَ» متعلق بالجعل، وقرأ يحيى الذماري بنون واحدة، وتشديد الظَّاء، وقال يحيى: «هكذا رأيتُه في مصحف عثمان» ، يعني: أنَّه رآها بنُون واحدة، ولا يعني أنَّهُ رآها مشددة؛ لأنَّ هذا الشَّكل الخاصَّ إنَّما حدث بعد عثمان، وخرجوها على إدغامِ النُّونِ(10/280)
الثانية في الظَّاء، وهو رَدِيءٌ جداً، وأحسنُ ما يقال هنا: إنَّه بالغ في إخفاءِ غُنَّة النُّون السَّاكنة، فظنَّه السَّامع إدغاماً، ورؤيته له بنُونٍ واحدةٍ، لا يدلُّ على قراءته إيَّاه مشددة الظَّاءِ، ولا مُخَفَّفها.
قال أبو حيان: «ولا يدلُّ على حذف النُّون من اللفظِ» وفيه نظرٌ؛ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوباً في المصحف الذي رآه؟ وقوله: «كَيْفَ» منصوبٌ ب «تَعْملُون» على المصدر، أي: أيَّ عملٍ تعملُون، وهي معلِّقة للنَّظر.
فإن قيل: كيف جاز النَّظرُ إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟
فالجواب: أنَّه استعير لفظُ النظرِ للعلم الحقيقيِّ، الذي لا يتطرَّقُ إليه الشَّكُّ، وشبه هذا العلم بنظرِ النظر، وعيان العاين.
فإن قيل: قوله: «لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» مُشْعرٌ بأنَّ الله - تعالى - ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم.
فالجواب: أنَّه - تعالى - يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم؛ ليُجازيهُم بجنسه، كقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] ، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ الدُّنْيَا خضرةٌ حُلوةٌ وإنَّ الله مُستخْلفُكُمْ فيهَا فنَاظِرٌ كيف تعمَلُون» ، قال الزجاج: «موضع» كيف «نصب بقوله:» تَعْمَلُون «؛ لأنَّها حرف استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله» .
قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} الآية.
روي عن ابن عبَّاس: أن خمسة من الكفار كانوا يستهزءون بالرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبالقرآن: الوليدُ بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن حنظلة، فقتل الله - تعالى - كل واحدٍ منهم بطريقٍ، كما قال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين} [الحجر: 95] .(10/281)
وقال مقاتل: هم خمسة: عبد الله بن أميَّة المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن عامر بن هشام، قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن كنت تريد أن نؤمن بك، فأتِ بقرآنٍ ليس فيه تركُ عبادة اللاَّتِ، والعُزَّى، ومناة، وليسَ فيه عيبها، وإنْ لَمْ يُنْزلهُ الله، فقُلْ أنت من عند نفسك، أو بدله، فاجعل مكان آيةٍ عذابٍ آية رحمة، ومكان حرامٍ حلالاً، وحلال حراماً.
فإن قيل: إذا بدَّل هذا القرآن فقد أتى بغير هذا القرآن، وإذا كان كذلك، كان كلُّ واحدٍ من هذين الأمرين هو نفس الآخر، وممَّا يدلُّ على أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عين الآخر: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اقتصر على الجواب بنفي أحدهما، فقال:
«ما يكونُ لِي أنْ أبدِّلهُ مِنْ تِلْقاءِ نفْسِي إنْ أتَّبعُ إلاَّ ما يُوحَى إليَّ» ، فيكون التَّرديد فيه والتخيير باطلاً.
فالجواب: أنَّ أحد الأمرين غيرُ الآخر، فالإتيان بكتاب آخر، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه، يكون إتياناً بقرآن آخر، وأمَّا إذا أتى بهذا القرآن، إلاَّ أنَّه وضع مكان ذمِّ بعض الأشياء مدحها، ومكان آية رحمةٍ آية عذابٍ، كان هذا تبديلاً، أو تقول: الإتيان بقُرآن غير هذا، هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب، والتبديل: هو أن يُغيِّر هذا الكتاب، مع بقاء هذا الكتاب.
وقوله: إنَّه اكتفى في الجواب بنفي أحد القسمين:
قلنا: إنَّ الجواب المذكُور عن أحد القسمين، هو عينُ الجواب عن القسم الثاني، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر؛ لأنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بيَّن، أنَّه لا يجُوز أن يُبدِّله من تلقاءِ نفسه؛ لأنَّه واردٌ من الله - تعالى -، ولا يقدر على مثله، كما لا يقدر على مثله سائر العرب؛ لأنَّ ذلك كان مُتقرراً عندهم، لمَّا تحدَّاهُم بالإتيانِ بمثله.
واعلم: أنَّ التماسهُم لهذا يحتمل أن يكون سُخْريةً واستهزاءً، ويحتمل أن يكوّن ذلك على سبيل الجدِّ، ويكون غرضهم: أنه إن فعل ذلك، علمُوا كذبه في قوله: إنَّ هذا القرآن منزَّلٌ عليه من عند الله، ويحتمل أن يكون التماسهم كتاباً آخر؛ لأن هذا القرآن مشتملٌ على ذم آلهتهم، والطَّعن في طرائقهم، فطلبُوا كتاباً آخر ليس فيه ذلك، أو يكونوا قد جوَّزُوا كون القرآن من عند الله، لكنَّهُم التمسُوا منه نسخَ هذا القرآن، وتبديله بقرآن آخر.
قوله: «تِلْقاءِ» مصدرٌ على تِفْعَال، ولم يجيءْ مصدر بكسر التَّاء، إلاَّ هذا والتِّبيان، وقُرِىء شاذّاً بفتح التَّاء، وهو قياسُ المصادر الدَّالة على التَّكرار، كالتَّطْواف، والتَّجوال، وقد يستعمل التِّلقاء بمعنى قُبالتُكَ، فينتصبُ انتصابَ الظُّرُوف المكانيَّة.
قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} لمَّا أمرهُ أن يقول: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ(10/282)
نفسي} ، أمرهُ بأن يقُول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يحكم قط بالاجتهاد.
وتمسَّك نفاة القياس بهذه الآية؛ لأنَّها تدلَّ على أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ما حكم إلاَّ بالنَّصِّ. ثم قال: {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} قالت المعتزلة: هذا مشروطٌ بعدم التوبة.
قوله تعالى: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} الآية.
لمَّا اتَّهمُوه بأنَّه أتى بهذا الكتاب من عند نفسه، احتجَّ عليهم بهذه الآية؛ وذلك بأنَّهم كانُوا عالمين بأحواله، وأنَّه ما طالع كتاباً، ولا تتلمَذ لأستاذ، ثم بعد أربعين سنة، أتى بهذا الكتاب العظيم المُشتَمل على نفائس علم الأصُول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأوَّلين، وعجز عن معارضته العلماء، والفُصحاء، والبُلغاء، فكل من له عقلٌ سليمٌ يعرف أنَّ مثل هذا، لا يحصُل إلاَّ بالوحْي، والإلهام من الله - تعالى -، والمعنى: لو شاء الله ما أنزل القرآن عليَّ.
قوله: «وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ» أي ولا أعلمكم الله به، من دَريْتُ، أي: عَلِمْتُ.
ويقال: دَرَيْتُ بكذا وأدْرَيْتُكَ بكذا، أي: أحطت به بطريق الدِّراية، وكذلك في «عَلِمْتُ به» ؛ فتضمَّن العلمُ معنى الإحاطة، فتعَدَّى تعْديتَهَا.
وقرأ ابن كثير - بخلاف عن البزِّيِّ - «ولأدْرَاكم» ، بلام داخلة على «أدْرَاكم» مُثبتاً، والمعنى: ولأعْلِمكُم به من غير وساطتي: إمَّا بواسطة ملكٍ، أو رسولٍ غيري من البشر، ولكنَّه خَصَّنِي بهذه الفضيلةِ، وقراءةُ الجمهور «لا» فيها مُؤكَّدَةٌ؛ لأنَّ المعطوف على المنفيِّ منفيٌّ، وليست «لا» هذه هي التي يُنفى بها الفعلُ؛ لأنَّه لا يصحُّ نفي الفعل بها إذا وقع جواباً، والمعطوفُ على الجواب جوابٌ، ولو قلت: «ول كان كذا لا كان كذا» لم يجُزْ، بل تقول «ما كَانَ كذا» ، وقرأ ابنُ عبَّاس، والحسن، وابن سيرين، وأبو رجاء: «ولاَ أدْرَأكم» بهمزةٍ ساكنةٍ بعد الرَّاء، وفي هذه القراءة تخريجان:
أحدهما: أنها مبدلةٌ من ألف، والألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ، لانفتاحِ ما قبلها وهي لغةٌ لعقيلٍ حكاها قطرب، يقولون في أعطيتُك: أعطأتُك.
وقال أبو حاتم: «قلب الحسنُ الياء ألفاً، كما في لغة بني الحرث، يقولون: علاكَ وإلاكَ، ثمَّ همز على لغة من قال في العالم: العألم» .(10/283)
وقيل: أبدلتِ الهمزة من نفس الياء، نحو: لَبَأتُ بالحجِّ، ورثَأتُ فلاناً، أي: لَبَّيْتُ ورَثَيْتُ.
والثاني: أنَّ الهمزة أصليَّة، وأنَّ اشتقاقه من الدَّرْء وهو الدَّفْع، كقوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} [النور: 8] ، ويقال: أدْرَأته، أي: جعلته دَارئاً، والمعنى: ولأجعلنَّكم بتلاوته خُصماء تَدْرَؤونني بالجدال، قال أبُو البقاء: «وقيل هو غلط؛ لأنَّ قارئها ظَنَّ أنَّها من الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ؛ وقيل: ليس بغلطٍ، والمعنى: لو شاء اللهُ لدفعكم عن الإيمان به» .
وقرأ شهر بن حوشب، والأعمش: «وَلاَأنذَرْتكُم» من الإنذار، وكذلك هي في مصحف عبد الله. قوله: «فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً» أي: حِيناً، وهو أربعون سنة، «مِّن قَبْلِهِ» أي: من قبل نُزُول القرآن، فقيل: الضَّمير في «قبلِه» يعود على النُّزول، وقيل: على القرآن، وقيل: على وقت النُّزُول، و «عُمُراً» مشبَّهٌ بظرف الزَّمان، فانتصب انتصابه، أي: مدة متطاولة، وقيل: هو على حذف مضافٍ، أي: مقدار عُمُر، وقرأ الأعمشُ: «عُمْراً» بسكون الميم، كقولهم «عَضْد» في «عَضُد» .
ثم قال: «أَفَلاَ تَعْقِلُون» أنَّهُ ليس من قبلي، قال المفسِّرون: لبث النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجدَّ وعظَّم فيهم قبل الوحْي أربعين سنة، ثم أوحي إليه، فأقام بمكَّة بعد الوحْي ثلاثة عشرة سنة، ثم هاجر إلى المدينة، فأقام بها عشر سنين، ثم تُوفي، وهو ابن ثلاث وستِّين سنة.
وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنه أقام بمكَّة بعد الوحي عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتُوُفِّي وهو ابن ستين سنة، والأول أشهر وأظهر.
قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الآية.
قال القرطبي: «هذا استفهامٌ بمعنى الجحد، أي: لا أحد أظلم ممَّن افترى على الله الكذب، وبدّل وأضاف شيئاً إليه ممَّا لم ينزل» ، والمعنى: أنَّ هذا القرآن لوْ لَمْ يكُن من عند الله، لما كان أحدٌ في الدُّنيا أظلم على نفسه منِّي، حيث افتريتُه على الله، ولمَّا أقمتُ الدَّليلَ على أنَّه ليس الأمر كذلك، بل هُو وحيٌ من الله - تعالى -، وجب أن يقال: إنَّه ليس في الدُّنيا أحد أجهل، ولا أظلم على نفسه منكم.
والمقصود: نَفْي الكذب عن نفسه.
وقوله: « ... أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ» فالمراد: إلحاق الوعيد الشديد بهم؛ حيث أنكروا(10/284)
دلائل الله - تعالى -، وكذَّبوا بآيات الله، وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبالقرآن، ثم قال: «إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون» أي: لا يَنْجُو المشركُون، وهذا تأكيدٌ لما سبق من هذين الكلامين.(10/285)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} الآية.
لمَّا طلبُوا تبديل القرآن؛ لأنَّه مشتملٌ على ذمِّ الأصنامِ التي اتَّخذُوها آلهةً، ذكر في هذا الموضع قبح عبادة الأصنام، ليُبيِّنَ تحقيرَها.
قوله: «مَا لاَ يَضُرُّهُمْ» : «ما» موصولةٌ، أو نكرةٌ موصوفةٌ، وهي واقعةٌ على الأصنامِ، ولذلك راعى لفظها، فأفرد في قوله «مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ» ، وراعى معناها فجمع في قوله: «هؤلاء شُفَعَاؤُنَا» .
فصل
المعنى: ما لا يضُرُّهُمْ إن عصوه، وتركُوا عبادته، ولا ينفعهم إن عبدوه، يعني: الأصنام {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} ، فقيل: إنَّهم اعتقدُوا أنَّ المُتولِّي لكل إقليم، روح معيَّن من أرواح الأفلاك، فعيَّنُوا لذلك الرُّوح صنماً معيَّناً، واشتغلوا بعبادة ذلك الصَّنَم، ومقصودهم عبادةُ ذلك الرُّوح، ثم اعتقدُوا أن ذلك الرُّوح، يكون عبداً للإله الأعظم، ومشتغلاً بعبوديَّته.
وقيل: إنَّهم كانُوا يعبدُون الكواكب، فوضعُوا لها أصناماً مُعَيَّنة واشتغلوا بعبادتها، ومقصودُهُم عبادةُ الكواكبِ، وقيل: إنَّهم وضعُوا طلَّسْمَاتٍ معينةً على تلك الأوثان والأصنام، ثم تقرَّبوا إليها.
وقيل: إنَّهُم وضعوا هذه الأوثان والأصنام، على صور أنبيائهم، وأكابرهم، وزعمُوا أنَّهُم متى اشتغلُوا بعبادةِ هذه التماثيل، فإنَّ أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله.
قوله: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ» قرأ بعضهم: «أتُنْبِئُونَ» مخففاً من «أنْبَأ» ، يقال: أنْبَأ ونَبَّأ كأخْبرَ وخبَّرَ، وقوله: «بِمَا لاَ يَعْلَمُ» «مَا» موصولةٌ، أو نكرة موصوفة كالتي تقدَّمت، وعلى كلا التقديرين: فالعائدُ محذوفٌ، أي: يعلمُهُ، والفاعلُ هو ضمير الباري - تعالى -، والمعنى: أتُنَبِّئُونَ الله بالمعنى الذي لا يعلمُهُ إلاَّ الله، وإذا لم يعلم الله شيئاً، استحال وجودُ ذلك الشيء؛(10/285)
لأنَّه - تعالى - لا يغربُ عن علمه شيءٌ، وذلك الشيء هو الشَّفاعة، ف «مَا» عبارة عن الشفاعة.
والمعنى: أنَّ الشَّفاعة لو كانت لعلمها الباري - تعالى -، ومثل هذا الكلام مشهورٌ في العرف، فإنَّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه، يقول: ما علم الله هذا منِّي، ومقصوده: أنَّ ذلكَ ما حصل أصلاً.
وقوله: {فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} تأكيدٌ لنفيه؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ لا يخرج عنهما. ويجوز أن تكون «مَا» عبارة عن الأصنام، وفاعل «يَعْلَمُ» : ضميرٌ عائدٌ عليها.
والمعنى: أتُعلمون الله بالأصنامِ، التي لا تعلم شيئاً في السموات ولا في الأرض، وإذا ثبت أنها لا تعلم، فكيف تشفع؟ والشافع لا بدَّ وأن يعرف الشمفوع عنده، والمشفوع له؛ هكذا أعربه أبو حيَّان، فجعل «مَا» عبارة عن الأصنام، لا عن الشَّفاعة، والأول أظهر، و «مَا» في «عمَّا يُشْركُونَ» يحتمل أن تكون بمعنى: «الَّذي» أي: عن شركائهم الذين يشركونهم به في العبادة، أو مصدريةٌ، أي: عن إشراكهم به غيرهم، وقرأ الأخوان هنا «عمَّا يُشْرِكُونَ» ، وفي النَّحْل موضعين:
الأول:
{عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الملاائكة} [النحل: 1، 2] .
الثاني: {بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3] .
وفي الروم: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40] بتاء الخطاب، والباقون بالغيبة في الجميع، وهما واضحتان، وأتى هنا ب «يَشْرِكثونَ» مضارعاً دون الماضي، تنبيهاً على استمرار حالهم كما جاءُوا يعبدون، وتنبيهاً أيضاً على أنَّهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية.
لمَّا أقامَ الدَّلالة على فسادِ القول بعبادة الأصنام؛ بيَّن السَّبب في كيفية حدوث هذه المسألة الباطلة، فقال: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: على الدِّين الحقِّ؛ لأن المقصود من هذه الآية، بيان كون الكفر باطلاً؛ لأنَّ قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] في الإسلام أو في الكفر، ولا يجوزُ أن يكونوا أمَّةً واحدة في الكفر، فبقي أنَّهُم كانوا أمَّة واحدة في الإسلام، لقوله - تعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] ، وشهيدُ الله لا بدَّ وأن يكون مُؤمناً، فثبت أنَّهُ لم تخل أمَّة من الأممِ، إلا وفيهم مؤمنٌ.
وقد وردت الأحاديث، بأنَّ الأرض لا تخلُو عمَّن يعبد الله - عزَّ وجلَّ -، وعن أقوام بهم يمطرُ أهل الأرض، فثبت أنَّهُم ما كانُوا أمَّة واحدة في الكفر، فيكونوا أمَّة(10/286)
واحدة في الإيمان، ثم اختلفوا أنهم متى كانوا كذلك؟ فقال ابن عباس، ومجاهد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كانوا على عهد آدمَ وولده صلوات الله البرِّ الرحيم والملائكة المقربين عليهما وسلامه دائماً، واختلفوا عند قتل أحد ابنيه للآخر.
وقيل إنَّهم بقُوا على الإيمان إلى زمن نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ثم اختلفوا على عهد نوح، فبعث الله إليهم نُوحاً.
وقيل: كانُوا على الإيمان من زمن نُوح بعد الغرق، إلى أن ظهر الكفر فيهم.
وقيل: كانُوا على الإسلام من عهد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى أن غيَّره عمرو بن لحيّ.
وهذا القائل قال: إنَّ المراد بالنَّاس: العرب خاصَّة، والغرض منه: أنَّ العرب إذا علمُوا أنَّ عبادة الأصنام ما كانت أصلاً فيهم، وإنَّما هي حادثةٌ، لم يتأذوا من تزييفِ الطريقة، ولم تنفُر طباعهم من إبطال هذا المذهب الفاسد.
وقال قوم: كانوا أمَّةً واحدة في الكفر، قالوا: وفائدة هذا الكلام: أنَّه - سبحانه وتعالى - جل ذكره - بيَّن للرسول - صلوات الله وسلامه عليه -، أنَّه لا تطمع في أن يصير كلُّ من تدعُوه إلى الدِّين مجيباً له، فإنَّ الناس كانُوا على الكفر، وإنَّما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك، فيكف تطمعُ في اتِّفاق الكلِّ على الإيمان؟ .
وقيل: المرادُ بكونهم أمَّةً واحدةً: أنَّهم خلقوا على فطرة الإسلام، ثم اختلفوا في الأديان، وإليه الإشارة بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «كلّ مولُودٍ يُولَدُ على فِطْرَةِ الإسلام، فأبَواهُ يُهَوِّدَانهِ أو يُنَصِّرانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ» .
ثم قال: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} مضت في حكمه، أنَّه لا يقضي بينهم فيما اختلفُوا فيه بالثَّواب والعقاب دون القيامة، «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» في الدنيا، فأدخل(10/287)
المُؤمن الجنَّة، والكافر النَّار، ولكن سبق من الله الأجل، فجعل موعدهم يوم القيامة.(10/288)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
قوله: «وَيَقُولُونَ» أي: كفَّار مكَّة، «لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ» أي: على محمَّد «آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ» على ما نقترحُه، وذلك أنَّهم قالوا: القرآن الذي جئنا به كتابٌ مشتملٌ على أنواع من الكلمات، والكتاب لا يكون معجزاً، كما أنَّ كتابَ موسى، وعيسى ما كان معجزاً لهما، بل كان لهما أنواع من المعجزات، دلَّت على نُبُوَّتهما سوى الكتاب، وكان في أهْل مكَّة من يدَّعي إمكان المعارضة، كما أخبر الله - تعالى - عنهم في قوله: {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ} [الأنفال: 31] .
فلذلك طلبُوا منه شيئاً آخر سوى القرآن؛ ليكون معجزاً، فأمر الله - تبارك وتعالى رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بأن يجيبهم بقوله: {إِنَّمَا الغيب للَّهِ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} [يونس: 20] .
وتقريرُ هذا الجواب: أنه أقام الدلالة القاهرة على أنَّ القرآن معجزةٌ قاهرةٌ؛ لأنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - نشأ بينهُم، وعلموا أنَّهُ لم يُطالِعْ كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ، مدَّة أربعين سنة مُخالطاً لهُم، ولم يشتغل بالفِكْرِ والتَّعلم قط، ثم إنَّه أظهر هذا القرآن العظيم، وظهورُ مثل هذا الكتاب على مثل ذلك الإنسان، لا يكونُ إلاَّ بالوحي، وإذا كان كذلك، فطلب آية أخرى سوى القرآن يكون اقتراحاً لا حاجة إليه وعناداً، ومثل هذا يكون مُفَوَّضاً إلى مشيئة الله - تعالى -، فإن شاء أظهر، وإن شاء لم يظهر، فيكون من باب الغيب، فيجبُ على كلِّ أحدٍ أن ينتظر، هل يفعله الله أم لا؟ ولكن سواء فعل أم لم يفعل فقد ثبت نُبُوَّتُه، وظهر صدقُه، وهذا المقصُود لا يختلف بحُصُول تلك الزِّيادة وعدمها.
قوله تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} الآية.
وهذا جوابٌ آخر لسُؤالهم، وطلبهم المعجزة، وذلك من وجهين:
الأول: أنَّ عادتهُم العناد، والمكر، وعدم الإنصاف، فبتقدير أن يعطوا ما سألوه، فإنهم لا يُؤمنون، بل يبقون على كفرهم، وعنادهم؛ وبيانه أنَّ الله - تعالى - سلَّط القَحْط على أهل مكَّة سبع سنين، ثمَّ رحمهم، وأنزل المطر على أراضيهم، ثم إنَّهم أضافُوا المنافع إلى الأنواء والكواكب.
الوجه الثاني: أنَّه لو أنزل عليهم المعجز لم يقبلُوه؛ لأنَّه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التَّشدد في الدِّين، وإنما غرضُهُم الدَّفع، والمبالغة في صون مناصبهم الدنيويَّة؛ لأنَّه - تعالى - لمَّا سلَّط البلاء عليهم، ثم أزالهُ عنهم، فهم مع ذلك استمرُّوا على الكُفْر.(10/288)
قوله: «وَإِذَآ أَذَقْنَا» شرطيَّةٌ؛ جوابها «إذا» الفُجائيَّةُ في قوله: «إذا لهُم مكرٌ» ، والعاملُ في «إذَا» الفُجائيَّة؛ الاستقرارُ الذي في «لَهُمْ» ، وقد تقدَّم الخلافُ في «إذَا» هذه، هَلْ هِيَ حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها، أو ظرفُ مكان؟ قال أبو البقاءِ: «وقيل:» إذا «الثانية زمانيَّة أيضاً، والثانية وما بعدها جواب الأولى» ، وهذا الذي حكاهُ قولٌ ساقطٌ لا يفهم معناه.
فصل
معنى الآية: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس} يعني: الكفار {رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} أي: راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء.
وقيل: القطر بعد القحط، «مَسَّتْهُمْ» أي: أصابتهُم.
واعلم: أنَّ رحمة الله لا تُذاق بالفَمِ، وإنَّما تُذاق بالعقْلِ.
وقوله {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} قال مجاهد: تكذيب واستهزاء، وسُمِّي التكذيبُ مكراً؛ لأنَّ المكر عبارةٌ عن صرف الشَّيءِ عن ظاهره بطريق الحيلة، وهؤلاء يحتالُون لدفع آيات الله - سبحانه وتعالى - بكل ما يقدرون عليه من إلقاء الشُّبْهَة، أو التَّخْليط في المناظرة، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة.
وقال مقاتل: لا يقولون هذا من رزق الله، إنَّما يقولون سُقِينَا بِنَوء كذا، وهو كقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] .
وقوله: «في آيَاتِنَا» متعلقٌ ب «مَكْرٌ» ، جعل الآيات محلاًّ للمكر مبالغة، ويضعف أن يكون الجارُّ صفةً ل «مَكْرٌ» .
قوله: {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً} «أسرَعُ» مأخوذٌ من «سَرُعَ» ثلاثياً؛ حكاه الفارسي.
وقيل: بل مِنْ «أسْرَع» وفي بناء أفعل وفِعْلى التعجُّب من «أفعل» ثلاثةُ مذاهب:
الجواز مطلقاً.
المنع مطلقاً.
التَّفصيلُ: بين أن تكون الهمزةُ للتَّعدية فيمتنع، أو لا فيجوز. وقال بعضهم: «أسْرَعُ» هنا ليست للتفضيل. وهذا ليس بشيءٍ، إذ السِّياق يردُّه، وجعله ابن عطيَّة - أعني كون أسرع للتَّفضيل - نظير قوله: «لَهِي أسودُ مِنَ»
قال أبو حيَّان: «وأما تنظيرُهُ» «أسود من القَار» ب «أسْرَع» ففاسد؛ لأنَّ «أسْوَد» ليس(10/289)
فعلهُ على وزن «أفْعَل» ، وإنما هو على وزن «فَعِل» نحو: سَوِد فهو أسْود، ولم يمتنع التَّعجُّب، ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو: سَوِدَ، وحَمِرَ، وأدِمَ، إلاَّ لكونه لوناًن وقد أجاز ذلك بعضُ الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السَّواد والبياض فقط «.
قال شهاب الدِّين: تنظيره به ليس بفاسدٍ؛ لأنَّ مراده بناءُ أفعل ممَّا زاد على ثلاثة أحرُف، وإن لم يكن على وزن» أفْعَل «، و» سَوِد «وإن كان على ثلاثةٍ، لكنه في معنى الزَّائد على ثلاثة، إذ هو في معنى» أسْوَد «، و» حَمِرَ «في معنى أحْمَر؛ نصَّ على ذلك النحويُّون، وجعلوه هو العلَّة المانعة من التعجُّب في الألوان.
و» مَكْراً «نصبٌ على التَّمييز، وهو واجبُ النَّصب؛ لأنَّكَ لو صُغْتَ من» أفْعَل «فعلاً، وأسندته إلى تمييزه فاعلاً، لصحَّ أن يقال:» سَرُع مَكْرُه «، وأيضاً فإنَّ شرط جواز الخفضِ، صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التَّفضيل، نحو:» زيدٌ أحسنُ فقيهٍ «، ومعنى» أسْرَعُ مَكْراً «: أعجل عُقُوبة، وأشدُّ أخذاً، وأقدر على الجزاء، أي: عذابه أسرع إليكم ممَّا يأتي منكم في دفع الحقِّ.
قوله: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} قرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد، والأعرج، ويعقوب، ونافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في رواية: «يَمْكُرُوْنَ» بياء الغيبة جرياً على ما سبق، والباقون بالخطاب: مبالغة في الإعلام بمكرهم، والتفاتاً لقوله: «قُلِ اللهُ» ؛ إذ التقدير: قُلْ لهُمْ، فناسب الخطاب، وقوله: «إنَّ رُسُلنَا» التفاتٌ أيضاً، إذ لو جرى على قوله: «قُلِ اللهُ» ، لقيل: إنَّ رسله، والمراد بالرُّسل: الحفظة.(10/290)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قوله تعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} الآية.
لمَّا ذكر في الآيةِ الأولى، مجيء الرَّحمة بعد الضرِّ، أو الرَّخاء بعد الشدَّة، ذكر في هذه الآية مثالاً لذلك، وبياناً لنقل الإنسان من الضرِّ إلى الرحمة، وذلك أنَّ الإنسان إذا ركب السَّفينة، ووجد الرِّيح الطيبة الموافقة لمقصوده، حصل له المسرَّة القويَّة، والنَّفْع التَّام، ثم قد تظهرُ علامات الهلاك؛ بأنْ تجيئهم الرِّياح العاصفة، أو تأتيهم الأمواج(10/290)
العظيمة من كل جانبٍ، أو يغلب على ظنونهم أنَّ الهلاكَ واقعٌ بالانتقال من تلك الأحوال الطيِّبة، إلى هذه الأحوال الشديدة، فوجب الخوفُ العظيمُ، والإنسان في هذه الحالة، لا يطمعُ إلا في فضْلِ الله - سبحانه وتعالى -، ويقطع طعمهُ عن جيمع الخلق، ويصير بجميع أجزائه مُتضرِّعاً إلى الله - تعالى -، ثُمَّ إذا نجَّاهُ الله - تعالى - من هذه البليَّة العظيمة، نسي النِّعمة، ورجع إلى ما ألفهُ من العقائد الباطلةِ.
قوله: «يَنْشُركم» قراءةُ ابن عامر من النَّشْرِ ضدَّ الطيّ، والمعنى: يُفَرِّقكم ويَبُثُّكُم، وقرأ الحسن: «يَنْشِركُم» من «أنْشَر» ، أي: أحْيَا، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً، وقرأ بعضُ الشَّاميين: «يُنَشِّركم» بالتشديد؛ للتَّكثير من النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار، وقرأ الباقون: «يُسَيِّركُم» من التَّسْييرِ، والتَّضعيفُ فيه للتعدية، تقول: سَارَ الرَّجُل، وسيَّرْتُهُ أنَا.
وقال الفارسيُّ: «هو تَضْعيفُ مُبَالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ؛ لأنَّ العرب تقول: سِرْتُ الرَّجُلَ وسيَّرته» .
ومنه قول الهُذليِّ: [الطويل]
2882 - فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنْتَ سِرْتَهَا ... فأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وهذا الذي قالهُ أبو علي غير ظاهر؛ لأنَّ الأكثر في لسان العرب، أنَّ «سار» قاصرٌ، فجعلُ المضعف مأخوذاً من الكثير أولى.
وقال ابن عطيَّة: «وَعَلى هذا البيت اعتراضٌ، حتَّى لا يكون شاهداً في هذا؛ وهو أن يكون الضَّمير كالظرف كما تقول: سِرْتُ الطريق» .
قال أبو حيَّان: «وأمَّا جعلُ ابن عطيَّة الضَّميرَ كالظَّرفِ كما تقول: سِرْتُ الطَّريقَ. فهذا لا يجوزُ عند الجمهور؛ لأنَّ» الطَّريق «عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدَّار، فلا يصلُ إليها الفعلُ غير» دَخَلتُ «عند سيبويه، و» انطلقتُ «و» ذَهَبْتُ «عند الفرَّاء - إلاَّ بوساطة» في «، إلاَّ في ضرورة، وإن كان كذلك فضميرهُ أحرى أن لا يتعدَّى إليه الفعل» .
وزعم ابنُ الطَّراوةِ أنَّ «الطَّريقَ» ظرفٌ غيرُ مختصٍّ، فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه، وأباهُ النُّحَاة «.
قوله:» حتى إِذَا «» حتَّى «متعلقةٌ ب» يُسَيِّركم «، وقد تقدَّم الكلامُ على» حتَّى «هذه(10/291)
الداخلة على» إذَا « [النساء: 6] ، قال الزمخشري:» كيف جعل الكونَ في الفُلكِ غاية التَّسيير في البَحْر، والتَّسييرُ في البَحْر، إنَّما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لَمْ يجعلِ الكون في الفلكِ غاية التَّسيير، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد «حتَّى» بما في حيِّزها، كأنَّه قال: يُسَيِّركُم حتَّى إذا وقعت هذه الحادثةُ، فكان كيت وكيت من مجيء الرِّيح العاصفِ، وتراكُم الأمواج، والظَّن للهلاك، والدُّعاء بالإنجاء «، وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء:» في الفُلْكِيّ «بياء النَّسب، وتخريجها يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ، الذي لا يجري الفلكُ إلاَّ فيه، كأنَّه قيل: كنتم في اللُّجِّ الفلكيِّ، ويكون الضمير في» جَرَيْنَ «عائداً على الفلك؛ لدلالةِ» الفُلْكي «عليه لفظاً، ولزوماً.
والثاني: أن يكون من باب النِّسبةِ، كقولهم: «أحْمَرِيٌّ» ، كقوله: [الرجز]
2883 - أطَرَباً وأنتَ قِنَّسْرِيُّ ... والدَّهْرُ بالإنسَانِ دَوَّارِيُّ
وكنسبتهم إلى العلم، في قولهم: «الصَّلتَانيّ» ، كقوله: [الطويل]
2884 - أنَا الصَّلتانِيُّ الذي قَدْ عَلِمْتُمُ..... ... ... ... ... ... ... ... .
فزاد ياء النَّسب في اسمه.
قوله: «وجَريْنَ» يجُوزُ أن يكون نسقاً على «كُنْتُم» ، وأن يكون حالاً على إضمار «قَدْ» ، والضمير عائدٌ على «الفُلْكِ» ، والمراد به هنا: الجمع، وقد تقدَّم أنه تكسير، وأنَّ تغييره تقديريٌّ [البقرة: 164] ، فضمَّتُه كضمَّةِ «بُدْن» ، وأنَّهُ ليس باسم جمع كما زعم الأخفشُ.
وقوله: «بِهِمْ» فيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة.
قال الزمخشري: «فإن قلت ما فائدةُ صرف الكلامِ، عن الخطابِ إلى الغيبةِ؟ قلت: المبالغةُ؛ كأنه يذكُرُ لغيرهم حالهُ ليُعَجِّبَهم منها، ويستدعي منهم الإنكارَ والتَّقبيحَ» ، وقال ابنُ عطيَّة: «بِهِمْ: خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبَة، وحسُنَ ذلك؛ لأنَّ قوله:» كُنتُمْ في الفُلْكِ «هو بالمعنى المعقُول، حتى إذا حصل بعضكم في السُّفُن» . انتهى، فقدَّر اسماً غائباً، وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه، ومثله {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي(10/292)
بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40] ، تقديره: أو كذي ظُلُمات، وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ.
وقال أبو حيَّان: «والذي يظهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا: هي أنَّ قوله {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ} خطابٌ فيه امتنانٌ، وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمُسَيَّرون في البَرِّ والبَحْر مؤمنون وكُفَّار، والخطابُ شاملٌ، فحسُنَ خطابُهُم بذلك، ليستديمَ الصَّالحُ على الشُّكْر، ولعلَّ الطَّالحَ يتذكَّرُ هذه النّعْمَة.
ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنَّهم إذا نجوا بغَوا في الأرض، عدلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة؛ لئلاَّ يخاطب المؤمنين بما لا يليقُ صُدُورُه منهم، وهو البغيُ بغير الحقِّ» .
قوله: «بريحٍ» متعلِّقٌ ب «جَرَيْنَ» ، فيقال: كيف يتعدَّى فعلٌ واحدٌ، إلى معمولين بحرف جرٍّ متحدٍ لفظاً ومعنًى؟ فالجوابُ: أنَّ الياءَ الأولى للتَّعدية، كهي في «مَرَرْتُ بزَيْدٍ» ، والثانية للحالِ، فتتعلق بمحذُوف، والتقدير: جريْنَ بهم مُلتبسةً بريحٍ، فتكونُ الحالُ من ضميرِ الفُلْكِ.
قوله: «وَفَرِحُواْ بِهَا» يجُوزُ أن تكون هذه الجملةُ نسقاً على «جَرَيْنَ» ، وأن تكُون حالاً، و «قد» معها مُضْمَرةٌ عند بعضهم، أي: وقد فَرِحَوا، وصاحبُ الحَالِ الضَّمير في «بِهِمْ» .
قوله: «جَآءَتْهَا» الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة الفعليَّة جواب «إِذَا» ، وأنَّ الضمير في «جَاءَتْهَا» ضميرُ الرِّيح الطيِّبة، أي: جاءتِ الريحَ الطَّيبةَ ريحٌ عاصفٌ، أي: خَلَفْتْهَا، وبهذا بدأ الزمخشري، وسبقه إليه الفرَّاء وجوَّز أن يكون الضميرُ للفلك، ورجَّح هذا بأنَّ الفلك هو المُحَدَّث عنه.
قوله: «وظَنُّوا» يجُوزُ أن يكون معطوفاً على «جَاءَتْهَا» ، الذي هو جوابُ «إذَا» ، ويجوز أن يكون معطوفاً على «كُنتُمْ» ، وهو قولُ الطبري؛ ولذلك قال: وظَنُّوا جوابه «دعوُا الله» .
قال أبو حيَّان: «ظاهرُه العطفُ على جواب» إذَا «، لا أنَّه معطوفٌ على كُنتُمْ، لكنَّه محتمل، كما تقول:» إذا زَارك فلان أكرمهُ، وجاءكَ خالدٌ فأحسن إليه «، وكأنَّ أداةَ الشَّرطِ مذكورةٌ» .
وقرأ زيد بن علي: «حِيطَ» ثلاثيّاً.
قوله: «دَعَوُاْ الله» قال أبو البقاء: «هو جوابُ ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشَّرطِ، تقديره: لمَّا ظنُّوا أنَّهُم أحيط بهم دعوُا الله» ، وهذا كلامٌ فارغٌ، وقال الزمخشري: «هي بدلٌ من» ظَنُّوا «؛ لأنَّ دعاءهم من لوازم ظنِّهم الهلاكَ، فهو مُتلبسٌ به» ،(10/293)
ونقل أبو حيَّان عن شيخه أبي جعفر: «أنَّه جوابٌ لسُؤال مقدَّر، كأنَّه قيل: فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دَعَوا الله» ، وهذا نقله ابنُ الخطيب عن بعضهم، و «مُخْلِصينَ» حال، و «لَهُ» متعلِّقٌ به، و «الدِّينَ» مفعوله.
قوله: «لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا» : اللاَّمُ: موطئةٌ للقسم المحذوف، و «لنَكُونَنَّ» : جوابه، والقسمُ وجوابُهُ: في محلِّ نصب بقول مقدَّر، وذلك القولُ المقدَّر: في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والتقديرُ: دعوا قائلين: لَئِن أنْجَيتنَا من هذه لنكُوننَّ، ويجوزُ أن يجرى «دعَوا» مجرى «قالُوا» لأنَّ الدُّعَاء والقول بمعنى؛ إذ هو نوعٌ من أنواعه، وهو مذهبٌ كوفيٌّ.
قوله: «إِذَا هُمْ يَبْغُونَ» : جوابُ «لمَّا» ، وهي «إذَا» الفُجائيَّة، وقوله: «بِغَيْرِ الحق» : حالٌ، أي: ملتبسين بغير الحقِّ، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى قوله:» بِغَيْرِ الحقِّ «والبغيُ لا يكون بحقٍّ؟ قلت: بلى، وهو استيلاءُ المسلمين على أرض الكُفَّار، وهدْمُ دُورهم، وإحراقُ زُرُوعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببني قريظة» ، وكان قد فسَّر البغي بالفساد، والإمعان فيه، مِن «بَغَى الجرحُ: إذا ترامى للفساد» .
ولذلك قال الزجاج: «إنّه الترقِّي في الفساد» ، وقال الأصمعي أيضاً: «بَغَى الجرحُ: ترقَّى إلى الفساد، وبغتِ المرأةُ: فجرت» .
قال أبو حيَّان: «ولا يصِحُّ أن يقال في المسلمين، إنَّهُم باغُون على الكفرة، إلاَّ إن ذكر أنَّ أصل البغي، هو الطلبُ مطلقاً، ولا يتضمَّن الفساد، فيحينئذٍ ينقسم إلى: طلبٍ بحقٍّ، وطلبٍ بغير حقٍّ» .
قال الواحدي: «وأصلُ البغي: الطلب» ، وقد تقدم أنَّ هذه الآي، ترُدُّ على الفارسي، أنَّ «لمَّا» ظرف بمعنى «حين» ؛ لأنَّ ما بعد «إذَا» الفُجائيَّة، لا يعمل فيما قبلها، وإذا قد فرض كون «لمَّا» ظرفاً لزم أن يكون لها عاملٌ «.
فصل
دلَّت هذه الآية: على أن فعل العبد خلق لله - تعالى -؛ لأنَّه قال:» يُسَيِّركُمْ «، وقال: {قُلْ سِيرُواْ} [الأنعام: 11] وهذا يدل على أن سيرهم منهم، ومن الله، فيكون كسباً لهم وخلقاً لله. ونظيره قوله - تعالى -: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} [الأنفال: 5] وقال في آيةٍ أخرى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} [التوبة: 40] ، وقوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] ، مع قوله: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} [التوبة: 82] ، قال القفال:» هو الذي يسيركم في البرِّ والبحْرِ؛ أي: هو الهادي لكم إلى السَّيْرِ في البحر والبر، طلباً للمعاش، وهو المسير لكم؛ لأنَّه هيَّأ لكم أسباب ذلك السَّيْر «، والجواب: لا شك أنَّ المسيِّر في(10/294)
البحر هو الله - تعالى جلَّ ذكره -؛ لأنَّه هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السَّفينة، وإضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة، فيجبُ أن يكون مسيراً لهم في البرِّ والبحر، إذ لو كان مسيّراً لهم في البرِّ بمعنى إعطاء الآلات والأدوات، لكان مجازاً، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً دفعةً واحدةً، وذلك باطلٌ، على ما تقرر في أصول الفقه، قال أبو هاشم:» لايبعُد أن يقال: إن الله تعالى تكلَّم به مرَّتين «، وهذا باطلٌ؛ لأن هذا القول لم يقل به أحدٌ من الأئمَّة، ممَّن كانوا قبله، فكان خلافاً للإجماع، فيكون باطلاً.
فصل
معنى الآية: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر} على ظهور الدَّوابِّ، وفي البحر على الفلك، {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} أي: في السفن. والفلك: تكون واحداً، وجمعاً،» وَجَرَيْنَ بِهِم «أي: جرت الفلك بالنَّاس، رجع من الخطاب إلى الغيبة.
والفائدة فيه من وجوه:
أحدها: ما تقدم عن الزمخشري، وهو المبالغةُ بذكر حالهم لغيرهم؛ ليعجبوا منها، ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتَّقبيح.
وثانيها: قال الجُبَّائي: «إنَّ مخاطبته - سبحانه جلَّ ذكره - لعباده، على لسان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بمنزلة الخبر عن الغائب، وكل من أقام الغائب مقام المخاطب، حسن منه أن يردَّه مرة أخرى إلى الغائب» .
وثالثها: قال ابن الخطيب: «إن الانتقال من لفظ الغيبة، إلى لفظِ الحضور، يدلُّ على مزيد التقريب، والإكرام، وأمَّا الانتقال من لفظ الحضور، إلى لفظ الغيبة، فإنه يدلُّ على المقتِ، والتعذيب، وهو اللاَّئق بحال هؤلاء، لأنَّ من كان صفته، أنَّه يقابل إحسان الله إليه بالكفر، أن يكون اللاَّئقُ به ذلك» . والأول كما في الفاتحة، فإن قوله: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1 - 3] خطاب غيبة، ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] : وهذا يدل على أن العبد، كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وهو يوجب عُلُو الدرجة، وكمال القرب.
ثم قال: «بريحٍ طيبةٍ» : لينة، «وفَرِحُوا بها» أي: بالرِّيح، «جَاءَتْهَا» أي: جاءت الفلك، أو جاءت الريح اللينة كما تقدَّم، «ريح عاصف» شديدة، ولم يقل عاصفة؛ لاختصاص الرِّيح بالعُصُوف، وقيل: «الرِّيح» يُذكَّر ويؤنث.
قال الفراء، والزجاج: يقال: ريحٌ عاصفٌ، وعاصفةٌ، وقد عصفتْ عُصُوفاً وأعْصَفَتْ فهي مُعْصِف ومُعْصِفَة، وعصفت الريح: اشتدتْ وأصلُ العَصْف: السُّرعة، يقال: ناقةٌ عاصفٌ، وعصُوفٌ؛ سريعة، وإنما قيل: «ريحٌ عاصفٌ» لأنَّه يُراد ذات عُصُوف، كما قيل: لابنٌ وتامرٌ؛ أو لأنه لفظ يذكَّر ويؤنَّث.(10/295)
فإن قيل: الضميرُ في «جَاءتْهَا» يعودُ على الفلك، وهو ضمير الواحد، والضمير في قوله: «وجَريْنَ بهمْ» عائد على الفلك، وهو ضميرُ الجمع، فما السببُ فيه؟ .
فالجواب من وجهين:
الأول: لا نُسَلِّم أن الضمير في «جَاءتْهَا» ، عائدٌ إلى الفلك، بل يعُود على الرِّيح الطيِّبة.
الثاني: لو سلَّمنا ذلك، إلاَّ أنّض لفظ الفكل يصلح للواحد والجمع. ثم قال: «وجَاءَهُم» أي: ركَّاب السفينة «الموج مِن كُلِّ مكانٍ» وهو حركةُ الماءِ واختلاطهُن وقيل: المَوْج ما ارتفع من الماء فوق البحر، «وظَنُّوا» : أيْقَنُوا «أنَّهُم أحيطَ بهم» أي: ظنُّوا القرب من الهلاك، وأصله: أنَّ العدوَّ إذا أحاط بقوم أو بلدٍ، فقد دنوا من الهلاك، {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: أخلصُوا لله في الدعاء، ولم يدعُوا أحداً سواه، قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد: ترك الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً، وقال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ: «دَعَوُا اللهُ مُخْلصينَ؛ جارياً مُجْرَى الإيمان الاضطراري» ، وقال ابن زيد: «هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضُّرُّ والبلاء لم يدعُوا إلاَّ الله» وعن أبي عبيدة: أنَّ المراد من ذلك الدعاء قولهم: أهْيَا شر هَيَا، أي: يا حيُّ يا قيُّوم، وقالوا: لَئِنْ أنْجيتنا يا رب من هذه الريح العاصف، أو من هذه الأمواج، أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ، وإن لم يسبق ذكرها؛ إلا أنه سبق ما يدلُّ عليها، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لك بالإيمان والطَّاعة.
واعلم: أنَّه يمكن أن يقدَّر في الآية إضمار، تقديره: دعوا اللهَ مخلصين لهُ الدِّ] ن، مريدين أن يقولوا: لَئِنْ أنْجَيْتَنا، ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى الإضمار؛ لأنَّ قوله: «دعَوُا اللهَ» يصير مُفَسَّراً بقوله: {أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} فهم في الحقيقة، ما قالُوا إلاَّ هذا القول.
ولمَّا حكى عنهم التَّضرع الكامل، ذكر أنَّهُم بعد الخلاص من تلك البليَّة، أقدموا في الحالِ على البغي في الأرض بغير الحقِّ، قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد: بالفسادِ والتَّكذيب والجُرْأة على الله - عزَّ وجلَّ -.
قوله: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} أي: وباله راجعٌ إليها، وقيل: المرادُ: بغي بعضكم على بعض، كقوله: {اقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66] ، {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] والمعنى: أنَّ بغي بعضهم على(10/296)
بعض، منفعة الحياة الدنيا، ولا بقاء لها، والبغي من منكرات المعاصي، قال: صلوات الله وسلامه عليه -: «أسْرَعُ الخَيْرِ ثواباً صلةُ الرَّحم، وأعجلُ الشَّرِّ عقاباً البغي، واليمين الفاجرة» ، وروي: «ثنتان يعجلهما الله - تعالى - في الدنيا: البَغْي، وعقُوقُ الوالدين» وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «لو بغى جَبَلٌ على جبلٍ، لاندَكَّ الباغِي» .
وقال محمد بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ثلاثٌ من كنَّ فيه كنَّ عليه: البغيُ، والنَّكْثُ، والمَكْرُ، قال - تعالى -: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} ، {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنعام: 123] ، {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} [الفتح: 10] .
قوله: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} قرأ حفص: «مَتَاعَ» بالنصب، ونصبُه على خمسة أوجه:
أحدها: أنَّهُ منصوب على الظرف الزمانيُّ، نحو: «مَقْدمَ الحجَّاج» ، اي: زمن متاع الحياة.
والثاني: أنَّه منصوبٌ على المصدرِ الواقع موقع الحالِ، أي: مَتَمتِّعينَ، والعاملُ فِي هذا الظرف، وهذه الحال: الاستقرارُ الذي في الخبر، وهو «عليكم» ، ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصلُ بين المصدر، ومعموله بالخبر، وقد تقدَّم أنَّه لا يخبرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمام صلته.
والثالث: نصبه على المصدر المؤكَّد بفعلٍ مقدرٍ، أي: يتمتَّعُون متاع الحياة الدُّنْيا.
الرابع: أنه منصوبٌ على المفعول به، بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي: يَبْغُون متاع الحياةِ الدُّنيا، ولا جائزٌ أن ينتصب بالمصدر؛ لما تقدَّم.
الخامس: أن ينتصب على المفعول من أجله، أي: لأجل متاع، والعامل فيه: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في «عَلَيْكُم» ، وإمَّا فعلٌ مقدَّرٌ، ويجوز أن يكون النَّاصبُ له، حال جعله ظرفاً، أو حالاً، أو مفعولاً من أجله: نفس البغي، لا على جعل «عَلَى أنْفُسِكُم» خبراً، بل على جعله متعلِّقاً بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ؛ لطول الكلام، والتقدير: إنَّما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة مذمومٌ، أو مكروهٌ، أو مَنْهيٌّ عنه.
وقرأ باقي السبعة «مَتَاعُ» بالرفع - وفيه أوجه:
أظهرها: أنَّه خبرُ «بَغْيُكُمْ» ، و «عَلَى أنفُسِكُمْ» : متعلقٌ بالبغي.
ويجُوزُ أن يكون «عليكم» خبراً، و «مَتَاعُ» خبراً ثانياً.
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هو متاع كقوله: {لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ} [الأحقاف: 35] . أي: هذا بلاغٌ.(10/297)
وقرأ ابن أبي إسحاق، «مَتَاعاً الحياةَ» بنصب «مَتَاعاً» و «الحَيَاة» ، ف «مَتَاعاً» : على ما تقدَّم، وأمَّا «الحَيَاة» : فيجُوزُ أن تكون مفعولاً بها، والنَّاصِبُ لها المصدر، ولا يجوزُ والحالةُ هذه، أن يكون «مَتَاعاً» مصدراً مؤكداً؛ لأنّض المؤكِّد لا يعمل. ويجُوزُ أن تنتصب «الحَيَاة» على البدل من «مَتَاعاً» لأنها مشتملةٌ عليه، وقرىء أيضاً: «مَتاعِ الحياة» ، بجرِّ «متاع» ، وخُرِّجت على النَّعت لأنفسكم، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ حينئذٍ، تقديره: على أنفسكم ذوات متاع الحياة، كذا خرَّجهُ بعضهم، ويجُوزُ أن يكون ممَّا حذف منه حرفُ الجَرّ، وبقي عمله، أي: إنَّما بَغْيُكم على أنفسكم؛ لأجل متاع، ويدلُّ على ذلك؛ قراءةُ النَّصْب في وجه من يجعله مفعولاً من أجله، وحذفُ حرف الجرِّ، وإبقاءُ عمله قليلٌ، وهذه القراءةُ لا تتباعَدُ عنه.
وقال أبُو البقاء: «ويجوزُ أن يكون المصدر، بمعنى اسم الفاعل، أي: مُتَمتِّعات» ، يعني: أنَّهُ يجعلُ المصدر نعتاً ل «أنْفُسِكُم» ، من غير حذف مضافٍ، بل على المبالغة، أو على جعل المصدر بمعنى: اسم الفاعل، ثم قال: «ويضعُف أن يكون بدلاً إذا أمكن أن يجعل صفة» .
قال شهابُ الدِّين: «وإذا جعل بدلاً على ضعفه، فمنْ أيِّ قبيل البدلِ يجعل؟ والظاهر: أنَّه من بدلِ الاشتمال، ولا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ حينئذٍ، أي: متاع الحياة الدُّنيا لها» . ثم قال: «ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ» أي: ما وعدنا من المُجازاة على أعمالكم {فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} والإنبَاءُ: الإخبار، وهو هُنَا وعيدٌ بالعذابِ، كقول الرَّجُل لغيره: سأخْبِرُكَ بما فعلتَ.(10/298)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
قوله - تعالى - {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} الآية.
لمَّا قال - تعالى -: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} [يونس: 23] ضرب هذا المثل لمن اغترَّ بالحياةِ الدُّنيا، واشتد تمسُّكه بها، وأعرض عن التأهُّبِ للآخرة، فقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} وهذه الجملةُ سيقتْ؛ لتشبيه الدُّنْيَا بنباتِ الأرض، وقد شرح الله وجه الشَّبه بما ذكر.
قال الزمخشري: «هذا من التَّشبيه المُركَّب، شُبِّهتْ حال الدُّنيا، في سرعةِ تقضِّيهَا،(10/298)
وانقراضِ نعيمها بعد الإقبالِ، بحالِ نباتِ الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً بعدما التفَّ، وتكاثف، وزيَّن الأرض بخُضْرته، ورونقه» ، التَّشبيهُ المركبُ في اصطلاح البيانيِّين: إمَّا أن يكون طرفاهُ مركَّبين، أي: تشبيهُ مركَّبٍ بمركَّبٍ؛ كقول بشَّار بن بُردٍ: [الطويل]
2885 - كَأن مُثارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنَا ... وأسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كواكِبُه
وذلك أنَّه يُشبِّه الهيئة الحاصلة، من هُوِيِّ أجرام مشرقة، مستطيلة متناسبةِ المقدارِ، متفرقةٍ في جوانب شيءٍ مُظْلم، بليلٍ سقطتْ كواكبُه، وإمَّا أن يكون طرفاهُ مُخْتلفين بالإفرادِ والتَّركيب، وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع.
قوله: «كَمَآءٍ» : هو خبرُ المبتدأ، و «أَنزَلْنَاهُ» : صفة ل «مَاءٍ» ، و «مِنَ السَّمَاءِ» : متعلِّقٌ ب «أنزَلنَاهُ» ، ويضعفُ جعله حالاً من الضَّمير المنصوب، وقوله: «فاختلط بِهِ» في هذه الباءِ وجهان:
أحدهما: أنها سببيَّةٌ، قال الزمخشري: «فاشْتبكَ بسببهِ، حتى خالط بعضه بعضاً» .
قال ابن عطيَّة: «وصَلَتْ فِرْقَةٌ» النَّبات «، بقوله:» فاخْتَلَطَ «، أي: اختلط النَّبَاتُ بعضه ببعضٍ بسبب الماء» .
والثاني: أنَّها للمُصاحبة، بمعنى: أنَّ الماء يجري مجرى الغذاء له، فهو مُصاحبه، وزعم بعضُهم: أنَّ الوقف على قوله: «فاختلط» ، على أنَّ الفاعِلَ ضميرٌ عائدٌ على الماءِ، وتبتدىءُ «بِهِ نَبَاتُ الأرض» على الابتداء والخبر، والضمير في «بِهِ» على هذا، يجُوزُ عودُه على الماءِ، وأن يعُود على الاختلاط الذي تضمَّنَهُ الفعل، قاله ابن عطيَّة، وقال أبو حيَّان: «الوقْفُ على قوله:» فاخْتلَطَ «لا يجُوزُ، وخاصَّةً في القرآن؛ لأنَّه تفكيكٌ للكلام المتَّصل الصحيح، والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْزِ، والتَّعقيد» .
قوله «مِمَّا يَأْكُلُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «اخْتَلَطَ» ، وبه قال الحُوفيُّ.
والثاني: أنَّه حالٌ من «النَّبات» ، قاله أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المُستقرَّة، أي: كائناً أو مُسْتقرّاً ممَّا يأكل.
ولو قيل: إنَّ «مِنْ» لبيان الجنسِ، لجاز، وقوله: «حتَّى» غايةٌ فلا بُدَّ لها من شيءٍ مُغَيّاً، والفعلُ الذي قبلها - وهو «اخْتَلَطَ» - لا يصح أن يكون مُغَيّاً، لقصر زمنهِ، فقيل: ثمَّ فعل محذوفٌ، أي: لم يزلِ النباتُ ينمُو حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ وقيل: يجوز «فاخْتَلَطَ»(10/299)
بمعنى: فدام اختلاطه، حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ، و «إذَا» بعد «حتَّى» هذه تقدَّم التَّنبيه عليها، قوله: «وازينت» بوصل الهمزة، وتشديد الزاي والياء، والأصلُ «وتزَيَّنَتْ» فلمَّا أريدَ إدغامُ التَّاء في الزَّاي بعدها، قُلبت زاياً، وسُكِّنَت فاجتُلِبَت همزة الوصْل؛ لتعذُّر الابتداء بالسَّاكن، فصار «ازَّيَّنت» ، وتقدَّم تحريرُ هذا عند قوله - تعالى -:
{فادارأتم
فِيهَا} [البقرة: 72] .
وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله وزيد بن علي، والأعمش: «وتَزيَّنَتْ» على تفعَّلَتْ، وهو الأصلُ المُشَار إليه، وقرأ سعد بن أبي وقَّاص، والسُّلمي، وابنُ يعمُر، والحسن، والشَّعبي، وأبُو العالية، ونصر بن عاصم، وابنُ هرمز، وعيسى الثقفي: «وَأزْيَنَتْ» على وزن أفعَلَتْ، وأفعل هنا بمعنى: صار ذا كذا، كأحْصَدَ الزَّرعُ وأغدَّ البعيرُ، والمعنى: صارت ذا زينة، أي: حضرت زينتها وحانَتْ، وكان من حقِّ الياءِ على هذه القراءة، أن تُقْلبَ ألفاً، فيقال: أزَانَتْ، كأنَابَت فتُعَلُّ بنقلِ حركتها إلى السَّاكِن قبلها، فتتحرَّك حينئذٍ، وينفتح ما قبلها، فتقلب ألفاً كما تقدَّم في نحو: أقامَ وأنابَ، إلاَّ أنَّها صحَّتْ شذُوذاً؛ كقوله: «أغْيَمت السماء، وأغْيَلَت المرأة» ، وقد ورد ذلك في القرآن، نحو: {استحوذ} [المجادلة: 19] وقياسه: اسْتَحَاذَ؛ كاستقام.
وقرأ أبو عثمان النَّهديُّ - وعزاه ابن عطيَّة لفرقةٍ غير مُعيَّنة -: «وازْيأنَّتْ» بهمزة وصل، بعدها زايٌ ساكنةٌ، بعدها ياءٌ مفتوحةٌ خفيفةٌ، بعدها همزةٌ مفتوحةٌ، بعدها نونٌ مشددةٌ، قالوا: وأصلها: «وازْيَانَّتْ» بوزن «احْمَارَّتْ» بألف صريحة، ولكنَّهُم كرهُوا الجمع بين السَّاكنين، فقُلبتَ الألفُ همزة، كقراءة {الضآلين} [الفاتحة: 7] ، و {جَآنٌّ} [الرحمن: 39] ، وعليه قولهم: «احْمأرَّت» بالهمز، وأنشد: [الطويل]
2886 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... إذَا مَا احْمَأرَّتْ بالعَبيطِ العَوامِلُ
وقد تقدَّم هذا مُشْبَعاً في آخر الفاتحة.
وقرأ أشياخ عوف بن أبي جميلة: «وَازْيَأنَّت» بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن(10/300)
عطيَّة لأبي عثمان النَّهْدي، وقرىء: «وازَّايَنَتْ» ، والأصلُ: تزاينت، فأدغم.
وقوله: «أهْلُهَا» أي: أهل نباتها. و «أتَاهَا» : هو جوابُ «إذَا» ، فهو العاملُ فيها.
وقيل: الضَّميرُ عائدٌ على الزِّينة.
وقيل: على الغَلَّةِ، أي: القُوت فلا حذفَ حينئذٍ، و «لَيْلاً ونَهَاراً» ظرفان؛ للإتيان، أو للأمر، والجعل هنا تصْييرٌ، وحصيد: فَعِيل بمعنى: مفعول، ولذلك لم يؤنث بالتاء، وإن كان عبارة عن مُؤنَّث، كقوله: أمْرَأة جريحٌ. قوله: «كَأَن لَّمْ تَغْنَ» هذه الجملة يجُوزُ أن تكون حالاً من مفعول «جَعَلْنَاها» الأوَّل، وأن تكون مستأنفةٌ جواباً لسُؤالٍ مقدَّرٍ، وقرأ هارون بن الحكم «تتغَنَّ» ، بتاءين بنزنة تتفعَّل؛ كقول الأعشى: [المتقارب]
2887 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... طَويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنْ
وهو بمعنى: الإقامة، وقد تقدَّم في الأعراف، وقرأ الحسن، وقتادة: «كأنْ لم يَغْنَ» بياء الغيبة، وفي هذا الضمير ثلاثة أوجه:
أجودها: أن يعود على الحصيد؛ لأنَّه أقرب مذكور.
وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزُّخْرُف.
وقيل: يعودُ على النَّبات أو الزَّرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونَبَاتُهَا.
و «بالأمْسِ» : المرادُ به: الزَّمن الماضي، لا اليوم الذي قبل يومك؛ كقول زهير: [الطويل]
2888 - وأعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمْسِ قبلهُ ... ولكنَّنِي عَنْ عِلْمِ ما فِي غَدٍ عَمِ
لمْ يقْصِدْ بها حقائقها، والفرقُ بين الأمسيْن: أنَّ الذي يُرَاد به قبل يومك مبنيٌّ؛ لتضمُّنه معنى الألف واللاَّم، وهذا مُعْرَبٌ تدخل عليه «ألْ» ويضافُ، وقوله: «كَذلِكَ نُفَصِّلُ» نعت مصدرٍ محذُوف، أي: مثل هذا التَّفصيل الذي فصَّلناه في الماضي، نُفَصِّل في المستقبل.(10/301)
فصل
معنى الآية: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} في فنائها، وزوالها {كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ} أي: بالمطر {نَبَاتُ الأرض} قال ابن عباسٍ: نبت بالماءِ من كل لون {مِمَّا يَأْكُلُ الناس} : من الحُبُوبِ والثِّمار، «والأنعام» من الحشيش {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} : حسنها، وبهجتها، وظهر الزهْرُ أخضرُ، وأحمرُ، وأصفرُ، وأبيضُ، «وازينت» شبهها بالعروس، إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون {وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} على جذاذها وقطافها وحصادها، ردَّ الكناية إلى الأرض، والمراد: النبات إذ كان مفهوماً، وقيل: إلى الغلَّة، وقيل: إلى الزِّينَة «أَتَاهَآ أَمْرُنَا» : قضاؤنا بالهلاك {لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} أي: محصودة مقطوعة، وقال أبو عبيدة: «الحصيد: المستأصل» ، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} من غني بالمكان: إذا أقام به.
قال الليث «يقال للشيء إذا فني: كأن لم يَغنَ بالأمْسِ، أي: كأنْ لمْ يَكُنْ» .
فصل
اعلم: أن تشبيهَ الحياة الدنيا بالنبات يحتملُ وجوهاً، لخَّصها القاضي.
أحدها: أنَّ عاقبةَ هذه الحياة التي يُنفقُهَا المرء في هذه الدنيا، كعاقبة هذا النَّبات، الذي حين عظُم الرَّجَاء في الانتفاع به، وقع اليأس منه؛ لأنَّ المُتَمسِّك بالدنيا، إذا عظمت رغبتُه فيها، يأتيه الموت، وهو معنى قوله: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] .
وثانيها: أنَّه - تعالى - بيَّن أنَّه كما لم يحصل لذلك الزَّرْع عاقبةٌ تُحْمد، فكذلك المُغترُّ بالدُّنْيَا المُحبُّ لها، لا يحصل له عاقبة تحمد.
وثالثها: أنَّ هذا التشبيه، كقوله - تعالى -: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] أي: لمَّا صار سعي هذا الزَّرع باطلاً، بسببِ حدوث المهلك، فكذلك سعي المغترَّ بالدُّنْيَا.
ورابعها: أنَّ مالكَ هذا البستان لمَّا أتْعَبَ نفسه في عمارته، وكذلك الرُّوحَ، وعلَّق قلبه بالانتفاع به، فإذا حدث السببُ المهلكُ، صار العناءُ الشديد، الذي تحملُه في الماضي، سبباً لحصول الشقاء الشَّديد لهُ في المستقبل، وهو ما يحصُل في قلبه من الحشرات.
فكذلك حالُ من أحبَّ الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات، وفاتهُ كلُّ ما نال، صار العناء الذي تحمَّله في تحصيل الدنيا، سبباً لحُصُول الشقاء العظيم له في الآخرة.(10/302)
وخامسها: لعلَّه - تعالى - إنَّما ضرب هذا المثل لمنْ لا يُؤمن بالمعاد؛ لأنَّا نرى الزَّرْع الذي انتهى إلى الغايةِ في الحسن، ثمَّ إنَّ ذلك الحسنَ يزول بالكلِّيَّة، ثم تصير تلك الأرضُ موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى، فذكر - تعالى - هذا المثال؛ ليدلَّ على أنَّ مَنْ قَدَر على ذلك، كان قادراً على إعادة الأحياء في الآخرة؛ ليَجَازيَهُم على أعمالهم.
قوله تعالى: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} الآية.
لمَّا نفر العقلاء عن الميل إلى الدُّنيا، رغَّبهُم في الآخرة بهذه الآية، قال قتادة: «السَّلام هو الله، وداره الجنَّة» .
وسمِّي الله - تعالى - بالسَّلام لوجوه:
أحدها: أنَّه لمَّا كان واجب الوُجُودِ لذاته، فقد سَلِمَ من الفناء والتَّغيير، وسلم في ذاته وصفاته من الافتقار إلى الغير، وهذه الصِّفةُ ليست إلاَّ له - سبحانه.
وثانيها: وصف بالسلام، أي: أنَّ الخَلْق سَلِمُوا من ظُلْمِهِ؛ ولأنَّ كل ما سواه فهو مُلْكُه ومِلْكُه، وتصرُّفُ المالك في ملك نفسه لا يكون ظُلْماً.
وثالثها: قال المُبَرِّد: «وصف بالسلام، أي: لا يقدر على السَّلام إلاَّ هو، والسَّلام: عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات، وهو المنتصف للمظلُومين من الظالمين» وعلى هذا التقدير: السَّلام مصدر «سَلِمَ» .
وقيل: سُمِّيت الجنَّة دارَ السلام؛ لأنَّ من دخلها سلم من الآفات، وقيل: المرادُ بالسَّلام: التَّحية؛ لأنَّه - تعالى - يُسَلِّم على أهلها، قال - تعالى -: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] ، والملائكةُ يُسلِّمُون عليهم أيضاً، قال - تعالى -: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23 - 24] ، وهم يُحيُّون بعضهم بعضاً بالسَّلام، قال - تعالى -: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [يونس: 10] .
وروى جابرٌ، قال: «جاءت ملائكةُ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو نائمٌ، فقالوا: إنَّ لصاحبكُم هذا مثلاً، مثله كمثل رجُل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبَةً، وبعثَ داعياً فمنْ أجاب الدَّاعِي، دخل الدَّار، وأكل من المَأدبة، ومنْ لمْ يُجبِ الدَّاعي، لم يدخُل الدَّار، ولمْ يأكلْ من المأدُبةِ، فالدَّارُ الجنَّة، والدَّاعي محمَّدٌ، فمن أطاع محمداً، فقد أطاعَ اللهَ، ومنْ عَصَى مُحمداً، فقد عصى الله» .(10/303)
فصل
قال ابن عبَّاسٍ: «الجِنان سبعٌ: دار الجلال، ودار السَّلام، وجنَّة عدن، وجنَّةُ المأوى، وجنَّة الخُلْدِ، وجنَّة الفردوس، وجنَّة النَّعيم» .
ثم قال تعالى: {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : وهو الإسلام.
وروي عن عليِّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال: سمعت رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: الصِّراط المستقيم: كتابُ الله.
وقال قتادة، ومجاهد: هو الحق.
وقيل: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأبو بكر، وعمر.
واحتجَّ أهلُ السُّنَّة: على أنَّ الكفر والإيمان بقضاء الله - تعالى -؛ لأنَّه - تعالى - بيَّن في هذه الآيةِ، أنَّه دعا جميع الخلق إلى دارالسَّلام، ثم بيَّن أنَّه ما هدى إلاَّ بعضهم، فهذه الهدايةُ الخاصَّةُ، يجبُ أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامَّة، ولا شكَّ أنَّ الإقدار، والتمكين، وإرسال الرُّسُل، وإنزال الكُتُب أمورٌ عامَّة، فوجب أن تكون الهداية الخاصَّة مغايرة لكلِّ هذه الأشياء، وما ذاك إلاَّ أنَّه - تعالى - خصَّه بالعلم والمعرفة، دُون غيره.
وأجاب القاضي بوجهين:
الأول: أن المراد: ويهدي الله من يشاء، إلى إجابة تلك الدَّعوة، أي: أنَّ من أجاب الدُّعاء، وأطاع واتَّقَى، فإنَّ الله يهديه إليها.
والثاني: أن المراد بهذه الهداية الألطافُ، وأجيب عن هذين الوجهين، بأنَّ عندكم يجب على الله فعل هذه الهداية، وما يكون واجباً، لا يكون معلَّقاً بالمشيئةِ، فامتنع حمله على ما ذكرتم.(10/304)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} الآية.
لمَّا دعا عبادهُ إلى دار السَّلام، ذكر السَّعادات الحاصلة لهم فيها، فقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} أي: أحسنوا العمل في الدُّنيا، فأتوا المأمورات، واجتنبوا المنهيات.(10/304)
وقال ابن عبَّاسٍ: للذين ذكرُوا كلمة لا إله إلاَّ الله، فأمَّا الحُسْنَى: فهي الجنَّة وأمَّا الزيادة: فقال أبو بكر الصِّدِّيق، وحذيفة، وأبو موسى، وعبادة بن الصامت: هي النَّظرُ إلى وجه الله الكريم، وبه قال الحسن، وعكرمة، وعطاء، ومقاتل، والضحاك، والسدي.
روى ابن أبي ليلى، عن صهيبٍ قال: «قرأ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} قال: إذا دخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّة، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، نادى منادٍ: يا أهل الجنَّة: إنَّ لكم عند الله موعداً، قالوا: ما هذا الموعدُ، ألمْ يُثقِّل موازِيننا، ويُبيض وُوجوهنا، ويدخِلْنَا الجنَّة، ويُنْجِنَا من النَّارِ؟ قال: فيرفعُ الحجابَ فينظرون إلى وجهِ الله - عزَّ وجلَّ -، قال:» فما أعْطُوا شَيْئاً أحَبَّ إليهم من النَّظر إليْهِ «ويؤيد هذا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] .
وقالت المعتزلةُ: لا يجوزُ حملُ الزِّيادة على الرؤية، لوجوه:
أحدها: أنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على أنَّ رؤية الله - تعالى - ممتنعةٌ.
وثانيها: أنَّ الزيادة يجبُ أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤيةُ الله - تعالى - ليست من جنس نعيم الجنَّة.
وثالثها: أنَّ الحديث المرويَّ يوجب التشبيه؛ لأنَّ النظر: عبارةٌ عن تقليب الحدقة، إلى جهة المرئيِّ، وذلك يقتضي كون المرئيِّ في الجهة؛ لأنَّ الوجه اسم للعضو المخصوص، وذلك يوجبُ التشبيه، فثبت أنَّ هذا اللفظ، لا يمكن حملُه على الرُّؤية، فوجب حملهُ على شيء آخر. قال الجبائي: الحُسْنَى: هي الثَّواب المستحق، والزِّيادة:(10/305)
ما يزيده الله على ذلك الثَّواب من التفضُّل، كقوله - تعالى -: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30] ، ونقل عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، أنه قال:» الزِّيادة: غرفة من لُؤلؤة واحدة «.
وعن ابن عبَّاسٍ:» الحُسْنَى: هي الحسنة، والزِّيادة عشرُ أمثالها «، وعن الحسن:» عشُر أمثالها إلى سبْعمائة ضعف «، وعن مجاهد:» الزيادة: مغفرة من الله ورضوان «.
وعن يزيد بن سمرة:» الزِّيادة: أن تمُرَّ السَّحابة بأهْلِ الجنَّة، فتقول: ما تُرِيدُون أن أمطركُم، فلا يُريدُون شيئاً إلاَّ أمطرتهم «.
وأجاب أهل السُّنَّة عن هذه الوجوه، فقالوا: أمَّا قولهم: إنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على امتناع رؤية الله - تعالى -، فهذا ممنوع؛ لأنَّا بيَّنا في كتب الأصُول: أن تلك الدلائل في غاية الفُتُور، وثبت بالأخبارِ الصحيحة إثبات الرُّؤية، كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» هل تُمَارُونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ ليس دُونهَا سَحَاب؟ «
حين سألوه عن رؤية الله - تعالى -، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «هل تُمارُونَ في رُؤيةِ القمرِ ليلة البدر؟» فوجب إجراؤها على ظواهرها.
وقولهم: «الزِّيادة يجبُ أن تكُون من جنْسِ المزيد عليه» ، فنقول: المزيد عليه إذا كان مقدراً بمقدار معيَّن، كانت الزِّيادةُ من جنسها، وإذا كان مقدراً بمقدار غير معيَّن، وجب أن تكون الزِّيادة مخالفة له، مثال الأول: قول الرَّجُل لغيره: أعطْتُك عشرة أمدادٍ من الحنطة وزيادة، فتكون تلك الزيادة من الحنطة، ومثال الثاني: قوله أعطيتك الحنطة وزيادة، فيجبُ أن تكون الزِّيادة غير الحنطة.
فلفظ: «الحُسْنَى» : وهي الجنَّة، مطلقة، وهي غير مقدَّرة بقدر معيَّن، فتكون الزِّيادة شيئاً مغايراً لما في الجنة.(10/306)
وقولهم: «الحديثُ يدلُّ على إثبات الوجه، وذلك يوجب التشبيه» ، فنقولُ: قام الدَّليل على أنَّه - تعالى - ليس بجسم، ولم يقم الدَّليلُ على امتناع الرُّؤية، فوجب ترك العمل بما قام الدَّليل على فساده.
فصل
قال أبو العبَّاس المقري: وردت الحُسْنَى على أربعة معان:
الأول: بمعنى الجنَّة، قال - تعالى -: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] .
الثاني: الحسنى: الصَّلاح، قال - تعالى -: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} [التوبة: 107] أي: الصَّلاح.
الثالث: البنون، قال - تعالى -: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى} [النحل: 62] أي: البنُون.
الرابع: الخلف في النفقة، قال - تعالى -: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى} [الليل: 5 - 6] أي: بالخلف، ومثله {وَكَذَّبَ بالحسنى} [الليل: 9] .
قوله: «وَلاَ يَرْهَقُ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها مستأنفةٌ.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال: الاستقرار الذي تضمَّنَهُ الجارُّ، وهو «للَّذين» لوقوعه خبراً عن «الحُسْنَى» ، قاله أبو البقاء، وقدَّره بقوله: «استقرَّ لهم الحسنى، مضموناً لهم السَّلامة» ، وهذا ليس بجائزٍ؛ لأنَّ المضارع متى وقع حالاً منْفيَّا ب «لا» ، امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت، وإن ورد ما يُوهم ذلك، يُؤوَّل بإضمار مبتدأ، وقد تقدَّم تحقيقه مراراً [المائدة: 54] .
والثالث: أنها في محلِّ رفع نسقاً على «الحُسْنَى» ، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدريٍّ، يصحُّ جعلُه معه مخبراً عنه بالجارِّ، والتقدير: للذين أحسنوا الحسنى، وأنْ لا يرهق، أي: وعدم رهقهم، فلمَّا حذفت «أنْ» رفع الفعلُ المضارع؛ لأنَّه ليس من مواضع إضمار «أن» الناصبة، وهذا كقوله - تعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] أي: أن يريكم، وقوله: «تسْمَع بالمُعَيدي، خيرٌ من أن تراه» .
وقوله: [الطويل]
2889 - ألاَ أيُّهَا الزَّاجري أحْضُرُ الوغَى..... ... ... ... ... ... ... ...
أي. أن أحضر، روي برفع «أحْضُر» ونصبه، ومنع أبو البقاء هذا الوجه، وقال: «ولا يجوز أن يكون معطوفاً على» الحُسْنَى «؛ لأنَّ الفعل إذا عطف على المصدر، احتاج(10/307)
إلى» أنْ «ذكراً، أو تقديراً، و» أنْ «غير مقدَّرة؛ لأن الفعل مرفوعٌ» .
فقوله: «وأنْ غيرُ مقدَّرةٍ؛ لأنَّ الفعل» مرفوع «ليس بجيِّد؛ لأن قوله - تعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] معه» أنْ «مقدَّرة، مع أنه مرفوع، ولا يلزم من إضمار» أنْ «نصب المضارع، بل المشهور أنَّهُ: إذا أضمرت» أنْ «في غير المواضع التي نصَّ النحويُّون على إضمارها فيها ناصبة، ارتفع الفعلُ، والنصب] قليلٌ جدّاً.
فصل
والرَّهق: الغشيان، يقال: رَهِقَهُ يَرْهقُه رَهَقاً، أي: غشيهُ بسرعة، ومنه {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي} [الكهف: 73] ، {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} [الجن: 13] . يقال: رَهِقْتُه وأرْهَقْتُه نحو: رَدِفْتُه وأرْدَفْتُه، ففعل وأفعل بمعنًى، ومنه:» أرْهَقْت الصَّلاة «، إذا أخَّرْتَها، حتى غَشِي وقتُ الأخرى، ورجلٌ مُرْهقٌ، أي: يغشاه الأضياف.
وقال الأزهريُّ:» الرَّهَقُ: اسم من الإرهاق، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيقُ، ويقال: أرْهَقْتُهُ عن الصَّلاةِ، أي: أعْجَلْتُه عنها «.
وقال بعضهم: أصل الرَّهقِ، المقاربةُ، ومنه غلامٌ مراهقٌ، أي: قارب الحلم، ومنه الحديث» ارْهَقُوا القبلة «، أي: أقربُوا منها، ومنه: رهقت الكلابُ الصَّيدَ، أي: لحقته، والقَتَر والقَتَرة، الغُبَارُ معه سوادٌ؛ وأنشدوا للفرزدق: [البسيط]
2890 - مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ المُلْكِ يتْبَعُهُ ... مَوْجٌ تَرَى فوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا
أي: غبار العسكر، وقيل: القَتَرُ: الدُّخان، ومنه: قُتارُ القِدْر، وقيل: القَتْر: التَّقليل، ومنه {لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] ، ويقال: قَتَرْتُ الشَّيء وأقْتَرْتُهُ وقتَّرته، أي: قَلَّلتُه، ومنه {وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} [البقرة: 236] وقد تقدَّم، والقترة، نامُوس الصَّائد، وقيل: الحفرة، ومنه قول امرىء القيس: [المديد]
2891 - رُبَّ رامٍ بَنِي ثُعلٍ ... مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِه
أي: في حُفرتهِ التي يحفُرها، وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر، وأبو رجاء، والأعمش:» قَتْرٌ «، بسكون التاء، وهما لغتان: قَتْر وقَتَر، كقَدْر وقَدَر.(10/308)
فصل
المعنى: لا يَغْشَى وجوههم قتر: غبار، جمع قترة، وقال ابن عبَّاس، وقتادة: سواد الوُجُوه،» ولا ذلَّةٌ «: هوان، وقال قتادة:» كآبة «قال ابن أبي ليلى:» هذا بعد نظرهم إلى ربِّهم «، {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إشارة إلى كونها دائمة، آمنة من الانقطاع.
قوله تعالى: {والذين كَسَبُواْ السيئات} الآية.
لمَّا شرح حال المسلمين، شرح بعدهُ حال المُسيئين.
قوله: {والذين كَسَبُواْ} : فيه سبعةُ أوجه:
أحدها: أن يكون» والذين «: نسقاً على» لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ «، أي: لِلَّذينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى، والذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جزاءُ سيِّئةٍ بمثلها، فيتعادل التَّقسيم، كقولك: في الدَّار زيدق، والحجرة عمرٌو، وهذا يسمِّيه النحويُّون: عطفاً على معمولي عاملين، وفيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: الجواز مطلقاً، وهو قول الفرَّاء.
والثاني: المنعُ مطلقاً، وهو مذهبُ سيبويه.
والثالث: التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو: في الدَّار زيدٌ، والحجرة عمرو، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو: إن زيداً في الدَّار، وعمراً في القصر، أي: وإنَّ عمراً في القصر، وسيبويه وأتباعهُ يُخَرِّجُون ما ورد منه على إضمار الجارِّ، كقوله - تعالى -: {واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرياح آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5] بنصب «آيَات» في قراءة الأخوين، على ما سيأتي؛ كقوله: [المتقارب]
2892 - أكُلَّ امرىءٍ تَحْسَبينَ امْرَأ ... ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا
وقول الآخر: [الرجز]
2893 - أوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قَلْباً حُرّاً ... بالكَلْبِ خَيْراً والحَمَاةِ شَرًّا(10/309)
وسيأتي لهذا مزيد بيان - إن شاء الله -، وممَّن ذهب إلى أنَّ هذا الموصول مجرورٌ عطفاً على الموصول قبله: ابن عطيَّة، وأبو القاسم الزمخشري.
الثاني: أن «الَّذينَ» مبتدأ، و «جَزَآءُ سَيِّئَةٍ» مبتدأ ثانٍ، وخبره «بمثلها» ، والباء فيه زائدةٌ، أي: وجزاءُ سيئةٍ مثلها، كقوله - تعالى -: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] كما زيدتْ في الخبرِ، كقوله: [الوافر]
2894 - فَلاَ تَطْمَعْ - أبَيْتَ اللَّعنَ - فيها ... ومنْعُكُهَا بشيءٍ يُسْتَطَاعُ
أي: شيء يُستطاع.
وكقول امرىء القيس: [الطويل]
2895 - أ - فإنْ عنْهَا حِقْبَةً لا تُلاقِهَا ... فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
أي: المُجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية.
الثالث: أنَّ الباء ليست بزائدةٍ، والتقدير: مقدَّر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُهُ خَبَرٌ عن الأول.
والرابع: أنَّ خبر «جزاء سيَّئةٍ» محذوفٌ، فقدَّرهُ الحُوفيُّ بقوله: «لهم جزاءُ سيئة» ، قال: ودلَّ على تقدير «لَهُمْ» ، قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} حتى تتشاكل هذه بهذه، وقدَّرهُ أبو البقاء: جزاءُ سيِّئة مثلها واقع، وهُو وخبرُهُ أيضاً خبرٌ عن الأول، وعلى هذين التقديرين، فالباء متعلقةٌ بنفس «جزاءُ» ؛ لأنَّ هذه المادَّة تتعدَّى بالباءِ، قال - تعالى -: {جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} [سبأ: 17] ، {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} [الإنسان: 12] إلى غير ذلك.
فإن قلت: أين الرَّابطُ بين هذه الجملة، والموصول الذي هو المبتدأ.
قلت: على تقدير الحوفيُّ، هو الضمرُ المجرور باللاَّم المقدَّر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء: هو محذوفٌ، تقديره: جزاءُ سيئة بمثلها منهُم واقعٌ، نحو: «السَّمْنُ منوانِ بدرهم» ، وهو حذفٌ مُطَّرِد، لما عرف.
الخامس: أن يكون الخبرُ، الجملة المنفيَّة من قوله: {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} ، ويكون «مِنْ عَاصمٍ» إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله؛ لاعتماده على النَّفي، وإمَّا مبتدأ، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و «مِنْ» مزيدة فيه على كلا القولين، و «مِنَ الله» متعلِّق ب «عَاصِم» ، وعلى(10/310)
كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ، وفي ذلك خلافٌ عن الفارسيِّ تقدَّم التنبيهُ عليه، وما استدلَّ به عليه.
السادس: أنَّ الخبر هو الجملةُ التشبيهيَّة، من قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} ، و «كأنَّما» حرف مكفوف، و «مَا» هذه زائدة، تُسمَّى كافَّة ومُهيئة، وتقدَّم ذلك [البقرة: 11] . وعلى هذا الوجه، فيكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بثلاث جمل اعتراضٍ.
السابع: أنَّ الخبر هو الجملة من قوله: {أولئك أَصْحَابُ النار} ، وعلى هذا القول، فيكون قد فصل بأربع جمل معترضة.
وهي: {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} .
والثانية: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} .
والثالثة: {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} .
الرابعة: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} ، وينبغي أن لا يجُوزَ الفصل بثلاث جُمل فضلاً عن أربع.
قوله: «وَتَرْهَقُهمْ» فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها في محلِّ نصب على الحال، ولم يُبيِّنْ أبو البقاء صاحبها، وصاحبها هو الموصولُ أو ضميره، وفيه ضعفٌ؛ لمباشرته الواو، إلاَّ أنْ يجعل خبر مبتدأ محذوف.
الثاني: أنَّها معطوفةٌ على «كَسَبُوا» .
قال أبو البقاء: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ المستقبل لا يعطفُ على الماضي، فإن قيل: هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً، وقرىء: «ويرْهَقُهمْ» بالياء من تحت؛ لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ.
قوله: «قطعاً» قرأ ابنُ كثير، والكسائي، «قِطْعاً» بسكون الطاء، والباقون بفتحها: «فأمَّا القراءة الأولى فاختلفت عبارات النَّاس فيها: فقال أهل اللغة:» القِطْع «: ظُلْمَة آخر الليل.
وقال الأخفش في قوله: {بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} [الحجر: 65] بسواد من الليل، وقال بعضهم:» طائف من الليل «، وأنشد الأخفش:
2895 - ب - افتحي الباب فانظري في النجومِ ... كم علينا من قطعِ ليلٍ بهيم
وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ» قطعة «نحو: دِمْنة ودِمَن، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب» مظلماً «، فإنه على قراءة الكسائي وابن كثير يجوز أن يكون نعتاً ل»(10/311)
قِطْعاً «، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه حالٌ من» قِطْعاً «، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه حالٌ من» قِطْعاً «، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو» من الليل «.
والثاني: أنه حالٌ من» الليل «.
والثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة.
قال الزمخشري: فإن قلت: إذا جعلت» مظلماً «حالاً من» الليل «فما العاملُ فيه؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكون» أغْشِيَتْ «من قبل أنَّ» من الليل «صفةٌ لقوله:» قِطْعاً «، وكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكون معنى الفعل في» من الليل «. قال أبو حيان:» أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصل أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في ذي الحال، والعاملُ في «من الليل» هو الاستقرار، و «أغْشِيَتْ» عاملٌ في قوله: «قطعاً» الموصوف بقوله: «من الليل» فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أولى، أي: قطعاً مستقرة من الليل، أو كائنة من الليل في حال إظلامه «.
وقال شهاب الدِّين: ولا يعني الزمخشري بقوله: «إنَّ العامل أغْشِيَتْ» ، إلاَّ أن الموصوف، وهو «قِطْعاً» معمول ل «أغْشِيَتْ» ، والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصِّفة.
قال شهاب الدين: والصِّفةُ هي «مِنَ الليل» فهي معمولةٌ ل «أغْشِيَتْ» ، وهي صاحبةُ الحال، والعامل في الحالِ هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العامل في احال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقة، ويجوز أن يكون «قِطْعاً» : جمع قِطْعَة، أي: اسم جنسٍ لها، فيجُوزُ حينئذٍ وصفُه بالتَّذكير، نحو: {نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] ، والتأنيث، نحو: {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] .
وأمَّا قراءة الباقين، فقال مكِّي، وغيره: إنَّ «مظلماً» حالٌ من «اللَّيْلِ» فقط، ولا يجوز أن يكون صفة ل «قِطعاً» ، ولا حالاً منه، ولا من الضمير في «مِنَ اللَّيل» ؛ لأنَّه كان يجبُ أن يقال فيه: مظلمةٌ، يعنُون: أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال، فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعهُ هؤلاء، وقالوا: جَازَ ذلك؛ لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ.
وقرأ أبيٌّ «يَغْشَى وجوههم قطع» بالرفع، و «مُظْلمٌ» ، وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الطَّاء. وإذا جعلتَ «مُظْلماً» ، نعتاً ل «قِطْعاً» ، فتكون قد قدَّمتَ النَّعْتَ غير الصَّريح على الصَّريح.(10/312)
قال ابن عطيَّة: فإذا كان نعتاً - يعني: مُظلماً: نعتاً لقطع - فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيء بعد هذا، وتقدير الجملة: قطعاً استقرَّ مظلماً، على نحو قوله: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] .
قال أبو حيَّان: «ولا يتعيَّن تقدير العامل في المجرور بالفعل، فيكون جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: قطعاً كائناً من اللَّيل مُظْلِماً» .
قال شهاب الدِّين: «المحذُورُ تقديمُ غير الصَّريح على الصَّريح، ولو كان مُقدَّراً بمفرد» ، و «قِطَعاً» : منصوبٌ ب «أغْشِيتْ» ، مفعولاً ثانياً.
فصل
المعنى: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} ؛ لقوله: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] .
والفرق بين الحسنات والسيئات: أنَّه إذا زاد في الحسنات يكون تفضُّلاً، وذلك حسن، وفيه ترغيبٌ في الطَّاعة، وأمَّا الزِّيادة على قدر الاستحقاق على السيئات، فهو ظلمٌ، والله منزله عنه، ثم قال: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي: هوانٌ وتحقير {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي: ما لهم عاصمٌ من الله في الدُّنيا، ولا في الآخرة، {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} أي: أُلْبِسَتْ وجوههم، {قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً} والمراد: سوادُ الوجه.
وقال حكماء الإسلام: المرادُ من هذا السَّواد، سوادُ الجَهْل، وظلمةُ الضَّلالة، فإنَّ العلم طبعه طبع النُّور، والجهل طبعُه طبع الظُّلْمَة.
قيل: المراد بقوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات} : الكفار؛ لأن سواد الوجه من علامات الكفر، قال تعالى: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [آل عمران: 160] وقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 40 - 42] .
وقال القاضي: {والذين كَسَبُواْ السيئات} عامٌّ يتناول الكافر، والفاسق، وأجيبُ: بأن الصيغة وإن كانت عامَّة، إلاَّ أن الدلائل التي ذكرناها مخصِّصة، ثم قال: {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(10/313)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
قوله - تعالى -: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} الآية.
«يَوْمَ» منصوب بفعلٍ مقدَّر، أي: خوَّفهم، أو ذكرهم يوم، والضميرُ عائد على الفريقين أي: الذين أحسنوا، والذين كسبوا. و «جَمِيعاً» : حال، ويجُوزُ أن يكون تأكيداً، عند من عدَّها من ألفاظ التَّأكيد.
قوله: «مَكَانكُمْ» اسمٌ فعل، ففسَّره النحويُّون ب «اثبُتُوا» فيحمل ضميراً، ولذلك أكَّد بقوله: «أنْتُم» ، وعطف عليه «شُرَكاؤكُم» ؛ ومنه قول الشاعر: [الوافر]
2896 - وقَولِي كُلَّمَا جَشَأتْ وجاشَتْ ... مكانكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحي
أي: اثبتي، ويدلُّ على ذلك جزمُ جوابه، وهو «تُحْمَدي» ، وفسَّره الزمخشري: ب «الزمُوا» قال: مكانكُم، أي: الزموا مكانكُم، لا تبرَحُوا حتى تنظروا ما يفعل بكم «.
قال أبو حيَّان: وتقديره له ب» الزمُوا «ليس بجيِّد، إذ لو كان كذلك؛ لتعدَّى كما يتعدَّى ما ناب هذا عنهُ، فإنَّ اسمَ الفعل يُعَامل معاملة مُسمَّاة، ولذلك لمَّا قدَّرُوا» عليك «، بمعنى:» الزم «عدَّوْه تعديته نحو: عليْكَ زيداً.
قال شهابُ الدِّين» فالزمخشري قد سبق التَّفسير، والعُذرُ لمن فسَّرهُ بذلك، أنه قصد تفسير المعنى «، قال الحوفي:» مكانكُم نُصب بإضمار فعل، أي: الزمُوا مكانَكُم أو اثبُتوا «. وكذلك فسرهُ أبو البقاء، فقال:» مَكَانَكُمْ «ظرفٌ مبنيٌّ؛ لوقوعه موقع الأمر، أي:» الزمُوا «.
وهذا الذي ذكره من كونه مبنيّاً، فيه خلاف للنحويين: منهم من ذهب إلى ما ذكر، ومنهم من ذهب إلى أنَّه حركةُ إعراب، وهذان الوجهان مبنيان على خلاف في أسماء الأفعال هل لها محلٌّ من الإعراب أو لا؟ فإن قلنا لها محلٌّ، كانت حركاتُ الظرفِ حركاتِ إعراب، وإن قلنا لا موضع لها، كانت حركاتِ بناءٍ، وأمَّا تقديره: ب» الزَمُوا «، فقد تقدَّم جوابه. قوله:» أنْتُم «فيه وجهان:(10/314)
أحدهما: أنَّه تأكيدٌ للضمير المستتر في الظرف، لقيامه مقام الفاعل، كما تقدَّم التنبيه عليه.
والثاني: أجازهُ ابن عطيَّة، وهو أن يكون مبتدأ، و» شُرَكاؤُكُم «معطوفٌ عليه، وخبرُهُ محذوفٌ، قال:» تقديره: أنتم وشركاؤكم مهانون، أو معذبون «، وعلى هذا فيوقفُ على قوله:» مَكَانَكُم «ثم يبتدأ بقوله:» أنتُم «، وهذا لا ينبغي أن يقال، لأنَّ فيه تفكيكاً لأفصحِ كلام، وتبتيراً لنظمه، من غير داعيةٍ إلى ذلك؛ ولأنَّ قراءة من قرأ» وشُرَكاءكُمْ «نصباً، تدل على ضعفه، إذ لا تكونُ إلاَّ من الوجه الأوَّل؛ ولقوله:» فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ «، فهذا يدلُّ على أنَّهم أمروا هُم وشُركاؤهم بالثّبات في مكانٍ واحدٍ، حتى يحصل التَّنزيل بينهم.
وقال ابن عطية أيضاً: «ويجوزُ أن يكون» أنتُمْ «تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدَّر الذي هو» قفوا «ونحوه» .
قال أبُو حيَّان: وهذا ليس بجيّدٍ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل، لجاز تقديمُه على الظَّرفِ، إذ الظرفُ لم يتحمَّل ضميراً على هذا القول، فيلزمُ تأخيره عنهُ، وهو غير جائزٍ، لا تقول: «أنت مكانك» ولا يحفظ من كلامهم.
والأصحُّ: أنَّه لا يجوز حذفُ المؤكِّد في التَّأكيد المعنويِّ، فكذا هذا؛ لأنَّ التأكيد ينافي الحذف، وليس من كلامهم: «أنت زيداً» لمن رأيته قد شهر سيفاً، وأنت تُريد «اضرب أنت زيداً» ، إنَّما كلامُ العرب: «زيداً» تُريدُ: اضرب زيداً.
قال شهاب الدِّين: «لَمْ يَعْنِ ابنُ عطيَّة، أنَّ» أنْتَ «تأكيد لذلك الضمير في» قِفُوا «من حيث إنَّ الفعل مرادٌ غير منُوبٍ عنهُ؛ بل لأنَّه ناب عنه هذا الظرفُ، فهو تأكيدٌ له في الأصل؛ قبل النِّيابة عنه بالظرف، وإنَّما قال: الذي هو» قفوا «تفسيراً للمعنى المقدر» . وقرأ فرقة «وشُرَكاءكُمْ» نصباً على المعيَّة، والنَّاصب له اسم الفعل.
قوله: «فَزَيَّلْنَا» ، أي: فرَّقنا وميَّزنا؛ كقوله - تعالى -: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا} [الفتح: 25] .
واختلفوا في «زيَّل» هل وزنه فعَّل أو فيعل؟ .
والظاهر الأول، والتضعيفُ فيه للتَّكثيرِ، لا للتَّعدية، لأنَّ ثلاثية مُتعدِّ بنفسه، حكى الفراء: «زِلْتُ الضَّأن من المعز، فلم تَزِل» ويقال زلتُ الشَّيء من مكانه أزيلُهُ، وهو على هذا من ذوات الياء.
والثاني: أنه فَيْعَل كبيطر وبيقر، وهو من زالَ يزولُ، والأصل: «زَيْوَلْنَا» ، فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكون، فأعلت بقلب الواو ياء، وإدغام الياء فيها، ك «(10/315)
مَيِّت وسيِّد» في: ميوت سَيْود، وعلى هذا فهو من مادة الواو، وإلى هذا ذهب ابنُ قتيبة، وتبعه أبو البقاء.
وقال مكِّي: «ولا يجوز أن يكون فعَّلنا من زال يزول؛ لأنَّه يلزم في الواو فيكون زَوَّلنا» . وهذا صحيحٌ، وقد تقدَّم تحرير ذلك في قوله: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] .
وردَّ أبو حيَّان كونه «فَيْعَل» ، بأنَّ «فَعَّلَ» أكثر من «فَيْعَل» ؛ ولأنَّ مصدره التَّنزيل، ولو كان «فَيْعل» ، لكان مصدره «فَيْعلة» كبيطرة؛ لأن «فَيْعَل» ملحقٌ «بفَعْلَلَ» ، ولقولهم في معناه: «زَايَل» ، ولم يقولوا: «زاول» ، بمعنى: «فارق» ، إنَّما قالوه بمعنى: «حَاول وخالط» ، وحكى الفرَّاء: «فَزايَلْنا» ، وبها قرأت فرقة، قال الزمخشري: «مثل صَاعَرَ خدَّه، وصعَّره، وكالمتُه وكلَّمتُه» .
يعني: أنَّ «فاعل» بمعنى: «فعَّل» ، و «زَايلَ» بمعنى: «فَارَقَ» .
قال: [الطويل]
2897 - وقَالَ العَذَارَى: إنَّما أنْتَ عَمُّنَا ... وكَانَ الشَّبَابُ كالخَليطِ يُزايلُهْ
وقال آخر: [الطويل]
2898 - لعَمْري لمَوْتٌ لا عُقُوبةَ بعدَهُ ... لِذي البَثِّ أشْفَى من هَوًى لا يُزايلهْ
أي: يفارقه.
وقوله - تعالى -: «فَزيَّلْنا» ، و «قال» هذان الفعلان ماضيان لفظاً، مستقبلان معنًى؛ لعطفهما على مستقبل، وهو «ويَوْمَ نَحْشُرهُمْ» ، وهما نظيرُ قوله - تعالى -: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ} [هود: 98] . و «إِيَّانَا» : مفعولٌ مقدمٌ، قُدِّم للاهتمام به والاختصاص، وهو واجبُ التَّقديم على ناصبه؛ لأنَّه ضميرٌ منفصلٌ، لو تأخَّر عنه، لزم اتِّصاله، وقد تقدَّم الكلامُ على ما بعد هذا من «كَفَى» المخففة، واللاَّم التي بعدها، بما يُغْنِي عن الإعادة. [البقرة198] .
فصل
المعنى «ويَوْمَ نَحْشُرهُمْ» العابد والمعبُود، ثمَّ إن المعبود يتبرَّأ من العابد، ويتبيَّن لهُ أنَّه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته، ونظيرهُ قوله - تعالى -: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166] ، وقوله: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] .
و «الحَشْر» : الجمع من كل جانبٍ إلى موقفٍ واحدٍ {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} أي: الزَمُوا مكانكم «وشُرَكاؤكُم» يعني: الأوثان، حتَّى تسألوا، «فزيَّلْنَا بَيْنَهُم»(10/316)
أي: ميَّزنا وفرَّقنا بينهم، وجاءت هذه الكلمة على لفظ الماضي، بعد قوله: «ثُمَّ نقُولُ» وهو مستقبل؛ لأنَّ ما جاءكم الله بِهِ، سيكون صار كالكائن الآن، كقوله: {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] .
وأضاف الشُّركاء إليهم؛ لأنَّهم جعلُوا لهم نصيباً من أموالهم.
وقيل: لأنَّ الإضافة يكفي فيها أدنى تعليق، فلمَّا كان الكُفَّار هُم الذين أثبتُوا هذه الشَّركة، حسنت إضافة الشركاءِ إليهم، وقيل: لمَّا خاطب العابدين والمعبودين بقوله «مَكانَكُم» صارُوا شُركاء في هذا الخطاب.
قال بعض المُفسِّرين: المراد بهؤلاء الشُّركاء: الملائكة، واستشهدُوا بقوله - تعالى -: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] ، وقيل: هم الأصنام، ثم اختلف هؤلاء كيف ذكرت الأصنام هذا الكلام؟ فقيل: إن الله - تعالى - يخلقُ فيها الحياة والعقل والنُّطق، وقيل: يخلق فيهم الرُّوح من غير حياةٍ، حتَّى يسمعُوا منهم ذلك.
فإن قيل: إذا أحياهُم الله هل يبقيهم أو يفنيهم؟ .
فالجوابُ: أنَّ الكلَّ محتملٌ، ولا اعتراض على الله في أفعاله، وأحوال القيامة غير معلومة، إلاَّ القليل، ولا شك أن هذا خطاب تهديدٍ في حق العابدين، فهل يكُون تهديداً في حق المعبودين؟ قالت المعتزلة: لا يجُوزُ ذلك؛ لأنَّه لا ذنب للمعبود، ومن لا ذنب له، لم يصحَّ تهديده، وتخويفه، وقال أهلُ السُّنَّة: لا يسأل عما يفعل.
فإن قيل: قول الشركاء: {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} وهم كانوا قد عبدوهم، يكون كذباً، وقد تقدَّم في سورة الأنعام، اختلاف الناس في أنَّ أهل القيامة هل يكذبون أم لا؟ .
والجواب ههنا: أنَّ منهم من قال: المراد من قولهم: «مَا كُنتُمْ إيَّانَا تَعْبُدُونَ» : هو أنَّكُم ما عبدْتُمُونَا بأمرنا وإرادتنا؛ لأنَّهم استشهدوا بالله في ذلك بقولهم: {فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ، وبقولهم: {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} ، ومن النَّاس من أجْرَى الآية على ظاهرها، وقالوا: إنَّ الشُّركاء أخبروا أنَّ الكفار ما عبدوها لوجوه:
الأول: أنَّ ذلك الموقف موقفُ دهشة وحيرة، فذلك الكذبُ جارٍ مجرى كذب الصبيان، والمجانين والمدهوشين.
الثاني: أنَّهم ما أقامُوا لأعمال الكُفَّار وزناً، وجعلوها لبطلانها كالعدم، فلهذا قالوا: ما عبدونا.
الثالث: أنهم تخيَّلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة، فهم في الحقيقة إنَّما عبدوا ذواتاً موصوفة بتلك الصفات، ولمَّا كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات، فهم ما عبدوها، وإنما عبدوا أموراً تخيَّلُوها ولا وجود لها في الأعيان، وتلك الصِّفات التي تخيَّلوها في الأصنام: أنها تضرُّ، وتنفع، وتشفع عند الله.(10/317)
قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} الآية.
في «هُنالِكَ» وجهان:
أظهرهما: بقاؤه على أصله، من دلالته على ظرف المكان، أي: في ذلك الموقف الدَّحض، والمكان الدَّهش. وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] ، أي: في ذلك الوقت؛ وكقوله: [الكامل]
2899 - وإذَا الأمُورُ تَعاظَمَتْ وتَشاكَلَتْ ... فهُناكَ يَعْترِفُون أيْنَ المفْزعُ
وإذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه، فهو أولى.
وقرأ الأخوان «تَتْلُو» بتاءين منقوطتين من فوق، أي: تطلب وتتبع ما أسلفته من أعمالها، ومن هذا قوله: [الرجز]
2900 - إنَّ المُريبَ يتْبَعُ المُرِيبَا ... كَمَا رَأيْتَ الذِّيبَ يتلُو الذِّيبَا
أي: يتبعه ويتطلَّبه، ويجوز أن يكون من التلاوة المتعارفة، أي: تقرأ كلُّ نفس ما عملته مسطَّراً في صحف الحفظة، لقوله - تعالى -: {ياويلتنا مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] ، وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء: 13] .
وقرأ الباقون: «تَبْلُوا» من البلاء، وهو الاختبار، أي: يعرف عملها: أخيرٌ هو أم شر، وقرأ عاصم في رواية «نَبلو» بالنُّون والباء الموحَّدة، أي: نَخْتَبر نحنُ، و «كُلَّ» منصُوب على المفعول به، وقوله «مَا أسْلفَتْ» على هذا القراءة يحتمل أن يكون في محلِّ نصبٍ، على إسقاطِ الخافض، أي: بما أسْلفَتْ، فلمَّا سقط الخافض، انتصب مَجْرُوره؛ كقوله: [الوافر]
2901 - تَمُرُّونَ الدِّيارَ فَلَمْ تَعُوجُوا ... كلامُكُمُ عليَّ إذنْ حَرَامُ
ويحتمل أن يكون منصوباً على البدل من «كُلُّ نَفْسٍ» ويكون من بدل الاشتمال. ويجُوزُ أن يكون «نَبْلُو» من البلاء، وهو العذاب. أي: نُعَذبها بسبب ما أسلفت، و «مَا» يجوز أن تكون موصولةً اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، والعائدُ محذوفٌ على التقدير الأول، والآخر دون الثاني على المَشْهُور.(10/318)
وقرأ ابنُ وثَّاب: «وَرِدُّوا» بكسر الرَّاء، تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة، نحو: «قيل» و «بيع» ، ومثله: [الطويل]
2902 - ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلمائِنَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
بكسر الحاء، وقد تقدَّم بيانُ ذلك [البقرة: 11] .
قوله: «إِلَى الله» لا بُدَّ من مضاف، أي: إلى جزاءِ الله، أو موقف جزائه.
والجمهور على «الحقِّ» جرًّا، وقرئ منصوباً على أحد وجهين:
إمَّا القطع، وأصله أنَّه تابعٌ، فقطع بإضمار «أمدح» ، كقولهم: الحمدُ لله أهل الحمد.
وإمَّا أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملة المتقدمة، وهو «رُدُّوا إلى الله» وإليه نحا الزمخشريُّ. قال: كقولك: «هذا عبدُ الله الحَقُّ، لا الباطل» على التَّأكيد؛ لقوله: «رُدُّوا إلى اللهِ» .
وقال مكِّي: «ويجوزُ نصبهُ على المصدر، ولم يُقرأ به» ، وكأنَّه لم يطلع على هذه القراءة، وقوله: «مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ» «مَا» تحتمل الأوجُه الثلاثة.
المعنى: «هُنالِكَ» : في ذلك الوقت، «نَبْلُو» أي: نختبر، والمعنى: يفعلُ بها فعل المختبر، وعلى القراءة الأخرى: أنَّ كلَّ نفس نختبر أعمالها، في ذلك الوقت.
{وردوا إِلَى الله} أي: رُدُّوا إلى جزاءِ الله، قال ابن عبَّاسٍ: «مولاهُمُ الحقّ» أي: الذي يجازيهم بالحق، وقيل: جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلاهيته، {مَوْلاَهُمُ الحق} [الأنعام: 62] في الأنعام. «وضلَّ عَنْهُم» : زال وبطل، «مَّا كانُوا يفْتَرون» أي: يعبدون، ويعتقدُون أنهم شفعاء، فإن قيل: قد قال: {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] ، قيل: المولى هناك هو الناصر، وههنا بمعنى الملك.(10/319)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} الآية.
لمَّا ذكر فضائح عبدة الأوثان، أتبعها بذكر الدَّلائل الدَّالَّة على فسادِ هذا المذهب: وهي أحوال الرزق، وأحوال الحواس، وأحوال الموْتِ والحياة: أمَّا الرزقُ، فإنَّه إنَّما(10/319)
يحصل من السماء والأرض: أمَّا من السَّماء، فبنُزُول المطر الموافق، وأمَّا من الأرض، فلأنَّ الغذاء إمَّا أن يكون نباتاً، أو حيواناً: أمَّا النبات فلأنَّ الأرض تُنبتُه، وأمَّا الحيوانُ، فهو محتاجٌ أيضاً إلى الغذاء، ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوانٍ، حيواناً آخر، وإلا لزم التَّسلسل، وهو محالٌ، فثبت أنَّ غذاء الحيوان، يجب انتهاؤه إلى النَّبات، والنبات إنما يتولَّد من الأرض، فثبت أنَّ الرزق إنما يحصلُ من السَّماء والأرض، ولا مُدَبِّر لهما إلاَّ الله - تعالى -، وأمَّا أحوال الحواسِّ فكذلك، قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظمٍ، وأنْطَق بلحم.
قوله: «مِّنَ السمآء» : «مِنْ» يجُوزُ أن تكون لا بتداء الغاية، وأن تكون للتبعيض، وأن تكون لبيان الجنس، ولا بُدَّ على هذين الوجهين من مضاف محذوف، أي: من أهل السَّماء، قوله: «أمْ» المنقطعة؛ لأنَّهُ لم تتقدَّمها همزةُ استفهام ولا تسوية، ولكن إنَّما تُقدَّر هنا ب «بل» وحدها، دون الهمزة، وقد تقرَّر أنَّ المنقطعة عند الجمهور تُقدَّر بهما، وإنما لم تتقدَّر هنا ب «بل» والهمزة؛ لأنَّها وقع بعدها اسم استفهام صريح، وهو «مَنْ» ، فهو كقوله - تعالى -: {أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 84] ، والإضرابُ هنا على القاعدةِ المقررة في القرآن، أنه إضرابُ انتقالٍ، لا إضرابُ إبطالٍ.
قوله: {وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} .
قيل: يخرج الإنسان من النطفة، والطائر من البيضة، {وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} : يخرج النُّطفة والبيضة من الإنسان، والطَّار، وقيل: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، ثم قال: {وَمَن يُدَبِّرُ الأمر} وهذا كلام كليٌّ؛ لأنَّ تدبير أقسام الله في العالم العُلويِّ، والسُّفلي أمور لا نهاية لها، وذكرها كالمُتعذِّر، فلمَّا ذكر بعض تلك التفاصيل؛ عقَّبها بالكلام الكلِّي ليدلَّ على الباقي، ثم بيَّن أنَّ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، إذا سألهم عن مُدَبِّر هذه الأمور، فسيقولون هو الله، وهذا يدلُّ على أنَّ المخاطبين بهذا الكلام، كانُوا يعرفون الله تعالى، ويقرون به، وهم الذين قالوا في عبادتهم الأصنام: إنَّها تُقربنا إلى الله زُلْفَى، وأنَّهم شفعاؤنا عند الله، وكانوا يعلمُون أنَّ هذه الأصنام، لا تنفع ولا تضرُّ، فعند ذلك قال لرسلوه: {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} الشرك مع هذا الإقرار، وقيل: أفلا تخافون عقابه في شِرْكِكُم؟ .
قوله: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ} الذي يفعل هذه الأشياء، هو ربُّكم الحقُّ.
قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ} يجوز أن يكون «مَاذَا» كلُّه اسماً واحداً؛ لتركُّبهما، وغُلِّب الاستفهامُ على اسم الإشارة، وصار معنى الاستفهام هنا النَّفْيَ، ولذلك أوجب بعده ب «إلاَّ» ، ويجوز أن يكون «ذَا» موصولاً بمعنى: «الَّذي» ، والاستفهام أيضاً بمعنى: النَّفْي؛ والتقدير: ما الذي بعد الحقِّ إلاَّ الضَّلال؟ .
وإذا ثبت أنَّ الله هو الحقُّ، وجب أن يكون ما سواه ضلالاً، أي: باطلاً؛ لأنَّ(10/320)
النَّقيضين يمتنع أن يكونا حقَّين، وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقّاً، وجب كون ما سواه باطلاً، ثم قال {فأنى تُصْرَفُونَ} أي: كيف تَعْدلُون عن عبادته، وأنتُم مُقِرُّون بذلك.
قال الجُبَّائي: دلَّت هذه الآية على بطلان قول المُجبِّرة: أنَّه - تعالى - يصرف الكُفَّار عن الإيمان؛ لأنَّه لو كان كذلك، لما جاز أن يقول {فأنى تُصْرَفُونَ} كما لا يقول إذا عمي أحدهم إني عميتُ، وسيأتي جوابه.
فصل
المعنى: أنَّ الذي يفعل هذه الأشياء، هو ربُّكم الحقُّ، لا ما أشركتُم معه.
قال بعضُ المتقدِّمين: ظاهرُ هذه الآية، يدلُّ على أنَّ ما بعد الله، هو الضلالُ؛ لأنَّ أوَّلها {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق} ، وآخرها {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} فهذا في الإيمان، والكفر ليس في الأعمال، وقال بعضهم: إنَّ الكفر تغطية الحقِّ، وكل ما كان غير الحقِّ، جرى هذا المجرى، فالحرام ضلالٌ، والمُبَاحُ هُدًى، فإن الله هو المبيحُ، والمحرِّم.
فصل
قال القرطبي: «رُوي عن مالك، في قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} قال اللَّعبُ بالشطرنج والنَّرد من الضلال، وسئل مالكٌ: عن الرَّجُل يلعبُ في بيته، مع امرأته بأربعة عشرة، فقال: ما يُعْجِبني، ليس من شأن المُؤمن، قال - تعالى -: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} ، وسئل مالكٌ: عن اللَّعبِ بالشطرنج، فقال: لا خَيْرَ فيه وهو من الباطل، واللَّعبُ كلُّه من الباطل» .
وقال الشَّافعيُّ: «لاعب الشطرنج، وغيره - إذا لم يكن على وجه القمار - لا تُرَدّ شهادتهُ إذا كان عدْلاً، ولمْ تظهرْ منه ريبةٌ، ولا كبيرةٌ، فإن لعب بها قُماراً، وكان معروفاً بذلك، سقطت عدالتُهُ، لأكله المال بالباطل، وقال أبُو حنيفة:» يُكرَه اللعب بالشطرنج، والنَّرد، والأربعة عشر، وكل اللَّهْو فإن لم تظهر من اللاَّعب بها كبيرةٌ، وكانت مساوئه قليلة، قُبلتْ شهادته «.
قال ابن العربي:» قال الشَّافعية: إنَّ الشطرنج يخالف النَّرد، لأنَّ فيه إكدار الفكر، واستعمال القريحة، وأمَّا النَّرْد: فلا يعلم ما يخرجُ له، فهو كالاستقسام بالأزلام «. وأنَّ النَّرد هو الذي يعرفُ بالباطل، ويعرف في الجاهليَّة بالأزلام، ويعرف أيضاً بالنَّردشير، وروي أنَّ ابن عمر، مرَّ بغلمان يعلبُون بالكجَّة، وهي حُفَر فيها حصى، يلعبُون بها، فسدَّها ابنُ عمر، ونهاهم عنها.
ذكر الهروي في باب الكاف مع الجيم، في حديث ابن عبَّاس: في كل شيءٍ قمار،(10/321)
حتى في لعب الصبيان بالكُجَّةِ، وقال ابن الأعرابي:» الكجَّة هي: أنْ يأخذ الصبيُّ خرقةً، فيدورها كأنَّها كُرةً ثم يتقامرُون بها «.
قوله: «كَذَلِكَ حَقَّتْ» : الكافُ في محلِّ نصبٍ، نعتاً لمصدرٍ محذوف، والإشارةُ بذلك إلى المصدر المفهوم من «تُصْرَفُون» ، أي: مثل صَرْفِهم عن الحقِّ، بعد الإقرار به، في قوله - تعالى -: {فَسَيَقُولُونَ الله} ، وقيل إشارةٌ إلى الحقِّ. قال الزمخشري: «كذلك: مثل ذلك الحقِّ حقَّت كلمةُ ربِّك» . قوله: {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنَّها في محلِّ رفع؛ بدلاً من «كَلِمةُ» ، أي: حقَّ عليهم انتفاءُ الإيمان.
الثاني: أنَّها في محلِّ رفعٍ، خبراً لمبتدأ محذوف، أي: الأمر عدمُ إيمانهم.
الثالث: أنَّها في محلِّ نصب، بعد إسقاطِ الحرف الجارِّ.
الرابع: أنَّها في محلِّ جرٍّ، على إعماله محذوفاً، إذ الأصل: لأنَّهم لا يُؤمِنُون.
قال الزمخشري: «أو أراد بالكلمة، العِدَة بالعذاب، و {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} تعليلٌ، أي: لأنَّهم» ، وهذا إنباء على مذهبهم. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، والكوفيون: «كَلِمَات» بالجمع، وكذا في آخر السورة [يونس: 96] ، وتقدَّم ذلك في الأنعام، وقرأ ابنُ أبي عيلة: «إَِنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ» بكسر «إنَّ» على الاستئناف، وفيها معنى التَّعليل، وهذا يُقَوِّي الوجه الصَّائر إلى التَّعليل.
فصل
احتجَّ أهل السنة بهذه الآية: على أنَّ الكفر بقضاء الله، وإرادته، لأنه - تعالى - أخبر عنهم قطعاً أنَّهم لا يؤمنون، فلو آمنوا، لكان إمَّا أن يبقى ذلك الخبر صدقاً، أو لا، والأوَّل باطلٍ؛ لأنَّ الخبر بأنَّه لا يؤمن، يمتنع أن يبقى صدقاً حال ما يُوجد الإيمان. والثاني باطلٌ؛ لأنَّ انقلاب خبر الله - تعالى - كذباً محالٌ، فثبت أنَّ صدور الإيمان منهم محالٌ، والمحالُ لا يكون مراداً، فثبت أنَّه - تعالى - ما أراد الإيمان من هذا الكافر، وأنَّه أرادَ الكُفْر منه.
ثم نقول إن كان قوله: {فأنى تُصْرَفُونَ} يدلُّ على صحَّة مذهب القدريَّة، فهذه الآيةُ الموضوعة بجنبه تدلُّ على فساده، وقد كان الواجبُ على الجُبَّائيِّ مع قوة خاطره، حين استدلَّ بتلك الآية على صحَّة قوله، أن يذكُر هذه الحجَّة، ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده، والمراد ب «الكلمة» : حكمةُ السَّابق على الذينَ فَسَقُوا، أي: كفرُوا.(10/322)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
قوله - تعالى - {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية. هذه هي الحجَّة الثانية عليهم.
فإن قيل: القوم كانوا منكرين الإعادة، والحشر، والنشر، فكيف احتجَّ عليهم بذلك؟
فالجواب: أنَّه - تعالى - قدَّم في هذه السورة ما يدلُّ عليه، وهو وجوب التمييز بين المُحْسِن والمُسيءِ، وهذه الدَّلالة دلالةٌ ظاهرةٌ قويَّة، لا يمكن للعاقل دفعها؛ فلأجْلِ قُوَّتها، وظهورها تمسَّك بها، سواء الخَصْم عليها، أو لا.
فإن قيل: لِمَ أمر رسوله أن يعترف بذلك، والإلزام إنَّما يحصلُ لو اعترف الخصمُ به؟ .
فالجوابُ: أنَّ الدَّليل لمَّا كان ظاهراً جليّاً، فإذا أورد على الخَصْم في معرض الاستفهام، كأنَّه بنفسه يقول: الأمر كذلك، فكان هذا تنبيهاً، على أنَّ هذا الكلام بلغ في الوُضوح، إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به، وأنَّه سواء أقرَّ، أو أنكَرَ، فالأمرُ متقرِّر ظاهرٌ.
قوله: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق} : هذه الجملةُ جوابٌ لقوله: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، وإنَّما أتى بالجواب جملة اسمية، مصرَّحاً يجزأيها، مُعَاداً فيها الخبر، مطابقاً لخبر اسم الاستفهام؛ للتأكيد، والتَّثبيتِ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا، لا مندوحة لهُم عن الاعتراف به، جاء الجملةُ محذوفاً منها أحدُ جزأيها، في قوله: {فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31] ، ولم يَحْتَجْ إلى التَّأكيد بتصريح جزأيها.
فصل
قال القرطبيُّ: ومعنى الآية: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق} ينشئه من غير أصل، ولا سبق مثال: «ثُمَّ يُعِيدُهُ» : يُحْييه بعد الموت كهَيْئتِهِ، فإن أجابُوك، وإلاَّ ف {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، ثم قال: {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي: تصرفون عن قصد السَّبيل، والمُراد: التَّعجُّب منهم في الدُّنْيَا من هذا الأمر الواضح الذي دعاهُم الهوى والتَّقليد إلى مخالفته؛ لأنَّ الإخبار عن كون الأوثان آلهةً كذب، وإفكٌ الاشتغال بعبادتها، مع أنَّها لا تستحق العبادة أيضاً إفكٌ.
قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} الآية.(10/323)
وهذه حجَّة ثالثة. واعلم أنَّ الاستدلالَ على وجودِ الصَّانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً، عادة مُطَّردة في القرآن، قال - تعالى - حكاية عن الخليلي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] ، وحكى عن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في جواب لفرعون: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] ، وأمر محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1 - 3] .
واعلم أنَّ الإنسان له جسدٌ وروحٌ، فالاستدلال على وجود الصَّانع بأحوال الجسد، هو الخلق، والاستدلال بأحوال الرُّوح، هو الهدايةُ.
والمقصودُ من خلق الجسدِ: حصول الهداية للرُّوح، كما قال - تعالى -: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
[النحل: 78] ، وهذا كالتَّصريح بأنَّه تعالى إنَّما خلق الجسد، وأعطى الحواسّ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف، والعلم.
قوله: {يهدي إِلَى الحق} ، قد تقدَّم في أول الكتاب: أنَّ «هَدَى» يتعدَّى إلى اثنين ثانيهما: إمَّا باللاَّم أو بإلى، وقد يحذفُ الحرفُ تخفيفاً [الفاتحة: 6] ، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر، فعدَّى الأول والثالث ب «إلى» ، والثاني باللاَّم، وحذف المعفول الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير: هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق، قل الله يهدي من يشاء للحقِّ، أفمنْ يهدي غيره إلى الحقِّ، وزعم الكسائي، والفرَّاء، وتبعهما الزمخشري: أنَّ «يَهْدِي» الأول قاصرٌ، وأنَّه بمعنى: اهتدى، وفيه نظر؛ لأنَّ مقابله، وهو {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} متعدٍّ، وقد أنكر المبرِّدُ أيضاً مقالة الكسائي، والفراء، وقال: لا نَعْرِفُ «هَدَى» بمعنى: «اهتدى» .
قال شهاب الدِّين «الكسائي والفرَّاء أثبتاه بما نقلاه، ولكن إنَّما ضعف ذلك هنا؛ لما ذكرتُ لك من مقابلته بالمتعدِّي، وقد تقدَّم أنَّ التعدية ب» إلى «أو اللاَّم، من باب التَّمن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري:» يقال: هداه للحقِّ وإلى الحقِّ، فجمع بين اللغتين «، وقال غيره:» إنَّما عدَّى المسند إلى الله باللاَّم؛ لأنَّها أدلُّ في بابها على المعنى المراد من «إلى» ؛ إذ أصلها لإفادة الملك، فكأنَّ الهداية مملوكةٌ لله - تعالى - «. وفيه نظر؛ لأنَّ المراد بقوله: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق} هو الله - تعالى -، مع تعدِّي الفعل المسند إليه ب» إلى «.
قوله: {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} : خبرٌ لقوله:» أَفَنْ يهدي «، و» أنْ «في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الخافض، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، وتقدير هذا كلّه: أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يهدي. ذكر ذلك مكِّي بن أبي طالب، فجعل» أحَقُّ «هنا على بابها من كونها للتفضيل، وقد منع أبو حيَّان كونها للتَّفضيل، فقال: و» أحَقُّ «ليست للتفضيل، بل المعنى:» حَقيقٌ بأن يُتَّبع «، وجوَّز مكِّي أيضاً في المسألة وجهين آخرين:(10/324)
أحدهما: أن تكون» مَنْ «مبتدأ أيضاً، و» أنْ «في محلِّ رفعٍ، بدلاً منها بدل اشتمال، و» أحَقُّ «خبرٌ على ما كان.
والثاني: أن يكون» أنْ يُتَّبَع «في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و» أحَقُّ «خبره مقدَّمٌ عليه. وهذه الجملة خبر ل» مَنْ يَهْدِي «، فتحصَّل في المسألة ثلاثة أوجُه.
قوله: {أَمَّن لاَّ يهدي} : نسقٌ على» أفَمَنْ «، وجاء هنا على الأفصح، مِنْ حيث إنَّهُ قد فصل بين» أمْ «وما عُطفتْ عليه بالخبر، كقولك: أزَيْدٌ قائمٌ أم عمرو، ومثله:
{أذلك
خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] ، وهذا بخلاف قوله - تعالى -: {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] وسيأتي هذا في موضعه، وقرأ أبو بكر عن عاصم: بكسر ياء «يهدِّي» وهائه، وحفص بكسر الهاء دون الياء، فأما كسر الهاء؛ فلالتقاء الساكنين، وذلك أنَّ أصله «يَهْتَدِي» ، فلمَّا قُصِدَ إدغامُه سكنتِ التاء، والهاءُ قبلها ساكنة، فكسرت الهاءُ لالتقاء الساكنين، وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر، وقال أبو حاتم: في قراءة حفصٍ «هي لغة سُفْلَى مُضَرَ» .
ونقل عن سيبويه: أنَّه لا يجيز «يِهْدِي» ، ويجيز «تِهْدِي، وإهْدِي» ، قال: «لأنَّ الكسرة تثقلُ في الياء» ، يعني: يُجيز كسر حرفِ المضارعة من هذا النَّحو، نحو: تِهْدِي ونِهْدِي وإِهْدِي، إذ لا ثقل في ذلك، ولم يجزهُ في الياء؛ لثقل الحركة المجانسةِ لها عليها، وهذا فيه غضٌّ من قراءة أبي بكرٍ، لكنه قد تواتر قراءة، فهو مقبولٌ، وقرأ أبو عمرو وقالون، عن نافع: بفتح الياء، واختلاس فتحة الهاء، وتشديد الدَّال، وذلك أنَّهُمَا لمَّا ثقَّلا الفتحة للإدغام، اختلسا الفتحة؛ تنبيهاً على أنَّ الهاءَ ليس أصلها الحركة، بل السُّكون، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وورش: بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل، وقد رُوي عن أبي عمرو، وقالوا: اختلاسُ كسرةِ الهاءِ، على أصل التقاء الساكنين، والاختلاسُ للتنبيه على أنَّ أصل الهاءِ السُّكون كما تقدَّم، وقرأ أهلُ المدينة - خلا ورشاً - بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدَّال، وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمع بين السَّاكنين، قال المبرد: «مَنْ رَامَ هذا، لا بد أن يحرك حركة خفيَّة» قال أبو(10/325)
جعفر النَّحاس: لا يقدر أحدٌ أن ينطقَ به. قال شهاب الدِّين: «وقد قال في التيسير:» والنَّصُّ عن قالون بالإسكان «، قلت: ولا بعد في ذلك؛ فقد تقدَّم أنَّ بعض القُرَّاء يَقْرَأ {نِعْمَّا} [النساء: 58] و {لاَ تَعْدُواْ} [النساء: 154] بالجمع بين الساكنين، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة، في قوله {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] ، وسيأتي مثل هذا في {يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] .
وقرأ الأخوان» يَهْدِي «بفتح الياء، وسكون الهاء، وتخفيف الدال، من هدى يَهْدي، وفيه قولان:
أحدهما: أنَّ» هَدَى «بمعنى: اهتدى.
والثاني: أنَّه متعدٍّ، ومفعوله محذوفٌ كما تقدَّم، وتقدم في قول الكسائي، والفرَّاء في ذلك، وردُّ المبرد عليهما.
وقال ابن عطيَّة:» والذي أقول: قراءةُ حمزة، والكسائيُّ؛ تحتمل أن يكون المعنى: أمْ مَنْ لا يهدي أحداً، إلاَّ أنْ يهدي ذلك الأحدُ بهداية الله، وأمَّا على غيرها من القراءات التي مقتضاها: أمْ مَنْ لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى. فيتجه المعنى على ما تقدَّم «، ثم قال:» وقيل: تمَّ الكلامُ عند قوله: «أمْ مَنْ لا يَهَدِّي» ، أيك لا يهدِّي غيره «، ثم قال:» إلاَّ أنَّ يَهْدَى: استثناءٌ منقطع، أي: لكنه يحتاجُ إلى أن يُهْدَى، كما تقول: فلانُ لا يسمع غيره، إلاَّ أنْ يسمع، أي: لكنَّه يحتاجُ إلى أن يسمع «.
انتهى، ويجوز أن يكون استثناءً متصلاً؛ لأنَّه إذ ذاك يكون فيهم قابليَّةُ الهداية، بخلافِ الأصنام، ويجوز أن يكون استثناء من تمامِ المفعول له، أي: لا يهدي لشيءٍ من الأشياء، إلاَّ لأجْل أن يُهْدَى بغيره.
قوله: «فَمَا لَكُمْ» : مبتدأ وخبر، ومعنى الاستفهام هنا: الإنكارُ والتعجُّبُ، أي: أيُّ شيءٍ لكم في اتِّخاذ هؤلاء؛ إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم؟ وقد تقدَّم: أنَّ بعض النحويين نصَّ على أنَّ مثل هذا التركيب، لا يتمُّ إلاَّ بحالٍ بعده، نحو: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] ، {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} [المائدة: 84] إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تقدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً؛ لأنَّها استفهاميَّة، والاستفهاميَّة لا تقع حالاً.
وقوله: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} : استفهامٌ آخر، أي: كيْفَ تحكمُونَ بالباطل، وتجعلُون لله أنْداداً، وشُركاء؟ .(10/326)
فصل
المعنى: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي} : يرشد، «إِلَى الحق» فإذا قالوا: لا، ولا بدَّ لهم من ذلك {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} أي: إلى الحقِّ {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} أي: الله الذي يهدي إلى الحقِّ أحق بالاتِّباع، أم الصَّنم الذي لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى؟ فإن قيل: الأصنام جمادات لا تقبل الهداية، فكيف قال: {إِلاَّ أَن يهدى} ، والصَّنَمُ لا يتصوَّر أن يهتدي، ولا أنْ يُهْدَى؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ المراد من قوله: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} الأصنام، والمراد من قوله: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} : رؤساء الكفر، والضلال، والدعاة إليهما؛ لقوله - تعالى -: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] إلى قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] أي: أن الله - تعالى - هدى الخلق إلى الدِّين، بالدَّلائل العقليَّة، والنقليَّة، وهؤلاء الدُّعاة لا يقدرون أن يهدُوا غيرهم، إلاَّ إذا هداهم الله، فكان التَّمسك بدين الله، أولى من قُبُول قول هؤلاء الجهال.
وثانيها: أن معنى الهداية في حقِّ الأصنامِ: الانتقال، والهدى: عبارة عن النَّقل والحركة، يقال: أهديت المرأة إلى زوجها، إذا انتقلت إليها، والهَدْيُ: ما يُهْدى إلى الحرم من النَّعَم، وسميت الهديَّةُ هديَّة؛ لانتقالها من شخص إلى غيره، وجاء فلان يهادى بين رجلين، إذا كان يمشي مُعْتمداً عليهما؛ لضعفه وتمايله. وإذا ثبت ذلك فالمرادُ: أنَّه لا ينتقل من مكان إلى مكان، إلاَّ أن يحمل وينقل بين عجز الأصنام.
وثالثها: أنه ذكر الهداية على وجه المجاز؛ لأنَّ المشركينَ لمَّا اتَّخذُوا الأصنام آلهةً، وأنَّها لا تشفع لهم في الآخرة، وأنَّهم نزَّلُوها منزلة من يعقل، فلذلك عبَّر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم ويعقل.
ورابعها: أنْ يُحْمل على التقدير، أي: أنَّها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي، فإنَّها لا تهدي غيرها، إلاَّ بعد أن يهديها غيرها، ثم قال: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي: تَقضُون، حين زعمتُم: أنَّ للهَ شريكاً.
قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} الآية.
أي: يقولون إنَّ الأصنامَ آلهة، وأنَّها تشفع لهم في الآخرة، «ظَنّاً» : لمْ يردْ به كتابٌ ولا رسولٌ. وأراد بالأكثر، جميع من يقول ذلك.
وقيل: وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلاَّ ظنّاً؛ لأنَّه قولٌ غير مسندٍ إلى برهانٍ عندهم، بل سمعُوه من أسلافهم، وهذا القول أولى؛ لأنَّا في الأول نحتاج إلى أن نُفَسِّر الأكثر بالكُلِّ.(10/327)
قوله: «لاَ يُغْنِي» : خبرُ «إنَّ» ، و «شيئاً» منصوبٌ على المصدر، أي: شيئاً من الإغناء، و «منَ الحقِّ» نصبٌ على الحالِ من «شَيْئاً» ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ له، ويجُوزُ أن تكون «مِن» بمعنى «بدل» ، اي: لا يُغْنِي بدل الحقِّ، وقرأ الجمهور: «يَفْعلُون» على الغيبة، وقرأ عبد الله: «تَفْعَلون» خطاباً، وهو التفاتٌ بليغٌ، ومعنى الآية: إنَّ الظَّنَّ لا يدفع عنهم من عذَابِ الله شيئاً، وقيل: لا يقوم مقام العلم.
فصل
تمسَّك نُفاةُ القياس بهذه الآية، فقالوا: العملُ بالقياس عمل بالظَّنِّ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية، وأجيبوا: بأنَّ الدَّليل الذي دلَّ على وجوب العمل بالقياس، دليلٌ قاطعٌ، فكان وجوبُ العمل بالقياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا: بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا: بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، لكان ترك العمل به كُفْراً؛ لقوله - تعالى -: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] ولمَّا لمْ يكُن كذلك، بطل العمل به، ثم عبَّرُوا عن هذه الحُجَّة، فقالوا: الحكم المستفاد من القياس: إمَّا أن يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، أو يظن، أو لا يعلم ولا يظن.
والأرض باطل، وإلاَّ لكان من لم يَحْكُم به كافراً؛ لقوله - تعالى -: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] ، وبالاتِّفاق ليس كذلك.
والثاني: باطلٌ؛ لأنَّ الحكم بالظَّنِّ لا يجوز؛ لقوله - تعالى -: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} .
والثالث: باطلٌ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك الحكم معلوماً، ولا مظنوناً، كان مجرد التَّشهي، فكان باطلاً؛ لقوله - تعالى -: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات}
[مريم: 59] .
وأجاب مثبتُو القياس: بأنَّ حاصل هذا الدَّليل، يرجع إلى التَّمسك بالعمومات، والتَّمسُّك بالعمومات لا يفيد إلاَّ الظن، فإذا دلَّت العمومات، على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، لزم كونها دالَّة على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، وما أفْضَى ثُبُوته إلى نفيه، كان مَتْرُوكاً.
دلَّت هذه الآيةُ: على أنَّ كلَّ من كان ظانّاً في مسائل الأصول، ولم يكُن قاطعاً؛ فإنَّه لا يكون مؤمناً.
فإن قيل: فقول أهل السُّنَّة: أنَا مؤمنٌ - إن شاء اللهُ -، يمنع من القطع، فوجب أن يلزمَهُم الكفر.(10/328)
فالجواب من وجوه:
الأول: مذهب الشافعي: أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجموع الاعتقادِ، والإقرارِ، والعمل، والشَّك إنَّما هو ي هذه الأعمال، هل هي موافقةٌ لأمر الله - تعالى -؟ والشَّك في أحد أجزاء الماهيَّة، لا يوجب الشَّك في تمام الماهيَّة.
الثاني: أنَّ الغرضَ من قوله: إن شاء اللهُ، بقاء الإيمان عند الخاتمة.
الثالث: الغرض منه هضم النَّفْس وكسرُها.(10/329)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله} الآية.
لمَّا تقدَّم قول القوم: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} [يونس: 20] ، وذكروا ذلك؛ لاعتقادهم؛ أنَّ القرآن ليس بمعجز، وأنَّ محمداً أنَّما أتَى به من عند نفسه؛ افتعالاً، واختلافاً، وذكر - تعالى - هنا: أنَّ إتيان محمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا القرآن، ليس هو افتراءٌ على الله - تعالى -، وإنَّما هو وحي نازل عليه من عند الله، وأنَّه مُبَرَّأ عن الافتعال، والافتراء، ثم احتجَّ على صحَّة هذا الكلام، بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] .
قوله: «أن يفترى» : فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه خبرُ «كان» ، تقديره: وما كان هذا القرآن افتراء، أي: ذا افتراء، إذ جعل نفس المصدر مبالغةً، أو يكون بمعنى: مُفْتَرى.
والثاني: زعم بعضهم: أنَّ «أنْ» هذه هي المضمرة بعد لام الجُحُودِ، والأصل: وما كان هذا القرآنُ ليفترى، فلمَّا حذفتْ لامُ الجحود، ظهرت «أنْ» ، وزعم: أنَّ اللاَّم، و «أنْ» يتعاقبان، فتحذف هذه تارة، وتَثْبُت الأخرى، وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه، وعلى هذا(10/329)
القول، يكون خبر «كان» محذُوفاً، و «أنْ» وما في حيِّزها، متعلقةٌ بذلك الخبر، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك [البقرة143] ، و «مِن دُون اللهِ» متعلِّق ب «يُفْتَرَى» والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائدٌ على القرآن.
قوله: {ولكن تَصْدِيقَ} : عطف على خبر «كانَ» ووقعت «لكن» هنا أحسن موقع؛ إذ هي بين نقيضين: وهُما التكذيبُ، والتَّصْديقُ المتضِّمن للصدق. وقرأ الجمهور: «تَصْدِيقَ» و «تَفْصِيلَ» بالنصب، وفيه أوجهٌ:.
أحدها: العطفُ على خبر «كَانَ» كما تقدَّم، ومثله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله} [الأحزاب: 40] .
والثاني: أنَّه خبر «كَانَط مضمرةٌ، تقديره: ولكن كان تصديقَ، وإليه ذهب الكسائيُّ، والفرَّاء، وابن سعدان، والزجاج، وهذا كالذي قبله في المعنى.
والثالث: أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدَّر، أي: وما كان هذا القرآنُ أن يفترى، ولكن أُنزل للتَّصديق.
والرابع: أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر أيضاً، والتقدير: ولكن يُصدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب.
وقرأ عيسى بن عمر» تَصْدِيقُ «بالرفع، وكذلك التي في يوسف، ووجه الرَّفْعُ على خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: ولكن هو تصديقُ؛ ومثله قول الشاعر: [الوافر]
2903 - ولَسْتُ الشَّاعِرَ السَّفْسَافَ فِيهِمْ ... ولكِنْ مِدْرَهُ الحَرْبِ العَوانِ
برفع» مِدْرَةُ «، على تقدير: أنَا مِدْرَهُ.
وقال مكي:» ويجوز عندهما - أي الكسائي والفرَّاء -. الرَّفعُ على تقدير: ولكن هو تصديقُ «، وكأنَّه لم يطَّلِعْ على أنَّها قراءةٌ، وقد ورد في قراءات السَّبعة: التَّخفيفُ، والتَّشديدُ في» لكن «، نحو:
{ولكن
الشياطين
} [البقرة
: 102] ، {ولكن
الله رمى} [الأنفال: 17] .
قوله: «لاَ رَيْبَ فِيهِ» : فيه أوجه:
أحدها: أن يكون حالاً من «الكتاب» وجاز مجيءُ الحال من المُضاف إليه؛ لأنَّه مفعولٌ في المعنى، والمعنى: وتفصيل الكتاب مُنْتفياً عنه الرَّيْب.
والثاني: أنَّه مستأنفٌ فلا محلَّ لهُ من الإعراب.(10/330)
والثالث: أنَّه معترضٌ بين «تَصْديقَ» ، وبين «من ربِّ العالمينَ» .
قال الزمخشري: «فإن قلت: بِمَ اتَّصلَ قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} ؟ .
قلت: هو داخلٌ في حيِّز الاستدراك، كأنَّه قيل: ولكن تصديقاً، وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ، كائناً من ربِّ العالمينَ، ويجُوزُ أن يراد به: ولكن كان تصديقاً من ربِّ العالمين، وتفصيلاً منه، لا ريب في ذلك، فيكون» من ربِّ العالمينَ «: متعلِّقاً ب» تَصْديقَ «، و» تَفْصِيلَ «، ويكون» لا رَيْبَ فيهِ «: اعتراضاً، كما تقول: زيدٌ - لا شكَّ فيه - كريمٌ» . انتهى.
قوله: «مِن ربِّ» : يجوز فيه أوجهٌ:
أحدها: أن يكن متعلِّقاً ب «تَصْدِيقَ» أو ب «تَفْصِيلَ» وتكون المسألة من باب التنازع، إذ يصحُّ أن يتعلَّق بكلِّ من العاملين، من جهة المعنى، وهذا هو الذي أراد الزمخشري، بقوله: فيكون «من ربِّ» : متعلقاً ب «تَصْدِيقَ» ، و «تَفْصِيلَ» ، يعني: أنه متعلِّقٌ بكلٍ منهما، من حيث المعنى، وأمَّا من حيث الإعرابُ، فلا يتعلَّق إلاَّ بأحدهما، وأمَّا الآخرُ فيعملُ في ضميره، كما تقدَّم تحريره، والإعمالُ هنا حينئذٍ إنَّما هو للثَّاني، بدليل الحذف من الأول.
والوجه الثاني: أنَّ «مِن ربِّ» حال ثانية.
والثالث: أنَّه متعلِّقٌ بذلك الفعل المقدَّر، أي: أنزل للتَّصديق من ربِّ العالمين.
فصل
المعنى: وما ينبغي لمثل هذا القرآن، أن يُفْتَرَى من دون الله، كقوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] ، وقيل: «أنْ» بمعنى: اللاَّم، أي: وما كان هذا القرآنُ ليُفْتَرَى، كقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122] ، و {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين} [آل عمران: 179] ، و {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} [آل عمران: 179] أي: ليس وصفه هذا القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى على الله، والافتراءُ: الافتعال، من أفريتُ الأديم: إذا قدَّرته للقطع، ثم استعمل في الكذب، كما استعمل قولهم: اختلق فلان الحديث في الكذب، ثم إنَّهُ - تعالى - احتجَّ على صحَّةِ الدَّعوى بأمور:
الأول: قوله: {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: إنَّ محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان رجُلاً أمِّيًّا، لم يتعلَّم العِلْمَ، وما كانت مكَّةُ بلدة العلماء، وليس فيها شيء من كتب العلم، ثم إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أتى بهذا القرآن المشتمل على أقاصيص الأولين، والقومُ كانوا في غاية العداوة لهُ، فلوْ لمْ تكُن ههذ الأقاصيص موافقة لما في التَّوراة، والإنجيل، لقدحوا فيه وبالغُوا في الطَّعن، فلمَّا لم يقُل أحدٌ ذلك، مع شدَّة حرصهم على(10/331)
الطَّعن فيه، علمنا أنَّه أتى بتلك الأقاصيص، مطابقة للتوراة والإنجيل، مع أنَّه ما طالعهما، ولا تتلمذ لأحدٍ فيهما، فدلَّ ذلك: على أنَّه إنما أتى بهذه الأشياء من قبل الوحي.
الحجة الثانية: أنَّ كتب الله المنزَّلة، دلَّت على مقدم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما تقدم في تفسير قوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] فكان مجيءُ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موافقاً لهما في تلك الكتب، ومصدقاً لما فيها من الباشرة بمجيئه، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه.
والدليل الثاني: قوله تعالى: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] واعلم: أنَّ العُلُوم: إمَّا أن تكون دينيَّة، أو ليست دينيَّة.
والقسم الأول أرفع حالاً، وأعظم شأناً من القسم الثاني، والدينيَّة: إمَّا أن تكون علم العقائد والأديان، أو علم الأعمال.
فأما علم العقائد والأديان: فهو عبارةٌ عن معرفة ذاته، ومعرفة صفات جلاله، وصفات أفعاله، وأحكامه، وأسمائه، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل، وتفاريعها، وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيءٌ من الكتب، ولا يقرب منه.
وأمَّا علم الأعمال فهو:
إمَّا عبارة عن علم التكاليف الظاهرة، وهو علم الفقه، ومعلوم أنَّ جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثم من القرآن.
وإمَّا عبارةٌ عن علم الباطن ورياضة القلوب، ففي القرآن من مباحث هذا العلم، ما لا يكادُ يوجدُ في غيره، كقوله: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] ، وقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} [النحل: 90] الآية، إلى غير ذلك.
فثبت أنَّ القرآن مشتملٌ على تفاصيل جميع العُلُوم الشريفة؛ فكان ذلك مُعْجِزاً.
ثم قال: {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} وذلك لأنَّ الكتاب الطويل المشتمل على العلوم الكثيرة؛ لا بُدَّ وأن يقع فيه نوع من التناقض، وحيثُ خلا هذا الكتاب عنه، علمنا أنَّه من عند الله، قال - تعالى -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] .
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} الآية.
لمَّا أقام الدَّلائل على أنَّ هذا القرآن، لا يليقُ بحاله أن يكون مفترى، أعاد مرَّةً أخرى بلفظ الاستفهام، على سبيل الإنكار، إبطال هذا القول، فقال: «أم يقولون افتراه» ، وقد تقدَّم تقرير هذه الحجَّة في البقرة، عند قوله: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] .
قوله: «أم يقُولُونَ» : في «أمْ» هذه وجهان:(10/332)
أحدهما: أنَّها منقطعةٌ، فتقدَّر ب «بَلْ» ، والهمزة عند سيبويه، وأتباعه، والتقدير: بل أتقُولُون، انتقل عن الكلامِ الأول، وأخذ في إنكار قولٍ آخر.
واثاني: أنَّها متصلةٌ، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذف جملةٍ؛ ليصحَّ التعادلُ، والتقدير: أيقرون به، أم يقولون افتراهُ، وقال بعضهم: «أمْ» هذه بمنزلة الهمزة فقط، وعبَّر بعضهم عن ذلك، فقال: «الميمُ زائدة على الهمزة» وهذا قولٌ ساقطٌ؛ إذ زيادة الميم قليلةٌ جدّاً، ولا سيَّما هنا، وزعم أبو عبيدة: «أنها بمعنى: الواو، والتقدير: ويقولون افتراه» .
قوله: «قُلْ فَأْتُواْ» : جواب شرطٍ مقدَّر، قال الزمخشري: «قُلْ: إنْ كان الأمرُ كما تزعمون، فأتُوا أنتم على وجْهِ الافتراءِ بسورةٍ مثله، فأنتم مثلي في العربيَّة، والفصاحة، والأبلغيَّة» .
وقرأ عمرو بن فائد: «بسُورَةِ مثلِهِ» بإضافة «سُورة» إلى «مِثلِهِ» على حذف الموصول، وإقامة الصِّفة مقامه، والتقدير: بسورة كتاب مثله، أو بسُورة كلام مثله، ويجُوز أن يكون التقديرُ: فأتُوا بسورةِ بشر مثله، فالضَّمير يجوز أنْ يعُود في هذه القراءةِ على القرآنِ، وأن يعود على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأمَّا في قراءة العامَّة؛ فالضمير للقرآن فقط.
فإن قيل: لِمَ قال في البقرة: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] ، وقال هنا: «فأتُوا بسُورةٍ مثلهِ» ؟ .
فالجواب: أنَّ محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أمِّيّاً، لم يتلمذْ لأحدٍ، ولم يُطالع كتاباً فقال في سورة البقرة: «مِن مثله» أي: فلْيَأتِ إنسان يساوي محمَّداص في هذه الصِّفات، وعدم الاشتعال بالعُلُوم، بسورة تُسَاوي هذه السُّورة، وحيث لا يقدرُون على ذلك؛ فظهور مثل هذه السُّورة من إنسان مثل محمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، في عدم التتلمذ والتَّعلم، يكون معجزاً.
وهُنا بيَّن أن السُّورة في نفسها مُعجزةٌ في نفسها؛ فإنَّ الخلق وإن تتلمذُوا وتعلَّمُوا؛ فإنَّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سُورة واحدة من هذه السور؛ فلذلك قال - تعالى - ههنا: «فأتُوا بسُورةٍ مثلِهِ» .
فصل
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية: على أنَّ القرآن مخلوقٌ؛ قالوا: إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحدَّى العرب بالقرآن؛ والمراد بالتَّحدِّي: أنَّه يطلب الإتيان بمثله منهم؛ فإذا عجزوا عنه، ظهر كونه حجَّة من عند الله - تعالى -، دالَّة على صدقه، وهذا إنَّما يمكن، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان القرآنُ قديماً؛ لكان الإتيان(10/333)
بمثل القديم محالاً في نفس الأمر؛ فوجب ألا يصحَّ التَّحدِّي به.
وأجيبُوا: بأنَّ القرآنَ اسمٌ يقال بالاشتراك على الصِّفة القديمة، القائمة بذات الله - تعالى -، وعلى هذه الحروف والأصوات، ولا نزاع في أنَّ هذه الكلمات المركَّبَة من هذه الحروف والأصوات، محدثة مخلوقة، والتَّحدي إنما وقع بها لا بالصِّفة القديمة.
ثم قال تعالى: {وادعوا مَنِ استطعتم} : ممَّنْ تعبدُون {من دُونِ اللهِ} ليُعينُوكُم على ذلك، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في أنَّ محمداً افتراه، والمراد منه: كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة، لو كانوا قادرين عليها وتقريره: أنَّ الجماعة إذا تعاونت، وتعاضدت، صارت تلك العقول الكثيرة، كالعقل الواحد، فإذا توجَّهُوا نحو شيءٍ واحدٍ، قدر مجموعهم على ما يعجز عنه كل واحد عند انفراده، فكأنَّه - تعالى - يقول: هَبْ أنَّ عقل الواحد، والاثنين منكم، لا يفي باستخراج معارضة القرآن، فاجتمعوا، وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة، فإذا عرفتُم عجزم حالة الاجتماع، وحالة الانفراد عن هذه المعارضة، فحينئذٍ: يظهر أنَّ تعذر هذه المعارضة، إنما كان لأنَّ قدرة البشرِ عاجزةٌ عنها؛ فحينئذٍ يظهر أنَّ ذلك فعل الله، لا فعل البشر.
فظهر بما تقرَّر: أنَّ مراتب تحدِّي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن ستٌّ:
أولها: أنَّهُ تحدَّاهُم بكلِّ القرآن، في قوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] .
وثانيها: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحدَّاهم بعشر سورٍ، في قوله: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] .
وثالثها: أنَّه تحدَّاهم بسورة واحدة، في قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] .
ورابعها: تحدَّاهم بحديث مثله، في قوله {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} [الطور: 34] .
وخامسها: أنَّ في تلك المراتب الأربع، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجُلٌ، يساوي رسول الله في عدم التتلمذ والتعليم، ثُمَّ في سورة يونس: طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان، سواء تعلَّم العلوم، أو لم يتعلَّمها.
وسادساً: أنَّ في المراتب المتقدِّمة تحدَّى كل واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدَّى مجموعهم، وجوَّز أن يستعين البعضُ بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة، كما قال: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] ، فهذا مجموع الدَّلائل التي ذكرها الله - تعالى - في إثبات أنَّ القرآن معجزٌ، ثُمَّ إنَّه - تعالى - ذكر السبب الذي لأجله كذَّبُوا القرآن.
فقال: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} يعني: كذَّبُوا بالقرآن، ولم يحيطوا بعلمه.
قوله: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} : جملةٌ حاليةٌ من الموصول، أي: سارعُوا إلى تكذيبه(10/334)
حال عدم إتيان التأويل، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى التوقُّع في قوله - تعالى -: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} ؟ قلت: معناه: كذَّبُوا به على البديهة، قبل التَّدبرُّر، ومعرفة التأويل» ، ثمَّ قال أيضاً: «ويجُوزُ أن يكون المعنى: ولم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي: عاقبته حتى يتبيَّن لهم: أكذبٌ هو، أم صدقٌ» . انتهى.
وفي وضعه «لَمْ» موضع «لمَّا» نظرٌ لما عرفت ما بينهما من الفرق، ونُفيتْ جملةُ الإحاطة ب «لم» ، وجملة إتيانِ التأويل ب «لمَّا» ؛ لأنَّ «لَمْ» للنَّفْي «المطلق على الصَّحيح، و» لمَّا «لنفي الفعل المُتَّصل بزمنِ الحالِ، فالمعنى: أنَّ عدمَ التَّأويلِ متَّصل بزمن الإخبار.
فصل
قيل المعنى: بل كذَّبُوا بالقرآن {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي: عاقبةُ ما وعد الله في القرآن؛ أنَّه يئول إليه أمرهم من العقوبة، يريد: أنَّهم لم يعلمُوا ما يئول إليه عاقبة أمرهم.
وقيل: كُلَّما سمعُوا شيئاً من القصص، قالوا: ليس في هذا الكتاب، إلاَّ أساطير الأولين، ولم يعرفُوا أنَّ المقصود منها، ليس هو نفس الحكاية، بل أمور أخرى، وهي: بيانُ قدرة الله - تعالى - على التصرُّفِ في هذا العالم، ونقل أهله من العزِّ إلى الذُّل، ومن الذُّلِّ إلى العِزِّ، وذلك دليلٌ على القدرة الكاملة، وأيضاً: تدلُّ على أنَّ الدنيا فانيةٌ غير باقية؛ كما قال - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} [يوسف: 111] ، وأيضاً فهي دلالة على العجز؛ لكون النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يتعلَّم، ولم يتتلمذ لأحدٍ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه وحيٌ من الله - تعالى -، كما قال في الشعراء بعد ذكر القصص: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} [الشعراء: 192 - 194] ، وقيل: إنَّهم كانُوا كُلَّما سمعوا حروف التَّهجِّي في أوائل السور، ولم يفهموها، ساء ظنُّهم بالقرآن؛ فأجاب - تعالى - بقوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] ، وقيل: إنَّهم لمَّا سمعُوا القرآن ينزل شيئاً فشيئاً، ساء ظنهم، وقالوا: لو أنزل عليه القرآن جملة واحدة؛ فأجاب - تعالى -: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] ، وقيل: إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً من إثبات الحشر والنشر، وكانوا ألفُوا الحياة، فاستبعدُوا حصول الحياةِ بعد الموت، فكذَّبُوا بالقرآن، وقيل: إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً بالصَّلاة، والزكاة، والعبادات، قال القوم: إن إله العالمين غنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، وأنَّه - تعالى - أجلُّ من أن يأمرنا بشيء لا فائدة فيه، فأجاب الله عنه، بقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] ، وبالجملة: فشبهات الكفارة كثيرة؛ فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمورٍ عرفوا حقيقتها، ولم يطلعُوا على وجه الحكمة فيها، لا جرم كذَّبوا بالقرآن.
قوله: «كذلِكَ» : نعتٌ لمصدر محذوفٍ، أي: مثل ذلك التَّكذيب، كذَّب الذين من قبلهم، أي: قبل النظر، والتدبُّر.(10/335)
وقوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ} كَيْفَ خبر ل «كَانَ» ، والاستفهام معلِّقٌ للنَّظر.
قال ابن عطيَّة: «قال الزجاج:» كَيْفَ «في موضع نصبٍ على خبر» كان «، ولا يجوز أن يعمل فيها» انظر «؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، هذا قانونُ النحويِّين؛ لأنَّهم عاملُوا» كَيْفَ «في كلِّ مكان معاملة الاستفهام المحض، في قولك» كيف زيد «، ول» كيف «تصرفاتٌ أخرى؛ فتحلُّ محلَّ المصدر الذي هو» كيفيَّة «، وتخلعُ معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكون منها. ومن تصرُّفاتها قولهم:» كُنْ كيفَ شِئْتَ «، وانظر قول البخاريِّ:» كيف كان بدءُ الوحي؛ فإنه لم يستفهم «.
انتهى.
فقول الزجاج: لا يجوز أن تعمل «انظر» في «كيف» ، يعني: لا تتسلَّط عليها، ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحب عليها حكمُ الاستفهام، وهكذا سبيلُ كُلِّ تعليقٍ.
قال أبو حيَّان: «وقولُ ابن عطيَّة: هذا قانونُ النَّحويين. . إلى آخره، ليس كما ذكر، بل ل» كيف «معنيان:
أحدهما: الاستفهامُ المحض، وهو سؤال عن الهيئة، إلاَّ أن يعلَّق عنها العامل، فمعناها معنى الأسماء التي يستفهمُ بها إذا علِّق عنها العاملُ.
والثاني: الشرط؛ كقول العرب:» كيف تكونُ أكونُ «، وقوله: ول» كيف «تصرفات إلى آخرة ليس» كيف «تحلُّ محلَّ المصدر، ولا لفظ» كيفية «هو مصدرٌ؛ إنَّما ذلك نسبةٌ إلى» كَيْف «، وقوله:» ويحتمل أن يكون هذا الموضعُ منها، ومن تصرُّفاتهم قولهم: كن كيْفَ شِئْتَ «لا يحتمل أن يكون منها؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ لها المعنى الذي ذكر، من كون» كيف «بمعنى:» كيفية «، وادِّعاءُ مصدرية» كيفية «.
وأمَّا» كُنْ كيف شِئْتَ «: ف» كَيْفَ «ليست بمعنى:» كيفية «؛ وإنَّما هي شرطيَّةٌ، وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوفٌ، التقدير: كيف شئت فكن؛ كما تقول:» قُمْ مَتَى شِئْتَ «، ف» متى «اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه» قُمْ «، والجواب محذوف، تقديره: متى شئت فقم، وحذف الجوابُ؛ لدلالةِ ما قبله عليه؛ كقولهم:» اضربْ زَيْداً إنْ أسَاءَ إليْكَ «، التقدير: إن أساءَ إليك فاضْرِبْه، وحذف» فاضْرِبه «لدلالة» اضرِبْ «المتقدِّم عليه، وأمَّا قول البخاريُّ:» كيف كَانَ بَدْءُ الوحي «؛ فهو استفهامٌ محضٌ:
إمَّا على سبيل الحكاية؛ كأنَّ سَائِلاً سأله، فقال: كيف كان بدءُ الوحي.
وإمَّا أن يكون من قوله هو، كأنَّه سَألَ نفسه: كيف كان بدء الوحي، فأجاب بالحديث الذي فيه كيفيَّة ذلك» .
وقوله: «الظالمين» من وضع الظَّاهر موضع المُضْمَر، ويجوز: أن يراد به ضميرُ من(10/336)
عَادَ عليه ضمير «بَلْ كذَّبُوا» ، وأن يُرادَ به {الذين مِن قَبْلِهِمْ} .
ومعنى الآية: أنَّهم طلبُوا الدُّنْيَا، وتركُوا الآخرة، فبقُوا في الخسارِ العظيمِ، وقيل: المراد: عذاب الاستئصال الذي نزل بالأممِ السَّابقة.
قوله تعالى: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} لأنَّ «يُؤمِنُ» يصلح للحالِ، والاستقبال، فحمله بعضهم على الحال، أي: ومنهم من يُؤمِنُ بالقرآن باطناً؛ لكنَّه يتعمد الجحد. ومنهم من باطنه كظاهره.
وقيل: المراد: الاستقبال، أي: ومنهم من يؤمنُ به في المستقبل؛ بأنْ يتوب عن الكفر، ومنهم من يُصِرُّ على الكفر.
{وَرَبُّكَ
أَعْلَمُ
بالمفسدين
} أي: بأحوالهم، أي: هل يبقُوا على الكفر أو يتُوبُوا.
ثم قال: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي} ، وجزاؤه «ولكُم عملُكُم» ، وجزاؤه {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41] ، هذا كقوله - تعالى -: {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [الشورى: 15] ، ومعنى الكلام: الردع والزجر، وقيل: معناه: استمالة قلوبهم، قال مقاتلٌ والكلبيُّ: «هذه الآية منسوخة بآية السيف» ، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ شرط النَّاسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخِ، ومدلُول هذه الآية: اختصاص كلِّ واحد بأفعاله، وثمراتها من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، فآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، فكان القولُ بالنسخ باطلاً.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} الآية.
لمَّا قسَّم الكفار في الآية الأولى إلى: «مَنْ يُؤمن، ومن لا يُؤمن، قسَّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين: منهم من يكُون في نهاية البغض والعداوة، ومنهم من لا يكون كذلك، فوصف ههنا القسم الأوَّل، فقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} مع أنَّه يكون كالأصمِّ، من حيثُ إنَّه لا ينتفع ألبتَّة بذلك الكلام، فإنَّ الإنسانَ إذا قوي بغضه لإنسانٍ آخر، كان مُعرضاً عن سماع كلامه، ولا يلتفتُ إليه، كما أنَّ الصَّمَمَ في الأذن يمنع إدراك الصوت، والعمى في العين يمنع إدراك البصر، فكذا البغضُ الشديد يمنع من الوُقُوف على محاسن كلامه، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه.
قوله:» مَّن يَسْتمِعُونَ «: مبتدأ، وخبره الجارُّ قبله، وأعاد الضمير جمعاً؛ مراعاة لمعنى» مَنْ «، والأكثر مراعاة لفظه، كقوله: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] .(10/337)
قال ابن عطيَّة:» جاء ينظرُ على لفظ «مَنْ» ، وإذا جاء على لفظها، فجائزٌ أن يعطف عليه آخرٌ على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ؛ لأنَّ الكلام يُلبسُ حينئذٍ «.
قال أبو حيَّان:» وليس كما قال، بل يجُوزُ أن تراعي المعنى أولاً، فتعيدَ الضَّميرَ على حسبِ ما تريد به من المعنى: من تأنيثٍ، وتثنيةٍ، وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [البقرة8] .
فصل
أخبر - تعالى - في الآية أنَّ الإيمان، والتَّوفيق به لا بغيره، فقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بأسماعهم الظاهرة، ولا ينفعهم، {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} يريد: صمم القلب {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} : بعينه الظاهرة ولا ينفعه، {أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي} يريد: عَمَى القلب، {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} وهذه التَّسلية من الله - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يقول: إنَّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السَّمع، ولا أن تَهْدِي من سلبته البصر، ولا أن توفق للإيمان من حكمتُ عليه بأنَّه لا يُؤمن.
والمقصُود: إعلامُ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: بأنهم قد بلغُوا في معرض العقل، إلى حيث لا يقبلُون العلاج، فالطَّبيبُ إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج، أعرض عنهُ، ولم يستوحشْ من عدم قُبُولهِ للعلاج، فكذلك أنت لا تستوحش من حالِ هؤلاءِ الكُفَّار.
فصل
احتج أهلُ السُّنَّة بهذه الآية: على أنَّ أفعالَ العباد من الله؛ لأنَّ الآية دلَّت على: أنَّ قلوب الكفار بالنسبة إلى الإيمان، كالأصمِّ بالنسبة إلى استماع الكلام. وكالأعْمَى بالنسبة إلى نظر الأشياء، فكما أنَّ هذا ممتنعٌ؛ فكذلك حصول الإيمان في القلب ليس باختيارِ الإنسان، واحتجَّ المعتزلةُ على صحَّة قولهم، بقوله - تعالى - بعدها: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] فدلَّ ذلك على: أنَّه - تعالى ما ألْجَأ أحداً إلى فِعْل القبائح، ولكنَّهم يقدمُون عليها باختيارهم، وأجاب الواحدي: «بأنَّه - تعالى - إنَّما نفى الظلم عن نفسه؛ لأنَّه يتصرف في ملك نفسه، ومن كان كذلك، لم يكن ظالماً، وإنَّما قال: {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأنَّ الفعل منسوبٌ إليهم بسبب الكسب» .
فصل
احتجَّ ابن قتيبة بهذه الآية، على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر؛ لأنَّه - تعالى - قرن بذهاب السَّمع، ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النَّظَر، إلاَّ ذهاب البصر، فكان السَّمْع(10/338)
أفضل من البصر، وردَّه ابن الأنباري: بأنَّ الذي نفاهُ اللهُ من السَّمْع، بمنزلة ما نفاهُ من البصر؛ لأنَّه - تعالى - أراد إبصار القلوب، ولم يُرِدْ إبصار العُيُون، والذي يُبْصِره القلب، هو الذي يعقله.
واحتجَّ ابن قتيبة بحجة أخرى، فقال: كُلَّما ذكر الله السَّمع في القرآن، فإنَّه غالباً يقدم السَّمع على البصر، فدل على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر، وذكر بعضُ النَّاس في تفضيل السمع على البصر وجوهاً أخر.
أحدها: أنَّ العمى قد وقع في حقِّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأمَّا الصَّمم فغير جائز عليهم؛ لأنَّه يخلُّ بأداء الرِّسالة؛ لأنَّه إذا لم يسمع كلام السائلين، تعذَّر عليه الجواب، فيعجزُ عن تبليغ الشَّرائع.
وثانيها: أنَّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجهات، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلاَّ من الجهة المقابلة وحدها.
وثالثها: أنَّ الإنسانَ إنَّما يستفيد العلم من أستاذه، وذلك لا يمكن إلاَّ بقوَّة السمع، ولا يتوقفُ على قوَّة البصر، فكان السَّمعُ أفضل.
ورابعها: أنَّه - تعالى - قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ، والمراد بالقلب ههنا: العقل، فجعل السَّمع قريناً للعقل، ويؤيِّده قوله - تعالى -: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير} [الملك: 10] فجعلوا السَّمع سبباً للخلاص من عذاب السَّعير.
وخامسها: أنَّ المعنى الذي به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات؛ هو النُّطق والكلام، وإنما ينتفع بذلك القوَّة السَّامعة، فمتعلق السمع: النطق الذي شرف الإنسان به، ومتعلَّق البصر: إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر يشترك فيه النَّاس، وسائر الحيوانات؛ فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.
وسادسها: أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يراهم النَّاس، ويسمعُون كلامهم؛ فنُبوَّتهم ما حصلت بما معهم من الصِّفات المرئيةَّة، وإنما حصلت بما معهم من الأقوال المسموعة، وهو تبليغ الشرائع والأحكام؛ فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيِّ؛ فلزم كون السمع أفضل من البصر.
وقال آخرون: البصر أفضلُ من السَّمع لوجوه:
الأول: قولهم في المثل: «ليس ورَاءَ العيانِ بيان» ، فدلَّ على: أنَّ أكمل وجوه الإدراك هو البصر.
الثاني: أنَّ آلة القوَّة الباصرة، هو النُّور، وآلة القوة السَّامعة هي الهواء، والنُّور أشرف من الهواء، فالقوَّة الباصرة أشرف من القوة السَّامعة.(10/339)
الثالث: أنَّ عجائب حكمة الله - تعالى -، في تخليق العين التي هي محل الإبصار؛ أكثر من عجائب خلقته في الأذن، التي هي محل السماع، فإنَّه - تعالى - جعل تمام روح واحد من الأرواح السَّبعة الدِّماغيَّة من العصب، آلة للإبصار، وركَّب العين من سبع طبقات، وثلاث رطوبات، وجعل لحركات العين عضلات كثيرة على صور مختلفة. والأذنُ ليس كذلك، وكثرة العناية في تخليق الشيء، يدل على أنَّه أفضل من غيره.
الرابع: أن البصر يرى ما حصل فوق سبع سماوات، والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ؛ فكان البصرُ أقوى وأفضل، وبهذا البيان يدفع قولهم: إنَّ السَّمع يدرك من كل الجوانب، والبصر لا يدرك إلاَّ من الجانب الواحد.
الخامس: أنَّ كثيراً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - سمع كلام الله في الدُّنيا، واختلفوا: هل رآه أحدٌ في الدُّنْيَا أم لا؟ وأيضاً: فإنَّ موسى أسمعه كلامه من غير سبق سؤال، ولمَّا سأل الرُّؤية، قال: {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] فدل على أنَّ حال الرُّؤية أعلى من حال السَّمْع.
السادس: قال ابن الأنباري: كيف يكون السَّمعُ أفضل من البصر، وبالبصر يحصل جمال الوجه، وبذهابه عيبه، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً، والعربُ تسمي العينين الكريمتين، ولا تصف السمع بمثل هذا، ومنه الحديث؛ يقول الله: «من أذهبت كريمتيه، فصبر واحتسب، لم أرض له ثواباً دون الجنة» .
قوله تعالى: {لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} يجوز أن ينتصب «شَيْئاً» على المصدر، أي: شيئاً من الظلم، قليلاً ولا كثيراً، وأن ينتصبَ مفعولاً ثانياً ل «يَظْلِمُ» ، بمعنى: لا ينقص النَّاس شيئاً من أعمالهم.
قوله: {ولكن الناس} قرأ الأخوان: بتخفيف «لكن» ومن ضرورة ذلك: كسرُ النُّونِ؛ لالتقاءِ الساكنين وصلاً، ورفع «النَّاس» ، والبقاون بالتشديد ونصب «النَّاس» ، وتقدم توجيه ذلك في البقرة [102] ، ومعنى {لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} ؛ لأنَّه في جميع أفعاله مُتفضل، وعادل، {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : بالكفر والمعصية.(10/340)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} الآية.(10/340)
لمَّا وصف الكفار بقلة الإصغاء، وترك التدبُّر؛ أتبعه بالوعيد، فقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} . «يَوْمَ» منصوب على الظرف، وفي ناصبه أوجه:
أحدها: أنَّه منصوبٌ بالفعل الذي تضمَّنه قوله: {كَأَن لَّمْ يلبثوا} .
الثاني: أنَّه منصوبٌ ب «يتعَارَفُون» .
الثالث: أنَّه منصوبٌ بمقدرٍ، أي: اذكر يوم.
وقرأ الأعمش، وحفص عن عاصم: «يَحْشُرهُم» بياء الغيبة، والضمير لله تعالى لتقدم اسمه في قوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ} [يونس: 44] .
قوله: {كَأَن لَّمْ يلبثوا} تقدَّم الكلامُ على «كأن» هذه، وهي المخفَّفة من الثَّقيلة، والتقدير: كأنَّهُم لم يلبثُوا؛ فخفَّفَ، كقوله: وكأن قد، ولكن اختلفُوا في محلِّ هذه الجملة على أوجه:
أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ صفةً للظرف، وهو «يوم» ، قاله ابن عطية.
قال أبو حيان: «لا يصحُّ؛ لأن يوم يَحْشُرهُم معرفةٌ والجمل نكرات، ولا تنعتُ المعرفةُ بالنَّكرة، لا يقال: إنَّ الجمل التي يُضاف إليها أسماءُ الزَّمان نكرةٌ على الإطلاق؛ لأنَّها إنْ كانت في التقدير تنحَلُّ إلى معرفة، فإنَّ ما أضيف إليها يتعرَّفُ، وإن كانت تنحَلُّ إلى نكرة، كان ما أضيف إليها نكرةً، تقول:» مَرَرْتُ في يوم قدم زيدٌ الماضي «، فتصِفُ» يوم «بالمعرفة، و» جئت ليلة قدم زيدٌ المباركة علينا «، وأيضاً: فكأنْ لمْ يلبثُوا، لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى، لأنَّ ذلك من وصف المحشورين، لا من وصف يوم حشرهم. وقد تكلَّف بعضهم تقدير رابطٍ يربطهُ، فقدره:» كأنْ لَمْ يلبثُوا قبله «، فحذف» قبله «، أي: قبل اليوم، وحذفُ مثل هذا الرَّابط لا يجوز» .
قال شهاب الدِّين: قوله: «بعضهم» ، وهو مكِّي بن أبي طالب؛ فإنَّه قال: «الكافُ وما بعدها من» كأن «صفةٌ لليوم، وفي الكلام حذفُ ضميرٍ يعودُ على الموصوفِ، تقديره: كأْ لم يَلْبثُوا قبله؛ فحذف» قبله «، فصارت الهاءُ متَّصلةً ب» يَلْبثُوا «، فحذفتْ لطُولِ الاسم كما تحذفُ من الصِّلات» ، ونقل هذا التقدير أيضاً: أبو البقاء، ولمْ يُسَمِّ قائله، فقال: «وقيل» ، فذكره.
والوجه الثاني: أن تكون الجملةُ في محلِّ نصب على الحال، من مفعول «يَحْشُرهُم» أي: يَحْشُرهم مُشبهين بمن لم يلبث إلاَّ ساعةً، هذا تقديرُ الزمخشري، وممَّن جوَّز أيضاً الحاليَّة: ابنُ عطيَّة، ومكِّيٌّ، وأبو البقاءِ، وجعله بعضهم هو الظَّاهر.
الوجه الثالث: أن تكون الجملةُ نعتاً لمصدر محذوف، والتقدير: يَحْشُرهم حَشْراً،(10/341)
كأنْ لمْ يلبثُوا، ذكر ذلك ابن عطيَّة، وأبو البقاء، ومكِّي، وقدَّر مكِّي، وأبو البقاء: العائد محذوفاً، كما قدَّراه حال جعلهما الجملة صفة لليَوْمِ، وقد تقدَّم ما في ذلك.
الرابع: قال ابنُ عطيَّة: «ويَصِحُّ أن يكون قوله: {كَأَن لَّمْ يلبثوا} كلاماً مجملاً» ولم يُبَيِّنْ الفعل الذي يتضمَّنهُ {كَأَن لَّمْ يلبثوا} ، قال أبو حيَّان: «ولعَلَّهُ أراد ما قاله الحوفيُّ؛ مِنْ أنَّ الكافَ في موضع نصبٍ، بما تضمَّنتهُ من معنى الكلام، وهو السُّرْعَة» . انتهى.
قال: «فيكونُ التقدير: ويوم يَحْشُرهم يُسْرعون كأنْ لَمْ يَلْبَثُوا» ، فيكون «يسرعون» : حالاً من مفعول «يَحْشُرهُم» ، ويكون «كأن لمْ يَلْبَثُوا» : حالاً من فاعل «يُسْرعون» ، ويجُوز أن تكون «كَأنْ لَمْ» : مفسِّرة ل «يُسْرعون» المقدَّرة.
فصل
قال الضحَّاك: كَأنْ لَمْ يَلْبثُوا في الدنيا، إلاَّ ساعة من النَّهار، وقال ابن عبَّاس: كأن لم يلبثوا في قبورهم، إلاَّ قدر ساعة من النَّهار، قال القاضي: الأولُ أولَى، لوجهين:
أحدهما: أنَّ حال المؤمنين كحالِ الكافرين: في أنَّهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقتِ الحشر؛ فيجبُ أن يحمل ذلك على أمْر يختصُّ به الكُفار؛ وهو أنَّهم لمَّا لم ينتفعُوا بعُمْرِهم استقلُّوه، والمؤمِنُ لمَّا انتفع بعمره؛ فكأنَّه لا يستقلُّه.
الثاني: أنَّه قال: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} والتَّعارف إنَّما يضاف إلى حال الحياةِ، لا إلى حال المَوْت، وفي سبب هذا الاستقلال وجوهٌ:
الأول: قال أبو مسلم: إنَّهم لمَّا ضيَّعُوا أعمارهم في طلب الدنيا، والحِرْص على لذَّاتها؛ لم ينتفعُوا بعمرهم ألبتَّة، فكان وجودُ ذلك العمر كالعدم كما تقدَّم؛ فلهذا استقلوه، ونظيره قوله - تعالى -: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ} [البقرة: 96] .
الثاني: قال الأصمُّ: إنَّهم لمَّا شاهدُوا أهوال الآخرة وعظمها، عظم خوفُهُم، فنسُوا أمور الدُّنيا، والإنسان إذا عظم خوفهُ، نسي الأمور الظَّاهرة.
الثالث: قلَّ عندهم مقامهم في الدُّنيا، في جنب مقامهم في الآخرة.
الرابع: قلَّ عندهم في الدنيا؛ لطولِ وقوفهم في الحَشْرِ.
قوله: «يتعَارفُونَ» فيه أوجهٌ:
أحدها: أنَّ الجملة في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل «يَلْبَثُوا» .
قال الحوفيُّ: «يتعارفُونَ» : فعلٌ مستقبلٌ في موضع الحال من الضَّمير في «يَلْبَثُوا» ،(10/342)
وهو العامل، كأنَّه قال: متعارفين، والمعنى: اجتمعوا متعارفين.
والثاني: أنها حالٌ من مفعول «يَحْشُرهم» أي: يَحْشُرهم متعارفين، والعاملُ فعلُ الحشر، وعلى هذا فمنْ جوَّز تعدُّدَ الحالِ، جوَّز أن تكون «كأنْ لَمْ» : حالاً أولى، وهذه حالٌ ثانيةٌ، ومن منع ذلك، جعل «كأنْ لَمْ» على ما تقدم من غير الحاليَّة.
قال أبُو البقاء: «وهي حالٌ مقدرة؛ لأنَّ التعارف لا يكُونُ حال الحَشْرِ» .
والثالث: أنَّها مستأنفةٌ؛ أخبر - تعالى - عنهم بذلك.
قال الزمخشري: «فإن قلت: كأنْ لمْ يلبثُوا إلاَّ ساعة» ، و «يتَعارفُونَ» كيف موقعهما؟
قلت: أمَّا الأولى: فحالٌ منهم، أي: يَحْشُرهم مُشبهين بمنء لَمْ يَلْبَثْ إلاَّ ساعة.
وأمَّا الثانية: فإمَّا أن تتعلَّق بالظرف - يعني فتكون حالاً -، وإمَّا أن تكون مُبينة لقوله: {كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً} ؛ لأنَّ التَّعارفَ لا يَبْقَى مع طُولِ العهدِ، وينقلب تَنَاكُراً «.
فصل
في هذا التَّعارف وجوه:
الأول: يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدُّنْيَا.
الثاني: يعرف بعضهم بعضاً بما كانوا عليه من الخطأ والكفر، ثم تنقطع المعرفةُ إذا عاينُوا العذابَ، وتبرَّأ بعضهم من بعض.
فإن قيل: كيف توافق هذه الأشياء قوله: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10] .
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّهم يتعارفون بينهم بتوبيخ بعضهم بعضاً؛ فيقول كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا، وزيَّنتَ لي الفعل القبيح الفُلاني، فهو تعارفُ توبيخٍ، وتباعدٍ، وتقاطع، لا تعارف عطفٍ، وشفقة.
وأما قوله: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10] فهو سؤال رحمة، وعطف.
والثاني: أنَّ تحمل هاتين الآيتين على حالتين؛ وهو أنَّهم يتعارفُون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة؛ فلذلك لا يسأل حميمٌ حميماً.
قوله:» قَدْ خَسِرَ «فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر - تعالى - بأنَّ المكذِّبينَ بلقائِهِ خاسرون لا محالة؛ ولذلك أتى بحرفِ التَّحقيق، ويكون هذا شهادة عليهم من الله بالخُسْرَان، والمعنى: أنَّه من باع آخرته بدنياه، فقد خسر؛ لأنَّه أعطى الشَّريف الباقي، في أخْذِ الخسيسِ الفانِي.(10/343)
والثاني: أن يكون في محلِّ نصبٍ بإضمار قولٍ، أي: قائلين قد خَسِر الذين. ثُمَّ لكَ في هذا القول المقدَّر وجهان:
أحدهما: أنه حالٌ من مفعول» يَحْشُرهُم «أي: يحشرهم قائلين ذلك.
والثاني: أنَّه حالٌ من فاعل» يتعَارفُونَ «، وقد ذهب إلى الاستئناف والحاليَّة من فاعل» يَتَعارفُونَ «: الزمخشريُّ؛ فإنَّه قال:» هو استئنافٌ فيه معنى التَّعجُّب، كأنَّه قيل: «ما أحْشرهُمْ» ، ثم قال: «قَدْ خَسِرَ» على إرادة القولِ، أي: يَتَعَارفُونَ بينهم قائلين ذلك «، وذهب إلى أنَّها حالٌ من مفعُول» يَحْشُرهُم «: ابنُ عطيَّة.
قوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} يجوزُ فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون معطوفةً على قوله:» قَدْ خَسِرَ «، فيكون حكمه حكمَهُ.
والثاني: أن تكون معطوفةً على صلةِ» الذينَ «، وهي كالتَّوكيد للجملة التي وقعتْ صلةً؛ لأنَّ من كذَّب بلقاء الله، غيرُ مُهْتَدٍ، والمراد بالخسران: خُسْران النفس ولا شيء أعظم منه.
قوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} تقدَّم الكلامُ على» إِمَّا «هذه [البقرة38] ، وقال ابن عطيَّة:» ولأجلها، أي: لأجلِ زيادةِ «ما» ، جاز دخولُ النون الثقيلة، ولو كانت «إِنْ» وحدها لم يَجُزْ «أي: إنَّ توكيد الفعل بالنُّونِ مشروطٌ بزيادة» ما «بعد» إنْ «، وهو مخالفٌ لظاهرِ كلام سيبويه، وقد جاء التَّوكيد في الشَّرط بغير» إنْ «؛ كقوله: [الكامل]
2904 - مَنْ نَثْقَفَنْ مِنهُمْ فليْسَ بآيبٍ ... أبَداً وقَتْلُ بَنِي قُتَيبةَ شَافِي
قال ابن خروف: أجاز سيبويه: الإتيان ب «ما» ، وألاَّ يؤتى بها، والإتيانُ بالنون مع «ما» ، وألاَّ يؤتى بها، والإراءَةُ هنا بصريَّة؛ ولذلك تعدَّى الفعلُ إلى اثنينِ بالهمزة، أي: نجعلك رائياً بعض الموعُودين، أو بمعنى: الذي نعدُهم من العذاب، أو نتوفَّيَنَّكَ قبل أن نُريكَ ذلك، فإنَّك ستراه في الآخرة.
قال مجاهد: فكان البعضُ الذي رآه قتلهم ببدر، وسائر أنواع العذاب بعد موته.
قوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} مبتدأ وخبر، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه جوابٌ للشَّرطِ، وما عُطِفَ عليه، إذ معناه صالحٌ لذلك، وإلى هذا ذهب الحوفيُّ، وابنُ عطيَّة.
والثاني: أنَّهُ جوابٌ لقوله: «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» ، وجواب الأول محذُوف.
قال الزمخشري: «كأنَّه قيل: وإمَّا نُرينَّكَ بعضَ الذي نعدهُم فذاك، أو نتوفَّينَّك قبل أن نُريك، فنحن نُريك في الآخرة» .(10/344)
قال أبو حيَّان: «فجعل الزمخشريُّ في الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف؛ لأنَّ قوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} صالحٌ لأن يكون جواباً للشَّرطِ، والمعطوف عليه، وأيضاً: فقول الزمخشريّ:» فذاك «هو اسمٌ مفردٌ، لا ينعقدُ منه جوابُ شرطٍ، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يصح منها جواب الشرط، إذ لا يفهمُ من قوله:» فَذَاكَ «الجزء الذي حذف، وهو الذي تحصل به فائدة الإسناد» .
قال شهاب الدِّين: «قد تقرَّر: أنَّ اسم الإشارة قد يُشار به إلى شيئين فأكثر، وهو بلفظِ الإفراد؛ فكأ، َّ ذاكَ واقعٌ موقع الجملة الواقعة جواباً، ويجُوزُ أن يكون قد حُذف الخبرُ؛ لدلالةِ المعنى عليه، إذ التَّقديرُ: فذاك المرادُ، أو المتمنَّى، أو نحوه» .
وقوله: «إذْ لا يُفْهم الجزء الذي حذف» إلى آخره، ممنوعٌ، بل هو مفهومٌ كما بينا؛ وهو شيءٌ يتبادر إلى الذِّهن.
قوله: {ثُمَّ الله شَهِيدٌ} «ثم» ليست هنا للتَّرتيب الزَّماني، بل هي لترتيب الأخبار، لا لترتيب القصص في أنفسها، قال أبو البقاء: «كقولك: زيدٌ عالمٌ، ثم هو كريم» .
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: الله شهيدٌ على ما يفعلُون في الدَّاريْن، فما معنى» ثم «؟ .
قلت: ذكرت الشهادة، والمراد: مقتضاها، ونيتجتها، وهو العقاب؛ كأنَّه قيل: ثم الله معاقبٌ على ما يفعلون» .
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: «ثَمَّ» بفتح الثاء، جعله ظرفاً لشهادة الله؛ فيكون «ثَمَّ» منصوباً ب «شَهِيدٌ» أي: اللهُ شهيدٌ عليهم في ذلك المكان، وهو مكانُ حشرهم، ويجوز أن يكون ظرفاً لِ «مَرْجعُهم» أي: فإليْنَا مرْجِعُهم، يعني: رجوعهم في ذلك المكانِ، الذي يُثَاب فيه المُحْسِن، ويعاقبُ فيه المُسيء.(10/345)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
قوله - تعالى -: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} الآية.
لمَّا بيَّن حال محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في قومه، بيَّن أنَّ حال كل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مع أقوامهم كذلك.
والآية تدلُّ على أنَّ كلَّ جماعة ممَّن تقدَّم، قد بعث الله إليهم رسُولاً، ولم يهمل أمَّة من الأمم ويؤيِّده قوله - تعالى -: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] .(10/345)
فإن قيل: كيف يصحُّ هذا مع ما يعلمُه من أحْوالِ الفترة؟ .
فالجواب: أنَّ الدَّليل الذي ذكرناه، لا يوجب أن يكون الرَّسُول حاضراً مع القوم؛ لأنَّ تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسُولاً إليهم، كما لا يمنع تقدُّم رسولنا، من كونه مبعوثاً إلينا إلى آخر الأبد.
وفي الكلام إضمار تقديره: فإذا جاء رسُولهُم وبلَّغ، وكذَّبه قوم وصدقه آخرون، قُضِيَ بَيْنَهُم، أي: حُكِمَ وفُصِلَ.
والمراد من الآية:
إمَّا بيان: أنَّ الرسول إذا بعث إلى كلِّ أمَّة، فإنَّه بالتبليغ، وإقامةِ الحُجَّةِ يزيح عللهم، ولم يبق لهم عُذْر؛ فيكون ما يُعَذَّبُونَ به في الآخرة عدلاً لا ظُلْماً، ويدُلُّ عليه قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، وقوله: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] .
وإمَّا أن يكون المرادُ: أنَّ القوم إذا اجتمعوا في الآخرة، جمع الله بينهم وبين رسلهم وقت المحاسبة، وبيان الفصل بين المُطِيعِ والعَاصِي؛ ليشهد عليهم بما شاهد منهم؛ وليقع منهم الاعتراف بأنَّه بلغ رسالات ربِّه، ويدل عليه قوله - تعالى -: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] .
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} الآية.
هذه شبهة خامسة من شبهات مُنْكِري النبوة؛ فإنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كُلَّما هدَّدهُم بنُزُول العذاب، ومرَّ زمان ولم يظهر ذلك العذاب، قالوا: متى هذا الوعد، فاحتجُّوا بعدم ظهوره، على القدح في نُبُوته، واعلم: أنَّهم قالوا ذلك على وجه التَّكذيبِ للرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا أخبرهم بنُزُول العذاب على الأعداء، وبنُصْرَة الأولياء - أو على وجه الاستبعاد، وتدلُّ الآية على أنَّ كلَّ أمَّة قالت لرسُولها مثل ذلك القول؛ بدليل قوله - تعالى - {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} لأنَّه جمع، وهو موافقٌ لقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} .
ثم إنَّه - تعالى - أمره بأن يجيبَ عن هذه الشُّبهةِ بجواب يحسم المادَّة، وهو قوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} والمعنى: أنَّ إنزال العذاب على الأعداء، وإظهار النُّصرة للأولياء لا يقدر عليه إلاَّ الله - سبحانه -، وأنَّه - تعالى - ما عيَّن لذلك وقتاً معيناً، بل تعيين الوقت مُفوَّض إلى الله - سبحانه - بحسب مشيئته.
قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه استثناءٌ متَّصل، تقديره: إلاَّ ما شاءَ الله أن أملكه، وأقدر عليه.
والثاني: أنَّهُ منقطعٌ، قال الزمخشري: «هو استثناءٌ منقطعٌ، أي: ولكن ما شاء اللهُ(10/346)
من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضَّرر وجَلْبَ العذابِ؟» .
فصل
احتجَّ المعتزلة بقوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} بأن هذا الاستثناء، يدلُّ على أنَّ العبد لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، إلاَّ الطَّاعة والمعصية، فهذا الاستثناء يدل على كون العبد مستقبلاً بهما.
وأجيبوا: بأنَّ هذه الاستثناء منقطعٌ، والتقدير: ولكن ما شاء الله من ذلك كائنٌ.
قوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي: مدَّة مضروبة {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} : وقت فناء أعمارهم، قرأ ابن سيرين: «إذا جَاءَ آجالهم فلا يستأخِرُون ساعةً ولا يسْتقدِمُونَ» أي: لا يتأخَّرُون، ولا يتقدمون، وهذه الآية تدلُّ على أنَّ أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله.
فصل
قوله: {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} شرط، وقوله: {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي: لا يتأخَّرون ولا يتقدمون، وهذه الآية تدل على جزاء، و «الفاء» حرف الجزاء؛ فوجب إدخاله على الجزاء، فدلَّت الآيةُ على أنَّ الجزاء يحصل مع حُصُول الشَّرطِ لا يتأخَّر عنه، وأنَّ حرف الفاء لا يدلُّ على التَّراخي؛ وإنَّما يدلُّ على كونه جزاء.
وإذا ثبت هذا، فنقولُ: إذا قال الرجُل لامرأة أجنبيَّة: إن تزوجتك، فأنت طالقٌ؛ قال بعضهم: لا يصح هذا التعليق؛ لأنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ الجزاءَ إنَّما يحصل بحُصُول الشَّرط، فلو صحَّ هذا التعليق، لوجب أن يحصل الطلاق مقارناً للنِّكاح، لما ثبت أنَّ الجزاء يجبُ حصولهُ مع حصول الشرط، وذلك يوجبُ الجمع بين الضِّدَّين، ولمَّا بطل هذا اللاَّزم، وجب ألاَّ يصحَّ التعليق، وقال أبو حنيفة: يَصِحُّ.(10/347)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
قوله - تعالى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً} الآية.
هذا جواب ثانٍ عن قولهم: {متى هذا الوعد} [يونس: 48] وقد تقدَّم الكلام على «أرَأيْتَ» هذه، وأنَّها تتضمَّن معنى: أخبرني، فتتعدَّى إلى اثنين، ثانيهما غالباً جملةٌ استفهاميَّة، فينعقد منها مع ما قبلها مبتدأٌ وخبرٌ، كقولهم: «أرأيتكَ زيداً ما صنع» وتقدَّم مذاهبُ النَّاسِ فيها في «عذاب» ، والمسألةُ من إعمال الثاني؛ إذ هو المختار عند البصريِّين، ولمَّا أَعمله(10/347)
أضمر في الأول وحذفه؛ لأنَّ إبقاءه مخصوصٌ بالضَّرورة، أو جائزُ الذِّكْرِ على قلَّةٍ عند آخرين، ولو أعمل الأول، لأضمر في الثاني إذ الحذف منهُ لا يكونُ إلاَّ في ضرورة، أو في قليلٍ من الكلام.
ومعنى الكلام: قل لهم يا محمد: أخبروني عن عذاب الله، إن أتاكم أيُّ شيءٍ تستعجلون منه، وليس شيءٌ من العذاب يستعجل به؛ لمرارته، وشدَّة إصابته، فهو مُقْتَضٍ لنُفُورِ الطبع منه.
قال الزمخشري: «فإن قلت: بم يتعلَّق الاستفهامُ، وأين جوابُ الشَّرط؟ قلت: تعلَّق ب» أرَأيْتُمْ «لأنَّ المعنى: أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجوابُ الشَّرط محذوفٌ، وهو: تندمُوا على الاستعجَال، أو تعرفُوا الخطأ فيه» .
قال أبو حيَّان: «وما قدَّره غيرُ سائغ؛ لأنَّه لا يقدَّر الجوابُ إلاَّ ممَّا تقدَّمه لفظاً أو تقديراً، تقول:» أنت ظالمٌ إن فعلت «التقدير: إن فعلت، فأنت ظالمٌ، وكذلك {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] التقدير: إن شاء الله نَهْتَدِ، فالذي يُسَوِّغ أن يقدر: إن أتاكم عذابه، فأخبروني ماذا يستعجلُ منهُ المجرمُونَ.
وقال الزمخشريُّ أيضاً:» ويجوز أن يكون {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} جواباً للشرط كقولك: إن أتيتُك ما تُطْعمني؟ ثم تتعلَّق الجملةُ ب «أرأيْتُمْ» ، وأن يكون «أثمَّ إذا ما وقع آمنتُم به» جواباً للشَّرْطِ، و {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} اعتراضاً، والمعنى: إن أتاكم عذابه، آمنتم به بعد وقوع حين لا ينفعكم الإيمان.
قال أبو حيَّان: «وأمَّا تجويزهُ أن يكون» مَاذَا «جواباً للشَّرط فلا يصحُّ؛ لأنَّ جواب الشَّرط إذا كان استفهاماً، فلا بُدَّ فيه من الفاءِ تقول: إنْ زارنا فلانٌ، فأيُّ رجلٍ هو، وإن زارنا فلانٌ، فأيُّ يدٍ لهُ بذلك، ولا يجوزُ حذفها إلاَّ إن كان في ضرورةٍ، والمثالُ الذي ذكره وهو» إنْ أتَيْتُكَ ما تُطعمني؟ «هو من تمثيله، لا من كلام العرب.
وأمَّا قوله: ثُمَّ تتعلَّق الجملةُ ب» أرَأيْتُم «إن عنى بالجملة» مَاذَا يَسْتعجِلُ «فلا يصح ذلك؛ لأنَّه قد جعلها جواباً للشَّرْطِ، وإن عنى بالجملةِ جملة الشَّرطِ، فقد فسَّر هو» أرَأيْتُمْ «بمعنى: أخبرُوني، و» أخبرني «يطلب متعلِّقاً مفعولاً، ولا تقع جملةُ الشَّرطِ موقع مفعول» أخبرني «، وأمَّا تجويزه أن يكون:» أثُمَّ إذا ما وقعَ آمنتُم بِهِ «جواباً للشَّرطِ، و {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} اعتراضاً، فلا يصحُّ أيضاً لما ذكرناه: من أن جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشَّرط إلاَّ ومعها فاءُ الجواب، وأيضاً: ف» ثُمَّ «هنا حرف عطفٍ تعطفُ الجملة التي بعدها على التي قبلها، فالجملةُ الاستفهاميَّة معطوفة، وإذا كانت معطوفة، لم يصحَّ أن تقع جواب الشَّرط، وأيضاً: ف» أرَأيْتُمْ «بمعنى:» أخبروني «يحتاج إلى مفعول، ولا تقع جملة شرطٍ موقعه» .
وكون «أرأيتم» بمعنى «أخبروني» هو الظاهر المشهور، وقال الحوفيُّ: «الرؤية من(10/348)
رؤية القلب التي بمعنى العلم؛ لأنَّها داخلةٌ على الجملة من الاستفهام التي معناها: التقرير، وجواب الشرط محذوفٌ، وتقدير الكلام: أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون، إن أتاكم عذابه» انتهى. فهذا ظاهرٌ في أنَّ «أرأيتم» غير مضمنةٍ معنى الإخبار، وأنَّ الجملة الاستفهاميَّة سدَّت مسدَّ المفعولين، ولكنَّ المشهور الأول. قوله: «مَاذَا يَسْتَعجلُ» قد تقدَّم الكلامُ على هذه الكلمة، ومذاهب النَّاس فيها [البقرة: 26] ، وجوَّز بعضهم هنا أن تكون «ما» مبتدأ، و «ذا» خبره، وهو موصولٌ بمعنى: «الَّذي» ، و «يَسْتَعْجِل» صلته، وعائده محذوفٌ تقديره: أيُّ شيء الذي يستعجله منه، أي: من العذاب، أو من الله - تعالى -.
وجوَّز مكي، وغيره: أن يكون «مَاذَا» كلُّه مبتدأ، أي: يجعل الاسمان بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، والجملة بعده خبر، قال أبو عليٍّ: «وهو ضعيفٌ: لخلوِّ الجملة من ضمير يعُود على المبتدأ» .
وقد أجاب أبو البقاء عن هذا، فقال: «ورُدَّ هذا القول بأنَّ الهاء في» مِنْهُ «تعودُ على المبتدأ؛ كقولك: زيدٌ أخذتُ منه درهماً» .
قال شهاب الدِّين: «ومثلُ أبي علي لا يخفى عليه مثل ذلك، إلاَّ أنَّه لا يرى عود الهاء على الموصول؛ لأنَّ الظاهر عودها على العذاب» .
قال أبو حيَّان: «والظَّاهرُ عودُ الضمير في» مِنْه «على العذاب، وبه يحصل الرَّبْطُ لجملة الاستفهام بمعفول» أرأيتم «المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل» .
وقال مكي: «وإن شئت جعلت» ما «، و» ذا «بمنزلة اسمٍ واحدٍ في موضع رفع بالابتداء، والجملة التي بعدهُ الخبر، والهاءُ في» منهُ «تعود أيضاً على العذاب» .
قال شهابُ الدِّين: «فقد ترك المبتدأ بلا رابطٍ لفظي، حيث جعل الهاءَ عائدةً على غير المبتدأ، فيكون العائدُ عنده محذوفاً، لكنَّه قال بعد ذلك:» فإن جعلت الهاء في «منهُ» تعود على الله - جلَّ ذكره -، و «ما» و «ذا» اسماً واحداً، كانت «ما» في موضع نصبٍ ب «يستعجل» والمعنى: أيَّ شيء يستعجلُ المجرمون من الله «فقوله هذا يؤذن بأنَّ الضمير لمَّا عاد على غير المبتدأ، جعله مفعولاً مقدماً، وهذا الوجه بعينه جائزٌ فيما إذا جعل الضمير عائداً على العذاب.
ووجه الرَّفع على الابتداء جائزٌ، فيما إذا جعل الضمير عائداً على الله - تعالى -، إذ العائدُ الرَّابطُ مقدرٌ، كما تقدم التنبيهُ عليه «.
حاصل الجواب: أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب: بتقدير أن يحصل هذا المطلوبُ، ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم نؤمن عنده، فذلك باطل؛ لأنَّ(10/349)
الإيمان في ذلك الوقت لا يفيد نفعاً ألبتَّة؛ لأنَّه إيمان في وقت انحباس النفس؛ فثبت أنَّ الذي تطلبونه لو أتاكم، لم يحصل منه إلاَّ العذاب في الدنيا، ثم يحصل عقيبة يوم القيام عذابٌ آخر أشدُّ منه، ثم يقرون ذلك العذاب بكلام يدل على الإهانةِ، وهو قوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} .
فالحاصل: أنَّ هذا الذي تطلبونه محضُ الضَّرر العادي من جهات النفع، والعاقل لا يفعل ذلك.
وقوله:» بَيَاتاً «أي: ليلاً يقال: بت ليلتي أفعل كذا؛ لأنَّ الظاهر أنَّ الإنسان يكون في البيت بالليل؛ فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل، والبيات: مصدر مثل التَّبييت؛ كالوداع، والسراح، ويقال في النهار ظللت أفعل كذا؛ لأنَّ الظاهر أن الإنسان يكون في النهار في الظِّلِّ، وانتصب» بياتاً «على الظرف أي: وقت بيات.
قوله:» أثُمَّ «قد تقدَّم خلافُ الزمخشري للجمهور في ذلك، حيث يقدِّر جملة بين همزة الاستفهام، وحرف العطف، و» ثمَّ «: حرفُ عطف.
واعلم: أنَّ دخول حرف الاستفهام على» ثُمَّ «كدخوله على» الواوِ «و» الفاء «في قوله: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} [الأعراف: 98] ، {أَهْلُ القرى} [الأعراف: 97] وهو يفيد التَّقريع والتَّوبيخ، وقال الطبري:» أثُمَّ «هذه بضمِّ الثاء ليست التي بمعنى: العطف، وإنَّما هي بمعنى:» هنالك «وهذا لا يوافقُ عليه؛ لأنَّ هذا المعنى لا يعرفُ في» ثُمَّ «بضم» الثاء «، إلاَّ أنَّه قد قرأ طلحة بن مصرِّف:» أثَمَّ «بفتح الثاء، وحينئذ يصحُّ تفسيرها بمعنى: هنالك.
قوله:» ألآن «قد تقدَّم الكلام في {الآن} [البقرة: 72] ، وقرأ الجمهور:» ألآن «بهمزة الاستفهام داخله على» الآن «وقد تقدَّم مذاهبُ الفراء في ذلك، و» الآن «نصب بمضمر تقديره: الآن آمنتم، ودلَّ على هذا الفعل المقدَّر الفعلُ الذي تقدمهُ، وهو قوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} ولا يجوز أن يعمل فيه» آمنتُم «الظَّاهرُ؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده، كما أنَّ ما بعده لا يعملُ فيما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، وهذا الفعلُ المقدَّرُ ومعمولُه على إضمار قول، أي: قيل لهم إذ آمنوا بعد وقوع العذابِ: آمنتُم الآن به، وقرأ عيسى، وطلحة:» آمنتم به الآن «بوصل الهمزة من غير استفهامٍ، وعلى هذه القراءة ف» الآن «منصوبٌ ب» آمنتم «هذا الظَّاهر.
قوله: {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} «وقَدْ كُنتُم» جملةٌ حاليةٌ، قال الزمخشري: «وقد(10/350)
كُنتُم به تَستعجلُون؛ يعني: تُكذِّبُونَ؛ لأنَّ استعجالهم كان على جهةِ التَّكذيب، والإنكار» .
فجعله من باب الكناية؛ لأنَّه دلالةٌ على الشَّيء بلازمه، نحو «هو طويلُ النَّجاد» كنيت به عن طُول قامته؛ لأنَّ طولَ نجاده لازمٌ لطول قامته، وهو باب بليغٌ.
وقوله: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} هذه الجملةُ على قراءة العامَّة؛ عطفٌ على ذلك الفعل المقدَّر الناصب ل «الآن» وعلى قراءة طلحة هو استئناف إخبار عمَّا يقال لهم يوم القيامة، و «ذُوقُوا» و «هَلْ تُجزَونَ» كلُّه في محلِّ نصبٍ بالقول، وقوله: «إلاَّ بِمَا» هو المفعولُ الثاني ل «تُجْزَون» ، والأولُ قائمٌ مقام الفاعلِ، وهو استثناءٌ مفرَّغٌ.
فصل
دلَّت الآية على أنَّ الجزاء يوجب العمل، أمَّا عند الفلاسفة: فهو أثر العمل، وأمَّا عند المعتزلة: فإنَّ العمل الصَّالح يوجب استحقاق الثَّواب على الله - تعالى -، وأما عند أهل السنة؛ فلأنَّ ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض.
قالت المعتزلةُ: ودلَّت الآية على كون العبد مكتسباً، وعند أهل السُّنَّة معناها: أنَّ مجموع القُدْرَة مع الدَّاعية الحاصلة يوجب الفعل.(10/351)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} الآية.
لمَّا أخبر - تعالى - عن الكفَّار، بأنهم يقولون: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وأجاب عنه بما تقدَّم، حكى عنهم: أنهم رجعُوا إلى الرَّسُول مرَّة أخرى في هذه الواقعة، وسألوه عن ذلك السُّؤال مرَّة أخرى، وقالوا: أحقٌّ هو؟ واعلم: أنهم سالوا أولاً عن زمانِ وقوعه، وههنا سألوا عن تحقُّقه في نفسه، ولهذا اختلف جوابهما.
فأجاب عن الأول، وهو السؤال عن الزمان، بقوله {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس: 49] .
وأجاب عن الثاني: بتحققه بالقسم، بقوله {إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} وفائدته أن يستميلهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد؛ لأنَّ الظاهر أنَّ من أخبر عن شيء، وأكَّده بالقسم، فقد أخرجه عن الهَزل إلى الجدِّ، وأيضاً: فإنَّ النَّاس طبقات: فمنهم من لا يُقِرّ بشيءٍ إلاَّ بالبرهان الحقيقيِّ، ومنهم من ينتفع بالأشياء الإقناعيَّة، نحو القسم.
قوله: «أحَقٌّ هُوَ» يجوز أن يكون «حَقٌّ» مبتدأ، و «هو» مرفوعاً بالفاعليَّة سدَّ مسدَّ(10/351)
الخبر، و «حَقَّ» وإن كان في الأصل مصدراً ليس بمعنى اسم فاعل ولا مفعول؛ لكنَّه في قوَّة «ثابت» فلذلك رفع الظَّاهر، ويجوز أن يكون «حقٌّ» خبراً مقدَّماً، و «هو» مبتدأ مؤخراً، واختلف في «يَسْتَنبئُونَك» هذه: هل هي متعدِّيةٌ إلى واحدٍ، أو إلى اثنين، أو إلى ثلاثة؟ .
فقال الزمخشري: «ويَسْتنْبِئُونك» ، فيقولون: أحقٌّ هو فظاهرُ هذه العبارة أنَّها متعدية لواحدٍ، وأن الجملة الاستفهايمة في محلِّ نصب بذلك القول المضمر المعطوف على «يَسْتنبئُونَك» وكذلك فهم عنه أبو حيَّان، أعني: تعدِّيها لواحدٍ.
وقال مكِّي: «أحقٌّ هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضع المفعُولِ الثاني، إذا جعلْتَ» يستنبئونك «بمعنى: يَسْتخْبِرُونكَ، فإذا جعلتَ» يَسْتَنْبِئُونَ «بمعنى: يَسْتعْلِمُونك، كان» أحقٌّ هُوَ «ابتداء وخبراً في موضع المفعولين؛ لأنَّ» أنْبَأ «إذا كان بمعنى: أعلم، وكان متعدِّياً إلى ثلاثةِ مفاعيل، يجوزُ الاكتفاءُ بواحدٍ، ولا يجوز الاكتفاء باثنين دون الثالث، وإذا كانت» أنبأ «بمعنى: أخْبَر، تعدَّت إلى مفعولين، ولا يجوزُ الاكتفاءُ بواحد دون الثاني، وأنبأ ونبَّأ في التعدِّي سواءٌ» .
وقال ابن عطيَّة: «معناه: يَسْتخبرونك، وهو على هذا يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما الكافُ، والآخرُ في الابتداء والخبر» فعلى ما قال، تكون «يَسْتَنْبِئُونكَ» معلَّقة بالاستفهام، وأصل استنبأ: أن يتعدَّى إلى مقعولين أحدهما ب «عَنْ» تقول: اسْتَنْبَأتُ زيداً عن عمور، أي: طلبت منه أن يُنِْئَني عن عمرو، ثمَّ قال: «والظَّاهر أنَّها تحتاج إلى ثلاثة مفاعيل أحدها الكاف، والابتداء والخبر سدَّ مسدَّ المفعولين» .
قال أبو حيَّان: «وليس كما ذكر؛ لأنَّ استعلم لا يحفظ كونها متعدِّيةٌ إلى مفاعيل ثلاثةٍ، لا يحفظ» استعملتُ زيداص عمراً قائماً «فتكون جملةُ الاستفهام سدَّت مسدَّ المفعولين، ولا يلزمُ من كونها بمعنى» يَسْتعْلمونك «أن تتعدَّى إلى ثلاثة؛ لأنَّ» استعْلَم «لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ، كما ذكرنا» .
وقد سبق ابن عطية إلى هذا مكِّيٌّ، كما تقدَّم عنه والظاهرُ جوازُ ذلك، ويكون التَّعدِّي إلى ثالثٍ قد حصل بالسِّين؛ لأنَّهم نصُّوا على أنَّ السِّين تعدي، فيكون الأصل: «عَلِمَ زيدٌ عمراً قائماً» ثم تقول: «اسْتعلمْتُ زيداً عمراً قائماً» إلاَّ أنَّ النحويِّين نصُّوا على أنَّه لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ إلاَّ «عَلِمَ» و «رأى» المنقولين بخصوصية همزةِ التعدِّي إلى ثالثٍ، وأنْبَأ، ونَبَّأ، وأخبر، وخبَّر وحدَّث، وقرأ الأعمش: «آلحقُّ» بلام التعريف، قال الزمخشري: «وهو أدخَلُ في الاستهزاء، لتضمُّنه معنى التعريض، فإنه باطلٌ؛ وذلك لأنَّ(10/352)
اللاًَّم للجنس، فكأنه قال: أهُو الحق لا الباطلُ، أو: أو الذي سمَّيتُمُوه الحق» والضمير، أعني: «هو» عائدٌ إمَّا على العذاب، أو على الشَّرع، أو على القرآن، أو على الوعيد، أو على أمر السَّاعة.
قوله: «إي وربِّي» «إي» حرف جوابٍ بمعنى «نعم» ولكنَّها تختصُّ بالقسم، أي: لا تُستعمل إلاَّ في القسم بخلافِ «نعم» .
قال الزمخشري: «وإي: بمعنى نعم في القسم خاصةً؛ كما كان» هَلْ «بمعنى» قَدْ «في الاستفهام خاصَّة، وسمِعْتُهُم يقولون في التَّصديق» إيْوَ «فيَصِلُونَه بواو القسم، ولا ينْطِقُون به وحده» .
قال أبو حيَّان: «لا حُجَّة فيما سمعه لعدمِ الحُجَّة في كلام من سمعهُ؛ لفسادِ كلامه وكلام من قبله بأزمانٍ كثيرة» .
وقال ابن عطيَّة: «هي لفظةٌ تتقدَّم القسم بمعنى: نعم، ويجيءُ بعدها حرفُ القسم وقد لا يجيءُ، تقول: إي وربِّي وإي رَبِّي» .
قوله: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} يجوزُ أن تكون الحجازيَّة وأن تكون التميميَّة؛ لخفاء النَّصْبِ، أو الرفع في الخبر.
وهذا عند غير الفارسي، وأتباعه، أعني: جواز زيادة الباء في خبر التميمية، وهذه الجملة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون معطوفة على جواب القسم؛ فيكون قد أجاب القسم بجملتين؛ إحداهما: مثبتةٌ مؤكَّدةٌ ب «إنَّ واللاَّم، والأخرى: منفيةٌ مؤكَّدةٌ بزيادة الباءِ.
والثاني: أنَّها مستأنفةٌ، سيقت للإخبار بعجزهم عن التَّعجيز، و» مُعْجَِز «من أعجز، فهو متعدِّ لواحدٍ، كقوله - تعالى -: {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} [الجن: 12] فالمعفول هنا محذوفٌ، أي: بمعجزين الله، وقال الزجاج:» أي: أنتم ممَّن يُعْجِزُ من يُعذِّبُكم «، ويجوز أن يكون استعمل استعمال اللازم؛ لأنَّه قد كثر فيه حذفُ المفعول، حتَّى قالت العرب:» أعْجَزَ فلانٌ «إذا ذهب في الأرض فلمْ يُقدر عليه، قال بعض المُفَسِّرين: المعنى: ما أنتم بمُعْجزين، أي: بفَائتينَ من العذاب؛ لأنَّ من عجز عن شيءٍ، فقد فاتهُ.
قوله - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض} الآية.
أي: أشركت ما في الأرض، {لاَفْتَدَتْ بِهِ} إلاَّ أنَّ ذلك يتعذر؛ لأنه في القيامةِ لا يملك شيئاً؛ لقوله - تعالى -: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} [مريم: 95] وبتقدير: أن يملك خزائن الأرض لا يقبل منه الفداء؛ لقوله - تعالى -: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48](10/353)
وقوله: «ظَلَمَتْ» في محل جرِّ صفةٍ ل «نَفْسٍ» أي: لكلِّ نفس ظالمة، و «ما فِي الأرض» اسمُ «أنَّ» و «لكلِّ» هو الخبر.
قوله: {لاَفْتَدَتْ بِهِ} : «افتدى» يجوز أن يكون متعدياً، وأن يكون قاصراً، فإذا كان مطاوعاً ل «فَدَى» كان قاصراً، تقول: فَدَيتُهُ فافْتَدَى، ويكُون بمعنى: فَدَى «فيتعدَّى لواحدٍ، والفعلُ هنا يحتملُ الوجهين: فإن جعلناه مُتعدِّياً، فمفعوله محذوفٌ تقديره: لافتدت به نفسها، وهو في المجاز، كقوله: {كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] .
قوله:» وَأَسَرُّواْ «قيل:» أسرَّ «من الأضداد، يستعمل بمعنى: أظهر؛ كقول الفرزدق: [الطويل]
2905 - وَلَمَّا رَأَى الحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ ... أَسَرَّ الحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا
وقول الآخر: [الوافر]
2906 - فأسْررتُ النَّدامَةَ يَوْمَ نَادَى ... بِرَدِّ جمالِ غاضِرَةَ المُنَادِي
ويستعمل بمعنى:» أخْفَى «وهو المشهورُ في اللُّغةِ، كقوله - تعالى -: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] . وهو في الآية يحتمل الوجهين، وقيل إنَّه ماض على بابه قد وقع، وقيل: بمعنى: المستقبل؛ لأنَّها لمَّا كانت واجبة الوقوع جعل مستقبلها كالماضي، وقد أبعد بعضهم، فقال: {وَأَسَرُّواْ الندامة} أي: بدتْ بالنَّدامة أسِرَّةُ وجوههم، أي: تكاسيرُ جباههم. قوله:» لَمَّا رَأَوُاْ «يجوزُ أن تكون حرفاً، وجوابها محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه، أو هو المتقدِّم عند من يرى تقديم جواب الشَّرطِ جائزاً، ويجوز أن تكون بمعنى:» حين «والنَّاصبُ لها:» أسَرُّوا «.
فصل
إذا فسرنا الإسْرار بالإخفاء ففيه وجوهٌ:
الأول: أنهم لمَّا رَأوا العذابَ الشَّديد، صارُوا مبهُوتين، لم يطيقُوا بكاء ولا صراخاً سوى إسرار النَّدامة، كمن يذهبُ به ليُصلب، فإنَّه يبقى مبهُوتاً لا ينطق بكلمة.
الثاني: أنَّهم أسرُّوا النَّدامة من سفلتهم، وأتباعهم، حياء منهم، وخوفاً من توبيخهم.
فإن قيل: إنَّ مهابة ذلك الوقت تمنع الإنسان من هذا التَّدبير، فكيف أقدمُوا عليه؟ .
فالجواب: أنَّ هذا الكتمان قبل الاحتراق، فإذا احترقوا، تركوا هذا الإخفاء(10/354)
وأظهروه؛ لقوله - تعالى -: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] .
الثالث: أنَّهم أسرُّوا النَّدامة؛ لأنَّهم أخلصُوا لله في تلك الندامة، ومن أخلص في الدعاء أسرَّهُ، وفيه تهكُّمٌ بهم وبإخلاصهم، أي: أنَّهم إنَّما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته.
ومن فسَّر الإسرار بالإظهار، فإنَّهم إنَّما أخفُوا النَّدامة على الكفر والفسق في الدُّنيا؛ لأجْلِ حفظ الرِّياسة، وفي القيامة يبطل هذا الغرض؛ فوجب الإظهار.
قوله «وَقُضِيَ» يجوزُ أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون معطوفاً على «رَأوْا» فيكون داخلاً في حيَّز «لمَّا» والضَّميرُ في «بينهُم» يعودُ على «كُلِّ نفسٍ» في المعنى، وقال الزمخشري: «بين الظَّالمين والمظلومين، دلَّ على ذلك ذكرُ الظُّلْمِ» .
وقيل: يعود على الرؤساء والأتباع، و «بِالقِسْطِ» يجوز أن تكون الباءُ للمصاحبةِ، وأن تكون للآلة، وقوله: «وإليه تُرْجعُون» قدَّم الجارَّ للاختصاص، أي: إليه لا إلى غيره ترجعُون؛ ولأجْل الفواصل، وقرأ العامَّةُ: «تُرجعُون» بالخطاب، وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر: «يُرْجعُون» بياء الغيبة.
قوله تعالى: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} [يونس: 66] .
قيل: تعلُّق هذه الآية بما قبلها، هو أنَّه - تعالى - لمَّا قال: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ} قال ههنا: ليس للظَّالم شيء يفتدى به؛ فإنَّ الأشياء كلَّها ملكُ الله.
وقيل: إنَّه - تعالى - لمَّا قال: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} ثم قال لهُ: {قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} أتبعهُ بهذا البرهان القاطع على إثبات الإله القادر الحكيم، وهو قوله: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} [يونس: 66] فدلَّ على أنَّ ما سواه فهو مِلْكُه ومُلْكُه، ولم يذكر الدَّليل على ذلك؛ لأنَّه قد استقصى تقريرهُ في أول السورة، في قوله: {إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار} [يونس: 6] الآية، وقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} [يونس: 5] فاكتفى بذكره هناك، وإذا كان الأمر كذلك، كان قادراً على كلِّ المُمْكناتِ، عالماً بكلِّ المعلومات، غنيّاً عن جميع الحاجات، فيكون قادراً على صحَّة الميعاد، وعلى إنزال العذاب على الكُفَّار في الدُّنيا والآخرة، وعلى إيصال الرَّحْمَة للأولياء في الدُّنيا والآخرة، ويكُون قادراً على تأييدِ رسوله بالدَّلائل القاطعة، والمعجزات الباهرة، وكان كل ما وعد به، فهو حقٌّ لا بُدَّ وأن يقع، وأنَّه منزَّهٌ عن الخلف في وعده، فلمَّا أخبر عن نُزول العذاب بهؤلاء الكُفَّار، وبحصول الحشر والنشر، وجب القطع بوقوعه، فثبت بهذا البيان أن قوله: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} يوجب الجزم بصحَّة قوله: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} ثم قال: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: غافلُون عن هذه الدَّلائل، ثُمَّ(10/355)
أكد هذا الدليل بقوله: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: إنه لمَّا قدر على الإحياء في المرَّة الأولى، فإذا أماته، وجب أن يبقى قادراً على إحيائه ثانياً؛ فظهر أمرهُ لنبيه بأن يقول: {إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} .
قوله(10/356)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
- تعالى
-: {يا
أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} الآية.
اعلم: أنَّه - تعالى - لمَّا بيَّن أنَّ الرسول حقٌّ وصدقٌ بظهور المعجزات على يديه، في قوله: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله} [يونس: 37] إلى قوله {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38] وصف القرآن هنا بصفاتٍ أربع:
أولها: كونه موعظة.
وثانيها: كوه شفاءً لما في الصُّدُور.
وثالثها: كونه هُدًى.
ورابعها: كونه رحمة للعالمين.
قوله: «مِّن رَّبِّكُمْ» يجوز أن تكون «مِنْ» لابتداء الغاية، فتتعلَّق حينئذٍ ب «جَآءَتْكُمْ» ، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، ويجوز أن تكون للتَّبعيض، فتتعلق بمحذوف على أنَّها صفةٌ ل «موعظة» أي: موعظةٌ كائنةٌ من مواعظ ربِّكُم.
وقوله: {مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} من باب ما عطف فيه الصِّفات بعضها على بعضٍ، أي: قد جاءتكم موعظةٌ جامعةٌ لهذه الأشياء كلِّها، و «شِفَاءٌ» في الأصل مصدرٌ جعل وصفاً مبالغة، أو هو اسمٌ لما يُشْفَى به، أي: يُداوى، فهو كالدَّواءِ لما يُدَاوى، و «لِمَا في الصُّدورِ» يجوز أن يكون صفةً ل «شِفَاء» فيتعلق بمحذوفٍ، وأن تكون اللامُ زائدةً في المفعول؛ لأنَّ العامل فرعٌ إذا قلنا بأنَّه مصدرٌ.
وقوله: «لِلْمؤمنينَ» محتملٌ لهذين الوجهين، وهو من التَّنازُع؛ لأنَّ كلاًّ من الهُدَى والرحمة يطلبُه.
فصل
أمَّا كون القرآن موعظةً؛ فلاشتماله على المواعظِ والقصص، وكونه شفاءً، أي: دواءً، لجهل ما في الصُّدورِ، أي: شفاء لعمى القُلُوب، والصُّدُور موضعُ القلب، وهو أعز موضع في الإنسان لجواز القلب، قال - تعالى -: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] وكونه هُدًى، أي: من الضَّلالة، {وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} ، والرَّحْمَة: هي النعمة على المحتاج؛ فإنَّه لو أهدى ملكٌ إلى ملك شيئاً، فإنَّه لا يقال رحمة وإن كان ذلك نعمة؛ فإنَّه لم يصنعها إلى المحتاج.(10/356)
قوله: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ} : في تعلٌُّ هذا الجارِّ أوجهٌ:
أحدها: أنَّ «بِفَضْلِ» و «بِرَحْمتهِ» متعلقٌ بمحذوفٍ، تقديره: بفضل الله وبرحمته ليفرحُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، فحذف الفعل الأول؛ لدلالة الثاني عليه، فهما جملتان.
ويدلُّ على ذلك قول الزمخشري: «أصلُ الكلام: بفَضْلِ الله وبرحمته، فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا، والتَّكرير للتَّأكيد، والتَّقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحدُ الفعلين؛ لدلالةِ المذكور عليه، والفاءُ داخلةٌ لمعنى الشَّرطِ، كأنَّه قيل: إن فرحُوا بشيءٍ، فليَخُصُّوهُمَا بالفرح، فإنَّه لا مفروح به أحق منهما» .
الثاني: أنَّ الجارَّ الأول متعلِّقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ والمعنى، لا نفس الفعل الملفوظ به، والتقديرُ: بفضل الله وبرحمته، فليعتنُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، قاله الزمخشري.
الثالث: أن يتعلَّق الجارُّ الأوَّل ب «جَاءَتكُم» قال الزمخشري: «ويجوز أن يراد: قد جاءتكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمتهِ، فبذلك فليفرحوا، أي: فَبِمجِيئهما فليَفْرَحُوا» .
قال أبو حيَّان: «أمَّا إضمار» فليَعْتنُوا «فلا دليل عليه» . قال شهاب الدِّين: «الدَّلالةُ عليه من السِّياق واضحةٌ، وليس شرطُ الدَّلالةِ أن تكون لفظيَّة» .
وقال أبو حيَّان: وأمَّا تعلُّقُه بقوله: «قَدْ جَاءتُكم» فينبغي أن يُقدَّرَ محذوفاً بعد «قُلْ» ، ولا يكونهُ متعلِّقاً ب «جَاءَتْكُم» الأولى؛ للفَصْل بينهما ب «قُلْ» ، وهذا إيراد واضحٌ، ويجُوزُ أن يكون «بِفَضْلِ اللهِ» صفةً ل «مَوْعِظَة» أي: موعظةٌ مصاحبةٌ، أو ملتبسةٌ بفضل اللهِ.
الرابع: قال الحوفيُّ: «الباءُ متعلِّقةٌ بما دلَّ عليه المعنى، أي: قد جاءتكم الموعظة بفضل الله» .
الخامس: أنَّ الفاء الأولى زائدةٌ، وأنَّ قوله: «بذلك» بدلٌ ممَّا قبله، وهو «بِفَضْلِ الله وبرحمتهِ» وأُشير بذلك إلى اثنين؛ كقوله: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] .
وقوله: [الرمل]
2907 - إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مدًى ... وكِلاَ ذلكَ وجْهٌ وقَبَلْ
وفي هاتين الفاءين أوجهٌ:
أحدها: أنَّ الأولى زائدةٌ، وقد تقدَّم في الوجه الخامس.(10/357)
الثاني: أنَّ الفاء الثانية مكررةٌ للتَّوكيد، فعلى هذا لا تكونُ الأولى زائدةً، ويكون أصل التَّركيب: فبذلك ليفرحوا، وعلى القول الأول قبلهُ يكون أصلُ التَّركيب: بذلك فليَفْرَحُوا.
الثالث: قال أبو البقاء: الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: فليَعْجَبُوا بذلك فليَفْرَحُوا؛ كقولهم: زيداً فاضربه، أي: تعمَّد زيداً فاضربه والجمهورُ على «فَلْيَفْرَحُوا» بياء الغيبة.
وقرأ عثمان بن عفان، وأبيُّ، وأنس، والحسن، وأبو جراء، وابن هرمز، وابن سيرين: بتاء الخطاب، وهي قراءةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال الزمخشري: «وهو الأصلُ والقياسُ» .
قال أبو حيَّان: «إنَّها لغةٌ قليلة» .
يعنى أنَّ القياسَ أن يُؤمَرَ المخاطب بصيغةِ «افعل» ، وبهذا الأصل قرأ أبيُّ: «فَافْرَحُوا» وهي في مصحفه كذلك، وهذه قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ: وهي أنَّ الأمر باللاَّم يكثر في الغائب، والمخاطب المبنيِّ للمفعول، مثال الأول: «لِيقم زيدٌ» وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور، ومثال الثاني: لِتُعْنَ بحاجتي، ولتضرب يا زيد، فإن كان مبنياً للفاعل، كان قليلاً؛ كقراءة عثمان، ومن معه، وفي الحديث: «لتأخُذُوا مصافَّكُم» بل الكثير في هذا النَّوْع الأمرُ بصيغة «افْعَلْ» نحو: قُمْ يا زيد، وقوموا، وكذلك يضعف الأمر باللاَّم للمتكلم وحدهُ، أو معه غيره، فالأول نحو: «لأقُمْ» تأمر نفسك بالقيام، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «قُومُوا فلأصَلَّ لكُم» ومثال الثاني: لِنَقُمْ، أي: نحن، وكذلك النَّهْي؛ ومنه قول الشَّاعر: [الكامل]
2908 - إذَا ما خَرَجْنَا مِنْ «دِمشْقَ» فلا نَعُدْ ... لهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجُرَاضِمُ
ونقل ابنُ عطيَّة، عن ابن عامر: أنَّه قرأ: «فَلتَفْرَحُوا» خطاباً، وهذه ليست مشهورة عنه. وقرأ الحسن، وأبو التياح: «فَليَفْرَحُوا» بكسر اللام، وهو الأصل.
قوله: {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} «هو» عائدٌ على الفضل والرَّحْمَةِ، وإن كانا شيئين؛ لأنَّهُمَا بمعنى شيء واحد، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد؛ ولذلك أشير إليهما بإشارة واحدةٍ.
وقرأ ابن عامر: «تَجْمَعُون» بتاء الخطاب، وهو يحتمل وجهين:(10/358)
أحدهما: أن يكون من باب الالتفات، فيكون في المعنى كقراءة الجماعة، فإنَّ الضَّمير يُراد من يُرادُ بالضَّمير في قوله: «فَلْيَفْرَحُوا» .
والثاني: أنَّه خطاب لقوله: {يا أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ} وهذه القراءةُ تناسبُ قراءة الخطاب في قوله «فَلْيَفْرَحُوا» كما نقلها ابنُ عطيَّة عنه أيضاً.
فصل
قال مجاهد وقتادةُ: فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن. وقال أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: فضل الله: القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله.
وقال ابن عمر: فضلُ الله: الإسلام، ورحمته: تزيينهُ في القلب، وقال خالدُ بن معدان: فضلُ الله: الإسلام، ورحمته: السُّنَن.
وقيل: فضل الله: الإيمان، ورحمته: الجنَّة، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} أي: لِيَفْرَحِ المؤمنون أن جعلهم من أهله، {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أي: خير ممَّا يجمعه الكُفَّار من الأموالِ؛ لأنَّ الآخرة خيرٌ وأبْقَى، وما كان عند الله، فهو أولى بالطَّلب.(10/359)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
قوله - تعالى - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} الآية.
قال ابن الخطيب: ذكر النَّاسُ في تعلُّقِ هذه الآية بما قبلها وجوهاً، ولا أستحسن واحداً منها. والذي يخطر بالبال وجهان:
الأول: أنَّ المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة، وذلك أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال للقوم: «إنَّكُم تحكُمُون بحلِّ بعض الأشياء، وحرمة بعضها،(10/359)
فهذا الحكم تقولونه افتراءً على الله، أم تعلمُون أنَّهُ حكمٌ حَكَمَ اللهُ به» ؛ والأول باطلٌ بالاتِّفاق، فلم يبقَ إلاَّ الثَّاني، ومن المعلُوم أنَّه - تعالى - ما خاطبكم به من غير واسطةٍ، ولمَّا بطل هذا، ثبتَ أنَّ هذه الأحكام إنَّما وصلتْ إليكم بقول رسولٍ أرسله الله إليكم، ونبيِّ بعثهُ الله إليكم، وذلك يدلُّ على اعترافكم بصحَّةِ النبوة والرِّسالة، فكيف تُبالغُوا هذه المبالغاتِ العظيمةِ في إنكار النبوة؟ .
الوجه الثاني: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا ذكر الدَّلائل الكثيرة على صحَّة نبوَّة نفسه، وبيَّن فساد سؤالاتهم، وشبهاتهم في إنكارها، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم، وبيَّن أنَّ التمييز بين هذه الأشياء بالحلِّ والحرمةِ، مع أنَّه لم يشهد بذلك لا عقلٌ ولا نقلٌ، فدل على أنَّه طريق باطلٌ، وأنَّهم ليسُوا على شيءٍ.
قوله: «أَرَأَيْتُمْ» : هذه بمعنى: «أخْبرُوني» . وقوله: «ما أنزلَ» يجُوز أن تكُون «مَا» موصولةً بمعنى: «الَّذي» ، والعائد محذوفٌ، أي: ما أنزله، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولاً أولاً، والثاني هو الجملة من قوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} ؟ والعائدُ من هذه الجملة على المفعول الأولِ محذوفٌ، تقديره: آلله أذن لكم فيه؛ واعترض على هذا: بأنَّ قولهُ «قُلْ» يمنع من وقوع الجملة بعده مفعولاً ثانياً.
وأجيب عنه: بأنَّه كُرِّرَ توكيداً، ويجوز أن تكون «مَا» استفهاميَّة منصوبة المحلِّ ب «أنزل» وهي حينئذٍ معلَّقةٌ ل «أرأيْتُم» وإلى هذا ذهب الحوفيُّ، والزمخشريُّ، ويجوز أن تكون «ما» الاستفهاميَّةُ في محلِّ رفع بالابتداء، والجملةُ من قوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} خبره، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم، أي: أذن لكم فيه، وهذه الجملة الاستفهاميةُ معلِّقةٌ ل «أرَأيْتُم» ، والظاهرُ من هذه الأوجه هو الأول؛ لأنَّ فيه إبقاءاً ل «أرَأيْتَ» على بابها من تعدِّيها إلى اثنين، وأنَّها مؤثِّرةٌ في أولهما بخلاف جعل «ما» استفهامية، فإنَّها مُعلِّقةٌ ل «أرأيت» وسادَّةٌ مسدَّ المفعولين.
قوله: «مِنْ رزقٍ» : يجوز أن يكون حالاً من الموصولٍ، وأن تكون «مِنْ» : لبيان الجنس، و «أنْزَلَ» على بابها، وهو على حذف مضافٍ، أي: أنزله من سبب رزقٍ وهو المطرُ، وقيل: تُجوِّز بالإنزال علن الخلق، كقوله:
{وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25] {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام} [الزمر: 6] .
قوله: {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} في «أم» هذه وجهان:
أحدهما: أنها متصلةٌ عاطفةٌ، تقديره: أخبروني: آللهُ أذِنَ لكم في التحليل والتحريم، فإنكم تفعلون ذلك بإذنه، أم تكذبُون على الله في نسبة ذلك إليه.
والثاني: أن تكون منقطعةً.(10/360)
قال الزمخشري: «ويجوز أن تكون الهمزةُ للإنكارِ، و» أمْ «منقطعةٌ بمعنى: بل أتَفْتَرُونَ على الله، تقريراً للافتراء» والظَّاهرُ هو الأولُ؛ إذ المعادلةُ بين الجملتين اللتين بمعنى المفرد واضحةٌ، إذ التقدير: أيُّ الأمرين وقع إذن الله لكم في ذلك، أم افتراؤكم عليه؟ .
فصل
المراد بالشَّيء الذي جعلوه حراماً: ما ذكروه من تحريم السائبة، والوصيلة، والحام، وقولهم {هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} [الأنعام: 36] ، وقولهم: {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] وقولهم: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين} [الأنعام: 143] ويدلُّ على ذلك: أنَّ قوله: {فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} إشارة إلى أمر تقدَّم منهم، ولمْ يحكِ الله - تعالى - عنهم إلاَّ هذا؛ فوجب توجيه الكلام إليه، ثم لمَّا حكى تعالى ذلك عنهم، قال لرسوله: {قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} وهذه قسمةٌ صحيحةٌ؛ لأنَّ هذه الأحكام: إمَّا أن تكون من الله - تعالى -، أو لم تكن، فإن كانت من الله فهو المراد بقوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} وإنْ كانت ليست من الله، فهو المراد بقوله: {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} .
فصل
استدلَّ نفاةُ القياس بهذه الآية على بُطلان القياس.
قال القرطبيُّ: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ القياس دليلُ قول الله - تعالى -؛ فيكون التَّحْليل والتَّحريم من الله - تعالى -، عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم، فإن خالف في كون القياس دليلاً لله - تعالى -، فهو خروجٌ عن هذا الغرض، ورجوعٌ إلى غيره» .
قوله: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ} : «ما» مبتدأة استفهامية، و «ظَنَّ» خبرها، و «يَوْمَط منصوبٌ بنفس الظنِّ، والمصدر مضافٌ لفاعله، ومفعولا الظن محذوفان، والمعنى: وأيُّ شيءٍ يظُنُّ الذين يفترون يوم القيامة أنِّي فاعلٌ بهم: أأنجيهم من العذاب، أم أنتقمُ منهم؟ وقيل: أيحْسَبُون أنَّ الله لا يؤاخذهم به، ولا يعاقبهم عليه، والمراد منه: تعظيم وعيد من يفتري، وقرأ عيسى بن عمر:» وما طَنَّ الذين «جعله فعلاً ماضياً، والموصولُ فاعله، و» ما «على هذه القراءة استفهاميَّة أيضاً في محلِّ نصب على المصدر، وقُدِّمتْ لأنَّ الاستفهام لهُ صدرُ الكلام، والتقدير: أيَّ ظنَّ المفترون، و» مَا «الاستفهاميَّةُ قد تنُوبُ عن المصدرِ؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
2909 - مَاذَا يَغِيرُ ابْنَتَيْ رَبْعٍ عوِيلُهُمَا ... لا تَرْقُدان ولا بُؤسى لِمَنْ رَقَدَا(10/361)
وتقول:» ما تَضْرب زَيْداً «، تريد: أيَّ ضربٍ تضربه، قال الزمخشريُّ:» أتى به فعلاً ماضياً؛ لأنَّه واقعٌ لا محالة، فكأنَّهُ قد وقع وانقضى «. وهذا لا يستقيم هنا؛ لأنَّه صار نصّاً في الاستقبال لعمله في الظرف المستقبل، وهو يومُ القيامة، وإن كان بلفظ الماضي، ثم قال: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} بإعطاء العقل، وإرسال الرُّسُل، {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} لا يستعملُون العقل في تأمل دلائل الله، ولا يقبلون دعوة أنبياءِ الله، ولا ينتفعُون باستماع كلام الله.(10/362)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الآية.
لمَّا أورد الدلائل على فساد مذاهب الكُفَّار، وأمر الرسول بالجواب عن شبهاتهم، وتحمُّل أذاهُم، والرِّفْقِ بهم، ذكر هذا الكلام ليحصل به تمامُ السُّرور للمُطيعين، وتمامُ الخوف للمذنبين، وهو كونه تعالى عالماً بعمل كل واحدٍ، وما في قلبه من الدَّواعي والصَّوارف.
قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ} «ما» نافية في الموضعين؛ ولذلك عطف بإعادة «ما» النَّافية، وأوجب ب «إلا» بعد الأفعال؛ لكونها منفيةٌ، و «فِي شَأنٍ» خبر «تكُون» والضميرُ في «منه» عائدٌ على «شأن» و «مِن قُرآنٍ» تفسيرٌ للضَّمير، وخُصَّ من العموم؛ لأنَّ القرآنَ هو أعظمُ شئونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وقيل: يعود على التنزيل، وفُسِّر بالقرآن؛ لأنَّ كلَّ جزء منه قرآن، وقال أبو البقاء: «من الشَّأن» أي: مِنْ أجْلِهِ، و «مِنْ قُرآن» مفعول «تَتْلُوا» و «مِنْ» زائدةٌ. يعنى: أنَّها زيدتْ في المفعول به، و «مِنْ» الأولى جارَّةٌ للمفعول من أجله، تقديره: وما تتلُو من أجل الشَّأنِ قُرآناً، وزيدَتْ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ، والمجرور نكرةٌ.
وقال مكِّي: «منه» الهاء عند الفرَّاء تعُود على الشَّأن على تقدير حذف مضافٍ، تقديره: وما تتلو من أجْلِ الشَّأنِ، أي: يحدثُ لك شأنٌ، فتتلُوا القرآن من أجله.
والشَّأنُ: مصدر شَأنَ يَشْأنُ شأنَهُ، أي: قصد يَقْصِدُ قَصْدَهُ، وأصله الهمز، ويجوز تخفيفه، والشأن أيضاً: الأمرُ، ويجمعُ على شئون، والشأنُ: الحال، تقول العرب: ما شأن فلان؟ أي: ما حاله، قال الأخفش: وتقول العرب: ما شأنْتُ شأنهُ، أي: ما عملت(10/362)
عمله، قال ابن عبَّاس: وما تكونُ يا محمَّدُ في شأن، أي: في عملٍ من أعمالِ البِرِّ، وقال الحسن: في شأن من شأن الدُّنْيَا.
قوله: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} هذا خطابٌ للنبي وأمَّتِهِ، وخُصَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخطاب أوَّلاً، ثم عُمِّمَ الخطاب مع الكلِّ؛ لأنَّ تخصيصهُ وإن كان في الظَّاهر مُخْتَصّاً بالرسول، إلاَّ أنَّ الأمَّة داخلُون فيه؛ لأنَّ رئيس القوم إذا خُوطب دخل قومُهُ في ذلك الخطاب؛ كقوله: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1] .
قوله: «إِلاَّ كُنَّا» هذه الجملةُ حاليةٌ، وهو استثناء مفرَّغ، ووليَ «إلا» هنا الفعلُ الماضي دون «قَدْ» لأنَّه قد تقدَّمها فعلٌ، وهو مُجَوِّزٌ لذلك، وقوله: «إذْ» هذا الظرفُ معمول ل «شُهُوداً» ولمَّا كانت الأفعالُ السَّابقةُ المرادُ بها الحالةُ الدَّائمةُ، وتنسحبُ على الأفعالِ الماضيةِ، كان الظَّرفُ ماضياً، وكان المعنى: وما كنت، وما تكون، وما عملتم، إلاَّ كُنَّا عليكم شُهُوداً، إلاَّ أفضتُم فيه، و «إذا» تُخَلِّصُ المضارع لمعنى الماضي، ومعنى «تُفِيضُونَ» أي: تدخلون فيه وتفيضون، والإفاضة: الدُّخُول في العملِ، يقال: أفاض القوم في الحديث؛ إذا اندفعُوا فيه، وقد أفَاضُوا من عرفة؛ إذا دفعوا منها بكثرتهم.
فإن قيل: «إذ» ههنا بمعنى: «حين» ، فيصير التقدير: إلاَّ كُنَّا عليكم شُهُوداً حين تفيضون فيه، وشهادة الله - تعالى - عبارة عن علمه؛ فيلزم منه أنَّه - تعالى - ما علم الأشياءَ إلاَّ عند وجودها، وذلك باطلٌ.
فالجواب: أنَّ هذا السُّؤال بناءً على أن شهادة الله عبارةٌ عن علمه، وهذا ممنوعٌ؛ فإنَّ الشهادة لا تكون إلاَّ عند المشهود عليه، أمَّا العلم فلا يمتنع تقدُّمه على الشَّيءِ، ويدلُّ على ذلك أنَّ الرسول لو أخبرنا عن زيدٍ أنَّهُ يأكل غداً، كنا من قبل حُصُول تلك الحالةِ عالمين بها، ولا نُوصفُ بكوننا شاهدين بها.
قوله - تعالى -: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} قرأ الكسائيُّ هنا، وفي سبأ [سبأ 3] : «يَعْزِب» بكسر الزَّاي، والباقون بضمها، وهما لغتان في مضارع «عَزَبَ» ، يقال: عَزَب يَعْزِب ويَعْزُب. أي: غَابَ حَتَّى خَفِي، ومنه الروض العازبُ؛ قال أبو تمام: [الطويل]
2910 - وقَلْقلَ نأيٌ مِنْ خُراسانَ جَأشهَا ... فقُلْتُ: اطمئنِّي، أنْضَرُ الرَّوضِ عازبُهْ
وقيل للغائب عن أهله: «عازِب» ، حتَّى قالوا لِمَنْ لا زوج له: عازب. وقال الرَّاغب: «العازِبُ: المُتباعدُ في طلب الكلأ، ويقال: رجل عزبٌ وامرأة عزبةٌ، وعزبَ(10/363)
عنه حلمه، أي: غاب، وقوم مُعزَّبُون، أي: عَزبتْ عنهم إبلُهُم» وفي الحديث: «مَنْ قرأ القرآن في أربعين يوماً، فقد عزَّب» ، أي: فقد بعُد عهدُه بالختمة، وقال قريباً منه الهرويُّ، فإنَّه قال: «أي: بعد عهده بما ابتدأ منه، وأبْطَأ في تلاوته، وفي حديث أم معبد:» والشَّاءُ عازبٌ حيال «.
قال: والعَازِبُ: البعيدُ الذهابِ في المَرْعَى، والحَائِلُ: التي ضربها الفَحْلُ، فلمْ تَحْمل لِجُدوبَةِ السَّنة، وفي الحديث أيضاً:» أصْبَحْنَا بأرضٍ عزوبَةٍ صَحْراءَ «، أي: بعيدةِ المرعى. ويقال للمالِ الغائب: عازِب، وللحاضر: عاهن، والمعنى في الآية: وما يَبْعُد، أو ما يَخْفَى، أو ما يغيبُ عن ربِّك.
و» مِن مِّثْقَالِ «فاعل، و» مِنْ «: مزيدةٌ فيه، أي: ما يبعد عنه مثقالُ، والمثقالُ هنا: اسمٌ لا صفةٌ، والمعنيُّ به الوزنُ، أي: وزن ذرَّة، ومثقال الشَّيءِ: ما يُساويهِ في الثِّقل، والمعنى: ما يساوي ذرَّة، والذرُّ: صغارُ النَّملِ واحدها ذرَّة، وهي تكون خفيفة الوزن جدَّاً.
فإن قيل: لِمَ قدَّم الله ذكر الأرض هنا على ذكر السماء، مع أنَّهُ قال في سبأ: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [سبأ: 3] ؟
فالجواب: حقُّ السَّماءِ أن تقدَّم على الأرض، إلاَّ أنه - تعالى - لمَّا ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم، ثم وصل بذلك قوله: لا يعزُب عنه؛ ناسب أن تقدم الأرض على السَّماء في هذا الموضع.
قوله: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولاا أَكْبَرَ} قرأ حمزة: برفع راء «أصغر» و «أكبر» ، والباقون: بفتحها.
فأما الفتحُ ففيه وجهان:
أحدهما: - وعليه أكثر المعربين - أنَّهُ جرٌّ، وإنما كان بالفتحةِ؛ لأنَّه لا ينصرف للوزن والوصف، والجرُّ لأجْلِ عطفه على المجرور، وهو: إمَّا «مِثْقَالُ» ، أو «ذَرَّةٍ» .
وأمَّا الوجه الثاني: فهو أنَّ «لا» نافيةٌ للجنس، و «أصْغَرَ» و «أكْبَرَ» اسمها، فهما مبنيَّان على الفتح.
وأمَّا الرَّفْعُ فمن وجهين:
أشهرهما عند المعربين: العطفُ على محلِّ «مثقال» إذ هو مرفوعٌ بالفاعليَّة، و «مِنْ» مزيدة فيه؛ كقولك: «مَا قَامَ مِنْ رجُلٍ ولا امرأةٍ» بجرِّ «امرأة» ورفعها.(10/364)
والثاني: أنَّهُ مبتدأ، قال الزمخشري: والوجهُ النَّصْبُ على نفي الجنس، والرَّفعُ على الابتداء ليكون كلاماً برأسه، وفي العطف على محلِّ «مثقالُ ذرَّةٍ» ، أو على لفظ «مِثقال ذرَّةٍ» فتحاً في موضع الجرِّ؛ لامتناع الصَّرف إشكالٌ؛ لأنَّ قولك: «لا يعزُب عنه شيءٌ إلاَّ في كتاب» مشكل؛ لأنَّه يلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله، ويصير التقدير: إلا في كتاب مبينٍ فيعزبُ، وهو باطلٌ، وهذان الوجهان اختيار الزَّجَّاج.
وقد يزول هذا الإشكالُ بما ذكره أبو البقاءِ: وهو أن يكون «إلاَّ في كتابٍ» استثناءً منقطعاً، قال: «إلاَّ في كتابٍ؛ أي: إلاَّ هو في كتابٍ، والاستثناءُ منقطع» .
قال ابن الخطيب: «أجاب بعضُ المحقِّقين من وجهين:
أحدهما: أن الاستثناء منقطع.
والآخر: أن العُزُوب عبارةٌ عن مطلق البعد، والمخلوقات قسمان:
أحدهما: قسمٌ أوجده الله ابتداءً من غير واسطةٍ، كالملائكةِ، والسمواتِ، والأرضِ.
وقسمُ أوجدهُ بواسطةِ القسم الأوَّلِ، مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، وهذا قد يتباعدُ في سلسلة العلِّية والمعلُوليَّة عن مرتبة وجود واجب الوجود، فالمعنى: لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقالُ ذرَّة في الأرض، ولا في السماء، إلا وهو في كتاب مبين كتبه الله، وأثبت فيه صور تلك المعلومات» .
قال شهاب الدين: «فقد آل الأمرُ إلى أنَّهُ جعله استثناء مفرَّغاً، وهو حالٌ من» أصْغَرَ «و» أكبر «، وهو في قوَّة الاستثناء المتَّصل، ولا يقال في هذا: إنَّه متَّصلٌ ولا منقطع إذ المُفرَّغُ لا يقال فيه ذلك.
وقال الجرجانيُّ:» إلاَّ «بمعنى:» الواو «، والتقدير:» وما يعزُب عن ربِّك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السَّماء ولا أصْغر من ذلك ولا أكبر «وههنا تمَّ الكلام وانقطع، ثم ابتدأ بقوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: وهو في كتاب مبين، والعربُ تضعُ» إلاًَّ «موضع واو النَّسق؛ كقوله:
{إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} [البقرة: 150] . وهذا الذي قاله الجرجانيُّ ضعيفٌ جداً، وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألة في البقرة، وأنَّهُ شيءٌ قال به الأخفش، ولم يثبُتْ ذلك بدليلٍ صحيح.
وقال أبو شامة: ويزيل الإشكال أن تُقدَّر قبل قوله: «إلاَّ في كتاب» «ليس شيء من ذلك إلاَّ في كتاب» وكذا تقدر في آية الأنعام [الأنعام: 59] .
ولم يقرأ في سبأ إلا بالرفع، وهو يقوي قول من يقول: إنَّه معطوفٌ على «مِثْقَال» ،(10/365)
ويُبَيِّنه أن «مثال» فيها بالرَّفع؛ إذ ليس قبله حرفُ جرٍّ. وقد تقدَّم الكلامُ على نظير هذه المسألة في سورة الأنعام، في قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} [الأنعام: 59] إلى قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] وأنَّ صاحب النَّظم الجرجانيَّ أحال الكلام فيها على الكلامِ في هذه السورة، وأنَّ أبا البقاء قال: «لوْ جعَلْنَاهُ كذا، لفسد المعنى» . وتقدَّم بيانُ فساده، والجواب عنه هناك، فالتفت إيله [الأنعام: 59] .
قوله: {ألاا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله} الآية.
اختلفوا فيمن يستحقُّ هذا الاسم.
فقال بعضهم: هم الذين ذكرهم اللهُ في كتابه، بقوله {الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} .
وقال قوم: هم المتحابُّون في الله، لما روى أبو مالك الأشعري، قال: كنتُ عند النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «إنَّ للهِ عباداً ليْسُوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطُهُم النبيون والشُّهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامةِ» ، قال: وفي ناحية المسجدِ أعربي، فجثا على ركبتيه، ورمى بيديه، ثم قال: حدِّثنا يا رسول الله عنهم، قال: فرأيتُ في وجهِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البشر؛ فقال: «هُم عبادٌ من عبادِ اللهِ، من بلدانٍ شتَّى، وقبائل شتَّى لَمْ يكُنْ بينهُمْ أرحامٌ يتواصلون بها، ولا دُنْيَا يتباذلُون بها، يتحابُّون برُوحِ اللهِ، يجعل الله وجُوههُم نُوراً، ويجعل لهم منابر من لؤلؤٍ قدَّام الرحمن، يفزع الناسُ ولا يفزعُون، ويخافُ النَّاسُ ولا يخافُون» .
قال أبو بكر الأصم: أولياء الله: هم الذين تولَّى الله هدايتهم بالبرهان وتولَّوُا القيامَ بحق العُبُوديَّةِ لله، والدَّعوة إليه.
واعلم: أنَّ تركيب الواو، واللاَّم، والياءِ يدل على معنى القرب، فوليُّ كلِّ شيء هو الذي كون قريباً منه، والقُرْب من الله - تعالى - بالمكان والجهة محالٌ؛ فالقرب منه إنَّما يكونُ، إذا كان القلبُ مُسْتَغْرقاً في نُور معرفة الله - تعالى -، فإنْ رأى، رأى دلائلَ قُدْرَةِ الله، وإن سمع، سمع آيات الله، وإن نطقَ، نطقَ بالثناء على الله، وإن تحرَّك، تحرَّك في خدمة الله، وإن اجتهد، اجتهد في طاعةِ الله، فهنالك يكون في غاية القرب من الله؛ فحينئذ يكون وليّاً.
قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ} في محلِّه أوجهٌ:
أحدها: أنَّه مرفوعٌ خبر مبتدأ مضمر، أي: هم الذي آمنوا، أو خبر ثان ل «إنَّ» ن أو مبتدأ، والخبر الجملةُ منق وله: {لَهُمُ البشرى} ، أو على النَّعْت على موضع «أوْليَاء»(10/366)
لأنَّ موضعه رفعٌ بالابتداء قبل دخول «إنَّ» ، أو بدل من الموضع أيضاً، ذكرهما مكِّي، وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين؛ لأنَّهم يجرُون التَّوابع كلَّها مجرى عطف النَّسق في اعتبار المحلِّ.
وقيل: محله الجرُّ بدلاً من الهاءِ، والميم في «عليهم» .
وقيل: منصوبُ المحلِّ نعتاً ل «أولياء» ، أو بدلاً منهم على اللفظِ، أو على إضمار فعلٍ لائقٍ وهو «أمدحُ» ، فقد تحصَّل فيه تسعةُ أوجهٍ: الرفعُ من خمسة، والجرُّ من وجه واحد، والنَّصبُ من ثلاثة، وإذا لم تجعل الجملة من قوله: «لهُمُ البُشْرَى» خبراً ل «الَّذين» جاز فيها الاستئنافُ، وأن تكون خبراً ثانياً ل «إنَّ» أو ثالثاً.
قوله: {لَهُمُ البشرى} روى عبادة بن الصَّامت، قال: سألتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله - تعالى -: {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} قال: هي الرُّؤيا الصَّالحةُ، يراها المسلمُ أو تُرى لهُ. وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «الرُّؤيا الصَّالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءاً من النُّبوَّةِ.»
وقيل: البُشْرَى في الدُّنيا هي: الثَّناءُ الحسن، وفي الآخرة: الجنَّة؛ لما روى أبو ذرٍّ، قال: قلت يا رسُول الله: الرَّجل يعمل لنفسه، ويحبُّه الناس، قال: تلك عاجلُ بُشْرَى المؤمِن. وقال الزهريُّ، وقتادة: هي نزول الملائكة بالبشارة من الله - تعالى عند(10/367)
الموت، قال - تعالى -: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة} [فصلت: 30] . وروى عطاء نحوه، عن ابن عباسٍ.
وقال الحسن: هي ما بشَّر الله المؤمنين في كتابه من جنَّته، وكريم ثوابه، كقوله: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 25] {وَبَشِّرِ المؤمنين} [البقرة: 223] {وَأَبْشِرُواْ بالجنة} [فصلت: 30] .
وقيل: بشَّرهم في الدُّنيا بالكتاب والرسُول أنهم أولياء الله، وبشَّرهم في القبور، وفي كتب أعمالهم بالجنَّة.
قوله: {فِي الحياة الدنيا} : يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه متعلقٌ بالبشرى، أي: البشرى تقع في الدُّنيا، كما فُسِّرت بالرُّؤيا الصَّالحة.
والثاني: أنَّها حالٌ من «البُشْرَى» فتتعلق بمحذوف، والعاملُ في الحال الاستقرارُ في «لهم» لوقوعه خبراً.
قوله: «لا تبْديلَ» جملةٌ مستأنفةٌ، أي: لا تغيير لقوله، ولا خلف لوعده.
وقوله: «ذَلِكَ» إشارةٌ للبُشْرَى، وإن كانت مؤنَّثةً؛ لأنَّها في معنى التَّبشير، وقال ابن عطيَّة: إشارةٌ إلى النَّعيم، وقال الزمخشري: «ذَلِكَ إشارةٌ إلى كونهم مُبشِّرين في الدَّارين» .
قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} وههنا تمَّ الكلام، واعلم أنَّ الله لمَّا حكى عن الكُفار شبهاتهم المتقدمة، وأجاب عنها عدلُوا إلى طريقٍ آخر، وهو أنَّهُم هدَّدُوه، وخوَّفُوه بأنهم أصحاب أموالٍ وأتباع؛ فنسعى في قهرك، وفي إبطالِ أمرك، فأجاب - تعالى - عن هذا الطريق بقوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} .
فإن قيل: كيف آمنهُ من ذلك، ولم يزل خائفاً حتى هاجر، ثم بعد ذلك يخاف حالاً بعد حالٍ.
فالجواب: أنَّ الله وعدهُ بالنَّصر والظَّفر مطلقاً، والوقت ما كان معيَّناً، فهو في كُلِّ وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقتُ المعيَّنُ ذلك الوقت؛ فحينئذٍ يحصل الانكسارُ في هذا الوقت، وقوله: «قَوْلهُم» قيل: حذفت صفته؛ لفهم المعنى، إذا التقدير: ولا يحزنك قولهم(10/368)
الدَّال على تكذيبك، وحذف الصِّفة، وإبقاء الموصوف قليلٌ، بخلاف عكسه.
وقيل: بل هو عامٌّ أريد به الخاصُّ.
ثم ابتدأ فقال: {إِنَّ العزة للَّهِ} العامَّةُ على كسر «إنَّ» ، استئنافاً، وهو مُشْعِرٌ بالعلِّيَّة.
وقيل: هو جوابُ سؤال مقدَّر؛ كأنَّ قائلاً قال: لِمَ لا يُحْزِنُه قولهم، وهو ممَّا يُحْزِن؟ فأجيب بقوله: {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} ، ليس لهم منها شيءٌ، فكيف تبالي بقولهم؟
والوقف على قوله: «قولهم» ينبغي أن يُعتمد، ثم يبتدأ بقوله: «إنَّ العزَّة» وإن كان من المستحيل أن يتوهَّم أحَدٌ أنَّ هذا من مقولهم، إلاَّ من لا يعتبرُ بفهمه، وقرأ أبو حيوة «أنَّ العزَّة» بفتح «أنَّ» وفيها تخريجان:
أحدهما: أنَّها على حذف لام العلَّة، أي: لا يحزنك قولهم؛ لأجل أنَّ العزة لله جميعاً.
الثاني: أنَّ «إنَّ» وما في حيِّزها بدلٌ من «قولهم» كأنَّه قيل: ولا يحزُنك أنَّ العزَّة لله، وكيف يظهرُ هذا التَّوجيهُ، أو يجوز القولُ به، وكيف ينهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك في المعنى، وهو لمْ يتعاطَ شيئاً من تلك الأسباب؟ وأيضاً؛ فمنْ أيِّ قبيلٍ الإبدالُ هذا؟ قال الزمخشريُّ: «ومنْ جعله بدلاً من» قولهم «ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكره من القراءة به» . يعني: أنَّ إنكارهُ للقراءة منكرٌ؛ لأنَّ معناها صحيحٌ على ما ذكر من التَّعليل، وإنَّما المنكر هذا التَّخريجُ، وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءة، ونسبُوها للغلط ولأكثر منه.
قال القاضي: «فتحُها شاذٌّ يقاربُ الكفر، وإذا كسرت كان استئنافاً، وهذا يدلُّ على فضيلة علم الإعراب» .
وقال ابن قتيبة: لا يجوز فتح «إنَّ» في هذا الموضع وهو كفرٌ وغلوٌّ.
قال أبو حيَّان: وإنَّما قالا ذلك بناءً منهما على أنَّ «أنَّ» معمولةٌ ل «قولهم» .
قال شهاب الدين كيف تكون معمولة ل «قَوْلهُم» وهي واجبةُ الكسر بعد القول إذا حكيت به، فكيف يتوهَّم ذلك؟ وكما لا يتوهَّم هذا المعنى مع كسرها، لا يتوهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيحٌ.
و «جَمِيعاً» حالٌ من العِزَّة، ويجوز أن يكون توكيداً ولمْ يُؤنَّثْ بالتَّاء؛ لأنَّ فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنَّثُ، لشبهه بالمصادر، وقد تقدَّم تحريره في قوله: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] .(10/369)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
فصل
قيل: المعنى: إنَّ جميع العزَّة والقدرة لله - تعالى -، يعطي ما يشاء لعباده، والغرضُ منه: أنه لا يعطي الكفَّار قدرة عليه، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو أعز منهم، ونظيره: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] .
قال الأصمُّ: المراد: أن المشركين يتعزَّزُون بكثرة خدمهم وأموالهم، ويخوفونك بها، وتلك الأشياء كلها لله - تعالى -، فهو - تعالى - قادرٌ على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء، وينصرك، وينقل أموالهم وديارهم إليك.
فإن قيل: قوله: {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} كالمُضادَّة لقوله: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] .
فالجواب: لا مضادَّة؛ لأنَّ عزَّة الرسول والمؤمنين كلها بالله، فهي لله.
{هُوَ السميع العليم} أي: يسمع ما يقولون، ويعلمُ ما يعزمون، فيُكافئهم على ذلك.
قوله
تعالى
: {ألاا
إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} الآية.
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 55] دل على أنَّ كلَّ ما لا يعقلُ، فهو مُلْكٌ لله - تعالى -، ومِلْكٌ لهُ، وههنا أتى بكلمة «مِنْ» وهي مختصَّة بالعقلاء؛ فدلَّ على أنَّ كلَّ العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه، فدلَّ مجموعُ الآيتين على أنَّ الكُلَّ مُلْكُه ومِلْكُه. وقيل: المراد ب «من في السَّمواتِ» : العقلاء المُمَيَّزُون، وهم الملائكة والثقلان، وخصَّهم بالذِّكر؛ ليدل على أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه، فالجمادات أولى بهذه العُبُوديَّة، فيكون ذلك قدحاً في جعل الأصنام شُركاء لله - تعالى -، فيكون ذلك من بابِ التنبيه بالأعلى على الأدنى، ويجوز أن يراد العموم، وغلب العاقل على غيره.
قوله: «وَمَا يَتَّبِعُ» يجوز في «ما» هذه أن تكون نافية، وهو الظاهر، و «شُرَكَاء» مفعولُ «(10/370)
يتَّبعُ» ومفعول «يَدْعُون» محذوفٌ لفهم المعنى، والتقدير: وما يتَّبعُ الذين يدعُون من دُون اللهِ آلهةً شُركَاءَ، فآلهة: مفعول «يَدْعُونَ» و «شركاء» : مفعول «يتبع» ، وهو قول الزَّمخشريّ.
قال: «ومعنى وما يتَّبعون شركاء: وما يتَّبعون حقيقة الشُّركاء، وإن كانُوا يُسَمُّونها شركاء؛ لأنَّ شركة الله في الربوبية محال، إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهم أنهم شركاءُ ثم قال:» ويجوز أن تكون «ما» استفهاماً، يعني: وأيَّ شيءٍ يتَّبعون، و «شركاء» على هذا نصب ب «يَدْعُونَ» ، وعلى الأوَّل ب «يتَّبع» وكان حقُّه: «وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء» فاقتصر على أحدهما للدلالة «. وهذا الذي ذكرهُ الزمخشريُّ قد ردَّه مكِّي وأبو البقاء.
أما مكي، فقال: انتصب» شركاء «ب» يَدْعُون «ومفعول» يتَّبع «قام مقامه {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} لأنَّهُ هو، ولا ينتصبُ الشُّركاء ب» يتَّبع «لأنَّك تنفي عنهم ذلك، والله قد أخبر عنهم بذلك.
وقال أبو البقاء:» وشركاء مفعولُ «يَدْعُونَ» ولا يجوزُ أن يكون مفعُول «يتَّبعون» لأنَّ المعنى يصير إلى أنَّهم لم يتَّبعوا شركاء، وليس كذلك «.
قال شهاب الدِّين:» معنى كلامهما: أنَّه يئول المعنى إلى نفي اتِّباعهم الشركاء، والواقع أنَّهُم قد اتَّبَعُوا الشركاء «. وجوابه ما تقدَّم من أنَّ المعنى: أنهم وإن اتَّبعُوا شركاء، فليْسُوا بشركاءَ في الحقيقةِ، بل في تسميتهم هم لهم بذلك، فكأنَّهم لم يتَّخذوا شركاء، ولا اتبعوهم لسلب الصِّفة الحقيقيَّة عنهم، ومثله قولك:» ما رأيتُ رجلاً «، أي: مَنْ يستحقُّ أن يسمَّى رجلاً، وإن كنت قد رأيت الذَّكر من بني آدم، ويجوز أن تكون» ما «استفهاميَّة، وتكون حينئذٍ منصوبةً بما بعدها، وقد تقدَّم قولُ الزمخشري في ذلك.
وقال مكِّي: لو جعلت «ما» استفهاماً بمعنى: الإنكار والتَّوبيخ، كانت اسماً في موضع نصبٍ ب «يتَّبع» .
وقال أبو البقاء نحوه. ويجوز أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي» نسقاً على «مَنْ» في قوله: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات} .
قال الزمخشري: ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «مَنْ» كأنَّهُ قيل: ولله ما يتَّبعه الذين يدعُون من دون الله شركاء، أي: وله شركاؤهُم.
ويجوز أن تكون «ما» هذه الموصولة في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: والذي يتَّبعه المشركون باطلٌ، فهذه أربعة أوجهٍ.
وقرأ السلمي: «تَدعُون» بالخطاب، وعزاها الزمخشريُّ لعليّ بن أبي طالب.(10/371)
قال ابنُ عطيَّة: وهي قراءةٌ غيرُ متَّجهة.
قال شهاب الدِّين: قد ذكر توجيهها الزمخشريُّ، فقال: ووجهه أن يحمل «وما يتَّبع» على الاستفهام، أي: وأيُّ شيء يتَّبع الذين تدعُونهُم شركاء من الملائكة والنبيين، يعني: أنَّهم يتَّبعُون الله - تعالى - ويطيعُونه، فما لكم لا تفعلُون مثل فعلهم؛ كقوله: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] .
قوله: «إن يتَّبِعُون» «إنْ» نافية، و «الظَّن» مفعولٌ به، فهو استثناءٌ مفرَّغ، ومفعولُ الظَّن محذوفٌ، تقديره: إن يتَّبعُون إلاَّ الظَّنَّ أنَّهُم شركاءُ، وعند الكوفيين: تكون «أل» عوضاً من الضمير، تقديره: إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهُم أنهم شركاءُ، والأحسنُ أن لا يقدر للظَّنِّ معمولٌ؛ إذ المعنى: إن يتبعون إلا الظن، لا اليقين.
وقوله: «إن يتَّبعُون» من قرأ «يَدْعُون» بياء الغيبة، فقد جاء ب «يتَّبِعُونَ» مطابقاً له، ومن رأ «تَدْعُونَ» بالخطاب، فيكون «يتَّبِعُون» : التفاتاً؛ إذ هو خروجٌ من خطابٍ إلى غيبة، والمعنى: إن يتَّبِعُون إلاَّ ظنونهم الباطلة، {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} : يكذبون، وقد تقدَّم في الأنعام.
قوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل} الآية.
لمَّا ذكر أنَّ العزة لله جميعاً، احتجَّ عليه بهذه الآية، وانظر إلى فصاحتهم، حيث حذف من كل جملةٍ ما ثبت في الأخرى؛ وذلك أنَّه ذكر علَّة جعل الليل لنا، وهي قوله: «لِتَسْكُنُوا» وحذفها من جعل النهار، وذكر صفة النَّهار، وهي قوله: «مُبْصِراً» وحذفها من الليل، لدلالة المقابل عليه، والتقدير: هو الذي جعل لكم الليل مُظْلماً لتسْكُنُوا فيه، والنهار مُبْصِراً لتتحرَّكُوا فيه لمعاشكم، فحذف «مُظْلماً» لدلالة «مُبْصِراً» عليه، وحذف «لتتحرَّكُوا» لدلالة «لتسكنوا» وهذا أفصحُ كلامٍ.
وقوله: «مُبْصِراً» أسند الإبصارَ إلى الظَّرف مجازاً كقولهم: «نهارُهُ صائم، وليله قائم ونائم» .
قال: [الطويل]
2911 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ونِمْتُ وما لَيْلُ المطِيِّ بِنَائِمِ(10/372)
وقال قطرب: يقال: أظلم اللَّيْلُ: صار ذا ظلمة، وأضاء النَّهار: صار ذا ضياء؛ فيكون هذا من باب النسب؛ كقولهم: لابنُ وتامرٌ، وقوله - تعالى -: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] ، إلاَّ أنَّ ذلك إنما جاء في الثلاثيِّ، وفي «فعَّال» بالتضعيف عند بعضهم في قوله - تعالى -: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] في أحد الأوجه.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: يتدبَّرُون ما يسمعُون، ويعتَبِرُون.
فإن قيل: قوله: {جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} يدل على أنَّه - تعالى - ما جعلهُ إلا لهذا الوجه، وقوله {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ} يدلُّ على أنَّه - تعالى - أراد بتخليقِ الليل والنهار أنواعاً كثيرة من الدلائل.
فالجواب: أن قوله - تعالى -: «لِتسكُنوا» لا يدلُّ على أنَّه لا حكمة فيه إلاَّ ذلك، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة.
قوله تعالى: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني} الآية.
هذا نوع آخر من أباطيلهم التي حكاها الله عنهم، «قالوا» يعني المشركين: الملائكة بنات الله، وقيل: قولهم: الأوثان أولاد الله، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قومٌ من النصارى قالوا ذلك، ثم استنكر هذا القول، فقال بعده: {هُوَ الغني لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} فكونه - تعالى - غنيّاً مالكاً لكلِّ ما في السموات والأرض، يدلُّ على أنه سبحانه يستحيل أن يكون لهُ ولد، وبيانه من وجوه:
الأول: أنَّه لو كان محتاجاً، لافتقر إلى صانعٍ آخر، وهو محال، وكل من كان غنيّاً فلا بد أن يكون فرداً منزَّهاً عن الأعضاء والأبعاض، ومن كان كذلك يمتنع أن ينفصل عنه جزءٌ من أجزائه، والولد عبارةٌ عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان، ثم يتولَّد من ذلك الجزء مثله، وإذا كان هذا محالاً، ثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً يمنع من ثُبُوت الولد لهُ.
الثاني: أن من كان غنيّاً، كان قديماً أزليّاً باقياً سرمديّاً، وكل من كان كذلك امتنع عليه الانقراض، والولدُ إنما يحصل للشَّيءِ الذي ينقضي وينقرض، فيكون ولده قائماً مقامه؛ فثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد.
الثالث: أنَّ كلَّ من كان غنيّاً يمتنع أن يكون موصوفاً بالشهوة واللذة، وإذا امتنع ذلك، امتنع أن يكون له صاحبةٌ وولد. وباقي الوجوه يطول ذكرها. ثم قال: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} وهذا نظيرُ قوله: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً}
[مريم: 93] ولمَّا بيَّن بالدليل الواضح امتناع ما أضافُوا إليه، عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ، فقال: {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} : «إنْ» نافية و «عندكُم» يجوز أن يكون خبراً مقدَّماً، و «مِنْ سلطانٍ» مبتدأ مُؤخَّراً، ويجوز أن يكون «من سلطان» مرفوعاً بالفاعليَّة بالظرف قبله؛ لاعتماده على النفي، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرين، وبهذا يجوز أن يتعلق ب «سُلْطان» لأنَّه بمعنى الحُجَّة والبرهان، وأن يتعلَّق بمحذوف صفة له؛ فيحكم(10/373)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
على موضعه بالجرِّ على اللفظ، وبالرفع على المحلِّ؛ لأنَّ موصوفه مجرور بحرفِ جرٍّ زائدٍ، وأن يتعلَّق بالاستقرار.
قال الزمخشريُّ: الباءُ حقُّها أن تتعلَّق بقوله: «إنْ عندكُم» على أن يجعل القولُ مكاناً للسُّلطان؛ كقوله «ما عندكم بأرضكم موزٌ» كأنه قيل: إن عندكم بما تقولون سلطانٌ وقال الخوفيُّ: بهذا متعلقٌ بمعنى الاستقرار. يعنى: الذي تعلَّق به الظرف.
ثم قال: {أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقد تقدَّم أنَّ الآية يحتجُّ بها نُفاة القياس في إبطال التقليد.
قوله - تعالى -: {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} الآية.
لمَّا بيَّن بالدليل القاطع أنَّ إثبات الولد لله قول باطلٌ، ثم بيَّن أنه ليس لهذا القائل دليلٌ على صحة قوله، ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله - تعالى -، فبيَّن أنَّ من هذا حاله، فإنَّه لا يفلحُ ألبتَّة، أي: لا ينجح في سعيه، ولا يفوز بمطلُوبه، بل خاب وخسر.
قوله: {مَتَاعٌ فِي الدنيا} يجوز رفع «متاع» من وجهين:
أحدهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، والجملة جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، فهي استئنافيةٌ، كأنَّ قائلاً قال: كيف لا يفلحُون، وهم في الدنيا مفلحون بأنواع ممَّا يتلذّذون به؟ فقيل: ذلك متاع.
والثاني: أنه مبتدأ، والخبر محذوفٌ تقديره: لهُم متاعٌ، و «فِي الدُّنيا» يجوز أن يتعلق بنفس «متاع» أي: تمتُّعٌ في الدنيا، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه نعت ل «متاع» فهو في محلِّ رفعٍ، ولم يقرأ بنصبه هنا، بخلاف قوله: {مَّتَاعَ الحياة} [يونس: 23] في أول السُّورة.
وقوله: {بِمَا كَانُواْ} الباءُ للسببية، و «ما» مصدريةٌ «، أي: بسبب كونهم كافرين.
قوله
تعالى
: {واتل
عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} الآية.
لمَّا بالغ في تقرير الدَّلائل، والجواب عن الشُّبه، شرع في بيان قصص الأنبياء؛ لوجوه:(10/374)
الأول: أنَّ الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العُلُوم؛ فربَّما حصل نوع من الملالة، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفنِّ إلى فنٍّ آخر، انشرح، ووجد في نفسه رغبةً شديدةً.
الثاني: ليتأسَّى الرسول وأصحابه بمن سلف من الأنبياء؛ فإنَّ الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكُفَّار مع الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه، خفَّ ذلك على قلبه، كما يقال: إن المصيبة إذا عمَّتْ خفَّتْ.
الثالث: أنَّ الكُفَّار إذا سمعُوا هذه القصص، وعلموا أنَّ الجُهَّال وإن بالغُوا في إيذاء الأنبياء المتقدِّمين، إلاَّ أنَّ الله - تعالى - أعانهم بالآخرة، ونصرهم، وأيَّدهُم، وقهر أعداءهم، كان سماع هؤلاء الكُفَّار لهذه القصص، سبباً لانكسار قلوبهم، ووقوعِ الخوف في صدورهم؛ فحينئذٍ يُقَلِّلُون من الأذى والسَّفاهة.
الرابع: أنَّ محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا لمْ يتعلَّم علماً، ولم يطالع كتاباً، ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوُتٍ، ومن غير زيادة ولا نقصان، دلَّ ذلك على أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّما عرفها بالوحْي والتنزيل، وحذفت الواو من «اتْلُ» لأنه أمر. قوله: «إذْ قال» يجوز أن تكون «إذْ» معمولةً ل «نَبَأ» ويجوز أن تكون بدلاً من «نَبَأ» بدل اشتمال، وجوَّز أبو البقاء: أن تكون حالاً من «نَبَأ» وليس بظاهر، ولا يجوزُ أن يكون منصوباً ب «اتلُ» لفساده؛ إذ «اتْلُ» مستقبلٌ، و «إذ» ماضٍ، و «لِقوْمِهِ» اللام: إمَّا للتبليغ، وهو الظاهرُ، وإمَّا للعِلَّة، وليس بظاهرٍ.
قال المفسرون: «قون نُوح هم: ولد قابيل» .
قوله: {كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} من باب الإسناد المجازيِّ؛ كقولهم: «ثَقُلَ عليَّ ظلُّه» .
وقرأ أبو رجاء، وأبو مجلز، وأبو الجوزاء: «مُقَامِي» بضمِّ الميم، و «المقام» بالفتح: مكان القيام، وبالضم: مكان الإقامة، أو الإقامة نفسها.
وقال ابن عطيَّة: «ولم يُقْرَأ هنا بضمِّ الميم» . كأنَّه لم يطَّلع على قراءة هؤلاء.
قال الواحدي: يقال: كَبُرَ يَكبُرُ كِبراً في السِّنِّ، وكَبُرَ الأمرُ والشيء، إذا عظم، يَكْبُرُ كِبَراً وكُبَّارة، قال ابن عبَّاس: «ثقُل عليكم، وشقَّ عليكم» وأراد بالمقام ههنا: مُكْثَهُ.
وسبب هذا الثِّقل أمران:
الأول: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مكث فيهم ألف سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً.
والثاني: أنَّ أولئك الكُفَّار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة، ومن ألف طريقة(10/375)
في الدِّين؛ فإنه يثقل عليه أن يدعي إلى خلافها؛ فإن اقترن بذلك طول مُدَّة الدُّعاءِ، كان أثقل، وأشدّ كراهية، وقوله {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله} : بحُجَجِه وبيناته.
قوله: {فَعَلَى الله} جواب الشَّرط، وقوله {فأجمعوا} عطف على الجواب، ولم يذكر أبُو البقاء غيره، واستُشْكِل عليه أنَّه متوكلٌ على الله دائماً، كبُر عليهم مقامُه أوْ لمْ يَكْبُرْ.
وقيل: جوابُ الشَّرط قوله: «فأجْمِعُوا» وقوله: {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} : جملةٌ اعتراضية بين الشَّرطِ وجوابه؛ وهو كقول الشاعر: [الكامل]
2912 - إمَّا تَرَيْنِي قَد نَحَلٍْتُ ومَنْ يكُنْ ... غَرضاً لأطْرَافِ الأسنَّةِ يَنْحَلِ
فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بَادِنٍ ... ضَخْمٍ على ظَهْرِ الجَوَادِ مُهَيَّلِ
وقيل: الجوابُ محذوفٌ، أي: فافْعَلُوا ما شِئْتُم.
وقرأ العامَّة «» فأجْمِعُوا «أمْراً من» أجْمَع «بهزة القطع، يقال: أجمع في المعاني، وجمع في الأعيان، فيقال: أجْمَعْتُ أمري، وجمعتُ الجيشَ، هذا هو الأكثر. قال الحارثُ بن حلِّزة: [الخفيف]
2913 - أجْمَعُوا أمْرَهُمْ بِليْلٍ فلمَّا ... أصْبَحُوا أصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ
وقال آخر: [الرجز]
2914 - يَا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ ... هَلْ أغْدُوَنْ يَوْماً وأمْرِي مُجْمَعُ؟
وهل أجمع متعدِّ بنفسه، أو بحرف جر ثم حذف اتساعاً؟
فقال أبو البقاء: من قولك أجمعتُ على الأمْرِ: إذا عزمتَ عليه؛ إلاَّ أنَّه حُذفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه، وقيل: هو متعدٍّ بنفسه، وأنشد قول الحارث.
وقال أبو فيد السَّدُوسي: أجمعت الأمر، أفصحُ من أجمعت عليه.
وقال أبو الهيثم: أجمع أمرهُ جعلهُ مجموعاً بعد ما كان متفرقاً، قال: وتفرقته أن يقول مرَّة افعل كذا، ومرَّة افعل كذا، وإذا عزم على أمرٍ واحدٍ، فقد جمعه أي: جعله جميعاً، فهذا هو الأصلُ في الإجماع، ثم صار بمعنى: العزْم، حتى وصل ب» عَلَى «فقيل: أجمعتُ على الأمر؛ أي: عَزَمْتُ عليه، والأصلُ: أجمعتُ الأمرَ.(10/376)
وقرأ العامَّةُ:» وشُركَاءَكُم «نصباً وفيه أوجه:
أحدها: أنَّه معطوفٌ على» أمركُم «بتقدير حذف مضافٍ، أي: وأمر شركائكم؛ كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] ، ودلَّ على ذلك ما تقدَّم من أنَّ» أجمع «للمعاني.
الثاني: أنَّه عطفٌ عليه من غير تقدير حذف مضافٍ، قيل: لأنَّه يقال أيضاً: أجمعت شركائي.
الثالث: أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ لائق، واجمعُوا شركاءكم بوصل الهمزة، وقيل: تقديره: وادعوا، وكذلك هي في مصحف أبيِّ» وادعوا «فأضمر فعلاً لائقاً؛ كقوله - تعالى -: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] ، أي: واعتقدوا الإيمان.
ومثله قول الآخر: [الرجز]
2915 - عَلفتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً ... حتَّى شَتَتْ همَّالةً عَيْنَاهَا
أي: وسقيتها ماءً؛ وكقوله: [مجزوء الكامل]
2916 - يا لَيْتَ زَوْجَكش قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا
وقول الآخر: [الوافر]
2917 - إذَا مَا الغَانِيَاتُ يَرَزْنَ يَوْماً ... وزجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا
يريد: ومُعْتَقِلاً رمحاً، وكحَّلنَ العُيُونا، وقد تقدَّم أنَّ في هذه الأماكن غير هذا التخريج.
الرابع: أنه مفعولٌ معه، أي:» مع شُركائكم «.
قال الفارسيُّ: وقد يُنْصَب الشُّرَكاء بواو» مع «، كما قالوا: جاء البرد والطَّيالسة، ولم يذكر الزَّمخشريُّ غير قول أبي علي.
قال الزَّجَّاج: «معناه: فأجمعُوا أمركم مع شُركائِكُم، فلما ترك انتصب» .
قال أبو حيَّان: «وينبغي أن يكون هذا التخريجُ على أنَّه مفعولٌ معه من الفاعل، وهو الضمير في» فأجْمِعُوا «لا من المفعول الذي هو» أمْرَكُمْ «وذلك ‘لى أشهر الاستعمالين؛ لأنَّه يقال:» أجمع الشركاءُ أمرهم «ولا يقال:» جمع الشركاء أمرهم «إلا قليلاً» .
قال شهاب الدين: يعني: أنَّهُ إذا جعلناه مفعولاً معه من الفاعل، كان جائزاً بلا خلافٍ، وذلك لأنَّ من النَّحويين من اشترط في صحَّة نصب المفعول معه: أن يصلح عطفُه على ما قبله، فإنْ لَمْ يصلح عطفه، لم يصحَّ نصبُه مفعولاً معه، فلو جعلناه من(10/377)
المفعول لم يجز على المشهور، إذ لا يصلح عطفه على ما قبله؛ إذ لا يقال: أجمعت شركائي، بل جمعت.
وقرأ الزهري، والأعمش، والأعرج، والجحدري، وأبو رجاء، ويعقوب، والأصمعي عن نافع: «فاجْمَعُوا» بوصل الألف، وفتح الميم من جمع يجْمَعُ، و «شُرَكاءكُمْ» على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله، ويجوز فيه ما تقدَّم في القراءة الأولى من الأوجه.
قال صاحبُ اللوامح: أجمعت الأمر: أي: جعلته جميعاً، وجمعتُ الأموال جمعاً، فكان الإجماع في الأحداث، والجمعُ في الأعيان، وقد يستعمل كلُّ واحدٍ مكان الآخر، وفي التنزيل: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60] وقد اختلف القراء في قوله: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} [طه: 64] .
فقرأ الستَّة: بقطع الهمزة، جعلوه من «أجْمع» وهو موافق لما قيل: إنَّ «أجْمَع» في المعاني.
وقرأ أبو عمرو وحدهُ «فاجْمَعُوا» بوصل الألف، وقد اتفقوا على قوله {فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى} [طه: 60] ، فإنَّه من الثلاثي، مع أنَّه متسلِّطٌ على معنًى، لا عينٍ.
ومنهم من جعل للثلاثي معنى غير معنى الرُّباعي؛ فقال في قراءة أبي عمرو: من جمع يَجْمع ضد فرَّق يفرق، وجعل قراءة الباقين من: أجمع أمرهُ إذا أحكمه وعزم عليه، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
2918 - يَا ليتَتْ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ ... هَلْ أغْذُونْ يوماً وأمْرِي مُجْمَع؟
وقيل: المعنى: فاجمعوا على كيدكم؛ فحذف حرف الجرِّ.
وقرأ الحسن، والسلمي، وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق، وسلام، ويعقوب: «وشُرَكاؤكُمْ» رفعاً، وفيه تخريجان:
أحدهما: أنَّه نسقٌ على الضَّمير المرفوع ب «أجْمِعُوا» قبله، وجاز ذلك؛ إذ الفصل بالمفعول سوَّغ العطف.
والثاني: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: وشُركاؤكُم فليُجْمِعُوا أمرهم، وشذَّتْ(10/378)
فرقةٌ فقرأت: «وشُرَكائِكُمْ» بالخفضِ، ووُجِّهَتْ على حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه مجرُوراً على حاله؛ كقول الشاعر:
2919 - أكُلَّ امرِىءٍ تَحْسِبينَ امْرَءًا ... ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْل نَارَا
أي: وكُلَّ نار، فتقدير الآية: وأمر شركائكم؛ فحذف الأمر، وأبقى ما بعده على حاله، ومن رأى برأي الكوفيين جوَّزَ عطفه على الضَّمير في «أمركم» من غير تأويل، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب، أعني: العطف على الضَّمير المجرور من غير إعادة الجارِّ في سُورة البقرة.
قوله: «غُمَّةً» يقال: غمٌّ وغُمَّةٌ، نحو كَرْبٌ وكُربَةٌ.
قال أبو الهيثم: هو من قولهم: غمَّ علينا الهلالُ، فهو مغمومٌ إذا التمسَ، فلم يُرَ؛ قال طرفةُ بن العبد: [الطويل]
2920 - لعَمْرُكَ ما أمْرِي عليَّ بغُمَّةٍ ... نَهَاري ولا لَيْلِي عليَّ بِسرمَدِ
وقال اللَّيث: يقال: هُو في غُمَّةٍ من أمره، إذا لَمْ يتبيَّنْ لهُ.
قوله: {ثُمَّ اقضوا} مفعول «اقضوا» محذوف، أي: اقضُوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه بي؛ كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} [الحجر: 66] فعدَّاه لمفعول صريح.
وقرأ السَّري: «ثُمَّ أفْضُوا» بقطع الهمزة والفاء، من أفْضى يُفضِي إذا انتهى، يقال: أفضَيْتُ إليك، قال تعالى: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] ، فالمعنى: ثُمَّ أفضُوا إليَّ سرَّكم، أي: انتهوا به إليَّ، وقيل: معناه: أسْرِعُوا به إليَّ، وقيل: هو مِنْ أفْضَى، أي: خَرَجَ إلى الفضاءِ، أي: فأصْحِرُوا به إليَّ، وأبرزُوه لي؛ كقوله: [الطويل]
2921 - أبَى الضَّيْمَ والنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نابهُ ... عليه فأفْضَى والسُّيُوفُ معاقِلُه
ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنَّه من فضا يَفْضُو، أي: اتَّسعَ، والمعنى: فأحكمُوا أمركُم، واعزِمُوا وادعُوا شُركَاءَكُم، أي: آلهتكُم، فاستعينوا بها لتجتمع.
وروى الأصمعي، عن نافع: «فأجمعُوا ذوي الأمر منكم» فحذف المضاف، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت.(10/379)
قال ابن الأنباري: المرادُ من الأمر هنا: وجوه كيدهم، ومكرهم، والتقدير: لا تتركوا مِن أمركُم شيئاً إلا أحضرتُمُوه. والمراد من الشركاء: إما الأوثان؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها تَضُرُّ وتنفعُ، وإمَّا أن يكون المرادُ: من كان على مثل دينهم.
{ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي: خفيًّا مبهماً، من قولهم: غَمَّ الهلالُ على النَّاسِ، أي: أشْكل عليهم، فهو مغمومٌ إذا خفي. «ثُمَّ اقضُوا» أي: امضُوا، «إليَّ» : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه، يقال: قضى فلان: إذا مات، وقضى دينه: إذا فرغ منه، وقيل معناه: توجَّهُوا إليَّ بالقتل والمكروه، وقيل: «فاقْضُوا ما أنتم قاضُون» كقول السَّحرة لفرعون « {فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ} [طه: 72] .
قال القفال: ومجاز دُخُول كلمة» إلى «في هذا الموضع من قولهم: برئت إليك، وخرجت إليك من العهد، وفيه معنى الإخبار؛ فكأنَّه - تعالى - قال: ثم اقضُوا إليَّ ما يستقرُّ رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه، ثم لا تنظرون أي: لا تمهلون ولا تُؤخِّرُون.
وقد نظَّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه، فقال: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال في أول الأمر: فعلى الله توكلت؛ فإنِّي واثقٌ بوعد الله، جازم بأنَّه لا يخلفُ الميعاد، فلا تظُنُّوا أنَّ تهديدكم إيَّاي بالقتلِ والإيذاء يمنعني من الدُّعاء إلى الله ثم إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أورد عليهم ما يدل على صحة دعواهُ، فقال: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ} كأنَّهُ يقول: اجمعوا ما تقدرُون عليه من الأشياء التي توجبُ حُصُول مطلوبكم، ثم لم يقتصر على ذلك، بل أمرهم أن يضُمُّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنَّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتَّقَرُّب إليهم، ثم لم يقتصر على هذين، بل ضمَّ إليهما ثالثاً، وهو قوله: {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أراد أن يبلغوا فيه كل غايةٍ في المكاشفةِ والمجاهرة، ثم لم يقتصر على ذلك، بل ضمَّ إليها رابعاً، فقال: {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ} والمراد: أن وجهوا كلَّ تلك الشُّرُور إليَّ، ثم ضمَّ إلى ذلك خامساً، وهو قوله: {لاَ تُنظِرُونَ} أي: عجِّلُوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار، ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام يدل على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله، وأنَّه كان قاطعاً بأنَّ كيدهم لا يضرُّه، ولا يصل إليه، ومكرهم لا ينفذُ فيه.
قوله: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن قولي، وقُبُول نُصْحِي، {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} على تبليغ الرِّسالة والدَّعوة {مِّنْ أَجْرٍ} جعل وعوض، {إِنْ أَجْرِيَ} : ما أجري وثوابي، {إِلاَّ عَلَى الله} .
قال المفسِّرُون: وهذا إشارةٌ إلى أنَّه ما أخذ منهم مالاً على دعواهُم إلى دين الله، وكُلَّما كان الإنسانُ فارغاً من الطَّمع، كان قوله أقوى تأثيراً في القلب.
قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر: وهو أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بيَّن أنه لا يخافُ منهم بوجهٍ من الوجوه، وذلك لأنَّ الخوف إنَّما يحصل بأحد شيئين: إمَّا بإيصال الشَّر،(10/380)
أو بقطع المنافع، فبيَّن فيما تقدَّم أنه لا يخافُ شرَّهُم، وبيَّن في هذه الآية أنَّه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعُوا عنه خيراً؛ لأنَّه ما أخذ منهم شيئاً، فكان يخافُ أن يقطعوا منه خيراً، ثم قال: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} وفيه قولان:
الأول: أنكم سواء قبلتم دين الإسلام، أو لم تقبلوا، فأنا مأمورٌ بأن أكون على دين الإسلام.
الثاني: أنِّي مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليَّ لأجل هذه الدَّعوة، وهذا الوجهُ أليق بهذا الموضع؛ لأنَّه لمَّا قال اقضُوا إليَّ بيَّن أنَّه مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليه.
قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك} .
لمَّا حكى كلام نُوحٍ مع الكُفَّار، ذكر - تعالى - ما آل أمرهم إليه: أمَّا في حقِّ نُوح وأصحابه، فنجَّاهم وجعلهم خلائف، أي: يخلفون من هلك بالغرق، وأمَّا في حق الكفار فإنَّه - تعالى - أهلكهم وأغرقهم، وهذه القصَّة إذا سمعها من صدَّق الرسول ومن كذب به، كانت زجراً للمكذِّبين فإنهم يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نُوح، وتكون داعيةً للمؤمنين إلى الثَّبات على الإيمان؛ ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نُوح.
قوله {فِي الفلك} يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب «نجَّيناه» ، أي: وقع الإنجاء في هذا المكان.
والثاني: أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ، وهو «معهُ» لوقوعه صلة، أي: والذين استقرُّوا معه في الفلك، وقوله: «وجَعلْنَاهُم» أي: صيَّرناهُم، وجمع الضميرُ في «جَعلْنَاهُمْ» حملاً على معنى «مَنْ» ، و «خَلائِفَ» جمع خليفة، أي: يخلفُون الغارقين.
قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد نوحٍ، {رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} ولمْ يسمِّ الرسل، وقد كان منهم هودٌ، وصالحٌ، وإبراهيمُ، ولوطٌ، وشعيبٌ، {فَجَآءُوهُمْ بالبينات} ، وهي المعجزات الباهرة، و «بالبيِّنَاتِ» متعلقٌ ب «فَجاءوهُمْ» أو بمحذوف على أنه حال أي: ملتبسين بالبينات، {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي: أنَّ حالهم بعد بعثةِ الرسل، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية.
قال القرطبيُّ: التقدير: بما كذَّب به قوم نُوحٍ من قبل، وقيل «بِمَا كذَّبُوا بهِ» أيْ: من قبل يوم الذرِّ فإنه كان فيهم من كذَّب بقلبه، وإن قال الجميعُ: بلى.
وقال النحاس: أحسن ما قيل في هذا: أنَّه لقوم بأعيانهم، مثل: {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] . و «بالبيِّنَاتِ» متعلق ب «جَاءوهُم» ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ، أي: مُلتبسين بالبيِّناتِ.
وقوله: {لِيُؤْمِنُواْ} أتى بلام الجحود توكيداً، والضَّمير في {كَذَّبُواْ} عائدٌ على من عاد عليه الضَّمير في كانُوا، وهم قومُ الرُّسُل.(10/381)
وقال أبُو البقاء ومكِّي: إنَّ الضمير في كانوا يعُود على قوم الرُّسُل، وفي «كَذَّبُوا» يعود على قوم نوح، والمعنى: فما كان قوم الرُّسُل ليؤمنوا بما كذَّب به قوم نُوح، أي: بمثله، ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على نوح نفسه، من غير حذف مضافٍ، والتقدير: فما كان قومُ الرُّسُل بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ؛ إذ لو آمنوا به، لآمنوا بأنبيائهم.
و «مِنْ قَبْلُ» متعلقٌ ب «كَذَّبُوا» أي: من قبل بعثةِ الرُّسُل.
وقيل: الضَّمائرُ كُلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر: وهو أنَّهم بادرُوا رسلهم بالتكذيب، كُلما جاء رسولٌ، لجُّوا في الكفر، وتمادوا عليه، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجِّهم في الكفر، وتماديهم.
وقال ابن عطية: ويحتمل اللَّفظُ عندي معنى آخر، وهو أن تكون «ما» مصدرية، والمعنى: فكذَّبُوا رسلهم، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليُؤمِنُوا بتكذيبهم من قبل، أي: من سببه ومن جرَّائه، ويُؤيِّد هذا التأويل: «كذلِكَ نَطْبَعُ» وهو كلام يحتاجُ إلى تأمُّل.
قال أبو حيان: والظَّاهر أنَّ «ما» موصولةٌ؛ ولذلك عاد الضميرُ عليها في قوله: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} ولو كانت مصدرية، بقي الضمير غير عائدٍ على مذكور؛ فتحتاج أن يُتكلَّفَ ما يعود عليه الضمير.
قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «الشيخ بناه على قول جمهور النُّحاة: في عدم كونِ» ما «المصدريَّة اسماً؛ فيعُود عليها ضميرٌ، وقد تقدَّم مراراً، أنَّ مذهب الأخفش، وابن السراج: أنَّها اسمٌ فيعود عليها الضمير» .
قرأ العامَّةُ: «نَطْبَع» بالنُّون الدَّالة على تعظيم المتكلِّم. وقرأ العبَّاس بن الفضل: بياء الغيبة، وهو الله - تعالى -؛ ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخر: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} [الأعراف: 101] . والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف، أي: مثل ذلك الطَّبع المحكم الممتنع زواله، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله.
فصل
احتجَّ أهل السُّنَّة على أنَّه - تعالى - قد يمنع المكلَّلإ عن الإيمان بهذه الآية.
قالت المعتزلة: فقد قال - تعالى -: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155] ولو كان هذا الطَّبع مانِعاً، لما صحَّ هذا الاستثناء، وقد تقدَّم البحث في ذلك عند قوله - تعالى -: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} [البقرة: 7] .(10/382)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
قوله - تعالى - {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ} الآية.
قرأ مجاهد، وابن جبير، والأعمش: «إنَّ هذا لساحِرٌ» اسم فاعل، والإشارةُ ب «هَذَا» حينئذٍ إلى موسى، أشير إليه لتقدم ذكره، وفي قراءةِ الجماعةِ، المشارُ إليه الشَّيءُ الذي جاء به موسى، من قلب العصا حيَّة، وإخراج يده بيضاء كالشمس، ويجوز أن يشار ب «هذا» في قراءة ابن جبير: إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً؛ حيث وصفُوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ؛ كقولهم: «شِعْرٌ شَاعِرٌ» ، و «جَدَّ جَدُّهُ» .
فإن قيل: إنَّ القوم لمَّا قالوا: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} ، فكيف حكى موسى عنهم أنَّهُم قالوا: «أسِحْرٌ هذا» على سبيل الاستفهام؟ .
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّ معمول «أتقولون» : الجملة من قوله: «أسِحْرٌ هذا» إلى آخره، كأنهم قالوا: أجِئْتُمَا بالسِّحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح السَّاحِرُون؛ كقول موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - للسحرة: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} [يونس: 81] .
والثاني: أنَّ معمول القول محذوفٌ، مدلولٌ عليه بما تقدم ذكرهُ، وهو {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} .
ومعمولُ القول يحذف للدَّلالةِ عليه كثيراً، كما يحذف القول كثيراً، ويكون تقدير الآية: إن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال لهم: {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ} ما(10/383)
تقولون، ثم حذف منه مفعول «أتقولون» لدلالة الحالِ عليه، ثم قال: أسِحْرٌ هذا وهو استفهامٌ على سبيل الإنكار، ثم احتجَّ على أنَّه ليس بسحرٍ، بقوله: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} ؛ ومثلُ الآية في حذف المقول قولُ الشاعر: [الطويل]
2922 - لنَحْنُ الألَى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ ... بِرُؤيتنَا قبْلَ اهتِمَامٍ بكُمْ رُعْبَا
وفي كتاب سيوبيه: «متَى رَأيتَ أو قُلْتَ زيداً مُنْطلقاً» على إعمال الأول، وحذف معمول القول، ويجوز إعمالُ القول بمعنى الحكاية به، فيقال: «متى رايت أو قلت زيد مُنطلقٌ» وقيل: القول في الآية بمعنى: العَيْب والطَّعْن، والمعنى: أتَعِيبُونَ الحقَّ وتطعنُونَ فيه، وكان من حقِّكم تعظيمُه، والإذعانُ له، من قولهم: «فلان يخافُ القالة» و «بين الناس تقاولٌ» إذا قال بعضهم لبعضٍ ما يسوؤه، ونحو القولِ الذَِّكرُ في قوله: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] وكلُّ هذا مُلخّص من كلام الزمخشريِّ.
قوله: «قَالُوا» يعني: فرعون وقومه، «أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا» اللاَّمُ متعلقةٌ بالمجيء، أي: أجِئْتَ لهذا الغرضِ، أنكروا عليه مجيئهُ لهذه العلَّة، واللَّفتُ: الليُّ والصَّرْفُ، لفته عن كذا، أي: صرفه ولواه عنه، وقال الأزرهي: «لفَتَ الشَّيء وفتلهُ» : لواه، وهذا من المقلوب.
قال شهاب الدِّين: «ولا يُدَّعى فيه قلبٌ، حتى يرجع أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعَلُوا جذبَ وجبذَ، وحَمِدَ ومَدَحَ من هذا القبيل لتساويهما، ومطاوعُ لَفَتَ: التفَت، وقيل: انْفَتَلَ، وكأنَّهُم استغْنَوا بمطاوع» فَتَل «عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لفُوت، أي: تَلْتفتُ لولدها عن زوجها، إذا كان الولد لغيره، واللَّفيتةُ: ما يغلظُ من القصيدة» والمعنى: أنَّهم قالوا: لا نترك الذي نحن عليه؛ لأنَّا وجدنا أباءنا عليه، فتمسكُوا بالتقليد، ودفعُوا الحُجَّة الظاهرة بمجرد الإصرار.
قوله: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض} الكبرياء: اسمُ «كان» ، و «لكم» : الخبر، و «في الأرض» : جوَّز فيها أبو البقاء خمسة أوجه:
أحدها: أن تكون متعلقة بنفس الكبراي.
الثاني: أن يتعلق بنفس «تكون» .
الثالث: أن يتعلَّق بالاستقرار في «لكم» لوقوعه خبراً.
الرابع: أن يكون حالاً من «الكبرياء» .
الخامس: أن يكون حالاً من الضَّمير في «لَكُمَا» لتحمُّلِه إيَّاهُ «. والكبرياء مصدرٌ على وزن» فِعْلِيَاء «، ومعناها: العظيمة؛ قال عديُّ بن الرِّقَاعِ: [الخفيف](10/384)
2923 - سُؤدُدٌ غَيْرُ فَاحِشٍ لا يُدَانِي ... يه تجبَّارةٌ ولا كِبْرياءُ
وقال ابن الرّقيات يمدح مصعب بن الزبير: [الخفيف]
2924 - مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَةٍ ليس فيه ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ ولا كِبْرِيَاءُ
يعني: هو ليس عليه ما عليه المملوكُ من التجبُّر والتَّعظيم.
والجمهور على» تكون «بالتَّأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ.
وقرأ ابن مسعود، والحسن، وإسماعيل وأبو عمرو، وعاصم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في روايةٍ:» يكون «بالياء من تحت؛ لأنَّه تأنيثٌ مجازيٌّ.
قال المفسِّرون: والمعنى: ويكون لكُما الملكُ والعزُّ في أرض مصر، والخطابُ لموسى، وهارون - عليهما الصلاة والسلام -.
قال الزَّجَّاج: سمى الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضاً: فالنبيُّ إذا اعترف القوم بصدقه، صارت مقاليدُ أرم أمته إليه؛ فصار أكبر القوم.
واعلم: أنَّ القوم لمَّا ذكروا هذين الشيئين في عدم اتِّباعهم، وهما: التَّقليد، والحرصُ على طلب الرِّياسة، صرَّحُوا بالحكم، فقالوا: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} ، ثم شرعُوا في معارضةِ معجزات موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأنواعٍ من السحر؛ ليظهر عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السِّحْر، فقال فرعون: {ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} .
قرأ الأخوان: سحَّار وهي قراءةُ ابن مُصرِّف، وابن وثَّاب، وعيسى بن عمر.
{فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} .
فإن قيل: كيف أمرهُم بالسِّحْر، والسِّحر كفر، والأمر بالكفر كُفْرٌ؟ .
فالجواب: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بإلقاء الحِبال والعِصيّ؛ ليظهر للخلق أن ما أتوا به عملٌ فاسدٌ، وسعيٌ باطلٌ، لا أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بالسِّحْرِ؛ فلمَّا ألقوا حبالهم وعصيَّهُم، قال لهم موسى: ما جئتم به هو السِّحْر، والغرض منهُ: أنَّهم لمَّا قالُوا لموسى: إنَّ ما جئتَ به سحر، فقال موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: إنَّ ما(10/385)
ذكرتمُوه باطلٌ، بل الحقُّ: أنَّ الذي جئتُم به هو السِّحر الذي يظهر بطلانه، ثم أخبرهُم بأن الله يحق الحق، ويبطل الباطل.
قوله: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} قرأ أبو عمرو وحده: «آلسِّحر» بهمزة الاستفهام، وبعدها ألف محضةٌ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الدَّاخلة على لام التعريف، ويجوز أن تُسَهَّل بين بين، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله: {ءَآلذَّكَرَيْنِ} [الأنعام: 143] وهي قراءة مجاهد، وأصحابه، وأبي جعفر، وقرأ باقي السبعة: بهمزة وصلٍ تسقُط في الدَّرْج، فأمَّا قراءةُ أبي عمرو، ففيها أوجه:
أحدها: أنَّ «ما» استفهاميَّة في محلِّ رفع بالابتداء، و «جِئْتُمْ بِه» : الخبرُ، والتقدير: أي شيءٍ جِئْتُم، كأنَّه استفهام إنكار، وتقليلٌ للشَّيءِ المُجاء به. و «السِّحْر» بدلٌ من اسم الاستفهام؛ ولذلك أعيد معه أداته؛ لما تقرَّر في كتب النحو، وذلك ليساوي المبدل منه في أنَّه استفهامٌ، كما تقول: كم مالك أعشرون، أم ثلاثون؟ فجعلت: أعشرون بدلاً من كم، ولا يلزم أن يضمر للسِّحر خبر؛ لأنَّك إذا أبدلته من المبتدأ، صار في موضعه، وصار ما كان خبراً عن المبدل منه، خبراً عنه.
الثاني: أن يكون «السِّحْر» خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أهُو السِّحْر.
الثالث: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: السحر هو، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وذكر الثاني مكِّي، وفيهما بعد.
الرابع: أن تكون «ما» موصولة بمعنى: الذي، و «جئتم به» صلتها، والموصولُ في محلِّ رفع بالابتداء، والسِّحر على وجهيه من كون خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: الذي جئتم به أهُو السِّحْر؟ أو الذي جئتم به السحر هو؟ وهذا الضميرُ هو الرَّابط، كقولك: الذي جاءك أزيدٌ هو؟ قاله أبو حيَّان.
قال شهاب الدِّ] ن: قد منع مكِّي أن تكون «ما» موصولةً، على قراءة أبي عمرو، فقال: وقد قرأ أبو عمرو «» آلسحرُ «بالمدِّ، فعلى هذه القراءة: تكون» ما «استفهاماً مبتدأ، و» جِئْتُم بِهِ «: الخبر، و» السّحر «خبرُ ابتداءٍ محذوف، أي: أهو السِّحر؟ ولا يجوزُ أن تكون» مَا «بمعنى:» الَّذي «على هذه القراءة؛ إذ لا خبر لها. وليس كما ذكر، بل خبرها: الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزأيها، وكذلك الزمخشري، وأبو البقاء لمْ يُجِيزَا كونها موصولةً، إلاَّ في قراءة غير أبي عمرو، لكنَّهُمَا لم يتعرَّضَا لعدم جوازه.
الخامس: أن تكون» ما «استفهامية في محلِّ نصبِ بفعل مقدَّرٍ بعدها؛ لأنَّ لها صدر(10/386)
الكلام، و» جِئْتُم به «مفسِّر لذلك الفعل المقدَّر، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال، والتقدير: أيُّ شيءٍ أتيتُم جِئْتُم به، و» السِّحْر «على ما تقدَّم، ولو قُرىء بنصب» السِّحْر «على أنَّه بدلٌ مِنْ» ما «بهذا التقدير، لكان لهُ وجه، لكنَّه لم يقرأ به فيما علمت، وسيأتي ما حكاه مكِّي عن الفرَّاء من جواز نصبه لمدركٍ آخر، لا على أنَّها قراءةٌ منقولةٌ عن الفرَّاء.
وأمَّا قراءةُ الباقين، ففيها أوجهٌ:
أحدها: أن تكون «ما» بمعنى: «الذي» في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «جِئْتُم بِه» صلته وعائده، و «السِّحرُ» خبرهُ، والتقدير: الذي جئتم به السحر، ويؤيِّد هذا التقدير، قراءة أبيّ، وما في مصحفه: «ما أتيتم به سِحْرٌ» ، وقراءة عبد الله بن مسعود والأعمش: «مَا جِئْتُمْ بِهِ سحْرُ» .
الثاني: أن تكون «ما» استفهامية في محلِّ نصبٍ، بإضمار فعل على ما تقرَّر و «السِّحْر» خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ مضمر الخبر.
الثالث: أن تكون «ما» في محلِّ رفع بالابتداء، و «السِّحْر» على ما تقدَّم من كونه مبتدأ، أو خبراً، والجملة خبر «ما» الاستفهامية.
قال أبو حيَّان - بعد ما ذكر الوجه الأول -: «ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهاميَّة في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال، وهو استفهامٌ على سبيل التَّحقير، والتَّقليل لما جاؤوا به، و» السِّحْر «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو السِّحْر» .
قال شهاب الدِّين: ظاهرُ عبارته: أنَّه لم يَرَ غيره، حيث قال وعندي، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكِّي.
قال أبو البقاء - لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو - «ويُقْرَأ بلفظ الخبر، وفيه وجهان» ، ثم قال: «ويجوزُ أن تكون» ما «استفهاميَّة، و» السِّحْر «خبر مبتدأ محذوف» .
وقال مكِّي - في قراءة غير أبي عمرو، بعد ذكره كون «ما» بمعنى: الذي - ويجوز أن تكون «ما» رفعاً بالابتداء، وهي استفهامٌ، و «جِئْتُم بهِ» : الخبر، و «السِّحْر» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو السِّحر، ويجُوزُ أن تكون «ما» في موضع نصبٍ على إضمار فعلٍ بعد «ما» تقديره: أيُّ شيءٍ جئتم به، و «السحرُ» : خبر ابتداء محذوف.
الرابع: أن تكون هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى، أي: أنَّها على نيةِ الاستفهامِ، ولكن حذفت أداته للعلم بها.(10/387)
قال أبو البقاء: ويقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّه استفهامٌ في المعنى أيضاً، وحذفت الهمزة للعلم بها وعلى هذا الذي ذكره: يكونُ الإعرابُ على ما تقدَّم، واعلم أنَّك إذا جعلت «ما» موصولة بمعنى: الذي، امتنع نصبُها بفعلٍ مقدَّرٍ على الاشتغال.
قال مكِّي: ولا يجُوزُ أن تكون «ما» بمعنى: الذي، في موضع نصْبٍ لأنَّ ما بعدها صلتها، والصلةُ لا تعمل في الموصول، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول وهو كلامٌ صحيحٌ؛ فتلخَّص من هذا: أنَّها إذا كانت استفهامية، جاز أن تكون في محلِّ رفع أو نصب، وإذا كانت موصولة، تعيَّن أن يكون محلُّها الرفع بالابتداء، وقال مكي: وأجاز الفرَّاءُ نصب «السِّحْر» فجعل «ما» شرطاً، وينصبُ «السِّحْر» على المصدر، وتضمرُ الفاءُ مع {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} ، وتجعل الألف واللام في «السِّحْر زائدتين، وذلك كلُّه بعيدٌ، وقد أجاز عليُّ بن سليمان: حذف الفاءِ من جواب الشَّرط في الكلام، واستدلَّ على جوازه بقوله - تعالى -: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، ولم يجزه غيره إلاَّ في ضرورة شعر.
قال شهاب الدِّين: وإذا مشينَا مع الفرَّاء، فتكون» ما «شرطاً يُراد بها المصدرُ، تقديره: أيَّ سحر جئتم به، فإنَّ الله سيبطله، ويُبَيِّن أنَّ» ما «يراد بها السحر قوله:» السِّحْر «؛ ولكن يقلقُ قوله:» إنَّ نصب السِّحْر على المصدريَّة «فيكون تأويله: أنَّه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال؛ ولذلك قدَّره بالنَّكرة، وجعل» أل «مزيدة فيه.
وقد نُقِلَ عن الفرَّاء: أنَّ هذه الألف واللام للتعريف، وهو تعريف العهد، قال الفرَّاء:» وإنَّما قال «السِّحر» بالألف واللاَّم؛ لأنَّ النَّكرة إذا أعيدتْ، أعيدت بالألف واللاَّم «يعنى: أنَّ النَّكرة قد تقدَّمت في قوله: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 76] ، وبهذا شرحهُ ابنُ عطيَّة.
قال ابن عطيَّة: والتعريف هنا في السحر أرْتَبُ؛ لأنَّه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم:» إنَّ هذا لسحرٌ «، فجاء هنا بلام العهد، كما يقال أوَّل الرسالة:» سلامٌ عليك «.
قال أبو حيَّان» وما ذكراه هنا في «السِّحْر» ليس من تقدُّم النكرة، ثُمَّ أخبر عنها بعد ذلك؛ لأنَّ شرط هذا أن يكون المعرَّفُ ب «أل» هو المنكر المتقدَّم، ولا يكون غيره، كقوله - تعالى -: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15، 16] .
وتقول: «زارنِي رجلٌ، فأكرمتُ الرَّجُل» لمَّا كان إيَّاه، جاز أن يُؤتَى بضميره بدلهُ، فتقول: «فأكرمته» ، و «السِّحْر» هنا: ليس هو السحرَ الذي في قولهم: «إنَّ هذا لسحْرٌ» لأنَّ الذي أخبروا عنه بأنَّه سحرٌ، هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا، والسِّحْر الذي في قول موسى، إنَّما هو سحرهُم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان، إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عمَّا جاؤوا به؛ ولذلك لا يجُوز أن يؤتى هنا بالضَّمير بدل السِّحْر؛ فيكون عائداً على قولهم: لسحْرٌ «.(10/388)
قال شهاب الدِّين: «والجوابُ: أنَّ الفرَّاء، وبن عطيَّة إنَّما أرَادَا السِّحر المتقدِّم الذكر في اللفظ، وإن كان الثَّاني هو غير عين الأول في المعنى، ولكن لمَّا أطلق عليهما لفظ» السَّحْر «جاز أن يقال ذلك، ويدلُّ على هذا: أنَّهم قالوا في قوله - تعالى -: {والسلام عَلَيَّ} [مريم: 33] إنَّ الألف واللام للعهد؛ لتقدُّم ذكر السَّلام في قوله - تعالى -: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ} [مريم: 15] ، وإن كان السَّلامُ الواقعُ على عيسى، هو غير السلام الواقع على يحيى؛ لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به، وهذا النَّقْل المذكورُ عن الفرَّاء في الألف واللاَّم، ينافى ما نقلهُ عنه مكِّي فيهما، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال: يحتمل أن يكون له مقالتان، وليس ببعيدٍ؛ فإنَّه كُلَّما كثر العلمُ، اتَّسعت المقالاتُ» .
قوله: {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} أي: سيهلكه، ويظهر فضيحة صاحبه، {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي: لا يقوِّيه ولا يكمِّله، وقوله: «المُفْسدينَ» من وقوع الظَّاهر موقع ضمير المخاطب؛ إذ الأصلُ: لا يصلح عملكم؛ فأبرزهم في هذه الصِّفة الذَّميمة شهادة عليهم بها، ثم قال: {وَيُحِقُّ الله الحق} أي: يظهره ويقوِّيه، {بِكَلِمَاتِهِ} أي: بوعده موسى، وقيل: بما سبق من قضائه وقدره، وقرىء: «بكَلمتهِ» بالتوحيد، وتقدَّم نظيره [الأنفال: 7] .
قوله: {فَمَآ آمَنَ لموسى} الفاءُ للتَّعقيب، وفيها إشعارٌ بأنَّ إيمانهم لم يتأخَّر عن الإلقاء، بل وقع عقيبهُ؛ لأنَّ الفاء تفيد ذلك، وقد تقدَّم توجيهُ تعدية «آمن» باللاَّم، والضَّمير في «قَوْمِهِ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه يعودُ على موسى؛ لأنَّهُ هو المُحدَّث عنه؛ ولأنَّه أقربُ مذكورٍ، ولو عاد على فرعون، لمْ يكرِّرْ لفظه ظاهراً، بل كان التركيب: «على خوفٍ منه» وإلى هذا ذهب ابنُ عبَّاس، وغيره، قال: المراد مؤمني بني إسرائيل الذين كانُوا بمصر، وخرجُوا معه.
قال ابن عبَّاس: لفظ الذُّريَّة يُعَبَّر به عن القوم على وجه التَّحقير والتَّصغير، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا؛ فوجب حمله على التصغير، بمعنى: قلة العدد.
قال مجاهد: كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل، هلك الآباء، وبقي الأبناء.
وقيل: هم قوم نَجَوْا من قتل فرعون؛ وذلك أنَّ فرعون لما أمر بقتل أبْنَاءِ بني إسرائيل، كانت المرأة في بني إسرائيل، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطيَّة، خوفاً عليه من القتل، فنشئُوا بين القبط، وأسلمُوا في اليوم الذي غلب فيه موسى السَّحرة.(10/389)
والثاني: أنَّ الضمير يعُود على فرعون، ويُروى عن ابن عبَّاس أيضاً، ورجَّح ابنُ عطيَّة هذا، وضعف الأول، فقال: وممَّا يضعفُ عود الضَّمير على مُوسى: أنَّ المعروف من أخبار بني إسرائيل، أنهم كانوا قد فشتْ فيهم النبواتُ، وكانُوا قد نالهُم ذلٌّ مفرط، وكانوا يرجُون كشفهُ بظُهُورِ مولُود، فلمَّا جاءهُم موسى أصْفَقُوا عليه وتابعُوه، ولم يُحْفَظْ أنَّ طائفة من بني إسرائيل كفرتْ بمُوسَى، فكيف تُعْطِي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَّ منهم كان الذي آمَنَ؟ فالذي يترجَّحُ عودُه على فرعون، ويؤيِّده أيضاً: ما تقدَّم من محاورة موسى وردِّه عليهم وتوبيخهم.
قيل: المراد بالذرية: أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون، وأمَّهاتُهُم من بني إسرائيل، فجعل الرَّجُل يتبع أمَّهُ وأخوالهُ.
روي عن ابن عبَّاس: أنَّهم كانوا ستمائة ألفٍ من القبط.
قيل: سُمُّوا ذُرِّيَّة؛ لأنَّ آباءهم كانوا من القبط، وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد فارس - الذين سقطوا إلى اليمن -: الأبناء؛ لأنَّ أمُّهاتهم من غير جنس آبائهم.
وقيل: المراد بالذُّرِّيَّة من آل فرعون: آسيةُ، ومُؤمنُ آلِ فرعون، وامرأته، وخازنه، وامرأةُ خازنه، وماشطتها.
واعلم: أنَّه - تعالى - إنَّما ذكر ذلك تسلية لمحمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؛ لأنَّه كان يغتمُّ بسبب إعراض القوم عنه، واستمرارهم على الكُفْر، فبيَّن أنَّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء؛ لأنَّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية.
قوله «عَلى خوفٍ» : حالٌ، أي: آمنوا كائنين على خوف، والضَّمير في «ومَلئِهِم» فيه أوجه:
أحدها: أنَّه عائدٌ على الذُّرية، وهذا قولُ أبي الحسن، واختيارُ ابن جرير، أي: خوفٍ من ملأ الذرية، وهم أشراف بني إسرائيل.
الثاني: أنه يعودُ على «قَوْمِهِ» بوجهيه، أي: سواءٌ جعلنا الضمير في «قومِهِ» لمُوسى، أو لفرعون، أي: وملأ قوم موسى، أو ملأ قوم فرعون.
الثالث: أن يعود على فرعون؛ لأنَّهم إنَّما كانُوا خائفين من فرعون، واعترض على هذا؛ بأنَّهُ كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين:(10/390)
أحدهما: أنَّ فرعون لمَّا كان عظيماً عندهم، عاد الضَّمير عليه جمعاً، كما يقول العظيم: نحن نأمُرُ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأنَّه لو ورد ذلك من كلامهم محْكِيّاً عنهم، لاحتمل ذلك.
الثاني: أنَّ فرعون صار اسماً لأتباعه، كما أنَّ ثمود اسمٌ للقبيلة كلها. وقال مكِّي وجهين آخرين قريبين من هذين، ولكنَّهما أخلص منهما، قال: إنَّما جمع الضميرُ في مَلَئهم؛ لأنَّه إخبار عن جبَّار، والجبَّار يخبر عنه بلفظ الجمع، وقيل: لمَّا ذكر فرعونُ، عُلِمَ أنَّ معه غيرهُ، فرجع الضَّميرُ عليه، وعلى من معه.
وقد تقدم نحوٌ من هذا عند قوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس} [آل عمران: 173] والمراد بالقائل الأول: نعيم بن مسعود؛ لأنَّه لا يخلُو من مساعدٍ لهُ على ذلك القول.
الرابع: أنْ يعود على مضافٍ محذوف وهو آل، تقديره: على خوفٍ من آل فرعون، ومَلئِهم، قاله الفرَّاء، كما حذف في قوله:
{واسأل
القرية} [يوسف: 82] .
قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ: «وهذا عندنا غلطٌ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ، إذ لو جاز ذلك، لجاز أن يقول:» زَيْدٌ قاموا «وأنت تريد: غلمان زيد قامُوا» .
قال شهاب الدِّين: قوله: «لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير» ممنوعٌ، بل إذا حذف مضافٌ، فللعرب فيه مذهبان: الالتفات إليه، وعدمُه وهو الأكثر، ويدلُّ على ذلك: أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] أي: أهل قرية، ثم قال: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه، وقوله: «لجازَ زيد قاموا» ليس نظيره، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ، بخلاف الآية.
وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء -: ورُدَّ عليه: بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ، وقد يقال: ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في «ومَلئِهم» . يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء، بالفرق بين {واسأل القرية} [يوسف: 82] وبين هذه الآية: بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف.
وجواب هذا: أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنَّه قيل في {واسأل القرية} [يوسف: 82] إنَّه حقيقةٌ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية؛ فتُجِيبه.
الخامس: أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه، والدَّليلُ عليه؛ كونُ الملك لا(10/391)
يكونُ وحده، بل له حاشيةٌ، وعساكرُ، وجندٌ؛ فكان التقدير: على خوفٍ من فرعون، وقومه، وملئِهِم، أي: ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً.
قال شهاب الدِّين: حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم، قوله - تعالى -: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد؛ وقول الآخر: [الطويل]
2925 - كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا ... إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا
أي: ويدها.
قوله: «أن يفْتنَهُم» أي: يصرفهم عن دينهم، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من «فِرْعَون» ، وهو بدلُ اشتمالٍ، تقديره: على خوفٍ من فرعون فتنة، كقولك: «أعْجَبني زيد علمُهُ» .
الثاني: أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر، أي: خوف فتنته، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ؛ كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] ، وقول الآخر: [الطويل]
2926 - فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ ... عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ
الثالث: أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ.
وقرأ الحسن، ونبيح: «يُفْتِنَهم» بضمِّ الياءِ من «أفتن» وقد تقدَّم ذلك [النساء: 101] .
قوله: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض} أي: مُتكبِّر، أو ظالمٌ، أو قاهر، و «فِي الأرض» متعلِّقٌ ب «عَالٍ» ؛ كقوله: [الكامل]
2927 - فاعْمَدْ لِمَا تعلُو فما لك بالَّذي ... لا تَسْتطيعُ مِنَ الأمُورِ يَدَانِ
أي: لِمَا تَقْهَر، ويجوز أن يكون «فِي الأرْضِ» متعلِّقاً بمحذوف؛ لكونه صفة ل «عَالٍ» فيكون مرفوع المحلِّ، ويرجح الأول قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض} [القصص: 4] ثم قال: {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} : المجاوزين الحدَّ؛ لأنه كان عبداً، فادَّعى الرُّبُوبيَّة، وقيل: لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمنْ يخالفُه، والغرضُ منهُ: بيان السَّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين.(10/392)
قوله تعالى: {وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله} الآية.
قوله تعالى: «فَعَليْهِ» جوابُ الشرط، والشرط الثاني - وهو «إن كنتم مُسلمينَ» - شرطٌ في الأول، وذلك أنَّ الشَّرطين متى لمْ يترتَّبا في الوجودِ، فالشَّرطُ الثَّاني شرطٌ في الأول، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك [البقرة: 38] .
قال الفقهاء: المتأخر يجب أن يكون متقدماً، والمتقدِّم يجب أن يكون متأخراً، مثاله قول الرَّجُلِ لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالقٌ إن كلمت زيداً، والمشروط متأخِّر عن الشَّرطِ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخِّر في اللفظ، متقدماً في المعنى، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى، فكأنَّه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدَّار، فأنت طالقٌ، فلو حصل هذا التعليقُ، قيل: إن كلَّمَتْ زيداً لمْ يقع الطلاق.
قوله: {ن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً؛ لأن يصيروا مخاطبين بقوله: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا} فكأنَّه - تعالى - يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكَّلْ، والأمر كذلك؛ لأنَّ الإسلام عبارة عن الاستسلام، وهو الانقياد لتكاليف الله، وترك التمرد، والإيمان عبارةٌ عن صيرورة القلب، عارفاً بأن واجب الوُجُود لذاته واحدٌ، وأنَّ ما سواه محدث مخلُوق تحت تدبيره، وقهره، وإذا حصلت هاتان الحالتان، فعند ذلك يفوِّض العبدُ جميع أموره إلى الله - تعالى -، ويحصُلُ في القلب نور التَّوكُّل على الله - تعالى -.
فصل
إنما قال: «فعليه توكَّلُوا» ولم يقل: «توكَّلُوا على اللهِ» ، لأن الأول يفيد الحصر، كأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بالتَّوكُّل عليه، ونهاهُم عن التوكُّلِ على الغير، ثم بيَّن - تعالى - أنَّ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا أمرهم بذلك قبلوا قوله {فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} أي: توكُّلُنا عليه واعتمادنا، ولم نلتفت إلى أحد سواه، ثم اشتغلوا بالدعاء، وطلبوا من الله شيئين:
أحدهما: أن قالوا: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} .
والثاني: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} أما قولهم: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} ففيه وجوه:
الأول: لا تفتن بنا فرعون وقومه؛ لأنك لو سلطَّتهُم علينا، لوقع في قلوبهم أنَّا لو كنَّا على الحقِّ، لما سلَّطتهُم علينا؛ فيصير ذلك شبهةً قويَّةً في إصرارهم على الكفر؛ فيكون ذلك فتنةً لهم.
الثاني: لو سلَّتهُم علينا، لاستوجبُوا العقاب الشَّديد في الآخرة، وذلك يكون فتنة لهم.(10/393)
الثالث: أنَّ المراد بالفتنة المفتُون؛ لأنَّ إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز، كالخلق بمعنى المخلوق والتقدير: لا تَجٍْعلْنا مفْتُونين بأنَّ ييقهَرُونا بالظُّلْمِ على أن ننصرف من هذا الدِّين الذي قبلناهُ، ويؤكِّد هذا قوله: {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] وأمَّا المطلوبُ الثاني، فهو قوله: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} .
وهذا يدلُّ على أنَّ اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم؛ لأنَّا إذا حملنا قولهم: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [يونس: 85] ، على تسليط الكفَّار عليهم وصيروة ذلك التسليط شبهة للكفار في أنَّ هذا الدِّين باطلٌ، فتضرعوا إلى الله - تعالى - في صون الكُفَّار عن هذه الشُّبهة، وتقديم هذا الدُّعاء على طلب النَّجاة لأنفسهم، وذلك يدل على أن اهتمامهُم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم.(10/394)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} الآية.
لمَّا شرح خوف المؤمنين من الكُفَّار، وما ظهر منهم من التَّوكُّل على الله، أتبعه بأن أمر موسى، وهارون باتخاذ المساجد، والإقبال على الصَّلوات.
قوله {أَن تَبَوَّءَا} يجوز في «أنْ» أن تكون المفسِّرة؛ لأنَّه قد تقدَّمها ما هو بمعن القول وهو الإيحاء، ويجوز أن تكون المصدريَّة، فتكون في موضع نصب ب «أوْحَيْنَا» مفعولاً به، أي: أوحينا إليهما التَّبَوُّء.
والجمهور على الهمزة في «تَبَوَّآ» وقرأ حفص «تَبَوَّيَا» بياء خالصة، وهي بدلٌ عن الهمزة، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي، إذ قياسُ تخفيف مثل هذه الهمزة: أن تكون بين الهمزة والألف، وقد أنكر هذه الرِّواية عن حفص جماعةٌ من القُرَّاءِ، وخصَّها بعضهم بحالة الوقف، وهو الذي لم يحكِ أبُو عمرو الدَّاني والشاطبي غيره، وبعضهم يُطلق إبدالها عنه ياء وصلاً ووقفاً، وعلى الجملة فهي قراءةٌ ضعيفةٌ في العربية، وفي الرواية.
والتَّبَوُّؤُ: النزولُ والرجوعُ، يقال: تبوَّأ المكان: أي: اتخذه مُبَوَّأ، وقد تقدَّمت هذه(10/394)
المادة في قوله: {تُبَوِّىءُ المؤمنين} [آل عمران: 121] والمعنى: اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما، ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة.
قوله: «لِقَوْمِكُما» يجوزُ أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول الأول، و «بُيُوتاً» مفعول ثان، بمعنى: بوِّآ قومكما بيوتاً، أي: أنزلوهم، وفعَّلَ وتَفَعَّلَ بمعنًى، مثل «عَلَّقَهَا» و «تعلَّقها» قاله أبو البقاء، وفيه ضعفٌ: من حيث إنَّه زيدت اللامُ، والعاملُ غير فرع، ولم يتقدم المعمُولُ.
الثاني: أنَّها غير زائدة، وفيها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أنَّها حالٌ من «البُيُوتِ» .
والثاني: أنَّها وما بعدها مفعول «تَبَوَّءا» .
قوله «بِمِصْرَ» جوَّز فيه أبو البقاء أوْجُهاً:
أحدها: أنَّه متعلِّق ب «تَبَوَّءا» ، وهو الظَّاهرُ.
الثاني: أنَّه حالٌ من ضمير «تَبَوَّءا» ، واستضعفهُ، ولمْ يُبَيِّنْ وجه ضعفه لوضوحه.
الثالث: أنَّها حالٌ من «البُيُوت» .
الرابع: أنَّهُ حالٌ من: «لِقَوْمِكُما» ، وقد ثنَّى الضمير في قوله: «تَبَوَّءَا» وجمع في قوله: «واجْعَلُوا» و «أقِيمُوا» وأفرد في قوله: «وبَشِّر» لأن الأول أمرٌ لهما، والثاني لهما ولقومهما، والثالث لمُوسى فقط؛ لأنَّ أخاهُ تبعٌ لهُ، ولمَّا كان فعلُ البشارة شريفاً خصَّ به موسى، لأنَّه هو الأصل، وقيل: وبشِّر المؤمنين يا محمَّد.
فصل
قال بعضهم: المراد من البُيُوتِ: المساجد؛ لقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} [النور: 36] وقيل: مطلق البيوت، أمَّا الأوَّلُون ففسَّرُوا القبلة بالجانب، الذي يستقبل في الصلاة، أي: اجعلُوا بيوتكُم مساجداً، تستقبلونها في الصَّلاة.
وقال ابن الأنباريِّ: المعنى: اجعلوا بيوتكم قبلاً، أي: مساجد؛ فأطلق لفظ الواحد، والمراد: الجَمْع، ومن قال: المرادُ: مطلق البيوت ففيه وجهان:
أحدهما: قال الفراء: أي: اجعلوا بيوتكم إلى القبلة.
الثاني: المعنى: اجعلوا بيوتكم متقابلة، والمراد منه: حصول الجمعيَّة، واعتضاد البعض بالبعض.
واختلفوا في هذه القبلة أين كانت؟ ظاهر القرآن لا يدلُّ على تعيينها، وروي عن ابن عبَّاس: كانت الكعبةُ قبلةَ مُوسى، وكان الحسن يقول: الكعبة قبلةَ كلِّ الأنبياء،(10/395)
وإنما وقع العُدُول عنها بأمر الله - تعالى - في أيَّام الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بعد الهجرة. وقال آخرون: كانت القبلة: بيت المقدس.
فصل
ذكر المُفَسِّرُون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً:
أحدها: أن موسى ومن معه كانوا مأمورين في أول أمرهم، بأن يُصَلُّوا في بيوتهم خُفيةً من الكُفَّار؛ لئلا يظهروا عليهم، فيُؤذُوهُم، ويفتنوهُم عن دينهم، كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة.
قال مجاهد: خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد جهة الكعبة، يُصَلُّون فيها سرّاً.
وثانيها: أنَّه لمَّا أرْسِلَ مُوسى إلى فرعون، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل، ومنعهم من الصلاة، فأمرهُم الله - تعالى - باتِّخاذِ المساجد في بيوتهم، رواه عكرمة، عن ابن عبَّاس. وهو قول إبراهيم.
وثالثها: أنَّه تعالى لمَّا أرسل مُوسى إليهم، وأظهر فرعون لهم العداوة الشديدة، أمر الله - تعالى - موسى، وهارون، وقومهما باتِّخاذِ المساجد على رغم الأعداء، وتكفَّل الله بصونهم عن شرِّ الأعداءِ.
قوله تعالى: {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} الآية.
لمَّا بالغ موسى في إظهار المعجزات، ورأى القوم مُصرِّينَ على الجُحُود والعنادِ؛ دعا عليهم، ومن حقِّ من يدعُو على الغير أن يذكُر سبب جرمه، وجرمهم: كان حُبَّ الدنيا؛ فلأجله تركوا الدِّين؛ فلهذا قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا} والزينة: عبارة عن الصحَّة، والجمال، واللباس، والدوابِّ، وأثاث البيت، والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصَّامت، والنَّاطق، وقرأ الفضل الرَّقاشي «أئنَّكَ آتيْتَ» .
قوله: «ليُضِلُّوا» في هذه اللاَّم ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها لامُ العلَّة، والمعنى: أنَّك آتيتهُم ما آتَيْتَهم على سبيل الاستدراج، فكان الإيتاءُ لهذه العلة.(10/396)
والثاني: أنَّها لامُ الصَّيرورةِ والعاقبة؛ كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] ، وقوله: [الوافر]
2928 - لِدُوا للمَوْتِ وابنُوا لِلْخَرَابِ..... ... ... ... ... ... ... ... .
وقوله: [الطويل]
2929 - ولِلْمَوْتِ تَغْذُو الولِدَاتُ سِخالَهَا ... كمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المسَاكِنُ
وقوله: [البسيط]
2930 - ولِلْمنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مرضِعَةٍ ... ولِلْخَرابِ يُجِدُّ النَّاسُ عُمْرَانَا
والثالث: أنَّها للدعاء عليهم بذلك؛ كأنه قال: ليثبتُوا على ما هم عليه من الضلال، وليكونُوا ضُلاَّلاً، وإليه ذهب الحسن البصريُّ، وبدأ به الزمخشريُّ، وقد استُبعدَ هذا التَّأويلُ بقراءة الكوفيين، «لِيُضِلُّوا» بضمِّ الياء، فإنه يبعد أن يدعُو عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم، وقرأ الباقون بفتحها، وقرأ الشعبيُّ بكسرها، فوالى بين ثلاث كسرات إحداها في ياء.
وقال الجبائي: إنَّ «لا» مقدرةٌ بين اللاَّم والفعل، تقديره: لئلاَّ يضلُّوا، ورأي البصريين في مثل هذا تقدير: «كرَاهَةَ» ، أي: كراهة أن يضلُّوا.
فصل
احتج أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنه - تعالى - يضلُّ الناس من وجهين:
أحدهما: أن اللام في «لِيضلُّوا» لام التَّعليل.
والثاني: قوله: {واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ} فقال - تعالى -: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} قال القاضي: لا يجوز أن يكون المرادُ من الآية ما ذكرتُم لوجوه:
الأول: لأنَّه - تعالى - منزَّهٌ عن فعل القبائح، وإرادة الكفر قبيحة.
وثانيها: أنَّه - تعالى - لو أراد ذلك، لكان الكافرُ مطيعاً لله بكفره؛ لأنَّ الطاعة: هي الإتيان بمراد الأمر، ولو كان كذلك، لما استحقُّوا الدُّعاء عليهم.
وثالثها: لو جوَّزْنَا إرادة إضلال العباد، لجوَّزْنَا أن يبعث الأنبياء بالدُّعاء إلى الضَّلالِ، ولجاز أن يقوي الكذَّابين الضَّالين بإظهار المعجزات، وفيه هدم الدِّين.
ورابعها: أنَّه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ(10/397)
يخشى} [طه: 44] ، وأن يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] ، ثم إنَّه - تعالى - إراد الضَّلال منهم، وأعطاهم النِّعم لكي يضلُّوا، وهذا كالمناقضة، فلا بُدّ من حَمْلِ أحدهما على الآخر.
وخامسها: لا يجوز أن يقال: إن مُوسى دعا ربَّهُ بأن يُطْمِسَ على أموالهم؛ لأجل أن لا يؤمنوا، مع تشدده في إرادة الإيمان. وإذا ثبت هذا؛ وجب تأويلُ هذه الكلمة، وذلك من وجوه:
الأول: أنَّ اللاَّم في «لِيُضِلُّوا» : لامُ العاقبة كما تقدَّم، ولما كانت عاقبة قوم فرعون، هو الضَّلال، عبَّر عن هذا المعنى بهذا اللفظ.
الثاني: أنَّ التقدير: لئلاَّ يضلوا، كقوله: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] ، فحذف لدلالة المعقُول عليه، كقوله - تعالى -: {بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة} [الأعراف: 172] ، أي: لئلاَّ تقُولُوا.
الثالث: أن يكون موسى ذكر ذلك على وجه التَّعجُّبِ المقرُون بالإنكار، أي: إنَّك أتيتهُم بذلك لهذا الغرض فإنَّهُم لا ينفقُون هذه الأموال إلاَّ فيه، كأنَّه قال: أتيتهم زينةً وأموالاً لأجْلِ أن يُضلُّوا عن سبيلك، ثم حذف حرف الاستفهام، كما في قوله: [الكامل]
2931 - كذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بواسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلامِ منَ الرَّبَابِ خَيَالاَ
والمرادُ: أكذبتك فكذا ههنا.
الرابع: أنَّ هذه لام الدُّعاء، وهي لام مكسورة تجزم المستقبل، ويفتتح بها الكلام، فيقال: ليغفرُ الله للمؤمنين، وليُعذِّب الله الكافرين، والمعنى؛ ربنا ابتليهم بالضَّلال عن سبيلك.
الخامس: سلَّمنا أنَّها لامُ التَّعليل، لكن بحسب ظاهر الأمر، لا في نفس الحقيقة، والمعنى: أنه - تعالى - لمَّا أعطاهم هذه الأموال، وصارت سبباً لبغيهم وكفرهم، أشبهت حال من أعطى المال لأجل الإضلال، فورد هذا الكلامِ بلفظ التَّعليل لهذا المعنى.
السادس: أنَّ الضَّلال قد جاء في القرآن بمعنى: الهلاك، يقال: ضلَّ الماءُ في اللَّبن، أي: هلك، فقوله: «ليضلُّوا عن سبيلك» أي: ليهلكوا ويموتوا، كقوله - تعالى -: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} [التوبة: 55] .
قال ابن الخطيب: واعلم: أنَّ الجواب قد تقدَّم مراراً، ونُعيد بعضه، فنقول: الذي يدُلُّ على أنَّ الإضلال من الله - تعالى - وجوه:(10/398)
الأول: أنَّ العبد لا يقصدُ إلا حُصُول الهداية، فلمَّا لمْ تحصُل الهداية بل حصل الضَّلال الذي لا يُريده، علمنا أنَّ حصُوله ليس من العَبْدِ، بل من الله - تعالى -.
فإن قالوا: إنَّه ظنَّ هذا الضَّلال هُدًى، فلذلك أوقعه في الوُجُود فنقول: إقدامُه على هذا الجهل، إن كان بجهل سابق، فذلك الجهل السابق يكون حُصُوله لسبق جهل آخر ويلزمُ التسلسل وهو محال؛ فوجب أنَّ هذه الجهالات والضَّلالات لا بُدَّ من انتهائها إلى جهل أوَّلٍ، وضلال أولٍ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد؛ لأنَّه يكرهُه ويُريد ضدَّهُ؛ فوجب أن يكون من الله - تعالى -.
الثاني: أنَّه تعالى لمَّا خلق الخلق يُحِبُّون المال حُبّاً شديداً، بحيث لا يمكنهُم إزالة هذا الحُبِّ عن النَّفْسِ ألبتَّة، وكان حُصُول هذا الحُبِّ يوجب الإعراض عن خدمة الله وطاعته، ويوجب التَّكبُّر عليه، وترك اللُّزُوم؛ فوجب أن يكون فاعل هذا الكفر، هو الذي خلق الإنسان مجبُولاً على حُبِّ هذا المال والجاه.
الثالث: أنَّ القُدْرة بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّين على السَّويَّة، فلا يترجَّحُ أحدُ الطَّرفين على الآخر إلاَّ بمرجِّح، وذلك المُرجِّحُ ليس من العبد، وإلا لعاد الكلام فيه، فلا بُدَّ وأن يكون من الله - تعالى -، وإذا كان كذلك، كانت الهدايةُ والضلال من الله - تعالى -.
وإذا عرفت هذا، فنقول: أما حملهم اللاَّم على لامِ العاقبة فضعيفٌ؛ لأنَّ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان عالماً بالعواقب.
فإن قالوا: إنَّ الله تعالى أخبرهُ بذلك.
قلنا: فلمَّا أخبر الله عنهم أنَّهُم لا يُؤمِنُون، كان صدور الإيمان منهم مُحَالاً؛ لأنَّ ذلك يستلزمُ انقلاب خبر الله كذباً، وهو محال، والمفضي إلى المُحال محال.
وأمّا قولهم: يحمل قوله: «لِيُضِلُّوا» على أنَّ المراد: لئلاَّ يُضِلُّوا، كما ذكره الجبائي، فأقول: إنَّه لمَّا فسَّر قوله - تعالى -: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] نقل قراءة «فمنْ نفسِك» على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنَّه استبعد هذه القراءة، وقال: إنَّها تَقْتَضِي تحريف القرآن، وتغييرهُ، وتفتحُ تأويلات الباطنيَّة - والباطنية هم الملاحدة، ويقال لهم: القرامِطَة، والإسماعيلية القائلون: بأنَّ محمَّد بن إسماعيل نَسَخَ شريعة محمَّد بن عبد الله - ويقال لهم أيضاً: الناصرية أتباع محمد بن نصير، وكان من غلاة الروافض القائلين بالألوهية على توهُّم الدرزية أتباع بنشكين الدرزي، كان من موالي الحاكم أرسله إلى وادي تيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلى ألوهية الحاكم ويسمونه بالبازي، والغلام، ويحلفون به، ويقال لهم: الحرمية والمحمرة، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم، ويقال لهم: الحرمية والمحمرة، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم، ويقال لهم أيضاً: الفداوية والرافضة، وهم يحرفون كلام الله - تعالى - ورسوله عن مواضعه، ومقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام، ويظهرون لهذه الأمور حقائق يعرفونها، فيقولون: إن الصلوات الخمس معرفة(10/399)
أسرارهم، والصيام المفروض من كتمان أسرارهم، وحج البيت زيارة شيوخهم، ويدا أبي لهب أبو بكر وعمر، والبناء العظيم والإمام المبين علي بن أبي طالب، فهم لا تحل ذبائحهم لا يناكحونا، وتجب مجاهدتهم؛ لأنهم مرتدون، قاله ابن تيمية، وبالغ في إنكار تلك القراءة.
وهذا الوجه الذي ذكرهُ هنا شرٌّ من ذلك؛ لأنَّه قلب النَّفي إثباتاً، والإثبات نفياً، وتجويزه بفتح باب ألاَّ يعتمد على القرآن لا في نفيه، ولا في إثباته، وحينئذٍ يبطل القرآن بالكُلِّيَّة، وهذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد فيه الاستفهام، بمعنى: الإنكار، فإنَّ تجويزهُ يوجبُ تجويز مثله في سائر المواضع، فلعله - تعالى - إنما قال: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} [البقرة: 43] على سبيل الإنكار والتعجُّب، ثم قال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ} .
قال مجاهد: أهلكها، والطَّمسُ: المَسْخُ.
وقال أكثر المفسرين: مسخها الله وغيَّرها عن هيئتها.
قال ابن عبَّاس: بلغنا أنَّ الدَّراهم والدَّنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها، صحاحاً وأنصافاً، وأثلاثاً، وجعل سكنهم حجارة.
قال محمد بن كعب: «كان الرجل مع أهله في فراشه، فصارا حجرين، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجراً» ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا أهل فرعون، فأخرج منها البيضة منقوشة، والجوزة مشقوقة وهي حجارة.
{واشدد على قُلُوبِهِمْ} أي: أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.
قال الواحدي: «وهذا دليلٌ على أنَّ الله يفعل ذلك بمن يشاء، ولولا ذلك لما حسن من موسى هذا السُّؤال» .
قوله: «فَلاَ يُؤْمِنُواْ» يحتمل النَّصْبَ والجزمَ، فالنَّصْب من وجهين:
أحدهما: عطفهُ على «لِيُضِلُّوا» .
والثاني: نصبه على جواب الدُّعاءِ في قوله: «اطْمِسْ» ، والجزم على أنَّ «لا» للدُّعاءِ، كقولك: لا تُعذِّبْنِي يا ربِّ، وهو قريبٌ من معنى: «لِيُضلُّوا» في كونه دعاءً، هذا في جانب شبه النَّهي، وذلك في جانب شبه الأمر، و «حتَّى يروا» : غايةٌ لنفي إيمانهم، والأولُ قول الأخفش، والثاني بدأ به الزمخشري، والثالث: قول الكسائي، والفرَّاء؛ وأنشد قول الشاعر: [الطويل](10/400)
2932 - فلا يَنْبَسِطْ منْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ... ولا تَلْقَنِي إلاَّ وأنفُكَ راغمُ
وعلى القول بأنه معطوفٌ على «ليُضِلُّوا» يكون ما بينهما اعتراضاً.
قوله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} : الضمير لمُوسى وهارُون.
قيل: كان موسى يدعو وهارون يُؤمِّن، فنسب الدعاء إليهما؛ لأنَّ المؤمن أيضاً داعٍ؛ لأنَّ قوله: «آمين» أي: استجب.
وقيل: المراد موسى وحده، ولكن كنًى عن الواحد بضمير الاثنين.
وقيل: لا يبعُد أن يكون كلُّ واحدٍ منهما ذكر هذا الدُّعاء؛ غاية ما في الباب أن يقال: إنَّما حَكَى هذا الدعاء عن موسى، بقوله: {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} إلاَّ أنَّ هذا لا ينافي أن يكون هارون ذكر ذلك الدعاء أيضاً.
وقرأ السلمي، والضحاك: «دَعواتُكُما» على الجمع.
وقرأ ابن السَّميفع: «قَدْ أجبتُ دعوتكما» بتاء المتكلم، وهو الباري - تعالى -، «دَعوتَكُمَا» نصب على المفعول به.
وقرأ الرِّبيع: «أجَبْتُ دعوتيكُما» بتاء المتكلم أيضاً، ودعوتيكما تثنيةٌ، وهي تدلُّ لمن قال: إنَّ هارون شارك موسى في الدُّعاء.
قوله: «فاسْتَقِيمَا» أي: على الدَّعوة والرِّسالة، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذابُ، قال ابن جريج: لبث فرعون بعد هذا الدُّعاء أربعين سنة.
«وَلاَ تَتَّبِعَانِّ» : قرأ العامَّةُ بتشديد التاء والنون، وقرأ حفص بتخفيف النُّون مكسورة، مع تشديد التَّاء وتخفيفها، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنِّسبة للنَّقْلِ عنهُ.
فأمَّا قراءةُ العامَّة، ف «لا» فيها للنَّهي، ولذلك أكَّد الفعل بعدها، ويضعفُ أن تكون نافية؛ لأنَّ تأكيد المنفيِّ ضعيفٌ، ولا ضرورة بنا إلى ادِّعائه، وإن كان بعضهم قد ادَّعى ذلك في قوله: {لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ} [الأنفال: 25] لضرورةٍ دعتْ إلى ذلك هناك،(10/401)
وقد تقدَّم تحريره في موضعه، وعلى الصحيح تكون هذه جملة نهيٍ معطوفة على جملة أمرٍ.
قال الزجاج: «ولا تتَّبعانِّ» : موضعه جزم، تقديره: ولاتتَّبِعَا، إلاَّ أنَّ النُّون الشديدة، دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها، وسكون النون التي قبلها، فاختير لها الكسرة، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية.
وأمَّا قراءة حفص، ف «لاَ» : تحتمل أن تكون للنَّفي، وأن تكون للنَّهْي.
فإن كانت للنفي، كانت النون نون رفعٍ، والجملة حينئذٍ فيها أوجه:
أحدها: أنَّها في موضع الحال، أي: فاسْتقيمَا غيرَ مُتَّبِعيْنِ، إلاَّ أنَّ هذا مُعترض بما قدَّمْتُه من أنَّ المضارعَ المفيَّ ب «لا» كالمثبت في كونه لا تباشره واو الحال، إلاَّ أن يقدَّر قبلهُ مبتدأ، فتكون الجملة اسميَّة أي: وأنتما لا تتَّبعَان.
والثاني: أنَّهُ نفيٌ في معنى النَّهي؛ كقوله - تعالى -: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [البقرة: 83] .
الثالث: أنَّها خبرٌ محضٌ مستأنف، لا تعلُّق له بما قبله، والمعنى: أنَّهُمَا أخبرا بأنَّهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون.
وإن كانت للنَّهي، كانت النون للتوكيد، وهي الخفيفة، وهذا لا يراه سيبويه، والكسائي، أعني: وقوع النون الخفيفة بعد الألف، سواء كانت الألف ألف تثنية، أو ألف فصلٍ بين نُون الإناث، ونون التوكيد، نحو «هل تضربنانِ يا نسوة» وقد أجاز يونس، والفرَّاء: وقوع الخفيفة بعد الألف وعلى قولهما تتخرَّج القراءةُ، وقيل: أصلها التشديد، وإنَّما خففت للثقل فيها؛ كقولهم: «رُبَ» في «رُبَّ» .
وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفها، فلغتان، من اتَّبَع يتَّبع، وتَبع يتْبَع، وقد تقدَّم [الأعراف: 175] هل هما بمعنى واحد، أو مختلفان في المعنى؟ وملخصه: أنَّ تتبعه بشيءٍ: خلفه، واتَّبعه كذلك، إلاَّ أنه حاذاهُ في المشي واقتدى بِهِ، وأتبعه: لحقهُ.
فصل
المعنى: لا تسلك طريق الجاهلين الذين يظنُّون أنه: متى كان الدعاء مُجاباً، كان المقصُود حاصلاً في الحال، فربما أجاب الله تعالى الإنسان في مطلوبه، إلاَّ أنَّه يوصله إليه في وقته المقدَّر؛ فإنَّ وعد الله لا خلف له، والاستعجال لا يصدر إلا من الجُهَّال؛ كما قال لنُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46] ، وهذا النَّهي لا يدلُّ على صدور ذلك من موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كما أن قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] لا يدل على صدور الشرك منه.(10/402)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر} الآية.
قد تقدَّم الكلام في نظير الآية [الأعراف: 138] ، وقرأ الحسن، «وجوَّزْنَا: بتشديد الواو.
قال الزمخشري: وجوَّزْنَا: من أجَازَ المكان، وجَاوَزهُ، وجوَّزَهُ، وليس من» جَوَّز «الذي في بيت الأعشى: [الكامل]
2933 - وإذَا تُجَوِّزُها حِبَالُ قَبيلَةٍ ... أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا
لأنَّه لو كان منه لكان حقَّهُ أن يقال: وجَوَّزْنَا بني إسرائيل في البحر؛ كما قال: [الطويل]
2934 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... كمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ في البَابِ فَيْتَقُ
يعني أنَّ فعَّل بمعنى فاعل وأفْعَل، وليس التضعيفُ للتَّعدية، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء.
وقرأ الحسن:» فاتَّبَعَهُمْ «بالتَّشديد، وقد تقدَّم الفرقُ.
قال القرطبيُّ: يقالُ: تَبعَ، وأتْبع بمعنى واحد إذا لحقهُ، واتَّبَع - بالتَّشديد - إذا صار خلفهُ، وقال الأصمعيُّ: يقال: أتبعه - بقطع الألف - إذا لحقه، وأدْرَكَهُ، واتَّبَعَه بوصل الألفِ - إذا اتَّبَع أثره وأدركهُ، أو لم يدركهُ، وكذلك قال أبُو زيدٍ، وقرأ قتادة:» فأتبعهم «بوصل الألف وقيل: اتبعهُ - بوصل الألف في الأمْرِ - اقتدى به، وأتبعه بقطع خيراً وشرّاً. هذا قولُ أبي عمرو. وقيل: بمعنى واحدٍ.
قوله:» بَغْياً وَعَدْواً «يجُوزُ أن يكونا مفعولين من أجلهما أي: لأجل البغيْ والعَدْوِ،(10/403)
وشروط النَّصب متوفرةٌ، ويجُوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي: باغين متعدِّين.
وقرأ الحسنُ» وُعدواً «بضمِّ العين، والدَّالِ المشدَّدةِ، وقد تقدَّم ذلك في سُورة الأنعام [الأنعام: 108] ، وقوله:» حتى إِذَآ «: غاية لاتباعه.
قوله:» آمَنتُ أَنَّهُ «قرأ الأخوان بكسر» إنَّ «وفيها أوجه:
أحدها: أنَّها استئنافُ إخبار؛ فلذلك كسرت لوقوعها ابتداء كلامٍ.
والثاني: أنَّه على إضمار القول أي: فقال إنَّهُن ويكون هذا القول مفسراً لقوله:» آمنتُ «.
والثالث: أن تكون هذه الجملة بدلاً من قوله:» آمنتُ «، وإبدالُ الجملة الاسميَّة من الفعليَّة جائزٌ، لأنَّها في معناها، وحينئذٍ تكون مكسورة؛ لأنَّها محكيَّة ب» قَالَ «هذا الظاهرُ.
والرابع: أنَّ» آمنتُ «ضُمِّنَ معنى القول؛ لأنَّه قولٌ. وقال الزمخشريُّ:» كرَّر المخذولُ المعنى الواحد ثلاث مرَّاتٍ في ثلاثِ عباراتٍ حِرْصاً على القبول «.
يعني أنه قال:» آمنتُ «فهذه مرَّة، وقال: {أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} فهذه مرة ثانية. وقال: {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} فهذه ثالثةٌ، والمعنى واحد.
وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئناف في» إنَّه «. وقرأ الباقون بفتحها وفيها أوجه:
أحدها: أنَّها في محلِّ نصب على المفعول به أي: آمنتُ توحيد الله؛ لأنَّه بمعنى صدَّقْتُ.
الثاني: أنَّها في موضع نصب بعد إسقاط الجارِّ أي: لأنَّه.
الثالث: أنَّها في محلِّ جرٍّ بذلك الجارِّ وقد تقدَّم ما فيه من الخلاف [يونس: 2] .
فصل
لمَّا أجاب الله دعاءهما، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر، وكان فرعونُ غافلاً عن ذلك؛ فلمَّا سمع بخروجهم «أتْبَعَهُمْ» أي: لحقهُم، «بَغْياً وعَدْواً» أي: ظلماً واعتداءً. وقيل: بَغْياً في القولِ، وعدواً في الفعل، وكان البَحْرُ قد انفلق لموسى وقومه فدخلوا، وخرجوا، وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً، ليطمع فرعون، وجنودهُ في العُبُور، فلمَّا دخل مع جمعه، ودخل آخرهم، وهمَّ أوَّلهم بالخروج، انطبق عليهم البحرُ فلمَّا «أدْرَكَهُ الغرقُ» أي: غمره الماء، وقرب هلاكه «قال آمَنْتُ» .(10/404)
فإن قيل: إنَّ الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفَّظ بهذا اللفظ، فكيف حكى الله عنه أنَّهُ ذكر ذلك؟ .
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّ الكلام الحقيقيَّ هو كلام النَّفْسِ لا كلام اللسان، فذكر هذا الكلام بالنفس.
الثاني: أن يكون المرادُ بالغرق مقدماته.
فإن قيل: إنَّه آمن ثلاث مرات على ما تقدم عن الزمخشري، فما السَّببُ في عدم القبولِ؟
فالجواب: من وجوهٍ:
أحدها: أنَّهُ إنَّمَا آمن عند نزول العذاب، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] .
الثاني: إنَّما ذكر هذه الكلمة ليتوسَّل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة، ولم يكن مقصودهُ بالكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى، فلم يَكُنْ مُخْلِصاً.
وثالثها: أنَّ ذلك الإقرار كان تقليداً، فإنهُ قال: {لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} فكأنه اعترف بأنَّه لا يعرفُ الله، وإنَّما سمع من بني إسرائيل أنَّ للعالم إلهاً، فهو أقَرّ بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يُقرُّونَ بوجوده، وهذا محضُ التَّقليدِ، وفرعون قيل إنَّهُ كان من الدَّهرية المنكرين لوجود الصَّانع، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا يزولُ إلاَّ بالحُجَّةِ القطعيَّة، لا بالتَّقليد المحضِ.
ورابعها: أنَّ بعض بني إسرائيل لمَّا جاوزوا البحر عبدُوا العجل، فلما قال فرعون: {آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} انصرف ذلك إلى العجلِ الذي آمنوا بعبادته، فكانت هذه الكلمةُ في حقه سبباً لزيادة كُفْره.
وخامسها: أنَّ أكثر اليهُودِ يقولون بالتَّشبيه والتَّجْسِيم، ولهذا اشتغلوا بعبادة العجل لظنِّهم أنَّهُ تعالى في جسد ذلك العجل، فلمَّا قال فرعونُ: {آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} فكأنَّهُ آمن بالله الموصوف بالجسميَّة، والحلول والنُّزول، ومن اعتقد ذلك؛ فهو كافرٌ، فلذلك ما صحَّ إيمانُهُ.
وسادسها: أنَّ الإيمان إنَّما يتمُّ بالإقرارِ بوحدانية الله، والإقرار بنُبُوَّةِ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلمَّا أقرَّ فرعونُ بالوحدانية، ولمْ يقر بنبوَّةِ موسى لم يصحَّ إيمانه؛ كما لو قال الكافر ألف مرة: أشهد أن لا إله إلاَّ الله لم يصح إيمانه حتى يقول معه: وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله، فكذا ههنا.
وسابعها: روى الزمخشري أنَّ جبريل - عليه السلام - أتى فرعون مُستفتياً: ما قولُ(10/405)
الأمير في عبدٍ نشأ من مالِ مولاهُ ونعمته، فكفر بنعمته وجحد حقَّه، وادَّعَى السِّيادة دونهُ؟ فكتب فرعون يقولك أبو البعاس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده، الكافر بنعمته أن يغرق في البحر، ثمَّ إنَّ فرعون لما غرق؛ رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه.
قوله: «الآن» منصوبٌ بمحذوفٍ أي: آمَنْتَ الآن، أو اتُؤمن الآن.
وقوله: «وقَدْ عَصَيْتَ» جملةٌ حالية، تقدَّم نظيرها.
واختلفوا في قائل هذا الكلام، فقيل: هو جبريلُ، وإنَّما قال: {وَكُنتَ مِنَ المفسدين} في مقابلة قوله {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} . وقيل: القائلُ هو الله تعالى؛ لأنَّه قال بعدهُ: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} إلى أن قال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} ، وهذا ليس إلاَّ كلام الله تعالى.
فإن قيل: ظاهرُ اللفظ يدلُّ على أنَّه إنَّما لم تقبل التوبة للمعصية المتقدمة، والفساد السَّابق، وهذا التعليلُ لا يمنعُ من قبول التوبةِ.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّ قبول التَّوبةِ غير واجب عقلاً، ويدُلُّ عليه هذه الآيةُ.
الثاني: أنَّ التعليل ما وقع لمجرَّد المعصية السَّابقة، بل بتلك مع كونه من المفسدين.
فصل
روي أن جبريل - عليه السلام - أخذ يملأ فمه بالطِّين لئلاَّ يتوب غضباً عليه والأقربُ أنَّ هذا لا يصحُّ؛ لأنَّه في تلك الحالِ إمَّا أن يقال التكليف كان ثابتاً، أو ما كان ثابتاً، فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة، بل يجبُ عليه أن يعينه على التوبةِ، وعلى كُلِّ الطَّاعات، لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} [المائدة: 2] وأيضاً، فلو منعه بما ذكر لكانت التَّوبة ممكنةً؛ لأنَّ الأخرس قد يتوبُ بأن يندمَ بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح، فلا يبقى لما فعله جبريل فائدة، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرِّضا بالكفر كفر وأيضاً كيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] ثُمَّ يأمُرُ جبريل أن يمنعهُ من الإيمان.
فإن قيل: إنَّ جبريل إنَّما فعل ذلك من قبل نفسه لا بأمر الله، فهذا يبطله قول جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] وقوله تعالى في صفة الملائكة: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] .
وإن قيل إنَّ التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت، فلا يبقى للفعل المنسوب لجبريل فائدة أصلاً.
قوله: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} في «بِبدنِكَ» وجهان:(10/406)
أحدهما: أنَّها باء المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك، وهي الدَّرْع، فيكونُ «بِبدنِكَ» في موضع الحالِ.
قال المفسِّرُون: لمْ يُصدِّقُوا بغرقه، وكانت لهُ دِرْعٌ تعرفُ فألقي بنجوة من الأرض، وعليه درعهُ ليعرفوهُن والعربُ تطلقُ البدنَ على الدِّرع، قال عمرو بن معد يكرب: [الوافر]
2935 - أعَاذِل شِكَّتِي بَدِنِي وسَيْفِي ... وكُلُّ مُقلَّصٍ سَلِسِ القِيَادِ
وقال آخرُ: [الوافر]
2936 - تَرَى الأبْدانَ فِيهَا مثسْبَغَاتٍ ... عَلى الأبْطَالِ واليَلَبَ الحَصِينَا
أراد بالأبدان: الدُّرُوع، واليَلَبُ: الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود يُخْرَزُ بعضها إلى بعض، وهو اسم جنس، الواحد: يَلَبَةٌ.
وقيل: بِبدنِكَ أيك عُرْيَان لا شيء عليه، وقيل: بَدَناً بلا رُوحٍ.
والثاني: أن تكون سببيَّة على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنهُ سببٌ في تنجيته، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع «بِندَائِكَ» من النِّداءِ، وهو الدُّعاء: أي: بما نادى به في قومه من كفرانه في قوله: {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} [الزخرف: 51] {فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 23، 24] {يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] . وقرأ يعقوب «نُنْجِيكَ» مخففاً من أنجاه. وقرأ أبو حنيفة: «بأبْدانِكَ» جمعاً: إمَّا على إرادةِ الأدْرَاع، لأنَّهُ كان يلبسُ كثيراً منها خوفاً على نفسه، أو جعل كُلَّ جُزءٍ من بدنه بدناً كقوله: «شَابَتْ مَفارِقُهُ» ؛ قال: [الكامل]
2937 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... شَابَ المَفارِقُ واكتَسَيْْنَ قتيرَا وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، ويزيد البربري ننحيك بالحاء المهملة من(10/407)
التَّنْحِيةِ أي: نُلْقيكَ فيما يلي البحر، قال المفسرون: رماه إلى ساحل البحرِ كالثَّور. وهل تُنَجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعِدك عمَّا وقع فيه قومُكَ من قَعْرِ البحر، وهو تهكُّم بهم، أو مِنْ ألقاه على نجوة أي: رَبْوة مرتفعة، أو من النَّجاة، وهو التَّرْكُ أو من النَّجاءِ، وهو العلامة، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصَّة، والظَّاهرُ أنَّ قولهُ: {فاليوم نُنَجِّيكَ} خبرٌ محض. وزعمَ بعضُهُم أنَّه على نيَّة همزةِ الاستفهامِ، وفيه بعدٌ لحذفها من غير دليلٍ، ولأنَّ التلعليل بقوله «لِتكُون» لا يُناسِبُ الاستفهام. و «لِتَكُونَ» متعلقٌ ب «نُنَجِّيكَ» و «آيَةً» أي: علامة وقيل: عِبْرةً وعِظَةً، و «لِمَنْ خَلْفكَ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «آيَةً» لأنَّه في الأصل صفةٌ لها.
وقرأ بعضهم «لِمَنْ خلقك» آية كسائر الآيات. وقرئ «لِمَن خلَفكَ» بفتح اللاَّم جعله فعلاً ماضياً، أي: لِمَنْ خلفكَ من الجبابرة ليتَّعظُوا بذلك. وقرىء «لِمَنْ خلقَكْ» بالقاف فعْلاً ماضياً، وهو الله تعالى أي: ليجعلك الله آية له في عباده.
فصل
في كونه «لِمَنْ خلفه آيةً» وجوه:
أحدها: أنَّ الذين اعتقدُوا إلاهيته لمَّا لم يُشَاهدُوا غرقه كذَّبُوا بذلك، وزعموا أنَّ مثله لا يموت، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشُّبْهةُ عن قلوبهم.
الثاني: أنَّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] ليكون ذلك زَجْراً للخَلْقِ عن مثل طريقته. الثالث: أنه تعالى لمَّا أغرقه مع جميع قومه، ثُمَّ إنَّه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قَعْر البَحْرِ، بل خصَّهُ بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى، وعلى صدق موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في دعوة النبوَّةِ. الرابع: تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته. ثم قال تعالى {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} والظَّاهرُ أنَّ هذا الخطاب لأمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - زجراً لهم عن الإعراض عن الدَّلائل، وباعثاً لهم على التأمُّلِ فيها والاعتبار بها، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} [يوسف: 111] .(10/408)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} الآية.
لمَّا ذكر خاتمة فرعون ذكر خاتمة بني إسرائيل، فقال: «ولقدْ بوَّأنا» أي: أسكنا بني إسرائيل «مُبَوَّأ صِدْقٍ» أي: مكاناً محموداً. ويجُوزُ أن يكون «مُبَوَّأ صِدْقٍ» منصوباً على المصدر، أي: بَوَّأناهم مُبَوَّأ صدقٍ، وأن يكون مكاناً أي: مكان تبوُّء صدقٍ. ويجوز أن ينتصب «مُبَوَّأ» على أنَّه مفعولٌ ثانٍ كقوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58] أي: لنُنْزلنَّهُمْ. ووصف المُبَوَّأ بكون صدقاً؛ لأنَّ عادة العربِ أنها إذا مدحتْ شيئاً أضافته إلى الصِّدْقِ، تقولُ: رَجُلٌ صدقٌ، وقدم صدقٍ، قال تعالى: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] . والمراد بالمبوَّأ الصدق: قيل: «مصر» ، وقيل: الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} الحلال «فَمَا اخْتَلَفُوا» يعنى اليهود الذين كانُوا في عَهْدِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تصديقه وأنه نبيٌّ حقٌّ «حتَّى جاءَهمُ العِلْمُ» يعنى القرآن، والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق، وسمى القرآن علماً؛ لأنه سببُ العِلْمِ، وتسمية المُسَبَّبِ باسم السبب مجاز مشهور.
قال ابنُ عباس: هم قريظة والنَّضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق: ما بين المدينة، والشام ورزقناهم من الطيبات، وهو ما في تلك البلادِ من الرطب، والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد وقيل: المراد بني إسرائيل الذين نجوا من فرعون أورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق، والصامت، والحرث، والنسل، كما قال: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] .(10/409)
فصل
في كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان:
الأول: أنَّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ويفتخرون به على سائر النَّاس، فلمَّا بعثه الله تعالى كذَّبوهُ حسداً، وبغياً وإيثارااً لبقاء الرِّياسة، وآمن به طائفةٌ منهم، فبهذا الطريق كان سبباً لحدوث الاختلاف فيهم.
الثاني: أنَّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً بالكلِّيَّة، وبقوا على هذه الحالة حتَّى جاءهم القرآنُ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قومٌ وبقي قومٌ كفاراً. ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: أنَّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا، وإنَّما يقضى بينهم في الآخرة، فيتميز المحق من المبطل.
قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} الآية.
قال الواحديُّ «الشَّك في اللغةِ، ضمَّ بعض الشَّيءِ إلى بعضٍ، يقال: شَكَكْتُ الصَّيْدَ إذا رميْتَه فنظمْتَ يدهُ إلى أو رجلهُ إلى رجله، والشِّكائِكُ من الهوادج ما شُكَّ بعضها ببعضٍ والشِّكاكُ: البُيوتُ المُصطفَّة، والشَّكائِكُ: الأدْعياءُ؛ لأنَّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي: يضُمُّون، وشكَّ الرَّجُلُ في السِّلاحِ، إذا دخل فيه وضمَّهُ إلى نفسه.
فإذا قالوا: شكَّ فلانٌ في الأمور أرادوا أنَّه وقف نفسه بين شيئين، فيجوزُ هذا ويجوزُ هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه «.
ولمَّا ذكر اختلافهم عندما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يُقَوِّي قلبه في صحَّة القرآن والنبوة.
وفي» إن «هذه وجهان:
أظهرهما: أنَّها شرطيةٌ، واستشكلوا على ذلك أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكُن في شكٍّ قط قال الزمخشريُّ:» فإن قلت: كيف قال لرسوله: «فإن كُنت في شكٍّ» مع قوله للكفرة: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110] ؟ قلت: فرقٌ عظيم بين إثباته والتَّمثيل «. وقال أبو حيان: فإذا كانت شرطية فقالوا: إنَّها تدخلُ على الممكن وجوده أو المحقَّقِ وجوده، المبهم زمن وقوعه، كقوله تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] قال:» والذي أقوله إنَّ «إن» الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيءٍ، ولا تستلزمُ تحقُّقَ وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكونُ ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81] ، ومستحيلٌ أن يكون له ولدٌ فكذلك مستحيلٌ أن يكون في شك، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى: {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض} [الأنعام: 35] لكنَّ وقوعها في تعليق المستحيل قليلٌ «.
ثم قال:» ولمَّا خفي هذا الوجه على أكثر النَّاس؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية فقال ابن عطيَّة: الصَّواب أنَّها مخاطبةٌ له، والمرادُ من سواه من أمته ممن يمكنُ أن يشُكَّ(10/410)
أو يعارض؛ كقوله: {ياا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ويدلُّ على ذلك قوله في آخر السورة: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} [يونس: 104] وأيضاً لو كان شاكّاً في نبوة نفسه؛ لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوطُ الشريعة بالكلية، وأيضاً فبتقدير أن يكون شاكّاً في نبوَّةِ نفسه، فكيف يزول هذا الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم كفار، وإن كان قَدْ حصل فيهم مؤمن إلاَّ أن قوله ليس بحجة، لا سيَّما وقد تقرَّر أنهم حرَّفُوا التوراة، والإنجيل؛ فثبت أنَّ هذا الخطابَ وإن كان في الظَّاهر مع الرسول إلاَّ أنَّ المراد هو الأمة، وعلى هذا فإنَّ الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة: المصدقون، والمكذبون، والمتوقفون في أمره الشَّاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: أيُّها الإنسان: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحَّة نُبوَّته «.
ولمَّا ذكر الله تعالى لهم ما يزيل الشَّك عنهم، حذَّرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني، وهم المكذِّبون، فقال: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} [يونس: 95] الآية.
وقيل: كنى بالشَّك عن الضِّيق.
وقيل: كنى به عن العجب، وجه المجازِ فيه أنَّ كُلاًّ منهما فيه تردُّد، وقال الكسائيُّ: إن كنت في شكٍّ أنَّ هذه عادتُهُم مع الأنبياء؛ فسلهم كيف صبر موسى - عليه السلام -؟ .
وقيل: إنه تعالى علم أنَّ الرسول لم يشك في ذلك، إلاَّ أنَّ المقصود منه أنَّهُ متى سمع هذا الكلام فإنَّهُ يصرخ ويقول «يا ربّ لا أشك، ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب، بل يكفيني ما أنزلته عليَّ من الدلائل الظاهرة» ونظيره قوله تعالى للملائكة: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] والمقصودُ أن يُصرِّحُوا بالجواب الحق ويقولوا: {سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41] .
وكقوله لعيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] والمقصود منه أن يصرح عيسى بالبراءة عن ذلك. وقيل: التقدير إنَّك لسيت بشاك البتة. ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة الشَّك كقوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أي: أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً؛ لزم فيه المحال الفلاني، فكذا ههنا، ولو فرضنا وقوع الشَّك فارجع إلى التَّوراةِ، والإنجيل لتعرف بهما أنَّ هذا الشك زائل.
والوجه الثاني من وجهي إنْ أنَّها نافيةٌ. قال الزمخشري: «أي: فما كنتَ في شكٍّ فاسأل، يعنى لا نأمرك بالسُّؤال لكونكَ شاكاً، ولكن لتزداد يَقِيناً كما ازداد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بمعاينة إحياء الموتى» وهذا القول سبقه إليه الحسنُ البصريُّ والحسينُ بنُ الفضل، وكأنَّهُ فرارٌ من الإشكال المتقدِّم في جعلها شرطية، وقد تقدَّم جوابه من وجوهٍ.(10/411)
قال القرطبي: قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزَّاهد: سمعت الإمامين: ثَعْلباً والمبرد يقولان: معنى: «فإن كُنتَ في شكٍّ» أي: قُلْ يا محمَّدُ للكافر: فإن كُنتَ في شكٍّ {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} .
وقال الفراء: أعْلمَ اللهُ أنَّ رسولهُ غير شاكٍّ، لكنَّه ذكره على عادة العرب، يقول الواحدُ لعبده: إن كنت عبدي فأطِعْني، ويقول لولده افعل كذا إن كنت ولدي، ولا يكونُ ذلك شكّاً.
وقال الفقيه: وقال بعضهم: هذا الخطاب لمنْ كان لا يقطعُ بتكذيب محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولا بتصديقه بل كان في شكٍّ.
وقيل: المراد بالخطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى: لو كنت ممَّن يلحقك شكٌّ فيما أخبرناك به، فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشَّكَّ.
والمراد بالشَّك هنا: ضيق الصدر، أي: إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرَؤونَ الكتابَ من قَبْلكَ، يُخْبِرُوكَ صَبْرَ الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف كان عاقبة أمرهم. والشَّكُّ في اللغةِ: أصله الضِّيق، يقال: شكَّ الثَّوب، أي: ضمَّهُ بخلال حتى يصير كالوعاء، فالشكُّ يقبض الصدر، ويضمه حتَّى يضيق.
فصل
قال المُحَقِّقُون: المراد بالذين يقرءون الكتاب: المؤمنون من أهْلِ الكتابِ، كعبد الله بن سلام، وعبد الله بن صوريا، وتميم الدارين وكعب الأحبار، لأنَّهُم هم الذين يوثق بأخبارهم.
وقال بعضهم: المراد الكل سواء كانوا من المسلمين أم من الكُفَّار؛ لأنَّهم إذا بلغُوا عدد التواتر، وقرؤوا آية من التَّوراة، والإنجيل، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدمِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد حصل الغرضُ.
وقرا يحيى، وإبراهيم: الكتب بالجمع، وهي مبنيةٌ أنَّ المراد بالكتاب الجنسٌ لا كتابٌ واحد. فإن قيل: إن كتبهم قد دخلها التَّحريفُ والتَّغييرُ، فكيف يمكنُ التعويلُ عليها؟ .
فالجواب: أنهم إنما حرَّفُوها لإخفاء الآيات الدَّالة على نبوَّةِ محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته؛ كان ذلك من أقوى الدَّلائل على صحَّة نبوَّة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأنَّها لمَّا بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دلَّ ذلك على أنَّها كانت في غاية الظهور.(10/412)
فصل
قيل: السؤالُ كان عن القرآن، ومعرفة نُبوَّةِ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقيل: السؤال راجعٌ إلى قوله {فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم} والأول أولى؛ لأنَّه الأهمُّ. ولمَّا بين هذا الطريق قال: {لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ} أي: ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنَّ ما أتاك هو الحق: «فلا تكُوننَّ من المُمترينَ» أي: لا مدخل للمرية فيه {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} أي: اثبت، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية، وانتفاء التكذيب بآيات الله؟ وروي أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال عند نزوله: «لا أشُكُّ ولا أسْألُ بلْ أشهدُ أنَّهُ الحقُّ» .
ثم لمَّا فصَّل تعالى هذا التفصيل، بيَّن أنَّ له عباداً، قضى عليهم بالشَّقاءِ، فلا تتغيَّر، وعباداً قضى لهم بالشَّقاء، فلا تتغيَّر، وعباداً قضى لهم بالكرامة، فلا تتغير، فقال: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} .
قرأ نافعٌ وابن عامر كلمات على الجمع، والباقون: بالإفراد. فكلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة بحسب الجنسية. والمراد بهذه الكلمة: حكمُ الله بذلك، وإخباره عنه، وخلقه في العبد مجموع القدرة، والدَّاعية الموجبة لحصول ذلك الأثر. واحتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القول بالقضاءش والقدرِ. ثم قال: {وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} أي: أنهم لا يؤمنون ألبتَّة، ولو جاءتهم الدَّلائل التي لا حدَّ لها ولا حَصْرَ؛ لأنَّ الدَّليل لا يهدي إلاَّ بإعانة الله، فإذا لم تحصيل الإعانة ضاعت تلك الدَّلائل.
القصة الثالثة
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} الآية.
لمَّا بيَّن بقوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} أتبعه بهذه الآية؛ لأنَّها دالةٌ على أنَّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان، فدلَّ ذلك على أنَّ الكُفَّار فريقان:
فريق ختم له بالإيمان.
وفريق ختم له بالكفر، وكلُّ ما قضى الله به فهو واقعٌ.
قوله: «فلولا» لولا هنا تحضيضيةٌ، وفيها معنى التَّوبيخ؛ كقول الفرزدق: [الطويل]
2938 - تَعُدُّونَ عَقْرَ النَّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضَوْطَرَى لولاَ الكَمِيَّ المقنَّعا(10/413)
وفي مصحف أبيِّ، وعبد الله - وقرأ كذلك - فَهَلاَّ، وهي نصٌّ في التحضيض وزعم عليُّ بنُ عيسى، والنَّحَّاس أنَّ لولا تأتي بمعنى ما النَّافية، وحملا على ذلك هذه الآية أي: ما كانت قرية نقله ابنُ قاسم، وهو منقولٌ أيضاً عن الهرويِّ، وكانت هنا تامة و «آمنت» صفة ل «قرية» ، وفنفعها نسق على الصِّفة.
قوله: «إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ استثناء منقطع، وإليه ذهب سيبويه، والكسائي، والأخفش، والفراء، ولذلك أدخلهُ سيبويه في باب «ما لا يكون فيه إلاَّ النصب لانقطاعه» وإنما كان منقطعاً؛ لأنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يندرجُ تحت لفظ «قرية» .
والثاني: أنَّه متصلٌ. قال الزمخشري: «استثناءٌ من القرى، لأنَّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس، ويجُوزُ أن يكون مُتَّصِلاً، والجملةُ في معنى النَّفي كأنَّه قيل: ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلاَّ قوم يونس» .
وقال ابنُ عطيَّة: هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطعٌ، وكذلك رسمه النَّحويون، وهو بحسب المعنى متصلٌ لأنَّ تقديره: ما آمن أهل قريةٍ إلاَّ قوم يونس.
قال شهاب الدين: «وتقدير هذا المضاف هو الذي صحَّح كونه استثناء مُتَّصلاً» ، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم. وأمَّا الزَّمخشري فإنَّ ظاهر عبارته أنَّ المُصَحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النَّفي، وليس كذلك بل المسوِّغ كون القرى يُرادُ بها أهاليها من باب إطلاق المحلِّ على الحال، وهو أحدُ الأوجه المذكورة في قوله {واسأل القرية} [يوسف: 82] . وقرأ فرقة: «إلاَّ قومُ» بالرَّفع. قال الزمخشريُّ: وقُرىء بالرفع على البدل، روي ذلك عن الجرمي، والكسائي.
وقال المهدويُّ: «والرَّفْعُ على البدل من قَرْية» . فظاهر هاتين العبارتين أنَّها قراءةٌ منقولةٌ، وظاهرُ قول مكِّي، وأبي البقاء أنَّها ليست قراءة، وإنَّما ذلك من الجائز، وجعلا الرَّفع على وجهٍ آخر غير البدلِ، وهو كون «إلاَّ» بمعنى «غير» في وقوعها صفةً.
قال مكي «ويجوزُ الرَّفعُ على أن تجعل إلا بمعنى» غير «صفة للأهْلِ المحذوفين في المعنى، ثم يُعْرَب ما بعد إلاَّ بإعراب» غير «لو ظهرت في موضع» إلاَّ «. وقال أبو البقاء - وأظنه أخذه منه -: ولو كان قد قُرىء بالرَّفع لكانت إلاَّ فيه بمنزلة غير فيكون صفة، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرئ بها.
فصل
قال البغويُّ: المعنى فلم تكن قرية؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْدِ؛ أي: أهل(10/414)
قرية آمنت عند معاينة العذاب، «فنفعها إيمانها» في حال اليَأسِ «إلاَّ قوم يونس» ، فإنَّه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، و «قوم» نصب على الاستثناء المنقطع، أي: ولكن قوم يونس «لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا، ومتعناهم إلى حين» ، وهي وقت انقضاء آجالهم، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم: رأوا دليل العذاب. والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي} ، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع، أو إذا قرب قوله: «ولو شاء ربُّك» يا مُحمَّدُ «لآمن من في الأرض كلهم جميعاً» .
واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة، والجواب عنها، وكانت إحدى شبهاتهم؛ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار، وبعد أتباعه أن الله ينصرهم، ويعلي شأنهم، ويقوي جانبهم، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا، ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله، ومشيئته وإرشاده، وهدايته، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ.
فصل
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره، فقوله: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل، وأجاب الجبائيُّ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء، أي: لو شاءس الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه، ولكنَّهُ ما فعل ذلك؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه، ولا يفيده فائدة، ثم قال الجبائيُّ: ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه.
والجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر، ولم يقدر على الإيمان، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال: إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر؛ فوجب أن يقال: أراد منه الكفر، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ، وهو باطلٌ، وإن توقف على مرجح، فذلك المرجحُ إمَّا(10/415)
أن يكون من العبد، أو من الله، فإن كان من العبد عاد التَّقْسِيمُ ولزم التسلسل، وهو محالٌ، وإن كان من الله، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدَّاعية موجباً لذلك الكفر، فإذا كان خالق القدرة والدَّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام.
ثانيها: أن قوله: «ولو شاءَ ربُّكَ» لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء؛ لأنَّ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان يطلب منهم إلاَّ إيماناً ينتفعون به في الآخرة، فبيَّن تعالى؛ أنَّه لا قدرة للرَّسُولِ على تحصيل هذا الإيمان، ثم قال: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} فوجب أن يكون المرادُ /نه هذا الإيمان النَّافع حتى ينتظم الكلام، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليقُ بهذا الموضع.
وثالثها: أنَّ الإلجاء إمَّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها، فيأتي بالإيمان عندها، وإمَّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم، والأولُ باطلٌ؛ لأنه تعالى قال: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 96 - 97] وقال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111] فبيَّن أنَّ إنزال الإيمان لا يفيدُ، وإ، كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم، فيصير المعنى: ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم، ثم يقال: لكنه ما خلق الإيمان فيهم، فدلَّ على أنَّه ما أراد حصول الإيمان لهم، وهو المطلوب. ثم قال: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي: أنه: لا قدرة لك على التَّصرف في أحد.
قوله: «أفأنت» يجوز في «أنت» وجهان، أحدهما: أن يرتفع بفعل مقدَّر مفسَّر بالظَّاهر بعده، وهو الأرجحُ؛ لأنَّ الاسم قد ولي أدّاة هي بالفعل أولى.
والثاني: أنَّه مبتدأ والجملةُ بعده خبره، وقد تقدَّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمَّ جملةٌ محذوفةٌ كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلامٌ بأنَّ الإكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه، وإنَّما الشَّأنُ في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره. و «حتَّى» غايةٌ للإكراه.
قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ} كقوله: {أَنْ تَمُوتَ} [آل عمران: 145] وقد تقدم في آل عمران [145] . والمعنى: ما ينبغي لنفس. وقيل: ما كانت لتؤمن إلاَّ بإذنِ الله.
قال ابن عبَّاسٍ: بأمر الله. وقال عطاءٌ: بمشيئة الله. وقيل: بعلم الله. «ويَجْعَلُ» قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة. والباقون: بياء الغيبةِ وهو الله تعالى. وقرأ(10/416)
الأعمش «ويجعلُ الرجز» بالزاي دون السين، وقد تقدَّم هل هما بمعنى، أو بينهما فرقٌ؟ [الأعراف: 134] ثم قال: {عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} أي: من الله أمره ونهيه.
فصل
احتجُّوا بقوله: {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} على أنَّ خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى، وتقريره: أنَّ الرِّجْسَ قد يراد به: العملُ القبيحُ، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] والمراد من الرِّجْسٍ هنا: العملُ القبيحُ سواء كان كفراً أو معصية، وبالتَّطهير: نقل العبد من رجس الكفر، والمعصية إلى طهارة الإيمان، والطَّاعة، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أنَّ الإيمان إنَّما يحصلُ بمشيئة الله وتخليقه، ذكر بعد أنَّ الرِّجْسَ لا يحصلُ إلاَّ بتخليقه. والرِّجْسُ الذي يقابلُ الإيمان ليس إلاَّ الكفر.
وأجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال: الرِّجْسُ، يحتمل وجهين آخرين.
أحدهما: أن يكون المراد منه العذاب، فيكون المعنى: يلحق العذاب بالذين لا يعقلون، كقوله {وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} [الفتح: 6] . الثاني: أنَّه تعالى حكم عليهم بأنَّهم نجس، كما قال: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] أي: أنَّ الطَّهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم.
وأجابُوا: أنَّ حمل الرجس على العذاب باطلٌ؛ لأنَّ الرِّجْسَ عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على كفرهم وجهلهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقّاً صِدْقاً صواباً. وأمَّا حمل الرِّجْسِ على حكم الله برجاستهم، فهو في غاية البعد؛ لأنَّ حكم الله تعالى بذلك صفته، فكيف يجوز أن يقال: إنَّ صفة الله رجسٌ، فثبت أنَّ دلالة الآية على الكفر ظاهرةٌ.(10/417)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
قوله تعالى: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} الآية.
لمَّا بيَّن في الآيات السَّالفة أنَّ الإيمان لا يحصلُ إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته، أمر بالنَّظَرِ والاستدلال في الدَّلائل فقال: «قُلِ انظروا» .
قرأ عاصم وحمزةُ «قُلِ انظُرُوا» بكسر اللام لالتقاء الساكنين، والأصل فيه(10/417)
الكسر، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللاَّمِ.
قوله: «مَاذَا» يجوز أن يكون «مَاذَا» كله استفهاماً مبتدأ، و «فِي السماوات» خبرهُ أي: أيُّ شيءٍ في السَّمواتِ؟ ويجوزُ أن تكون «ما» مبتدأ، و «ذَا» بمعنى الذي، و «فِي السماوات» صلته وهو خبرُ المبتدأ، وعلى التقديرين فالمبتدأ وخبره في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافض لأنَّ الفعل قبله معلقٌ بالاستفهام، ويجوز على ضعفٍ أن يكون «ماذا» كله موصُولاً بمعنى «الَّذي» وهو في محل نصبٍ ب «انُظُروا» . ووجهُ ضعفه أنَّهُ لا يخلو: إمَّا أن يكون النظر بمعنى البصر فيعدَّى ب «إلى» ، وإمَّا أن يكون قلبيّاً فيُعَدَّى ب «في» ، وقد تقدَّم الكلامُ في «ماذا» .
فصل
المعنى: قل للمشركين الذين يسألونك عن الإيمانِ: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} واعلم أنَّه لا سبيل إلى معرفةِ الله تعالى إلاَّ بالنَّظر في الدَّلائل. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تفكَّرُوا في الخَلْقِ ولا تتفَكَّرُوا في الخالِق» والدَّلائل إمَّا أن تكون من عالمِ السموات، أو من عالم الأرض، أمَّا الدلائل السماوية، فهي حركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها، وما يختص به كل واحد منها، وأمَّا الدلائل الأرضية، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية، وفي أحوال المعادن والنبات، وأحوال الإنسان، وينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها. ولو أنَّ الإنسان أخذ يتفكرُ في كيفية حكمة الله تعالى في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقلهُ قبل أن يصل إلى أوَّل مرتبة من مراتب تلك الفوائد.
ثم لمَّا أمر بهذا التفكُّر بيَّن بعده أنَّ هذا التَّفكر والتَّدبر في هذه الآيات لا ينفعُ في حقِّ من حكم الله عليه في الأزلِ بأنَّه لا يؤمن فقال: {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} .
قوله: «وَمَا تُغْنِي» يجوز في «ما» أن تكون استفهامية، وهي واقعةٌ موقع المصدر أي: أيَّ غناءٍ تُغني الآيات؟ ويجوزُ أن تكون نافيةً، وهو الظَّاهرُ.
وقال ابن عطية: ويحتملُ أن تكون «ما» في قوله: «وما تُغْنِي» مفعولة بقوله: «انظُرُوا» معطوفة على قوله: «مَاذَا» أي: تأمَّلُوا قدر غناء الآيات والنُّذُر عن الكُفَّار.
قال أبو حيان: وفيه ضعفٌ، وفي قوله: معطوفةٌ على «ماذا» تجوُّزٌ، يعنى أنَّ الجملة الاستفهامية التي هي «مَاذَا فِي السماوات» في موضع المفعول؛ لأنَّ «ماذا» وحدهُ منصوبٌ ب «انظُرُوا» فتكون «مَاذَا» موصلة، و «انظُرُوا» بصرية لما تقدَّم من أنَّه لو كانت بصرية(10/418)
لتعدَّت ب «إِلَى» . و «النُّذُرُ» يجوزُ أن يكون جمع «نَذِير» ، المرادُ به المصدر فيكون التقدير: وما تُغْنِي الآياتُ والإنذارات، وأن يكون جمع «نذير» مراداً به اسم الفاعل بمعنى منذر فيكون التقدير والمُنْذِرُونَ وهم الرُّسُلُ. وقرىء «وما يُغْنِي» بالياء.
قوله: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ} يعني: مشركي مكَّة إلاَّ مثلَ أيَّام الذين خلوا مضوا «من قَبلِهِمْ» من مُكَذِّبي الأمم. قال قتادةُ: «يعني وقائع الله في قوم نوح، وعاد، وثمود» والعربُ تُسمِّي العذاب والنِّعم أياماً، كقوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} [إبراهيم: 5] وكُلُّ ما مضى عليك من خَيْرٍ وشرٍّ فهو أيَّام ثم إنَّه تعالى أمره بأن يقول لهم {فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} .
قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} قال الزمخشريُّ: هو معطوفٌ على كلامٍ محذوف يدلُّ عليه قوله: {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} [يونس: 102] كأنَّه قيل: نُهلكُ الأمم ثم نُنَجِّي رسلنا، معطوفٌ على حكايةِ الأحوالِ الماضية.
قرأ الكسائي في رواية «نصر» نُنْجِيط خفيفة، والباقون: مشددة، وهما لغتان، وكذلك في قوله «نُنْجِ المُؤمنينَ» والمعنى: ننجي رسلنا، والذين آمنوا معهم عند نزول العذابِ. معناه: نَجَّينَا، مستقبلٌ بمعنى الماضي، ونجَّيْنَا وأنْجَيْنَا بمعنى واحد «كذلِكَ» كما نَجَّيْناهم «حَقًّا» واجباً {عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} .
قوله: «حقّاً» فيه أوجهٌ:
أحدها: أن يكون منصوباً بفعل مُقَدَّر أي: حقَّ ذلك حقّاً.
والثاني: أن يكون بدلاً من المحذوف النَّائب عنه الكافُ تقديره: إنجاء مثل ذلك حقّاً.
والثالث: ان يكون «كذلك» و «حقًّا» منصوبين ب «نُنْجِ» الذي بعدهما.
والرابع: أن يكون «كَذلِكَ» منصوباً ب «نُنَجي» الاولى، وحقّاً ب «نُنْجِ» الثَّانية.
وقال الزمخشري: مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم، ونهلك المشركين، وحقّاً علينا اعتراضٌ، يعني حقَّ ذلك علينا حقّاً.
وقرأ الكسائيُّ وحفصٌ «نُنْجي المؤمنين» مخففاً من أنجى يقال: أنْجَى ونجَّى.(10/419)
كأنزل ونزَّل، وجمهور القرَّاءِ لم ينقلوا الخلاف إلاَّ في هذا دون قوله: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] ودون قوله {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} [يونس: 103] . وقد نقل أبو علي الأزهري الخلافَ فيهما أيضاً، ورسِمَ في المصاحف بجيم دون ياء.
فصل
قال القاضي: قوله «حقًّا عليْنَا» المرادث به الوجوب؛ لأنَّ تخليصَ الرَّسُول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - والمؤمنين من العذاب إلى الثَّواب واجبٌ، ولولاهُ ما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشَّاقَّة، وهذا يجري مجرى قضاء الدَّين.
والجوابُ، بأن نقُول: إنَّه حقٌّ بحسب الوعْدِ والحُكْمِ، ولا نقُولُ إنَّهُ حقٌّ بحسب الاستحقاق لما ثبت أنَّ العبد لا يستحقُّ على خالقه شيئاً.(10/420)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} الآية.
لمَّا بالغ في ذكر الدليل أمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإظهار دينه، وإظهار المباينة عن المشركين، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره.
فإن قيل: كيف قال «في شكٍّ» وهم كافرون يعتقدون بطلان ما جاء به؟ .
قيل: كان فيهم شاكون، فهم المرادُ بالآية، أو أنَّهم لمَّا رَأوا الآياتِ اضطربوا، وشكُّوا في أمرهم وأمر النبي - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه -.
قوله: «فَلاَ أَعْبُدُ» جواب الشَّرط، والفعلُ خبر ابتداء مضمر تقديره: فأنَا لا أعبدُ، ولو وقع المضارعُ منفياً ب «لا» دون فاء لجزمَ، ولكنَّه مع الفاءِ يرفع كما تقدَّم ذكره، وكذا لوْ لمْ يُنْفَ ب «لا» كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] ، أي: فهو ينتقُم.(10/420)
ثم قال: {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} يميتكم، ويقبض أرواحكم.
فإن قيل: ما الحكمةُ في وصف المعبود ههنا بقوله: {الذي يَتَوَفَّاكُمْ} ؟ .
فالجواب: من وجوه:
الأول: أنَّ المعنى أني أعبدُ الله الذي خلقكم أولاً، ثم يتوفَّاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً، فاكتفى بذكر التوفي لكونه مُنَبِّهاً على البواقي.
الثاني: أنَّ الموت أشدُّ الأشياءِ مهابة، فخص هذا الوصف بالذكر ههنا، ليكون أقوى في الزَّجر والرَّدع.
الثالث: أنَّهم لمَّا استعجلوا نزول العذاب قال تعالى: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ} [يونس: 102 - 103] وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى يهلك أولئك الكفار، ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم، فلمَّا كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا: {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} وهو إشارةٌ إلى ما قرَّره وبيَّنهُ في تلك الآية كأنه يقول: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم، وإبقائي بعدكم.
قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72] ، قال الزمخشري: أصله بأن أكون، فحذف الجارُّ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذفُ الحروفِ الجارَّة مع أن وأنَّ، وأنْ يكون من الحذف غير المطَّرد؛ وهو كقوله: [البسيط]
2939 - أَمَرْتُكَ الخَيْرَ ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
{فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] يعني: بغيرِ المُطَّرد أنَّ حذف حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوزُ القياسُ عليها، وهي: أمَرَ، واسْتَغْفَرَ، كما تقدم [الأعراف155] ، وأشار بقوله: «أمَرْتُكَ» إلى البيت المشهور: [البسيط]
2940 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
وقد قاس ذلك بعضُ النَّحويِّين، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف، ويتعيَّن موضعه أيضاً، وهو رأي علي بن علي بن سليمان فيُجيز «بريتُ القلمَ السكين» بخلاف «صَكَكْتُ الحَجَرَ بالخشبةِ» .
قوله: «وأنْ أقِمْ» يجوز أن يكون على إضمار فعلٍ أي: وأوحي إليَّ أن أقم، ثم لك في «أنْ» وجهان أحدهما: أن تكون تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدَّرة، كذا قاله أبو حيان، وفيه نظرٌ، إذا المفسَّرُ لا يجوز حذفه، وقد ردَّ هو بذلك في موضع غير هذا، والثاني: أن تكون المصدرية، فتكون هي وما في خبرها في محلِّ رفع بذلك الفعل المقدر، ويحتمل أن تكون «أنْ» مصدرية فقط، وهي على هذا معمولةٌ لقوله: أمِرْتُ مراعى فيها معنى(10/421)
الكلام؛ لأنَّ قوله «أنْ أكُونَ» كون من أكوانِ المؤمنين، ووصلْ «أنْ» بصيغة الأمْر جائزٌ، كما تقَدَّم تحريره.
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: عطف قوله: «وأنْ أقِمْ» على «أنْ أكُون» فيه إشكالٌ؛ لأنَّ أنْ لا تخلو: إمَّا أن تكون التي للعبارة، أو التي تكونُ مع الفعلِ في تأويل المصدر، فلا يصحُّ أن تكون التي للعبارة، وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّنُ معنى القول؛ لأنَّ عطفها علىلموصولة ينافي ذلك، والقولُ بكونها موصولة مثل الأولى لا يساعد عليه لفظ الأمْرِ وهو «أقِمْ» ؛ لأنَّ الصِّلة حقُّها أن تكون جملة تحتمل الصِّدق والكذب.
قلت: قد سوَّغَ سيبويه أن توصلَ «أنْ» بالأمْرِ والنَّهْيِ، وشبَّه ذلك بقولهم: «أنت الذي تفعل» على الخطاب؛ لأنَّ الغرضَ وصلها بما تكونُ معه في تأويلِ المصدرِ، والأمْرُ والنَّهْيُ دالاَّنِ على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال.
قال شهاب الدين: وقد تقدَّم الإشكالُ في ذلك وهو أنَّه إذا قُدِّرت بالمصدر فاتت الدَّلالةُ على الأمْرِ والنَّهْي.
ورجَّحَ أبُو حيَّان كونها مصدرية على إضمار فعل كما تقدَّم تقريره قال: «ليزولَ قلقُ العطفِ لوجودِ الكافِ، إذْ لوْ كانَ» وأنْ أقِمْ «عفطاص على» أنْ أكُونَ «لكان التَّركيبُ» وَجْهِي «بياء المتكلم، ومراعاةُ المعنى فيه ضعفٌ، وإضمارُ الفعل أكثر» .
قال ابنُ الخطيبِ: الوا في قوله: «وأنْ أقِمْ وجْهكَ» حرف عطف، وفي المعطوف عليه وجهان:
الأول: أنَّ قوله: وأمِرْتُ أنْ أكُون قائم مقام قوله: وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه «وأنْ أقِمْ وجْهَكَ» .
الثاني: أنَّ قوله «وأنْ أقِمْ وجْهَكَ» قائم مقام قوله: «وأمْرِتُ» بإقامة الوجه، فيصير التقدير: وأمرت بأن أكون من المؤمنين، وبإقامة الوجه للدِّين حنيفاً.
قوله: «حَنِيفاً» يجُوزُ أن يكون حالاً من «الدِّين» ، وأن يكون حالاً من فاعل «أقِمْ» أو مفعوله.
فصل
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: معنى قوله: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أي: عملك. وقيل: استقم على الدِّين حنيفاً.
قال ابنُ الخطيبِ: «إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكليَّةِ إلى طلبِ الدِّين؛(10/422)
لأنَّ من يريدُ أن ينظر إلى شيءٍ نظر استقصاءٍ فإنَّه يُقيم وجههُ في مقابلته بحيثُ لا يصرفه عنه؛ لأنَّه لو صرفهُ عنه، ولو بالقليل، فقد بطلت تلك المقابلة، وإذا بطلت المقابلةُ اختلَّ الإبصار؛ فلهذا جعل إقامة الوجه كناية عن صرف العقل بالكليةِ إلى طلبِ الدِّين، وقوله» حَنِيفاً «أي: مائلاً إليه ميلاً كليّاً، معرضاً عن كُلِّ ما سواه إعراضاً كلياً» .
ثم قال: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} وهذا لا يمكنُ أن يكون نهياً عن عبادة الأوثان؛ لأنَّ ذلك صار مذكوراً في قوله أول الآية: {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [104] فلا بُدَّ من حمل هذا الكلام على فائدة زائدة، وهي أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً، وهذا هو الذي تسميه أصحابُ القلوبِ بالشِّرك الخفيِّ. قاله ابنُ الخطيبِ.
قوله تعالى: {ولا تَدْعُ} يجُوزُ أن تكون هذه الجملة استئنافية، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة الأمر وهي: «أَقِمْ» فتكون داخلة في صلة «أنْ» بوجهيها، أعني كونها تفسيرية أو مصدرية وقد تقدم.
وقوله: «مَا لاَ ينفعُك» يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، وأن تكون موصولةً.
قوله: «فإنَّكَ» هو جوابُ الشَّرطِ و «إذَنْ» حرفُ جوابِ توسَّطتْ بين الاسم، والخبرِ، ورتبتها التَّأخيرُ عن الخبرِ، وإنَّما وُسِّطتْ رعياً للفواصل. وقال الزمخشري: «إذَنْ» جواب الشَّرطِ وجوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنَّ سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان.
وفي جعله «إذَنْ» جزاءً للشَّرطِ نظرٌ، إذ جوابُ الشَّرطِ محصورٌ في أشياء ليس هذا منها.
فصل
المعنى: «ولا تَدْعُ» أي: ولا تعبد «مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ» إن أطعته: «ولا يَضُرُّكَ» إن عصيتهُ «فإن فعلْتَ» فعبدتَ غير الله، أو لو اشتغلت بطلب المنفعة، والمضرَّةِ من غير الله {فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين} الضَّارين لأنفسهم، الواضعين للعبادة في غير موضعها؛ لأنَّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير وضعه.
قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} الآية.
قوله: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ» قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام [الأنعام: 17] . وقال هنا في جواب الشَّرط الأول بنفي عام، وإيجاب، وفي جواب الثاني بنفي عام دون إيجاب؛ لأنَّ ما أرادَه لا يردُّه رادٌّ، لا هو ولا غيره، لأنَّ إرادتهُ قديمةٌ لا تتغيَّرُ، فلذلك لم يجىء التَّركيب فلا رادَّ لهُ إلاَّ هو، هذه عبارةُ أبي حيَّان، وفيها نظرٌ، وكأنَّهُ يقولُ بخلاف الكَشْفِ فإنه هو الفاعلُ لذلك وحدهُ دون غيره بخلاف إرادته تعالى، فإنَّهُ لا يتصوَّر فيها الوقوعُ على خلافها، وهي مسألةٌ خلافيَّةٌ بين أهل السُّنَّةِ والاعتزال.(10/423)
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: لم ذُكر المسُّ في أحدهما والإرادةُ في الثاني؟ قلت: كأنَّه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كُلِّ واحدٍ من الضُّر والخَيْر، وأنَّه لا رادَّ لما يريده منهما، ولا مُزيلَ لِمَا يُصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسَّ وهو الإصابةُ في أحدهما، والإرادة في الآخر ليدُلَّ بما ذكر على ما ترك، على أنَّه قد ذكر الإصابة في الخير في قوله: {يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} [يونس: 107] .
فصل
اعلم أنَّ الشيء إمَّا أن يكون ضارّاً، وإمَّا أن يكون نافعاً، وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير، ولمَّا كان الضر أمراً وجودياً، والخير قد يكون أمراً عدميّاً، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} والآية دالَّة على أنَّ الضرَّ والخيْرض واقعان بقدرةِ الله وبقضائه، فيدخل فيه الكفر، والإيمان، والطاعةُ، والمعصيةُ، والسرورُ والخيراتُ والآلامُ واللَّذاتُ.
ومعنى الآية: إن يُصبْكَ الله بضرٍّ أي: بشدَّة، وبلاء فلا دافع لهُ إلاَّ هُوَ، {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} رخاء ونعمة وسعة {فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} لا دافع لرزقه، {يُصَيبُ بِهِ} بكل واحدٍ من الضر والخير {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم} .
قال الواحديُّ: قوله: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} من المقلوب، معناه: وإن يرد بك الخَيْرَ، ولكنَّه لمَّا تعلَّق كل واحد منهما بالإرادةِ جاز تقديم كل واحد منهما.
قال المفسِّرون: لمَّا بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّ الأصنامَ لا تضرّ ولا تنفعُ بيَّن في هذه الآية أنَّها لا تقدر على دفع الشَّر الواصل من الغير، ولا على دفع الخير الواصل من الغير.
قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ} الآية.
قوله: «مِن ربِّكم» يجوز أن يتعلَّق ب «جَاءَكُمُ» و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً، ويجُوزُ أن يكون حالاً من «الحَقِّ» .
قوله: فَمَنُ اهْتَدَى ومن ضلَّ يجوز أن تكون «مَنْ» شرطاً، فالفاءُ واجبةُ الدُّخُولِ وأن تكون موصولة فالفاءُ جائزته.
فصل
المراد «بالحقّ» القرآن والإسلام {فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: على نفسه.
قوله: {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي: بِكَفِيلٍ يحفظ أعمالكم، و «ما» يجوز أن تكون الحجازيَّة أو التميمية، لخفاء النصب في الخبر.(10/424)
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه الآية نسختها آية القتال. ثمَّ قال تعالى: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر حتى يَحْكُمَ الله} [يونس: 109] أمرهُ باتِّباعِ الوحي والتَّنزيل {حتى يَحْكُمَ الله} من نصرك وقهر عدوك وإظهار دينك {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} فحكم بقتل المشركين، وبالجزيةِ على أهل الكتاب يعطونها {عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
روي أبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَن قَرَأ سورة يونس - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدَّق بيونس وكذَّب به، وبعدد من غرق مع فرعون» .(10/425)
سورة هود - عليه الصلاة والسلام -
قال ابن عباس: هي مكية إلا قوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار} [هود: 114] . وهنا سؤالان: الأول: أن سورة القصص لم يقص فيها إلا قصة واحدة، وهي قصة موسى - عليه الصلاة والسلام - وفي هذه السورة قص فيها قصصا كثيرة؛ فكان تسمية هذه بالقصص أولى من تسمية تلك، وكان ينبغي أن يسمى القصص بسورة " موسى " - عليه السلام - كما سميت سورة يوسف - عليه الصلاة والسلام -، وسورة " نوح " - عليه الصلاة والسلام -. السؤال الثاني: أن في هذه السورة قصصا كثيرة، فما الحكمة في أنها سميت باسم هود دون غيره من الأنبياء المذكورين فيها؟ .
فصل
يجوز في " هود " مرادا به السورة الصرف وتركه، وذلك باعتبارين: وهما أنك إن عنيت أنه اسم للسورة تعين منعه من الصرف، وهذا رأي الخليل وسيبويه. وكذلك " نوح "، و" لوط " إذا جعلتهما اسمين للسورتين المذكورين فيهما، فتقول: قرأت هود ونوح، وتبركت بهود، ونوح، ولوط. فإن قلت: قد نصوا على أن المؤنث الثلاثي الساكن الوسط؛ نحو: هند ودعد، والأعجمي الثلاثي الساكن الوسط؛ نحو: نوح ولوط حكمه الصرف وتركه، مع أن الصحيح وجوب صرف نوح. فالجواب: أن شرط ذلك ألا يكون المؤنث منقولا من مذكر إلى مؤنث، فلو سميت امرأة ب " زيد " تحتم منعه، وشرط الأعجمي ألا يكون مؤنثا، فلو كان مؤنثا تحتم منعه نحو: ماه وجور. وهود ونوح من هذا القبيل، فإن " هود " في الأصل لمذكر، وكذلك نوح، ثم سمي(10/426)
بهما السورة، وهي مؤنثة، وإن كان تأنيثها مجازيا، وإن اعتبرت أنها على حذف مضاف وجب صرفه، فتقول: قرأت هودا ونوحا يعني: سورة هود وسورة نوح، وقد جوز الصرف بالاعتبار الأول عيسى بن عمر، وفيه ضعف، ولا خفاء أنك إذا قصدت ب " هود " و" نوح " النبي نفسه صرفت فقط عند الجمهور في الأعجمي، وأما هود فإنه عربي فيتحتم صرفه. وقد عقد النحويون لأسماء السور، والألفاظ، والأحياء، والقبائل، والأماكن بابا في منع الصرف وعدمه، حاصله: أنك إن عنيت قبيلة أو أما أو بقعة أو سورة، أو كلمة منعت. وإن عنيت حيا أو أبا أو مكانا، أو غير سورة، أو لفظا صرفت بتفصيل مذكور في كتب النحو.(10/427)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
«كِتَابٌ» يجوز أن يكون خبراً ل: «ألف لام راء» ، أخبر عن هذه الأحرف بأنَّها كتابٌ موصوفٌ بكَيْتَ وكَيْتَ.
قال الزجاج: هذا غلطٌ؛ لأنَّ «الر» ليس هو الموصوف بهذه الصِّفة وحده قال ابنُ الخطيب: وهذا اعتراضٌ فاسدٌ؛ لأنَّه ليس من شرط كون الشَّيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه، ويجُوزُ أن يكون خبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديره: ذلك كتابٌ.
قال ابن الخطيب: «وهذا عندي ضعيفٌ لوجهين» :
الأول: أنَّه على هذا التقدير يقعُ قوله: «الر» كلاماً باطلاً لا فائدة فيه.
والثاني: أنك إذا قلت: هذا كتابٌ، فقولك: «هذا» يكون إشارة إلى الآيات المذكورات، وذلك هو قوله: «الر» فيصير حينئذ «الر» مخبراً عنه بأنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} . وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله: {ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2] قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} في محلِّ رفع صفةً ل «كِتابٌ» ، والهمزةُ في «أُحْكِمَتْ» يجوز أن تكون للنَّقل من حَكُمَ بضمِّ الكافِ، أي: صار حكيماً بمعنى جعلت حكيمةٌ، كقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [لقمان: 2] . ويجوز أن يكونَ من قولهم: «أحْكمتُ الدَّابَّة» إذا وضعتَ عليها الحكمة لمنعها من الجماحِ؛ كقول جريرٍ: [الكامل](10/427)
2941 - أبَنِي حَنيفَةَ أحْكمُوا سُفَهَاءكُمْ ... إنِّي أخافُ عليْكمُ أنْ أغْضَبَا
فالمعنى: أنَّها مُنِعَتْ من الفسادِ.
ويجوز أن يكون لغيرِ النَّقل، من الإحكام وهو الإتقان كالبناءِ المحكمِ المرصفِ، والمعنى: أنَّها نُظِمَتْ نظماً رصيناً متقناً.
ويجوز أن يكون قوله: «أحْكِمَتْ» أي: لم تُنسخْ بكتابٍ كما نُسِخت الكُتُبُ والشَّرائع بها.
قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.
قوله: «ثُمَّ فُصِّلَتْ» «ثُمَّ» على بابها من التَّراخي؛ لأنَّها أحكمت ثُمَّ فُصِّلت بحسب أسبابِ النُّزُولِ.
وقرأ عكرمةُ والضحاكُ والجحدريُّ وزيدُ بنُ عليٍّ وابن كثير في رواية «فَصَلَتْ» بفتحتين خفيفة العين.
قال أبو البقاء: والمعنى: فرقَتْ، كقوله: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ} [البقرة: 249] ، أي: فارق وفسَّرها غيرهُ، بمعنى فصلتْ بين المُحِقِّ والمُبطلِ، وهو أحسنُ.
وجعل الزمخشريُّ «ثم» للتَّرتيب في الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزَّمانِ، فقال: فإن قلت: ما معنى «ثُمَّ» ؟
قلت: ليس معناها التَّراخِي في الوقت، ولكن في الحالِ، كما تقولُ: هي محكمةٌ أحسن الإحكام، مفصَّلةٌ أحسن التَّفصيل، وفلانٌ كريمُ الأصل، ثُمَّ كريمُ الفعل.
وقرىء أيضاً: «أحْكمتُ آياتِهِ ثُمَّ فصَّلتُ» بإسناد الفعلين إلى «تاءِ» المتكلم، ونصب «آياته» مفعولاً بها، أي: أحكمتُ أنا آياته، ثم فصَّلتها، حكى هذه القراءة الزمخشري.
فصل
قال الحسن: أحكمت بالأمْر والنَّهي، ثم فصِّلت بالوَعْد والوعيد وقال قتادةٌ: أحْكمَها اللهُ فليس فيها اختلاف ولا تناقض.
وقال مجاهدٌ: «فُصِّلتْ» أي: فسرت(10/428)
وقيل: «فُصِّلَتْ» أي: أنزلت شيئاً فشيئاً كقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} [الأعراف: 133] ، وقيل: جعلت فصولاً: حلالاً، وحراماً، وأمثالاً، وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونَهْياً.
فصل
احتجَّ الجُبائي بهذه الآية على أنَّ القرآن محدثٌ مخلوق من ثلاثة أوجهٍ:
الأول: قال: المحكم هو الذي أتقنه فاعله، ولولا أنَّ الله - تعالى - خلق هذا القرآن، لَمْ يصحَّ ذلك؛ لأنَّ الإحكام لا يكون إلاَّ في الأفعالِ، ولا يجوز أن يقال: كان موجُوداً غير محكم، ثم جعله الله مُحْكَماً؛ لأنَّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً بأن يكون محدثاً، ولم يقل أحدٌ بأنَّ القرآن بعضه قديمٌ وبعضه محدثٌ.
الثاني: أنَّ قوله: «فُصِّلَتْ» يدلُّ على أنَّه حصل فيه انفصالٌ وافتراق، ويدلُّ على أنَّ ذلك الانفصال والافتراق إنَّما حصل بجعل جاعل.
الثالث: قوله تعالى: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، والمرادُ من عنده، والقديمُ لا يقال: إنَّهُ حصل من عند قديم آخر؛ لأنَّهما إن كانا قديمين، لم يكن القول بأنَّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس.
وأجيب بأنَّ النُّعوت عائدةٌ إلى هذه الحُرُوفِ والأصواتِ، ونحن معترفون بأنَّها مخلوقةٌ؛ وإنَّما الذي يُدَّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات.
قوله: «مِن لَّدُنْ» أي: من عند، يجُوزُ أن تكون صفة ثاينة ل «كِتَابٌ» وأن تكون خبراً ثانياً عند من يرى جواز ذلك، ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدِّمين يعني: «أحْكِمَتْ» أو «فُصِّلَتْ» ويكون ذلك من باب التنازع، ويكون من إعمال الثاني، إذْ لوْ أعمل الأول لأضمر في الثاني، وإليه نحا الزَّمخشري فقال: وأن يكون صلة «أحكمت» «فُصِّلتْ» ، أي: من عندهُ أحكامُها وتفصيلهُا، والمعنى: أحكمها حَكِيمٌ وفصَّلها، أي: شرَحَهَا وبيَّنَها خبيرٌ بكيفياتِ الأمورِ.
قال أبُو حيان: لا يريدُ أنَّ «مِنْ لدُن» متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإعراب، بل يريدُ أن ذلك من باب الإعمال، فهي متعلقةٌ بهما من حيثُ المعنى، وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً: ويجُوزُ أن يكون مفعولاً، والعاملُ فيه فُصِّلَتْ.
قوله: «أن لا تَعْبدُوا» فيه أوجهٌ:
أحدها: أن تكون أنْ المخففة من الثَّقيلة، و «لا تَعْبُدُوا» جملة نهي في محلِّ رفعٍ خبراً ل «أنْ» المخففة، واسمها على ما تقرَّر ضمير الأمر والشَّأن محذوفٌ.
والثاني: أنَّها المصدرية النَّاصبة، ووصلت هنا بالنَّهي، ويجوز أن تكون «لا» نافية،(10/429)
والفعل بعدها منصوبٌ ب «أنْ» نفسها، وعلى هذه التقادير ف «أنْ» : إما في محلِّ جرٍّ أو نصبٍ أو رفع، فالجرُّ والنصبُ على أنَّ الأصل: لأنْ لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا، فلما حذف الخافضُ جرى الخلافُ المشهور، والعاملُ: إمَّا «فُصِّلتْ» وهو المشهورُ، وإمَّا «أحْكِمَتْ» عند الكوفيين.
فتكون المسألة من باب الإعمال؛ لأنَّ المعنى: أحْكِمَتْ لئلاَّ تعبدُوا أو بأن لا تعبدُوا. ف «أنْ لا تعبدُوا» هو المفعول الثاني ل «ضمَّن» والأولُ قام قمام الفاعل.
والرفع فمن أوجه:
أحدها: أنَّها مبتدأٌ، وخبرها محذوفٌ، فقيل: تقديره: من النَّظر أن لا تعبدوا إلاَّ الله.
وقيل: تقديره: في الكتاب ألاَّ تبعدوا إلاَّ الله.
والثاني: خبر مبتدأ محذوف، فقيل: تقديره: تفصيلُه ألاَّ تعبدوا إلا الله.
وقيل: تقديره: هي أن لا تعبدوا إلاَّ الله.
والثالث: أنه مرفوعٌ على البدل من «آياته» .
قال أبو حيَّان: وأمَّا من أعربه أنَّهُ بدلٌ من لفظ «آيات» أو من موضعها، يعني: أنَّها في الأصْلِ مفعولٌ بها فموضعا نصبٌ، وهي مسألة خلافٍ، هل يجُوزُ أن يُراعَى أصلُ المفعولِ القائم مقام الفاعلِ، فيتبع لفظهُ تارة وموضعهُ أخرى، فيقال: ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة بنصب العاقلة باعتبار المحلِّ، ورفعها باعتبار اللفظ، أمْ لا؟ .
مذهبان، المشهور مراعاة اللفظ فقط.
الوجه الثالث: أن تكون مفسرة؛ لأنَّ في تفصيل الآيات معنى القول؛ فكأنَّه قيل: لا تعبدوا إلاَّ الله إذْ أمركم، وهذا أظهرُ الأقوالِ، لأنَّهُ لا يُحْوِجُ إلى إضمار.
قوله: «مِنْهُ» في هذا الضمير وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ يعودُ على الله تعالى، أي: إنَّ لكم من جهة الله نذيرٌ وبشير، نذير للعاصين، وبشير للمطيعين.
قال أبو حيان: فيكون في موضع الصِّفةِ، فيتعلقُ بمحذوفٍ، أي: كائن من جهته، وهذا على ظاهره ليس بجيِّد؛ لأنَّ الصفة لا تتقدَّمُ على الموصوفِ، فيكف تجعل صفةً ل «نذير» ؟ وكأنَّه يريد أنه صفةٌ في الأصل لو تأخَّر، ولكن لمَّا تقدَّم صار حالاً، وكذا صرَّح به أبو البقاءِ، فكان صوابه أن يقول: فيكون في موضع الحالِ، والتقدير: كائناً من جهته.
الثاني: أنَّهُ يعودُ على الكتابِ، أي: نذيرٌ لكم من مخالفته، وبشيرٌ منه لمن آمن وعمل صالحاً وفي متعلق هذا الجارِّ أيضاً وجهان:
أحدهما: أنَّه حالٌ من نذير، فيتعلَّق بمحذوفٍ كما تقدَّم.
والثاني: أنه متعلقٌ بنفس نذير، أي: أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم.(10/430)
وقدَّم الإنذار؛ لأنَّ التَّخويف أهمُّ إذ يحصل به الانزجارُ.
قوله: {وَأَنِ استغفروا} فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها عطفٌ على «أن» الأولى، سواء كانت «لا» بعدها نَفْياً أو نَهْياً، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى «أنْ» هذه.
والثاني: أن تكون منصوبةً على الإغراءِ.
قال الزمخشريُّ في هذا الوجه: ويجوزُ أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله على لسان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - إغراء منه على اختصاص الله - تعالى - بالعبادة، ويدل عليه قوله: {إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} كأنه قال: ترك عبادةِ غير الله إنَّنِي لكم منهُ نذيرٌ كقوله تعالى:
{فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] .
قوله: {ثُمَّ توبوا} عطفٌ على ما قبله من الأمْرِ بالاستغفار، و «ثُمَّ» على بابها من التَّراخي؛ لأنَّه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنب المُستغْفَرِ منهُ.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى «ثُمَّ» في قوله {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} ؟ قلت: معناه: استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطَّاعة، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثُمَّ أخْلِصُوا التَّوبة واستقيموا عليها، كقوله: {ثُمَّ استقاموا} [الأحقاف: 13] .
قال شهابُ الدِّين: قوله: «أو استغفروا» إلى آخره يعني أنَّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد، فلذلك احتاج إلى تأويل «تُوبُوا» ب «أخْلِصُوا التَّوبة» .
قال الفراء: «ثُمَّ» ههنا بمعنى الواو، أي: وتوبوا إليه، لأنَّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار.
وقيل: وأن استغفروا ربَّكُم في الماضي، ثُمَّ تُوبُوا إليه في المستأنف.
وقيل: إنَّما قدَّم الاستغفار أوَّلاً لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب.
ويحتمل أن يكون المعنى استغفروهُ من الصَّغائر، ثُمَّ تُوبُوا إليه من الكبائر.
قوله: «يُمَتِّعكُم» جوابُ الأمرِ. وقد تقدَّم الخلافُ في الجازمِ: هل هو نفسُ الجملةِ الطَّلبية أو حرفُ شرطٍ مقدر [البقرة: 40] .
وقرأ الحسنُ وابنُ هرمز وزيد بنُ عليٍّ وابن محيصن «يُمْتِعُكُم» بالتخفيف من أمتع.
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً وابن عامرٍ قرآ {فأُمْتِعُهُ قَلِيلاً} بالتخفيف كهذه القراءة [البقرة: 126] .
قوله «متَاعاً» في نصبه وجهان:(10/431)
أحدهما: أنَّه منصوبٌ على المصدر بحذفِ الزَّوائدِ، إذ التقديرُ: تَمْتِيعاً، فهو كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] .
والثاني: أن ينصب على المفعول به، والمراد بالمتاع اسم ما يُتمتَّعُ به، فهو كقولك: «متعت زيداً أثواباً» .
قال المفسِّرون: يعيشكم عيشاً في خفضٍ ودعةٍ وأمنٍ وسعةٍ «إلى أجلٍ مُسَمًّى» إلى حين الموتِ. فإن قيل: أليس أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الدُّنيا سِجْنُ المُؤمنِ وجنَّةُ الكافر»
؟ . وقال أيضاً: «خُصَّ البَلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأوْلياءِ فالأمْثَلِ فالأمْثَلِ» .
وقال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ نصيب المؤمن المطيع عدمُ الرَّاحة في الدُّنيا، فكيف الجمع بينهما؟ .
فالجواب من وجوه:
الأول: أنَّ المعنى لا يُعذِّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصَلَ أهلَ القوَّة من الكُفَّار.
الثاني: أنَّهُ تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان، وإليه الإشارةُ بقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ}
[طه: 132] .
الثالث: أنَّ المشتغل بالعبادة مشتغلٌ بحب شيءٍ يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلقِ أتمُّ وأكملُ، وكلما كان الكمالُ في هذا البابِ أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل؛ لأنَّهُ أَمِنَ من تغير مطلوبه، وأَمِنَ من زوال محبوبه.
وأمَّا من اشتغل بحبِّ غير الله، كان أبداً في ألمِ الخوفِ من فوات المحبوب وزواله؛ فكان عيشهُ منغَّصاً وقلبه مضطرباً، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] .
فإن قيل: هل يدل قوله {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} على أنَّ للعبدِ أجليْنِ، وأنَّهُ يقع في ذلك التقديم والتَّأخير؟ .
فالجواب: لا، ومعنى الآية أنَّهُ تعالى حكم بأنَّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر، لكنَّهُ تعالى عالم بأنَّهُ يشتغل بالعبادة، فلا جرم أنَّه كان عالماً بأنَّ أجله ليس إلاَّ في ذلك الوقتِ المعيَّنِ؛ فثبت أنَّ لكلَّ إنسانٍ أجلاً واحداً.
وسمى منافع الدُّنيا متاعاً، تنبيهاً على حقارتهَا وقلَّتهَا، وأنَّها مُنقضيةٌ بقوله تعالى {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} .
قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} «كُلَّ» مفعول أوَّل، و «فَضلهُ» مفعولٌ ثانٍ.(10/432)
وقد تقدَّم للسُّهيلي خلافٌ في ذلك. والضَّمير في «فَضْلَهُ» يجوز أن يعود على الله تعالى، أي: يُؤتِي كُلَّ صاحبِ فضلٍ فضله، أي: ثوابهُ، وأن يعود على لفظِ «كُلّ» ، أي: يعطي كُلَّ صاحب فضلٍ جزاء فضله، لا يبخَسُ منه شيئاً، أي: جزاء عمله.
قال المفسِّرون: ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة.
وقال أبو العالية: من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنَّة؛ لأنَّ الدَّرجاتِ تكون بالأعمال.
وقال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «مَنْ زادَتْ حسناتهُ على سيِّئاتهِ دخل الجنَّة، ومن زادت سيئاته على حسناته، دخل النَّارن ومن استوت حسناته وسيئاته، كان من أهْلِ الأعرافِ، ثم يدخلون الجنة» .
ثم قال: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وهو يومُ القيامةِ.
وقرأ الجمهور «تَولَّوْا» بفتح التَّاءِ والواو واللاَّم المشدَّدة، وفيها احتمالان:
أحدهما: أنَّ الفعل مضارعُ توَلَّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو: «تَنَزَّلُ» .
وقد تقدَّم أيتهما المحذوفةُ، وهذا هو الظَّاهر. ولذلك جاء الخطابُ في قوله: «عليْكُم» .
والثاني: أنَّه فعلُ ماضٍ مسند لضمير الغائبين، وجاء الخطابُ على إضمار القولِ، أي: فقل لهم: إنِّي أخاف عليكم، ولولا ذلك لكان التركيب: فإنِّي أخاف عليهم.
وقرأ اليماني وعيسى بن عمر: «تُوَلُّوا» بضمِّ التَّاءِ، وفتح الواوِ وضم اللام، وهو مضارعُ «ولَّى» ؛ كقولك: زكَّى يزكِّي.
ونقل صاحب اللَّوامح عن اليماني وعيسى بن عمر: «وإن تُوُلُّوا» بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول، ولمْ يُبين ما هو ولا تصريفه؟ وهو فعلٌ ماضٍ، ولمَّا بُنِيَ للمفعولِ ضُمَّ أولهُ على الفاعل، وضُمَّ ثانيه أيضاً؛ لأنَّه مفتتحٌ بتاءِ مطاوعةِ، وكلُّ ما افتتح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمَّ أوله وثانيه، وضُمَّت اللام أيضاً، وإن كان أصلها الكسر لأجْلِ واو الضمير، والأصلُ «تُوُلِّيُوا» نحو: تُدحْرجُوا، فاستثقلت الضَّمةُ على الياءِ، فحذفت فالتقى ساكنان؛ فحذفت الياءُ، لأنَّهما أولهما؛ فبقي ما قبل واو الضَّمير مكسوراً فضُمَّ ليُجانِسَ الضمير؛ فصار وزنهُ «تُفُعُّوا» بحذف لامه، والواو قائمةٌ مقام الفاعل.
وقرأ الأعرجُ «تُولُوا» بضمِّ التاء وسكون الواو وضم اللام مضارع «أوْلَى» ، وهذه القراءةُ لا يظهرُ لها معنًى طائلٌ هنا، والمفعول محذوفٌ يقدَّرُ لائقاً بالمعنى.(10/433)
و «كَبِيرٍ» صفةٌ ل «يَوْمٍ» مبالغة لما يقع فيه من الأهوالِ.
وقيل: بل «كَبيرٍ» صفةٌ ل «عذابَ» فهو منصوبٌ، وإنَّما خفض على الجوارِ؛ كقوله: «هذا جُحر ضبٍّ خربٍ» بجرِّ خَربٍ وهو صفةٌ ل «جُحْرٌ» ؛ وقول امرىء القيس: [الطويل]
2942 - كأنَّ ثَبِيراً في عَرانينِ وبلهِ ... كَبيرُ أنَاسٍ في بِجاد مُزَمَّلِ
بجر «مُزَمَّل» وهو صفةٌ ل «كبير» . وقد تقدَّم البحثُ في ذلك في سورة المائدة.
ثم قال: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وهذا فيه تهديدٌ وبشارة، فالتَّهديد قوله {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ} يدلُّ على أنَّ مرجعنا إليه، وهو قادرٌ على جميع المقدورات لا دافع لقضائه، ولا مانع لمشيئته، والرُّجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذُّنوب العظيمة مشكل، وأمَّا البشارةُ، فإنَّ ذلك يدلُّ على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم، وعلى ضعف تام، وعجز عظيم لهذا العبد، والملك القادر القاهر الغالب إذا رأى أحداً أشرف على الهلاك؛ فإنهُ يخلصهُ من تلك الهلكة، ومنه المثل المشهور «إذَا ملكْتَ فأسْجِعْ» .(10/434)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
لمَّا قال: «وإن تولَّوْا» عن عبادة الله وطاعته، بيَّن بعده صفة ذلك التولي فقال: {أَلا إِنَّهُمْ} يعني الكُفَّار {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يقال: ثنيت الشَّيء إذا عطفته وطويته.
وقرأ الجمهور: بفتح الياء وسكون الثَّاء المثلثة، وهو مضارع «ثَنَى يَثْني ثَنْياً» ، أي طوى وَزَوى، و «صُدُورهم» مفعول به، والمعنى: يَحْرفون صدورهم ووجوههم عن الحق وقبوله، والأصل «يَثْنِيُونَ» فأُعِلَّ بحذف الضَّمةِ عن الياء، ثُمَّ تحذفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين.
وقرأ سعيدُ بن جبير «يُثْنُون» وهو مضارع «أثْنَى» كأكرم.
واستشكل النَّاسُ هذه القراءة فقال أبُو البقاءِ: ماضيه أثنى، ولا يعرفُ في اللغةِ، إلاَّ أنْ يقال: معناه عرضُوها للانثناء، كما يقال: أبعت الفرسَ: إذا عرضته للبيع.
وقال صاحبُ اللَّوامِحِ: ولا يعرفُ الإثناء في هذا الباب، إلاَّ أن يرادَ به، وجدتُهَا مثْنِيَّة، مثل أحْمَدْتُه وأمْجَدْتُه، ولعلَّه فتح النون، وهذا ممَّا فعل بهم فيكون نصب «(10/434)
صُدُورَهُم» بنزع الخافض، ويجُوزُ على ذلك أن يكون «صُدُورَهُم» رفعاً على البدل بدل البعض من الكُلِّ يعني بقوله: ولعلَّهُ فتح النُّونِ أي: ولعل ابن جبير قرأ ذلك بفتح نونِ «يُثْنَون» فيكون مبنياً للمفعول، وهو معنى قوله: وهذا ممَّا فعل بهم أي وجدوا كذلك، فعلى هذا يكونُ «صُدورهُم» منصُوباً بنزعِ الخافضِ، أي: في صدورهم، أي يوجدُ الثَّنْيُ في صدورهم، ولذلك جوَّز رفعهُ على البدل كقولك: ضُربَ زيدٌ الظَّهْرُ. ومنْ جوَّز تعريف التمييز لا يبعدُ عنده أن ينتصب «صُدُورهُم» على التَّمييز بهذا التقدير الذي قدَّرهُ.
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وعليُّ بنُ الحسين، وابناه زيد، ومحمد، وابنه جعفر، ومجاهد، وابن يعمر، وعبد الرحمن بن أبزى، وأبو الأسود «تَثنَوْني» مضارع «اثْنَوْنَى» على وزنِ «افْعَوْعَلَ» من الثَّنْي كاحْلَوْلى من الحَلاوةِ وهو بناءُ مبالغةٍ، «صُدُورهُم» بالرَّفع على الفاعلية.
ونُقل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق: «يَثْنَوْنَى صدورهم» بالياءِ والتَّاءِ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ؛ فجاز تذكيرُ الفعل باعتبار تأويل فاعله بالجمع وتأنيثه باعتبار تأويل فاعله بالجماعةِ.
وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً وعروة وابن أبزى والأعمش «تَثْنَوِنُّ» بفتح التاء وسكون الثَّاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة، والأصل: «تَثْنَوْنِنُ» بوزن «تَفْعَوْعِلُ» من الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضعف من الكَلأ، يريد مطاوعة نوفسهم للثَّنْي كما يثنى الهَشُّ من النَّبات، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم.
و «صدورهم» بالرَّفع على الفاعلية.
وقرأ مجاهدٌ وعروة أيضاً كذلك، إلاَّ أنَّهما جعلا مكان الواو المسكورة همزة مكسورة فأخرجاها مثل «تطمئن» .
وفيها تخريجان:
أحدهما: أنَّ الواو قُلبتْ همزة لاستثقال الكسرة عليها، ومثله إعاء وإشاح في وعاء ووشاح، لمَّا استثقلوا الكسرة على الواوِ أبدلوها همزة.
والثاني: أن وكنه «تَفْعَيِيلٌ» من الثِّن وهو ما ضعف من النَّبات كما تقدَّم، وذلك أنَّهُ مضارع ل «اثْنَان» مثل احْمَارَّ واصفارَّ، وقد تقدَّم [يونس: 24] أن من العرب من يقلبُ مثل هذه الألف همزة؛ كقوله: [الطويل]
2943 - ... ... ... ... ... ... ... ... ....... ... ... ... ... ... بالعَبِيطِ ادْهَأمَّتِ(10/435)
فجاء مضارع «اثْنَأنَّ» على ذلك كقولك احْمَأرَّ يَحمَئِرُّ كاطمأنَّ يَطْمَئِنُّ.
وأمَّا «صُدورُهم» فبالرَّفع على ما تقدَّم.
وقرأ الأعمش أيضاً تَثْنَؤُونَ بفتح الياء وسكون المثلثة وفتح النون وهمزة مضمومة وواوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كَتَرْهَبُون. صُدورَهُم بالنَّصْبِ.
قال صاحبُ اللَّوامِحِ: ولا أعرف وجهه يقال: «ثَنَيْتُ» ولم أسمعْ «ثَنَأتُ» ، ويجوز أنَّهُ قلب الياء ألفاً على لغةِ من يقول: «أعْطات» في «أعْطَيْتُ» ، ثُمَّ همز الألف على لغةِ من يقول: {ولا الضَّأْلين} [الفاتحة: 7] .
وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «تَثْنَوِى» بفتح التَّاءِ وسكون المثلثة، وفتح النُّونِ وكسر الواو بعدها ياءٌ ساكنةٌ بزنة «تَرْعَوِى» وهي قراءةٌ مشكلة جداً حتَّى قال أبو حاتم: وهذه القراءة غلطٌ لا تتجه، وإنَّما قال إنَّها غلطٌ؛ لأنَّه لا معنى للواوِ في هذا الفعل إذ لا يقالُ: ثَنَوْتُهُ فانْثَوَى كرعَوْتُه، أي: كففته فارعَوَى، أي: فانكفَّ، ووزنه افعلَّ كاحْمَر.
وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ يعمر وابن أبي إسحاق «يَنْثُونَ» بتقديم النُّون السَّاكنة على المثلثة.
وقرأ ابنُ عباس أيضاً «لَتَثْنَونِ» بلام التأكيد في خبر «إنَّ» وفتح التَّاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة «تَفْعَوْعِلُ» ، كما تقدَّم إلاَّ أنَّها حذفت الياء، التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم: لا أدْرِ وما أدْرِ. و «صُدورهم» ، فاعل كما تقدم.
وقرأ طائفة: «تَثنؤنَّ» بفتح التَّاءِ ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نُون مفتوحةٍ ثم همزة مضمومةٍ ثم نون مشددة، مثل تَقْرَؤنَّ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ، إلاَّ أنَّه قلب الياءَ واواً؛ لأنَّ الضمة تُنافِرُهَا، فجعلت الحركةُ على مُجانِسها، فصار اللفظُ «تَثْنَوونَ» ثم قلبت الواوُ المضمومةُ همزة كقولهم: «أجُوه» في «وُجُوه» و «أقِّتَتْ» في «وقِّتَت» فصار «تَثْنَؤونَ» ، فلمَّا أكَّد الفعل بنونِ التَّوكيد حذفت نونُ الرَّفع فالتقى ساكنان: وهما واوُ الضمير والنون الأولى من نون التَّوكيد، فحذفت الواو وبقيت الضَّمةُ تدلُّ عليها؛ فصار «تَثْنَؤنَّ» كما ترى و «صُدورَهُم» منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً مضبوطة.
قوله تعالى: {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} فيه وجهان:(10/436)
أحدهما: أنَّ هذه اللاَّم متعلقةٌ ب «يَثْنُونَ» كذا قاله الحوفيُّ، والمعنى: أنَّهم يفعلون ثَنْي الصُّدور لهذه العلةِ. وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كلفة فيه.
والثاني: أنَّ اللاَّم متعلقةٌ بمحذوفٍ.
قال الزمخشريُّ: «لِيَسْتخُفُوا منهُ» يعنى ويريدون: ليستَخْفُوا من الله فلا يطلعُ رسوله والمؤمنون على ازْورَارهِمْ، ونظيرُ إضمار «يريدون» لعود المعنى إلى إضماره الإضمارُ في قوله: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] معناه: «فضرب فانفلق» .
قال شهاب الدين: وليس المعنى الذي يقُودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا، لأنَّ ثمَّ لا بد من حذف معطوفٍ يُضْطَر العقلُ إلى تقديره؛ لأنَّهُ ليس من لازم الأمْرِ بالضَّرْبِ إنفلاقُ البحر فلا بُدَّ أن يُتَعَقَّل «فضرب فانفلق» ، وأمَّا في هذه، فالاستخفاف علةٌ صالحةٌ لثَنْيهم صدورهم، فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادةِ.
والضَّميرُ في «مِنْهُط فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ عائدٌ على رسُولِ الله - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللاَّم ب» يَثْنُونَ «.
والثاني: أنَّهُ عائدٌ على الله تعالى كما قال الزمخشريُّ.
قوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} في هذا الظرف وجهان:
أحدهما: أنَّ ناصبهُ مُضْمَرٌ، فقدَّره الزمخشري ب» يريدون «كما تقدم، فقال: ومعنى (ألا حين يستغشون ثيابهم) : ويريدون الاستخفاء حين يشتغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله، كقول نُوحٍ {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] ، وقدَّره أبو البقاء فقال: (ألا حين يستغشون ثيابهم) : يستخفون.
والثاني: أنَّ النَّاصب له» يَعْلَمُ «، أي: ألا يعلم سرَّهُم وعلنهم حين يفعلون كذا، وهذا معنى واضح، وكأنَّهُم إنَّما جوَّزُوا غيره؛ لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعلنهم بهذا الوقت الخاصِّ، والله تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت.
وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّه إذا عُلِمَ سرُّهم وعلنهُم في وقت التَّغْشِية الذي يخفى فيه السرُّ فأولى في غيره، وهذا بحسب العادةِ وإلاَّ فالله تعالى لايتفاوتُ علمهُ.
و» ما «يجُوزُ أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى» الذي «، والعائدُ محذوفٌ، أي: تُسِرُّونه وتُعْلِنُونه.
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - نزلت في الأخنس بن شريقٍ، وكان رجلاً حلو(10/437)
الكلام حلو المنظر، يلقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يحبُّ، وينطوي له بقلبه على ما يكره.
فقوله: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي يخفون ما في صدورهم من الشَّحْنَاءِ والعداوةِ.
قال عبدُ الله بنُ شداد: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرَّ بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وغطَّى وجهه، كي لا يراه النبي - صلوات الله وسلامه عليه -.
قال قتادة: كانوا يخفون صدورهم، لكيلا يسمعُوا كلامَ الله ولا ذكره.
وقيل: كان الرَّجلُ من الكُفَّار يدخل بيته، ويرخي ستره، ويحْنِي ظهرهُ، ويتغشَّى بثوبه، ويقول: هل يعلمُ الله ما في قلبي.
وقال السُّدي: «يَثْنُونَ صُدورَهُمْ» أي: يُعرضُون بقلوبهم، من قولهم: ثنيت عناني ليَسْتخْفُوا مِنهُ أي: من رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه -.
وقال مجاهدٌ: من الله عَزَّ وَجَلَّ.
{أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يغطون رؤوسهم بثيابهم و «ألا» كلمة تنبيه أي: ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم. ثم ذكر أنَّهُ لا فائدة لهم في استخفافهم فقال سبحانه: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} .
قال الأزهري معنى الآية من أولها إلى آخرها: إنَّ الذين اضمرُوا عداوة رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يخفى علينا حالهم.
وروى محمد بن جرير عن محمد بن عباد بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} قال: كان أناسٌ يستحيون أن يَخلوا فينفضوا إلى السَّماء، وأن يجامعوا نساءهم، فيفضوا إلى السَّماءِ؛ فنزل ذلك فيهم.
لمَّا ذكر أنه: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أردفهُ بما يدلُّ على أنَّهُ تعالى عالمٌ بجيمعِ المعلومات وهو أنَّ رزق كلَّ حيوان إنَّما يصل إليه من الله؛ لأنَّه لو لم يكن عالماً بجيمع المعلُومات لما حصلت هذه المهمَّات.(10/438)
قال الزجاجُ: الدَّابَّةُ: اسمٌ لكلِّ حيوان، مأخوذ من الدَّبيبِ، وبُنيتْ هذه اللفظة على هاء التأنيث، هذا موضوعها اللُّغوي، و «مِنْ» صلة، {إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} هو المتكفِّلُ بذلك فضلاً، وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق. وقيل: «على» بمعنى «من» أي: من الله رزقها.
قال مجاهدٌ: ما جاءها من رزق فمن الله، ورُبَّما لم يرزقها حتَّى تمُوت جُوعاً. {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} قال ابنُ مقسم: ويروى عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «مُسْتقرَّهَا» المكانُ الذي تأوي إليه، وتستقرُّ فيه ليلاً ونهاراً «ومُسْتوْدعهَا» الموضع الذي تُدْفَنُ فيه إذا ماتت. وقال عبد الله بن مسعودٍ: المستقرُّ: أرحامُ الأمَّهات، والمستودع: أصلابُ الآباء. ورواه سعيدُ بن جبيرٍ، وعليُّ بن أبي طلحة، وعكرمةُ عن ابن عبَّاس. وقيل: المستقر: الجنة أو النار، والمستودع: القبر، لقوله تعالى في صفة الجنة، والنار {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 76] {سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66] .
{كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} . قال الزَّجَّاجُ: «معناه: كلُّ ذلك ثابتٌ في علم الله» .
وقيل: كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها.
قوله: {مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} يجوزُ أن يكونا مصدرين، أي: استقرارها واستيداعها، ويجوزُ أن يكونا مكانين، أي: مكان استقرارها واستيداعها، ويجوز أن يكون «مُستوْدعهَا» اسم مفعول لتعدِّي فعله، ولا يجوز ذلك في «مُسْتَقَر» ؛ لأنَّ فعله لازمٌ، نظيره في المصدرية قول الشاعر: [الوافر]
2944 - ألَمْ تعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القَوافِي..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
أي: تَسْريحي.
و «كُلُّ» المضافُ إليه محذوفٌ تقديره: كُل دابةٍ ورزقها ومستقرُّها ومستودعُها في كتاب مبين.(10/439)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
لمَّا أثبت بالدَّليلِ المتقدم كونه عالماً بالمعلومات، أثبت بهذا الدليل كونه قادراً على المقدورات وقد مضى تفسير {خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أول يونس.
قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} قال كعب الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خلق الله - عزَّ وجلَّ - ياقوتةٌ خضراء، ثمَّ نظر إليها بالهيبة فصار ماءً يرتعدُ، ثمَّ خلق الرِّيح؛ فجعل الماء على متنها، ثمَّ وضع العرش على الماء. وقال غيره: إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - كان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وخلق القلم؛ فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه.
قالت المعتزلةُ: في الآية دلالة على وجودِ الملائكة قبل خلق السموات والأرض، لأن خلقهما: إمَّا أن يكون لمنفعة، أو لا لمنفعة والثاني عبث، فينبغي أنَّهُ خلقهما لمنفعة، وتلك المنفعة إمَّا أن تكون عائدة على الله تعالى وهو محالٌ، لكونه متعالياً عن النفع والضر؛ فلزم أن يكون نفعهما مختصٌّ بالغير، فوجب كون الغير حيّاً؛ لأنَّ غير الحيِّ لا ينتفع، وكلُّ من قال بذلك قال كان ذلك الحي من الملائكة.
فإن قيل: ما الفائدةُ في ذكر أنَّ عرشهُ كان على الماءِ قبل خلق السموات والأرض؟ .
فالجوابُ أنَّ فيه دلالةً على كمالِ القدرة من وجوه:
أحدها: أنَّ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماءِ؛ فلولا أنه تعالى قادرٌ على إمساكِ الثَّقيل بغير عمدٍ لما صحَّ ذلك.
وثانيها: أنَّه تعالى أمسك الماءَ لا على قرار، وإلاَّ لزم أن يكون أجسام العالمِ غير متناهية فدل على كمال القدرة.
وثالثها: أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فدل على كمال القدرة.
قوله: «لِيَبْلُوَكُمْ» في هذه اللاَّم وجهان:
أحدهما: أنَّها متعلقةٌ بمحذوفٍ فقيل: تقديره: أعلم ذلك ليبْلُوكمْ، وقيل: ثمَّ جملٌ محذوفةٌ والتقدير: وكان خلقةُ لهما لمنافع يعودُ عليكم نفعها في الدُّنيا دون الآخرة، وفعل ذلك ليبلوكم.(10/440)
وقيل: تقديره: وخلقكم ليبلوكم.
والثاني: أنها متعلقةٌ ب «خلقكم» .
قال الزمخشريُّ: أي: خلقهُنَّ لحكمةٍ بالغةٍ وهي أن يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بصنوف النِّعمِ ويُكلِّفهم فعل الطَّاعاتِ واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبة، ولمَّا أشبه ذلك اختبارَ المختبر قال «ليبلُوَكمْ» ، يريد: ليفعل بكم ما يفعل المبتلي. واعلم أنه لمَّا بين أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلَّفين وامتحانهم وجب القطع بحصول الحشر والنشر؛ لأنَّ الابتلاء والامتحان يوجب الرَّحمة والثَّواب للمحسن والعقاب للمسيء، وذلك لا يتمُّ إلاَّ بالاعتراف بالمعادِ والقيامة، فعند هذا خطاب محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف، وكرم ومجد وبجل، وعظم، وقال: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: إنكم تنكرونَ هذا الكلام، وتحكمون بفساد القول بالبعث.
قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ؛ لأنَّهُ متعلقٌ بقوله «لِيَبْلُوكُمْ» .
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف جاز تعليقُ فعل البلوى؟ قلتُ: لما في الاختبار من معنى العلم؛ لأنَّه طريقٌ إليه فهو ملابسٌ له كما تقولُ: انظر أيُّهم أحسنُ وجهاً، واسمع أيُّهم أحسنُ صوتاً؛ لأنَّ النَّظر والاستماع من طرق العلم؛ لأنَّه طريقٌ إليه، فهو ملابسٌ له، وقد أخذه أبو حيَّان في تمثيله بقوله: «واسْتمِعْ» فقال: «لَمْ أعلمْ أحداً ذكر أنَّ» استمع «يعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال القُلُوب» سَلْ «، و» انْظُر «وفي جواز تعليق» رَأى «البصرية خلاف» .
قوله: «ولَئِن قُلْتَ» هذه لامُ التَّوطئة للقسم، و «ليَقُولنَّ» جوابه، وحذف جوابُ الشَّرط لدلالة جواب القسم عليه، و «إنَّكُم» محكيٌّ بالقول، ولذلك كُسِرَت في قراءةِ الجمهور.
وقرىء بفتحها، وفيها تأويلان ذكرهما الزمخشري:
أحدهما: أنها بمعنى «لَعَلَّ» قال: من قولهم: ائت السوق أنك تشتري لحْماً، أي: لعلَّك، أي: ولئنْ قلت لهم: لعلكم مبعوثون بمعنى توقَّعُوا بعثَكُم وظنُّوه، ولا تَبُثُّوا القول بإنكاره، لقالوا.
والثاني: أن تُضَمِّنَ قلت معنى: «ذكَرْتَ» يعني فتفتح الهمزة، لأنَّها مفعولُ «ذَكَرْتَ» قوله: {إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ} قد تقدَّم أنَّه قُرىء «سِحْر» و «سَاحر» ، فمن قرأ «سِحْرٌ» ف «هذا» إشارةٌ إلى البَعْثِ المدلولِ عليه بما تقدَّم، أو إشارةٌ إلى القرآن، لأنَّهُ ناطقٌ بالبعثِ ومن قرأ «(10/441)
سَاحِر» فالإشارةُ ب «هذا» إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويجوز أن يُرادَ ب «هذا» في القراءة الأولى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويكون جعلوه سِحْراً مبالغةً، أو على حذف مضاف، أي: إلاَّ ذُو سحرٍ، ويجوز أن يراد ب «سَاحِر» نفسُ القرآن مجازاً كقولهم: «شِعرٌ شاعرٌ» و «جَدَّ جَدُّهُ» .
فإن قيل: كيف يمكن وصفُ هذا القول بأنه سِحْرٌ؟
فالجواب: من وجوه.
أحدها: قال القفال: معناه أنَّ هذا القول خديعة منكم، وضَعْتُمُوهُ لمنع الناس من لذَّاتِ الدنيا وإحرازاً لهم إلى الانقيادِ لكُم والدُّخُول تحت طاعتكم.
وثانيها: أن قولهم {نْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} معناه: أنَّ السِّحر أمرٌ باطلٌ، قال تعالى حاكياً عن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} [يونس: 81] .
وثالثها: أنَّ القرآن هو الحاكمُ بحصول البعثِ، وطعنُوا في القرآن بكونه سِحْراً، والطعن في الأصل عين الطعن في الفرع.
ورابعها: قراءة حمزة والكسائي «إن هذا إلاَّ ساحرٌ» والسَّاحرُ كاذبٌ.(10/442)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
قال الحسنُ: حكم الله أنه لا يعذب أحداً من هذه الأمة بعذاب الاستئصال، وأخَّر ذلك العذاب إلى القيامة؛ فلمَّا أخَّر عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء: ما الذي حبسهُ عنَّا؟ .
وقيل: المرادُ بالعذاب: ما نزل بهم يوم بدرٍ.
وأصل «الأمَّة» الجماعة، قال تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس} [القصص: 23] وقوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] ، أي: انقضاء أمة، فكأنَّهُ قال: إلى انقراض أمةٍ ومجيء أخرى.
وقيل: اشتقاق الأمَّةِ من الأمِّ، وهو القصد، كأنَّهُ يعني الوقت المقصود بإيقاع الموعود فيه. {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي شيء يحبسه، يقولون ذلك، استعجالاً للعذابِ واستهزاءً، يعنُون أنه ليس بشيء.
قوله: «لَيَقولُنَّ» هذا الفعلُ معربٌ على المشهورِ؛ لأنَّ النُّون مفصولةٌ تقديراً، إذ الأصل: «لَيَقُولُوننَّ» النون الأولى للرفع، وبعدها نونٌ مشددة، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال،(10/442)
فحذفت نونُ الرفع؛ لأنَّها لا تدلُّ من المعنى على ما تدلُّ عليه نون التَّوكيد، فالتقى ساكنان، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائهما، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
و «مَا يَحْبِسُهُ» استفهامٌ، ف «ما» مبتدأ، و «يَحْبِسُهُ» خبره، وفاعل الفعل ضميرُ اسم الاستفهام، والمنصوبُ يعودُ على العذابِ، والمعنى: أيُّ شيءٍ من الأشياء يحبسُ العذاب؟ قوله: «ألا يَوْمَ يَأتيهِمْ» «يَوْمَ» منصوبٌ ب «مَصْرُوفاً» الذي هو خبرُ «ليس» ، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر «ليس» عليهما، ووجهُ ذلك أنَّ تقديم المعمول يُؤذن بتقديم العامل، و «يوم» منصوب ب «مَصْرُوفاً» وقد تقدَّم على «ليس» فليَجُزْ تقديمُ الخبر بطريق الأولى، لأنَّه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن يتقدَّم الأصلُ.
وقد ردَّ بعضهم هذا الدليل بشيئين:
أحدهما: أنَّ الظرف يُتوسَّعُ فيه ما لا يتوسَّع في غيره.
والثاني: أنَّ هذه القاعدة مُنْخرمةٌ، إذ لنا مواضع يتقدَّمُ فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العاملُ، وأورد من ذلك نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10] ف «اليتيمَ» منصوبٌ ب «تَقْهَرْ» ، و «السَّائِل» منصوبٌ ب «تَنْهَرْ» وقد تقدَّما على «لا» النَّاهية، ولا يتقدَّمُ العاملُ - وهو المجزومُ - على «لا» ، وللبحث في هذه المسألة موضعق أليقُ به.
قال أبُو حيَّان: وقد تتبَّعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر «ليسَ» عليها، ولا بمعموله إلاَّ ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقول الشاعر: [الطويل]
2945 - فَيَأبَى فما يَزْدَادُ إلاَّ لجَاجَةً ... وكُنْتُ أبِيّاً في الخَنَى لسْتُ أقْدِمُ
واسمُ «ليس» ضميرٌ عائدٌ على «العذاب» ، وكذلك فاعل «يأتيهم» ، والتقدير: ألا ليس العذاب مصرُوفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب.
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم أنَّ العامل في «يَوْمَ يأتيهم» محذوفٌ تقديره: أي: لا يصرفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم، ودلَّ على المحذوف سياق الكلام.
قال: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} وذكر «حَاقَ» بلفظ الماضي مبالغة في التَّأكيد والتقرير وأنَّ خبر الله تعالى واقعٌ لا محالة.(10/443)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} الآية.
لما ذكر أنَّ عذاب الكُفَّار وإن تأخَّر لا بد أن يحيق بهم، ذكر بعدهُ ما يدلُّ على كفرهم، وعلى كونهم مستحقين لهذا العذاب، فقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان} . وقيل: المراد منه مطلق الإنسان؛ لأنَّه استثنى {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} ؛ ولأنه موافق لقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 2، 3] {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج: 19] ولأنَّ مزاج الإنسان مجبولٌ على الضَّعف والعجز.
قال ابنُ جريج في تفسير هذه الآية: يا ابنَ آدم إذا نزلت بك نعمةٌ من الله، فأنت كفورٌ، وإذا نزعت منك فيئوسٌ قنوط.
وقيل: المرادُ به الكافر؛ لأنَّ الأصل في المفرد المعرف بالألف واللاَّم أن يعود على المعهود السَّابق إلاَّ أن يمنع مانع منه، وههنا لا مانع؛ فوجب حمله على المعهود السابق، وهو الكافر المذكور في الآية المتقدمة.
وأيضاً فالصِّفاتُ المذكورة في الإنسان هنا لا تليقُ إلاَّ بالكافر؛ لأنَّهُ وصفهُ بكونه كفوراً، وهو تصريح بالكفر، ووصفه عند وجدان الراحة بقوله: {ذَهَبَ السيئات عنيا} وذلك جزاءة على الله تعالى، ووصفه بكونه فرحاً {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76] وصفه بكونه فخوراً، وذلك ليس من صفات أهل الدِّين. وإذا كان كذلك؛ وجب حمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع. واعلم أنَّ لفظ «الإذَاقة والذَّوق» يفيدُ أقل ما يوجدُ من الطَّعم، فكان المراد أنَّ الإنسان بوجدان أقل القليل من الخير في العاجلة يقعُ في الكفر والطُّغيان وبإدراك أقل القليل من البلاءِ يقع في اليأس والقنوط، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} نعمة وسعة {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} سلبناها منه {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} في الشِّدة كفور بالنعمة.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ} قال الوَاحديُّ: النَّعْمَاء إنعام يظهر أثرهُ على صاحبه، والضَّرَّاءُ مضرَّةٌ يظهر أثرها على صاحبها؛ لأنَّها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو: حمراء وسوداء، وهذا هو الفرق بين النِّعمةِ والنَّعماء، والمضرة والضَّراء.(10/444)
والمعنى: إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه: {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عنيا} زالت الشَّدائدُ عنِّي، إنَّهُ لفرحٌ فخورٌ أشر بطر، والفرح: لذَّة في القلب بنيل المشتهى. والفخرُ: هو التطاول على الناس بتعديد المناقب، وذلك منهيٌّ عنه.
فصل
اعلم أنَّ أحوال الدنيا أبداً في التَّغير والزَّوال، والتحوُّل والانتقال، فإمَّا أن يتحوَّل الإنسانُ من النِّعمة إلى المِحْنةِ أو العكس.
فأمَّا الأوَّلُ: فهو المراد بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يَئُوساً؛ لأنَّ الكافر يعتقدُ أنَّ السبب في حصول تلك النِّعمة سببٌ اتفاقي، ثُمَّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى، فلا جرم يسبعد تلك النعمة فيقع في اليأسِ.
وأمَّا المسلمُ، فيعتقد أنَّ تلك النِّعمة إنَّما حصلت من فضل الله وإحسانه، فلا ييأس، بل يقول لعلَّه يؤخِّرها إلى ما هو أحسن، وأكمل ممَّا كانت، وأمَّا الإنسان يكونُ كفوراً حال تلك النعمة، فإنَّ الكافر لمَّا اعتقد أنَّ حصولها كان على سبيل الاتفاق، أو أنَّهُ حصلها بجدِّه واجتهاده، فحينئذٍ لا يشتغل بشكرِ الله على تلك النِّعمة والمسلم يشكر الله تعالى.
والحاصلُ أنَّ الكافر يكون عند زوال النِّعمة يئوساً وعند حصولها كفوراً.
وأمَّا انتقال الإنسان من المحنة إلى النِّعمة، فالكافرُ يكون فرحاً فخوراً؛ لأنَّ منتهى طبع الكافر هو الفوزُ بهذه السَّعادات الدُّنيوية، وهو منكرٌ للسعادات الأخرويَّة.
قوله: «لفرحٌ» قرأ الجمهو بكسر الرَّاءِ، وهو قياسُ اسم الفاعل من «فَعِلَ» اللاَّزم بكسر العين نحو: أشِرَ فهو أشِرٌ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ، وقرئ شاذاً «لَفَرُحٌ» بضمِّ الرَّاء نحو: يَقِظٌ ويَقُظٌ، وندِس وندُس.
قوله: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل، إذا المرادُ به جنس الإنسان لا واحدٌ بعينه.
والثاني: أنَّهُ منقطعٌ، إذ المراد بالإنسان شخصٌ معينٌ، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحلِّ.
والثالث: أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله: {أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} وهو منقطعٌ أيضاً. والمعنى: أنَّ هؤلاء لا يكُونُون عند البلاء من الصَّابرين وعند الرَّاحةِ والخير من الشَّاكرين.
قال الفراء: هو استثناءٌ منقطع معناه: لكن الذين صبروا وعملوا الصَّالحات؛ فإنَّهم إن يأتهم شدة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا.(10/445)
ثم قال: {أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} يجوزُ أن يكون «مَغْفِرةٌ» مبتدأ، و «لهُم» الخبرُ، والجملة خبر «أولئكَ» ، ويجوز أن يكون «لَهُم» خبر «أولئكَ» و «مَغْفِرَةٌ» فاعلٌ بالاستقرار. فجمع لهم بين شيئين:
أحدهما: زوال العقاب بقوله: «لَهُم مَغْفرةٌ» والثاني: الفوز بالثَّواب بقوله «وأجْرٌ كبيرٌ» .
قوله: «فَلَعَلَّكَ» الأحسنُ أن تكون على بابها من التَّرجِّي بالنسبة إلى المخاطب.
وقيل: هي للاستفهام كقوله - صلوات الله وسلامه عليه - «لعلَّنا أعْجلنَاكَ» .
فإن قيل: «فَلعَلَّك» كلمة شك فما فائدتها؟ .
فالجوابُ: أنَّ المراد منها الزَّجرُ، والعرب تقول للرجلُ إذا أرادوا إبعاده عن أمر: لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنَّهُ لا شك فيه، ويقول لولده: لعلك تقصر فيما أمرتك، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك.
وقوله: «وضَائِقٌ» نسقٌ على «تَاركٌ» ، وعدل عن «ضيِّق» وإن كان أكثر من «ضائق» .
قال الزمخشريُّ: ليدُلَّ على أنَّهُ ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابتٍ، ومثله سيدِّ وجواد - تريد السِّيادة والجود الثَّابتين المستقرين - فإذا أردت الحدوث قلت: سائِدٌ وجائدٌ.
قال أبُو حيَّان: وليس هذا الحكمُ مختصّاص بهذه الألفاظ؛ بل كلُّ ما بني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول: حَاسِن وثَاقِل وسامِن في: «حَسُن وثقُلَ وسمُن» ؛ وأنشد قول الشاعر: [الطويل]
2946 - بمَنْزِلَةٍ أمَّا اللَّئِيمُ فسَامِنٌ ... بهَا وكرامُ النَّاسِ بادٍ شُحُوبُهَا
وقيل: إنَّما عدل عن «ضيِّق» إلى «ضَائِقٌ» ليناسب وزن «تَارِكٌ» .
والهاءُ في «به» تعود على «بعض» . وقيل: على «ما» . وقيل: على التَّكذيب و «صَدْرُكَ» مبتدأ مؤخَّرٌ، والجملةُ خبرٌ عن الكاف في «لعَلَّكَ» ؛ فيكون قد أخبر بخبرين:
أحدهما: مفرد، والثاني: جملة عطفت على مفردٍ، إذ هي بمعناه، فهو نظير: «إنَّ زيداً قائمٌ، وأبوه منطلقٌ» .
قوله: «أن يقُولُوا» في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في «أنَّ» بعد حذف حرف الجرِّ أو المضاف، تقديره: كراهة أو مخافة أن يقولوا، أو لئلاَّ يقولوا، أو بأن يقولوا.(10/446)
وقال أبو البقاء: لأن يقُولُوا أي: لأن قالوا، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب؟ .
و «لَوْلاَ» تحضيضيةٌ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول.
فصل
المعنى: فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك، فلا تبلغة إيَّاهم، وذلك أن كفار مكة قالوا: ائتِ بقرآن غير هذا، ليس فيه سب آلهتنا، فهمَّ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً؛ فأنزل الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} يعنى سب الآلهة: {وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي: ولعلَّ يضيق صدرك {أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يصدِّقه، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي.
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا: يا محمد: اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً، وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك، فقال: لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية.
وأجمع المسلمون على أنَّهث لا يجوزُ على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف، والأحكام، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها.
وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك. وذكروا فيها وجوهاً أخر، قيل: إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به، فكان يضيق صدر الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فأهله الله لأداء الرِّسالة، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة، وترك الالتفات إلى استهزائهم، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله، والرغض من ذكر هذا الكلام: التنبيهُ على هذه الدقيقة؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف.
فإن قيل: الكنز كيف ينزل؟
فالجواب: أنَّ المراد ما يكنز، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً، فقال القومُ: إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ(10/447)
عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ولا اعتراض لأحدٍ عليه.
ومعنى «وكيلٌ» : حفيظ أي: يحفظُ عليهم أعمالهم، حتى يجازيهم بها، ونظير هذه الآية، قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] إلى قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 93] .
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] .
لمَّا طلبوا منه المعجز قال: معجزتي هذا القرآن، فلمَّا حصل المعجز الواحد كان طلب الزِّيادة بغياً وجهلاً.
وفي «أمْ» هذه وجهان:
أحدهما: أنها منقطعةٌ فتقدَّر ب «بَلْ» والهمزة، فالتقدير: بل أتقولون افتراه. والضمير في «افتراهُ لما يوحى.
والثاني: أنَّها متصلة، فقدَّروها بمعنى: أيكفرون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنَّهُ ليس من عند الله؟
قوله» مِثْلِهِ «نعت ل» سُورٍ «و» مثل «وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث، كقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 74] ويجوز المطابقة. قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ} [الواقعة: 22، 23] وقال تعالى: {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] .
قال ابن الخطيب:» مِثلِهِ «بمعنى» مثاله «حملاً على كُلِّ واحدة من تلك السور، ولا يبعد أيضاً أن يكون المرادُ المجموع؛ لأنَّ مجموع السور العشرة شيء واحد. والهاء في» مِثْلِهِ «تعود لما يوحى أيضاً، و» مُفْترياتٍ «صفة ل» سُورٍ «جمع» مُفْتراة «ك» مُصْطفيَات «في» مُصْطَفاة «فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية.
فصل
قال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه السور التي وقع بها التَّحدي سور معينه، هي سورة البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس وهود، فقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} الإشارة إلى هذه السور وهذا فيه(10/448)
إشكال، لأنَّ هذه السُّورة مكية، وبعض السُّور المتقدمة مدنية، فكيف يمكنُ أن يكون المراد هذه العشر عند نزول هذا الكلام؟ فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور.
فإن قيل: قد قال في سورة يونس {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] وقد عجزوا عنهُ. فكيف قال {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ} فهو كرجل يقول لآخر: أعطني درهماً؛ فيعجز، فيقول: أعطني عشرة؟ .
فالجوابُ: قد قيل: نزلت سورة هودٍ أولاً، وأنكر المبردُ هذا وقال: بل سورة يونس أولاً، وقال: ومعنى قوله في سورة يونس: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] أي: مثله في الإخبار عن الغيب، والأحكام، والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هودٍ: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الإخبار، والأحكام، والوعد، والوعيد (فأتوا بعشر سور مثله) من غير وعْدٍ ووعيدٍ، وإنما هي مجرد بلاغة.
فصل
اختلفوا في الوجه الذي كان القرآن لأجله معجزاً، فقيل: هو الفصاحةُ وقيل: الأسلوب، وقيل: عدم التناقض، وقيل: اشتمالهُ على الإخبار عن الغيوبِ، والمختار عند الأكثرين أن القرآن معجز من جهة الفصاحة، واستدلُّوا بهذه الآية، لأنَّهُ لو كان إعجازه هو كثرة العلوم، أو الإخابر عن الغيوب، أو عدم التناقض لم يكن لقوله: «مفترياتٍ» معنى، أمَّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحَّ ذلك؛ لأنَّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام، سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً، ثم إنه لمَّا قرر وجه التحدِّي قال: {وادعوا مَنِ استطعتم} واستعينوا بمن استطعتم {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} يا أصحاب محمد، وقيل: لفظه جمع والمراد به الرسول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه وحده - والمرادُ بقوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} أي: الكفار، يحتمل أنَّ من يدعونه من دون الله لمْ يَسْتَجِيبُوا.
قوله: {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ} «ما» يجوز أن تكون كافة مهيئة، وفي «أنزِلَ» ضميرٌ يعودُ على {مَا يوحى إِلَيْكَ} [هود: 12] ، و «بعلْم» حال أي: ملتبساً بعلمه، ويجوز أن تكون موصولة اسمية أو حرفية اسماً ل «أنّ» والخبرُ الجارُّ تقديره: فاعلموا أن تنزيله، أو أن الذي أنزل ملتبسٌ بعلمٍ.
وقرأ زيد بن علي «نزَّل» بفتح النون والزاي المشددة، وفاعل «نزَّل» ضميرُ الله تعالى، و {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} نسقٌ على «أنَّ» قبلها، ولكن هذه مخففةٌ فاسمها محذوفٌ، وجملة النَّفي خبرها.(10/449)
فصل
إن قلنا هذا خطاب للمؤمنين، فالمعنى: ابقوا على العلم الذي أنتم عليه؛ لتزدادوا يقيناً وثبات قدمٍ، على أنه منزَّل من عند الله.
وقوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي: مخلصون، وقيل: فيه إضمار، أي: فقولوا أيُّها المسلمون للكفار: اعلموا أنَّما أنزل بعلم الله، يعني القرآن.
وقيل: أنزله، وفيه علمه، وإن قيل: إن هذا الخطاب مع الكفار، فالمعنى: إن الذين تدعونهم من دون الله، إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة، فاعلموا أيها الكفار؛ أن هذا القرآن، إنما أنزل بعلمه، فهل أنتم مسلمون، فقد وقعت الحجة عليكم، وأن لا إله إلا هو، فاعلموا أنَّهُ لا إله إلا هُو.
{فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} لفظهُ استفهام، ومعناه أمر، أي: أسلموا.
قال بعض المفسِّرين: وهذا القول أولى؛ لأن القول الأول يحتاج فيه إلى إضمار القول، وهذا لا يحتاج إلى إضمار، وأيضاً: فعود الضمير إلى أقرب مذكور أولى، وأيضاً: فالخطابُ الأول كان مع الكفار بقوله: {مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} ، وأيضاً فالأول أمر بالثبات.
فإن قيل: أين يعلَّق الشرط المذكور في هذه الآية، وأين ما فيها من الجزاء؟
فالجواب: أن القوم ادعوا كون القرآن مفترًى على الله تعالى، فقال: لو كان متفرًى على الله تعالى، لوجب أن يقدر الخلقُ على مثله، ولما لم يقدروا عليه، ثبت أنَّهُ من الله، فقوله (إنا أنزل بعلم الله) : كنايةٌ عن كون من عند الله، ومن قبله؛ كما يقول الحاكم: هذا الحكم جدير بعلمي.
فإن قيل: أي تعلُّق لقوله: {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} بعجزهم عن المعارضة؟ .
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه تعالى لمَّا أمر محمداً - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - بأن يطلب من الكفار ان يستعينوا بالأصنامِ في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنَّها لا تنفعُ ولا تضرُّ في شيءٍ من المطالب ألبتة، ومن كان كذلك، فقد بطلت إلهيته، فصار عجزُ القوم عن المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام، ودليلاً على إثبات نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم، فكان قوله: {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} إشارة إلى ظهور فسادِ إلاهيَّة الأصنام.
وثانيها: أنَّهُ ثبت في علم الأصول أنَّ القول بنفي الشَّريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباها بقول الرَّسُول - صلوات الله وسلام عليه - فكأنَّهُ قيل: لمَّا ثبت عجزُ الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً، وثبت كون قول محمد صدقاً في دعوى الرِّسالةِ.(10/450)
وإذا ثبت ذلك فأعلمهم يا محمد أن لا إله إلا هو، واتركُوا الإصرار على الكفر، واقبلوا الإسلام. ونظيره قوله تعالى - في سورة البقرة عند ذكر آية التحدِّي - {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] .(10/451)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} الآية.
قيل: إنَّها مختصةٌ بالكُفَّار لقوله: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 16] وهذا ليس إلاَّ للكفار، فيكون التقدير: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط، أي: تكون إرادته مقصورةٌ على حُبِّ الدنيا وزينتها، ومن طلب السعادات الأخرويَّة كان حكمه كذا وكذا.
واختلف القائلون بهذا القول فقال الأصم: المرادُ مُنْكِرُو البعث فإنَّهم ينكرون الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة.
وقال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المرادُ اليهود والنَّصارى.
وقال القاضي: المراد من كان يريدُ بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها.
وعمل الخير قسمان:
العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان كالبر، وصلة الرَّحمِ، والصَّدقة، وبناء القناطر، وتسوية الطرق، ودفع الشر، وإجراء الأنهار، فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافرُ لأجل الثناء في الدُّنيا، فإنَّ بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين، وهي من أعمال الخير، فقد تصدرُ من المسلم والكافر.
وأمَّا العباداتُ فإمَّا أن تكون طاعات بنيَّاتٍ مخصوصة، فإذا لمْ يؤتَ بتلك النِّية، وإنَّما أتى فاعلها بها طلباً لزينة الدنيا، وتحصيل الرِّياء والسمعةِ؛ فلا تكونُ طاعةً ووجودها كعدمها بل هو شر منها.
وعلى هذا فالمرادُ منه الطَّاعات التي يصحُّ صدورها من الكفار.
وقيل: الآية على ظاهرها في العموم؛ فيندرج فيه المؤمنُ الذي يأتِي بالطَّاعات رياءً وسمعةً ويندرج فيه الكافرُ الذي هذا صفته.(10/451)
ويشكلُ على هذا قوله في آخر الآية {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار} إلاَّ إذا قلنا: إنَّ المراد: أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار بسبب الأعمال الفاسدة، والأفعال الباطلة.
والقائلون بهذا القول أكَّدُوا قولهم بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «تعوَّذُوا بالله من جُبِّ الحُزْنِ» قيل: وما جُبُّ الحُزنِ؟ قال: «وادٍ في جَهَنَّمَ يُلْقَى فيه القُرَّاء المُراءُونَ» .
وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أشدُّ النَّاسِ عذاباً يوْمَ القيامةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ فيه خَيْراً ولا خَيْرَ فِيهِ» .
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إذا كَانَ يَوْمَ القيامةِ يُؤتى برجُلٍ جَمَعَ القرآنَ فيقالُ: ما عَمِلْتَ فيه؟ فيقولُ: يا رب قُمْتُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، والنَّهَارِ، فيقُول الله - تبارك وتعالى - كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقالَ: فلانٌ قارىءٌ، وقدْ قِيل ذلِكَ، ويُؤتى بصاحبِ المَالِ فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ ألَمْ أوسِّعْ عليكَ؟ فماذا عَمِلْتَ فيما آتَيْتُكَ؟ فيقُولُ: وصَلْتُ الرَّحِمَ وتصدَّقْتُ، فيقُولُ: كذَبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال فلانٌ جوادٌ، وقد قِيلَ ذلك، ويُؤتى بمن قُتِلَ في سبيل الله فيقول: قاتَلْتُ في سَبِيل اللهِ حتَّى قُتِلْتُ، فيقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال: فلانٌ فارسٌ» .
ثم ضربَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ركبتي وقال: «يا أبا هريرة أولئك الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْم القِيامَةِ» .
وقد روي أن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ذكر هذا الحديث عند معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. قال الراوي: فبكى حتَّى ظننا أنَّهُ هالك ثمَّ أفاق وقال: صدق الله ورسوله {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] .
فصل
نقل القرطبيُّ عن بعض العلماء:
أنَّ معنى هذه الآية: هو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّما الأعمالُ بالنِّياتِ» ، وهذا يدلُّ على من صام في رمضان لا عن رضمان لا يقعُ عن رمضان، وتدلُّ على أن من توضَّأ للتبرد والتنظف لا يقعُ عن جهة الصَّلاةِ، وكذلك كل من كان في معناه.(10/452)
قوله: «نُوَفِّ» .
الجمهور على «نُوفِّ» بنون العظمة وتشديد الفاء من «وفَّى يُوفِّي» .
وطلحة وميمون بياءِ الغيبةِ، وزيد بن علي كذلك، إلاَّ أنَّه خفَّف الفاء من «أوْفَى يُوفِي» ، والفاعلُ في هاتين القراءتين ضميرُ الله تعالى.
وقرئ «تُوفَّ» بضم التاء، وفتح الفاء مشددة من «وُفِّيَ يُوَفَّى» مبنياً للمفعول.
«أعْمَالهم» بالرَّلإع قائماً مقام الفاعل. وانجزم «نُوَفِّ» على هذه القراءاتِ لكونه جواباً للشَّرطِ، كما في قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] .
وزعم الفرَّاء أنَّ «كان» هذه زائدة، ولذلك جزم جوابه، ولعلَّ هذا لا يصحُّ، إذ لو كانت زائدة لكان «يُرِيدُ» هو الشَّرط، ولو كان الشَّرط، لانجزم، فكان يقال: «مَنْ كَان يُرِدْ» وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بفعل الشَّرط ماضياً، والجزاء مضارعاً إلاَّ مع «كان» خاصة، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا كذلك، وهذا ليس بصحيح لوروده في غير «كان» ؛ قال زهير: [الطويل]
2947 - ومَنْ هَابَ أسْبابَ المنَايَا يَنَلْنَهُ ... ولو رَامَ أسبابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ
وأمَّا القرآنُ فجاء من باب الاتفاق لذلك.
وقرأ الحسنُ «نُوفِي» بتخفيف الفاء وثبوتِ الياء من «أوْفَى» ، ثمَّ هذه القراءةُ محتملةٌ: لأن يكون الفعل مجزوماً، وقُدِّر جزمه بحذفِ الحركةِ المقدرة؛ كقوله: [الوافر]
2948 - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيادِ
على أنَّ ذلك يأتي في السَّعةِ نحو: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} [يوسف: 90] وسيأتي مُحَرَّراً في سورته، ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً لوقوع الشَّرط ماضياً؛ كقوله: [الطويل] .
2949 - وإنْ شُلَّ ريْعَانُ الجَميعِ مَخَافَةً ... نَقُولُ جِهَاراً: ويْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا(10/453)
وكقول زهير: [البسيط]
2950 - وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ
وهل يجوزُ الرفع؛ لأنه على نيَّة التقديم، وهو مذهب سيبويه، أو على نيَّة الفاءِ، كما هو مذهب المبرد؛ خلافٌ مشهورٌ.
ومعنى {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي: نُوفِّ إليهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعةِ الرزق ودفع المكاره وما أشبهها.
{وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} أي: في الدنيا لا ينقص حظهم.
«روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف ومجد وكرم وبجل وعظم قال:» إنَّ الله لا يَظْلِمُ المؤمنَ حَسَنَةً يُثاب عليْهَا الرزقَ في الدُّنيا، ويُجْزَى عليها فِي الآخِرةِ، وأمَّا الكَافِرُ فيُطْعَمُ بِحسنَاتِهِ في الدُّنْيَا حتَّى إذا أفْضَى إلى الآخرةِ لمْ تَكُنْ لهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بها خَيْراً «.
قوله تعالى: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} في الدنيا {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هذه الآية إشارة إلى التَّخليد في النَّار، والمؤمن لا يخلدُ، لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] .
قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} يجوز أن يتعلَّق» فِيهَا «ب» حَبِطَ «والضميرُ على هذا يعودُ على الآخرة، أي وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة، ويجوزُ أن يتعلَّق ب» صَنَعُوا «فالضَّميرُ يعودُ على الحياةِ الدُّنيا كما عاد عليها في قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] .
و» ما «في» مَا صَنَعُوا «يجوز أن تكون بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، أي: الذي صنعوه، وأن تكون مصدرية، أي: وحبط صنعهم.
قوله: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قرأ الجمهورُ برفع الباطل، وفيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن يكون» بَاطِلٌ «خبراً مقدماص، و» مَا كانُوا يَعْمَلُون «مبتدأ مؤخَّر، و» ما «تحتملُ أن تكون مصدرية، أي: وباطلٌ كونهم عاملين، وأن تكون بمعنى» الذي «والعائدُ محذوفٌ، أي: يعملونه، وهذا على أنَّ الكلام من عطف الجملِ، عطف هذه الجملة على ما قبلها.
الثاني: أن يكون» باطل «مبتدأ، و» مَا كانُوا يَعْمَلُون «خبرهُ، قال مكي، ولم يذكر غيره، وفيه نظر.(10/454)
الثالث: أن يكون» بَاطِلٌ «عطفاً على الأخبار قبله، أي: أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون و» ما كانُوا يَعْمَلُونَ «فاعلٌ ب» بَاطِلٌ «، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي» وبَطَلَ ما كانُوا يَعملُونَ «جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على» حَبطَ «.
وقرأ أبيّ وابن مسعود:» وبَاطلاً «.
قال مكيّ:» وهي في مصحفهما كذلك «.
ونقلها الزمخشري عن عاصم» وبَاطِلاً «نصباً، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّه منصوبٌ ب» يَعْمَلُون «و» ما «مزيدة، وإلى هذا ذهب مكي، وأبو البقاءِ وصاحب اللوامح، وفيه تقديمُ معمولِ خبر» كان «على» كان «وهي مسألةُ خلافٍ، والصحيحُ جوازها، كقوله تعالى
{أهؤلاء
إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] ، فالظاهرُ أنَّ «إيَّاكُمْ» منصوب ب «يَعْبُدُون» .
والثاني: أن تكون «ما» إبهامية، وتنتصب ب «يَعْمَلُون» ومعناه: «باطلاً أي باطلٍ كانُوا يَعْمَلُون» .
والثالث: أن يكون «بَاطِلاً» بمعنى المصدر على بطل بُطلاناً ما كانوا يعملون، ذكر هذين الوجهين الزمخشري، ومعنى قوله «ما» إبهامية أنها هنا صفةٌ للنَّكرة قبلها، ولذلك قدَّرها ب «باطلاً أيَّ باطلٍ» فهو كقوله: [المديد]
2951 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وحَديثٌ ما عَلَى قِصَرِهْ
و «لأمرٍ ما جدعَ قصيرٌ أنفهُ» ، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى: {مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} [البقرة: 26] .(10/455)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} الآية.
وتقدير تعلقهما بما قبلها: (أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها) .
وقوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ، تقديره: أفمن كان على هذه الأشياء كغيره، كذا قدَّرهُ أبو البقاءِ، وأحسن منه (أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها) وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة كثيرٌ نحو: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} [فاطر: 8] ، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] إلى غير ذلك، وهذا الاستفهام بمعنى التقرير.
الثاني: - وإليه نحا الزمخشري - أن هذا معطوفٌ على شيءٍ محذوفٍ قبله، تقديره: «أمن كان يريد الحياة الدنيا، وزينتها كمن كان على بينةٍ» ، أي: لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم.
يريد: أن بين الفريقين تفاوتاً، والمراد من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام، وهذا على قاعدته من تقديره معطوفاً بين همزة الاستفهام، وحرفِ العطفِ، وهو مبتدأ أيضاً، والخبر محذوفٌ كما تقدم تقريره.
قوله: «ويَتْلُوهُ» اختلفوا في هذه الضمائر، أعني في «يَتْلوهُ» ، وفي «مِنْهُ» ، وفي «قَبْلِهِ» : فقيل: الهاء في «يَتْلُوهُ» تعودُ على «مَنْ» ، والمراد به النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكذلك الضميران في «مِنْهُ» ، و «قَبلهِ» ، والمراد بالشَّاهد لسانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتقدير: ويتلو ذلك الذي على بيِّنةٍ، أي: ويتلو محمَّداً - أي: صِدْقَ محمدٍ - لسانه «ومِنْ قَبْلِهِ» أي: قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: الشَّاهدُ جبريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والضميرُ في «مِنْهُ» لله - تعالى -، وفي قبله للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: الشَّاهدُ الإنجيلُ، و «كِتابُ مُوسَى» - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عطف عى «شاهدٌ» ، والمعنى: أنَّ التوراة والإنجيل يتلُوان محمداً في التَّصديق، وقد فصل بين حرف العطف والمعطوف بقوله: «مِنْ قَبْلِهِ» ، والتقدير: شاهدٌ منهُ، وكتابُ موسى من قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصلِ بين حرفِ العطفِ، والمعطوفِ مُشْبَعاً في النِّساءِ [58] .
وقيل: الضميرُ في «يتْلوهُ» للقرآن، وفي «مِنْهُ» لمحمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه -.
وقيل: لجبريل، والتقدير: ويتلو القرآن شاهدٌ من محمدٍ، وهو لسانهُ، أو من جبريل والهاء في «مِنْ قبلِهِ» أيضاً للقرآن.
وقيل الهاءُ في «يَتْلُوهُ» تعودُ على البيانِ المدلولِ عليه بالبيِّنة.
وقيل: المرادُ بالشَّاهدِ إعجازُ القرآنِ، فالضَّمائر الثلاثة للقرآن. وقيل غير ذلك.(10/456)
وقرأ محمد بن السَّائب الكلبي «كِتابَ مُوسَى» بالنَّصْب وفيه وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ معطوفٌ على الهاءِ في «يَتْلوهُ» ، أي: يتلوه، ويتلو كتابَ مُوسَى، وفصل بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف.
والثاني: أنَّهُ منصوبٌ بإضمار فعلٍ. قال أبُو البقاء: «وقد تمَّ الكلامُ عند قوله» منهُ «و» كتابُ مُوسَى «، أي:» ويتلُو كتابَ مُوسَى «فقدَّر فعلاً مثل الملفُوظ به، وكأَنَّهُ لَمْ يَرَ الفصل بين العاطف والمعطوف، فلذلك قدَّر فعلاً» .
و «إماماً ورحمةً» منصوبان على الحالِ من «كِتابُ مُوسَى» سواءً أقرىء رفعاً أم نَصْباً.
و «أولئك» إشارةٌ إلى مَنْ كان على بيِّنة، جمع على معناها، وهذا إن أريد ب «مَنْ كَانَ» النبيُّ وصحابته - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه، ورضي عن صحابته أجمعين - وإن أريد هو وحدهُ فيجوزُ أن يكون عظَّمَهُ بإشارة الجمع كقوله: [الطويل]
2952 - فإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
والهاءُ في «بِهِ» يجوزُ أن تعود على «كِتَابُ مُوسَى» وهو أقربُ مذكورِ. وقيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكذلك الهاء في «بِهِ» الثانية.
و «الأحْزَابُ» الجماعةُ التي فيها غلظةٌ، كأنَّهم لكثرتهم وصفوا بذلك، وفيه وصفُ حمار الوحش ب «حَزَابِيَة» لغلظه. والأحزابُ جمع حِزب وهو جماعة النَّاس.
فصل
قيل: في الآية حذف، والتقدير: «أفمن كان على بيَّنةٍ من ربِّهِ كمن يريدُ الحياة الدنيا وزينتها» ، أو من كان على بيِّنةٍ من ربه كمن هو في الضَّلالةِ.
والمرادُ بالذي هو عليه بيِّنةٍ: النبي - صلوات الله وسلامه عليه -. {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي: يتبعه من يشهد له بصدقه.
واختلفوا في هذا الشَّاهد: فقال ابنُ عبَّاسٍ، وعلقمة، وإبراهيم، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك وأكثرُ المفسِّرين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: إنَّه جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقال الحسنُ وقتادةُ: هو لسانُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(10/457)
وروى ابنُ جريج عن مجاهدٍ قال: هو ملك يحفظه ويسدده.
وقال الحسينُ بن ُ الفضلِ: هو القرآن ونظمه.
وقيل: هو عليّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال علي: «مَا مِنْ رجُلٍ من قريش إلاَّ ونزلت فيه آية من القرآن» ، فقال له رجلٌ: «أي شيء نزل فيك» ؟ قال: «ويَتْلُوهُ شاهدٌ مِنْهُ» .
وقيل: هو الإنجيلُ. و «مِنْ قَبْلِهِ» أي: من قبل مجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: من قبل نزول القرآن. {كِتَابُ موسى} أي: كان كتاب موسى {إَمَاماً وَرَحْمَةً} لمن اتَّبعهُ، أي التَّوراة، وهي مصدقةٌ للقرآن، شاهدةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني: أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: أراد الذين أسْلَمُوا من أهل الكتاب.
{وَمَن يَكْفُرْ بِهِ} أي: بمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل بالقرآن «مِنَ الأحزابِ» من الكفَّار وأهْلِ المللِ، {فالنار مَوْعِدُهُ} اسمُ مكانِ وعده؛ قال حسَّانُ: [البسيط]
2953 - أوْرَدْتُمُوهَا حِيَاضَ المَوْتِ ضَاحِيَةً ... فالنَّارُ مَوْعِدُهَا والمَوْتُ سَاقِيهَا
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لا يسمعُ بي أحدٌ من هَذِهِ الأمَّة، ولا يَهُودِيّ ولا نَصْرانيّ، ومات ولَمْ يؤمنْ بالَّذِي أرْسِلْتُ به إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحابِ النَّارِ «.
{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} أي: شكٍّ، و» المِرْيَة «بكسر الميم وضمِّها الشكُّ، لغتان:
أشهرهما الكسرُ، وهي لغة أهْلِ الحجازِ، وبها قرأ الجمهور. والضَّمُّ لغةُ وتميم، وبها قرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السَّدُوسي.
والمعنى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي: من صحَّة هذا الدِّين، ومن كون هذا القرآن نازِلاً من عند الله - تعالى -.
وقيل: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} من أنَّ موعد الكفار النَّارُ.(10/458)
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} الآية.
أورده في معرض المبالغة دليلاً على أنَّ الافتراء على الله - تعالى - أعظمُ أنواع الظُّلْمِ.
{أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21] يعنى: القرآن،» أولَئِكَ «يعنى: الكاذبين والمكذبين.
{يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ} فيسألهم عن إيمانهم، وخصَّهم بهذا العرض، وإن كان العرضُ عاماً في كُلِّ العباد لقوله تعالى: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} [الكهف: 48] ؛ لأنهم يعرضون، فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم: {هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ} فليحقهم من الخزي والنَّكالِ ما لا مزيد عليه.
و» الأشهادُ «جمعُ شاهد، كصاحب وأصحاب، أو جَمْعُ شهيد كشريف وأشْراف.
والمرادُ ب» الأشهادِ «قال مجاهدٌ هم الملائكة الحفظة.
وقال قتادةُ، ومقاتلٌ:» الأشْهَادُ «النَّاس.
وقيل: الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -.
فإن قيل: إذا لمْ يجز أن يكون الله - تعالى - في مكان؛ فكيف قال {يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ} فالجوابُ: أنَّهُم يُعْرضُونَ على الأماكنِ المعدَّة للحساب، والسؤال، ويجُوزُ أن يعرضوا على من شاء الله من الخلقِ بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
ثُمَّ لمَّا أخبر عن حالهم في عقاب القيامة أخبر أنَّهُم في الحال ملعونون عند الله - عزَّ وجلَّ -.
روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» إنَّ الله - تعالى - يُدْنِي المُؤمنَ يَوْمَ القيامةِ فيسْتُرهُ مِنَ النَّاسِ، فيقُولُ: أي عَبْدِي أتعرفُ ذَنْبَ كذا وكذا؟ فيقول: نَعَمْ حتّى إذا قرَّرهُ بذُنُوبهِ، قال: فإنِّي سترتُها عليْكَ في الدنيا، وقد غفرتها لك اليوم ثُمَّ يُعْطَى كتابَ حسناتهِ، وأمَّا الكُفَّار والمُنافقُون، فيقُولُ الأشْهَادُ: هؤلاء الذين كذبُوا على ربِّهمْ ألا لَعْنَةُ الله على الظَّالمينَ «.
{الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} يمنعون عن دين الله {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي: إنَّهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر، والضَّلال، فقد أضافُوا إليه المنع من الدِّين الحق، وإلقاءِ(10/459)
الشُّبهِ وتعويج الدَّلائلِ المستقيمة؛ لأنه لا يقال في العاصي: يبغي عوجاً، وإنما يقالُ ذلك في العالم بكيفيه الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشُّبهاتِ.
ثم قال: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} .
قال الزَّجَّاجُ: «كرر كلمة» هُمْ «توكيداً لشأنهم في الكُفْرِ» .
{أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ} .
قال الواحديُّ: «معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد، يقال: أعجزني فلانٌ: أي: منعني من مرادي، ومعنى {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} أي: لا يمكنهم أن يهربُوا من عذابنا، فإنَّ هربَ العبدِ من عذابِ الله - تعالى - محالٌ؛ لأنَّه - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات» .
وقال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «سَابقين» .
وقال مقاتلٌ: «فائتين» .
{فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ} يعني أنْصَاراً يحفظونهم من عذابنا.
{يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} أي: يُزادُ في عذابهم. وقيل: تضعيف العذاب عليهم لإضلالهم الغير.
وقيل سبب تضعيف عذابهم أنَّهُم كفروا بالبَعْثِ والنشور.
قوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} يجوز في «ما» هذه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون نافيةً، نفى عنهم ذلك لمَّا لمْ يَنْتَفعُوا به، وإن كانُوا ذوي أسماع وأبصار، أو يكون متعلَّقُ السَّمْعِ والبصر شيئاً خاصاً.
والثاني: أن تكون مصدرية، وفيها حينئذٍ تأويلان:
أحدهما: أنَّها قائمةٌ مقام الظرف، أي: مُدة استطاعتهم، وتكونُ «مَا» منصوبة ب «يُضاعَفُ» ، أي: لا يضاعفُ لهم العذابُ مُدة استطاعتهم السَّمْعَ والأبصار.
والثاني: أنَّها منصوبة المحلِّ على إسقاطِ حرف الجر كما يحذف من «أنْ» و «أنّ» اختيها، وإليه ذهب الفرَّاءُ، وذلك الجَارُّ متعلقٌ أيضاً ب «يُضَاعَفُ» أي: يضاعفُ لهم بكونهم كانوا يسمعون، ويبصرون، ولا ينتفعون.
والثالث: أن تكون «ما» بمعنى «الَّذي» ، وتكون على حذف حرف الجر أيضاً، أي: بالذي كانوا، وفيه بعدٌ لأنَّ حذف الحرفِ لا يطَّرد.
والجملة من قوله: «يُضاعَفُ» مستأنفة.
وقيل: إنَّ الضمير في قوله «مَا كَانُوا» يعودُ على «أوْليَاء» وهم آلهتهم، أي: فما كان لهم في الحقيقةِ من أولياء، وإن كانُوا يعتقدون أنَّهم أولياء، فعلى هذا يكون {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} معترضاً.(10/460)
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أنه سبحانه وتعالى قد يخلقُ في المكلف ما يمنعه من الإيمان.
روي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّهُ قال: إنَّه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وفي الآخرة.
أمَّا في الدنيا ففي قوله {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} .
وأمَّا في الآخرة ففي قوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] .
ثم قال تعالى: {أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ} أي: أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام.
قوله: «لا جَرَمَ» في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين، ويتلخصُ ذلك في خمسة أوجهٍ:
أحدها - وهو مذهبُ الخليل وسيبويه وجماهير النَّاس - أنََهُما رُكِّبتا من «لا» النَّافية و «جَرَم» وبُنيتَا على تركيبها تركيب خمسة عشر، وصار معناهما معنى فعل وهو «حقَّ» فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعليَّة، فقوله - تعالى -: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] أي: حق وثبت كون النَّار لهم، أو استقرارها لهم.
الوجه الثاني: أنَّ «لا جَرَمَ» بمنزلة «لا رجُل» في كون «لا» نافية للجنس، و «جَرَمَ» اسمها مبنيٌّ معها على الفتح، وهي واسمها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وما بعدها خبر «لا» النافية، وصار معناها: لا محالة ولا بُدَّ، قاله الفرَّاءُ.
الثالث: - كالذي قبله - إلاَّ أنَّ «أنَّ» وما بعدها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الجار، إذ التقدير: لا محالةَ أنَّهُم في الآخرة، أي: في خسرانهم.
الرابع: أنَّ «لا» نافيةٌ لكلام متقدم تكلَّم به الكفرةُ، فردَّ الله ذلك عليهم بقوله: «لا» كما تُرَدُّ «لا» هذه قبل القسم في قوله - عزَّ وجلَّ - {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] وقد تقدَّم تحقيقه، ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي «جرم أنَّ لهُم كَذَا» ، و «جرم» فعل ماضٍ معناه «كسب» ، وفاعله مستتر يعودُ على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، و «أنَّ» وما في حيِّزها في موضع المفعول به، لأنَّ «جَرَمَ» يتعدَّى إذْ هو بمعنى «كَسَبَ» ؛ قال الشاعر: [الوافر](10/461)
2954 - نَصَبْنَا رَأْسَهُ فِي جِذْعِ نَخْلٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدَاهُ ومَا اعْتَدَيْنَا
أي: بما كسبتْ يداهُ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة [6] وجريمةُ القوم كاسبهم؛ قال: [الوافر]
2955 - جَرِيمةُ نَاهِضٍ فِي رَأسِ نيقٍ ... تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا
فتقدير الآية: كَسَبَهُم - فعلهم أو قولهم - خسرانهم، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، وعلى هذا فالوقفُ على قوله «لا» ثم يبتدأ ب «جَرَمَ» بخلاف ما تقدَّم.
الوجه الخامس: أن معناها لا صدَّ ولا منع، وتكون «جَرَمَ» بمعنى «القطع» تقول: جرمتُ أي: قطعت، فيكون «جَرَمَ» اسمَ «لا» مبنياً معها على الفتح؛ كما تقدَّم، وخبرها «أنَّ وما في حيِّزها، أو على حذف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم؛ فيعودُ الخلافُ المشهور وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ: فيقال: لا جِرمَ بكسر الجمي، ولا جُرم بضمها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جرم، ولا إنَّ ذا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أنْ جرم، ولا ذُو جرم، ولا ذا جر والله لا أفعل ذلك.
وعن أبي عمروٍ: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] على وزن لا كرم، يعني بضمِّ الراءِ، ولا جرَ، قال: «حذفُوه لكثرةِ الاستعمالِ كما قالوا:» سَو ترى «أي: سوف ترى» .
وقوله: {هُمُ الأخسرون} يجوز أن يكون «هُمُ» فصلاً، وأن يكون توكيداً، وأن يكون مبتدأ وما بعده خبره، والجملةُ خبر «أنَّ» .
قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ} لمَّا ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم، أتبعهُ بذكر أحوالِ المؤمنين، والموصولُ اسم «إنَّ» ، والجملةُ من قوله {أولئك أَصْحَابُ الجنة} خبرها.
والإخْبَاتُ: الاطمئنان والتذلُّل، والتَّواضع، والخضوع، وأصله من الخَبْتِ وهو المكانُ المطمئنُّ، أي المنخفضُ من الأرض، وأخْبَتَ الرَّجلُ: دخل في مكانٍ خبت، كأنْجَدَ وأتهم إذا دخل في أحذ هذين المكانين، ثُمَّ تُوُسِّعَ فيه فقيل: خَبَتَ ذكرهُ، أي: خَمَدَ، ويقال للشَّيءِ الدَّنيء الخبيث؛ قال الشاعر: [الخفيف]
2956 - يَنْفَعُ الطَّيِّبُ القليلُ مِنَ الرِّزْ ... قِ ولا ينفعُ الكثيرُ الخَبِيتُ(10/462)
هكذا ينشدون هذا البيت في هذه المادة، الزمخشري وغيره.
والظَّاهرُ أن يكون بالثَّاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطَّيِّب، ولكن الظَّاهر من عباراتهم أنَّه بالتاء المثناة لأنَّهُم يسوقونهُ في هذه المادةِ، ويدل على أنَّ معنى البيت إنما هو على الثَّاء المثلثة قول الزمخشري: «وقيل: التَّاءُ فيه بدل من الثَّاءِ» .
ومن مجيء «الخَبْت» بمعنى المكان المطمئن قوله: [الوافر]
2957 - أفَاطِمُ لَو شَهِدْتِ ببطْنِ خَبْتٍ ... وقَدْ قَتَلَ الهزَبْرُ أخَاكِ بِشْرَا
وفي تركيب البيت قلقٌ، وحلُّهُ: لو شهدتِ أخاك بشراً وقد قتل الهِزَبْرَ، ففاعل «قتل» ضمير يعودُ على «أخاك» .
و «أخْبَت» يتعدَّى ب «إلى» كهذه الآية، وباللاَّم كقوله تعالى: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54] ومعنى الآية:
قال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - خافُوا.
وقال قتادةُ: تابُوا وقال مجاهدٌ: اطمأنُّوا.
وقيل: خشعُوا إلى ربِّهم. {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .(10/463)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
لمَّا ذكر الفريقين ذكر لهما مثالاً مطابقاً.
{مَثَلُ الفريقين} مبتدأ، و {كالأعمى} خبره، ثُمَّ هذه الكاف يحتمل أن تكون هي نفس الخبر، فتقدَّر ب «مثل» ، تقديره: مثلُ الفريقين مثل الأعمى.
ويجوزُ أن تكون «مَثَلُ» بمعنى «صفة» ، ومعنى الكافِ معنى «مِثْل» ، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ، أي: كمثل الأعمى.
وقوله: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى} يجوزُ أن يكون من باب تشبيه شيئين بشيئين، فقابل العمى بالبصَرِ، والصَّمَم بالسَّمْع، وهو من الطِّباق، وأن يكون من تشبيه شيءٍ واحد(10/463)
بوصفيه بشيءٍ واحدٍ بوصفيه، وحينئذٍ يكون قوله: {كالأعمى والأصم} وقوله: {والبصير والسميع} من بابِ عطف الصفات؛ كقوله: [المتقارب]
2958 - إلى المَلكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ ... وليْثِ الكتيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وقد أحسن الزمخشريُّ في التَّعبير عن ذلك فقال: شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصيرِ والسَّميعِ، وهو من اللفِّ والطِّباق، وفيه معنيان: أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين، كما شبَّه امرؤُ القيس قلوبَ الطَّير بالحشفِ والعُنَّاب، وأن يُشَبِّه بالذي جمع بين العمى والصَّمم، والذي جمع بين البصرِ والسَّمعِ، على أن تكون الواو في «والأصَمِّ» وفي «والسَّمِيع» لعطف الصِّفةِ على الصفة كقوله: [السريع]
2959 - ... ... ... ... ... ... ... . . الصْ ... صَابحِ فالغَانِمِ فالآيِبِ
يريد بقوله: «اللَّف» أنه لفَّ المؤمنين، والكافرين اللَّذين هما مشبَّهان بقوله: «الفريقين» ولو فسَّرهما لقال: مثلُ الفريق المؤمن كالبصيرِ والسَّميع، ومثلُ الكافر كالأعمى والأصم، وهي عبارةٌ مشهورةٌ في علم البيان: لفظتان متقابلتان، اللَّفُّ والنشرُ، أشار لقول امرىء القيس: [الطويل]
2960 - كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْر رَطْباً ويَابِساً ... لَدَى وكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
أصلُ الكلامِ: كأنَّ الرَّطْبَ من قلوب الطَّيرِ: العُنَّابُ، واليابس منها: الحَشَفُ، فلفَّ ونشر، وللّف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كثير، ليس هذا موضعه.
وأشار بقوله: «الصَّابح فالغانم» إلى قوله: [السريع]
2961 - يَا وَيْحَ زيَّابةَ لِلْحَارثِ الصْ ... صَابِحِ فالغَانمِ فالآيِبِ
وقد تقدَّم ذلك في أول البقرة.
فإن قيل: لِمَ قدّضم تشبيه الكافر على المؤمن؟
فالجوابُ: لأنَّ المتقدِّمَ ذكر الكفَّار، فلذلك قدَّم تمثيلهم.
فإن قيل: ما الحكمةُ في العدول عن هذا التركيب لو قيل: كالأعمى والبصير، والأصم والسَّميع، لتتقابل كلُّ لفظةٍ مع ضدها، ويظهر بذلك التَّضادُّ؟ .
فالجوابُ: بأنَّه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعهُ بانسدادِ الأذن، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعهُ بانفتاح الأذن، وهذا التَّشبيهُ أحدُ الأقسام، وهو تشبيهُ أمْرٍ معقول بأمر(10/464)
محسوس، وذلك أنَّهُ شبَّه عمى البصيرة وصممها بعمى البصرِ وصمم السَّمع، ذاك متردِّدٌ في ظُلمِ الضَّلالات، كما أنَّ هذا مُتحير في الطُّرقاتِ.
قوله: مَثَلاً «تمييز، وهو منقولٌ من الفاعليَّة، والأصلُ: هل يستوي مثلهما، كقوله تعالى {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] وجوَّز ابنُ عطية أن يكون حالاً، وفيه بعدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنَّه على معنى» مِنْ «لا على معنى» في «.
ثم قال: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} مُنَبِّهاً على أنَّهُ يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصَّمَم، وإذا كان العلاجُ مُمْكناً، وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان.(10/465)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} الآية.
اعلم أنَّه جرت عادته - تعالى - في القرآن بأنَّهُ إذا أورد على الكافر الدَّلائل أتبعها بالقصص ليُؤكِّد تلك الدَّلائل، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة ليُؤكِّد تلك الدَّلائل، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة في سورة يونس، وأعادها ههنا لما فيها من زوائد الفوائد.
قوله {إِنَّي لَكُمْ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح همزة «إني» ، والباقون بكسرها.(10/465)
فأمَّا الفتحُ فعلى إضمارِ حرفِ الجرِّ، أي: «بأنِّي لَكُمْ» .
قال الفارسيُّ: في قراءةِ الفتح خروجٌ من الغيبةِ إلى المخاطبةِ.
قال ابن عطيَّة: وفي هذا نظر، وإنَّما هي حكايةُ مخاطبته لقومه، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبةٍ إلى مخاطبة، ولو كان الكلامُ أن أنذرهم ونحوه لصحَّ ذلك.
وقد قال بهذه المقالة - أعني الالتفات - مكي - فإنَّهُ قال: الأصل: بأنِّي، والجارُّ والمجرور في موضع المفعول الثاني، وكان الأصلُ: أنَّهُ، لكنَّهُ جاء على طريق الالفتات.
ولكن هذا الالتفات غيرُ الذي ذكره أبو علي، فإنَّ ذلك من غيبة إلى خطابٍ، وهذا من غيبةٍ إلى تكلم وكلاهما غير محتاج إليه، وإن كان قولُ مكي أقربَ.
وقال الزمخشري: الجارُّ والمجرور صلةٌ لحالٍ محذوفة، والمعنى: أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بالكسر، فلمَّا اتصل بها الجارُّ فُتِح كما فتح «كأنَّ» والمعنى على الكسر في قولك «إنَّ زيداً كالأسد» ، وأمَّا الكسرُ، فعلى إضمار القول، أي: فقال، وكثيراً ما يُضْمر، وهو غني عن الشَّواهد.
و «النذيرُ» قيل: المرادُ به كونه مهدداً للعصاة بالعقاب، ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب، وأنه يبين ذلك الإنذار على أكمل طرقه، ثم بيَّن تعالى أنَّ ذلك الإنذار إنما هو بنهيهم عن عبادة غير الله، والأمر بعبادته - جل ذكره -؛ لأنَّ قوله {أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} استثناء من النَّهْي، فهو يوجب نفي غير المستثنى، وإيجاب المستثنى.
قوله: {أَن لاَّ تعبدوا} كقوله: {أَن لاَّ تعبدوا} في أول السورة، ونزيد هنا شيئاً آخر، وهو أنَّها على قراءةِ من فتح «أني» تحتملُ وجهين:
أحدهما: أن تكون بدلاً من قوله: «أنِّي لَكُم» ، أي أرْسلناهُ بأن لا تَعْبُدُوا.
والثاني: أن تكون مفسِّرة، والمفسَّر بها: إمَّا «أرْسَلناهُ» وإما «نَذِيرٌ» .
وأمَّا على قراءة من كسر فيجوزُ أن تكون المصدرية وهي معمولةٌ ل «أرسلنا» ويجوزُ أن تكون المفسرة بحاليها.
قوله: «أليم» إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ مثله؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب، ونظيرها قولك نهارُكَ صائمٌ.
قال أبُو حيَّان: «وهذا على أن يكون» ألِيم «صفةُ مبالغةٍ من» ألِمَ «وهو من كثر ألمه، وإن كان» ألِيم «بمعنى:» مُؤلم «فنسبته لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة» .(10/466)
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بعث نوح بعد أربعين سنة، ولبث يَدعو قومه تسع مائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطُّوفانِ ستين سنة، فكان عمره ألفاً وخمسين سنة.
وقال مقاتلٌ: بعث وهو ابن مائة سنة.
وقيل: بعث وهو ابن خمسين سنة.
وقيل: ابن مائتين وخمسين سنة، ومكث يدعو قومه تسعمائة سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة، فكان عمره ألفاً وأربع مائة سنة.
قوله: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} .
«المَلأُ» هم الأشراف والرُّؤساء. «مَا نَراكَ» يجوزُ أن تكون هذه الرُّؤيا قلبيةً، وأن تكون بصريةً. فعلى الأول تكون الجملةُ من قولك: «اتَّبَعَكَ» في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً، وعلى الثَّاين في محل نصب على الحال، و «قَدْ» مقدرةٌ عند من يشترط ذلك.
و «الأراذِلُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ جمع الجمع.
والثاني: جَمْعٌ فقط.
والقائلون بالأول اختلفوا فقيل: جمع ل «أرْذُلٍِ» ، و «أرْذُل» جمع ل «رَذْلٍ» نحو: كَلْب وأكْلُب وأكالب.
وقيل: بل جمع ل «أرْذَال» ، و «أرْذَال» جمع ل «رَذْل» أيضاً.
والقائلون بأنه ليس جمع جمع، بل جمعٌ فقط قالوا: هو جمعٌ ل «أرْذل» ، وإنَّما جاز أن يكون جَمْعاً لأرذل لجريانه مَجْرَى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفه كالأبْطَح والأبرق.
وقال بعضهم: هو جمع «أرْذَل» الذي للتفضيل، وجاء جمعاً كما جاء {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123] و «أحاسنكم أخلاقاً» .
ويقال: رجل رَذْل ورُذَال، ك «رَخْل» و «رُخَال» وهو المرغوبُ عنه لِردَاءتِهِ.
قال الواحديُّ: هُمُ الدُّونُ من كُلِّ شيءٍ في منظره وحالاته. والأصلُ فيه أن يقال هو أرْذَلُ من كذا فكثُرَ حتى قالوا: هو الأرْذَلُ، فصارت الألف واللاَّم عوضاً عن الإضافة.
قوله: «بَادِيَ الرَّأي» قرأ أبو عمرو وعيسى الثَّقفيُّ «بَادِىءَ» بالهمز، والباقون بياءٍ(10/467)
صريحة مكان الهمزة. فأما الهمزُ فمعناه: أول الرَّأي، أي: أنَّه صادرٌ عن غير رويَّةٍ وتأمُّل، بل من أولِ وهلةٍ. وأمَّا مَنْ لَمْ يهمز؛ فيحتمل أن يكون أصلُه كما تقدَّم، ويحتملُ أن يكون من بدا يبدُو أي ظَهَر، والمعنى: ظاهر الرَّأي دون باطنه، أيك لوْ تُؤمِّل لعُرِفَ باطنه، وهو في المعنى كالأولِ.
وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه:
أحدها: «نَرَاكَ» ، أي: وما نَراكَ في أول رأينا، على قراءة أبي عمرو، أو فيما يظْهَر لنا من الرأي في قراءة الباقين.
والثاني - من الأوجه الثلاثة -: أن يكون منصوباً ب «اتَّبَعَكَ» ، أي: ما نَرَاكَ اتَّبعَكَ أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم، وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم، وبواطنهم ليست معك.
والثاني: أنَّهُم اتَّبعُوكَ بأول نظرٍ، وبالرَّأي البَادِي دُونَ تَثَبُّت، ولو تثبتُوا لما اتَّبَعُوك.
الثالث - من الأوجه الثلاثة - أنَّ العامل فيه «أرَاذِلُنَا» والمعنى: أراذِلُنَا بأولِ نظرٍ منهم أو بظاهر الرَّأي نعلم ذلك، أي: إنَّ رزالتهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحاب حرفٍ دنيَّة.
والرَّأي على هذا من رأي العين لا من رأي القلب، ويتأكَّدُ هذا بما نُقل عن مجاهد أنَّهُ قرأ «إلاَّ الذينَ هُمْ أرَاذِلُنَا بادِيَ رَأي العَيْنِ» .
ثم القائل بكون «بَادِيَ» ظرفاً يحتاج إلى اعتذار، فإنَّهُ اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصلِ، قال مكيّ: وإنَّما جاز أن يكون فاعل ظرفاً كما جاز ذلك في «فَعِيل» نحو: قَرِيب ومليء، و «فاعل وفعيل» متعاقبان ك: رَاحِم ورَحِيم، وعَالِم وعَلِيم، وحسُن ذلك في «فَاعِل» لإضافته إلى الرأي، والرأي يضاف إليه المصدر، وينتصبُ المصدرُ معه على الظَّرْفِ نحو: «أمَّا جَهْدُ رأي فإنَّك منطلقٌ» أي: «في جَهْد» .
قال الزمخشريُّ: وانتصابه على الظَّرف، أصله: وقْتَ حُدُوثِ أوَّلِ أمرهم، أو وقتَ حدوثِ ظاهرِ رأيهم، فحذفَ ذلك وأقم المضافُ إليه مقامه.
الوجه الثاني - من السَّبعة -: أن لا ينتصب على المفعول به، حذف معه حرفُ الجر مثل: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] .
وفيه نظرٌ من حيث إنَّه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدِّي إلى اثنين، إلى ثانيهما بإسقاط الخافضِ.(10/468)
الثالث من السَّبعة: أن ينتصب على المصدر ومجيء المصدر على فاعل أيضاً ليس بالقياس، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظَّرف كما تقدَّم، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه، تقديره: رُؤية بدءٍ: أو ظهور، أو اتباع بدءٍ أو ظهور، أو رذالة بدءٍ.
الرابع من السبعة: أن يكون نعتاً ل «بَشَر» ، أي: ما نَراكَ إلاَّ بشراً مثلنا بادِيَ الرأي، أي: ظاهرهُ، أو مبتدئاً فيه. وفيه بعدٌ للفصل بين النَّعْتِ والمَنْعُوتِ بالجملة المعطوفة.
الخامس: أنَّهُ حالٌ من مفعول «اتَّبَعَكَ» ، أي: وأنت مكشوفُ الرَّأي ظاهرهُ لا قُوةَ فيه، ولا حصانة لك.
السادس: أنه منادى والمراد به نوحٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، كأنَّهُم قالوا: يا بَادِي الرَّأي، أي: ما في نفسك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به، والاستقلال له.
السابع: أنَّ العامل فيه مضمر، تقديره: أتقُولُ ذلك بادي الرَّأي، ذكره أبُو البقاءِ، والأصلُ عدم الإضمار مع الاستغناء عنه، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويلٍ، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنَّهُ ظرفٌ أو مصدرٌ. واعلم أنَّك إذا نصبت «بَادِيَ» على الظرف أو المصدر بما قبل «إلاَّ» احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال، نصبت «بَادِيَ» على الظرف أوالمصدر بما قبل «إلاَّ» احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال، وهو أنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يكون معمولاً لما قبلها، إلاَّ إن كان مستثنى منه نحو: مَا قَامَ إلاَّ زيداً القومُ، أو مستثنى نحو: قَامَ القومُ إلاَّ زيداً، أو تابعاً للمستثنى منه نحو: ما جاءني أحَدٌ إلاَّ زيدٌ أخيرُ من عمرو و «بَادِي الرَّأي» ليس شيئاً من ذلك.
قال مكي: لو قلت في الكلام: ما أعْطَيْت أحَداً إلا زَيْداً درهماً؛ فأوقعت اسمين مفعولين بعد «إلاَّ» لم يَجُزْ؛ لأنَّ الفعل لا يصلُ ب «إلاَّ» إلى مفعولين، إنَّما يصل إلى اسم واحدٍ كسائر الحروفِ، ألا ترى أنَّك لو قلت: مررتُ بزيدٍ عمرو فأوصلت الفعل إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجز، ولذلك لو قلت: استوى الماءُ والخشبة الحائط فتنصب اسمين بواو «مع» لمْ يَجُزْ إلاَّ أن تأتيَ في جميع ذلك بواو العطف، فيجوز وصولُ الفعل.
والجوابُ الذي ذكرهُ هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرها، وهذا جماعُ القولِ في هذه المسألة باختصارٍ.
والرَّأيُ: يجوزُ أن يكون من رُؤية العيْنِ أو من الفكرة والتَّأمُّل.
فصل
اعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حكى عن قوم نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شُبُهَاتٍ:
الأولى: أنَّهُم قالوا: إنَّه بشرٌ مثلهم، وأنَّ التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم وجب الطَّاعة لجميع العاملين.
الثانية: كونه ما اتبعه إلاَّ الأراذل من القوم كالحياكةِ، وأصحاب الصنائع الخسيسة؛(10/469)
فلو كنت صادقاً لاتبعك الأشراف والرؤساء، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] .
الثالثة: قولهم: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} لا في العَقْلِ ولا في رعايةِ المصالحِ العاجلة ولا في قوَّةِ الجدلِ فإذا لم نشاهد فضلك في شيءٍ من هذه الأحوال الظاهرة؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات.
واعلم أنَّ الشُّبْهَة الأولى لا تليقُ إلاَّ بالبراهمةِ الذين ينكرون نبوَّة البشر على الإطلاقِ، وتقدَّم الكلامُ على «الملأ» وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [66] .
واعلم أنَّه لو بُعِثَ إلى البشر ملكاً رسولاً لكانت الشبهةُ أقوى في الطَّعْنِ عليه في رسالته؛ لأنَّهُ يخطر بالبال أنَّ هذه المعجزة التي ظهرت على يدِ هذا الملك أتى بها من عند نفسه؛ لأنَّ قوَّتهُ أكمل؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسُولاً إلاَّ من البشر.
وأمَّا قولهم {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} فهذا أيضاً جهلٌ؛ لأنَّ الرِّفعة في الدِّين لا تكون بالحسبِ ولا بالمالِ، ولا بالمناصب العاليةِ، بل الفقر أهونُ على الدِّين من الغنى، والأنبياء ما بعثُوا إلا لترْكِ الدُّنيا والإقبالِ على الآخرةِ، فكيف يجعل الفقرُ في الدُّنيا طَعْناً في النبوةِ والرسالة.
وأمَّا قولهم: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} فهو أيضاً جهلٌ؛ لأنَّ الفضيلة المعتبرة عند الله - تعالى - ليست إلاَّ بالعلم والعمل، فكيف اطَّلَعُوا على بواطن الخَلْق حتَّى عرفوا نفي هذه الفضيلة.
ثم قال لنُوح وأتباعه {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} وهذا خطاب مع نوحٍ وقومه، والمرادُ منه تكذيب نوح في دَعْوَى الرِّسالة.
وقيل: خطاب مع الأرَاذِلِ، أي كذَّبُوهم في إيمانهم.
قوله تعالى: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} .
وهذا جوابٌ عن شبهتهم الأولى، والمعنى: أنَّ حصول المساواةِ في البشريَّةِ لا يمنع من حصولِ المفارقةِ في صفةِ النبوة والرسالةِ، وذكر الطَّريق الدَّال على إمكانه، وهو كونهُ على بيِّنةٍ من معرفةِ الله وصفاته - سبحانه - وما يجبُ وما يمتنعُ وما يجوزُ {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} وهي إمَّا النبوة، وإمَّا المعجزة الدَّالة على النبوَّة {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي: صارت مظنة خفيت، والتبست عليكم.
قوله: «مِّن ربي» نعتٌ ل «بَيِّنَة» ، أي: بَيِّنَةٌ من بيِّنات ربِّي.
قوله: «رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ» يجُوزُ في الجارِّ أيضاً أن يكون نعتاً ل «رَحْمَةً» وأن يكون متعلقاً ب «آتَانِي» .(10/470)
قوله: «فَعُمِّيَتْ» قرأ الأخوان وحفص بضمِّ العين وتشديد الميم، والباقون بالفتح، والتخفيف. فأمَّا القراءة الأولى فأصلها: عماهَا اللهُ عليكم، أي: أبْهمها عقوبة لكم، ثُمَّ بُنِيَ الفعل لما لَمْ يُسَمَّ فاعله، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرَّحْمَة مقامه ويدل على ذلك قراءةُ أبَيّ بهذا الأصل «فَعمَاهَا اللهُ عَليْكُم» .
ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلمي «فَعَمَاهَا» من غير ذكرِ فاعلٍ لفظي.
وروي عن الأعمش وابن وثاب «وعُمِّيَتْ» بالواو دون الفاء.
وأمَّا القراءة الثانية فإنَّه أسْنَدَ الفعل إليها مجازاً.
قال الزمخشريُّ: فإذا قلتَ ما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جُعِلتْ بصيرةً ومُبْصرة، قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل: 13] جعلت عمياء، قال تعالى: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} الآية؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتَدي ولا يَهْدِي غيرهُ، فمعنى فَعَمِيتْ عليكم البيِّنةُ: فَلمْ تَهْدِكُم كما لو عَمِيَ على القوم دليلهم في المفازَةِ بَقُوا بِغَيْر هادٍ.
وقيل: هذا من باب القلبِ، وأصلها فعَميتم أنتم عنها كما تقول: أدخلتُ القلنسوة في رَأسِي، وأدخلت الخاتم في إصبعي، وهو كثيرٌ، وقد تقدَّم الخلافُ فيه، وأنشدوا على ذلك: [الطويل]
2962 - تَرَى النَّوْرَ فيها مُدْخلَ الظِّلِّ رَأسَه..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
قال أبُو علي: وهذا ممَّا يُقْلَبُ، إذ ليس فيه إشكال، وفي القرآن {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] .
وبعضهم يخرِّجُ البيت على الاتِّساع في الظَّرْفِ.
وأمَّا الآيةُ ف «أخْلَفَ» يتعدَّى لاثنين، فأنت بالخيار: أن تُضيفَ إلى أيِّهما شئتَ فليس من باب القَلْبِ.
وقد ردَّ بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب «عَنْ» دُونَ «عَلَى» ، ألا ترى أنك تقولك «عَمِيتُ عن كذَا» لا «عَلَى كَذَا» .(10/471)
واختلف في الضَّمير في «عُمِّيَتْ» هل هو عائدٌ على «البَيِّنة» ، أو على «الرَّحْمَة» ، أو عليهما معاً؟ .
وجاز ذلك - وإن كان بلفظ الإفراد - لأنَّ المراد بهما شيءٌ واحد، وإذا قيل بأنه عائدٌ على «البيِّنة» فيكون قوله {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} جملة معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّهُ، {على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ} .
قال الزمخشريُّ: وآتَانِي رحْمَةً بإتيان البيِّنة، على أنَّ البيِّنة في نفسها هي الرَّحمة، ويجوزُ أن يُرَادَ بالبيِّنةِ المعجزة، وبالرَّحمة النبوَّة.
فإن قلت: فقوله «فعُمِّيَتْ» ظاهر على الوجهِ الأوَّلِ فما وجهه على الوجه الثاني، وحقُّه أن يقال: فَعَمِيتَا؟ قلت: الوجهُ أن يُقدَّرَ: فعُمِّيَتْ بعد البيِّنة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة. انتهى وقد تقدَّم الكلامُ على «أرأيْتُمْ» هذه في الأنعام، وتلخيصهُ هنا أنَّ «أرأيتُم» يطلب «البيِّنة» منصوبةً وفعل الشَّرط يطلبها مجرورةً ب «عَلَى» فأعمل الثَّاني وأضمر في الأول، والتقدير: أرأيْتُم البيِّنة من ربِّي إن كنتُ عليها أنلزِمُكمُوهَا، فحذف المفعولُ الأوَّل، والجملةُ الاستفهاميَّة هي في محلِّ الثاني، وجواب الشرط محذوفٌ للدَّلالةِ عليه.
قوله: «أنُلْزمُكُمُوهَا» أتى هنا بالضَّميرين متصلين، وتقدَّم ضميرُ الخطاب؛ لأنَّهُ أخص، ولو جِيءَ بالغائب أولاً لانفصل الضَّميرُ وجوباً. وقد أجاز بعضهم الاتِّصال واستشهد بقول عثمان «أراهُمُني الباطل شَيْطَاناً» .
وقال الزمخشريُّ: يجوزُ أن يكون الثاني منفصلاً كقوله: «أنُلْزِمكم إيَّاهَا» ونحوه {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] ويجوز «فَسَيكفيك إيَّاهُمْ» ، وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضهم منعهُ.
وإشباعُ الميم في مثل التركيب واجبٌ، ويضعف سكونها، وعليه «أرَاهُمْني البَاطِل» .
وقال أبُو البقاءِ: وقرىء بإسكان الميم فراراً من توالي الحركات فقوله هذ يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع؛ لأنَّه قد ذكر ذلك بعدما قال: «ودخلتِ الواوُ هُنَا تتمَّةٌ للميم، وهو الأصلُ في ميم الجمع، وقرىء بإسكان الميم» انتهى.
وهذا إن ثبت قراءةً فهو مذهبٌ ليونس: يُجوَّزُ الدِّرهمَ أعطيتكه، وغيره يأباه.(10/472)
ويحتملُ أن يريد سكون ميم الفعل، ويدلُّ عليه ما قال الزجاج.
أجمع النَّحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإعراب إلاَّ في ضرورة الشعر، فأمَّا ما رُوي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركة ويختلسُها، وهذا هو الحقُّ وإنما يجُوزُ الإسكانُ في الشعر نحو قول امرىء القيس: [السريع]
2963 - فاليَوْمَ أشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وكذا قال الزمخشري أيضاً.
وحكى عن أبي عمرو إسكانُ الميم، ووجهه أنَّ الحركة لم تكن إلاَّ خلسةً خفيفةً، فظنَّها الرَّاوي سُكُوناً، والإسكانُ الصَّريحُ لحنٌ عند الخليل، وسيبويه، وحُذَّاقِ البصرييين؛ لأنَّ الحركة الإعرابية لا يُسَوَّغ طرحها إلاَّ في ضرورة الشِّعْرِ.
قال شهابُ الدِّين: وقد حكى الكسائيُّ والفرَّاءُ: «أنُلُزِمْكُمُوهَا» بسكون هذه الميم، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة البقرة [54] ، أعني تسكين حركةِ الإعرابِ فكيف تجعلونه لحْناً؟ .
و «ألزم» يتعدَّى لاثنين، أولهما ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة.
و {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} جملة حالية، يجوز أن تكون للفاعل، أو لأحدِ المفعولين.
وقدَّم الجارَّ لأجْل الفواصل، وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالفةٌ للسَّواد أضْرَبْتُ عنها لذلك.
والمعنى: «أنلزمكم البينة، وأنتم لها كَارهُون لا تُريدُونهَا» . قال قتادةُ: «لو قدر الأنبياء أن يُلزموا قومهُم لألزموا، ولكن لم يقدروا» .
قوله تعالى: {وياقوم لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} .
الضَّمير في «عَلَيْهِ» يجوزُ أن يعود على الإنذار والمفهوم من «نَذِيرٌ» ، وأن يعودَ على الدِّين الذي هو الملَّة، وأن يعود على التَّبليغ.
وهذا جوابٌ على الشُّبهةِ الثانية، وهي قولهم: اتَّبَعَك الأرَاذل، فقال: أنا لا أطلبُ على تبليغِ الرِّسالةِ مالاً حتَّى يتفاوت الحالُ بسبب كون المستجيب فقيراً، أو غنياً، وإنما أجري علَى هذه الطاعة على رب العالمين، وإذا كان كذلك فسواء كان غنياً أو فقيراً، لم يتفاوت الحال في ذلك.
ويحتمل أنَّه قال لهم: إنكم لمَّا نظرتم إلى هذه الأمور وجدتُمُوني فقيراً، وظننتم أنِّي إنما أتيت بهذه الأمور لأتوسَّل بها إلى أخذ أموالكم، وهذا الظَّن منكم خطأ، وإنِّي لا(10/473)
أسألكم على تبليغ الرسالة أجْراً، {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 109] .
قوله: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين} قرىء «بطَاردٍ الذينَ» بتنوين «طارد» .
قال الزمخشري: على الأصل يعنى أنَّ أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ وهو ظاهرُ قول سيبويه.
قال أبُو حيَّان: يُمكن أن يقال: ألأصل الإضافةُ لا العَمَلُ، لأنَّهُ قد اعتورهُ شَبَهَان:
أحدهما: الشبه بالمضارع وهو شبهٌ بغير جنسه.
والآخر: شبههُ بالأسماءِ إذا كانت فيه الإضافةُ؛ فكان إلحاقه بجنسه أولى.
وقوله: {إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} استئنافٌ يفيدُ التَّعليل، وقوله: «تَجْهَلُون» صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفته لا يفيدُ، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التَّجدُّد كلَّ وقتٍ.
فصل
قوله: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا} كالدَّليل على أنَّ القوم سألوه لئلاَّ يشاركوا الفقراءَ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ومَا أنَا بطارِدِ الذين آمنُوا» ، وأيضاً قولهم {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} كالدَّليل على أنَّهم طلبوا منه طردهم؛ فكأنَّهم يقولون لو اتَّبَعَك الأشراف لوافقناهم.
ثمَّ ذكر ما يوجب الامتناع من طردهم، وهو أنَّهم ملاقُو ربِّهم، وهذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً:
منها: أنَّهُم قالوا إنَّهم منافقون فيما أظهروا فلا تغترَّ بهم؛ فأجاب بأنَّ هذا الأمر ينكشفُ عند لقاءِ ربِّهم في الآخرة.
ومنها: أنَّهُ جعله علَّة في الامتناع من الطَّرْدِ، وأراد أنهم ملاقو ربِّهم ما وعدهم، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة.
ومنها: أنَّهُ نَبَّه بذلك على أنَّا نجتمع في الآخرة؛ فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني.
ثم بيَّن أنَّهم يَبْنُون أمرهُم على الجَهْلِ بالعواقب والاغترارِ بالظَّواهرِ فقال: {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} .
ثم قال: {وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ} [هود: 30] من يمنعني من عذاب الله {إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} تتَّعِظُونَ.(10/474)
والمعنى: على أنَّ العقل والشرع تطابقا على تعظيم المؤمن التَّقي، وإهانةِ الفَاجرِ، فلو عظَّمْتُ الكافر وطردتُ المؤمن وأهنتهُ كنت على ضِدّ دين الله؛ فأسْتوْجبُ حينئذٍ العقابَ العظيمَ، فمن الذي ينصُرُني من الله، ومن الذي يُخَلِّصُني من عذابِ الله.
واحتجَّ قوم بهذه الآية على صُدُورِ الذَّنب من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقالوا دلَّت الآيةُ على أنَّ طردَ المؤمنين لطلب مرضاة الكفار معصية، ثم إن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله - عزَّ وجلَّ - في قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} [الأنعام: 52] .
زالجوابُ: يحمل الطَّرد المذكور في هذه الآية على الطَّرد المطلق المؤبَّدِ، والطَّرد المذكور في واقعة محمدٍ - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - على المُقيَّدِ في أوقاتٍ معينةٍ رعاية للمصلحة.
ثُمَّ أكَّدَ هذا البيان فقال: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} فآتي منها ما تطلبون، {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} فأخبركم بما تُريدُونَ.
وقيل: إنَّهم لمَّا قالوا لنوح: إنَّ الذين آمنُوا بك إنَّما اتَّبَعُوكَ في ظاهر ما ترى منهم، فأجابهم نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال: لا أقول لكم: عِنْدِي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم، {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} هذا جواب لقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} [هود: 27] وقيل معناه: لا أقولُ إنِّي ملكٌ حتَّى أتعظَّمَ بذلك عليكم، بل طريقي الخضوع والتَّواضع، ومن كان طريقه كذلك فإنَّهُ لا يستنكفُ عن مخالطةِ الفقراءِ والمساكين.
واحتجَّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكةِ على الأنبياء قالوا: لأنَّ الإنسان إذا قال: لا أدَّعي كذا وكذا، إنما يحسنُ إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل. ثم أكَّدَ هذا البيان بطريق آخر فقال: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً} وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم، ويحتقرونهم، فقال: لا أقولُ للذين يحتقرونهم: لن يؤتيهم الله خَيْراً، أي: توفيقاً وإيماناً وأجراً {الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} لأنَّ ذلك من باب الغَيْبِ لا يعلمه إلا الله، فربَّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير مُلكٍ في الآخرة؛ فأكون كاذباً فيما أخبرتُ به، فإن فعلتُ ذلك كنتُ من الظَّالمينَ لنفسي.
وقوله: {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة لا محلَّ لها عطفاً على قوله: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ} كأنَّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث. وقد تقدَّم في الأنعام أنَّ هذا هو المختار، وأنَّ الزمخشري قال: «إنَّ قوله تعالى: {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} معطوفٌ على {عِندِي خَزَآئِنُ الله} أي: لا أقول: عندي خزائنُ الله، ولا أقولُ: أنَا أعلمُ الغَيْبَ» .
قوله: «تَزْدَرِي» تفتعل من زَرَى يَزْرِي، أي: حَقَرَ، فأبدلت تاءُ الافتعال دَالاً بعد(10/475)
الزَّاي وهو مطرد، ويقالك «زَرَيْتُ عَليْهِ» إذا عبته، و «أزْرَيْتُ بِهِ» أي: قصَّرت به. وعائدُ الموصول محذوفٌ، أي تَزْدَرِيهم أعينكم، أي: تحتقرهم وتُقَصِّر بهم؛ قال الشاعر: [الوافر]
2964 - تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتزْدَرِيهِ ... وفِي أثْوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ
وقال الشارع أيضاً: [الوافر]
2965 - يُبَاعدهُ وتزْدَريهِ ... حَليلتُهُ وينْهَرهُ الصَّغِير
واللاَّمُ في «للَّذينَ» للتَّعليل، أي: لأجْلِ الذين، ولا يجُوزُ أن تكون التي للتَّبليغ إذ لو كانت لكان القياس «لن يُؤتيكُم» بالخطاب.
قوله تعالى: {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} .
قرأ ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «جَدَلنا» كقوله: {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] .
ونقل أبو البقاء أنه قرىء «جَدَلْتنا فأكْثَرْتَ جدلنا» بغير ألفٍ فيهما، وقال: «هو بمعنى غلبتنا بالجَدلِ» .
وقوله: «بِمَا تَعِدُنَا» يجوزُ أن يكون «ما» بمعنى «الذي» ، فالعائدُ محذوفٌ، أي: تَعدناه.
ويجوزُ أن تكون مصدرية، أي: بوعدك إيَّانا.
وقوله: «إن كنت» جوابه محذوفٌ أو متقدِّمق وهو «فَأتِنَا» .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدالُ كان في بيان التَّوحيد، والنبوة، والمعاد، وهذا يدلُّ على أنَّ المجادلة في تقرير الدَّلائل وفي إزالةِ الشُّبُهاتِ حرفةُ الأنبياءِ، وأنَّ التقليدَ والجَهْلَ والإصرار حرفةُ الكفَّار، ودلَّت على أنَّهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به، فقالوا: {فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} ثُمَّ إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أجابهم بقوله:
{إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ} [هود: 33] أي: أنَّ إنزال العذاب ليس إليَّ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء، وإذا أراد إنزال العذاب فإنَّ أحداً لا يعجزه، أي: لا يمنعه.(10/476)
ثم قال: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي} إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، أي: يضلكم، قوله: {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ} قد تقدَّم حكم توالي الشرطين، وأن ثانيهما قيد في الأوَّل، وأنه لا بد من سبقه للأوَّل، وقال الزمخشريُّ هنا: «إنْ كانَ اللهُ» جزاؤه ما دل عليه قوله: «لا يَنْفعُكم نُصْحِي» .
وهذا الدليل في حكم ما دلَّ عليه؛ فوصل بشرطٍ، كما وصل الجزاء بالشَّرط في قوله: «إنْ أحْسَنْتَ إليَّ أحْسَنْتُ إنْ أمكنني» .
وقال أبو البقاء: حكمُ الشَّرطِ إذا دخل على الشَّرْطِ أن يكون الشَّرطُ الثَّاني والجواب جواباً للشَّرط الأول نحو: «إنْ أتَيْتَنِي إنْ كلَّمتَني أكْرَمْتُكَ» فقولك: «إنْ كَلَّمْتَني أكْرَمْتك» جوابُ «إنْ أتَيْتَني» جميعُ ما بعده، وإذا كان كذلك كان الشَّرطُ الأول في الذِّكر مؤخَّراً في المعنى، حتَّى إن أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإكرام، ولكن إن كلَّمه ثمَّ أتاهُ وجب الإكرام، وعلَّةُ ذلك أنَّ الجواب صار معوَّقاً بالشَّرطِ الثاني، وقد جاء في القرآن منه {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي} [الأحزاب: 50] .
قال شهابُ الدِّين: أما قوله: «إنْ وهبَتْ ... إنْ أرادَ» فظاهرُهُ - وظاهرُ القصة المرويَّة - يدلُّ على عدم اشتراطِ تقدُّم الشَّرط الثاني على الأوَّلِ، وذلك أنَّ إرادته - صلوات الله وسلامه عليه - للنكاح إنما هو مُرتَّبٌ على هبة المرأةِ نفسها له وكذا الواقعُ في القصَّة، لمَّا وهبت أراد نكاحها، ولمْ يُرْوَ أنه أراد نكاحها، فوهبت، وهو يحتاجُ إلى جوابٍ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في موضعه.
وقال ابنُ عطيَّة هنا وليس نُصْحِي لكم بنافع، ولا إرادتي الخيرَ لكم مغنيةً إن أراد اللهُ - تعالى - بكم الإغواء، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإرادتين، وأنَّ إرادة البشر غيرُ مُغْنِيةٍ، وتعلُّقُ هذا الشرط هو ب «نُصْحِي» وتعلُّقُ الآخر ب «لا يَنْفَعُ» .
وتلخص من ذلك أنَّ الشرط مدلولٌ على جوابه بقوله: «ولا يَنْفَعُكُمْ» لأنَّهُ عقبهُ، وجواب الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول وكأنَّ التقدير: وإنْ أردت أنْ أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعُكمْ نُصحِي. وهو من حيث المعنى كالشَّرط إذا كان بالفاءِ نحو: إنْ كان الله يريدُ أن يُغويكُم فإن أردتُ أن أنصح لكم، فلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي.
وقرأ الجمهور: «نُصْحي» بضم النونِ، وهو يحتملُ وجهين:
أحدهما: المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر والثاني: أنه اسمٌ لا مصدرٌ.
وقرأ عيسى بن عمر «نَصْحي» بفتح النُّون، وهو مصدرٌ فقط.(10/477)
وفي غضون كلام الزمخشري: «إذا عرف اللهُ» وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الله تعالى لا يسندُ إليه هذا الفعل ولا يوصف بمعناه، وقد تقدَّم علةُ ذلك في غضون كلام أبي حيَّان وللمعتزليِّ أن يقول: لا يتعيَّن أن تكون «إنْ» شرطيةً بل هي نافيةٌ، والمعنى: «ما كان اللهُ يريد أن يُغويكُمْ» .
قال شهابُ الدِّين: لا اظن أحداً يرضى بهذه المقالة.
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ، فإذا أرادَ اله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه؛ لأنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} .
قال شهابُ الدِّين: لا أظن أحداً يرضى بهذه المقالة.
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ، فإذا أرادَ الله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه؛ لأنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} .
قالت المعتزلةُ: ظاهرُ الآية يدلُّ على أن الله تعالى إذا أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا مسلمٌ، فإنا نعلم أنَّ الله - تعالى - لو أراد إغواء عبدٍ فإنَّه لا ينفعهُ نصح النَّاصحين، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء، والنزاع ما وقع إلا فيه؟
بل نقول إنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّما ذكر هذا الكلام ليدل على أنَّهُ تعالى ما أغواهُم، بل فوَّضَ الاختيار إليهم، وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة، ولو لمْ يكنُ فيه فائدة لما أمره بنصح الكفار، وأجمع المسلمون على أنه مأمورٌ بدعوة الكفار ونصيحتهم، فعلمنا أنَّ هذا النُّصح لا يخلُو من الفائدة، وإن لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنَّهُ تعالى ما أغواهم.
الثاني: لو ثبت الحكم عليهم بأنَّ الله تعالى أغواهم؛ لصار هذا عذراً لهم في عدم الإتيان بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم؛ لأنَّهم يقولون له: إنَّك سلمت أنَّ الله تعالى إذا أغوانا فإنَّه لا يبقى في نصحك، ولا في اجتهادك فائدةٌ؛ فإذا ادَّعَيْتَ أنَّ الله تعالى أغوانا؛ فقد جعلتنا مغلُوبين، فلمْ يَلْزَمْنَا قبول هذه الدعوة؛ فثبت أنَّ الأمر لو كان كما قالهُ الخصمُ؛ لصار هذا حجة للكافر على نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؛ فثبت بما ذكرنا أنَّ هذه الآية لا تدلُّ على قول المجبرة، ثم إنَّهم ذكروا تأويلات:
الأول: أنَّ أولئك الكُفَّار مجبرة، وكانوا يقولون إنَّ كفرهم بإرادة الله؛ فعند هذا قال نوحٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إن نصيحَتي لا تنفعُكُم إن كان الأمرُ كما تقولون.
ومثاله: أن يعاقب الرَّجلُ ولدهُ على ذنبه، فيقول الولد: لا أقدرُ على غير ما أنا عليه؛ فيقول الوالدُ: فلن ينفعك إذنْ نُصْحِي، وليس المرادُ أنَّهُ يصدِّقهُ على ما ذكره، بل على وجه الإنكار لذلك.
الثاني: قال الحسنُ: معنى «يُغْويكُم» أي: يُعَذِّبكم والمعنى: لا ينفعكم نُصْحِي(10/478)
اليوم إذا نزل بكُم العذابُ؛ فأمنتم في ذلك الوقت؛ لأنَّ الإيمان عند نُزُول العقابِ لا يقبلُ وإنَّما ينفعُكم نصحي إذا آمنتم قبل مُشاهدةِ العذابِ.
الثالث: قال الجُبائي: الغوايةُ هي الخيبة من الطَّلب بدليل قوله: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] ، أي: خيبة من خير الآخرة؛ قال الشاعر: [الطويل]
2966 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ عَلى الغَيِّي لائِمَا
الرابع: أنه إذا أصرَّ على الكُفْرِ، وتمادى فيه، منعه الله الألطاف، وفوَّضه إلى نفسه؛ فهذا شبيه بما إذا أراد إغواءهُ؛ فلهذا السَّبب حسن أن يقال: إنَّ الله أغواه، هذا جملة كلامِ المعتزلةِ في هذا البابِ، وتقدَّم الجوابُ عن أمثال هذه الكلمات، فلا فائدة في الإعادة، ثَم قال: {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم بأعمالكم، وهذا نهاية الوعيد والتهديد.
قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} اختلقه، وافتعله، يعني نوحاً - عليه الصلاة السلام - قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.
[وقال مقاتلٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يعني محمَّداً صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه] والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم.
{قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي: إثْمِي ووبال جرمي، والإجرامُ: كسب الذَّنب، وهذا من باب حذف المضاف؛ لأنَّ المعنى: فعليَّ عقاب إجْرامي، وفي الآية محذوفٌ آخر، وهو أنَّ المعنى: إن كنتُ افتريتُه فعليَّ عقاب جرمي، وإن كنتُ صادقاً وكذَّبْتُمونِي فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلاَّ أنَّه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه.
قوله: «فَعَلَيَّ إجْرَامِي» : مبتدأٌ وخبرٌ، أو فعلٌ وفاعلٌ.
والجمهورُ على كسر همزة «إجْرَامِي» ، وهو مصدر أجْرَمَ، وأجْرمَ هو الفاشي، ويجوزُ «جَرَمَ» ثلاثياً وأنشدوا: [الوافر]
2967 - طَرِيدُ عَشيرةٍ ورَهِينُ ذَنْبٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وجَنَى لِسَانِي(10/479)
وقرىء في الشاذّ «أجْرَامِي» بفتحها، حكاهُ النَّحَّاس، وخرَّجه على أنَّه جمعُ «جُرْم» كقفل وأقْفَال، واعلم أنَّ قوله {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} لا يدلُّ على أنَّهُ كان شاكّاً، إلاَّ أنَّهُ قولٌ يقال على وجهِ الإنكارِ عند اليأس من القبولِ.(10/480)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ} الجمهور على «أوحِيَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ} أي: أوحِيَ إليه عدمُ غيمان بعض القوم.
وقرأ أبو البرهسم «أوْحَى» مبنياً للفاعل وهو الله - سبحانه وتعالى -، «إنَّهُ» بكسر الهمزة وفيها وجهان:
أحدهما: - وهو أصلٌ للبصريين - أنَّهُ على إضمار القول.
والثاني: - وهو أصلُ للكوفيين - أنَّهُ على إجراء الإيحاء مُجْرَى القول.
قوله «فَلاَ تَبْتَئِسْ» هو تفتعل من البُؤسِ، ومعناه الحزنُ في استكانة، ويقال: ابتأسَ فلانٌ، أي: بلغه ما يكرهه؛ قال: [البسيط]
2968 - مَا يَقْسِمِ اللهُ أقْبَلَ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ... مِنْهُ وأقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ البَالِ(10/480)
وقال آخر: [البسيط]
2969 - وكَمْ مِنْ خَليلٍ أوْ حَميمٍ رُزِئْتُهُ ... فَلَمْ نَبْتَئِسْ والرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلِ
فصل
دلَّت هذه الآية على صحة القول بالقضاءِ والقدرِ؛ لأنَّه تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون بعد ذلك، فلو حصل إيمانهم؛ لكان إمَّا مع بقاءِ هذا الخبر صدقاً، ومع بقاء هذا العلم علماً، أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلابِ هذا العلم جهلاً.
والأولُ باطلٌ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدمِ الإيمانِ صدقاً، ومع كون العلم بعد الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمعٌ بين النَّقيضين.
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ انقلاب علم الله - تعالى - جهلاً وخبره كذباً محال، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بدَّ وأن يكون على أحد هذين القسمين، وثبت أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محالٌ كان صدور الإيمان منهم محالاً، مع أنَّهم كانوا مأمورين به، وأيضاً: فالقومُ كانُوا مأمورين بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله تعالى - في كُلِّ ما أخبر عنه، وقد أخبر أنَّهُ { ... لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} فينبغي أن يقال: إنَّهم كانُوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنَّهم لا يؤمنون ألبتة، وذلك تكليفٌ بالجمع بين النَّقيضين.
قوله تعالى: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} .
«بأعْينِنَا» حالٌ من فاعل «اصْنَع» أي: محفُوظاً بأعيننا، وهو مجازٌ عن كلاء الله له بالحفظ.
وقيل: المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيون النَّاس، أي: الذين يتفقَّدُونَ الأخبارَ، والجمع حينئذٍ حقيقةٌ. وقرأ طلحةُ بنُ مصرف «بأعْيُنَّا» مدغمة.
فصل
قوله تعالى: {واصنع الفلك} الظَّاهر أنه أمر إيجاب؛ لأنَّه لا سبيل إلى صون روح نفسه، وأرواح غيره من الهلاكِ إلا بهذا الطريق، وصون النَّفْسِ من الهلاك واجب، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجبٌ، ويحتملُ أن يكون أمر إباحةٍ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسانُ لنفسه داراً يسكنها، أو يكون ذلك تعليماً له ولمن بعده كيفية عمل السفينة، ولا يكونُ ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - خلَّص موسى وقومه من الطُّوفان من غير سفينةٍ، وكان ذلك معجزة له.
وأما قوله: «بأعْيُنِنَا» فلا يمكنُ إجراؤه على ظاهره لوجوهٍ:(10/481)
أحدها: أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة، وهذا يناقض قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] .
وثانيها: أنَّهُ يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين، كقولك: قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل.
وثالثها: أنَّه - تعالى - مُنَزَّه عن الأعضاء، والأبعاض؛ فوجب المصيرُ إلى التأويل، وهو من وجوه:
الأول: معنى «بِأعْيُنِنَا» أي: بنزول الملك؛ فيعرفه بخبر السفينة، يقال: فلان عين فلان أي: ناظر عليه.
والثاني: أنَّ من كان عظيمَ العنايةِ بالشيء فإنه يضع عينه عليه؛ فلمَّا كان وضع العين على الشَّيء سبباً لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ، فلهذا قال المفسِّرون: معناه: بحفظنا إيَّاك حفظ من يراك، ويملك دفع السُّوء عنك.
وحاصل الكلام أن عمل السَّفينة مشروط بأمرين:
أحدهما: أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل.
والثاني: أن يكون عالماً بكيفيَّة تأليف السَّفينة وتركيبها.
وقوله: «وَوَحْيِنَا» إشارة إلى أنَّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السَّفينة.
وقوله: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} فقيل: لا تطلب منِّي تأخير العذاب عنهم، فإنِّي قد حكمتُ عليهم بهذا الحم، فلمَّا علمَ نوحٌ ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] . وقيل: «لا تُخَاطِبْنِي» في تعجيلِ العذابِ فإنِّي لمَّا قضيتُ عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً.
وقيل: المرادُ ب «الذينَ ظلمُوا» بانه وامرأته.
قوله: {وَيَصْنَعُ الفلك} قيل: هذا حكايةُ حال ماضيه أي: في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. وقيل: ألتقديرُ: وأقبل يصنع الفلك، فاقتصر على قوله: «يَصْنَع» . قيل: إن جبريل أتى نُوحاً عليه السَّلام فقال: إنَّ ربَّك يأمُركُ أن تَصْنَعَ الفلك، فقال: كيف أصنع ولست بنجَّارٍ؟ فقال: إنَّ ربَّك يقولُ: اصْنَعْ فإنَّكَ بعَيْنِي، فأخذ القدوم، وجعل يصنعُ ولا يخطئ. وقيل: أوحى الله إليه يجعلها مثل جُؤجُؤ الطَّائر.
روي أنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا دَعَا على قومهِ وقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] استجاب الله دعاءه وأمره أن يَغْرِسَ شجرة ليعمل منها السفينة؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة، ثم نجَّرها في مائة سنة أخرى.
وقيل: في أربعين سنة، وكانت من خشب الساج. وفي التوراة أنها من الصنوبر.
قال البغويُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً، وعرضها خمسين(10/482)
ذراعاً، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقارِ وقال قتادة: كان طولها ثلثمائة ذراع [وعرضها خمسين ذراعاً.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - كان طولها ألفاً ومائتي ذراع في عرض ستمائة ذراع] .
وقيل: ألف ذراعٍ في عرض مائة ذراعٍ.
واتفقوا كلهم على أنَّ ارتفاعها ثلاثون ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات كلُّ واحدة عشرة أذرع، فالسفلى للدَّواب والوحوش، والوسطى للنَّاس، والعليا للطيور، ولها غطاء من فوق يطبق عليها.
قال ابنُ الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي نعلمه أنَّ السَّفينة كانت سعتها بحيث تسعُ المؤمنين من قومه، ولما يحتاجون إليه، ولحصول زوجين لكلّ حيوان؛ لأنَّ هذا القدر مذكور في القرآن، فأما تعيينُ ذلك القدر فغير معلوم.
قوله: «وَكُلَّمَا مَرَّ» العاملُ في «كُلَّمَا» «سَخِرَ» ، و «قَالَ» مستأنف، إذ هو جوابٌ لسؤال سائل. وقيل: بل العامل في «كُلَّما» «قال» ، و «سَخِرُوا» على هذا إمَّا صفة ل «مَلأ» ، وإمَّا بدلٌ مِنْ «مرَّ» ، وهو بعيدٌ جدّاً، إذ ليس «سَخِرَ» نوعاً من المرور، ولا هو هو فكيف يبدل منه؟ والجملةُ من قوله «كُلَّما» إلى آخره في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: يصنع الفلك والحالُ أنَّه كُلَّما مرَّ.
فصل
اختلفوا فيما كانوا لأجله يسخرون، فقيل: إنهم كاوا يقولون له: كنت تدَّعي الرسالة، فصرت نجَّاراً. وقيل: كانوا يقولون: لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق.
وقيل: إنَّهم كانُوا ما رَأوا السَّفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها، فكانوا يتعجَّبُون منه ويسخرُون - وقيل: إنَّ تلك السَّفينة كانت كبيرة، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدّاً، وكانوا يقولون له: ليس ههنا ماء، ولا يمكنك نقلها لماءِ البحار، فكانوا يُعدُّون ذلك من باب السخرية.
وقيل: إنَّه لمَّا طال مكثه فيهم، وكان ينذرهم بالغرقِ، وما شاهدُوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كذبه في ذلك النقل، فلمَّا اشتغل بعمل السفينة، سخرُوا منه، وكل هذه الوجوه محتملة.(10/483)
ثم إنَّه تعالى حكى عنه أنه كان يقول: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} أي: مثل سخريتكُمْ إذا غرقتم في الدنيا ووقعتم في العذاب يوم القيامة. وقيل: إن حكمتم علينا بالجَهْلِ فيما نصنع فإنَّا نحكم عليكم بالجهلِ فيما أنتم عليه من الكفر، والتَّعرض لسخطِ الله وعذابه، فأنتم أولى بالسُّخرية مِنَّا.
فإن قيل: كيف تجُوزُ السخرية من النبي؟ .
فالجوابُ: هذا ازدواج للكلام يعنى: إن تَسْتجْهلوني فإنِّي أستجهلكم إذا نزل بكم العذاب.
وقيل: معناه: إن تَسْخَرُوا منَّا فسترون عاقبة سخريتكم.
وقيل: سمى المقابلة سخرية كقوله {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] .
قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} .
في «مَنْ» وجهان:
أحدهما: أن تكون موصولة.
والثاني: أن تكون استفهاميَّة، وعلى كلا التقديرين ف «تَعْلَمُونَ» إمَّا من باب اليقينِ، فتتعدَّى لاثنين، وإمَّا من بابِ العرفان فتتعدَّى لواحد.
فإذا كانت هذه عرفانية و «مَنْ» استفهامية كانت «مَنْ» ، وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد، وإن كانت متعديةً لاثنين كانت سادَّة مسدَّ المفعولين وإذا كانت «تَعْلَمُونَ» متعديةً لاثنين، و «مَنْ» موصولة كانت في موضع المفعول الأوَّلِ، والثاني محذوفٌ قال ابن عطيَّة: «وجائزٌ أن تكون المتعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحدِ» .
وهذه العبارةُ ليست جيِّدة؛ لأنَّ الاقتصار في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز، لما تقرَّر من أنَّهما مبتدأ وخبر في الأصل، وأمَّا حذف الاختصار، فهو ممتنعٌ أيضاً، إذ لا دليل على ذلك. وإن كانت متعدِّية لواحدٍ و «مَنْ» موصولةٌ فأمرها واضحٌ.
قوله: «وَيَحِلُّ عليْهِ» أي: يجبُ عليه، وينزل به «عذابٌ مقيمٌ» دائم. وحكى الزهراويُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ويَحُلُّ» بضمِّ الحاءِ، بمعنى يجبُ أيضاً.
قوله: {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} عذابنا، أو وقته، أو قولنا «كن» .
{وَفَارَ التنور} اختلفوا في التَّنور: قال عكرمةُ والزهري: هو وجه الأرض، أي نبعث الأرض من سائر أرجائها حتى نبعث التنانير التي هي محال النار وذلك أنَّه قيل لنوح: إذ رأيت الماء قدْ فَارَ على وجه الأرض، فاركب السَّفينة أنت وأصحابك.(10/484)
وروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: التنور طلوع الفجر، ونور الصَّباح وقيل: التَّنُّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه. وقيل: «فَارَ التَّنُّورُ» يحتمل أن يكون معناه: اشتدَّ الحر كما يقالُ: حمي الوطيسُ.
ومعنى الآية: إذا رأيتَ الأمر يشتد والماء يكثر فانْجُ بنفسك ومن معك إلى السفينة.
وقال الحسنُ ومجاهدٌ والشعبيُّ: إنه التنور الذي يخبز فيه. وهو قول أكثر المفسِّرين، ورواه عطيَّة عن ابن عبَّاس.
قال الحسنُ: كان تَنُّوراً من حجارةٍ، كانت حواء تخبزُ فيه، فصار إلى نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - واختلفوا في موضعه فقال مجاهدٌ والشعبيُّ: إنَّه بناحية الكوفة وعن علي أنَّهُ في مسجد الكوفة. وقال مقاتلٌ بموضع يقال له: عين وَرْدة بالشَّام وقيل: عين بالهند.
قال الزمخشريُّ: «حتَّى» هي التي يُبْتَدَأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشَّرطِ والجزاء، ووقعت غاية لقوله {وَيَصْنَعُ الفلك} أي: وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللاَّم في «التَّنُّور» قيل: للعهدِ. وقيل: للجنس.
ووزن «تَنُّور» قيل: «تَفْعُول» من لفظ النور فقلبت الواوُ لأولى همزة لانضمامها. ثم حذفت تخفيفاً، ثم شدَّدُوا النون كالعوضِ عن المحذوف، ويعزى هذا لثعلب.
وقيل: وزنه «فَعُّول» ويعزى لأبي علي الفارسيِّ. وقيل: هو أعجميٌّ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له. والمشهورُ أنَّه ممَّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصَّابون.
ومعنى «فَارَ» أي: غلا قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النّضار، ولا شبهة في أنَّ نفس التَّنور لا يفوزُ، فالمرادُ: فار الماءُ في التَّنور.
قال اللَّيْثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «التَّنُّور عمَّت بكل لسان وصاحبه تنَّار قال الأزهريُّ: وهذا يدلُّ على أن الاسم يكون أعْجَميّاً فتعربه العرب، فيصير عربيّاً، والدليلُ على ذلك أنَّ الأل» تَنَرَ «، ولا يعرفُ في كلام العرب» تنر «وهو نظير ما دخل في كلام العرب من(10/485)
كلام العجم الدِّيباج والدِّينار، والسُّندس، والإستبرق، فإنَّ العرب تكلَّمُوا بها؛ فصارت عربيةً» . قيل: إنَّ امرأته كانت تخبز في ذل التنور، فأخبرته بخروج الماءِ من ذلك التنور فاشتغل في الحالِ بوضع هذه الأشياء في السفينة.
قوله: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} قرأ العامَّة بإضافة «كُل» ل «زَوْجَيْنِ» .
وقرأ حفص بتنوين «كُل» ، فأمَّا العامة فقيل: إنَّ مفعول «احْمِلْ» «اثْنَيْن» ، و «مِنْ» كُلِّ زَوْجَيْنِ «في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعول؛ لأنه كان صفة للنَّكرة، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً وقيل: بل» مِنْ «زائدة، و» كُل «مفعول به، و» اثْنَيْن «نعت ل» زَوْجَيْن «على التَّأكيدِ، وهذا إنَّما يتمُّ على قول من يرى زيادة» مِنْ «مطلقاً، أو في كلامٍ موجب.
وقيل: قوله:» زَوْجَيْن «بمعنى العُمومِ أي: من كُل ما له ازدواجٌ، هذا معنى قوله: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ} وهو قولُ الفارسيِّ وغيره.
قال ابنُ عطيَّة: ولو كان المعنى: احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين، لوجب أن يحمل من كُلِّ نوع أربعة، والزوج في مشهور كلامهم للوحد ممَّا له ازدواجٌ.
قال - سبحانه وتعالى -: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] ، ويقال للمرأة زوجٌ، قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] يعني المرأة، وهو زوجها، وقال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45] فالواحدُ يقال له: زوجٌ، قال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143] ، {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 144] .
فالزَّوجان: عبارة عن كل اثنين لا يَسْتغني أحدهما عن الآخر، يقال لكُلِّ واحدٍ منهما زوج، يقال زوج خفٍّ، وزوج نَعْلِ، والمراد بالزَّوجين ههنا: الذَّكر والأنثى.
وأمَّا قراءة حفص فمعناها: من كلِّ حيوان أو من كلِّ صنف، و» زَوْجَيْن «مفعولٌ به، و» اثْنَيْنِ «نعتٌ على التأكيد، كقوله {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51] ، و» مِنْ كُلّ «على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب» احْمِلْ «وهو الظَّاهرُ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من» زَوْجَيْنِ «وهذا الخلاف والتخريج جاريان أيضاً في سورة» قَدْ أفْلَحَ «.
فصل
اختلفوا في أنه هل دخل في قوله: «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» غير الحيوانِ أم لا؟ فنقول فالحيوانُ مرادٌ ولا بد، وأما النَّباتُ فاللفظ لا يدل عليه، إلا أنه بقرينة الحال لا يبعد دخلوه لأنَّ الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه.(10/486)
قال ابنُ الخطيب: «وروي عن ابن مسعودٍ أنه قال: لم يستطع نوحٌ أن يحمل الأسد حتَّى ألقيت عليه الحمى، وذلك أنَّ نُوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: يا ربِّ فمن أين أطعم الأسد، إذا حملته؟ قال الله - تعالى -:» فسوف أشغله عن الطعام فسلَّط الله عليه الحمى «وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها، فإنَّ حاجة الفيل إلى الطَّعام أكثر، وليست به حُمَّى» .
وروى زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: لمَّا حمل نوح في السفينة من كُلِّ زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف يطمئن، أو تطمئن المواشي، ومعنا الأسد، فسلَّط الله عليه الحمى، فكانت أوَّلُ حمى نزلت الأرض، ثم شكوا الفأرة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا، فأوحى الله إلى الأسدِ، فعطس الأسد فخرجت الهرة؛ فتخبأت الفأرة منها.
قوله: «وأهْلَك» نسقٌ على «اثْنَيْنِ» في قراءة من أضاف «كُل» ل «زَوْجَيْنِ» ، وعلى «زَوْجَيْنِ» في قراءة من نوَّن «كُل» وقوله: «إلاَّ من سبقَ» استثناءٌ متصل في موجب، فهو واجب النَّصْبِ على المشهُور.
وقوله: «وَمَنْ آمَنَ» مفعول به نسقاً على مفعول «احْمِلْ» .
فصل
روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة السلام - قال يا رب: كيف أحملُ من كلِّ زوجين اثنين؟ فحشر الله - تعالى - إليه السباع والطير، فجعل يضربُ بيده في كل جنس فيقع الذَّكرُ في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى، فيجعلهما في السفينة.
والمراد بأهله: ولده وعياله {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} بالهلاك يعني: امرأته واعلة وابنه كنعان.
«ومَنْ آمَنَ» يعنى: واحمل من آمن بك، قال تعالى: {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} . قال قتادةُ بنين سام وحام ويافث ونساؤهم.
وقال الأعمشُ: كانوا سبعة: نوحٌ وثلاثة بنين له وثلاثُ كنائن وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم، نوح وبنوه: سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان به، وأزواجهم جميعاً.(10/487)
وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً، وبنيه الثلاث ونساءهُم.
فجميعهم ثمانية وسبعون، نصفهم رجال، ونصف نساء.
وعن ابن عباسٍ: كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً، أحدهم جرهم، يقال: إنَّ في ناحية «المَوْصِل» قريةً، يقال لها: قريةُ الثَّمانين، سمِّيت بذلك؛ لأنَّهم لما خرجوا من السَّفينة بنوها، فسُمِّيت بهم.
قال مقاتلٌ: حمل نوحٌ معه جسد آدم، فجعله معترضاً بني الرِّجال والنِّساء.
وقال الحسنُ: لم يحمل نوحٌ في السفينة إلاَّ ما يلد ويبيض فأما ما يتولَّد من الطين؛ فالحشرات، والبقِّ، والبعوض؛ فلم يحمل منه. ثم قال تعالى {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} يعني: حكم الله عليه بالهلاك، وهو ابنه، وزوجته، وكانا كافرين، فأما ابنه فهو يام، وتسميه أهل الكتاب: كنعان، فهو الذي انعزل عنه، أما امرأةُ نوحٍ، فهي أمِّ أولاده كلهم: حام، وسام، ويافث، وهو أدرك؛ انعزل، وغرق، وعابر، وقد مات قبل الطوفان، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك.
فإن قيل: الإنسان أشرف من سائر الحيواناتِ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات؟
فالجوابُ: أنَّ الإنسانَ عاقلٌ وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاكِ عن نفسه، فلا حاجة إلى المبالغة في التَّرغيب فيه، بخلاف السَّعْي في تخليص سائر الحيوانات؛ فلهذا وقع الابتداء به.
فإن قيل: الذين دخلوا السَّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] ؟ فالجواب: كلا اللفظين جائز، والتقدير - ههنا -: وما آمن معه إلا نفر قليل.
فصل
احتجوا بقوله {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} في إثبات الفضاءِ السَّابق والقدر الوجب، لأنَّ قوله {سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ} يدلُّ على أنَّ من سبق عليه القول ومن آمَنَ لا يغيَّرُ عن حاله، فهو كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه» .(10/488)
قال تعالى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا} .
يجُوزُ أن يكون فاعلُ «قَالَ» ضمير نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ويجوزُ أن يكون ضمير الباري - تعالى جل ذكره - أي: وقال الله لنوح ومنه معهُ. و «فِيهَا» متعلقٌ ب «ارْكَبُوا» وعُدِّي ب «في» لتضَمُّنه معنى «ادخلوا فيها راكبين» أو سيروا فيها.
وقيل: تقديره: اركبوا الماء فيها. وقيل: «في» زائدة للتَّوكيد.
والركوب: العلو على ظهر الشيءِ، ومنه ركوب الدَّابة، وركوب السَّفينة، وركوب البحر، وكل شيء علا شيئاً، فقد ركبه، ويقال: ركبه الدَّين. قال الليثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وتسمي العربُ من يركبُ السَّفينة: رُكَّابَ السَّفينة، وأمَّا الركبانُ، والأركُوبُ، والرَّكْبُ: فركَّابُ الدَّوابِّ.
قال الواحدي: ولفظة «فِي» في قوله «ارْكَبُوا فيهَا» لا يجوز أن تكون من صلة الركوب؛ لأنَّه يقال: ركبت السفينة ولا يقال: ركبت في السَّفينة، بل الوجهُ أن يقول مفعول «ارْكَبُوا» محذوف والتقدير: «اركبوا الماء في السَّفينة» .
وأيضاً يجوز أن تكون فائدة هذه الزيادة، أنَّه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال: اركبوها، لتوهَّمُوا أنَّه أمرهم أن يكونوا على ظهر السَّفينة.
قال قتادةُ: ركبُوا السَّفينة يوم العاشر من شهر رجب؛ فسارُوا مائةً وخمسين يوماً، واستقرَّتْ على الجُودي شهراً، وكان خروجهم من السفينة يوم عاشوراء من المحرَّمِ.
قوله: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} .
يجوز أن يكون هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل «اركبوا» أو من «ها» في «فيها» ويكونُ «مجراها» ، و «مرساها» فاعلين بالاستقرار الذي تضمَّنهُ الجارُّ لوقوعه حالاً. ويجوز أن يكون «بِسْمِ اللهِ» خبراً مقدَّماً، و «مَجْراها» مبتدأ مؤخراً، والجملة أيضاً حالٌ ممَّا تقدَّم، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدرةٌ كذا أعربه أبو البقاء، وغيره. إلاَّ أنَّ مكيّاً منع ذلك لخلو الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أعربنا الجملة أو الجارَّ حالاً من فاعل «ارْكَبُوا» قال: ولا يَحْسُنُ أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل «اركبُوا» ؛ لأنَّه لا عائد في الجملةِ يعودُ على الضمير في «اركبُوا» لأن المضمر في «بِسْمِ اللهِ» إنْ جعلته خبراً ل «مَجْراهَا» فإنَّما يعودُ على المبتدأ، وهو مجراها، وإن رفعت «مَجْرَاهَا» بالظَّرفِ لم يكن فيه ضمير الهاءِ في «مَجْراهَا» وإنما تعودُ على الضمير في «فِيهَا» .(10/489)
وإذا نصبت «مَجْرَاهَا» على الظرف عمل فيه «بِسْمِ الله» وكانت الجملةُ حالاً من فعل «ارْكَبُوا» .
وقيل: بِسْمِ اللهِ «حال من فاعل» ارْكَبُوا «و» مَجْراهَا ومُرْسَاهَا «في موضع الظرف المكاني، أو الزماني. والتقدير: اركبوا فيها مُسَمِّين موضع جريانها، ورُسُوِّها، أو وقت جريانها ورسوِّها.
والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه» بِسْمِ اللهِ «من الاستقرار، والتقدير: اركبوا فيها مُتبرِّكين باسم الله في هذين المكانين، أو الوقتين.
قال مكي: ولا يجوز أن يكون العاملُ فيهما» ارْكَبُوا «؛ لأنه لم يُرِدْ: اركبُوا فيها في وقتِ الجَرْي، والرسُوِّ، إنَّما المعنى: سمُّوُا اسم الله في وقت الجَرْيِ والرُّسُوِّ.
ويجُوزُ أيضاً أن يكون» مَجْرَاهَا ومُرْسَاها «مصدرين، و» بِسْمِ الله «حالٌ كما تقدَّم، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعليَّة أي: استقرَّ بسم الله إجراؤها، وإرساؤها، ولا يكونُ الجارُّ حينئذٍ إلاَّ حالاً من» هَا «في» فيها «لوجود الرابط، ولا يكونُ حالاً من فاعل» اركبُوا «لعدم الرَّابط. وعلى هذه الأعاريب يكونُ الكلامُ جملةً واحدةً.
ويجوز أن يكون {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإعراب، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالرُّكُوب، وأخبر أنَّ مجراها ومرساها باسم الله.
فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله.
قال بعضُ المفسِّرين: كان نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا أراد إجراء السفينة قال: «بِسْمِ اللهِ مجرَاها» فتجري، وإذا أراد أن ترسُو قال: «بِسْمِ الله مرْساهَا» فترسو، فالجملتان محكيتان ب «قَالَ» .
وقرأ الأخوان وحفص «مَجْرَاها» بفتح الميم، والباقون بضمها. واتَّفق السَّبعة على ضمِّ ميم «مُرْسَاها» . وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفي وزيد بن علي، والأعمش «مَرْسَاها» بفتح الميم أيضاً.
فالضمُّ فيهما، لأنهما من «أجْرَى وأرْسَى» ، والفتح لأنَّهُما من «جَرَتْ ورَسَتْ» وهما: إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران على ما سبق من التقادير.
وقرأ الضحاك، والنخعي، وابن وثابٍ، ومجاهدٌ، وأبو رجاء، والكلبي، والجحدري، وابن جندب مجريها ومرسيها بكسر الراء، والسين بعدهما ياء صريحة،(10/490)
وهما اسما فاعلين من «أجرى وأرسى» ، وتخريجهما على أنهما بدلان من اسم الله.
قال ابنُ عطيَّة وأبو البقاء، ومكي: إنَّهما نعتان للهِ - تعالى -، وهذا الذي ذكروه إنَّما يتمُّ على تقدير كونهما معرفتين بتمحض الإضافة، وقال الخليلُ: «إنْ كُلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجعل محضة إلاَّ إضافة الصفةِ المشبهة، فلا تتمحَّض» .
وقال مكي: «ولو جعلت» مَجْراهَا «، و» مُرْسَاها «في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً مقدرة، ولجاز ذلك وكانت في موضع نصبٍ على الحال من اسم الله تعالى» .
والرُّسوُّ: الثَّبات، والاستقرار، يقال: رَسَا يَرْسُو وأرْسَيْتُهُ أنَا؛ قال: [الكامل]
2970 - فَصَبرْتُ نفْساً عند ذلكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّع
أي: تَثْبُتُ وتَسْتَقِرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان.
قوله: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيه سؤال، وهو إن كان ذلك وقت إظهارِ الضر، فكيف يليق به هذا الذكر؟ .
والجوابُ: لعل القوم الذين ركبوا السَّفينة اعتقدُوا في أنفسهم أنَّا إنَّما نجونا ببركةِ علمنا فالله تعالى نبَّههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب، فإنَّ الإنسان لا ينفكُّ من أنواع الزلاتِ وظلمات الشبهات، وفي جميع الأحوال، فهو محتاجٌ إلى إعانةِ الله، وفضله، وإحسانه، وأن يكون غفوراً لذنوبه رحيماً لعقوبته.
قوله: «وهِيَ تَجْرِي» في هذه الجملةِ، ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر الله تعالى عن السفينة بذلك.
والثاني: أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من الضَّمير المستتر في «بِسْمِ اللهِ» أي: جريانها استقرَّ بسم الله حال كونها جارية.
الثالث: أنَّها حالٌ من شيءٍ محذوفٍ تضَمَّنته جملةٌ دلَّ عليها سياقُ الكلامِ.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بم اتَّصل قوله: «وهِيَ تَجْرِي بهِمْ» ؟ قلت: بمحذُوفٍ دلَّ عليه قوله: «اركبُوا فيها بسْمِ الله» كأنَّهُ قيل: فركبوا فيها يقولون: «بسم الله وهي تجري بهم» .
وقوله «بِهِمْ» يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب «تَجْرِي» .(10/491)
والثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ أي: تجري ملتبسةً بهم، ولذلك فسَّرهُ الزمخشريُّ بقوله: «أي: تجْرِي وهُمْ فيها» .
وقوله: «كالْجِبَالِ» صفة ل «مَوْجٍ» .
فصل
قال ابن جرير، وغيره: إنَّ الطُّوفان كان في ثالث عشر شهر آب في عادة القبطِ، وإنَّ الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، وهو الذي عند أهل الكتاب، وقيل: ثمانين ذراعاً وعمَّ جميع الأرض طولاً وعرْضاً.
والمَوْجُ جمع «مَوْجة» والموج: ما ارتفع من الماءِ إذا اشتدَّ عليه الريح. وهذا يدلُّ على أنَّهُ حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة.
فإن قيل: الجريانُ في الموج يوجب الغرقَ.
فالجوابُ: أنَّ الأمواجَ لمَّا أحاطت بالسَّفينة من جوانبها أشبهت تلك السَّفينة كأنَّها جرت في داخل الأمواج.
قوله تعالى: {ونادى نُوحٌ ابنه} الجمهور على كسْرِ تنوين «نوح» لالتقاء الساكنين.
وقرأ وكيع بضمِّه إتباعاً لحركةِ الإعراب، واسترذلَ أبو حاتمٍ هذه القراءة، وقال: «هي لغةُ سوءٍ لا تُعْرَفُ» .
وقرأ العامَّةُ: «ابنهُ» بوصل هاء الكناية بواو، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية.
وقرأ ابنُ عباس بسكون الهاء. قال بعضهم: هذا مخصُوصٌ بالضَّرُورة؛ وأنشد: [البسيط]
2971 - وأشْرَبُ الماء ما بِي نحوهُ عطشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونه سَيْلُ وَادِيهَا
وبعضهم لا يخُصُّه بها، وقال ابن عطية: إنَّا لغةٌ لأزْد السَّراة؛ ومنه قوله: [الطويل]
2972 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ومِطْوايَ مُشْتاقَانِ لَهْ أرِقَانِ
وقال بعضهم: «هي لغة عُقَيْل، وبني كلاب» .
وقرأ السدي: «ابْنَاهُ» بألف وهاء السكت، قال ابنُ جنِّي: «وهو على النّداء» .
وقال أبو البقاء: «ابناه» على الترثِّي وليس بندبة؛ لأنَّ النُّدبة لا تكونُ بالهمزة.(10/492)
وهو كلامٌ مشكلٌ في نفسه، وأين الهمزةُ هنا؟ إن عنى همزة النِّداء، فلا نُسَلِّم أنَّ المقدَّر من حروفِ النِّداءِ هو الهمزةُ؛ لأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّه لا يضمر من حروف النِّداءِ إلاَّ «يَا» لأنَّها أم الباب.
وقوله: «الترثِّي» هو قريبٌ في المعنى من الندبة.
وقد نصوا على أنَّه لا يجوزُ حذف [حرف] النداء من المندوب، وهذا شبيهٌ به.
وقرأ عليٌّ - كرم الله وجهه -: «ابنها» إضافة إلى امرأته كأنه اعتبر قوله: «ليْسَ من أهلكَ» ، وقوله: «ابْنِي» و {مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] لا يدل له لاحتمالِ أن يكون ذلك لأجل الحنوّ، وهو قول الحسن، وجماعة.
وقرأ محمد بن عليّ، وعروة بن الزبير: «ابْنَهَ» بهاء مفتوحة دون ألف، وهي كالقراءةِ قبلها، إلاَّ أنه حذف ألف «ها» مجتزئاً عنها بالفتحةِ، كما تحذف الياءُ مُجْتَزأ عنها بالكسرة، قال ابن عطيَّة: «هي لغةٌ» ؛ وأنشد: [البسيط]
2973 - إمَّا تقُودُ بِهَا شَاةً فتأكُلُهَا ... أو أن تَبِيعَه في بَعْضِ الأرَاكِيبِ
يريد: تَبِيعهَا «فاجتزأ بالفتحةِ عن الألفِ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله: - وأنشده ابن الأعرابي على ذلك -: [الوافر]
2974 - فَلَسْتُ براجعٍ ما فَاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ، ولا بِلَيْتَ، ولا لَوَ انِّي
يريد:» يَا لَهْفَا «فحذف، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة، ويمنع في السَّعة:» يا غُلامَ «في: يا غُلامَا.
وسيأتي في نحو {ياأبت} [يوسف: 4] بالفتح: هل ثمَّ الفٌ محذوفة أم لا؟ وتقدَّم خلاف في نحو: يا ابن أمَّ، ويا ابن عمَّ: هل ثمَّ ألفٌ محذوفة مجتزأٌ عنها بالفتحةِ أم لا؟ فهذا أيضاً كذلك، ولكن الظَّاهر عدم اقتياسه، وقد خطَّأ النَّحَّاسُ أبا حاتم في حذف هذه الألف، وفيه نظر.
قوله: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} جملةٌ في موضع نصب على الحالِ، وصاحبها هو» ابْنَهُ «والحالُ تأتي من المنادى لأنَّه مفعولٌ به.
والمَعْزِل - بكسر الزاي - اسم مكن العزلة، وكذلك اسم الزمان أيضاً، وبالفتح هو(10/493)
المصدر. قال أبو البقاء:» ولمْ أعلم أحداً قرأ بالفتح «.
قال شهابُ الدِّ] ن: لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفه؛ فكيف يقرأ به إلاَّ مجازٍ بعيد؟ .
وأصله: من العَزْل، وهو التَّنحية، والإبعاد تقول: كنت بمعزلٍ عن كذا، أي: بموضع قد عُزِل منه، قيل: كان بمعزلٍ عن السفينة، لأنه كان يظنُّ أنَّ الجبل يمنعه من الغرق.
وقيل: كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه، وقيل: كان في معزل من الكفار كأنَّه انفرد عنهم فظنَّ نوحٌ أنَّ ذلك محبة لمفارقتهم.
فصل
اختلفوا في أنه هل كان ابناً له؟ فقيل: كان ابنه حقيقة لنصِّ القرآن، وصرفُ هذا اللفظ إلى أنَّهُ رباه، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السَّبب، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة، والمخالفُ لهذا الظَّاهر إنَّما خالفهُ استبعاداً لأن يكون ولد الرسول كافراً، وهذا ليس ببعيد؛ فإنَّه قد ثبت بنصِّ القرآن أنَّ والد الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان كافراً، فكذلك ههنا.
فإن قيل: لمَّا دَعَا وقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] فكيف نادى ابنه مع كفره؟ .
فالجواب من وجوه:
الأول: أنَّهُ كان ينافقُ أباه؛ فظنَّ نوحٌ أنَّهُ مؤمنٌ؛ فلذلك ناداه، ولولا ذلك لما أحب نجاته.
الثاني: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يعلمُ أنه كافرٌ لكن ظنَّ أنه لمَّا شاهد الغرق، والأهوال العظيمة فإنَّهُ يقبل الإيمان، فكان قوله: {يابني اركب مَّعَنَا} كالدَّلائلِ على أنَّهُ طالبٌ منه الإيمان، وتأكد هذا بقوله: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} أي: تابعهم في الكفر، واركب مع المؤمنين.
الثالث: أنَّ شفقة الأبوة لعلَّها حملته على ذلك النداء، والذي تقدَّم من قوله: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} [هود: 40] كان كالمجمل، فلعلَّه جوَّز ألاَّ يكون هو داخلاً فيه.
وقيل: كان ابن امرأته، ويدلُّ عليه ما تقدَّم من القراءة.
وقال قتادة: سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه فقلت: إنَّ الله - تعالى - حكى عنه أنه قال: {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] وأنت تقولُ: ما كان ابناً له، فقال: لَمْ يقل: إنَّ ابني منِّي، وإنَّما قال: من أهلي، وهذا يدلُّ على قولي.(10/494)
وقيل: ولد على فراشه، قالوا: لقوله تعالى في امرأة نوح، وامرأة لوط {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] .
قال ابن الخطيب: وهذا قول خبيثٌ يجب صون منصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عن هذه الفضيحةِ لا سيما هو على خلاف نصِّ القرآن.
وأمَّا قوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] فليس فيه أنَّ تلك الخيانة كانت بالسَّبب الذي ذكروه.
قيل لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كيف كانت تلك الخيانةُ، فقال: كانت امرأة نوح تقول: زَوْجي مجنونٌ، وامرأة لوط تدلُّ الناس على ضيفه، إذا نزلُوا به، ويدلُّ على فسادِ هذا القول قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26] وقوله: {والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} [النور: 3] .
قوله: {يابني اركب مَّعَنَا} قرأ البزيُّ، وقالون، وخلاَّد بإظهار باء «ارْكَب» قبل ميم «مَنَعَنَا» والباقون بإدغامها في الميم، وقرأ عاصم هنا «يَا بُنَيَّ» بفتح الياء. وأمَّا في غير هذه السُّورة فإنَّ حفصاً عنه فعل ذلك. والباقون: بسكر الياء في جميع القرآن إلا ابن كثير؛ فإنَّهُ في الأول من لقمان، وهو قوله: {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13] فإنَّه سكَّنهُ وصْلاً ووقْفاً، وفي الثاني كغيره أنَّهُ يكسر ياءه، وحفص على أصله من فتحه. وفي الثالث وهو قوله: {يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] اختلف عنه فروى البزي كحفصٍ، وروى عنه قنبل السُّكون كالأول. هذا ضبط القراءة.
وأمَّا تخريجها فمن فتح فقيل: أصلها: «يَا بُنَيَّا» بالألف فحذفت الألفُ تخفيفاً، اجترأ عنها بالفتحةِ كما تقدَّم. وقيل: بل حذفت لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّهما وقع بعدها راءُ «ارْكَبْ» وهذا تعليلٌ فاسدٌ جدّاً، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضع حيث لا ساكنان. وكأنَّ هذا المُعلَّل لم يعلمْ بقراءةِ عاصم في غير هذه السورة، ولا بقراءة البزِّي في «لقمان» ، وقد نقل ذلك أبو البقاءِ ولمْ ينكرهُ. وكذلك قال الزمخشريُّ أيضاً.
وأمَّا من كسر فحذفت الياءُ أيضاً: إمَّا تخفيفاً وهو الصحيحُ، وإما لالتقاء الساكنين، وقد تقدَّم فسادهُ. وأمَّا من سكَّن فلما رأى من الثِّقَلِ مع مطلق الحركةِ، ولا شكَّ أنَّ(10/495)
السُّكونَ من أخفِّ الحركاتِ، ولا يقالُ: فلمَ وافق ابنُ كثير غير حفص في ثاني لقمان، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جمع بين اللغات، والمفرَّق آتٍ بمحالٍ.
وأصلُ هذه اللفظة بثلاث ياءات: الأولى للتَّصغير، والثانيةُ لامُ الكلمة، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالةِ أو مبدلةٌ من واوٍ؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أول الكتاب في لام «ابن» ما هي؟ والثالثة ياءُ المتكلِّم مضافٌ إليها، وهي التي طرأ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالها.
فصل
لمَّا حكى عن نوح أنَّه دعا ابنه إلى رُكوبِ السَّفينة حكى عن ابنه أنَّهُ قال: {سآويا إلى جَبَلٍ} سأصير وألتَجِىءُ إلى جبل {يَعْصِمُنِي مِنَ المآء} يمنعني من الغرقِ، وهذا يدل على أنَّ الابنَ كان مُصِرّاً على الكفر، فعند هذا قال نوحٌ: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} أي: من عذابِ الله {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} . وههنا سؤال:
وهو أن الذي رَحِمَهُ اللَّهُ معصومٌ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم؟
والجواب من وجوه:
الأول: أنَّهُ استثناءٌ منقطع، وذلك أن تجعل «عَاصماً» على حقيقته، و «مَنْ رَحِمَ» هو المعصوم، وفي «رَحِمَ» ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على الله تعالى، ومفعولهُ ضميرُ الموصولِ وهو «مَنْ» حذف لاستكمالِ الشروطِ، والتقديرُ: لا عاصم اليوم ألبتة من أمر الله، لكن من رَحِمَهُ اللَّهُ فهو معصوم.
الثاني: أن يكون المراد ب «مَنْ رَحِمَ» هو الباري تعالى كأنه قيل: لا عاصم اليومَ إلاَّ الرَّاحمَ.
الثالث: أنَّ عاصماً بمعنى معصُوم، وفاعل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو: {مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] أي: مَدْقُوق؛ وأنشدوا: [المتقارب]
2975 - بَطِيءُ القيامِ رَخِيمُ الكَلاَ ... مِ أمْسَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا
أي: مَفْتُوناً، و «مَنْ» مرادٌ بها المعصومُ، والتقدير: لا معصوم اليوم من أمْرِ الله إلاَّ من رَحِمَهُ اللَّهُ فإنَّه يُعْصَمُ.
الرابع: أن يكون «عاصم» هنا بمعنى النَّسب، أي: ذا عِصْمَة نحو: لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمراد به هنا المعصوم.(10/496)
وهو على هذه التَّقادير استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشريُّ متصلآً لمدرك آخر، وهو حذفُ مضافٍ تقديره: لا يعصمك اليوم مُعْتَصمٌ قط من جبلٍ ونحوه سوى مُعْتَصمٍ واحدٍ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في السفينة.
وأمَّا خبرُ «لا» فالأحسنُ أن يجعل محذوفاً، وذلك لأنَّهُ إذا دلًَّ عليه دليلٌ؛ وجب حذفه عند تميم، وكثر عند الحجاز، والتقدير: لا عاصم موجودٌ.
وجوَّز الحوفيُّ وابنُ عطيَّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفيُّ: ويجوز أن يكون «اليَوْمَ» خبراً فيتعلَّق بالاستقرار، وبه يتعلق «منْ أمْرِ اللهِ» .
وقد ردَّ أبو البقاءِ ذلك فقال: فأمَّا خبرُ «لا» فلا يجوزُ أن يكون «اليَوْمَ» ؛ لأنَّ ظرف الزَّمان لا يكون خبراً عن الجُثَّة، بل الخبرُ «مِنْ أمْرِ الله» و «اليَوْمَ» معمولُ «مِنْ أمْرِ اللهِ» .
وأمَّا اليَوْمَ «و» مِنْ أمْرِ الله «فقد تقدَّم أنَّ بعضهم جعل أحدهما خبراً، فيتعلقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمَّنه الواقعُ خبراً، ويجوزُ في» اليَوْمَ «أن يتعلق بنفس» مِنْ أمْرِ الله «لكونه بمعنى الفعل.
وجوَّز الحوفيُّ أن يكون» اليَوْمَ «نعتاً ل» عَاصِمَ «وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعه خبراً عن الجُثَّة.
وقرىء» إلاَّ مَنْ رُحِمَ «مبنيّاً للمفعول، وهي مقويِّيةٌ لقول من يدعي أنَّ» مَنْ رَحمَ «في قراءةِ العامَّة المرادُ به المرحوم لا الرَّاحم، كما تقدَّم تأويلهُ. ولا يجوزُ أن يكون» اليوْمَ «ولا» مِنْ أمْرِ الله «متعلقين ب» عَاصم «وكذلك الواحد منهما؛ لأنَّه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً، ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب، ومتى أعرب نُوِّن، ولا عبرة بخلاف الزجاج حيثُ زعم أنَّ اسم» لا «معربٌ حذف تنوينه تخفيفاً.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ} فصار {مِنَ المغرقين} .
روي أنَّ الماءَ علا على رؤوس الجبالِ قدر أربعين ذراعاً، وقيل: خمسة عشر ذراعاً.
قوله تعالى: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ} قيل: هذا مجاز، لأنَّها موات. وقيل: جعل فيها ما تُمَيَّز به. والذي قال إنَّه مجازٌ قال: لو فُتِّشَ كلام العرب والعجم ما وُجِدَ فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة وصفها، واشتمال المعاني فيها.
والبلعُ معروفٌ. والفعل منه مكسُورُ العين ومفتوحها: بَلِعَ وبَلَعَ حكاهما الكسائي والفراء.
قيل: والفصيحُ» بَلِعَ «بكسر اللام» يَبْلَع «بفتحها. والإقلاعُ: الإمساك، ومنه» أقْلَعَت الحُمَّى «. وقيل: أقلع عن الشيء، أي: تره وهو قريبٌ من الأول. والغَيْضُ: النقصان، يقال: غاض الماءُ يغيضُ غَيَْضاً، ومغاضاً إذا نقص، وغضته أنا. وهذا من باب فَعَلَ(10/497)
الشيءُ وفعلتهُ أنا. ومثله فغر الفَمُ وفغرته، ودلع اللسانُ ودلعتهُ، ونَقَصَ الشَّيء ونقَصْتُه، وفعله لازم ومتعد، فمن اللازم قوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} [الرعد: 8] ، أي: تَنْقُص. وقيل: بل هو هنا مُتعدٍّ وسيأتي، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ؛ لأنَّه لا يُبْنَى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلاَّ المتعدِّ] بنفسه.
والجُودِيُّ: جبلٌ بعينه بالموصل، وقيل: بل كلُّ جبلٍ يقال له جُوديٌّ، منه قول عمرو بن نفيل: [البسيط]
2976 - سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ ... وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ
قال شهابُ الدين: ولا أدري ما في ذلك من الدَّلالةِ على أنَّهُ عامٌّ في كلِّ جبلٍ.
وقرأ الأعمش وابنُ أبي عبلة بتخفيف ياء» الجُودِيْ «.
قال ابنُ عطيَّة: وهما لغتان: والصَّوابُ أن يقال: خُفِّفَتْ ياءُ النَّسَب، وإن كان يجوزُ ذلك في كلامهم الفَاشِي.
قوله» بُعْداً «منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر، أي: وقيل: ابعدُوا بُعْداً، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو: جَدْعاً، يقال: بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك، قال: [الطويل]
2977 - يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ ... ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُوارِي الصَّفَائِحُ
واللاَّمُ إمَّا أن تتعلق بفعلٍ محذوفٍ، ويكونُ على سبيل البيانِ كما تقدَّم في نحو «سَقْياً لَكَ وَرَعْياً» ، وإمَّا أن تتعلق ب «قيل» ، أي: لأجلهم هذا القول.
قال الزمخشري: ومجيءُ إخباره على الفعل المبني للمفعول للدَّلالة على الجلال والكبرياء، وأنَّ تلك الأمُور العظام لا تكونُ إلاَّ بفعل فاعلٍ قادرٍ، وتكوين مكوِّنٍ قاهرٍ، وأنَّ فاعل هذه الأفعال واحد لا يشاركُ في أفعاله، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره: يا أرضُ ابلعي ماءك، ولا أن يقضي ذلك الامر الهائل إلاَّ هو، ولا أن تستوي السفينة على الجُوديِّ، وتستقر عليه إلاَّ بتسويته وإقرارهِ، ولما ذكرنا من المعانِي والنُّكَث استفصَح عُلماءُ البيانِ هذه الآية، ورقصُوا لها رُءوسَهُم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله: «ابلَعِي وأقلعي» ، وذلك وإن كان الكلامُ لا يخول مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ.(10/498)
فصل
في هذه الآية ألفاظٌ كل واحد منها دال على عظمةِ الله - تعالى -.
فأولها: قوله: «وقِيلَ» وهذا يدلُّ على أنَّهُ سبحانه في الجلال والعظمة بحيثُ أنَّهُ متى قبل لم ينصرف الفعل إلاَّ إليه، ولم يتوجَّه الفكرُ إلاَّ إلى ذلك الأمر؛ فدلَّ هذا الوجهُ على أنَّهُ تقرر في العقول أنَّهُ لا حاكمَ في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والسفلي إلاَّ هُوَ.
وثانيها: قوله: {ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي} فإنَّ الحسَّ يدلُّ على عظمة هذه الأجسامِ، والحقُّ - تعالى - مستولٍ عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد، فصار ذلك سبباً لوقوف القوَّة العقليَّة على كمالِ جلالِ الله - تعالى - وعلوّ قدره وقدرته وهيبته.
وثالثها: أَنَّ السَّماء والأرض من الجمادات، فقوله: «يَا أرضُ وَيَا سَمَاءُ» مشعرٌ بحسب الظَّاهر على أنَّ أمره وتكليفه نافِذٌ في الجمادات، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأنَّ نفوذ أمره على العقلاء أولى، وليس المرادُ منه أَنَّهُ تعالى يأمرُ الجمادات فإنَّ ذلك باطل، بل المراد أنَّ توجيه صيغة الأمر بحسب الظَّاهر على هذه الجمادات القويَّة الشديدة يقرّر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريراً كاملاً.
ورابعها: قوله: {وَقُضِيَ الأمر} ومعناه: أنَّ الَّذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاء جزماً فقد وقع، ذلك يدلُّ على أنَّ ما قضى اللهُ - تعالى - به فهو واقعٌ في وقته وأنه لا دافع لقضائه، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه.
فإن قيل: كيف يليق بحكمة الله - تعالى - أن يغرق الأطفال بسبب جُرم الكبار؟ .
فالجواب من وجهين:
الأول: قال أكثر المفسِّرين: إنَّ الله - تعالى - أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلمْ يغرق إلاَّ من بلغ سِنُّه أربعين سنة.
ولقائل أن يقول: لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ظاهرة، ويبعدُ مع ظهورها استمرارهم على الكفر، وأيضاً فهبْ أنَّ الأمر كما ذكرتم فما قولكم في إهلاكِ الطَّيْرِ الوحش مع أنَّه لا تكليف عليها ألبتَّة.
الجوابُ الثاني: أنه لا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] وأجاب المعتزلةُ بأنَّ الإغراقَ في الحيوانات والأطفال كإذنه في ذبْحِ هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة.
وقوله: {وَقُضِيَ الأمر} أي: فرغ منه، وهو هلاك القوم.
وقوله: {واستوت عَلَى الجودي} أي: استوت السَّفينة على جبلٍ بأرضِ الجزيرةِ بقرب الموصل يقال له الجُودي. قيل: استوت يَوْمَ عاشوراء.(10/499)
{وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} قيل: هذا من كلام اللهِ - تعالى - قال لهم ذلك على سبيل اللَّعْنِ والطَّرْدِ. وقيل: من كلام نوح وأصحابه؛ لأنَّ الغالب ممَّن سلم من الأمر الهائل بسبب اجتماعهم مع الظلمةِ فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام.
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لمَّا عرف نوحٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنَّ الماءَ قد نضب هبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين بعدد من كان معه من المؤمنين؛ فأصبحوا ذات يومٍ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها لغة العربِ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يعبر عنهم.(10/500)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} الآية.
قوله: «فَقَالَ» عطفٌ على «نَادَى» . قال الزمخشريُّ: فإن قلت: وإن كان النداءُ هو قوله «رَبّ» فكيف عطف «فقال رَبّ» على «نَادَى» بالفاء؟ قلت: أريد بالنداء إرادةُ النداء، ولو أريد النداء نفسه لجاء - كما جاء في قوله {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} [مريم: 3]- {قَالَ رَبِّ} [مريم: 4] بغير فاء.
فصل
تقدَّم الكلامُ في أنَّهُ هل كان ابناً له أم لا؟ فقوله: {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} لا خلف فيه {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} حكمت على قوم بالنَّجاةِ وعلى قوم بالكُفْر والهلاك؛ قال الله: {يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} واعلم أنَّه لمَّا ثبت بالدليل، أنه كان ابناً له، وجب أن يكون المراد: ليس من أهل دينك. وقيل: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
قوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} : قرأ الكسائيُّ «عَمِلَط فعلاً ماضياً، و» غيرَ «نَصْباً.(10/500)
والباقون:» عَمَلٌ «بفتح الميمِ وتنوينه على أنه اسمٌ، و» غَيْرُ «بالرَّفع.
فقراءةُ الكسائي: الضميرُ فيها يتعيَّنُ عودهُ على ابنِ نوحٍ، وفاعل» عَمِلَ «ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً، و» غَيْرَ «مفعولٌ به. ويجوزُ أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره: عمل عملاً غير صالح كقوله {واعملوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] . وقيل: إنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
وأمَّا قراءةُ الباقين، ففي الضَّمير أربعة أوجهٍ:
أظهرها: أنَّه عائدٌ على ابن نوح، ويكونُ في الإخبار عنه بالمصدر المذاهب الثلاثة في» رجل عدل «، و» زيْدٌ كرمٌ وجُودٌ «.
والثاني: أنه يعودُ على النداء المفهوم منق وله:» ونَادَى «أي: نداؤك وسؤالك.
وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكيٌّ والزمخشريُّ. وهذا فيه خطرٌ عظيمٌ، كيف يقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياءِ، فضلاً عن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض بعد آدم - عليهما الصلاة والسلام -؟ ولمَّا حكاه الزمخشريُّ قال:» ليسَ بذاك «ولقد أصاب. واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد الله بن مسعود إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما لَيْسَ لك به علمٌ وهذا مخالفٌ للسَّواد.
الثالث: أنَّهُ يعودُ على ركوب ابن نوح المدلول عليه بقوله:» اركب مَعَنَا «.
الرابع: أنَّهُ يعودُ على تركه الرُّكُب، وكونه مع المؤمنين، أي: إنَّ تركه الركوبَ مع المؤمنين وكونه مع الكافرين عملٌ غير صالح، وعلى الأوجه لا يحتاج في الإخبار بالمصدر إلى تأويلٍ؛ لأنَّ كليهما معنى من المعاني، وعلى الوجه الرابع يكون من كلام نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، أي: إنَّ نوحاً قال: إنَّ كونك مع الكافرين وتركك الركوبَ معنا عمل غيرُ صالح، بخلاف ما تقدَّم فإنَّه من قول الله تعالى فقط، هكذا قال مكيٌّ وفيه نظرٌ، بل الظَّاهرُ أنَّ الكلَّ من كلام الله تعالى.
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: هلاَّ قيل: إنَّه عملٌ فاسدٌ. قلت: لما نفاه عن أهله نفى عنه صفتهم بلفظ النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنَّه إنَّما أنْجَى من أنْجَى لصلاحهم لا لأنَّهم أهلك.
قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنِي} قرأ نافع وابن عامرٍ «فلا تَسْألنِّ» بتشديدِ النون مكسورة من غير ياء. وابن كثير بتشديدها مع الفتح، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة، وياءٍ وصلاً لأبي عمرو، ودون ياء في الحالين للكوفيين. وفي الكهف {فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} [الكهف: 70](10/501)
قرأه أبو عمرو والكوفيون كقراءتهم هنا، وافقهم ابنُ كثير في الكهف، وأما نافعٌ وابنُ عامر فكقراءتهما هنا ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياءِ وحذفها، وإنَّما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دون التي في الكهفِ؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم؛ فكانت قراءته بفتح النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياء ثابتةٌ في الرَّسْمِ، فلا يوافق فيها فتحها. وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوت الياء في الكهفِ.
فمن خفَّف النون، فهي نونُ الوقاية وحدها، ومن شدَّدها فهي نون التوكيد.
وابنُ كثير لم يجعل في هود الفعل متصلاً بياء المُتكلم، والباقون جعلوه. فلزمهم الكسرُ. وقد تقدَّم أنَّ «سَأَلَ» يتعدَّى لاثنين أوَّلهما ياء المتكلم، والثاني {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .
قوله: «أن تكون» على حذف حرف الجر، أي: مِنْ أن تكون أو لأجْلِ أن، وقوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} يجوزُ في «بِهِ» أن يتعلَّق ب «عِلْم» .
قال الفارسيُّ: ويكون مثل قوله: [الرجز]
2978 - كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أجْلَدَا ... ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به «لَكَ» ، والباء بمعنى «في» ، أي ما ليس لك به علمٌ. وفيه نظرٌ.
ثم قال: {إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} يعني أن تدعو بهلاك الكفار، ثم تسأل نجاة كافر {قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} وهذا إخبار بما في المستقبل وهو العزم على الترك.
قوله: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي} لم تمنع «لا» من عمل الجازم كما لم تمنعْ من عمل الجارِّ في نحو: «جِئْتُ بلا زادٍ» قال أبو البقاء: «لأنَّها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملةٍ في النَّفْي، وهي تنفي ما في المستقبل، وليس كذلك» مَا «فإنَّها تنفي ما في الحالِ؛ فلذلك لمْ يَجُزْ أن تدخُل» إنْ «عليها» .
قوله
: {قِيلَ
يانوح
} الخلافُ المتقدم في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} [البقرة: 13 و91] وشبهه عائدٌ هنا، أي: في كونِ القائم مقام الفاعلِ الجملة المحكيةَ أو ضمير مصدرِ الفعل.
قوله: «بِسَلاَمٍ» حالٌ من فالع «اهْبِطْ» أي: مُلْتَبساً بسلامٍ. و «مِنا» صفةٌ ل: «سَلام» فيتعلق بمحذوفٍ أو هو متعلقٌ بنفس «سلام» ، وابتداءُ الغاية مجازٌ، وكذلك «عَلَيْكَ» يجوز أن يكون صفة ل «بَركات» أو متعلقاً بها.
ومعنى «اهْبِطْ» انزل من السفينة، وعدهُ عند الخروج بالسَّلامة أولاً، ثم بالبركةِ ثانياً.(10/502)
والبركة: ثبوت الخير ومنه بروك البعير، ومنه البركةُ لثبوت الماء فيها، ومنه {تَبَارَكَ الله} [الأعراف: 54] أي: ثبت تعظيمه وقيل: البركةُ ههنا هي أنَّ الله - تعالى - جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة، ثم لمَّا بشَّرهُ بالسَّلامة والبركةِ شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال: {وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} قيل: المرادُ الذين معه، وذرياتهم، وقيل: ذريَّة من معهُ.
قوله {مِّمَّن مَّعَكَ} يجوز في «مَنْ» أن تكون لابتداء الغاية، أي: ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدَّهْر، ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس، فيراد الأمم الذين كانُوا معه في السفينة؛ لأنَّهم كانوا جماعاتٍ.
وقُرِىء «اهْبُط» بضمِّ الباءِ، وقد تقدَّم أول البقرة، وقرأ الكسائيُّ - فيما نُقِل عنه - «وبركة» بالتوحيد.
قوله: «وأمم» يجوزُ أن يكون مبتدأ، و «سَنُمَتِّعُهُمْ» خبره، وفي مسوغ الابتداء وجهان:
أحدهما: الوصفُ التقديري، إذ التقديرُ: وأممٌ منهم، أي: ممَّن معك كقولهم: «السَّمْن منوان بدرهم» ف «مَنَوان» مبتدأٌ وصفَ ب «منه» تقديراً.
والثاني: أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو: «النَّاسُ رجلان: رجلٌ أهَنْتُ، وآخرُ أكْرَمْتُ» ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]
2979 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفهَا انحَرفَتْ لهُ ... بِشِقٍّ وشِقٍّ عندنَا لَمْ يُحَوَّلِ
ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضَّمير المستتر في «اهْبِطْ» وأغنى الفصل عن التأكيد بالضَّمير المنفصل، قاله أبو البقاء. قال أبو حيَّان: وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان، لأنَّ الذين كانُوا مع نوح في السَّفينةِ إنَّما كانُوا مُؤمنين؛ لقوله: {وَمَنْ آمَنَ} ولم يكُونُوا كُفَّاراً ومؤمنين، فيكون الكفار مأمورين بالهبوطِ، إلاَّ إنْ قُدِّرَ أنَّ من المؤمنين من يكفر بعد الهبوطِ، وأخبر عنهم بالحال اليت يؤولُون إليها فيمكن على بُعْدٍ. وقد تقدَّم أنَّ مثل ذلك لا يجُوزُ، في قوله {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35] لأمرٍ صناعي، و «سَنُمَتِّعُهُمْ» على هذا صفةٌ ل «أمم» ، والواوُ يجوز أن تكون للحال قال الأخفشُ: كما تقولُ: كلَّمْتُ زيداً وعمرٌو جالس «ويجُوزُ أن تكون لمجرَّدِ النَّسَق.
واعلم أنَّهُ سبحانه أخبر بأنَّ الأمم النَّاشئة الذين كانوا مع نوحٍ لا بدَّ وأن ينقسمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ.
ثم قال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} وقد تقدَّم الكلامُ فيها عند قوله {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} [آل عمران: 44] في آل عمران. و «تلك» في محلِّ رفع على الابتداء، و {مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} الخبر، و «نُوحِيهَا إليْكَ» خبر ثان.(10/503)
قوله: {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ} يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكون حالاً من الكاف في «إليك» وأن تكون حالاً من المفعول في «نُوحيهَا» وأن تكون خبراً بعد خبر.
والمعنى: ما كنت تعلمُها أنت يا محمدُ ولا قومك، أي: إنَّك ما كنت تعرفُ هذه القصة وقومك أيضاً ما كانوا يعرفونها، كقول الإنسان لآخر: لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك.
فإن قيل: أليس قد كانت قصة الطوفان مشهورة عند أهل العلم؟ .
فالجواب: أنها كانت مشهورة بحسب الإجمال، أمَّا التَّفاصيلُ المذكورة فما كانت معلومة.
ثم قال تعالى: «فاصْبِرْ» يا محمد أنت وقومك على أولئك الكفار «إنَّ العافيةَ» آخر الأمر والنّصر والظّفر «لِلْمُتَّقين» .
فإن قيل: إنَّه ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم أعادها، فما فائدة هذا التكرار؟ .
فالجوابُ: أنَّ القصة الواحدة قد ينتفعُ بها من وجوه، ففي السورةِ الأولى كان الكفار يستعجلُون نزول العذاب، فذكر - تعالى - قصة نوح وبيَّن أنَّ قومه كانُوا يكذبُونه بسبب أنَّ العذابَ ما كان يظره ثُمَّ في العاقبةِ ظهر، فكذا في واقعة محمد - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه -، وفي هذه السورة ذكر القصة لبيان أنَّ إقدامَ الكُفَّار على الإيذاء، والإيحاش كان حاصلاً في زمن نُوح، فلمَّا صبر نال الفتح والظفر، فكن، يا مُحمَّدُ، كذلك لتنال المقصود، فلمَّا كان الانتفاعُ بالقصة في كُلِّ سُورة من وجهٍ لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدةِ.(10/504)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
قوله تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} القصَّةُ: معطوفان على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى(10/504)
قَوْمِهِ} [هود: 25] في عطف مرفوع على مرفوع ومجرور، كقولك: ضرب زيدٌ عمراً، وبكرٌ خالداً وليس من باب ما فُصِل فيه بين حرفِ العطفِ والمعطوفِ بالجارِّ والمجرور نحو: «ضَرَبْتُ زيداً، وفي السُّوق عَمْراً» فيجيءُ الخلافُ المشهورُ.
وقيل: بل هو على إضمار فعلٍ، أي: وأرْسَلْنَا هوداً، وهذا أوفق لطولِ الفصلِ.
و «هوداً» بدلٌ أو عطفُ بيان لأخيهم.
وقرأ ابنُ محيصنٍ «يَا قَوْمُ» بضم الميم، وهي لغةُ بعضهم يبنُون المضاف للياء على الضَّم كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احكم} [الأنبياء: 112] بضمِّ الياء، ولا يجوز أن يكون غير مضافٍ للياءِ كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.
وقوله: {مِّنْ إله غَيْرُهُ} تقدّضم في الأعراف.
فصل
كان هود أخاهم في النسب لا في الدِّين؛ لأنه كان من قبيلةِ عادٍ، وهم قبيلةٌ من العربِ بناحية اليمنِ، كما يقالُ للرَّجُلِ: يا أخا تميم، ويا أخا سليمٍ، والمرادُ رجلٌ منهم.
فإن قيل: إنَّه تعالى قال في ابن نُوح {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] فبيَّن أنَّ قرابة النَّسبِ لا تفيدُ إذا لم تَحْصُلْ قرابةُ الدِّين، وههنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدِّين، فما الفرقُ بينهما؟ .
فالجوابُ: أنَّ المراد من هذا الكلام استمالة قوم محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّ قومهُ كانُوا يستبعدُون في محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أنَّهُ واحدٌ من قبيلتهم أن يكون رسولاً إليهم من عند الله، فذكر الله تعالى أنَّ هوداً كان واحداً من عاد، وأنَّ صالحاً كان واحداً من ثمود، لإزالة هذا الاستبعاد.
{قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله} [الأعراف: 65] وحدُوا الله، ولا تعبدُوا غيرهُ.
فإن قيل: كيف دعاهم إلى عبادةِ قبل إقامةِ الدَّلالة على ثبوت الإله تعالى؟ .
فالجواب: أنَّ دلائل ثُبوتِ وجود الله تعالى ظاهرة، وهي دلائلُ الآفاق والأنفس، وقلَّما تُوجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله؛ ولذلك قال تبارك وتعالى في صفة الكفار: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] .
ثم قال: «إنْ أنتُمْ» ما أنتم «إلاَّ مُفْتَرُونَ» كاذبُون في إشراككم.
ثم قال: {ياقوم لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي: على تبليغ الرسالة جُعْلاً {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني} وهذا عينُ ما ذكره نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.(10/505)
قرأ نافع، والبزي بفتح ياء «فَطَرني» ، وأبو عمرو وقنبل بإسكانها. ومعنى «فَطَرني» خلقني، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أني مصيبٌ في المنع من عبادة الأوثان.
ثم قال: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ} آمنوا به، والاستغفارُ - ههنا - بمعنى الإيمان.
وقال الأصمُّ: {استغفروا رَبَّكُمْ} أي: سلُوه أن يغفر لكم ما تقدَّم من شرككم، ثم توبوا من بعده بالنَّدم على ما مضى، وبالعزمِ على أن لا تعودوا إلى مثله، فإذا فعلتُم ذلك فالله يكثرُ النّعْمَة عليكم.
قوله: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} نصب «مِدْرَاراً» على الحالِ، ولم يُؤنِّثْهُ وإن كان من مُؤثَّث لثلاثةِ أوجهٍ:
أحدها: أنَّ المراد بالسَّماء السحاب، فذكَّر على المعنى.
الثاني: أنَّ مفعالاً للمبالغةِ فيستوي فيه المذكَّر والمؤنث ك: صَبُور، وشكُور، وفعيل.
الثالث: أنَّ الهاءَ حذفت من «مِفْعَال» على طريقِ النَّسَب قاله مكيٌّ، وقد تقدَّم إيضاحه في الأنعام.
والمعنى: يُرسل عليكم المطر متتابعاً مرةً بعد أخرى في أوقات الحاجةِ. {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} أي: شدة مع شدَّتكم. وقيل: المراد بالقوَّة: المال وذلك أنَّ الله تعالى لمَّا بعث هوداً إليهم، وكذَّبُوهُ حبس الله المطر عنهم ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فقال لهم هودٌ: إنْ آمنتم بالله أحْيَا اللهُ بلادَكم ورزقكم المالَ، والولدَ، فذلك قوله تعالى: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} والمِدْرَارُ: بالكسر الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة.
فإن قيل: إنَّ هوداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: لو اشتغلتم بعبادةِ الله لانفتحت عليكم أبوابُ الخيرات الدنيوية، وليس الأمرُ كذلك لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «خُصَّ البلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأولياءِ ثُمَّ الأمثلِ، فالأمْثل» فكيف الجمعُ بينهما؟ وأيضاً فقد جرتْ عادةُ القرآنِ بالتَّرغيب في الطَّاعاتِ بسبب ترتيب الخيرات الدنيويَّة، والأخرويَّةِ عليها، فأمَّا التَّرغيبُ في الطَّاعَاتِ لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها؛ فذلك لا يليقُ بالقرآن.
فالجوابُ: لمَّا كثر التَّرغيب في سعاداتِ الآخرة لم يتغيَّر بالتَّرغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفايةِ.
قوله: {إلى قُوَّتِكُمْ} يجوز أن يتعلق ب «يَزِدْكُم» على التَّضمين، أي: يُضيف إلى قُوَّتكم قُوَّةً أخرى، أو يجعل الجار والمجرور صفة ل «قُوَّة» فيتعلَّق بمحذوفٍ.
وقدَّرهُ أبو البقاءِ: «مُضافةً إلى قُوَّتِكُم» ، وهذا يأباهُ النحاةُ، لأنَّهُم لا يقدِّرُون إلاَّ الكون(10/506)
المطلق في مثله، أو تجعل «إلى» بمعنى «مع» أي: مع قُوَّتكم، كقوله: {إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] .
ثم قال: {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} أي: ولا تدبروا مشركين مصرِّين على الكفر.
{قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} ببرهانٍ وحُجَّةٍ واضحةٍ على ما تقول. والباء في «بيِّنَةٍ» يجوزُ أن تكون للتَّعدية؛ فتتعلَّق بالفعل قبلها أي ما أظهرت لنا بينةٌ قط.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ؛ إذ التقديرُ: مُسْتقراً أو مُلتبساً ببيِّنةٍ.
قوله: {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} أي: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك، فيكون «عَنْ قَوْلِكَ» حالٌ من الضمير في «تَارِكي» ويجُوزُ أن تكون «عَنْ» للتَّعْليل كهي في قوله تعالى: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} [التوبة: 114] ، أي: إلاَّ لأجل موعدةٍ. والمعنى هنا: بتاركي آلهتنا لقولك، فيتعلَّق بنفس «تاركي» .
وقد أشَارَ إلى التعليل ابنُ عطية، ولكنَّ المختار الأول، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيره.
قوله: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدِّقين.
{إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء} الظَّاهر أن ما بعد «إلاَّ» مفعولٌ بالقول قبله، إذ المرادُ: إن نقُولُ إلاَّ هذا اللفظ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك «ما قُلْتُ إلاَّ زيدٌ قائمٌ» . قوال أبُو البقاءِ: «الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، التقدير: إن نقول إلاَّ قولاً هو اعتراكَ، ويجُوزُ أن يكون موضعها نصباً، أي: ما نذكر إلاَّ هذا القول» .
وهذا غيرُ مرضٍ؛ لأنَّ الحكاية بالقولِ معنى ظاهر لا يحتاج إلى تأويلٍ، ولا إلى تضمين القولِ بالذِّكْرِ.
وقال الزمخشريُّ: «اعْتراكَ» مفعول «نَقُول» و «إلاَّ» لغوٌ، أي: ما نقُولُ إلاَّ قولنا «اعْتَرَاكَ» . انتهى.
يعنى بقوله: «لغوٌ» أنَّهُ استثناءٌ مفرَّغ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب، إذا ظاهرُهُ يقتضي أن تكون الجملةُ منصوبةً بمصدرٍ محذوفٍ، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب «تَقُول» هذا الظَّاهرُ.
ويقال: اعتراهُ يعتريه إذا أصابه، وهو افتعل من عراه يَعْرُوه، والأصلُ: اعترو مِنْ العَرْو، مثل: اغتَزَو من الغَزْو، فتحرَّك حرفُ العلَّة وانفتح ما قبله فقُلب ألفاً، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ.
والمعنى: أنَّك شَتَمْتَ آلهتنا، فجعلتكَ مجنوناً، وأفسدت عقلك، ثم قال لهم هودٌ: {إني أُشْهِدُ الله} على نفسي {واشهدوا} يا قومي {أَنِّي بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} من دُونهِ، يعنى: الأوثان.(10/507)
قوله: {أَنِّي بريء} يجوزُ أن يكون من بابِ الإعمال؛ لأنَّ «أشْهِدُ» يطلبه، و «اشْهَدُوا» يطلبه أيضاً، والتقديرُ: أشهدُ الله على أنِّي بريءٌ، واشهدُوا أنتم عليه أيضاً، ويكون من باب إعمال الثاني؛ لأنَّهُ لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، ولا غرو في تنازع المختلفين في التعدِّي واللزوم.
و «مِمَّا تُشْرِكُونَ» يجوز أن تكون «ما» مصدريةً، أي: من إشراككم آلهةٌ من دُونه، أو بمعنى «الَّذي» ، أي: من الذين تشركونه من آلهةٍ من دونه، أي: أنتم الذين تجعلُونها شركاء.
وقوله: «جَمِيعاً» حالٌ من فاعل «فَكِيدُونِي» ، وأثبت سائرُ القرَّاء ياء «فَكِيدُونِي» في الحالين، وحذفوها في المرسلات.
وهذا نظيرُ ما قاله نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لقومه: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} [يونس: 71] إلى قوله: {وَلاَ تُنظِرُونَ} [يونس: 71] .
وهذه معجزةٌ قاهرةٌ؛ لأنَّ الرَّجُل الواحدَ إذا أقبل على القوم العظام، وقال لهم: بالغُوا في عداوتي، وفي إيذائي، ولا تؤجلون فإنَّه لا يقُولُ هذا إلاَّ إذا كان واثقاً من الله بأنَّهُ يحفظه، ويصونه عن كيد الأعداءِ، وهذا هو المراد بقوله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي: اعتمادي على الله ربِّي وربِّكُم.
{مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} قال الأزهريُّ: «النَّاصيةُ عند العربِ: مَنْبِتُ الشَّعر في مقدم الرأس، ويسمَّى الشعر النَّابتُ هناك أيضاً ناصية باسم منبته» .
ونصَوْتُ الرَّجلَ: أخذتُ بناصيته، فلامُها واو، ويقال: ناصَاة بقلبِ يائها ألفاً، وفي الأخْذِ بالنَّاصية عبارةٌ عن الغلبة والتَّسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته، ولذلك كانُوا إذا منُّوا على أسيرٍ جزُّوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره، والعربُ إذا وصفُوا إنساناً بالذلة، والخضوع قالوا: ما ناصية فلان إلاَّ بيد فلان، أي: إنَّه مطيعٌ له.
ومعنى «آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ» قال الضحاكُ: «مُحْيِيهَا ومُمِيتها» . وقال الفرَّاء: «مالكها والقادر عليها» وقال القتيبيُّ: «بقهرها» .
{إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يعني: وإن كان ربِّي قادراً عليهم فإنه لا يظلمهم، ولا يعملُ إلا بالإحسان والعدل، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وقيل: معناه دين ربِّي صراط مستقيم. وقيل: فيه إضمار، أي: إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم.
«فإن تولَّوْا» أي: تتولَّوا فحذف إحدى التَّاءين، ولا يجُوزُ أن يكون ماضياً كقوله: «(10/508)
أبْلَغْتُكُم» ولا يجُوزُ أن يُدَّعى فيه الالتفات، إذ هو ركاكةٌ في التَّركيب، وقد جوَّز ذلك ابنُ عطية فقال: «ويُحْتَمل أن يكون» تَولَّوا «ماضياً، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غيبةٍ إلى خطابٍ» .
قال شهابُ الدِّين: «ويجُوزُ أن يكون ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخر غير الالتفات: وهو أن يكون على إضمار القولِ، أي: فقل لهم: قد أبْلَغْتَكم، ويترجَّح كونه بقراءة عيسى الثقفي والأعرج» فإن تُولُّوا «بضمِّ التَّاءِ واللام، مضارع» ولَّى «، والأصل: تُوَلِّيُوا فأعِلّ.
وقال الزمخشريُّ:» فإن قلت: الإبلاغ كان قبل التَّولِّي، فكيف وقع جزاءً للشَّرْطِ؟ .
قلت: معناه، وإن تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوبين بأنَّ ما أرسلتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلاَّ التَّكذيب «.
قوله:» وَيَسْتَخْلِفُ «العامَّةُ على رفعه استئنافاً. وقال أبو البقاءِ: هو معطوفٌ على الجوابِ بالفاءِ. وقرأ عبد الله بن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بتسكينه، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات.
والثاني: أن يكون مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاءِ، إذ محلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قوله: {فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] وقد تقدَّم تحقيقه، إلاَّ أنَّ القراءتين ثمَّ في المتواتر.
والمعنى: إن تتولوا أهلككم الله، ويستبدلُ قوماً غيركم أطوع منكم يُوحِّدُونه ويعبدُونهُ.
قوله:» ولا تَضُرُّونهُ «العامَّةُ: على النُّون؛ لأنَّه مرفوعٌ على ما تقدم، وابن مسعودٍ بحذفها، وهذا يُعيِّن أن يكون سكونُ» يَسْتَخْلف «جزماً ولذلك لم يذكر الزمخشريُّ غيره؛ لأنَّهُ ذكر جزم الفعلين، ولمَّا لم يذكر أبو البقاءِ الجزم في» تَضُرُّونَهُ «جوَّز الوجهين في» يَسْتَخْلف «.
و «شيئاً» مصدرٌ، أي: شيئاً من الضَّرر.
والمعنى: أنَّ إهلاككم لا ينقصُ من ملكه شيئاً، لأنَّ وجودكم وعدمكم عنده سواء.
وقيل: لا تضرونهُ شيئاً بتوليكم وإعراضكم، إنما تضرُّون أنفسكم {إِنَّ رَبِّي على كُلِّ(10/509)
شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي: يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها. وقيل: يحفظني من شركم ومكركم. وقيل: حفيظ من الهلاكِ إذا شاء، ويهلك إذا شاء.
قوله: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} أي: عذابنا، وهو ما نزل بهم من الريحِ العقيمِ، عذَّبهم الله بها سبع ليال، وثمانية أيَّام، تدخلُ في مناخرهم وتخرجُ من أدْبَارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صارُوا {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] .
{نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} وكانُوا أربعة آلاف «بِرَحْمَةٍ مِنَّا» بنعمة مِنَّا. وقيل: المراد بالرحمة: ما هداهُم إليه من الإيمان. وقيل: المرادُ أنَّهُ لا ينجو أحد، وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلاَّ برحمةٍ من الله تعالى.
ثم قال: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} فالمرادُ بالنَّجاةِ الأولى: هي النَّجَاةُ من عذاب الدُّنيا، والنَّجاةُ الثانية من عذاب القيامةِ.
والمرادُ بقوله: «ونَجَّيْنَاهُم» أي: حكمنا بأنَّهُم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ.(10/510)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
ولما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} وهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال: سِيحُوا في الأرض فانظرُوا إليها واعتبروا.
قوله: «جَحَدُوا» جملةٌ مستأنفة سيقت للإخبار عنهم بذلك، وليْسَتْ حالاً ممَّا قبلها، و «جَحَدَ» يتعدَّى بنفسه، ولكنه ضُمِّنَ معنى «كَفَر» ، فيُعدَّى بحرفه، كما ضمَّن «كَفَر» معنى «جَحَدَ» فتعدَّى بنفسه في قوله بعد ذلك: «كَفَرُوا ربَّهُمْ» .
وقيل: إنَّ «كَفَر» ك «شَكَر» في تعدِّيه بنفسه تارةً وبحرفِ الجر أخرى.
واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاث صفاتٍ.
الأولى: قوله: {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي: جحدوا دلائل المعجزات على الصِّدقِ، أو حجدُوا دلائل المحدثات على وجودِ الصانع الحكيمِ.
والثانية: قوله: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} ومعناه: أنهم إذا عصوا رسُولاً واحداً؛ فقد عصوا جميع الرُّسُلِ لقوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 258] .
والثالثة: قوله: {واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} والمعنى: أنَّ السَّفلة كانُوا يقلدون الرؤساء في قولهم {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [المؤمنون: 33] .
وتقدَّم اشتقاقُ «الجبّار» [المائدة: 22] . والعَنِيدُ والعَنُود والمُعَاند: المنازع المعارض قاله أبو عبيدٍ وهو الطَّاغي المتجاوزُ في الظُّلم من قولهم: «عَنَدَ يَعْنِد» إذا حاد(10/510)
عن الحقِّ من جانبٍ إلى جانب. ومنه «عندي» الذي هو ظرف؛ لأنه في معنى جانب، من قولك: عندي كذا، أي: في جانبي.
ثم قال: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً} أي: أردفُوا لعنة تلحقهم، وتصاحبهم في الدنيا وفي الآخرة. واللعنة: هي الإبعادُ، والطَّردُ عن الرَّحمةِ.
ثم بيَّن السَّبب في نزول هذه الاحوال فقال: {ألاا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} أي: كفروا بربهم فحذف الباء. وقيل: هو من باب حذف المضافِ، أي كفروا نعمة ربِّهم.
ثم قال: {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} قيل: بُعْداً من رحمةِ الله، وقيل: هلاكاً. وللبعد معنيان:
أحدهما: ضدَّ القربِ، يقال منه: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْداً.
والآخر: بمعنى الهلاك فيقال منه: بَعِد يَبعِدُ بَعَداً وبَعُداً.
فإن قيل: اللعن هو البُعْدُ، فلمَّا قال: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة} فما فائدةُ قوله: {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} ؟ .
فالجواب: كانوا عاديَيْن.
فالأولى هم قوم هود الذين ذكرهم الله في قوله {أَهْلَكَ عَاداً الأولى} [النجم: 50] .
والثانية أصحاب إرم ذات العمادِ.
وقيل: المبالغة في التَّنْصيصِ تدلُّ على مزيد التأكيد.(10/511)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
قوله تعالى: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} القصة.
الكلامُ على أوَّلها كالذي قبلها. والعامَّةُ على منع «ثمُود» الصَّرْف هنا لعلَّتين: وهما(10/511)
العلمية والتَّأنيث، ذهبُوا به مذهب القبيلة، والأعمش ويحيى بن وثاب صَرَفاه، ذهبا به مذهب الحي، وسيأتي بيان الخلافِ إن شاءَ الله تعالى.
قوله: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} يجُوزُ أن تكون «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، أي ابتداء إنشائكم منها إمَّا إنشاءُ أصلكم، وهو آدم - صلوات الله وسلامه عليه -.
قال ابنُ الخطيب: «وفيه وجهٌ آخر وهو أقربُ منه؛ وذلك لأنَّ الإنسان مخلوقٌ من المنيّ ومن دم الطمث، والمنيُّ إنما تولد من الدَّم، فالإنسان مخلوق من الدَّم، والدَّم إنما تولد من الأغذية، والأغذيةُ إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانات حالها كحال الإنسان؛ فوجب انتهاء الكل إلى النبات والنبات أنما تولد من الأرض؛ فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض» .
أو لأن كل واحد خلق من تربته؛ أو لأن عذائهم وسبب حياتهم من الأرض.
وقيل: «من» بمعنى «في» ولا حاجة إليه.
قوله: {واستعمركم فِيهَا} أي جعلكم عمَّارها وسكانها. قال الضحاكُ: «أطَالَ أعماركم فيها» . وقال مجاهدٌ: أعمركم من العمرى. أي جعلها لكم ما عِشْتُمْ. وقال قتادةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «اسكنكم فيها» . قال ابنُ العربي: «قال بعضُ علمائنا: الاستعمارُ: طلبُ العمارة، والطلب المعلق من الله - تعالى - على الوجوب، قال القاضي أبو بكرٍ: تأتي كلمة استفعل في لسانِ العربِ على معانٍ منها: استفعل بمعنى: طلبُ الفعل كقوله: اسْتَحْمَلْتُه أي: طلبت من حملاناً، وبمعنى اعتقد؛ كقوله: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلاً، أو وجدتُه سهلاً، واستعظمتهُ أي: وجدته عظيماً، وبمعنى أصبت كقوله: استجدته أي: أصبته جيداً، وبمعنى» فَعَلَ «؛ كقوله: قرَّ في المكانِ، واستقر، قالوا وقوله: [ {يَسْتَهْزِءُونَ} [الأنعام: 5] و {يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات: 14] منه، فقوله تعالى: {واستعمركم فِيهَا} أي: خلقكم لعمارتها، لا على معنى: استجدته واستسهلته، أي: أصبته جيداً، وسهلاً، وهذا يستحيل] في حقِّ الخالق، فيرجع إلى أنَّه حلق لأنه الفائدة؛ وقد يعبّر عن الشيء بفائدته مجازاً، ولا يصحّ أن يقال إنه طلبٌ من الله لعمارتها، فإن هذا لا يجوز في حقه» ويصحُّ أن يقال: استدعى عمارتها، وفي الآية دليل على الإسكان والعُمْرَى.
ثم قال: {فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} وقد تقدَّم تفسيره. {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} أي:(10/512)
أقربُ بالعلم والسمعِ «مجيب» دعاء المحتاجين بفضله، ورحمته.
ولمَّا قرَّر صالح هذه الدلائل {قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا} أي: كُنَّا نَرْجُو أن تكون سيّداً فينا. وقيل: كُنَّا نَرْجُو أن تعُود إلى ديننا، وذلك أنَّهُ كان رجلاً قوي الخاطر وكان من قبيلتهم، فقوي رجاؤهُم في أن ينصر دينهم، ويقرِّرُ طريقتهم، فلمَّا دعاهم إلى الله وترك الأصنام زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه فقالوا: {أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الآلهة، فتمسَّكُوا بطريق التقليد.
ونظير تعجُّبهم هذا ما حكاهُ الله - تعالى - عن كفَّار مكَّة في قولهم: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] .
قوله: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ} مما تدعونا إليه مريب هذا هو الأصل، ويجوز «وإنَّا» بنونٍ واحدةٍ مشدَّدة كما في السورة الأخرى [إبراهيم: 9] . وينبغي أن يكون المحذوفُ النُّونَ الثَّانية من «إنَّ» ؛ لأنَّه قد عُهد حذفها دون اجتماعها مع «ن» ، فحذها مع «ن» أولى، وأيضاً فإنَّ حذف بعض الأسماءِ ليس بسهلٍ وقال الفرَّاءُ: «مَنْ قال» إنَّنَا «أخرج الحرف على أصله؛ لأنَّ كتابة المتكلمين» نَا «فاجتمع ثلاثُ نونات، ومن قال:» إنا «استثقل اجتماعها؛ فأسقط الثالثة، وأبقى الأوليين» انتهى. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك.
قوله: «مُرِيبٍ» اسم فاعل من «أرَاب» يجوز أن يكون متعدِّياً من «أرابهُ» ، أي: أوقعه في الرِّيبة، أو قاصراً من «أرابَ الرَّجلُ» أي: صار ذا ريبة. ووصف الشَّكُّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً.
والشَّك: أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النَّفْي والإثبات، والمُريب: هو الذي يظن به السوء والمعنى: أنَّهُ لَمْ يترجَّحْ في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغةٌ في تزييف كلامهِ.
قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً} تقدَّم نظيره [يونس: 50] ، والمفعول الثَّاني هنا محذوف تقديره: أأعْصيه ويدل عليه «إنْ عَصَيْتُه» . وقال ابنُ عطيَّة: هي مِنْ رؤيةِ القَلْبِ، والشَّرطُ الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مسدَّ مفعولين ل «أرَأيْتُم» .
قال أبُو حيَّان: «والذي تقرَّر أنَّ» أرَأيْتَ «ضُمِّن معنى» أخْبِرْنِي «، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن، فجملةُ الشَّرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولي» عَلِمْتُ «وأخواتها» .
قوله: {إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي} ورد بحرف الشَّك، وكان على يقين تام في أمره إلاَّ أنَّ خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبُولِ؛ فكأنه قال: قدِّرُوا أنِّي على بيِّنةٍ من ربِّي وأنِّي نبيٌّ على الحقيقةِ، وانظُرُوا إن تابعتكم، وعصيتُ أمر ربِّي، فمن يمنعني من عذابِ الله فما تزيدُونَنِي على هذا التقدير غير تَخْسِير.
قوله: «غَيْرَ تَخْسِير» الظاهرُ أنَّ «غَيْرَ» مفعولٌ ثانٍ(10/513)