إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
قال أبو مُسْلِمٍ: هذا الكلام متصل بما قبله، ولا يجوز الوقف على قوله: {الكاذبين} ، وتقدير الآية: فنجعلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِيْنَ بأن هذا هو القصص الحقُ، وعلى هذا التقدير كان حق «إنَّ» أن تكون مفتوحةً، إلا أنها كُسِرَت؛ لدخول اللاَّمِ في(5/291)
قوله: {لَهُوَ الْقَصَصُ} ، كما في قوله: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} [العاديات: 11] .
قال الباقون: الكلام تمّ عند قوله: {عَلَى الكاذبين} وما بعده جملة أخْرَى مستقلة غير مُتعَلِّقةٍ بما قبلها، فَقَوْلُهُ: {هذا} الكلام إشارةٌ إلى ما تقدم من الدلائلِ والدعاءِ إلى الْمُبَاهَلَةِ، وأخبار عيسى.
وقيل: هو إشارة لما بعده - وهو قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} - وضُعفَ هذا بوجهين:
أحدهما: أنَّ هذا ليس بقصصٍ.
الثاني: أن مقترن بحرف العطف.
واعتذر بعضهم عن الأول، فقال: إن أراد بالقصص الخبر، فيصح على هذا، ويكون التقدير: إن الخبر الحق {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} ولكن الاعتراض الثاني باقٍ، لم يُجَبْ عنه.
و «هُوَ» يجوز أن يكون فَصْلاً، و «القصص» خبر «إن» ، و «الْحَقُّ» صفته، ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ و «الْقَصَصُ» خبره، والجملة خبر «إنَّ» .
والقصص مصدر قولهم: قَصَّ فلانٌ الحديثَ، يَقُصُّهُ، قَصًّا، وقَصَصاً وأصله: تتبع الأثَر، يقال: فلان خرج يقصُّ أثَرَ فلان، أي: يتبعه، ليعرف أين ذَهَبَ. ومنه قوله: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] ، أي، اتبعي أثره، وكذلك القاصّ في الكلام، لأنه يتتبع خَبراً بعد خبر. وقد تقدم التنبيه على قراءتي «لهْو» بسكون الهاء وضمها؛ إجراء لها مجرى عضد.
قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: لم جاز دخولُ اللامِ على الفَصْل؟
قلت: إذا جاز دخولُها على الخبر كان دخولُها على الفَصْل أجودَ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ.
قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن {مِنْ إله} مبتدأ، و «مِنْ» مزيدة فيه، و «إلاَّ اللهُ» خبره، تقديره: ما إلَهٌ إلا اللهُ، وزيدت «مِنْ» للاستغراق والعموم.
قال الزمخشريُّ: و «مِنْ» - في قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} - بمنزلة البناء على الفتح في: لا إلَهَ إلا اللهُ - في إفادة معنى الاستغراق.
قال شهابُ الدينِ: الاستغراق في: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، لم نستفده من البناء على الفتح، بل استفدناه من «مِنْ» المقدَّرة، الدالة على الاستغراق، نَصَّ النحويون على ذلك، واستدلوا عليه بظهورها في قول الشاعر: [الطويل]
1495 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... وَقَالَ: ألاَ لاَ مِنْ سَبيلٍ إلَى هِنْدٍ(5/292)
الثاني: أن يكون الخبر مُضْمَراً، تقديره: وما من إله لنا إلا الله، و {إِلاَّ الله} بدل من موضع {مِنْ إله} ، لأن موضعه رفع بالابتداء، ولا يجوز في مثله الإبدالُ من اللفظ، لِئَلاّ يلزم زيادة «مِنْ» في الواجب، وذلك لا يجوز عند الجمهور.
ويجوز في مثل هذا التركيب نصب ما بعد «إِلاَّ» على الاستثناء، ولكن لم يُقرأ به، إلا أنَّه جائز لُغَةً أنْ يُقَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ - برفع لفظ الجلالة بدلاً من الموضع، ونصبها على الاستثناء من الضمير المستكن في الخبر المقدر؛ إذ التقدير: لا إله استقر لنا إلا الله.
وقال بَعْضُهُم: دخلت «مِنْ» لإفادة تأكيد النفي؛ لأنك لو قلتَ: ما عندي من الناس أحد، أفاد أن عندك بعض الناس. فإذا قلتَ: ما عندي من الناس من أحدٍ، أفاد أن ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أوْلَى، فثبت أن قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحدُ الحقُّ.
قوله: {وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم} كقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} وفيه إشارةٌ إلى الجواب عن شبهات النَّصَارَى، لأن اعتمادَهم على أمرين:
أحدهما: أنه قدر على إحياء الموتَى وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ، فكأنه - تعالى - قال: هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية، بل لا بُدَّ وأن يكون عزيزاً، غالباً، لا يدفع، ولا يمنع، وأنتم اعترفتم بأن عيسى - عليه السلام - ما كان كذلك، بل قلتم: إنّ اليهودَ قتلوه.
والثاني: أنهم قالوا: إنه كان يُخبر عن الغيوب وغيرها، فكأنه - تعالى - قال: هذا القدرُ من العلم لا يكفي في الإلهية، بل لا بد وأن يكون حَكِيماً، أي: عالماً بجميع المعلومات، وبجميع عواقب الأمورِ.
فَذِكرُ العزيز الحكيم - هاهنا - إشارةٌ إلى الجواب عن هاتَيْنِ الشبهتين، ونظير هذه الآية ما ذكر تعالى في أول السورة من قوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} [آل عمران: 6] .
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} يجوز أن يكون مضارعاً - حُذِفَتْ منه إحدى التاءَين، تخفيفاً - على حَدِّ قراءة: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] و {تَذَكَّرُون} [الأنعام: 152]- ويؤيد هذا نسق الكلام، ونظمُه في خطاب من تقدم في قوله: {تَعَالَوْا} ثم جرى معهم في الخطاب إلى أن قال لهم: فَإن تولّوا.
قال ابو البقاء: «ويجوز أن يكون مستقبلاً، تقديره: تتولوا - ذكره النَّحَّاسُ - وهو ضعيفٌ؛ لأن حَرْفَ الْمُضَارَعَِ لا يُحْذَف» .
قال شهاب الدين: «وهذا ليس بشيء؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَف - في هذا النحو - من غير خِلافٍ. وسيأتي من ذلك طائفة كثيرة» .(5/293)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
وقد أجمعوا على الحذف في قوله:
{تَنَزَّلُ الملائكة وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] .
ويجوز أن يكون ماضياً، أي: فإن تَوَلَّى وَفْدُ نجرانَ المطلوب مباهلتهم، ويكون - على ذلك - في الكلام التفات؛ إذْ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبةٍ.
قوله: {بِالْمُفْسِدِينَ} من وقوع الظاهر موقعَ المُضْمَرِ، تنبيهاً على العلة المقتضية للجزاءِ، وكان الأصل: فإن الله عليم بكم - على الأول - وبهم - على الثاني.
فصل
ومعنى الآية: فإن تولوا عما وَصَفْتَ لهم من أنه الواحد، وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً، قادراً على جميع المقدوراتِ، حكيماً، عالماً بالعواقب - مع أن عيسى ما كان كذلك - فاعلم أن تولّيهم وإعراضَهم ليس إلاَّ على سبيل العِنَادِ، فاقطع كلامَك عَنْهُم، وفَوِّضْ أمرك إلى اللهِ؛ فإنه عليم بالمفسدين الذين يعبدون غيرَ اللهِ، مُطَّلِع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادرٌ على مجازاتهم.
قوله
: {إلى
كَلَمَةٍ
} مُتَعَلِّق ب «تَعَالَوْا» فذكر مفعول «تَعَالَوْا» قبلها، فإنه لم يذكر مفعوله؛ فإن المقصودَ مُجَرَّدُ الإقبال، ويجوز أن يكون حذفه للدلالة عليه، تقديره: تعالوا إلى المباهلة.
وقرأ العامة «كَلِمَةٍ» - بفتح الكاف وكسر اللام - وهو الأصل، وقرأ أبو السَّمَّال «كِلْمَةٍ» بوزن سدرة و «كَلْمَةٍ» كَضَرْبَة وتقدم هذا قريباً.
وكلمة مفسَّرة بما بعدها - من قوله: «ألاّ نَعْبُدَ إلاَّ الله» - فالمرادُ بها كَلاَمٌ كَثِيرٌ، وهَذا مِنْ بَابَ إطلاق الجزء والمراد به الكل، ومنه تسميتهم القصيدة جميعاً قافيةً - والقافية جزء منها قال: [الوافر]
1496 - أعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ ... فَلَمَّا اشتدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي
وَكَمْ عَلَّمُْهُ نَظْمَ الْقَوَافِي ... فَلَمَّا قَالَ قَافِيَةً هَجَانِي
ويقولون كلمة الشهادة - يعنون: لا إله إلا الله، مُحَمدٌ رَسُولُ اللهِ - وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالهَا شاعرٌ كلمة لبِيدٍ» .(5/294)
يريد: [الطويل]
1497 - ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ - لا مَحَالَةَ - زَائِلُ
وهذا كما يسمون الشيء بجزئه في الأعيان، لأنه المقصود منه، قالوا لرئيس القوم - وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه -: عَيْن، فأطلقوا عليه «عيناً» .
وقال بعضهم: وُضِعَ المفردُ موضعَ الجمع، كما قال: [الطويل]
1498 - بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى، فَأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ، وَأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
وقيل: أطلقت الكلمة على الكلمات؛ لارتباط بعضها ببعضٍ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة - إذا اخْتلَّ جُزْءٌ منها اختلت الكلمةُ؛ لأن كلمة التوحيد - لا إله إلا الله - هي كلماتٌ لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في «الله» إلا بمجموعها.
وقرأ العامة «سَوَاءٍ» بالجر؛ نعتاً لِ «كَلِمَةٍ» بمعنى عَدْلٍ، ويدل عليه قراءة عبد الله: إلى كلمة عدل، وهذا تفسير لا قراءة.
وسواء في الأصل - مصدر، ففي الوصف التأويلات الثلاثة المعروفة، ولذلك لم يُؤنث كما لم تؤنث ب «امرأة عدل» ؛ لأن المصادر لا تُثَنَّى، ولا تُجْمَع، ولا تُؤنَّثُ، فإذا فتحت السين مَدَدْتَ، وإذا كسرتَ أو ضممت قصرت، كقوله: {مكَانًا سُوًى} [طه: 58] .
وقرأ الحسن «سَوَاءٌ» بالنصب، وفيها وجهان:
أحدهما: نصبها على المصدر.
قال الزمخشريُّ: «بمعنى: اسْتَوْتِ اسْتِوَاءً» ، وكذا الحوفيّ.
والثاني: أنه منصوب على الحال، وجاءت الحالُ من النكرةِ، وقد نصَّ عليه سيبويه.
قال أبو حيّان: «ولكن المشهور غيره، والذي حسَّن مجيئَها من النكرة - هنا - كونُ الوَصْفِ بالمصدر على خلاف الأصل، والصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى» .
وكأن أبا حيان غض من تخريج الزمخشريِّ والحوفيّ، فقال: «والحال والصفة متلاقيان من حيثُ المعنى، والمصدر يحتاج إلى إضمار عاملٍ، وإلى تأويل» سواء «بمعنى استواء» .
والأشهر استعمال «سَوَاء» بمعنى اسم الفاعل - أي: مُسْتوٍ.
قال شهاب الدين: «وبذلك فسَّرها ابن عباس، فقال: إلى كَلِمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ» .(5/295)
قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} فيه ستة أوجهٍ:
أحدها: أنه بدل من «كَلِمةٍ» - بدل كل من كل.
الثاني: بدل من «سَوَاء» جوزه أبو البقاء؛ وليس بواضح، لأن المقصود إنما هو الموصوف لا صفته فنسبة البدلية إلى الموصوف أوْلَى، وعلى الوجهين ف «أنْ» وما في حَيِّزها في محل جَرٍّ.
الثالث: أنه في محل رَفْع؛ خبراً لمبتدأ مُضْمَرٍ، والجملة استئناف، جواب لسؤال مقدَّر، كأنه لما قيل: {تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ} قال قائل: ما هي؟ فقيل: هي أن لا نعبد إلا الله، وعلى هذا الأوجه الثلاثة ف «بَيْنَ» منصوب ب «سَوَاءٍ» ظرفاً له، أي: يقع الاستواء في هذه الجهة.
وقد صرَّح بذلك [الشاعر] ، حيث قال: [الوافر]
1499 - أرُونِي خُطَّةً لا عَيبَ فيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
والوقف التام - حينئذ - عند قوله: {مِّن دُونِ الله} ؛ لارتباط الكلام معنًى وإعراباً.
الرابع: أن يكون «أنْ» وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ: الظرفُ قبله.
الخامس: جوَّز ابو البقاء أن يكون فاعلاً بالظرف قبله، وهذا إنما يتأتَّى على رأي الأخفش؛ إذا لم يعتمد الظرفُ.
وحينئذ يكون الوقف على «سَوَاءٍ» ثم يبتدأ بقوله: {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وهذا فيه بُعْدٌ من حيثُ المعنى، ثم إنهم جعلوا هذه الجملة صفة ل «كَلِمةٍ» ، وهذا غلط؛ لعدم رابطة بين الصفة والموصوف، وتقدير العائد ليس بالسهل.
وعلى هذا فَقوْل أبي البقاء: وقيل: تم الكلامُ على «سَوَاءٍ» ، ثم استأنف، فقال: {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ} ، أي: بيننا وبينكم التوحيد، فعلى هذا يكون {أَلاَّ نَعْبُدَ} مبتدأ، والظرف خبره، والجملة صفة ل «الكلمة» ، غير واضح؛ لأنه - من حيث جعلها صفة - كيف يحسن أن يقول: تم الكلام على «سَوَاءٍ» ثم استأنف؟ بل كان الصواب - على هذا الإعراب - أن تكون الجملة استئنافية - كما تقدم.
السادس: أن يكون: {أَلاَّ نَعْبُدَ} مرفوعاً بالفاعلية ب «سَوَاءٍ» ، وإلى هذا ذَهَب الرُّمَّانِيُّ؛ فإن التقدير - عنده - إلى كلمة مستوٍ فيها بيننا وبينكم عدم عبادةُ غيرِ الله تعالى:
قال أبو حيّان: «إلا أن فيه إضمارَ الرابطِ - وهو فيها - وهو ضعيف» .
فصل
لما أوْرَد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على نصارى نجران أنواعَ الدلائل، دعاهم إلى الْمُبَاهَلَةِ فخافوا، وما(5/296)
شرعوا فيها، وقبلوا الصَّغَارَ بأداء الجزية، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حريصاً على إيمانهم، فكأنه - تعالى - قال: يا محمدُ، اترك ذلك المنهجَ من الكلام، واعدل [إلى] منهج آخرَ يشهد كلُّ ذي عقل سليم، وطبع مستقيم أنه [متين] مبنيٌّ على الإنصاف وتَرْك الجدال «قل يا أهل الكتاب هلموا إلى كلمة سواءٍ» فيها إنصافٌ لبعضنا من بعض، ولا ميل فيها لأحدٍ على صاحبه، وهي: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} فهذا وَجْهُ النَّظم.
فصل
وفي المراد بأهل الكتاب ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد: نصىرَى نجرانَ.
الثاني: اليهود من المدينة.
الثالث: أنها نزلت في الفريقين، ويدل على هذا وجهان:
الأول: أن ظاهر اللفظ يتناولهما.
الثاني: قال المفسّرون - في سبب النزولِ -: قدم وَفْد نجران المدينة، فالتَقَوْا مع اليهود، واختصموا في إبراهيم - عليه السلامُ - فزعمت النصارى أنه كان نَصْرانيًّا، وأنه على دينهم، وأنهم وهم على دينه وأوْلَى الناس به، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كِلاَ الْفَرِيْقَيْنِ بَرِيءٌ من إبْرَاهِيمَ وَدِيْنِهِ؛ كَانَ حَنيفاً مسلِماً، وَأنَا عَلَى دِينِهِ فاتَّبِعُوا دِينَهُ الإسْلامَ» فقالت اليهودُ: يا محمدُ، ما تريد إلا أن نتخذَك رَبًّا كما اتخذت النصارى عيسى ربًّا، وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك، كما قالت اليهود في عُزَيْرٍ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال ابن الخطيب: «وعندي أن الأقرب حَمْلُه على النصارى؛ لما بيَّنَّا في وجه النَّظْم أنه لما أورد - الدلالة عليهم أولاً، ثم باهلهم ثانياً، فعدل عن هذا المقام إلى الكلام المبني على غاية الإنصاف، وترك المجادلةِ، وطلبِ الإقْحام والإلزام، ويدل عليه أنه خاطَبَهُم - هنا - بقوله: {ياأهل الكتاب} ، وهذا الاسم من أحسن الأسماء، وأكمل الألقاب؛ حيث جعلهم أهلاً للكتاب، ونظيره ما يقال لحافظ القرآن: حَامِلَ كتاب الله العزيز، وللمفسِّر يا مُفَسِّرَ كلام اللهِ، فإن هذا اللقبَ يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطَب، وتَطْييب قَلْبِه، وذلك إنما يُقال عند عدول الإنسانِ مع خَصْمه عن طريقة اللَّجَاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنْصَافِ» .
قوله: {تَعَالَوْا} هَلُمُّوا {إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ} فيها إنصافٌ من بعضنا لبعض، لا ميل فيه لأحد على صاحبه. والسواء: هو العَدْل والإنصاف؛ لأن حقيقةَ الإنصاف إعطاء النصف،(5/297)
فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف؛ لكي يُسَوِّي بين نفسه وبين الغير. ثم إنه تعالى ذكر ثلاثةَ أشياءَ:
الأول: أن لا نعبدَ إلا اللهَ. الثاني: أن لا نُشْركَ به به شيْئاً.
الثالث: أن لا يتخذَ بعضُنا أرْباباً مِن دونِ اللهِ.
ودون - هذه - بمعنى: «غير» .
إنما ذكر هذه الثلاثة؛ لأن النصارَى جمعوا بينها، فعبدوا غيرَ الله - وهو المسيح - وأشركوا بالله غيره؛ لأنهم يقولون: إنه ثلاثة: أب وابن وروح القدس، واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله؛ لأنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم، وكانو يسجدون لهم، ويطيعونهم في المعاصي، قال تعالى: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] .
قال أبو مُسْلِم: ومذهبهم أن مَن صار كاملاً في الرياضة والمجاهدة ظهر فيه أثَرُ اللاهوت، فيقدر على إحياء الموتَى، وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ، فإنهم - وإن لم يُطْلقوا عليه لفظ «الرَّبِّ» - أثبتوا في حقه معنى الربوبية، وهذه الأقوال الثلاثة باطلة.
أما الأول: فإن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله، فوجب أن يَبْقَى الأمر بعد ظهور المسيح على ما كان.
الثاني: والقول بالشرك باطل باتفاق الكُلِّ.
والثالث: - أيضاً باطل -؛ لأنه إذا كان الخالق والرازق والمُنْعِم - بجميع النعم - هو الله وجب أن لا يرجع في التحليل، والتحريم، والانقياد، والطاعة إلا إليه، - دون الأحْبار والرُّهبان.
وقوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} قال القرطبي: معنى قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه، إلا فيما حلَّلَه الله - تعالى - وهو نظير قوله تعالى: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] أي: أنزلوهم منزلةَ ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لِما لم يحرمْه الله ولم يحللْه، وهذا يدل على بُطْلان القول بالاستحسان المجردِ الذي لا يستند إلى دليلٍ شرعيٍّ.
قال إلكيا الطبريُّ: «مثل [استحسانات] أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون [مستندات بينة] » .
قال عكرمةُ: «هو سجودُ بعضهم لبعض» ، أي: لا نسجد لغير الله، وكان السجود إلى زمان نبينا عليه السلامُ - ثم نُهِيَ عنه.(5/298)
وروى ابن ماجه - في سننه - عن أنس، قال: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أيَنحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ؟ قال:» لاَ «، قُلْنَا: أيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضاً؟ قَالَ:» لا، وَلَكِنْ تَصَافَحُوا «.
وقيل: لا نطيع أحداً في معصية الله.
قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ} .
قال أبو البقاء: هو ماضٍ، ولا يجوز أن يكون التقدير:» فإن تتولوا «لفساد المعنى؛ لأن قوله: {فَقُولُواْ اشهدوا} خطاب للمؤمنين، و» يَتولّوا «للمشركين وعند ذلك لا يبقى في الكلام جوابُ الشرط، والتقدير: فقولوا لهم وهذا ظاهر.
والمعنى: إن أبَوْا إلا الإصرارَ فقولوا لهم: اشْهَدُوا بأنا مسلمون [مخلصون بالتوحيد] .(5/299)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
قوله: {لِمَ تُحَآجُّونَ} هي «ما» الاستفهامية، دخل عليها حرف الجر، فحُذِفَت ألفُها وتقدم ذلك في البقرة، واللام متعلقة بما بعدها، وتقديمها على عاملها واجب؛ لجرها ما له صَدْرُ الكلام.
قوله: {في إِبْرَاهِيمَ} لا بد من مضافٍ محذوفٍ، أي: في دين إبراهيم وشريعته؛ لأن الذوات لا مجادلة فيها.
قوله: {وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة} الظاهر أن الواو للحال، كهي في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70] .
أي كيف تحاجون في شريعته والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه؟
وجوزوا أن تكون عاطفة، وليس بالبيِّن، وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب، وقوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} متعلق ب «أنزلت» ، وهو استثناء مفرَّغ.
فصل
اعلم أن اليهود كانوا يقولون: إن إبراهيم كان على ديننا، والنصارى كانوا يقولون: إن إبراهيم كان على ديننا، فقيل لهم: كيف تقولون ذلك والتوراة والإنجيل إنما نَزَلاَ من بعده بزمان طويلٍ؟ كان بين إبراهيم وبين موسى ألف سنةٍ، وبين موسى وعيسى ألف سنةٍ، فكيف يُعْقَل أنْ يكون يهوديًّا أو نصرانياً؟(5/299)
فإن قيل: فهذا - أيضاً - لازم عليكم؛ لأنكم تقولون: إن إبراهيم على دين الإسلام، والإسلام إنما نزل بعده بزمان طويلٍ، فإن قلتم: المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على مذهب المسلمين الآن، فنقول لهم: لِمَ لا يجوز - أيضاً - أن يقول اليهود: إن إبراهيم كان يهوديًّا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود، وتقول النصارى: إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى؟ فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً، كما أن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً.
فالجواب: أن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً، أو نصرانياً، فظهر الفرق.
ثم نقول: أما كون النصارى ليسوا على ملة إبراهيمَ فظاهر؛ لأن المسيح ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ فما كانت عبادته مشروعة في زمان إبراهيم - لا محالة - فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لإبراهيم - لا محالة - وأما كون اليهدود ليسوا على ملة إبراهيم، فلا شك أنه كان لله - تعالى - تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام وكان قبله أنبياء، وكانت لهم شرائعُ معيَّنة، فلما جاء موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فإما أن يقال: إنّ موسَى جاء بتقرير تلك الشرائع، أو بغيرها، فإن جاء بتقريرها لم يكن موسَى صاحب الشريعةِ، بل كان كالفقيه المقرِّر لشرعِ مَنْ قبله، واليهود لا يرضَوْن بذلك.
وإذا كان جاء بشرع سوى شرع مَنْ تقدمه فقد قال بالنسخ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كُلِّ الأنبياء جواز القول بالنسخ، وأن النسخ حق - واليهود يُنْكرون ذلك، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم، فظهر بُطْلانُ قولِ اليهود.(5/300)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
القراء في هذه على أربع مراتِبَ، والإعراب متوقِّفٌ على ذلك:
المرتبة الأولى للكوفيين وابن عامر والبَزِّي عن ابن كثير: ها أنتم - بألف بعد الهاء، وهمزة مخففة بعدها.(5/300)
المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع: بألف بعد الهاء، وهمزة مسهَّلَة بين بين بعدها.
المرتبة الثالثة لورش، وله وجهانِ:
أحدهما: بهمزة مسهلة بين بين بعد الهاء دون ألف بينهما.
الثاني: بألفٍ صريحةٍ بعد الهاء بغير همزة بالكلية.
المرتبة الرابعة لقُنْبُل بهمزة مُخَفَّفَة بعد الهاء دون ألف.
فصل
اختلف الناسُ في هذه الهاء: فمنهم من قال: إنها «ها» التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة، وقد كثر الفصلُ بينها وبين أسماء الإشارةِ بالضمائر المرفوعة المنفصلة، نحو: ها أنت ذا قائماً، وها نحن، وها هم، وهؤلاء، وقد تُعادُ مع الإشارة بعد دخولها على الضمائرِ؛ توكيداً، كهذه الآية، ويقل الفصل بغير ذلك كقوله: [البسيط]
1500 - تَعَلَّمَنْ هَا - لَعَمْرُ اللهِ - ذَا قَسَماً ... فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ
وقول النابغة: [البسيط]
1501 - هَا - إنَّ - ذِي عِذْرَةٌ إنْ لا تَكُنْ قُبِلَتْ ... فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ تَاهَ في الْبَلَدِ
ومنهم من قال: إنها مُبْدَلَةٌ من همزة الاستفهام، والأصل: أأنتم؟ وهو استفهام إنكار، وقد كثر إبدال الهمزة هاء - وإن لم ينقس - قالوا هَرَقْتُ، وهَرَحْتُ، وهَنَرتُ، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء، وأبي الحسن الأخفش، وجماعة، وأستحسنه أبو جعفر، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنه لم يثبُت ذلك في همزة الاستفهام، لم يُسْمَع: هَتَضْرِبُ زَيْداً - بمعنى أتَضْرِبُ زيداً؟ وإذا لم يثبت ذلك فكيف يُحْمَلُ هذا عليه؟
هذا معنى ما اعترض به أبو حيان على هؤلاء الأئمةِ، وإذا ثبت إبدال الهمزة هاءٌ هان الأمر، ولا نظر إلى كونها همزةَ استفهام، ولا غيرها، وهذا - أعني كونها همزة استفهام أبْدِلت هاءً - ظاهر قراءة قُنْبُلٍ، وورش؛ لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة «أنتم» ؛ لأن إدخال الألف لما كان لاستثقال توالي همزتين، فلما أبدلت الهمزة هاء زال الثقل لفظاً؛ فلم يُحتَج إلى فاصلةٍ، وقد جاء إبدال همزة الاستفهام ألفاً في قول الشاعر: [الكامل](5/301)
1502 - وَأتَتْ صَوَاحِبَهَا، وَقُلْنَ هَذَا الَّذِي ... مَنَحَ الْمَوَدَّةَ غَيْرَنَا وَجَفَانَا
يريد أذا الذي؟
ويضعف جعلها - على قراءتهما - «ها» التي للتنبيه؛ لأنه لم يُحْفَظ حَذْفُ ألِفِها، لا يقال: هَذَا زيد - بحذف ألف «ها» - كذا قيل.
قال شهاب الدّينِ: «وقد حذفها ابنُ عامر في ثلاثة مواضع - إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف - فقرأ - في الوصل -: {يا أيها الساحر} [الزخرف: 49] و {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون}
[النور: 31] ، و {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان} [الرحمن: 31] ، ولكن إنما فعل ذلك اتباعاً للرسم؛ لأن الألفَ حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة، وعلى الجملة فقد ثبت حذف ألف «ها» التي للتنبيه. وأمَّا من أثبت الألف بَيْن الهاء وبين همزة «أنتم» فالظاهر أنها للتنبيه، ويضعف أن تكون بدلاً من همزة الاستفهام؛ لما تقدم من أن الألف إنما تدخل لأجل الثقل، والثقل قد زال بإبدال الهمزة هاء، وقال بعضهم: الذي يقتضيه النظر أن تكون «ها» - في قراءة الكوفيين والبَزِّيّ وابن ذكوان -، للتنبيه؛ لأن الألف في قراءتهم ثابتة، وليس من مذهبهم أن يفصلوا بين الهمزتين بألف، وأن تكون في قراءة قُنْبُل وورش - مُبْدَلَة من همزة؛ لأن قُنْبُلاً يقرأ بهمزة بعد الهاء، ولو كانت «ها» للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء، وإنما لم يُسهِّل الهمزة - كما سَهَّلَها في {أَأَنذَرْتَهُمْ} ونحوه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك، ولأن ورشاً فعل فيه ما فعل في: {أَأَنذَرْتَهُمْ} ونحوه من تسهيل الهمزة، وترك إدخال الألفِ، وكان الوجه في قراءته بالألف - أيضاً - الحمل على البدل كالوجه الثاني في {أَأَنذَرْتَهُمْ} ونحوه.
وما عدا هؤلاء المذكورين - وهم أبو عمرو وهشام وقالون - يحتمل أن تكون «ها» للتنبيه، وأن تكون بدلاً من همزة الاستفهام.
أما الوجه الأول فلأن «ها» التنبيه دخلت على «أنتم» فحَقَّق هشام الهمزة كما حققها في «هؤلاء» ونحوها، وَخَفَّفَهَا قالون وأبو عمرو؛ لتوسُّطِها بدخول حرف التنبيه عليها، وتخفيف الهمزة المتوسطة قَوِيٌّ.
الوجهُ الثاني: أن تكونَ الهاءُ بدلاً من همزة الاستفهام؛ لأنهم يَفْصِلُون بين الهمزتين بألفٍ، فيكون أبو عمرو وقالون على أصلهما - في إدخال الألف والتسهيل - وهشام(5/302)
على أصله - في إدخال الألف والتحقيق - ولم يُقْرَأ بالوجه الثاني - وهو التسهيل - لأن إبدال الهمزة الأولى هاءً مُغْنٍ عن ذلك.
وقال آخرون: إنه يجوز أن تكون «ها» - في قراءة الجميع - مُبْدَلَةً من همزة، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على «أنتم» ذكر ذلك ابو علي الفارسي والمَهْدَوِي ومَكِيّ في آخرين.
فأما احتمال هذين الوجهين - في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر - فقد تقدم توجيهه، وأما احتمالهما في قراءة غيرهم، فأما الكوفيون والبَزِّيُّ وابنُ ذكوان فقد تقدم توجيه كون «ها» - عندهم - للتنبيه، وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - عندهم - أن يكون الأصل أنه أأنتم، ففصلوا بالألف - على لغة مَنْ قال: [الطويل]
1503 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... أأنتِ أمْ أمُّ سَالِمِ
ولم يعبئوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً؛ لكَوْن البدَلِ فيها عارضاً، وهؤلاء، وإن لم يكن من مذهبهم الفصل لكنهم جمعوا بين اللغتين.
وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - في قراءة قُنْبُلٍ وورشٍ - فقد تقدم، وأما توجيه كونها للتنبيه في قراءتهما - وإن لم يكن فيها ألف - أن تكون الألف حُذِفَتْ لكثرة الاستعمال، وعلى قول مَنْ أبدل كورشٍ حذفت إحدى الألفين؛ لالتقاء الساكنين.
قال أبو شَامَةَ: الأوْلَى في هذه الكلمة - على جميع القراءات فيها - أن تكون «ها» للتنبيه؛ لأنا إن جعلناها بدلاً من همزةٍ كانت الهمزةُ همزةَ استفهامٍ، و {هاأنتم} أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر، لا للاستفهام، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل، وحَذْفُ مَنْ حذف، أما التسهيل فقد سبق تشبيهه بقوله: {لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] وشبهه، وأما الحذف فنقول: «ها» مثل «أما» - كلاهما حرف تنبيه - وقد ثبت جواز حذف ألف «أما» فكذا حذف ألف «ها» وعلى ذلك قولهم: أمَ واللهِ لأفْعَلَنَّ.
وقد حمل البصريون قولهم: «هَلُمَّ» على أن الأصل «هَالُمَّ» ، ثم حذف الف «ها» فكذا {هاأنتم} . وهو كلام حَسَنٌ، إلا أنَّ قوله: إن {هاأنتم} - حيث جاءت - كانت خبراً، لا استفهاماً ممنوع، بل يجوز ذلك، ويجوز الاستفهام، انتهى.
ذكر الفرّاءُ أيضاً - هنا - بحثاً بالنسبة إلى القصر والمد، فقال: من أثبت الألفَ في «ها» ، واعتقدها للتنبيه، وكان مذهبُه أن يقصر في المنفصل، فقياسه هنا قَصْر الألف سواء حقَّق الهمزة، أو سهلها، وأمّا من جعلها للتنبيه، ومذهبه المد في المنفصل، أو جعل الهاء مبدلة من همزة استفهام - فقياسه أن يمد - سواء حقق الهمزة أو سهلها -.(5/303)
وأما ورش فقد تقدم عنه وجهان: إبدال الهمزة - من «أنتم» - ألفاً، وتسهيلها بَيْن بَيْنَ، فإذا أبدل مَدَّ، وإذا سهَّل قَصَر، إذا عُرِف هذا ففي إعراب هذه الآيةِ أوجُهٌ:
أحدها: أنَّ «أنتم» مبتدأ، و «هَؤُلاَءِ» خبره، والجملة من قوله: {حَاجَجْتُمْ} في محل نصب على الحال يدل على ذلك تصريحُ العَرَب بإيقاع الحال موقعها - في قولهم: ها أنا ذا قائماً، ثم هذه الحال عندهم - من الأحوال اللازمة، التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عَنْها.
الثالث: أن يكون {هاأنتم هؤلااء} على ما تقدم - أيضاً - ولكن هَؤلاءِ هنا موصول، لا يتم إلا بصلةٍ وعائدٍ، وهما الجملة من قوله: {حَاجَجْتُمْ} ، ذكره الزمخشريُّ.
وهذا إنما يتجه عند الكوفيين، تقديره: ها أنتم الذين حاججتم.
الرابع: أن يكون «أنْتُمْ» مبتدأ، و «حَاجَجْتُمْ» خبره، و «هؤلاء» منادًى، وهذا إنما يتَّجِه عند الكوفيين أيضاً؛ لأن حرفَ النداء لا يُحْذَف من أسماء الإشارة، وأجازه الكوفيون وأنشدوا: [البسيط]
1504 - إنَّ الأولَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولا
يريد يا هذا اعتصم، وقول الآخر: [الخفيف]
1505 - لا يَغُرًَّنَّكُمْ أولاَءِ مِنَ الْقَوْ ... مِ جُنُوحٌ لِلسِّلْمِ فَهْوَ خِدَاعُ
يريد: يا أولاء.
الخامس: أن يكون «هَؤلاءِ» منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل. و «أنتُمْ» مبتدأ، و «حَاجَجْتُمْ» خبره، وجملة الاختصاص مُعْتَرِضَةٌ.
السادس: أن يكون على حذف مضافٍ، تقديره: ها أنتم مثل هؤلاء، وتكون الجملة بعدَها مُبَيِّنَةٌ لوجه الشبه، أو حالاً.
السابع: أن يكون «أنْتُمْ» خبراص مقدماً، و «هَؤلاءِ» مبتدأ مؤخراً.
وهذه الأوجهُ السبعةُ قد تقدم ذكرُها، وذكرُ من نسبت إليه والردُّ على بعض القائلين(5/304)
ببعضها، بما يغني عند إعادته في سورة البقرةِ عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ} [البقرة: 85] فليلتفت إليه.
قوله: {فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} «ما» يجوز أن تكون معنى «الذي» وأن تكونَ نكرةً موصوفةً.
ولا يجوز أن تكون مصدرية؛ لعود الضمير عليها، وهي حرف عند الجمهور، و «لَكُمْ» يجوز أن يكون خبراً مقدماً، و «عِلمٌ» مبتدأ مؤخراً، والجملة صلة لِ «ما» أو صفة، ويجوز أن يكون لكم وحده صلة، أو صفة، و «عِلْمٌ» فاعلٌ به؛ لأنه قد اعتمد، و «بِهِ» متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من «عِلْمٌ» إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له، ولا يجوز أن يتعلق ب «عِلمٌ» لأنه مصدر، والمصدر لا يتقدم معموله عليه، فإن جعلته متعلِّقاً بمحذوف يفسِّره المصدرُ جاز ذلك، وسُمي بياناً.
فصل
وأما المعنى فقال قتادةُ والسُّدِّيُّ والربيعُ وغيرُهم: إن الذي لهم به علم هو دينُهم وجدوه في كتبهم، وثبتَتْ صحتُه لديهم، والذي ليس لهم به علم هو شريعةُ إبراهيمَ، وما عليه مما ليس في كتبهم، ولا جاءت به إليهم رُسُلُهُمْ، ولا كانوا مُعَاصِرِيه، فيعلمون دينَه، فجدالهم فيه مجرَّد عِنَادٍ ومُكَابَرة.
قيل: الذي لهم به علم هو أمر نبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه موجود عندهم في كُتُبِهم بنعته، والذي ليس به علمٌ هو أمر إبراهيم - عليه السلام -.
قال الزمخشريُّ: «يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى، وبيان حماقتكم، أنكم جادلتم فيما لكم به علم ومما نطق به التوراة والإنجيل، {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} ولا نطق به كِتَأبُكُمْ من إبراهيمَ» .
فصل
اعلم أنهم زعموا أن شريعةَ التوراةِ والإنجيل مخالِفَةٌ لشريعة القرآن، وهو المراد بقوله {حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} ثم قال: {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وهو ادِّعاؤكم أن شريعةَ إبراهيمَ كانت مخالفةً لشريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد تقدم أقوال العلماء فيه ثم يُحْتَمَل في قوله: {هاأنتم هؤلااء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} فكيف تحاجُّونه فيما لا علم لكم به ألبتة؟ ثم حقَّق ذلك بقوله: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} كيفية تلك الأحوال من المخالفةِ والموافقةِ، ثم ذكر - تعالى - ذلك مفَصَّلاً، مُبَيَّناً، فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} فكذَّبهم فيما ادَّعَوْه - من موافقته لهما - بَدْأً باليهود؛ لأن شريعتهم أقدم وكرر «لا» - في قوله: {وَلاَ نَصْرَانِيّاً} - توكيداً، وبياناً أنه كان منفيًّا عن كل واحد من الدينين على حدته.
قال القرطبيُّ: «دلَّت الآيةُ على المنع من جدال مَنْ لا علم له، وقد ورد الأمر(5/305)
بالجدال لمن علم وأتقن، قال تعالى: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه أتاه رجل وولده، فقال: يا رسولَ الله، إنَّ امرأتي وَلَدَتْ غُلاماً أسْوَدَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ «؟ قال: نَعَمْ، قَالَ:» فَمَا ألْوَانُهَا «؟ قال: حُمْرٌ، قال:» فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ «؟ قَالَ: نَعَمْ، قَال:» مِنْ أيْنَ أتَاهَا ذَلِكَ «؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقاً نزَعَه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» وَهَذَا الغَلامُ لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ «.
وهذه حقيقة الجدال، والنهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» .
قوله: {ولكن} استدراك لما كان عليه، ووقعت - هنا - أحسن موقع؛ إذْ هي بين نَقِيضَيْن بالنسبة إلى اعتقادِ الحقِّ والباطلِ.
ولما كان الخطاب مع اليهود والنصارَى أتى بجُمْلة تنفي أخْرَى؛ ليدل على أنه لم يكن على دين أحد من المشركين، كالعرب عَبَدَةِ الأوثان، والمجوس عَبَدَةِ النار، والصابئةِ عَبَدَةِ الكواكبِ.
بهذا يطرحُ سؤالُ مَنْ قال: أيُّ فائدةٍ في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} بعد قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} ؟ وأتى بخبر «كان» مجموعاً، فقال: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} بكونه فاصلةً، ولولا مراعاة ذلك لكانَتِ المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قوله: {يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} فيتناسب النفيان.
وقيل: قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تعريض بكَوْن النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح، وكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه.
والحنيفُ: المائل عن الأديان كلِّها إلى الدّينِ المُسْتَقِيمِ.
وقيل: الحنيفُ: الذي يُوَحِّد، ويَحُد، ويُضَحِّي، ويَخْتَتِنُ، ويَسْتَقِبِل القبلة وتقدم الكلام عليه في البقرة.
فإن قيل: قولكم: إبراهيم على دين الإسلام، أتريدون به الموافقة في الأصول، أو في الفروع؟
فإن كان الأول لم يكن هذا مختصًّا بدين الإسلام، بل نقطع بأنّ إبراهيمَ أيضاً على دين اليهود -[ذلك الدينَ الذي جاء به موسى - وكان أيضاً - نصرانياً] أعني تلك(5/306)
النصرانية التي جاء بها عيسى - فإنَّ أديانَ الأنبياء كلَّها لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول، وإن أردتم به الموافقةَ في الفروع لزم أن لا يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صاحب شرع ألبتة، بل كان مقرِّراص لدين غيره، وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أن التعبُّد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ، وتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا، وغير مشروعة في صلاتهم.
فالجوابُ: أنه يجوز أن يكون المراد به الموافقة في الأصولِ والغرض منه بيانُ أنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هُمُ اليهود والنصارى في زماننا هذا.
ويجوز أن يقالَ: المراد به الموافقة في الفروع، وذلك لأن اللهَ نسخ تلك الشرائعَ بشرع موسى، ثم زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نسخ شرع موسى بتلك الشرائع التي كانت ثابتةً في زمان إبراهيم عليه السلامُ - وعلى هذا التقدير يكون - عليه السلامُ - صاحب الشريعة، ثم لمَّا كان غالب شرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موافقاً لشرع إبراهيم، جاز إطلاق الموافقة عليه، ولو وقعت المخالفةُ في القليل لم يقدَحْ ذلك في حصول الموافقة.
قوله: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ} ، «إبْراهِيم» متعلِّق به «أوْلَى» و «أوْلَى» أفعل تفضيل، من الولي، وهو القُرْب، والمعنى: إنَّ أقْرَبَ الناسِ به، وأخصهم، فألفه منقلبة عن ياء، لكون فائه واواً، قال أبو البقاء: وألفه منقلبة عن ياء، لأن فاءَه واوٌ، فلا تكون لامه واواً؛ إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو - يعني اسم حرف التهجِّي - كالوسط من قول - أو اسم حرف المعنى - كواو النسق - ولأهل التصريفِ خلاف في عينه، هل هي واو - أيضاً - أو ياء.
{لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} خبر «إن» و {وهذا النبي} نَسَق على الموصول، وكذلك: {والذين آمَنُواْ} ، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وإن كانوا داخلين فيمن اتبع إبراهيمَ إلا أنهم خُصُّوا بالذِّكْر؛ تشريفاً، وتكريماً، فهو من باب قوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] .
حكى الزمخشريُّ أنه قُرِئَ: {وهذا النبي} - بالنصب والجر - فالنصب نَسَقاً على مفعول {اتَّبَعُوهُ} فيكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد اتَّبَعه غيرُه - كما اتبع إبراهيمَ - والتقدير: للذين اتبعوا إبراهيمَ وهذا النبيَّ، ويكون قوله: {والذين آمَنُواْ} نَسًقاً على قوله: {لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} .
والجر نَسَقاً على «إبْرَاهِيمَ» أي: إن أوْلَى الناسِ بإبراهيمَ وبهذا النبي، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أن يُثَنَّى الضميرُ في «اتَّبَعُوهُ» فيُقَال: اتبعوهما، اللهم إلا(5/307)
أن يقال: هو من باب: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، ثم قال: {والله وَلِيُّ المؤمنين} بالنصر والمعونةِ والتوفيقِ والإكرامِ
فصل
روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب، وأناس من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الحبشة، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ، وهاجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ، وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي - من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثأراً ممن قُتِل منكم ببدر، فاجمعوا مالاً، وأهدوه إلى النجاشِيِّ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا، فركِبا البحرَ، وأتَيَا الحبشةَ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له، وسلما عليه، وقَالاَ له: إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا، لا يدخل عليهم أحدٌ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ بعث إليك ابن عَمِّه، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك، فاحْذَرْهُمْ، وادْفَعْهم إلَيْنَا، لنكفِيَكَهُمْ، قالوا: وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ.
فدعاهم النجاشيُّ، فلمَّا حضروا صاح جعفرُ بالباب: يستأذن عليك حزبُ اللهِ، فقال النجاشيُّ: مروا هذا الصائحَ فلْيُعِدْ كلامَه، ففعل جَعْفَرُ، فقال النجاشيُّ: نعم، فلْيَدْخُلُوا بأمان اللهِ وذمته، فنظر عمرو بنُ العاصِ إلى صاحبه، فقال: ألا تسمع؟ يرطنون ب «حِزْبِ اللهِ» وما أجابهم به النجاشي!!! فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه ولم يَسْجُدُوا له، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشِيُّ: ما منعكم أن تسجدوا لِي وتُحَيُّونِي بالتحية التي يحييني بها مَنْ أتاني من الآفاقِ؟ قالوا: نَسْجُد لله الذي خَلَقَكَ ومُلْكَك، وإنما كانت تلك التحيةُ لنا ونحن نعبدُ الأصْنَام، فبعث الله فينا نبيًّا صادقاً، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللهُ، وهي السلامُ، وتحية أهل الجنَّةِ، فعرف النجاشيُّ أن ذلك حَقٌّ، وأنه في التوراة والإنجيل، فقال: أيكم الهاتف: يستأذنُ عليك حِزْبُ الله؟ قال جَعْفَر: أنا، قال: فتكلم، قال: إنك مَلِك من ملوك أهل الأرض، ومن أهل الكتاب، ولا يصلح عندَك كثرةُ الكلامِ، ولا الظلمُ، وأنا أحب أن أجيبَ عن أصحابي، فمر هذين الرجلين، فلْيَتَكَلَّمْ أحدُهما، وليُنْصِت الآخرُ، فيسمع محاورتنا، فقال عَمْرو لجعفر: تَكَلَّمْ، فقال جعفر للنجاشيُّ: سل هذين الرجلين أعَبيدٌ نحن أم أحرارٌ؟ فإن كنا عبيداً أبَقْنَا من أرْبَابِنا فاردُدْنا إليهم، فقال النجاشيُّ: أعبيدٌ هم أم أحرار؟(5/308)
فقال لا، بل أحرارٌ كرام، فقال النجاشيُّ: نَجَوْا من العبوديَّةِ، ثم قال جعفرُ: سَلْهَُمَا هل لهم فينا دماء بغير حق، فيقتصّ منا؟ فقال عمرو: لا، ولا قطرة.
قال جعفر: سَلْهُمَا، هل أخذنا أموالَ الناسِ بغير حق، فعلينا قضاؤها - قال النجاشيُّ: إن كان قنطاراً فعلي قضاؤه - فقال عمرو: لا، ولا قيراط، فقال النجاشيُّ: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو كنا وهم على دينٍ واحدٍ - دين آبائِنا - فتركوا ذلك، واتَّبَعُوا غيره، فَبَعَثَنَا إليك قومنا لتدفعهم إلينا، فقال النجاشيُّ: ما هذا الدينُ الذي كنتم عليه، الدين الذي اتبعتموه؟
قال: أما الدينُ الذي كنا عليه فتركناه فهو دينُ الشيطانِ، كنا نكفر بالله، ونعبد الحجارة، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدينُ الله الإسلامُ، جاءنا به من الله رسولٌ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم، موافِقاً له.
فقال النجاشيُّ: يا جعفر، تكلمت بأمر عظيم، فعلى رِسْلِك، ثم أمر النجاشيُّ، فضُرِب بالنَّاقوس، قد اجتمع إليه كُلُّ قِسِّيسٍ ورَاهبٍ، فلما اجتمعوا عنده، قال النجاشيُّ: أنشدكم اله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًّا مُرسَلاً؟ فقالوا: اللهم نَعَمْ، قد بشرنا به عيسَى، وقال: مَنْ آمن به فقد آمن بي، ومن كَفَر به فقد كفر بي.
قال النجاشيُّ لجعفَرَ: ماذا يقول لكم هذا الرجلُ؟ وما يأمركم به، وما ينهاكم عنه؟ قال: يقرأ علينا [كتاب الله] ، ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر، ويأمر بحُسْنِ الجوار، وصلة الرَّحِم، وبِرِّ اليتيم، وأمرنا أن لا نعبد إلا اللهَ وحدَه لا شريك له، فقال: اقرأ عليَّ مما يقرأ عليكم، فقرأ سورتي العنكبوت والرُّوم، ففاضت عينا النجاشيِّ وأصحابه من الدّمع، وقالوا: زِدْنَا يا جعفرُ من هذا الحديثِ الطيبِ، فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يُغْضِبَ النجاشِيّ، فقال: إنهم يشتمون عيسى ابن مريمَ وأمَّه، فقال النجاشِيُّ: ما تقولون في عيسى وأمِّه، فقرأ عليهم جعفر سورة «مريم» ، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشِيُّ نُفَاثَةً من سواكه قَدْرَ ما يُقْذِي العَيْنَ قال: والله ما زادَ المسيحُ على قول هذا، ثم أقبل على جعفرَ وأصحابه، فقال: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، آمنون، مَنْ سَبَّكُمْ وآذاكم غَرِم، ثم قال: أبشروا، ولا تخافوا، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيمَ، قال عمرو: يا نجاشيُّ، ومَنْ حِزْبَ إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبُهم الذي جاءوا من عنده ومَن اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون، وادَّعَوْا في دين إبراهيمَ، ثم رَدَّ النجاشيُّ على عمرو وصاحبه المالَ الذي حملوه، وقال: إنما هديَّتُكم إليّ رشْوَة، فاقبضوها؛ فإن الله - تعالى - ملَّكَني ولم يأخذْ مني رشوة، قال جعفرُ:(5/309)
فانصرفْنَا، فكنا في خير دارٍ، وأكرم جوارٍ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم - وهو في المدينة - قوله - عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين} .
وروى ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ وليِّي مِنْهُمْ أبي، وَخَلِيلُ رَبِّي» ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين} .(5/310)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
في «مِن» وجهان:
أظهرهما: أنها تبعيضيَّة.
والثاني: أنها لبيان الجني.
قال ابن عطيَّة: ويعني أن المراد ب «طائفة» جميع أهل الكتاب، قال أبو حيّان: وهذا بعيد من دلالة اللفظ، وهذا الجار - على القول بأنها تبعضية - في محلّ رفع، صفة لِ «طَائِفَةٌ» ، وعلى القول بأنها بيانية تعلق بمحذوف.
وقوله: تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون على بابها - من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره.
قال أبو مُسْلِم الأصبهاني: «وَدَّ» بمعنى تَمَنَّى، فيستعمل معها «لو» و «أن» وربما جُمِع بينهما، فَيُقَالُ: وددت أن لو فعلت، ومصدره الودادة، والاسم منه وُدّ وبمعنى «أحَبَّ» فيتعدَّى «أحَب» والمصدر المودة، والاسم منه ود وقد يتداخلانِ في المصدر والاسم.
وقال الراغب: «إذا كان بمعنى» أحب «لا يجوز إدخال» لو «فيه أبداً» .
وقال الرمانيُّ: «إذا كان وَدَّ» بمعنى تمنَّى صلُح للحال والاستقبال [والماضي، وإذا كان بمعنى الهمة والإرادة لم يصلح للماضي؛ لأن الإرادة لاستدعاء الفعل، وإذا كان للحال والمستقبل جاز وتجوز «لَوْ» ، وإذا كان للماضي لم يجز «أنْ» لأن «أن» للمستقبل] .(5/310)
وفيه نظرٌ، لأن «أن» تُوصَل بالماضي.
فصل
لما بَيَّن - تعالى - أن من طريقة أهل الكتاب العدولَ عن الحق، والإعراضَ عن قبول الحجة بيَّن - هنا - أنهم لا يقتصرون على هذا القدر، بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات، كقولهم: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُقرٌّ بموسَى وعيسَى، وكقولهم: إن النسخ يُفْضِي إلى البداء والغرض منه: تنبيه المؤمنين على ألاَّ يَغْتَرُّوا بكلام اليهودِ، ونظيرُه قولُه تعالى في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً} [البقرة: 109] ، وقوله: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً} [النساء: 89] .
فصل
قيل: نزلت هذه الآية في معاذ بن جبلٍ وعمارِ بن ياسرٍ وحُذَيفَةَ حين دعاهم اليهود إلى دينهم، فنزلت.
«ودت» تمنَّت طَائِفَةٌ جماعة {مِّنْ أَهْلِ الكتاب} يعني اليهود {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} ، ولم يَقُلْ: أن يضلوكم؛ لأن «لو» أوفق للتمني؛ فإن قولك: لو كان كذا، يفيد التمني، ونظيره قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96] ، ثم قال تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} وهو يحتمل وجوهاً منها:
إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قَصْدِهم إضلال الغير، كقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] ، وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] ، وقوله: و {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] .
ومنها: إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق؛ لأن الذاهب عن الاهتداء ضالّ.
[ومنها: أنهم اجتهدوا في إضلال المؤمنين، ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم، فهم قد صاروا خائبين خاسرين؛ حيث اعتقدوا شيئاً، ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوَّروه] .
ثم قال تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} ، أي: وما يعلمون أن هذا يَضُرُّهم، ولا يضر المؤمنين.(5/311)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
«لم» أصلها «لِمَا» لأنها «ما» التي للاستفهام، دخلت عليها اللامُ، فحُذِفت الألف؛ لطلب الخفة لأن حرف الجر صار كالعِوَضِ عنها، ولأنها وقعت طرفاً، ويدل عليها الفتحة؛ وعلى هذا قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} [النبأ: 1] وقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] والوقف على [هذه الحروف] يكون بالهاء نحو فَبِمَهْ، لِمَهْ.
قوله: {بِآيَاتِ الله} فيه وُجُوهٌ:
أحدها: أن المراد بها ما في التوراة والإنجيل، وعلى هذا يُحْتَمل أن يكون المراد ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونَعْتِه، ويحتمل أن يكون المرادُ بما في هذين الكتابين من أن إبراهيمَ كان حنيفاً مسلماً.
ويحتمل أن يكون ما فيهما من أن الدين عند اللهِ الإسْلاَمُ؛ وقائل هذا القول المحتمل لهذه الوجوه، يقول: إن الكفرَ بآيات الله يحتمل وجهين:
أحدهما: أنهم ما كانوا كافرين بالتَّوْرَاةِ، بل كانوا كافرين بما تدل عليه التوراةُ، فأطلق اسْمَ الدليل على المدلول، على سبيل الْمَجَازِ.
الثاني: أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة؛ لأنهم كانوا يُحَرِّفُونها، وكانوا يُنَكِرون وجودَ تلك الآياتِ الدالةِ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الوجه الثاني: أن المراد بآيات الله [هو] القرآن وبيان نعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أن نعته مذكور في التوراة والإنجيل، وتُنْكِرون عند العوام كَوْنَ القرآنِ معجزةٌ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم بكونه معجزاً.
الوجه الثالث: أن المراد بآياتِ الله جملة المعزات التي ظهرت على يد [النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى هذا قوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} معناه: وأنكم لما اعترفتم بدلالة المعجزاتِ التي ظهرت على] سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الدالة على صدقهم، من حيث إنَّ المعجز قائم مقام التصديق من الله وإذا شهدتم بأن المعجز دليل على صدق الأنبياء عليهم السلام، وأنتم قد شاهدتم المعجز في حق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان إصرارُكم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتم بحقيقته من دلالةِ معجزات سائر الأنبياء - عليهم السلام -.(5/312)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
قرأ العامة: {تَلْبِسُونَ} بكسر الباء، من لبس عليه يلبس، أي: خلَطه، وقرأ(5/312)
يحيى بن وثَّابٍ بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه - على جهة المجاز، وقرأ أبو مجلز «تُلبِّسُون» - بضم التاء، وكسر الباء وتشديدها - من لبَّس «بالتشديد» ، ومعناه التكثير.
والباء في «الباطل» للحال، أي: متلبساً بالباطل.
فصل في معنى: تلبسون الحق
{تَلْبِسُونَ} تخلطون {الحق بالباطل} الإسلام باليهودية والنصرانية.
وقيل: تخلطون الإيمان بعيسى - وهو الحق - بالكفر بمحمد - وهو الباطل -.
وقيل: التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل، الذي حرَّفتموه، وكتبتموه بأيديكم، قاله الحسنُ وابن زيد.
وقال ابنُ عباس وقتادةُ: تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس.
قال القاضي: أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من البشارة والنعت والصفة، ويكون في التوراة - أيضاً - ما يوهم خلاف ذلك، فيكون كالمحكم والمتشابه، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر.
وقيل إنهم كانوا يقولون: إنَّ محمداً معترفٌ بأن موسى حَقٌّ، ثم إنّ التوراةَ دالة على أن شرع موسى لا ينسخ، وكل ذلك إلقاء للشبهات.
قوله: {وَتَكْتُمُونَ الحق} جملة مُسْتَأنَفةٌ، ولذلك لم يُنْصَب بإضمار «أن» في جواب الاستفهام، وقد أجاز الزجاجُ - من البصريين - والفرّاءُ - من الكوفيين - فيه النصب - من حيث العربية - تسقط النون، فينتصب على الصرف عند الكوفيين، وبإضمار «أن» عند البصريين.
ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ، وأنكَرَه، وقال: الاستفهام واقع على اللبس فحسب،(5/313)
وأما {يَكْتُمُونَ} فخبر حتم، لا يجوز فيه إلا الرفع. يعني أنه ليس معطوفاً على {تَلْبِسُونَ} ، بل هو استئناف، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحقَّ مع علمهم أنه حَقٌّ.
ونقل ابو محمد بن عَطِيَّة عن أبي عليٍّ أنه قال: الصَّرْف - هنا - يَقْبُح، وكذلك إضمار «أن» لأن «تَكتُمُونَ» معطوف على موجب مقرَّر، وليس بمستفهَم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم: لا تأكل السمكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ، وليس بمنزلة قولك: أيقومُ فأقومَ؟ والعطف على الموجب المقرَّر قبيح متى نصب - إلا في ضرورة الشعر - كما رُوِي: [الوافر]
1506 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَأَلْحَقَ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا
قال سيبويه - في قولك: أسِرْتَ حتى تَدْخُلَهَا -: لا يجوز إلا النَّصْبُ في «تداخلها» لأن السير مستفهم عنه غيرُ موجَب، وإذا قلنا: أيهم سار حتى يدخلُها؟ رفعت لأن السيرَ موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره.
قال أبو حيّان: وظاهر هذا النقل - عنه - معارضتُه لما نقل عنه قبله؛ لأن ما قبلَه فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحَسْب، وأما {يَكْتُمُونَ} فخبر حَتْماً، لا يجوز فيه إلا الرفع، وفيما نقله ابن عطية أنَّ {يَكْتُمُونَ} معطوف على موجَب مقرَّر، وليس بمستفهم عنه، فيدل العطفُ على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس، وسبب الكَتْم الموجبين، وفرق بين هذا المعنى، وبين أن يكون {يَكْتُمُونَ} إخْباراً محضاً، لم يشترك مع اللبس في السؤالِ عن السببِ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمَّن وقوعَ الفعل، لا ينتصب الفعل بإضمار «أن» في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك، فقال في تسهيله: «أو لاستفهام لا يتضمَّن وقوعَ الفعلِ» .
فإن تضمن وقوع الفعلِ امتنع النصبُ عندَه، نحو: لِمَ ضربتَ زيداً فيجازِيَك؛ لأن الضرب قد وقع. ولم يشترط غيرُهما - من النحويين - ذلك، بل إذا تعذر سَبْك المصدر مما قبله - إمَّا لعدم تقدُّمِ فعل، وأما لاستحالة سَبْك المصدر المراد به الاستقبال؛ لأجل مُضِيِّ الفعل - فإنما يقدر مصعد مقدَّراً استقبالُه بما يدل عليه المعنى، فإذا قلت: لِمَ ضربتَ زيداً فاَضْرِبَك؟ فالتقدير: ليكن منك إعلام بضَرْبِ زيدٍ فمجازاة منا، وأما ما ردَّ به أبو علي الفارسي على الزجَّاج والفرَّاء ليس بلازم؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المُضِيَّ معنى إذ ليس نصًّا في ذلك؛ إذْ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك، وعلى تقدير تحقُّق المُضِي فلا يلزم - أيضاً - لأنه - كما تقدم - إذا لم يُمْكن سَبْك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها، ويدل على إلغاء هذا الشرطِ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابنُ كَيْسَان من رفع المضارع بعد فعلٍ ماضٍ، محقَّق الوقوع،(5/314)
مستفهَم عنه، نحو: أين ذهب زيد فنتَّبعُه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ وكم مالك فنعرفُه؟ كل ذلك متأوَّل بما ذكرنا من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجُمَل المتقدمة، فإن التقدير: ليكن منك إعلامٌ بذهاب زيد فاتباعٌ منا، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة مِنَّا.
قال شهابُ الدِّينِ: «وهذا البحثُ الطويلُ على تقدير شيء لم يَقَعْ، فإنه لم يُقْرَأ - لا في الشاذ ولا في غيره - إلا ثابتَ النون، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث، تنقيحاً للذهن» .
ووراء هذا قراءة مُشْكِلَة، رَوَوْها عن عُبَيْد بن عُمَير، وهي: لِمَ تَلْبسُوا الحق بالباطل وَتَكْتُمُوا بحذف النون من الفعلين - وهي قراءة قراءة لا تَبْعد عن [لَغطِ البحث] ، كأنه توهم أن «لَمْ» هي الجازمة، فجزم بها، وقد نقل المفسّرونَ عن بعض النُّحَاةِ - هنا - أنهم يجزمون بلم حملاً على «لم» - نقل ذلك السجاونديُّ وغيره عنهم، ولا أظن نحويّاً يقول ذلك ألبتة، كيف يقولون في جار ومجرور: إنه يَجْزِم؟ هذا ما لا يُتفَوَّهُ به ألبتة ولا نطيق سماعه، فإن ثبتت هذه القراءةُ ولا بد فلتكن مما حُذِف فيه نونُ الرفع تخفيفاً؛ حيث لا مقتضى لحَذْفها، ومن ذلك قراءة بعضهم:
{قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: 48]- بتشديد الظاء - الأصل: تتظاهران، فأدغم الثاني في الظاء، وحذف النون تخفيفاً، وفي الحديث: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. .» يريد - عليه السلامُ -: لا تدخلون، ولا تؤمنون؛ لاستحالة النهي معنًى.
وقال الشاعرُ: [الرجز]
1507 - أبِيتُ أسْرِي، وَتَبِيتِي تَدْلُكِي ... وَجْهَكِ بالْعَنْبَر وَالْمِسْكِ الذَّكِي
يريد تبيتين وتدلُكين.
ومثله قول أبي طالب: [الطويل]
1508 - فَإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ ... سَتَحْتَلِبُوهَا لاَقِحاً غَيْرَ بَاهِلِ(5/315)
يريد: ستحتلبونها.
ولا يجوز أن يُتَوهَّم - في هذا البيت - أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط، لأن الفاء مُرادَة وجوباً؛ لعدم صلاحية «ستحتلبوها» جواباً؛ لاقترانه بحرف التنفيس.
والمراد بالحق: الآيات الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة.
قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، ومتعلق العلم محذوف، إما اقتصاراً، وإما اختصاراً - أي: وأنتم تعلمون الحق من الباطل، أو نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو تعلمون أن عقابَ مَنْ يفعل ذلك عظيم، وتعلمن أنكم تفعلون ذلك عناداً وحسداً.
فصل في كلام القاضي
قال القاضي: قوله تعالى: {لِمَ تَكْفُرُونَ} ؟ و {لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} يدل على أن ذلك فعلهم؛ لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم، ثم يقول: لِمَ فعلتم؟
وجوابه: أن الفعل يتوقف على الداعية، فتلك الداعية إن حدثت لا لِمُحْدِث لزم نفي الصانع، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى، وإن كان مُحْدِثُها هو الله - تعالى - لزمكم ما ألزمتموه علينا.(5/316)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
حكي عنهم التلبيسُ، فذكر منه هذا النوع.
قوله: {وَجْهَ النهار} منصوب على الظرف؛ لأنه بمعنى: أول النهار؛ لأن الوجه - في اللغة - مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يواجَه منه، كما يقال - لأول الثوب -: وجه الثوب.
روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي: أتيته بوجه نهارٍ، وصدر نهار، وشباب نهار، أي: أوله وقال الربيع بن زياد العبسي: [الكامل]
1509 - مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
أي: بأوله، وفي ناصب هذا الظرف وجهان:
أظهرهما: أنه فعل المر من قوله {آمِنُواْ} أي: أوْقَعُوا إيمانَكم في أول النهار، وأوقعوا كُفْرَكم في آخره.(5/316)
والثاني: أنه {وَأَنْزَلَ} أي: آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار، وليس ذلك بظاهر، بدليل المقابلة في قوله: {واكفروا آخِرَهُ} . فإن الضميرَ يعودُ على النهارِ، ومن جوَّز الوجه الثاني جعل الضمير يعود على {بالذي أُنْزِلَ} ، أي: واكفروا آخر المنزَّل، وأسباب النزول تُخالف هذا التأويل وفي هذا البيتِ الذي أنشدناه فائدةٌ، وذلك أنه من قصيدة يرثي بها مالك بن زهير بن خُزَيْمَةَ العبسي، وبعده: [الكامل]
1510 - يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ ... يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأسْحَارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّراً ... فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ
يَخْمِشْنَ حرَّاتِ الْوُجُوهِ عَلَى امرئٍ ... سَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَيِّبِ الأخْبَارِ
ومعنى الأبيات يحتاج إلى معرفةِ اصطلاح العربِ في ذلك، وهو أنهم ك انوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائحةٌ ولا تَنْدُبُه نادبةٌ، حتى يؤخذَ بثأره، فقال هذا: من سرَّه قَتْلُ مالك، فليأتِ في أول النهارِ يجدنا قد أخذْنَا بثأره، فذكر اللازم للشيء، وهو من باب الكناية.
وحكي أن الشيباني سأل الأصمعي: كيف تنشد قول الربيع: ... . . حين بدأنَ، أو بدَيْنَ؟ فقال الأصمعيّ: بَدأنَ، فقال: أخطأت، فقال: بَدَيْنَ، فقال: أخطأتَ، فغضب الأصمعيُّ، وكان الصواب أن يقول: بدَوْنَ - بالواو - لأنه من باب: بدا يَبْدو، أي: ظهر - فأتى الأصمعي يوماً للشيباني، وقال له: كيف تُصَغِّر مُخْتَاراً؟ فقال: مُخَيتير، فضَحِك منه، وصفَّق بيديه، وشَنَّع عليه في حلقته، وكان الصواب أن يقولَ: مُخَيِّر - بتشديد الياء - وذلك أنه اجتمع زائدان -، الميم والتاء - والميم أولى بالبقاء؛ لعلة ذكرها التصريفيُّون، فأبقاها، وحذف التاء، وأتى بياء التصغير، فقلب - لألها - الألف ياءً، وأدْغمها فيها، فصار: مُخَيِّراً - كما ترى - وهو يحتمل أن يكون اسمَ فاعل، أو اسمَ مفعول - كما كان يحتملها مُكَبَّرهُ، وهذا - أيضاً - يلبس باسم الفاعل خَيَّر فهو مُخَيِّر، والقرائنُ تبينه.
ومفعول {يَرْجِعُونَ} محذوف - أيضاً - اقتصاراً - أي: لعلهم يكونون من أهل الرجوع، أو اختصاراً أي: يرجعون إلى دينكم وما أنتم عليه.
فصل
قال القرطبيُّ: والطائفة: الجماعة - من طاف يطوفُ - وقد يُسْتَعْمَل للواحد على معنى: نفس طائفة، ومعنى الآية يحتمل أن يكون المراد كلَّ ما أنزل، وأن يكون بعضَ ما أنزل أما الاول ففيه وجوهٌ:
الأول: أن اليهودَ والنصارَى استخرجوا حيلةً في تشكيك ضَعَفَةِ المسلمين في صحة(5/317)
الإسلام، وهي أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الشرائع في بعض الأوقات، ثم يُظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا: هذا التكذيب ليس لأجل الحَسَدِ والعناد، وإلا لَمَا آمَنُوا في أول الأمر، فإذا لم يكن حَسَداً، وجب أن يكون لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكَّروا في أمره، واستَقْصَوْا في البحث عن دلائل نبوتِهِ، فلاح لهم - بعد ذلك التأمل التام، والبحثَ الوافي - أنه كذاب، فيصير هذا الطريق شبهة لضَعَفةِ المسلمين في صحة نبوته.
قال الحَسَنُ والسُّدِّيُّ: تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار خيبر وقُرَى عُرَيْنَة، وقال بَعْضُهُمْ ادخلوا في دين محمدٍ أولَ النهار باللسان دون الاعتقاد، ثم اكفروا آخِرَ النهار، وقولوا: إنّا نظرنا في كتابنا، وشاوَرْنا علماءَنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبُه، فإذا فعلتم ذلك شَكَّ أصحابُه في دينهم، واتهموه، وقالوا: إنهم أهْلُ الكتاب، وهم أعلم منا، فيرجعون عن دينهم، وهذا قول أبي مُسْلِمِ الأصبهانيِّ.
قال الأصمُّ: قال بعضهم لبعض: إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم؛ لأن كثيراً يعلمون ما جاء به حقٌّ، ولكن صَدِّقُوه في بعض، وكَذِّبوه في بعض، حتى يحمل الناسُ تكذيبَكم على الإنصاف، لا على العِناد، فيقبلوا قولكم.
وأما الاحتمال الثاني - وهو الإيمان بالبعض - ففيه وجهان
أحدهما: قال ابنُ عباسٍ: «وَجْهَ النَّهارِ» : أوله، وهو صلاة الصبح، {واكفروا آخِرَهُ} يعني: صلاة الظهر، وتقديره: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصلي إلى بيت المقدس - بعد أن قدم المدينة - ففرح اليهود بذلك، وطمعوا أن يكون منهم، فلمَّا حوله الله إلى الكعبة - وكان ذلك عند صلاة الظهر - قال كعبُ بن الأشرفِ وغيره: «ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار» يعني آمنوا بالْقِبْلَةِ التي صلى إليها صلاةَ الصبح، فهي الحق، {واكفروا} بالقبلة إلى الكعبة {لَعَلَّهُمْ} يقولون: إن هؤلاء أهل كتاب، وهم أعلم، فيرجعون إلى قبلتنا.
الثاني: قال بعضُهُمْ لبعض: صَلُّوا إلى الكعبة أولَ النهار ثم اكفروا بهذه القبلةِ في آخر النهار؛ وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون: إن أهل الكتاب أصحابُ العلم، فلولا أنهم عَرفوا بُطْلانَ هذه الْقِبْلَة لَمَا تركوها، فحينئذٍ يرجعون عن هذه القبلة.
فصل في فوائد كشف حيلتهم
إخبار الله - تعالى - عن تواطُئِهم على هذه الحيلة فيه فائدةٌ من وُجُوهٍ:(5/318)
الأول: أن ذلك إخبار عن الغيب، فَيَكون مُعْجِزاً؛ لأنها كانت مخفيَّةً فيما بينهم، وما أطْلعوا عليه أحداً من الأجانب.
الثاني: أنه - تعالى - لما أطْلع المؤمنين على هذه الحيلةِ لم يَبْقَ لها أثرٌ في قلوبِ المؤمنين، ولولا هذا الإعلام لكان رُبَّما أثّرت في قلوب بعضِ [المؤمنين الذين] في إيمانهم ضعف.
الثالث: [أن القومَ] لما افتضحوا في هذه الحيلةِ صار ذلك رادِعاً لهم عن الإقدام على أمْثَالِها من الحِيل والتلبيس.(5/319)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
اللام في «لِمَنْ» فيها وجهان:
أحدهما: أنها زائدة مؤكِّدة، كهي في قوله تعالى: {قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] أي: ردفكم وقول الآخر: [الوافر]
1511 - فَلَمَّا أنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً ... أنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَميْنَا
وقول الآخر: [الكامل]
1512 - مَا كُنْتُ أخْدَعُ لِلْخَلِيلِ بِخُلَّةٍ ... حَتَّى يَكُونَ لِيَ الْخَلِيلُ خَدُوعَا
وقول الآخر: [الطويل]
1513 - يَذُمُّونَ لِلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْلِبُونَهَا ... أفَاوِيقَ حَتَّى ما يَدِرُّ لَهَا فَضْلُ
أي: أنخنا الكلاكِلَ، وأخدع الخليل، ويذمون الدنيا، ويُرْوَى: يذمون بالدنيا، بالباء.
قال شهابُ الدينِ: وأظن البيتَ: يذمون لِي الدنيا - فاشتبه اللفظ على السامع -(5/319)
وكذا رأيته في بعض التفاسيرِ، وهذا الوجه ليس بالقوي.
الثاني: أن «آمن» ضُمِّن معنى أقَرَّ واعْتَرَف، فعُدِّيَ باللام، أي: ولا تُقِرّوا، ولا تعترفوا إلا لمن تبع دينكم، ونحوه قوله: {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ} [يونس: 83] وقوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] وقال أبو علي: وقد يتعدَّى آمن باللام في قوله: {فَمَآ آمَنَ لموسى} [يونس: 83] ، وقوله: {آمَنتُمْ لَهُ} [طه: 71] ، وقوله: {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] فذكر أنه يتعدى بها من غير تضمين، والصَّوَابُ التضمين وقد تقدم تحقيقه أول البقرة. وهنا استثناء مُفَرَّغٌ.
وقال أبو البقاء: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء مما قبلَه، والتقديرُ: ولا تَقرُّوا إلا لمن تبع، فعلى هذا اللام غير زائدة ولا يجوز أن تكون زائدة ويكون محمولاً على المعنى، أي اجْحَدوا كُلَّ أحد إلا من تبع دينكم.
والثاني: أن النية به التأخير، والتقدير: ولا تُصَدِّقُوا أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم؛ فاللام على هذا - زائدة، و «مَنْ» في موضع نصب على الاستثناء من أحد.
وقال الفارسيُّ: الإيمان لا يتعدى إلى مفعولين، فلا يتعلق - أيضاً - بجارين، وقد تعلَّق بالجار المحذوف من قوله: {أَن يؤتى} فلا يتعلق باللام في قوله: {لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إلا أن يحمل اللام على معناه، فيتعدى إلى مفعولين، ويكون المعنى: ولا تُقِرُّوا بأن يُتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينَكم، كما تقول: أقررت لزيد بألفٍ، فتكون اللام متعلقة بالمعنى، ولا تكون زائدة على حد: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] و {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وهذا تَصْرِيحٌ من أبي علي بأنه ضمن «آمن» معنى «أقَرَّ» .
فصل
اتفق المفسّرون على أن هذا بقية كلامِ اليهودِ، وفيه وجهانِ:
الأول: أن معناه: ولا تُصَدِّقُوا إلا بنبي يُقرِّر شرائعَ التوراةِ، ومَنْ جاء بتغيير شرع من أحكام التوراة، فلا تصدقوه، وعلى هذا التفسير تكون اللام في {لِمَنْ تَبِعَ} صلة زائدة.
الثاني: معناه: لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل مَنْ تبع دينكم، أي: ليس الغرضُ من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم، فإنّ مقصود كلِّ أحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته.(5/320)
ثم قال: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} .
قال ابن عباسٍ: معناه: الدين دين الله، ونظيره: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [الأنعام: 71] وبيان كيف صار هذا الكلامُ جواباً عما حكاه عنهم:
أما على الوجه الأول - وهو قولهم: لا دينَ إلا ما هم عليه - فهذا الكلام إنما صَحَّ جواباً عنهم من حيثُ إن الذي هم عليه ثبت ديناً من جهة الله - تعالى - لأنه أمر به، وأرشد إليه، فإذا وجب الانقياد لغيره كان ديناً يجب أن يُتَّبعَ - وإن كان مخالفاً لما تقدَّم - لأن الدينَ إنما صارَ ديناً بحكمه وهدايته، فحيثما كان حُكْمُه وجب متابعته، ونظيره قوله تعالى - جواباً لهم عن قوله: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142]- قوله: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب} [البقرة: 142] يعني: الجهاتِ كلَّها لله، فله أن يُحَوِّل القبلةَ إلى أيِّ جهةٍ شاء.
وعلى الوجه الثاني: المعنى: {إِنَّ الهدى هُدَى الله} قد جئتكم به، فلن ينفعَكم في دفعه هذا الكيد الضعيفُ.
فصل
قوله تعالى: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} نقل ابنُ عطيّة الإجماع من أهل التأويل على أن هذا من مقول الطائفة، وليس بسديد، لما نقل من الخلاف، وهل هي من مقول الطائفة أم من مقول الله تعالى - على معنى أن الله - تعالى - خاطب به المؤمنين، تثبيتاً لقلوبهم، وتسكيناً لجأشهم؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهودِ عليهم وتزويرهم؟
[إذا كان من كلامِ طائفةِ اليهودِ، فالظاهر أنه انقطع كلامُهم؛ إذ لا خلاف، ولا شك أن قولَه: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} من كلام الله مخاطباً لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] .
قوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} اعلم أن هذه الآية من المشكلات، فنقول: اختلف الناس في هذه الآية على وجوه:
الأول: أن قوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ} متعلق بقوله: {وَلاَ تؤمنوا} على حذف حرف الجر، والأًل: ولا تُؤْمِنُوا بأن يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، فلما حُذِفَ حرف الجر جرى الخلافُ المشهور بين الخليل وسيبويه في محل «أن» ، ويكون قولُه: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} جملةً اعتراضيةً.
قال القفّالُ: يحتمل أن يكون قوله: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} كلاماً أمر اللهُ نبيه أن يقولَه عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع؛ لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً - لا جرم - أدب الله رسوله بأن يقابله بقول حَقِّ، ثم يعود إلى حكايةِ تمامِ كلامِهم - كما إذا حكى المسلم عن بعضِ الكُفَّار قَوْلاً فيه كُفْر، فيقول - عند بلوغه(5/321)
إلى تلك الكلمة -: آمنت بالله، أو يقول: لاَ إلَه إلا اللهُ، أو يقول: تعالى الله عن ذلك، ثم يعود إلى تمام الحكاية، فيكون قوله: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} من هذا الباب.
قال الزمخشريُّ في تقرير هذا الوجه - وبه بدأ -: {وَلاَ تؤمنوا مُتَعَلِّقٌ بقوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ} وما بينهما اعتراضٌ، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، وأسِرُّوا تصديقكُمْ بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم، ولا تُفْشُوه إلا لأشياعكم - وحدهم - دون المسلمين؛ لئلاَّ يزيدَهم ثباتاً، ودون المشركين، لئلا يدعوهم إلى الإسلام.
{أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} عطف على {أَن يؤتى} والضمير في {يُحَاجُّوكُمْ} لِ {أَحَدٌ} لأنه في معنى الجميع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم بأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم بالحق، ويغالبونكم عَنْدَ اللهِ - تعالى - بالحُجَّةِ.
فإن قلت: ما معنى الاعتراضِ؟
قلت: معناه: إن الهدَى هُدى الله، من شاء يَلْطُف به حتى يُسلم، أو يزيد ثباتاً، ولم ينفع كيدكم وحِيَلُكم، وذَبُّكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، وكذلك قوله: {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} يريد الهداية والتوفيق.
قال شهاب الدينِ: «وهذا كلامٌ حسَنٌ، لولا ما يُريد بباطنه» ، وعلى هذا يكون قوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ} مستثْنَى من شيء محذوفٍ، تقديره: ولا تُؤمنوا بأن يُؤتَى أحد مل ما أوتيتم لأحد من الناس إلا لأشياعكم دون غيرهم، وتكون هذه الجملة - أعني قوله: {وَلاَ تؤمنوا} من كلام الطَّائِفَةِ المتقدمة، أي وقالت طائفةٌ كذا، وقالت أيضاً: ولا تؤمنوا، وتكون الجملة من قوله: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} من كلام اللهِ لا غير «.
قال ابن الخطيبِ: وعندي أن هذا التفسير ضعيف من وُجُوهٍ:
الأول: أن جدَّ القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أعظمَ من جدهم في حفظِ غير أتباعهم عنه، فكيف يليق أن يوصِيَ بعضُهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند أتباعهم، وأشياعهم، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ هذا في غاية البعد.
الثاني: أن على هذا التقدير لا بد من الحَذْف؛ فإن التقدير: قل إن الهُدَى هُدَى اللهِ، وإنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ، وَلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ قَلْ في قوله: {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله} .
الثالث: أنه كيف وقع قوله: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} فيما بين جزأي كلام واحد؟ هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم.
الوجه الثاني: أن اللام زائدة في {لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} وهو مستثنى من» أحَدٌ «المتأخِّر، والتقدير: ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا مَنْ تَبعَ دينَكُمْ، ف {لِمَنْ تَبِعَ}(5/322)
منصوب على الاستثناء من» أحد «، وعلى هذا الوجه جوَّز أبو البقاء في محل {أَن يؤتى} ثلاثة أوجهٍ:
الأول والثاني: مذهب الخليل وسيبويه، وقد تَقَدَّمَا.
الثالث: النصب على المفعول من أجله، تقديره: مخافةَ أن يُؤتَى.
وهذا الوجه الثالث - لا يصح من جهة المعنى، ولا من جهة الصناعة، أمّا المعنى فواضحٌ وأما الصناعة فإن فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه، وعلى عامله، وفيه - أيضاً - تقديم ما في صلة أن عليها، وهو غير جائزٍ.
الوجه الثالث: أن يكون {أَن يؤتى} مجروراً بحرف العلة - وهو اللام - والمُعَلَّل محذوف، تقديره لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك، ودبَّرتموه، لا لشيء آخرَ، وقوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} معناه: ولا تؤمنوا هذا الإيمانَ الظاهرَ - وهو إيمانكم وَجْهَ النَّهَارِ - {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} ، إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم؛ لأن رجوعَهم كان أرْجَى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامَهم كان أغبط لهم، وقوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} معناه: لأن يؤتى مثل ما أوتيتُمْ قلتم ذلك، ودبرتموه، لا لشيء آخرَ، يعني أن ما بكم من الحسد والبغي، أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم من فَضْل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم، والدليل عليه قراءة ابن كثير: أأنْ يُؤتَى أحَدٌ؟ - بزيادة همزة الاستفهامِ، والتقرير، والتوبيخ - بمعنى: ألأن يؤتى أحَدٌ؟
فإن قلت: ما معنى قوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} على هذا؟
قلت: معناه: دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولما يتصل به عند كفركم به في محاجتهم [لكم] عند ربكم.
الوجه الرابع: أن ينتصب {أَن يؤتى} بفعل مقدَّرٍ، يدل عليه: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتُوا.
قال أبو حيّان: وهذا بعيد؛ لأنه فيه حذفَ حرف النهي وحذفَ معموله، ولم يُحْفظ ذلك من لسانهم.
قال شهاب الدين: «متى دلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أي حالةٍ كان» .
الوجه الخامس: أن يكون {هُدَى الله} بدلاً من «الْهُدَى» الذي هو اسم «إنَّ» ويكون(5/323)
خبر {أَن يؤتى أَحَدٌ} ، قُلْ إنَّ هدى الله أن يؤتى أحد، أي إن هدى الله آتياً أحداً مثل ما أوتيتم، ويكون «أوْ» بمعنى «حتى» ، والمعنى: حتى يحاجوكم عند ربكم، فيغلبوكم ويدحضوا حُجَّتَكم عند الله، ولا يكون {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} معطوفاً على {أَن يؤتى} وداخلاً في خبر إن.
الوجه السادس: أن يكون {أَن يؤتى} بدلاً من {هُدَى الله} ويكون المعنى: قُلْ بأن الهدى هدى الله، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن، ويكون قوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} بمعنى فليحاجوكم، فإنهم يغلبونكم، قال ابنُ عطية: وفيه نظرٌ؛ لأن يؤدي إلى حذف حرف [النهي] وإبقاء عمله.
الوجه السابع: أن تكون «لا» النافية مقدَّرة قبل {أَن يؤتى} فحذفت؛ لدلالة الكلام عليها، وتكون «أو» بمعنى «إلاَّ أن» والتقدير: ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينَكم بانتفاء أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تَبع دينَكُمْ، وجاء بمثله، فإن ذلك لا يؤتى به غيركم إلا أن يحاجوكم، كقولك: لألزمنك أو تقضيني حقي.
وفيه ضعف من حيث حذف «لا» النافية، وما ذكروه من دلالة الكلامِ عليها غير ظاهر.
الوجه الثامن: أن يكون {أَن يؤتى} مفعولاً من أجله، وتحرير هذا القول أن يجعل قوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} ليس داخلاً تحت قوله: «قل» بل هو من تمام قول الطائفة، متصل بقوله: ولا تؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم مخافةَ أن يؤتى أحد من النُّبُوَّة والكرامة مثل ما أوتيتم، ومخافةَ أن يُحاجُّوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه، وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكُفْرهم - مع معرفتهم بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولما قدر المُبردُ المفعول من أجله - هنا - قدر المضاف: كراهة أن يُؤتَى أحد مثل ما أوتيتم، أي: مما خالف دينَ الإسلام؛ لأن اللهَ لا يهدي من هو كاذبٌ كَفَّار، فهُدَى الله بعيد من غير المؤمنين والخطاب في {أُوتِيتُمْ} و {يُحَاجُّوكُمْ} لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
واستضعف بعضُهم هذا، وقال: كونه مفعولاً من أجْلهِ - على تقدير: كراهة - يحتاج إلى تقدير عامل فيه ويصعُب تقديره؛ إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها، بكراهة الإيتاء المذكور.
الوجه التاسع: أن «أنْ» المفتوحة تأتي للنفي - كما تأتي «لا» ، نقله بعضهم أيضاً عن الفراء، وجعلَ «أو» بمعنى «إلا» ، والتقدير: لا يُؤتَى أحد ما أوتيتم إلا أن يحاجُّوكم، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو محاجتكم عند ربكم؛ لأن من آتاه الله الوحي لا بُدّ أن يحاجهم عند ربهم - في كونهم لا يتبعونه - فقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} حالٌ لازمةٌ من(5/324)
جهة المعنى؛ إذ لا يوحي اللهُ لرسولٍ إلا وهو يُحاجُّ مخالفيه. وهذا قول ساقطٌ؛ إذْ لم يثبت ذلك من لسان العربِ.
فصل
«أحد» يجوز أن تكون - في الآية الكريمة - من الأسماء الملازمةِ للنفي، وأن تكون بمعنى «واحد» والفرق بينهما أن الملازمة للنفي همزته أصلية، والذي لا يلزم النفي همزته بدل من واو فعلى جعله ملازماً للنفي يظهر عود الضمير عليه جمعاً؛ اعتباراً بمعناه؛ إذ المراد به العموم، وعليه قوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]- جمع الخبر لما كان «أحَدٌ» في معنى الجميع - وعلى جعله غير اللازم للنفي يكون جمع الضمير في {يُحَاجُّوكُمْ} باعتبار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتباعِه.
وبعض الأوجه المتقدمة يصح أن يجعل فيها «أحد» - المذكور - الملازم للنفي، وذلك إذا كان الكلام على معنى الجَحْد، وإذا كان الكلام على معنى الثبوت - كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنع جعفُه الملازم للنفي. والأمر واضح مما تقدم.
فصل
قرأ ابنُ كثير: أأن يؤتى - بهمزة استفهام - وهو على قاعدته من كونه يسهل الثانية بين بين من غير مدة بينهما، وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجوهٍ:
أحدها: أن يكون {أَن يؤتى} على حذف حرف الجر - وهو لام العلة - والمُعَلَّل محذوف تقديره: ألأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبَّرتموه - وتقدم تحقيقه - وهذه اللفظة موضوعة للتوبيخ، كقوله تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} [القلم: 14 - 15] ، والمعنى: أمن أجل أن يُؤتَى أحدٌ شرائعَ مثلَ ما أوتيتم من الشرائع تُنْكِرون اتباعه؟ ثم حذف الجواب، للاختصارِ، تقديره: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشرَ اليهودِ من الكتاب والحكمة تحسدونه، ولا تؤمنون به، قاله قتادةُ والربيعُ، وهذا الحذفُ كثيرٌ؛ يقول الرجل - بعد طول العتاب لصاحبه، وتعديده عليه ذنوبه بعد قلة إحسانه إليه -: أمِنْ قلة إحساني إليك؟ أمِنْ إساءتي إليك؟ والمعنى: أمن هذا فعلتَ ما فعلتَ؟ ونظيره: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] ، وهذا الوجه يُروى عن مجاهد وعيسى بن عُمَرَ. وحينئذ يسوغ في محل «أن» الوجهان - أعني النصب - مذهب سيبويه - والجر مذهب الخليلِ.(5/325)
وثانيها: أن {أَن يؤتى} في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، تقديره: أأن يُؤتَى أحَدٌ - يا معشر اليهودِ - من الكتاب والعلم مثل ما أوتيتم تصدقون به، أو تعترفون به، أو تذكرونه لغيركم، أو تُشيعونه في الناس، ونحو ذلك مما يَحْسُنُ تقديره، وهذا على قول مَنْ يقول: أزَيْدٌ ضربته؟ وهو وجه مرجوحٌ، كذا قدره الواحديُّ تبعاً للفارسيِّ وأحسن من هذا التقدير لأن الأصل أإتيان أحد مثل ما أوتيتم ممكن أو مصدق به.
الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مقدَّرٍ يُفَسِّرُه هذا الفعل المُضْمَر، وتكون المسألة من باب الاشتغال، التقدير: أتذكرون أن يؤتى أحَدٌ تذكرونه؟ ف «تذكرونه» مُفَسِّرٌ ل «تذكرون» الأولى، على حد: أزيداً ضربتَه؟ ثم حذف الفعل الأخير؛ لدلالة الكلام عليه، وكأنه منطوقٌ به، ولكونه في قوةِ المنطوقِ به صَحَّ له أن يُفَسِّر مُضْمَراً وهذه المسألة منصوص عليها، وهذا أرجح من الوجه قبله، لأنه مثل: أزيداً ضربته وهو أرجح، لأجل الطالب للفعل، ومثل حذف هذا الفعل المقدَّر لدلالة ما قبل الاستفهام عليه حذف الفعل في قوله تعالى:
{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91] تقديره: آلآن آمنتَ، ورجعتَ وثبت، ونحو ذلك.
قال الواحديُّ: فإن قيل: كيف جاز دخول «أحَدٌ» في هذه القراءة، وقد انقطع من النفي، والاستفهام، وإذا انقطع الكلام - إيجاباً وتقريراً - فلا يجوز دخول «أحَدٌ» .
قيل: يجوز أن يكون طأحَدٌ «- في هذا الموضع - أحداً الذي في نحو أحد وعشرين، وهذا يقع في الإيجاب، ألا ترى أنه بمعنى» واحد «.
قال أبو العباسِ: إن» أحَداً «و» وَحَداً «و» وَاحِداً «بمعنًى.
وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} ، أو في هذه القراءة - بمعنى» حتى «، ومعنى الكلام: أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يُحَاجُّوكُمْ عند ربكم.
قال الفراء:» ومثله في لكلام: تَعَلَّق به أو يُعْطيك حَقَّك.
ومثله قول امرئ القيس: [الطويل]
1514 - فَقُلْتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فنُعْذَرَا
أي حتى، ومن هذا قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] ، ومعنى(5/326)
الآية: ما أعطي أحد مثل ما أوتيتم - يا أمة محمدٍ - من الدين والحُجَّة حتى يحاجوكم عند ربكم «، قال:» فهذا وَجْهٌ، وأجود منه أن تجعله عَطْفاً على الاستفهام، والمعنى: أأن يُؤتَى أحَد مثل ما أوتيتم أو يحاجَّكم أحد عند الله تصدقونه؟ «. وهذا كله معنى قول أبي علي الفارسي.
ويجوز أن يكون {أَن يؤتى أَحَدٌ} منصوباً بفعل مُقَدَّرٍ لا على سبيل التفسير، بل لمجرد الدلالة المعنوية، تقديره: أتذكرون، أو أتشيعونه. ذكره الفارسي أيضاً، وهذا هو الوجه الرابع.
الخامس: أن يكون {أَن يؤتى} - قراءته - مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قول الطائفة، وهو أظهر مِنْ جَعْلِه من قَوْل الطَّائِفَةِ.
قال ابن الخطيبِ:» أما قراءة من يقصر الألف من «أنْ» فقد يُمْكن إيضاحها على معنى الاستفهام، كما قرئ: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم} [البقرة: 6]- بالمد والقصر - وكذا قوله تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] قرئ بالمد والقصر.
وقال امرؤ القيس: [المتقارب]
1515 - تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأنْ تَنْتَظِر؟
أراد: أتروح؟ فحذف ألف الاستفهام؛ لدلالة «أم» عليه، وإذا ثبت أن هذه القراءةَ مُحْتَمِلَةٌ لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى.
وقد ضعف الفارسيُّ قراءةَ ابن كثيرٍ، فقال: [ «وهذا موضع ينبغي أن تُرَجَّحَ فيه قراءةُ غيرِ ابنِ كثير على قراءة ابن كثير] ؛ لأن الأسماء المُفْرَدةَ ليس بالمستمر فيها أن تدلَّ على الكثرة» .
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة: إن يُؤتَى - بكسْر الهمزة - وخرَّجها الزمخشريُّ على أنها «إنْ» النافية، فقال: وقُرِئَ: «إن يؤتى أحد» على «إن» النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب، أي: «ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم» وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، يعني ما يُؤتَوْنَ مثلَه فلا يحاجونكم.
قال ابنُ عطيةَ: «وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة،(5/327)
ويكون قولها: أو يحاجوكم بمعنى: أو فَلْيُحَاجُّوكُمْ، وهذا على التصميم على أنه لا يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أو يكون بمعنى إلا أن يحاجوكم، وهذا على تجويز أن يؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له» ، فقد ظهر - على ما ذكره ابن عطية - أنه يجوز في «أوْ» - في هذه القراءة - أن تكون على بابها من كونها للتنويع والتخيير، وأن تكون بمعنى «إلا» إلا أن فيه حذفَ حرفِ الجزمِ، وإبقاء عمله وهو لا يجوز، وعلى قول غيره تكون بمعنى «حَتَّى» .
وقرأ الحسن: أن يُؤتِيَ أحَد - على بناء الفعل للفاعل - ولما نقل بعضهم هذه القراءةَ لم يتعرَّض ل «أن» - بفتح ولا بكسر - كأبي البقاء، وابن عطية، وقيَّدَها بعضُهم بكسر «أنْ» وفسَّرها بإن النافية، والظاهر في معناه أن إنعام الله تعالى لا يُشْبِهه إنعام أحد من خلقه، وهي خطاب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأمته، والمفعول المحذوف، تقديره: إن يُؤتِيَ أحَدٌ أحَداً مثل ما أوتيتم، فحذف المفعول الأول، وهُوَ أحَدٌ؛ لدلالة المعنى عليه، وأبقى الثاني، فيكون قول اليهودِ وقد تم عند قوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} وما بعده من قول الله تعالى، يقول: «قل» يا محمدُ إن {الهدى هُدَى الله أَن يؤتى} «إنْ» بمعنى الجحد، أي: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، أو يحاجوكم، يعني: إلا أن يجادلكم اليهودُ بالباطل، فيقولوا: نحن أفضل منكم وهذا معنى قول سعيد بن جُبَيرٍ والحسن والكلبيِّ ومقاتلٍ وهذا ملخَّص كلام الناسِ في هذه الآية مع اختلافهم.
قال الواحدي: «وهذه الآيةُ من مشكلات القرآن، وأصعبه تفسيراً؛ ولقد تدبَّرْتُ أقْوَالَ أهلِ التفسير، والمعاني في هذه الآية، فلم أجد قولاً يَطَّرِدُ في الآيةِ، من أوَّلِها إلى آخرهَا، مع بيان المعنى في النظم» .
فصل
قال بعض المفسّرين: هذا من قول الله - تعالى -، يقول: «قل» لهم يا محمدُ: {إِنَّ الهدى هُدَى الله} بأن أنزل كتاباً مثل كتابكم، وبعث نبيًّا حسدتموه، وكفرتم به، {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} - على هذا - رجوع إلى خطاب المؤمنين، وتكون «أوْ» بمعنى «إنْ» لأنهما حرفا شرط وجزاء، ويوضع أحدُهما مَوْضِعَ الآخر، وإن يُحاجُّوكم - يا معشرَ المؤمنين - عند ربكم فقل يا محمدُ، إنَّ الهدى هدى الله، ونحن عليه.
ويجوز أن يكون الجميعُ خِطاباً للمؤمنين، ويكون نظمُ الآيةِ: إنْ يُؤتَ أحدٌ مثلَ ما أوتيتم - يا معشرَ المؤمنين - يَحْسدوكم، فقل: إن الفَضْلَ بِيَدِ الله، وإن حاجُّوكم فقل: إنَّ الْهُدَى هُدَى الله.
ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقوله:(5/328)
{وَلاَ تؤمنوا} من كلام الله تعالى - كما تقدم - ثَبَّت به قلوبَ المؤمنينَ؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهود، وتزويرهم في دينهم، ومعناه: لا تُصدِّقوا يا مَعْشَرَ الْمُؤمنين إلا مَنْ تَبعَ دِينَكُمْ، ولا تصدقوا أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من الدين والفَضْلِ، ولا تصدِّقُوا أن يُحاجُّوكم في دينكم عند ربكم، أو يقدروا على ذلك؛ فإنَّ الهدى هدى اللهِ، والفضل بيد اللهِ يؤتيه من يشاء، والله واسعٌ عليمٌ، فتكون الآية كلُّها خطاب الله - تعالى - مع المؤمنين.
و «الفضل» - هنا - الرسالة، وهو - في اللغة - عبارة عن الزيادة، وأكثر ما يُستعمَل في زيادة الإحسان، والفاضل: الزائد على غيره [في خصال الخير، ثم كَثر استعمال الفَضْل حتى صار لكل نفع قَصَد به فاعله الإحسانَ إلى الغير] ، وقوله: {بِيَدِ الله} معناه: أن مالك له، يؤتيه من يشاءُ، أي: هو تفضُّلٌ موقوف على مشيئته، وهذا يدل على أن النبوةَ تحصُل بالتفضُّلِ، لا بالاستحقاق؛ لأنه جعلها من باب الفَضْل الذي لفاعله أنْ يفعَلَه، وأنْ لا يفعَلَه.
الواسع: الكامل القدرة، والعليم: الكامل العلم، فلكمال قُدْرَتهِ يصح أن يتفضل على أيِّ عَبْدٍ شاء بأي تفضُّل شاء، ولكمال علمه لا يكون شيء من افعاله إلا على وَجْه الحكمة والصواب.
قوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} أي: يختص بنبوته من يَشَاء، وهذا كالتأكيد لِمَا تَقَدَّم، والفرق بين هذه الآية والتي قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادةِ من جنس المزيدِ عليه، والرحمةُ المضافةُ إلى الله - تعالى - أمرٌ أعْلى من ذلك الفضل، فرُبَّما بلغت هذه الرحمةُ إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم، بل يكون أعْلى وأجلَّ من ذلك {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .(5/329)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
لما حكى خيانَتَهم في باب الدِّين ذكرها - ايضاً - في الأموال.
قوله: «مَنْ» مبتدأ، و {وَمِّنْ أَهْلِ} خَبَرُه، قُدِّمَ عليه، و «مَنْ» إما موصولة، وإما نكرة. و «إن تأمنه بقنطار يؤده» هذه الجملة الشرطية، إما صلة، فلا محل لها، وإما صفة فمحلّها الرفع.
وقرا بعضهم: {تَأْمَنْهُ} ، و {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّ} [يوسف: 11] . بكسر حرف(5/329)
المضارعة، وكذلك ابن مسعود والأشهب والعقيلي، إلا أنهما أبْدَلاَ الهمزة ياءً.
وجعل ابن عطية ذلك لغة قُرَيْشٍ، وغلَّطه أبو حيّان وقد تقدّمَ الْكَلاَمُ في كسر حرف المضارعةِ، وشرطه في الفاتحة يقال: أمنته بكذا، وعلى كذا، فالباءُ للإلصاق بالأمانة، و «على» بمعنى استيلاء المودع على الأمانة.
وقيل: معنى: أمنته بكذا، وثقت به فيه، وأمنته عليه: جعلته أميناً عليه.
والقنطارُ والدينار: المراد بهما العددُ الكثيرُ، والعدد القليل، يعني: أن فيهم مَنْ هو في غاية الأمانة، حتى أنه لو ائتمِن على الأموال الكثيرة أدَّى الأمانة فيها، ومنهم من هو في غاية الخيانة، حتى لو ائتُمِن على الشيء القليل فإنه يخون فيه.
واختلف في القنطار، فقيل: ألف ومائتان أوقية؛ لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلام، حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب، فردَّه، ولم يَخُنْ فيه.
ورُوِي عن ابن عباس أنه مِلْءُ جلد ثور من المال.
وقيل: ألف ألف دينار، أو ألف الف درهم - وقد تقدم -.
والدينار: أصله: دِنَّار - بنونين - فاستثقل توالي مثلَيْن، فأبدلوا أولهما حرفَ علة، تخفيفاً؛ لكثرة دوره في لسانهم، ويدل على ذلك رَدُّه إلى النونين - تكسيراً وتصغيراً - في قولهم: دَنَانير ودُنَيْنِير.
ومثله قيراط، أصله: قِرَّاط، بدليل قراريط وقُرَيْرِيط، كما قالوا: تَظَنَّيْتُ، وقصَّصْتُ أظفاري، يريدون: تظنّنت وقصّصت - بثلاث نونات وثلاث صاداتٍ - والدِّينار مُعرَّب، قالوا: ولم يختلف وزنه أصْلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً، كل قِيراطٍ ثلاث شعيرات معتدلاتٍ، فالمجموع اثنان وسبعون شعيرةً.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم «يُؤَدِّهْ» بسكون الهاء في الحرفين.
وقرأ قالون «يُؤَدِّهِ» بكسر الهاء من دون صلة، والباقون بكسرها موصولة بياء، وعن هشام وجهان:
أحدهما: كقالون، والآخر كالجماعة.
أما قراءة أبي عمرو ومن معه فقد خرَّجوها على أوجه، أحسنها أنه سكنت هاء الضمير، إجراءً للوصْل مجرى الوقف وهو باب واسع مضى منه شيء - نحو: {يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] و {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت} [البقرة: 258] وسيأتي منه أشياء إن شاء الله تعالى.(5/330)
وأنشد ابنُ مجاهد على ذلك: [البسيط]
1516 - وأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا
وأنشد الأخفش: [الطويل]
1517 - فَبتُّ لَدَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أخِيلُهُ ... وَمِطْوايَ مُشْتَاقَانِ لَهْ أرقَان
إلا أن هذا يخصُّه بعضهم بضرورة الشعر، وليس كما قال، لما سيأتي.
وقد طعن بعضهم على هذه القراءةِ، فقال الزَّجَّاجُ: هذا الإسكان الذي رُوِيَ عن هؤلاء غلط بَيِّنٌ؛ وأن الفاء لا ينبغي أن تُجْزَم، وإذا لم تُجْزَم فلا تسكن في الوصل، وأما ابو عمرو فأُراه كان يختلس الكسرة، فغلط عليه كما غلط عليه في «باريكم» . وقد حكى عنه سيبويه - وهو ضابط لمثل هذا - أنه كان يكسر كسراً خفياً، يعني يكسر في {بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] كسراً خفيًّا، فظنه الراوي سكوناً.
قال شهابُ الدينِ: وهذا الرد من الزجَّاج ليس بشيءٍ لوجوه:
منها: أنه فَرَّ من السكون غلى الاختلاس، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نص على أنَّ الاختلاس - ايضاً - لا يجوز إلا في ضرورة، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس، قال: ليُجْرَى الوصلُ مجرى الوقف إجراء كاملاً، وجعل قوله: [البسيط]
1518 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... إلاَّ لأن عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا
أحسن من قوله: [البسيط]
1519 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا ولا اعْتَمَرَ
حيث سكن الأول، واختلس الثاني.(5/331)
ومنها أن هذه لغة ثابتة عن العرب حفظها الأئمة الأعلام كالكسائي والفراء - حكى الكسائيُّ عن بني عقيل وبني كلابٍ {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُود} [العاديات: 6]- بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع -.
ويقولون: لَهُ مال، ولَهْ مالٌ - بالإسكان والاختلاس.
قال الفراء: من العرب مَنْ يجزم الهاء - إذا تحرَّك ما قبلَها - نحو ضَرَبْتُهْ ضرباً شديداً، فيسكنون الهاء كما يسكنون ميم «أنتم» و «قمتم» وأصلها الرفع.
وأنشد: [الرجز]
1520 - لمَّا رَأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ ... مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقف فالطَدَعْ
قال شهاب الدينِ: وهذا عجي من الفرَّاء؛ كيف يُنْشِد هذا البيت في هذا المَعْرِض؛ لأن هذه الفاء مبدلة من تاء التأنيث التي كانت ثابتةً في الوصل، فقلبها هاءً ساكنة في الوصل؛ إجراءً له مُجْرَى الوقف وكلامنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيثِ؛ لأن هاء التانيثِ لا حَظَّ لها في الحركة ألبتة، ولذلك امتنع رومها وإشمامُها في الوقف، نَصُّوا على ذلك، وكان الزجاج يُضَعَّف في اللغة، ولذلك رد على ثعلب - في فصيحه - أشياء أنكرها عن العرب، فردَّ الناسُ عليه رَدَّه، وقالوا: قالتها العربُ، فحفظها ثعلب ولم يحفظْها الزجَّاج. فليكن هذا منها.
وزعم بعضهم أن الفعلَ لما كان مجزوماً، وحلت الهاءُ محلّ لامِهِ جرى عليها ما يَجْرِي على لام الفعل - من السكون للجزم - وهو غير سديدٍ.
وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها قول الشاعر: [الوافر]
1521 - لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ ... إذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ
وقول الآخر: [الطويل]
1522 - أنَا ابْنُ كِلابٍ وابْنُ أوْسٍ فَمَنْ يَكُنْ ... قِنَاعُهُ مغْطِيًّا فَإنِّي لَمُجْتَلى
وقول الآخر: [البسيط]
1523 - أوْ مَعْبَرُ الظَّهْرِ يُنْبي عَنْ وَلِيَّتِهِ ... مَا حَجَّ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلا اعْتَمَرَ(5/332)
وقد تقدم أنها لغة عقيل، وكلاب أيضاً، وأما قراءة الباقين فواضحة وقرأ الزهريُّ «يُؤَدِّهو» بضم الهاء بعدها واو، وهذا هو الأصل في هاء الكتابة، وقرأ سَلاَّم كذلك إلا أنه ترك الواوَ فاختلس، وهما نظيرتا قراءتي «يؤدهي» و {يُؤَدِّهِ} - بالإشباع والاختلاس مع الكسرِ واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعل مجزوم، أو أمر معتلِّ الآخر، جَرَى فيها هذه الأوجُه الثلاثة أعني السكون والإشباع والاختلاس - كقوله: {نُؤْتِهِ مِنْهَ} [آل عمران: 145] وقوله: {يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] وقوله: {مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّم} [النساء: 115] ، وقوله: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم} [النمل: 28] وقد جاء ذلك في قراءة السبعة - أعني: الأوجه الثلاثة - في بعض هذه الكلمات وبعضها لم يأت فيه إلا وجه - وسيأتي مفصَّلاً في مواضعه إنْ شاء الله. وليس فيه أن الهاء التي للكناية متى سبقها متحرَّك فالفصيح فيها الإشباع، نحو «إنَّهُ، لَهُ، بِهِ» ، وإن سبقها ساكن، فالأشهر الاختلاس - سواء كان ذلك الساكن صحيحاً أو معتلاً - نحو فيه، منه وبعضهم يفرق بين المعتلْ والصحيح وقد تقدم ذلك أول الكتاب.
إذا علم ذلك فنقول: هذه الكلمات - المشار إليها - إن نظرنا إلى اللفظ فقد وقعت بعد متحرِّك، فحقها أن تشبع حركتها موصولةً بالياء، أو الواو، وإن سكنت فلما تقدم من إجراء الوصل مُجرى الوقف. وإن نظرنا إلى الأصل فقد سبقها ساكن - وهو حَرْفُ العلة المحذوف للجزم - فلذلك جاز الاختلاسُ، وهذا أصل نافع مطرد في جميع هذه الكلمات.
قوله {بِدِينَارٍ} في هذه الباء ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها للإلصاق، وفيه قَلَقٌ.
الثاني: أنها بمعنى «في» ولا بد من حذف مضاف، أي: في حفظ قنطار، وفي حفظ دينار.
الثالث: أنها بمعنى «على» وقد عُدِّيَ بها كثيراً، كقوله: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُف} [يوسف: 11] وقوله: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} [يوسف: 64] وكذلك هي في {بِقِنطَارٍ} .
قوله: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} استثناء مفرَّغ من الظرف العام؛ إذ التقدير: لا يؤده إليك في جميع المُددِ والأزمنة إلا في مدة دوامك قائماً عليه، متوكِّلاً به و «دُمْتَ» هذه هي الناقصةُ، ترفع وتنصب، وشرط إعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية إذ التقدير إلا مدة دومك [ولا ينصرف، فأما قولهم: «يدوم» فمضارع «دام» التامة بمعنى بقي، ولكونها صلة ل «ما» الظرفية] لزم أن يكون بحاجة إلى كلام آخر، ليعمل في الظرف نحو(5/333)
أصحبك ما دمت باكياً ولو قلت ما دام زيد قائماً من غير شيء لم يكن كلاماً.
وجوز أبو البقاء في «ما» هذه أن تكون مصدرية فقط، وذلك المصدر - المنسبك منها ومن دام - في محل نصب على الحال، وهو استثناءٌ مفرَّغ - أيضاً - من الأحوال المقدَّرة العامة، والتقدير: إلا في حال ملازمتك له، وعلى هذا، فيكون «دَامَ» هنا تامة؛ لما تقدم من أن تقدُّم الظرفية شرط في إعمالها، فإذا كانت تامة انتصب «قَائماً» على الحال، يقال: دام يدُوم - كقام يقوم - و «دُمت قائماً» بضم الفاء وهذه لغة الحجاز، وتميم يقولون: دِمْت - بكسرها - وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثّابٍ والأعمشُ وطلحة والفياضُ بن غزوان وهذه لغة تميم، ويجتمعون في المضارع، فيقولون: يدوم يعني: أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارع مضمومُ الْعَيْنِ، وكان قياسُ تميم أن تقول يُدام كخاف يخاف - فيكون وزنها عند الحجازيين فعَل - بفتح العين - وعند التميمين فِعل بكسرها هذا نقل الفراء.
وأما غيره فنقل عن تميم أنهم يقولون: دِمْتُ أدام - كخِفت اخاف - نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني والزمخشري.
وأصل هذه المادة: الدلالة على الثبوت والسكون، يقل: دام الماء، أي سكن. وفي الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» وفي بعضه بزيادة: الذي لا يجري، وهو تفسير له، وأدَمْت القِدْرَ، ودومتها سكنت غليانها بالماء، ومنه: دامَ الشيء، إذا امتدَّ عليه الزمان، ودوَّمت الشمس: إذا وقعت في كبد السماء.
قال ذو الرمة: [البسيط]
1524 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَالشَّمْسُ حيْرَى لَهَا في الْجَوِّ تَدْوِيمُ
هكذا أنشد الراغبُ هذا الشطر على هذا المعنى، وغيره ينشده على معنى أن الدوام يُعَبَّر به عن الاستدارة حول الشيء، ومنه الدوام، وهو الدُّوَار الذي يأخذ الإنسان في دماغه، فيرَى الأشياء دائرة. وأنشد معه - أيضاً - قول علقمة به عَبدَة: [البسيط]
1525 - تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلاَ يُؤْذِيكَ سَالِيهَا ... وَلاَ يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ(5/334)
ومنها: دوَّم الطائر، إذا حَلَّق ودار.
قوله: «عَلَيْهِ» متعلق ب «قائِماً» وفي المراد بالقيام - هنا - وجهان:
الأول: الحقيقة، وهو أن يقوم على رأس غريمه، ويلازمه بالمطالبة، وإن أخَّره أنكر.
قال القرطبيُّ: استدل أبو حنيفةَ على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} وأباه سائر العلماء واستدلَّ بعضهم على حَبْس المِدْيان بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} فإذا كان له ملازمته، ومنعه من التصرف، جاز حبسه.
وقيل معنى: إلا ما دمت عليه قائماً أي: بوجهك، فيهابك، ويستحيي منك، فإن الحياء في العينين ألا ترى قول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين وإذا طلبتَ من أخيك حاجة فانظر غليه بوجهك، حتى يستحيي فيقضيها.
الثاني: المجاز.
قال ابن عباس: المرادَ من هذا القيام، الإلحاح، والخصومة، والتقاضي، والمطالبة، قال ابن قُتَيْبَة: أصله أن المطالبَ للشيء يقوم فيه، والتارك له يَبُْد عنه، بدليل قوله تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} [آل عمران: 113] أي: عاملة بأمر الله، غير تاركة.
ثم قيل لكل مَنْ واظب على مطالبة أمر: قام به - وإن لم يكن ثَمَّ قيام - وقال: أبو علي الفارسي: القيام - في اللغة - بمعنى الدوام والثبات، كما ذكرناه في قوله تعالى: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} [النمل: 3] ومنه قوله: {دِينًا قَيِّمًا} [الأنعام: 161] ، أي: دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى الآية: دائماً، ثابتاً في مطالبتك.
فصل
دلَّت الآية على انقسام أهل الكتاب إلى قسمين: أهل أمانة، وأهل خيانة.
فقيل: اهل الأمانة هم الذين أسلموا، وأهل الخيانة: هم الذين لم يُسْلِموا.
وقيل: أهل الأمانة هم النصارى وأهل الخيانة: هم اليهود.
وروى الضحاك عن ابن عباس - في هذه الآية {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يعني عبد الله بن سلام، [أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من ذهب، فأداه. {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يعني: فنحاص بن عازوراء] ، استودعه رجل من قريش ديناراً، فخانه.(5/335)
فصل
يدخل تحت هذه الآية العَيْنُ والدَّيْنُ؛ لأن الإنسانَ قد يأتمن غيره على الوديعة، وعلى المبايعة، وعلى المقارضة، وليس في الآية ما يدل على التعيين، ونُقِل عن ابنِ عباس أنه حمله على المبايعة، فقال ومنهم من تبايعه بثمن القنطار، فيؤديه إليك، ومنهم من تبايعه بثمنِ الدينارِ، فلا يؤديه إليك ونقلنا - أيضاً - أن الآية نزلت في رجل أودعَ مالاً كثيراً عبد الله بن سلام فأدَّاه، ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء فلم يؤده، فثبت أن اللفظ محتمل لجميع الأقسام.
قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً:
أحدها: أنهم يبالغون في التعصُّب لدينهم، فلذلك يقولون: يحل لنا قتل المخالف، وأخذ ماله بأي طريق كان، وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كَذَبَ أعْدَاءُ اللهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ إلا وهُو تَحْتَ قدَميَّ، إلاَّ الأمَانَةَ، فإنَّهَا مُؤدَّاة إلى البَرِّ والْفَاجِرِ» .
الثاني: أن اليهود قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحد علينا، إذا أكلنا أموال عبيدنا.
الثالث: قال القرطبيُّ: قالت اليهود: إن الأموال كانت كلُّها لنا، فما في أيدي العرب منها، فهو لنا؛ ظلمونا وغصبونا، فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم.
الرابع: قال الحسنُ وابنُ جريجٍ ومقاتلٍ: إن اليهودَ إنما ذكروا هذا الكلامَ لمن خالفهم من العرب الذين آمنوا بالرسول خاصَّةً، وليس لكل من خالفهم.
ورُوي أنهم بايعوا رجالاً في الجاهلية، فلما أسلموا طالبوهم بالأموال، فقالوا: ليس علينا حَقٌّ؛ لأنكم تركتم دينكم. وادَّعَوْا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.
قال ابن الخطيبِ: «ومن المحتملِ أنه كان من مذهب اليهود، أن مَن انتقل من دين باطلٍ إلى دين آخرَ باطلٍ كان في حكم المرتدِّ، فهم - وإن اعتقدوا أن العرب كُفار، إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كُفر - حكموا على العرب الذي أسلموا بالرِّدَّةِ.
قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا} يجوز أن يكون في» ليس «ضمير الشأنِ - وهو اسمها - وحينئذ يجوز أن يكون» سبيل «مبتدأ، و» عَلَيْنَا «الخبر، والجملة خبر ليس. ويجوز أن يكون»(5/336)
عَلَيْنَا «وحده هو الخبر، و {سَبِيلِ} مرتفع به على الفاعلية. ويجوز أن يكون {سَبِيلِ} اسم» ليس «والخبر أحد الجارين أعني: {عَلَيْنَا} أو {فِي الأميين} .
ويجوز أن يتعلق {فِي الأميين} بالاستقرار الذي تعلق به» عَلَيْنَا «وجوّز بعضهم أن يتعلق بنفس» ليس «نقله أبو البقاء، وغيرُه، وفي هذا النقل نظر؛ وذلك أن هذه الأفعال النواقص في عملها في الظروف خلاف، وَبَنَوُا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدث، فمن قال: تدل على الحدث جوز إعمالها في الظرف وشبهه، ومن قال: لا تدل على الحدث منعوا إعمالها. واتفقوا على أن» ليس «لا يدل على حدث ألبتة، فكيف تعمل؟ هذا ما لا يُعْقَل.
ويجوز أن يتعلق {فِي الأميين} ب» سَبيلٌ «، لأنه استعمل بمعنى الحرجِ، والضمانِ، ونحوها. ويجوز أن يكون حالاً منه فيتعلق بمحذوف.
قال: فالأمي منسوب إلى الأم، وسُمِّي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمياً؛ قيل: لأنه كان لا يكتب، وذلك لأن الأمَّ: أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بَقِي على أصله في أن لا يكتب.
وقيل: نسبة إلى مكة، وهي أمُّ القُرَى.
قوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب} فيه وجوهٌ:
أحدها: هو قولهم: أن جواز الخيانةِ مع المخالف مذكور ف يالتوراة، وكانوا كاذبين في ذلك، وعالمين بكونهم كاذبين. [ومن كان كذلك كانت خيانته أعظمَ، وجرمُه أفحش] فيه.
وثانيها: أنهم يعلمون كون الخيانة مُحَرَّمَةٌ.
وثالثها: أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم.
فصل في رد شهادة الكافر
قال القرطبيُّ:» دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الكافرَ لا يُجعل أهلاً لقبول شهادته؛ لأن الله تعالى وصفه بالكذب، وفي الآية رَدٌّ على الكَفَرَةِ الذين يُحَلِّلُون ويُحَرِّمون من غير تحليل الله وتحريمه ويجعلون ذلك من الشرع، قال ابن العربيّ: ومِنْ هذا يخرج الرَّدُّ على مَنْ يحكم بالاستحسان مِن غير دليل، ولست أعلم أحداً من أهل القبلةِ قاله «.
قوله: {عَلَى اللَّهِ} يجوز أن يتعلق بالكذب - وإن كان مصدراً - لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيرهما ومَنْ منع علَّقه ب» يَقُولُونَ «متضمِّناً معنى يفترون، فعُدِّي تعديته. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من» الْكَذِب «، وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملة حالية، ومفعول العلم محذوف اقتصاراً، أي: وهم من ذوي العلم، أو اختصاراً، أي: وهم يعلمون كذبهم وافتراءهم، وهو أقبح لهم.(5/337)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
قوله: {بلى} جواب لقولهم: «لَيْسَ» وإيجاب لما نفوه. وتقدم القول في نظيره.
قال ابن الخطيبِ: وعندي الوقف التام على «بلى» ثم استأنف.
وقيل: إن كلمة «بلى» كلمة تُذْكَر ابتداءً لكلام آخرَ يُذكَر بعده؛ لأن قولَهم: ليس علينا فيما نفعل جناحٌ قائمٌ مقام قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] فذكر - تعالى - أن أهل الوفاءِ بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى - لا غيرهم - وعلى هذا الوجه، فلا يَحْسُن الوقف على «بلى» اه.
و «مَنْ» شرطية، أو موصولة، والرابط بين الجملة الجزائية، أو الخبرية هو العموم في {الْمُتَّقِينَ} وعند من يرى الربط بقيام الظاهر مقام المضمر يقول ذلك هنا.
وقيل: الجزاء، أو الخبر محذوف، تقديره: يحبه الله، ودل على هذا المحذوف قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه.
قال القرطبيُّ: «مَنْ» رفع بالابتداء، وهو شرط، و «أوفى» في موضع جزم «واتَّقَى» معطوف عليه، واتقى الله، ولم يكذب، ولم يستحل ما حرم عليه {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي يحب أولئك.
و «بعهده» يجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن الضمير يعود على «مَنْ» . أو مضافاً إلى مفعوله على أنه يعود على «اللهِ» ويجوز أن يكون المصدر مضافاً للفاعل وإن كان الضمير لله تعالى وإلى المفعول وإن كان الضمير عائداً على «مَنْ» ومعناه واضح عند التَّأمُّلِ.
فإن قيل: بتقدير أن يكون الضميرُ عائداً إلى الفاعل، وهو «مَنْ» فإنه يدل على أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانةَ، فإنهم يكتسبونَ محبة اللهِ.
فالجواب أن الأمر كذلك، فإنهم إذا وفوا بالعهود، فأول ما يوفون به العهد الأعظم، وهو ما أخذَ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما جاء به، وهو المراد بالعهد في هذه الآية قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانتْ فيه وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خصلَةٌ مِن النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذا ائتُمِنَ خَانَ، وَإذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإذَا خَاصَم فَجرَ» .(5/338)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
مما جاء في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ:(5/338)
أحدها: أنه - تعالى - لما وصف اليهودَ بالخيانة في أموال النّاس، فمعلوم أن الخيانَة في الأموال، لا تكون بالأيمان الكاذبةِ.
وثانيها: أنه - تعالى - حَكَى عنهم أنهم يقولون على الله الكذب، وهم يعلمون، ولا شك أن عهد الله - تعالى - على كل مكلَّفٍ أن لا يكذبَ على الله.
وثالثها: أنه - تعالى - ذكر في الآية الأولى خيانَتهم في أموال الناس، وذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وفي تعظيم أسمائِهِ؛ حيث يَحْلِفون بها كاذبين.
وقال بعضهم: إن هذه الآية ابتداء كلام مستقلٍّ في المنع من الأيمان الكاذبةِ؛ لأن اللفظَ عامٌّ، والروايات الكثيرة دلَّت على أنها نزلت في أقوامٍ أقدموا على الأيمان الكاذبة.
فصل
قال عكرمةُ: نزلت في أحبار اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتبوا بأيديهم غيرَها، وحلفوا أنها من عند الله؛ لئلا تفوتَهم الرِّشاء التي كانت من أبناء عمهم.
وقيل: نزلت في ادِّعائهم أنه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] كتبوا ذلك بأيديهم، وحَلَفُوا أنه من عند الله قاله الحسنُ.
وقال ابن جُرَيْجٍ: نزلت في الأشعث بن قيس وخَصْمٍ له، اختصما في أرض إلى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أقم بيِّنتك، فقال: ليس لي بينة، فقال لليهودي: احلِفْ، قال: إذاً يحلف، فيذهب بمالي، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ} فنكل الأشعث.
قال مجاهدٌ: نزلت في رجل حلف يميناً فاجرةً في تنفيق سلعته، عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ. قَالَ: وقرأها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاث مرات، فقال أبو ذر: خابوا، وخسروا مَنْ هم يا رسولَ اللهِ؟ قال: المُسْبِلُ إزَارَهُ، والمَنَّانُ، والمُنْفِقُ سلعَتَهُ بالحَلِف الْكَاذِبِ» .(5/339)
وروى أبو هريرة عن النبي: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ حَلَفَ يَمِيناً عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ، فاقتطعه، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ أنَّهُ أعْطِي بِسِلْعَتِهِ أكْثَرَ مِمَّا أعْطي وَهُوَ كَاذِبٌ - وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ، فَإن اللهَ - تَعَالَى - يَقولُ: الْيَوم أمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ» .
وقيل: جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنْدةَ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال الحضرميُّ: يا رسولَ اللهِ، إن هذا قد غلبني على أرض لي - كانت لأبي - فقال الكنديّ: هي أرضي في يدي، أزرعها، ليس له فيها حق فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للحَضْرَمِيّ:
«ألك بيِّنةٌ؟ قال لا، قَالَ: فَلَكَ يمينُهُ قال: يا رسولَ اللهِ، إن الرجل فاجِرٌ لا يبالي على ما حلف عليه، قال ليس لك منه إلا ذلك، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أدبر» أما لئن حَلَفَ علَى ما لَيْسَ لَهُ لِيَأكُلَهُ ظُلماً لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ «.
قال علقمة: أما الكنديّ فهو عمرو بن القيس بن عابس الكنديّ، وخصمه ربيعة بن عبدان الحضرميّ، روى أبو أمامة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِم - بِيَمِينِهِ - حَرَّم اللهُ عَلَيْه الْجَنَّة وَأوْجَبَ لَهُ النَّارَ، قَالُوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسولَ الله؟ قَالَ: وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أرَاكٍ «قالها ثلاث مراتٍ.
قوله: {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} أي: لا نصيبَ لهم في الآخرةِ وتعيمها، وهذا مشروطٌ بالإجماع بعد التوبة، فإذا تاب عنها سقط الوعيدُ - بالإجماع - وشرط بعضهم عدم العفو؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ، {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ} أي: كلاماً ينفعهم، ويسرهم.
وقيل: لمعنى الغضب، كما يقول الرجل: إني لا أكلم فلاناً - إذا كان قد غضب عليه - قاله القفالُ.
ثم قال: {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} أي: لا يرحمهم، ولا يُحْسِن إليهم، ولا(5/340)
يُنِيلُهم خيراً، وليس المقصود منه النظر بتقليب الحَدَقَةِ إلى المَرْئِيّ - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} أي: لا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة.
وقيل: لا يُثْنِي عليهم كما يُثْنِي على أوليائه - كثناء المزكِّي للشاهد والتزكية من الله قد تكون على ألسنة الملائكة، كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23 - 24] وقد تكون من غير واسطة، أما في الدنيا فكقوله: {التائبون العابدون} [التوبة: 112] . وأما في الآخرة فكقوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] . ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في هذه اللام أحدهما: أنها بمعنى الاستحقاق , أي: يستحقُّون العذاب الأليم. لما بين حرمانهم من الثواب، بين كونهم في العقاب الشديد المؤلم.
فصل
قال القرطبي: " دلت هذه الآية والأحاديث على أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه، وروت أم سلمة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم تختصمون إليَّ، وإنما بشرٌ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة. قوله: {ولهم عذاب أليم} في هذه اللام قولان: أحدهما: أنها بمعنى الاستحقاق، أي: يستحقُّون العذاب الأليم. الثاني: كما تقول: المال لزيد , فتكون لام التمليك , فذكر ملك العذاب لهم , تهكُّماً بهم.(5/341)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
هذه الآية تدل على أن التي قبلها نزلت في اليهود.
وقوله: يَلْوُونَ «صفة ل» فريقاً «فهي في محل نصبٍ، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى؛ لأنه اسم جمع - كالقوم والرهط -.
قال أبو البقاء:» ولو أفرد على اللفظ لجاز «وفيه نظرٌ؛ إذ لا يجوز: القوم جاءني، والعامة على {يَلْوُونَ} بفتح الياء، وسكون اللام، وبعدها واو مضمومة، ثم أخْرَى ساكنة مضارع لوى أي: فتل.
وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نِصاح وأبو حاتم - عن نافع -» يُلَوُّون «بضم الياء، وفتح(5/341)
اللام، وتشديد الأولى - من لَوَّى» مضعَّفاً، والتضعيف فيه للتكثير والمبالغة، لا للتعدية؛ إذ لو كان لها لتعدى لآخرَ؛ لأنه مُتَعَدٍّ لواحد قبل ذلك، ونسبها الزمخشريُّ لأهل المدينةِ، وهو كما قال، فإن هؤلاء رؤساء قُرَّاء المدينةز
وقرأ حُمَيْد «يَلُون» - بفتح الياء، وضم اللام، بعدها واو مفردة ساكنة - ونسبها الزمخشريُّ لمجاهدٍ وابنِ كثيرٍ، ووجَّهَهَا هو بأن الأصل {يَلْوُونَ} - كقراءة العامة - ثم أبدِلَت الواو المضمومة همزة، وهو بدلٌ قباسيٌّ - كأجوه وأقِّتَتْ. ثم خُفِّفَت الهمزةُ بإلقاء حركتها على الساكن قبلها وهو اللام - وحُذِفَت الهمزةُ، فبقي وزن «يَلُون» يَفُون - بحذْف اللام والعين - وذلك لأن اللام - وهي الياء - حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأن الأصل «يلويون» كيضربون، فاستُثْقِلَت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان - الياء وواو الضمير - فحُذِفت الياء لالتقائهما، ثم حُذِفت الواو التي هي عين الكلمة.
و {أَلْسِنَتَهُمْ} جمع لسانٍ، وهذا على لغة من ذكَّره، وأما على لغة من يُؤنثه - فيقول: هذه لسانٌ - فإنه يجمع على «ألْسُن» - نحو ذِراع وأذرُع وكراع وأكرِع.
وقال الفرّاء: لم نسمعْه من العرب إلا مذكَّراً. ويُعَبَّر باللسان عن الكلام؛ لأنه ينشأ منه، وفيه - والمراد به ذلك - التذكير والتأنيث -، والليّ: الفتل، يقال: لَويْت الثوب، ولويت عنقه - أي فتلته - والليُّ: المطل، لواه دَيْنَه، يلويه لَيًّا، وليَّاناً: مطله. والمصدر: اللَّيّ واللّيان.
قال الشاعرُ: [الرجز]
1526 - قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانا ... مَخَافَةَ إلافْلاسِ وَاللَّيانا
والأصل لوْيٌ، ولَوْيَان، فأعِلَّ بما تقدم في «مَيِّت» وبابه ثم يُطْلَق اللَّيُّ على الإراغة والمراوغة في الحجج والخصومة؛ تشبيهاً للمعاني بالأجرام. وفي الحديث: «لَيُّ الْوَاحِدِ ظُلْمٌ» .
وقال بعضهم: اللَّيّ عبارة عن عَطْف الشيء، وردّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال: لَوَيْت يده والتوى الشيءُ - إذا انحرف - والتوى فلان عليَّ إذا غيَّر أخلاقه عن الاستواء إلى ضده. ولوى لسانه عن كذا - إذا غيره - ولوى فلانٌ فلاناً عن رأيه - إذا أماله(5/342)
عنه - و {بالكتاب} متعلق ب {يَلْوُونَ} ، وجعله أبو البقاء حالاً من الألسنة، قال: وتقديره: ملتبسة بالكتاب، أو ناطقة بالكتاب.
والضمير في {لِتَحْسَبُوهُ} يجوز أن يعود على ما تقدَّم مما دل عليه ذِكْر اللَّيّ والتحريف، أي: لتحسبوا المحرف من التوراة. ويجوز أن يعود على مضاف محذوفٍ، دل عليه المعنى، والأصل: يلوون ألسنتهم بشِبْهِ الكتاب؛ لتحسبوا شِبْهَ الكتاب الذي حرفوه من الكتاب، ويكون كقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ} [النور: 40] ثم قال: {يَغْشَاهُ} [النور: 40] يعود على «ذِي» المحذوفة. و «من الكتاب» هو المفعول الثاني للحُسْبان. وقُرئ «ليحسبوه» - بياء الغيبة - والمراد بهم المسلمون - أيضاً - كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة، والمعنى: ليحسب المسلمون أن المحرَّف من التوراة.
قال ابن الخطيبِ: «لَيُّ اللسان شبيه بالتشدُّقِ والتنطُّع والتكلُّف - وذلك مذموم - فعبَّر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلَيِّ اللسان؛ ذمًّا لهم، ولم يُعَبِّر عنها بالقراءة. والعرب تفرِّق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد، فيقولون - في المدح -: خطيب مِصْقَع، وفي الذم: مِكْثَارٌ، ثَرْثَارٌ فالمراد بقوله: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب} أي: بقراءة ذلك الكتاب الباطل» .
فصل
قال القفَّالُ: معنى قوله: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} أن يعمدوا إلى اللفظة، فيحرفونها عن حركات الإعراب تحريفاً يتغيَّر به المعنى، وهذا كثيرٌ في لسان العرب، فلا يبعد مثله في العبرانية، فكانوا يفعلون ذلك في الآياتِ الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة.
وروي عن ابنِ عباسٍ قال: إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، كتبوا كتاباً شوَّشوا فيه نعتَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قالوا: هذا من عند الله.
فصل
قال جمهور المفسّرين: هذا النفر هم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر، وشعبة بن عمرو الشاعر. {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} يعطفونها بالتحريف والتغيير، وهو ما غيّروا من صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآية الرجم، وغير ذلك. {لِتَحْسَبُوهُ} أي: لتظنوا ما حرفوا {مِنَ الكتاب} الذي أنزله الله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنَّهم الكاذبون.(5/343)
وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيلَ، وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه.
فإن قيل: كيف يمكن إدخالُ التحريف في التوراة، مع شُهْرتها العظيمة؟
فالجوابُ: لعله صدر هذا العمل عن نفر قليلٍ، يجوز تواطؤهم على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرَّف على بعض العوامِّ، وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً.
قال ابن الخطيب: «والأصوب - عندي - في الآية أن الآياتِ الدَّالَّةِ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظرِ والتأمُّل، والقوم كانوا يُورِدون عليها الأسئلة المشوشة، والاعتراضات المظلمة، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهةً على السَّامِعِينَ، واليهود كانو يقولون: مراد اللهِ من هذه الآياتِ ما ذكرناهُ - لا ما ذكرتم - فكان هذا هو المراد بالتحريف وَلَيِّ الألسنةِ، كما أن المُحِقَّ - في زمننا - إذا استدل بآيةٍ فالمُبْطِل يورد عليه الأسئلةَ والشبهاتِ، ويقول: لَيْسَ مُرَادُ اللهِ - تعالى - ما ذكرت، بل ما ذكرناه، فكذا هنا، والله أعلمُ» .
فإن قيل: ما الفرق بين قوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} وبين قوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} ؟
فالجوابُ: أن المغايرة حاصلة؛ لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله تعالى؛ فإن الحكم الشرعيَّ قد ثبت تارةً بالكتاب، وتارةً بالسنَّةِ، وتارة بالإجماع، وثارةً بالقياس، والكل من عند الله تعالى - فقوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} هذا نفيٌ خاصٌّ، ثم عطف النفي العام فقال: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} فلا يكون تكراراً.
وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة، ويكون المراد من قولهم: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ} أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء عليهم السلام مثل شعيب وأرميا؛ وذلك لأن القومَ في نسبة ذلك التحريفِ إلى الله تعالى كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبُلْه الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرَّف إلى أنه من عنده، وإن من وجدوا قوماً عُقَلاَء أذكياء زعموا أنه موجودٌ في كتب سائر الأنبياءِ، الذين جاءوا بعد موسى عليه السَّلاَمُ.(5/344)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
قال مقاتل والضَّحّاكُ {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} يعني عيسى - عليه السلام - وذلك أن نصارَى(5/344)
نجرانَ كانوا يقولون: إن عيسى أمرهم أن [يتخذوه] ربًّا، فأنزل الله هذه الآية.
وقال ابن عباس وعطاء: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب} أي: القرآن وذلك أن أبا رافع القُرظِي - من اليهود، والرئيس - من نصارى نَجْران، قالا: يا محمد، أتريد أن نعبدَك ونتخذك رباً؟ قَالَ: «مَعَاذَ اللهِ أنْ نَأمُرَ بِعبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللهُ، وَلاَ بِذَلِكَ أمَرَنِي اللهُ» فأنزل الله هذه الآية.
قال ابن عباسٍ: لما قالت اليهودُ: عُزَيْر ابنُ الله وقالت النصارى: المسيح ابنُ اللهِ نزلت هذه الآية.
والبشر جميع بني آدم، لا واحد له من لفظه - كالقوم والجيش - ويوضع موضع الواحدِ، والجمع، قال القرطبي: «لأنه بمنزلة المصدر» .
قوله: {أَن يُؤْتِيهُ} اسم «كَانَ» و «الْبَشَر» خبرها. وقوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} عطف على «يُؤتيهُ» ، وهذا العطفُ لازم من حيث المعنى؛ إذ لو سكت عنه لم يصحّ المعنى؛ لأن الله - تعالى - قد آتى كثيراً من البشر الكتابَ والحُكْمَ والنبوةَ، وهذا كما يقولون - في بعض الأحوال والمفاعيل -: إنها لازمة فلا غرو - أيضاً - في لزوم المعطوف.
وإنما بينا هذا؛ لأجل قراءة تأتي - إن شاء اله تعالى - ومعنى مجيء هذا النَّفي في كلام العرب، نحو: «ما كان لزيد أن يفعل» ، كقوله تعالى: {مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا} [النور: 16] . وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} [النساء: 92] وقوله: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] أي: ما ينبغي لنا، ونحوه بنفي الكون والمراد نفي خبره، وهو على قسمين:
قسم يكون النفي فيه من جهة العقل؛ ويُعَبَّر عنه بالنفي التام - كهذه الآية - لأن الله - تعالى - لا يُعْطي الكتاب بالحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء، ونحوه: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145] .
وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتفاء، كقول أبي بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويُعْرَف القسمان من السياق.
وقرأ العامة «يَقُولَ» - بالنصب - نسقاً على «يؤتيه» والتقدير: لا يجتمع النبوة وهذا القول. والعامل فيه «أن» وهو معطوف عليه بمعنى: ثم أن يقول.
والمراد بالحكم: الفَهْم والعلم. وقيل: إمضاء الحكم عن الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
و {الكتاب} القرآن.(5/345)
وقرأ ابن كثير - في رواية شبل بن عباد - وأبو عمرو - في رواية محبوب -: «يقولُ» - بالرفع - وخرَّجوها على القطع والاستئناف، وهو مُشْكِلٌ؛ لما تقدم من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف؛ إذْ لا يستقلّ ما قبله؛ لفساد المعنى، فكيف يقولون: على القطع والاستئناف.
قوله: {عِبَادًا} حكى الواحديُّ - عن ابن عباسٍ - أنه قال في قوله تعالى: {كُونُواْ عِبَاداً لِّي} أنه لغة مزينة ويقولون للعبيد: عباد.
قال ابنُ عطِية: ومن جموعه: عَبِيد وعِبِدَّى.
قال بعض اللغويين: هذه الجموع كلُّها بمعنًى.
وقال بعضهم: العبادُ للهِ، والعبيدُ والعِبِدَّى للبشر.
وقال بعضهم: العِبِدَّى إنما تقال في العبد من العَبيد، كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية، والذي استقرأت في لفظ «العباد» أنه جَمْع عَبْد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير، وتصغير الشأن، وانظر قوله: {والله رَؤُوفٌ بالعباد} {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وقوله: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] ، وأما العبيد، فتستعمل في تحقيره.
ومنه قول امرئ القيس:
1527 - قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدِ العَصَا ... مَا غَرَّكُمْ بِالأسَدِ الْبَاسِلِ
وقال حمزة بن عبد المطلب: «وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عَبِيدٌ لأبِي» ؟ ومنه قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة أنصارهم ومقدرتهم، وأنه - تعالى - ليس بظلامٍ لهم مع ذلك. ولما كانت «العباد» تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أتى بها في قوله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] فهذا النوع من النظر يسلك به سبيل العجائب في فصاحة القرآن على الطريقة العربية.
قال أبو حيّان: «وفيه بعض مناقشة، أما قوله: ومن جموعه عَبِيد وعِبِدَّى، فأما عبيد، فالأصح أنه جمع، وقيل اسم جمع. وأما عِبِدَّى فإنه اسم جمع، وألفه للتأنيث» .
قال شهابُ الدّينِ: «لا مناقشة، فإنه إنما يعني جَمْعاً معنويًّا، ولا شك أن اسمَ الجمع جَمْعٌ معنويٌّ» .(5/346)
قال: وأما ما استقرأه من أن «عِباداً» يساق في [مضمار] الترفُّع والدلالة على الطاعة، دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ «العباد» وأما قوله: وأما العبيد، فيستعمل في تحقيره - وأنشد بيت امرئ القيس، وقول حمزة: «وهل أنتم إلا عبيد أبي» ، وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فاستقراء ليس بصحيح، إنما كثر استعمال «عباد» دون «عبيد» لأن «فعالاً» في جمع «فَعْل» غير الياء والعين قياس مُطَّردٌ، وجمع فَعْل على «فعيل» لا يطَّرد.
قال سيبويه: «وربما جاء» فعيلاً «وهو قليل - نحو الكليب والعبيد» . فلما كان «فِعَال» مقيساً في جمع «عبد» جاء «عباد» كثيراً، وأما {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فحسَّنَ مجيئه هنا - وإن لم يكن مقيساً - أنه جحاء لتواخي الفواصل، ألا ترى أن قبله: {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] وبعده {قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} [فصلت: 47] فحَسَّنَ مجيئه بلفظ العبيد مؤاخاة هاتين الفاصلتين. ونظير هذا - في سورة ق - {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] لأن قبله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} [ق: 28] . وبعده: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] وأما مدلوله فمدلول «عباد» سواء، وأما بيت امرئ القيس فلم يُفْهَم التحقير من لفظ «عبيد» إنما فُهم من إضافتهم إلى العصا، ومن مجموع البيت. وكذلك قول حمزةَ: هل أنتم إلا عبيد؟ إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين.
وقال شهابُ الدينِ: «رده عليه استقراءه من غير إثباته ما يجرِّم الاستقراء مردود، وأما ادِّعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق - دون لفظ -» عبيد «- ممنوع؛ لأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره، فالإحالة على اللفظ أوْلَى» .
قوله: «لي» صفة ل «عباد» . و {مِن دُونِ الله} متعلق بلفظ «عِبَاداً لما فيه من معنى الفعل، ويجوز أن يكون صفة ثانية، وأن يكون حالاً؛ لتخصُّص النكرة بالوصف.
قوله: {ولكن كُونُواْ} أي: ولكن يقول: كونوا، فلا بد من إضمار القول هنا، ومذهب العرب جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، كقوله تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] أي: يقال لهم ذلك.
والربانيون: جمع رَبَّانِيّ، وفيه قولان:
أحدهما: قال سيبَوَيْهِ: إنه منسوب إلى الرَّبّ، يعني كونه عالماً به، ومواظباً على طاعته، كما يُقال: رجل إلهيّ إذا كان مقبلاً على معرفة الإلهِ وطاعتِهِ، والألف والنونُ فيه زائدتان في النسبِ، دلالةٌ على المبالغة كرقباني وشَعراني، ولِحْيَاني - للغليظِ الرقبةِ،(5/347)
والكثيرِ الشعرِ، والطويلِ اللحيةِ - ولا تُفرد هذه الزيادة عن النسب أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية - من غير مبالغة: قالوا: رَقَبيّ وشَعْرِيّ ولحويّ.
الثاني: قال المُبَرِّدُ: الربانيون: أرباب العلم، منسوب إلى رَبَّان، والربان: هو المُعَلِّم للخير، ومَن يوسوس للناس ويعرِّفُهم أمرَ دينهم، فالألف والنون والتاء على زيادة الوصف، كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان، ثم ضمت إليه ياء النسب - كما قيل: لحيانيّ ورقبانيّ - وتكون النسبة - على هذا - في الوصف نحو أحمري، قال: [الرجز]
1528 - أطَرَباً وَأنتَ قِنَّسْرِيُّ ... وَالدَّهْرُ بِالإنْسَانِ دَوَّارِيُّ
وقال سيبويه: زادوا ألفاً ونوناً ف يالربانيّ؛ لأنهم أرادوا تخصيصاً بعلم الرَّبِّ دون غيره من العلوم، وهذا كما يقال: شعرانيّ ولحيانيّ ورقبانيّ.
قال الواحديُّ: فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الربِّ مأخوذٌ من التربية.
وفي التفسير: كونوا فقهاء، علماء، عاملين. قاله عليٌّ وابن عباس والحسنُ.
وقال قتادةُ: حكماء، علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: فقهاء، معلمين.
وقل عطاءٌ: علماء، حكماء، نصحاء لله في خلقه.
وقيل: الرَّبَّانِيّ: الذي يُربِّي الناسَ بصغار العلم قَبل كِباره.
وقال سعيد بن جُبَيرٍ: الرباني: العالم الذي يعمل بعلمه.
وقيل: الربانيون فوق الأحبار، والأحبارُ: العلماء، والربانيون: الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس، ولما مات ابنُ عبَّاسٍ قال محمدُ بنُ الحنفيةَ: اليوم مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة.
وقال ابنُ زيدٍ: الربانيُّ: هو الذي يربُّ النَّاسَ، والربانيون هم: ولاة الأمة والعلماء، وذكروا هذا - أيضاً - في قوله تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار} [المائدة: 63] أي: الولاة والعلماء، وهما الفريقان اللذان يطاعان.(5/348)
ومعنى الآية - على هذا التقدير - لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى، ومواظبتكم على طاعته.
قال القفال: يحتمل أن يكون الوالي، سُمِّي ربانيًّا؛ لأنه يُطاع كالربِّ، فنسب إليه.
قال أبو عبيدة: أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربيةٍ، إنما هي عبرانية، أو سريانية، وسواء كانت عبرانية، أو سريانية، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي عَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِم، ثم اشتغل بتعليم الخيرِ.
قوله: {بِمَا كُنْتُمْ} الباء سببية، أي: كونوا علماء بسبب كَوْنِكُمْ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنها متعلقة ب «كُونُوا» ذكره أبو البقاء، والخلاف مشهورٌ.
الثاني: أن تتعلق ب «رَبَّانِيِّينَ» لأن فيه معنى الفعل.
الثالث: أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة ل «رَبَّانِيِّينَ» ذكره أبو البقاء، وليس بواضح المعنى، و «ما» مصدرية، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر، أي: بسبب كونكم عالمينَ، نظيره قوله: {اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} [الجاثية: 34] . وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك؛ فإنه قال: و «ما» الظاهر أنها مصدرية، فهذا يوم تجويز غير ذلك - وفي جوازه بُعْد - وهو أن تكون موصولة، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب، وقد نقص شرطٌ، وهو اتحاد المتعلَّق، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية. و «كُنْتُمْ» معناه «أنتم» كقوله: {مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29] أي مَنْ هو في المهد.
قوله: {تَعْلَمُونَ} قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو «تَعْلَمُونَ» مفتوح حرف المضارعة، ساكن العين مفتوح اللام من عَلِم يَعْلَم، أي: تعرفون، فيتعدى لواحدٍ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة، وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً، فيتعدى لاثنين، أولهما محذوف، تقديره: تُعَلِّمُونَ الناسَ والطالبين الكتاب.
ويجوزُ أن لا يُراد مفعول، أي: كنتم من أهل التعليم، وهو نظير: أطعم الخبزَ، المقصود الأهم إطعام الخُبْز من غير نظرٍ إلى مَنْ يُطْعمُه، فالتضعيف فيه للتعدية.
وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع، بأنها أبلغ؛ وذلك أن كل مُعَلِّم عالم، وليس كُلُّ عالمٍ معلماً، فالوصْف بالتعليم أبلغ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين، والرباني يقتضي أن يَعْلَم، ويُعَلَّمَ غيرَه، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه.
ورجح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعول واحدٌ، والأصل عدم الحذف -(5/349)
والتخفيف مُسوَّغ لذلك، بخلاف التشديد، فإنه لا بدّ من تقدير مفعول. وأيضاً فهو أوفق لِ «تَدْرُسُونَ» . والقراءتان متواترتان، فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخْرى.
وقرأ الحسن ومجاهدٌ «تَعَلَّمُونَ» - بفتح التاء والعين، واللام مشددة - من تعلم، والأصل تتعلمون - بتاءين - فحُذِفَتْ إحداهما.
قوله: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} كالذي قبله، والعامة على «تَدْرُسُونَ بفتح التاء، وضم الراء - من الدرس، وهو مناسب» تَعْلَمُونَ «من علم - ثلاثياً.
قال بعضهم: كان حق من يقرأ» تُعَلِّمون «- بالتشديد - أن يقرأ» تُدَرِّسُونَ «- بالتشديد وليس بلازمٍ؛ إذ المعنى: صرتم تُعَلِّمون غيرَكم، ثم تُدَرِّسُونَ، وبما كنتم تدرسون عليهم - أي: تتلونه عليهم، كقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس} [الإسراء: 6] .
قال أبو حَيْوَةَ - في إحدى الرواتين عنه -» تَدْرِسُونَ «- بكسر الراء - وهي لغة ضعيفة، يقال: دَرَس العلم يدرسه - بكسر العين في المضارع - وهما لغتان في مضارع» درس «وقرأ هو - أيضاً - في رواية» تُدَرِّسُونَ «من درَّس - بالتشديد - وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون التضعيف فيه للتكثير موافقاً لقراءة» تَعْلَمُونَ «بالتخفيف.
الثاني: أن التضعيف للتعدية، ويكون المفعولان محذوفين؛ لغهم المعنى، والتقدير: تُدَرِّسُونَ غيركم العلم، أي: تحملونهم على الدرس. وقُرِئَ» تُدْرِسُونَ «من أدرس - كيكرمون من أكرم - على أن أفعل بمعنى فعل - بالتشديد - فأدرس ودرّس واحد كأكرم وكرّم، وأنزل ونزّل.
والدرس: التكرار والإدمان على الشيء. ومنه: درس زيد الكتاب والقرآن، يدرُسه ويدرِسه، أي: كرر عليه، ويقال درست الكتاب، أي: تناولت أثره بالحفظ، ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس. ودَرَس المنزلُ: ذهب أثرُه، وطلَلٌ عافٍ ودارس بمعنًى.
قوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب يَأمُرَكُمْ» والباقون بالرفع وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس، وهي قراءة واضحة،(5/350)
سهلة التخريج، والمعنى، وذلك أنها على القطع والاستئناف.
أخبر تعالى - بأن ذلك الأمر لا يقع، والفاعل فيه احتمالان:
أحدهما: هو ضمير الله - تعالى -.
الثاني: هو ضمير الموصوف المتقدم.
والمعنى: ولا يأمركم الله، وقال ابن جريج وجماعة: ولا يأمركم محمد أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً وقيل: لا يأمركم عيسى.
وقيل: لا يأمركم الأنبياء أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرْباباً، كفعل قريش والصابئين - حيث قالوا في المسيح هو العزير.
والمعنى على عوده على «بَشَر» أنه لا يقع من بشر موصوفٍ بما وُصِفَ به أن يَجْعَل نفسه ربًّا، فيُعْبَدَ، ولا يأمر - أيضاً - أن تُعْبَد الملائكةُ والنبيون من دون الله، فانتفى أن يدعوَ الناسَ إلى عبادة نفسه، وإلى عبادة غيره - والمعنى - على عَوْده على الله - تعالى - أنه تعالى أخْبَر أنه لم يَأمُرْ بذلك، فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى.
وأما قراءة النصب ففيها وجوهٌ:
أحدها: قول أبي علي وغيره، وهو أن يكون المعنى: دلالة أن يأمركم، فقدروا «أن» مضمرة بعده وتكون «لا» مؤكِّدة لمعنى النفي السابق، كما تقول: ما كان من زيد إتيان ولا قيام وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد، ف «لا» للتوكيد لمعنى النفي السابق، وبقي معنى الكلام: ما كان من زيد إتيان، ولا منه قيام.
الثاني: أن يكون نصبه لنَسَقه على {أَن يُؤْتِيهُ} قال سيبويه: والمعنى: وما كان لبَشَرٍ أن يأمركم أن تتخِذُوا الملائكة.
قال الواحديُّ: ويُقوي هذا الوجهَ ما ذكرنا من أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتريد يا محمدُ أن نتخذَك رَبًّا؟ فنزلت.
الثالث: أن يكون معطوفاً على «يَقُولُ في قراءة العامة - قاله الطَّبَريُّ.
قال ابن عطيةَ:» وهذا خَطأ لا يلتئم به المعنى «، ولم يبين أبو مُحَمدٍ وَجْهَ الخَطَأ» ولا عدم التآم المعنى.
قال أبو حيّان: «وجه الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على» يَقُولَ «وجعل» لا للنفي - على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد - فلا يمكن أن يُقَدَّر الناصب - وهو «أن» - إلا(5/351)
قبل «لا» النافية، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب «لا» مصدر منفي، فيصير المعنى: ما كان لبشر موصوف بما وُصِفَ به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً - وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك، وهو خَطَأ بيِّن.
أما إذا جعل «لا» لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خَطَأ، ولا عدم التئام المعنى؛ وذلك أنه يصير النفي مستحباً على المصدرين المقدَّرِ ثبوتهما، فينتفي قوله: {كُونُواْ عِبَاداً لِّي} وينتفي أيضاً أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً. ويوضِّح هذا المعنى وَضْعُ «غير» موضع «لا» فإذا قلتَ: ما لزيد فقهٌ ولا نحوٌ.
كانت «لا» لتأكيد النفي، وانتفى عنه الوَصْفان، ولو جعلت «لا» لتأسيس النفي كانت بمعنى «غير» فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه، وثبوت النحو له؛ إذ لو قلت: ما لزيد فقه غير نحو، ك ان في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلتَ: ما له غير نحو، ألا ترى أنك إذا قلت: جئت بلا زادٍ، كان المعنى: جئت بغير زاد وإذا قلت: ما جئت بغير زادٍ، معناه أنك جئت بزاد؛ لأن «لا» هنا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئامِ المعنى إنما يكون على أحد التقديرين، وهو أن يكون «لا» لتأسيس النفي لا لتأكيده، وأن يكون من عطف المنفي ب «لا» على المثبت الداخل عليه النفي نحو: ما أريد أن تجهل وألا تتعلم، تريد: ما أريد أن لا تتعلم «.
وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف» يَأمُرَكُم «على» يَقُولَ «وجوَّزَ في طلا» الداخلة عليه وجهين:
أحدهما: أن يكون لتأسيس النفي.
الثاني: أنها مزيدة لتأكيده، فقال: وقُرِئ {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} بالنصب؛ عطفاً على «ثُمَّ يَقُولَ» وفيه وجهان:
أحدهما: أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} . والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى، ويُنَصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً لهم، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، كقولك: ما كان لزيد أن أكرمه، ثم يهينني ولا يستخف بي.
والثاني: أن يُجْعَل «لا» غير مزيدة، والمعنى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ينهَى قُرَيشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادةِ عُزَيْرٍ والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك ربًّا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
قال شهاب الدينِ: «وكلام الزمخشري صحيحٌ، ومعناه واضح على كلا تقديري كون» لا «لتأسيس النفي وتأكيده فكيف يَجْعَل الشيخُ كلامَ الطبريِّ فاسداً على أحد(5/352)
التقديرين - وهو كونها لتأسيس النفي فقد ظهر صحةُ كلام الطبريِّ بكلام الزمخشريِّ، وظهر أن رَدَّ ابنِ عطيةَ عليه مردودٌ» .
وقد رجح الناس قراءةَ الرفعِ على النصبِ.
قال سيبويه: ولا يأمركم منقطعة مما قبلها؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله.
قال الواحدي: ومما يدل على انقطاعها من النسق، وأنها مُسْتأنفة، فلما وقعت «لا» موقع «لن» رفعت كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} [البقرة: 119] وفي قراءة، عبد الله: ولن تُسْأل.
قال الزمخشريُّ: والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، ويعضدُهَا قراءةُ عبد الله: «ولَنْ يَأمُرَكم» وقد تقدم أن الضمير في «يَأمُركُمْ» يجوز أن يعود على «الله» وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم والمراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو أعم من ذلك.
وسواء قرئ برفع {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} وبنصبه إذا جعلناه معطوفاً على «يَقُولَ» فإن الضمير يعود على «بشر» لا غير، [ويؤيد هذا قولُ بعضهم: ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفاً على الفعل المنصوب قبله، فيكون الضمير المرفوع لِ «بشر» لا غير يعني بما قبله «ثُمَّ يَقُولَ» .
ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائداً على «الله» تعالى ولم يذكر غير ذلك، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده، ويُحْتَمَل أنه لا يجوز غيرُه، والأول أوْلَى.
قال بعضهم: وفي الضمير المنصوب في «يَأمُرُكُمْ» - على كلتا القراءتين - خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات، فكأنه توهم أنه لما تقدم في قوله ذكر النافي - في قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} كان ينبغي أن يكون النظم ولا يأمرهم؛ جرياً على ما تقدم، وليس كذلك، بل هذا ابتداء خطابٍ، لا التفات فيه.
قوله: {أَيَأْمُرُكُم بالكفر} الهمزة للاستفهام بمعنى الإنكار، يعني أنه لا يفعل ذلك.
قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} «بَعْدَ» متعلق ب «يَأمُرُكُمْ» وبعد ظرف زمان مضاف لظرف زمان ماضٍ وقد تقدّم أنه لا يضافُ إليه إلا الزمان، نحو حينئذٍ ويومئذٍ. و {أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} في محل خفض بالإضافة؛ لأن «إذْ» تضاف إلى الجملة مطلقاً.
قال الزمخشريُّ: «بَعْدَ إذ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ» دليلٌ على أن المخاطبين كانوا مسلمين، وهم الذين استأذنوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يَسْجُدُوا له.(5/353)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
العامل في «إذْ» وجوه:
أحدها: «اذكر» إن كان الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثاني: «اذكروا» إن كان الخطاب لأهل الكتابِ.
الثالث: اصطفى، فيكون معطوفاً على «إذْ» المتقدمة قبلها، وفيه بُعْدٌ؛ بل امتناع؛ لبُعْده.
الرابع: أن العامل فيه «قَالَ» في قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} وهو واضح.
وميثاق، يجوز أن يكون مضافاً لفاعله، أو لمفعوله، وفي مصحف أبيّ وعبد الله وقراءتهما: {مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 187] . وعن مجاهد، وقال: أخطأ الكاتب.
قال شهابُ الدين: «وهذا خطأٌ من قائله - كائناً مَنْ كان - ولا أظنه عن مجاهد؛ فإنه قرأ عليه مثل ابن كثير وأبي عمرو بن العلاء، ولم يَنْقُلْ عنه واحدٌ منهما شيئاً مِنْ ذلك» .
والمعنى على القراءة الشهيرة صحيح، وقد ذكروا فيها أوجهاً:
أحدها: أن الكلام على ظاهرهِ، وأن الله تعالى - أخذ على الأنبياء مواثيق أنهم يُصَدِّقون بعضهم بعضاً وينصر بعضُهم بعضاً، بمعنى: أنه يوصي قومه أن ينصروا ذلك النبي الذي يأتي بعده، ولا يخذلوه وهذا قول سعيد بن جبيرٍ والحسن وطاووس.
وقيل هذا الميثاقُ مختص بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا مرويٌّ عن عليٍّ وابن عباس وقتادةَ والسدي، واحتج القائلون بهذا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} [آل عمران: 81] وهذا يدل على أن الآخذ [هو الله - تعالى - والمأخوذ منهم هم النبيون، وليس في الآية ذكر الأمة، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة] .(5/354)
وأجيب بأن على الوجه الذي قلتم يكون الميثاقُ مضافاً إلى الموثَقِ عليه. وعلى قولنا إضافته [إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل - وهو الموثق - وإضافة الفعلِ إلى الفاعل أقوى من إضافته] إلى المفعول؛ فإن لم يكن فلا أقل من المساواة، وهو كما يقال: ميثاقُ اللهِ وعهجه، فيكون التقدير: وإذ أخذ اللهُ الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أمَمِهم.
ويمكن أن يُراد ميثاق أولاد النبيين - وهم بنو إسرائيلَ - على حذف مضافٍ [وهو كما يقال: «فعل بكر بن وائل كذا» ، و «فعل معد بن عدنان كذا» ، والمراد أولادهم وقومهم، فكذا ههنا] .
ويحتمل أن يكون المراد من لفظ «النَّبِيِّينَ» أهل الكتاب، فأطلق لفظ «النَّبِيِّينَ» عليهم؛ تهكُّماً بهم على زعمهم؛ لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنا أهل الكتاب، ومنا النبيون، قاله الزمخشريُّ.
ويمكن أنه ذكر النبي والمراد أمته كقوله: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] .
واحتجوا - أيضاً - بما روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةٌ، أمَا وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بْنُ عمْرانَ حَيًّا لَمَا وَسعهُ إلاَّ اتِّبَاعِي» .
وبما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: «إن الله - تعالى - ما بعث آدم وَمَنْ بعده من الأنبياء عليهم السلام إلا أخذ العهد عليه لئن بُعِث محمدٌ وهو حَيٌّ ليؤمننَّ به، ولينصرنه» .
القول الثاني: أن الميثاق مضاف لفاعله، والموثق عليه غير مذكور؛ لفهم المعنى، والتقدير: ميثاق النبيِّين على أممهم، ويؤيده قراءة أبَيّ وعبد الله، ويؤيده - أيضاً - قوله: {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك} [آل عمران: 82] والمراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون الميثاق من أمهم بأنه إذا بُعِث محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُؤمِنوا به وينصروه وهو قول مجاهدٍ والربيع، واحتجوا بقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] وإنما كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبعوثاً إلى أهل الكتابِ دون النبيين.
وقال أبو مسلم: ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ اللهُ الميثاق منهم، يجب عليهم الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند مبعثه وكل الأنبياءِ يكونون عند مبعثه عليه السَّلامُ من زمرة الأموات والميت لا يكون مكلفاً، فعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق ليسوا هم النبيين بل(5/355)
أممهم، ويؤكِّد هذا أنه - تعالى - حكم على مَنْ أخِذ عليهم الميثاقُ أنهم لو تولوا كانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، وإنما يليق بالأمم.
قال القفال عن هذا الاستدلال بأنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل يكون هذا كقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقد علم الله تعالى أنه لا يُشرك قط، ولكن خرج هذا على سبيل الفَرْض والتقدير، وكقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 - 46] وكقوله في صفة الملائكة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين} [الأنبياء: 29] وكل ذلك على سبيل الفرض والتقدير - فكذا هنا - وقوله: إنه سماهم فاسقين فهو على تقدير التولي، واسم الشرك أقبح من اسم الفسق - وقد ذكره - تعالى - على سبيل الفرض في قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] .
واحتجوا - أيضاً - بأن المقصود من الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء وأجيب عن ذلك بأن درجاتِ الأنبياء أعلى وأشرف من درجات الأمم، فإذا دلت الآيةُ على أن اللهَ أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو كانوا أحياءً - وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين، فلأن يكون الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجباً على أممهم كان أولى.
واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عباس قال: إنما أخذ الله ميثاقَ النَّبِيِّين على قومهم. وبقوله تعالى: {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وبقوله: {وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 187] .
وقال بعض أصحاب القول الأول: المعنى: أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وينصروه، ويصدقوه - إن أدركوه.
قال بعضهم: إن الله أخذ الميثاق على النبيين وأممِهم - جميعاً - في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد مع المتبوع عَهْد مع التابع، وهذا معنى قول ابن عباسٍ.
قرأ العامَّة: «لما آتيتكم» بفتح لام «لما» وتخفيف الميم، وحمزة - وحده - على كسر اللام. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير «لَمَّا» بالفتح والتشديد.
فأما قراءة العامة ففيها خمسة أوجه:(5/356)
أحدها: أن تكون «ما» موصولة بمعنى الذي، وهي مفعولة بفعل محذوف، ذلك الفعل هو جواب القسم والتقدير: واللهِ لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتاب. قال هذا القائلُ: لأن لامَ القسَم إنما تقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على الفعل حُذِف. ثم قال تعالى: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: وعلى هذا التقدير يستقيم النَّظْمُ.
وقال شهاب الدينِ: وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوز ألبتة؛ إذ يمتنع أن تقول في نظيره من الكلام: «والله لزيداً» تريد: والله لنضربن زيداً.
الوجه الثاني: وهو قول أبي علي وغيره: أن تكون اللام - في «لَمَا» - جواب قوله: {مِيثَاقَ النبيين} لأنه جارٍ مَجْرَى القسم، فهي بمنزلة قولك: لزيدٌ أفضل من عمرو، فهي لام الابتداء المتلَقَّى بها القسم وتسمى اللام المتلقية للقسم. و «ما» مبتدأة موصولة و «آتيتكم» صلتها، والعائد محذوف، تقديره: آتيناكموه فحذف لاستكمال شرطه. و {مِّن كِتَابٍ} حال - إما من الموصول، وإما من عائده - وقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} عطف على الصلة، وحينئذٍ فلا بد من رابط يربط هذه الجملةَ بما قبلها؛ فإن المعطوفَ على الصلة صِلة.
واختلفوا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه محذوف، تقديره: جاءكم رسول به، فحذف «به» لطول الكلام ودلالة المعنى عليه. وهذا لا يجوز؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَف إلا بشروط، وهي مفقودةٌ هنا، [وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه، وفيه ما قد عرفت، ومنهم من] قال: الربط حصل - هنا - بالظاهر، لأن الظاهر - وهو قوله «لما معكم» صادق على قوله: «لما آتيناكم» فهو نظير: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، والحجاج الذي رأيت أبو يوسف.
وقال: [الطويل]
1529 - فَيَا رَبَّ لَيْلَى أنْتَ في كُلِّ مَوْطِنٍ ... وَأنْتَ الَّذِي فِي رَحْمةِ اللهِ أطْمَعُ
يريد رويت عنه، ورأيته، وفي رحمته. فأقام الظاهر مقام المضمر، وقد وقع ذلك في المبتدأ والخبر، نحو قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] ولم يقل: إنا لا نضيع، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [يوسف: 90] ولم يقل: لا يضيع أجره وهذا رأي أبي الحسن والأخفش. وقد تقدم البحث فيه.
ومنهم من قال: إن العائد يكون ضمير الاستقرار العامل في «مَعَ» و «لتؤمنن به» جوابُ قسمٍ مقدرٍ، وهذا القَسَم المقدَّر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو «لما آتيناكم» والهاء -(5/357)
في «بِهِ» - تعود على المبتدأ، ولا تعود على «رَسُولٌ» لئلاَّ يلزم خلُوّ الجملة الواقعة خبراً من رابط يربطها بالمبتدأ.
الوجه الثالث: كما تقدم، إلا أن اللام في «لَمَا» لام التوطئة؛ لأن اخذ الميثاق في معنى الاستخلاف. وفي «لتؤمنن» لام جواب القسم، هذا كلام الزمخشريِّ. ثم قال: و «ما» تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، و «لَتُؤمِنُنَّ» سادّ مَسَدّ جواب القَسَم والشرط جميعاً، وأن تكون بمعنى الذي. وهذا الذي قاله فيه نظرٌ؛ من حيثُ إن لام التوطئة تكون مع أدوات الشرط، وتأتي - غالباً - مع «إن» أما مع الموصول فلا يجوزُ في اللام أن تكون موطئةً وأن تكون للابتداء. ثم ذكر في «ما» الوجهين، لحملنا كل واحد على ما يليق به.
الوجه الرابع: أن اللام هي الموطئة، و «ما» بعدها شرطية، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها - وهو «آتيْنَاكُمْ» ، وهذا الفعل مستقبل معنًى؛ لكونه في جزاء الشرط، ومحله الجزم، والتقدير: واللهِ لأي شيء آتيتكم من كذا وكذا ليكونن كذا، وقوله: {مِّن كِتَابٍ} ، كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] وقد تقدم تقريره. وقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} عطف على الفعل قبله، فيلزم أن يكون فيه رابط يربطه بما عُطِف عليه، و «لَتُؤمِنُنَّ» جواب لقوله: {أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} وجواب الشرط محذوف، سَدَّ جوابُ القسم مَسَدَّه، والضمير في «بِهِ» عائد على «رَسُولٌ» ، كذا قال أبو حيّان.
قال شهاب الدين: «وفيه نظر؛ لأنه يمكن عودُه على اسم الشرط، ويُستغنَى - حينئذٍ - عن تقديره رابطاً» .
وهذا كما تقدم في الوجه الثاني ونظير هذا من الكلام أن نقول: أحلف بالله لأيهمْ رأيت، ثم ذهب إليه رجل قرشي لأحسنن إليه - تريد إلى الرجل - وهذا الوجه هو مذهب الكسائي.
وقد سأل سيبويه الخليل عن هذه الآية، فأجاب بأن «ما» بمنزلة الذي، ودخلت اللام على «ما» كما دخلت على «إن» حين قلت: والله لئن فعلت لأفعلن، فاللام التي في «ما» كهذه التي في «إن» واللام التي في الفعل كهذه اللام التي في الفعل هنا. هذا نصُّ الخليلِ.
قال أبو علي: لم يرد الخليل بقوله: إنما بمنزلة الذي كونها موصولة، بل إنها اسم كما أن «الذي» اسم وإما أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ} [هود: 111] وقوله: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} [الزخرف: 35] .
وقال سيبويه: ومثل ذلك {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18] إنما دخلت اللام على نية اليمين. وإلى كونها شرطية ذهب جماعة كالمازني والزجَّاج والفارسيّ والزمخشري.(5/358)
قال أبو حيّان: «وفيه خدش لطيف جدًّا» وحاصل ما ذكر: أنهم إن أرادوا تفسير المعنى فيمكن أن يقال، وإن أرادوا تفسير الإعراب فلا يصح؛ لأن كلاَّ منهما - أعني: الشرط والقسم - بطلب جواباً على حدة، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما؛ لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل، فيكون في موضع جزمٍ، والقسم يطلبه على جهة التعلُّق المعنويّ به من غير عملٍ، فلا موضع له من الإعراب، ومحال أن يكون الشيءُ له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب. [وتقدم هذا الإشكال وجوابه] .
الوجه الخامس: أن أصلها «لَمّا» - بالتشديد - فخُفِّفَتْ، وهذا قول أبي إسحاق وسيأتي في قراءة التشديد، وقرأ حمزة لما - بكسر اللام، خفيفة الميم - أيضاً - وفيها أربعة أوجه:
أحدها: وهو أغربها - أن تكون اللام بمعنى «بَعْد» .
كقول النابغة: [الطويل]
1530 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لها فعَرفْتُهَا ... لِسِتّةِ أعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
يريد: فعرفتها بعد ستة أعوام، وهذا منقول عن صاحب النَّظْم.
قال شهاب الدين: «ولا أدري ما حمله على ذلك؟ وكيف ينتظم هذا كلاماً؟ إْ يصير تقديره: وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين بعدما آتيتكم، ومَن المخاطب بذلك؟» .
الثاني: أن اللام للتعليل - وهذا الذي ينبغي أن لا يُحَاد عنه - وهي متعلِّقة ب «لتؤمنن» و «ما» حينئذٍ - مصدرية.
قال الزمخشري: «ومعناه: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدق لتؤمنن به على أن» ما «مصدرية، والفعلان معها - أعني:» آتيناكم «و» جاءكم «- في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل، والمعنى: أخذ اللهُ ميثاقهم ليؤمنن بالرسول، ولينصرنه، لأجل أن آتيتكم الكتابَ والحكمةَ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونُصْرَتِهِ موافق لكم، غير مخالف لكم» .
قال أبو حيّان: وظاهر هذا التعليل الذي ذكره، والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعل المقسَم فإن عنى هذا الظاهر، فهو مخالفٌ لظاهر الآية؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخْذ الميثاق، لا لمتعلِّقه - وهو الإيمان - فاللام متعلقة ب «أخَذَ» وعلى ظاهر تقدير الزمخشريِّ تكون متعلقة بقوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلَقَّى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها تقول: والله لأضربن زيداً، ولا يجوز: والله زيداً لأضربن، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في «لَمَا» بقوله: «لتؤمنن» .(5/359)
وأجاز بعض النحويين في معمول الجواب - إذا كان ظرفاً أو مجروراً - تَقَدُّمَه، وجعل من ذلك قوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] .
وقوله: [الطويل]
1531 - ... ... ... ... ... ... ... . ... بِأسْحَم دَاجٍ عَوْضُ لا نتفَرَّقُ
فعلى هذا يجوز أن يتعلق بقوله: {لَتُؤْمِنُنَّ} .
قال شهاب الدين «أما تعلُّق اللام ب {لَتُؤْمِنُنَّ} - من حيث المعنى - فإنه أظهر من تعلُّقِها ب» أخذ «فلم يَبْقَ إلا ما ذكر من منع تقديم معمول الجواب المقترن بالام عليه، وقد يكون الزمخشريُّ ممن يرى جوازه» .
والثالث: أن تتعلق اللام ب «أخَذَ» ، أي لأجل إيتائي إياكم كيت وكيت، أخذت عليكم الميثاقَ، وفي الكلام حذفُ مضاف، تقديره: رعاية ما آتيتكم.
الرابع: أن تتعلق ب «المِيثاق» ، لأنه مصدر، أي: توثقنا عليهم لذلك.
هذه الأوجه بالنسبة إلى اللام، وأما «ما» ففيها ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون مصدرية كما تقدم عن الزمخشريِّ.
والثاني: أنها موصولة بمعنى «الذي» وعائدها محذوف، و {ثُمَّ جَآءَكُمْ} ، عطف على الصلة، والرابط بالموصول إما محذوف، تقديره: به، وإما قيام الظاهر مقام المضمر، وهو رأي الأخفشِ، وإما ضمير الاستقرار الذي تضمنه «مَعَكُمْ» .
والثالث: أنها نكرة موصوفة، والجملة بعدها صفتها، وعائدها محذوف، {ثُمَّ جَآءَكُمْ} عطف على الصفة، والكلام في الرابط كما تقدم فيها وهي صلة، إلا أن إقامة الظاهر مُقَامه في الصفة ممتنع، لو قلت: مررت برجل قام أبو عبد الله - على أن يكون قام أبو عبد الله صفة لرجل، والرابط أبو عبد الله، إذ هو الرجلُ في المعنى - لم يجز ذلك، وإن جاز في الصلة والخبر - عند من يرى ذلك - فيتعين عود ضمير محذوف وجواب قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ} قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} والضمير في «بِهِ» عائد على «رَسُولٌ» ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور، فلو قلت أقسمت لَلْخَبر الذي بلغني عن عمرو لأحْسِنَنَّ إليه، جاز.
وقوله: {مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} إما حالٌ من الموصول، أو من عائده، وإمّا بيانٌ له(5/360)
فامتنع في قراءة حمزة أن تكون «ما» شرطية، كما امتنع - في قراءة الجمهورِ - أن تكون مصدرية.
وأما قراءة التشديد ففيها أوجهٌ:
أحدها: أن «لَمَّا» هنا - ظرفية، بمعنى «حين» ثم القائل بظرفيتها اختلف تقديره في جوابها، فذهب الزمخشري إلى أن الجواب مقدَّر من جنس جواب القسم، فقال: «لَمَّا» - بالتشديد - بمعنى «حين» أي حين آتيتكم الكتاب والحكمة، ثم جاءكم رسول، وجب عليكم الإيمان به، ونُصْرَتُه.
وقال ابن عطية: ويظهر أن «لَمَّا» هذه هي الظرفية، أي: لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأمثالهم أخذ عليكم الميثاق؛ إذ على القادة يُؤخَذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ فقدر ابن عطية جوابها من جنس ما سبقها، وهذا الذي ذهب إليه مذهبٌ مرجوحٌ، قال به الفارسيُّ والجمهور وسيبويه وأتباعه والجمهور.
وقال الزجَّاجُ: أي: لما ىتاكم الكتاب والحكمة، أي: أخذ عليكم الميثاق وتكون لما يؤول إلى الجزاء، كما تقول: لما جئتني أكرمتك.
وهذه العبارة لا يؤخذ منها كون «لما» ظرفية، ولا غير ذلك، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابها من جنس ما تقدمها، بخلاف تقدير الزمخشريِّ.
الثاني: أن «لَمَّا» حرف وجوب لوجوب، وهو مذهب سيبويه، وجوابها كما تقدم من تقديري ابن عطيةَ والزمخشري، وفي قول ابن عطيةَ: فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ - نظر؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل، وهذه القراءة لا تعليل فيها، اللهم إلا أن يقال: لما كانت «لَمَّا» تحتاج إلى جواب أشبه ذلك العلة ومعمولها؛ لأنك إذا قلت: لما جئتني أكرمتك؛ في قوة: أكرمتك لأجل مجيئي إليه، فهي من هذه الجهة كقراءة حمزة.
والثالث: أن الأصل: لمن ما، فأدغمت النون في الميم، لأنها تقاربها، والإدغام - هنا - واجبٌ، ولما اجتمع ثلاث ميمات: ميم «من» وميم «ما» والميم التي انقلبت من نون - من أجل الإدغام - فحصل ثقل في اللفظ، قال الزمخشريُّ: «فحذفوا إحداها» .
قال أبو حيّان: وفيه إبهام، وقد عيَّنها ابنُ جني بأن المحذوف هي الأولى، وفيه نظرٌ؛ لأن الثقل إنما حصل بما بعد الأولى، ولذلك كان الصحيحُ في نظائره إنما هو حذف الثاني، في نحو {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] وقد ذكر أبو البقاء أن المحذوفة هي النافية، قال: «لضعفها بكونها بدلاً، وحصول التكرير بها» و «مِنْ» هذه التي في لمن ما زائدة في الواجب على رأي الأخفشِ - وهذا تخريج أبي الفتح، وفيه نظر بالنسبة إلى ادِّعائه زيادة «من» ، فإن التركيب يقلق على ذلك، ويبقى المعنى غير ظاهر.(5/361)
الرابع: أن الأصل - أيضاً - لِمَنْ ما، ففُعِل به ما تقدم من القلبِ والإدغامِ، ثم الحذف، إلا أن «من» ليست زائدة، بل هي تعليلية، قال الزمخشريُّ: «ومعناه: لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى» .
وهذا الوجه أوجه مما تقدمه؛ لسلامته من ادِّعاء زيادة «من» ولوضوح معناه.
وقرأ نافع «آتيناكم» بضمير المعظم نفسه، كقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [الإسراء: 55] وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم} [مريم: 12] ، والباقون: «آتيتكم» - بضمير المتكلم وحده - وهو موافق لما قبله وما بعده من صيغة الإفراد في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله} و {جَآءَكُمْ} و {إِصْرِي} .
وفي قوله: «آتيتكم» و «آتيناكم» على كلتا القراءتين - التفاتان:
الأول: الخروج من الغيبة إلى التكلم في قوله: «آتينا» أو «آتيت» لأن قبله ذكر الجلالة المعظمة في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله} .
والثاني: الخروج من الغيبة إلى الخطاب في قوله: «آتيناكم» لأنه قد تقدمه اسم ظاهر، وهو {النبيين} إذ لو جرى على مقتضي تقدُّم الجلالة والنبيين لكان الترتيب: وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاهم من كتاب. كذا قال بعضهم، وفيه نظرٌ؛ لأن مثل هذا لا يُسَمَّى التفاتاً في اصطلاحهم، وإنما يسمى حكاية الحال، ونظيره قولك: حلف زيد ليفعلن، ولأفعلن، فالغيبة مراعاة لتقدم الاسم الظاهر، والتكلُّم حكاية لكلام الحالف. والآية الكريمة من هذا. وأصل: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} ، لَتُؤمِنُونَنَّ به ولتنصرونن، فالنون الأولى علامة الرفع، والمشدَّدة بعدها للتوكيد، فاستثقل توالي ثلاثة أمثالٍ، فحذفوا نون الرفع؛ لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد، فالتقى - بحذفها - ساكنان، فحذفت الواو، لالتقاء الساكنين.
وقرأ عبد الله «مُصَدِّقاً» نصب على الحال من النكرة، وقد قاسَه سيبويه، وإن كان املشهور عنه خلافه، وَحَسَّنَ ذلك هنا كونُ النكرة في قوة المعرفةِ من حيث إنَّها أريد بها شخص معين - وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واللام في «لَمَا» - زائدة؛ لأن العامل فرع - وهو «مصدِّق» - والأصل مصدق ما معكم.
فصل
قال بعضُ العلماءِ: في الآية إضمار آخرَ، وأراح نفسه من تلك التكلُّفات المتقدمة، فقال: تقدير الآية: وإذ أخذ اللهُ ميثاق النبيين لتُبَلِّغُنَّ الناسَ ما آتيتكم من كتاب وحكمة إلا أنه حذف «لتبلغن» لدلالة الكلام عليه؛ لأن لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دَلَّت هذه اللام على هذا الفعل جاز حذفه اختصاراً، ثم قال بعده: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} وعلى هذا التقدير يستقيم النظم، ولا(5/362)
يحتاج إلى تكلُّف، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار، فهذا الإضمار الذي ينتظم به الكلام نظما ًجلياً أولى.
فصل
والمراد من الكتاب هو المنزَّل، المقروء، والحكمة هي الوحيُ الوارد بالتكليف المفصَّلة التي لم يشتمل الكتاب عليها.
وكلمة «مِنْ» - في قوله: {مِّن كِتَابٍ} تبيين ل «ما» كقولك: ما عندي من الوَرِقِ دانقان.
وقيل: هذا الخطابُ إما أن يكون مع الأنبياء، فجميع الأنبياءِ، ما أوتوا الكتاب، وإنما أوتي بعضُهم، وإن كان مع الأمم فالإشكال أظهر.
والجواب من وجهين:
الأول: أن جميع الأنبياء أوتوا الكتاب بمعنى كونه مهتدياً به، داعياً إلى العمل به، وإن لم ينزل عليه.
الثاني: أشرف الأنبياء هم الذين أوتوا الكتاب، فوصف الكل بوصف أشرفهم.
فإن قيل: ما وَجْه قوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ} والرسول لا يجيء إلى النبيين، وإنما يجيء إلى الأمم؟
فالجواب: أما إن حَمَلْنا قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} على أخذ ميثاق أممهم، فالسؤال قد زال، وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيين من أنفسهم، كان قوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ} أي: ثم جاءكم في زمانكم.
فإن قيل: كيف يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُصَدقاً لما معهم - مع مخالفة شرعه لشرعهم -؟
فالجواب: أن المراد به حصول الموافقة في التوحيد والنبوات وأصول الشرائعِ، أما تفاصيلها فإن وقع خلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف؛ لأن جميع الأنبياءِ متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه، وأنّ الحقَّ في زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس إلا شرعه، فهذا وإن كان يوهم الخلاف فهو في الحقيقة وفاق.
وأيضاً فالمراد بقوله: {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} هو أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مصدقٌ لما معهم من صفته، وأحواله المذكورة في التوراة والإنجيل، فلما ظهر على أحوال مطابقةٍ لما ذكر في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقاً لما معهم.
والميثاق يحتمل وجهين:
أحدهما: هو أن يكون ما قُرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقيادَ لأمر اللهِ واجبٌ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزاتِ الدَّالَّةِ على(5/363)
صدقه، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا - عند ذلك - وجوبه، فتقرير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من الميثاق.
ويحتمل أن المراد بأخذ الميثاق أنه - تعالى - شرح صفاتِه في كتب الأنبياء المتقدِّمين، وإذا صارت مطابقة لما في كتبهم المتقدمة، وجب الانقياد له، فقوله تعالى: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} يدل على هذين الوجهين، أما على الأول فقوله: «رسولٌ» ، وأما على الثاني فقوله {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} .
قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} فاعل «قَالَ» يجوز أن يكون ضمير الله - تعالى - وهو الظاهر - وأن يكون ضمير النبي الذي هو واحد النبيين، خاطب بذلك أمَّته، ومتعلَّق الإقرار محذوف، أي: أقررتم بذلك كله؟ والاستفهام - على الأول - مجاز؛ إذ المراد به التقرير والتوكيد عليهم؛ لاستحالته في حق الباري تعالى، وعلى الثاني: هو استفهام حقيقة.
و «إصري» على الأول - الياء لله - تعالى - وعلى الثاني للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقرأ الامة «إصري» بكسر الهمزة، وهي الفصحى، وقرأ أبو بكر عن عاصم - في رواية - «أُصْرِي» بضمها ثم المضموم الهمزة يحتمل أن يكون لغة في المكسور - وهو الظاهرُ - ويحتمل أن يكون جمع إصار ومثله أزُر في جميع إزار، والإصر: الثقل الذي يلحق الإنسان؛ لأجل ما يلزمه من عَمَلٍ، قال الزمخشري: «سُمِّي العهدُ إصْراً؛ لأنه مما يؤصر، أي: يُشَدّ، ويُعْقَد، ومنه الإصار الذي يُعْقَد به» وتقدم الكلام عليه في آخر البقرة.
فصل
إذا قلنا: إن اللهَ - تعالى - هو الذي أخذ الميثاق على النبيين كان قوله {أَأَقْرَرْتُمْ} معناه: أأقررتم بالإيمان به، والنَّصْرِ له.
وذلك حين استخرج الذرية من صلب آدَمَ والأنبياء فيهم كالمصابيح - وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} ؟ أي قبلتم على ذلك عهدي.
والإصر: العهد الثقيل؛ والإقرار في اللغة منقول بالألف من قَرَّ الشيء يَقِرُّ إذا ثبت ولزم مكانه، وأقره غيره، والمقرُّ بالشيء، يُقِرُّه على نفسه، أي: يثبته.
والأخذ بمعنى القبول كثير في كلامهم، قال تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] أي: لا تُقْبَل فِدْيَةٌ.(5/364)
وقال: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] أي: يقبلها.
وقوله: {أَقْرَرْنَا} أي: بالإيمان به، وبنصرته، وفي الكلام حذف جملة، حُذِفَت لدلالة ما تقدم عليها؛ إذ التقدير: قالوا: أقررنا، وأخذنا إصرك على ذلك كلِّه.
وقوله: {فاشهدوا} هذه الفاء عاطفة على جملة مقدَّرة، والتقدير: قال: أأقررتم؟ فاشهدوا، ونظير ذلك: ألقيت زيداً؟ قال: لقيته، قال: فأحْسِنْ إليه. التقدير: القيت زيداً، فأحسن إليه، فما فيه الفاء بعض المقول، ولا جائز أن يكون كل المقول؛ لأجل الفاء، ألا ترى قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} وقوله: {قالوا أَقْرَرْنَا} .
لو كان كلّ المقول لم تدخل الفاء، قاله أبو حيان.
فصل
في معنى قوله: {فاشهدوا} وجوه:
الأول: فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار، {وَأَنَاْ مَعَكُمْ} أي: وأنا على إقراركم، وإشهاد بعضكم بعضاً {مِّنَ الشاهدين} وهذا توكيد وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادةَ الله، وشهادة بعضهم على بعض.
الثاني: أن هذا خطاب للملائكة بأن يشهدوا عليهم، قاله سعيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
الثالث: أن قولِه: {فاشهدوا} إشهاد على نفسه، ونظيره قوله:
{وَأَشْهَدَهُمْ
على
أَنفُسِهِمْ
أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} [الأعراف: 172] وهذا باب من المبالغة.
الرابع: فاشهدوا، أي: بيِّنوا هذا الميثاقَ للخاصّ والعامّ؛ لكي لا يبقى لأحد عذْرٌ في الجَهْل به، وأصله أن الشاهد يُبَيِّن صِدْقَ الدَّعْوَى.
الخامس: قال ابنُ عَبّاسٍ: {فاشهدوا} أي: فاعلموا، واستيقِنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له.
السادس: إذا قلنا: إنَّ أخْذَ الميثاقِ كان من الأمم، فقوله: {فاشهدوا} خطاب للأنبياء بأن يكونوا شاهدين عليهم. قوله: {مِّنَ الشاهدين} هذا هو الخبر؛ لأنه محط الفائدة. وأما قوله: {مَعَكُمْ} فيجوز أن يكون حالاً، أي: وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم، ويجوز أن يكون منصوباً ب «الشَّاهدينَ» ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويزَ ذلك - ويمتنع أن يكون هذا هو الخبرُ؛ إذ الفائدة به غير تامةٍ في هذا المقامِ.
والجملة من قوله: {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} يجوز ألا يكون لها محل؛ لاستئنافها. ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل {فاشهدوا} والمقصود من هذا الكلام التأكيد، وتقوية الإلزام. قوله: {فَمَنْ تولى} يجوز أن تكون «مَنْ» شرطية، فالفاء - في «فَأولَئِكَ» جوابها. والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط. وأن تكون موصولةً، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ باسم الشرطِ، فالفعل بعدها على الأول - في محل جزم،(5/365)
وعلى الثاني لا محل له؛ لكونه صلة، وأما «فأولئك» ففي محل جزم أيضاً - على الأول، ورفع الثاني، لوقوعه خبراً و «هم» يجوز أن يكون فَصْلاً، وأن يكون مبتدأ.
ومعنى الآية: من أعرض عن الإيمان بهذا الرسولِ، وبنصرته، والإقرار له {فأولئك هُمُ الفاسقون} الخارجون عن الإيمان.(5/366)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
الجمهور يجعلون الهمزة مقدَّمةً على الفاء، للزومها الصدر، والزمخشري يقرها على حالها، ويُقدِّر محذوفاً قبلها، وهنا جوَّز وجهين:
أحدهما: أن تكون الفاء عاطفةً جملة علىجملة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون، فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما.
والثاني: أن تعطف على محذوف، تقديره أيتولون، فغير دين الله يبغون؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث، وهو استفهام استنكار، وقدم المفعول - الذي هو «غير» - على فعله؛ لأنه أهم من حيث أن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - مُتَوَجِّه إلى المعبود الباطل، هذا كلام الزمخشريِّ.
قال أبو حيان: «ولا تحقيق فيه؛ لأن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - لا يتوجه إلى الذوات، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء، الذي متعلقه غير دين الله، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع، ولشبه» يبغون «بالفاصلة، فأخَّرَ الفعلُ» .
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم «يَبْغُونَ» من تحت - نسقاً على قوله: {هُمُ الفاسقون} [آل عمران: 82] والباقون بتاء الخطاب، التفاتاً لقوله: {لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] ولقوله: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ} [آل عمران: 81] .
وأيضاً فلا يبعد أن يُقال للمسلم والكافر، ولكل أحد: أفغير دين الله تبغون مع علمكم أنه أسلم له مَنْ في السموات والأرض وأن مَرْجعكم إليه؟ ونظيره قوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101] .
قال ابن الخطيب: ذكر المفسّرون في سبب النزولِ أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فادَّعَى كلّ واحدٍ من الفريقين أنه على دين إبراهيم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ إبْرَاهِيمَ، فَغَضِبُوا وقالوا: والله لا نَرْضَى بقضائِك، ولا نأخذ بِدِينِكَ» ، فنزل قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} .(5/366)
قال ابن الخطيب: ويبعد عندي حَمْلُ هذه الآيةِ على هذا السبب؛ لأن على هذا التقدير - الآية منقطعة عما قبلها، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلُّقَها بما قبلها، وإنما الوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكونراً في كُتُبِهِم، وهم كانوا عارفين بذلك، وعالمين بصِدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النبوة، فلم يبق كفرهم إلا مجردَ عنادٍ وحَسَدٍ وعداوةٍ، فصاروا كإبليس حين دعاه الحسدُ إلى الكُفر، فأعلمهم - تعالى - أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين ديناً غير دين اللهِ - تعالى - ثم بيَّن لهم أن التمرُّدَ على الله، والإعراضَ عن حكمه مما لا يليق بالعقل، فقال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} .
قوله: «وله أسلم من في السموات» جملةٌ حاليةٌ، أي: كيف يبغون غير دينه، والحال هذه، وفي قوله: «طوعاً وكرهاً» وجهان:
أحدهما: أنهما مصدران في موضع الحال، والتقدير: طائعين وكارهين.
الثاني: أنهما مصدران على غير المصدر، قال ابو البقاء: «لأن» أسْلَمَ «بمعنى انقاد، وأطاع» وتابعه أبو حيان على هذا.
وفيه نظرٌ؛ من حيث إن هذا ماشٍ في «طَوْعاً» لموافقته معنى الفعل قبله، وأما «كَرْهاً» ، كيف يقال فيه ذلك؟ والقول بأنه يُغتفر في التوالي ما لا يُغْتَفَر في الأوائل، غير نافع هنا.
ويقال يطاع يطوع، وأطاع يُطيع بمعنى، قاله ابن السِّكيتِ، وقول: طاعه يطوعه: انقاد له، وأطاعه، أي: رضي لأمره، وطاوعه، أي: وافقه.
قرأ الأعمش: «وَكُرْهاً» - بالضم - وسيأتي أنها قراءة الأخوين في سورة النساء.
قال الحسنُ: أسلم من في السموات طوعاً، وأسلم من في الأرض بعضهم طَوْعاً، وبعضهم خوفاً من السيف والسِّبْي.
وقال مجاهد: «طوعاً» المؤمن، و «كرْهاً» ظل الكافر، بدليل قوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15] .
وقيل هذا يوم الميثاق، حين قال: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] فقال بعضهم طوعاً، وبعضهم كرهاً.
قال قتادة: المؤمن أسلم طوعاً فنفعه، والكافر أسلم كرهاً في وقت اليأس، فلم(5/367)
ينفعه، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] .
قال الشعبي: وهو استعاذتهم به عند اضطرارهم، كقوله: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65] .
قال الكلبيُّ: «طَوْعاً» الذي وُلِد في الإسلام «وَكَرْهاً» الذين أجْبِروا على الإسلام.
قال ابن الخطيب: كل أحد منقاد - طوعاً أو كرهاً - فالمسلمون منقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدّينِ، ومنقادون له فيما يخالف طِباعَهم من الفقر والمرض والموت وأشباهه. وأما الكافرون، فهم منقادون لله كرهاً على كل حال؛ لأنهم لا ينقادون لله فيما يتعلق بالدِّين، وفي غير ذلك مستسلمون له - سبحانه - كرهاً، لا يمكنهم دفع قضائه وقدره.
وقيل: كل الخلق منقادون للإلهية طوعاً، بدليل قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً.
قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يجوز أن تكون هذه الجملةُ مستأنفةً، فلا محل لها، وإنما سيقت للإخبار بذلك؛ لتضمنها معنى التهديد العظيم، والوعيد الشديد. ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة من قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ} فتكون حالاً - أيضاً - ويكون المعنى: أنه نَعَى عليهم ابتغاء غير دين من أسلم له جميع من في السموات والأرض - طائعين ومكرهين - ومن مرجعهم إليه.
قرأ حفص - عن عاصم - «يُرْجَعُونَ» بياء الغيبة - ويحتمل ذلك وجوهاً:
أحدها: أن يعود الضمير على {مَنْ أَسْلَمَ} .
الثاني: أن يعود على من عاد عليه الضمير في «يَبْغُونَ» في قراءة من قرأ بالغيبة، ولا التفات في هذين.
والثالث: أن يعود على من عاد عليه الضمير في «تَبْغُونَ» - في قراءة الخطاب - فيكون التفاتاً حينئذ. وقرأ الباقون - «تبغون» - بالخطاب - وهو واضح، ومن قرأه بالغيبة كان التفاتاً منه.
ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله: {مَن فِي السماوات والأرض} .(5/368)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
وفي هذه الآية احتمالان:(5/368)
أحدهما: أن يكون المأمور بهذا القول - وهو «آمَنَّا» إلى آخره - هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم في ذلك معنيان:
أحدهما: أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك، وإنما حُذِفَ معطوفُه؛ لِفَهْم المعنى، والتقدير: قل يا محمد أنت وأمتك: آمنا بالله، كذا قدَّره ابنُ عطية.
والثاني: أن المأمور بذلك نبينا وحده، وإنما خوطب بلفظ الجمع؛ تعظيماً له.
قال الزمخشري: «ويجوز أن يُؤمَر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك؛ إجلالاً من الله - تعالى - لقدر نبيِّه» .
والاحتمال الثاني: أن يكون المأمور بهذا القول مَنْ تقدم، والتقدير: قل لهم: قولوا: آمنا، ف «آمَنَّا» منصوب ب «قُلْ» على الاحتمال الأول، وب «قُولُوا» المقدَّر على الاحتمال الثاني، وذلك القول المُضْمر منصوب المحل.
وهذه الآية شبيهة بالتي في البقرة، إلا أنَّ هنا عَدَّى «أُنْزِلَ» ب «عَلَى» وهناك عدَّاه ب «إلى» .
قال الزمخشري: لوجود المعنيين جميعاً؛ لأن الوحي ينزل من فوق، وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالآخر.
قال ابن عطيةَ: «الإنزال على نَبِيّ الأمة إنزال عليها» وهذا ليس بطائل بالنسبة إلى طلب الفرق.
قال الراغب: «إنما قال - هنا -» عَلَى «، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطةٍ بشريةٍ، كان لفظ» عَلَى «المختص بالعُلُوِّ أوْلَى به، وهناك لما كان خطاباً للأمة، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لفظ» إلَى «المختص بالاتصال أوْلَى.
ويجوز أن يقال:» أنزل عليه «، إنما يُحْمَل على ما أُمِر المنزَّل عليه أن يُبَلِّغَه غيرَه. وأنزل إليه، يُحْمَل على ما خُصَّ به في نفسه، وإليه نهاية الإنزال، وعلى ذلك قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] خص هنا ب» إلى «لماكان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب» .
وهذا الذي ذكره الراغب ردَّه الزمخشريُّ، فقال: «ومن قال: إنما قيل:» عَلَيْنَا «لقوله:» قُلْ «و» إلينا «لقوله:» قُولُوا «، تفرقة بين الرسول والمؤمنين؛ لأن الرسول يأتيه الوحي عن طريق الاستعلام، ويأتيهم على وجه الانتهاء، فقد تعسَّف؛ ألا ترى إلى قوله: {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] وقوله: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} [المائدة: 48] وقوله: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار}
[آل عمران: 72] وفي البقرة: {وَمَا أُوتِيَ النبيون} [(5/369)
البقرة: 136] وهنا: «وَالنَّبِيُّونَ» ، لأن التي في البقرة لفظ الخطابِ فيها عام، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز، بخلاف الخطاب هنا، لأنه خاص، فلذلك اكتفى فيه بالإيجاز دون الإطناب «.
قال ابن الخطيب: قدَّم الإيمانَ بالله على الإيمان بالأنبياء؛ لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة، ثم في المرتبة الثانية قدم ذكر الإيمان بما أنزِل عليه؛ لأن كتب سائر الأنبياء حرَّفوها وبدَّلوها، فلا سبيلَ إلى معرفة أحوالها إلا بالإيمان بما أُنْزِل على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكأن ما أنزل على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كالأصل لما أُنْزِل على سائر الأنبياء، فلذا قدَّمه، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء، وهم الأنبياء الذين يَعْتَرِفُ أهلُ الكتاب بوجودِهم، ويختلفون في نبوتِهِمْ، والأسباط: هم أسباط يعقوبَ الذين ذكر الله - تعالى - أممهم الاثنتي عشرة في سورة الأعراف.
فصل
قوله: {والنبيون} بعد قوله: {وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى} من باب عطف العامِّ على الخاص.
اختلف العلماء في كيفية الإيمان بالأنبياء المتقدِّمين الذين نُسِخَتْ شرائعُهم. وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً، فهل تصير نُبُوَّتُه منسوخةً؟ فمن قال: إنها تصير منسوخة قال: نُؤْمن بأنهم كانوا أنبساءَ وَرُسُلاً، ولا نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال. ومَنْ قال: إن نسخَ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة، قال: نؤمن بأنهم أنبياء ورسُل في الحال، فتنبَّه لهذا الموضع.
فصل
قال ابن الخطيب: اختلفوا في معنى قوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} بأن نؤمن ببعضٍ دون بعضٍ - كما فرَّقت اليهود والنصارَى.
وقال أبو مسلم: لا نفرق ما جمعوا، وهو كقوله تعالى: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103] وذَمَّ قوماً ووصفهم بالتفرُّق، فقال: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] .
قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فيه وجوهٌ:
الأول: أن إقرارنا بنبوَّة هؤلاء الأنْبِياء إنما كان لأننا منقادون لله - تعالى -(5/370)
مستسلمون لحُكْمِه، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض} [آل عمران: 83] .
قال أبو مسلم: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: مستسلمون لأمْره بالرضا، وترك المخالفة، وتلك صفة المؤمنين بالله، وهم أهل السلم، والكافرون أهل الحربِ، لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] .
قال ابن الخطيب: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} يُفيد الحَصْر، والتقدير: له أسلمنا لا لغرض آخرَ من سمعة، ورياء، وطلب مالٍ، وهذا تنبيه على أن حالَهم بالضِّدِّ من ذلك.(5/371)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
العامة يظهرون هذين المثلين في {يَبْتَغِ غَيْرَ} لأن بينهُمَا فاصلاً فلم يلتقيا في الحقيقةِ، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم.
وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان:
الإظهار على الأصل، ولمراعاة الفاصل الأصْلِيّ.
والإدغام؛ مراعاةً للفظ؛ إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة، ولأن ذلك مستحِقّ الحَذْف لعامل الجَزْم.
وليس هذا مخصوصاً بهذه الآية، بل كل ما التقى فيه مِثْلاَنِ بسبب حذف حرف لعلةٍ اقتضت ذلك جَرَى فيها الوجهان، نحو: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] وقوله: {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر: 28] .
وقد استشكل على هذا نحو {ويا قوم مَا لي أَدْعُوكُمْ} [غافر: 41] ونحو: {وياقوم مَن يَنصُرُنِي} [هود: 30] فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلاف في إدغامها، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديراً.
قوله: «دِيناً» فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه مفعول «يَبْتَغِ» و «غَيْرَ الإسْلاَمِ» حالٌ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَت حالاً.
الثاني: أن يكون تمييزاً لِ «غَيْرَ» لإبهامها، فمُيِّزَتْ كما مُيِّزت «مِثْلُ» و «شِبهُ» وأخواتهما، وسُمِع من العرب: إن لنا غيرَها إبلاً وشاءً.
والثالث: أن يكون بدلاً من «غَيْرَ» . وعلى هذين الوجهين ف {غَيْرَ الإسلام} هو المفعول به ل «يبتغ» .
وقوله: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} يجوز أن لا يكون لهذه الجملة محلٌّ؛(5/371)
لاستئنافها، ويجوز أن تكون في محل جَزْم؛ نَسَقاً على جواب الشرط - وهو {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} - ويكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً الخُسران وعدمُ القبول.
فصل
لما تقدم قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84] بيَّن أن الدينَ ليس إلا الإسلام، وأن كل دين غيره ليس بمقبولٍ؛ لأن معنى قبول العمل أن يرضى اللهُ ذلك العملَ، ويثيب فاعله عليه، قال تعالى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] وما لم يكن مقبولاً كان صاحبُه من الخاسرين في الآخرة بحرمان الثواب، وحصول العقاب، مع الندامة على ما فاته من العمل الصالح، مع التعب والمشقة في الدنيا في ذلك الدين الباطل.
فصل
قال المفسرون: نزلت هذه الآيةُ في اثني عشر رجلاً ارتدُّوا عن الإسلام، وخرجوا من المدينة، وأتوا مكةَ كُفَّاراً منهم الحَرْث بن سُوَيْد الأنصاريُّ، فنزل قول الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} والخُسْران في الآخرة يكونُ بحرمانِ الثَّوابِ، وحصول العقاب، والتأسُّف على ما فاته في الدنيا من العملِ الصالحِ، والتحسُّر على ما تحمَّلَه من التعب والمشقة في تقرير دينه الباطلِ.
وظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام؛ إذْ لو كان غيره لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} إلا أن ظاهر قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] يقتضي التغاير بينهما، ووجه التوفيق بينهما أن تُحْمل الآية الأولى على العُرْف الشرعيّ، والآية الثانية على الموضع اللغويّ.(5/372)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
الاستفهام فيه كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] .
وقيل: الاستفهام - هنا - معناه النَّفْي كقوله: [الخفيف]
1532 - كَيْفَ نَوْمي عَلَى الْفِرَاش وَلَمَّا ... تَشمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ؟
وقول الآخر: [الطويل](5/372)
1533 - فَهَذِي سُيُوفٌ يَا صُدَبُّ بْنَ مَالِكٍ ... كَثِيرٌ، وَلَكِنْ كَيْفَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ؟
يعني: أين بالسيف؟
{وشهدوا} في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها معطوفة على «كَفَرُوا» و «كَفَرُوا» في محل نَصْب؛ نعتاً لِ «قوماً» أي: كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين، وإلى هذا ذهب ابنُ عطيةَ والحَوْفِيُّ وأبو البقاء، وردَّه مكيّ، فقال: لا يجوز عطف «شَهِدُوا» على كَفَرُوا «لفساد المعنى. ولم يُبَيِّن جهَةَ الفساد، فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة، فلذلك فَسَد المعنى عنده. وهذا غير لازم؛ فإن الواو لا تقتضي ترتيباً، ولذلك قال ابن عطيةَ:» المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكُفْر، والواو لا تُرَتِّب «.
الثاني: أنها في محل نصب على الحال من واو» كَفَرُوا «فالعامل فيها الرافع لصاحبها، و» قد «مضمرة معها على رأي - أي كفروا وقد شهدوا، وإليه ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ، وأبي البقاء وغيرهما.
قال أبو البقاء:» ولا يجوز أن يكون العامل «يَهْدِي» ؛ لأنه يهدي من شَهِدَ أن الرسولَ حق «.
يعني أنه لا يجوز أن يكون حالاً من» قَوْماً «والعاملُ في الحالِ» يَهْدِي «لما ذكر من فساد المعنى.
الثالث: أن يكون معطوفاً على» إيمَانِهِمْ «لما تضمَّنه من الانحلال لجملة فعلية؛ إذ التقدير: بعد أن آمنوا وشهدوا، وإلى هذا ذهب جماعة.
قال الزمخشريُّ: أن يُعْطَف على ما في» إيمانهم «من معنى الفعل؛ لأن معناه: بعد أن آمنوا، كقوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] وقول الشاعر: [الطويل]
1534 - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت يوهم ما يسوِّغ العطف عليه في الجملة، كذا يقول النحاة: جزم على التوهم أي لسقوط الفاء؛ إذْ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض، ولذا يقولون: توهَّم وجودَ الباء فَجَرَّ.(5/373)
وفي العبارة - بالنسبة إلى القرآن - سوء أدبٍ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك.
وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى، كقوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَنا} [الحديد: 18] .
إذ هو في قوة: إن الذين تصدقوا وأقرضوا.
وقال الواحدي:» عطف الفعل على المصدر؛ لأنه أرادَ بالمصدر الفعلَ، تقديره: كفروا بالله بعد أن آمنوا، فهو عطف على المعنى، كقوله: [الوافر]
1535 - لَلُبْسُ عَبَاءةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي ... أحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
معناه: لأن ألبس عباءةً وتقرَّ عيني «.
وظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن الأول مؤوَّل لأجل الثاني، وهذا ليس بظاهر؛ لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلب فِعْلاً، كقوله: {إِنَّ المصدقين} لأن الموصول يطلب جملة فعلية، فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعله، وعطفنا عليه و «أقرضُوا» وأما «بعد إيمانهم» وقوله: «للبس عباءة» ، فليس الاسم محتاجاً إلى فِعل، فالذي ينبغي هو أن نتأوَّل الثاني باسم؛ ليصحَّ عطفه على الاسم الصريح قبله، وتأويله بأن تأتي معه ب «أن» المصدريَّة مقدَّرةً، تَقْدِيرُهُ: بعد إيمانهم وأن شهدوا أي وشهادتهم، ولهذا تأول النحويون قوله: للُبْسُ عباءة وتقرَّ: وأن تَقَرَّ، إذ التقدير: وقرة عيني، وإلى هذا ذهب أبو البقاء، فقال: «التقدير: بعد أن آمنوا وأن شهدوا، فيكون في موضع جر، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصحيح المجرور بالظرف» .
وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا، ويشهد لتقدير الزمخشريّ؛ فإنه قال: قوله «وَشَهِدُوا» منسوق على ما يُمْكن في التقدير، وذلك أن قوله: «بعد إيمانهم» يمكن أن يكون: بعد أن آمنوا، و «أن» الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر، كقوله: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم} [البقرة: 184] ، أي: والصوم.
ومثله مما حُمِل فيه على المعنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل} [الشورى: 51] فهو عطف على قوله: «إلا وحياً» ويمكن فيه: إلاَّ أن يُوحِيَ إليه، فلما كان قوله: «إلا وحياً» بمعنى: إلا أن يُوحِي إليه، حمله على ذلك.
ومثله من الشعر: [الطويل]
1536 - فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شواءٍ أوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ(5/374)
خفض قوله: قدير؛ لأنه عطف على ما يمكن في قوله: منضج؛ لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف، فحملَه على ذلك، فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشريِّ بهذه الآيةِ الكريمةِ والبيت المتقدميْن؛ لأنه جر «قدير» - هنا - على التوهُّم، كأنه توهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله؛ تخفيفاً، فَجرَّ على التوهُّم كما توهم الآخر وجود الباء في قوله: ليسوا مصلحين؛ لأنها كثيراً ما تزاد في خبر «ليس» .
فإن قيل: إذا كان تقدير الآية: كيف يهدي اللهُ قوماً كفروا بعد الإيمانِ وبعد الشهادةِ بأن الرسول حق، وبعد أن جاءَهم البيِّنات، فعطف الشهادة بأن الرسول حَقٌّ يقتضي أنه مغاير للإيمان.
فالجواب: أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والشهادة هي الإقرار باللسان، فهما متغايران.
وقوله: «أن الرسول» الجمهور على أنه وَصْف بمعنى المُرْسَل، وقيل: هو بمعنى الرسالةِ، فيكون مصدراً، وقد تقدم.
فصل
في سبب النزول أقوالٌ:
الأول: قال ابنُ عباسٍ: نزلت في عشرة رهط، كانوا آمنوا، ثم ارتدُّوا، ولَحِقُوا بمكةَ، ثم اخذوا يتربصون به ريب المنون، فأنزل اللهُ فيهم هذه الآيةَ، وكان منهم مَنْ آمن، فاستثنى التائبَ منهم بقوله:
{إِلاَّ الذين تَابُواْ} [البقرة: 160] .
الثاني: رُوِيَ - أيضاً - عن ابن عباسٍ أنها نزلت في يهود قُرَيْظَةَ والنضير، ومن دان بدينهم، كفروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بَعْثه، وكانوا يشهدون له بالنبوةِ، فلما بُعثَ، وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بَغياً وَحَسَداً.
الثالث: نزلت في الحرث بن سُوَيْد الأنصاري حين ندم على رِدَّته، فأرسل إلى قومه أن سَلُوا: هل لي من توبة؟ فأرسل إليه اخوه بالآية، فأقبل إلى المدينة، وتاب، وقبل الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ توبته. قال القفال: للناس في هذه الآية قولان:(5/375)
منهم من قال: إنَّ قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينا} [آل عمران: 85] وما بعده إلى قوله {وأولئك هُمُ الضآلون} [آل عمران: 90] نزل جميعه في قصة واحدة، ومنهم من قال: ابتداء القصة من قوله «إلا الذين تابوا» إلى «إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار» على التقديرين ففيها - أيضاً - قولان:
أحدهما: أنها في أهل الكتاب.
والثاني: أنها في قوم مرتدين عن الإسلام، آمنوا ثم ارتدوا.
فصل
قالت المعتزلةُ: أصولنا تشهد بأن الله هدى جميعَ الخلقِ إلى الدِّينِ؛ بمعنى: التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف، فلو لم يَعُمّ الكُلَّ بهذه الأشياء لصار الكافرُ والضالُّ معذوراً، ثم إنه تعالى - حكم بأنه لم يَهْدِ هؤلاء الكفارَ، فلا بد من تفسير هذه الهدايةِ بشيء آخرَ سوى نَصْب الدلائل، ثم ذكروا فيه وجوهاً:
الأول: أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين؛ ثواباً لهم على إيمانهم، كقوله: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقوله: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] وقوله: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَه} [المائدة: 16] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدًى.
الثاني: أن المراد أنه - تعالى - لا يهديهم إلى الجنة، قال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّم} [النساء: 168 - 169] وقال: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} [يونس: 9] .
والثالث: أنه لا يمكن أن يكون المرادُ من الهداية خلق المعرفة فيه؛ لأنه - على هذا التّقْدِيرِ - يلزم أن يكون الكفر - أيضاً - من الله؛ لأنه - تعالى - إذا خلق المعرفةَ فيه كان مؤمناً مهتدياً، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضَالاً، وإذا كان الكفر من الله - تعالى - لم يَصِحّ أن يذُمَّهم الله - تعالى - على الكفر، ولم يَصِحّ أن يُضاف الكفرُ إليهم، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر، وكونهم فاعلين للكفر، فإنه قال: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} ؟ فأضاف الكفر إليهم، وذمَّهم عليه.
وقال أهل السنة: المرادُ من الهداية خلق المعرفة، وقد جَرَت سُنَّة اللهِ في دار التكليفِ أن كلِّ فِعْلٍ يقصد العبد إلى تحصيله، فإن الله - تعالى - يخلقه عقيب القصد من العبد، فكأنه - تعالى - قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفةَ والهدايةَ وهم قصدوا تحصيلَ الكفر وأرادوه؟
فإن قيل: قال - في أول الآية -: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ} وقوله في آخرها: «والله لا يهدي القوم الظالمين» يقتضي التكرار.(5/376)
فالجواب: أن الأولَ مخصوص بالمرتد، والثاني عمّ ذلك الحكم في المرتد والكافر الأصلي، وسمي الكافر ظالماً؛ لقوله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] والسبب فيه أن الكافر أوْرد نفسَه مواردَ البلاء والعقاب؛ بسبب ذلك الكفر، فكان ظالماً لنفسه.
قال القرطبي: «فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أن مَنْ كفر بعد إسلامه لا يهديه اللهُ، ومن كان ظالماً لا يهديه الله، وقد رأينا كثيراً من المرتدين أسلموا وهداهم اللهُ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظُّلْم.
فالجواب: أن معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على طُفْرِهم وظُلْمهم ولا يُقبِلون على الإسلام، فأما مَنْ أسلموا وتابوا فقد وَفَّقَهُمُ اللهُ لذلك» .(5/377)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
وفي قوله: {جَزَآؤُهُمْ} وجهان:
أحدهما: أن يكون مبتدأ ثانياً، و {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} في محل رفع؛ خبراً ل «جَزَاؤُهُمْ» والجملة خبر ل «أولئك» .
والثاني: أن يكون «جَزَاؤُهُمْ» بدلاً من «أولَئِكَ» بدل اشتمال، و {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} خبر «أولئك» .
وقال هنا: {جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} وقال - هناك -: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله} [البقرة: 161] دون «جزاؤهم» قيل: لأن هناك وقع الإخْبار عمن توفِّيَ على الكُفْر، فمن ثَمَّ حتم الله عليه اللعنة، بخلافه هنا، فإن سبب النزول في قوم ارتدوا ثم رجعوا للإسلام، ومعنى: «جَزَاؤُهُمْ» أي: جزاء كفرهم وارتدادهم، وتقدم القول في قراءة الحسن «النَّاس أجمعون» وتخريجها.
قوله: «خالدين» حال من المضير في «عَلَيْهِمْ» والعامل فيها الاستقرار؛ أو الجارّ؛ لقيامه مقام الفعلِ، والضمير في «فِيهَا» للَّعنة، ومعنى الخلود في اللعن فيه وجهان:
الأول: أنهم يوم القيامة لا تزال تلعنهم الملائكةُ والمؤمنون، ومَنْ معهم في النار، ولا يخلو حالٌ من أحوالهم من اللعنة.
الثاني: أن اللَّعْنَ يوجب العقابَ، فعبَّر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعنِ، ونظيره قوله: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} [طه: 100 - 101] وقال ابن عباس: قوله: «خالدين فيها» أي في «جهنم» ، فعلى هذا الكناية عن غير مذكور. و {لاَ يُخَفَّفُ} جملة حالية أو مستأنفة، و {إِلاَّ الذين} استثناء متصل.(5/377)
فصل
اعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة؛ لأن لعنته بالإبعاد من الجنة، وإنزال العذاب، واللعنة من الملائكة، ومن الناس هي بالقول، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم.
فإن قيل: لم عَمَّ جَمِيع النَّاس، ومَنْ يُوافِقهُ لا يَلْعَنُهُ؟ فَالجوابُ مِن وُجوهٍ:
أحدها: قال أبو مُسْلِمٍ: لَهُ ان يَلْعَنَهُ، وَإن كَانَ لاَ يَلْعَنُهُ.
الثاني: أنَّهُم فِي الآخرةِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، لِقَوْلِهِ تَعالَى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَ} [الأعراف: 38] وقال: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا} [العنكبوت: 25] وعلى هَذا فَقَدْ حَصَلَ اللَّعْنُ للكفارِ ومن يوافقهم.
الثالث: كأن الناسَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، والْكُفَّار لَيْسُوا مِن النَّاس.
الرابع: وهو الأصح - أنَّ جميعَ الْخَلقِ يَلْعَنُونَ المُبْطِلَ والكَافِرَ، وَلَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أنَّهُ لَيْسَ بمُبْطِلٍ وَلا بكافرٍ فَإذا لَعَن الكافِرَ - وَكَانَ هُو فِي عِلم اللهِ كَافراً - فَقَدْ لَعَنَ نَفْسَه، وَهُوَ لا يَعْلَم ذَلكَ.
قوله: «لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون» مَعْنَى الإنْظَار: التَّأخِيْرُ، قَالَ تَعالى: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَة} [البقرة: 280] والمَعْنَى: لاَ يُخَفَّفُ، وَلا يُؤخَّر من وَعتٍ إلى وَقْتٍ، ثُم قَال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} ثمَ بَيَّن أن التوبة وحدَها لا تَكْفِي، حَتَّى يُضافَ إليها العملُ الصالحُ، فَقالَ: {وَأَصْلَحُواْ} أي: أصلحوا باطنهم مع الحق بِالمُراقَباتِ، وَمَعَ الْخَلْقِ بالعِبَادَاتِ، وَذَلِكَ أنَّ الحَارثَ بن سُويد لَمَّا لَحِق بالكُفَّار نَدِم، وأرسل إلى قومه أن سَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَفَعَلُوا فَأنْزَلَ اللهُ {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فَحَمَلَهَا إليه رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَرأها عَلَيهِ، فَقَالَ الْحَارثُ: إنك واللهِ ما عَلِمْتُ - لَصَدُوقٌ، وَإنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصدقُ منك؛ وإنَّ اللهَ - عَزَّ وجل - لأصْدَقُ الثلاثة، فرجع الحارثُ إلى المَدِينَةِ، وَأسْلَمَ، وحسن إسلامه.
وفي قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وجهان:
الأول: أن الله غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر، رحيم في الآخرة بالعفو.
الثاني: غفور بإزالة العقاب، رحيم بإعطاء الثواب، ونظيره قوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَف} [الأنفال: 38] . ودخلت الفاء في قوله: «فإن الله» لشبه الجزاء؛ إذ الكلام قد تضمَّن معنى: إن تابوا فإن الله يغفر لهم.(5/378)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
قوله: «كفراً» تمييز منقول من الفاعلية، والأصل: ثم ازداد كفرُهم، والدال الأولى(5/378)
بدل من تاء الافتعال؛ لوقوعها بعد الزاي، كذا أعربه أبو حيان، وفيه نظر؛ إذ المعنى على أنه مفعول به، وهي أن الفعل المتعدي لاثنين إذا جُعِل مطاوعاص نقص مفعولاً، وهذا من ذاك؛ لأن الأصل: زدت زيداً خيراً فازداده، وكذلك أصل الآيةِ الكريمةِ: زادهم الله كُفراً فازدادوه، فلم يؤت هنا بالفاء داخلةً على «لَنْ» وأتي بها في «لَنْ» الثانية، لأن الفاءَ مُؤذِنَةً بالاستحقاق بالوصف السابق - لأنه قد صَرَّحَ بقَيْد مَوْتِهِم على الكُفْر، بخلاف «لَنِ» الأولى، فإنه لم يُصَرِّحْ ممعها به فلذلك لم يُؤتَ بالفاء.
قال ابن الخطيب: دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء، وعند «عدم» الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطاً وجزاء، تقول: الذي جاءني له درهم، فهذا لا يُفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء، وذكر التاء يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر.
وقرأ عكرمة «لن نَقْبَلَ» بنون العظمة، ونصب «توبَتَهم» وكذلك قرأ «فلن نقبل من أحدهم ملء» بالنصب.
فصل
قال القرطبي: قال قتادة والحسن: نزلت هذه الآية في اليهود، كفروا بعيسى عليه السلام، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن.
وقال أبو العالية: نزلت في اليهود والنصارى، كفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم، ثم ازدادوا كفراً يعني: ذنوباً، يعني: في حال كفرهم.
وقال مجاهد: نزلت في جميع الكفار؛ أشركوا بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالقُهم، ثم ازدادوا كُفْراً، أي: أقاموا على كُفْرهم حتى هلكوا عليه.
وقيل: ازدادوا كُفْراً كلما نزلت آية كفروا بها، فازدادوا كُفْراً.
وقيل: ازدادوا بقولهم: نتربص بمحمد ريب النون.
وقال الكلبي: نزلت في الأحد عشر أصحاب الحَرْث بن سُوَيْد، لما رجع إلى الإسلام، أقاموا هم على الكفر بمكة، وقالوا: نقيم على الكفر ما بدا لنا، فمتى أردنا الرجعة ينزل فينا ما نزل في الحَرْث، فلما افتتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكةَ، فمن دخل منهم في الإسلام قُبِلَت توبته، ونزلت فيمن مات منهم كافراً: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار} [البقرة: 161] الآية.(5/379)
فإن قيل: قد وعد اللهُ بقبول توبة مَنْ تاب، فما معنى قوله: «فلن تقبل توبتهم» ؟
قيل: لن تقبل توبتُهم إذا وقعوا في الحشرجة، كما قال: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن}
[النساء: 18] قاله الحسنُ وقتادة وعطاء.
وقيل: هذا مخصوص بأصحاب الحرث بن سُويد حين أمسكوا عن الإسلام، وقالوا: نتربَّص بمحمد، فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه، لن يقبل ذلك منهم.
وقال القاضي والقفال وابنُ الأنباري: إنه - تعالى - لما قدَّم ذِكْر مَنْ كفر بعد الإيمان، وبيَّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب، ذكر في هذه أنه لو كفر مرةً أخْرَى بعد تلك التوبة الأولى، فإن تلك التوبة الأولى تعتبر غير مقبولة، وتصير كأنها لم تكن.
قال: وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه، لأن تقدير الآية: إلا الَّذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك، ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم.
وقال الزمخشري: قوله: «لن تقبل توبتهم» كناية عن الموت على الكفر؛ لأن الذي لا تُقْبَل توبتُه من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا، ميتون على الكفر داخلون في جملة من لا تُقْبَل توبتهم.
وقيل: لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة، ولا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل.
قال ابن الخطيب: «وهذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله:» إن الذين كفروا ثم ازدادوا كفراً «على المعهود السابق، لا على الاستغراق، وإلا فكم من مرتد تابَ عن ارتداده توبةً صحيحةً، مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف، فأما جواب القفال والقاضي، فهو جواب مطرد، سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق، أو على الاستغراق» .
قوله: «وأولئك هم الضالون» في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون في محل رفع؛ عَطْفاً على خبر «إنَّ» ، أي: إن الذين كفروا لن تُقْبَلَ توبتُهم، وإنهم أولئك هم الضَّالُّون.
الثاني: أن تُجعل معطوفةً على الجملة المؤكَّدة ب «إنَّ» ، وحينئذ فلا محل لها من الإعراب، لعَطْفِها على ما لا محل له.
الثالث: هو إعرابها بأن تكون الواو للحال، فالجملة بعدها في محل نصب على الحال، والمعنى: لن تقبل توبتهم من الذنوب، والحال أنهم ضالُّون، فالتوبة والضلال متنافيان، لا يجتمعان، قاله الراغب.(5/380)
وهو بعيد في التركيب، وإن كان قريب المعنى.
قال أبو حيان: «وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب إذْ لو أريد هذا المعنى لم يُؤتَ باسم الإشارة» .
فإن قيل: قوله: «وأولئك هم الضالون» ظاهره ينفي عدم كون غيرهم ضالاً، وليس الأمر كذلك؛ بل كل كافر ضال، سواء كفر بعد الإيمان، أو كان كافراً في الأصل، فالجواب: هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال.
فإن قيل: إنه وصفهم - أولاً - بالكفر والغُلُوِّ فيه، ثم وصفهم - ثانياً - بالضلال، والكفر أقبح أنواع الضلالة، والوصف إنما يراد للمبالغة، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى منه حالاً، لا بما هو أضعف حالاً منه.
فالجواب: قد ذكرنا أن المراد منه: أنهم هم الضالُّون على سبيل الكمال، وحينئذ تحصل المبالغة.(5/381)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام:
الأول: الذي يتوب عن الكفر توبةً صحيحةً مقبولةً، وهو المراد بقوله: «إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا» .
الثاني: الذي يتوب عن الكفر توبةً فاسدةً، وهو المذكور في الآيةِ المتقدمةِ، وقال: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم} .
الثالث: الذي يموت على الكفر من غير توبةٍ، وهو المذكور في هذه الآية، وقد أخبر عن هؤلاء بثلاثة أشياء:
أحدها: قوله: «فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً» قد تقدم أن عكرمة يقرأ: «نقبل ملء» بالنون مفعولاً به
وقرأ بعضهم «فلن يقبل» - بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى، «مِلْءَ» بالنصب كما تقدم.
وقرأ ابو جعفر وأبو السَّمَّال «مل الأرض» بطرح همزة «ملء» ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها.(5/381)
وبعضهم يدغم نحو هذا - أي لام «ملء» في لام «الأرضِ» - بعروض التقائهما.
والملء: مقدار ما يُمْلأ الوعاء، والمَلْء - بفتح الميم - هو المصدر، يقال: ملأت القدر، أملؤها، مَلأ، والملاءة بضم الميم والمد: الملحَفة.
و «ذهباً» العامة على نصبه، تمييزاً.
وقال الكسائي: على إسقاط الخافض، وهذا كالأول؛ لأن التمييز مقدر ب «من» واحتاجت «ملء» إلى تفسير؛ لأنها دالة على مقدار - كالقفيز والصّاع -.
وقرأ الأعمش: «ذهب» - بالرفع -.
قال الزمخشريُّ: ردًّا على «مِلْءُ» كما يقال: عندي عشرون نَفْساً رجال، يعني الردّ البدل، ويكون بدل نكرة من معرفة. قال أبو حيان: ولذلك ضبط الحذّاق قوله: «لك الحمد ملء السموات» بالرفع، على أنه نعت لِ «الْحَمْد» . واستضعفوا نصبه على الحال، لكونه معرفة.
قال شهاب الدين: «يتعين نصبه على الحال، حتى يلزم ما ذكره من الضعف، بل هو منصوب على الظرف، أي: إن الحمد يقع مِلْئاً للسموات والأرض» .
فإن قيل: من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً، وبتقدير أن يملك الذهب فلا نَفْعَ فيه، فما فائدة ذكره؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنهم إذا ماتوا على الكُفْر، فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا - مع الكفر _ أموالاً، فإنها لا تكون مقبولة.
الثاني: أن هذا على سبيل الفرْض والتقدير، فالذهب كناية عن أعز الأشياء، والتقدير: لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء، ثم قدر على بَذْله في غاية الكثرة، فعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من العذاب، والمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب.
روى أنس - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«يَقُولُ اللهُ - لأهْوَن أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ - لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيءٍ، أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيَقُولُ: أرَدتُّ مِنْك أهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً، فأبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بِي»
قوله: «ولو افتدى به» الجمهور على ثبوت الواو، وهي واو الحال.(5/382)
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف موقع قوله: «ولو افتدى به» ؟
قلت: هو كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. انتهى.
والذي ينبغي أن يُحْمَل عليه: أن الله - تعالى - أخبر أن مَن ْ مات كافراً لا يُقْبَل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدُها، ولو في حال افتدائه من العذاب، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يميز فيها المفتدي عن المفتدى منه؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي.
قال أبو حيان: وقد قررنا - في نحو هذا التركيب - أن «لَوْ» تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعْطُوا السَّائِلَ ولو جاء عَلَى فَرَسٍ» وقوله: «رُدُّوا السَّائِلَ ولَو بِظِلْف محرق» كأن هذه الأشياء مما ينبغي أن يؤتى بها؛ لأن كون السائل على فرس يُشْعر بغناه، فلا يناسب أن يُعْطَى، وكذلك الظلف المحرق، لا غناء فيه، فكان يناسب أن لا يُرَدَّ به السائل.
قيل: الواو - هنا - زائدة، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أب يعبلة طلو افتدى به «- دون واو - معناه أنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول، فلم يتعمم النفي وجود القبول.
و» لو «قيل: هي - هنا - شرطية؛ بمعنى» إن «لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره؛ لأنها متعلقة بمستقبل، وهو قوله:» فلن تقبل «، وتلك متعلّقة بالماضي.
قال الزجاج: إنها للعطف، والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه، ولو افتدى به لم تقبل منه، وهذا اختيار ابن الأنباري، قال: وهذا آكد في التغليظ؛ لأنه تصريح بنفي القبول من وجوه. وقيل: دخلت الواو لبيان التفصيل بعد الإجمال؛ لأن قوله: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً} يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية.
وقال ابن الخطيب: إن مَنْ غضب على بعض عبيده، فإذا أتحفه ذلك العبد بتُحفَةٍ وهدية لم يقبلْها البتة، إلا أنه قد يُقْبَل منه الفدية، فأما إذا لم تُقْبَل منه الفدية - أيضاً - كان ذلك غاية الغضب، والمبالغة إنما تحصل بذكر ما هو الغاية، فحكمه - تعالى - بأنه لا يقبل منهم ملءَ الأرض ذهباً، ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيه على أنه إذا لم يكن مقبولاً لا بالفدية فبأن لا يقبل منهم بسائر الطرق أولى.
وافتدى افتعل - من لفظ الفدية - وهو متعدٍّ لواحد؛ لأنه بمعنى فدى، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى، نحو: شَوَى، واشْتَوَى، ومفعوله محذوف، تقديره: افْتدَى نفسه. والهاء في «به» - فيها أقوال:
أحدها: - وهو الأظهر - عودها على «ملء» ؛ لأنه مقدار يملأها، أي: ولو افتدى بملء الأرض.(5/383)
الثاني: أن يعوج على «ذَهَباً» ، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيان: ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء، أو على الذهب، فقوله: «أو على الذهب» غلط.
قال شهاب الدين: «كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدَّثاً عنه، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره، فضلة» .
الثالث: أن يعود على «مِثْل» محذوف.
قال الزمخشريُّ: «ويجوز أن يُراد: ولو افتدى بمثله، كقوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَه} [الرعد: 18] ، والمثل يحذف في كلامهم كثيراً، كقولك: ضربت ضرب زيد - تريد: مثل ضربه - وقولك: أبو يوسف أبو حنيفة - أي: مثله -.
وقوله: [الرجز]
1537 - لا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ ... وَلاَ فَتَى إلاَّ ابْنُ خَيْبَرِيّ
و» قضية ولا أبا حسن لها «يريد: لا مثل هيثم، ولا مثل أبي حسن، كما أنه يزاد قولهم: مثلك لا يفعل كذا، يريدون: أنت لا تفعل كذا، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد» .
قال أبو حيان: «ولا حاجةَ إلى تقدير» مثل «في قوله:» ولو افتدى به «، وكأن الزمخشريَّ تخيَّل انَّ قدّر أن يُقْبَل لا يُمكن أن يُفْتَدَى به، فاحتاج إلى إضمار:» مثل «حتى يغاير ما نُفِي قبولُه وبين ما يفتدى به، وليس كذلك؛ لأن ذلك - ما ذكرناه - على سبيل الفرض والتقدير؛ إذ لا يمكن - عادةً - أن أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً، بحيث أنه لو بَذَلَهُ - على أيِّ جهةٍ بذله - لم يُقْبَل منه، بل لو كان ذلك ممكناً لم يَحْتَج إلى تقدير» مثل «؛ لأنه نفى قبوله - حتى في حالة الافتداء - وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه، ولا معنى له، ولا في اللفظ، ولا في المعنى ما يدل عليه، فلا يقدر.
وأما ما مثل به - من نحو: ضربت ضربَ زيدٍ، وأبو يوسف أبو حنيفةَ - فبضرورة العقل يُعْلَم أنه لا بد من تقدير مثل إذ ضربك يستحيل أن يكون ضربَ زيد، وذات أبي يوسف، يستحيل أن تكون ذاتَ أبي حنيفة.
وأما «لا هيثم الليلة للمطي» ، فدل على حذف «مثل» ما تقرر في اللغة العربية أن «لا» التي لنفي الجنس، لا تدخل على الأعلام، فتؤثر فيها، فاحتيج إلى إضمار: «مثل» لتبقى على ما تقرر فيها؛ إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس؛ لأن العلمية تنافي عمومَ الجنس.(5/384)
وأما قوله: كما يزاد في: مثلك لا يفعل - تريد: أنت - فهذا قول قد قيل، ولكن المختار عند حُذَّاق النحويين أن الأسماء لا تزاد «.
قال شهاب الدين: وهذا الاعتراض - على طوله - جوابه ما قاله أبو القاسم - في خطبة كشافه - واللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي - وإن كان أنحَى من سيبويه -[لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائقِ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائقِ، إلا رجل قد برع في علمين مختصَّين بالقرآن المعاني والبديع - وتمهَّل في ارتيادهما آونةً، وتعب في التنقير عنهما أزمنةً] .
قوله:» أولئك لم عذاب أليم «هذا هو النوع الثاني من وعيده الذي توعَّدَهم به. ويجوز أن يكون» لهم «: خبراً لاسم الإشارة، و» عَذَابٌ «فاعل به، وعمل لاعتماده على ذي خبره، أي: أولئك استقر لهم عذاب. وأن يكون» لَهُمْ «خبراً مقدَّماًن و» عَذَابٌ «مبتدأ مؤخر، والجملة خبر عن اسم الإشارة، والأول أحسن؛ لأن الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد.
قوله: {وما لهم من ناصرين} هذا هو النوع الثالث من الوعيد، ويجوز في إعرابه وجهان:
أحدهما: أن يكون {مِّن نَّاصِرِينَ} : فاعلاً، وجاز عمل الجارّ؛ لاعتماده على حرف النفي، أي: وما استقر لهم من ناصرين.
والثاني: أنه خبر مقدَّم، و {مِّن نَّاصِرِينَ} : مبتدأ مؤخر، و» مِنْ «مزيدة على الإعرابَيْن؛ لوجود الشرطين في زيادتها.
وأتى ب» ناصرين «جمعاً؛ لتوافق الفواصل.
واحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة؛ لأنه - تعالى - ختم وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة، فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر.(5/385)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
النيل: إدراك الشيء ولحوقه.
وقيل: هو العطية.
وقيل: هو تناول الشيء باليد، يقال: نِلْتُه، أناله، نَيْلاً، قال تعالى: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا} [التوبة: 120] .(5/385)
وأما النول - بالواو - فمعناه التناول، يقال: نِلتُه، أنوله، أي تناولته، وأنلْته زيداً، وأنوله إياه، أي ناولته إياه، كقولك: عطوته، أعطوه، بمعنى: تناولته، وأعطيته إياه - إذا ناولته إياه.
قوله: «حتى تنفقوا» بمعنى إلى أن، و «مِن» في «مما تحبون» تبعيضية يدل عليه قراءة عبد الله: بعض ما تحبون.
قال شهاب الدين: «وهذه - عندي - ليست قراءة، بل تفسير معنى» .
وقال آخرون: «إنها للتبيين» .
[وجوز أبو البقاء ذلك فقال: «أو نكرة موصوفة ولا تكون مصدرية؛ لأن المحبة لا تتفق، فإن جعلت المحبة بمعنى: المفعول، جاز على رأي أبي علي» يعني يَبْقى التقدير: من الشيء المحبوب، وهذان الوجهان ضعيفان والأول أضعف] .
فصل
لما بيَّن أن نفقتهم لا تنفع ذكَر - هنا - ما ينفع، فإن من أنفق مما يُحِبُّ كان من جملة الأبرار المذكورين في قوله: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] ، وغيرها.
قال ابن الخطيب: «وفي هذا لطيفة، وهي أنه - تعالى - قال في سورة البقرة -: {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 177] وقال - هنا - {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} والمعنى: لو فعلتم ذلك المتقدم كله، لا تفوزون بالبر حتى تُنْفقوا مما تُحِبُّون، وذلك يدل على أن النفقة من أفضل الطاعات.
فإن قيل:» حتى «لانتهاء الغاية، فتقتضي الآية أن من أنفق مما يحب، صار من جملة الأبرار، ونال البر وإن لم يأت بسائر الطاعات.
فالجواب: أن المحبوب إنما يُنفق إذا طمع المنفِق فيما هو أشرف منه، فلا ينفق المرءُ في الدنيا إلا إذا أيقن سعادة الآخرة، وذلك يستلزم الإقرار بالصانع، وأنه يجب عليه الانقيادُ لأوامره وتكاليفه، وذلك يعتمد تحصيل جميع الخصال المحمودة في الدين» .
فصل
قال ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مَسْعُودٍ ومُجَاهِدٌ: البرّ: الجنة.(5/386)
وقال مقاتل بن حيان: البرّ التقوى.
كقوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 177] إلى قوله: {وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177] .
وقيل: البر «الطاعة.
فالذين قالوا: إن البر هو الجنة قال بعضهم: معناه لن تنالوا ثواب البر.
ومنهم من قال: المراد بر الله أولياءه، وإكرامه إياهم، وتفضله عليهم، من قولهم: بَرَّني فلان بكذا أو بِرُّ فلان لا ينقطع عني.
وقوله:» مما تحبون «قال بعضهم: إنه نفس المال.
وقال آخرون: أن تكون الهبة رفيعة جيدة لقوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُون} [البقرة: 267] .
وقال آخرون: ما يكون محتاجاً إليه القوم؛ قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّه} [الإنسان: 8]- في أحد تفاسير الحُبِّ - وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} [الحشر: 9] .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ وَأنْتَ صَحِيحٌ، شَحِيحٌ، تَأمُلُ الغِنَى وتَخْشَى الْفَقْرَ» .
روى الضحاك عن ابن عباس: أن المراد به: الزكاة.
قال ابْنُ الخَطِيبِ: لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أوْلَى؛ لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحَبّ، والزكاة الواجبة لا يجب على المزكِّي أن يُخرج أشرف أموال، أو أكرمها، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل النَّدْب.
ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي، أن هذه الآية منسوخة بإيتاء الزكاة، وهذا في غاية البُعْد؛ لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بَذْل المحبوب لوجه الله.
قوله: {وما تنفقوا من شيء} تقدم نظيره في البقرة.
فإن قيل: لِمَ قيل: {فإن الله به عليم} على جهة جواب الشرط، مع أن الله يعلمه على كل حال؟
فالجواب م نوجهين:
الأول: أن فيه معنى الجزاء، تقديره: وما تُنْفِقُوا من شيء فإن الله مجازيكم به - قَلَّ أم كَثر -، لأنه عليم به، لا يَخْفَى عليه شيء منه، فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب، والتعريض - في مثل هذا الموضع - يكون أبلغ من التصريح.
الثاني: أنه - تعالى - يعلم الوجه الذي لأجله تفعلونه، ويعلم أن الداعي إليه هو الإخلاص أم الرياء، ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود أم الأخسّ الأرذل، ونظيره قوله(5/387)
تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} [البقرة: 197] ، وقوله: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُه} [البقرة: 270] أي: يبينه ويجازيكم على قدره.(5/388)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
الحِلّ بمعنى: الحَلالَ، وهو - في الأصل - مصدر لِ «حَلَّ يَحِلُّ» ، كقولك: عز يعز عزًّا، ثم يطلق على الأشخاص، مبالغة، ولذلك يَسْتَوي فيه الواحدُ والمثنَّى والمجموعُ، والمذكَّرُ والمؤنثُ، كقوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ، وفي الحديث عن عائشة: «كُنْتُ أطيِّبُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِحِلِّه ولِحَرَمِهِ» ، أي لإحلاله ولإحرامه، وهو كالحرم واللبس - بمعنى: الحرام واللباس - وقال ابن عباس - في زمزم -: هي حِلٌّ وبِلٌّ. رواه سفيان بن عُيَيْنَة، فسئل سفيان، ما حِلّ؟ فقال: محَلَّل. و «لِبَني» : متعلق ب «حِلاًّ» .
قوله: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ} مستثنى من اسم «كَانَ» .
وجوَّز أبو البقاء أن يكون مستثنًى من ضمير مستتر في «حِلاًّ» فقال لأنه استثناء من اسم «كَانَ» والعامل فيه: «كان» ، ويجوز أن يعمل فيه «حِلاًّ» ، ويكون فيه ضمير يكون الاستثناء منه؛ لأن حِلاًّ وحلالاً في موضع اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح.
وفي هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه متَّصل، والتقدير: إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، فحرم عليهم في التوراة، فليس فيها ما زادوه من محرمات، وادَّعَوْا صحةَ ذلك.
والثاني: أنه مُنْقَطِع، والتقدير: لكن حرم إسرائيلُ على نفسه خاصَّةً، ولم يحرمه عليهم، والأول هو الصحيح.
قوله: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} فيه وجهان:
أحدهما: انه متعلق ب «حَرَّم» أي: إلا ما حرَّم من قبل، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيان: «ويبعد ذلك؛ إذ هو من الإخبار بالواضح؛ لأنه معلوم أن الذي حَرَّم إسرائيل على نفسه، هو من قبل إنزال التوراة ضرورةً؛ لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة» .
والثاني: أنه يتعلق بقوله: {كَانَ حِلاًّ} .(5/388)
قال أبو حيان: «ويظهر أنه متعلّق بقوله: {كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} ، أي: من قبل أن تُنَزًّل التوراة، وفصل بالاستثناء؛ إذْ هو فَصْل جائز، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن، في جواز أن يعمل ما قبل» إلا «فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً - نحو ما جلس إلا زيد عندك، ما أوَى إلا عمرو إليك، وما جاء إلا زيد ضاحكاً.
وأجاز الكسائي ذلك في المنصوب مطلقاً، نحو ما ضرب إلا زيدٌ عمراً؛ وأجاز ذلك هو وابن الأنباري في المرفوع، نحو ما ضرب إلا زيداً عمرو، وأما تخريجه على غير مذهب الكسائي وأبي الحسن، فَيُقدَّر له عامل من جنس ما قبله، تقديره - هنا - جل من قبل أن ينزل أي تنزل التوراة» .
وقرئ: {تُنَزَّلَ التوراة} بتخفيف الزاي وتشديدها، وكلاهما بمعنى واحد، وهذا يرد قولَ من قال بأن «تنَزَّل» - بالتشديد - يدل على أنه نزل مُنَجَّماً؛ لأن التوراة إنَّما نزلت دُفْعَةً واحدة بإجماع المفسرين.
فصل
لما تقدمت الآيات الدالة ُ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والإلزامات الواردة على أهل الكتاب، بين في هذه الآية الجوابَ عن شُبُهاتهم، وهي تحتمل وجوهاً:
روي أن اليهود كانوا يُعَوِّلُونَ في إنكار شرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على إنكار النسخ، فأبطل الله - تعالى - عليهم ذلك بأن كل الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً، ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده، فحصل النسخُ، وبطل قولكم: النسخ غير جائز، فلما توجَّه على اليهود هذا السؤالُ أنكروا أن تكون حرمةُ ذلك الطعام الذي حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه، بل زعموا أن ذلك كان حراماً من زمان آدم إلى زمانهم، فعند هذا طلب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم أن يُحْضِروا التوراةَ؛ فإن التوراةَ ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه، فخافوا من الفضيحة، وامتنعوا من إحضار التوراة، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تُقَوِّي القولَ بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
منها: أن النسخ قد ثبت لا محيصَ عنه، وهم يُنْكِرُونه.
ومنها: ظهور كذبهم للناس، فيما نسبوه إلى التوراة.
ومنها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أمِّيًّا، لا يقرأ ولا يكتب، فدل على أنه لم يعرفُ هذه المسألةَ الغامضةَ إلا بوحي من الله تعالى.
الوجه الثاني: أن اليهود قالوا له: إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانَها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم، فلست أنت على ملة إبراهيم، فجعلوا ذلك شبهةً طاعِنةً في صحة دعواه، فأجابهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على هذه الشبهة(5/389)
وقال: إن ذلك كان حلالاً لإبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاق ويعقوبَ، إلا أن يعقوبَ حرَّمه على نفسه، لسبب من الأسباب، وبقيت تلك الحُرْمَةُ في أولاده، فأنكر اليهودُ ذلك، وقالوا: ما نحرمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيمَ حتى انتهى إلينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإحضار التوراةِ، وطالَبَهُمْ بأن يستخرجوا منها آيةً تدل على أن لحومَ الإبل وألبانَها كانت محرمةً على إبراهيم، فعجزوا عن ذلك، وافتضحوا، فظهر كذبُهم.
الوجه الثالث: أنه - تعالى - لما أنزل قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] ، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] فدل ذلك على أنه إنما حرم على اليهود هذه الأشياء - جزاءً لهم على بَغيهم - وأنه لم يكن شيء من الطعام حراماً، غير الذي حرا إسرائيل على نفسه، فشقَّ ذلك على اليهود من وجهين:
أحدهما: أن ذلك يدل على تحريم هذه الأشياءِ بعد الإباحة، وذلك يقتضي النسخ، وهم ينكرونه.
والثاني: أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال، فلما شَقَّ ذلك عليهم من هذين الوجهين، أنكروا كَوْنَ حُرْمَةِ هذه الأشياء متجدِّدَةً، وزعموا أنها كانت مُحَرَّمَةً أبداً، فطالبهم النبيُّ بآية من التوراة تدل على صِحَّةِ قولِهم فعجزوا وافتضحوا فهذا وجه النظم وسبب النزول.
فصل
قال الزمخشري: «كُلُّ الطَّعَامِ» كل المطعومات، أو كل أنواع الطعام.
واختلف الناس في اللفظ المفرد المحلَّى بالألف واللام، هل يفيد العموم أم لا؟
فذهب قوم إلى أنه يفيده لوجوه:
الأول: أنه - تعالى - أدْخل لفظ «كُلّ» على لفظ «الطَّعَامِ» فلولا أن لفظ الطَّعَامِ «قائم مقام المطعومات، وإلا لما جاز ذلك.
والثاني: أنه استثنى ما حرم إسرائيلُ على نفسه، والاستثناء يُخْرِج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ:» الطَّعَام «، وإلا لم يَصِحْ الاستثناء ويؤيده قوله تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 1 - 3] .
الثالث: أنه - تعالى - وصف هذا اللفظ المفرد بما يُوصف به لفظ الجمع، فقال {والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10] ، فعلى هذا لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره الزمخشريُّ.
ومن قال: إنه لا يفيد العمومَ، يحتاج إلى الإضمار.(5/390)
فصل
الطعام: اسم لكل ما يُؤكَل ويُطْعَم.
وزعم بعض الحنفيَّة: أنه اسم للبُرِّ خاصَّةً، وهذه الآية حُجَّة عليهم؛ لأنه استثنى من لفظ» الطَّعَامِ «: ما حرم إسرائيل على نفسه، وأجمع المفسرون على أن ذلك الذي حرَّمه على نفسه كان غير الحنطة وما يُتَّخَذ منها، ويؤكد ذلك قوله - في صفة الماء -: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] ، وقوله: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 5] ، وأراد الذبائح، وقالت عائشة:» مَا لَنَا طَعَامٌ إلاَّ الأسودان «والمراد: التمر والماء.
فصل في المراد بالذي حرم إسرائيل على نفسه
اختلفوا في الذي حرَّمه إسرائيل على نفسه وفي سببه:
قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبيُّ: روى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» إنَّ يعقوبَ مَرِضَ مَرَضاً شديداً، فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ ليُحَرِّمَنَّ أحَبَّ الطعامِ والشَّرَابِ إلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ لُحْمَانَ الإبلِ وألبانها «.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادةُ والسُّدِّيُّ والضَّحَّاكُ: هي العروق، وكان السبب فيه، أنه اشتكى عرق النسا، وكان أصل وجعه - فيما روى جويبر ومقاتلٌ عن الضحاك - أن يعقوب كان قد نذر إن وهبه الله اثْنَي عشر وَلداً، وأتَى بيتَ لمقدس صحيحاً، أن يذبح آخرَهم، فتلقاه ملَكٌ من الملائكة، فقال: يا يعقوبُ، إنك رجل قويٌّ، فهل لك في الصِّراع؟ فصارعه فلم يصرع واحدٌ منهما صاحبه، فغمزه الملك غمزةً، فعرض له عرق النسا من ذلك، ثم قال له الملك: أما إني لو شئتُ أن أصرعك لفعلت، ولكن غمزتك هذه الغمزة؛ [لأنك كنتَ نذرتَ إن أتيتَ بيتَ المقدس صحيحاً أن تذبح آخر ولدِك، فجعل الله له بهذه الغمزة] مخرجاً، فلما قدم يعقوب بيت المقدسِ أراد ذَبْحَ ولده، ونَسِي قولَ المَلَك، فأتاه الملك، وقال: إنما غمزتم للمخرج، وقد وفى نذرك، فلا سبيل لك إلى ولدِك.
وقال عباسٍ ومُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ والسُّدِّيُّ: أقبل يعقوب من: «حَرَّان» يريد بيت(5/391)
المقدس، حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلاً بطيشاً، قويًّا، فلقيه ملك، فظنَّ يعقوب أنه لِصّ، فعالجه ليصرعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه، فغمز الملك فَخْذَ يعقوب، ثم صعد إلى السماء، ويعقوب ينظر إليه، فهاج به عرق النسا، ولقي من ذلك بلاءً وشِدَّةً، وكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء: أي صياح، فحلف لئن شفاه الله أن لا يأكل عِرْقاً ولا طعاماً فيه عِرْق، فحرَّمه على نفسه، فكان بنوه - بعد ذلك - يَتَّبعون العروق، ويخرجونها من اللحم.
وروى جبير عن الضحاك عن ابن عباس: لما أصاب يعقوبَ عرقُ النسا، وصف له الأطباء أن يجتنب لُحْمانَ الإبل، فحرَّمها يعقوب على نفسه.
وقال الحسن: حرَّم يعقوب على نفسه لحم الجزور، تعبُّداً لله تعالى، فسأل ربه أن يُجِيز له ذلك، ومنعها الله على وَلَدِهِ.
فإن قيل: التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله - تعالى - وظاهر الآية يدل على أن إسرائيلَ حرم ذلك على نفسه، فكيف صار ذلك سَبَباً لحصول الحُرْمَة؟
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه لا يبعد أن الإنسانَ إذا حرَّم شيئاً على نفسه، فإن الله يُحَرِّمُه عليه كما أن الإنسانَ يحرم امرأته بالطلاق، ويحرم جاريته بالعِتْق، فكذلك يجوز أن يقول الله تعالى: إن حرَّمْتَ شيئاً على نفسك فأنا - أيضاً - أحَرِّمُه عليك.
الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربما اجتهد، فأدَّى اجتهاده إلى التحريم، فقال بتحريمه، والاجتهاد جائز من الأنبياء؛ لعموم قوله: {فاعتبروا ياأولي الأبصار} [الحشر: 2] ، ولقوله: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء: 83] ، ولقوله - لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، فدل على أنه كان بالاجتهاد.
وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ} يدل على أنه إنما حرَّمه على نفسه بالاجتهاد؛ إذْ لو كان بالنصِّ لقال: إلاَّ ما حرَّمه الله على إسرائيل.
الثالث: يُحْتَمَل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا، فكما يجب علينا الوفاةُ بالنذر - وهو بإيجاب العبد على نفسه - كان يجب في شرعه الوفاءُ بالتحريم.
الرابع: قال الأصم: لعل نفسه كانت مائلةً إلى تلك الانواع كُلِّها، فامتنع من أكلها؛ قَهْراً للنَّفْس، وطَلَباً لمرضاة الله، كما يفعله كثير من الزُّهَّادِ.(5/392)
فصل
ترجم ابنُ ماجه في سننه «دواء عرقِ النساء» وروى بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «شِفاءُ عِرْقِ النِّسَا ألْيَةُ شَاةٍ، [أعرابية] تُذابُ، ثُمَّ تُجَزَّأ ثَلاثَةَ أجْزَاءٍ، ثُمَّ تُشْرَبُ عَلَى الرِّيق في كُلِّ يَوْمٍ جُزْءًا» .
وفي رواية عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في عرق النسا -: «تُؤخَذُ ألْيَةُ كَبْشٍ عَرَبِيٍّ - لا صَغِيرٍ وَلاَ كَبِيرٍ - فَتُقَطَّع صِغَاراً، فتُخْرَجُ إهَالتُه، فتقسَّم ثلاثة أقسام، قِسْمٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الرِّيقِ» قال أنس: فوصفته لأكثر من مائة، فبرئوا - بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ -، وروى شعبة قال: حدثني شيخ - في زمن الحجَّاج بن يوسف - في عرق النسا، يمسح على ذلك الموضع، ويقول أقسم لك بالله الأعلى، لئن لم تَنْتَهِ لأكوَينَّك بنارٍ، أو لأحْلِقَنَّكَ بمُوسى.
قال شعبة: قد جرَّبته، لقوله: وتمسح على ذلك الموضع.
فصل
دلّت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء؛ ولأنه إذا شُرع الاجتهاد لغيرهم، فهم أولى؛ لأنهم أكمل من غيرهم، ومنع بعضُهم ذلك؛ لأنهم متمكنون من الوحي، وقال تعالى: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1] .
فصل
ظاهر الآية يدل على أنَّ الذي حرمه إسرائيل على نفسه، قد حرَّمه الله على بني إسرائيلَ؛ لقوله تعالى: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} ، فحكم بحلِّ كل أنواع المطعومات لبني إسرائيلَ، ثم استثنى منها ما حرمه إسرائيلُ على نفسه، فوجب - بحكم الاستثناء - أن يكون ذلك حراماً عليهمز
فصل
ومعنى قوله: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} أي: قبل نزول التوراة كان حلاًّ لبني إسرائيل كلُّ المطعومات سوى ما حرمه إسرائيلُ على نفسه، أما بعد نزول التوراة، فلم يَبْقَ كذلك بل حرم الله - تعالى - عليهم أنواعاً كثيرة.(5/393)
وقال السدي: حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا يُحَرِّمونه قبل نزولها.
قال ابن عطية: إنما كان مُحَرَّماً عليهم بتحريم إسرائيل؛ فإنه كان قد قال: إن عافاني الله لا يأكله لي ولد، ولم يكن محرَّماً عليهم في التوراة.
وقال الكلبي: لم يُحَرِّمه الله عليهم في التوراة، وإنما حُرِّم عليهم بعد التوراة بظُلْمهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] ، وقال: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم، حرَّم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام، أو سلط عليهم سبباً لهلاك أو مَضَرَّةٍ.
وقال الضحاكُ: لم يكن شيئاً من ذلك مُحَرَّماً عليهم، ولا حَرَّمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم؛ اتباعاً لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فكذبهم الله، فقال: «قُلْ» : يا محمد {فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها} حتى يتبين أنه كما قلتم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، فلم يأتوا بها، فقال - الله عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} ، «مَنْ» يجوز أن تكون شرطيَّةً، أو موصولة، وحمل على لفظها في قوله: «افْتَرَى» فوحَّد الضمير، وعلى معناها فجمع في قوله: {فأولئك هُمُ الظالمون} ، والافتراء مأخوذ من الفَرْي، وهو القطع، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير مَوْضِعِه.
وقوله: {مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد ظهور الحجة، {فأولئك هُمُ الظالمون} المستحقون لعذاب الله.
قوله: {مِنْ بَعْدِ} فيه وجهان:
أحدهما: - وهو الظاهر -: أن يتعلق ب «افْتَرَى» .
الثاني: قال أبو البقاء: يجوز أن يتعلق بالكذب، يعني: الكذب الواقع من بعد ذلك.
وفي المشار إليه ثلاثة أوجه:
أحدها: استقرار التحريم المذكور في التوراةِ عليهم؛ إذ المعنى: إلا ما حرم إسرائيلُ على نفسه، ثم حرم في التوراة؛ عقوبةً لهم.
الثاني: التلاوة، وجاز تذكير اسم الإشارة؛ لأن المراد بها بيان مذهبهم.
الثالث: الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وهذه الجملة - أعني: قوله: {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} - يجوز أن تكون استئنافيةً، فلا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون منصوبة المحل؛ نسقاً على قوله: {فَأْتُواْ بالتوراة} ، فتندرج في المقول.(5/394)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
أي قل لهم.(5/394)
والعامة على إظهار لام «قُلْ» مع الصاد.
وقرأ ابنُ بن تغلب بإدغامها فيها، وكذلك أدغم اللام في السين في قوله: {قُلْ سِيرُواْ} [الأنعام: 11] وسيأتي أن حمزةَ والكسائيِّ وهشاماً أدْغموا اللام في السين في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} [يوسف: 18] .
قال أبو الفتح: «عِلَّةُ ذلك فُشُوُّ هذين الحرفَيْن في الضم، وانتشار الصوت المُنْبَثّ عنهما، فقاربتا بذلك مخرج اللام، فجاز إدغامها فيهما» ، وهو مأخوذ من كلام سيبويه، فإن سيبويه قال: «والإدغام، يعني: إدغام اللام مع الصاد والطاء وأخواتهما، جائز، وليس ككثرته مع الراء؛ لأن هذه الحروفَ تراخين عنها، وهن من الثنايا؛ قال: وجواز الإدغام أنّ ىخر مخرج اللام قريب من مخرجها» . انتهى.
قال أبو البقاء عبارة تُوَضِّحُ ما تقدم، وهي: «لأن الصاد فيها انبساط، وفي اللام انبساط، بحيث يتلاقى طرفاهما، فصارا متقاربين» . وقد تقدم إعراب قوله: ملة إبراهيم حنيفاً.
فصل
{قُلْ صَدَقَ الله} يحتمل وجوهاً:
أحدها: قل: صدق اللهُ في أن ذلك النوعَ من الطعام، صار حراماً على بني إسرائيلَ، وأولادِه بعد أن كان حلالاً لهم، فصحَّ القولُ بالنسخ، وبطلت شُبْهَةُ اليهود.
وثانيها: قل: صدق اللهُ في أن لحوم الإبل، وألبانها كانت مُحَلَّلَةً لإبراهيمَ، وإنما حُرِّمَتْ على بني إسرائيلَ؛ لأن إسرائيلَ حَرَّمها على نفسه، فثبت أن محمداً لما أفتى بِحلِّ لحوم الإبل، وألبانِها، فقد أفتى بملة إبراهيمَ.
وثالثها: صدق الله في أن سائرَ الأطعمة، كانت مُحَلَّلَةً لبني إسرائيلَ، وإنما حُرِّمَتْ على اليهود؛ جزاءً على قبائح أفعالهم.
وقوله: {فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي: اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ملة إبراهيمَ.
وسواء قال: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أو قال: «ملة إبراهيم الحنيف» ؛ لأن الحال والصفة في المعنى سواء.
وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي: لم يدْعُ مع الله إلهاً آخرَ، كما فعله العرب من عبادة الأوثان، أو كما فعله اليهودُ من أن عُزَيراً ابن الله، أو كما فعله النصارى من ادِّعاء أن المسيح ابن الله.
والمعنى: إن إبراهيم - عليه السلام - لم يكنْ من الطائفة المشركةِ في وقت من(5/395)
الأوقاتِ، والغرض منه بيان أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على دين إبراهيم في الفروع والأصول؛ لأن مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يدعو إلا إلى التوحيدِ، والبراءة عن كل معبودٍ سوى اللهِ تعالى.(5/396)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أن المرادَ منه: الجواب عن شبهةٍ أخْرَى من شُبَهِ اليهود في إنكار نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وذلك لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا حُوِّل إلى الكعبةِ، طَعَنَ اليهودُ في نبوَّتِهِ، وقالوا: إنَّ بيتَ المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال؛ لأنه وُضِع قبل الكعبة، وهو أرضُ المحشَر، وقبلةُ جُملة الأنبياء، وإذا كان كذلك فتحويل القبلةِ منه إلى الكعبة باطل، وأجابهم الله بقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} هو الكعبة، فكان جَعْلُه قِبْلَةً أوْلَى.
الثاني: أن المقصود من الآيةِ المتقدمةِ بيان النسخ، هل يجوز أم لا؟ واستدلَّ - عليه السلام - على جوازه، بأن الأطعمة كانت مُباحةً لبني إسرائيلَ، ثم إن الله تعالى حرَّم بعضَها، والقوم نازعوه فيه، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نسخه هو القبلة، فذكر الله - في هذه الآيات - بيان ما لأجله حُوِّلَت القبلة إلى الكعبة، وهو كَوْنُ الكعبة أفضلَ من غيرها.
الثالث: أنه - تعالى - لما قال في الآية المتقدمةِ: {فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 95] ، وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيمَ الحَجُّ - ذكر في هذه الآية فضل البيت؛ ليُفَرِّعَ عليه إيجابَ الحَجِّ.
الرابع: أنه لما تقدَّم مناظرة اليهود والنصارى، وزعموا أنهم على ملة إبراهيم، فبيّن الله كذبهم في هذه الآية من حيث إن حَجَّ الكعبةِ كان ملةَ إبراهيمَ، وهم لا يَحُجُّون، فدل ذلك على كذِبهم.
قوله: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} هذه الجملة في موضع خفض؛ صفة ل «بَيْتٍ» .
وقرأ العامة «وُضِعَ» مبنيًّا للمفعول. وعكرمة وابن السميفع «وضَعَ» مبنيًّا للفاعل.
وفي فاعله قولان:
أحدهما: - وهو الأظهر - أنه ضمير إبراهيم؛ لتقدُّم ذِكْرِه؛ ولأنه مشهور بعمارته.
والثاني: أنه ضمير الباري تعالى، و «لِلنَّاسٍ» متعلق بالفعل قبله، واللام فيه للعلة.
و «للذي» بِبَكَّة «خبر» إنَّ «وأخبر - هنا - بالمعرفة - وهو الموصول - عن النكرة -(5/396)
وهو» أول بَيْتٍ «- لتخصيص النكرة بشيئين: الإضافة، والوصف بالجملة بعده، وهو جائز في باب» إن «، ومن عبارة سيبويه: إن قريباً منك زيدٌ، لما تخصص» قريباً «بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه، وزاده حُسْناً - هنا - كونه اسماً ل» إنَّ «، وقد جاءت النكرة اسماً ل» إنَّ «- وإن لم يكن تخصيص - كقوله: [الطويل]
1538 - وَإنَّ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ
وببكة صلة، والباء فيه ظرفية، أي: في مكة.
وبكة فيها اربعة أوجه:
أحدها: أنها مرادفة ل» مكة «فأبدلت ميمها باءً، قالوا: والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع، قالوا: هذا على ضربة لازم، ولازب، وهذا أمر راتب، وراتم، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها، وأغبطت الحمى، وأغمطت.
وقيل: إنها اسم لبطن مكة، ومكة اسم لكل البلد.
وقيل: إنها اسم لمكان البيت.
وقيل: إنها اسم للمسجد نفسه، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو: الازدحام إنما يحصل عند الطواف، يقال: تباكَّ الناسُ - أي: ازْدَحموا، ويُفْسِد هذا القولَ أن يكون الشيء ظرفاً لنفسه، كذا قال بعضهم، وهو فاسد، لأن البيت في المسجد حقيقةً.
وقال الأكثرون: بكة: اسم للمسجد والمطاف، ومكة: اسم البلد، لقوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} فدل على أن البيت مظروف في بكة، فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكةَ ظرفاً له.
وسميت بكة؛ لازدحام الناس، قاله مجاهد وقتادة، وهو قول محمد بن علي الباقر.
وقال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي، فمرت امرأة بين يديه، فذهبت أدْفَعها، فقال: دعها، فإنها سُمِّيَتْ بكةَ، لأنه يبكُّ بعضُهم بعضاً، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي، ولا بأس بذلك هنا.
وقيل: لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة - أي: تدقها.
قال قطرب: تقول العرب: بَكَكْتهُ، أبُكُّهُ، بَكًّا، إذا وضعت منه.(5/397)
وسميت مكة - من قولهم: مَكَكْتُ المخ من العظم، إذا تستقصيته ولم تترك فيه شيئاً.
ومنه: مَكَّ الفصيل ما في ضَرْعِ أمِّه - إذا لم يترك فيه لبناً، ورُويَ أنه قال: «لا تُمَكِّكُوا عَلَى غُرَمَائِكُمْ» .
وقيل: لأنها تَمُكُّ الذنوبَ، أي: تُزيلها كلَّها.
قال ابن الأنباري: وسُمِّيَتْ مكة لِقلَّةِ مائِها وزرعها، وقلة خِصْبها، فهي مأخوذة من مكَكْت العَظْم، إذا لم تترك فيه شيئاً.
وقيل: لأن مَنْ ظَلَم فيها مَكَّهُ اللهُ، أي: استقصاه بالهلاك.
وقيل: سُمِّيت بذلك؛ لاجتلابها الناسَ من كل جانب من الأرض، كما يقال: امتكّ الفصيلُ - إذا استقصى ما في الضَّرْع.
وقال الخليل: لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم.
وقيل: لأن العيونَ والمياه تنبع من تحت مكة، فالأرض كلها تمك من ماء مكة، والمكوك: كأس يشرب به، ويُكال به - ك «الصُّوَاع» .
قال القفال: لها أسماء كثيرة، مكة، وبكة، وأمّ رُحْم، - بضم الراء وإسكان الحاء - قال مجاهد: لأن الناس يتراحمون فيها، ويتوادَعُون - والباسَّة؛ قال الماوَرْدِي: لأنها تبس من الْحَد فيها، أي: تُحَطِّمه وتُهْلكه، قال تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} [الواقعة: 5] .
ويروى: الناسَّة - بالنون - قال صاحبُ المطالع: ويقال: الناسَّة - بالنون -. قال الماوَرْدِيُّ: لأنها تنس من ألحد فيها - أي: تطرده وتَنْفِيه.
ونقل الجوهري - عن الأصمعي -: النَّسّ: اليبس، يُقال: جاءنا بخُبْزَة ناسَّة، ومنه قيل لمكةَ: الناسَّة؛ لقلة مائها.
والرأس، والعرش، والقادس، والمقدَّسة - من التقديس - وصَلاَحِ - بفتح الصاد وكسر الحاء - مبنيًّا على الكسر كقَطَامِ وحَذَامِ، والبلد، والحاطمة؛ لأنها تحطم من استخَفَّ بها، وأم القرى؛ لأنها أصل كل بلدة، ومنها دحيت الأرض، ولهذا المعنى تُزَار من جميع نواحي الأرض.
فصل
الأوَّلُ: هو الفرد السابق، فإذا قال: أوَّلُ عبد أشتريه فهو حُرّ، فلو اشترى عبدَيْن في المرة الأولى لم يُعْتَقْ واحدٌ منهما؛ لأن الأول هو الفرد، ثم لو اشترى بعد ذلك ما شاء لم يعتق؛ لأن شرط الأوَّليَّة قد عُدِمَ.(5/398)
إذا عُرِفَ هذا، فقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} لا يدل على أنه أوَّلُ بَيْتٍ خلقه الله تعالى، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض، بل يدل على أنه أول بيت وُضِعَ للناس، فكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس، وكونه مشتركاً فيه بين كل الناس، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضعاً للطاعات، وقِبْلَةً للخلق، فدلَّت الآية على أن هذا البيت وَضَعه الله - تعالى - للطاعات والعبادات، فيدخل فيه كونه قِبْلَةً للصلوات، وموضِعاً للحجِّ.
فإن قيل: كونه أولاً في هذا الوَصْف يقتضي أن يكون له ثانٍ، فهذا يقتضي أن يكون بيتُ المقدس يشاركه في هذا الصفات، التي منها وجوبُ حَجِّه، ومعلوم أنه ليس كذلك.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن لفظ «الأوًّل» - في اللغة - اسم للشيء الذي يُوجَد ابتداءً، سواء حصل بعده شيء آخرُ، أو لم يحصل، يقال: هذا أول قدومي مكة، وهذا أول مال أصَبْتُه، ولو قال: أول عبدٍ أملكه فهو حُرٌّ، فملك عبداً عُتِق - وإن لم يملك بعده آخر - فكذا هنا.
الثاني: أن المراد منه: أول بيت وُضِع لطاعات الناس وعباداتهم، وبيت المقدس يُشاركه في كونه موضوعاً للطاعاتِ والعباداتِ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِد الْحَرَامِ، والمسْجِدِ الأقْصَى، ومَسْجِدِي هَذَا» ، وهذا القدر يكفي في صدق كَوْنِ الكعبةِ أول بيتٍ وضع للناس، فأما أن يكون بيتُ المقدسِ مشاركاً له في جميع الأمور، حتى في وجوبِ الحَجِّ، فهذا غير لازم.
فصل
قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ} يحتمل أن يكون المراد: أنه أول في الموضع والبناء، وأن يكون أولاً في كونه مباركاً وهُدًى، وفيه قولان للمفسرين.
فعلى الأول فيه أقوال:
أحدها: روى الواحدي في البسيط عن مجاهد أنه قال: خلق الله البيت قبل أن يخلقَ شيئاً من الأرضين.
وفي رواية: «خَلَقَ اللهُ مَوْضِعَ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ أنْ يَخْلُق شَيْئاً مِنَ الأرضِينَ بِألْفي سَنَةٍ، وَإنَّ قَوَاعِدَه لَفِي الأرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى» .
وروى النووي - في مناسكه - عن الأزْرَقِي - في كتاب مكة - عن مجاهد قال: إن هذا البيتَ أحد أربعة عشر بيتاً، في كل سماء بيتٌ، وفي كل أرض بيت، بعضهن مقابل بعض.
وروى أيضاً عن علي بن الحُسَيْن بن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - عن(5/399)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الله - تعالى - قال: «إنَّ اللهَ بَعَثَ مَلاَئكةً، فَقَالَ: ابْنُوا لِي فِي الأرْضِ بَيْتاً عَلَى مِثَالِ البَيْتِ المَعْمُورِ، فبنوا له بيتاً على مثالِه، واسْمُه الضُّرَاح، وَأمَرَ اللهُ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ - الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الأرْضِ - أنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ المَعْمُورِ وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِألفَيْ عَامٍ وَكَانُوا يَحُجُّونَهُ، فَلَمَّا حَجَّه آدَمُ، قَالَتِ المَلاَئِكَةُ: بَرَّ حَجُّك، حَجَجْنَا هَذَا البَيْتَ قَبْلَكَ بِألْفَي عَامٍ» ورُوِي عن عبد الله بن عمر ومجاهد والسُّدِّيّ: أنه أول بيت وُضِعَ على وجه الماء، عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه الله قبل خلق الأرض بألفي عام، وكان زَبَدَةً بيضاء على الماء، ثم دُحِيَت الأرض من تحته.
قال القفال في تفسيره: روى حَبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس، قال، وُجِدَ في كتاب - في المقام، أو تحت المقام - أنا الله، ذو بكَّةَ، وضعتُها يومَ وضعتُ الشمسَ والقمرَ، وحرَّمْتُها يوم وَضَعْتُ هذين الحجرَيْن وحفَفْتُها بسبعة أملاك حُنَفَاء.
روي: أن آدم لما أهْبِط إلى الأرض شكا الوحشةَ، فأمره الله - تعالى - ببناء الكعبةِ، وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلَمَّا أرسلَ اللهُ الطوفانَ، رفع البيت إلى السماء السابعة - حيال الكعبة - تتعبد عنده الملائكة، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف مَلَك، سوى مَنْ دخل قبلُ فيه، ثم بعد الطوفان اندرس موضعُ الكعبةِ، وبقي مُخْتَفِياً إلى أن بعث الله جبريلَ إلى إبراهيم، ودلَّه على مكان البيت، وأمره بعمارته.
قال القاضي: القول بأنه رُفِع - زمانَ الطوفان - إلى السماء بعيد؛ لأن موضِعَ التشريف هو تلك الجهة المعينة، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء، ألا ترى أن الكعبة لو انهدمت - والعياذ بالله - ونُقِلت الحجارة بعد الانهدام، ويجب على كل مسلم أن يُصَلِّيَ إلى تلك الجهةِ بعينها، وإذا كان كذلك، فلا فائدة في رفع تلك الجدرانِ إلى السماء.
انتهى.
فدلت هذه الأقوال المتقدمة على أن الكعبة، كانت موجودةً في زمان آدم - عليه السلام - ويؤيده أن الصلوات كانت لازمةً في جميع أديان الأنبياء، لقوله: {أولئك الذين(5/400)
أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] .
ولما كانوا يسجدون لله، فالسجود لا بد له من قِبْلَةٍ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} ، فدلَّ ذلك على أن قبلةَ أولئك الأنبياء هي الكعبةُ.
القول الثاني: أنَّ المرادَ بالأوليَّةِ: كونه مباركاً وهدًى، قالوا: لأنه رُوِي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُئِلَ عن أول مسجد وُضِعَ للنَّاس، فقال: «المَسْجِدُ الحَرَامُ، ثُمَّ بَيْتُ المَقْدسِ، فَقِيلَ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قال: أرْبَعُونَ سَنَةً، وأينما أدْرَكَتْك الصلاةُ فَصَلِّ فهو مسجدٌ» .
وعن علي: أن رجلاً قال له: هو أول بيتٍ؟ قال: لا، كان قبلَه بيوتٌ، أول بيت وُضِعَ للناس، مباركاً، فيه الهُدَى والرحمةُ والبركةُ، أول مَنْ بناه إبراهيم، ثم بتاه قوم من العرب من جُرْهُم، ثم هُدِم، فبنته العمالقةُ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح، ثم هدم فبناه قريش. ودلالة الآية على الأولية في الشرف أمر لا بد منه؛ لأن المقصود الأصلي من هذه الأولية ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأوليةِ في الفضيلةِ والشرفِ، ولا تأثيرَ للأوليَّة في البناء في هذا المقصودِ، إلا أن ثبوتَ الأوليةِ بسبب الفضيلةِ لا ينافي ثبوتَ الأولية في البناء.
فصل في بيان فضيلته
اتفقتِ الأمَمُ على أن باني هذا البيت هو الخليل - عليه السلام - وباني بيت المقدس سليمان - عليه السلام - فمن هذا الوجه، تكون الكعبة أشرف، فكان الآمر بالعمارة هو الله، والمبلغُ والمهندسُ جبريل، والبانِي هو الخليلَ، والتلميذُ المُعِينُ هو إسماعيل؛ فلهذا قيل: ليس في العالم بِنَاءٌ أشرف من الكعبة.
وأيضاً مقام إبراهيم، وهو الحَجَر الذي وَضَع إبراهيمُ قدمه عليه، فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم من ذلك الحجر - دون سائر أجزائه - كالطين، حتى غاصَ فيه قدمُ إبراهيم من ذلك الحَجَر، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يُظْهِره إلا على الأنبياء، ثم لمَّا رفع إبراهيمُ قدمه عنه، خلق اللهُ فيه الصلابة الحجريَّةَ مرةً أخرى، ثم إنه أبْقَى ذلك الحجرَ على سبيل الاستمرار والدوام، فهذه أنواع من الآيات العجيبة، والمعجزات الباهرةِ.
وأيضاً قلّة ما يجتمع من حَصَى الجمار فيه، فإنه منذ آلاف السنين، وقد يبلغ من يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاةً، ثم لا يُرَى هناك إلا ما لو اجتمع في سنةٍ واحدةٍ لكان غير كثير، وليس الموضع الذي تُرْمَى إليه الجمرات مَسِيل ماء، ولا مَهَبَّ رِياحٍ شديدةٍ، وقد جاء في الأثر: أن مَنْ قُبِلَتْ حَجَّتُهُ رُفِعَتْ جَمَرَاتُهُ إلى السَّمَاءِ.(5/401)
وأيضاً فإن الطيور لا تمر فوقَ الكعبةِ عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنه إذا وصلت إلى ما فوقه.
وأيضاً فالوحوش إذا اجتمعت عنده لا يُؤذي بعضُهم بعضاً - كالكلاب والظباء - ولا يصطاد فيه الظباءَ الكلاب والوحوشُ، وتلك خاصِّيَّةٌ عظيمةٌ، ومن سكن مكة أمِن من النهب والغارة، بدعاء إبراهيمَ وقوله:
{رَبِّ
اجعل
هذا
البلد آمِناً} [إبراهيم: 35] ، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] ، وقال: {رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] .
وأيضاً فالأشرم - صاحب الفيل - لما قاد الجيوش والفيل إلى الكعبة، وعجز قريش عن مقاومته، وفارقوا مكةَ وتركوا له الكعبة، فأرسلَ الله - تعالى - عليهم طيراً أبابيلَ، ترميهم بحجاةٍ، والأبابيل: هم الجماعة من الطير بعد الجماعة، وكانت صِغَاراً، تحمل أحجاراً ترميهم بها، فهلك الملك والعسكر بتلك الأحجار - مع أنها كانت في غاية الصغَر - وهذه آيةٌ باهرةٌ دالةٌ على شرف الكعبة.
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله - تعالى - وَضَعَها بوادٍ غيرِ ذِي زرع؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه - تعالى - قطع بذلك رجاءَ أهل حَرَمه وسَدَنَةِ بيته عَمَّنْ سواه، حتى لا يتكلوا إلا على الله تعالى.
وثانيها: أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة، فإنهم يُحبُّونَ طيبات الدنيا، فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضِعَ، والمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا.
وثالثها: أنه فعل ذلك؛ لئلا يقصدها أحدٌ للتجارة، بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة.
ورابعها: أن الله - تعالى - أظهر بذلك شَرَف الفَقْر، حيث وَضَعَ أشرف البيوت، في أقل المواضع نصيباً من الدنيا، فكأنه قال: جعلت أهل الفقر في الدنيا أهل البلد الأمينَ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين، لهم في الدنيا بيتُ الأمْن، وفي الآخرة دارُ الأمْن.
فسل
للكعبة أسماء كثيرة:
أحدها: الكعبة، قال تعالى: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97] ، وهذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع، وسمي الكعب كعباً؛ لإشرافه على الرسغ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً لارتفاع ثدييها، فلما كان هذا البيت أشرف(5/402)
بيوت الأرض، وأقدمها زماناً، سُمي بهذا الاسم.
وثانيها: البيت العتيق، قال تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] وسُمي العتيقَ؛ لأنه أقدم بيوت الأرض.
وقيل: لأنه خُلِق قبل الأرض والسماء؛ وقيل: لأن الله - تعالى - أعْتَقَه من الغَرَق.
وقيل: لأن كُلَّ من قَصَد تخريبه أهلكه الله - مأخوذ من قولهم: عتق الطائر - إذا قَوِي في وَكْرِه.
وقيل: لأن كل من زَارَه أعتقه اللهُ من النار.
وثالثها: المسجد الحرام، قال تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] وسُمِّيَ بذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في خطبته - يوم فتح مكة -: «ألاَ إنَّ اللهَ حرَّم مكّة يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَد شَجَرُها ولا يختلى خلاؤها، ولا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلا لمُنْشِدها» .
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} [الحج: 26] ، وقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] فهناك أضافه إلى نفسه، وهنا أسندَه إلى الناس؟
فالجواب: كأنه قال: البيت لي، ولكن وضعته ليكون قبلة للناس.
قوله: {مُبَارَكاً وَهُدًى} حالان، إما من الضمير في «وُضِعَ» كذا أعربه أبو البقاء وغيره، وفيه نظر؛ من حيث إنه يلزم الفصل بين الال بأجنبيّ - وهو خبر «إنَّ» - وذلك غير جائز؛ لأن الخبر معمول ل «إنَّ» فإن أضمرت عاملاً بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال، وكان تقديره: أول بيت وُضِعَ للناس للذي ببكة وُضِعَ مباركاً، والذي حمل على ذلك ما يُعْطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضِعَ أولاً بقيد هذه الحال.
وإما أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في «بِبَكَّةَ» أي استقر ببكة في حال بركته، وهو وجه ظاهر الجواز. والظاهر أن قوله: «وَهُدًى» معطوف على «مُبَارَكاً» والمعطوف على الحال حال.
وجوز بعضهم أن يكونَ مرفوعاً، على أنه خبر مبتدأ محذوف - أي: وهو هدى - ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار.
والبركة: الزيادة، يقال: بارك الله لك، أي: زادك خيراً، وهو مُتَعَدٍّ، ويدل عليه قوله تعالى: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] و «تبارك» لا يتَصَرف، ولا يُستعمل إلا مُسْنداً لله تعالى، ومعناه - في حقه تعالى -: تزايد خيرُه وإحسانه.
وقيل: البركة ثبوت الخير، مأخوذ من مَبْرَك البعير.(5/403)
وإما من الضمير المستكن في الجار وهو «ببكة» لوقوعه صلة، والعامل فيها الجار وبما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك. و «للعالمين» كقوله: «للمتقين» أول البقرة.
فصل
البركة لها معنيان.
أحدهما: النمو والتزايُد.
والثاني: البقاء والدوام، يقال: تبارك الله؛ لثبوته ولم يزل ولا يزال.
والبركة: شبه الحوض؛ لثبوت الماء فيها، وبَرَكَ البعير إذا وضع صَدْرَه على الأرض وثَبت واستقرَّ، فإن فسرنا البركة بالنمو والتزايد، فهذا البيت مبارَك فيه من وجوه:
أحدها: أن الطاعات يزداد ثوابُها فيه؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فَضْلُ المَسْجِدِ الحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِي فَضْلُ مَسْجِدِي عَلَى سَائِرِ المَسَاجِدِ» ، ثُمَّ قال: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ» هذا في الصلاة، وأمَّا في الحج فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، ولَمْ يَرْفُثْ، ولم يَفْسُق، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِِ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أمُّهُ» ، وفي حديث آخر: «الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةَ» ، ومعلوم أنه لا أكثر بركةً مما يجلب المغفرة والرحمة.
ثانيها: قال القَفَّالُ: ويجوز أن يكون بركته، ما ذكر في قوله تعالى:
{يجبى
إِلَيْهِ
ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً} [القصص: 57] فيكون كقوله: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] .
وثالثها: أن العاقل يجب أن يستحضرَ في ذهنه أنَّ الكعبةَ كالنقطة، وليتصور أن صفوف المتوجهين في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة، ولا شكَّ أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم عُلْويَّة، وقلوبهم قدسية، وأسرارهم نورانية، وضمائرهم ربانية، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة، وأجسادهم توجَّهت إلى هذه الكعبة الحسية، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه، ويَعْظُم لمعان الأضواء الروحانية في سِرِّه، وهذا بَحْرٌ عظيم، ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً. وإن فسرنا البركةَ بالدوام فالكعبة لا تنفك من الطائفين والراكعين والساجدين والعاكفين. وأيضاً فالأرض كرة، وإذا كان كذلك فكل زمان يُفْرَض فهو صُبْح لقوم، وظهر لآخرين، وعَصر لثالث، ومغرب لرابع، وعشاء لخامس، وإذا كان الأمر كذلك، لم تنفك الكعبةُ عن توجُّه قوم إليها من(5/404)
طرَفٍ من أطراف العالم؛ لأداء فرض الصلاة، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألُوفاً من السنين دوام - أيضاً -.
وأما كونه هدًى للعالمين، فقيل: لأنه قبلة يهتدون به إلى جهة صلاتهم.
وقيل: هُدًى، أي: دلالة على وجود الصانع المختار، وصدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النبوة، بما فيه من الآيات والعجائب التي ذكرناها.
وقيل: هُدًى للعالمين إلى الجنة؛ لأن من أقام الصلاة إليه استوجب الجنة.
قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال، إما من ضمير «وُضِعَ» وفيه ما تقدم من الإشكال.
وأمَّا من الضمير في «بِبَكَّةَ» وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال الذي حالٍ واحدٍ.
وإما من الضمير في «للعالمِينَ» ، وإما من «هُدًى» ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «مُبَارَكاً» .
ويجود أن تكون الجملة في محل نصب؛ نعتاً لِ «هُدًى» بعد نعته بالجار قبله. ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، وإنما جِيء بها بياناً وتفسيراً لبركته وهُداه، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط، و «آياتٌ» مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها: أن تكون مفردة، فما قَرُب منها كان أولى، والجار قريب من المفرد، ولذلك تقدَّكم المفردُ، ثم الظرفُ، ثم الجملة فيما ذكرنا، وعلى ذلك جاء قوله تعالى:
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] ، فقدم الوصف بالمفرد «مُؤمِنٌ» ، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] ، وثلَّث بالجملة وهي {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} وقد جاء في الظاهر عكس هذا، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - عند قوله: {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ} [المائدة: 45] .
قوله: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فيه أوْجُه:
أحدها: أن «مَقَام» : بدل من «آيَاتٌ» وعلى هذا يقال: إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع، فتقول: مررت برجال زيد وعمرو وبكر؛ لأن أقل الجمع - على الصحيح - ثلاثة، فإن لم يُوَفِّ، قالوا: وجب القطع عن البدلية، إما إلى النصب بإضمار فِعْل، وإما إلى الرفع، على مبتدأ محذوف الخبر، كما تقول - في المثال المتقدم - زيداً وعمراً، أي: أعني زيداً وعمراً، أو زيد وعمرو، أي: منهم زيد وعمرو.
ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني: [الطويل](5/405)
1539 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أبينُهُ ... وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ
على القطع المتقدم، أي: فمنها رمادٌ ونؤي، وكذا قوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج: 17 - 18] أي: أعني فرعون وثمود، أو أذُمّ فرعونَ وثمودَ، على أنه قد يُقال: إن المراد بفرعون وثمودَ؛ هما ومَنْ تبعهما من قومهما، فذكرهما وافٍ بالجمعيَّةِ.
وفي الآية الكريمة - هنا - لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان: المقام، وأمن داخله، فكيف يكون بَدَلاً؟
وهذا الإشكال - أيضاً - وارد على قول مَنْ جعلَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هي مقام إبراهيم، فكيف يُخْبِر عن الجمع باثنين؟
وفيه أجوبة:
أحدها: أن أقلَّ الجمع اثنان - كما ذهب إليه بعضهم.
قال الزمخشري: ويجوز أن يُراد: فيه آيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله؛ لأن الاثنين نَوْعٌ من الجَمْع، كالثلاثة والأربعة، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» .
قال الزجَّاج: ولفظ الجمع قد يُستعمل في الاثنين، قال تعالى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] .
وقال بعضهم: تمام الثلاة قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} وتقدير الكلام: مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمناً، وأن لله على الناس حَجَّ البيت، ثم حذف «أن» اختصاراً، كما في قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط} [الأعراف: 29] أي: أمر ربي أن اقسطوا.
الثاني: أن {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يشتمل على آياتٍ كثيرةٍ، بمعنيين:
أحدهما: أن أثر القدمين في الصخرة الصَّمَّاء آية، وغَوصَهما فيها إلى الكعبين آية أخْرَى؛ وبعض الصخرة دون بعض آيةٌ، وإبقاؤه على مر الزمان، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية، قال معناه الزمخشري.
وثانيهما: أن {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} بمنزلة آيات كثيرة؛ لأن كل ما كان معجزةً لنبيٍ فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته، وكونه غنيًّا مُنَزَّهاً، مقدَّساً عن مشابهة المحدثات، فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه(5/406)
الكثيرة كان بمنزلة الآيات، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل: 120] ، قاله ابنُ الخطيب.
الثالث: أن يكون هذا من باب الطَّيّ، وهو أن يُذْكَرَ جَمْعٌ، ثم يُؤتَى ببعضه، ويُسْكَت عن ذِكْر باقيه لغرض للمتكلم، ويُسَمَّى طَيًّا.
وأنشد الزمخشري عليه قول جرير: [البسيط]
1540 - كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمُ ... مِنَ الْعَبِيدِ، وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
وأورد منه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حُبِّبَ إليّ مِنْ دُنْيَاكُم ثَلاثٌ: الطيبُ والنِّسَاءُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي فِي الصلاة» ذكر اثنين - وهما الطيب والنساء - وطَوَى ذِكْر الثالثة.
لا يقال إن الثالثة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «جعلت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ» لأنها ليست من دنياهم، إنما هي من الأمور الأخروية.
وفائدة الطَّيّ - عندهم - تكثير ذلك الشيء، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال: وكثير سواهما.
وقال ابنُ عطية: «والأرجح - عندي - أن الماقم، وأمن الداخل، جُعِلاَ مثالاً مما في حرم الله - تعالى - من الآيات، وخُصَّا بالذِّكْر؛ لِعِظَمِهِمَا، وأنهما تقوم بهما الحُجَّةُ على الكفَّار؛ إذْ هم مدركون لهاتين الآيتين بِحَوَاسِّهم» .
الوجه الثاني: أن يكون {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} عطف بيان، قاله الزمخشري.
ورَدَّ عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفاً وتنكيراً، فقال: وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين، فلا يلتفت إليه، وحُكْم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت، فيُتْبعون النكرة نكرة، والمعرفة معرفة، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما البصريون، فلا يجوز - عندهم - إلا أن يكونا معرفتين، ولا يجوز أن يكونا نكرتين، وكل شيء أورده الكوفيون مما يُوهِم جوازَ كونه عطفَ بيان جعله البصريون بَدَلاً، ولم يَقُمْ دليل للكوفيين؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله - عند قوله: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] وقوله: {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35] ، ولما أوّل الزمخشريُّ مقام إبراهيم وأمن داخله - بالتأويل المذكور - اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع - وأجاب بما تقدم، واعترض - أيضاً - على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان(5/407)
للأسماء المفردةِ؟ فقال: «فإن قلتَ: كيف أجَزْت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات. وقوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} جملة مستأنفة، إما ابتدائية وإما شرطية؟
قلت: أجَزْت ذلك من حيث المعنى؛ لأن قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} دل على أمْن مَنْ دخله، وكأنه قيل: فيه ىيات بيِّنات مقام إبراهيم وأمن من دخله، ألا ترى أنك لو قلت: فيه آية بينة، مَنْ دخله كان آمناً صَحَّ؛ لأن المعنى: فيه آية بينة أمن مَنْ دخله» .
قال أبو حيان: «وليس بواضح؛ لأن تقديره - وأمنَ الداخل - هو مرفوع، عطفاً على» مَقَام إبراهيم «وفسر بهما الآيات، والجملة من قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} لا موضع لها من الإعراب، فتدافعا، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف، يدل عليه ما بعده، فيمكن التوجيه، فلا يجعل قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} في معنى: وأمن داخله، إلا من حيث تفسير المعنى، لا تفسير الإعراب» .
قال شهاب الدين: «وهي مُشَاحَّةٌ لا طائلَ تحتَها، ولا تدافع فيما ذكر؛ لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفُها عليه» .
الوجه الثالث: قال المبرد: «مَقَامُ» مصدر، فلم يُجْمَع، كما قال: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] والمراد: مقامات إبراهيم، وهي ما أقامه إبراهيم من أمور الحج، وأعمال المناسك، ولا شك أنها كثيرة، وعلى هذا، فالمراد بالآيات: شعائر الحج، كما قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله} [الحج: 32] .
الوجه الرابع: أن قوله: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} خبر مبتدأ مضمر، تقديره: أحدها، أي: أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم، أو مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: منها، أي: من الآيات البيِّنات «مقام إبراهيم» .
وقال بعضهم: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} لا تعلُّقَ له بقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} ، فكأنه - تعالى - قال: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} ومع ذلك فهو {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} ومَقَرُّه، والموضع الذي اختاره، وعَبَدَ الله فيه؛ لأن كل ذلك من الخِلال التي بها تَشَرَّف وتَعَظَّم.
وقرأ أبَيّ وعُمَر وابنُ عباس ومُجَاهِدٌ وأبو جعفر المديني - في رواية قتيبة - آية بيِّنة - بالتوحيد، وتخريج «مَقَامُ» - على الأوجه المتقدِّمة - سَهْل، من كونه بدلاً، أو بياناً - عند الزمخشري - أو خبر مبتدأ محذوف وهذا البدل متفق عليه؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرة مطلقاً، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وَصْفها، وقد وُصِفَتْ.
فصل
قال المفسرون: الآيات منها مقام إبراهيم، وهو الحَجَر الذي وضعه إبراهيم تحت(5/408)
قدميه، لمَّا ارتفع بنيان الكعبة، وضَعُفَ إبراهيم عن رَفْع الحجارة، قام على هذا الحجر، فغاصت فيه قدماه.
وقيل: إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قَدْ حلف لامرأته أن لا ينزلَ بمكة حتى يرجع، فَلَمَّا رجع إلى مكة قالت له أم إسماعيل: انزل حتى تغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر، فوضعته على الجانب الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه، ثم حولته إلى الجانب الأيسر، حتى غسلت الجانبَ الآخرَ، فبقي أثرُ قدميه عليه، فاندرس من كَثْرَةِ المَسْحِ بالأيدي.
وقيل: هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم - عليه السلام - عند الأذان بالحج.
قال القفّال: «ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلِّها» .
وقيل: مقام إبراهيم؛ هو جميع الحرم، كما تقدم عن المبرد.
ومن الآيات - أيضاً - الحجر الأسود، وزمزم، والحطيم، والمشاعر كلها.
ومن الآيات ما تقدم ذكره من أمر الطير والصيد، وأنه بلد صدر إليها الأنبياء والمرسلون، والأولياء والأبرار، وأن الطاعة والصدقة فيه، يُضاعف ثوابُها بمائة ألف.
والمقام هو في المسجد الحرام، قُبالَة باب البيت.
وروي عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا: الحجر الأسود، والمقام من الجنة.
قال الأزرقي: ذرع المقام ذراع، وسعة أهلاه أربعة عشر إصْبَعاً في أربعة عشر إصبعاً، ومن أسفله مثل ذلك، وفي طرفيه - من أعلاه وأسفله - طوقان من ذهب، وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز، لا ذهب عليه، طوله من نواحيه كلها تِسعة أصابع، وعرضه عشر أصابع في عشر أصابع طولاً، وعرض حجر المقام من نواحيه، إحدى وعشرون إصبعاً، ووسطه مربع، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع، ودخولهما منحرفتان، وبين القدمين من الحجر أصبعان، ووسطه قد استدق من التمسُّح به، والمقام في حوض من ساج مربع، حوله رصاص، وعلى الحوض صفائح رصاص ليس بها، وعلى المقام صندوق ساج مسقف، ومن وراء المقام ملبن ساج في الأرض، في ظهره سلسلتان يدخلان في أسفل الصندوق، فيقفل عليهما قفلان، وهذا الموضع فيه المقام اليوم، وهو الموضع الذي كان فيه في زمن الجاهلية، ثم في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبعده، ولم يُغَيَّر موضعه، إلا أنه جاء سَيْل في زمن عمر بن الخطاب - يقال له: سيل أم نهشل؛ لأنه ذهب بأمِّ نَهْشَلٍ بِنْتِ عُبَيْدَةَ بْنِ أبِي رُجَيْحَة، فماتت، فاحتمل ذلك السيل المقام من موضعه هذا، فذهب به إلى أسفل مكة فأتي به، فربطوه في أستار الكعبة - في(5/409)
وجهها - وكتبوا بذلك إلى عمر، فأقبل عمر من المدينة فزعاً، فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غُبِّيَ موضعُه، وعفاه السيل، فجمع عمر الناس، وسألهم عن موضعه، وتشاوروا عليه حتى اتفقوا على موضعه الذي كان فيه، فجعله فيه، وعمل عمر الردم، لمنع السيل، فلم يعله سيل بعد ذلك إلى الآن.
ثم بعث أمير المؤمنين المهدي ألف دينار ليضبّبوا بها المقام - وكان قد انثلم - ثم أمَرَ المتوكل أن يجعل عليه ذهب فوق ذلك الذهب - أحْسِنْ بذلك العمل - فعمل في مصدر الحاج سنة ست وثلاثين ومائتين، فهو الذهب الذي عليه اليوم، وهو فوق الذي عمله المهدي.
فصل
قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} .
قال الحسن وقتادة: كانت العرب - في الجاهلية - يقتل بعضهم بعضاً، ويُغير بعضهم على بعض، ومن دخل الحرم أمِنَ مِن القتل والغارة، وهذا قول أكثر المفسرين، لقوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] .
وقيل: أراد به أن مَنْ دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان آمِناً، كما قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] .
وقال الضَّحَّاكُ: من حَجَّه كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
وقيل: معناه من دَخَلَه مُعَظِّماً له، متقرِّباً إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - كان آمناً يوم القيامة من العذاب.
وقيل: هو خبر بمعنى الأمر، تقديره: ومن دخله فأمِّنوه، كقوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} [البقرة: 197] ، أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا.
فصل
قال أبو بكر الرازي: لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} موجودة في جميع الحرم، ثم قال: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ، وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وأجمعوا على أنه لو قَتَل في الحرم، فإنه يُسْتَوْفَى القصاص منه في الحرم، وأجمعوا على أن الحرَم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم، فالتجأ إلى الحرم، فهل يُستوفى منه القصاص في الحرم؟
فقال الشافعي: يستوفى.(5/410)
وقال أبو حنيفة: لا يستوفى، بل يمنع منه الطعام، والشراب، والبيع والشراء، والكلام حتى يخرج، ثم يستوفى منه القصاصُ، واحتج بهذه الآية فقال: ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمِناً، ولا يُمكن حمله على الخبر؛ إذْ قد لا يصير آمِناً في حق مَنْ أتى بالجناية في الحَرَم، وفي القصاص فيما دون النفس، فوجب حمله على الأمر، وتركنا العمل به في الجناية التي دون النفس؛ لأن الضرر فيها أخف من ضرر القتل، وفي القصاص بالجناية في الحرم؛ لأنه هو الذي هتك حُرْمة الحَرَم، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية.
وأجي ببأنَّ قوله: {كَانَ آمِناً} إثبات لمُسَمَّى الآية، ويكفي في العمل به، في إثبات الأمن من بعض الوجوه، ونحن نقول به، وبيانه من وجوه:
الأول: أن من دخله للنُّسُكِ، تقرُّباً إلى الله تعالى، كان آمِناً من النار يوم القيامة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مكةَ سَاعةً من نَهَارِ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ مِائَتَيْ عَامٍ» ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يفْسقْ خَرَجَ من ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّه» .
الثاني: يحتمل أن يكونَ المراد: ما أودعه الله في قلوب الخَلْق من الشفقة على كل من التجأ إليه، ودفع المكروه عنه، ولما كان المر واقعاً على هذا الوجه - في الأكثر - أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً، وهذا أولى مما قالوه، لوجهين:
الأول: أنا - على هذا التقدير - لا نجعل الخبر قائماً مقامَ الأمر، وهم جعلوه قائماً مقامَ الأمر.
الثاني: أنه - تعالى - إنما ذكر هذا، لبيان فضيلةِ البيتِ، وذلك إنما يحصل بشيءٍ كان معلوماً للقوم حتى يصيرَ ذلك حجةً على فضيلة البيت، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإنه لا يصير ذلك حجةً على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة.
الوجه الثالث: قد تقدم أن هذا إنما ورد في عمرة القضاء.
الرابع: ما تقدم - ايضاً - عن الضَّحَّاكِ أنه يكون آمِناً من الذنوب التي اكتسبها.
وملخّص الجواب: أنه حكم بثبوت الأمن، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من وَجْهٍ وَاحدٍ، وفي صورة واحدة، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى(5/411)
هذا النَّصّ، فلا يبقى في النص دلالة على قولهم، ويتأكد هذا بأن حمل النَّصِّ على هذا الوجه، لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص، وحمله على ما قالوه يُفْضِي إلى ذلك، فكان قولُنا أوْلَى.
قوله: «ولله على الناس حج البيت» لمَّا ذكر فضائلَ البيت ومناقبه، أردفه بذكر إيجاب الحج إليه.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «حِجّ البيت» - بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة، وتقدم في البقرة في الشاذ بكسر الحاء - وتقدم هنا اشتقاق المادة - والباقون بفتحها - وهي لغة أهل الحجاز والعالية والكسر لغة نجد؛ وهما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رَطل ورِطل، وبَذْر وبِذْر، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحدٍ.
وقيل: المكسور اسم للعمل، والمفتوح المصدر.
وقال سيبويه: يجوز أن تكون المكسورة - أيضاً - مصدراً كالذِّكر والعِلْم.
فصل
الحج أحد أركان الإسلام؛ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَة أنْ لاَ إله إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وإقَامِ الصَّلاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رمضانَ، وحَجَّ البيتِ لمن اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً» .
ويشترط لوجوبه خمسة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحُرِّيَّة، والاستطاعة.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن الكُفَّارَ مخطبون بفروع الإسلام؛ لأن ظاهر قوله تعالى {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعم المؤمنَ والكافرَ، وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً، ومخصِّصاً، لهذا العموم؛ لأن الدهريّ مكلَّف بالإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط لصحة الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، غير حاصل، والمُحْدِث مكلَّف بالصلاة، مع أن الوضوء الذي هو شرط لصحة الصلاة، غير حصل، لم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلَّفاً بالمشروط.
فكذا هاهنا.
فصل
قال القرطُبي: دلَّ الكتاب والسنة على أن الحَجَّ على التراخي، وهو أحد قولي مالك، والشافعي، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف في رواية عنه، وذهب بعض(5/412)
المتأخرين من المالكية إلى أنه على الفَوْر، وهو قول داود، والصحيح الأول؛ لأنَّ الله تعالى قال في سورة الحج -: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27] ، وسورة الحج مكيّة، وقال هاهنا: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة، سنة ثلاثٍ من الهجرة، ولم يحجّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى سنة عشر، وأجمع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج، إذا أخَّرَهُ عامداً.
فصل
روي أنه لما نزلت هذه الآيةُ قيل: يا رسولَ اللهِ، أكتبَ علينا الحَدُّ في كل عام؟ ذكروا ذلك ثلاثاً، فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم قال في الرابعة: «لَوْ قُلتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمتمُ بها، وَلَو لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ، ألا فَوَادِعونِي ما وَادَعْتُكم وَإذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ، وَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أمْرٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَفِهِمْ على أنْبِيَائِهِمْ» .
فصل
احتج العلماء بهذا الخبر، على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين:
الأول: أن الأمر ورد بالحج، ولم يُفِد التكرار.
والثاني: أن الصحابة استفهموا، هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما استفهموا مع علمهم باللغة.
قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فيه ستة أوجُه:
أحدها: أن «مَنْ» بدل من «النَّاس» بدل بعض من كل، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضميرٍ يعود على المُبْدَل منه، نحو: أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَه، وسُلِب زيدٌ ثوبُه، وهنا ليس من ضمير. فقيل: هو محذوف تقديره من استطاع منهم.
الثاني: أنه بدلُ كُلٍّ من كُلٍّ، إذ المراد بالناس المذكورين: خاصٌّ، والفرق بين هذا الوجه، والذي قبله، أن الذي قبله يقال فيه: عام مخصوص، وهذا يقال فيه: عامٌّ أريد به الخاص، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي.
الثالث: أنها خبر مبتدأ مُضْمَر، تقديره: هم من استطاع.
الرابع: أنها منصوبة بإضمار فعل، أي: أعني من استطاع. وهذان الوجهان - في الحقيقة - مأخوذان من وجه البدل؛ فإنَّ كل ما جاز إبداله مما قبله، جاز قطعه إلى الرفع، أو إلى النصب المذكورين آنفاً. الخامس: أن «مَنْ» فاعل بالمصدر وهو «حَدُّ» ، والمصدر مضاف لمفعوله، والتقدير: ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلاً البيت.(5/413)
وهذا الوجه قد رَدَّه جماعةٌ من حيث الصناعة، ومن حيث المعنى؛ أما من حيث الصناعة؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما، فإنما يُضَاف المصدر لمرفوعه - دون منصوبة - فيقال: يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً، ولو قلتَ: ضَرْبُ عمرٍو زيدٌ، لم يجزْ إلا في ضرورة، كقوله: [البسيط]
1541 - أفْتَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أفْوَاهُ الأبَارِيقِ
يروى بنصب «أفواه» على إضافة المصدر - وهو «قَرْع» - إلى فاعله، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله. وقد جوَّزَ، بعضُهم في الكلام على ضَعْفٍ، والقرآن لا يُحْمَل على ما في الضرورة، ولا على ما فيه ضعف، أمَّا من حيث المعنى؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم - مستطيعهم وغير مستطيعهم - بأن يحج مستطيعهم، فيلزم من ذلك تكليف غير المُسْتَطِيعِ بأن يَحُجَّ، وهو غير جائز - وقد التزم بعضُهم هذا، وقال: نعم، نقول بموجبه، وأن الله - تعالى - كلَّف الناسَ ذلك، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرضٌ واجب. و «مَنْ» - على هذه الأوجه الخمسة - موصولة بمعنى: الذي.
السادس: أنها شرطية، والجزاء محذوف، يدل عليه ما تقدم، أو هو نفس المتقدم - على رأي - ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على «النَّاسِ» ، تقديره: من استطاع منهم إليه سبيلاً فلله عليه.
ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده، وهو قوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} .
وقوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} جملة من مبتدأ - وهو {حِجُّ البيت} - وخبر - وهو قوله: «لله» - و «عَلَى النَّاسِ» متعلق بما تعلق به الخبر، أو متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار، والعامل فيه - أيضاً - ذلك الاستقرار المحذوف، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر، و «للهِ» متعلق بما تعلق به الخبر، ويمتنع فيه أن يكون حالاً من الضمير في «عَلَى النَّاسِ» وَإنْ كان العكس جائزاً - كما تقدم -.
والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي - بخلاف الظرف وحرف الجر، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي؛ للاتساع فيهما، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك، يجوز تقديمها على العامل(5/414)
المعنوي - إذا كانت هي ظرفاً، أو حرف جر، والعامل كذلك، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل. وقد جيء في هذه الآيات بمبالغاتٍ كثيرة.
منها قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعني: أنه حق واجب عليهم لله في رقابهم، لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عُهدته.
ومنها: أنه ذكر «النَّاسَ» ، ثم أبدل منهم {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، وفيه ضربان من التأكيد.
أحدهما: أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له.
والثاني: أن التفصيل بعد الإجمال، والإيضاح بعد الإبهام، إيراد له في صورتين مختلفتين، قاله الزمخشري، على عادة فصاحته، وتلخيصه المعنى بأقرب لفظ، والألف واللام في «البَيْتِ» للعهد؛ لتقدم ذكره، وهو أعلم بالغلبة كالثريا والصعيد. فإذا قيل: زار البيتَ، لم يَتَبَادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله.
وقال الشاعر: [الطويل]
1542 - لَعَمْرِي لأنْتَ الْبَيْتُ أكْرِمُ أهْلَهُ ... وَأقْعُدُ فِي أفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ
أنشد هذا البيت أبو حيان في هذا المعرض.
قال شهابُ الدين: «وفيه نظر، إذْ ليس في الظاهر الكعبة» .
الضمير في: «إلَيْهِ» الظاهر عوده على الحَجِّ؛ لأنه محدَّث عنه.
قال الفراء: إن نويت الاستئناف ب «مَنْ» كانت شرطاً، وأسقط الْجَزاء لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: من استطاع إلى الحج سبيلاً، فللَّه عليه حجُّ البيت.
وقيل: يعود على «الْبَيْتِ» ، و «إلَيْهِ» متعلق ب «اسْتَطَاعَ» ، و «سَبِيلاً» مفعول به؛ لأن استطاع متعدٍّ، ومنه قوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} [الأعراف: 197] ، إلى غير ذلك من الآيات.
فصل
قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ الاستطاعة بإزاء معنيين في القرآن:
الأول: سَعَةِ المال، قال تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] أي: سعة في المال ومنه قوله تعالى: {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة: 42] أي: لو وجدنا سعة في المال.
الثاني: بمعنى الإطاقة، قال تعالى: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء} [النساء: 129] ، وقال: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] .(5/415)
فصل
استطاعة السبيل إلى الشيء: عبارة عن إمكان الوصول إليه، قال تعالى: {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر: 1] ، وقال: {هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 44] .
قال عبد الله بن عمر: سأل رجلٌ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله، ما يُوجب الحَجَّ؟ فقال: «الزاد والراحلة، قال: يا رسول الله، فما الحاجّ؟ قال: الشعث، التَّفِل.
فقام آخر فقال: يا رسول الله، أيُّ الحج أفضل؟ فقال: الحج والثج، فقام آخر فقال: يا رسول ما السبيلُ؟ فقال:» زادٌ ورَاحِلةٌ «.
ويعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن، وزوال خَوف التلف من سبع، أو عدو، أو فُقْدان الطعام والشراب، والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد، والراحلة، ويقضي جميع الديون التي عليه، ويَرُدّ ما عنده من الودائع، ويضع عند مَنْ تجب عليه نفقته من المال، ما يكفيه لذهابه ومجيئه، هذا قول الأكثرين.
وروى القفال: عن جُوَيْبِر عن الضحاك أنه قال: إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال، فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه، فقال له قائل: أكلَّف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا، بل ينطلق إليه ولو حبواً، قال: فكذلك يجب عليه حجّ البيت.
وعن عكرمة - أيضاً - أنه قال: الاستطاعة هي: صحة البدن، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه؛ لأن الصحيح البدن، القادر على المشي إذا لم يجد ما يركبه يصدق عليه أنه مستطيع لذلك الفعل، فتخصيص الاستطاعة بالزاد والراحلة تَرْك لظاهر الآية، فلا بد من دليل منفصل، والأخبار المروية أخبار آحاد، فلا يُتْرَك لها ظاهرُ الكتاب، ولا سيما وقد طُعِنَ فيها من وجوه:(5/416)
الأول: من جهة السند.
الثاني: أن حصول الزاد والراحلة قد لا يكفي، فلا بد من اعتبار صحة البدن، وعدم الخوف، وهذا ليس في الأخبار، فظاهرها يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك مُعْتبراً.
الوجه الثالث: اعتبار وفاء الدين، ونفقة عياله، ورد الودائع.
وأجيبوا بأنه يُفْضِي إلى معارضة قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] . فصل
احتج جمهورُ المعتزلةِ بهذه الآيةِ على أن الاستطاعة قبلَ الفعل، فقالوا: لأنه لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعاً للحج ومن لم يكن مستطيعاً لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية، فيلزم منه أن كل من لم يحج لا يصير مأموراً بالحَجِّ بهذه الآية، وذلك باطل.
وأجيبوا بأن هذا - أيضاً - يلزمهم؛ لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل، أو بعد حصولِه، أما قبل حصول الداعي، فمحال؛ لأن قبلَ حصولِ الداعي يمتنع حصول الفعل، فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يُطاقُ، وأما بعد حصولِ الداعي، فالفعل يصيرُ واجب الحصول، فلا يكون في التكليف به فائدةٌ، وإذا كانت الاستطاعةُ منفيةً في الحالتين، وجب ألا يتوجه التكليفُ المذكورُ في هذه الآيةِ على أحدٍ.
فصل
إذا كان عاجزاً بنفسه؛ لكونه زَمِناً، أو مريضاً لا يُرْجَى بُرْؤه - وله مال يُمْكِن أن يستأجر مَنْ يَحُجُّ عنه - وجب عليه أن يستأجر، لما روى عبد الله بن عباس، قال: كان الفضل بن عباس ردف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجاءته امرأة من خثعم، تستفتيه، فجعل الفضلُ ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصرف وَجْهَ الفضل إلى الشق الآخرِ، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركَتْ أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: نَعَم.
وقال مالك: لا يجب عليه، وهذا هو المعضوب، والعَضْب: القطع، وبه سُمِّيَ السيف عَضْباً، فكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة، ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه، أو لا يقدر على شيء.
وإن لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه، أو أجنبي، الطاعةَ في أن يحج عنه، فهل يلزمه [أن يأمره] إذا كان يعتمد صدقه؟
وفي المسألة خلاف، فالقائل بالوجوب قال: لأن وجوب الحج معلق بالاستطاعة،(5/417)
وهذا مستطيع، لأنه يقال - في العُرْف -: فلان مستطيع لبناء دارٍ، وإن كان لا يفعله بنفسه، وإنما يفعله بماله، وبأعوانه -.
وقال أبو حنيفة: لا يجب ببذل الطاعة، قال: وحديث الخثعميَّة يدل على أنه من باب التطوّعات؛ وإيصال البر للأموات، ألا ترى أنه شَبَّه فعل الحج بالدَّيْن؟ وبالإحماع لو مات ميِّت وعليه دين لم يجب على وليِّه قضاؤه من ماله، فإن تطوع بذلك تأدَّى عنه الدين، ويدل على أن الحج في حديث الخثعمية ما كان واجباً لوقُها: إن أبي لا يستطيع - ومن لا يستطيع لا يجب عليه، وهذا تصريح بنفي الوجوب.
وقوله: {وَمَن كَفَرَ} يجوز أن تكون الشرطية - وهو الظاهر - ويجوز أن تكون الموصولة، ودخلت الفاء؛ شبهاً للموصول باسم الشرط كما تقدم، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين، ولا بد من رابط بين الشرط وجزائه، أو المبتدأ وخبره، ومن جوَّز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله: {غَنِيٌّ عَنِ العالمين} كأنه قال: غني عنهم.
فصل
في هذا الوعيد قولان:
الأول: قال مجاهد: هلا كلام مستقلٌّ بنفسه، ووعيد عام في حَقِّ مَنْ كَفَر بالله ولا تعلُّق له بما قبلَه.
الثاني: قال ابْنُ عباس والحَسَنُ وعَطَاء: مَنْ جَحَد فرض الحَج.
وقال آخرون: من ترك الحج، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ فَلْيَمُتْ إن شاء يَهُودِيًّا وإن شاء نَصْرَانِيًّا» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ - وَلَمنْ تَمْنَعْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، أو سُلْطَانٌ جائر - فَلْيَمُتْ على أي حالةٍ شاء - يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا» .
وقال سعيد بن جبير: إن مات جارٌ لي لم يحج - وله ميسرة - لم أصَلِّ عليه.
فإن قيل: كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب تَرْك الحج؟(5/418)
فالجواب قال القفال المراد منه التغليظ، أي: قد قارب الكُفْر، وعمل ما يعمله مَنْ كفر بالحج كقوله: {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10] أي: كادت تبلغ.
وكقوله عليه السلام -: «مَنْ تَرَك الصلاة متعمِّداً فقد كَفَر» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ أتَى حَائِضاً أو امرأة في دبرها فقد كَفَر» .
وأما الأكثرون فهم الذين حَمَلُوا هذا الوعيدَ على تارك اعتقاد الحج.
قال الضحاك: لما نزلت آية «الحج» ، جمع الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهلَ الأديان الستة: المسلمين، والنصارى، واليهود، والصابئين، والمجوس، والمشركين، فخاطبهم، وقال: «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فآمن به المسلمون، وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نحجه، فأنزل الله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} .(5/419)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
في كيفية النظم وجهان:(5/419)
الأول: أنه - تعالى - لما أوْرَد الدلائلَ على نبوَّةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، مما ورد في التوراة، والإنجيل، عقَّب ذلك بشبهات القوم من إنكار النَّسْخ، واستقبال الكعبة في الصلاة، ووجوب حَجِّها، وأجاب عن هاتين الشُّبْهَتَيْن بقوله {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] وبقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96] فلما تَمَّ الاستدلال خاطبهم - بعد ذلك - بالكلام اللَّيِّن، وقال: «لم تكفرون بآيات الله» بعد ظهور البينات؟
الثاني: أنه - تعالى - لما بيَّن فضائلَ الكعبة ووجوبَ الحَجِّ - والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق - قال لهم: {لم تكفرون بآيات الله} بعد أن علمتم كونها حَقًّا صحيحةً؟
واعلم: أن المُبْطل قد يكون ضَالاً مفلاًّ فقط، وقد يكون ضالاً مضلاً، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً، فبدأ - تعالى - بالإنكار على أهل الصفة الأولَى - على سبيل الرفق - فقال: {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} ؟
قال الحسن: هم العلماء من أهل الكتاب، الذين علموا صحة نبوته؛ لقوله: «وأنتم شهداء» .
وقال آخرون: المراد: أهل الكتاب كلهم.
فإن قيل: لماذا خَصَّ أهْل الكتاب دون سائر الكفار؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أنا بَيَّنَّا أنه - تعالى - أورد الدليلَ عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم أجاب عن شُبْهتهم في ذلك، فلمَّا تمَّ ذلك خاطبهم، فقال: «يا أهل الكتاب» .
والثاني: أن معرفتهم بآيات الله أقْوَى؛ لتقدُّم اعترافهم بالتوحيد، وأصل النبوة، ولمعرفتهم بما في كُتُبِهم من الشهادة بصدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والبشارة بنبوته.
والمراد بآيات الله: الآيات التي نصبها الله - تعالى - على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمراد بكُفْرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فصل
قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن الكُفْرَ من قِبَلِهِم - حتى يَصِحْ هذا التوبيخُ، ولذلك لا يصح توبيخهم على طولهم، وصِحَّتِهم، ومَرَضِهم.
وأجيبوا بالمعارضة بالعلم والداعي.
قوله: {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} الواو للحال، والمعنى: لِمَ تكفرون بآيات الله التي(5/420)
دلَّتكم على صحة صدق محمد، والحال أن الله شهيد على أعمالكم، ومجازيكم عليها؟ ثم لما أنكر [عليهم في ضلالهم ذكر ذلك الإنكار] عليهم في إضلالهم لضَعَفَةِ المسلمين، فقال: {قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن} ؟
«لم» : متعلق بالفعل بعده، و «من آمن» مفعوله والعامة على «تُصِدُّون» - بفتح التاء - من صَدَّ يَصُدُّ - ثلاثياً - ويُستَعْمَل لازماً ومتعدياً.
وقرأ الحسن «تُصِدُّونَ» - بضم التاء - من أصَدَّ - مثل أعد - ووجهه أن يكون عدى «صَدَّ» اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة: [الطويل]
1543 - أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
قال الفراء: يقال: صَدَدتُه، أصُدُّه، صَدًّا. وأصْدَدتهُ، إصْداداً.
وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم.
قوله: {تَبْغُونَهَا} يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً، أخبر عنهم بذلك - وأن تكون في محل نَصْب على الحال، وهو أظهر من الأول؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية - أيضاً - وهي قوله: {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} . {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84] .
فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما، ثم إذا قُلْنا بأنها حال، ففي صاحبها احتمالان:
أحدهما: أنه فاعل «تَصُدُّونَ» .
والثاني: أنه {سَبِيلِ الله} .
وإن جاز الوجهان لأن الجملة - اشتملت على ضمير كل منهما.
والضمير في {تَبْغُونَهَا} يعود على {سَبِيلِ} فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية، وقوله: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] .
وقول الشاعر: [الوافر]
1544 - فَلاَ تَبَْدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ ... سَيُصْبحُ سَالِكاً تِلْكَ السَّبِيلا(5/421)
قوله (عوجاً) فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به، وذلك أن يُراد ب «تَبْغُونَ» تطلبون.
قال الزجَّاج والطبريّ: تطلبون لها اعوجاجاً.
تقول العرب: ابْغِني كذا - بوصل الألف - أي: أطْلُبه لي، وأبْغِني كذا - بقطع، الألف - أي: أعِنِّي على طلبه.
قال ابنُ الأنباري: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام، كقولك: بغيت المال والأجر والثواب.
وههنا أريد يبغون لها عوجاً، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها، كما قالوا وهبتك درهماً، يريدون وهبت لك، ومثله: صِدْتُك ظبياً، أي: صدت لك.
قال الشاعر: [الخفيف]
1545 - فَتَوَلَّى غُلاَمُُهُمْ ثُمَّ نَادَى ... أظِليماً أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا
يريد: أصيد لكم ظليماً؟
ومثله: «جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا» ، والأصل جنيت لك، فحذف ونصب «.
والثاني: أنه حال من فاعل» تَبْغُونََهَا «وذلك أن يُراد ب» تبغون «معنى تتعدّون، والبغي: التَّعَدِّي.
والمعنى: تبغون عليها، أو فيها.
قال الزجاج: كأنه قال تبغونها ضالين، والعوج بالكسر، والعوج بالفتح - المَيْل، ولكن العرب فرَّقوا بينهما، فخَصُّوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان تقول: في دينه وفي كلامه عِوَج - بالكسر، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ - بالفتح.
قال أبو عبيدة: العِوَج - بالكسر. المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ، وبالفتح في الحائط والجِذْع.
وقال أبو إسحاق: الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصاً، وبالفتح فيما له شَخْصٌ.
وقال صاحب المُجْمَل: بالفتح في كل منتصب كالحائط، والعوَج - يعني: بالكسر - ما كان في بساط، أو دين، أو أرض، أو معاش، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم.
وقال الراغب: العِوَجُ: العطف من حال الانتصاب، يقال: عُجْتُ البعير بزمامه، وفلان ما يعوج به - أي: يرجع، والعَوَج - يعني: بالفتح - يقال فيما يُدْرَك بالبصر(5/422)
كالخشب المتصِب، ونحوه، والعِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة، كما يكون في أرض بسيطة عوج، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة، وكالدين والمعاش، وهذا قريب من قول ابن فارس؛ لأنه كثيراً ما يأخذ منه.
وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً} [طه: 107]- سؤالاً، حاصله: أنه كيف قيل: عوج - بالكسر - في الأعيان، وإنما يقال في المعاني؟
وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ - يأتي إن شاء الله.
والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر: [الوافر]
1546 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا ... كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ
وقول امرئ القيس: [الكامل]
1547 - عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ
أي: ولم تميلوا، ومِيلاَ.
وأما قولهم: ما يَعوج زيد بالدواء - أي: ما ينتفع به - فمن مادة أخرى ومعنى آخر.
والعاجُ: العَظْم، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ؟ وفي الحديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لثوبان: «اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَاراً مِنْ عَاج» .
قال القتيبي: العاجُ الذَّبْل؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة: [الطويل]
1548 - فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْتَحْلَ عَاجَةً ... وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ
قال الأصْمَعِيّ: العاجة: الذبلة، والجاجة - بجيمين - خَرَزةَ ما تساوي فلساً.
وقوله: كَخَاصِي العير، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحياً مِنْ أمْرٍ، فيقال: جاء كخاصي العير.(5/423)
والعير: الحمار، يعنون جاء مستحياً. ويقال: عاج بالمكان، وعوَّج به - أي: أقام وقَطَن، وفي حديث إسماعيلَ - على نبينا وعليه السلام -: «ها أنتم عائجون» أي مقيمون.
وأنشدوا للفرزدق: [الوافر]
1549 - هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا ... نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ؟
كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ، مستشهداً به على الإقامة - وليس بظاهر - بل المراد ب «عائجون» في البيت: سائلون ومُلْتفتون.
وفي الحديث: «ثم عاج رأسه إليها» أي: التفت إليها.
والرجل الأعوج: السيّئ الخُلُق، وهو بَيِّن العَوَج. والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب. والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً، ويقال: فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ، وهو مَدْح ويقال: الحنبة: اعوجاج.
قوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} حال، إما من فاعل «تَصُدُّونَ» ، وإما من فاعل «تَبْغُونهَا» ، وإما مستأنف وليس بظاهر و «شهداء» جمع شهيد أو شاهد كما تقدم.
فصل
ومعنى الآية أنهم يقصدون الزيغَ والتحريفَ لسبيله بالشُّبَهِ التي يُوردونها على الضَّعَفَة كقولهم: النسخ يدل على البداء، وقولهم: إن في التوراة: أن شريعةَ موسى باقيةٌ إلى الأبد.
وقيل كانوا يَدَّعون أنهم على دينِ الله وسبيله، وهذا على أنَّ «عِوَجاً» في موضع الحال والمعنى: يبغونها ضَالينَ.
قوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ} قال ابن عباس: أي: شهداء أن في التوراة: أن دينَ الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام. وقيل: وأنتم تشهدون ظهورَ المعجزاتِ على نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: وأنتم تشهدون أنه لا يجوز الصَّدُّ عن سبيلِ اللهِ.
وقيل: {وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ} عُدول بين أهل دينكم، يثقون بأقوالكم، ويُعوّلون على(5/424)
شهادتكم في عظائم المور ومَنْ كان كذلك، فكيف يليق به الإصرار على الباطلِ والكذبِ، والضلالِ والإضلالِ؟
ثم قال: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} والمراد منه: التهديد، وختم الآية الأولى بقوله: {والله شَهِيدٌ} ؛ لأنهم كانوا يُظهرون إلقاء الشُّبَه في قلوب المسلمين، ويحتالون في ذلك بوجوه الحِيَل - فلا جرم - قال فيما أظهره: {والله شَهِيدٌ} ، وختم هذه الآيةَ بقوله: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ؛ لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير.
وكرر في الآيتين قوله: {قل يا أهل الكتاب} ؛ لأن المقصودَ التوبيخُ على ألْطَف الوجوه، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صَرْفهم عن طريقتهم.(5/425)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
لمَّا حذَّر أهْلَ الكتاب عن الإغواء والإضلال، حذَّرَ الْمُؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم، ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم.
رُوِي أن شأسَ بن قيس اليهوديّ كان عظيمَ الكُفْر، شديد الطعن على المسلمين، شديد الحَسَد، فاتفق أنه مرَّ على نفر من الأوس والخزرج - وهم في مجلسٍ جَمَعَهم يتحدثون، وكان قد زال ما بينهم من الشحناء والتباغُض، فغاظه ما رأى من ألْفتهِمْ، وصلاح ذاتِ بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهليةِ، فقال: قد اجتمع مَلأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها - من قرارٍ، فأمر شابًّا من اليهود - كان معه - فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعضَ ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج، وكان الظَّفَرُ فيه للأوس على الخَزْرَج - ففعل: فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثَبَ رجلان من الحَيَّيْنِ على الرُّكَب - أوس بن قيظي، أحد بني حارثة، من الأوس وجبار بن صَخْر، أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددتها الآن جَذَعة، فغضب الفريقان جميعاً، وقالا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ، موعدكم الظاهرة - وهي حَرَّة - فخرجوا إليها، وانضمَّت الأوس والخزرج بعضُها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهليةِ، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخرج إليهم - فيمن معه من المهاجرين - حتى جاءهم فقال: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أبدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأنَا بَيْنَ أظْهُرِكم بَعْدَ إذْ أكْرَمَكُمُ اللهُ بالإسْلاَمِ وقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أمْرَ الجَاهِلِيَّةِ، وَألَّفَ بَيْنَكُمْ، فَتَرْجِعُونَ إلَى مَا كُنْتُمْ كُفَّاراً؟ اللهَ الله» فعرف القومُ أنها نزغة من شيطان، وكيدٌ من عدوِّهم، فألْقَوا السلاحَ من أيديهم، وبَكَوْا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سامعين مطيعين،(5/425)
فأنزل الله هذه الآية، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم.
واعلم أن هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها: جميع ما يحاولونه من أنواع الضلالة، فبيَّن - تعالى - أن المؤمنين إذا قَبِلوا منهم قولَهم أدَّى ذلك - حالاً بعد حال - إلى أن يعودوا كفاراً، واكلفر يوجب الهلاك في الدُّنْيَا بالعداوة والمحاربة، وسفك الدماء، وفي الآخرة بالعذاب الأليم الدائم.
قوله: {يَرُدُّوكُم} رَدَّ، يجوز أن يُضَمَّن معنى: «صَيَّر» فينصب مفعولَيْن.
ومنه قول الشاعر: [الوافر]
1550 - رَمَى الحَدَثَانُ نِسْوَةَ سَعْدٍ ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا
ويجوز ألا يتضمن، فيكون المنصوبُ الثاني حالاً.
قوله: {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يجوز أن يكون منصوباً ب «يَرُدُّوكُمْ» ، وأن يتعلق ب «كَافِرِينَ» ، ويصير المعنى كالمعنى في قوله: {كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] .
قوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} «كَيْفَ» كلمة تعجُّب، وهو على الله - تعالى - محال، والمراد منه التغليظ والمنع؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم، حالاً بعد حال - مع كون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيهم - تُزيل الشُّبَه، وتُقَرِّر الحُجج، كالمانع من وقوعهم في الكُفْر، فكان صدور الكفر عن هؤلاءِ الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه.
قال زيد من أرقم: قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أمَّا بَعْدُ، أيُّهَا النَّاسِ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ، فِيهِ الهُدَى والنُّور، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال: وَاهْل بَيْتِي، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي» .
قوله: {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله} جملة حالية، من فاعل: «تَكْفُرُونَ» .
وكذلك قوله: {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} أي: كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين؟(5/426)
والاعتصام: الامتناع، يقال: اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً، أي: هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به.
وقيل: الاعتصام: الاستمساك، واستعصم بكذا، أي: استمسك به.
ومعنى الآية: ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ. وقيل: ومن يؤمن بالله. وقيل: ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن.
والعِصام: ما يُشدُّ به القربة، وبه يسمَّى الأشخاص، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار، والمِعْصَم: موضع العِصْمَة، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة؛ تشبيهاً بها، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً، وأصل العُصْمة: البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول، والأعْصَم من الوعول: ما في معاصمها بياضٌ، وهي أشدُّها عَدْواً.
قال: [الكامل]
1551 - لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ ... سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا
وعصمه الطعام: منع الجوع منه، تقول العرب: عَصَمَ فلاناً الطعامُ، أي: منعه من الجوع.
وقال أحمد بن يحيى: العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً، وجابراً.
قال: [الرجز]
1552 - فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا ... فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا
ويسمونه عامراً، وأنشد: [الطويل]
1553 - أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر ... يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ
وأبو مالك كنية الجوع.
وفي الحديث - في النساء: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ» وهو الأبيض الرجلين.
وقيل: الأبيض الجناحَين.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ» .(5/427)
قيل: يا رسولَ الله، وما الغراب الأعصم؟ قال «الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ» .
وفي الحديث: كنا مع عمرو بن العاص، فدخلنا شِعْباً، فإذا نحن بغربان، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين، فقال عَمرو: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ» والمراد منه: التقليل.
قوله: «فقد هدي» جواب الشرط، وجيء ف يالجواب ب «قد» دلالةً على التوقُّع؛ لأن المعتصم متوقع الهداية.
والمعنى: ومن يمتنع بدينِ الله، ويتمسك بدينه، وطاعتهِ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح. وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي: يؤمن بالله.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبدِ مخلوق لله تعالى؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى، والمعتزلة ذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أن المرادَ بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات، كقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} [المائدة: 16] وهذا اختيار القفال.
الثاني: أن التقدير: ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل؛ فإنه إنما هُدِي إلى الصراط المستقيم، ليفعل ذلك.
الثالث: أن التقدير: ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى طريقِ الجنة.
الرابع: قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «فقد هدي» أي: فقد حصل له الهدى - لا محالة - كما تقول: إذا جئتَ فلاناً فقد أفلحتَ، كأن الهدى قد حصل، فهو يخبر عنه حاصِلاً؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.(5/428)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
لما حذر المؤمنين من إضْلال الكفَّارِ، أمرهم في هذه الآياتِ بمجامع الطاعات، فأمرهم - أولاً - بتقوى الله، وثانياً - بالاعتصاب بحبل الله، وثالثاً - بالاجتماع والتأليف، ورابعاً - بالترغيب بقوله: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} .
والسبب في هذا الترتيب أن فِعْلَ الإنسان، لا بد وأن يكون مُعَلَّلاً إما بالرهبة، وإما بالرغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة؛ لأن دَفْع الضرر مقدَّمٌ على جَلْب النَّفْع، فقوله: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} إشارة إلى التخويف من عقاب الله، ثم جعله سبباً للتمسك بدين الله والاعتصام بحبله، ثم أرْدَفَه بالرغبة، فقال: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} فكأنه قال: خَوْف الله يوجب ذلك، وكثرة نعم الله توجب ذلك، فلم تَبْقَ جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله تعالى، ووجوب طاعتكم لحكمه.
فصل
قال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة؛ لما روي عن ابن عباس أنه لمَّا نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين؛ لأن حقَّ تقاته أن يُطَاعَ فلا يُعْصَى طرفة عين، وأن يُشْكَر فلا يُكفر، وأن يذكر فلا ينسى - والعباد لا طاقة لهم بذلك، فنزل: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] ، فنسخت أول هذه الآيةِ، ولم ينسخ آخرها، وهو قوله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} وقال جمهور المحقِّقين: إن القول بهذا النسخ باطلٌ؛ لما روي عن معاذ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ على الله» ؟ فقلت: اللهُ ورسولُه أعْلَمُ. قال: «حَقُّ الله على العِبَادِ أن يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وحَقُّ العِبَادِ على اللهِ ألا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» قلت: يا رسول الله، أفلا أبَشر الناسَ؟ قال: «لا تبشرهم فيتَّكلوا» وهذا لا يجوز أن يُنْسخَ؛ ولأن معنى قوله: {اتقوا الله حق تقاته} أي: كما يحق أن يتقى، وذلك بأن تُجْتَنَبَ جميع معاصيه، ÷ ومثل هذا لا يجوز أن يُنْسخ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي، وإذا كان كذلك صار معنى هذه الآية ومعنى قوله: {فاتقوا(5/429)
الله ما استطعتم} واحداً؛ لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته؛ ولأن حق تقاته ما استطاع من التقوى؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة، ونظير هذه الآية قوله: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] .
فإن قيل: أليس قد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] ؟
فالجواب: أن هذه الآية وردت في ثلاثة مواضع في القرآن، وكلها في صفة الكفار، لا في صفة المسلمين، وأما الذين قالوا: إن المراد هو أن يُطاع فلا يُعصى فهذا صحيح، والذي يصدر عن الإنسان كان سَهْواً، أو نِسْيَاناً فغير قادح فيه؛ لأن التكليف مرفوع عنه في هذه الأحوال، وكذلك قوله: أن يشكر فلا يكفر؛ لأن ذلك واجب عليه عند حضور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: أن يذكر فلا يُنْسَى، فإن ذلك واجب عند الدعاء والعبادة، وكل ذلك مما يطاق، فلا وَجْهَ للقول بالنسخ.
وقوله: {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي: كما يجب أن يُتَّقَى، والتقى اسم للفعل - من قولك: اتقيت - كما أن الهُدَى اسم الفعل من قولك: اهتديت.
قوله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} نَهْي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة، والمراد: دوامهم على الإسلام؛ وذلك أن الموت لا بدّ منه، فكأنه قال: دوموا على الإسلام غلى الموت، وقريب منه ما حَكَى سيبويه: لا أرَيَنَّكَ هَهُنا، أي: لا تكن بالحضرة، فتقع عليك رؤيتي، والجملة من قوله: {وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في محل نصب على الحال، والاستثناء مُفَرَّغ من الأحوال العامة، أي: لا تموتن على حالة من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنةِ، وجاء بها جملةً اسميةً؛ لأنها أبلغ وآكد؛ إذْ فيها ضمير متكرر، ولو قيل: إلا مسلمين لم يُفِدْ هذا التأكيد وتقدم إيضاح هذا التركيب في البقرة عند قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] بل دل على الاقتران بالموت لا متقدِّماً ولا متأخراً.
قوله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً} الحبل - في الأصل - هو: السبب، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل، وأصله في الأجرام واستعماله في المعانِي من باب المجاز. ويجوز أن يكون - حينئذٍ - من باب الاستعارة، ويجوز أن يكون من باب التمثيل، ومن كلام الأنصار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: يا رسولَ الله، إنَّ بيننا وبَيْنَ القوم حبالاً ونحن قاطعوها - يعْنُون العهود والحِلْف.
قال الأعشى: [الكامل]
1554 - وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ ... أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا(5/430)
يعني العهود.
قيل: والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف، فيأخذ من القبيلة عَهداً إلى الأخرى، ويُعْطَى سَهْماً وحَبْلاً، ويكون معه كالعلامة، فسُمِّيَ العهدُ حَبْلاً لذلك، وهذا المعنى غير طائل، بل سُمِّي العهد حبلاً للتوصُّل به إلى الغرض.
وقال آخر: [الكامل]
1555 - مَا زِلْتُ مُعْتَصِماً بِحَبْلٍ مِنْكُمُ ... مَنْ حَلَّ سَاحَتَكُمْ بِأسْبَابِ نَجَا
قال القرطبي: العِصْمة: المَنَعَة، ومنه يقال للبَذْرَقة: عصمة، والبذرقة: الخفارة للقافلة، وهو من يُرسَلُ معها يحميها ممن يؤذيها، قال ابنُ خالويه: «البذرقة ليست بعربيةٍ، وإنَّما هي كلمة فارسية عرَّبتها العرب، يقال: بعث السلطان بَذْرَقَةً مع القافلة» . والحبل لفظ مشترك، وأصله - في اللغة: السبب الذي يُوصل به إلى البغية والحاجة، والحبل: المستطيل من الرمل، ومنه الحديث: «واللهَ مَا تَرَكَتُ مِنْ حَبْلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ» ؟ والحبل: الرَّسَن، والحبل: الداهية.
قال كثير: [الطويل]
1556 - فَلاَ تَعْجَلِي يَا عَزَّ أنْ تتفهمي ... بنُصْحٍ أتَى الوَاشُونَ أمْ بِحُبُولٍ
والحبالة: حبالة الصائد، وكلها ليس مراداً في الآية إلا الذي بمعنى العَهْد.
والمراد بالحبل - هنا -: القرآن؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الحديث الطويل -: «هو حَبْلُ الله المتين» .
وقال ابن عباس: هو العهد المذكور في قوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] لقوله تعالى: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس} [آل عمران: 112] أي: بعهد، وسُمِّيَ العَهْدُ حبلاً لما تقدم من إزالة الخوف.
وقيل: دين الله.
وقيل: طاعة الله، وقيل: هو الإخلاص.
وقيل: الجماعة؛ لأنه عقبه بقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} .
وتحقيقه: أن النازل في البئر لما كان يعتصم بالحبل، تحرُّزاً من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته، وموافقة جماعة المؤمنين حِرزاً لصاحبه من السقوط في جهنم - جعل ذلك حبلاً لله، وأمروا بالاعتصام به.(5/431)
وقوله: {جَمِيعًا} أي: مجتمعين عليه، فهو حال من الفاعل.
قوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} قراءة البَزِّيِّ بتشديد التاء وصلاً وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله «ولا تيمموا» والباقون بتخفيفها على الحذف.
فصل
في التأويل وجوه:
الأول: أنه نَهْي عن الاختلاف في الدين؛ لأن الحق لا يكون إلا واحداً، وما عداه جهلٌ وضلال، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32] .
الثاني: أنه نَهْي عن المعاداةِ والمخاصمةِ؛ فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على ذلك، فنهوا عنه.
الثالث: أنه نَهْي عما يوجب الفُرقة، ويزيل الألفة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «سَتَفْتَرِقُ أمَّتِي عَلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً الناجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ» قيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «الجَمَاعَةَ» .
وروي: «السواد الأعظم» .
ويروى: «مَا أنَا عَلَيْهِ وَأصْحَابِي» .
واعلم أن النهْيَ عن الاختلاف، والأمر بالاتفاق، يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً.
فصل
استدلت نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: الأحكام الشرعية إما أن يقال: إن الله(5/432)
سبحانه - نصب عليها دلائل يقينية، أو ظنية، فإن كانت يقينية فلا يكتفى فيها بالقياس(5/433)
الذي يفيد الظن؛ لأن الدليل لا يكتفى به في موضع اليقين، وإن كانت ظنيّة أدى(5/434)
الرجوع إليها إلى الاختلاف والنزاع وقد نهى الله عنه بقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103](5/435)
وقوله: {وَلاَ تَنَازَعُواْ} [الأنفال: 46] .(5/436)
والجواب بأن هذا العموم مخصوص بالأدلة الدالة على العمل بالقياس.(5/437)
قال القرطبي: وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإن ذلك ليس اختلافاً؛ إذ الاختلاف يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد، فإن الاختلاف فيها بسبب اتسخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث، وهم - مع ذلك - متآلفون وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اخْتِلاَفُ أمَّتِي رَحْمَةٌ»
وإنما منع الله الاختلاف الذي هو سبب الفساد، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَفَرَّقَت اليَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - أوْ اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أمَّتِي ثلاثاً وسبعين فرْقَةً» .
قوله: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} .
{نِعْمَةَ الله} مصدر مضاف لفاعله؛ إذ هو المُنْعِم، {عَلَيْكُمْ} ، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس {نِعْمَتَ} ؛ لأن هذه المادةَ تتعدى ب «على» قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] .
ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من «نِعْمَةَ» ، فيتعلق بمحذوف، أي: مستقرة، وكائنة عليكم.
قوله: {إِذْ كُنْتُمْ} «إذْ» منصوبة - ب «نِعْمَةَ» ظرفاً لها ويجوز أن يكون متعلِّقاً بالاستقرار الذي تضمنه {عَلَيْكُمْ} إذا قلنا: إن «عَلَيْكُمْ» حال من النعمة، وأما إذا علقنا «عَلَيْكُمْ» ب «نِعْمَةَ» تعيَّن الوجه الأول.(5/438)
وجوز الحوفي أن يكون منصوباً ب «اذْكُروا» يعني: مفعولاً به، لا أنه ظرف له؛ لفساد المعنى؛ إذْ «اذْكُرُوا» مستقبل، و «إذْ» ماضٍ.
فصل
{كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} .
قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار: كان الوس والخزرج أخوين لأب وأمٍّ، فوقعت بينهما عداوةٌ - بسبب قتيل - فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة، إلى أن أطفأ الله تعالى، ذلك بالإسلام، وألَّف بينهم برسوله - عليه السلام - وكان سبب ألفتهِمْ أن سويدَ بن الصامت - أخا بني عمرو بن عوف - كان شريفاً، تُسمِّيه قومه: الكامل، لجلده ونسبه، قدم «مكة» حاجًّا أو معتمراً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد بُعِثَ وأمِرَ بالدعوة، فتصدَّى له حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سُوَيْدٌ: فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قال: حِكْمَةُ لقمان فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أعْرِضْهَا عَلِيَّ «فعرضها عليه، فقال: إنَّ هذا الكلام حَسَنٌ معي أفْضَلُ مِنْ هَذَا - قُرْآنٌ أنْزَلَهُ اللهُ عَلَيَّ نُوراً وهُدًى، فَتَلاَ عليهِ القرآنَ، وَدَعَاهُ إلَى الإسْلام، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وقال: إنَّ هَذَا القولَ أحْسَنُ، ثُمَّ انْصرَفَ إلى المدينةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ قَتَلَهُ الخَزْرَجُ يَوْمَ بُعَاث» فإن قومه يقولون: قد قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع معه فتية من بني الأشهل - فيهم إياس بن معاذ - يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزر، فلما سمع بهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أاهم، فجلس إليهم، فقال: «هَلْ لَكُمْ إلَى خير مما جِئْتُمْ لَهُ؟ قالوا: ومَا ذَاكَ؟ قال: أنَا رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِيَ اللهُ إلى العِبَادِ، أدْعُوهُمْ إلى ألاَّ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وأنْزَلَ عَليَّ الكِتَابَ، ثُمَّ ذكر لهم الإسلام»
، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الجيسر حَفنَةً من البطحاء، فضرب بها وجه إياس، وقال: دَعْنا منك؛(5/439)
فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنهم ثم انصرفوا إلى «المدينة» ، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك فلما أراد الله - عَزَّ وَجَلَّ - إظْهارَ دينهِ، وإعزازَ نبيه، خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، يعرض نفسه على قبائل العرب - كما كان يصنع في كل موسم - فلقي عند العقبة رَهْطاً من الخزرج - أراد الله بهم خيراً - وهم أسعد بن زرارة، وعوف ابن الحارث - وهو ابن عفراء - ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ أنْتُمْ؟ قالوا: نفر من الخزرج فقال: أمِنْ مَوَالِي يَهُود؟ قالوا: نعم، قال أفَلاَ تَجْلُسوا حَتَّى أكلِّمَكُمْ» ؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعِلْم، وهم كانوا أهل أوثان وشِرْك، وكانوا - إذا كان بينهم شيء - يقولون: إن نبيًّا الآن مبعوثاً قد أظَلَّ زمانه نتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرمَ، فلما كلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولئك النفر، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون - والله - أنه النبي الذي توعَّدَكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه وصدقوه، وأسلموا، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العَدَاوةِ والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم، وندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رَجُلَ أعزُّ منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ راجعين إلى بلادهم - قد آمنوا - فلما قَدِمُوا «المدينة» ذكروا لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودعوهم إلى الإسلام حتى فَشَا فيهم، فلم تَبْقَ دار من الأنصار إلا وفيها ذِكْرٌ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى إذا كان العام المقبل وافَى الموسم من الأنصار اثنا عشر رَجُلاً: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ - ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن العجلاني، وذكوان بن عبد(5/440)
القيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر، وقُطْبَةُ بن عامر - وهؤلاء خزرجيُّون - وأبو الهيثم بن التَّيِّهَانِ، وعويم بن ساعدة - من الأوس - فلَقَوْه في «العقبة» - وهي العقبة الأولى - فبايعوا رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على بيعة النساء، على ألا يُشْركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا ولا يزنوا. .
إلى آخر الآية، فإن وفَّيْتُم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئاً من ذلك، فَأخِذتم بِحدِّهِ في الدنيا فهو كَفَّارة له، وإن سَتَرهُ الله عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، قال: فلما انصرف القوم بعث معهم رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يُقْرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويُفقههم في الدين، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر، فجلسا في الحَائِطِ، واجتمع إليهما رجال من أسلم، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دَارَنَا - لِيُسَفِّهَا ضعفاءنا - فازجرهما وانْهَهما عن أن يأتيا دارَنا، فإن أسعد ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سَيِّدَي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حَرْبَتَهُ، ثم أقبل إلى مصعب وأسعد - وهما جالسان في الحائط - فلما رآه أسعد بن زرارَةَ قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس أكَلِّمْهُ، فوقف عليهما متشتماً، فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفِّهان ضعفاءَنا؟ اعتزلا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.
فقال مصعب: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما كرهت.
قال: أنصفت، ثم ركز حريته وجلس إليهما، فكلَّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن نتكلم في إشراق وجهه وتسهُّهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قال: تغتسل، وتُطهِّر ثوبك، ثم تشهد شهادةَ الحق، ثم تصلي ركعتين.
فقالم واغتسل، وغسل ثوبه، وتشهد شهادة الحق، وصلى ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، ثم أخَذَ حَرْبَتَهُ، وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم - فلما نظر إليه بن معاذ مُقْبِلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسَيْدٌ بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النَّادي قال له سعد: ما فعلت؟
قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما، فقالا: تفعل ما أحببت، وقد حدثت أن من بني حارثة أناساً خرجوا إلى أسعد بن زرارة، ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك.(5/441)
فقام سعد مُغْضَباً مبادراً تخوُّفاً للذي ذُكِرَ له من بني حارثة، فأخذ الحربة، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يَسْمَعَ منهما، فوقف عليهما متشتماً، فقال لأسعد بن زرارة: والله لولا ما بيني وبينك من القَرَابة، ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نَكْرَهُ؟
فقال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك - والله - سيد مَنْ وراءَه من قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد.
فقال له مصعب: أفتقعد وتسمع؟ فإن رضيت أمراً، ورغبت فيه، قبلته، وإن كرهته، عَزَلْنَا عنك ما تكره.
قال سعد: أنْصَفْتَ، ثم ركز الحَرْبَةَ، فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن.
قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يَتَكَلَّمَ به، ثم قال: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟
قالا: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير.
فلما رآه قومه مُقْبِلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رَجَعَ سعد إليكم، بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة.
قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ، حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
قال: فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تَبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر، وكانوا يسمعونه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام، حتى هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى «المدينة» ومضى بدر وأحد والخندق. قال: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى «مكة» وخرج معه من الأنصار سبعون رجلاً مع حُجَّاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا «مطة» ، فواعدوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العقبة من أوسط أيام التشريق، وهي بيعة العقبة الثانية.
قال كَعْبُ بْنُ مَالِك: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه، وكنا نكتم على مَنْ معنا من المشركين(5/442)
أمرنا - وكلمناه، وقلنا له، يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا، شريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حَطَباً للنار غداً، ودعوناه إلى الإسلام، فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فشهد معنا العَقَبَة - وكان نقيباً فيها - فَبِتْنَا تلك الليلة مع قومنا في رِحَالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِين تَسَلُّلَ القَطَا، حتى إذا اجتمعنا في الشِّعْب عند «العقبة» ، ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب، أم عمارة إحدى نساء بني النجَّار، وأسماء بنت عمرو بن عَدِيِّ، أم منيع، إحدى نساء بني سلمة، فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى جاءنا ومعه عمه العَبَّاسُ بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثّق له، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب.
فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من أنصار خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عِزٍّ من قومه، ومَنَعَةٍ في بلده، وإنه قد أبَى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وَافُونَ له بما دَعوْتُمُوهُ إليهِ، ومَانِعُوهُ ممن خالفه، فأنتم وما تَحَمَّلْتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه، وخاذلوه - بعد الخروج إليكم - فمن الآن فَدَعُوهُ؛ فإنه في عِزٍّ ومَنَعةٍ.
قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلتَ، فَتَكَلَّمْ يا رسولَ الله، وخُذْ لنفسك ولربك ما شِئْتَ.
قال: فتكلَّم رسولُ الله، فتلا القرآن ودعانا إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورَغَّبَ في الإسلام، ثم قال: أبايِعُكُمْ عَلَى أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَآبْنَاءَكُمْ -.
فأخذ البراء بن مَعْرُورٍ بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنَّك مما نمنع منه أَزْرَنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابرٍ، قال: فاعترض القول - والبراء يُكَلِّم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبو الهيثم بن التَّيْهان.
فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً - يعني العهود - وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسَّم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: «لا، بل الأبدَ الأبدَ، الدَّمَ الدَّمَ، الهدمَ الهدمَ، أنْتُمْ مِنِّي وَأنَا مِنْكُمْ، أحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمُ، وأسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمُ» ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أخْرِجُوا إليَّ منكم اثني عَشَرَ نَقِيْباً، كُفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحَوَاريينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس» .
قال عاصم بن عمرو بن قتادة: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاريّ: يا معشرَ الخزرج، فهل تدرون عَلاَمَ تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم تَرَونَ أنكم إذا أنْهِكَتْ(5/443)
أموالكم مصيبةً، وأشرافكم قتلى أسلمتموه فمن الآن، فهو والله خِزْيٌ في الدنيا والآخرةِ، وإن كنتم تَرَوْنَ أنكم وافون له بما دَعوتُمُوه إليه على تهلكة الأموال، وقَتْلِ الأشْراف فخُذوه، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وَقَتْل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وَفَّيْنَا؟
قال: «الجَنَّةُ» .
قالوا: ابْسُطْ يدك، فبسط يده، فبايعوه، وأول مَنْ ضَرَبَ على يده: البَرَاءُ بن معرور، ثم بايع القومُ.
قال: فلما بايعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صرخ الشَّيْطان من أعلى رأس العَقَبة بأنفذ صوت ما سمعته قط: يا أهل الجباجب، هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه، قد اجتمعوا على حَرْبكم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هَذَا عَدُوُّ اللهِ، أزَبُّ العَقَبَة، اسمعْ أيْ عَدُوَّ اللهِ - أمَا وَاللهِ لأفْرُغَنَّ لَكَ. ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ارْفَضُّوا إلَى رِحَالِكُمْ» .
فقال العباس بن عبادة بن نَضْلة: والذي بعثك بالحق، لئن شئتَ لنميلن غداً على أهل مِنًى بأسيافنا، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَمْ نُؤْمَرْ بذلك، وَلِكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ» فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها، حتى أصبحنا، فلما أصبحنا، غدت علينا جُلَّةُ قريش، حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشرَ الخزرج، بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا، تستخرجونه من بين أظْهُرنا، وتبايعونه على حَرْبِنَا، وإنه - والله - ما حي من العرب أبغض إلينا، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قَوْمِنَا، يحلفون لهم بالله، ما كان من هذا شيء وما علمناه - وصَدَقُوا، لم يعلموا - وبعضنا ينظر إلى بَعْضٍ، وقام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ - وعليه نَعْلاَن جديدان - فقُلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ - وأنت سيد من سادتنا - مثل نَعْلَيْ هذا الفتى من قُرَيش؟ قال فسمعها الحارثُ، فخلعهما من رِجْلَيْه، ثم رمى بهما إليَّ، وقال: والله لتنتعلنّهما.
قال: فقال أبو جابر: مَهْ والله لقد أحفظت الفتى، فاردد إليه نعليه، قال: والله لا أردُّهما، قال: والله يا أبا صالحٍ، لئن صَدَق الفال لأسلبنَّه.
قال: ثم انصرف الأنصار إلى «المدينة» - وقد شدوا العَقْد - فلما قدموها أظهر الله الإسلام بهم وبلغ ذلك قريشاً، فآذوا أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه:
«إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها» ، فأمرهم بالهجرة إلى «المدينة» ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، فأول من هاجر إلى «المدينة» : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ، ثم عامر بن ربيعة، ثُم عبد الله بن جحش، ثم تابع أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(5/444)
أرْسَالاً إلى «المدينة» ، فجمع الله أهْلَ «المدينة» - أوْسَهَا وخَزْرَجَها - بالإسلام، وأصلح الله ذات بينهم بنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا معنى قوله تعالى: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً} [آل عمران: 103] يا معشر الأنصار قبل الإسلام {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بالإسلام {فَأَصْبَحْتُمْ} أي: فصرتم. و «أصبح» من أخوات «كان» فإذا كانت ناقصة، كانت مثل «كان» في رفع الاسم ونَصْب الخبر، وإذا كانت تامة رفعت فاعلاً، واستغنت به، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح، تقول: أصبح زيد، أي دخل في الصباح، ومثلها - في ذلك - «أمسى» قال تعالى {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وقال: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137] .
وفي أمثالهم: «إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح» ؛ لأن القين - وهو الحداد - ربما قلَّت صناعته في أحياء العرب، فيقول: أنا غداً مسافر، فيأتيه الناس بحوائجهم، ويقيم، ويترك السفر، فأخرجوه مثلاً لمن يقول قولاً ويخالفه. والمعنى: فاعلم أنه مقيم في الصباح. ويكون بمعنى «صار» عملاً ومعنًى. كقوله: [الخفيف]
1557 - فَأصْبَحُوا كَأنَّهُمْ وَرَقٌ جَفْ ... فَ فَألْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ
أي: صاروا.
و «إخواناً» خبرها، وجوَّزوا فيها - هنا - أن تكون على بابها - من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح، وتكون بمعنى: «صار» - وأن تكون تامة، أي: دخلتم في الصباح، فإذا كانت ناقصة على بابها - فالأظهر أن يكون «إخْناناً» خبرها، و «بنعمته» متعلق به لما فيه من معنى الفعل، أي: تآخيتم بنعمته، والباء للسببية.
وجوَّز أبو حيان أن تتعلق ب «أصْبَحْتم» ، وقد عُرف ما فيه من خلاف. وجوّز غيره أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل «أصْبَحْتُمْ» ، أي: فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته، أو حال من «إخواناً» ؛ لأنه في الأصل - صفة له.
وجوَّزوا أن تكون «بِنِعْمَتِهِ» هو الخبر، و «إخواناً» حال والباء بمعنى الظرفية، وإذا كانت بمعنى: «صار» جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه، وإذا كانت تامة، فإخواناً حال، و «بِنِعْمَتِهِ» فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية.
قال ابن عطية: «فأصْبَحْتُمْ» عبارة عن الاستمرار - وإن كانت اللفظة مخصوصة(5/445)
بوقت - وإنما خُصَّت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث مبدأ النهار، وفيه مبدأ الأعمال، فالحال التي يحبها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومَه في الأغلب.
ومنه قول الربيع بن ضَبع: [المنسرح]
1558 - أصْبَحْتُ لاَ أحْمِلُ السِّلاَحَ وَلاَ ... أمْلُِ رَأسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرَا
قال أبو حيان: وهذا الذي ذكره - من أن «أصبح» للاستمرار وعلله بما ذكره - لم أر أحداً من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تُسْتَعْمَل بالوجهين اللذين ذكرناهما.
قال شهاب الدين: وهذا - الذي ذكره ابن عطية - معنى حَسَنٌ، وإذا لم يَنُصّ عليه النحويون لا يُدْفَع؛ لأن النحاة - غالباً - إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ، وأما المعاني المفهومة من فَحْوى الكلام، فلا حاجة إلى الكلام عليها غالباً.
والإخوان: جمع أخ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه، وعند غيره هي جمع.
وقال بعضهم: إن الأخ في النسب - يُجْمَع على: «إخوة» ، وفي الدين يُجْمَع على: «إخوان» ، هذا أغلب استعمالهم، وقال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ونفس هذه الآية تَرُدُّ ما قاله؛ لأن المراد - هنا - ليس أخُوَّة النسب إنما المراد أخوة الدين والصداقة.
قال أبو حاتم: قال أهل البصرة: الإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، قال: وهذا غلط؛ يقال للأصدقاء والأنسباء: إخوة، وإخوان، قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ولم يَعْنِ النسب، وقال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [النور: 61] وهذا في النسب.
وهذا الرد من أبي حاتم إنما يتّجِه على هذا النقل المُطْلق، ولا يرد على النقل الأول؛ لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال.
قال الزجاج: أصل الأخ - في اللغة - من التوخي - وهو الطلب؛ فإن الأخ مقصده مقصد أخيه، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين ما في قلبه، ولا يُخْفِي عنه شيئاً.
قوله: {وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ} شَفَا الشيء: طرفه وحرفه، وهو مقصور من ذوات الواو، ويُثَنَّى بالواو نحو: شَفَوَيْن ويكتب بالألف، ويُجْمَع على أشفاء، ويُسْتَعْمَل مضافاً(5/446)
إلى أعلى الشيء وإلى أسفله، فمن الأول: {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] ومن الثاني: هذه الآية.
وأشْفَى على كذا: قاربه، ومنه: أشفى المريض على الموت. قال يعقوب: يقال للرجل عند موته، وللقمر عند محاقه، وللشمس عند غروبها: ما بقي منه، أو منها، إلا شَفاً، أي: إلا قليل. وقال بعضهم: يقال لما بين الليل والنهار، وعند غروب الشمس إذا غاب بعضها: شَفاً.
وأنشد: [الرجز]
1559 - أدْرَكْتُهُ بِلاَ شَفاً، أوْ بِشَفَا ... وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تكونُ دَنفَا
قوله بلا بشفا: أي: غابت الشمسُ، وقوله: أو بشفا، أي: بقيت منه بقية.
قال الراغب: والشفاء من المرض: موافاة شفا السلامة، وصار اسماً للبُرْء والشفاء.
قال البخاري: قال النحاس: «الأصل في شفا - شَفَوٌ، ولهذا يُكْتَب بالألف، ولا يمال» .
وقال الأخفش: «لما لم تَجُز فيه الإمالة عُرِفَ أنه من الواو» ؛ لأن الإمالةَ من الياء.
قال المهدويّ: «وهذا تمثيل يُراد به خروجُهم من الكفر إلى الإيمان» .
قوله: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} في عَود هذا الضمير وجوه:
أحدها: أنه عائد على «حُفْرَةٍ» .
والثاني: أنه عائد على «النَّارِ» .
قال الطبريّ: إن بعض الناس يُعيده على الشفا، وأنث من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث، كما قال جرير: [الوافر]
1560 - أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ
قال ابن عطية: «وليس الأمر كما ذكروا؛ لأنه لا يُحتاج - في الآية - إلى مثل هذه الصناعة، إلا لو لم يجد للضمير مُعَاداً إلا الشفا، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضميرُ عليه، ويُعَذِّده المعنى المتكلَّم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة» .
قال أبو حيان: «وأقول: لا يحسن عَوْدُه إلا على الشفا؛ لأن كينونتهم على الشفا(5/447)
هو أحد جزأي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه، وأما ذِكْرُ الحفرة، فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها، ألا ترى أنك إذا قلت: كان زَيْدٌ غلامَ جَعْفَر، لم يكن جعفر محدِّثاً عنه، وليس أحد جُزْأي الإسناد، وكذا لو قلتَ: زيد ضرب غلامَ هند، لم تُحَدِّث عن هند بشيء، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً؛ تخصيصاً للمحدَّث عنه، وأما ذكر:» النَّارِ «فإنما ذُكِرَ لتخصيص الحُفْرة، وليست - أيضاً - أحد جزأي الإسناد، وليست أيضاً محدَّثاً عنها، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة من النار؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم من الحُفْرة ومن النار، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا، فعَوْدُه على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى» .
قال الزجَّاج: «وقوله:» مِنْهَأ «الكناية راجعة إلى النار، لا إلى الشَّفَا؛ لأنَّ القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة» .
وقال غيره: «الضمير عائد إلى الحُفْرَةِ؛ ولما أنقذهم من الحُفْرَةِ فقد أنقذهم من شَفَا الحفرة؛ لأن شفاها منها» .
قال الواحديّ: على أنه يجوز أن يذكر المضاف إليه، ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه - دون المضاف، كقول جرير: [الوافر]
1561 - أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ
كذلك قول العجاج: [الرجز]
1562 - طُولُ اللَّيَالِي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرضِي
قال: وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه، فإن مَرَّ السنين هو المسنون، وكذلك شفا الحُفْرة من الحفرة، فذكَّر الشَّفَا، وعادت الكناية إلى الحفرة.
وهذان القولان نَصٌّ في رَدِّ ما قاله أبو حيان، إلا أن المعنى الذي ذكره أولَى؛ لأنه إذا أنقذهم من طَرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة، وما ذكره - أيضاً - من الصناعة واضح.
قال بعضهم: «شَفَا الحُفْرة، وشفتها: طرفها، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث» .
والإنقاذ: التخليص والتنحِية.(5/448)
قال الأزهَريُّ: «يقال: أنقذته، ونقذته، واستنقذته، وتنقَّذْتُه بمعنًى ويقال: فرس نقيذ، إذا كان مأخوذاً من قوم آخرين؛ لأنه استُنْقِذَ منهم» .
والحفرة: فُعْلَة بمعنى: مفعولة، كغُرْفة بمعنى: مغروفة.
فصل
قيل معناه: إنكم كنتم مُشْرِفين على جهنمَ بكُفْركم؛ لأن جهنم مشبهة بالحُفْرة التي فيها النار، فجعل استحقاقهم النار بكفرهم، كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حَرْفها، فبيَّن - تعالى - أنه أنقذهم من هذه الحُفرة، بعد أن قربوا من الوقوع فيها.
قالت المعتزلة: ومعنى ذلك أن الله - تعالى - لطف بهم بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسائر ألطافه حتى آمنوا.
وقال أهل السنة: جميع الألطاف مشترك بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، والله - تعالى - حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار، فدل هذا على أنه خالق أفعال العباد.
قوله تعالى: {كذلك يُبَيِّنُ الله} نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضميره، أي: يبين الله لكم تَبْييناً مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة، لكي تهتدوا بها.
قال الجبائي: «الآية تدل على أنه - تعالى - يُريد منهم الاهتداء» .
قال الواحدي: إن المعنى: لتكونوا على رَجاء هدايته. وهذا فيه ضَعْفٌ؛ لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء، وعلى مذهبنا قد لا يريده.
وأجاب غيره بأن كلمة «لَعَلَّ» للترجي، والمعنى: أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك.
قوله: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} اعلم أنه - تعالى - لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به، فقال: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ واعتصموا بِحَبْلِ الله} ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ} يجوز أن تكون التامة، أي: ولتوجد منكم أمة، فتكون «أمَّةٌ» : فاعلاً، و «يَدْعُونَ» : جملة في محل رفع صفة ل «أمة» ، و «مِنْكُمْ» متعلق ب «تكن» على أنها تبعيضية.
ويجوز أن يكون: «مِنْكُمْ» متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من «أمَّةٌ» إذْ كان يجوز جعله صفةً لها لو تأخر عنها. ويجوز أن تكون «مِنْ» للبيان؛ لأن المبيَّن - وإن تأخر لفظاً - فهو متقدم رتبة.
ويجوز أن تكون الناقصة، ف «أمةٌ» اسمها، و «يَدْعُونَ» خبرها، و «مِنْكُمْ» متعلق إمَّا بالكون، وإمَّا بمحذوف على الحال من «أمةٌ» .(5/449)
ويجوز أن يكون «مِنْكُمْ» هو الخبر، و «يَدْعُونَ» صفة ل «أمة» ، وفيه بُعد.
وقرأ العامة: «وَلْتَكُنْ» بسكون اللام.
وقرأ الحسن والزهريّ والسلميّ بكسرها، وهو الأصل.
وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} من باب ذكر الخاص بعد العام؛ اعتناء به - كقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]-؛ لأن اسم «الْخَيْر» يقع عليهما، بل هما أعظم الخيور.
فصل
قال بعض العلماء: «مِنْ» - هنا - ليست للتبعيض، لوجهين:
الأول: أنه أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة.
الثاني: أنه يجب على كل مكلَّف الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر - إما بيده، أو لسانه، أو بقلبه - فيكون معنى الآية: كونوا أمةً دُعاةً إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر.
وكلمة: «مِنْ» : إنما هي للتبيين، كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ويقال: لفلان من أولاده جند، وللأمير من غِلْمانه عَسْكَر، والمراد: جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم - فكذا هنا. ثم إذا قلنا بأنه يجب على الكُلِّ، فيسقط بفعل البعض، كقوله تعالى: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] ، وقوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39] فالأمر عامٌّ، ثم إذا قام به مَنْ يكفي، سقط التكليف عن الباقين والقائلون بالتبعيض اختلفوا على قولين:
أحدهما: أن في القوم مَنْ لا يقدر على الدعوة، والأمر بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر - كالمرضى والعاجزين.
الثاني: أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء؛ لأن الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مشروطة بالعلم بهم، ونظيره قوله تعالى: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة} [الحج: 41] وليس كل الناس يُمَكنون.
وقوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] ، وأيضاً الإجماع على أن ذلك واجب على الكفاية، وإذا كان كذلك كان المعنى: ليقُمْ بذلك بعضُكم.
وقال الضَّحَّاك: المراد بهذه الآية: أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم كاوا يتعلمون من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويعلّمون الناس.(5/450)
قال القُرْطُبِيُّ: «وقرأ ابنُ الزبير: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم» .
قال ابن الأنباري: «هذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين، فألحقه بألفاظ القرآن، يدل على ذلك أن عثمان بن عفان قرأ: ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم.
فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتد هذه الزيادة من القرآن؛ إذْ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين «.
فصل
قال المفسرون: الدعوة إلى الخير - أي: إلا الإسلام - والأمر بالمعروف، وهو الترغيب في فعل ما ينبغي، والنهي عن المنكر هو الترغيب في تَرْك ما لا ينبغي، {وأولئك هُمُ المفلحون} أي: العاملون بهذه الأعمال هم المفلحون الفائزون، وقد تقدم تفسيره.
قال - عليه السلام -:» مَنْ أمَرَ بالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ، كَانَ خَلِيفَةَ اللهِ، وَخلِيفَةَ رَسُولِهِ، وَخَلِيْفَةَ كِتَابِهِ «وقال - أيضاً -:» وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأمُرنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ولتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتدْعُنَّهُ فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ «.
قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات} .
قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم: هم المُبْتَدِعَةُ من هذه الأمة.(5/451)
وقال أبو أمامةُ: هم الحرورية بالشام.
وقال عبد الله بن شداد: وقف أبو أمامة - وأنا معه - على رؤوس الحرورية بالشام فقال: كلاب النار كانوا مؤمنين، فكفروا بعد إيمانهم، ثُمَّ قرأ: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا} الآية.
وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مَنْ سرَّه بَحْبُوحَةُ الجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةِ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الواحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنينِ أبْعَدُ «.
وذكر الفعلَ في قوله: {وجَآءَهُمُ البينات} للفصل ولكونه غيرَ حقيقيِّ؛ لأنه بمعنى الدلائل.
وقيل: لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل - إذا كان فعل المؤنث متقدِّماً.
والتفرق والافتراق واحد، ملا رَوَى أبو برزة - في حديث بيع الفرس -، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» البَيْعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَإنِّي لأرَاكُما قَدِ افْتَرَقْتُمَا «فجعل التفرُّقَ والافتراقَ بمعنًى واحدٍ، وهو أعلم بلغة الصحابة، وبكلام النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال القرطبي: وأهل اللغة فرَّقوا بين فَرَقْت - مخففاً - وفرَّقت مشدداً، فجعلوه - بالتخفيف - في الكلام، وبالتثقيل في الأبدان» .
قال ثعلب: «أخبَرَني ابن الأعرابيّ، قال: يقال: فرَقْتُ بين الكلامين - مخففاً - فافترقا، وفرَّقْت بين الاثنين بالتشديد فتفرقا» . فجعل الافتراق في القول، والتفرق في الأبدان، وكلام أبي برزة يرد هذا.
وقال بعضهم: {تَفَرَّقُواْ واختلفوا} معناهما مختلف.
فقيل: تفرقوا بالعداوة، واختلفوا في الدين.
وقيل: تفرقوا بسبب استخراج التأويلاتِ الفاسدةِ لتلك النصوصِ، واختلفوا في أن حاول كلُّ واحدٍ منهم نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ.
وقيل: تفرقوا بأبدانهم - بأن صار كل واحد من أولئك الأخيار رئيساً في بلدٍ.
قوله: {وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني: بسبب تفرُّقهم.(5/452)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
في ناصب «يَوْمَ» أوجه:
أحدها: أنه الاستقرار الذي تضمنه «لَهُمْ» والتقدير: وأولئك استقر لهم عذاب يوم تبيضُّ وجوه.
وقيل: إن العامل فيه مضمر، تدل عليه الجملة السابقة، والتقدير: يُعَذَّبُونَ يوم تبيض وجوه.
وقيل: اعاملَ فيه «عَظِيمٌ» وضُعِّفَ هذا بأنه يلزم تقييد عِظَمِهِ بهذا اليوم.
وهذا التضعيف ضعيف؛ لأنه إذا عظم في هذا اليوم ففي غيره أوْلَى.
قال شهابُ الدين: «وهذا غير لازم» ، قال: «وأيضاً فإنه مسكوت عنه فيما عدا هذا اليوم» .
وقيل: إن العامل «عَذَابٌ» . وهذا ممتنع؛ لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه.
وقيل: إنه منصوب بإضمار «اذكر» .
وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو نُهَيك، وأبو رُزَيْن العقيليّ: «تِبْيَضُّ» و «تِسْوَدُّ» - بكسر التاء - وهي لغة تميم.
وقرأ الحسن والزهري وابن مُحَيْصِن، وأبُو الجَوْزَاءِ: تِبياضّ وتسوادّ - بألف فيهما - وهي أبلغ؛ فإن البياض أدلُّ على اتصاف الشيء بالبياض من ابيضَّ، ويجوز كسر حرف المضارعة - أيضاً - مع الألف، إلا أنه لم ينقل قراءةً لأحدٍ.
فصل
نظير هذه الآية قوله تعالى: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] ، وقوله: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [يونس: 26] ، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22 - 25] ، وإذا عرفت هذا، ففي هذا البياض والسواد وجهان:(5/453)
الأول: قال أبو مسلم: إن البياض عبارة عن الاستبشار، والسواد عبارة عن الغم، وهذا مجاز مستعمل قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} [النحل: 58] . ويقال: لفلان عندي يَدٌ بيضاء.
وقال بعضهم في الشيب: [الخفيف]
1563 - يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي ... عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُون
فَلَعَمْرِي لأخْفِيَنَّكَ جَهْدِي ... عَنْ عَيَانِي، وعَنْ عَيَانِ الْعُيُونِ
بِسَوَادِ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي ... وَسَوَادٌ لِوَجْهِكَ المَلْعُونِ
وتقول العرب - لمن نال بغيته، وفاز بمطلوبه -: ابيضَّ وجهه، ومعناه: الاستبشار والتهلل، ويقال - لمن وصل إليه مكروه -: ارْبَدَّ وجهه، واغبرَّ لونُه، وتغيرت صورته، فعلى هذا معنى الآية: إن المؤمن مستبشر بحسناته، وبنعيم الله، والكافر على ضد ذلك.
الثاني: أن البياض والسواد يحصلان حقيقة؛ لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يصرفه، فوجب المصير إليه، ولأبي مسلم أن يقول: بل معنا دليل يصرفه، وهو قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 38 - 41] ، فجعل الغَبَرةَ والقَتَرَة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً له.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن المكلَّف إما مؤمن، وإما كافر، وليس - هنا - قسم ثالث كما قاله المعتزلة - فلو كان ثَمَّ ثالث لذكره، قالوا: ويؤيده قوله تعالى:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 38 - 42] .
وأجاب القاضي: بأن ترك القسم الثالث لا يدل على عدمه؛ لأنه تعالى قال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ، فذكرهما منكرين، وذلك لا يفيد العموم، وأيضاً فالمذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد إيمانهم، ومعلوم أن الكافر الأصليَّ من أهل النار، مع أنه لم يدخل في هذا التقسيم، فكذلك الفساق. وأجيب بوجهين:
الأول: أن المراد منه كل مَنْ أسلم وقت استخراج الذريَّة من صُلْب آدم، رواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيدخل الكل فيه.
الثاني: أنه قال: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ، فجعل موجب العذاب هو الكفر، سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً أصليًّا.
قال الزمخشري: هم المنافقون، آمنوا بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم.(5/454)
وقال عكرمة: هم أهل الكتاب، آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يُبْعَث، فلما بُعِثَ كفروا به.
قوله: {أكَفَرْتُمْ} هذه الجملة في مَحَلِّ نصب بقول مُضْمَرٍ، وذلك القول المضمر - مع فاء مضمرة - أيضاً - هو جواب «أما» ، وحذف الفاء مع القول مطرد، وذلك أن القول يُضْمَر كثيراً، كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23 - 24] .
وقوله: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ} [الزمر: 3] ، وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} [البقرة: 127] ، وأما حذفها دون إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورة.
كقوله: [الطويل]
1564 - فأمَّا الْقِتَالُ لا قَتالَ لَديْكُمُ ... وَلِكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ الْمَوَاكِبِ
أي: فلا قتال.
وقال صاحب «أسرار التنزيل» : إنّ النحاة اعترض عليهم - في قولهم: لما حذف يقال: حُذِفت الفاء؛ بقوله تعالى: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} [الجاثية: 31] ، فحذف يقال، ولم يحذف الفاء، فلما بطل هذا تعيَّن أن يكون الجواب في قوله: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ، فوقع ذلك جواباً له، ولقوله: {أَكَفَرْتُم} ومن نظم العرب - إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له - أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً، ثم يجعلون له جواباً واحداً، كما في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] ، فقوله: {فلا خوف عليهم} جواب للشرطين معاً، وليس «أفلم تكن آياتي» جواب «إما» بل الفاء عاطفة على مقدَّر، والتقدير: أأهملتكم، فلم أتل عليكم آياتي؟
قال أبو حيان: وهو كلام أديب لا كلام نحويّ، أما قوله: قد اعترض على النحاة، فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة؛ لأنه ما من نحويٍّ إلا خرَّج الآيةَ على إضمار: فيُقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فَحْوَى الخطابِ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدَّر لا يستغني المعنى عنه، فالقول بخلافه مخالف للإجماع، فلا التفات إليه.
وأما ما اعترض به من قوله: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} [الجاثية: 31] وأنهم قدروه: فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فحذف فيقال ولم تحذف الفاء، فدل على بطلان هذا التقدير - فليس بصحيح، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في «أفَلَمْ» ليست فاء «فيقال» التي هي جواب «أما» - حتى يقال: حذف «يقال» وبقيت الفاء، بل الفاء التي هي جواب «أما» و «يقال» بعدها - محذوف، وفاء «أفلم» يحتمل وجهين:(5/455)
أحدهما: أن تكون زائدة.
وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر: [الطويل]
1565 - يَمُوتُ أناسٌ أوْ يَشِيبُ فَتَاهُمُ ... وَيَحْدُثُ نَاسٌ، والصَّغِيرُ فِيَكْبُرُ
أي: صغير يكبر، وقول الآخر: [الكامل]
1566 - لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِزمُهَا ... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْضَبُ
أي: تركت، وقول زُهير: [الطويل]
1567 - أرَانِي إذَا ما بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا
يريد ثم إذا.
وقال الأخفش: «وزعموا أنهم يقولون: أخوك فوجد، يريدون: أخوك وجد» .
والوجه الثاني: أن تكون الفاء تفسيرية، والتقدير: فيقال لهم ما يسوؤهم، «أفلم» تكن آياتي، ثم اعتني بحرف الاستفهام، فتقدمت على الفاء التفسيرية، كما تتقدم على الفاء التي للتعقيب في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} [يوسف: 109] وهذا على رَأي من يثبت أن الفاء تفسيرية، نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه. . إلى آخر أفعال الوضوء، فالفاء - هنا - ليت مرتِّبة، وإنما هي مفسِّرة للوضوء، كذلك تكون في {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} مفسرة للقول الذي يسوؤهم.
وقوله: فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب: «تذوقوا» ، أي: تعيَّن بطلان حذف ما قدَّره النحويون، من قوله: «فيقال لهم» ؛ لوجود هذه الفاء في «أفلم تكن» ، وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل؛ وأنه سواء في الآيتين، وإذا كان كذلك فجواب: «أما» هو فيقال - في الموضعين - ومعنى الكلام عليه، وأما تقديره: أأهملتكم فلم تكن آياتي تتلى عليكم؟ فهذه نزعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشريَّ يقدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فِعْلاً يصح عطف ما بعدها عليه، ولا يعتقد أن الفاء والواو، و «ثم» إذا دخلت عليها الهمزة - أصلهن التقديم على الهمزة، لكن اعتني بالاستفهام، فقدم على حرف العطف - كما ذهب(5/456)
إليه سيبويه وغيره من النحويين - وقد رجع الزمخشريّ إلى مذهب الجماعة في ذلك، وبطلان قول الأول مذكور في النحو وقد تقدم - في هذا الكتاب - حكاية مذهب الجماعة في ذلك، وعلى تقدير قول هذا الرجل - أأهملتكم فلم تكن آياتي، لا بدّ من إذمار القول، وتقديره: فيقال: أاهملتكم؛ لأن هذا المقدَّر هو خبر المبتدأ، والفاء جواب «أما» ، وهو الذي يدل عليه الكلام، ويقتضيه ضرورة.
وقول هذا الرجل: فوعق ذلك جواباً له ولقوله: «أكفرتم» يعني: أن «فذوقوا العذاب» جواب ل «أما» ولقوله: «أكفرتم» والاستفهام - هنا - لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم.
وأما قول هذا الرجل: ومن نظم العرب إلى آخره، فليس كلام العرب على ما زعم، بل يُجْعَل لكُلٍّ جوابٌ، إن لا يكن ظاهراً فمقدَّر، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً.
وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} [البقرة: 38] وزعمه أن قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] . انتهى.
والهمزة في «أكَفَرْتُمْ» للإنكار عليهم، والتوبيخ لهم، والتعجُّب من حالهم.
وفي قوله: «أكَفَرْتُمْ» نوع من الالتفات، وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوين الخطاب، وذلك أن قوله: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} في حكم الغيبة، وقوله - بعد ذلك «أكَفَرْتُمْ» خطاب مواجهة.
قوله: {فَذُوقُوا} من باب الاستعارة، جعل العذاب شيئاً يُدْرَك بحاسَّةِ الأكْل، والذوق؛ تصويراً له بصورة ما يُذَاق.
وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ} الباء سببية، و «ما» مصدرية، ولا تكون بمعنى: الذي؛ لاحتياجها إلى العائد، وتقديره غير جائز، لعدم الشروط المجوِّزة لحَذْفِه.
فإن قيل: إنه - تعالى - قدَّم الذين ابيضَّت وجوهُهُمْ - في التقسيم - على الذين اسودَّت وجوهُهُم وكان حق الترتيب أن يقدِّمَهم في البيان.
فالجواب: أن الواو للجمع لا للترتيب، وأيضاً فالمقصود إيصال الرحمة، لا ابتداء العذاب، فابتدأ بذكر أهل الثواب، لأنهم أشرف، ثم ختم بذكرهم، تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب، كما قال: {سبقت رحمتي غضبي} ، وأيضاً فالفصحاء والشعراء قالوا: يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع، ويشرح الصدر - وذكر رحمة الله تعالى كذلك - فلا جرم ابتدأ بذكر أهل الثواب، وختم بذكرهم.(5/457)
قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
قال ابنُ عباس: هي الجنة.
قال المحققون: هذا إشارة إلى أن العبد - وإن كثرة طاعاتُه - لا يدخل الجنة إلا برحمة الله؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل، والترك سواء، يمتنع منه الفعل، فإذا لم يحصل رُجْحان داعية الطاعة، لم تحصل منه الطاعة، وذلك الرُّجْحان لا يكون إلا بخلق الله - تعالى - فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد، فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً كما تقوله المعتزلة؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله - تعالى - وبرحمته، وبكرمه، لا باستحقاقنا.
قرأ أبو الجزاء، وابنُ يَعْمُرَ: اسْوَادَّتْ، وابياضَّتْ - بألف - وقد تقدمت قراءتهما: تبياض، وتسوادُّ، وهذا قياسها، وأصْل «افْعَلَّ» هذا أن يكون دالاً على عَيْبٍ حِسِّيٍّ - ك «اعورَّ واسود واحْمَرَّ» - وأن لا يكون من مضعف كأجَمَّ، ولا معتل اللام كألْمَى، وأن يكون للمطاوعة، وندر نحو انقضَّ الحائط، وابْهَارَّ الليل، واشعارَّ الرجل - تفرَّق شَعْرُه - إذْ لا دلالةَ فيه على عَيْبٍ، ولا لون، وندر - أيضاً - ارْعَوَى، فإنه معتل اللام، مطاوع لرعوته - بمعنى، كففته - وليس دالاًّ على عيب، ولا لون، وأما دخول الألف في «افْعَلَّ» هذا - فدالٌّ على عُرُوضِ ذلك المعنى، وعدمها دالٌّ على ثبوته واستقراره، فإذا قلتَ: اسوادَّ وجْهُه، دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عُروض فيه، وإذا قلت: اسوادَّ، دل على حدوثه، هذا هو الغالب، وقد يُعْكَس، قال تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64]- فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين - وقال: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} [الكهف: 17] القصد به العروض لازورار الشمس، لا الثبوت والاستقرار - كذا قيل - وفيه نظر؛ لأن المقصود وَصْف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصَّة.
فصل
قال بعض المفسرين: بياض الوجوه وسوادها، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة.
وقيل: عند الميزان، إذا رجحت حسناته ابْيَضَّ وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسوَدَّ وجهه.
قيل: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه، فرأى حسناته استبشر، ابيضَّ وجْهُه، وإذا قرأ الكافر كتابَه، فرأى سيئاته اسوَدَّ وجهه.(5/458)
وقيل: إن ذلك عند قوله تعالى: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [يس: 59] .
قيل: يُؤمَرُ كلُّ فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهَوا إليه حزنوا واسودَّتْ وجوهُهُمْ.
قوله: {فَفِي رَحْمَةِ الله} فيها وجهان:
أحدهما: أن الجارَّ متعلق ب «خالِدُونَ» ، و «فِيهَا» تأكيد لفظي للحرف، والتقدير: فهم خالدون في رحمة الله فيها. وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيداً لفظياً، إلا بإعادة ما دخل عليه، أو بإعادة ضميره - كهذه الآية - ولا يجوز أن يعود - وحْدَه - إلا في ضرورةٍ.
كقوله: [الرجز]
1568 - حَتَّى تَرَاهَا وكَأنَّ وكأنْ ... أعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ
كذا ينشدون هذا البيت.
وأصرح منه في الباب - قول الشاعر: [الوافر]
1569 - فَلاَ وَاللهِ لا يُلْقَى لِمَا بِي ... وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
ويحسن ذلك إذا اختلف لفظهما.
كقوله: [الطويل]
1570 - فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ ... أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا
للهم إلا أن يكون ذلك الحرفُ قائماً مقام جملة، فيُكَرَّر - وحده - كحروف الجواب، مثل: نَعَمْ نَعَمْ، وبلى بلى، ولا لا.
والثاني: أن قوله: {فَفِي رَحْمَةِ الله} : خبر لمبتدأ مُضْمَر، والجملة - بأسْرها - جواب: «أما» والتقدير: فهم مستقرون في رحمة الله، وتكون الجملة - بعده - من قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود، فلا تعلُّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب.(5/459)
قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: كيف موقع قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بعد قوله: {فَفِي رَحْمَةِ الله} ؟
قلت: موقع الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون، لا يظنعون عها، ولا يموتون.
فإن قيل: الكُفَّار مخلَّدون في النار، كما أن المؤمنين مخلَّدون في الجنة، فما الحكمة في ذكر خلود المؤمنين ولم يذكر خلود الكافرين؟
فالجواب: أن ذلك يُشْعِر بأنَّ جانبَ الرحمةِ أغْلَب؛ لأنه ابتدأ بذكر أهل الرحمة، وختم بهم، لمَّا ذكر العذابَ لم يُضِفْه إلى نفسه، بل قال: {فَذُوقُواْ العذاب} ، وأضاف ذكر الرحمة إلى نفسه، فقال: {فَفِي رَحْمَةِ الله} ، ولما ذكر العذاب ما نصَّ على الخلود، ونصَّ عليه في جانب الرحمة، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم، فقال: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ولما ذكر الثواب علَّلَه برحمته، فقال: {فَفِي رَحْمَةِ الله} ثم قال - في آخر الآية -: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] ، وكل ذلك يُشْعِر بأن جانبَ الرحمة مُغَلَّب.(5/460)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قوله: «تلْكَ» مبتدأ، {آيَاتُ الله} خبره، و «نَْلُوهَا» جملة حالية.
وقيل: {آيَاتُ الله} بدل من «تِلْكَ» ، و «نَتْلُوها» جملة واقعة خبر المتبدأ، و «بِالحَقِّ» حال من فاعل «نتلُوهَا» ، أو مفعولة، وهي حال مؤكدة؛ لأنه - تعالى - لا ينزلها إلا على هذه الصفة.
وقال الزَّجَّاج: «في الكلام حذف، تقديره: تلك آيات القرآن حُجَجُ الله ودلائله» .
قال أبو حيان: فعلى هذا الذي قدَّره يكون خبر المبتدأ محذوفاً؛ لأنه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية، وهذا التقدير لا حاجة إليه؛ [إذ الكلام مُسْتَغْنٍ عنه، تامٌّ بنفسه] .
والإشارة ب «تِلْكَ» إلى الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار، وتنعيم الأبرار، وإنما جاز إقامة «تلك» مقام هذه؛ لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر، فصارت كأنها بعدت، فقيل فيها: «تلك» .
وقيل: لأن الله - تعالى - وعده أن يُنزل عليه كتاباً مشتملاً على ما لا بدّ منه في الدين، فلما أنزل هذه الآيات قال: تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك.
وقرأ العامة «نَتْلُوها» - بنون العظمة - وفيه التفات من الغيبة إلى التكلَّم.(5/460)
وقرأ أبو نُهَيْك: «يتلوها» بالياء - من تحت - وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون الفاعل ضمير الباري - تعالى - لتقدُّم ذكره في قوله: {آيَاتُ الله} ولا التفات في هذا التقدير، بخلاف قراءة العامة.
الثاني: أن يكون الفاعل ضمير جبريل.
قوله: {بالحق} فيه وجهان:
لأول: ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه.
الثاني: بالحق، أي: بالمعنى الحق؛ لأن معنى المتلُوِّ حَقّ.
قوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} اللام - في «لِلْعَالَمِينَ» - زائدة - لا تعلُّق لها بشيء، زيدت في مفعول المصدر وهو ظلم والفاعل محذوف، وهو - في التقدير - ضمير الباري، والتقدير: وما الله يريد أن يظلم العالمين، فزيدت اللام، تقوية للعامل؛ لكونه فرعاً، كقوله: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] .
فصل
وقيل: معنى الكلام: وما الله يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض، ورُدَّ هذا بأنه لو كان المراد هذا لكان التركيب ب «من» أولى منه باللام، فكان يقال: ظلماً من العالمين، فهذا معنى ينبو عنه اللفظ. ونكر «ظلماً» ؛ لأنه في سياق النفي، فهو يعم كل أنواع الظلم، وحسن ذكر الظلم - هنا -، لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة، وهو تعالى أكرم الأكرمين، فكأنه - تعالى يعتذر عن ذلك، فقال: إنهم إنما وقعوا في هذا العذاب بسبب أفعالهم.
فصل
قال الجبائي: هذه الآية تدل على أنه - تعالى - لا يريد شيئاً من القبائح، لا من أفعاله، ولا من أفعال عباده ولا يفعل شيئاً من ذلك، لأن الظلم إما أن يُفْرَض صدوره من الله - تعالى - أو من العبد، وصدوره من العبد إما أن يظلم العبد نفسه بعصيانه - أو يظلم غيره، فهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الظلم، وقوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} نكرة في سياق النفي، فوجب ألا يريد شيئاً يكون ظلماً، سواء كان منه أو من غيره، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يفعل الظلم أصلاً - ويلزم منه أن يكون فاعلاً لأعمال العباد؛ لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم، وظلم بعضهم لبعض، فثبت بهذه الآية أنه - تعالى - غير فاعل للظلم، وغير فاعل لأعمال العباد، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد، قالوا: ويؤيده قوله - بعد ذلك -: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [آل عمران: 109] وإنما ذكر هذه الآية - عقيب ما تقدم - لوجهين:(5/461)
الأول: أنه لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح، استدل عليه بأن فاعل القبيح، إنما يفعل القبيح إما للجهل، أو للعجز، أو للحاجة، وكل ذلك - على الله - محال؛ لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض وهذه المالكية تنافي العَجْزَ والجَهْلَ والحاجة، فامتنع كونه فاعلاً للقبيح.
الثاني: أنه لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجهٍ من الوجوه، كان لقائل أن يقولَ: إنا نشاهد وجودَ الظلم في العالم، فإذا لم يكن وقوعه بإرادة الله - تعالى - ك ان على خلاف إرادته، فيلزم منه كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً، وذلك محال.
فأجاب الله - تعالى - بقوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي: أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلم عن الظالم - على سبيل الإلجاء والقَهْر - وإذا كان قادراً على ذلك لا يكون عاجزاً، ضعيفاً؛ إلا أنه - تعالى - أراد منهم ترك المعصية - اختياراً - ليستحقوا الثواب، فلو قهرهم على الترك لبطلت هذه الفائدة.
وأجيب بأن المراد من الآية أنه - تعالى - لا يريد أن يظلم أحداً من عباده.
وقوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يدل على كونه خالقاً لأفعالِ العبادِ؛ لأن أفعالَ العبادِ من جملة ما في السموات وما في الأرض.
وأجاب الجبائي: بأن قوله: «ولله» إضافة ملك، لا إضافة فعل، ألا ترى أنه يقال: هذا البناء لفلان. ويريدون أنه مملوكه، لا أنه مفعوله، وأيضاً فالمقصود من الآية تعظيم الله - تعالى - لنفسه، وتَمدُّحه لإلهية نفسه، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب غلى نفسه الأفعال القبيحة، وأيضاً فقوله: {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ، إنما يتناول ما كان مظروفاً في السموات والأرض، وذلك من صفات الأجسام، لا مِنْ صفات الأفعال التي هي أعراض.
وأجيب بأن هذه إضافة الفعل؛ لأن القادر على الحَسَن والقبيح، لا يرجح الحَسَن على القبيح إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى الفعل الحَسَن، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله - تعالى - دَفْعاً للتسلسل، ولمَّا كان المؤثِّر في حصول فعل العبد هي مجموع القدرة والداعية بخلق الله - تعالى - ثبت أن فعل العبد مخلوق لله تعالى.
وقوله: {وإلى الله تُرْجَعُ الأمور} المراد منه رجوع الخلق إلى حُكمه وقضائه، لا لحكم غيره.(5/462)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
في «كان» هذه - ستة أقوال:(5/462)
أحدها: أنها ناقصة على بابها - وإذا كانت كذلك، فلا دلالة لها على مُضِيٍّ وانقطاع، بل تصلح للانقطاع نحو: كان زيدٌ قائماً، وتصلح للدوام، كقوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] ، وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ، فهي - هنا - بمنزلة: لم يزل، وهذا بحسب القرائن.
وقال الزمخشري: «كان عبارة عن وجود الشيء في زمنٍ ماضٍ، على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] . كأنه قيل: وُجِدتم خيرَ أمة» .
قال أبو حيان: قوله: «لم يدل على عدم سابق» ، هذا إذا لم يكن بمعنى: «صار» ، فإذا كان بمعنى: «صار» دلت على عدم سابق، فإذا قلتَ: كان زيدٌ عالماً - بمعنى: صار زيدٌ عالماً - دل على أنه نقل من حالة الجَهْل إلى حالة العلم.
وقوله:؛ «ولا على انقطاع طارئ» ، قد ذكرنا - قبل - أن الصحيح أنها كسائر الأفعال، يدل لفظ المُضِيّ منها على الانقطاع، ثم قد يستعمل حيث لا انقطاع، وفرق بين الدلالة والاستعمال؛ ألا ترى أنك تقول: «هذا اللفظ يدل على العموم» ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم، بل يراد الخصوص.
وقوله: كأنه قيل: «وجتم خير أمة» ، هذا يعارض قوله: إنها مثل قوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ؛ لأن تقديره: وجدتم خير أمة يدل على أنها التامة، وأن {خَيْرَ أُمَّةٍ} حال، وقوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} لا شك أنها - هنا - الناقصة، فتعارضا.
قال شهابُ الدين: «لا تعرُضَ؛ لأن هذا تفسير معنًى، لا إعراب» .
الثاني: أنها بمعنى: «صرتم» ، و «كان» تأتي بمعنى: «صار» كثيراً.
كقوله: [الطويل]
1571 - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كأنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي: صارت فراخاً.
الثالث: أنها تامة، بمعنى: «وجدتم» ، و {خَيْرَ أُمَّةٍ} - على هذا منصوب على الحال، أي: وجدتم على هذه الحال.
الرابع:؛ أنها زائدة، والتقدير: أنتم خير أمة، وهذا قول مرجوح، أو غلط، لوجهين:
أحدهما: أنها لا تزاد أولاً، وقد نقل ابنُ مالك الاتفاق على ذلك.(5/463)
الثاني: أنها لا تعمل في «خير» مع زيادتها.
وفي الثاني نظر، إذ الزيادة لا تنافي العمل، لما تقدم عند قوله: «وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله» ؟
الخامس: أنها على بابها، والمراد: كنتم في علم الله، أو في اللوح المحفوظ، أو في الأمم السالفة، مذكورين بأنكم خير أمة.
السادس: أن هذه الجملة متصلة بقوله: «ففي رحمة الله» ، أي: فيقال لهم يوم القيامة: «كنتم خير أمة» ، وهو بعيد جِدًّا.
قوله: {أُخْرِجَتْ} يجوز في هذه الجملة أن تكون في مَحَلِّ جَرٍّ؛ نعتاً ل «أمةٍ» - وهو الظاهر - وأن تكون في محل نصب؛ نعتاً ل «خَيْر» ، وحينئذ يكون قد روعي لفظ الاسم الظاهر بعد وروده بعد ضمير الخطاب، ولو روعي ضمير الخطاب لكان جائزاً - أيضاً - وذلك أنه إذا تقدم ضميرُ حاضرٍ - متكلِّماً كان أو غائباً أو ماطباً - ثم جاء بعده خبره اسماً ظاهراً، ثم جاء بعد ذلك الاسم الظاهر ما يصلح أن يكون وصفاً له كان للعرب فيه طريقان:
أحدهما: مراعاة ذلك الضمير السابق، فيطابقه بما في تلك الجملة الواقعة صفة للاسم الظاهر.
الثانية: مراعاة ذلك الاسم الظاهر، فيبعد الضمير عليه منها غائباً، وذلك كقولك: أنت رجل يأمر بالمعروف، بالخطاب، مراعاة ل «أنت» ، وبالغيبة، مراعاة للفظ «رجل» ، وأنا امرؤ أقول الحق - بالمتكلم؛ مراعاة ل «أنا» ويقول الحقّ، مراعاة لمرئٍ، وبالغيبة مراعة للفظ امرئ، ومن مراعاة الضمير قوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] ، وقوله: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» .
وقول الشاعر: [الطويل]
1572 - وَأنْتَ امْرُؤٌ قَدْ كَثَّأتْ لَكَ لِحْيَةٌ ... كَأنَّكَ مِنْهَا قَاعِدٌ في جُوَالِقِ
ولو قيل: - في الآية الكريمة -: أخْرِجْتُمْ؛ مراعاة ل «كُنْتُمْ» لكان جائزاً - من حيث(5/464)
اللفظ - ولكن لا يجوز أن يُقْرأ به؛ لأن القراءةَ سنَّة مُتَّبَعَةٌ، فالأولَى أن تُجْعَل الجملة صفة ل «أمَّةٍ» ، لا ل «خَيْرَ» ن لتناسب الخطاب في قوله: {تَاْمُرُونَ} .
قوله: {لِلنَّاسِ} فيه أوجه:
أحدها: أن تتعلق ب {أُخْرِجَتْ} ومعناه: ما أخرج الله أمة خيراً من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي الحديث: «ألا وَإنَّ هَذِه الأمة تُوفِّي سبعين أمة، أنتم خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى» .
الثاني: أنه متعلق ب «خَيْرَ» أي: أنتم خير الناس للناس.
قال أبو هريرة: معناه:؛ كنتم خير الناس للناس؛ تجيئون بهم في السلاسل، فتُدْخلونهم في الإسلام.
وقال قتادة: هم أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يؤمر نبيٌّ قبله بالقتال، فهم يقاتلون الكفار، فيُدْخلونهم في الإسلام، فهم خير أمةٍ للناس.
والفرق بينهما - من حيث المعنى - أنه لا يلزم أن يكونوا أفضلَ الأمم - في الوجه الثاني - من هذا اللفظ بل من موضع آخرَ.
الثالث: أنه متعلِّق - من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب، ب «تَأمُرُونَ» على أن مجرورَها مفعول به، فلما تقدم ضَعُفَ العامل، فَقُوِّيَ بزيادة اللام، كقوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أي: إن كنتم تعبرون الرؤيا.
قوله: {تَأْمُرُونَ} في هذه الجملة أوجُهٌ:
الأول: أنها خبر ثان لِ «كُنْتُمْ» ، ويكون قد راعى الضمير المتقدم - في «كُنْتُمْ» ، ولو راعى الخبر لقال: يأمرون - بالغيبة، وقد تقدم تحقيقه.
الثاني: أنها في محل نصب على الحال، قاله الراغب وابن عطية.
الثالث: أنها في محل نصب؛ نعتاً لِ {خَيْرَ أُمَّةٍ} ، وأتى بالخطاب لما تقدم، قاله الحوفي.
الرابع: أنها مستأنفة، بيَّن بها كونهم خير أمة، كأنه قيل: السبب في كونكم خير الأمم هذه الخصال الحميدة، والمقصود بيان علة تلك الخيرية - كقولك: زيد كريم؛(5/465)
يُطعِم الناسَ ويكسوهم - لأن ذِكْرَ الحكم مقروناً بالوصف المناسِب له يُشْعِر بالعلِّيَّةِ، فها هنا لما ذكر - عقيب الخيرية - أمْرَهم بالمعروف، ونَهْيَهُم عن المنكر، أوجب أن تكون تلك الخيرية لهذا السبب، وهذا أغرب الأوجه.
فصل
في كيفية النظم وجهان:
أحدهما: أنه لما حذَّر المؤمنين من أن يكونوا مثل أهل الكتاب - في التفرُّق والاختلاف، وذكر ثواب المطيعين، وعقاب الكافرين، وكان الغرض من ذلك حَمْلَ المؤمنين على الانقياد والطاعة، أرْدَفه بطريق آخر يقتضي الحمل على الانقياد والطاعة، فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، فاللائق بكم ألا تُبْطِلوا على أنفسكم هذه الفضيلة المحمودة، وإن كنتم منقادين للطاعات.
الثاني: أنه - تعالى - لما ذكر وعيدَ الأشقياء، وتسويد وجوههم - ونبَّه على السبب بقوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] يعني: أنهم إنما استحقُّوا ذلك بأفعالهم القبيحةِ؛ نبَّه في هذه الآية على سبب وعد السعداء بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} يعني: أن تلك السعدات التي فازوا بها في الآخرة؛ لأنهم كانوا خير أمةٍ أخْرِجَتْ للناس.
قال عكرمة، ومُقَاتِلٌ: نزلت في ابن مسعود، وأبَي بن كعب، ومُعَاذِ بن جبلٍ، وسالم مولي أبي حذيفة، وذلك أن مالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا اليهوديَّيْن قالا لهم: نحن أفضل منكم، وديننا خير مما تدعوننا إليه. [فأنزل الله هذه الآية] .
وروى الترمذيُّ - عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده - أنه سمع النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول - في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} قال: «أنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أمَّةً، أنْتُمْ خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى» قال: هذا حديث حسن. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة.
وقال جويبر - عن الضَّحَّاك -: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصَّة الدعاة والرواة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم.
وروي عن عمر بن الخطاب، قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تكون لأولنا، ولا تكون لآخرنا.(5/466)
وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خَيْرُكم قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - قال عمران بن حصين: لا أدري، أذَكَر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد قرنه قرنين أم ثلاثة؟ - ثم إن بعدكم قوماً يخونون ولا يُؤتَمَنُون، ويَشهدون ولا يُستشهَدون، ويَنْذِرون ولا يُوفون، ويظهر فيهم السمن» .
فصل
قال القفال: أصل الأمة: الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد، فأمة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به، والإقرار بنبوته، وقد يُقال - لكل من جمعته الدعوة - إنهم أمته، إلا أن لفظ: «الأمة» إذا أطْلِقَت وَحْدَها، وقع على الأول، إلا أنه إذا قيل: أجمعت الأمة على كذا، فهم منه الأول، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ» وروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول - يوم القيامة -: «أمتي، أمَّتِي» ، فلفظ «الأمة» في هذه المواضع وأشباهها - يُفْهَم منه المُقِرُّون بنبوته، فأما أهل دعوته فإنهم إنما يُقال لهم: أمَّة الدعوة، ولا يطلق عليهم لفظ «الأمة» إلا بهذا الشرط.
فصل
احتج بعض العلماء بهذه الآية على أن إجماعَ الأمة حجة من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - قال: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] ثم قال - في هذه الآية: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} ، فوجب أن تكون - بحكم هذه الآية - هذه الأمة أفضل من تلك الأمة، الذين يهدون بالحق من قوم موسى، وإذا كان كذلك وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق، إذْ لو جاز - في هذه الأمة - أن تحكم بما ليس بحَقٍّ، لامتنع كونهم أفضل من الأمة التي تهدي بالحق؛ لأن المبطل لا يكون خيراً من الحَقِّ، وإذا ثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق كان إجماعهم حجة.
الثاني: أن الألف واللام في لفظ: «املعروف» ، و «المنكر» ، يفيدان الاستقرار، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف، وناهين عن كل منكرٍ، ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقًّا، وصدقاً - لا محالة - فكان حُجَّةً.(5/467)
فإن قيل: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، هذه الصفات الثلاث كانت حاصلة في سائر الأمم، فمن أي وَجْهٍ كانت هذه الأمة خير الأمم؟
والجواب: قال القفال: إن تفضيلهم على سائر الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر بآكد الوجوه - وهو القتال -: لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان، واليد، وأقواها القتال؛ لأنه إلقاء للنفس في خطر القتل، وأعرف المعروفات الدين الحق، والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، فلما كان الجهاد في الدين تحملاً لأعظم المضارّ؛ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم المضار، وجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل العبادات، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل هذه الأمة على سائر الأمم.
وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويُقِرُّوا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، و «لا إله إلا الله» أعظم المعروف، والتكذيب هو أنكر المنكر.
ثم قال القفال: فائدة: القتال على الدين لا يُنكره مُنْصف، لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة، ولا يتأملون في الدلائل الواردة عليهم، فإذا أكره - بالتخويف بالقتل - على الدخول في الدين، دخل فيه، ثم لا يزال يَضْعُف في قلبه ما كان من حب الباطل، ويقوى حُبُّ الدين الحقِّ في قلبه إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحقّ، ومن استحقاق العذاب الأليم إلى استحقاقِ الثوابِ الدائم، والنعيم المقيم.
فإن قيل: لم قدم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الإيمان بالله، في الذكر - مع أن الإيمان بالله - لا بد وأن يكون مُقَدَّماً على كل الطاعات.
فالجواب: أن الإيمان بالله مشترك فيه بين جميع الأمم المُحِقَّةِ، ثم إنه - تعالى - ذكر أن فَضْل هذه الأمَّة أقوى حالاً - في الأمر بالمعروف، والنَّهْيِ عن المنكر - من سائر الأمم، فالمؤثر - إذَنْ - في هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم؛ لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات وصْفاً من صفات الخيرية.
فإن قيل: لم اكتفى بذكر الإيمان بالله، ولم يذكر الإيمان بالنبوة، مع أنه لا بُدَّ منه؟
فالجواب: أنّ الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوة، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً، والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر(5/468)
المعجزة، على وفق دعواه صادقاً؛ لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول، فلما شاهد ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان الاقتصار على ذِكْر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة.
قوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: لو آمن أهل الكتاب بهذا الذي حصلت به صفة الخيريَّةِ لأتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لحصلت هذه الخيرية - أيضاً - لهم.
الثاني: أن أه لالكتاب إنما آثروا دينهم، حُبًّا للرياسة، واستتباع العوام، ولو آمنوا لحصلت لهم الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة، فكان ذلك خيراً مما قَنِعُوا به.
قوله: {لَكَانَ خَيْرًا} اسم «كان» ضمير يعود على المصدر المدلول عليه بفعله، والتقدير لكان الإيمان خيراً لهم كقولهم: «من كذب كان شراً له» أي: كان الكذب شراً له، كقوله تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] .
وقول الشاعر: [الوافر]
1573 - إذَا نُهِيَ السَّفِيةُ جَرَى إلَيْهِ ... وَخَالفَ، وَالسَّفِيةُ إلى خِلاَفِ
أي: جرى إليه السفه.
والمفضل عليه محذوف، أي: خيراً لهم من كُفْرهم، وبقائهم على جَهْلهم.
وقال ابن عطية: ولفظة «خير» صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كُفْرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظه «خير» من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة «أفضل» ، و «أحب» وما جرى مجراها.
قال أبو حيان: «وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أوْلَى - إذا أمكن ذلك - وقد أمكن ذلك؛ إذ الخيرية مطلقة، فتحصل بأدْنى مشاركة» .
قوله: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} جملة مستأنفة، سِيقت للإخبار بذلك.
قال الزمخشريّ: «هما كلامان واردان على طريق الاستطراد، عند إجراء ذِكْر أهل الكتاب، كما يقول القائل - إذا ذكر فلاناً - من شأنه كيت وكيت - ولذلك جاء من غير عاطف» .(5/469)
الألف واللام في قوله: {الْمُؤْمِنُونَ} للعهد، لا للاستغراق، والمراد عبد الله بن سلام ورهطه من «الليهود» ، والنجاشي ورَهْطه من «النصارى» .
فإن قيل: الوصْف إنما يُذْكَر للمبالغة، فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق؟
فالجواب: أن الكافر قد يكون عَدْلاً في دينه، وفاسقاً في دينه، فالفاسق في دينه يكون مردوداً عند جميع الطوائف؛ لأن المسلمين لا يقبلونه لكفْره، والكفّار لا يقبلونه لفِسْقِه عندهم، فكأنه قيل: أهل الكتاب فريقان: منهم مَنْ آمن، والذين لم يؤمنوا فهم فاسقون في أديانهم، فليسوا ممن يُقْتَدَى بهم ألبتة عند أحدٍ من العقلاء.(5/470)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
لمَّا رغَّب المسلمين في تَرْك الالتفات إلى أقوال الكُفَّار وأفعالهم بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] ، رغَّبهم - أيضاً - من وَجْه آخر، وهو أنه لا قُدْرَةَ لهم على إضرار المسلمين، إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به، ولو أنهم قاتلوا المسلمين لانهزمت الكفار، فلذلك لا يلتفت إلى أقوالهم وأفعالهم.
قال مقاتل: إن رؤوس اليهود عمدوا إلى مَنْ آمن منهم - عبد الله بن سلام وأصحابه - فآذَوْهم، فنزلت هذه الآية.
قوله: {إِلاَّ أَذًى} فيه وجهان:
أحدهما: أنه متصل، وهو استثناء مفرَّغ من المصدر العام، كأنه قيل: لن يضروكم ضرراً ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به - من كلمة سوء ونحوها - إمَّا بالطعن في محمد وعيسى - عليهما السلام - وَإمَّا بإظهار كلمة الكفر - كقولهم: عيسى ابنُ الله، وعُزَيْر ابن الله، وإن الله ثالث ثلاثة، وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل، وإما بتخويف ضعفةِ المسلمين.
الثاني: أنه منقطع، أي: لن يضروكم بقتال وغَلَبَة، لكن بكلمة أذًى ونحوها.
قال بعض العلماء: وهذا بعيد، لأن الوجوه المذكورة توجب وقوع الغَمِّ في قلوب المسلمين، والغم ضرر. فالتقدير: لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى، فهو استثناء صحيح، والمعنى: لا يضروكم إلا ضَرَراً يَسِيراً.(5/470)
قوله: {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار} هذا إخْبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لانهزموا، وخُذلوا، {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} أي: إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة، ولا قوة - ألبتة -، ونظيره قوله تعالى: {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار} [الحشر: 12] ، وقوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} [آل عمران: 12] ، وقوله: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 44 - 45] ، وكل ذلك وَعْد بالفتح، والنصر، والظفر، وهذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة.
منها: أن المؤمنين آمنون من ضررهم.
ومنها: أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا.
ومنها: أنه لا يحصل لهم شوكة بعد الانهزام.
وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا، وما أقدموا على محاربة، وطلب رئاسة إلا خُذِلوا، وكل ذلك إخبار عن الغيب، فيكون معجزاً.
فإن قيل: هَبْ أن اليهودَ كذلك، لكن النصارى ليسوا كذلك، وهذا يقدح في صحة هذه الآيات.
فالجواب: أنها مخصوصة باليهود، لما رُوِيَ في سبب النزول.
وقوله: {ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ} كلام مستأنف.
فإن قيل: لِمَ كان قوله: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} مستأنفاً، ولم يُجْزَم، عطفاً على جواب الشرط؟
فالجواب: أنه لو جُزِم لتغيَّر المعنى؛ لأن الله - تعالى - أخبرهم بعدم نُصْرَتهم - مطلقاً - فلو عطفناه على جواب الشرط لزم تقييده بمقاتلتهم لنا، بينما هم غير منصورين مطلقاً - قاتلوا، أو لم يقاتلوا.
وزعم بعضهم أن المعطوف على جواب الشرط ب «ثم» لا يجوز جزمه ألبتة، قال: لأن المعطوف على الجواب جواب، وجواب الشرط يقع بعده وعقيبه، و «ثم» يقتضي التراخي، فكيف يتصور وقوعه عقيب الشرط؟ فلذلك لم يُجْزَم مع «ثم» .
وهذا فاسد جدًّا؛ لقوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] ، ف «لا يكونوا» مجزوم نسقاً على «يستبدل» الواقع جواباً للشرط، والعاطف «ثُمَّ» .
و «الأدبار» مفعول ثان لِ «يُوَلُّوكُمْ» ؛ لأنه تعدَّى بالتضعيف إلى مفعولٍ آخَرَ.
فإن قيل: ما الذي عطف عليه قوله: {لاَ يُنصَرُونَ} ؟
فالجواب: هو جملة الشرط والجزاء، كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا يُنصرون. وإنما ذكر لفظ «ثُمَّ» ، لإفادة معنى التراخي في(5/471)
المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار.
قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} يعني: أن الذلة جُعِلَتْ ملصَقَة، بهم، كالشيء الذي يُضرب على الشيء فيلصق به، ومنه قولهم: ما هذا عليَّ بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة. والذلة: هي الذل، وفي المراد بها أقوال.
فقيل: إنها الجزية؛ وذلك؛ لأن ضَرْب الجزية عليهم يوجب الذلة والصَّغَار.
وقيل: أن يُحارَبُوا، ويقْتَلوا، وتقسَّم أموالُهم، وتُسْبَى ذَراريهم، وتُملك أراضيهم - كقوله: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} [البقرة: 191] ، ثم قال تعالى: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله} والمراد: إلاَّ بعهد من الله، وعِصْمة، وذمام من الله ومن المؤمنين؛ لأن عند ذلك تزول هذه الأحكام.
وقيل: إن المراد بها أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً، بل هم مُسْتَخْفُون في جميع البلاد، ذليلون، مهينون.
قوله: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} ، «أيْنَمَا» اسم شرط، وهي ظرف مكان، و «ما» مزيدة فيها، ف «ثُقِفُوا» في محل جزم بها، وجواب الشرط إما محذوف - أي: أينما ثُقِفُوا غلبوا وذُلّوا، دلَّ عليه قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} ، وإما نفس «ضُرِبَتْ» ، عند مَنْ يُجيز تقديم جواب الشرط عليه، ف {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} لا محل له - على الأول، ومحله جزم على الثاني.
قوله: {إلاَّ بِحَبْلٍ} هذا الجار في محل نَصْب على الحال، وهو استثناء مفرَّغ من الأحوال العامة.
قال الزمخشري: «وهو استثناء من أعَمِّ عامّة الأحوال، والمعنى: ضُرِبَتْ عليهم الذلة في عامة الأحوال، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله، وحبل الناس، فهو استثناء متصل» .
قال الزجّاج والفرَّاء: هو استثناء منقطع، فقدره الفراء: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف ما يتعلق به الجار.
كقول حميد بن ثور الهلالي: [الطويل]
1574 - رَأتْنِي بِحَبْلَيْهَا، فَصَدَّتْ مَخَافَةً ... وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ، فَرُوقُ(5/472)
أراد: أقبلت بحبليها، فحذف الفعل؛ للدلالة عليه.
ونظَّره ابنُ عطية بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} [النساء: 92] قال: «لأن بادئ الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنَّما في الكلام محذوف، يدركه فَهْمُ السامع الناظر في الأمر، وتقديره: - في أمتنا - فلا نجاة من الموت إلا بحبل» .
قال أبو حيان: «وعلى ما قدره لا يكون استثناءً منقطعاً؛ لأنه مستثنًى من جملة مقدَّرة، وهي: فلا نجاة من الموت، وهو متصل على هذا التقدير، فلا يكون استثناء المنقطع - كما قرره النحاة - على قسمين: منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل، ومنه لا يمكن فيه ذلك - ومنه هذه الآية - على تقدير الانقطاع - إذ التقدير: لكن اعتصامهم بحبل من الله وحَبْل من الناس يُنَجيهم من القتل، والأسر، وسَبي الذراري، واستئصال أموالهم؛ ويدل على أنه منقطع الإخبار بذلك في قوله تعالى - في سورة البقرة -: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [البقرة: 61] ، فلم يستثنِ هناك» .
قال محمد بن جرير الطبري: «قد ضُرِبَت الذلة على اليهود، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا، ولا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة، فقوله: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله} تقديره: لكن يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس» .
قال ابن الخطيب: «وهذا ضعيف؛ لأن حَمْلَ لفظ» إلاَّ «على» لكن «خلاف الظاهر، وأيضاً: إذا حملنا الكلام على أن المراد: لكن قد يعتصمون بحبل من الله، وحبل من الناس، لم يتم هذا القدر إلا بإضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه، والإشمار خلاف الأصل، فلا يُصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة، فإذا كان لا ضرورةَ - هاهنا - إلى ذلك، كان المصير إليه غير جائز، بل هاهنا وجه آخر، وهو أن تُحْمَل الذِّلَّةُ على كل هذه الأشياء - أعني: القتل، والأسْر، وسَبْي الذراري، وأخذ المال، وإلحاق الصغار، والمهانة، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام، وهو أخذ القليل من أموالهم - المُسَمَّى بالجزية - وبقاء المهانة والصغار فيهم» .
وقال بعضهم الباء - في قوله: «بحبل» - بمعنى: «مع» ، كقولك: اخرج بنا نفعل كذا - أي: معنا، والتقدير: إلا مع حبل من الله.
فصل
تقدم الكلام في أن المراد بالحبل: العهد.(5/473)
فإن قيل: إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس، وذلك يقتضي المغيرة.
فالجواب: قال بعضهم: حبل الله هو الإسلام، وحبل الناس هو العهد والذمة، وهذا بعيد؛ لأنه لو كان المراد ذلك، لكان ينبغي أن يقال: أو حبل من الناس.
وقال آخرون: المراد بكلا الحبلين: العهد والذمة والأمان، وإنما ذكر - تعالى - الحَبْلَيْن؛ لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين، هو الأمان المأخوذ بإذن الله تعالى.
قال ابن الخطيب: وهذا عندي - أيضاً - شعيف، والذي عندي فيه أن الأمان للذميّ قسمان:
أحدهما: الذي نصَّ الله عليه، وهو أخْذ الجزية.
الثاني: الذي فُوض إلى رَأي الإمام، فيزيد فيه تارة، وينقص بحسب الاجتهاد، فالأول: هو المُسَمَّى بحبل الله، والثاني: هو المسمى بحبل المؤمنين.
قوله: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} تقدم أن معناه: مَكَثُوا، ولبثوا، وداموا في غضب الله، مأخوذ من البوء - وهو المكان ومنه: تبوأ فلان منزل كذا - ومنه قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار} [الحشر: 9] .
قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} .
قال الحسن، وأكثر المفسرين: المسكنة: الجزية؛ لأنه لم يستثنها، فدلَّ ذلك على بقائها عليهم، والباقي عليهم ليس إلا الجزية.
وقال آخرون: المسكنة: هي أن اليهودي يُظهر من نفسه الفقر، وإن كان موسراً.
وقال آخرون: هذا إخبار من الله بأنه جعل أموال اليهود رزقاً للمسلمين، فيصيروا مساكين.
قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} بيَّن العلة في إلصاق هذه الأمور المكروهة بهم، وتقدم الكلام على مثل ذلك في سورة البقرة.
فإن قيل: فما الحكمة في قوله: {ذلك بِمَا عَصَوْاْ} ، ولا يجوز أنْ يكونَ هذا التكرير للتأكيد؛ لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقْوَى من المؤكد - والعصيان أقل حالاً من الكفر - فلا يُؤكَّد الكفر بالعصيان؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن علة الذلة، والغضب، والمسكنة، هي: الكُفر، وقتل الأنبياء، وعلة الكُفْر وقتل الأنبياء هي: المعصية؛ لأنهم لما توغَّلوا في المعاصي والذنوب، وتزايدت(5/474)
ظلمات المعاصي - حالاً فحالاً، ضعف نور الإيمان حالاً فحالاً - إلى أن بطل نور الإيمان، وحصلت ظلمة الكُفْر، وإليه أشار بقوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] ، فقوله: {ذلك بِمَا عَصَوْاْ} إشارة إلى العلة.
ولهذا المعنى قال الإمام أحمد - وقد سُئل عن تارك السنن، هل تُقْبَل شهادته؟ - قال: ذلك رجل سوء؛ لأنه إذا وقع في ترك السنن أدَّى ذلك إلى تَرْك الفرائض، وإذ وقع في تَرْك الفرائض، وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكُفْر.
الثاني: أن يُحْمَل قوله: {كانوا يكفرون بآيات الله} على أسلافهم، وقوله: {ذلك بِمَا عَصَوْاْ} في الحاضرين في زمن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلا يلزم التكرار، فكأنه - تعالى - بيَّن عقوبة مَنْ تقدَّم، ثم بيَّن أن المتأخر - لما تبع من تقدم - صار لأجل معصيته، وعداوته متسوجِباً لمثل عقوبتهم، حتى يظهر للخلق ما أنزل الله بالفريقين.(5/475)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
الظاهر في هذه أنّ الوقف على «سَوَاءٌ» تام؛ فإن الواو اسم «ليس» و «سواء» خبر، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم.
ولامعنى: أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر؛ لقوله: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] ، فانتفى استواؤهم.
و «سواء» - في الأصل - مصدر، ولذلك وُحِّدَ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة.
قال أبو عبيدة: الواو في «لَيْسُوا» علامة جمع، وليست ضميراً، واسم «ليس» - على هذا - «أمة» و «قَائِمَةٌ» صفتها، وكذا «يَتْلُونَ» ، وهذا على لغة «أكلوني البراغيث» .
كقول الآخر: [المتقارب]
1575 - يَلُومَونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخِي ... لِ أهْلِي، فَكُلُّهُمْ بعَذْلِ أَلُومُ
قالوا: وهي لغة ضعيفة، ونازع السُّهَيْلِيّ النحويين في كونها ضعيفةً، ونسبها بعضُهم(5/475)
إلى شنوءة، وكثيراً ما جاء عليها الحديث، وفي القرآن مثلُها. وسيأتي تحقيقها في المائدة.
قال ابنُ عطية: وما قاله أبو أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ، ولم يبيِّن وَجْهَ الخطأ، وكأنه توهم أن اسم «ليس» هو {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} فقط، وأنه لا محذوفَ ثَمَّ؛ إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية، فإذا قُدِّر - ثَمَّ - محذوف لم يكن قول أبي عبيدةَ خطأً مردوداً إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة وقد تقدم ما فيها. والتقدير الذي يصح به المعنى: أي: ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة، موصوفة بما ذُكِرَ، وأمة كافرة، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ.
وقال الفرَّاءُ: إن الوقفَ لا يتم على «سَوَاءً» فجعل الواو اسم «ليس» ، و «سَوَاءً» خبرها - كما قال الجمهور - و «أمَّةٌ» مرتفعة ب «سَوَاءً» ارتفاع الفاعل، أي: ليس أهل الكتاب مستوياً، من أهل الكتاب أمة قائمة، موصوفة بما ذُكِر، وأمة كافرة، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ.
وقال الفرَّاءُ: إن الوقفَ لا يتم على «سَوَاءً» فجعل الواو اسم «ليس» ، و «سَوَاءً» خبرها - كما قال الجمهور - و «أمَّةٌ» مرتفعة ب «سَوَاءً» ارتفاع الفاعل، أي: ليس أهل الكتاب مستوياً، من أهل الكتاب أمة قائمة، موصوفة بما ذُكِر، وأمة كافرة، فحُذِفَت هذه الجملةُ المعادلة؛ لدلالة القسم الأول عليها؛ فإن مذهب العرب إذا ذُكِرَ أحد الضدين، أغْنَى عن ذِكر الضِّدِّ الآخَر.
قال أبو ذُؤيب: [الطويل]
1576 - دَعَانِي إلَيْهَا الْقَلْبُ إنِّي لأمْرِهَا ... سَمِيعٌ، فَمَا أدْرِي أرُشْدٌ طِلاَبُها؟
والتقدير: أم غي، فحذف الغَيّ؛ لدلالة ضِدِّه عليه.
ومثله قول الآخر: [الطويل]
1577 - أرَاكَ، فَمَا أدْرِي أهَمٌّ هَمَمْتُهُ ... وَذُو الْهَمِّ قِدْماً خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ
أي أهم هممته أم غيره؟ فحذف؛ للدلالة، وهو كثير.
قال الفراء: «لأن المساواة تقتضي شيئين» ، كقوله: {سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد} [الحج: 25] ، وقوله: {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21] .
وقد ضُعِّفَ قَوْلُ الفراء من حيث الحذف، ومن حيث وَضع الظاهر مَوْضِعَ المُضْمَر؛ إذ الأصل: منهم أمة قائمة، فوضع أهل الكتاب موضع المضمر.
والوجه أن يكون {لَيْسُواْ سَوَآءً} جملة تامة، وقوله: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ} جملة برأسها، وقوله: {يَتْلُونَ} جملة أخرى، مبينة لعدم استوائهم - كما جاءت الجملة من قوله: {تَأْمُرُونَ بالمعروف} [آل عمران: 110] مبيِّنة للخيريَّةِ.
ويجوز أن يكون {يَتْلُونَ} في محل رفع، صفة ل «أمَّةٌ» .(5/476)
ويجوز أن يكون حالاً من «أمَّةٌ» ؛ لتخصُّصِها بالنعت.
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «قَائِمة» ، وعلى كونها حالاً من «أمَّةٌ» يكون العامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الجار.
ويجوز أن يكون حالاً من الضميرِ المستكن في هذا الجار، لوقوعه خبراً ل «أمَّة» .
فصل
قال جمهور العلماء: المراد بأهل الكتاب: مَنْ آمَنَ بموسى وعيسى عليهما السلام. اليهود: ما آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا شِرارُنا، ولولا ذلك ما تركوا دينَ آبائِهم، لقد كفروا، وخسروا، فأنزل الله هذه الآية؛ لبيان فضلهم.
وقيل: لما وَصَفَ أهلَ الكتاب - في الآيات المتقدمةِ - بالصفات المذمومة، ذَكَر - في هذه الآية - أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك، بل فيهم مَنْ يكون موصوفاً بالصفات المحمودة المرضية.
قال الثوريّ: بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يُصلون بين المغرب والعشاء.
وعن عطاء، أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجرانَ، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثلاثة من الروم، كانوا على دين عيسى، وصدقوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان من الأنصار فيهم عدة - قبل قدوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، منهم أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، ومحمد بن مسلمة، وأبو قيس صِرْمة بن أنس، كانوا موحِّدين، يغتسلون من الجنابة، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية، حتى بعث الله لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فصدَّقوه، ونصروه.
وقال آخرون: المراد بأهل الكتاب: كل من أوتي الكتابَ من أهل الأدْيان - والمسلمون من جُمْلتهم - قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] ، ويؤيِّد هذا ما رَوَى ابنُ مسعود: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخَّر صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: «أما إنه ليس أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأدْيَانِ يَذْكُرُ اللهَ - تَعَالَى - هَذِهِ السَّاعةِ غَيْركُمْ» وقرأ هذه الآية.(5/477)
قال القفال: ولا يبعد أن يقال: أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرُهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا.
ولا يبعد - أيضاً - أن يقال: المراد: كلّ مَنْ آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمَّاهم الله بأهل الكتاب، كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة، والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا، فكيف يستويان؟ فيكون الغرض - من هذه الآية - تقرير فضيلة أهل الإسلام، تأكيداً لما تقدم من قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ونظيره قوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ، منهم {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله} قيل: قائمة في الصلاة يتلون آياتِ الله، فعبَّر بذلك عن تهجُّدِهم.
وقال ابن عباس: مهتدية، قائمة على أمر الله - تعالى - لم يضيِّعوه، ولم يتركوه.
قال الحسن: ثابتة على التمسُّك بالدين الحق، ملازمة له، غير مضطربة، كقوله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} [آل عمران: 75] .
قال مجاهد: «قَائِمَةٌ» أي: مستقيمة، عادلة - من قولك: أقمت العود - فقام بمعنى: استقام.
وقيل: الأمَّة: الطريقة، ومعنى الآية: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ} أي: ذو أمة، ومعناه: ذو طريقة مستقيمة، والمراد ب {آيَاتِ الله} : القرآن، وقد يُراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على ذاته، وصفاته، والمراد هاهنا: الأول.
قوله: {آنَآءَ الليل} ظرف ل «يتلون» ، والآناء: الساعات، واحده: أنَى - بفتح الهمزة والنون، بزنة عصا - أو إنَى بكسر الهمزة، وفتح النون، بزنة مِعًى، أو أنْي - بالفتح والسكون بزنة ظَبْي، أو إنْي - بالكسر والسكون، بزنة نِحْي - أو إنْو - بالكسر والسكون مع الواو، بزنة جرو - فالهمزة في «آناء» منقلبة عن ياء، على الأقوال الأربعة - كرداء - وعن واو على القول الأخير، نحو كساء.
قال القفال: كأن التأنِّيَ مأخوذ منه، لأنه انتظار الساعات والأوقات، وفي الحديث أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة -: «آذيت وآنيت» أي: دافعت الأوقات. وستأتي بقية هذه المادة في مواضعها.(5/478)
ولا يجوز أن يكون «آناء الليل» ظرفاً لِ «قَائِمَةٌ» .
قال أبو القباءِ: «لأن» قَائِمَةٌ «قد وُصِفَتْ، فلا يجوز أن تعمل فيما بعد الصفة» ، وهذا على تقدير أن يكون «يَتْلُونَ» وَصْفاً لِ «قائمة» ، وفيه نظر؛ لأن المعنَى ليس على جَعْل هذه الجملةِ صفة لما قبلها، بل على الاستئناف للبيان المتقدم، وعلى تقدير جَعْلها صفة لما قبلها، فهي صفة ل «أمَّةٌ» ، لا لِ «قَائِمَةٌ» ؛ لأن الصفة لا توصَف إلا أن يكون معنى الصفة الثانية لائقاً بما قبلها، نحو: مررت برجل ناطقٍ فصيح، ففصيح صفة لناطق؛ لأن معناه لائق به، وبعضهم يجعله وَصْفاً لرجل.
وإنما المانع من تعلُّق هذا الظرف ب «قَائِمَةٌ» ما ذكرناه من استئناف جملته.
قوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} يجوز أن يكون حالاً من فاعل «يَتْلُونَ» أي: يَتْلُونَ القرآن، وهم ساجدون، وهذا قد يكون في شريعتهم - مشروعية التلاوة في السجود - بخلاف شرعنا، قال عليه السلام «ألاَ إنِّي نُهِيتُ أن أقرأ القُرآنَ رَاكِعاً، أو سَاجِداً» ، وبهذا يرجح قول من يقول إنهم غير أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «قَائِمَةٌ» قاله أبو البقاء.
وفيه ضعف؛ للاستئناف المذكور.
وقيل: المراد بقوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} : أنهم يصلون، والصلاة تسمى سجوداً، وركوعاً، وتسبيحاً، قال تعالى: {واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43] ، وقال: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] ، والمراد: الصلاة.
وقيل: {يَسْجُدُونَ} أي: يخضعون لله؛ لأن العرب تسمِّي الخضوعَ سجوداً، قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [النحل: 49] .
ويجوز أن تكون مستأنفة، والمعنى: أنهم يقومون تارةً، ويسجدون تارةً، يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله، ونظيره قوله: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان: 64] .
قوله: {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} إمَّا استئناف، وإما أحوال، وجيء بالجملة الأولى اسميةً؛ دلالةً على الاستقرار، وصُدِّرَتْ بضميرٍ، وثَنَّى عليه جملة فعلية، ليتكرر الضمير، فيزداد بتكراره توكيداً.
وجيء بالخبر مضارعاً؛ دلالةً على تجدُّدِ السجود في كل وقت، وكذلك جيء بالجُمَل التي بعدها أفعالاً مضارعة.
ويحتمل أن يكون {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} خبراً ثانياً، لقوله: «هُمْ» ، ولذلك ترك العاطف ولو ذكره لكان جائزاً.(5/479)
فصل
اعلم أن اليهود كانوا يقومون في الليل للتهجُّد، وقراءة التوراة، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله: {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} ، وقد تقدَّم أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورُسُلِهِ، والإيمان باليومِ الآخرِ يستلزم الحذرَ من المعاصي، وهؤلاء اليهود كانوا ينكرون أنبياء الله، ولا يحترزون عن معاصي الله، لم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ أو المعاد.
قوله: {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} .
قال ابن عباس: يؤمنون بتوحيد الله، ونبوة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وينهون عن الكفر.
وقيل: يأمرون بما ينبغي، وينهون عَمَّا لا ينبغي.
وقوله: {وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات} فيه وجهان:
أحدهما: يتبادرون إليها خوف الفَوْتِ بالمَوْتِ.
فإن قيل: أليس أن العجلة مذمومةٌ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الْعَجَلَةُ من الشَّيْطَانِ، والتأنِّي من الرَّحْمَنِ» فما الفرق بين السرعة والعَجَلَة؟
فالجواب: أن السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين، لأن من رغب في الآخرة آثر الفَوْزَ على التراخي، قال تعالى:
{وسارعوا
إلى
مَغْفِرَةٍ
مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133] ، والعجلة - أيضاً - ليست مذمومة على الاطلاق؛ لقوله تعالى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه: 84] .
الوجه الثاني: يعملونها غَيْرَ متثاقلين.
قوله: {وأولئك مِنَ الصالحين} أي: الموصوفون بهذه الصفات من جملة الصالحين، الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم، وهذا غاية المدح من وجهين:
الأول: أن الله مدح بهذه الصفة أكابر الأنبياء، فقال - بعد ذكر إسماعيل، وإدريس، وذي الكفل وغيرهم: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين} [الأنبياء: 86] ، وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] .(5/480)
الثاني: أن الصلاح ضِدُّ الفساد، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء كان ذلك في العقائد، أو في الأعمال - وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحاً، فكان الصَّلاحُ دالاًّ على أكمل الدرجات.
قوله: {مِنَ الصالحين} يجوز في «من» أن تكون للتبعيض - وهو الظاهر -.
وجعلها ابن عطية لبيان الجنس، وفيه نظر؛ إذْ لم يتقدم مُبْهَمٌ، فتبينه هذه.
قوله: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ} .
قرأ الأخوان وحَفْص: «يَفْعَلُوا» و «يُكْفروهُ» - بالغيبة -.
والباقون بالخطاب.
الغيب مراعاة لقوله: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} ، فجرى على لفظ الغيبة، أخبرنا - تعالى - أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} .
ويجوز أن يكون التفاتاً من الغيبة في قوله: {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} إلى آخره؛ إلى خطابهم، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر؛ ليزيد في التأنيس. ويدل على ذلك قراءة الأخوين؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله: {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} .
فصل
اعلم أن اليهودَ لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه: إنكم خسرتم بسبب إيمانكم، قال الله تعالى: بل فازوا بالدرجات العُظْمَى، فالمقصود تعظيمهم؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال، وهذا وإن كان لفظه - على قراءة الغيبة - لمؤمني أهل الكتاب، فسائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلّة.
أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين - ونظيره قوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} [البقرة: 197] ، وقوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272] ، وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} [المزمل: 20] ، ونقل عن أبي عمرو: أنه كان يقرأها بالقراءتين.
وسُمِّيَ منع الجزاء كفراً لوجهين:
الأول: أنه - تعالى - سَمَّى إيصال الجزاء شُكْراً، فقال: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] ، وسمى منعه كفراً.(5/481)
الثاني: أن الكفر - في اللغة -: الستر. فسمي منع الجزاء كُفْراً؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ والستر.
فإن قيل: «شكر» و «كفر» لا يتعديان إلا إلى واحد، يقال: شكر النعمة، وكفرها - فكيف تعدّى - هنا - لاثنين أولهما قام مقام الفاعل، والثاني: الهاء في «يكفروه» ؟ .
فقيل: إنه ضُمِّن معنى فعل يتعدى لاثنين - كحرم ومنع، فكأنه قيل: فلن يُحْرَموه، ولن يُمْنَعُوا جزاءه.
ثم قال: {والله عَلِيمٌ بالمتقين} واسم «الله» يدل على عدم العجز، والبخل، والحاجة؛ لأنه إله جميع المحدثات، وقوله: «عَلِيمٌ» يدل على عدم الجَهْل، وإذا انتفت هذه الصفاتُ، امتنع المنع من الجزاء؛ لأن منعَ الحق لا بد وأن يكون لأحد هذه الأمور.
وقوله: {بِالمُتَّقِينَ} - مع أنه عالم بالكلِّ - بشارة للمتقين بجزيل الثواب.(5/482)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
لمَّا وصف المؤمنين بالصفاتِ الحَسَنة، أتبعه بوعيد الكُفَّار، ليجمع بين الوعدُ والْوَعيد، والترغيب والترهيب.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ: يريد قريظة والنضير؛ لأن معاندتهم كانت لأجل المال، لقوله تعالى: في سورة البقرة {تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] .
وقيل: نزلت في مشركي قريش؛ فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله.
وقيل: نزلت في أبي سفيان؛ فإنه أنفق مالاً كثيراً على المشركين يوم بَدر وأحد.
وقيل: إنها عامة في جميع الكفار؛ لأنهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال، ويعيرُون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتباعه بالفقر، ويقولون: لو كان محمد على الحق، لما تركه ربه في الفقر والشدة.
فالأولون قالوا: إن الآية مخصوصة، وهؤلاء قالوا: إن اللفظ عام، ولا دليلَ يوجب التخصيص، وخص الأولاد، لأنهم أقرب أنساباً إليهم.
واحتجَّ أهلُ السنة بقوله: {وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} عَلَى أن فُسَّاق أهل الصلاة لا يَبقون في النار أبداً؛ لأن هذه الكلمة تفيد الحصر، فيقال: أولئك أصحاب زيد، لا غيرهم، ولما أفادت معنى: «الحصر» ثبت أن الخلودَ في النار ليس إلاَّ ل «الكفار» .(5/482)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
لمَّا بيَّن أن أموالهم لا تغني عنهم شيئاً، فربما أنفقوها في وجوه الخير، فيخطر ببالهم أنهم يبتغون بذلك وجه الله، فأزال الله تعالى - بهذه الآية - ذلك الخاطر، وبَيَّن أنهم لا ينتفعون بشيء من تلك النفقات.
والمثل: الشبه الذي يصير كالعلم؛ لكثرة استعماله فيما يشبه به. و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية وما بعدها محذوف لاستكمال الشروط أي «ينفقونه» . وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع.
قوله: {كَمَثَلِ رِيحٍ} خبر المبتدأ، وعلى هذا الظاهر - أعني: تشبيه الشيء المنفق بالريح - استشكل التشبيه؛ لأن المعنى على تشبيهه بالحرث - أي: الزرع - لا بالريح، وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
أحدها: أنه من باب التشبيه المركب، بمعنى أنه تقابل الهيئة المجتمعة بالهيئة المجتمعة، وليس تقابل الأفراد بالأفراد كما مر في أول سورة البقرة عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ} وهذا اختيار الزمخشري.
ثانيها: أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين، فذكر أحد المشبَّهين، وترك ذكر الآخر وذكر أحد المشبهين به، فقد حذف من كل اثنين ما يدل عليه نظيره، كما مر في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] ، وهو اختيار ابن عطية، قال: «وهذا غاية البلاغة والإعجاز» .
وثالثها: أنه على حذف مضاف، إمَّا من الأول، تقديره: مثل مهلك ما ينفقونه، وإما من الثاني، تقديره: كمثل مهلك ريح، وهذا الثاني أظهر؛ لأنه يؤدِّي - في الأول - إلى تشبيه الشيء المُنْفَق - المُهْلَك - بالريح، وليس المعنى عليه، ففيه عَوْدٌ لما فُرَّ منه.
وذكر أبو حيان التقدير المشار إليه، ولم ينبه عليه اللهم إلا أن يريد ب «مهلك» اسم مصدر، أي: مثل إهلاك ما ينفقون، ولكن يحتاج إلى تقدير مثل هذا المضاف - أيضاً - قبل «رِيح» تقديره: مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح.
وقيل: التقدير: مثل الكفر - في إهلاك ما ينفقون - كمثل الريح المهلكة للحرث.
وقال ابن الخطيب: «لعل الإشارة في قوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} إلى ما أنفقوا في إنذار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في جَمْع العساكر عليه، فكان هذا الإنفاق مهلكاً لجميع ما أتَوْا به من أعمال البر والخير، حينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار، وتقديم وتأخير، والتقدير: مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به - قبل ذلك - من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث» .
وهذا فيه نظر؛ لأن الكفار لا يثبت لهم عملُ برٍّ، حتى تحبطه النفقة المذكورة، قال(5/483)
تعالى:
{وَقَدِمْنَآ
إلى
مَا
عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] .
وقد يمكن أن يجاب عنه بأنه إن كان المراد بالذين كفروا: أهل الكتاب، فقد كانت لهم أعمال بر قبل بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وإن كان المراد: المشركين، فلا يُحْكَم عليهم إلا بعد البعثة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] .
ويجوز في «ما» أن تكون موصولة اسمية، وعائدها محذوف - أي: مثل ما ينفقونه - وأن تكون ما مصدرية، وحينئذ يكون قد شبه إنفاقهم - في عدم نفعه - بالريح الموصوفة بهذه الصفة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.
فصل
اختلفوا في هذا الإنفاق - هاهنا - فقيل: هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة، قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] والمراد به: جميع أعمال الخير.
وقيل: المراد به: إنفاق الأموال، للآية المتقدمة.
فصل
وقيل: المراد به: إنفاق الأموال، للآية المتقدمة.
فصل
اختلفوا هل المراد - بهذه الآية - جميع الكفار، أو بعضهم؟ .
فقيل: جميع الكفار؛ وذلك لأن إنفاقهم إن كان لمنافع الدنيا، لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر، وإن كان لمنافع الآخرة - كبناء الرباطات، والقناطر، والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل، ووجوه البر - يرجو بذلك الإنفاق خيراً، لم ينتفع به في الآخرة؛ لأن كفره يبطله، فكان كمن زرع زرعاً، وتوقع منه تقطعاً كثيراً، فأصابته الريح، فأحرقته، فلا يبقى معه غير الأسف والحزن، قال تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] .
وقيل: المراد: بعض الكفار.
فقيل: أراد نفقات أبي سفيان، وأصحابه يوم بدر وأحُد - على عداوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال مقاتل: أراد نفقات اليهود على علمائهم؛ لأجل التحريف.
وقيل: إن المنافقين كانوا يُنفقون أموالَهم في سبيلِ الله، لكن على سبيل التَّقِيَّة، والخوف من المسلمين، مداراةً لهم.(5/484)
قوله: {فِيهَا صِرٌّ} في محل جر، نعتاً ل «ريح» ، ويجوز أن يكون {فِيهَا صِرٌّ} : جملة من مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون «فيها» - وحده - هو الصفة، و «صِرٌّ» فاعل له - وجاز ذلك؛ لاعتماد الجار على الموصوف - وهذا أحسن؛ لأن الأصل في الأوصاف: الإفراد، وهذا قريب منه.
والصِّرّ: قال ابْنُ عبَّاسٍ، وقَتَادَةُ، والسُّدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ، وأكثر أهل اللغة: إنه البرد الشديد، المحْرِق.
قال الشاعر: [البسيط]
1578 - لا تَعْدِلِينَ أتَاوِيِّينَ تَضْربُهُمْ ... نَكْبَاءُ صِرٌّ بِأصْحَابِ الْمُحِلاَّتِ
وقيل: الصِّرُّ بمعنى: الصرصر - وهو البرد -.
قالت ليلى الأخيلية: [الطويل]
1579 - وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلأ الْ ... جِفَانَ سَرِيعاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ
مأخوذ من الشد والتعقيد، ومنه الصُّرَّة - للعُقْدة - وأصَرَّ على كذا: لَزِمَه.
وقال أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ، وابْنُ الأنْبَارِي: هي السَّمُومُ الحَارَّة.
وقال الزجاج: الصَّرْصَر: صوت لهيب النار - في الريح - من صَرَّ الشيءُ، يَصِرُّ، صَريراً - أي: صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروف، ومنه صرير الباب، والصرة: الصيحة، قال تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] .
وروى ابْنُ الأنْبَارِيِّ - بإسناده - عن ابْنِ عَبَّاسٍ، في قوله: {فِيهَا صِرٌّ} قال: فيها نار. وعلى القولين، فالمقصود من التشبيه حاصل؛ لأنه - سواء كان بَرْداً مُهْلِكاً، أو حَرًّا مُحْرِقاً - يبطل الحرث والزرع، وإذا عُرِف هذا، فإن قلنا: الصِّرّ: البَرْد الشديد، أو هو صوت النار، أو هو صوت الريح، فَظَرْفِيَّة الريح له واضحة، وإن كان الصِّرُّ صفة الريح - كالصرصر - فالمعنى: فيها قِرَّة صر - كما تقول: برد بارد - وحُذِفَ الوصوف،(5/485)
وقامت الصفة مقامه، أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة.
كقوله: [الوافر]
1580 - ... ... ... ... ... ... . ... وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي
ومنه قوله: إن ضيعني فلان، ففي الله كافٍ، المعنى: الرحمن كافٍ، الله كافٍ، وهذا فيه بُعْد.
قوله: «أصَابَتْ» هذه الجملة في محل جَرّ - أيضاً - صفة ل «رِيح» .
ولا يجوز أن يكون صفة ل «صر» ؛ لأنه مذكَّر، وبدأ أولاً بالوَصْف بالجار؛ لأنه قريب من المفرد، ثم بالجملة، هذا إن أعربنا «فِيهَا» - وحده - صفة، ورفعنا به «صِرٌّ» ، أما إذا أعربناه خبراً مقدماً، أو «صِرٌّ» مبتدأ، فهما جملة - أيضاً -.
قوله: {ظَلَمُوا} صفة ل «قوم» ، والضمير في {ظَلَمَهُمُ} يعود على القوم ذوي الحرث، أي: ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصي التي كانت سبباً في إهلاكهم؛ أو لأنهم زرعوا في غير موضع الزرع، أو في غير وقته؛ لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وبهذا يتأكد وَجْه الشبه؛ لأن الزرع - لا في موضعه، ولا في وقته - يضيع، ثم أصابته الريح الباردة، فكان أولى بالضياع، وكذا - هاهنا - الكفار لما أتَوْا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤمُ كُفْرِهم، فصار ضائعاً، والله أعلم.
وجوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره: أن يعود الضمير على المنفقين، وإليه نَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ، ورجحه بأن أصحاب الحرث لم يُذْكَروا للرد عليهم، ولا لتبيين ظلمهم، بل لمجرد التشبيه.
وقوله: {ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} العامَّة على تخفيف «لكن» ، وهي استدراكية، و «أنْفُسَهُمْ» مفعول مقدَّم، قُدِّم للاختصاص، أي: لم يقع وبالُ ظلمهم إلاَّ بأنفسهم خاصَّة، لا يتخطاهم، ولأجل الفواصل - أيضاً -.
وقرأها بعضُهم مشدَّدة، ووجهها أن تكون «أنْفُسَهُمْ» اسمها، و «يَظْلِمُونَ» الخبر، والعائد من الجملة الخبريَّة على الاسم محذوف، تقديره: ولكن أنفسهم يظلمونها، فحذف، وحسَّنَ حذفَه كَوْنُ الفعلِ فاصلة، فلو ذكر مفعوله، لفات هذا الغرض.
وقد خرجه بعضهم على أن يكون اسمها ضمير الأمر والقصة - حُذِفَ للعلم به،(5/486)
و «أنْفُسَهُمْ» مفعول مقدم ل «يَظْلِمُونَ» كما تقدم والجملة خبر لها.
وقد رُدَّ هذا بأن حذف اسم هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة.
كقوله: [الخفيف]
1581 - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الْكَنِيسَةَ يَوْماً ... يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وَظِبَاءَ
على أن بعضهم لا يُقصره على الضرورة، مستشهداً بقوله - عليه السلام -: «إنَّ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرون» .
قال: تقديره: إنه، ويعزى هذا للكسائي.
وقد ردَّه بعضُهم، وخرَّج الحديثَ على زيادة «من» والتقدير: إن أشد الناس.
والبصريون لا يُجِيزون زيادة «من» في مثل هذا التركيب لما تقدم وإنما يُجيزها الأخفش.(5/487)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
لما شرح أحوالَ المؤمنين والكافرين، شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين، وأكد الزجر عن الركون إلى الكُفار، وهو مُتَّصل بما سبق من قوله: {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 100] .
قوله: {مِّن دُونِكُمْ} يجوز أن يكون صفةً ل «بِطَانَةً» ، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنة من غيركم.
وقدره الزمخشريّ: من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون.
ويجوز أن يتعلق بفعل النهي، وجوَّز بعضُهم أن تكون «من» زائدة، والمعنى: دونكم في العمل والإيمان.
وبطانة الرجل: خاصَّته الذين يُبَاطنهم في الأمور، ولا يُظْهِر غيرَهم عليها، مشتقة من البطن، والباطن دون الظاهر، وهذا كما استعاروا الشعارَ والدِّثار في ذلك، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «النَّاسُ دثار، والأنْصَارُ شِعَار» .
والشعَارُ: ما يلي الجسد من الثياب. ويقال: بَطَنَ فلانٌ بفلانٍ، بُطُوناً، وبِطَانة.
قال الشاعر: [الطويل] .
1582 - أولَئِكَ خُلْصَانِي، نَعَمْ وَبِطَانَتِي ... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ
فالبطانة مصدر يُسمَّى به الواحد والجمع، وأصله من البطن، ومنه: بطانة الثوب غير ظهارته.
فإن قيل: قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} نكرة في سياق النفي، فيقتضي العموم في النهي عن مصاحبة الكفار، وقد قال تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 8] فكيف الجمع فيهما.
فالجواب: أن الخاص مقدَّم على العام.
قوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ} لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذَكَر علَّة النهي، وهي أمور:
أحدها: قوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} يقال: ألا في الأمر، يَألُو فيه، أي: قصَّر - نحو غزا يغزو - فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى. واختلف في نصب «خَبَالاً» على وجوه:(5/488)
أحدها: أنه مفعول ثانٍ، وإنما تعدَّى لاثنين؛ للتضمين.
قال الزمخشري: يقال: ألا في الأمر، يألو فيه - أي: قصَّر - ثم استُعْمِل مُعَدًّى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نُصْحاً، ولا آلوك جُهْداً، على التضمين، والمعنى: لا أمنعك نُصْحاً ولا أنقُصُكَهُ.
الثاني: أنه منصوب على إسقاط الخافض، والأصل: لا يألونكم في خبال، أو في تخبيلكم، أو بالخبال، كما يقال: أوجعته ضرباً، وهذا غير منقاسٍ، بخلاف التضمين؛ فإنه ينقاس، وإن كان فيه خلافٌ واهٍ.
الثالث: أن ينتصب على التمييز، وهو - حينئذ - تمييز منقول من المفعولية، والأصل: لا يألون خبالكم، أي: في خبالكم، ثم جعل الضمير - المضاف إليه - مفعولاً بعد إسقاط الخافض فنُصِبَ الخبال - الذي كان مضافاً - تمييزاً، ومثله قوله: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] على أن «عُيُوناً» بدل بعض من كل، وفيه حذف العائد، أي: عيوناً منها، وعلى هذا التخريج، يجوز أن يكون «خَبَالاً» يدل اشتمال من «كم» والضمي ر أيضاً محذوف أي: «خبالاً منكم» وهذا وَجْه رابع.
الخامس: أنه مصدر في موضع الحال، أي: متخبلين.
السادس: قال ابْنُ عَطِيَّةَ: معناه: لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم.
فعلى هذا - الذي قدره - يكون المضمر، و «خَبَالاً» منصوبين على إسقاط الخافض، وهو اللام، وهذه الجملة فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها جُمْلة استئنافية، لا محل لها من الإعراب، وإنما جِيءَ بها، وبالجُمَل التي بعدها، لبيان حال الطائفة الكافرة، حتى ينفروا منها، فلا يتخذوها بطانة، وهو وجه حسن.
الثاني: أنها جملة في موضع نصب؛ حال من الضمير المستكن في «دُونِكُمْ» على أن الجار صفة لبطانة.
الثالث: أنها في محل نصب؛ نعتاً ل «بِطَانةً» - أيضاً -.
والألْو - بزنة الغزو - التقصير - كما تقدم -.(5/489)
قال زهير: [الطويل]
1583 - سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمِي لِكَيْ يُدْرِكُوهُمُ ... فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَلَم يُليمُوا، وَلَمْ يَأْلُوا
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
1584 - وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُذْرِكِ أطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِي
يقال: آلَى، يُولِي - بزنة أكرم، فأبدِلَت الهمزةُ الثانية ألفاً.
وأنشدوا: [الوافر]
1585 - ... ... ... ... ... ... . ... فَمَا آلَى بَنِيَّ وَلاَ أسَاءُوا
ويقال: ائتلَى، يأتلي - بزنة اكتسب يكتسب -.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
1586 - ألاَ رُبَّ خَصْمٍ فِيَكِ ألْوَى رَدَدْتُهُ ... نَصِيحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِي
فيتحد لفظ آلى بمعنى قصَّر، وآلى بمعنى حَلفَ - وإن كان الفرق بينهما ثابتاً من حيث المادة؛ لأن لامه من معنى الحلف ياء، ومن معنى التقصير واو.
قال الراغب: وألَوْتُ فلاناً، أي: أوْليته تقصيراً - نحو كسبته، أي: أوْليته كَسْباً - وما ألوته جهداً، أي: ما أوليته تقصيراً بحسب الجهد، فقولك: جهداً، تمييز.
وقوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] أي: لا يُقَصِّرون في طلب الخبال، ولا يدعون جهدهم في مضرتكم، قال تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} [النور: 22] .
قيل: هو «يفتعل» من ألوت.
وقيل: هو من آليت، أي: حلفت.
والخبال: الفساد، وأصله ما يلحق الحيوان من مَرَض، وفتور، فيورثه فساداً(5/490)
واضطراباً، يقال منه: خبله وخَبَّله - بالتخفيف والتشديد، فهو خابل، ومُخَبَّل، ومخبول، والمخبل: الناقص العقل، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] ، ويقال: خَبْل، وخَبَل، وخَبَال وفي الحديث: «مَنْ شَرِبَ الَْمْرَ ثَلاَثاً كَانَ حَقًّا على اللهِ أن يَسقيه مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ» .
وقال زهير بن أبي سُلْمى: [الطويل]
1587 - هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا ... وَإنْ يُسْألُوا يُعْطُوا، وَإن يُيْسِرُوا يُغْلُوا
والمعنى في هذا البيت: أنهم إذا طُلِب منهم إفساد شيء من إبلهم أفسدوه، وهذا كناية عن كرمهم.
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ: كان رِجَالٌ من المُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ اليَهُودَ؛ لما بينهم من القَرَابةِ، والصداقة، والحِلْف، والجوار، والرضاع، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم فيها عن مباطنتهم.
قال مجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين، كانوا يواصلون المنافقين، فنهاهم الله عن(5/491)
ذلك، ويؤيِّد هذا القولَ ما ذكره بعد في قوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119] وهذه صفة المنافقين.
وقيل: أراد جميع الكفار.
والعنت: شدة الضرر والمشقة، قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] ، وقد تقدم اشتقاقه.
قوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} هذه العلة الثانية، وفي هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: وهو الأظهر - أن تكون مستأنفة، لا محل لها من الإعراب - كما هو الظاهر في التي قبلها.
والثاني: أنها نعت ل «بِطَانَةً» فمحلُّها نصب.
قال الواحدي: «ولا يصح هذا؛ لأن البطانة قد وُصِفَت بقوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} ، ولو كان هذا صفة - أيضاً -، لوجب إدخال حرف العطف بينهما» .
والثالث: أنها حال من الضمير في «يَألونَكُمْ» ، و «ما» مصدرية، و «عَنِتُّمْ» صلتها، وهي وصلتها مفعول الودادة، أي: عنتكم، أي: مقتكم.
وقال الراغب: «المعاندة، والمعانتة، يتقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة: أن يتحرى مع الممانعة المشقة» .
والفرق بين قوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} ، وقوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} ، في المعنى من وجوه:
الأول: لا يقصرون في إفساد دينكم، فإن عجزوا عنه، ودُّوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر.
الثاني: لا يقصرون عن إفساد أموركم، فإن لم يفعلوا ذلك؛ لمانعٍ، فحُبّه في قلوبهم.
الثالث: لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا، فإن عجزوا عنه لمانع لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم.
قال القُرْطُبِيُّ: «وقد انقلبت هذه الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كَتَبَةً وأمَنَاءَ، وتسوَّدوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء» .
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ما بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ،(5/492)
وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيْفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وتَحُضُّهُ عَلَيهِ، وبِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالشَّرِ، وَتَحُضُّهُ عَلَيهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تعالى» .
وروى أنس بن مالك قال: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ المُشْرِكِينَ، وَلاَ تَنْقُشُوا فِي خَواتِيمكُمْ غريباً» .
وفسره الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، فقال: أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمداً.
قال الحَسَنُ: وتصديق ذلك في كتاب الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} الآية.
العلة الثالثة: قوله: {قَدْ بَدَتِ البغضآء} هذه الجملة كالتي قبلها، وقرأ عبد الله «بَدَا» - من غير تاء - لأن الفاعل مؤنَّث مجازيّ؛ ولأنها في معنى البغض، والبغضاء: مصدر - كالسراء والضراء - يقال منه: بَغُضَ الرجل، فهو بغيض، كظَرُفَ فهو ظَرِيفٌ.
قوله: {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} متعلق ب «بَدَتْ» و «مِنْ» لابتداء الغاية، وجوَّز ابو البقاء أن يكون حالاً، أي: خارجة من أفواههم، والأفواه: جمع فَم، وأصله فوه، فلامه هاء، يدل على ذلك جمعه على أفواه، وتصغيره على «فُوَيْه» ، والنسب إليه على فوهي، وهل وزنه فَعْل - بسكون العين - أو «فَعَل» - بفتح العين -؟ خلاف للنحويين، ثم حذفوا لامه تخفيفاً، فبقي آخرهُ حرف علة، فأبدلوه ميماً؛ لقُرْبهِ منها؛ لأنهما من الشفة، وفي الميم هُوِيٌّ في الفم يضارع المد الذي في الواو.
وهذا كله إذا أفردوه عن الإضافة، فإن أضافوه لَمْ يُبْدلوا حرفَ العلة.
كقوله: [البسيط]
1588 - فَوهٌ كَشقِّ الْعَصَا لأْياً تُبَيِّنُهُ ... أسَكُّ مَا يَسْمَعُ الأصْوَاَ مَضلُومُ(5/493)
عكس الأمر في الطرفين، فأتى بالميم في حال الإضافة، وبحرف العلة في القطع عنها. فمن الأول قوله: [الرجز]
1589 - يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهُ ... وخصَّه الفارسيُّ وجماعة بالضرورة، وغيرهم جوَّزه سعة، وجعل منه قوله: «لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» .
ومن الثاني قوله: [الرجز]
1590 - خَالَطَ مِنْ سَلْمَى خَيَاشِيمَ وَفَا ... أي: وفاها، وإنما جاز ذلك؛ لأن الإضافة كالمنطوق بها.
وقالت العرب: رجل مفوَّه - إذا كان يجيد القولَ - وأَفْوَه: إذا كان واسعَ الفم.
قال لبيد: [الوافر]
1591 - ... ... ... ... ..... وَمَا فَاهُوا بِهِ أبَداً مُقِيمُ
وفي الفم تسع لغات، وله أربع مواد: ف م هـ. ف م و. ف م ي. ف م م؛ بدليل أفواه، وفموين، وفميين، وأفمام.
فصل
{قَدْ بَدَتِ البغضآء} أي: ظهرت علامة العداوة من أفواههم.
فإن حملناه على المنافقين، فمعناه أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه، وعدم الود والنصيحة، كقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30] ، أو بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين، والكفَّار، لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك.
وإن حملناه على اليهود فمعناه: أنهم يُظهرون تكذيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والكتاب، وينسبونه(5/494)
إلى الجهل. وإن حَمَلْناه على الكُفَّار، فمعنى البغضاء الشتيمة والوقيعة في المسلمين.
فصل
قال القُرْطُبِيُّ: «وفي هذه الآية دليل على أن شهادةَ العدو على عدوِّه لا تجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ جوازُ ذلك.
وحكى ابن بطّال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء، وإن كان عَدْلاً - والعداوة تُزيل العدالة، فكيف بعداوة الكافر» .
قوله: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} يجوز أن تكون «ما» بمعنى: الذي، والعائد محذوف - أي: تخفيه فحذف - وأن تكون مصدرية - أي: وإخفاء صدورهم - وعلى كلا التقديرين، ف «ما» مبتدأ و «أكبر» خبره، والمفضَّل عليه محذوف، أي: أكبر من الذي أبدَوْهُ بأفواههم.
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} شرط، حذف جوابه، لدلالة ما تقدم عليه، أو هو ما تقدم - عند من يرى جوازه -.
والمعنى: إن كنتم من أهل العقل، والفهم، والدراية.
وقيل: إن كنتم تعقلون الفَصْل بين ما يستحقه الولِيّ والعدُوّ، والمقصود منه: استعمال العقل في تأمل هذه الآيات، وتدبُّر هذه البينات.
قوله تعالى: {هَآأَنْتُمْ أولااء تُحِبُّونَهُمْ} قد تقدم نظيره.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «ها» للتنبيه، و «أنْتُمْ» مبتدأ و «أولاءِ» خبره، و «تُحِبُّونَهُمْ» في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة.
ويجوز أن يكون «أولاء» بمعنى: الذي، و «تُحِبُّونَهُمْ» صلة له، والموصول مع الصلة خبر.
قال الفرَّاء: «أولاَءِ» خبر، و «يحبونهم» خبر بعد خبر.
ويجوز أن يكون «أولاء» في موضع نصب بفعل محذوف، فتكون المسالة من باب الاشتغال، نحو: أنا زيداً ضربته.
قوله: {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} يحتمل أن يكون استئناف إخبار، وأن يكون جملة حالية.
فصل
قال المُفَضَّل: «تحبّونهم» تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء، و {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} ، فإنهم يريدون بقاءكم على الكفر، وهو يوجب الهلاك.
وقيل: {يُحِبُّونَهُمْ} بسبب ما بينكم وبينهم من القرابة، والرضاع، والمصاهرة، {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} لأجل الإسلام.(5/495)
وقيل: {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب إظهارهم لكم الإسلام {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بسبب أن الكفر مستغرق في قلوبهم.
وقال أبُو العَالِيَةِ، ومُقَاتِلٌ: المحبة - هاهنا - بمعنى: المصافاة، أي: أنتم - أيها المؤمنون - تصافونهم، ولا يصافونكم؛ لنفاقهم.
وقال الأصمّ: {تُحِبُّونَهُمْ} بمعنى: أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات، والمحن، {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بمعنى: أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمِحَن، ويتربصون بكم الدوائر.
وقيل: {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب أنهم يُظهرون لكم محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم يبغضون الرسول، ومحب المبغوض مبغوض.
وقيل: {تُحِبُّونَهُمْ} أي: تخالطونهم، وتُفشون إليهم أسرارَكم في أمور دينكم {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} أي: لا يفعلون ذلك بكم.
قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} يجوز أن تكون الألف واللام - في الكتاب - للجنس، والمعنى: بالكتب كلها، فاكتفى بالواحد.
وقيل: أفرد الكتاب؛ لأنه مصدر، فيجوز أن يُسَمَّى به الجمع.
وقيل: إن المصدر لا يُجْمَع إلا على التأويل، فلهذا لم يَقُل: الكتب - بدلاً من الكتاب -، وإن كان لو قاله لجاز، توسعاً.
ويجوز أن يكون للعهد، والمراد به: كتاب مخصوص.
وهنا جملة محذوفة، يدل عليها السياق، والتقدير: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} ، وهم لا يؤمنون بكتابكم، وحَسُنَ العطفُ، لما تقدم من أن ذكر أحد الضدين يُغْني عن ذِكْر الآخر، وتقدير الكلام: أنكم تؤمنون بكتبهم كلها، وهم - ممع ذلك - يبغضونكم، فما بالكم - مع ذلك - تحبونهم، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ .
وفيه تنبيخ شديد بأنهم - في باطلهم - أصلب منكم في حقكم.
قوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} ومعناه: إذا خَلاَ بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة، وشدة الغيظ على المؤمنين، حتى تبلغ الشدة إلى عَضِّ الأنامل، كما يفعل الإنسان - إذا اشتد غيظه، وعَظُم حُزنه - على فَوْت مطلوبه، ولمَّا كَثُر هذا الفعلُ من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب، وإن لم يكن هناك عض.
قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلق ب «عَضُّوا» ، وكذلك {مِنَ الغيظ} و «مِنْ» فيه لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون بمعنى اللام، فيفيد العِلِّيَّةَ - اي: من أجل الغيظ -.
وجوز أبو البقاء - في «عَلَيْكُمْ» ، وفي {مِنَ الغيظ} - أن يكونا حالين، فقال: «ويجوز أن يكون حالاً، أي: حنقين عليكم من الغيظ. {ومِنَ الغيظ} متعلق ب» عَضُّوا «(5/496)
أيضاً، و» مِنْ «لابتداء الغاية، أي: من أجل الغيظ، ويجوز أن يكون حالاً، أي: مغتاظين» . انتهى.
وقوله: و «من» لابتداء الغاية - أي: من أجل الغيظ كلام متنافر؛ لأن التي للابتداء لا تفسَّر بمعنى: «من أجل» ، فإنه معنى العلة، والعلة والابتداء متغايران، وعلى الجملة، فالحالية - فيهما - لا يظهر معناها، وتقديره الحال ليس تقديراً صناعيًّا؛ لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة.
والعَضّ: الأزم بالأسنان، وهو تحامُل الأسنان بعضها على بعض، يقال: عَضِضْتُ قال امرؤ القيس: [الطويل]
1592 - ... ... ... ... ... ..... كَفَحْلِ الْهِجَانِ يَنْتَحِي لِلْعَضِيضِ
جعل الباء زائدة في المفعول؛ إذ الأصل: يعضون خلفنا الأنامل.
وقال آخر: [المتقارب]
1594 - قَدَ افْنَى أنَامِلَهُ أزْمُهُ ... فَأضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا
وقال الحارث بن ظالم المري: [الطويل]
1595 - وَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئاماً أذِلَّةً ... يَعُذُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُءُوسَ الأبَاهِمِ
وقال آخر: [البسيط]
1596 - إذَا رَأوْنِي - أطَالَ اللهُ غَيْظَهُمُ ... عَضُّوا مِنَ الْغَيظِ أطْرَافَ الأبَاهِيمِ(5/497)
والعَضّ كله بالضاد، إلا في قولهم: عَظَّ الزمان - أي: اشتد - وعظت الحرب، فإنهما بالظاء - أخت الطاء -.
قال الشاعر: [الطويل]
1597 - وَعَظُّ زَمَانٍ - يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ
قال شهاب الدين: «وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء: وعضُّ زمان - بالضاد» .
والعُضُّ - بضم الفاء - عَلَف من نوًى مرضوض وغيره، ومنه: بَعير عُضَاضِيّ - أي: سمين - كأنه منسوب إليه، وأعَضَّ القومُ - إذا أكلت إبلُهم ذلك، والعِضّ - بكسر الفاء - الرجل الداهية، كأنهم تصوروا عَضَّه وشدته.
وزمن عضوض - أي: جدب، والتَّعْضوض: نوع من التمر، سُمِّيَ بذلك لشدة مضغه وصعوبته.
والأنامل: جمع أنملة - وهي رؤوس الأصابع.
قال الرُّماني: واشتقاقها من النمل - هذا الحيوان المعروف - شبهت به لدقتها، وسرعة تصرفها وحركتها، ومنه قالوا للنمام: «نمل ومنمل» لذلك.
قال الشاعر: [المتقارب]
1598 - وَلَسْتُ بِذِي نَيْرَبٍ فِيهِمُ ... وَلاَ مُنْمِشٍ فيهِمُ مُنْمِلِ
وفي ميمها الضم والفتح.
والغيظ: مصدر غاظه، يغيظه - أي: أغضبه -. وفسره الراغب بأنه أشد الغضب، قال: وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دَمِ قلبه. وإذا وصف به الله تعالى، فإنما يراد به الانتقام. والتغيظ: إظهار الغيظ، وقد يكون مع ذلك صوت، قال تعالى: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] ، والجملة من قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} معطوفة على {تُحِبُّونَهُمْ} ، ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة.
قال الزمخشري: والواو في {وَتُؤْمِنُونَ} للحال، وانتصابها من {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} أي: لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله، وهم - مع ذلك - يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم.
قال أبو حيان: «وهو حسن، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه، وهو أنه(5/498)
جعل الواو في {وَتُؤْمِنُونَ} للحال، وانتصابها من {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} والمضارع المثبت - إذا وقع حالاً - لا تدخل عليه واو الحال، تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز: ويضحك، فأما قولهم: قمت وأصُكُّ عينه، ففي غاية الشذوذ، وقد أوِّل على إضمار مبتدأ، أي: وأنا أصُكّ عينه، فتصير الجملة اسمية، ويحتمل هذا التأويل هنا: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله، لكنَّ الأولَى ما ذكرنا من كونها للعطف» .
يعني: فإنه لا يُحْوِج إلى حَذْف، بخلاف تقديره مبتدأ، فإنه على خلاف الأصل.
قوله: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} يجوز أن تكون الباء للحال، أي: موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم، وهو كناية عن كثرة افسلام وفُشوِّه؛ لأنه كلما ازداد الإيمان ازداد غيظهم، ويجوز أن تكون للسببية أي: بسبب غَيْظكم، وليس بالقويّ.
وقوله: {مُوتُواْ} صورته أمر ومعناه الدعاء، فيكون دُعَاءً عليهم بأن يزداد غَيْظُهم، حتى يهلكوا به، والمراد من ازدياد الغيظ: ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام، وعِزِّ أهْلِه، وما لهم في ذلك من الذُّلِّ، والخِزْي، والعار.
وقيل: معناه الخبر، أي: أن الأمر كذلك.
وقد قال بعضهم: إنه لا يجوز أن يكون بمعنى: الدعاء؛ لأنه لو كان أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة؛ فإنَّ دعوته لا ترد، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآيةِ، [وليس بخبر] ؛ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أخبره، ولم يؤمن أحدٌ بعدُ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ، والتهديد، كقوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] و «إذَا لَمْ تَسءتَحْي فاصْنَعْ مَا شِئْتَ» .
وهذا - الذي قاله - ليس بشيء؛ لأن مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء - إن قُصِد به الدعاء - ولا تحت الخبر، إن قُصِد به الإخبار.
قوله: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، أخبر - تعالى - بذلك؛ لأنهم كانوا يُخفون غيظَهم ما أمكنهم، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد، ويحتمل أن يكون من جملة المقول، أي: قُلْ لهم: كذا، وكذا، فيكون في محل نصب بالقول، ومعنى قوله: {بِذَاتِ} أي: باملُضْمَرات، ذوات الصدور، ف «ذَات» - هنا - تأنيث «ذي» بمعنى صاحب؛ فحُذِف الموصوف، وأقيمت صفته مقامه، أي: عَلِيمٌ(5/499)
بالمضمرات صاحبة الصدُور، و «ذو» جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها، نحو أصحاب النار، وأصحاب الجنة.
والمراد بذات الصدور: الخواطر القائمة بالقلب من الدواعهي، والصوارف الموجودة فيه.
واختلفوا ف يالوقف على هذه اللفظة، هل يوقف عليها بالتاء، أو بالهاء؟ .
فقال الأخفش، والفَرَّاءُ، وابن كيسان: الوقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف.
وقال الكسائي، والجَرْمِيّ: يوقف عليها بالهاء، لأنها تاء تأنيث، كهي في صاحبة، وموافقة الرسم أوْلَى؛ فإنَّهُ قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء، فإذا وقفنا - هنا - بالتاء، وافقنا تلك اللغة، والرسم، بخلاف عكسه.(5/500)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
قرأ العامة {تَسُؤْهُمْ} ، بالتأنيث؛ مراعاةً للفظ «حَسَنَةٌ» .
وقرأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بالياء من تحت؛ لأنّ تأنيثها مجازيّ، وقياسه أن يقرأ «وَإن يصبكم سَيئةٌ» بالتذكير - أيضاً - لكن لم يبلغنا عنه في ذلك شيء.
والمس: أصله باليد، ثم يُسَمَّى كل ما يصل غلى الشيء ماسًّا، على سبيل التشبيه، يقال: فلان مسَّه العصب والنصب، قال تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] .
وقال الزمخشري: المسّ مستعار هاهنا بمعنى: الإصابة، قال تعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ} [التوبة: 50] .
وقال: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] .
والمراد بالحسنة - هنا: منفعة الدنيا، من صحة البدن، وحصول الخِصْب والغنيمة، والاستيلاء على الأعداء، وحصول الألْفَة والمحبة بين المؤمنين.
والمراد بالسيِّئَة: اضدادها، والسيئة: من ساء الشيء يَسيءُ - فهو سيِّءٌ، والأنْثَى سيئة - أي: قبح، ومنه قوله تعالى {سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] ، والسوء ضد الحسن، وهذه الآية من تمام وَصْف المنافقين.
فصل
قال ابو العباس: وردت الحسنةُ على خمسةِ أوجُه:
الأول: بمعنى: النصر والظفَر، قال تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: 120] أي: نَصْر وَظفَر.(5/500)
الثاني: بمعنى: التوحيد، قال تعالى: {مَن جَآءَ بالحسنة} [الأنعام: 160] أي: بالتوحيد.
الثالث: الرَّخَاء: قال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله} [النساء: 78] أي: رخاء.
الرابع: بمعنى: العاقبة، قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} [الرعد: 6] أي بالعذاب قبل العاقبةِ.
الخامس: القول بالمعروف، قال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} [الرعد: 22] أي: بالقول المعروف.
فصل
والسيئة - أيضاً - على خمسة أوجه:
الأول: بمعنى: الهزيمة - كما تقدم - كقوله: {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} [آل عمران: 120] أي: هزيمة.
الثاني: الشرك، قال تعالى: {وَمَن جَآءَ بالسيئة} [الأنعام: 160] أي: بالشرك.
الثالث: القحط، قال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78] أي: قحط، ومثله قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131] .
الرابع: العذاب، قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة} [الرعد: 6] .
الخامس: القول الرديء، قال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} [الرعد: 22] .
قوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ} أي: على طاعة الله، وعلى ما ينالكم فيها من شدة، وغَمٍّ، {وَتَتَّقُواْ} كلَّ ما نهاكم عنه، {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} .
قرأ نافع وابنُ كثير وأبو عمرو: «يَضُرْكُمْ» بكسر الضاد، وجزم الراء في جواب الشرط، من ضاره يضيره ويقال - أيضاً -: ضاره يضوره، ففي العين لغتان، ويقال ضاره يضيره ضَيْراً، فهو ضائر، وهو مضير، نحو: قلته أقوله، فأنا قائل، وهو مقول.
وقرأ الباقون: {يَضُرُّكُمْ} بضم الضاد، وتشديد الراء مرفوعة، وفي هذه القراءة أوجه:
الأول: أن الفعل مرتفع، وليس بجواب للشرط، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط، وذلك أنه على نية التقديم؛ إذ التقدير: لا يضركم إن تصبروا وتتقوا، فلا(5/501)
يضركم، فحذف فلا يضركم الذي هو الجواب، لدلالة ما تقدم عليه، ثم أخر ما هو دليل على الجواب، وهذا تخريج سيبويه وأتباعه، إنما احتاجوا إلى ارتكاب ذلك، لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجزم، ومثله قول الراجز:
1599 - يا أقْرَعُ بْنَ حَابسٍ يَا أقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَع أخُوكَ تُصْرَعُ
برفع «تصرع» الأخير -.
وكذلك قوله: [البسيط]
1600 - وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ ... يَقُولُ: لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
برفع «يقول» - إلاَّ أن هذا النوع مطّرد، بخلاف ما قبله - أعني: كون فعل الشرط والجزاء مضارعين - فإن المنقول عن سيبويه، وأتباعه وجوب الجزم، إلا في ضرورة.
كقوله: [الرجز]
1601 - ... ... ... ... ... ... . ... إنَّك إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وتخريجه هذه الآية على ما تقدم عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورةز
الوجه الثاني: أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدَّرة، وهي وما بعدها الجواب في الحقيقة، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفِع ليس إلاَّ كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] .
والتقدير: فلا يضركم، والفاء حذفت في غير محل النزاع.
كقوله: [البسيط]
1602 - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلانِ
أي: فالله يشكرها، وهذا الوجه نقله بعضهم عن المبرد، وفيه نظر؛ من حيث إنهم، لما أنشدوا البيت المذكور، نقلوا عن المبرد أنه لا يُجَوَّز حَذْفَ هذه الفاء - ألبتة - لا ضرورة، ولا غيرها - وينقلون عنه أنه يقول: إنما الرواية في هذا البيت: [البسيط]
1603 - مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ ... وردوا عليه بأنه إذا صحَّت روايةٌ، فلا يقدح فيها غيرُها، ونقله بعضُهم عن الفراء والكسائي، وهذا أقرب.
الوجه الثالث: أن الحركة حركة إتباع؛ وذلك أن الأصل: «لاَ يَضْرُرْكُمْ» . بالفك وسكون الثاني جَزْماً، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخر فعل سكن ثانيهما - جَزْماً، أو وَقْفاً - فللعرب فيه مذهبان:(5/502)
الجزم: وهو لغة تميم.
والفك: وهو لغة الحجاز.
لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك، فاضطررنا إلى تحريك المِثْل الثاني، فحَرَّكْناه بأقرب الحركات إليه، وهي الضمة التي على الحرف قبله، فحرَّكناه بها، وأدْغمنا ما قبله فيه، فهو مجزوم تقديراً، وهذه الحركة - في الحقيقة - حركة إتباع، لا حركة إعراب، بخلافها في الوجهين السابقين، فإنها حركة إعراب.
واعلم أنه متى أدغم هذا النوع، فإما أن تكون فاؤُه مضمومةً، أو مفتوحةً، أو مكسورةً، فإن كانت مضمومة - كالآية الكريمة.
وقولهم: مُدَّ - ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام:
الضم للإتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين، فتقول: مُدَّ ومُدُّ ومُدِّ.
وينشدون على ذلك قول الشاعر: [الوافر]
1604 - فغُضّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا
بضم الضاد، وفتحها، وكسرها - على ما تقرر - وسيأتي أن الآية قُرِئَ فيها بالأوُجه الثلاثةِ.
وإن كانت فاؤه مفتوحةً، نحو عَضَّ، أو مكسورة، نحو فِرَّ، كان في اللام وجهان: الفتح، والكسر؛ إذ لا وَجْهَ للضمِّ، لكن لك في نحو فِرَّ أن تقول: الكسر من وجهين: إما الإتباع، وإما التقاء الساكنين، وكذلك لك في الفتح - نحو عَضَّ - وجهان - أيضاً -: إما الإتباع، وإمَّا التخفيف.
هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب، فأما إذا اتصل به ضمير الغائب - نحو رُدَّهُ - ففيه تفصيل ولغات ليس هذا موضعها.
وقرأ عاصم - فيما رواه المفضَّل -: بضم الضاد، وتشديد الراء مفتوحة - على ما تقدم من التخفيف - وهي عندهم أوجه من ضم الراء.
وقرأ الضحاك بن مزاحم: «لا يَضُرِّكُمْ» بضم الضاد، وتشديد الراء المكسورة - على ما تقدم من التقاء الساكنين.(5/503)
وكأن ابْنُ عَطِيَّةَ لم يحفظها قراءةً؛ فإنه قال: فأما الكسر فلا أعرفه قراءةً.
وعبارة الزجَّاج في ذلك متجوَّز فيها؛ إذْ يظهر من روح كلامه أنها قراءة وقد بينا أنها قراءة.
وقرأ أبيّ: «لا يَضْرُرْكُمْ» بالفكّ، وهي لغة الحجاز.
والكيد: المكر والاحتيال.
وقال الراغب: هو نوع من الاحتيال، وقد يكون ممدوحاً، وقد يكون مذموماً، وإن كان استعماله في المذموم أكثر.
قال ابْنُ قُتَيْبَةَ: وأصله من المشقة، من قولهم: فلان يكيد بنفسه، أي: يجود بها في غمرات الموت، ومشقاته.
ويقال: كِدْتُ فلاناً، أكيده - كبعته أبيعُه.
قال الشاعر: [الخفيف]
1605 - مَنْ يَكِدْنِي بسَيِّءٍ كُنْتُ مِنْهُ ... كَالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ وَالْوَرِيدِ
و «شَيْئاً» منصوب نصب المصادر، أي: شيئاً من الضرر، وقد تقدم نظيره.
ومعنى الآية: أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى، واتقى عما نهى الله عنه، كان في حِفْظ الله، فلا يضره كيد الكائدين، ولا حِيَلُ المحتالين.
قوله: {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قراءة العامة {يَعْمَلُونَ} - بالغيبة، وهي واضحة.
وقرأ الحسن بالخطاب، إما على الالتفات، والتقدير: إنه عالم، محيط بما تعملونه من الصبر والتقوى، فيفعل بكم ما أنتم أهله، وإما على إضمار: قُل لهم يا محمد.
وإنما قال: {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ولم يقل: إنَّ اللهَ محيط بما يعملونَ؛ لأنهم يُقدِّمون الأهم، والذي هُمْ بشأنه أعْنَى، وليس المقصود - هنا - بيان كونه تعالى عالماً، بل بيان أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى، ومجازيهم عليها، فلا جرم قدّم ذكر العمل.(5/504)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
العامل في «إذْ» مضمَر، تقديره: واذكر إذْ غدوت، فينتصب المفعول به لا على الظرف، وجوَّز أبو مسلم أن يكون معطوفاً على {فِئَتَيْنِ} في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} [آل عمران: 13] أي: قد كان لكم آية في فئتين، وفي إذْ غَدَوْتَ، وهذا لا ينبغي أن يعرَّج عليه.
وقال بعضهم: العامل في «إذْ» «محيط» تقديره: بما يعملون محيط إذْ غَدَوْتَ.
قال بعضهم: وهذا لا يَصحّ؛ لأن الواو في (وَإِذْ) يمنع في عمل (مُحِيطٌ) فيها.
والغُدوّ: الخروج أول النهار، يقال: غدا يغدو، أي: خرج غدوة، وفي هذا دليل على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن المفسِّرين أجمعوا على أنه إنما خرج بعد أن صَلَّى الجمعة.
ويُسْتَعْمَل بمعنى: «صار» عند بعضهم، فيكون ناقصاً، يرفع الاسم، وينصب الخبر، وعليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً، وتَرُوحُ بِطَاناً» .
قوله: «من أهلك» متعلق ب «غَدَوْتَ» ، وفي «مِنْ» وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية، أي: من بين أهلك.
قال أبو البقاء: «وموضعه نصب، تقديره فارقت أهلَك» .
قال شهابُ الدِّيْنِ: «وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب، ولا تفسير معنى؛ فإن المعنى على غير ما ذكر» .
الثاني: أنها بمعنى: «مع» أي: مع أهْلك، وهذا لا يساعده لفظ، ولا معنى.
قوله: «تبوئ» يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل: «غَدَوْتَ» ، وهي حال مقدرة، أي: قاصداً تَبْوئةَ المؤمنين؛ لأن وقت الغدو ليس وقتاً للتبوئة، ويُحْتَمَل أن تكون حالاً مقارنة؛ لأن الزمان متسع.(5/505)
و «تبوئ» أي تُنزل، فهو يتعدى لمفعولين، إلى أحدهما بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، وقد يُحْذَف - كهذه الآية - ومن عدم الحذف قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26] وأصله من المباءة - وهي المرجع -.
قال الشاعر: [الطويل]
1606 - وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مُنْزِلاً ... بِشَرْقيٍّ أجْيَادِ الصَّفَا وَالْمُحَرَّمِ
وقال آخر: [مجزوء الكامل]
1607 - كَمْ صَاحِبٍ لِيَ صَالِحٍ ... بَوَّأتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
وقد تقدم اشتقاقه.
وقيل: اللام في قوله «لإبراهيم» مزيدة، فعلى هذا يكون متعدياً لاثنين بنفسه.
و «مقَاعِدَ» جمع مَقْعَد، والمراد به - هنا - مكان القعود، و «قعد» قد يكون بمعنى: «صار» في المثل خاصة.
قال الزمخشري: «وقد اتُّسِعَ في قَامَ، وقَعَدَ، حتى أجْرِيَا مُجْرَى صار» .
قال أبو حيان: أما إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار، فقال بعض أصحابنا: إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل قولهم: شَحَذَ شَفْرَتَه حتَّى قَعَدَتْ كأنَّهَا حَرْبَةٌ، ولذلك نُقِد على الزمخشري تخريجُه قوله تعالى:
{فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} [الإسراء: 22] بمعنى تصير؛ لأنه لا يَطَّرِد إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار.
قال شهابُ الدين: «وهذا - الذي ذكره الزمخشري - صحيح، من كون قَعَد بمعنى: صار في غير ما أشار إليه هذا القائل؛ حكى أبو عمر الزاهد - عن ابن الأعرابي - أن العرب تقول: قعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً، أي: صار» .
ثم قال أبو حيان: وأما إجراء قام مُجْرَى صار، فلا أعلم أحداً عدَّها في أخَوَاتِ «كان» ، ولا جعلها بمعنى «صار» إلا ابن هشام الخَضْراوي، فإنه ذكر - في قول الشاعر: [الوافر](5/506)
1608 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
أنها من أفعال المقاربة.
قال شهابُ الدين: «وغيرُه من النحويين من يجعلها زائدةً، وهو شاذٌّ، أيضاً» .
وقرأ العامة: «تبوّئ» بعدَّوْه بالتضعيف، وقرأ عبد الله: «تُبْوِئ» ، بسكون الباء فعدَّاه بالهمزة، فهو مضارع أبْوَأ - كأكرم.
وقرأ يحيى بن وثَّاب «تُبْوِي» كقراءة عبد الله، إلا أنه سَهَّل بإبدالها ياءً، فصار لفظه كلفظ: يُحيي.
وقرأ عبد الله: للمؤمنين - بلام الجر - كقوله: «وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت» وقد تقدم أن في هذه اللام قولين، والظاهر أنها معدية؛ لأنه قبل التضعيف، والهمزة غيرُ متعدٍّ بنفسه. ويحتمل أن يكون قد ضمَّنه - هنا - تهيِّئ، وترتِّب.
وقرأ الأشهب «مقاعد القتال» - بإضافتها للقتال - واللام في «لِلْقِتَالِ» - في قراءة الجمهور - فيها وجهان:
أوّلهما: - وهو أظهر -: أنها متعلقة ب «تبوئ» على أنها لام العلة.
والثاني: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها صفة لِ «مَقَاعِدَ» أي: مقاعد كائنة، ومُهَيَّأة للقتال، ولا يجوز تعلقها ب «مقاعد» ، وإن كانت مشتقة؛ لأنها مكان، والأمكنة لا تعمل.
فصل
كيفية النظم أنه - تعالى - لما قال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120] أتبعه ببيان أن الصبر يؤدي إلى النُّصْرة، والمعونة، ودَفْع ضرر العدو، وأن عدم الصبر يؤدي إلى خلاف ذلك، فقال: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} يعني: يوم أُحُد، كانوا كثيرين، مستعدِّين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين، غير مستعدين للقتال، فلما أطاعوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غَلَبُوا.
وفيه وجه آخر، وهو أنه لما نهى عن اتخاذ المنافقين بطانة، بيَّن - هنا - العلة في ذلك، وهي أن انكسارَكم يوم أحُد، إنما حصل بسبب تخلُّف عبد الله بن أبَيِّ ابْن سَلُول، المنافق.(5/507)
فصل
اختلفوا في هذا اليوم.
فقال ابن عباس، والسُّدِّيّ، وابنُ إسْحَاقَ، والرَّبِيعُ، والأصم، وأبو مسلم، وأكثر المفسرين: إنه يوم أُحُد.
وقال الحسنُ: هو يوم بدر.
وقال مجاهد ومقاتل: هو يوم الأحزاب، واحتج الأولون بوجوه:
الأول: أن أكثر العلماء بالمغازي ذكروا أن هذه الآية نزلت في واقعة أحُد.
والثاني: أنه - تعالى - قال بعد هذه الآية: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] ، والظاهر أنه معطوف على ما تقدم، وحقُّ المعطوف أن يغاير المعطوفَ عليه، وأما يوم الأحزاب فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم أحُد، لا يوم الأحزاب، فكانت قصة أحُد ألْيَقَ بهذا الكلام، لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ} [آل عمران: 120] .
الثالث: أن الانكسار كان في يوم أُحُد أكثر منه في يوم الأحزاب، لأن في يوم أُحُد قَتَلُا جَمْعاً كثيراً من أكابر الصحابة، ولم يتفق ذلك في يوم الأحزاب، فكان حمل الآية على يوم أحُد أوْلَى.
الرابع: أن ما بعده إلى قريب من آخر السورة متعلق بحرب أحد.
فصل
قال مُجَاهِدٌ، والكَلْبِيُّ، والوَاقِدِي: غَدَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من منزل عائشة، فمشى على رجليه إلى أحد، يَصُفُّ أصحابَه للقتال، كما يقوم القداح، وروي أن المشركين نزلوا بأحُد يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنزولهم، استشار أصحابه، ودعا عبدَ الله(5/508)
ابْن أبيّ ابْنَ سلول - ولم يدعه قط قبلها -، فاستشاره، فقال عبد الله بن أبَيّ، وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا عنها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخل عدو علينا إلا أصبْنَا منه، فدعهم، فإن أقاموا أقاموا بِشَرِّ موضع، وإن دخلوا قاتلهم الرجالُ في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين، فأعْجَبَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الرأيُ.
وقال آخرون: اخرج بنا إلى هؤلاء الأكْلُب؛ لئلا يظنّوا أنا قد خفناهم وضعفنا، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي رَأيْتُ فِي مَنَامِي بَقَرَةً تُذْبَحُ حَوْلِي، فأوَّلْتُها خَيْراً، وَرَأيْتُ فِي ذُبَابَةِ سَيْفِي ثَلْماً، فَأوَّلْتُه هَزِيمَةً ورايت كأنِّي أدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْع حَصِينَة، فأوَّلْتُها المَدِينَةَ، فَإنْ رَأيْتُمْ أن تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ، وتدعوهُمْ - وَكَانَ يُعْجِبُهُ أنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فِيُقَاتَلُوا في الأزقَّة - فَقَالَ رِجالٌ مِنَ المُسْلمين فَاتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وأكْرَمَهُمُ اللهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أحُدٍ: اخْرُجْ بِنَا إلَى أعْدائِنَا، فَلَمْ يَزَالُوا برسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَتَّى دَخَلَ، فَلَبَس لأمَتهُ، فَلَمَّا رَأوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلاَحَ نَدِمُوا، وَقَالُوا: بِئْسَ ما صنعنا، نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والوَحْيُ يَأتِيهِ!!! فَقُامُوا، واعْتَذَرُوا إلَيْهِ، وَقَالُوا: اصْنَعْ ما رأيت، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أنْ يَلْبَسَ لأمَتَهُ، فَيَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ - وَكَانَ قَدْ أقَامَ المُشرِكُون بأحُدٍ يَوْمَ الأرْبِعَاءِ، وَيَوْمَ الخَمِيسِ - فَرَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَمَا صَلى بِأصْحَابِهِ الجمعة، وقد مَاتَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمْ، فَأصْبَحَ بالشِّعْب من أحُد يوم السَّبْتِ للنصف من شَوَّال سنة ثلاثٍ من الهجرة، فَمَشَى عَلَى رجْلَيْهِ، وَجَعَلَ يصُفُّ أصحابَه لِلْقِتَالِ كَمَا تُقَوَّمُ القِدَاحُ، إنْ رَأى صدْراً بَارِزاً تأخَّر، وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وأمَّرَ عبد الله بن جبير على الرُّماة، وقال: ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه: اثْبُتُوا فِي هَذَا المَقَامِ، فَإذَا عاينوكم وَلَّوْكم الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين، ولا تخرجوا من هذا المقام» .
ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما خالف رأي عبد الله بن أبي شق ذلك عليه، وقال: أطاع الولدان وعصاني، ثم قال لأصحابه: إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم، وقد واعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءه فانهزموا، فيتبعوكم، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلما التقى الفريقان انهزم عدو الله بالمنافقين، وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً، فانهزم عبد الله بن أبي بثلاثمائة، وبقيت سبعمائة، فذلك قوله تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ» [آل عمران: 122] .
أي: أن تضعفا، وتجبُنا، وتتخلفا.
والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وكان عليه السلام قد خرج في ألف رجل، فانخزل عبد الله بن أبي بثلث الجيش، وقال: نقتل أنفسنا وأولادنا! فتبعهم أبو جابر السُّلمِي، وقال: أنشدكم الله في نبيكم، وفي(5/509)
أنفسكم، فقال عبد الله بن أبَيّ: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167] ، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبيّ، فعصمهم الله، فلم ينصرفوا، فذكرهم الله عظيم نعمته. فقال - عَزَّ وَجَلَّ - {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122] ناصرهما، وحافظهما، ثم قواهم الله، حتى هزموا المشركين، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم، طلبوا المدبرين، فأراد الله أن يعظهم عن هذا الفعل؛ لئلا يقدموا على مخالفة أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وليعلموا أن نصرهم غنما حصل ببركة طاعتهم لله ولرسوله، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم، فنزع الله الرُّعب من قلوب المشركين، فكَرَّ عليهم المشركون، وتفرق العسكر ن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153] ، وشُجَّ وَجْه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكُس~رَت رَبَاعِيَتهُ، وشَلَّتْ يد طلحة دونه، ولم يَبْقَ معه إلا أبو بكر، وعليّ، والعباسُ، وطلحة وسعد، ووقعت الصيحة في العسكر بأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قُتِل، ثم نودي على الأنصار بأن هذا رسول الله، فرجع إليه المهاجرون والأنصار، وكان قد قُتِل منهم سبعون، وأكْثر فيهم الجراح، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«رحم الله رجلاً ذَبَّ عن إخوانه، وشدَّ على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى» ، وكان الكفار ثلاثة آلاف، والمسلمون ألفاً - أو أقل - رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، وبقي مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سبعمائة، وأعانهم الله حتى هزموا الكفارَ، ثم لمَّا خالفوا أمرَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم، وانهزموا.
قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: سميع لأقوالكم، «عليم» بضمائركم؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما شاور أصحابه في تلك الحرب، فقال بعضهم: أقم بالمدينة، وقال آخرون: اخرج إليهم، فكان لكل أحد غرض في نفسه، فمن موافق ومن منافق، فقال تعالى: {أنا سميع لما تقولون عليم بما تسرون} .(5/510)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
قوله: {إِذْ هَمَّتْ} في هذا الظرف أوجه:
أحدها: أنه ظَرْف ل {غَدَوْتَ} .
الثاني: أنه بدل من {وَإِذْ غَدَوْتَ} ، فالعامل، فيه هو العامل في المُبْدَل منه.
الثالث: أنه ظرف ل {تُبَوِّىءُ} .
وهذه الأوجه تحتاج إلى نقل تاريخي في اتحاد الزمانين.(5/510)
الرابع: أن الناصب له «عَليمٌ» وحده - ذكره أبو البقاء.
الخامس: أن العامل فيه إما «سَمِيعٌ» ، وإما «عَلِيمٌ» على سبيل التنازع، وتكون المسألة - حينئذ - من إعمال الثاني، إذ لو أعمل الأول، لأضمر في الثاني.
قال الزمخشري: أو عمل فيه معنى: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قال أبو حيان: «وهذا غير محرَّر؛ لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين، فتحريره أن يقال: عمل فيه معنى سميع، أو عليم، وتكون المسألة من التنازع» .
قال شهاب الدين: «لم يرد الزمخشري بذلك إلا ما ذكرناه من إرادة التنازع، ويصدق أن يقول: عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور؛ لا أنهما عملا فيه معاً، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدعاً قولاً؛ إذ الفراء يرى ذلك، ويقول - في نحو: ضربتُ وأكرمتُ زيداً: إن زيداً منصوب بهما، وإنهما سُلِّطَا عليه معاً» .
فإن قيل: إذا كان الهمُّ العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل، والترك - وذلك معصية - فكيف يليق أن يقال: {والله وَلِيُّهُمَا} ؟
فالجواب: أن الهَمَّ قد يُرادُ به الكفر، وقد يراد به: حديث النفس، وقد يراد به: ما يظهر من القول الدالِّ على قوة العدو وكثرة عدده، وأيُّ شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف صاحبه بأنه هَمَّ أن يفشل، من حيث ظهر منه ما يوجب ضَعْف القلب، وإذا كان كذلك، فلا يدل على أن المعصية وقعت منهما، وبتقدير أن يقال ذلك، فيكون من باب الصغائر؛ لقوله: {والله وَلِيُّهُمَا} .
وقيل: الهَمّ دون العزّم، وذلك أن أول ما يمر بقلب الإنسان يُسَمَّى: خاطراً، فإذا قويَ سُمِّيَ: حديث نفسٍ، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ: هَمًّا، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ: عزماً، ثم بعده إما قول، أو فعل.
وبعضهم يُعَبِّر بالهَم عن الإرادة، تقول العرب: هممت بكذا، أهُمَ به - بضم الهاء - ويقال: همت - بميم واحدة - حذفوا إحدى الميمين تخفيفاً، كما قالوا: مِسْت وظلت، وحست - في مَسِسْتُ وظَلِلْتُ وحَسِنْتُ - وهو غير مقيس.
والهم - أيضاً -: الحُزْن الذي يُذِيب صاحبه، وهو مأخوذ من قولهم: همت الشحم - أي: أذبته، والهم الذي في النفس قريب منه، لأنه قد يؤثر في نفس الإنسان، كما يؤثر الحُزْن.
ولذلك قال الشاعر: [الطويل]
1609 - وَهَمُّكَ مَا لَمْ تُمْضِهِ لَكَ مُنْصِبٌ ...(5/511)
أي: إنك إذا هممت بشيء، ولم تفعله، وجال في نفسك، فأنت في تعب منه حتى تقضيَه.
قوله: {أن تَفْشَلاَ} متعلق ب «هَمَّتْ» ؛ لأنه يتعدى بالباء، والأصل: بأن تفشلا، فيجري في محل «أن» الوجهان المشهوران.
والفشل: الجبن والخَوَر.
وقال بعضهم: الفشل في الرأي: العجز، وفي البدن: الإعياء، وعدم النهوض، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر، والفعل منه فَشِل - بكسر العين - وتفاشل الماء - إذا سال -.
وقرأ عبد الله: والله وليهم، كقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] .
قوله: {وَعَلى الله} متعلق بقوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ} ، قدم للاختصاص، ولتناسب رؤوس الآي. وتقدم القول في نحو هذه الفاء.
قال أبو البقاء: «دخلت الفاء فمعنى الشرط، والمعنى: إن فشلوا فتوكلوا أنتم، أو إنْ صعب الأمر فتوكلوا» .
قال جابر: نزلت هذه الآية - {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} - فينا - بني سلمة، وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: {والله وَلِيُّهُمَا} .
قال ابنُ الخَطِيبِ: «ومعنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمَّة، ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى» .
والتوكُّل: تفعُّل، إمَّا من الوكالة - وهي: تفويض الأمر إلى من يوثق بحُسْن(5/512)
تدبيره، ومعرفته في التصرُّف - وإمَّا من وكل أمره إلى فلان، إذا عجز عنه.
قال ابنُ فارس: «هو إظهار العَجْز، والاعتماد على غيرك» ، يقال: فلان وكله يَكِلُه، أي: عاجز يكلُ أمره إلى غيره، والتاء في تُكَلَة بدل من الواو، كتخمة وتجاه وتراث.
فصل
اختلف العلماء في حقيقة التوكل، فسئل عنه سَهْل بن عبد الله، فقال: قالت فرقة: هو الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين.
وقال قوم: التَّوكُّل: ترك الأسباب، والركون إلى مُسَبِّب الأسباب، فإذا شغله السبب عن المسبب، زال عنه اسم التوكُّل.
قال سهل: من قال: التوكل يكون بتَرك السبب، فقد طعن في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الله يقول: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبا} [الأنفال: 69] ، والغنيمة اكتساب، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ» .(5/513)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
في كيفية النظم وجهان:
أحدهما: أنه - تعالى - لمَّا ذكر قصةَ أحُد أتبعها بقصة بدر؛ لأن المشركين كانوا في غاية القوة، ثم سلط المسلمين عليهم، فصار ذلك دليلاً على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى غرضه إلا بالتوكل على الله، ويكون ذلك تأكيداً لقوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا} [(5/513)
آل عمران: 120] ، وقوله: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [آل عمران: 122] .
الثاني: أنه - تعالى - حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل، ثم قال: {والله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [آل عمران: 122] .
ثعني: من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به الفشل؟ ثم أكَّد ذلك بقصة بدر؛ فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف، ولكن لمَّا كان الله تعالى ناصراً لهم، فازوا بمطلوبهم، وقهروا خصومهم، فهذا وجه النظم. والنصر: العون، نصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: {بِبَدْرٍ} متعلق ب {نَصَرَكُمُ} ، وفي الباء - حينئذ - قولان:
أحدهما: - وهو الأظهر -: أنها ظرفية، أي: في بدر، كقولك: زيد بمكة، أي: في مكة.
الثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها باء المصاحبة، فمحلُّها النصب على الحال، أي: مصاحبين لبدر، و «بدر» : اسم لماء بين مكة والميدنة، سُمِّي بذلك لصفائه كالبدر.
وقيل: لاستدارته وقيل: اسم بئر لرجل يقال له: بدر، وهو بدر بن كلدة، قاله الشعبي، وأنكر عليه بذكر الله - تعالى - مِنَّتَه عليهم بالنُّصْرَةِ يوم بدر وقيل: إنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه. قاله الواقدي وشيوخه.
وقيل: اسم وادٍن وكان يوم بدر السابع عشر من رمضان وكان يوم الجمعة، لثمانية وعشرين شهراً من الهجرة.
قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} في محل نصب على الحال من مفعول: {نَصَرَكُمُ} و {أَذِلَّةٌ} جمع ذليل وهو جمع قلة؛ إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة، و «فعيل» الوصف - قياس جمعه على فعلاء، كظريف وظرفاء، وشريف وشرفاء، غلا أنه تُرِك في المضعَّف؛ تخفيفاً ألا ترى إلى ما يؤدي إليه جمع ذليل وخليل على ذُللاء وخُللاء من الثقل؟
فإن قيل: قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين} [المنافقون: 8] فما معنى قوله: {وَأنْتُمْ أَذِلَّةٌ} ؟ فالجواب من وجوه:
الأول: أنه بمعنى: القلة وضعف الحال، وقلة السلاح والمال، وعدم القدرة على مقاومة العدو، وأن نقيضه العِز، وهو القوة والغلبة.
رُوِيَ أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن فيهم إلا فرس واحد، وأكثرهم رَجَّالة، وربما كان الجمع منهم يركبون جَمَلاً واحداً، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس، مع الأسلحة الكثيرة، والعُدَّة الكاملة.
قال القرطبيُّ: واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا(5/514)
أعزَّة، لكن نسبتهم إلى عدوهم، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض، تقتضي عند التأمل ذِلّتَهُمْ، وأنهم يغلبون.
الثاني: لعل المراد: أنهم كانوا أذلة في زَعْم المشركين، واعتقادهم؛ لأجل قلة عددهم، وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله - تعالى - عن الكفار قولهم: {لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] .
الثالث: أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار بمكة في قوتهم، وثروتهم، وثروتهم، إلى ذلك الوقت، ولم يَبْقَ للصحابة عليهم استيلاء، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم، فلهذا السبب كانوا يهابونهم ويخافونهم.
ثم قال: {فاتقوا الله} أي: في الثَّباتِ مع رسوله.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} بتقواكم ما أنعم الله به عليكم ممن نصرته، أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام؛ لأنه سبب له.
قوله: {إذْ تَقُولُ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب بإضمار اذكر.
الثاني: إن قلنا: إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر، فالعامل في «إذْ» قوله: {نَصَرَكُمُ الله} والتقدير: إذ نصركم الله ببدر، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين.
وإن قلنا: إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد، فيكون بَدَلاً من قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ} [آل عمران: 122] ، فهذه ثلاثة أوجه.
فصل
رُوِي عن ابن عبَّاسٍ والكَلْبِيِّ والواقِدِيِّ ومُقَاتِلٍ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ: أنه يوم أُحُد، لوجوه:
أحدها: أن يوم بدر إنما أمِدَّ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بألف من الملائكة لقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة} [الأنفال: 9] ، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف؟
وثانيها: أن الكفارَ كانوا يوم بدر ألفاً، وما يقرب منه، والمسلمون كانوا على الثلث منهم؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة، فصار عدد الكُفَّار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين، فلا جرم، وقعة الهزيمة على الكفار، فكذلك يوم اُحُد، كان عدد المسلمين ألفاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة(5/515)
آلاف من الملائكة؛ ليصير عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكةِ، مع زيادة عدد المسلمين، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم، كما هزموهم يوم بدر، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم.
وثالثها: أنه قال في هذه الآية: {وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] .
والمراد: ويأتيكم أعداؤكم من فورهم، ويوم أحُد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر، فإنهم لم يأتوهم، بل هم ذهبوا إلى الأعداء.
فإن قيل: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعدهم بخمسة آلاف يوم أُحُد، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن إنزال الآلاف الخمسة، كان مشروطاً بأن يصبروا، ويتَّقوا في المغانم، فَخَالَفُوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما فات الشرط، فات المشروط، وأمَّا إنزال الآلاف الثلاثة، فقد وَعَدَ المؤمنين بها حين بوَّأهُم مقاعدَ القتال.
الثاني: أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت.
روى الواقدي عن مجاهد قال: حضرت الملائكة يومَ أُحُد، ولكنهم لم يقاتلوا، ورُوِيَ أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر، فقُتِل مُصْعَبٌ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تقدم يا مصعب» ، فقال الملك: لستُ بمُصعَب، فعرف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه مَلَك أمِدَّ به.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أرمي السهمَ يومئذٍ، فيرد علي رجل أبيض، حسن الوجه، وما كنت أعرفه، وظننت أنه مَلَك.
فعلى هذا القول يكون قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} مُعْتَرِضاً بين الكلامين.
وقال قتادة: أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة، على ما قال: {فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة} [الأنفال: 9] ، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسةَ آلاف، كما قال هاهنا: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف} [آل عمران: 125] ، فصبروا يوم بدر واتقوا، فأمدم الله بخمسة آلاف كما وعد، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب -(5/516)
في ذلك اليوم - أكثرَ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً، غير مشورط بشرطٍ، فوجب أن يحصل، وإنَّما حصل يوم بدر، لا يوم أُحُد، وليس لأحد أن يقول: إنهم نزلوا، لكن ما قاتلوا؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد، بل لا بدّ من الإعانة، والإعانة حصلت يوم بدر، لا يوم أُحُد.
وأما الجواب عن أدلة الأولين، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف، فالجواب من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بألف، ثم زاد فيهم ألفين، فصاروا ثلاثةَ آلاف، ثم زاد ألفين آخرين، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم: «ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا: بلى فقال لهم: إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ» .
الثاني: أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة اطلأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير، فخافوا، وشَقَّ عليهم ذلك، لقِلَّة عددهم، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ، فاصتغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف.
وأما قولهم: إن الكفارَ كانوا - يوم بَدْرٍ - ألْفاً، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة، ويوم أُحُد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثةَ آلاف، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك، بل يفعل الله ما يشاء من زيادةٍ ونَقْصٍ بحسب ما يريد، وأما التمسك بقوله: {وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ} فالجواب: أن المشركين لمّا سمعوا أن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأصحابه قد تعرَّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم، واجتمعوا، وقصدوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم إن الصحابةَ لما سمعوا ذلك، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فَوْرِهم يُمْدِدكم بخمسةِ آلاف من الملائكة.
فصل
قال القرطبيُّ: «نزول الملائكة سبب من أسباب النصر، لا يحتاج إليه الرَّبُّ تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق، فلْيَعْلَق القلبُ بالله، ولْيَثِقْ به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون} [يس: 82] ، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلا} [الأحزاب: 62] ، ولا يقدح ذلك في التوكُّل، وهو رَدٌّ على مَنْ قال: إن الأسبابَ إنما سُنَّتْ في حَقِّ الضعفاء، لا الأقوياء؛ فإنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه كانوا أقوياءَ، وغيرهم هم الضعفاء، وهذا واضح» .(5/517)
فصل في اختلافهم في عدد الملائكة
اختلفوا في عدد الملائكة، فمن الناس مَنْ ضَمَّ العدد الناقص إلى العدد الزائد؛ فقالوا: الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتَّقْوَى، ومجيء الكفار من فورهم، فلا بد من التغاير، وهذا القول ضعيف، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط.
ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد.
فعلى القول الأول إن حَمَلْنا الآية على قصة بدر، كان عدد الملائكة تسعة آلاف؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف، وذكر خمسة آلاف، فالمجموع تسعة آلاف.
وإن حملناها على قِصَّة أُحُدٍ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة، فيكون المجموع ثمانية آلاف.
وعلى القول الثاني: وهو إدخال الناقص في الزائد، فإن حملنا الآية على قصة بدر، فقالوا: عدد الملائكة: خمسة آلاف؛ لأنهم وُعِدوا بالألف، ثم ضُمَّ إليه الألفان، فصاروا ثلاثةً، ثم ضُمَّ إليه ألفان، فلا جرم، وعدوا بخمسة آلاف.
وقد رُوِيَ أن أهْلَ بَدْر أمِدُّوا بألْف، فقيل: إن كُرْز بن جابر المحاربيّ يريد ان يُمِدَّ المشركين، فشَقَّ ذلك على المسلمين، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم:
«ألَنْ يَكْفِيَكُمْ» يعني بتقدير أن يجيء المشركين مَدَدٌ، فالله - تعالى - يمدكم - أيضاً - بثلاثة آلاف وخمسة آلاف، ثم إن المشركين ما جاءهم المَدَدُ «.
وإن حملناها على قصة أُحُد، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف؛ لأن الخمسةَ، وعدوا بها بشرط أن يَصْبروا ويتقوا، ويأتوهم من الفور.
فصل
أجمع المفسرون وأهلُ السِّير على أن الله - تعالى - أنزل الملائكةَ يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفارَ.
قال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدرٍ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال، ولا يقاتلون، إنما يكونون عدداً ومدداً وهذا قول الأكثرين.
وقال الحسن: هؤلاء الخمسة آلافٍ ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة.
وأنكر ابو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار، واحْتَجَّ عليه بوجوه:
الأول: أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض؛ فإنَّ المشهور أنَّ جبريل - عليه السلام - أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط، وبلغ جناحُه إلى الأرض السابعة، ثم رفعها إلى السماء، فجعل عاليها سافلَها، فإذا حضر هو يوم بدر، فأيُّ حاجة(5/518)
إلى مقاتلةِ الناسِ مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟
الثاني: أن أكابر الكفار كانوا مشهورين، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.
الثالث: أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس، أوْ لا، فإن رآهم الناس، فإما أن يروهم في صورة الناس، أو في صورة غيرهم، فإنْ رَأوْهُمْ في صورة الناس، صار المشاهَد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى: {وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِم} [الأنفال: 44] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس، لزم وقوع الرُّعْب الشديد في قلوب الخلق؛ لأن من شاهد الجن، لا شك أنه يشتد فَزَعُه - ولم ينقل ذلك ألبتة - وإن لم يَرَوْهُم، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا، وحزوا الرؤوس، وشقُّوا البطون، وأسقطوا الكفار عن الأفراس، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحَداً من الفاعلين، وهذا يكون من أعظم المعجزات، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد، ولما لم يوجد شيء من ذلك عُرفَ فسادُه.
الرابع: أن الملائكة الذين نزلوا، إما أن يكونوا أجساماً لطيفةً أو كثيفة، فإن كانت كثيفةً وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم، ومعلوم أن الأمر ما ان كذلك، وإن كانت لطيفةً مثل الهواء - لم يكن فيهم صلابة وقوة، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول.
والجواب: أن نص القرآن ناطق بِها، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عُمَيْر لما رجعت قريش من أحد، جعلوا يتحدثون في أنْدِيَتِهم بما ظفروا، ويقولون: لم نَرَ الخيل البُلْق، ولا الرجالَ البيضَ الذين كُنَّا نراهم يومَ بدر.
وقال سعدُ بن أبي وقاص: رأيتُ عن يمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بِيضٌ، ما رأيتهما قبل، ولا بعد.
قال سعدُ بن إبراهيمَ: يعني: جبريل وميكائيل.
وهذه الشبهة إنما تليق بمن يُنكر القرآن والنبوة، فأما من يُقِرُّ بهما، فلا يليق به شيءٌ من هذا، وهذه الشبهة إذا قابلناها بكمال قدرة الله - تعالى - زالت؛ فإنه - تعالى - يفعل ما يشاء؛ لأنه قادر على جميع الممكنات.
فصل
اختلفوا في كيفية نُصْرة الملائكة.(5/519)
فقال بعضهم: بالقتال مع المؤمنين.
وقال بعضهم: بل بتقوية نفوسهم، وإشعارهم بأن النُّصْرة لهم، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار.
وقال أكثر المفسرين: إنهم لم يقاتلوا في غير بدر.
قوله: {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} معنى الكفاية: هو سَدُّ الخلة، والقيام بالأمر.
يقال: كَفَاهُ أمر كذا، أي: سَدَّ خلته.
والإمداد: إعانة الجيش بالجيش، وهو في الأصل إعطا ءالشيء حالاً بعد حال.
قال المفضَّل: ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: أمَدَّه يُمِدُّه، وما كان على جهة الزيادة، قيل فيه: مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا ومنه: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر} [لقمان: 27] .
وقيل: المَدُّ في الشر، والإمداد في الخير؛ لقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وقوله: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} [مريم: 79] وقال في الخير: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف} [الأنفال: 9] وقال: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِين} [الإسراء: 6] .
قوله: {أَن يُمِدَّكُمْ} فاعل، {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} أي: ألن يكفيكم إمدادُ ربكم، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار، وجيء ب «لن» دون «لا» ؛ لأنها أبلغ في النفي، وفي مصحف أبيّ «الا» بدون «لن» وكأنه قصد تفسير المعنى.
و «بثلاثة» متعلق ب {يُمِدَّكُمْ} .
وقرأ الحسن البصريّ «ثلاثة آلافٍ» - بهاء - ساكنة في الوصل - وكذلك «بخمسة آلافٍ» كأنه أجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف، وهي ضعيفة؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال.
قال ابن عطية: ووجْه هذه القراءة ضعيف؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذْ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال الأول، والهاء إنما هي أمارة وقف، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضعَ، من ذلك ما حكاه الفرَّاء من قولهم: أكلت لحما شاةٍ - يريدون لحم شاة - فَمَطلُوا الفتحةَ، حتى نشأت عنها ألِفٌ، كما قالوا في الوقف قالا - يريدون قال - ثم مَطَلُوا الفتحة في القوافي، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت.
ومن ذلك في الشعر قوله: [الكامل]
1610 - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُكْدَمِ(5/520)
يريد: «ينبع» ، فمطل ومثله قول الآخر: [الرجز]
1611 - أقُولُ إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ ... يَا نَاقَتَا مَا جُلْتُ مِنْ مَجَالِ
يريد: «الكلكل» ، فمطل ومثله قول الشاعر: [الوافر]
1612 - فَأنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى ... وَمَنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ
يريد: بمنتزح.
قال أبو الفتح: «فإذا جاز أن يعترض هذا [الفتور] والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه، إذ هما اثنان» .
قال أبو حيان - بعد نقل كلام ابن عطية -: «وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوَصْل مُجْرَى الوَقْف، وإجراء الوَقْف مُجْرَى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله: لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوَصْل، وإنما نظير هذا قولهم: ثلاثة اربعة، أبدل التاء هاء، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها، وحذف الهمزة، فأجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف في الإبدال، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مُجْرى الوقف؛ إذْ لا يكون هذا النقل إلا في الوَصْل» .
وقرئ شاذًّا - أيضاً -: بثلاثةْ آلاف - بتاء ساكنة، وهي أيضاً من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن، أهي تاء التأنيث التي كانت، فسكنت فقط، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ ولا طائل تحته.
قوله: {مِّنَ الملاائكة} يجوز أن تكون «مِنْ» للبيان، وأن تكون «مِنْ» ومجرورها في(5/521)
موضع الجر صفة ل «لَثَلاثَةِ» أو لِ «آلافٍ» .
قوله: {مُنْزَلِينَ} صفة ل «ثلاثة آلاف» ، ويجوز أن يكون حالاً من «الْمَلاَئِكَةِ» والأول أظهر. وقرأ ابن عامر «مُنزَّلين» - بالتضعيف - وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت: {إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء} [العنكبوت: 34] إلا أنه هنا - اسم مفعول، وهناك اسم فاعل.
والباقون خفَّفوها وقرأها ابن أبي عَبْلَة - هنا - مُنَزَّلين - بالتشديد مكسور الزاي، مبنياً للفاعل.
وبعضهم قرأه كذلك، إلا أنه خفف الزاي، جعله من أنزل - كأكرم - والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية، ففعَّل وأفْعل بمعنًى، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالاًّ على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتنين الأخيرتين يون المفعول محذوفاً، أي: منزلين النصر على المؤمنين، والعذاب على الكافرين.
قوله: {بلى} حرف جواب، وهو إيجاب للنفي في قوله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله: {يُمْدِدْكُمْ} .
والفوز: العجلة والسرعة، ومنه: فارت القِدْرُ، إذا اشتد غلبانها وسارع ما فيها إلى الخروج، والفوز مصدر، يقال: فَار يفُورُ فَوْراً، قال تعالى:
{حتى
إِذَا
جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [هود: 40] ، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال: جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه، فالفَوْز - في الأصل -: مصدر، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين: معنى «مِنْ فَورِهم هَذَا» : من وجههم هذا.
وقال مجاهد والضَّحَّاكُ: من غضبهم هذا؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر.
قوله: {مُسَوِّمِينَ} كقوله: {مُنزَلِينَ} ، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو، على اسم الفاعل، والباقون بفتحها على اسم المفعول، فأما القراءة الأولى، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى: أنهم سَوَّموا خَيْلَهم، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان، وتركوها كذلك، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى.(5/522)
ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم، أو خيلهم.
روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ، قال عروة بن الزبير: كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ، عليهم عمائمُ بِيضٌ، قد أرسلوها بين أكتافهم.
وقال هشام بن عروة: عمائم صفر.
وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ، إلا جبريل فبعمامة صفراء، على مثال الزبير بن العوام.
قال قتادةُ والضَّحَّاكُ: كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها.
ورُوِيَ أنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأصحابه يوم بدر: «تسوموا، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم» وأما القراءة الثانية، فواضحة بالمعنيين المذكورين، فمعنى السوم فيها: أن الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين.
قال أبو زيد: سوم الرجل خَيْلَه، أي أرسلها.
وحكى بعضهم: سومت غلامي، أي: أرسلته، ولهذا قال الأخفش: معنى «مُسَوَّمِينَ» مُرْسَلِين.
ومعنى السومة فيها: أن الله - تعالى - سومهم، أي جعل عليهم علامة، وهي العمائم، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم.
فصل
قال القُرْطُبِيُّ: «وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة، والعلامة للقبائل، والكتائب، يجعلها السلطان لهم؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البُلْق؛ لنزول الملائكة عليها» .(5/523)
قال القرطبي: «ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد؛ فإنه كان أبلق، ولم يكن له فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق، إكراماً للمقداد، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير» .
قوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى} الكناية في «جَعَلَهُ» عائدة على المصدر، أي: ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعول من أجله، وهو استثناء مفرغ؛ إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى، وشروط نصبه موجودة، وهي اتحاد الفاعل، والزمان، وكونه مصدراً سبق للعلة.
والثاني: أنه مفعول ثانٍ لِ «جَعَل» على أنها تصييرية.
والثالث: أنه بدل من الهاء في «جَعَلَهُ» قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد.
والبشرى: مصدر على «فُعْلَى» كالرُّجْعَى.
وقيل: اسم من الإبشار، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 25] .
قوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ} فيه وجهان:
أحدهما: أنًّه معطوف على «بُشْرَى» هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله، وإنما جُرَّ باللام؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه، وقد تقدم، والتقدير: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة.
والثاني: أنها متعلقة بمحذوف، أي: ولتطمئن قلوبكم، فعلى ذلك، أو كان كيت وكيت.
وقال أبو حيان: و «تطمئن» منصوب بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر.
ثم نقل عن ابن عطية أنه قال: «اللام في {وَلِتَطْمَئِنَّ} متعلقة بفعل مضمر يدل عليه» جَعَلَهُ «ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، ولتطمئن به قلوبكم.
قال أبو حيان:» وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف {وَلِتَطْمَئِنَّ} على {بشرى} ، على الموضع؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع، ولا محرز هنا؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود، ومَنْ لم يشترط المحرز، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم «.(5/524)
قال شهاب الدين:» وقد جعل بعضهم الواو في {وَلِتَطْمَئِنَّ} زائدة، وهو لائق بمذهب الأخفش، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى، أي: أن البشرى عِلَّة للجَعْل، والطمأنينة علة للبُشْرَى، فهي علة العلة «.
قال ابْنُ الخَطِيبِ: في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر:
فأحدهما: إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله: إلاًَّ بشرى} .
الثاني: حصول الطمأنينة بالنصر، فلا يجنبون، وهذا هو المقصود الأصلي، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية، فعطف الفعل على الاسم، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة، فقال: {وَلِتَطْمَئِنَّ} ونظيره قوله: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب، أدخَل عليه حرف التعليل، فكذا هاهنا.
قال أبو حيان:» ويناقش في قوله: عطف الفعل على الاسم؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله: أدخل حرف التعليل، وليس ذلك كما ذكره «.
انتهى.
قال شهَابُ الدِّينِ: «إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل» .
وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه: «هذا على تأويل: وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في {وَلِتَطْمَئِنَّ} فيكون التقدير: وما جعله الله إلا بشرى لكم؛ لتطمئنَّ قلوبكم به» .
والضميران في قوله {وَمَا جَعَلَهُ} ، و «بِهِ» يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم، وهو قوله: «يمددكم» .
وقيل: يعودان على النصر.
وقيل: على التسويم.
وقيل: على التنزيل.
وقيل: على المدد.
وقيل: على الوعد.
فصل
قال في هذه الآية: «لَكُمْ» وتركها في سورة الأنفال؛ لأن تيك مختصر هذه، فكان الإطناب - هنا - أوْلَى؛ لأن القصة مكملة هنا، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه، وأخر - هنا - «به» وقدمه في سورة الأنفال؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في «لَكُمْ» فأتبع الخطاب الخطاب، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله: {العزيز الحكيم} وجاء بهما في(5/525)
جملة مستأنفة في سورة الأنفال، في قوله: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10] ؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم، أي: لا يغالب، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب، فالنصر من عند÷ فاستعينوا به، وتوكلوا عليه؛ لأن العز والحُكْم له.
قوله: {لِيَقْطَعَ} في متعلق هذه اللام سبعة أوجه:
أحدها: أنها متعلقة بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله} قاله الحوفيّ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْل.
الثاني: أنها متعلقة بالنصر في قوله: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} والمعنى: أن المقصود من نصركم، هو أن تقطعوا طرفاً من الذين كفروا، أي: تملكوا طائفة منهم، وتقتلوا قطعة منهم، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ، وهو الخبر.
الثالث: أنها متعلقة بما تعلَّق به الخبر، وهو قوله: {مِنْ عِندِ الله} ، والتقدير: وما النصر إلا كائن، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع.
والرابع: أنها متعلقة بمحذوف، تقديره: أمَدَّكُم، أو نَصَرَكُم، ليقطَعَ.
الخامس: أنها معطوفة على قوله: «ولتطمئن» حذف حرف لعطف لفهم المعنى؛ لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف، كقوله: {ثلاثة رابعهم كلبهم} وقول السيد لعبده: أكرمتك لتخدمني، لتعينني، لتقوم بخدمتي، فحذف العاطف لقُرْب البعض من البعض، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله: {وما النصر إلا من عند الله} اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو ساقط الاعتبار.
السادس: أنها متعلقة بالجَعْل قاله ابن عطية.
السابع: أنها متعلقة بقوله: {يُمْدِدْكُمْ} وفيه بُعْدٌ؛ للفواصل بينهما.
والطرف: المراد به: جماعة، وطائفة، وإنما حَسَُ ذِكْر الطرف - هنا - ولم يحسن ذكر الوسط؛ لأنه لا وصول إلى الوَسَطِ إلا بعد الأخذ من الطرف، وهذا يوافق قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ} [التوبة: 123] وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] .
قوله: {مِّنَ الذين} يجوز أن يكون متعلِّقاً بالقَطْع، فتكون «مِنْ» لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل «طَرَفاً» وتكون «مِنْ» للتبعيض.
قوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} عطف على «لِيَقْطَعَ» .
و «أو» ؛ قيل: على بابها من التفصيل، أي: ليقطع طرفاً من البعض، ويكبت بعضاً آخرين.(5/526)
وقيل: بل هي بمعنى الواو، أي: يجمع عليهم الشيئين.
والكبت: الإصابة بمكروه.
وقيل: هو الصَّرع للوجْه واليدين، وعلى هذين فالتاء أصلية، ليست بدلاً من شيء، بل هي مادة مستقلة.
وقيل: أصله من كبده، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وَجَعاً، كقولك: رأسته، أي: أصبت رأسه، ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حُمَيد: أو يكبدَهم - بالدال - والعرب تُبْدِل التاء من الدال، قالوا: هَرَتَ الثوبَ، وهردَه، وسَبَتَ رأسَه، وسَبَدَه - إذا حَلَقَه -.
وقد قيل: إنّ قراءة لاحق أصلها التاء، وإنما أُبدِلت دالاً، كقولهم: سبد رأسه، وهرد الثوب، والأصل فيهما التاء.
فصل
معنى قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا} أي: ليُهْلِكَ طائفة.
وقال السُّدِّيُّ: لِيَهْدِمَ رُكْناً من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقُتِل من قادتهم وسادتهم يوم بدر - سبعون، وأُسِر سبعون، ومَنْ حَمَل الآيةَ على أحُد، فقد قُتِل منهم يومئذ ستة عشر، وكانت النُّصرة للمسلمين، حتى خالفوا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانقلبت عليهم.
{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} .
قال الكلبي: يهزمهم.
وقال السُّدي: يلعنهم.
وقال أبو عبيدة: يُهْلِكهم ويصرعهم على وجوههم.
وقيل: يُخْزِيهم والمكبوت الحزين.
وقيل: يَغِيظهم.
وقيل: يُذلهم.
قوله: {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} لن ينالوا خيراً مما كانوا يرجون من الظفر بكم.(5/527)
والخيبة لا تكون إلا بعد التوقُّع، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقُّع وقبلَه، فنقيض اليأس الرجاء، ونقيض الخيبة: الظفر يقال: خَابَ يَخِيبُ خَيْبَةً.
و {خَآئِبِينَ} نُصِبَ على الحال.(5/528)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
اختلفوا في سبب النزول.
فقيل: نزلت في قصة أُحُد، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أن يدعُوَ على الكفار، فنزلت هذه الآيةُ، وهؤلاء ذكروا أقوالاً:
أحدها: أن عُتْبَةَ بن أبي وقاص شجَّه، وكسر رَبَاعِيَتَهُ، فجعل يمسحُ الدمَ عن وجهه، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم، وهو يقول: كيف يُفْلِح قومٌ خضَّبوا وَجْه نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ ثم أراد أن يدعُوَ عليهم، فنزلت هذه الآية.
وروى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَعَنَ أقوماً، فقال: «اللهم العن أبا سفيان، الهم العن الحارثَ بن هشام، اللهم العن صفوانَ بن أمَيَّة» ، فنزلت هذه الآية.
{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فتابَ على هؤلاءِ، وحَسُنَ إسلامهم.
وقيل: نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما فعلوا به من المُثْلَة، قال: لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به. فنزلت هذه الآية.
{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فتابَ على هؤلاءِ، وحَسُنَ إسلامِهم.
وقيل: نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما فعلوا به من المُثْلَة، قال: لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به. فنزلت هذه الآية.
قال القفال: وكل هذه الأشياء حصلت يومُ أُحُد، فنزلت الآيةُ عند الكل، فلا يمنع حملها على الكل.(5/528)
الثاني: أنها نزلت بسبب أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أن يلعنَ المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا، فمنعه الله من ذلك قاله ابنُ عباس.
الثالث: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أنْ يستغفرَ للمسلمين الذين انهزموا، وخالفوا أمره، ويدعوَ لهم، فنزلت الآية.
القول الثاني: أنها نزلت في واقعةٍ أخرى، وهي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث جَمْعاً من خيار أصْحَابه - وهم سبعون رجلاً من القُرَّاء إلى بِئْر معونة، في صفر سنة أربع من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أحد، ليُعَلِّموا الناسَ القرآن والعلم، أميرهم المنذر بن عمرو، فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره فقتلهم، فوَجِدَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذلك وَجْداً شديداً، وقَنَتَ شهراً في الصلوات كلِّها يدعو على جماعة من تلك القبائلِ باللعن والسنين، فنزلت الآية، قاله مقاتل وأكثر العلماء متفقون على أنها في قصة أحد.
فإن قيل: ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت للمنع من أمرٍ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد أن يفعلَه، وذلك الفعل إن كان بأمر الله، فكيف يمنعه منه؟ وإن كان بغير أمر الله، فكيف يصح هذا مع قوله تعالى:
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] ؟ وأيضاً فالآية دالة على عصمة الأنبياء، فالأمر الممنوع منه في هذه الآية، إن كان حَسَناً فلِمَ منعه اللهُ؟ وإن كان قبيحاً، فكيف يكون فاعله معصوماً؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المنعَ من الفعل لا يدل على أن الممنوع كان مُشْتَغَلاً به؛ فإنه تعالى - قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يُشْرِك قط، وقال: «يا أيها النبي اتق الله» وهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله، ثم قال: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} [الأحزاب: 1] ، وهذا لا يدل على أنه أطاعهم، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغَمَّ الشديد، والغضب العظيم، وهو قَتْل عمه حمزةَ، وقتل المسلمين. والظاهر أن هذا الغضب يَحْمِل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل، فنصَّ الله على المنع؛ تقويةً لِعصْمَته، وتأكيداً لطهارته.
والثاني: لعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ همَّ أن يفعلَ، لكنه كان ذلك من باب تَرْك الأفضل، والأوْلَى، فلا جرم، أرشده الله تعالى إلى اختيار الأوْلَى، ونظيره قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} [النحل: 126 - 127] فكأنه - تعالى - قال: إن كان لا بد أن تعاقب ذلك الظالمَ فاكتفِ بالمثل، ثم قال ثانياً: وإن تركته كان ذلك أوْلَى، ثم أمره أمراً جازِماً بتَرْكِه، فقال: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} [النحل: 127] .
ووجه ثالث: وهو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما مال قلبه إلى اللعنة عليهم، استأذن ربه فيه، فنزلت الآية بالنص على المنع. وعلى هذا التقدير، فلا يدل هذا النهي على القدح في العِصْمة.(5/529)
فصل
في معنى الآية قولان:
الأول: ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أُوحِي إليك.
وثانيها: ليس لك في أن يتوبَ الله عليهم، ولا في أن يعذبَهم شيء غلا إذا كان على وفق أمري، وهو كقوله: {أَلاَ لَهُ الحكم} [الأنعام: 62] ، واختلفوا في هذا المنع من اللعن، لأي معنًى كان؟
فقيل: الحكمة فيه أنه - تعالى - ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب، وأنه سيولد له وَلَدٌ، يكون مسلماً، بَرًّا، تقيًّا، فإذا حصل دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليهم بالهلاك، فإن قُبلت دعوتُه فات هذا المقصود، وإنْ لم تُقْبَلْ دعوتُه كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى - من اللَّعْن، وأمره بأن يُفَوِّضَ الكل إلى علم الله سبحانه وتعالى.
وقيل المقصود منه إظهار عجز العبودية وألا يخوض العبد في أسرار الله تعالى.
قوله: {أَوْ يَتُوبَ} في نصبه أوجهٌ:
أحدها: أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبلَه، تقديره: لِيقطَعَ، أو يتوبَ عليهم، أو يكبتهم، أو يعذبهم.
وعلى هذا فيكون قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} جملة معترضة بين المتعاطِفَيْن، والمعنى: إن الله تعالى هو المالك لأمرهم، فإن شاء قطع طرفاً منهم، أو هزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا، أو يعذبهم إن تمادَوْا على كُفْرهم، وإلى هذا التخريج ذهب جماعة من النحاة كالفراء، والزجاج.
الثاني: أن «أو» هنا بمعنى «إلا أن» كقولهم: لألزمنك أو تقضين حقي أي: إلا أن تقتضينه.
الثالث: «أوْ» بمعنى: «حتى» ، أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب وعلى هذين القولين فالكلام متصل بقوله: {ليس لك من الأمر شيء} ، والمعنى: ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم بالإسلام، فيحصل لك سرور بهدايتهم إليه، أو يعذبهم بقتل، أو نار في الآخرة، فتشقى بهم، وممن ذهب إلى ذلك الفراء، وأبو بكر بن الأنباري، قال الفراء: ومثل هذا من الكلام: لألزمنك أو تعطيني، على معنى إلا أن تُعطيني وحتى تعطيني وأنشدوا في ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
1613 - فَقُلْتُ لَهُ: لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ... تُحَاوِلُ مُلْكاً، أوْ تَمُوتَ، فَُعْذَرَا
أراد: حتى تموت، أو: إلا أن تموت.(5/530)
قال شهاب الدين: «وفي تقدير بيت امرئ القيس ب» حتى «نظر؛ إذ ليس المعنى عليه؛ لأنه لم يفعل ذلك لأجل هذه الغاية، والنحويون لم يقدروه إلا بمعنى: إلا أنْ» .
الثالث: منصوب بإضمار: «أنْ» عطفاً على قوله: «الأمر» ، كأنه قيل: ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم، أو تعذيبهم شيء، فلما كان في تأويل الاسم عُطِفَ على الاسم قبلَه، فهو من باب قوله: [الطويل]
1614 - فَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أعِزَّةٌ ... وَآلُ سُبَيْعٍ، أوْ أسُوءَكَ عَلْقَمَا
وقوله: [الوافر]
1615 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ، وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
الرابع: أنه معطوف - بالتأويل المذكور - على «شَيءٌ» ، والتقدير: ليس لك من الأمر شيء، أو توبة الله عليهم، أو تعذيبهم، أي: ليس لك - أيضاً - توبتهم ولا تعذيبهم، إنما ذلك راجع إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
وقرأ أبَيّ: أو يتوبُ، أو يعذبهم، برفعهما على الاستئناف في جملة اسمية، أضْمِر مبتدؤُها، أي: هو يتوبُ، ويعذبُهم.
فصل
يحتمل أن يكون المراد من هذا العذاب: هو عذاب الدنيا - بالقَتْل والأسْر - وأن يكون عذابَ الآخرة، وعلى التقديرين فعِلْمُ ذلك مُفَوَّضٌ إلى الله تعالى.
قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} جملة مستقلة، والمقصود من ذكرها: تعليل حسن والتعذيب، والمعنى: إن يعذبهم فبظلمهم.
واعلم أنه إذا كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفار صَحَّ ذلك، وسمَّاهم ظالمين؛ لأن الشرك ظلم، بل هو أعظم الظلم؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
وإن كان الغرضُ منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره، صح الكلام - أيضاً -؛ لأن من عصى الله، فقد ظلم نفسه.(5/531)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
والمقصود منه: تأكيد ما ذكره أولاً من قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ، والمعنى:(5/531)
إنما يكون ذلك لمن له الملك، وليس هو لأحد إلا الله.
وقال: {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ولم يقل: مَنْ؛ لأن الإشارة إلى الحقائق والماهيات، فدخل الكُلُّ فيه.
قوله: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} احتجوا بذلك على أنه سبحانه - له أن يُدْخِلَ الجنة - بحُكْم إلهيته - جميعَ الكُفَّار، وله أن يُدْخِلَ النارَ - بحكم إلهيته - جميع المقربين، ولا اعتراض عليه؛ لأن فعلَ العبد متوقف على الإرادة، وتلك الإرادة مخلوقة لله - تعالى - فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى، فطاعة العبد من الله، ومعصيته - أيضاً - من الله - وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً - ألبتة -، فلا الطاعة توجب الثواب، ولا المعصية توجب العقاب، بل الكل من الله - بحكم إلهيته وقهره وقدرته - فصح ما ادعيناه.
فإن قيل: أليس ثبت أنه لا يُغْفَرُ لِلْكُفَّارِ، ولا يُعَذَّبُ المَلاَئِكَةُ والأنْبِيَاءُ - عليهم السلام.
قلنا: مدلول الآية أنه لو أراد فعل، ولا اعتراض عليه، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل، أو لا يفعل.
ثم قال: «والله غفور رحيم» والمقصود منه أنه وإن حَسُنَ كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب، لا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الفضل والإحسان.(5/532)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
قال بعضهم: إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين، فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد، اتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي، والترغيب والتحذير، وعلى هذا التقدير، فيكون ابتداء كلام، لا تعلُّق له بما قبله.
وقال القفال: يُحتمل أن يكون متصلاً بما قبله من أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالاً جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين على الإقدام على الربا، فيجمعوا المالَ، ويُنْفِقُوه على العساكر، فيتمكنون من الانتقام منهم، فنهاهم الله عن ذلك.
قوله: {أَضْعَافاً} جمع ضعف، ولما كان جمع قلة - والمقصود: الكثرة - أتبعه بما يدل على الكثرة وهو الوصف بقوله: {مُّضَاعَفَةً} .
وقال أبو البقاء: {أَضْعَافاً} مصدر في موضع الحال من «الرِّبا» ، تقديره: مضاعفاً، وتقدم الكلام على {أَضْعَافاً} ومفرده في البقرة.(5/532)
وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامر: «مضعَّفة» - مشددة العين، دون ألف.
والباقون بالألف والتخفيف، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة.
فصل
لما كان الرجل في الجاهلية، إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، ولم يكن المديون واجداً لذلك المال فقال: زدني في المال حَتَّى أزيدَك في الأجَلِ، فربما جعله مائتين، ثم إذا حَلَّ الأجَلُ الثاني، فعل مثل ذلك، ثم إلى آجالٍ كثيرةٍ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها، فهذا هو المراد بقوله: {أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} .
قوله: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإن اتقاء الله واجب، والفلاح يقف عليه، وهذا يدل على أن الربا من الكبائر، وقد تقدم الكلام على الربا في «البقرة» .
قوله تعالى: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} في هذه الآية سؤالان.
الأول: أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم؛ وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه، فكيف قال: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ؟
والجواب: أن التقدير: اتقوا أن تجحدوا تحريمَ الربا، فتصيروا كافرين.
السؤال الثاني: أن ظاهر قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} يقتضي أنها ما أعدت لغيرهم، وهذا يقتضي القطع بأن أحداً من المؤمنين لا يدخل النار، وهو خلاف سائر الآيات.
والجواب عليه من وجوه:
أحدها: أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات، أعِدَّ بعضُها للكفار، وبعضها للفُسَّاق، فتكون هذه الآية إشارة إلى الدركات المخصوصة بالكفار، وهذا لا يَمْنَعُ ثبوت دركات أخْرَى أعِدَّت لغير الكفار.
وثانيها: أن تكون النار مُعَدَّة للكافرين، ولا يمنع دخول المؤمنين فيها؛ لأن أكثر أهل النار الكفار، فذكر الأغلب، كما أن الرجل يقول: هذه الدابة أعددتَها لِلِقَاءِ المُشْرِكِينَ، ولا يمنع من ركوبها لحوائجه، ويكون صادقاً في ذلك.
وثالثها: أن القرآن كالسورة الواحِدَةِ، فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين، وباقي الآيات دلَّت أيضاً على أنها معدة لمن سرق، وقتل، وزنى، وقذف، ومثله قوله تعالى:
{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] ، وليس جميع الكفار قال ذلك، وقوله: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون} [الشعراء: 94] إلى قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين} [الشعراء: 98] ، وليس هذا صفة جميعهم، لما كانت هذه الصفات مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة - هاهنا -.(5/533)
الرابع: أن قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} إثبات كونها معدة لهم، ولا يدل على الحصر، كقوله - في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، ولا يدل ذلك على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين، والحور العين.
وخامسها: أنَّ المقصود مِنْ وَصْفها - بكونها {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} : تعظيم الزَّجْرِ؛ لأن المؤمنين مخاطبين باتقاء المعاصي، إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى، دخلوا النار المعدة للكافرين، وقد تقرَّر في عقولهم عظم عقوبة الكافرين، انزجروا عن المعاصي أتَمَّ الانزجار، كما يُخوفُ الوالدُ ولدَه بأنك إن عصيتني أدخلتك دارَ السباع، ولا يدل ذلك على أن تلك الدارَ لا يدخلها غيرهم.
وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة في الأزل؛ لأن قوله: «أعِدَّتْ» إخبار عن الماضي، فلا بد وأن يكون ذلك الشيء دخل في الوجود.
قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لما ذكر الوعيد ذكر بعده الوعد - على عادته المستمرَّة في القرآن.
قال محمدُ بن إسحاق بن يسار: هذه الآية معاتبة للذين عَصَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حين أمرهم بما أمرهم يوم أُحُدٍ.(5/534)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
قرأ نافعُ، وابْنُ عَامِرٍ: سارعوا - بدون واو - وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام.
والباقون بواو العطف، وكذلك هي في مصاحف مكةَ والعراقِ ومصحف عثمانَ.
فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك، أو أراد العطف، لكنه حذف العاطفَ؛ لقُرْب كل واحد منهما من الآخر في المعنى - كقوله تعالى: {ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، فإن قوله: {وسارعوا} ، وقوله: {وأطيعوا} كالشيء الواحد، وقد تقدم ضعف هذا المذهب.
ومن أثبت الواو عطف جملة أمريةً على مثلها، وبعد إتباع الأثر في التلاوة، أتبع كل رسم مصحفه.(5/534)
ورَوَى الكِسَائِيُّ: الإمالة في {وسارعوا} ، و {أولئك يُسَارِعُونَ} [المؤمنون: 61] ، و {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} [المؤمنون: 56] وذلك لمكان الراء المكسورة.
قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} صفة لِ «مَغْفِرَةٍ» ، و «مِنْ» للابتداء مجازاً.
فصل
قال بعضهم: في الكلام حذف، والتقدير: وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم.
وفيه نظر؛ لأن الموجب للمغفرة، ليس إلا افعال المأمورات، وترك المنهيات، فكان هذا أمراً بالمسارعة إلى فعل المأمورات، وترك المنهيات.
وتمسك كثيرٌ من الأصوليين بهذه الآية، في أن ظاهر الأمرِ يوجب الفور؛ لأنه(5/535)
ذكر المغفرة على سبيل التنكير، والمراد منه: المغفرة العظيمة المتناهية في العِظَم، وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام.
فصل
قال ابْنُ عَبَّاسٍ: إلى الإسلام.
ورُوِيَ عنه إلى التوبة - وهو قول عكرمة - والمعنى: وبادروا، وسابقوا.
وقال عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِب: إلى أداء الفرائض؛ لأن الأمر مُطْلَق، فيعم كل المفروضات.
وقال عثمان بن عفان: إنه الإخلاص؛ لأنه المقصود من جميع العبادات؛ لقوله تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] .
وقال أبو العالية: إلى الهجرة.
وقال الضحاك ومحمد بن إسحاق: إلى الجهاد؛ لأن من قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أُحُد، فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصَّة بما يتعلق بالجهاد.
وقال سعيد بن جبير: إلى التكبيرة الأولى، وهو مروي عن أنس. وقال يمان: إنه الصلوات.
وقال عِكْرمَةُ ومُقَاتِل: إنه جميع الطاعة؛ لأن اللفظ عام، فيتناول الكُلَّ.
وقال الأصَمُّ: {وسارعوا} بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب؛ لأنه - تعالى - نهى(5/536)
أوَّلاً عن الربا، ثم قال: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وهذا يدل على أن المراد منه: المسارعة في تَرْك ما تقدم النَّهْيُ عنه.
قال ابنُ الخَطِيبِ: «والأوْلَى ما تقدم من وجوب حَمْله على أداء الواجبات، والتوبة عن جميع المحظورات، لأن اللفظ عامّ، فلا وَجْهَ لتخصيصه، ثم إنه - تعالى - بَيَّن أنه كما تجب المسارعةُ والمغفرة، فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة، وإنما فصل بينهما؛ لأن الغُفْران معناه إزالة العقاب، والجنة معناها حصول الثواب، فجمع بينهما؛ للإشعار بأنه، لا بُدَّ للمكلف من تحصيل الأمرين» .
قوله: {عَرْضُهَا السماوات والأرض} [لا بد فيه من حَذْف؛ لأن نفس السموات] لا تكون عرضاً للجنة، فالتقدير: عرضها مثل عرض السموات والأرض، يدل على ذلك قوله: «كعرض» ، والجملة في محل جر صفة لِ «جَنَّةٍ» .
فصل
في معنى قوله: {عَرْضُهَا السماوات والأرض} وجوه:
أحدها: أن المراد: لو جُعِلَت السمواتُ والأرضُ طبقاتٍ طبقاتٍ، بحيث تكون كل واحدةٍ من تلك الطبقات خَطاً مؤلفاً من أجزاء لا تُجَزَّأ، ثم وُصِل البعض بالبعض طبقاً واحداً، لكان مثل عرض الجنة.
وثانيها: أن الجنة التي يكون عرضُها كعرض السموات والأرض، إنَّما تكون للرجل الواحد؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملْكاً له.
وثالثها: قال أبو مسلم: إن الجنة لو عُرِضت بالسموات والأرض على سبيل البيع، لكانت ثمناً للجنة، يقول: إذا بعت الشيء بالشيء: عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر، وكذلك - أيضاً - في معنى: القيمة؛ لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء للشيء حتى يكون كلُّ واحدٍ منهما مِثْلاً للآخر.
ورابعها: أن المقصود المبالغة في وَصْف سعة الجنة؛ لأنه ليس شيء عنده أعرض منها، ونظيره قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 107 - 108] فإن أطْول الأشياء بقاءً - عندنا - هو السموات والأرض فخوطبنا على قَدْر ما عرفناه.
فإن قيل: لِمَ خُصَّ العَرْضُ بالذكْر.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه لما كان الغرض تعظيم سعتها، فإذا كان عَرْضُها بهذا العِظَم، فالظاهر أن الطول يكون أعظم، ونظيره قوله: {بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] ، فذكر البطائن؛(5/537)
لأن الظاهرَ أنَّها أقل من الظِّهارة، فإذا كانت البطائن هكذا، فكيف الظهارة.
الثاني: قال القفّال: ليس المراد بالعَرض - هاهنا - المخالف للطول، بل هو عبارة عن السعة، كما تقول العرب: بلاد عريضة، ويقال: هذه دعوى عريضة، واسعة عظيمة.
قال الشاعر: [الطويل]
1616 - كَأنَّ بِلاَدَ اللهِ - وَهْيَ عَرِيضَةٌ - ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ
والأصل فيه أن ما اتسع عَرْضُه لم يَضِقْ وما ضاق عرضه دَقَّ، فجعل العَرْضَ كنايةً عن السعة.
فصل
رُوِيَ أن يهوديًّا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: إنك تدعو إلى جنة عرضُها السموات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار.
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سبحان الله!! فأين الليلُ إذا جاءَ النهار» .
ورُوِيَ عن طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب - وعنده أصحابه - فقالوا: أرأيتم قولكم: وجنة عرضها السموات والأرض؟ فأين النار.
قال عُمَرُ: أرأيتم إذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل، أين يكون النهار.
قال عُمَرُ: أرأيتم إذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل، أين يكون النهار.
فقالوا له: إنه لمثلها في التوراة، ومعناه حيث شاء الله.
سُئِلَ أنس بن مالك عن الجنة، أفي السماء، أم في الأرض.
فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة.
قيل: فأين هي.
فقال: فوق السماوات السبع، تحت العرش.
وقال قتادة: كانوا يَرَوْنَ أن الجنة فوقَ السموات السبع، وأن جهنَّمَ تحت الأرضين السبع.(5/538)
فإن قيل: قال الله تعالى: {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] ، وأراد بالذي وُعِدنا الجنة، وإذا كانت الجنة في السماء، فكيف يكون عَرْضُها السمواتُ والأرض.
فالجواب: أن باب الجنة في السماء، وعرضها كما أخبر.
وقيل: إن الجنة والنار تُخْلقان بعد قيام الساعة، فعلى هذا لا يبعد أن تُخْلَق الجنة في مكان السموات، والنار في مكان الأرض.
قوله: {أُعِدَّتْ} يجوز أن يكون محلها الجَرّ، صفة ثانية لِ «جَنَّةٍ» ، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من «جَنَّةٍ» ؛ لأنها لما وُصِفَتْ تخصَّصت، فقَرُبَت من المعارف.
قال أبو حيان: «ويجوز أن يكون مستأنفاً، ولا يجوز أن يكون حالاً من المضاف إليه؛ لثلاثة أشياء:
أحدها: أنه لا عامل، وما جاء من ذلك متأوَّل على ضَعْفه.
والثاني: أن العرض - هنا - لا يراد به: المصدر الحقيقي، بل يراد به: المسافة.
الثالث: أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال، وصاحبه بالخبر» .
يعني بالخبر: قوله: {السماوات} ، وهو رَدٌّ صحيح.
وظاهر الآية يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وهو نص حديث الإسراء في الصحيحين وغيرهما.
وقالت المعتزلة: إن الجنة والنار غير مخلوقتين في وقتنا هذا، وإن الله تعالى إذا طوى السماوات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب، فخُلِقتا في وقت الجزاء؛ لأنه لا يجتمع دار التكليف، ودار الجزاء في الدنيا، كما لم يجتمعا في الآخرة.
وقال ابن فورك: «الجنة في السماء، ويزاد فيها يوم القيامة» .
قوله: {الذين يُنفِقُونَ} يجوز في محله الألقاب الثلاثة، فالجر على النعت، أو البدل، أو البيان، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح، ولما أخبر بأن الجنة مُعَدَّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث، حتى يُقْتَدَى بهم في تلك الصفات.
فاصفة الأولى: قوله: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء} .
فقيل: معناه: في العُسْر واليُسْر.
وقيل: سواء كانوا في سرور، أو حُزْن، أو في عُسْر، أو في يُسْر.
وقيل: سواء سرهم ذلك الإنفاق - بأن كان على وفق طبعهم - أو ساءهم - بأن كان على خلاف طبعهم - فإنهم لا يتركونه.(5/539)
روى أبو هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، ولجاهل سخِيٌّ أحبُّ إلَى اللهِ مِنَ عابد بخيل» .
ورُوي أنَّ عَائِشَةَ تصدَّقَتْ بحَبَّة عِنَبٍ.
الصفة الثانية: قوله: {والكاظمين الغيظ} يجوز فيه الجر والنَّصب على ما تقدم قبله.
والكَظْم: الحبس، يقال: كظم غيظه، أي: حبسه، وكَظَم القربة والسقاء كذلك، والكظم - في الأصل - مخرج النفَس، يقال: أخذ بكظمه، أي: أخذ بمجرى نفسه.
والكُظوم: احتباس النفس، ويُعَبَّر به عن السكوت، قال المبرد: تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه، يقال: كَظَمْتُ السِّقَاءَ، إذا ملأته وسددت عليه، وكل ما سددت من مجرى ماء، أو باب، أو طريق، فهو كَظْم، والذي يُسَدّ به يقال له: الكظامة والسدادة، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض: كظامة، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة، والمَكْظُوم: الممتلئ غيظاً، وكأنه - لغيظه لا يستطيع أن يتكلم، ولا يُخرج نفسه، والكظيم: الممتلئ أسَفاً.
قال أبو طالب: [الكامل]
1617 - فَحَضَضْتُ قَوْمِي، وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ ... وَالْقَوْمُ مِنْ خَوْفِ المَنَايَا كُظَّزُ
وكظم البعيرُ جِرَّتَه، إذا رَدَّها في جَوْفه، وترك الاجترار.
ومنه قول الراعي: [الكامل](5/540)
1618 - فَأفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةِ ... مِنْ ذِي الأبَاطِحِ إذْ رَعَيْنَ حَقِيلا
الحقيل، قيل: نبت.
وقيل: موضع، فعلى الأول هو مفعول به، وعلى الثاني هو ظرف، ويكون قد شذ جره ب «في» ؛ لأنه ظرف مكان مختص، ويكون المفعول محذوفاً، أي: إذْ رعين الكلأ في حقيل، ولا تقطع الإبلُ جِرَّتَها إلا عند الجهد والفزع فلا تجترّ.
ومنه قول أعشى باهلة يصف رجلاً يكثر نحر الإبل: [البسيط]
1619 - قَدْ تَكْظِمُ البُزْلُ مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ ... حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجْوَافِهَا الْجِرَرُ
والجرر جمع جِرَّة. والكظامة: حلقة من حديد تكون في طرف الميزان تجمع فيها خيوطه، وهي - أيضاً - السير الذي يُوصَل بوتر القَوْس.
والكظائم: خروق بين البئرين يجري منها الماء إلى الأخرى، كل ذلك تشبيه بمجرى النفَس وتردّده فيه.
فصل
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفاذِهِ - مَلأ اللهُ قَلْبَه أمناً وَإيمَاناً» ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أن ينفذه - دَعَاهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤوسِ الخَلائِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أيِّ الحُورِ شَاءَ» .
{والكاظمين الغيظ} : الذين يَكُفُّونَ عيظهم عن الإمضاء، ونظيره قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، لَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» .(5/541)
الصفة الثالثة: قوله: {والعافين عَنِ الناس} .
قال القفال: يُحْتَمَلُ أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهي المؤمنين عن ذلك، ونُدبوا إلى العفو عن المُعْسرين، فإنه تعال قال - عقب قصة الربا والتداين -: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وقال
{وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280] .
ويُحْتَمَلُ أنْ يكون هذا بسبب غضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حين مَثَّلُوا بعَمِّه حمزة، وقال: لأمَثلنَّ بِهِمْ فندب إلى كَظْم هذا الغيظ.
وقال الكلبي: العافين عن المملوكين سوءَ الأدب.
وقال زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وَمُقَاتِلٌ: عمن ظلمهم وأساء إليهم، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ يَكُونُ العَبْدُ ذَا فضْل حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ، ويَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ ويُعْطَِ مَنْ حَرَمَهُ» .
ورُوِي عن عيسى ابن مريم أنه قال: «لَيْسَ الإحْسَانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَنْ أحْسَنَ إلَيْكَ، ذَاكَ مُكَافَأةٌ، إنَّما الإحْسَانُ أنْ تُحسِنَ إلى مَنْ أسَاءَ إلَيْكَ» .
ثم قال: {والله يُحِبُّ المحسنين} هذه اللام يحتمل أن تكون للجنس، فيدخل كل مُحْسن، وأن تكون للعهد، فتكون إشارة إلى هؤلاء.
وهذه الآية من أقْوَى الدلائل على أن الله - تعالى - يعفو عن العُصَاة، لأنه قد مدح الفاعلين لهذه الخصال، وأحَبَّهم، وهو أكرم الأكرمين، والعفو والغفور الحليم، والآمر بالإحسان، فكيف يمدح بهذه الأفعال، ويندب إليها، ولا يفعلها؟ إن ذلك لممتنع في العقول.(5/542)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
يجوز أن يكون معطوفاً على الموصول قبله، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة، وتكون الجملةُ من قوله: {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] جملة اعتراض بين المتعاطفين.
ويجوز أن يكون «والذين» مرفوعاً بالابتداء، و «أولَئِكَ» مبتدأ ثانٍ، و «جَزَاؤهُمْ» مبتدأ ثالث، و «مَغْفِرَةٌ» خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول.
وقوله: {إِذَا فَعَلُواْ} شرط، وجوابه: {ذَكَرُواْ} .
قوله: {فاستغفروا} عطف على الجواب، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول، والمفعول الأول ل «اسْتَغْفَرُوا» محذوف، أي: استغفروا الله لذنوبهم، وقد تقدم الكلام على «استغفر» ، وأنه تعدى لاثنين، ثانيهما بحرف الجر، وليس هو هذه اللام، بل «من» وقد يُحْذَف.
فصل في سبب النزول
قال ابن مسعود: قال المؤمنون: يا رسولَ الله، كانت بو إسرائيل اكرمَ على الله مِنَّا؛ كان أحدهم إذا أذنب اصبحت كفارةُ ذَنْبِه مكتوبةً على عتبة بابه، اجدع أنفك، افعل كذا، فأنزل الله هذه الآية.
قال عطاء: نزلت في نبهان التمار - وكُنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء، تبتاعُ منه تَمْراً، فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيِّد، وإن في البيت أجودَ منه، فذهب بها إلى بيته، فضمها إلى نفسه، وقَبَّلها، فقالت له: أتَّقِ الله، فتركها، وندم على ذلك، وأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية.
وقال مُقَاتِلٌ والكَلْبِيُّ: آخى رسولُ الله بين رجلين، أحدهما من الأنصار، والآخر من ثقيفٍ، فخرج الثقفيُّ في غزاةٍ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقُرْعة في السفر، وخلف الأنصاريّ على أهله، يَتَعَاهَدُهُم، واشترى لهم اللحمَ ذات يوم، فلما أرادت المرأةُ أن تأخذ منه، دخل على أثرها، وقَبَّل يَدَهَا، فوضعت كَفَّهَا على وَجْهها، ثم ندم الرجل وانصرف، ووضع الترابَ على رأسه، وهام على وجهه، ولما رجع الثقفيُّ لم يستقبله الأنصاريُّ، فسأل امرأته عن حاله، فقالت: لا أكثر اللهُ في الإخوان مثله، ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، فطلب الأنصاريَّ الثقفيُّ حتى وجده، فأتى به(5/543)
أبا بكر؛ رجاء أن يجد\َ عنده راحةً وفرجاً، وقال الأنصاريُّ: هلكت، وذكر القصة، فقال أبو بكر: ويحك! أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم؟ ثم لقيا عُمَرَ، فقال له مثل ذلك، فأتيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال لهما مثل مقالتهما، فأنزل الله هذه الآية.
الفاحشة - هنا - نعت محذوف، تقديره: فعلوا فِعْلَةً فاحشةً.
وأصل الفُحْش: القُبْح الخارج عن الحد، فقوله: {فَاحِشَةً} يعني: قبيحة، خارجة عما أذن الله فيه.
قال جَابِر: الفاحشة: الزنا؛ لقوله تعالى: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ}
[النساء: 15] ، وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] .
قوله: {أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} .
قال الزمخشري: «الفاحشة: ما كان فعله كاملاً في القُبْح، وظُلْمُ النفس هو أي ذَنْب كان، مما يؤاخذُ الإنسانُ به» .
وقيل: الفاحشة: هي الكبيرة، وظلم النفس هو الصغيرة.
وقيل: الفاحشة، هي الزنا، وظلم النفس: هو القُبْلة واللَّمْسَة والنظرة.
وقال مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ: الفاحشة ما دون الزنا من قُبْلَة أو لَمْسَةٍ، أو نظرة، فيما لا يحل.
وقيل: فعلوا فاحشة فِعْلاً، أو ظلموا أنفسهم قولاً.
قوله: رذَكَرُواْ الله} أي: ذكروا وعيدَ الله وعقابه، فيكون من باب حذف المضاف.
قال الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله.
وقال مُقاتِلٌ والوَاقِدِيُّ: تفكروا أن الله سائلهم.
وقيل: المراد بهذا الذكر: ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال؛ لأن من أراد أن يسأل الله تعالى مسالةً، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله تعالى، فهاهنا لما كان المراد منه: الاستغفار من الذنوب قدَّموا عليه الثناء، ثم اشتغلوا بالاستغفار، {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} أي: ندموا على فِعْل ما مضَى مع العزم على تَرْك مثله في(5/544)
المستقبل، وهذا حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان، فلا أثر له في إزالة الذنب، بل يجب إظهار هذا الاستغفار، لإزالة التهمة.
وقوله: {لِذُنُوبِهِمْ} أي: لأجل ذنوبهم.
قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ} استفهام بمعنى: النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء.
قوله: {إلاَّ الله} بدل من الضمير المستكن في «يَغْفِرُ» ، والتقدير: لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى، والمختار - هنا - الرفع على البدل، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] .
وقال أبو البقاء «مَنْ» مبتدأ، «يَغْفِرُ» خبره، و {إلاَّ الله} فاعل «يَغْفِرُ» ، أو بدل من المضمر فيه، وهو الوجه؛ لأنك إذا جعلت «اللهُ» فاعلاً، احتجْتَ إلى تقدير ضمير، أي: ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله.
قال شهَابُ الدين: «وهذا الذي قاله - أعني: جعله الجلالة فاعلاً - يقرب من الغلط؛ فإن الاستفهام - هنا - لا يُراد به حقيقته، إنما يرادُ» النفي «، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلاً من ذلك الضمير المستتر، والعائد على» من «الاستفهامية» ز
ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه.
قوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ} يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل {فاستغفروا} أي: ترتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى، والاستغفار لذنوبهم، وعدم إصرارهم عليها، وتكون الجملة من قوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} - على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول.
فصل
وأصْل الإصرار: الثبات على الشيء.
قال الحسن: إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار، حتى يتوب.
وقال السُّدِّي: الإصرار: السكوت وتَرْك الاستغفار.
وعن أبي نُصيرة قال: لقيت مولّى لأبي بكر، فقلتُ له: أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً؟(5/545)
قال: نعم، سمعته يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً» . وقيل: الإصرار: المداومة على الشيء، وتَرْك الإقلاع عنه، وتأكيد العزم على ألا يتركه، من قولهم: صر الدنانير، إذا ربط عليها، ومنه: صُرَّة الدراهم - لما يربط منها -.
قال الحُطََيْئة: يصف خيلاً: [الطويل]
1620 - عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا ... عُلاَلَتَها بِالْخُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ
أي: ثبتت، وأقامت، مداغومة على ما حملت عليه.
وقال الشاعر: [البسيط]
1621 - يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ ... يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ
و «ما» في قوله: {على مَا فَعَلُواْ} يجوز أن تكون اسمية بمعنى: الذي، ويجوز أن تكون مصدرية.
قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل {فاستغفروا} ، وأن يكون حالاً من فاعل {يُصِرُّوا} ، والتقدير: ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بالحرمة، فإنه لا يعذر.
ومفعول {يَعْلَمُونَ} محذوف للعلم به.
فقيل: تقديره: يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب، قاله مجاهد.
وقيل: يعلمون أن تَرْكه أوْلَى، قاله ابنُ عباس والحسن.
وقيل: يعلمون المؤاخذة بها، أو عفو الله عنها.
وقال ابْنُ عَبَّاسِ، ومُقَاتِلٍ، والحَسَنُ، والكَلْبِيُّ: وهم يعلمون أنها معصية.(5/546)
وقيل: وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار.
وقال الضَّحَّاكُ: وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب، وقال الحسن بن الفضل: وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب.
وقيل: وهم يعلمون أن الله تعالى، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت -.
وقيل: وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم.
قوله: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} ، والمعنى: أن المطلوب بالتوبة أمران:
الأول: الأمن من العقاب، وإليه الإشارة بقوله: {مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} .
والثاني: إيصال الثواب إليه، وهو المراد بقوله: {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} .
قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} في محل رفع؛ نعتاً لِ «مَغْفِرَةٌ» ، و «مِنْ» للتبعيض، أي: من مغفرات ربهم.
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من الضمير في {جَزَآؤُهُمْ} ؛ لأنه مفعول به في المعنى؛ لأن المعنى: يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالاً مقدراً، ولا يجوز أن تكون حالاً من «جَنَّاتٌ» في اللفظ، وهي لأصحابها في المعنى؛ إذْ لو كان ذلك لبرز الضمير، لجَرَيان الصفة على غير مَنْ هي له، والجملة من قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في محل رفع؛ نعتاً لِ «جَنَّاتٌ» . وتقدم إعراب نظير هذه الجمل.
قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوص بالمدح محذوف، تقديره: ونِعْمَ أجر العاملين الجنة.
فصل
دلَّتْ هذه الآية على أن الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم، وجزاءً عليه.
قال القَاضِي: وهذا يُبْطِل قولَ مَنْ قال: إن الثواب تفضُّل من الله، وليس بجزاءٍ على عملهم.
قال ثابت البُنَانِي: بلغني أن إبليسَ بكَى حين نزلت هذه الآية {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله} الآية.(5/547)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
لما وعد على الطاعة والتوبة بالمغفرة والجنة، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل(5/547)
الطاعةِ والتوبةِ، وهو تأمل أحوال القرونِ الخوالي، وهذا تَسْلِيَة من الله تعالى للمؤمنين.
قال الواحدي: أصل الخلُوّ - في اللغة - الانفراد، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه، ويُستعمل - أيضاً - في الزمان بمعنى: المُضِيّ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود، وخلا عنه، وكذا الأمم الخالية.
قوله: {مِن قَبْلِكُمْ} يجوز أن يتعلق ب «خَلَتْ» ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من {سُنَنٌ} ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون وَصْفاً، فلما قُدِّمَ نُصبَ حالاً.
والسُّنَن: جمع سُنَّة، وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها، ومنه سُنَّة الأنبياء.
قال خالد الهُذَلِي لخاله أبي ذُؤيب: [الطويل]
1622 - فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةِ أنْتَ سِرْتَهَا ... فَأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وقال آخر: [الطويل]
1623 - وَإنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... تَأسَّوْا، فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّآسِيَا
وقال لبيد: [الكامل]
1624 - مِنْ أمَّةٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإمامُهَا
وقال المفضَّل: السُّنَّة: الأمة، وأنشد: [البسيط]
1625 - مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ ... وَلاَ رَأوْا مِثْلَكم فِي سَالِفِ السُّنَنِ
ولا دليل فيه؛ لاحتمال أن يكون معناه: أهل السنن.
وقال الخليل: سَنَّ الشيء بمعنى: صوره، ومنه: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28] أي: مُصَوَّر وقيل: سن الماء والدرع إذا صبهما، وقوله: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} يجوز أن يكون منه، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة.(5/548)
وقيل: مسنون، أي: متغير.
وقال بعض أهل اللغة: هي فُعْلة من سَنَّ الماء، يسنه، إذا والى صَبَّه، والسَّنُّ: صَبُّ الماء والعرق نحوهما.
وأنشد لزهير: [الوافر]
1626 - نُعَوِّدُهَا الطراد كُلَّ يَوْمٍ ... تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا الْقُرُونُ
أي: يُصب عليها من العرق، شبَّه الطريقة بالماء المصبوب، فإنه يتوالى جرْيُ الماء فيه على نَهْج واحد، فالسُّنَّة بمعنى: مفعول، كالغُرْفَةِ.
وقيل: اشتقاقها من سننت النَّصْل، أسنّه، سنًّا، إذا حددته [على المِسَن] ، والمعنى: أن الطريقةَ الحسنةَ، يُعْتَنَى بها، كما يُعْتَنَى بالنَّصْل ونحوه.
وقيل: من سَنَّ الإبل، إذا أحسن رعايتها، والمعنى: أن صاحب السنة يقوم على أصحابه، كما يقوم الراعي على إبله، والفعل الذي سَنَّه النبي سُمِّيَ سُنَّةً بمعنى: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحسن رعايته وإدامته. وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة.
فصل
قال [أكثر المفسرين] : المراد: سنن الهلاك؛ لقوله تعالى: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} [الزخرف: 25] ؛ لأنهم لما خالفوا الرُّسُلَ؛ لحرصهم على الدنيا، ثم انقرضوا، ولم يَبْقَ من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا، والعقاب في الآخرة عليهم، فرغَّب الله تعالى أمَّةَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإيمان بالتداخل في أحوال هؤلاء الماضين، ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورُسُله، والإعراض عن الرياسة في طلب الدنيا والحياة.
قال الزجاج: المعنى: أهل سنن، فحذف المضاف.
قال مجاهد: بل المراد، سنة الله تعالى في الكافرين والمؤمنين، فإن الدنيا لم تَبْقَ، لا مع المؤمن، ولا مع الكافر، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناءُ الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في العُقْبَى، والكافر يبقى اللعن عليه في الدنيا والعقاب في الآخرة.
قوله: {فَسِيرُواْ} جملة معطوفة على ما قبلها، والتسبُّب في هذه الفاء ظاهر، أي: سبب الأمر بالسير لتنظروا - نَظَرَ اعتبار - خُلُوَّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم.
وقال أبو البقاء: «ودخلت الفاء في» فَسِيرُوا «؛ لأن المعنى على الشرط، أي: إن شككتم فسيروا» .(5/549)
وقوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} «كيف» خبر مقدم، واجب التقديم، لتضمُّنه معنى «الاستفهام» ، وهو معلق ل «انْظُرُوا» قبله، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض؛ إذ الأصل: انظروا في كذا.
فصل
والغرض من هذا الكلام: زَجْر الكفار عن الكفر بتأمل أحوال المكذبين، ونظيره قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173] ، وقوله: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ، وقوله: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105] وليس المراد منه الأمر بالسير - لا محالة - بل المقصود: تعرف أحوالهم، فإن حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود، ويحتمل أن يقال - أيضاً -: إنَّ مشاهدة آثار المتقدمين لها، أثر أقوى من أثر المساع.
قال الشاعر: [الخفيف]
1627 - إنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا ... فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إلَى الآثَارِ
فصل
قال المفسرون: وهذا في حرب أحد، يقول: فأنا أمهلهم، وأسْتدرجهم، حتى يبلغ أجلي الذي أجَلألْتُ في نُصْرَة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأوليائه وهلاك أعدائه.
قوله تعالى: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} أي: القرآن.
وقيل: ما تقدم من قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} .
وقيل: ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده.
والموعظة: الوعظ وقد تقدم.
قوله: «للناس» يجوز أن يتعلقَ بالمصدر قبلَه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه وَصْف له.
قوله: {لِّلْمُتَّقِينَ} يجوز أن يكون وَصْفاً - أيضاً - ويجوز أن يتعلق بما قبله، وهو محتمل لأن يكونَ من التنازع، وهو على إعمال الثاني للمحذوف من الأول.
فصل
في الفرق بين الإبانة وبين الهُدَى، وبين الموعظة؛ لأن العطْفَ يقتضي المغايرة، وذكروا فيه وجهين:
الأول: أن البيان هو الدلالة التي تزيل الشبهة، والهُدَى بيان الطريق الرشيد؛ ليُسْلَك(5/550)
دون طريق الغَيّ، والموعظة هي الكلام الذي يُفِيد الزَّجْر عما لا ينبغي في الدين.
الثاني: أن البيانَ هو الدلالة، وأما الهدى فهي الدلالة بشرط إفْضَائها إلى الاهتداء.
وخصَّ المتقين؛ لأنهم المنتفعون به، وتقدَّم الكلام في ذلك في قوله: «هدى للمتقين» .
وقيل: إن قوله {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} عَامّ، ثم قوله: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} مخصوص بالمتقين؛ لأن الهُدَى اسم للدلالة الموصِّلة إلى الاهتداء، وهذا لا يحصُل إلا في حقِّ المتقين.(5/551)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
الأصل: تُوْهِنوا، فحُذِفت الواو؛ لوقوعها بين تاء وكسرة في الأصل، ثم أجْريت حروف المضارعة مُجْراها في ذلك، ويقال: وَهَنَ - بالفتح في الماضي - يَهِنُ - بالكسر في المضارع.
ونُقِلَ أنه يُقال: وَهُن، ووَهِنَ - بضم الهاء وكسر في الماضي - و «وَهَنَ» يُستعمل لازماً ومتعدياً، تقول: وَهَنَ زيدٌ، أي: ضَعُفَ، قال تعالى: {وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] ، ووَهَنْتُه وأضعفته، ومنه الحديث: «وَهَنْتُهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ» ، والمصدر على الوهَن - بفتح الهاء وسكونها.
وقال زهير: [البسيط]
1628 - ... ... ... ... ... . ... فَأصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِناً خَلَقَا
أي: ضعيفاً.
قوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} جملة حالية من فاعل {تَهِنُوا} ، أو {تَحْزَنُوا} ، والاستئناف فيها غير ظاهر، و {الأَعْلَوْنَ} جمع أعْلَى، والأصل: أعْلَيَوْنَ، فتحرَّكت الياء، وانفتح ما قبلها، فقُلبَت ألفاً فحُذِفت لالتقاء الساكنين، وبقيَت الفتحةُ لتدلَّ عليها.
وإن شئت قُلْتَ: استثقلت الضمةُ على الياء، فحُذِفت، فالتقى ساكنان أيضاً - الياء والواو - فحُذِفتَ الياء؛ لالتقاء الساكنين، وإنَّما احتجنا إلى ذلك؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموماً، لفظاً، أو تقديراً. وهذا من مثال التقدير.(5/551)
فصل
اعلم أن الآياتِ المتقدمة، كالمقدمة لهذه الآية، كأنه قال: إن بحثتم عن أحوال القرون الماضية، علمتم أن أهل الباطل، وإن اتفقت لهم [الصَّولة] ، فمآل أمْرهم إلى الضَّعْف، ومآل أهل الحق إلى العُلُو والقوة، فلا ينبغي أن تصير صَولَةُ الكفَّار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلوبكم، وهذا حَثٌّ لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الجهاد على ما أصابهم من القتل، والجراح يوم أُحُد، يقول: {وَلاَ تَهِنُوا} أي: لا تضعُفوا ولا تجبنُوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح، {وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي: تكون لكم العاقبة بالنصر والظَّفَر، وهذا مناسب لما قبله، لأن القومَ انكسرت قلوبُهم بذلك الوَهْن، فكانوا محتاجين إلى ما يُقَوِّي قلوبهم.
وقيل: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي: أن حالكم أعلى من حالهم في القتل، لأنكم أصَبْتُم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أُحُد، وهو كقوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] أو لأن قتالكم لله تعالى، وقتالهم للشيطان؛ أو لأن قتالكم للدين الحق، وقتالهم للدين الباطل، فكل ذلك يُوجِب أن تكونوا أعْلَى حالاً منهم.
وقيل: «وأنتم الأعلون بالحجة» .
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابه محذوف.
فقيل: تقديره: فلا تَهِنُوا ولا تحزنوا.
وقيل: تقديره: إن كنتم مؤمنين علمتم أن هذه الموقعةَ لا تَبْقَى بحالها، وأن الدولة تصير للمسلمين.
فصل
معنى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: بقيتم على إيمانكم.
وقيل: وأنتم الأعلون فكونوا مصدِّقين بما يَعِدُكم الله، ويُبَشِّركم به من الغَلَبَة.
وقيل: إن كنتم مؤمنين، معناه: إذا كنتم مؤمنين، أي: لأنكم مؤمنون.
وقال ابنُ عباس: انهزم أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الشعب، فأقبل خالدُ بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يَعْلُوَ عليهم الجبلَ، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم لا يَعْلُونَّ عَلَيْنَا، اللهُمَّ لا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ» ، وثاب نَفَرٌ من المسلمين، رُماة، فصعدوا الجبل ورموا خَيْلَ المشركين، حتى هزموهم، فذلك قوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} .
وقال الكلبيُّ: نَزَلَتْ هذه الآية بعد يوم أُحُد، حين أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه بطلب(5/552)
القوم - مع ما أصابهم من الجراح - فاشتدَّ ذلك على المسلمين، فأنزل الله هذه الآية؛ دليله قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} [النساء: 104] .(5/553)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
قرأ الأخوان، وأبو بكر: قُرْح - بضم القاف - وكذلك «القُرْحُ» معرَّفاً.
والباقون بالفتح فيهما.
فقيل: هما بمعنى واحد، ثم اختلف القائلون بهذا.
فقال بعضهم: المراد بهما: الجُرْح نفسه، وقال بعضهم - منهم الأخفش - المراد بهما المصدر، يقال: قَرِحَ الجُرح، يَقْرحُ، قَرْحاً، وقُرْحاً.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
1629 - وَبُدِّلْتُ قَرْحاً دَامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أبْؤُسَا
والفتح لغة الحجاز، والضم لغة تميم، فهما كالضَّعْف والضُّعْف، والكَرْه والكُرْه، والوَجْد والوُجْد.
وقال بعضهم: المفتوح: الجُرْح، والمضموم: ألَمُه، وهو قول الفراء.
وقرأ ابن السميفع بفتح القاف والراء، كالطرْد والطرَد.
وقال أبو البقاءِ: «وهو مصدر قَرِحَ يَقْرح، إذا صار له قُرْحَة، وهو بمعنى: دَمِيَ» .
وقُرِئَ قُرُح - بضمهما -.
قيل: وذلك على الإتباع كاليُسْر واليُسُر، والطُّنْب والطُّنُب.
وقرأ الأعمش: «إن تمسسكم قروح» - بالتاء من فوق، [وصيغة الجمع في الفاعل] ، وأصل المادة: الدلالة على الخُلُوص، ومنه الماء القَرَاح، الذي لا كُدُورةَ فيه.(5/553)
قال الشاعر: [الوافر]
1630 - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ، وَكُنْتُ قَبْلاً ... أكَادُ أغَصُّ بِالْمَاءِ الْقَرَاح
وأرض قرحة - اي: خالصة الطين - ومنه قريحة الرجل - اي: خالص طَبْعه -.
وقال الراغب: «القَرْح الأثر من الجراحة من شيء يُصيبه من خارج، والقُرْح - يعني: بالضم - أثرها من شيء داخل - كالبشرة ونحوها - يقال: قَرَحْته، نحو جَرَحْته.
قال الشاعر: [البسيط]
1631 - لا يُسْلِمُونَ قَرِيحاً حَلَّ وَسَطَهُمُ ... يَوْمَ اللِّقَاءِ، ولا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحُوا
أي: جرحوا. وقرح: خرج به قرح.
ويقال: قَرَحَ قلبُه، وأقرحه الله - يعني: فَعَل وأفْعَل فيه بمعنًى - والاقتراح: الابتداع والابتكار ومنه: اقترح عليَّ فلانٌ كذا، واقترحْتُ بِئراً: استخرجت منها ماءً قَرَاحاً. والقريحة - في الأصل - المكان الذي يجمتع فيه الماء المستنبط - ومنه استُعِيرت قريحةُ الإنسان - وفرس قارح، إذا أصابه أثَرٌ من ظُهور نَابِهِ، والأنْثَى قارحة، وروضة قرحاء، إذا كان في وسطها نَوْر؛ وذلك لتشبيهها بالفرس القرحاء» .
قوله: {فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ} للنحويين - في مثل هذا - تأويل، وهو أن يُقَدِّرُوا شيئاً مستقبلاً؛ لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل - وقوله: {فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِثْلُهُ} ماضٍ مُحَقَّق - وذلك التأويل هو التبيين، أي: فقد تَبَيَّن مَسُّ القرح للقوم وسيأتي له نظائر، نحو: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26] و {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] .
وقال بعضهم: جواب الشرط محذوف، تقديره: فتأسَّوا، ونحو ذلك.
وقال أبو حيان: «ومَنْ زعم أن جواب الشرط هو» فَقَدْ مَسَّ «، فهو ذاهل» .
قال شهابُ الدين: «غالب النحويين جعلوه جواباً، متأولين له بما ذكرت» .
فصل
هذا خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحُد مع الكآبة، يقول: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ}(5/554)
يوم أحد فقد مَسَّهُمْ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوْمَ بَدْرٍ، وهو كقوله تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] .
وقيل: إن الكفار قد نالهم يوم أُحُد مثل ما نالكم من الجُرح، والقتل؛ لأنه قُتِل منهم نيفٌ وعشرون رجلاً، وقتل صاحبُ لوائهم، والجراحات كَثُرَتْ فيهم، وعُقِرَ عامةُ خَيْلهم بالنبل، وكانت الهزيمة عليهم في أول النهار.
فإن قيل: كيف قال: {قَرْحٌ مِّثْلُهُ} ، وما كان قَرءحُهم يومَ أُحُد مثل قَرْح المشركين.
فالجواب: أن تفسير القرح - في هذا التأويل - بمجرد الانهزام، لا بكَثْرة القَتْلَى.
قوله: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} يجوز في «الأيَّامُ» أن تكون خبراً لِ «تِلْكَ» و «نُدَاوِلُهَا» جملة حالية، العامل فيها معنى اسم الإشارة، أي: إشيرُ إليها حال كونها مداوَلةً، ويجوز أن تكون «الأيَّامُ» بدلاً، أو عَطْفَ بيان، أو نَعْتاً لاسم الإشارة، والخبر هو الجملة من قوله: {نُدَاوِلُهَا} وقد مر نحوه في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا} [أل عمران: 108] إلا أن هناك لا يجيء القول بالنعت؛ لما عرفت أنَّ اسم الإشارة لا ينعت إلا بذي أل و «بَيْنَ» متعلق ب «نُدَاوِلُهَا» ، وجَوَّزَ أبُو البقاءِ أن يكون حالاً من مفعول «نُدَاوِلُهَا» ولَيْسَ بِشَيءٍ.
والمداوَلة: المناوَبة على الشيء، والمُعَاودة، وتعهَّده مرةَ بعد أخْرَى، يقال: دَاوَلْتُ بينهم الشيء فتداولوه، كأن «فَاعَل» بمعنى: «فَعَل» .
قال الشاعر: [الكامل]
1632 - تَرِدُ الْمِيَاهَ، فَلاَ تَزَالُ تَدَاوُلاً ... في النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّل وَسَمَاعِ
وأدال فلانٌ فلاناً: جعل له دولة.
وقال الفقَّال: المداولة: نَقْل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي - إذا تناولته ومنه قوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ} [الحشر: 7] أي: تتداولونها، ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً، ويقال: الدُّنيا دول، أي: تنتقل من قوم إلى آخرين.
ويقال(5/555)
دال له الدهرُ بكذا - إذا انتقل إليه.
ويقال: دُولة، ودَوْلة - بفتح الفاء وضمها - وقد قُرِئَ بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
واختلفوا، هل اللفظتان بمعنًى، أو بينهما فَرْقٌ.
فقال الراغب: «إنهما سِيَّانِ، فيكون في المصدر لغتان» .
وفرَّق بعضُهم بينهما، واختلف هؤلاء في الفرق.
فقال بعضُهم: الدَّوْلَة - بالفتح - في الحرب والجاه، وبالضم: في المال، وهذا تردُّه القراءتان في سورة الحشر.
وقيل: بالضم اسم الشيء المتداوَل، وبالفتح نفس المصدر، وهذا قريب.
وقيل: بالضم هي المصدر، وبالفتح الفَعْلة الواحدة، فلذلك يقال: في دَوْلة فلان؛ لأنها مرة في الدهر.
والدَّوْر والدَّوْل متقاربان في المعنى، ولكن بينهما عموم وخصوص؛ فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيويّ.
والدَّؤلُولُ: الداهية، والجمع الدآليل والدُّؤلات.
وقرئ شاذًّا: «يُدَاوِلَهَا» - بياء الغيبة - وهو موافق لما قبله، ولما بعده.
وقرأ العامةُ على الالتفات المفيد للتعظيم.
فصل
ومعنى مداولة الأيام بين الناس أن مسارَّها لا تدوم، وكذلك مضارُّها، فيوم يكون السرور لإنسان والغمّ لعدوه، ويوم آخر بالعكس، وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارةً ينصر المؤمنين، وأخْرَى ينصر الكافرين؛ لأن نَصْر الله مَنْصِب شريف عظيم، فلا يليق بالكافر، بل المراد من هذه المداولة: أنه تارة يُشَدَّد المحنة على الكفار، وتارة على المؤمنين، وتشديد المحنة على المؤمن أدَبٌ له في الدنيا، وتشديد المِحْنةِ على الكافر غضب من الله تعالى عليه.
ورُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجَبَل يوم أُحُد، قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هَذَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا أبو بكر، وهذا أنا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم والأيام دُوَلٌ والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: إن كان كما تزعمون فقد خِبنا - إذَنْ وخَسِرْنا.(5/556)
وروى البراء بن عازب قال: جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الرُّماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبدَ الله بن جبير، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن رأيتمونا تَخَطَّفُنَا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرْسِل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرْسِل إليكم، وكان على يمنة المشركين خالد ابن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ومعهم النساء يضربْنَ بالدفوف، ويقُلْنَ الأشعارَ، فقاتلوا حتى حميت الحربُ، فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيفاً، فقال: مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه، ويَضْرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دُجانة سماك بن خَرْشَة الأنصاري، فلما أخذه اعتَمَّ بعمامة حمراء، وجعل يتبختر، - فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّها لمِشْيَة يبغضُهَا اللهُ ورسولُه إلا فِي هَذَا المَوْضِعِ» فَفلَقَ به هَامَ المشركين، وحمل النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابهُ على المشركين، فهزموهم، قال: فأنا - والله - رأيتُ النساء يشتدّون - قد بدت خلاخِلُهن وأسْوُقُهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله: الغنيمةَ، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جُبَيْر: أنسيتم ما قال لكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقالوا: والله لنأتِيَنَّ الناسَ فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتَوْهُم صُرِفَتْ وُجوهُهم، فأقْبَلُوا منهزمين، فذاك إذْ تدعوهم، والرسول في أخراهم، فلم يَبْقَ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غيرُ اثني عَشَرَ رَجُلاً، فأصابوا مِنَّا سَبْعِينَ، وكان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه أصابوا من المشركين يومَ بدر أربعين ومائة - سبعين أسيراً، وسبعين قتيلاً - فقال أبو سفيان ثلاثَ مرات: أفي القوم محمدٌ؟ فنهاهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قُحَافَةَ ثلاث مرات؟ أفي القوم عُمَر ثلاث مرات؟ فرجع إلى أصْحَابه، فقال: أما هؤلاء فقد قُتِلوا، فما مَلَكَ عمرُ نفسه؛ فقال: كذبتَ - والله - يا عدوّ الله؛ إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، قال: يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال، إنكم ستجدون في القوم مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بها ولم تَسُؤنِي، ثم جعل يزمجر: اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«أجِيبُوهُ، قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال: قُولُوا: اللهُ أعْلَى وأجَلُّ» ، قال: إنَّ لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أجِيبُوه، قالوا ما نقول؟ قال: قُولُوا: اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ» وروي هذا المعنى عن ابن عباس.
قوله: «وليعلم الله» ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين:
أحدهما: أن اللام صلة لفعل مُضْمَر، يدل عليه أول الكلم، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا نُدَاوِلها.
الثاني: أن العامل فيها (نُدَاوِلُهَا) المذكور، بتقدير: نداولها بين الناس ليظهر أمرهم، ولنبين أعمالهم، وليعلم الله الذين آمنوا، فلما ظهر معنى اللام المضمر في «(5/557)
ليظهر» ، و «لتتبين» جرت مجرى الظاهرة، فجاز العطف عليها.
وَجَوَّز أبو البقاء أن تكون الواو زائدة، وعلى هذا، فاللام متعلقة ب (نُدَاوِلُهَا) من غير تقدير شيء، ولكن هذا لا حاجة إليه.
ولم يَجْنَحْ إلى زيادة الواو إلا الأخفش في مواضع - ليس هذا منها - ووافقه بعض الكوفيين على ذلك.
وقدَّرَه الزَّمَخْشَرِيُّ: «فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم» . فقدر عاملاً، وعلق به علة محذوفة، عطف عليها هذه العلة.
قال أبو حيان: «ولم يُعَيِّن فاعل العلة المحذوفة، إنما كَنَّى عنه ب» كيت وكيت «، ولا يُكَنَّى عن الشيء حتى يُعْرَف، ففي هذا الوجه حذف العلة، وحذف عاملها، وإبهام فاعلها، فالوجه الأول أظهر؛ إذْ ليس فيه غير حذف العامل» . ويعني بالوجه الأول أنه قَدَّره: وليعلم الله فعلنا ذلك - وهو المداولة، أو نَيْل الكفار منكم -.
وقال بعضهم: «اللام المتعلقة بفعل مُضْمَر، إما بعده، أو قبلَه، أما الإضمار بعده فبتقدير: وليعلمَ الله الذين آمنوا فعلنا هذه المداولةَ، وأما الإضمار قبلَه فعلى تقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور: منها: ليعلم الله الذين آمنوا، ومنها: ليتخذ منكم شهداء، ومنها: ليمحص الله الذي آمنوا، ومنها: ليمحق الكافرين. فكل ذلك كالسبب والعِلَّةِ في تلك المداولة» . والعلم هنا - يجوز أن يتعدَّى لواحد، قالوا: لأنه بمعنى: عَرَفَ - وهو مشكل؛ لأنه لا يجوز وَصْف الله تعالى بذلك لما تقدم أن المعرفة تستدعي جَهْلاً بالشيء - أو أنَّها متعلقة بالذات دون الأحوال.
ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين، فالثاني محذوف، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم.
والواو في قوله: {وَلِيَعْلَمَ الله} لها نظائر كثيرة في القرآن، كقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] وقوله: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 113] .
فصل
تقدير الكلام: وتلك الأيام نداولها بين الناس، ليكون كيت وكيت، وليعلم الله، وإنما حُذِف المعطوف عليه، للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة؛ ليُسَلِّيَهم عما جرى، ليُعَرِّفَهم تلك الواقعة، وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرَّهم.
فإن قيل: ظاهر قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ} مُشْعِر بأنه - تعالى - إنما فعل تلك المداولة، ليكتسِبَ هذا العلم، وذلك في حقه تعالى محال، ونظير هذه الآية -(5/558)
في الإشكال - قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142] وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3] . وقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} [الكهف: 12] وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [محمد: 31] وقوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول} [البقرة: 143] وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] . ولقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآياتِ على أن الله تعالى لا يعلم حدوثَ الحوادث إلا عند وقوعها، فقال: كل هذه الآيات دالة على أنه - تعالى - إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها.
وأجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقليةَ دلَّتْ على أنه - تعالى - يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العِلْم محال، إلا أن إطلاقَ لفظ العلم على المعلوم، والقُدْرة على المقدور مجاز مشهور، يقال: هذا عِلْم فلان - والمراد: معلومه - وهذه قدرة فلان - والمراد: مقدوره، فكل آية يُشْعر ظاهرها بتجدُّد العلم، فالمراد: تجدُّد المعلوم.
إذا عُرِفَ هذا فنقول: في هذه الآية وجوه:
أحدها: لِيَظْهَرَ الإخْلاَصُ من النفاق، والمؤمنُ من الكافر.
وثانيها: ليَعْلَم أولياء الله، فأضاف العلم إلى نفسه تفخيماً.
وثالثها: ليحكم بالامتياز فوُضِع العلم مكان الحكم بالامتياز؛ لأن الحُكْم لا يحصل إلا بعد العلم.
ورابعها: ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع؛ لأنَّ المجازاة تقع على الواقع، دُونَ المعلوم الذي لم يُوجَد.
قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} الظاهر ان «مِنْكُمْ» متعلِّق بالاتخاذ، وجوزوا فيه أن يتعلق بمحذوف، على أنه حال من «شُهَدَاءَ» ؛ لأنه - في الأصل - صفة له.
فصل
والمرادُ بقوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} أي: شهداء على النَّاس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي، فإن كونهم شهداء على الناس منصب عالٍ، ودرجة عالية.
وقيل: المراد منه: ويُكرِم قوماً بالشهادة؛ وذلك: لأن قوماً من المسلمين فاتهم يومُ بدر، وكانوا يتمنَّوْن لقاء العدو، وأن يكونن لهم يوم كيوم بدر؛ يقاتلون فيه العدو، ويلتمسون فيه الشهادة، والقرآن مملوءٌ من تعظيم حال الشهداء، فإنه قرتهم مع النبيين في قوله: {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء} [الزمر: 69] وقوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ(5/559)
النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} [النساء: 69] وهذه الآيات تدلُّ على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى.
والشُّهداء: جمع شهيد كالكُرَماء، والظُّرَفَاء.
فصل
في تسميتهم «شهداء» وجوه:
أحدها: قال النَّضْر بن شميل: الشهداء أحياء، لقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فأرواحهم حية، وقد حضرت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها.
الثاني: قال ابن الأنباريّ: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا لهم بالجنة، فالشهداء جمع شهيد، «فعيل» بمعنى: «مفعول» .
الثالث: لأنهم يشهدون يوم القيامة مع النبيِّين والصِّدِّيقين، فيكونون شهداءَ على الناسِ.
الرابع: سُمُّوا شهداء، لأنهم لما ماتوا أدْخِلوا الجنة، بدليل أنَّ الكُفَّار لما ماتوا أدخِلوا النار؛ قال تعالى: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] .
فأما: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} فهذا اعتراض بين بعض التعليل وبعض.
قال ابن عباس: أي: المشركين؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
قوله: {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ} التمحيص: التخليص من الشيء.
وقيل: المَحْص كالفَحْص، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل، والمَحْص: يقال في إبرازه عما هو متصل به، يقال: مَحَصْتُ الذهب، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث، ومَحَص الثوب: إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره، ومحص الظَّبْيُ: عدا. ف «محص» - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش: مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان.
وقال الخليل: التمحيص: التخليصُ من الشيء المعيب.
وقيل: هو الابتلاء والاختبار.
قال الشاعر: [الطويل]
1633 - رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً ... فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا(5/560)
وروى الواحِديُّ عن المبرد بسند متصل: مَحَصَ الحبلُ يمحص مَحْصاً - إذا ذهب زئبره حتى يتملص، وحبل محيص ومليص بمعنًى واحدٍ، قال: ويستحب في الفرس أن تُمَحَّصَ قوائمُه أي: تُخَلَّص من الرَّهَل.
[وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك]- يصف فرساً -: [البسيط]
1634 - صُمُّ النُّسُورِ، صِحَاحٌ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ ... رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ
أي: في قوائم متجرِّدات من اللحم، ليس فيها إلا العظم والجلد.
قال المبرد: ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا: أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب.
قال الواحديُّ: «وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع، والمَحْص - بسكون الحاء -» مصنوع «- وقال الخليل: يقال: مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب» .
وفي جعله محْصاً - بتسكين الحاء - مصنوعاً نظر؛ لأن أهل اللغة نقلوه ساكنها، وهو قياس مصدر الثلاثي. ومَحَصْت السيف والسنان: جَلَوتُهما حتى ذهب صدأهما.
قال أسامة الهذليّ: [الطويل]
1635 - وَشَقُّوا بِمَمْحُوصِ السِّفَانِ فُؤادَهُ ... لَهُمْ قُتُرَاتٌ قَدْ بُنِيْنَ مَحَاتِد
أي: بمجلُوٍّ، ومنه استُعِير ذلك في وَصْف الحبل بالملاسة والبريق.
قال العجاج: [الرجز]
1636 - شَدِيدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى ... كَالْكَرِّ، لا شَخْتٌ وَلاَ فِيهِ لَوَى
والشوى: الظهر، قَصَره ضرورةً، سُمِع: فعلتُه حتى انقطع شَوَاي، أي: ظَهْري. والمحق - في اللغة - النقصان.
وقال المفضَّل: هو أن يذهب الشيءُ كلُّه، حتَّى لا يُرَى منه شيء، ومنه قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا} [البقرة: 276] أي: يستأصله، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة.(5/561)
قال الزجاج: معنى الآية: أن الله تعالى جعل الأيام مداولةً بين المسلمين والكافرين، فإن حصلت الغلبة للكافرين كان المراد: تمحيص ذنوب المؤمنين - أي: تطهيرها - وإن كانت الغلبة للمؤمنين كان المراد: مَحْق آثار الكافرين، ومَحْوَهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين؛ لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير مَحْق أولئك بإهلاك نفوسهم، وهذه مقابلة لطيفة، والأقرب أن المراد بالكافرين - هنا - طائفة مخصوصة منهم - وهم الذين حاربوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم أُحُد، لأن الله تعالى لم يَمْحَق كل الكافرين، بل بَقِي كثير منهم على كُفره.(5/562)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
لما بيَّن في الآية الأولى الأسباب الموجبة في مداولة الأيام، ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصليّ لذلك، فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} بدون تحمُّل المشاق؟
وفي «أم» - هذه - أوجه:
أظهرها: أنها منقطعة، مقدَّرة ب «بل» ، وهمزة الاستفهام ويكون معناه الإنكار عليهم.
وقيل: «أمْ» بمعنى الهمزة وحدها، ومعناه كما تقدم التوبيخ والإنكار.
وقيل: هذا الاستفهام معناه النهي.
قال أبو مسلم: «إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة، ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وافتتح الكلام بذكر» أم «التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما، لا يعينه، يقولون: أزيد ضربت أم عمراً؟ مع تيقُّن وقوع الضرب بأحدهما، قال: وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً، فلما قال: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139] كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تُؤمَرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدةٍ وَصَبْر؟» .
وقيل: هي متصلة.
قال ابنُ بَحْر: «هي عديلة همزة تقدر من معنى ما تقدم، وذلك أن قوله: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] و {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} [آل عمران: 140] إلى آخر القصة يقتضي أن نتبع ذلك أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمُّل مشقة، وأن تجاهدوا، فيعلم الله ذلك منكم واقعاً» .
و «أحسب» - هنا - على بابها من ترجيح أحد الطرفين، و {أَن تَدْخُلُواْ} ساد مسد المفعولين - على رأي سيبويه - ومسد الأول، والثاني: محذوف - على رأي الأخفش.(5/562)
قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} جملة حالية.
قال الزَّمَخْشَرِي: «و» لما «بمعنى» لم «، إلا أنَّ فيه ضرباً من التوقُّع، فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقُّعه فيما يستقبل، وتقول: وعدتني أن تفعل كذا ولمَّا، تريد: ولم تفعل، وأنا أتوقَّع فِعْلَه» .
قال أبو حيان: «وهذا الذي قاله في» لما «- من أنها تدل على توقُّع الفعل المنفي بها فيما يستقبل - لا أعلم أحداً من النحويين ذكره، بل ذكروا أنك إذا قلت: لما يخرج زيد، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى، متصلاً نفيه إلى وقت الاخبار، أما أنها تدل على توقُّعه في المستقبل فلا، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يُقارب ما قاله الزمخشري، قال:» لما «لتعريض الوجود بخلاف» لم «.
قال شِهَابُ الدين: والنحاة إنما فرَّقوا بينهما من جهة أن المنفي ب «لَمْ» هو فعل غير مقرون ب «قد» ، والمنفي ب «لما» فعل مقرون بها، و «قد» تدل على التوقُّع، فيكون كلام الزمخشري صحيحاً من هذه الجهة، ويدل على ما قلته - من كون «لم» لنفي فعل فلان، و «لما» لنفي قد فعل - نصُّ سيبويه فمن دونه.
قال الزجاج إذا قيل فعل فلان، فجوابه: لم يفعل، وإذا قيل: قد فعل فلان، فجوابه لما يفعل؛ لأنه لما أُكِّد في جانب الثبوت ب «قد» لا جرم أنه أكد في جانب النفي بكلمة «لما» ، وقد تقدم نظير هذه الآية في «البقرة» وظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم، والمراد: وقوعه على نفي المعلوم، والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنةَ، ولمَّا يصدر الجهادُ عنكم؟
وتقريره: أن العلم متعلق بالمعلوم، كما هو عليه، فلما حَصَلَتْ هذه المطابقة - لا جرم - حَسُن إقامة كلِّ واحدٍ منهما مقامَ الآخر.
فصل
قال القرطبيّ: والمعنى: أحسبتم يا من انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة، كما دخل الذين قُتِلوا، وصبروا على ألم الجراح والقتل، من غير أن تسلكوا طريقهم، وتصبروا صَبْرَهم؟ لا؛ حتَّى يعلم الله الذين جاهدوا منكم، أي: علم شهادة، حتى يقع عليه الجزاء، والمعنى: ولم تجاهدوا، فيعلم ذلك منكم، ف «لما» بمعنى: «لم» .
قوله: «مِنْكُمْ» حال من «الَّذِينَ» .
وقرأ العامة {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} بكسر الميم - على أصل التقاء الساكنين.
وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها، وفيها وجهان:(5/563)
الأول: أن الفتحة فتحة إتباع الميم ل «اللام» قبلها.
الثاني: أنه على إرادة النون الخفيفة، والأًصل: ولما يعلمن، والمنفي ب «لما» قد جاء مؤكداً بها، كقول الشاعر: [الرجز]
1637 - يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا ... شَيْخاً عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا
فلما حذفت النون بقي آخر الفعل مفتوحاً، كقول الشاعر: [الخفيف]
1638 - لا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أن تَرْ ... كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
وعليه تُخَرَّج قراءةُ: {أَلَم نَشْرَحَ} [الشرح: 1]- بفتح الحاء -.
وقول الآخر: [الرجز]
1639 - مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أفْر ... مِنْ يَوْمِ لَمْ يُقْدَرَ أوْ يَوْم قُدِرْ
قوله: «ويَعْلَمَ» العامة على فتح الميم، وفيها تخريجان:
أحدهما: وهو الأشهر - أن الفعل منصوب، ثم هل نصبه ب «أن» مقدَّرة بعد الواو المقتضية للجمع كهي في قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أي: لا تجمع بينهما - وهو مذهب البصريين - أو بواو الصرف - وهو مذهب الكوفيين - يعنون أنه كان من حق الفعل أن يُعْرَب بإعراب ما قبله، فلما جاءت الواو صرفته إلى وجهٍ آخرَ من الإعراب.
الثاني: أن الفتحةَ فتحةُ التقاء الساكنين، والفعل مجزوم، فلما وقع بعده ساكنٌ آخر، احتيج إلى تحريك آخرهِ، فكانت الفتحة أوْلَى؛ لأنها أخف، وللإتباع لحركة اللام، كما قيل ذلك في أحد التخريجين في قراءة «وَلَمَّا يَعْلَمَ اللهُ» بفتح الميم - والأول هو الوجه.
وقرأ الحسنُ وأبو حيوةَ وابنُ يَعْمُرَ: بكسر الميم؛ عطفاً على «يَعْلَم» المجزوم ب «لَمَّا» .
وقرأ عَبْدُ الوَارِثِ - عن أبي عَمْرو بْنِ العَلاَءِ - «وَيعْلَمُ» بالرفع، وفيها وجهان:
أظهرهما: أنه مستأنف، أخبر - تعالى - بذلك.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «على أن الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون» .(5/564)
قال أبُو حَيَّانَ: «ولا يصح ما قال؛ لأن واو الحال لا تدخل على المضارع، لا يجوز: جاء زيد ويضحك - تريد: جاء زيد يضحك، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل، فكما لا يجوز: جاء زيد وضاحكاً، كذلك لا يجوز: جاء زيد ويضحك فإن أولَ على أن المضارع خبر لمبتدأ محذوف، أمكن ذلك، التقدير: وهو يعلم الصابرين.
كما أولوا قول الشاعر: [المتقارب]
1640 - ... ... ... ... ... . ... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكا
أي: وأنا أرهنهم» .
قال شهابُ الدين: «قوله: لا تدخل على المضارع، هذا ليس على إطلاقه، بل ينبغي أن يقول: على المضارع المثبت، أو المنفي ب» لا «؛ لأنها تدخل على المضارع المنفي ب» لم ولمَّا «. وقد عُرِف ذلك مراراً» .
ومعنى الآية: أن دخول الجنة، وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} قرأ البزي: بتشديد تاء «تَمَنَّوْنَ» ، ولا يمكن ذلك إلا في الوصل، وقاعدته: أنه يصل ميم الجمع بواو، وقد تقدم تحرير هذا عند قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] .
قوله: «مِن قَبْلِ» الجمهور على كسر اللام؛ لأنها مُعْربة؛ لإضافتها إلى «أنْ» وصلتها.
وقرأ مجاهد وابنُ جبير: {مِنْ قَبْلُ} بضم اللام، وقطعها عن الإضافة، كقوله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] وعلى هذا فَ «أنْ» وَصِلَتُها بدل اشتمال من «الْمَوْتَ» في محل نصب، أي: تَمَنَّوْنَ لقاء الموت، كقولك: رَهِبْتُ العَجُوَّ لقاءَه، والضمير في «تَلْقَوْهُ» فيه وجهان:
أظهرهما: عوده على «الْمَوْتَ» .
والثاني: عوده على العدو، وإن لم يجر له ذِكْر - لدلالة الحال عليه.
وقرأ الزُّهَرِيُّ، والنخعيّ «تُلاَقُوه» ، ومعناه معنى «تَلْقَوْه» ؛ لأن «لقي» يستدعي أن يكون بين اثنين - بمادته - وإن لم يكن على المفاعلة.(5/565)
قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} الظاهر أن الرؤية بصرية، فيكتفى بمفعول واحد.
وجوَّزوا أن تكون علمية، فتحتاج إلى مفعولٍ ثانٍ، هو محذوف، أي: فقد علمتموه حاضراً - أي: الموت -.
إلا أن حَذْف أحد المفعولين في باب «ظن» ليس بالسَّهْل، حتى إن بعضهم يَخُصُّه بالضرورة، كقول عنترة: [الكامل]
1641 - وَلَقَدْ نَزَلْتِ، فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ
أي: فلا تظني غيره واقعاً مني.
قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} يجوز أن تكون جملة حالية - وهي حال مؤكِّدة - رفعت ما تحتمله الرؤية من المجاز، أو الاشتراك بينها وبين رؤية القلب، ويجوز أن تكون مستأنفة، بمعنى: وأنتم تنظرون في فعلكم - الآن - بعد انقضاء الحرب، هل وَفَّيْتُمْ، أو خالفتم؟
وقال ابنُ الأنْبَارِي: «رَأيْتُمُوهُ» ، أي: قابلتموه {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} بعيونكم، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حيث اختلف معناهما؛ لأن الأول بمعنى: المقابلة والمواجهة، والثاني بمعنى: رؤية العين.
وهذا - أعني: إطلاق الرؤية على المقابلة والمواجهة - غير معروف عند أهل اللسان، وعلى تقدير صحته، فتكون الجملة من قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملة حالية مبيِّنة - لا مؤكِّدة - لأنها أفادت معنًى زائداً على معنى عاملها.
ويجوز أن يقدَّر لِ «تَنْظُرُونَ» مفعولاً، ويجوز أن لا يُقَدَّر؛ إذ المعنى: وأنتم من أهل النظر.
فصل
قال المفسرون: إنَّ قوماً من المسلمين تَمَنَّوا يوماً كيوم بدر؛ ليقاتلوا، وليستشهدوا، فأراهم الله يومَ أُحُد.
وقوله: {تَمَنَّوْنَ الموت} أي: سبب الموت - وهو الجهاد - {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} يعني: أسبابه، وذكر النظر بعد الرؤية؛ تأكيداً - كما قدمناه -.
وقيل: لأن الرؤية قد تكون بمعنى: العلم، فقال: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} ليعلم أن المراد بالرؤية: هي البصرية.
وقيل: وأنتم تنظرون إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(5/566)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
«ما» نافية، ولا عمل لها هنا مطلقاً - أعني: على لغة الحجازيين والتميميِّين؛ لأن التميميين لا يعملونها - ألبتة - والحجازيين يُعْملونها بشروط، منها: ألا يَنْتَقضَ النفي ب «إلا» إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله - وهو شبهها ب «ليس» في نفي الحال - فيكون «مُحَمَّدٌ» مبتدأ، و «رَسُولٌ» خبر.(5/567)
هذا -[أعني: إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها]- مذهب الجمهور، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ ب «إلا» .
وأنشد: [الطويل]
1642 - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بِأهْلِهِ ... وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا
فنصب «منجنوناً» ، و «مُعَذَّباً» على خبر «ما» - وهما بعد «إلا» -.(5/568)
ومثله قول الآخر: [الوافر]
1643 - وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَاراً ... وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلاَّ نَكَالا
ف «حق» اسم «ما» و «نكالا» خبرها.
وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ، والتقدير: وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِ «دَوَرَانَ» ثم حُذِفَ المضافُ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب، وكذا: «إلا مُعَذَّباً» تقديره: يُعَذَّبُ تعذيباً، فحُذِف الفعلُ، وأقيم «معذَّباً» مقام «تَعْذِيب» ، كقوله تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] أي: كل تمزيق. وكذا: «إلا نَكَالاً» ، وفيه من التكلُّف ما ترى.
و «مُحَمَّدٌ» هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل، والتحميد فوق الحمد، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال. وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه - جل جلاله - وهما محمد وأحمد.
قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى «محمدا» .
قوله: {قَدْ خَلَتْ} في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها في محل رفع؛ صفة لِ «رَسُولٌ» .
الثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمي رالمستكن في «رَسُولٌ» ، وفيه نظر؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد، فلا تتحمل ضميراً.
قوله: «من قبله» فيه وجهان - أيضاً -:
أظهرهما: أنه معلق ب «خلت» .
والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ؛ حال من «الرُّسُلُ» مقدَّماً عليها، وهي - حينئذ - حال مؤكِّدة؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة.(5/569)
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ «رُسُلٌ» - بالتنكير -.
قال ابُو الفَتْحِ: ووجها أنَّه موضع تيسير لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد، كقوله:
{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] .
وقوله: {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] .
وقال أبُو البَقَاءِ: «وهو قريب من معنى» المعرفة. كأنه يريد أن المراد بالرسل «الجنس» ، فالنكرة قريب منه بهذه الحيثية «.
وقراءة الجمهور أولى؛ لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم.
قال أبو علي: والرسول جاء على ضربين:
أحدهما: أن يراد به المرسل.
والآخر: الرسالة، وهاهنا المراد منه» المُرْسَل «، كقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 3] وقوله: {ياأيها الرسول بَلِّغْ} [المائدة: 67] و» فعول «قد يراد به: المفعول، كالرَّكُوب والحَلُوب لما يُرْكَب ويُحْلَب، والرسول بمعنى الرسالة.
كقوله: [الطويل]
1644 - لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ ما بُحتُ عِنْدَهُم ... بِسِرٍّ، ولا أرْسَلتُهُمْ بِرَسُولِ
فصل
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأصْحَابُ المَغَازِي: لما رأى خالد بن الوليد الرُّمَاةَ يوم أحد قد اشتغلوا بالغنيمة، ورأى ظهورَهم خاليةً، صاح في خَيْله من المُشْرِكِين، ثم حمل على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من خلفهم -، فهزموهم، وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحَجَر، فكسر أنفه ورباعيته، وشُجَّ في وجهه، فأثقله، وتفرق عنه أصحابُه؛ ونهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى صَخْرَةٍ ليعلوها - وكان قد ظاهر بَيْن دِرْعَيْن - فلم يستطع، فجلس تحته طلحة، فنهض حتى استوى عليها فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوْجَبَ طَلْحَةُ، ووقعت هند والنسوةُ معها يُمَثِّلْنَ بالقَتْلَى من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند قلائدَ من ذلك، وأعطتها وَحْشِيًّا، ونقرت عن كبد حمزة، فلاكتها، فلم تَستسغها، فلفظَتْها، وأقبل عبدُ الله بن قمئة يريد قَتْلَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذَبَّ مصعب بن عمير وهو صاحب(5/570)
راية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنه، فقتله ابنُ قَمِئة، وهو يرى أنه قتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرجع، وقال: إني قتلتُ محمداً، وصاح صارخ: ألا إن محمداً قد قُتِل - قيل: إن ذلك الصارخ كان إبليس - وانكف الناسُ، وجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو الناسَ: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فحَمَوْه حتى كسفوا عنه المشركين، ورمى سعدُ بن أبي وقاص حتى اندقت سِيَةُ قوسه، ومثل له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كنانته فقال: ارْمِ فداكَ أبي وأمي، وكان أبو طلحةَ رجلاً رامياً، شديد النزع، كسر يومَ أُحُد قوسين أو ثلاثة، فكان الرجل يمر معه بجَعْبَةٍ من النَّبْلِ، فيقول: انثرها لأبي طلحة، وكان إذ رمى يُشْرِفُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فينظر إلى موضع نَبْلِهِ، وأَصيبت يَدُ طلحةَ بن عبيد الله فيبست، وقى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأصِيبتْ عَيْنُ قتادةَ بن النعمان يومئذ، حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكانَها، فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أدْرَكَهُ أبَيّ بن خلف الجُمَحِيّ، وهو يقول: لا نجوتُ إن نَجَا، فقال القوم: يا رسولَ الله، ألا يعطف عليه رجل منا؟ فقال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: دَعُوه، حتى إذا دنا منه - وكان أبَيّ كُلَّما لقي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَبْل ذلك، قال له: عندي دمكة أعلفها كل يوم فَرَق ذُرة؛ أقتلك عليها، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بَلْ أنا أقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحَرْبَة من الحارث بن الصِّمَّة، ثم استقبله فطعنه في عنقه، وخدشه خدشة، فتدأدأ عن فرسه - وهو يخور كما يخور الثور - وهو يقول: قتلني محمد، وحمله أصحابه، وقالوا: ليس بك من بأس، فقال: أليس قال لي: أقتلك؟ فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له: سرف.
قال ابن عباس: اشتد غضب الله على مَنْ قتل نبيه، واشتد غضب الله على من رمى وَجْهَ رسول الله قال: وفشا في الناس أن محمداً قد قُتِل فقال بعضُ المسلمين: يا ليت لنا رسولاً غلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم.
وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمدٌ قد قُتِل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنَس بن النضر - عم أنس بن مالك: يا قوم، إن كان محمد قد قُتِل فإن ربَّ محمد لم يُقْتَل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله، قوموا، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - يعني: المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني: المنافقين - ثم شد بسيفه، فقاتل حتى قُتِلَ ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، فأوَّل من عرف رسول الله كعب بن مالك، وقال: عرفت عينيه تحت المِغْفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا؛ هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأشار إليَّ أن أسْكُتَ، فانْحَازَتْ إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النَّبيُّ على الفرار. فقالوا: يا رسولَ الله - فديناك بآبائِنَا وأمهاتنا - أتانا(5/571)
الخبر بأنك قُتِلْتَ فَرَعَبتْ قلوبنا، فولَّينَا مُدْبِرِين، فأنزل الله قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} .
قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ} الهمزة لاستفهام الإنكار، والفاء للعطف، ورتبتها التقديم؛ لأنها حرف عطف، وإنما قُدِّمت الهمزة؛ لأن لها صَدر الكلام، وقد تقدم تحقيقه وأن الزمخشري يقدِّر بينهما فعلاً محذوفاً تعطف الفاء عليه ما بعدها.
قال ابن الخطيب كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيُّ: «الأوجه: أن يقدر محذوف بعد الهمزة، وقبل الفاء، تكون الفاء عاطفة عليه، ولو صُرِّحَ به لقيل: أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم، فتخالفوا سُنَنَ أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على مِلَلِ أنبيائهم بعد وفاتهم.
وهذا هو مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ، إلا أنَّ الزمخشريَّ - هنا - عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة؛ فإنه قال: الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قَبْلَها على معنى «التسبيب» ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه - بموتٍ أو قَتْل - مع علمهم أن خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله، وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسُّك بدين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا للانقلاب عنه «.
فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله: {قَدْ خَلَتْ} من غير تقدير جملة أخرى.
وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال:» الهمزة عند سيبويه في موضعها، والفاء تدل على تعلُّق الشرطِ بما قبله «.
لا يقال: إنه جعل الهمزة في موضعها، فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها؛ لأنه جعل هذا مقابلاً لمذهب يونس؛ فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة - في مثل هذا التركيب - داخلة على جواب الشرط، فهي في مذهبه في غير موضعها وسيأتي تحريره.
و» إن «شرطية، و» مَاتَ «و» انْقَلَبْتُمْ «شرط وجزاء، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يُغَيِّر سبباً من حكمها.
وزعم يونس أن الفعل الثاني - الذي هو جزاء الشرط - ليس هو جزاء للشرط، وإنما هو المستفْهَم عنه، وأن الهمزة داخلة عليه تقديراً، فينوى به التقرير، وحينئذ لا يكون جواباً، بل الجواب محذوف، ولا بد - إذ ذاك - من أن يكون فعل الشرط ماضياً، إذْ لا يُحْذَف الجواب إلا والشرط ماضٍ، ولا اعتبار بالشعر؛ فإنه ضرورة، فلا يجوز عنده أن تقول: إن تكرمني أكرمك ولا يجزنهما، ولا بجزم الأول ورفع الثاني، لأن الشرط مضارع. ولا أإن أكرمتني أكرمك - بجزم أكرمك؛ لأنه ليس الجواب، بل دال عليه،(5/572)
والنية به التقديم، فإن رفعت» أكرمك «وقلت: أإن أكرمتني أكرمك، صح عنده.
فالتقدير عند يونس: أانقلبتم على أعقابكم إن مات محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته، وبقول يونس قال كثير من المفسِّرين؛ فإنهم يقولون: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها؛ لأن الغرض إنما هو أتنقلبون إن مات محمد؟
وقال أبو البقاء:» وقال يونس: الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط، تقديره: أتنقلبون إن مات؟ لأن الغرض التنبيه، أو التنبيخ على هذا الفعل المشروط «.
ومذهب سيبويه الحقُّ؛ لوجهَيْن:
أحدهما: أنك لو قدمتَ الدجواب، لم يكن للفاء وجه؛ إذ لا يصح أن تقول: أتزوروني فإن زرتك. ومنه قوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] .
والثاني: أنَّ الهمزة لها صدر الكلام، و «إنْ» لها صدر الكلام، وقد وقعا في موضعهما، والممعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجوابِ؛ لأنهما كالشيء الواحد.
وقد رد النحويون على يونس بقوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} ، فإنَّ الفاء في قوله: «فَهُمْ» تعين أن يكون جواباً للشرط، وأتى - هنا - ب «إن» التي تقتضي الشك، والموت أمر محقق، إلاَّ أنه أورده مورد المشكوك فيه؛ للتردد بين الموت والقتل.
فإن قيل: إنه - تعالى - بَيَّن في آيات كثيرة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يُقْتَل، قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] ، وإذا عُلِم أنه لا يقتل، فلِمَ قال: (أو قتل) ؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن صدق القضية الشرطية لا تقتضي صدق جُزْأيها؛ فإنك تقول: إن كانت الخمسة زوجاص كانت مقسمة بمتساويين، فالشرطية صادقة، وجزآها كاذبان، وقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فهذا حَقٌّ، مع أنه ليس فيهما آلهة، وليس فيهما فساد.
الثاني: أن هذا ورد على سبيل الإلزام؛ فإن موسى - عليه السلام - مات ولم ترجع أمتُه عن دينه، والنصارى زعموا أن عيسى قُتِل، ولم يرجعوا عن دينه، فكذا هنا.
وثالثها: أن الموت لا يُوجب رجوع الأمة عن دينه، فكذا القتل وجب ألا يوجب الرجوع عن دينه، لأنه لا فارق بين الأمرين، فلما رجع إلى هذا المعنى، كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين، وهَمُّوا بالارتداد.
فإن قيل: قوله: { {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} شكٌّ، وهو - على الله تعالى - محال.(5/573)
فالجواب: أن المراد: أنه سَوَاءً وقع هذا أو ذاك، فلا تأثير له في ضَعْف الدين ووجوب الارتداد.
فصل
قوله: {انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} أي: صرتم كُفاراً بعد إيمانكم، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه: رجع وراءه، فانقلب على عقبه، ونكص على عقبيه، وذلك أن المنافقين قالوا لضَعَفَةِ المسلمين: إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل، فإن رَبَّ محمد لم يُقْتَل، فقاتِلوا على ما قاتل عليه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فقد بيَّن - تعالى - أن قتله لا يوجب ضعفاً في دينه بدليلين:
أحدهما: القياس على موت سائر الأنبياء.
والثاني: أن الحَاجَةَ إلى الرسول إنما هي لتبليغ الدين، وبعد ذلك لا حَاجَة إليه، فلم يلزم من قَتْلِه فَسَادُ الدين.
قوله
: {على
أَعْقَابِكُمْ
} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلق ب «انْقَلَبْتُمْ» .
والثاني: أنه حال من فاعل «انْقَلَبْتُمْ» ، كأنه قيل: انقلبتم راجعين.
قوله: {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} .
قرأ ابنُ أبي إسحاق «على عقبه» - بالإفراد، و «شَيْئاً» نصب على المصدر أي: شيئاً من الضرر، لا قليلاً ولا كثيراً. والمراد منه: تأكيد الوعيد، وأن المنقلب بارتداده لا يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه.
ثم قال: {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} والمعنى: أن تلك الهزيمة لما أوقعَتْ شُبْهَةً في قلوب بعضهم، ولم تقع في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به فمدحهم الله تعالى.
رَوَى ابنُ جرير الطَّبَرِيُّ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال المراد بقوله تعالى: {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} : أبو بكر وأصحابه. وروى عنه أيضاً أنه قال: أبو بكر أمين الشاكرين، وأمين الله تعالى.(5/574)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
{أَنْ تَمُوتَ} في محل رفع؛ اسماً ل «كان» ، و «لِنَفْسٍ» خبر مقدَّم فيتعلق(5/574)
بمحذوف، و {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} حال من الضمير في «تَمُوتَ» ، فيتعلق بمحذوف، وهو استثناء مفرَّغ، والتقدير: وما كان لها أن تموتَ إلا مأذوناً لها، والباء للمصاحبة.
وقال أبُو البَقَاءِ: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} الخبر، واللام للتبيين، متعلِّقة ب «كان» .
وقيل: هي متعلقة بمحذوف، تقديره: الموت لنفس، و «أنْ تَمُوتَ» تبيين للمحذوف، ولا يجوز أن تتعلق اللام ب «تَمُوتَ» لما فيه من تقديم الصلة على الموصول.
وقال بعضهم: إن «كَانَ» زائدة، فيكون «أن تموت» مبتدأ، و «لنفس» خبره.
وقال الزجاج: اللام منقولة، تقديره وما كانت نفس لتموتَ ثم قدمت اللام، فجعل ما كان اسماً ل «كان» - وهو (أن تَموتَ) - خبراً لها، وما كان خبراً - وهو «لِنَفْسٍ» - اسماً لها، فهذه خمسة أقوال، أظهرها: الأول.
أما قول أبي البقاء: واللام للتبيين، فتتعلق بمحذوف، ففيه نظر من وجهين:
أحدهما: أنَّ «كان» الناقصة لا تعمل في غير اسمها وخبرها، ولئن سُلِّم ذلك، فاللام التي للتبيين إنما تتعلق بمحذوف، وقد نَصُّوا على ذلك في نحو: سَقْياً لك.
وقيل: إن فيه حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو لا يجوز.
أما مَنْ جعل «لِنَفْسٍ» متعلقة بمحذوف - تقديره: الموت لنفس، ففاسدٌ، لأنه ادَّعَى حذف شيء لا يجوز؛ لأنه إن جعل «كَانَ» تامة، أو ناقصة، امتنع حذفُ مرفوعها، لأن الفاعل لا يُحْذَف. وكذلك قول مَنْ جعل «كان» زائدة.
أما على قول الزجاج فإنه تفسير معنًى، لا تفسير إعراب.
فصل
في تعلُّق هذه الآية بما قبلَها وجوه:
أحدها: أن المنافقين حين قالوا: إن محمداً قُتِل، فقال تعالى: لا تموت نفس إلا بإذن الله، فقتله - أيضاً - مثل موته لا يحصل إلا في الوقت المقدَّر له، فكما أن موته في داره لا يدل على فساد دينه، كذلك إذا قُتِل لا يؤثر ذلك في فساد دينه.
والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضَعَفَةِ المسلمين: إن كان محمدٌ قُتِل فارجعوا إلى دينكم الأول.
والثاني: أن المراد: تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذرَ لا يدفَع القدر، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل، وإذا جاء الأجل لا يندفع، فلا فائدة في الجُبْن والخوف.
والثالث: أن المراد حِفْظ الله للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تلك الواقعة المخوفة؛ فإنه لم يَبْقَ(5/575)
سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل، ولكن لما كان الله حافِظَه وناصِرَه ما ضَرَّه شيءٌ من ذلك، وفيه تنبيه على أن الصحابة قصَّروا في الذَّبِّ عنه.
ورابعها: أن المقصود منه الجواب عن كلام المنافقين للصحابة، حين رجعوا وقد قتل منهم من قتل {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 156] فأخبر - تعالى - أنَّ الموت والقتل لا يكونان إلا بإذن الله.
قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145] ، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يحقق ذلك فيه، أو يعين في تقوية الكُفْر، بل يُبْقيه الله إلى أن يَظْهَرَ على الدِّين كله.
فصل
قال القُرْطُبِي: «هذا حضٌّ على الجهاد، وإعلام بأن الموت، لا بد منه لكل إنسان وأن كل إنسان - مقتولاً كان أو غيرَ مقتول - مَيِّت إذا بلغ أجله المتكوبَ له؛ لأن معنى {مُّؤَجَّلاً} إلى أجل، ومعنى {بِإِذْنِ الله} : بقضاء الله وقدره» . واختلفوا في الإذن.
قال أبو مسلم: هو الأمر، أي أن الله - تعالى - يأمر ملك الموت بقبض الأرواح.
وقيل: المراد منه: التكوين والإيجاد، لأنه لا يقدر على الإماتة والإحياء إلا الله تعالى.
وقيل: الإذن: هو التخلية والإطلاق، وتَرْك المنع بالقهر والإجبار، كقوله تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 102] أي: بتخليته بينه وبين قاتله.
وقيل: الإذن بمعنى: العلم، والمعنى: أن نفساً لن تموتَ إلاَّ في الوقت الذي علم الله - تعالى - موتها فيه.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: الإذن: هو قَضَاءُ الله وقدره؛ فإنه لا يحدث شيء إلاَّ بمشيئته وإرادته - سبحانه وتعالى -.
قوله: {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} في نصبه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله، فعامله مُضْمَر، تقديره: كتب الله ذلك كتاباً، نحو قوله تعالى: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] وقوله: {وَعَدَ الله} [الروم: 6] ، وقوله: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] .
الثاني: أنه منصوب على التمييز، ذكره ابنُ عطية، وهذا غير مستقيم؛ لأن التمييز منقول وغير منقول، وأقسامه محصورة، وليس هذا شيئاً منها، وأيضاً فأين الذات المُبْهَمة التي تحتاج إلى تفسير؟(5/576)
والثالث: أنه منصوب على الإغراء، والتقدير: الزموا كتاباً مؤجَّلاً، وآمنوا بالقدر، وليس المعنى على ذلك.
وقرأ ورش: «مُوجَّلاً» بالواو بدل الهمزة، وهو قياس تخفيفها.
فصل
الكتاب المؤجَّل هو الكتاب المشتمل على الآجال، ويقال: إنه اللوح المحفوظ، أي: كتب لكل نفس أجلاً لا يقدر أحدٌ على تقديمه وتأخيره، جاء في الحديث أنه تعالى قال للقلم: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
فصل
قال القاضِي: أما الأجل والرزق، فهما مضافان إلى الله تعالى، وأمَّا الكُفْرُ والفِسْقُ والإيمان والطاعة، فكل ذلك مضاف إلى العبد، فإذا كتب الله ذلك، فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يُخْرج العبد عن الاختيار.
وجوابه: أنه إذا علم الله من العبد الكفر، وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر، فلو أتَى بالإيمان كان ذلك جمعاً بين المتنافيين؛ لأن العلم بالكفر، والخبر والصدق عن الكفر - مع عدم الكفر - جمع بين النقيضين، وهو محال، وهذا موضِعُ الإلزام.
فصل
قال المفسرون: أجل الموت هو الوقت الذي في معلوم الله - تعالى - أن روح الحيِّ تفارق جيده فيه، ومتى قُتِل العبدُ علمنا أن ذلك أجله، ولا يصح أن يقال: لو لم يُقْتَل لعاش، بدليل قوله تعالى: {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145] ، وقوله: {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] وقوله: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] ، وقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] .
والمعتزليّ يقول: يتقدَّم الأجل ويتأخّر، وأن مَنْ قُتِل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله، لأنه يجب على القاتل الضمان والدِّيَة، وهذه الآية رَدٌّ عليهم.
قوله: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا} مبتدأ، وهي شرطية. وفي خبر هذا المبتدأ الخلاف(5/577)
المشهور. وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلاف عنه - دال «يُرِد» في الثاء.
والباقون بالإظهار.
وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء «نُؤتِهِ» في الموضعين وَصْلاً ووقفاً.
وهشام - بخلاف عنه - بالاختلاس وصلاً.
والباقون بالإشباع وَصْلاً.
فأما السكون فقالوا: إن الهاء لما حلت محلّ ذلك المحذوف أعطيت ما كان يستحقه من السكون، وأما الاختلاس، فلاستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حَذْف لام الكلمة؛ فإن الأصل: نؤتيه، فحُذِفَت الياء للجزم، ولم يُعْتَدّ بهذا العارض، فبقيت الهاء على ما كانت عليه.
وأما الإشباع فنظراً إلى اللفظ؛ لأن الهاء بعد متحرِّكٍ في اللفظ، وإن كانت في الأصل بعد ساكن - وهو الياء التي حُذِفَت للجزم - والأوْلى أنْ يقال: إنَّ الاختلاس والإسكان بعد المتحرك لغة ثابتة عن بني عقيل وبني كلاب.
حكى الكسائي: لَهْ مالٌ، وبِهْ داء - بسكون الهاء، واختلاس حركتها - وبهذا يَتَبَيَّن أن مَنْ قال: إسكان الهاء واختلاسها - في هذا النحو - لا يجوز إلا ضرورةً، ليس بشيءٍ، أمَّا غير بني عقيل، وبني كلاب، فنعم لا يوجد ذلك عندهم، إلا في ضرورة.
كقوله: [الوافر]
1645 - لَهُ زَجَلٌ كَأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ
باختلاس هاء (كأنه) .
ومثله قول الآخر: [البسيط]
1646 - وَأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيل وَادِيهَا
بسكونها. وجعل ابن عصفور الضرورة في «البيت الثاني» أحسن منها في «البيت الأول» ، قال: لأنه إذهاب للحركة وصِلَتِها، فهي جَرْي على الضرورة [إجراءً] كاملاً، وإنما ذكرنا هذه التعليلات لكثرة ورود هذه المسالة، نحو: {يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] ، ونحو: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] .(5/578)
وقُرِئ: يُؤتِه - بياء الغيبة - والضمير لله تعالى، وكذلك: «وسنجزي الشاكرين» بالنون والياء.
فصل
نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحُد؛ طلباً للغنيمة، {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} يعني: الغنيمة، قوله: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} قيل: أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جُبَير حتى قُتِلوا، وهذه الآية - وإن وردت في الجهاد خاصة - عامة في جميع الأعمال؛ لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب هو القصد والدواعي، لا ظواهر الأعمال.
ثم قال: «وسنجزي الشاكرين» أي: المؤمنين المطيعين.
عن أنس بن مالك، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الآخِرَةِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ، وَأتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الدُّنْيَا جَعَلَ اللهُ الفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أمْرَهُ، وَلاَ يَأتِيهِ مِنْهَا إلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ» وروى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنَّمَا لِكُلُ امرئٍ ما نَوَى، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِه فَهِجْرَتُه إلَى اللهِ وَرَسُولِه، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُه إلَى دُنْيَا يُصيبُها، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا، فهِجْرَتُه إلى مَا هَاجَرَ إلَيْه» .(5/579)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
هذه اللفظة، قيل: هي مركبة من كاف التشبيه، ومن «أيِّ» ، وقد حدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير، المفهوم من «كَمْ» الخبرية، ومثلُها في التركيب وإفهام التكثير: «كذا» في قولهم: له عندي كذا درهماً، والأصل: كاف التشبيه و «ذا» الذي هو اسم إشارة، فلما رُكَِّبَا حدَثَ فيهما معنى التكثير، ف «كم» الخبرية وكأيِّن وكذا كلها بمعنًى واحد، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر؛ ألا ترى أن «لولا» حدث لها معنًى جديدٌ، وكان من حقها - على هذا - أو يُوقَفَ عليها بغير نون؛ لأن التنوين يُحْذَف وقفاً، إلا أن الصحابة كتبتها «كَأيِّنْ» - بثبوت النون -، فمن ثم وقف عليها جمهور القراء بالنون؛ اتِّبَاعاً لرسم المصحف.(5/579)
ووقف أبو عمرو وسورة بن المبارك عن الكسائي «كأي» - من غير نون - على القياس.
واعتل الفارسيُّ لوقف النون بأشياء، منها: أن الكلمة لما رُكِّبَتْ خرجت عن نظائرها، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة.
وفيها لغات خمس.
أحدها: «كَيِّنْ» - وهي الأصل - وبها قرأ الجماعة، إلاَّ ابن كثير.
وقال الشاعر: [الوافر]
1647 - كَأيِّنْ فِي الْمَعَاشِرِ مِنْ أنَاسٍ ... أخُوهُمْ فَوْقَهُمْ، وَهُمُ كِرَامُ
الثانية: «كائِنْ» - بزنة كاعِن - وبها قرأ ابن كثير وجماعة، وهي أكثر استعمالاً من «كأيِّنْ» وإن كانت تلك الأصل -.
قال الشاعر: [الوافر]
1648 - وَكَائنْ بِالأبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ ... يَرَانِي لَوْ أصِبْتُ هُوَ المُصَابَا
وقال الآخر: [الطويل]
1649 - وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ..... ... ... ... .
وقال آخر: [الطويل]
1650 - ... - وَكَائِنْ تَرَى فِي الْحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ
... ... ... ... ... ...(5/580)
أنشده المفضل ممدوداً، مهموزاً، مخففاً.
واختلفوا في توجيه هذه القراءة، فنُقِل عن المبرد أنها اسم فاعل من كان، يكون، فهو كائن، واستبعده مكِّيّ، قال: لإتيان «مِنْ» بعده، ولبنائه على السكون. وكذلك أبو البقاء، قال: «وهو بعيد الصحة؛ لأنه لو كان كذلك لكان معرباً، ولم يكن فيه معنى التكثير» .
لا يقال: هذا تحامُل على المبرد؛ فإن هذا لازم له - أيضاً - فإن البناء، ومعنى التكثير عارضان - أيضاً - لأن التركيب عُهِد فيه مثل ذلك - كما تقدم في «كذا» ، و «لولا» ، ونحوهما، وأما لفظٌ مفردٌ يُنقل غلى معنى، ويُبْنَى من غير سبب، فلم يُوجد له نظير.
وقيل: هذه القراءة أصلها «كَأيِّنْ» - كقراءة الجماعة - إلا أن الكلمة دخلها القلب، فصارت «كائن» مثل كاعن - واختلفوا في تصييرها بالقلب كذلك على أربعة أوجه:
أحدها: أنه قُدِّمت الياءُ المشددةُ على الهمزة، فصار وزنها كَعَلف، إلا أنك قدمتَ العينَ والسلام، وهما الياء المشددة - ثم حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف، كما قالوا في: «أيُّها» ، ثم قلبت الياء الساكنة ألفاً، كما قلبوها في نحو آية - والأصل: أيَّة - وكما قالوا: طائِيّ - والأصل: طَيئ - فصار اللفظ «كَأيِنْ» ووزنه كَعْف، لأن الفاء أخرت إلى موضع اللام، واللام قد حُذفَتْ.
الوجه الثاني: أنه حذفت الياء الساكنة - التي هي عين - وقُدِّمَت المتحركة - التي هي لام - فتأخرت الهمزة - التي هي فاء - وقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار «كائن» ووزنه كلف.
الوجه الثالث: ويُعْزَى للخليل - أنه قُدِّمَت إحدى الياءين في موضع الهمزة، فتحركت بحركة الهمزة - وهي الفتحة - وصارت الهمزة ساكنة في موضع الياء، فتحركت الياءُ، وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى الساكنان - الألف المنقلبة عن الياء، والهمزة بعدها ساكنة - فكُسِرَت الهمزة على أصل التقاء الساكنين، وبقيت إحدى الياءين متطرفة، فأذهبها التنوين - بعد سلب حركتها - كياء قاضٍ وغازٍ.
الوجه الرابع: أنه قُدِّمَت الياء المتحركةُ، فانقلبت ألفاً، وبقيت الأخرى ساكنة، فحذفها التنوين - مثل قاضٍ - ووزنه على هذين الوجهين أيضاً كلف؛ لما تقدم من حذف العين، وتأخير الفاء، وإنما الأعمال تختلف.
اللغة الثالثة: «كَأْيِنْ» - بياء خفيفة بعد الهمزة - على مثال كَعْيِن، وبها قرأ ابنُ مُحَيْصِن، والأشهبُ العقيلي، ووجهها أن الأصل: «كَأيِّنْ» - كقراءة الجماعة - فحُذِفَت(5/581)
الياءُ الثانية، استثقالاً، فالتقى ساكنان - الياء والتنوين - فكُسِر الياء؛ لالتقاء الساكنين، ثم سكنت الهمزة تخفيفاً لثقل الكلمة بالتركيب، فصارت كالكلمة الواحدة كما سكنوا «فهو» و «فهي» .
اللغة الرابعة: «كَيْإن» بياء ساكنة، بعدها همزة مكسورة، وهذه مقلوب القراءة التي قبلها، وقرأ بها بعضهم.
اللغة الخامسة: «كإنْ» - على مثال كَعٍ - ونقلها الداني قراءة عن ابن مُحَيْصِن أيضاً.
وقال الشاعر: [الطويل]
1651 - كَئِنْ مِنْ صَدِيقٍ خِلْتُهُ صَادِقَ الإخَا ... ءِ أبَانَ اخْتِبَاري أنَّهُ لِي مُدَاهِنُ
وفيها وجهان:
أحدهما: أنه حذف الياءين دُفعَةً واحدةً لامتزاج الكلمتين بالتركيب.
والثاني: أنه حذف إحدى الياءين - على ما تقدم تقريره -، ثم حذف الأخرى لالتقائها ساكنةً مع التنوين ووزنه - على هذا - كَفٍ؛ لحذف العين واللام منه.
واختلفوا في «أي» هل هي مصدر في الأصل، أم لا؟
فذهب جماعة إلى أنها ليست مصدراً، وهو قول أبي البقاء؛ فإنه قال «كَأيِّنْ» الأصل فيه: «أيٌّ» ، التي هي بعض من كل، أدخلت عليها كافُ التشبيه.
وفي عبارته عن «أيّ» بأنها بعض من كل، نظر لأنها ليست بمعنى: بعض من كل، نعم إذا أضيفت إلى معرفة فحُكْمها حُكم «بعض» في مطابقة الجُزْء، وعود الضمير، نحو: أيُّ الرجلين قائم ولا نقول: قاما، فليست هي التي «بعض» اصلاً.
وذهب ابنُ جني إلى أنها - في الأصل - مصدر أوَى يأوِي - إذا انضم، واجتمع - والأصل: أوْيٌ، نحو طَوَى يَطْوي طيًّا - فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وكأن ابن جنِّي ينظر إلى أن معنى المادة من الاجتماع الذي يدل عليه «أي» فإنها للعموم، والعموم يستلزم الاجتماع.
وهل هذه الكاف الداخلة على «أي» تتعلق بغيرها من حروف الجر، أم لا؟
والصحيح أنها لا تتعلق بشيء؛ لأنها مع «أي» صارتا بمنزلة كلمة واحدة - وهي «كم» - فلم تتعلق بشيء، ولذلك هُجِر معناه الأصلي - وهو التشبيه -.
وزعم الحوفيّّ أنها تتعلق بعامل، فقال: «أما العامل في الكاف، فإن جعلناها على حكم الأصل، فمحمول على المعنى، والمعنى: إصابتكم كإصابة من تقدَّم من الأنبياء وأصحابهم، وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى» كم «، كان العامل بتقدير الابتداء،(5/582)
وكانت في موضع رفع، و» قاتل «الخبر، و» مِنْ «متعلقة بمعنى» الاستقرار «، والتقدير الأول أوضح؛ لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى، بما يجب من الخفض في» أي «، وإذا كانت» أي «على بابها من معاملة اللفظ، ف» من «متعلقة بما تعلقت به الكاف من الممعنى المدلول عليه» اه. وهو كلام غريب.
واختار أبو حيان أن «كأين» كلمة بسيطة - غير مركبة - وأن آخرها نون - هي من نفس الكلمة - لا تنوين؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل، وهذه طريق سهلة، والنحويون ذكروا هذه الأشياء؛ محافظةً على أصولهم، مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد، وتمرين الذهن. هذا ما يتعلق بها من حيث التركيب، فموضعها رفع بالابتداء، وفي خبرها أربعة أوجه:
أحدها: أنه «قاتل» فإن فيه ضميراً مرفوعاً به، يعود على المبتدأ، والتقدير: كثير من الأنبياء قاتل.
قال ابو البقاء: والجيد أن يعود الضمير على لفظ «كأين» ، كما تقول: مائة نبي قُتِل، فالضمير للمائة؛ إذ هي المبتدأ.
فإن قيل: لو كان كذلك لأنثت، فقلت: قُتِلَتْ؟
قيل: هذا محمول على المعنى؛ لأن التقدير: كثير من الرجال قُتِل.
كأنه يعني بغير الجيد عوده على لفظ «نَبِيّ» ، فعلى هذا جملة {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} جملة في محل نصب على الحال من الضمير في «قُتِل» .
ويجوز أن يرتفع «ربيون» على الفاعلية بالظرف، ويكون الظرف هو الواقع حالاً، التقدير: استقر معه ربيون.
وهو أولى؛ لأنه من قبيل المفردات، وأصل الحال والخبر والصفة أن تكون مفردة.
ويجوز أن يكون «مَعَهُ» - وحده - هو الحال، و «رِبِّيُّونَ» فاعل به، ولا يحتاج - هنا - إلى واو الحال؛ لأن الضمير هو الرابط - أعني: الضمير في «مَعَهُ» .
ويجوز أن يكون حالاً من «نَبِيّ» - وإن كان نكرة - لتخصيصه بالصفة حينئذ؛ ذكره مكي. وعمل الظرف - هنا - لاعتماده على ذي الحال.
قال أبو حيان: وهي حال محكية، فلذلك ارتفع «ربيون» بالظرف - وإن كان العامل ماضياً، لأنه حكى الحال الماضية، كقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] ، وذلك على مذهب البصريين، وأما الكسائي فيعمل اسم الفاعل العاري من «أل» مطلقاً.
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن الظرف يتعلق باسم فاعل، حتى يلزم عليه ما قال من تأويله اسم الفاعل بحال ماضية، بل يدعى تعلُّقه بفعل، تقديره: استقر معه ربيون.(5/583)
الوجه الثاني: أن يكون «قَاتَلَ» جملة في محل جر؛ صفة لِ «نَبِيّ» ، و {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} هو الخبر، لكن الوجهان المتقدمان في جعله حالاً - أعني: إن شئت أن تجعل «مَعَهُ» خبراً مقدماً، و «ربِّيُّونَ» مبتدأ مرخراً، والجملة خبر «كَأيِّنْ» ، وأن تجعل «مَعَهُ» - وحده - هو الخبر، و «ربِّيُّونَ» فاعل به؛ لاعتماد الظرف على ذي خبر.
الوجه الثالث: أن يكون الخبر محذوفاً، تقديره: في الدنيا، أو مضى، أو: صابر، وعلى هذا، فقوله: «قَاتَلَ» في محل جر؛ صفة لِ «نَبِيٍّ» ، و «مَعَهُ ربِّيُّونَ» حال من الضمير في «قَاتَلَ» - على ما تقدم تقريره - ويجوز أن يكون «مَعَهُ ربِّيُّونَ» صفة ثانية ل «نَبِيٍّ» ، وُصِف بصفتين: بكونه قاتل، وبكونه معه ربيون.
الوجه الرابع: أن يكون «قَاتَلَ» فارغاً من الضمير، مسنداً إلى «رِبِّيُّونَ» وفي هذه الجملة - حينئذ - احتمالان:
أحدهما: أن تكون خبراً ل «كأيِّنْ» .
الثاني: ان تكون في محل جر ل «نَبِيٍّ» والخبر محذوف - على ما تقدم - وادِّعَاء حذف الخبر ضعيف لاستقلال الكلام بدونه.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون «قَاتَلَ» مسنداً لِ «رِبِّيُّونَ» ، فلا ضمير فيه على هذا، والجملة صفة «نَبِيٍّ» .
ويجوز أن يكون خبراً، فيصير في الخبر أربعة أوجه، ويجوز أن يكون صفةً لِ «نَبِيٍّ» والخبر محذوف على ما ذكرنا.
وقوله: صفة ل «رَبِّيُّونَ» يعني: أن القتل من صفتهم في المعنى، وقوله: «فيصير في الخبر أربعة أوجه» يعني: ما تقدم له من أوجه ذكرها، وقوله: فلا ضمير فيه - على هذا - والجملة صفة «نبي» غلط؛ لأنه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ.
فإن قلتَ: إنما يزعم هذا لأنه يقدر خبراً محذوفاً؟
قلت: قد ذكر أوجهاً أخَر؛ حيثُ قال: «ويجوز أن تكون صفة ل» نَبِيٍّ «والخبرُ محذوفٌ - على ما ذكرنا» .
ورجَّح كونَ قَاتَلَ مسنداً إلى ضمير النبي أن القصة بسبب غزوةِ أحُدٍ، وتخاذل المؤمنين حين قيل: إن محمداً قد ماتَ مقتولاً؛ ويؤيدُ هذا الترجيح قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] وإليه ذهب ابنُ عباسٍ والطبريُّ وجماعة. وعن ابن عباسٍ - في قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]- قال: النبي يُقتل فكيف لا يُخَان؟(5/584)
وذهب الحسنُ وابن جُبَيرٍ وجماعة إلى أن القتلَ للرِّبِّيِّينَ، قالوا: لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حَرْب قط ونصر الزمخشري هذا بقراءة قُتِّل - بالتشديد - يعني أنّ التكثيرَ لا يتأتى في الواحد - وهو النبي - وهذا - الذي ذكره الزمخشريُّ - سبقه إليه ابنُ جني - وسيأتي تأويله -.
وقرأ ابن كثيرٍ، ونافع، وأبو عمرو: قُتِل - مبنياً للمفعول - وقتادة كذلك، إلا أنه شدد التاء، وباقي السبعة: قاتل، وكل من هذه الأفعال يصلح أن يرفع ضمير «نَبِيّ» وأن يرفع «رِبِّيُّونَ» - كما تقدم تفصيلُهُ -.
وقال ابنُ جني: إنَّ قراءة: قُتّل - بالتَّشْديد - يتعين أن يسند الفعل فيها إلى الظاهر - أعني: «رِبِّيُّونَ» - قال: لأنَّ الواحدَ لا تكثير فيه.
قال أبو البقاء: «ولا يمتنع أنْ يكونَ فيه ضمير الأول؛ لأنه في معنى الجماعةِ» .
يعني أن «مِنْ نَبِيٍّ» المراد به الجنس، فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص؛ لا بالنسبة إلى كل فَرْد؛ إذ القتل لا يتكثر في كلِّ فردٍ.
وهذا الجوابُ - الذي أجابَ به أبو البقاءِ - استشعر به أبو الفتحِ، وأجاب عنه، قَالَ: فإن قيل: فهلاَّ جاز فُعِّل؛ حَمْلاً على معنى «كَمْ» ؟
فالجواب: أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله: «مِنْ نَبِيٍّ} ودلَّ الضمير المفرد» مَعَهُ «على أن المراد إنما هو التمثيلُ بواحدٍ واحدٍ، فخرج الكلامُ على معنى» كم «. قال: في هذه القراءةِ دلالةٌ على أنَّ من قرأ من السَّبْعَةِ» قُتِلَ «أو» قَاتَل مَعَهُ رِبِّيُّونَ «فإن» ربِّيُّونَ «مرفوعٌ في قراءته ب» قُتِل «أو» قَاتَل «وليس مرفوعاً بالابتداء، ولا بالظرف، الذي هو» مَعَه «.
قال أبو حيّان: «وليس بظاهر؛ لأن» كأين «مثل» كَمْ «وأنتَ خبيرٌ إذا قلتَ: كم من عانٍ فككته، فأفردت، راعيت لفظ» كم «ومعناها جمع، فإذا قلت: فككتهم، راعيت المعنى، وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير، والمراد به الجمع. فلا فرق من حيثُ المعنى - بين فككته وفككتهم، كذلك لا فرق بين قتل معه ربيون، وقتل معهم ربيون، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارةً، ومراعاة المعنى تارة؛ لأن مدلول» كم «و» كأين «كثير، والمعنى: جمع كثير، وإذا أخبرت عن جمع كثيرٍ فتارةً تفرد؛ مراعاةً للفظ، وتارة تجمع؛ مراعاة للمعنى، كما قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 44 و45] ، فقال:» مُنْتَصِر «وقال:» وَيُوَلُّونَ «فأفرد في» مُنْتَصِرٌ «وجمع في» يُوَلُّونَ «.
ورجح بعضهم قراءة» قَاتَلَ «لقوله - بعد ذلك -: {فَمَا وَهَنُواْ} قال: وإذا قتلوا، فكيف يوصفون بذلك؟ إنما يوصف بهذا الأحياء؟(5/585)
والجوابُ: أن معناه: قتل بعضهم، كما تقول: قُتِلَ بنو فلانٍ في وقعة كذا، ثم انصرفوا.
وقال ابن عطية: قراءة من قَرَأ» قَاتَلَ «أعم في المدْحِ؛ لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي، ويحسن عندي - على هذه القراءة - إسنادُ الفعل إلى الربيين، وعلى قراءة: قتل - إسناده إلى» نبي «.
قال أبو حيّان:» قتل «يظهر أنها مدح، وهي أبلغ في مقصود الخطاب؛ لأنها نَصٌّ في وقوع القتل، ويستلزم المقاتلة. و» قَاتَل «لا تدلُّ على القتل؛ إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل؛ فقد تكون مقاتلة ولا يقع قتل.
قوله: {مِّن نَّبِيٍّ} تمييز ل» كَأيِّنْ «لأنها مثل» كم «الخبرية.
وزعم بعضهم أنه يلزم جره ب» من «ولهذا لم يجئ في التنزيل إلا كذلك، وهذا هو الأكثرُ الغالب. قال وقد جاء تمييزُها منصوباً، قال الشاعرُ: [الخفيف]
1652 - أطْرُدِ الْيَأسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِن ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وقال آخر: [الطويل]
1653 - فَكَائِنْ لَنَا فَضْلاً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً ... قَدِيماً، وَلاَ تَدْرُونَ مَا مَنُّ مُنْعِمِ
وأما جره فممتنع؛ لأن آخرَها تنوين، وهو لا يثبت مع الإضافة.
و» ربيون «: جمع رِبِّيّ، وهو العالم، منسوب إلى الرَّبّ، وإنما كُسِرت راؤه؛ تغييراً في النسب، نحو: إمْسِيّ - في النسبة إلى أمس - وقيل: كُسِر للإتباع.
وقيل: لا تغيير فيه، وهو منسوب إلى الرُّبة - وهي الجماعة - وقرأ الجمهور بكسر الرَّاءِ، وقرأ عليّ، وابنُ مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، والحسنُ» رُبِّيُّونَ «- بضم الراء - وهو من تغيير النسبِ، إذا قلنا: هو منسوب إلى الربِّ، وقيل: لا تغيير، وهو منسوب إلى الربة، وهي الجماعة.
قال القرطبيُّ «واحدهم ربِّيّ - بكسر الراء وضمها» .
وقرأ ابنُ عباسٍ - في رواية قتادة - رَبِّيُّونَ، بفتحها على الأصل، إن قلنا:(5/586)
منسوب إلى الرَّبِّ، وإلا فمن تغيير النسب، إن قلنا: إنه منسوب إلى الربة.
قال ابن جني: والفتح لغة تميم.
وقال النقاشُ: «هم المكثرون العلم» من قولهم: رَبَ الشيء يربو - إذا كَثر - وهذا سَهْوٌ منه؛ لاختلاف المادتين؛ لأن تلك من راء وياء وواو، وهذه من راء وباء مكررة. قال ابن عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادةُ: الجماعات الكثيرة وقال ابنُ مسعودٍ: والربيون: الألوف.
وقال الكلبيّ: الرِّبِّيَّة الواحدة: عشرة آلاف.
وقال الضَّحَّاك: الرَّبِّيَّة الواحدة ألف، وقال الحسنُ: رِبِّيُّون: فُقَهاء وعُلَماء.
وقيل: هم الأتباع، فالربانيون: الولاة، والربانيون: الرعية. وحكى الواحديُّ - عن الفرّاءِ - الربانيون: الألوف.
قوله: «كَثِيرٌ» صفة لِ «رِبِّيُّونَ وإن كان بلفظ الإفرادِ؛ لأن معناه الجمع.
فصل
معنى الآية - على القراءة الأولى - أن كثيراً من الأنبياء قُتِلوا، والذين بَقُوا بعدهم ما وَهَنوا في دينهم، بل استمرُّوا على نُصْرَة دِينهم [وقتال] عدوِّهم، فينبغي أن يكون حالُكُم - يا أمة محمدٍ - هكذا.(5/587)
قال القفالُ: والوقف - في هذا التأويل - على قوله:» قُتِل «وقوله {مَعَهُ رِبيُّونَ كَثِيرٌ} حال، بمعى: قُتِل حال ما كان معه ربيون كثير. أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي: وكأين من نبي معه ربيون كثيرٌ، فما وهن الربيون على كثرتهم.
وقيل: المعنى: وكأين من نبي قُتِل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثيرٌ، فما ضَعُفَ الباقون، ولا استكانوا؛ لقَتْل من قُتِل من إخوانهم، بل مضوا على جهاد عدوهم، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك.
وحُجَّة هذه القراءة أنّ المقصودَ من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياءِ؛ لتقتدي هذه الأمة بهم. والمعنى على القراءة الثانية -: وكم من نبي قاتل معه العددُ الكثيرُ من أصحابه، فأصابهم من عدوهم قروح، فما وَهَنُوا؛ لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل اللهِ وطاعته، وإقامة دينه، ونصرة رسوله، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمةَ مُحَمدٍ.
وحجة هذه القراءة: أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في القتال، فوجب أن يكون المذكورُ هو القتال، وأيضاً رُوِي عن سعيد بن جبيرٍ أنه قال: ما سمعنا بنبي قُتِل في القتال. قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} الضمير في» وَهَنُوا «يعود على الربِّيِّين بجُمْلتهم، إن كان قُتِل مسنداً إلى ضمير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذا في قراءة» قَاتَلَ «سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي، أو إلى الربِّيين، فالضمير يعود على بعضهم وقد تقدم ذلك عند ترجيح قراءة» قاتل «.
والجمهورُ على «وَهَنُوا» - بفتح الهاء - والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرها، وهما لغتانِ: وَهَنَ يَهِنُ - كَوَعَدَ يَعِدُ - وَوَهَنَ يَوْهَنُ - كوَجَلَ يَوْجَلُ - وروي عن أبي السَّمَّال - أيضاً - وعِكْرمة: وهْنوا - بسكون الهاء - وهو من تخفيف فَعَل؛ لأنه حرف حلق، نحو نعم وشَهْد - في نَعِم وشَهِد -.
قال القرطبيُّ: - عن أبي زيد -: «وَهِنَ الشيء يَهِنُ وَهْناً، وأوْهنته أنا ووهَّنْتُه: ضعَّفته، والواهنة: أسفل الأضلاع وقصارَاها، والوَهْن من الإبل: الكثيف، والوَهْن: ساعة تمضي من الليل، وكذلك المَوْهِن، وأوهَنَّا: صِرْنا في تلك الساعة» .
و {لِمَآ أَصَابَهُمْ} متعلق ب «وَهَنُوا» و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، أو مصدرية، أو نكرة موصوفة.
وقرأ الجمهور {وَمَا ضَعُفُواْ} - بضم العين - وقرئ: ضَعَفُوا - بفتحها - وحكاها الكسائي لغة.(5/588)
قوله: {وَمَا اسْتَكَانُواْ} فيه ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدها: أنه «استفعل» من الكَوْن - والكَوْن: الذُّلّ - وأصله: استكون، فنُقِلَتْ حركة الواو على الكافِ، ثم قُلِبَت الواو ألفاً.
وقال الأزهريُّ وأبو علي: هو من قول العربِ: بَاتَ فُلان بكَيْنَةِ سوء - على وزن جَفْنَة - أي: بحالة سوء، فألفه - على هذا من ياء، والأصل: استكْيَن، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها. [وهو القول الثاني] .
الثالث: قال الفرّاء: وزنة «افتعل» من السكون، وإنما أُشْبِعَت الفتحة، فتولَّد منها ألف.
كقول الشاعر: [الرجز]
1654 - أعُوذُ باللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ ... الشَّائِلاَتِ عُقَدِ الأذْنَابِ
يريد: العقرب الشائلة.
ورُدَّ على الفرّاء بأن هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمةِ، نحو: استكان، يستكين، فهو مستكينٌ ومُستكان إليه استكانةً. وبأنَّ الإشباعَ لا يكون إلا في ضرورةٍ.
وكلاهما لا يلزمه؛ أما الإشباع فواقع في القراءات - السبع - كما سيأتي -.
وأما ثبوت الألف في تصاريف الكلمةِ فلا يدلُّ - أيضاً - لأن الزائدَ قد يَلْزَم؛ ألا ترى أنَّ الميم - في تَمَنْدَل وتَمَدْرَع - زائدة، ومع ذلك ثابتة في جميع تصاريفِ الكلمة، قالوا: تَمَنْدَلَ، يَتَمَنْدَلُ، تَمَنْدُلاً، فهو مُتَمَنْدِل، ومُتَمَنْدَل به. وكذلك تَمَدْرَع، وهما من الندل والدرع.
وعبارة أبي البقاءِ أحسن في الرَّدِّ؛ فإنه قال: «لأن الكلمة ثبتت عينها في جميع تصاريفها تقول: استكان، يستكين، استكانة، فهو مستكين، ومُسْتكان له والإشباع لا يكون على هذا الحد» .
ولم يذكر متعلق الاستكانة والضعف - فلم يَقُلْ: فما ضَعُفُوا عن كذا، وما استكانوا لكذا - للعلم، أو للاقتصار على الفعلين - نحو {كُلُواْ واشربوا} [الحاقة: 24] ليعم كُلَّ ما يصلح لهما.
وقال الزمخشري: ما وَهَنُوا عند قَتْل النبيّ.(5/589)
وقيل: ما وَهَنُوا لقتل من قتل منهم.
فصل
المعنى: ما جَبُنُوا لما أصابهم في سبيل اللهِ، وما ضَعُفُوا عن الجهادِ بما نالهم من الجراح، وما استكانوا للعدو.
وقال مقاتلٌ: وما استسْلَموا، وما خضعوا لعدوهم.
وقال السُّدِّيُّ: وما ذلوا. وهذا تعريض بما أصابهم من الْوَهَنِ، والانكسار عند الإرجاف بقَتْل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين، واستكانتهم للكافرين، حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافقِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبَيٍّ؛ ليطلب لهم الأمان من أبي سفيان.
ويحتمل - أيضاً - أن يُفَسَّر الوهن باستيلاء الخوفِ عليهم، ويُفَسَّر الضعف بأن يضعف إيمانُهم، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم، والاستكانة: هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم.
ثم قال: {والله يُحِبُّ الصابرين} أي: مَنْ صَبَر على تحمُّل الشدائدِ في طريق اللهِ ولم يُظْهِر الجزعَ والعجزَ والهلع؛ فإنَّ اللهَ يحبه. ومحبة الله - تعالى - للعبد عباة عن إرادة إكرامه وإعزازه وتعظيمه، والحكم له بالثواب والجنة.(5/590)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
الجمهور على نصب {قَوْلِهِمْ} خبراً مقدَّماً، والاسم «أنْ» وما في حيزها، تقديره: وما كان قولهم [إلا هذا الدعاء، أي: هو دأبهم وديدنهم] .
وقرأ ابن كثيرٍ وعاصم - في رواية عنهما - برفع «قولُهم» على أنه اسم «كان» والخبر «أن» وما في حيزها. وقراءة الجمهور أوْلَى؛ لأنه إذا اجتمع معرفتانِ فالأولى أن تَجْعَل الأعرف اسماً، و «أن» وما في حيزها أعْر أعْرَف؛ قالوا: لأنها تُشْبِه المُضْمَر من حيثُ إنها لا تُضْمَر، ولا تُوصَف، ولا يُوصَف بها، و «قولهم» مضافٌ لمُضْمَرٍ، فَهُوَ في رُتْبَةِ العَلَمِ، فهو أقلُّ تعريفاً.(5/590)
ورَجَّحَ أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين:
أحدهما: هذا، والآخر: أن ما بعد «إلاَّ» مُثبَت، والمعنى: كان قولَهُمْ: ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا دَأبَهم في الدعاء، وهو حَسَنٌ.
والمعنى: وما كان قولهم شيئاً من الأقوالِ إلا هذا القول الخاصّ.
فصل
معنى الآية: وما كان قولهم عند قَتْل نبيِّهم إلا أن قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذنوبنَا، والغرض مِنْهُ تحريضُ هذه الأمة بالاقتداء بهم.
قال القاضي: إنما قدموا طلب المغفرة للذنوب والإسراف؛ لأنه - تعالى - لما ضَمِن النُّصرةَ للمؤمنين، فإذا لم تحصل النصرة، وظهر أمارات استيلاء العدو، دلَّ ذلك ظاهراً - على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين، فلهذا المعنى يجب عليهم تقديمَ التوبةِ والاستغفارِ على طلب النُّصْرَة، فبيَّن - تعالى - أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي، فقالوا: {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} أي: الصغائر {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} أي: الكبائر؛ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه؛ قال تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] وقال {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} [الإسراء: 33] وقال: {وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأعراف: 31] ويقال: فلان مُسْرِف - إذا كان مكثراً في النفقة.
قوله: {في أَمْرِنَا} يَجُوز فيه وجهانِ:
الأول: أنه متعلق بالمصدر قبله، يقال: أسرفتُ في كذا.
الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حَالٌ منه، أي: حال كونه مستقراً في أمرنا. والأول أوجهُ. ثم سألوا - بعد ذلك - أن يثبت أقدامهم، وذلك بإزالة الخوفِ عن قلوبهم، وهذا يدلُّ على أن فعل العبد مخلوقٌ للهِ، والمعتزلة يحملونه على الألطاف. ثم سألوا أن ينصرهم على القوم الكافرين، وهذه النصرة لا بد فيها من أمر زائدٍ على ثبات أقدامهم.
قال القاضي: وهذا تأديبٌ من الله - تعالى - في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمِحَن، سواء كان في الجهادِ أو غيره.
قوله: «فآتاهم الله» يقتضي أن اللهَ - تَعَالَى - أعطاهم [الأمْرَين] أما ثوابُ الدُّنْيَا فَهُوَ: النصرة والغنيمة، وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدرِ بنور الإيمان، وأما ثوابُ الآخرة فلا شك أنه ثواب الجنة.
وقرأ الجَحْدَرِيُّ فأثابهم - من لفظ الثواب - وخَصَّ - تعالى - ثواب الآخرة(5/591)
بالحُسْنِ؛ تنبيهاً على جلالةِ ثوابِهِم، وذلك لأنّ ثوابَ الآخرةِ كُلَّه في غاية الحُسْنِ.
ويجوز أن يُحْمَل قوله: «فآتاهم» على أنه سيؤتيهم، كقوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] أي: سيأتي أمرُ اللهِ.
قيل: ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداءِ - وقد أخبرَ - تَعَالَى - عن بعضهم أنهم أحياءٌ، عند ربِّهِم يرزقونَ - فيكون حالُ هؤلاء - أيضاً - كذلك.
فصل
قال فيما تقدم: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] فأتى بلفظ «من» الدالة على التبعيض، وقال هنا: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} ولم يذكر كلمة «من» لأن الذين يُريدون ثوابَ الآخرةِ إنما اشتغلوا بالعبادة لطلب الثوابِ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلةً عن مرتبة هؤلاء؛ لأنهم لم يذكروا من أنفسهم إلا الذنبَ والتقصيرَ، ولم يذكروا التدبيرَ والنصرةَ والإعانة إلا من ربّهم، فكان مقامهم في العبودية في غاية الكمالِ؛ لأنَّهم أرادوا خدمة مولاهم، وأما أولئك فإنما أرادوا الثواب.(5/592)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
لما أمر اللهُ تَعَالَى بالاقتداء بأنصار الأنبياءِ حذَّر عن طاعة الكفار - يعني مشركي العرب - وذلك أنّ الكفار لما أرجفوا بقولهم إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قُتِل ودعا المنافقونَ بعضَ ضَعَفَةِ المُسْلِمِين، مَنَعَ المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين.
وقيل: المرادُ - بالذين كفروا - عبد الله بن أبي وأتباعه في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم، وقالوا: لو كان محمدٌ رسولَ اللهِ ما وقعت له هذه الواقعةُ، وإنما هو رجل كسائر الناسِ، يَوْمٌ لَهُ، وَيَومٌ عليه.
وقال آخرون: المراد - بالذين كفروا - اليهود الذين كانوا بالمدينة يُلْقُون الشُّبهَاتِ.
وقيل: المرادُ أبو سفيان؛ لأنه كان شجرة الفتن.
قال ابنُ الْخَطِيبِ: «والأقرب أنه يتناول كُلَّ الكفار؛ لأن اللفظ عامٌّ، وخصوص السببِ لا يمنع من عموم اللفظِ» .
قوله: {يَرُدُّوكُم} جواب {إِن تُطِيعُواْ} وقوله: {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} لا يُمْكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه، بل لا بُدَّ من التخصيصِ.(5/592)
وقيل: إن تطيعوهم فيما يأمرونكم به يوم أحُدٍ من ترك الإسلامِ.
وقيل: إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم به من الضلال.
وقيل في المشورة. وقيل في تَرْك المحاربة، وهو قوله: {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 156] ثم قال: {يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ} يعني يردوكم إلى الكُفْر بعد الإيمان؛ لأن قبولَهُم في الدعوة إلى الكفر، ثم قال: {فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} فلما كان اللفظ عاماً دخل فيه خُسران الدنيا وخُسْران الآخرة.
أما خسران الدنيا فلان أشَقَّ الأشياء على العُقلاء في الدنيا الانقياد إلى العَدُوِّ، وإظهار الحاجة إليه. وأما خُسْران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبَّد، والوقوع في العقاب المخلَّد و «خَاسِرِينَ» حالٌ.
قوله: {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ} مبتدأ وخبر، وقرأ الحسنُ بنصب الجلالةِ؛ على إضمار فِعْل يدل عليه الشرط الأول، والتقدير: لا تطيعوا الذين كفروا، بل أطيعوا الله، و «مَوْلاَكُمْ» صفة.
وقال مَكِّي: «وأجاز الفرَّاء: بل الله - بالنصب -» كأنه لم يطلع على أنها قراءة.
فصل
والمعنى: أنكم إن تطيعوا الكفار لينصروكم ويُعينوكم فهذا جَهْل، لأنهم عاجزون متحيرون، والعاقل يطلب النُّصْرَةَ من الله تعالى؛ لأنه هو الذي ينصركم على العَدُوِّ، ثم بيَّن أنه خير الناصرين، وذلك لوجوهٍ:
أولها: أنه - تعالى - هو القادرُ على نصرتك في كلِّ ما تريدُ والعالم الذي لا يَخْفَى عليه دعاؤك وتضرُّعك، والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه.
ثانيها: أنه ينصرك في الدُّنْيَا والآخرة، وغيره ليس كذلك.
ثالثها: أنه ينصرك قبل سُؤالك ومعرفتك بالحاجة، كما قال:
{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار} [الأنبياء: 42] وغيره ليس كذلك.
واعلم أن ظاهر قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصِرِينَ، وهو منزَّه، عن ذلك، وإنما ورد الكلامُ على حسب تعارفهم، كقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}(5/593)
قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} هذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ.
قوله: {سَنُلْقِي} الجمهور بنون العظمة، وهو التفات من الغيبة - في قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه - تعالى -.
وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ «سَيُلْقِي» بالغيبة؛ جَرْياً على الأصل. وقدم المجرور على المفعول به؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال: والإلقاء - هنا - مجاز؛ لأن أصلَه في الأجرام، فاستُعِيرَ هنا، كقول الشَّاعر: [الطويل]
1655 - هُمَا نَفَثَا فِي فِيء مِنْ فَمَويْهِمَا ... عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ
وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: «الرُّعْب» و «رُعْباً» - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل: هما لغتان.
وقيل: الأصل الضم، وخُفِّف، وهذا قياس مطردٌ.
وقيل: الأصلُ السكون، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ.
والرُّعْب: الخوف، يقال: رعيته، فهو مرعوب، وأصله من الامتلاء، يقال: رَعَبْتُ الحوض، أي: ملأته وسَيْل راعب، أي: ملأ الوادي.
فصل
قيل: هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أحُد؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة. والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعبِ في قلوب المشركين وجهين:
الأول: أن الكفارَ لما هزموا المسلمين أوقع اللهُ الرعب في قلوبهم، فتركوهم، وفرّوا منهم من غير سبب، حتى رُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجبل، وقال: أين ابنُ أبي كبشةَ؟ أين ابن أبي قُحافةَ؟ أين ابن الخطابِ؟ فأجابه عمر، ودارت بينهم كلماتٌ، وما(5/594)
تجاسَر أبو سفيان على النزول من الجبل، والذهاب إليهم.
والثاني: أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة - وكانوا في بعض الطريقِ - ندموا، وقالوا: ما صنعنا شيئاً، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية، فلما عزموا على ذلك القى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم.
وقيل: إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد، بل هو عام.
قال القفالُ: كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في ويم أُحُدٍ، إلا أنّ اللهَ تعالى - سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان، وقد فعل الله ذلك، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل. ونظير هذه الآية قوله: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» .
فصل
قال بعض العلماءِ: إن هذا العموم على ظاهره، لأنه لا أحد يخالف دينَ الإسلام إلا في قلبه ضَرْب من الرُّعْب، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرُّعب في قلوب الكافرين، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوهِ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أن مخصوص بأوائل الكفار.
قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] متعلق بالإلقاء، وكذلك {بِمَآ أَشْرَكُواْ} ولا يضر تعلُّق الحرفين؛ لاختلاف معناهما، فإن «في» للظرفية؛ الباء للسببية. و «ما» مصدرية، و «ما» الثانية مفعول به لِ «أشْرَكُوا» وهي موصولة بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والراجع: الهاء في «به» ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي: الحجة - كأنه قيل: لا سُلطان على الإشراك فينزل.
كقول الشاعر: [السريع]
1656 - ... ... ... ... ... . ... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أي لا ينجحر الضَّبُّ بها، فيُرَى.
ومثله قول الشاعر: [الطويل]
1657 - عَلَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ..... ... ... ... ... . .
أي: لا منار فيهتدى به، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً. و «سُلْطَاناً» مفعول به لِ «يُنَزِّلُ» .(5/595)
قوله: {بِمَآ أَشْرَكُواْ} «ما» مصدرية، والمعنى: بسبب إشراكهم باللهِ، وتقريره: أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار، كقوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار؛ لأنه يقول: إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني، فالآخر ينصرني، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الأجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ.
قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} السُّلْطَان - هنا -: الحجة والبرهان، وفي اشتقاقه وجوهٌ:
فقيل: من سليط السراج الذي يوقَد به، شُبِّه لإنارته ووضوحه. قاله الزجاجُ.
وقال ابن دُرَيْدٍ: من السلاطة، وهي الحِدَّة والقَهْر.
وقال الليثُ: السلطان: القدرة؛ لأن أصل بنائه من التسليط، فسلطان الملكِ: قوته وقدرته، ويسمى البرهان سُلْطَاناً، لقوته على دَفْعِ الباطِلِ.
فإن قيل: إن هذا الكلامَ يوهم أنّ فيه سلطاناً إلا أنَّ اللهَ - تعالى - ما أنزله؟
فالجوابُ: أن تقدير الكلامِ أنه لو كان لأنزل الله به سلطاناً، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه.
وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون: إن هذا لا دليلَ عليه، فلم يَجُزْ إثباتُه. وبالغ بعضهم، فقال: لا دليلَ عليه، فيجب نَفْيُه.
فصل
استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد؛ لأن الآيةَ دلَّت على أنَّ الشِّركَ لا دليلَ عليه، فوجب أن يكونَ القولُ به باطلاً، فكذلك كل قولٍ لا دليلَ عليه.
وقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النار} بين تعالى أنَّ أحوالَ المشركين في الدنيا هو وقوع الخوفِ في قلوبِهِم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم: مسكنهم النار.
قوله: {وَبِئْسَ مثوى الظالمين} المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: مثواهم، أو النار.
المثوى: مَفْعَل، من ثَوَيْتُ - أي: أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي، ثم يئوي، ولا يلزم المأوى الإقامة، بخلاف عكسه.(5/596)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
صَدَقَ يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، والآخر بالحرفِ، وقد يُحْذَف، كهذه الآية.
والتقدير: صدقكم في وعده، كقولهم: صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} معمول لِ «صَدَقَكُمْ» أي: صدقكم في ذلك الوقتِ، وهو وقتُ حَسِّهِم، أي: قَتْلهم.
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله: «وَعْدَه» - وفيه نظرٌ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت.
يقال: حَسَسْتُه، أحَسُّه، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير: تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي: أذهبتم حِسَّهم بالقتل.
قال أبو عبيدةَ، والزَّجَّاجُ: الحَسُّ: الاستئصال بالقَتْل.
قال الشاعر: [الطويل]
1658 - حَسَنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وقال جرير: [الوافر]
1659 - تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ
ويقال: جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت: - أي: محرقة له، ذاهبته. وسنة حَسُوسٌ: أي: جدبة، تأكل كلَّ شيءٍ.
قال رؤية: [الرجز]
1660 - إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا ... تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا
وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة -.
قال أبو عبيدٍ: الحَسُّ: الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل، كما يقال: بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه، وَرَأسَهُ، إذا أصاب رأسه.
و «بإذْنِهِ» متعلق بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل «تَحُسُّونَهُمْ» ، أي: تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك.
قال القرطبيُّ: «ومعنى قوله:» بإذْنه «أي: بعلمه، أو بقضائه وأمره» .(5/597)
فصل
وجه النظم: قال محمدُ بن كَعْب القُرَظيّ: لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابُه إلى المدينة من أحدٍ - وقد أصابهم ما أصابهم - قال ناسٌ من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا اللهُ بالنصرِ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآية؛ لأنَّ النصرَ كان للمسلمين في الابتداءِ.
وقيل: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى في المنام أنه يذبح كَبْشاً، فَصَدَقَ اللهُ رُؤيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بن عثمان - صاحب لواء المشركين يوم أُحُدٍ - وقُتِل بعده تسعةُ نفر على اللواء، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} يريد: تصديق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى: {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ} [آل عمران: 125] إلا أن هذا مشروطاً بشرط الصبرِ والتقوى.
وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [آل عمران: 151] .
وقيل: الوعد هو قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للرُّماة: لا تبرحوا عن هذا المكانَ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دُمْتم في هذا المكان.
قال أبو مسلم: لما وعَدهم اللهُ - تعالى - في الآية المتقدمة - بإلقاء الرعب في قلوب الكفارِ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعدِ بالصبر في واقعة أُحُدٍ، فإنه لما وعدهم بالنصر - بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتَوْا بذلك الشرطِ، وفى الله تعالى لهم بالمشروطِ.
فصل
وقد تقدم في قصة أُحُد - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جعل أُحُداً خَلْفَ ظَهْره، واستقبل المدينة، وأقام الرماةَ عند الجبلِ، وأمرهم أن يثبتوا هناك، ولا يبرحوا - سواء كانت النُّصْرَة للمسلمين أو عليهم - فلما أقبل المشركونَ جعل الرُّمَاة يَرْشُقُون خيلها، والباقون يضربونهم بالسيوفِ، حتّى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يحسونهم، أي: يقتلونهم قتلاً كثيراً.
وقوله: {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} في «حَتَّى» قولان:
أحدهما: أنها حرف جر بمعنى «إلى» وفي متعلقها - حينئذ - ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها متعلقة ب «تَحسُّونَهُمْ» اي: تقتلونهم إلى هذا الوقت.
الثاني: أنها متعلقة ب «صَدَقَكُمْ» وهو ظاهر قول الزمخشريّ، قال: «ويجوز أن يكونَ المعنى: صدقكم اللهُ وَعْدَه إلى وقت فَشَلِكم» .(5/598)
الثالث: أنّها متعلقة بمحذوف، دَلَّ عليه السياقُ.
قال أبو البقاء: «تقديره: دام لكم ذلك إلى وقتِ فَشَلِكُم» .
القول الثاني: أنَّها حرف ابتداءٍ داخلة على الجملة الشرطية، و «إذَا» على بابها - من كونها شرطية - وفي جوابها - حينئذٍ - ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: قال الفرّاء: جوابها «وَتَنَازَعْتُمْ» وتكون الواو زائدة، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103 - 104] والمعنى ناديناه، كذا - هنا - الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان، فكأنَّ التقدير: حتى إذا فَشِلْتُم، وتنازعتم في الأمر عصيتم.
قال: ومذهب العرب إدخال الواو في جواب «حَتَّى» كقوله: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} {الزمر: 73] فإن قيل: قوله: {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ} معصية، فلو جعلنا الفشل والتنازُع علةً للمعصية لزم كونُ الشيء علةً لنفسه، وذلك فاسدٌ.
فالجواب: أن المراد من العصيان - هنا - خروجهم عن ذلك المكانِ، فلم يلزم تعليلُ الشيء بنفسه. ولم يَقْبَل البصريون هذا الجوابَ؛ لأن مذهَبهمْ أنه لا يجوزُ جَعْلَ الواو زائدة.
قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} و «ثم» زائدة.
قال أبو علي: ويجوز أن يكون الجواب {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} و «ثُمَّ» زائدة، والتقدير: حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم. وقد أنشد بعضُ النحويين في زيادتها قول الشاعر: [الطويل]
161 - أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا
وجوز الأخفشُ أن تكون زائدةً في قوله تعالى: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118] وهذان القولان ضعيفانِ جداً.
والثالث - وهو الصحيحُ - أنه محذوف، واختلفت عبارتهم في تقديره، فقدَّرَه ابنُ عطيةَ: انهزمتم وقدَّره الزمخشريُّ: منعكم نصرَه.
وقدَّره ابو البقاء: بأن أمركم. ودلّ على ذلك قوله تعالى: {مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} [آل عمران: 152] .
وقدره غيره: امتحنتم.
وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديره: حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم.
وقدَّره أبو حيان: انقسمتم إلى قسمَيْن، ويدلُّ عليه ما بعده، وهو نظيرُ قوله: {فَلَمَّا(5/599)
نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: 32] قال أبو حيان: لا يقال: كيف يقالُ: انقسمتم إلى مريدِ الدُّنْيَا، وإلى مريدِ الآخرةِ فيمن فشل وتنازع وعصى؛ لأن هذه الأفعالَ لم تصدر من كُلِّهم، بل من بعضِهِمْ.
واختلفوا في «إذا» - هذه - هل هي على بابها أم بمعنى «إذْ» ؟ والصحيح الأول، سواء قلنا إنها شرطية أم لا.
فصل
الفشلُ: هو الضعف.
وقيل: الفشل: الجُبْن، وليس بصحيح؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} [الأنفال: 46] أي: فتضعفوا، ولا يليق أن يكونَ المعنى فتجبنوا.
والمراد من التنازُع اختلاف الرُّماةِ حين انهزم المشركون، فقال بعضُهم لبعض: انهزم القومُ، فما مقامنا؟ وأقبلوا على الغنيمة.
وقال بعضهم: لا نتجاوز أمر رسولِ اللهِ وثبت عبد الله بن جبير في نَفَرٍ يسير من أصحابه دون العَشَرة - فلما رآهم خالد بن الوليد وعكرمةُ بن أبي جهلٍ حملوا على الرُّمَاة فقتلوهم، وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريحُ، فصارت دبوراً بعد أن كانت صَباً، وانتقضت صفوف المسلمين، واختلطوا فجعلوا يقتتلون على غير شِعَارٍ، يَضْرِبُ بعضهم بعضاً ما يَشْعرون من الدهش، ونادى إبليسُ: إن محمداً قد قُتِل، فكان ذلك سبب هزيمة المسلمينَ.
قوله: {وَعَصَيْتُمْ} يعني: أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اي خالفتم أمره بملازمة ذلك المكان {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} من الظفر والغنيمة.
فإن قيل: لِمَ قدم ذِكْرَ الفشل على التنازع والمعصية؟
فالجوابُ: أن القوم لما رأوا هزيمة الكفارِ، وطمعوا في الغنيمة، فشلوا في أنفسهم عن الثبات، طمعاً من الغنيمةِ، ثم تنازعوا - بطريق القولِ في أنَّا هل نذهب لطلب الغنيمة، أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة.
فإن قيل: إنما عصى البعض بمفارقة ذلك المكانِ، فلِمَ جاء العقابُ عاماً؟
فالجوابُ: أنَّ اللفظَ - وإن كان عاماً - قد جاء المخصِّص بعده، وهو قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} .(5/600)
قوله: {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} المقصودُ منه التنبيهُ على عِظَمِ المعصية؛ لأنهم لمَّا شاهدوا أن الله - تعالى - أكرمهم بإنجاز الوَعْد كان من حَقِّهم أن يمتنعوا عن المعصية. فلما أقدموا عليها، سلبهم اللهُ ذلك الإكرام، وأذاقهم وبالَ أمْرِهم.
قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} يعني: الذين تركوا المركز، وأقبلوا على النهبِ {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} يعني: الذين ثبتوا مع عبد الله بن جُبَيْرٍ، حتى قُتِلوا. قال عبدُ الله بن مسعودٍ: وما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد الدنيا، حتى كان يومُ أحدٍ، ونزلت هذه الآية.
قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} عطفٌ على ما قبله، والجملتان من قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} اعتراض بين المتعاطفين، وقال أبو البقاء: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} معطوف على الفعل المحذوف.
يعني الذي قدره جواباً للشرط، ولا حاجة إليه، و «لِيَبْتَلِيَكُمْ» متعلق ب «صَرَفَكُمْ» و «أن» مضمرة بعد اللام.
فصل
اختلفوا في تفسير هذه الآية؛ وذلك لأن صَرْفَهم عن الكفار معصية، فكيف أضافه إلى نفسه؟ فقال جمهورُ المفسّرينَ: الخيرُ والشر بإرادة اللهِ تَعَالَى وتخليقه، ومعنى هذا الصَّرْفِ أنَّ اللهَ تعالى رَدَّ المسلمينَ عن الكفارِ وألقى الهزيمةَ عليهم، وسلَّط الكفارَ عليهم.
وقالت المعتزلةُ: هذا التأويل غير جائز؛ للقرآن والعقل، أم القرآنُ فقوله تعالى: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} [آل عمران: 155] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يُضيفه بعد هذا إلى نفسه؟
وأما المعقولُ فإن اللهَ تعالى عاتَبَهم على ذلك الانصراف، ولو كان ذلك بفعل اللهِ لم تَجزْ مُعَاتَبَتَهُم عليه، كما لا يجوز معاتبتهم على طُولِهِمْ وقِسَرِهم، ثم ذكروا وجوهاً من التأويل:
أحدها: قال الجبائيُّ: إنَّ الرُّماةَ افترقوا فِرْقَتَيْن، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم، وبعضهم بقي هناك، فالذين بَقُوا أحاط بهم العَدُوُّ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدُوُّ من غير فائدةٍ أصْلاً، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو - كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه - ولم يكونوا عُصَاةً بذلك، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافه إلى نفسه، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه، ثم قال: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} والمرادُ: أنه - تعالى - لما صرفهم إلى ذلك(5/601)
المكانِ، وتحصَّنُوا به، أمرهم - هناك - بالجهادِ، والذَّبِّ عن بقية المسلمينَ، ولا شك أن الإقدامَ على الجهادِ بعد الانهزامِ، وبعد أن شاهدوا قَتْل أقاربهم وأحِبَّائهم من أعظم أنواع الابتلاء.
فإن قيل: فعلى هذا التأويل، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مُذْنِبِين، فلم قال: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} .
قلنا: الآية مشتملة على ذِكْر مَنْ كان معذوراً في الانصرافِ، ومَنْ لم يكن معذوراً، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة، فقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} راجعٌ إلى المعذورينَ؛ لأنَّ الآية لما اشتملتْ على قسمينِ، وعلى حُكمين، رَجَعَ كلُّ حكم إلى القسم الذي يليق به، ونظيره: {ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] والمرادُ الذي قال له: لا تحزن إن اللهَ مَعَنَا - وهو أبو بكر - لأنه كان خائفاً قبل هذا القولِ، فلما سَمِعَ هذا القولَ سَكَنَ، ثم قال: «وَأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا» وعنى بذلك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أبي بكرٍ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعاً، هذا قول الجبائي.
الثاني: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني: وهو أنَّ المرادَ من قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أنه - تعالى - أزال ما كان في قلوب الكفارِ من الرُّعْبِ من المسلمينَ؛ عقوبةً منه على عصيانهم وفَشَلِهم، ثم قال: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: ليجعل ذلك الصَّرْف محنةً عليكم؛ لتتوبوا إلى اللهِ، وترجعوا إليه، وتستغفروه من مخالفة أمرِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومَيْلكم إلى الغنيمةِ، ثم أعلمهم أنهُ - تعالى - قد عفا عَنْهُم.
الثالثُ: قال الكَعْبي: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} بأ، لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم {لِيَبْتَلِيَكُمْ} بكثرة الإنعام عليكم.
قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} ظاهره يقتضي تقدُّم ذَنْب منهم.
قال القاضي إنْ كان ذلك الذنبُ من الصغائر صحَّ أن يصف نفسه بأنّه عفا عنهم من غير توبة، فإن كان من الكبائرِ، فلا بد من إضمار توبتهم؛ [الإقامة] الدلالةِ على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرةِ.
وأجيب بأنَّ هذا الذنبَ لا شك أنه كان كبيرة، لأنهم خالفوا صريحَ نَصَّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمينَ، وقُتِلَ جَمْعٌ كبيرٌ من أكابرهم، ومن المعلوم أن ذلك كله من باب الكبائرِ.
وأيضاً ظاهر قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] يدل على كونه كبيرة، ويضعف قول من قال: إنه خاص في بَدْر؛ لأن اللفظَ عامٌّ، ولا تفاوت في المقصودِ، فكان(5/602)
التخصيصُ ممتنعاً، ثم إن ظاهرَ هذه الآية يدل على أنه - تعَالَى - عفا عنهم من غير توبةٍ؛ لأنه لم يذكر التوبة، فدلَّ على أنه - تعَالَى - قد يعفو عن أصحاب الكبائرِ، ثم قال: {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} وهو راجعٌ إلى ما تَقَدَّمَ من ذكر النعم؛ فإنه نصرهم - أولاً - ثم عفا عنهم - ثانياً - وهذا يدل على أن صَاحِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ.(5/603)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
العامل في «إذْ» قيل: مُضْمَر، أي: اذكروا.
وقال الزمخشريُّ: «صَرَفَكُمْ» أوْ «لِيَبْتَلِيَكُمْ» .
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون ظرفاً لِ «عَصَيْتُمْ» أوْ «تَنَازَعْتُمْ» أو فَشِلْتُمْ.
وقيل: هو ظرف لِ «عَفَا عَنْكُمْ» أي: عفا عنكم إذْ تُصْعِدُون هاربين.
وكل هذه الوجوهِ سائغةٌ، وكونه ظرفاً لِ «صَرَفَكُمْ» جيدٌ من جهةِ المعنى، ولِ «عَفَا» جيدٌ من جهة القُرْبِ، وعلى بعض هذه الأقوالِ تكون المسألةُ من باب التنازعِ، ويكون على إعمال الأخيرِ منها، لعدم الإضمارِ في الأول، ويكون التنازعُ في أكثرِ من عاملينِ.
والجمهور على {تُصْعِدُونَ} - بضم التاء وكسر العين - من: أصْعَدَ في الأرض، إذا ذهب فيها. والهمزةُ فيه للدخول، نحو أصبح زيدٌ، أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تدخلون في الصعود، ويُبيِّن ذلك قراءة أبيٍّ «تصعدون في الوادي» .
وقرأ الحسنُ، والسُّلمي، وقتادةُ: «تَصْعَدُونَ» بفتح التاء والعين - من: صعد في الجبل، أي: رقي، والجمع بين القراءتين أنهم - أولاً - أصعدوا في الوادي، ثم لما هزمهم العدو - صعدوا في الجبل، وهذا على رَأى مَنْ يُفَرِّق بين صعد وأصْعد، وقرأ أبو حَيْوَةَ: «تَصَعَّدُون» بالتشديد - وأصله: تَتَصَعَّدُونَ، حذفت إحدى التاءين، إما تاء المضارعة، أو تاء «تَفَعَّل» والجمع بين قراءتِهِ وقراءة غيره كما تقدم.
والجمهورُ {تُصْعِدُونَ} بتاء الخطاب، وابن مُحَيْصن - ويُرْوَى عن ابن كثيرٍ - بياء الغيبة، على الالتفاتِ، وهو حسنٌ.
ويجوز أن يعودَ الضمير على المؤمنين، أي: {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين إِذْ تُصْعِدُونَ} فالعاملُ في «إذْ» «فَضْلٍ» ويقال: أصْعَدَ: أبعد في الذهاب، قال القُتَبِيُّ أصعد:(5/603)
إذا أبْعَد في الذهاب، وأمعن فيه، فكأن الإصعادَ إبعادٌ في الأرض كإبعاد الارتفاعِ.
قال الشاعرُ: [الطويل]
1662 - ألاَ أيُّهَذَا السَّائِلِي، أيْنَ أصْعَدَتْ؟ ... فَإنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مِوْعِدا
وقال آخرُ: [الرجز]
1663 - قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ عَلَى الإضعَادِ ... فَالْيَوْمَ سُرِّحْتِ، وَصَاحَ الْحَادِي
وقال الفرَّاءُ وأبو حاتم: الإصعاد: في ابتداء السفر والمخارج، والصعود: مصدر صَعَدَ: رقي من سُفْلٍ إلى عُلُو، ففرَّق هؤلاء بين صَعَد وأصْعَد.
وقال المفضَّلُك صعد وأصعد بمعنًى واحدٍ، والصعيد: وجْهُ الأرضِ.
قال بعضُ المفسّرين: «وكلتا القراءتين صوابٌ، فقد كان يومئذ من المهزمين مُصْعِد وصاعد» .
قوله: {وَلاَ تَلْوُونَ} الجمهور على {تَلْوُونَ} - بواوين - وقُرِئَ بإبدال الأولى همزة؛ كراهية اجتماع واوين، وليس بقياسٍ؛ لكون الضمة عارضة، والواو المضمومة تُبْدَل همزة بشروط تقدمت في «البقرة» .
منها: ألا تكون الضمة عارضة، كهذه، وأن لا تكون مزيدة، نحو ترهوك.
وألا يمكن تخفيفها، نحو سُور ونور - جمع سوار ونوار - لأنه يمكن تبكينُها فتقول: سور ونور، فيخف اللفظ بها.
وألا يُدْغم فيها، نحو تعوَّذ - مصدر تعوذ.
ومعنى {وَلاَ تَلْوُونَ} ولا ترجعون، يقال: لَوَى به: ذهب به، ولَوَى عليه: عطف.
قَالَ الشاعرُ: [الطويل]
1664 - ... ... ... ... ... ... . ... أخُو الْجَهْدِ لا يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا
وأصله أن المعرِّجَ على الشيءِ يلوي عليه عنقه، أو عنان دابته، فإذا مضى - ولم(5/604)
يعرِّج - قيل: لن يلوي، ثم استعمل في ترك التعريجِ على الشيء وترك الالتفاتِ إليه، يقال: فلانٌ لا يلوي على كذا أي: لا يلتف إليه، وأصل {تَلْوُونَ} تلويون، فَأعِلَّ بحذفِ اللام، وقد تقدم في قوله: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} [آل عمران: 78] وقرأ الأعمشُ، وأبو بكر بنُ عَيَّاشٍ - ورويت عن عاصم «تُلوون» بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى.
وقرأ الحسن «تَلُون» بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى.
وقرأ الحسن «تَلُون» - بواو واحدة - وخرجوها على أنه أبدل الواو همزةً، ثم نقل حركة الهمزة على اللام، ثم حذف الهمزة، على القاعدة، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء - وهي اللام - وقال ابنُ عطيةَ: «وحذفت إحدى الواوين للساكنين، وكان قد تقدم أن هذه القراءة هي قراءة مركبةٌ على لغة من يهمز الواوَ، وينقل الحركة» .
وهذا عجيبٌ، بعد أن يجعلها من باب نقل حركةِ الهمزةِ، كيف يعودُ ويقول: حذفت إحدى الواوين للساكنين؟ ويُمكن تخريجُ هذه القراءة على وجعين آخرينِ:
أحدهما: أن يقالَ: استُثقلت الضمةُ على الواو؛ لأنها أختها، فكأنه اجتمع ثلاثُ واواتٍ، فنُقِلت الضمةُ إلى اللامِ، فالتقى ساكنانِ - الواو التي هي عينُ الكلمةِ، والواو التي هي ضميرٌ - فحُذفت الأولى؛ لالتقاء الساكنين، ولو قال ابن عطيةَ هكذا لكان أولى.
الثاني: أن يكون «تَلُونَ» مضارع وَلِي - من الولاية - وإنما عُدِّي ب «على» لأنه ضُمِّن معنى العطف. وقرأ حُميد بن قيس: «على أُحُدٍ» - بضمتين - يريد الجَبَل، والمعنى: ولا تلوون على مَنْ فِي جبل أُحُد، وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ابن عطية: والقراءة الشهيرة أقْوى؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن على الجبل إلا بعدما فَرَّ الناسُ عنه، وهذه الحالُ - من إصعادهم - إنما كانت وهو يدعوهم.
ومعنى الآيةِ: تعرجون، ولا يلتفت بعضٌ إلى بعضٍ.
قوله: «والرسول يدعوكم» ، مبتدأ وخبر في محل نصب على الحالِ، العامل فيها «تلوون» .
أي: والرسول يدعوكم في أخراكم ومن ورائكم، يقول: «إليَّ عِبَاد َالله؛ فأنا رسولُ اللهِ، من يكر فله الجنَّةُ» .
ويحتمل أنه كان يدعوكم إلى نفسه، حتى تجتمعوا عنده، ولا تتفرقوا. و «أخراهم» آخر الناس كما يقال في أولهم، ويقال: جاء فلانٌ في أخريات الناس.
قوله: {فَأَثَابَكُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على «تصعدون» و «تلوون» ، ولا يضر كونهما مضارعين؛(5/605)
لأنهما ماضيان في المعنى؛ لأن «إذ» المضافة إليهما صيرتهما ماضيين، فكأن المعنى إذا صعدتم، وألويتم.
الثاني: أنه معطوفٌ على «صرفكم» .
قال الزمخشريُّ {فَأَثَابَكُمْ} عطف على صرفكم، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان:
أحدهما: أنه الباري تعالى.
والثاني: أنه معطوف على «صرفكم» .
قال الزمخشريُّ {فَأَثَابَكُمْ} عطف على صرفكم، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان:
أحدهما: أنه الباري تعالى.
والثاني: أنه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: ويجوز أن يكون الضمير في {فَأَثَابَكُمْ} للرسول أي: فآساكم من الاغتمام، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة.
و «غماً» مفعول ثانٍ.
وقوله: {فَأَثَابَكُمْ} هل هو حقيقة أو مجاز فقيل: مجاز كأنه جعل الغم قائماً مقام الثواب الَّذِي كان يحصل لولا الفرارُ فهو كقوله: [الطويل]
1665 - أخَافُ زِيَاداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أدَاهِم سُوداً أوْ مُحَدْرَجَة سُمْرَا
وقول الآخر:
1666 - تحية بينهم ضرب وجميع ... جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء، والضرب بمنزلة التحية.
وقال الفرّاءُ: «الإثابة - هاهنا - بمعنى المعاقبة» وهو يرجع إلى المجاز؛ لأن الإثابة أصلها في الحسنات.
قوله: {بِغَمٍّ} يجوز في الباء أوجهٌ:
أحدها: أن تكون للسببيةِ، على معنى أن متعلِّق الغَمْ الأول الصحابة، ومتعلق الغَمِّ الثاني قيل المشركين يوم بدرٍ.
قال الحَسَنُ: يريد غَم يوم أحدٍ للمسلمين بغمّ يوم بدرٍ للمشركينَ، والمعنى: فأثابكم غماً بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدرٍ.
وقيل متعلَّق الغَمِّ الرسول، والمعنى: أذاقكم الله غمًّا بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ومخالفتكم أمره، أو فأثابكم الرسول غماً بسبب غفم اغتممتموه لأجله، والمعنى أن الصحابة لما رأوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شُجَّ وكُسِرت رَبَاعِيَتُه، وقُتِل عَمه، اغتممتموه لأجله، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما رآهم قَد عَصَوْا رَبَّهُم لأجل الغنيمة - ثم(5/606)
بَقَوْا محرومينَ من الغنيمةِ - وقتِلَ أقاربُهم، اغتم لأجلهم.
الثاني: أن تكون الباء للمصاحبة، أي: غماً مصاحِباً لغم، ويكون الغمَّان للصحابة، بمعنى غَمًّا مع غم أو غماً على غم، فالغم الأولُ: الهزيمة والقتل، والثاني إشراف خالد بخيل الكفار، أو بإرجافهم: قتل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعلى الأول تتعلق الباء ب {فَأَثَابَكُمْ} .
قال أبو البقاء وقيل: المعنى بسبب غم، فيكون مفعولاً به.
وعلى الثاني يتعلقُ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة لِ «غَمّ» أي: غماً مصاحباً لغم، أو ملتبساً بغَمٍّ، وأجاز أبو البقاء أن تكون الباءُ بمعنى «بعد» أو بمعنى «بدل» وجعلها - في هذين الوجهين - صفة ل «غماً» .
وكونها بمعنى «بعد» و «بدل» بعيدٌ، وكأنه يريدُ تفسير المعنى، وكذا قَالَ الزمخشريُّ غماً بَعْدَ غَمٍّ. واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة:
أولاً: غَمُّهم بما نالهم من العدوِّ في الأنفس والأموال.
ثانياً: غمُّهم بما لَحِق المسلمين من ذلك.
ثالثاً: غمُّهم بما وصل إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
رابعاً: غمُّهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها.
خامساً: غمُّهم بسبب التوبة التي صارت واجبةً عليهم؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بتركِ الهزيمةِ والعَوْدِ إلى المحاربة بعد الانهزامِ، وذلك من أشق الأشياء؛ لأن الإنسانَ بعد انهزامه - يَضعُف قلبُه ويجبن، فإذا أمِرَ بالمعاودةِ، فإن فعل خاف القتلَ، وإنْ لم يفعلُ خافَ الكُفْرَ وعِقَابَ الآخِرَةِ - وهذا الغَمُّ أعظمها.
سادسها: غمُّهم حين سمعوا أن محمداً قُتِلَ.
سابعها: غمُّهم حين أشرف خالد بن الوليد عليهم بخَيْل المشركين.
ثامنها: غمُّهم حين أشرف أبو سفيان، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انطلق يومئذٍ(5/607)
يدعو الناسَ حتى انتهى إلى أصحاب الصخرةِ، فلما رَأوْهُ وضع رجلٌ سَهْماً في قوسه، وأراد أن يَرْمِيَه، فقال: أنا رسولُ اللهِ، ففرحوا حين وجدوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين رأى مَنْ يمتنع به، فأقبلوا على المشركين، يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قُتِلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه، حتى وقفوا بباب الشِّعْب، فلما نظر المسلمون إليهم همَّهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم، فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس لهم أن يَعْلونا، اللهم إن تُقْتَل هذه العصابةُ لا تُعْبَد في الأرض، ثم بدأ أصحابه، فرمَوْهم بالحجارة حتَّى أنزلوهم.
وإذا عرفت هذا فكلُّ واحدٍ من المفسّرين فسَّر هذين الغمين بغمين من هذه الغموم وقال القفّال: وعندنا أن الله - تعالى - ما أراد بقوله: {غُمّاً بِغَمٍّ} اثنين، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها، أي: أن اللهَ عاقبكم بغموم كثيرة، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم، ونزول المشركين من فوق الجبلِ عليكم، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، ومثل إقدامكم على المعصيةِ، فكأنه - تعالى - قال: أثابكم هذه الغمومَ المتعاقبةَ؛ ليصير ذلك زاجراً لكم عن الإقدام على المعصية، والاشتغال بما يخالف أمرَ الله تعالى.
والغَمّ: التغطية، يقال: يوم غَمٌّ، وليلة غَمَّةٌ - إذا كانا مُظْلِمَيْن - ومنه: غُمَّ الهلال - إذا لَمْ يُرَ، وغَمَّ الأمرُ، يَغْمَى - إذا لم يُتَبَيَّنُ.
قوله: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} هذه لام «كي» وهي لام جرٍّ، والنصب - هنا - ب «كي» لئلاَّ يلزم دخول حرفِ جرٍّ على مثله، وفي متعلَّق هذه اللام قولانِ:
أحدهما: أنه {فَأَثَابَكُمْ} وفي «لا» على هذا وجهانِ:
الأول: أنها زائدةٌ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحُزْن، والمعنى: أنه غمهم ليُحْزِنهم؛ عقوبةً لهم على تركهم مواقفهم، قاله أبو البقاء.
الثاني: أنها ليست زائدة، فقال الزمخشريُّ: معنى {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} لتتمرَّنوا على تجرُّع الغمومِ، وتتضرروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع، ولا على مُصِيبٍ من المضارّ.
وقال ابن عطية: «المعنى: لتعلَمُوا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم ورَّطتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إذا ظن البراءة من نفسه» .
ثانيهما: أن اللام تتعلق ب «عَفَا» لأن عَفْوه يُذْهِب كُلَّ حُزْن، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْلِ.
ثم قال: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم، قادرٌ على مجازاتها، وهذا زَجْرٌ للبُعْدِ عَنِ الإقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.(5/608)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
الأول: أنها مفعول «أنْزَلَ» .
الثاني: أها حال من «نُعَاساً» لأنها في الأصل - صفةٌ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبت حالاً.
الثالث: أنها مفعولٌ من أجْله، وهو فاسدٌ؛ لاختلال شَرْطِهِ - وهو اتحادُ الفاعلِ - فإنّ فاعل «أنْزَلَ» غير فاعلِ الأمَنَةِ.
الرابع: أنه حالٌ من المخاطبين في «عَلَيْكُمْ» وفيه حينئذٍ - تأويلانِ:
إما على حَذْف مضافٍ - اي ذور أمَنَةٍ - وإما أن يكون «أمَنَةً» جمع آمن، نحو بار وبَرَرَة، وكافر وكَفَرَة.
وألأما «نُعَاساً» فإن أعْرَبْنا «أمَنَةً» مفعولاً به كان بدلاً، وهو بدل اشتمالٍ؛ لأن كُلاًّ من الأمَنَةِ والنُّعَاسِ يشتملُ على الآخر، أو عطف بيان عند غير الجمهورِ؛ فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارِفِ، أو مفعولاً من أجلِهِ، وهو فاسدٌ؛ لما تقدم وإن أعربنا «أمَنَةً» حالاً، كان «نُعَاساً» مفعولاً ب «أنزَلَ» و «أنْزَلَ» عطف على «فأثَابَكُمْ» وفاعله ضمير اللهِ تَعَالى، و «أل» في «الْغَمِّ» للعهد؛ لتقدُّم ذِكْره ورد أبو حيان على الزمخشريِّ كون «أمَنَةً» مفعولاً به بما تقدم، وفيه نظرٌ، فإن الزمخشريَّ قال أو مفعولاً له بمعنى نعستم أمنة. فقدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل «أمَنَةً» فكأنه استشعر السؤال، فلذلك قدرَ عاملاً على أنه قد يُقال: إن الأمَنَةَ من اللهِ تَعَالَى، بمعنى أنهُ أوقعها بهم، كأنه قيل: أنزلَ عليكم النعاس ليُؤمِّنَكُمْ به.
و «أمَنَةً» كما يكون مصدراً لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أُوقِع به.
وقرأ لجمهور: أمَنَةً - بفتح الميم - إما مصدراً بمعنى الأمن، أو جمع آمن، على ما تقدم تفصيله. والنَّخَعِيُّ وابن محيصن - بسكون الميم وهو مصدرٌ فقط، والأمْن والأمَنة بمعنًى واحدٍ، وقيل الأمْنُ يكون مع زوالِ سببِ الخَوفِ، والأمَنة مع بقاء سببِ الخوفِ.(5/609)
فصل في بيان كيفية النظم
في كيفية النَّظْمِ وَجْهَانِ:
أحدهما: أنه لما وعد المؤمنين بالنصر، فالنصر لا بدّ وأن يُسبق بإزالة الخوف عنهم؛ ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى منجزٌ وَعْدَهُ في نَصْر المؤمنينَ.
الثاني: أنه - تعالى - بيَّن نَصْرَ المؤمنين - أولاً - فلما عصى بعضهم سلط عليهم الخوفَ.
ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلوب مَنْ كان صادقاً في إيمانه، مستقِرًّا على دينه بحيث غلب النعاس عنه.
واعلم أن الذين كانُوا مع رسولِ الله يوم أُحُدٍ فريقانِ:
أحدهما: الجازمونَ بنبوَّة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهؤلاء كانوا قاطعينَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُ هذا الدينَ، وأن هذه الواقعةَ لا تؤدي إلى الاستئصالِ، فلا جَرَمَ كانوا مؤمنين، وبلغ ذلك الأمن إلى حيثُ غشيَهم النُّعَاسُ فإن النوم لا يجيء مع الخوفِ، فقال - هاهنا - في قصة أُحُدٍ: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} وقال في قصة بدرٍ:
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11] .
وأما الفريقُ الثاّنِي فهم المنافقونَ، فكانوا شاكِّين في نبوتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما حضروا إلا لطلب الغنيمةِ، فهؤلاء اشتد جزعُهُمْ، وعظم خوفُهُمْ.
فإن قيلك لم قدم ذكر الأمَنَة على النُّعَاسِ في قصة أُحُدٍ، وأخرها في قصة بدرٍ؟
فالجوابُ: أنه لما وعدهم بالنصر، فالأمن وزوال الخوف إشارةٌ ودليلٌ على إنجاز الوَعْدِ.
قوله: {يغشى} قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق، والباقون بالباء؛ ردًّا إلى النُّعَاسِ، وخرَّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة ل «امَنَةً» ؛ مراعاة لها، ولا بُدّ من تفصيل، وهو إن أعربوا «نُعَاساً» بدلاً، أو عَطْفَ بيانٍ، أشكل قولهم من وَجْهَيْن:
الأول: أن النُّحاة نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أو عَطْفُ البيانِ، قدِّمت الصفة، وأخر غيرها، وهنا قد قدَّموا البدلَ، أو عطف البيانِ عليها.
الثاني: أن المعروفَ في لغة العرب أن يُحَدَّث عن البدل، لا عن المبدَل منه، تقول: هِنْد حُسْنُها فاتِنٌ، ولا يجوز فاتنة - إلا قليلاً - فَجَعْلُهم «نُعَاساً» بدلاً من «أمَنَةً» يضعف لهذا.
فإن قيل: قد جاء مراعاة المبدَل منه في قول الشاعر: [الكامل](5/610)
1667 - وَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّرِاةِ كَأَنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْنهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ
فقال: «مُعَيَّنٌ» ؛ مراعة للهاء في «كأنه» ولم يُرَاعِ البدل - حاجبيه - ومثله قول الآخر: [الكامل]
1668 - إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّها وَرَواحَهَا ... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعضَبِ
فقال: تركت؛ مراعاة للسيوف، ولو راعَى البدل لقال: تركا.
فالجوابُ: أنَّ هذا - وإن كان قد قَالَ به بعضُ النحويينَ؛ مستنداً إلى هذين البيتين - مُؤوَّلٌ بأن «معين» خبر لِ «حاجبيه» لجريانهما مَجْرَى الشيء الواحدِ في كلام الْعَرَبِ، وأنَّ نصب «غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا» على الظرف، لا على البدل. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله: {عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] .
وإن اعربوا «نُعَاساً» مفعولاً به و «أمَنَةً» حالٌ يلزم الفصل - أيضاً - وفي جوازه نظر، والأحسنُ - حينئذٍ - أن تكون هذه جملة استئنافية جواباً لسؤال مقدَّر، كأنه قيل: ما حكم هذه الأمَنَة؟ فأخبر بقوله: «تغشى» .
ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على «نُعَاساً» وتكون الجملة صفة له، و «مِنْكُمْ» متعلق بمحذوف، صفة لِ «طَائِفَةً» .
فصل
قال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافِّنا يوم أُحُدٍ، فكان السيفُ يسقط من أحَدِنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه، وقال ثابتٌ: عن أنسٍ عن أبي طلحةَ قال: رفعت رأسي يومَ أُحُدٍ، فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النُّعاس.(5/611)
وقال الزبيرُ: كنت مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين اشتدَّ الخوفُ، فأنزلَ اللهُ علينا النومَ، واللهِ إنِّ لأسمع قول مُعَتِّب بن قُشَيْر - ما أسمعه إلاّ كالحلم - يقول: «لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا» .
فصل
قال ابنُ مسعودٍ: النُّعَاسُ في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشَّيْطَانِ، وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق باللهِ، والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصَّلاة إلا من غاية البعد عن اللهِ تعَالَى. واعلم أنّ ذلك النعاسَ فيه فوائدٌ:
الأولى: أنه وَقَعَ على كافة المؤمنين - لا على الحد المعتاد - فكان معجزة ظاهرة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا شكَّ أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزةَ الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، ومتى صاروا كذلك ازداد أحدهم في محاربة العدو.
الثانية: أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال، والنوم يفيد عود القوةِ والنشاطِ، واشتدادَ القوةِ والقدرةِ.
الثالثة: أنَّ الكفارَ لما اشتغلوا بقَتْل المسلمين ألقى اللهُ النومَ على عين من بقي منهم؛ لئلاّ يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوفُ والجُبْنُ في قلوبِهمْ.
الرابعةُ: أن الأعداءَ كانوا في غاية الحرصِ على قتلهم، فبقاؤهم ف يالنوم مع السَّلامةِ في مثل تلك المعركةِ - من أدلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ حِفْظ اللهِ وعصمته معهم، وذلك مما يُزِيل الخوفَ عن قلوبهم، ويورثهم مزيدَ الوثوق بوعد الله تعالى.
قوله: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} في هذه الواو ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنها واو الحالِ، وما بعدها في محل نَصْبٍ على الحال، والعامل فيها «يَغْشَى» .
الثاني: أنها واو الاستئناف، وهي التي عبر عناه مَكيٌّ بواو الابتداء.
الثالث: أنها بمعنى «إذْ» ذكره مَكي، وأبو البقاءِ، وهو ضعيفٌ.(5/612)
و «طائفة» مبتدأ، والخبر {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} وجاز الابتداء بالنكرة لأحدِ شيئين: إما للاعتمادِ على واو الحالِ، وقد عده بعضهم مسوغاً - وإن كان الأكثرُ لم يذكره -.
وأنشدوا: [الطويل]
1669 - سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحَيَّاكِ أخْفَى ضَوْءهُ كُلَّ شَارِقِ
وإما لأن الموضعَ تفسيلٌ؛ فإن المعنى: يغشى طائفةً، وطائفة لم يغشهم.
فهو كقوله:
1670 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَولِ
ولو قُرِئ بنصب «طَائِفَة» - على أن تكون المسألةُ من باب الاشتغالِ - لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقلِ؛ فإنه لم يُحْفظ قراءة، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} كما تقدم.
الثاني: أنه «يَظُنُّونَ» والجملة قبله صفة لِ «طَائِفَة» .
الثالث: أنه محذوفٌ، أي: ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل، والجملتان صفة لِ «طَائِفَةٌ» أو يكون «يَظُنُّونَ» حالاً من مفعول «أهَمَّتْهُمْ» أو من «طَائِفَةٌ» لتخصُّصه بالوَصْف، أو خبراً بعد خبر إن قلنا: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} خر أول. وفيه من الخلاف ما تقدم.
الرابع: أن الخبر {يَقُولُونَ} والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين، أو خبرين، أو إحداهما خبر، والأخْرَى حالٌ.
ويجوز أن يكون {يَقُولُونَ} صفة أو حالاً - أيضاً - إن قلنا: إن الخبرَ هو الجملة التي قبله، أو قلنا: إن الخبر مُضْمَرٌ.
قوله: {يَظُنُّونَ} له مفعولان، فقال أبو البقاءِ: {غَيْرَ الحق} المفعولُ الأولُ، أي أمراً غير الحق، و «باللهِ» هو المفعول الثاني.
وقال الزمخشريُّ: {غَيْرَ الحق} في حكم المصدر، ومعناه: يظنون باللهِ غير الظن الحق الذي يجب أي يُظَنَّ به. و {ظَنَّ الجاهلية} بدل منه.
ويجوز أن يكون المعنى: يظنون بالله ظن الجاهلية و {غَيْرَ الحق} تأكيداً لِ {يَظُنُّونَ} كقولك: هذا القول غير ما يقول.
فعلى ما قال لا يتعدى «ظن» إلى مفعولين، بل تكون الباء ظرفية، كقولك: ظننت(5/613)
بزيد، أي: جعلته مكان ظني، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قولَ الشاعر: [الطويل]
1671 - فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ
أي قلتُ لهم: اجعلوا ظنكم في الفي مُدَجَّجٍ.
ويحصل في نصب {غَيْرَ الحق} وجهان:
أحدهما: أنه مفعول أول لِ «يَظُنُّونَ» .
والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريُّ.
وفي نصب {ظَنَّ الجاهلية} وجهان - أيضاً -: البدل من {غَيْرَ الحق} أو أنه مصدر مؤكِّد لِ {يَظُنُّونَ} .
و «بالله» إما متعلِّق بمحذوف على جَعله مفعولاً ثانياً، وإما بفعل الظنِّ - على ما تقدم - وإضافة الظنِّ إلى الجاهلية، قال الزمخشريُّ: «كقولك: حاتم الجود، ورجل صدقٍ، يريد: الظنَّ المختص بالملة الجاهلية، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية» .
وقال غيره: المعنى: المدة الجاهلية، أي: القديمة قبل الإسلامِ، نحو {حَمِيَّةَ الجاهلية} [الفتح: 26]
فصل
هؤلاء هم المنافقونَ - عبد الله بن أبيٍّ، ومُعَتب بن قُشَيْرٍ، وأصحابهما - كان همتهم خلاص أنفسهم، يقال: همني الشيء - إذا كان من همي وقصدي - وذلك أن الإنسان إذا اشتدَّ انشغاله بالشيء صار غافلاً عما سواه، فلما كان أحَبُّ الأشياء إلى الإنسان نفسَه، فعند الخوفِ على النفس يصير ذاهلاً عن كل ما سواها، فهذا هو المرادُ من قوله: {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ، وفي هذا الظنِّ احتمالانِ:
أحدهما - وهو الأظهرُ -: أنهم كانوا يقولون في أنفسهم: لو كان محمدٌ مُحِقًّا في دعواه لما سُلِّطَ الكفار عليه - وهذا ظنٌّ فاسدٌ، أما على قول أهلِ السُّنَّةِ فلأنه - تعالى - يفعل ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريدُ، لا اعتراض عليه.
وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللهِ وأحكامِهِ، فلا يبعد أن يكون للهِ حكمٌ خفيَّةٌ، وألطافٌ مَرْعِيَّةٌ في تخلية الكافر بحيثُ يقهر المسلم، فإنَّ الدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاء، ووجوه المصالحِ مستورةٌ عن العقول.
قال القفال: لو كان كون المؤمنِ محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناسُ إلى معرفة كون المُحِقّ مُحِقًّا، وذلك ينافي التكليفَ، واستحقاق الثوابِ والعقابِ، والمُحِقُّ إنما يُعْرَف بما معه من الدَّلائل والبيِّنات، فأمّا القَهْرُ فقد يكونُ من المُبْطِل للمحقِّ ومن المحِقِّ للمُبْطِلِ.(5/614)
الاحتمالُ الثاني: أن ذلكَ الظنَّ هو أنهم كانوا يُنكِرون إلَه الْعَالَمِ، وينكرون النبوةَ والبعثَ - فلا جَرَمَ - ما وثقوا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسفم في أنَّ اللهَ تعَالى يُقَوِّيهم وَيَنْصُرُهُمْ.
وقيل: ظنوا أن محمداً قد قُتِل. و {ظَنَّ الجاهلية} بدل من قوله: {غَيْرَ الحق} وفائدة هذا الترتيب أنَّ غَيْرَ الحقِّ أديانٌ كثيرةٌ، وأقبحُهَا مقالة أهل الجاهلية، فذكر أنهم يظنون بالله غير الحق ثم بيَّن أنهم اختاروا من أقسامِ الأديانِ التي هي غيرُ حَقَّةٍ أقبحها وأكثرها بطلاناً، وهو ظنُّ أهل الجاهلية.
قوله: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} «من» - في {مِن شَيْءٍ} - زائدة في المبتدأ، وفي الخبر وجهانِ:
أحدهما - وهو الأصحُّ -: أنه «لَنَا» فيكون {مِنَ الأمر} في محل نصبٍ على الحالِ من «شَيءٍ» لأنه نعتُ نكرة، قدم عليها، فنصب حالاً، وتعلق بمحذوفٍ.
الثاني: - أجازه أبو البقاء - أن يكون {مِنَ الأمر} هو الخبر، و «لنا» تبيين، وبه تتم الفائدةُ كقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] .
وهذا ليس بشيء؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ، وإذا كان كذلك فيصير «لَنَا» من جملة أخرى، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ، وليس نظيراً لقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} فإن «لَهُ» فيها متعلق بنفس «كُفُواً» لا بمحذوفٍ، وهو نظيرُ قولكَ: لم يكن أحدٌ قاتلاً لبكرٍ. ف «لبكر» متعلق بنفس الخبر. وهل هنا الاستفهام عن حقيقته، أم لا؟ فيه وجهانِ:
أظهرهما: نَعَمْ، ويعنون بالأمر: النصر والغلبة.
والثاني: أنه بمعنى النفي، كأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ.
ولكن يضعف هذا بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} فإن من نَفَى عن نفسه شيئاً لا يجاب بأنه ثبت لغيره؛ لأنه يُقِرُّ بذلك، اللهم إلاَّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة، فكأنَّهم قالوا: ليس لنا من الأمر شيءٌ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} لقولهم هذا، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله: «وطائفة» فإن قوله: {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم} وكذا {يَقُولُونَ} - الثانية - إما خبر عن «طَائِفَةٌ» أو حال مما قبلها.
فصل
اعلم أنَّ قولَهُ: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} حكايةٌ للشبهة التي تمسَّك بها المنافقون، وهي تحتمل وجوهاً:
الأول: أنَّ عبد الله بن أبيٍّ لما شاوره النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه الواقعةِ أشار عليه بأن لا(5/615)
يخرج من المدينةِ، ثُمَّ إنَّ الصحابةَ ألَحُّوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن يخرج إليهم، فغضب عبد اللهِ بنُ أبي من ذلك، فقال: عصاني وأطاع الوِلْدان، فلما كثر القتل في بني الخزرج، ورجع عبدُ الله بن أبي قيل له: قُتِل بنو الخَزرج!! فقال: «هل لنا من الأمر من شيء» ؟ يعني: أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرتُه بأن لا يخرج من «المدينة» .
والمعنى: هل لنا أمرٌ يُطاع؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار.
الثاني: ما تقدم في الإعرابِ أنَّ معناه النفي، أي: هل لنا من الشيء الذي كان يَعِدُنا به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار.
الثالث: أن التقدير: أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ ويكون المراد منه الطعن في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويحتمل أن يكونَ قائلُهُ من المؤمنين، ويكون المرادُ منه إظهار الشَّفَقَة، أنه متى يكون الفرجُ والنُّصرة؟ وهو المرادُ - أيضاً - بقوله: هو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار.
الثا {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} .
وقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} قرأ أبو عمرو «كُلُّهُ» - رفعاً - وفيه وجهان:
الأول: - وهو الأظهر - أنه رفع بالابتداء، و «لله» خبره والجملة خبر «إنَّ» نحو: إن مال زيد كله عنده.
الثاني: أنه توكيد على المحل، فإن اسمها - في الأصل - مرفوعٌ بالابتداء، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق، فيكون «للهِ» خبراً لِ «إنَّ» أيضاً.
وقرأ الباقون بالنصب، فيكون تأكيداً لاسم «إنَّ» وحَكَى مكي عن الأخفش أنه بدل منه - وليس بواضح - و «للهِ» خبر «إنَّ» .
وقيل على النعت؛ لأنَّ لفظة «كُلّ» للتأكيد، فكانت كلفظة «أجمع» .
فصل
هذه الآية تدل على أن جميع المحدثات خلق لله تعالى بقضائه وقدره؛ لأن المنافقين قالوا: إن محمداً لو قبل مِنَّا رَأيَنَأ ونُصْحَنا، ملا وقع في هذه المِحْنةِ، فأجابهم اللهُ تَعَالَى بأن الأمرَ كُلَّه للهِ، وهذا [الجواب] إنما ينتظم إذا كانت أفعالُ العبادِ بقضاء اللهِ وقدَرِهِ؛ إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعاً لشبهة المنافقين.
قوله: {يُخْفُونَ} إما خبر لِ {طَآئِفَةً} وإما حال مما قبله - كما تقدم - وقوله: {يَقُولُونَ}(5/616)
يحتمل هذينِ الوجهينِ، ويحتمل أن يكون تفسيراً لقوله: {يُخْفُونَ} فلا محلَّ له حينئذٍ.
قوله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ} كقوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} وقد عرف الصحيح من الوجهين.
وقوله: «ما قُتِلْنا ههنا» جواب «لَوْ» وجاء على الأفصح، فإن جوابها إذا كان منفياً ب «ما» فالأكثر عدم اللام، وفي الإيجاب بالعكس، وقد أعرب الزمخشريُّ هذه الجُمَلَ الواقعة بعد قوله: «وطائفة» إعراباً أفْضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال: «فإن قُلتَ: كيف مواقعُ هذه الجُمَلِ الواقعة بعد قوله:» وطائفة «.
قُلْتُ: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} صفة ل {َطَآئِفَةٌ} و {يَظُنُّونَ} صفة أخرى، أو حالٌ، بمعنى: قد أهمتهم أنفسهم ظَانِّين، أو استئنافٌ على وجه البيانِ للجملة قبلها و {يَقُولُونَ} بدلٌ من {يَظُنُّونَ} .
فإن قلتَ: كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار بالظنِّ؟
قلتُ: كانت مسألتهم صادرة عن الظن، فلذلك جاز إبداله منه، و {يُخْفُونَ} حال من {يَقُولُونَ} و {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} اعتراض بين الحالِ وذي الحالِ، و {يَقُولُونَ} بدلٌ من {يُخْفُونَ} والأجود أن يكون استئنافاً» . انتهى.
وهذا من أبي القاسم بناءً على أنَّ الخبرَ محذوفٌ، كما تقدم تقريره في قوله: {وَطَآئِفَةٌ} أي: ومنكم طائفةٌ، فإنه موضعُ تفصيلٍ.
فإن قيل: ما الفرق بين قوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} وبين قوله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ} وقد أجاب عن الأول بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} وأجاب ههنا بغير ذلك؟ فالجوابُ من وجهين:
الأول: أن المنافقينَ قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقولٌ لم نخرج مع محمدٍ إلى قتالِ أهلِ مكةَ، وما قُتِلْنَا هاهنا، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمر ليس كما قلتم من أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ، وهذا كالمناظرةِ الدائرةِ بين أهلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزلَةِ؛ فإنَّ السُّنِّي يقولُ: الأمر كُلُّهُ - في الطَّاعِةِ والمعصيةِ، والإيمانِ والكُفْرِ بيد اللهِ، والمعتزلي يقول: ليس الأمر كذلكح فإن الإنسانَ مختارٌ، وميتقلٌّ بالفعل، إن شاء آمن وإن شاء كَفَر، فَعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جواباً عن الشُّبْهَةِ الأولى.
الثاني: أن المراد من قوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} أي: هل لنا من النُّصْرَة التي وَعَدَنَا بها محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيء؟ ويكون المراد من قوله: «لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا» هو ما كان بقوله عبد الله بن أبي من أن محمداً لو أطاعني ما خرج عن «المدينة» ، وما قُتِلْنا ههنا.(5/617)
واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه [الشُّبْهَةَ] من ثلاثة أوجهٍ:
الأول: قوله: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ} ومعناه: أن الحَذَرَ لا يدفع القَدَرَ، فالذين قَدَّر الله عليهم القَتْلَ، لا بُدَّ وأن يُقْتَلُوا على كل تقديرٍ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالى لما أخبره أنه يقتل، فلو لم يُقْتَلْ، لانْقَلَبَ علمه جهلاً.
وقال المفسِّرون: لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم مَنْ كَتَبَ اللهُ عليهم القَتْلَ إلى مضاجعهم ومصارعهم، حتى يُوجَدَ ما علم الله أنه يُوجد وقيل: تقديرُ الكلام: كأنه قيل للمنافقين: لو جلستم في بيوتكم، وتَخَلَّفْتُمْ عن الجهاد، لخرج المؤمنون الذين كُتِبَ عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم، ولم يتخلَّفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلُّفكم.
قوله: {لَبَرَزَ} جاء على الأفصح، وهو ثُبُوتُ اللامِ في جواب «لو» مثبتاً. وقراءة الجمهور {لَبَرَزَ} مخفَّفاً مبنياً للفاعل، وقرأ أبو حَيْوَة «لَبُرِّزَ» مشدَّداً، مبينيًّا للمفعول، عدَّاه بالتضعيف. وقرئ «كَتَبَ» مبنياً للفاعل، و «القَتْلَ» مفعول به.
وقرأ الحسنُ: {كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} رَفعاً.
الجوابُ الثاني عن هذه الشُّبْهَةِ قوله: «وليبتلي» فيه خمسة أوجُهٍ:
فقيل: إنه متعلق بفعل قبله، وتقديره: فَرَضَ اللهُ عليكم القتَالَ، ولم يَنْصُرْكُمْ يوم أُحُدٍ، ليبتلي ما في صدوركم، أي: ضمائركم.
وقيل: بفعل بعده، أي: ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء.
وقيل: الواو زائدة، واللام متعلقة بما قبلها.
وقيل: «وليبتلي» عطف على «ليبتلي» الأول وإنما كُرِّرت لطول الكلام، فعطف عليه {وَلِيُمَحِّصَ} قاله ابنُ بحرٍ.
وقيل: هو عطف على علةٍ محذوفة تقديره: ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي.
الجواب الثالث عن هذه الشُّبْهَةِ قوله: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} فيه وَجْهَانِ:
أحدهما: أن هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات، وتطهرها.
الثاني: أنها تصيره كَفَّارةً لذنوبكم، فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات.
فإن قيل: قد سبق ذِكْرُ الابتلاء في قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] فلم أعادَه؟(5/618)
فالجواب: أنه أعادهُ؛ لطول الكلام بينهما، ولأن الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين، والابتلاء الثاني سائر الأحوال.
فإن قيل: قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ} المرادُ منه القلب؛ لقوله: {القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] فجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصَّدْرُ - وهو ما في القلب من النِّيَّةِ - وجعل متعلق التمحيص ما في القلب - وهو النيات والعقائد - فلم خالف بين اللفظين في المتعلِّق؟
فالجوابُ: أنه لما اختلف المتعلَّقان حسنَ اختلافُ لفظَيْهما. ثم قال: {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: الأسرار والضمائر؛ لأنها حالَّةٌ فيها، مصاحبة لها، وذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يَخْفَى عليه ما في الصدور وغيره - لأنه عالم بجميع المعلومات - وإنما ابتلاهم لمَحْض الإلهية.(5/619)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
إنما ثُنّي «الْجَمْعَان» - وإن كان اسم جمع - وقد نَصًّ النُّحَاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع إلا شذوذاً - لأنه أريد به النوع؛ فإن المعنى جَمْع المؤمنين وجَمْع المشركين، فلما أريد به ذلك ثُنِّي، كقوله: [الطويل]
1672 - وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإنْ هُمَا ... تَعَاطَى الْقَنَا قَوْماً هُمَا أخَوَانِ
فصل
{تَوَلَّوْاْ} تنهزموا {يَوْمَ التقى الجمعان} جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحُدٍ، وكان قد انهزم أكْثَرُ المسلمين، ولم يَبْقَ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إلا ثلاثةَ عشر رجلاً، ستةٌ من المهاجرين: أبُو بَكْرٍ، وأبو عُبّيْدَةَ بن الجراح وعليٌّ، وطَلْحَة، وعبد الرحمن بن عَوْفٍ، وسعد بن ابي وَقَّاصٍ - وسبعة من الأنصار - حباب بن المنذر وأو دُجَانَة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصِّمَّة، وسهل بن حُنَيْف، وأسَيْد بن حُضَيْر، وسعد بن مُعّاذٍ - وقيل: أرْبَعَةَ عشَرَ؛ سبعةٌ من المهاجرين، فذكر الزبير بن العوّام معهم، وسبعةٌ من الأنصار.
وقيل: إن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت: ثلاثة من المهاجرين: طلحة، والزبير، وعلي، وخمسة من الأنصار: أبو دُجَانة، والحارث بن الصِّمَّة، وحباب بن المُنْذِرِ، وعاصم بن ثابتٍ، وسهل بن حنيف، ثم لم يقتل منهم أحد.
ورُوي أنه أصيب مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نحو ثلاثينَ، كلهم يجيء، ويَجْثو بين(6/3)
يديه، ويقول: وجهي لوجهك الفداء، ونفسي لنفسك الفداء، وعليك السَّلامُ غيرَ مُودَّعٍ.
قوله: {إِنَّمَا استزلهم الشيطان} السين في {استزلهم} للطلب، والظاهر أن استفعل ها هنا - بمعنى أفْعَل؛ لأن القصة تدلُّ عليه، فالمعنى: حَمَلَة على الزلة، فيكون ك «اسْتَلَّ» و «أبَلَّ» واستزلَّ بمعنى وَاحِدٍ، قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان} [البقرة: 36] .
وقال ابن قتيبةَ: {استزلهم} طلب زلَّتَهُمْ، كما يقال: استعجلته: أي: طلبت عجلته، واستعملته طلبت عمله.
فصل
قال الكعبيُّ: الآية تدلُّ على أن المعاصيَ لا تُنْسَب إلى الله؛ فإنه - تعالى - نسبها هنا إلى الشِّيْطَانِ، فهو كقوله تعالى - حكاية عن موسى -: {هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} [القصص: 15] وكقوله - حكاية عن يُوسفَ -: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي} [يوسف: 100] وقوله - حكاية عن صاحب موسى -: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] .
قوله: {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} فيه وجهانِ:
الأول: أن الباء للإلصاق، كقولك: كتبت بالقَلَم، وقطعت بالسِّكِّين، والمعنى: أنه قد صدرت عنهم جنايات، فبواسطتها قدر الشَّيطان على لستزلالهم، وعلى هذا التقدير اختلفوا:
فقال الزَّجَّاجُ: إنهم لم يتولَّوْا عناداً، ولا فراراً من الزَّحْف، رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكَّرهم الشيطانُ ذنوباً - كانت لهم - فكرهوا البقاء إللا على حالٍ يَرْضَوْنَهَا.
وقيل: لما أذنبوا - بمفارقة المركز، أو برغبتهم في الغنيمة، أو بفشلهم عن الجهاد - أزلهم الشيطانُ بهذه المعصيةِ، وأوقعهم في الهزيمة.
الثاني: أن تكونَ الباء للتبعيض، والمعنى: أنَّ هذه الزَّلَّةَ وقعت لهم في بعض أعمالهم.
قوله: {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} هذه الآية تدل على أن تلك الزَّلَّة ما كانت بسبب الكُفْرِ؛ فإن العفو عن الكفر لا يجوز؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز.
قالت المعتزلة: ذلك الذنب إن كان من الصغائر، جاء العفو عنه من غير توبةٍ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غيب توبةٍ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غير توبة - وإن كان ذلك غير مذكور في الآية.(6/4)
قال القاضي: والقربُ أن ذلك الذنب كان من الصغائر، لوجهين:
أحدهما: أنه لال يكاد - في الكبائر - يقال: [إنها زَلَّة] ، إنما يقال ذلك في الصغائر.
الثاني: ان القوم ظنوا أنَّ الهزيمةَ لما وقعت على المشركين، لم يَبْقَ إلى ثباتهم في ذلك المكانِ حاجة فلا جرم - انقلبوا عنه، وتحوَّلوا لطلب الغنيمة، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مَدْخَلاً.
قال ابنُ الخَطِيبِ: وهذه تكلُّفات لا حاجة إليها، وقد بينَّا كونها من الكبائر، والاجتهاد لا مدخل له مع النص الصريح بلزوم المركز، سواء كانت الغلبة لهم، أو عليهم.
ثم قال: {إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي {غَفُورٌ} لمن تاب، {حَلِيمٌ} لا يعجل بالعقوبة، وهذا يدل على أن ذلك الذنب كان من الكبائر؛ لأن لو كان من الصغائر لوجب ان يعفو عنه - على قول المعتزلة - ولو كان العفو واجباً لما حَسُنَ التمدُّح به؛ لأن من يظلم إنساناً لا يحسُن ان يتمدّح بأنه عفا عنه، وغفر له.(6/5)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
وجه النظم أن المنافقين كانوا يعيّرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار، بقولهم: {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} ثم إنه ظهر عند بعض المؤمنين فتورٌ وفشلٌ في الجهاد، حتى وقع يومَ أحُدٍ ما وقع، وعفا اللهُ بفضله عنهم، فنهاهم في هذه الآية عن القول بمثل مقالة المنافقين، لمن يريد الخروج إلى الجهادِ، فقال: لا تقولوا - لمن يريد الخروجَ إلى الجهاد -: لو لم تخرجوا لما متم، وما قُتِلْتُم، فإن الله هو المُحْيي والمميت، فمن قُدِّر له البقاءُ لم يُقْتَل في الجهاد، ومن قُدِّر له الموتُ مات وإن لم يجاهد، وهو المراد بقوله: {والله يُحْيِي وَيُمِيتُ} .
وأيضاً فالذي يُقْتَل في الجهاد، لو لم يخرج إلى الجهاد، لكان يموت لا محالة، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يُقْتَلَ في الجهاد - حتى يستوجب الثوابَ العظيمَ - خيرٌ له من أي يموت من غير فائدة، وهو المرادُ بقوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} .(6/5)
واختلفوا في {الَّذِينَ كَفَرُواْ} فقيل: هل هو كافر يقول هكذا.
وقيل: إنه مخصوصٌ بالمنافقين؛ لأن هذه الآيات في شرح أحوالهم.
وقيل: مختصة بعبد الله بن أبيّ ابن مسلول ومعتب بن قُشَير، وسائر أصحابهما.
قوله: {لإِخْوَانِهِمْ} قال الزمخشريُّ: «لأجل إخوانكم» . وهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا مَيِّتين عند هذا القول ويُحْتمل ان يكونَ المراد منه الأخوة في النسب، كقوله تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف: 65] ويكون المقتولون من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين، فقال المنافقونَ هذا الكلام، بعد أن قُتِلَ بعضهم في بعض الغزوات.
قوله: {إِذَا ضَرَبُواْ} «إذا» ظرف مستقبل، فلذلك اضطربت أقوالُ المعربين - هنا - من حيثُ إن العامل فيها {قَالُواْ} - وهو ماضٍ - فقال الزمخشريُّ: «فإن قُلْتَ: كيف قيل: {إِذَا ضَرَبُواْ} مع» قالوا «؟ قلت: هو حكاية حال ماضية، كقولك: حين يضربون في الأرض» .
وقال أبو البقاء بعد قول قريب من قول الزمخشريِّ: «ويجوز أن يكون {كَفَرُواْ} و {قَالُواْ} ماضيين، يُراد بهما المستقبل المحكي به الحال فعلى هذا يكون التقدير: يكفرون، ويقولون لإخوانهم» . انتهى.
ففي كلا الوجهين حكاية حال، لكن في الأول حكاية حال ماضية، وفي الثاني مستقبلة، وهو - من هذه الحيثية - كقوله تعالى: {حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [البقرة: 214] . ويجوز أن يراد بها الاستقبال، لا على سبيل الحكاية، بل لوقوعه صلة لموصول، وقد نصَّ بعضهم على أن الماضي - إذا وقع صلة لموصول - صلح للاستقبال، كقوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] . وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ، وقال: «دخلت» إذا «وهي حرفُ استقبالٍ - من حيثُ» الذين «اسم فيه إبهام، يعم مَنْ قال في الماضي، ومَنْ يقول في الاستقبال، ومن حيثُ هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان» يعني: فتكون حكاية حالٍ مستقبلة.
قال ابن الخَطِيبِ: إنما عَبَّرَ عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين:
إحداهما: أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل، قد يُعَبَّر عنه بأنه حَدَث، أو هو حادث، قال تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه ذلك المعنى، فلما وقع(6/6)
التعبير عنه بلفظ الماضي، دلَّ على أن جِدَّهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية، فصار بسبب ذلك الجد، هذا المستقبل كالواقع.
الثانية: أنه - تعالى - لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي، دلَّ ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام، بل المقصود الإخبار عن جِدِّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشُّبْهَةِ «.
وقدَّر أبو حيّان: مضافاً محذوفاً وهو عامل في» إذا «تقديره: وقالوا لهلاك إخوانهم، أي: مخافة أن يهلك إخوانهم إذا سافروا، أو غَزَوْا، فقدَّر العامل مصدراً مُنْحَلاًّ لِ» أن «والمضارع، حتى يكون مستقبلاً، قال: لكن يكون الضمير في قوله: {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} عائداً على {لإِخْوَانِهِمْ} لفظاً، وعلى غيرهم معنى - أي: يعود على إخوان آخرين، وهم الذين تَقَدَّمَ موتُهم بسبب سفرٍ، أو غزو، وقَصْدُهُمْ بذلك تثبيطُ الباقين - وهو مثل قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] وقول العربِ: عندي درهم ونِصْفُه.
وقول الشاعرِ: [البسيط]
1673 - قَالَتْ: ألاَ لَيْتَما هَذَا الحَمَامُ لَنَا ... إلَى حَمَامَتِنَا، أو نِصْفُهُ فَقَدِ
المعنى: من معمر آخر، ونصف درهم آخر، ونصف حمام آخرَ.
وقال قُطربٌ: كلة» إذْ «و» إذا «يجوز إقامة كل واحد منهما مُقَامَ الأخْرَى، فيكون» إذا «هنا بمعنى» إذْ «.
قال بعضهم: وهذا ليس بشيء.
قال ابن الخَطِيبِ:» أقول: هذا - الذي قاله قُطْرُبٌ - كلامٌ حسنٌ، وذلك لأنا جوَّزْنا إثبات اللغة بشعرٍ مجهولٍ، فنقول عن قائل مجهول، فلأنْ يُجَوَّزَ إثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك اولى، أقصى ما في الباب أن يقال: «إذا» حقيقة في المستقبل، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجازِ، لما بينه وبين كلمة «إذْ» من المشابهة الشديدة، وكثيراً أرى النحويين يتحيَّرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهولٍ فَرِحوا به، وأنا شديدُ التعجُّب منهم؛ فإنهم إذا جعلوا ورودَ القرآنِ به دليلاً على صحته كان أولى «.
قوله: {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} - بالتشديد - جمع غازٍ - كالرُّكَّع والسُّجَّد - جمع راكع وساجد - وقياسه: غُزَاة كرام ورُمَاة - ولكنهم جملوا المعتل على الصحيح، في نحو ضارب وضُرَّب، وصائم وصُوَّم.(6/7)
وقرأ الزَّهريُّ والحسنُ «غُزًى» - بالتخفيف - وفيها وجهانِ:
الأول: أنه خفف الزاي، كراهية التثقيل في الجمع.
الثاني: أن أصله: غُزاة - كقُضاة ورُماة - ولكنه حذف تاء التأنيث؛ لأن نفس الصيغة دالَةٌ على الجمع فالتاء مُستغنًى عنها.
قال ابنُ عَطِيَّةَ: «وهذا الحذفُ كثيرٌ في كلامهم.
ومنه قول الشاعر يمدح الكسائِي: [الطويل]
1674 - أبَى الذَّمَّ أخْلاَقُ الْكِسَائِيِّ، وَانْتَحَى ... بِهِ المَجْدُ أخْلاَقَ الأبُوِّ السَّوابِقِ
يريد: الأبُوَّة - جمع أب - كما أن العمومة جمع عم، والبُنُوَّة جمع ابن وقد قالوا: ابن، وبنو» .
ورد عليه أبو حيّان بأن الحذف ليس بكثير، وأن قوله: حذف التاء من عمومة، ليس كذلك، بل الأصل: عموم - من غير تاء - ثم أدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع، فما جاء على «فعول» - من غير تاء - هو الأصل، نحو: عموم وفحول، وما جاء فيه التاء، فهو الذي يحتاج إلى تأويله بالجمع، والجمع لم يُبْنَ على هذه التاء، حتى يُدَّعَى حَذْفُها، وهذا بخلاف قُضَاة وبابه؛ فإنه بني عليها، فيمكن ادعاء الحذف فيه، وأما أبوة وبُنوة فليسا جَمْعَيْن، بل مصدرين، وأما أبُوّ - في البيت - فهو شاذّ عند النحاة من جهة أنه من حقِّهِ أن يُعلَّه، فيقول: «أبَيّ» بقلب الواوين ياءين، نحو: عُصِيّ، ويقال غُزَّاء بالمد أيضاً، وهو شاذ.
فتحصَّل في غازٍ ثلاثة جموع في التكسير: غُزَاة كقُضاة، وغُزًى كصوَّم، وغُزَّاء كصُوَّام، وجمع رابع، وهو جمع سلامة، والجملة كلُّها في محل نصب بالقول.
قال القرطبيُّ: «والمغزية: المرأة التي غزا زوجها، وأتانٌ مُغْزِية: متأخِّرةُ النِّتَاجِ، ثم تنتج وأغْزَت الناقة إذا عسر لِقَاحُها، والغَزْو: قصد الشيء، والمَغْزَى: المَقْصِد، ويقال: - في النسب إلى الغزو: غَزَوِيّ» .
قال الواحديُّ: «في الآية محذوف، يدل عليه الكلام، والتقدير: {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض} فماتوا {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} فقتلوا، {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} فقوله: {مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} يدل على قتلهم وموتهم» .(6/8)
فصل
المراد بالضَّرْبِ: السفر البعيد، وقوله: «غُزًّى» هم الغُزَاة الخارجون للجهاد، فكان المنافقونَ يقولون - إذا رَأوْا مَنْ مات في سفر أو غزو -: إنما ماتوا، أو قتلوا بسبب السفر والغزو، وقصدهم بذلك تنفير الناس.
فإن قيل: لم ذكر الغزو بعد الضرب في الأرض - وهو داخل فيه؟
فالجوابُ: أن الضرب في الأرض يرادُ به السفر البعيد، لا القريب، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحدٍ لا يوصف بأنه ضارب في الأرض، وفي الغزو لا فرق بينه وبين قريبه وبعيده، فلذلك أورد الغزو عن الضرب في الأرض.
قوله: {لِيَجْعَلَ الله} في هذه اللام قولان:
قيل: إنها لام «كَيْ» .
وقيل: إنها لام العاقبة والصيرورة، فعلى القول الأول في تعلُّق هذه اللام وجهانِ:
فقيل: التقدير: أوقع ذلك - أي: القول، أو المعتقد - ليجعله حَسْرَةً، أو ندمَهم، كذا قدره أبو البقاء وأجاز الزمخشريُّ أن تتعلق بجملة النفي، وذلك على معنيين - باعتبار ما يراد باسم الإشارة.
أما الاعتبار الأول، فإنه قال: «يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله اللهُ حَسْرةً في قلوبكم خاصَّةً، ويصون منها قلوبكم» ، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد.
وأما الاعتبار الثاني فإنه قال: «ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلَّ عليه النَّهْيُّ، أي: لا تكونوا مثلهم؛ ليجعلَ اللهُ انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمُّهم ويغيظهم» .
وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو، فقال - بعد ما حكى عنه المعنى الأول: - «وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه؛ لأن جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي، وهو انتفاء المماثلة، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم، إذ لم توافقهم فيما قالوه واعتقدوه، لا تضربوا في الأرض ولا تغزو، فالتبسَ على الزمخشريِّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء، وفَهْم هذا فيه خفاءٌ ودقةٌ» .
قال شهاب الدين: ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه؟(6/9)
وقال أبو حَيَّانَ - أيضاً -: «وقال ابنُ عِيسَى وغيره، اللامُ متعلِّقة بالكون، أي: لا تكونوا كهؤلاء، ليجعل الله ذلك حَسْرَةً في قلوبهم دونكم، ومنه اخذ الزمخشريُّ قوله، لكن ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام، وذاك لم ينص، وقد بينَّا فساد هذا القول» .
وقوله: وذاك لم ينص، بل قد نَصَّ، فإنه قال: فإن قُلْتَ: ما متعلق {لِيَجْعَلَ} ؟ قلت: {َقَالُواْ} أو {لاَ تَكُونُواْ} . وأيُّ نَصٍّ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوز تعلق اللام - ومعناها التعليل - ب {قَالُواْ} لفساد المعنى؛ لأنهم لم يقولوه لذلك، بل لتثبيط المؤمنين عن الجهاد.
وعلى القول الثاني - أعني: كونها للعاقبة تتعلق ب {قَالُواْ} والمعنى: أنهم قالوا ذلك لغرض من أغراضهم، فكان عاقبة قولهم، ومصيره إلى الحسرة، والندامة، كقوله تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] وهم لم يلتقطوه لذلك، ولكن كان مآله لذلك. ولكن كونها للصيرورة لم يعرفه أكثر النحويين، وإنما هو شيءُ ينسبونه للأخفش، وما ورد من ذلك يؤولونه على العكس من الكلام، نحو: {فَبَشِّرْهُم} [آل عمران: 21] وهذا رأي الزمخشري؛ فإنه شبه هذه اللام باللام في {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] ومذهبه في تلك أنها للعلة - بالتأويل المذكور والجَعْلُ - هنا - بمعنى التَّصْييرِ.
فصل
اختلفوا في المشار إليه ب «ذَلِكَ» : فعن الزَّجاجِ هو الظَّنُّ، ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يُقْتَلُوا.
وقال الزمخشريُّ ما معناه: الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول.
وقريب منه قول ابن عطيةَ: «الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم» .
وقال ابنُ عَطِيَّة - أيضاً -: ويحتمل عندي - أن تكونَ الإشارةُ إلى النهي والانتهاء معاً، فتأمله «.
وقيل: هو المصدر المفهوم من {قَالُواْ} ، و {حَسْرَةً} مفعول ثانٍ، و {فِي قُلُوبِهِمْ} يجوز أن يتعلق بالجَعْل - وهو أبلغ - أو بمحذوف على أنه صفة للنكرة قبله.
فصل
ذكروا - في بيان ذلك القول حَسْرَةً في قلوبهم - وجوهاً:
الأول: أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في مَنعه عن ذلك السفر، او الغزو، لبقي، فذلك الشخص إنما مات، أو قُتِلَ بسبب أن هذا الإنسان قَصَّر في مَنْعه، فيعتقد السامعُ لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب في مَوْت ذلك الشخص العزيز عليه، أو قتله، ومتى اعتقد في نفسه ذلك،(6/10)
فلا شك أنه يزداد حسرته وتلهُّفُه، أما المسلم المعتقد أن الحياةَ والموت بتقدير اللهِ وقضائه، لم يحصل في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة البتة.
الثاني: أن المنافقين إذا القوا هذه الشبهة إلى إخوانهم، تثبطوا، وتخلَّفوا عن الجهاد، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة، والاستيلاء على الأعداء، والفوز بالأماني، بقي المتخلف عن ذلك في الحَسَد، والحَسرة.
الثالث: أن هذه الحسرة، إنما تحصُل يومَ القيامةِ في قلوب المنافقين، إذا رَأوا تخصيص الله للمجاهدين بمزيد من الكرامات وعُلُوِّ الدرجات، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخِزْي واللَّعْن والعقاب.
الرابع: أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضَعَفَة المسلمين، ووجدوا منهم قبولاً لها، فرحوا بذلك؛ لرواج كيدهم، ومكرهم على الضَّعَفَة، فالله - تعالى - يقول: إنه يصير ذلك حسرةً في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل.
الخامس: أن اجتهادَهُمْ في تكثير الشبهاتِ، وإلقاء الضلالات يُعْمِي قلوبهم، فيقعون عند ذلك في الحسرة، والخيبة، وضيق الصدر، وهو المراد بقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] .
السادس: أنهم إذا ألْقَوْا هذه الشبهةَ على الأقوياء، لم يلتفتوا إليهم، فيضيع سعيُهم ويبطل كيدُهم، فتحصل الحسرة في قلوبهم.
قوله: {والله يُحْيِي وَيُمِيتُ} فيه وجهان:
الأول: أن المقصود منه بيان الجواب عن شُبْهَة المنافقين، وتقريره: إن المحيي والمميت هو اللهُ تعالى، ولا تاثير لشيء آخر في الحياةِ والموتِ، وأن علمَ اللهِ لا يتغير، وأن حُكْمَه لا ينقلب، وأن قضاءه لا يتبدَّل، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟
فإن قيل: أن كان القولُ بأنّ قضاءَ اللهِ لا يتبدل يمنع من كون الجِدِّ والاجتهاد مفيداً في الحذر عن القتل والموت، فكذا القول بأن قضاءَ اللهِ يتبدَّل، وجب أن يمنع من كون العمل مفيداً في الاحتراز عن عقاب الآخرة، وهذا يمنع من لزوم التكليفِ. والمقصود من الآياتِ تقرير الأمر بالجهاد والتكلف، وإذا كان كذلك، كان هذا الكلام يُفْضي ثبوته إلى نفيه.
فالجوابُ: أن حُسْنَ التكليف - عندنا - غير مُعَلَّل بِعِلَّة ورعاية [مصلحة] ، بل اللهُ يفعل ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريد.
الثاني: أن [المقصود] بقوله: {والله يُحْيِي وَيُمِيتُ} أنه يُحْيي قلوبَ أوليائه وأهل(6/11)
طاعته بالنور والفرقان، ويُميتُ قلوبَ أعدائه من المنافقين بالضلال.
قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يعملون» بالغيبة؛ رَدَّا على {الذين كَفَرُواْ} والباقون بالخطاب؛ ردَّا على قوله: و {لاَ تَكُونُواْ} وهو خطابٌ للمؤمنينَ.
فإن قيل: الصادر منهم كان قولاً مسموعاً، لا فعلاً مَرْئِيًّا، فلِمَ علَّقه بالبصر دون السمع؟
فالجوابُ: قال الراغبُ: لما كان ذلك القول من الكفار قصداً منهم إلى عمل يحاولونه، خص البصر بذلك، كقولك - لمن يقول شيئاً، وهو يقصد فعلاً يحاوله -: أنا أرى ما تفعله.
قوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} اللام هي الموطئة لقسم محذوف، وجوابه قوله: {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وحُذِفَ جوابُ الشرط؛ لسَدِّ جواب القسم مسده؛ لكونه دالاً عليه وهذا ما عناه الزمخشريُّ بقوله: وهو ساد مسدَّ جواب الشرط. ولا يعني بذلك أنه من غير حذف.
قوله: {أَوْ مُتُّمْ} قرأ نافع وحمزة والكسائي «مِتُّمْ» - بكسر الميم - والباقون بضمها، فالضَّمُّ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ - مثل: قَالَ يَقُولُ قُلْتُ، ومن كسر، فهو من مَاتَ يَمَاتُ مِتُّ، مثل: هَابَ يَهَابُ هِبْتُ، وخَاَفَ يَخَافُ خِفْتُ. روى المبرِّدُ هذه اللغة.
قال شهابُ الدينِ: وهو الصحيحُ من قول أهل العربية، والأصل: مَوْتَ - بكسر العين - كخَوِفَ، فجاء مضارعه على يَفْعَل - بفتح العين -.
قال الشاعر: [الرجز]
1675 - بُنَيَّتِي يَا أسْعَدَ الْبَنَاتِ ... عِيشي، وَلاَ نأمَنُ انْ تَمَاتِي
فجاء بمضارعِهِ على يَفْعَل - بالفتح - فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء، أو إحدى أخواتها: مِتُّ - بالكسر ليس إلا - وهو انا نقلنا حركة الواو غلى الفاء بعد سلب حركتها، دلالة على بنية الكلمة في الأصل، هذا أوْلَى من قول من يقول: إن مِتُّ - بالكسر - مأخوذة من لغة من يقول يموت - بالضم في المضارع - وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال، كالمازني وأبي علي الفارسي، ونقله(6/12)
بعضُهُمْ عن سيبويه صريحاً، وإذا ثبت ذلك لغةً، فلا معنى إلى ادَّعاء الشذوذ فيه.
قوله: {لَمَغْفِرَةٌ} اللام لامُ الابتداءِ، وهي ما بعدها جواب القسم - كما تقدم - وفيها وجهان:
الأول: وهو الأظهر -: انها مرفوعة بالابتداء، والمسوِّغات - هنا - كثيرة: لام الابتداء، والعطف عليها في قوله: {وَرَحْمَةٌ} ووصفها، فإن قوله {مِّنَ الله} صفة لها، ويتعلق - حينئذٍ - و «خيرٌ» خبر عنها.
والثاني: أن تكون مرفوعةً على خبر ابتداءٍ مُضْمَرٍ - إذا أُرِيدَ بالمغفرة والرحمة القتل، أو الموت في سبيل الله؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله - فيكون التقدير: فلذلك، أي: الموت أو القتل في سبيل الله - مغفرة ورحمة خير، ويكون «خيرٌ» صفة لا خبراً، وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ؛ فإنه قال: وتحتمل الآية أن يكون قوله: {لَمَغْفِرَةٌ} إشارة إلى الموت، أوالقتل في سبيل الله، فسمى ذلك مغفرة ورحمة؛ إذ هما مقترنان به، ويجيء التقديرُ: لذك مغفرةٌ ورحمةٌ، وترتفع المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر، وقوله: «خير» صفة لا خبر ابتداء انتهى، والأول أظهر.
و «خير» - هنا - على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباسٍ: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء.
قال ابن الخطيبِ: «والأصوب - عندي - أن يقال: إن هذه اللام في» المغفرة «للتأكيد، فيكون المعنى: إن وجب أن تموتوا، أو تُقْتَلوا، في سفركم أو غزوكم، فكذلك وجب أن تفوزوا بالمغفرة - أيضاً - فلماذا تَحْتَرزون عنه؟ كأنه قيل: إن الموت والقتل غير لازم الحصولِ، ثمَّ بتقدير أن يكون لازماً، فغنه يستعقب لزوم المغفرةِ، فكيف يليق بالعاقل ان يحترز عنه» ؟
قوله: {وَرَحْمَةٌ} أي: ورحمة من الله، فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها، ولا بُدَّ من حذف آخر، مصحِّح للمعنى، وتقديره: لمغفرةٌ لكم من الله، ورحمة منه لكم.
فإن قيل: المغفرة هي الرحمة، فلِمَ كرَّرها، ونكَّرَها؟
فالجوابُ: أما التنكير فإن ذلك إيذان بأن أدنى خير أقل شيءٍ خير من الدنيا وما فيها، وهو المراد بقوله: «مما تجمعون» ونظيره قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [بالتوبة: 72] والتنكير قد يشعر بالتقليل، وأما التكرير فلا نسلمه؛ لأن المغفرة مرتبة على الرحمة، فيرحم، ثم يغفر.
قوله: «مما يجمعون» «ما» موصولة اسمية، والعائدُ محذوفٌ، يوجوز أن تكون مصدرية.
وعلى هذا فالمفعول به محذوف، أي: من جمعكم المال ونحو.
وقراءة الجماعة «تجمعون» - بالخطاب - جَرياً على قوله: «ولئن قتلتم» وحفص -(6/13)
بالغيبة - إما على الرجوع على الكفار المتقدمين، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.
فإن قيل: ههنا ثلاثة مواضع، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير، وقدِّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمةُ في ذلك؟
فالجوابُ: ان الأولَ لمناسبة ما قبله، من قوله: {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى} فرجع الموت لمن ضرب في الأرض، والقتل لمن غزا، وأما الثاني فلأنه مَحَلَّ تحريض على الجهادِ، فقُدِّمَ الأهمّ الأشرف، وأما الأخير فلأن الموت أغلب.
فإن قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلاً.
فالجوابُ: أنَّ الذي يجمعونه في الدُّنيا قد يكون من الحلال الذي يُعَدُّ خيراً، وأيضاً هذا واردٌ على حسب قولهم ومُعْتَقَدهم أن تلك الأموال خيرات.
فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
قوله: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} هذا الترتيب في غاية الحُسْنِ؛ فإنه قال في الآية الأولى: {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله} وهذه إشارةٌ إلى مَنْ عَبَدَه خوفاً من عقابه، ثم قال: {وَرَحْمَةٌ} وهو إشارة إلى مَنْ عبده لطلب ثوابه، ثم ختمها بقوله: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وهو إشارة إلى مَنْ عبده لمجردِ لمجردِ العبوديةِ والربوبيةِ، وهذا أعلى المقاماتِ، يروى أن عيسى - عليه السَّلامُ - مَرَّ باَقوامٍ نُحِفَتْ أبْدَانُهُمْ، واصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، ورأى عليهم آثارَ العبادة، فقال: ماذا تَطْلُبُون؟ فقالوا: نخشى عذابَ اللهِ، فقال: هو أكرمُ من أن يمنعكم رحمته.
ثم مرَّ بقوم، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم: فقالوا: نعبده لأنه إلهُنَا، ونحن عبيدُهُ، لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصونَ، والمتعبدون المحقون.
قوله: {لإِلَى الله} اللام جواب القسم، فهي داخلة على {تُحْشَرُونَ} و {وَإِلَى الله} متعلقٌ به، وإنما قُدِّم للاختصاص، أي: إلى الله - لا إلى غيره - يكون حشركم، أو للاهتمام به، وحسًّنه كونُه فاصلة، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده [بالنون] ، مع اللام، خلافاً للكوفيين؛ حيث يُجيزون التعاقُبَ بينهما.
كقول الشاعر: [الكامل](6/14)
1676 - وَقَتِيلِ مُرَّةَ أثأرَنَّ ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
فجاء بالنون دون اللام.
وقول الآخر: [الطويل]
1677 - لَئِنْ قَدْ ضَاقََتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
فجاء باللام دون النون، والبصريون يجعلونه ضرورة.
فإن فُصِلَ بين اللام بالمعمول - كهذه الآية - أو بقَدْ، نحو: والله لقد أقومُ.
وقوله: [الطويل]
1678 - كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى المرْءِ عِرْسَهُ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
أو بحرف التنفيس، كقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] فلا يجوز توكيده - حينئذ - بالنون، قال الفارسيُّ: «الأصل دخولُ النُّونِ، فَرْقاً بين لام اليمينِ، ولام الابتداءِ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلاتِ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرقُ، فلم يُحْتَجْ إلى النون وبدخولها على» سوف «حصل الفرق - أيضاً - فلا حاجةَ إلى النُّونِ ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً، أما مستقبلاً فلا» .
وأتى بالفعل مبنيًّا لما لم يسم فاعله - مع أن فاعل الحشرِ هُوَ اللهُ - وإنما لم يصرح به، تعظيماً.(6/15)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
في «ما» وجهان: أحدهما: أنها زائدة للتوكيد، والدلالة على أن لِينَهُ لَهُمْ ما كان إلا(6/15)
برحمة من اللهِ، نظيره قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13] وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] وقوله: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} [ص: 11] وقوله: {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ} [نوح: 25] . والعربُ قد تريد في الكلام - للتأكيد - ما يستغنى عنه، قال تعالى: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ} [يوسف: 96] فزاد «أن» للتأكيد.
وقال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين - غيرُ جائزٍ، بل تكون غير مزيدة، وإنما هي نكرة، وفيها وجهان:
الأول: أنها موصوفة ب «رَحْمَةٍ» أي: فبشيء رحمة.
الثاني: أنها غير موصوفة، و «رَحْمَةٍ» بدل منها، نقله مكيٌّ عن ابن كَيْسَان.
ونقل أبو البقاءِ عن الأخفش وغيره: أنها نكرة موصوفة، «رَحْمَةٍ» بدل منها، كأنه أبهم، ثم بين بالإبدال.
وقال ابن الخطيب: «يجوز أن تكون» مَا «استفهاماً للتعجب، تقديره: فبأي رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، وذلك؛ لأن جنايتهم لما كانت عظيمة - ثم إنه ما أظهر - ألبتة - تغليظاً في القول، ولا خشونة في الكلام - علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد ربانيٍّ وتسديدٍ إلهيٍّ فكان ذلك موضع التعجب» .
ورد عليه أبو حيّان بأنه لا يخلو إما أن يجعل «ما» مضافة إلى «رَحْمَةٍ» - وهو ظاهر تقديره - فيلزم إضافة «ما» الاستفهامية، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا «أي» اتفاقاً و «كم» عند الزَّجَّاج - وإما أن لا يجعلها مضافة، فتكون «رَحْمَةٍ» بدلاً منها، وحينئذٍ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل، كما قرره النحويون. ثم قال: «وهذا الرجلُ لاحظ المعنى، ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك، والتسلق إلى ما لا يحسنه والتصوُّر عليه قول الزجاج - في» ما «هذه: إنها صلة، فيها معنى التأكيدِ بإجماع النحويينَ.
وليس لقائل أن يقولَ: له أن يجعلها غير مضافةٍ، ولا يجعل» رَحْمَةٍ «بدلاً - حالا يلزم إعادة حرف الاستفهام - بل يجعلها صفة، لأن» ما «الاستفهامية لا توصف وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى، وإليه ذهب أبو بكر الزبيديُّ، فكان لا يُجَوِّزُ أن يقال - في القرآن -: هذا زائد أصلاً.
وهذا فيه نظرٌ؛ لأن القائلين يكون هذا زائداً لا يَعْنون أنه يجوز سقوطه، ولا أنه مُهْمَلٌ لا معنى له بل يقولون: زائد للتوكيدِ، فله أسوةٌ بشائرِ ألفاظِ التوكيدِ الواقعة في القرآن. و» ما «كما تُزاد بين الباء ومجرورها، تزاد أيضاً بين» من «و» عَنْ «والكاف ومجرورها.
قال مكيٌّ: «ويجوز رفع» رحمة «على أن تجعل» ما «بمعنى الذي، وتضمر» هُوَ «(6/16)
في الصلة وتحذفها، كما قرئ: {تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] . فقوله: ويجوزُ يعني من حيث الصناعةِ، وأما كونها قراءة، فلا نحفظها.
فصل
الليْنُ: الرفق. ومعنى الكلام. فبرحمة من الله لنت لهم، أي: سهلت لهم أخلاقك، وكثر احتمالك، ولم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أُحُدٍ. واحتجوا - بهذه الآية - على مسألة القضاء والقدر، لأن اللهَ بين أن حسن الخلق إنما كان بسبب رحمة الله تعالى.
قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} الفظاظةُ: الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً، قال الشَّاعرُ: [البسيط]
1679 - اخشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ، أوْ جَفَاءَ أخ ... وَكُنْتُ أخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذَى الْكَلم
والغلظُ: كبر الإجرام، ثم تجوز به في عدم الشفقة، وكثرة القسوةِ في القلب.
قال الشاعرُ: [البسيط]
1680 - يُبْكَى عَلَيْنَا وَلاَ نَبْكِي عَلَى أحَدٍ ... ونَحْنُ أغْلَظُ أكْبَاداً مِنَ الإبِلِ
وقال الراغبُ: الفَظَّ: هو الكريه الخُلُق، وقال الواحديُّ: الفَظُّ: الغليظُ الجانبِ، السيِّء الخُلُق وهو مستعارٌ من الفَظِّ، وهو ماء الكرش، وهو مكروه شُربه إلا في ضرورة.
وقال الراغبُ: الغَلِظ: ضد الرِّقَّةِ، ويقال: غلظ بالكسر والضم وعن الغِلْظة تنشأ الفظاظة.
فإن قيل: إذا كانت الفظاظةُ تنشأُ عن الغلظة، فلم قُدَِّمَتْ عَلِيْهَا؟
فالجوابُ: قُدِّم ما هو ظاهر للحس على ما خافٍ في القلب؛ لأن الفظاظة: الجفوة في العِشْرَة قولاً وفعلاً - كما تقدم - والغلظة: قساوة القلب، وهذا أحسن من قول من جعلهما بمعنى، وجمع بينهما تأكيداً. وأما الانفضاض والغضّ فهو تفرُّق الأجزاء وانتشارها. ومنه فضَّ ختم الكتاب، ثم استُعِير منه انفضاض الناس، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ومنه يقال: لا يفضض اللهُ فاك.(6/17)
فصل في معنى الآية
ومعنى الكلامِ: لو كنتَ جافياً، سَيّء الخُلُقِ، قليل الاحتمالِ.
وقال الكلبيُّ: فظاً في القول، غليظ القلبِ في الفعلِ، لانفضوا من حولك تفرَّقوا عنك وذلك أن المقصود من البعثة أن يبلِّغ الرسولُ تكاليفَ اللهِ تعالى إلى الخَلْق، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه، وسكون نفوسهم لديه، وهذا المقصودُ لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم، كريماً، يتجاوز عن ذنوبهم، ويعفو عن سيئاتهم، ويخصهم بالبرِّ والشفقة، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسولُ مُبَرَّءاً عن سوء الخلق، وغِلْظة القلبِ، ويكون كثير الميلِ إلى إعانة الضعفاء، وكثير القيام بإعانة الفقراء.
وحمل القفَّال هذه الايةَ على واقعة أُحُد، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} يوم أحُد، حين عادُوا إليك يعد الانهزام {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب} فشَافَهْتُهُمْ بالملامة على ذلك الانهزام {لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} هيبة منك وحياءً، بسبب ما كانوا منهم من الانهزام، فكان ذلك مما يُطْمَع العدو فيك وفيهم.
قوله
: {فاعف
عَنْهُمْ} جاء على أحسن النسق، وذلك أنه - أولاً - أُمِر بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصَّةِ نفسه، فإذا انتهَوْا إلى هذا المقام أمر أن يستغفرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى، لتنزاح عنهم التبعاتُ، فلما صاروا إلى هنا أُمِرَ بأن يشاوروهم في الأمرِ إذا صاروا خالصين من التبعتين، مُصَفَّيْنَ منهما.
والأمرُ هنا - وإن كان عاماً - المراد به الخصوص. قال أبو البقاء: الأمر - هنا - جنس، وهو عامٌّ يراد به الخاصُّ؛ لأنه لم يُؤمَر بمشاورتهم في الفرائض، ولذلك قرأ ابن عباسٍ: في بعض الأمر وهذا تفسيرٌ لا تلاوةٌ.
فصل
ظاهر الأمر الوجوب، و «الفاء» في قوله: {فاعف عَنْهُمْ} تدل على التعقيب، وهذا يدل على أنه - تعالى - أوجب عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعفو عنهم في الحال، ولما آل الأمرُ إلى الأمة لم يوجبه عليهم، بل ندبهم إليه، فقال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وقوله: {واستغفر لَهُمْ} يدل على دلالة قوية على أنه - تعالى - يعفو عن أصحاب الكبائر، لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة، لقوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} [الأنفال: 16] وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين عد الكبائر -: «والتولي يوم الزحف» وإذا ثبت أنه كبيرة، فالله تعالى - حضّ - في هذه الآية - على العفو عنهم، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالاستفغار(6/18)
لهم، وإذا أمره بالاستغفار لهم لا يجوز أن لا يجيبه إليه؛ لأن ذلك لا يليق بالكريم، وإذا دلت الآية على أنه - تعالى - شفع محمداً في أصحاب الكبائر في الدنيا فلأنه يشفعه يوم القيامة كان أولى.
قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} يقال شاورهم مشاورة وشِوَاراً وَمَشورة، والقوم شورى، وهي مصدر، سمي القوم بها، كقوله: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] قيل: المشاورة: مأخوذة من قولهم: شُرتُ العسل، أشورُه: إذا أخذته من موضعه واستخرجته.
وقيل: مأخوذة من قولهم: شربت الدابّة، شوراً - إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدوابّ يسمى مشواراً، كأنه بالعرض - يعلم خيره وشرهن فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها.
الفائدة في أمر اللهِ لرسوله بالمشاورة من وجوه:
الأول: أن مشاورة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إياهم توجب علو شأنهم، ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له، فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم، فيحصل سوء الخلقِ والفظاظة.
الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن كان أكملَ الناس عقلاً، إلا أن [عقول] الخلق غير متناهية، فقد يخطر ببال إنسانٍ من وجوه المصالح - ما لا يخطر ببال آخرَ، لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا، قال: «أَنتم أعرف بأمور دنياكم» ولهذا السبب قال: «ما تشاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم» .
الثالث: قال الحسنُ وسفيانُ بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير ذلك سنة في أمته.
الرابع: أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاورهم في واقعة أُحُد، فأشاروا عليه بالخروج، وكان ميله إلى ألا يخرج، فلما خرج وقع ما وقع، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم - بسبب مشاورتهم - بقية أثرٍ، فأمره الله - تعالى - بمشاورتهم بعد تلك الواقعةِ، ليدل على أنه لم يَبْقَ في قلبه أثرٌ من تلك الواقعة.
الخامس: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بمشاورتهم، لا ليستفيد منهم رأياً وعِلْماً، بل ليعلم مقادير عقولهم، ومحبتهم له.
وقيل: أمر بالمشاورة [ليعلم] مقدار عقولهم وعلمهم، فينزلهم منازلهم على(6/19)
قدر عقولهم وعلمهم. وذكروا - أيضاً - وُجُوهاً أُخَرَ، وهذا كافٍ.
فصل
اتفقوا على أنَّ كلَّ ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشاورَ الأمةَ فيه، لأن النصَّ إذا جاء بطل الرأي والقياس، أما ما لا نصَّ فيه، فهل يجوز المشاورةُ فيه في جميع الأشياء، أم لا؟ قال الكلبيُّ وأكثر العلماء: الأمر بالمشاورة إنما هو في الحروبِ، قالوا: لأن الألف واللام - في لفظ «الأمر» ليسا للاستغراق؛ لما بينَّا أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه، فوجب حمل الألف واللام - هنا - على المعهود السابق، والمعهودُ السابقُ في هذه الآية ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو، فكان قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} مختصاً بذلك وقد أشار الحُبابُ بنُ المنذر يوم أُحُدٍ - على النبي بالنزول على الماء، فقبل منه. وأشار عليه السعدان - سعد بنُ معاذٍ وسعد بن عبادةَ - يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا، فقبل منهما، وخرق الصحيفةُ.
وقال بعضهم: اللفظ عام، خص منه ما نزل فيه وحيٌ، فتبقى حجته في الباقي.
قال بعضهم: هذه الآية تدل على أن القياسَ حُجَّةٌ.
فصل
روى الواحديُّ في «البسيط» عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: الذي أمر النبي بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - واستشكلته ابن الخطيب، قال: «وعندي فيه إشكالٌ؛ لأن الذين امَرَ اللهُ رسولَه بمشاورتهم في هذه الآية هم الذي أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم - وهم المنهزمون - فَهَبْ ان عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآيةِ إلا أن أبا بكر ما كان منهم، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟» .
قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ} الجمهورُ على فتح التاءِ؛ خطاباً له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقرأ عكرمة وجعفر الصادق - ورُويت عن جابر بن زيد - بضَمِّها. على انها لله تعالى، على معنى: فإذا ارشدتك إليه، وجعلتك تقصده.
وجاء قوله: من الالتفات؛ إذ لو جاء على نسقِ هذا الكلام لقيل: فتوكل عليَّ.
فقد نُسِب العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة: «ثم عزم الله لي» وذلك على سبيل المجاز.
فصل
معنى الكلامِ: فإذا عزمتَ على اللهِ لا على مشاورتهم، أي: قم بأمر اللهِ،(6/20)
وثق به، {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} وهذا جارٍ مجرى العلةِ الباعثةِ على التوكُّل عند الأخذ في كل الأمورِ، وهذه الآية تدل على أنه ليس التوكُّلُ أن يُهْمِل نفسه - كقول بعض الجُهَّال - وإلا لكان الأمرُ بالمشاورة منافياً [للأمر بالتوكل] ، بل التوكلُ هو أن يراعيَ الإنسانُ الأسبابَ الظاهرةَ، ولكن لا يعوِّل بقلبه عليها، بل يعوِّل على عصمة الحقِّ.
فصل
التوكلُ: الاعتماد على الله تعالى مع إظهار العجزِ، والاسم: التُّكْلان، يقال منه: اتكلت عليه في أمري وأصله، اوتَكَلْتُ، قُلِبت الواو ياء، لانكسار ما قبلها، ثم أُبْدِلت منها التاء، وأدغمت في تاء الافتعال، ويقال: وكَّلْته بأمري توكيلاً، والاسم: الوكَالة - بكسر الواو وفتحها -.(6/21)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
قوله: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} شرطٌ وجوابه، وكذلك قوله: {وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي} وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب - كذا قوله أبو حيان. يعني من الغيبة في قوله: {لِنتَ لَهُمْ} وقوله: {لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وقوله: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} قال شهاب الدين: وفيه نظر. وجاء قوله: {فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} جواباً للشرطِ، وهو نفيٌ صريحٌ، وقوله: {فَمَن ذَا الذي} - وهو متضمن للنفي - جوابٌ للشرط الثاني، تلطفاً بالمؤمنين، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني بل أتى به في صورة الاستفهام - وإن كان معناه نفياً.
وقوله: {فَمَن ذَا الذي} قد تقدم مثله في البقرة.
والهاء - في قوله: {مِّنْ بَعْدِهِ} - فيها وجهان:
أحدهما - وهو الأظهر -: أنها تعود على «الله» تعالى، وفيه احتمالانِ:
الأول: أن يكون ذلك على حذف مضاف، أي: من بعد خذلانه.
الثاني: إنه يحتاج إلى ذلك، ويكون معنى الكلامِ: إنكم إذا جاوزتموه إلى غيره، - وقد خذلكم - فمن يجاوزه إليه وينصركم؟
ثانيهما: أن يعود على الخذلان المفهوم من الفعلن وهو نظيرُ قوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] .
قوله: {إِن يَنصُرْكُمُ الله} يعنكم ويمنعكم من عدوكم {فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} مثل يوم بدر {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} يترككم كما أن بأُحُدٍ - لم ينصركم أحَدٌ. والخذلان: القعود عن(6/21)
النصرة. قراءة الجمهور {يَخْذُلْكُمْ} - بفتح الياء - من خَذَله - ثلاثياً -.
وقرا عمرو بن عبيد: «يُخْذِلْكُم» - بضم الياء - من أخْذَلَ - رباعياً - والهمزة فيه لجعل الشيء، أي: إن يجعلكم مخذولين، والخّذْل والخُذلان - ضد النصر - وهو ترك من يظن به النُّصرة، وأصله من خَذَلَت الظبيةُ ولدَها - إذا تركته منفرداً - ولهذا قيل لها: خاذل ويقال للولدِ المتروك - أيضاً -: خاذل، وهذا النَّسَبِ، والمعنى: أنَّها مخذولة.
قال الشاعرُ: [البسيط]
1681 - بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أدْمَاءَ خَاذِلَةٍ ... مِنَ الظِّبَاءِ تُرَاعِي شَادِناً خَرِقاً
ويقال له - أيضاً -: خذول، فعول بمعنى مفعول.
قال الشاعر: [الطويل]
1682 - خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَباً بِخَمِيلَةٍ ... تَنَاوَلُ اطْرَافَ الْبريرِ وتَرْتَدِي
ومنه يقال: تخاذلَتْ رجلا فلان.
قال الأعشى: [الرمل]
1683 - بَيْنَ مَغْلوبٍ كَريمٍ جَدُّهُ ... وخَذُولِ الرَجْلِ مِنْ غَيْرِ كَسَحْ
ثم قال: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} فقدم الجارّ إيذاناً بالاختصاص، أي: ليخص المؤمنون رَبَّهُم بالتوكل عليه والتفويض له؛ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواهُ. وهو معنى حَسَنٌ، ذكره الزمخشريُّ.
فصل
احتجوا - بهذه الآية - على الإيمانَ لا يحصل إلا بإعانة الله، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه؛ لأن الآية دالةٌ على أن الأمر كلَّهُ للهِ.(6/22)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
{أَنْ يَغُلَّ} في محل رفع، اسم كان و «لنبيّ» خبرٌ مقدَّمٌ، أي: ما كان له غلول أو إغلال على حسب القراءتينِ.(6/22)
وقرا ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، وعاصم، بفتح الياء وضم الغين - من غل - مبنياً للفاعل، ومعناه: أنه لا يصح أن يقع من النبي غلول؛ لتنافيهما، فلا يجوز أن يتوهَّمَ ذلك فيه ألبتة.
وقرأ الباقون «يُغَلَّ» مبنياً للمفعول، وهذه القراءة فيها احتمالانِ:
أحدهما: أن يكون من «غَلَّ» ثلاثياً، والمعنى: ما صح لنبيٍّ أن يخونه غيره ويَغُلَّهُ، فهو نفيٌ في معنى النهي، أي: لا يَغُلَّهُ أحدٌ.
ثانيهما: أن يكون من «أغَلَّ» رباعياً، وفيها وجهانِ:
أحدهما: أن يكون من «أغَلَّهُ» أي: نسبه إلى الغُلُولِ، كقولهم: أكذبته إذا نسبته إلى الكذب - وهذا في المعنى كالذي قبله، أي: نفي في معنى النهي، أي: لا يَنْسبه أحدٌ إلى الغلولِ.
قال ابن قتيبة: ولو كان الرمادُ هذا المعنى لقيل: يُغَلَّلُ كما يقال: يُفَسَّق، ويُخَوَّن، ويُفَجَّر، والأولى أن يقال: إنه من «أغللته» أي: وجدته غالاً، كما يقال: «أبخَلْتُهُ» .
الثاني: أن يكون من «أغلَّهُ» أي: وَجَدتهُ محموداً وبخيلاً.
والظاهر أن قراءة «يَغُلَّ» بالبناء للفاعل - لا يُقَدَّر فيها مفعول محذوف؛ لأن الغرض نفي هذه الصفةِ عن النبيِّ من غير نظر إلى تعلق بمفعول، كقولك: وهو يُعْطِي ويمنع - تريد إثبات هاتين الصفتين، وقدر له أبو البقاء مفعولاً، فقال: تقديره أن يغل المال أو الغنيمة.
واختار أبو عبيدة والفارسي قراءة البناء للفاعل قالا: «لأن الفعل الوارد بعد» ما كان لكذا أن يفعل «أكثر ما يجيء منسوباً إلى الفاعل نحو: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} [آل عمران: 145] ، {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ} [آل عمران: 179] و {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله} [يوسف: 38] {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} [يوسف: 76] {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} [التوبة: 115] {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} [آل عمران: 179] ويقال: ما كان ليضرب، فوجب إلحاق هذه الآية بالأعم الأغلب ويأكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة، وقال: ليس في الكلام ما كان لكَ أن تُقرب - بضم التاء، وأيضاً فهذه القرءة اختيار ابن عباسٍ، فقيل له: إن ابن مسعودٍ يقرأ: يُغل فقال ابنُ عباس: كان النبيُّ يقصدون قتله فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة.
قال شهاب الدين، ورجحها بعضهم بقوله: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ} فهذا يوافق(6/23)
هذه القراءة، ولا حجة في ذلك؛ لأنها موافقة للأخرى.
و» الغلول «في الأصل تدرع الخيانة وتوسطها و» الغلل «تَدْرُّع الشيء وتوسطه، قال: [الوافر]
1684 - تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ سَرَابٌ ... وَلاَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ
قيل: تَغَلْغَلَ الشيء إذا تخلل بخفية.
قال: [الوافر]
1685 - تَغَلْغَلَ حُبُّ مَيَّةَ فِي فُؤادِي ... والغلالة: الثوب الذي يلبس تحت الثياب، والغلول الذي هو الأخذُ في خفية مأخوذةٌ من هذا المعنى.
ومنه: أغل الجازر - إذا سرق وترك في الإهاب شيئاً من اللحم. وفرَّقت العرب بين الأفعال والمصادر، فقالوا: غَلَّ يَغَلُّ غلولاً - بالضم في المصدر والمضارع - إذا خان. وغَلَّ يَغِلُّ غِلاًّ - بالكسر فيهما - الحقد قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] أي: حِقْد.
قال القرطبيُّ: «والغالّ: أرض مطمئنة، ذات شجرٍ، ومنابت الساج والطلح، يقال لها: غال. والغال: - أيضاً: نبت، والجمع: غُلاَّن - بالضم» .
فصل
اختلفوا في أسباب النزولِ: فرُوِيَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غنم في بعض الغزوات، وجمع الغنائم، وتأخرت القسمةُ؛ لبعض الموانع، وقالوا: ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَوْ كَانَ لَكُمْ مِثْلُ أحُدِ ذَهَباً مَا حَبَسْتُ عَنْكُمْ دِرْهَماً، أَتَحْسَبُونَ أنِّي أغُلُّكُمْ مَغْنَمَكُم» فانزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل: الآية نزلت في أداء الوحي، كان صلى الله يقرأ القرآن، وفيه عَيْبُ دينهم وسَبُّ آلهتهم، فسألوه أن يترك ذلك، فنزلت.
وروى عكرمة وسعيد بن جبير: أن الآية نزلت في قطيفة حمراء، فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذها، فنزلت الآية.(6/24)
ورُوِيَ - من طريق آخرَ - عن ابن عباسٍ: أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الغنائم بشيء زائد، فنزلت الآية.
ورُوِيَ أنه بعض طلائع، فغنموا غنائم، فقسمها ولم يُقسَّم للطلائع، فنزلت الآيةُ.
وقال الكلبيُّ ومقاتل: نزلت هذه الآيةُ في غنائم أحدٍ، حين ترك الرُّماة المركز؛ طلباً للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَنْ أخذ شيئاً فهو له، وأن لا يقسم الغنائم - كما لم يقسِّمْها يوم بدرٍ - فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم، فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ألم أقل لكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيهم أمري؟» قالوا: تركنا بقية إخوانِنا وقوفاً، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بل ظننتم أن نَغُلَّ، فلا نقسم،» فنزلت الآية.
وقيل: إن الأقرباء ألحُّوا عليه يسألونه من المَغْنَم، فأنزل الله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ} فيُعْطي قوماً، ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بينهم بالسَّوِيَّةِ.
هذه الأقوال موافقة للقراءة الأولى.
وأما ما يوافق القراءة الثانية فرُوِيَ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما وقعت غنائمُ هوازن في يده يوم حُنَيْن، غَلَّ رَجُلٌ بمخيط، فنزلت هذه الآيةُ.
وقال قتادة: ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه.
قوله: {وَمَن يَغْلُلْ} الظاهر أن هذه الجملة الشرطية مستأنفةٌ لا محل لها من الإعرابِ، وإنما هي للردع عن الإغلالِ، وزعم أبو البقاء أنها يجوز أن تكون حالاً، ويكون التقدير: في حال علم الغالِّ بعقوبة الغلول.
وهذا - وإن كان محتملاً - بعيدٌ.
و «ما» موصولة بمعنى الذي، فالعائد محذوف أي: غَلَّه، ويدل على ذلك الحديث، أنّ أحدهم يأتي بالشيء الذي أخذه على رقبته.
ويجوز أن تكون مصدرية، ويكون على حذف مضاف، أي: بإثم غُلوله.(6/25)
فصل
قال أكثر المفسّرينَ: إن هذه الآية على ظاهرها، قالوا: وهو نظير قوله في مانع الزكاة: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35] ويدل عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أو شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، فَيُنَادِي يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فأقُولَ: لاَ امْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، قَدْ بَلَّغْتُكَ» .
وعن ابن عباس أنه قال: يمثِّلُ له ذلك الشيء في قَعْرِ جهنمَ، ثم يقال له: أنزل إليه فخُذْه، فينزل إليه، فإذا انتهى إليه حمله على ظهره، فلا يُقْبل منه.
قال المحققونَ: وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامةِ، وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحتُه.
وقال أبو مسلم: ليس المقصودُ من الآية ظاهرَها، بل المقصود تشديدُ الوعيدِ على سبيل التمثيلِ، كقوله تعالى: {إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهرِ، بل المقصود إثبات أن اللهَ لا يغرب عن علمه وعن حفظه مثقالُ ذرةٍ في الأرضِ، ولا في السماءِ، فكذا هنا المقصود تشديدُ الوعيد، والمعنى: أن الله يحفظ عليه هذا الغلول، ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية.
وقال الكعبيُّ: المرادُ أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء.
قال ابن الخطيبِ: والأول أولى؛ لأنه حمل الكلام على حقيقته.
وقيل: معنى: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} أي: يشهد عليه يومَ القيامةِ بتلك الخيانةِ والغلولِ.
فصل
قال القرطبيُّ: دلَّتْ هذه الآية على أن الغلولَ من الغنيمة كبيرةٌ من الكبائرِ، ويؤيده ما ورد من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: - في مدعم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أخذَ يَوْمَ خَيْبَرِ مِنَ الْمَغَانِمِ ولم تُصِبْهَا المَقَاسِمُ - لتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً» فلما سمع الناسُ ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: «شَرِاكٌ أو شَرِكَانِ مِنْ نَارٍ» وامتناعه من الصلاة(6/26)
على مَنْ غَلَّ دليلٌ على تعظيم الغلولِ، وتعظيم الذنب فيه، وأنه من الكبائر، وهو من حقوق الآدميين، ولا بُدَّ فيه من القصاص بالحسنات والسيئات، ثم صاحبه في المشيئة وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «شَرِاكٌ أو شَرِاكَانِ مِنْ نَارٍ» مثل قوله: «أدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ» وهذا يدل على أن القليلَ والكثير لا يحلّ أخذهُ في الغَزْو قبل المقاسم، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغزو والاحتطابِ والاصطيادِ.
فصل
قال القرطبيُّ: أجمع العلماءُ على أنه يجب على الغالِّ أن يرد ما غله إلى صاحب المقاسم قبل أن ينصرف الناسُ - إذا أمكنه - فذلك توبته. واختلفوا فيما يُفْعَل به إذا افترق أهلُ العسكر ولم يصل إليه، فقال جماعة من أهل العلمِ: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي - وكذا كل مال لا يعرف صاحبه فإنه يُتَصدق به - وقال الشاافعيُّ: ليس له الصدقة بمال غيره.
فصل
اختلفوا هل يعاقب الغلّ بإحراق متاعه؟ قال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة وأصحابهم والليث: لا يحرق متاعه.
وقال الشافعيُّ: إن كان عالماً بالنهي عوقب.
وقال الأوزاعيُّ: يُحْرَق متاع الغال كلُّه إلا سلاحه وثيابَه التي عليه وسرجه، ولا يُنْزَع منه دابتُه، ولا يُحْرَقُ الشيءُ الذي غَلَّ، وهذا قول أحمد وإسحاق، وقال الحسن: إلا أن يكون حيواناً أو مصحفاً.
فصل
في العقوبة بالمال، قال مالك - في الذَّمِّيّ الذي يبيع الخمرَ من المُسْلِمِ - يراق الخمر على المُسْلِمِ، ويُنْزَع الثمن من الذميّ؛ عقوبةً له؛ لئلا يبيعَ الخمر بين المسلمين، وقد أراق عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لبناً شِيَبَ بِماء.
فصل
من الغلول هدايا العمال؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للذي أهْدِيَ إليْه، وكان بعضه على الصدقة،(6/27)
فأهْدِيَ إليه فقال: هذا لكم، وهذا أهْدِيَ إليَّ فقال عليه السلام: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، هَذَا لَكُمْ، وهَذَا أهْدِيَ إليَّ، ألاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ وَأبِيهِ، فَيَنْظُرَ أيُهْدَى إلِيْهِ أَمْ لاَ» .
فصل
ومن الغلول - أيضاً - حَبْس الكتبِ عن أصحابها، وما في معناها.
قال الزهريُّ: إياك وغلول الكتبِ، فقيل له: وما غلول الكتب؟ قال حبسها عن أصحابها. وقد قيل - في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: يكتم شيئاً من الوحي؛ رغبةً، أو رهبةً، أو مُدَاهَنَةً.
قوله: {ثُمَّ توفى} هذه الجملة معطوفة على الجملة الشرطية، وفيها إعلامٌ أن الغالَّ وغيره من جميع الكاسبين لا بد وأن يُجَازوا، فيندرج الغالُّ تحت هذا العموم - أيضاً - فكأنه ذُكِرَ مرتَيْن.
قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: هلاَّ قِيلَ: ثم يُوَفَّى ما كسب؛ ليتصل به؟
قلت: جيء بعامٍّ دخل تحته كلُّ كاسب من الغالِّ وغيره، فاتصل به من حيث المعنى، وهو أثبتُ وأبلغ.
فصل
تمسك المعتزلة بهذا في إثبات كون العبد فاعلاً، وفي إثبات وعيد الفساق.
أما الأول: فلأنه - تعالى - قال - في القاتل المتعمد -: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] وأثبت في هذه الآية أن كلَّ عاملٍ يصل إليه جزاؤه، فيحصل - من مجموع الآيتين - القطع بوعيد الفساق.
والجواب عن الأول: المعارضة بالعلم، وعن الثاني: أن هذا العموم مخصوص في صورة التوبةِ فكذلك يجب أن يكون مخصوصاً في صورة العفو، للدلائل الدالة على العفو. ثم قال تعالى: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .(6/28)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
لما قال - في الآية الأولى -: {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أتبعه بتفصيل هذه(6/28)
الجملة، فقال: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} والكلام [في] مثله قد تقدم من أن الفاء النية بها التقديم على الهمزة، وأن مذهب الزمخشريِّ تقدير فعل بينهما.
قال أبو حيّان: وتقديره - في هذا التركيب - متكلِّف جدًّا.
والذي يظهر من التقديرات: أجعل لكم تمييزاً بين الضالِّ والمهتدي، فمن اتبع رضوان الله واهتدَى ليس كَمَنْ باء بسخَطِه؛ وغل؛ لأن الاستفهام هنا - للنفي.
و «مَنْ» - هنا - موصولة بمعنى الذي في محل بالابتداء، والجار والمجرور الخبر، قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون شَرْطاً؛ لأن» كَمَنْ «لا يصلح أن يكون جواباً» . يعني: لأنه كان يجب اقترانه بالفاء؛ لأن المعنى يأباه. و «بِسَخَطٍ» يجوز أن يتعلق بنفس الفعل، أي: رجع بسخطه، ويجوز أن يكون حالاً، فيتعلق بمحذوف، أي رجع مصاحباً لسخطه، أو ملتبساً به، و {مِّنَ الله} صفته.
والسَّخَط: الغضبُ الشديدُ، ويقال: سَخَط - بفتحتين - وهو مصدر قياسي، ويقالأ: سُخْط - بضم السين، وسكون الخاء - وهو غير مقيس. ويقال: هو سُخْطةُ الملك - بالتاء - أي في كرهه منه له.
وقرأ عاصم - في إحدى الروايتين عنه - رُضْوان - بضم الراء - والباقون بكسرها، وهما مصدران، فالضم كالكُفْران، والكسر كالحِسْبان.
فصل الهمزة فيه للإنكارِ، والفاء، للعطف على محذوف، والتقدير: أفمن اتقى فابتع رضوان الله وقوله: «بَاءَ» أي: رجع، وقد تقدم.
واختلف المفسّرون، فقال الكلبيُّ والضحَّاك: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} في ترك الغلول {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} في فِعْل الغُلول؟ .
وقيل: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} بالإيمان به والعمل بطاعة {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وقيل: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} وهم المهاجرون {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} وهم المنافقون؟ .
وقال الزَّجَّاجُ: لما حمل المشركون على المسلمين دَعَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه إلى أن يَحْملوا على المشركين، ففعله بعضهم، وتركه آخرونَ، فقوله: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} وهم الذين امتثلوا أمره {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} وهم الذين لم يقبلوا قَوْلَه؟(6/29)
قال القاضي: «كُلُّ وَاحِدٍ من هذه الوجوهِ صحيحٌ، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه؛ لأن اللفظ عام؛ فيجب أن يتناول الكُلُّ، وإن كانت الآيةُ نزلت في واقعة معينة لكن عمومَ اللفظِ لا يُبْطِلُ بِخُصوصِ السبب.
وقوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} في هذه الجملة احتمالان:
أحدهما: أن تكون مستأنفة، أخبر أن مَنْ بَاءَ بِسَخَطه أوَى إلى جهنمَ، وتفهم منه مقابله، وهو أن من اتّبع الرضوانَ كان مأواه الجنة، وإنما سكت عن هذا، ونص على ذلك ليكون أبلغ في الزَّجْر، ولا بد من حذف في هذه الجُمَلِ، تقديره: أفمن أتبع ما يؤول به إلى رضا الله فباء برضاه كمن أتبع ما يؤول به إلى سخطه؟
الثاني: أنها داخلة في حَيِّز الموصول، فتكون معطوفة على» بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله «فيكون قد وصل الموصول بجملتين: اسمية وفعلية، وعلى الاحتمالين، لا محلَّ لها من الإعراب.
قوله: {وَبِئْسَ المصير} المخصوص بالذم محذوف، أي وبئس المصيرُ جهنمُ.
واشتملت الآية على الطباق في قوله: {يَنصُرْكُمُ} و {يَخْذُلْكُمْ} وقوله: {رِضْوَانَ الله} و» بسخطه «والتجنيس المماثل في قوله: {يَغُلَّ} و {بِمَا غَلَّ} .(6/30)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
{هُمْ دَرَجَاتٌ} مبتدأ وخبر، ولا بد من تأويل [بالإخبار] بالدرجات عن «هم» لأنها ليست إياهم، فيجوز أن يكون جُعُلوا نَفْسَ الدرجات مبالغةً، والمعنى: أنهم متفاوتون في الجزاء على كَسْبهم، كما أن الدرجات متفاوتة والأصل على التشبيه، أي: هم مثل الدرجات في التفاوت.
ومنه قوله: [الوافر]
1686 - أنصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَريهم ... رِجَالِي أمْ هُمُ دَرَجُ السُّيُولِ(6/30)
ويجوز أن يكون على حَذْف مضاف، أي: هم ذوو درجات، أي: أصحاب منازل ورُتَب في الثواب والعقاب وأجاز ابنُ الخطيب أن يكون في الأصل: لهم درجاتٌ - فحُذِفت اللامُ - وعلى هذا يكون «درجات» مبتدأ، وما قبلها الخبرُ، وردَّه بعضهم، وقال: هذا من جهله وجهل متبوعيه - من المفسرين - بلسان العرب، وقَالَ: لا مساغ لحذف اللام ألبتة؛ لأنها إنما تُحَذَف في مواضع يضطر إليها، وهنا المعنى واضحٌ، مستقيم من غير تقدير حَذْف.
قال شهابُ الدينِ: «وادِّعاء حذف اللام خَطَأٌ، والمخطئ معذورٌ؛ وقد نُقِلَ عن المفسرين هذا، ونقل عن ابن عبَّاسٍ والحسنِ لكل درجات من الجنة والنار، فإن كان هذا القائل أخذ من هذا الكلام بأن اللام محذوفة فهو مخطئ؛ لأن هؤلاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - يفسَِّرون المعنى لا الإعراب اللفظي» .
وقرأ النخعي «هم درجة» بالإفراد على الجنس.
قوله: {عِندَ الله} فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب «درجات» فيكون في محل رفع.
فصل
«هم» عائد إلى لفظ «من» في قوله: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} ولفظ «كم» معناه الجمع. ونظيره قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} [السجدة: 18] . ثم قال: «لا يستوون» بصيغة الجمع، وهو عائد إلى «من» .
واعلم أنه لما عاد إلى المتقدم ذكره، والذي تقدّم ذكره نوعان: من اتبع رضوان الله، ومن باء بسخطٍ من الله - يُحتمل أن يعودَ إلى الأول، ويحتمَل أن يعودَ إلى الثاني، ويحتمل أن يعودَ إليهما، فإن عاد إلى الأول صَحَّ - ويكون التقديرُ: إنّ أهلَّ الثَّواب درجات على حسب أعمالهم - لوجوه:
الأول: ان الغالب - في العُرْف - استعمال الدرجاتِ في أهل الثّوابِ والدركات في أهل العقاب.
الثاني: أن ما كان من الثّواب والرحمة فإن الله يُضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54] فلما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه - حيث قال: «عند الله» - علمنا أن المراد أهل الثواب ويؤكده هذا قوله تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 21] .(6/31)
الثالث: أنه - تعالى - وصف مَنْ باء بِسَخَطٍ من الله - وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصيرِ - فوجب أن يكون قوله: «هم درجات» وصفاً لمَن اتبع رضوان الله.
وإن أعدنا الضمير إلى مَنْ باء بسخط فلأنه أقرب، وهو قول الحسن، قال: إن المراد به أن أهل النارِ متفاوتون في مراتب العذاب، كقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} [الأحقاف: 19] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّ فِيهَا ضَحْضَاحاً وغَمْراً، وأنَا أرَجْو أنْ يَكُونَ أبُو طِالِبٍ فِي ضَحْضَاحِهَا» .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ رجُلٌ لَهُ نَعْلانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ» .
وإذا أعدنا الضمير إليهما فلأن درجات أهل الثواب متفاوتة، وكذلك درجات أهل العقاب، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] . وقوله: «عَنْدَ اللهِ» أي: في حكم الله وعلمه، كما يقال: هذه المسألة عند الشافعيّ كذا، وعند أبي حنيفة كذا. ثم قال: «واللهُ بَصيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ» أي «عالم بجميع أفعال العباد على التفصيل.
فصل
ذكر محمدُ بن إسحاق - في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]- وجهاً آخر، فقال: أي: ما كان لنبي ان يكتمَ الناس ما بعثه الله به إليهم، رغبةً أو رهبةً، ثم قال: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} يعني رجَّح رضوانَ الله على رضوان الخَلْق وسَخَط الله على الخَلْق {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} فرجَّح سخَط الخلق على سخط الله، ورضوان الخَلْق على رضوان الله؟
ووجه النَّظم - على هذا التقدير - أنه تعالى لما قال: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159] بيَّن أنَّ ذلك إنما يكون معتبراً إذا كان على وفق الدين، فأما إذا كان على خِلاف الدّينِ فإنه غيرُ جائزٍ، فكيف يُمِنُ التسويةُ بينَ من اتبع رضوانَ الله وطاعته وبَيْنَ من اتبع رضوانَ الخلقِ؟
قال ابنُ الخَطِيبِ:» وهذا الذي ذكره مُحْتَمَل، لأنا بيَّنَّا أنَّ الغلولَ عبارةٌ عن الخيانة على سبيل الخفية، فأما اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة، فهو عُرْفٌ حادِثٌ «.(6/32)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
«لقد من الله» جوابٌ لقسم نحذوفٌ، وقُرِئ: لَمِنْ مَنَّ الله - ب «من» الجارة، و «منِّ» - بالتشديد مجرورها - وخرَّجه الزمخشريُّ على وجهينِ:(6/32)
أحدهما: أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوفٌ، تقديره: لمن من الله على المؤمنين مَنُّهُ، أو بعثه إذ بَعَثَ فيهم، فحذف لقيامِ الدَّلالةِ.
الثاني: أنه جعل المبتدأ نفس «إذ» بمعنى: وقتٍ: وخبرها الجارُّ قبلها، وتقديره: لمن من الله على المؤمنين وقت بَعْثِهِ، ونظره بقولهم: أخطب ما يكون الأميرُ إذا كان قائماً.
وهذان وجهانِ - في هذه القراءة - مما يدلان على رسوخ قدمِهِ في هذا العلمِ.
قال شهابُ الدينِ: إلا أن أبا حيان قد ردَّ عليه الوجه الثاني بأن «إذ» غيرُ متصرفةٍ، لا تكون إلا ظرفاً، أو مضافاً إليها اسم زمان أو مفعولة ب «اذكر» - على قول - ونقل قول أبي علي - فيها وفي «إذا» أنهما لم يردا في كلام العربِ إلا ظرفين، ولا يكونان فاعلين، ولا مفعولين، ولا مبتدأين.
قال: ولا يحفظ من كلامهم: إذْ قام زيد طويل - يريد: وقت قيامه طويل - وبأن تنظيره القراءة بقولهم: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً، خطأ؛ من حيث أن المشبه مبتدأ، والمشبهُ به ظرف في موضعِ الخبرِ - عند من يُعْرِب هذا الإعرابَ - ومن حيثُ إنَّ هذا الخبرَ - الذي قد أبرزه ظاهراً واجب الحذف؛ لسَدِّ الحال مَسَدَّه، نص عليه النحويونَ الذين يعربونه هكذا، فكيف يبرزه في اللفظ؟(6/33)
قال شهابُ الدين: «وجواب هذا الردِّ واضحٌ وليت أبا القاسم لم يذكر تخريج هذه القراءة؛ لكي نسمع ما يقول هو» .
والجمهورُ على ضم الفاء - من أنفسهم - أي: من جملتهم وجنسهم، وقرأت عائشةُ، وفاطمةُ والضّحّاكُ، ورواها أنس عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفتح الفاء، من النَّفاسة - وهي الشرف - أي: من أشرفهم نسباً وخَلْقاً، وخُلُقاً.
وعن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أنا أنفسكم نسباً، وحسباً، وصهراً» وهذا الجارُّ يحتمل وجهين:
الأول: أن يتعلق بنفس «بعث» .
الثاني: أن يتعلق بمحذوف، على أنه وصف ل «رسولاً» فيكون منصوب المحل، ويقوي هذا الوجه قراءة فتح الفاء.
فصل في المراد ب «أنفسهم»
قيل: أراد به العرب؛ لأنه ليس حَيّ من أحياء االعرب إلا وقد ولد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولد فيهم نسب، إلا بني تغلب، لقوله تعالى: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} [الجمعة: 2] .
وقال آخرون: أراد به جميع المؤمنين.
ومعنى قوله: «من أنفسهم» أي: بالإيمان والشفقة، لا بالنسب، كقوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}
[التوبة: 128] .
ووجه هذه المِنَّة: أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعوهم إلى ما يُخَلِّصُهم من عقابِ الله، ويوصلهم إلى ثواب الله، كقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وأيضاً كونه من أنفسهم لأنه لو كان من غير جنسهم لم يَرْكَنوا إليه.
وخص هذه المنة بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بها، كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] .
فصل
قال الواحدي: المَنّ - في كلام العرب - بإزاء مَعَانٍ:
أحدها: الذي يسقط من السماء، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} [البقرة: 57] .
ثانيها: أن تُمَنَّ بما أعطيتَ كقوله: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .
ثالثها: القَطْع، كقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 25] وقوله: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] .(6/34)
رابعها: الإنعام والإحسان إلى مَنْ يطلب الجزاء منه، ومنه قوله: {هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] . وقوله: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] . والمنَّان - في صفة الله تعالى -: المُعْطِي ابتداً من غير طلب عِوَضٍ، ومنه الآية: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين} [آل عمران: 164] أي: أنعم عليهم، وأحْسَن إليهم ببعثِهِ هذا الرسول.
قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: 2] في محل نصب حال، أو مستأنف.
وقال القرطبي: «يتلو» في موضع نصب، نعت ل «رسولاً» - وقد تقدم نظيرها في البقرة. {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة} [آل عمران: 164] معنى الآية: يبلغهم الوحي، ويطهرهم، ويعلمهم الكتاب - أي: معرفة الأحكام الشرعية - والحكمة - أي: أسرارها وعِلَلَها ومنافعها - ثم قال: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} وهذا وَجْه النعمة؛ لأن ورود العلم عقيب الجهل من أعظم النعم.
قوله: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} هي «إن» المخففة، واللام فارقة - وقد تقدم تحقيقه - إلا أن الزمخخشري ومكيًّا - هنا - حين جعلاها مخففة قدَّرَا لها اسماً محذوفاً.
فقال الزمخشري: «وتقديره: إن الشأن، وإن الحديث كانوا من قبل» . وقال مكي: «وأما سيبويه فإنه قال» إن «مخففة من الثقيلة، واسمها مضمر، والتقدير - على قوله -: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين» وهذا ليس بجيّد؛ لأن «إن» المخففة إنما تعمل في الظاهر - على غير الأفصح - ولا عمل لها في المضمر ولا يقَدَّر لها اسمٌ محذوفٌ ألبتة، بل تُهْمَل، أو تعمل - على ما تقدم - مع أن الزمخشريَّ لم يُصَرِّحْ بأن اسمها محذوف، بل قال: «إن» هي المخففة من الثَّقِيلَةِ، واللام فارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإن الشأن والحديث كانوا؛ وهذا تفسيرُ معنى لا إعراب.
وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها استئنافية، لا محلَّ لَهَا مِنَ الأعْرَاب.
والثاني أنها محل نَصْب على الحال من المفعول به - في: «يعلمهم» وهو الأظهر.(6/35)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
الهمزة للإنكار، وجعلها ابنُ عطية للتقرير، والواو عاطفة، والنية بها التقديم على الهمزة.
وقال الزمخشري: و «لما» نصب ب «قلتم» و «أصابتكم» في محل الجر، بإضافة «(6/35)
لما» إليه، وتقديره: أقلتم حين أصابتكم. و «أنى هذا» نصب؛ لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع.
فإن قلتَ: علامَ عطفت الواو هذه الجملة؟ قلتُ: على ما مضى من قصة أحُد - من قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} -[آل عمران: 152] ويجوز أن تكونَ معطوفة على محذوف، [كأنه قيل] : أفعلتم كذا، وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى.
أمّا جعله «لما» بمعنى «حين» - أي ظرفاً - فهو مذهب الفارسيِّ وقد تقدم تقرير المذهبين وأما قوله: «عطف على قصة أحد» فهذا غير مذهبه، لأن الجاري من مذهبه إنما هو تقديرُ جملة، يعطف ما بعد الواو عليها - أو الفاء، أو «ثم» - كما قرره هو في الوجه الثاني.
و «أنى هذا» «أنى» بمعنى من أين - كما تقدم في قوله: {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37]- ويدل عليه قوله: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {مِنْ عِنْدِ الله} قاله الزمخشري.
ورد عيله أبو حيّان بأن الظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ لا يقدَّر داخلاً عليه حرف جر، غير «في» . أما أن يقدر داخلاً عليه «من» فلا؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط «في» ولذلك إذا أضمِر الظرف تعدى إليه الفعل بواسطة «في» إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به، فتقدير الزمخشريُّ غيرُ سائغٍ، واستدلاله بقوله تعالى: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {مِنْ عِنْدِ الله} وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها.
واختار أبو حيان أن «أنى» بمعنى «كيف» قال: و «أنى» سؤالٌ عن الحال - هنا - ولا يناسب أن يكون - هنا - بمعنى «أين» أو «متى» لأن الاستفهام لم يقع عن المكان، ولا عن الزمان، إنما وقع عن الحال التي اقتضت لهم ذلك، سألوا عنها على سبيل التعجُّب - وجاء الجواب من حيث المعنى لا من حيثُ اللفظ - في قوله: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} - والسؤال ب «أنى» سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمرِ، والجواب كقوله: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} يتضمن تعيين الكيفية؛ لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفيةُ من حيثُ المعنى لو قيل - على سبيل التعجُّبِ والإنكارِ -: كيف لا يحج زيد الصَّالحُ؟ وأجيب ذلك بأن يقال: لعدم استطاعته، لحصل الجوابُ، وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيعٍ.
قال شهابُ الدينِ: «أما قوله: لا يقدِّر الظرف بحرف جَرّ غير» في «فالزمخشريُّ لم يقدر» في «مع» أن «حتى يلزمه ما قال، إنما جعل» أنى «بمنزلة» من أين «في المعنى. وأما عدوله عن الجواب المطابق لفظاً فالعكسُ أولى» .(6/36)
قوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ} في محل رفع؛ صفة ل «مصيبة» . و «قلتم» - على مذهب سيبوبه - جواب «لما» وعلى مذهب الفارسيّ ناصب لها على حسب ما تقدم من مذهبيهما.
قوله: {قُلْ هُوَ} هذا الضمير راجع على «المصيبة» من حيثُ المعنى، ويجوز أن يكونَ حذفُ مضافٍ مراعى - أي: سببها - وكذلك الإشارة لقوله: {أنى هذا} لأن المراد المصيبة.
فصل
وجه النظم: أنه - تعالى - لما أخبر عن المنافقين بأنهم نسبوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الغلول حكى عنهم شُبْهَةً أخرى في هذه الآية، وهي قولهم: لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكرهُ من الكفار في يوم أحُدٍ، وهو المرادُ من قولهم: أنى هذا؟
وأجاب الله تعالى عنه بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أي: هذا الانهزامُ إنما حصل بشؤم عصيانكم.
ومعنى: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} أن المشركين قتلوا من المسلمين - يوم أحُدٍ - سبعين، وقتل المسلمون منهم - يوم بدر - سبعين، وأسروا سبعينَ، والأسيرُ في حكم القتيلِ، لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد. {قُلْتُمْ أنى هذا} : من أين لنا هذا القتلُ والهزيمة، ونحن مسلمونَ، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فينا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}
روى عبيدة السَّلْمَاني عن علي قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدر، فقال: يا مُحَمَّدُ، إن الله قد كَرِهَ ما صنع قومك - من أخذهم الفداء من الأسارى - وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى، فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عِدَّتهم، فذكر ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للنّاسِ، فقالوا: يا رسولَ الله، عشائرنا، وإخواننا، لا، بل نأخذ منهم الفداء، فتتقوّى به على قتال العدو، ونرضى أن يستشهد منا عشدَّتهم، فقُتِلَ منهم - يوم أحدٍ - سبعونَ، عدد أسارى أهل بدر، فهذا معنى قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أي: بأخذ الفداء، واختياركم القتلَ.
وقيل: إنما وقعتم في هذه المصيبة بشُؤم معصيتكم في الأمور المتقدم ذِكرها.
فصل
استدل المعتزلةُ بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} على أن أفعال العبد غير مخلوقةٍ لله تعالى من وجوهٍ:(6/37)
أحدها: أنه لو كان ذلك حاصلاً بخَلْق الله تعالى - ولا تأثير للعبد فيه - كان قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} كذباً.
ثانيها: أنهم تعجبوا كيف سلط الله الكافرَ على المؤمن؟ فأزال الله ذلك التعجب بقوله: إنما وقعتم في هذا المكروه بشُؤم فعلكم، فلو كان خلقاً لله لم يصح الجوابُ.
ثالثها: أن القوم قالوا: {أنى هذا} أي: من أينَ هَذَا؟ وهذا طلبٌ لسبب الحدوثِ، فلو لم يكن المحدث لها هو العبدُ لم يكن الجوابُ مطابقاً للسؤال.
وأجيبوا عن الأوليْن بالمعارضة بالآيات الدالة على كون أفعال العبدِ بإيجاد الله تعالى، وعن الثالث بأنه لو كانوا هم الذين أوجدوا الفعل لم يحسن منهم السؤالُ عن سببه.
ثم قال: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: قادر على نصْركم - لو صبرتم وثبتُّم - كما قدر على التخلية - إذ خالفتم وعصيتم - وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، قالوا: لأن فعل العبد شيء، فيكون الله قادراً على إيجاده، فلو أوجده0 العبد امتنع كونه - تعالى - قادراً على إيجاده؛ لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده، لأن إيجادَ الموجودِ مُحَالٌ، والمُفضِي إلى المُحَالِ مُحَالٌ.(6/38)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
«ما» موصولة بمعنى الذي، في محل رفع بالابتداء، و «بإذن الله» الخبر، وهو على إضمار مبتدأ، تقديره: فهو بإذن الله، ودخلت الفاء في الخبر؛ لشِبْه المبتدأ بالشرط، نحو: الذي يأتيني فله درهم، وهذا - على ما قرره الجمهورُ - مُشْكِل؛ وذلك أنهم قرروا أنه لا يجوز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط.
منها: أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط، والشّرط إنما يكون في الاستقبال، لا في الماضي، لو قلت: الذي أتاني أمس فله درهم، لم يصحّ، «وأصابكم» - هنا - ماضٍ في المعنى؛ لأن القصة ماضية، فكيف جاز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط.
منها: أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط، والشّرط إنما يكون في الاستقبال، لا في الماضي، لو قلت: الذي أتاني أمس فله درهم، لم يصحّ، «وأصابكم» - هنا - ماضٍ في المعنى؛ لأن القصة ماضية، فكيف جاز دخول هذه الفاء؟
أجابوا عنه بأنه يُحْمل على التبيُّن - أي: وما تبين إصابته إياكم - كما تأولوا قوله: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} [يوسف: 26]- أي تبين - وهذا شرطٌ صريحٌ، وإذا صحَّ هذا التأويل فلْنَجْعَل «ما» - هنا - شرطاً صريحاً، وتكون الفاء داخلة وجوباً؛ لكونها واقعة جواباً للشرط.(6/38)
وقال ابنُ عطية: «يحسن دخولُ الفاء إذا كان سببَ الإعطاء، وكذلك ترتيبُ هذه، فالمعنى إنما هو: وما أذن الله فيه فهو الذي أصابكم، لكن قدم الأهم في نفوسهم، والأقرب إلى حسّهم. والإذن: التمكينُ من الشيء مع العلم به» .
وهذا حسنٌ من حيثُ المعنى؛ فإن الإصابة مرتبة على الإذْن من حيث المعنى، وأشار بقوله: الأهم والأقرب، إلى ما أصابهم يوم التقى الجَمْعَانِ.
فصل
ذكر في الآية الأولى أن الذي أصابهم كان من عند أنفسهم، وذكر هذه الآية وجهاً آخرَ، وهو أن يتميز المؤمنُ عن المنافقِ، والمراد بالجمعينِ هو جمعُ المؤمنينَ، وجمعُ المشركينَ في يوم أحُدٍ.
واختلفوا في المراد بقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله} [التوبة: 3] وقوله: {آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} [فصلت: 47] وقوله: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] وطعن الواحدي في هذا بأن الآية إنما هي لتسلية المؤمنين مما أصابهم، ولا تحصل التسلية إذا كان ذلك واقعاً بعِلة؛ لأن علمه عام في جميع المعلومات.
وقيل: فبأمر الله؛ لقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] والمعنى: أنه - تعالى - لما أمر بالمحاربة، ثم أدت تلك المحاربة إلى ذلك الانهزام صح - على سبيل المجاز - أن يقال: حصل ذلك بأمره.
ونُقِل - عن ابن عباسٍ - أن المرادَ من الإذن قضاءُ الله بذلك وحكمه به.
وهذا أولى؛ لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم، وبهذا تحصل التسلية.
قوله: {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين} في هذه اللام قولان:
أحدهما: أنها معطوفة على معنى قوله: {فَبِإِذْنِ الله} عطف سبب على سبب، فتتعلق بما تتعلق به الباء.
الثاني: أنها متعلقة بمحذوف، أي: وليعلم فعل ذلك - أي: أصابكم - والأول أولى - وقد تقدم أن معنى: وليعلم الله كذا: أي يُبَيِّن، أو يظهر للناس ما كان في علمه، وزعم بعضهم أن ثَمَّ مضافاً، أي: ليعلم إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، ولا حاجة إليه.
قوله: {وَلْيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ} قال الواحدي: «يقال: نَافَقَ الرَّجُلُ - فهو منافقٌ - إذا أظهر كلمة الإيمان، وأضمَر خلافَها، والنفاق اسم إسلامي، اختلِف في اشتقاقه على وجوهٍ:(6/39)
أحدها: قال أبو عبيد: من نافقاء اليربوع؛ لأن حجر اليربوع لها بابان: القاصعاء، والنافقاء، فإذا طلب من أيهما خرج من الآخر، فقيل للمنافق: إنه منافق لأنه وضع لنفسه طريقين: إظهار الإسلام، وإضمار الكُفْرِ، فمن أيهما طُلِب خرج من الآخر.
الثاني: قال ابنُ الأنباري: المنافق من النَّفَق، وهو السربُ، ومعناه: أنه يتستّر بالإسْلامِ كما يتستَّر الرجُلُ في السِّرْبِ.
الثالث: أنه مأخوذٌ من النافقاء، ولكن على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيدٍ، وهو أن النافقاء جثحْر يحفره اليربوعُ في داخل الأرضِ، ثم إنه يُرقِّق ما فوقَ الجُحر، حتى إذا رابه رَيْبٌ، رفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق: منافق؛ لأنه أضمر الكُفْرَ في باطنه، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر، وتمسَّك بالإسلام» .
قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ} هذه الجملة تحتمل وجهين:
الأول: أنْ تكونَ استئنافية، أخبر الله أنهم مأمورونَ إما بالقتال، وإما بالدَّفْع، أي: تكثير سواد المسلمين.
الثاني: أن تكون معطوفة على «نافقوا» فتكون داخلة في صلة الموصول، أي: ليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقول بكذا و «تعالوا» و «قاتلوا» كلاهما قام مقام الفاعل ل «قيل» لأنه هو المقول. قال أبو البقاء: إنما لم يأتي بحرف العطف - يعني بين «تعالوا» و «قاتلوا» - لأنه أراد أن يجعل كل واحدةٍ من الجملتين مقصودة بنفسها، ويجوز أن يقال: إن المقصودَ هو الأمر بالقتال، و «تعالوا» ذكر ما لو سكت عنه لكان في الكلام دليل عليه.
وقيل: الأمر الثاني حال.
يعني بقوله: «تعالوا» ذكر ما لو سكت، أن المقصود إنما أمرهم بالقتال، لا مجيئهم وحده، وجعله «قاتلوا» حالاً من «تعالوا» فاسد؛ لأن الجملة الحالية يُشْتَرط أن تكونَ خبرية، وهذه طلبية.
قوله: «أو ادفعوا» «أو» - هنا - على بابها من التخيير والإباحة.
وقيل: بمعنى الواو؛ لأنه طلب منهم القتال والدفع، والأول أصح.
فصل
اختلفوا في القائل، فقال الصمُّ: إنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يَدْعُوهُمْ إلى القتال.
وقيل: إن عبد الله بن أبيّ ابن أبي سلول لما خرج بعسكره إلى أحُد قال: لم نُلْقي أنفسَنا في القتل؟ فرجعوا، وكانوا ثلاثمائةٍ من جملة الألف الذي خرجوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أبو جابر بن عبد الله الأنصاريّ -: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العَدَوِّ.(6/40)
فصل
معنى {قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} يعني: إن كان في قلوبكم حُبُّ الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم.
وقال السُّدَّيُّ: وابنُ جُرَيْج: ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا - إن لم تقاتلوا معنا - لأن الكثرة أحد أسباب الهَيْبة.
وقوله: {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً} إنما لم يَأتِ - في هذه الجُمْلة - بحرف عطف؛ لأنها جواب لسؤال سائل كأنه قيل: فما قالوا - لما قيل لهم ذلك -؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك. و «نعلم» - وإن كان مضارعاً - معناه المُضِيّ؛ لأن «لو» تخص المضارع، إذا كانت لما سيقع لوقوع غيره، ونكَّر «قتالاً» للتقليل، أي: لو علمنا بعض قتال ما. وهذا جواب المنافقين حين قيل لهم: {تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} فقال تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} .
«هم» مبتدأ، و «أقرب» خبره، وهو أفعل تفضيل، و «للكفر» متعلق به، وكذلك «للإيمان» .
فإن قيل: لا يتعلق حرفا جر - متحدان لفظاً ومعنىً - بعامل واحد، إلا أن يكونَ أحدهما معطوفاً على الآخر، أو بدلاً منه، فكيف تعلقا ب «أقرب» ؟
فالجوابُ: أن هذا خاصٌّ بأفعل التفضيل، قالوا: لأنه في قوة عاملين، فإنّ قوة قولك زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْرو، معناه: يزيد فضله على فضل عمرو.
وقال أبو البقاء: «وجاز أن يعمل» أقرب «فيهما؛ لأنهما يشبهان الظرف، وكما عمل» أطيب «في قولهم: هذا بسراً أطيب منه رُطباً، في الظرفين المقدرين لأن» أفعل «يدل على معنيين - على أصل الفعلِ وزيادتهِ - فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الأخر، فتقديره: يزيد قُرْبهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان» .
ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين؛ لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد تشبيههما بالظرفين وليس كذلك، وقوله: الظرفين المقدَّرين، يعني أن المعنى: هذا في أوانِ بُسْرَيته أطيب منه.
و «أقرب» - هنا - من القُرْب - الذي هو ضد البعدِ - ويتعدى بثلاثة حروف: اللام، و «إلى» و «من» . تقول: قربت لك ومنك إليك، فإذا قلت: زيد أقرب من العلم من عمرو، ف «من» الولى المعدية لأصل معنى القرب، والثانية هي الجارة للمفضول، وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى «إلى» .
و «يومئذ» متعلق ب «أقرب» ومذا «منهم» و «من» هذه هي الجارةُ للمفضول بعد «أفعل» وليست هي المعدية لأصل الفعل.(6/41)
ومعنى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} أنهم كانوا - قبل هذا الوقت - كاتمين للنفاق، فكانوا في الظاهر أبعد من الكفر، فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمونه صاروا أقرب للكفر؛ لأن رجوعهم عن معاونة المسلمين دَلَّ على أنهم ليسوا من المسلمين.
وقيل: المعنى أنهم لأهل الكفر أقرب نُصْرَةً منهم لأهل الإيمان؛ لأن تقليلَهم سوادَ المسلمين يؤدي إلى تقوية المشركين.
و «إذ» مضافةٌ لجملةٍ محذوفةٍ، عُوِّضَ منها التنوين، وتقدير هذه الجملة: هم للكفر يوم إذ قالوا: لو نَعْلَم قتالاً لاتبعناكم.
وقيل: المعنى على حذف مضاف، أي: هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان، وفُضِّلُوا - هنا - على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين، ولولا ذلك لم يَجُزْ، تقول: زيدٌ قاعداً أفضل منه قائماً، أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً. ولو قلت: زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً. لم يَجُزْ.
وحكى النقاش - عن بعض المفسّرين - أن «أقرب» - هنا - ليست من معنى القُرب - الذي هو ضد البُعْدِ - وإنما هي من القَرَب - بفتح القاف والراء - وهو طلبُ الماءِ، ومنه قارب الماء، وليلةُ القُرْب: ليلة الورود، فالمعنى: هم أطلب للكفر، وعلى هذا تتعين التعدية باللام - على حَدِّ قولك: زيد أضربُ لعمرو.
فصل
قال أكثرُ العلماءِ: هذا تنصيصٌُ من الله تعالى على أنهم كفار.
قال الحَسَنُ: إذا قال الله تعالى: «أقرب» فهو اليقين بأنهم مشركون، وهو مثل قوله: {مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] فهذه الزيادة لا شك فيها، وأيضاً فالمكَلَّف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكُفْرِ فلما دلَّت الآية على القُرْب من الكفر لزم حصول الكفر. وقال الواحديُّ - في «البسيط» : هذه الآية دليلٌ على أن مَنْ اتى بكلمة التوحيد لم يكفر، ولم يطلق القول بتكفيره؛ لأنه - تعالى - لم يطلق القول بتكفيرهم - مع أنهم كانوا كافرين - لإظهارهم كلمة التوحيد.
قوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} في هذه الجملة وجهانِ:
أحدهما: أنها مستأنفةٌ، لا محلَّ لها من الإعرابِ.
الثاني: أنها في محل نَصْب على الحال من الضمير في «أقرب» أي: قربوا للكفر قائلين هذه المقالة - وقوله: {بِأَفْوَاهِهِم} قيل: تأكيد، كقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] . والظاهرُ أن القولَ يُطْلق على اللساني والنفساني، فتقييده بقوله: {بِأَفْوَاهِهِم} تقييد لأحد مُحْتَمَلَيْه، اللهم إلا أن يُقَال: إن إطلاقه على النفسانيّ مجاز، قال(6/42)
الزمخشري: «وذكر الأفواه مع القلوب؛ تصويراً لنفاقهم، وأن إيمانهم موجود في أفواههم، معدوم في قلوبهم» .
وبهذا - الذي قاله الزمخشريُّ - ينتفي كونُه للتأكيد؛ لتحصيله هذه الفائدة - ومعنى الاية: أن لسانهم مُخَالِفٌ لقلوبهم، فهم وإن كانوا يُظْهرون الإيمانَ باللسانِ، لكنهم يُضْمِرون في قلوبهم الكُفْرَ.
قوله تعالى: {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} أي: عالم بما في ضمائرهم.
فإن قيل: المعلوم إذا علمه عالمانِ لم يكن أحدُهما أعلمَ به من الآخرِ، فما معنى قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} ؟
فالجواب: أنّ الله - تعالى - يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره.(6/43)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
جوَّزوا في موضع «الذين» الألقاب الثلاثة: الرفع والنصب والجر، فالرفعُ من ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدهما: أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: هم الذين.
ثانيها: أنه بدل من واو «يكتمون» .
ثالثها: أنه مبتدأ، والخبر قوله: «قل فادْرءوا» ولا بُدَّ من حذف عائدٍ، تقديره: قُلْ لَهُمْ.
والنصبُ من ثلاثة أوجه - أيضاً -:
أحدها: النصبُ على الذَّم، أي: أذم الذين قالوا.
ثانيها: أنه بدل من «الذين نافقوا» .
ثالثها: أنه صفة.
والجر من وجهينِ: البدل من الضمير في «بأفواهم» أو من الضمير في «قلوبهم» كقول الفرزدق: [الطويل]
1687 - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
بجر «حاتم» على أنه بدل من الهاء في «جوده» - وقد تقدم الخلافُ في هذه المسألةِ وقال أبو حيان: وجوَّزوا في إعراب «الذين» وُجُوهاً:
الرفع، على النعت ل «الذين نافقوا» أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف والنصب ... فذكره إلى آخره.
قال شهابُ الدينِ: وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّ «الذين نافقوا» منصوب بقوله: «وليعلم» وهم - في الحقيقة - عطف على «المؤمنين» وإنَّمَا كرر العاملَ توكيداً، والشيخُ لا يخفَى(6/43)
عليه ما هو أشكلُ من هذا فيحتمل أن يكون تبع غيرَه في هذا السهو - وهو الظاهر من كلامه - ولم ينظر في الآية، اتكالاً على ما رآه منقولاً، وكثيراً ما يقع الناس فيه، وأن يُعْتَقَدَ أنّ «الذين» فاعل بقوله: «وليعلم» أي: فعل الله ذلك ليعلم هو المؤمنين، وليعلم المنافقون، ولكن مثل هذا لا ينبغي أن يجوز ألبتة.
قوله: «وقعدوا» يجوز في هذه الجملة وجهانِ:
أحدهما: أن تكون حالية من فاعل «قالوا» و «قد» مرادة أي: وقد قعدوا، ومجيء الماضي حالاً بالواو و «قد» أو بأحدهما، أو بدونهما، ثابتٌ من لسان العربِ.
الثاني: أنها معطوفة على الصلة، فتكون معترضة بين «قالوا» ومعمولها، وهو «لو أطاعونا» .
فصل في المراد ب «الذين»
قال المفسّرون المراد ب «الذين» عبدُ بنُ أبَيٍّ وأصحابُهُ. وقال الأصَم: هذا لا يجوزُ؛ لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الجهادِ يوم أحُدٍ، وهذا القول واقع ممن تخلَّف، لأنه قال: {الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا} أي في القعود «ما قتلوا» فهو كلامُ متأخرٍ عن الجهاد قاله لمن خرج إلى الجهادِ ولمن هو قوي النية في ذلك؛ ليجعله شُبْهَةً فيما بعد، صارفاً لهم عن الجهاد.
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه يحتمل أنه أراد بقوله: «وقعدوا» القعود عن القتالِ، لا عن الخروج إلى القتال؛ فإن عبد الله بن أبَيّ خَرَجَ إلى الْقِتَالِ، ولم يُقَاتِل، بل هَرَبَ بمن معه، ويُطْلَق عليه أنه قَعَد عن القتال وهو القائلُ هذا الكلام.
وقوله: {لإِخْوَانِهِمْ} أي: لأجل إخوانهم - وقد تقدم: هل المرادُ - من هذه الأخوة - الأخوة في النسب، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدَّارِ، أو في عدداوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو في عبادة الأوثان؟
قوله: {قُلْ فَادْرَءُوا} ادفعوا {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ذكر ذلك على سبيل الجوابِ لقولهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} .
فإن قيل: ما وجه هذا الاستدلالِ مع أن الفرقَ ظاهرٌ؛ فإن التحرُّز عن القتل ممكن، وأما التحرزُ عن الموتِ فغير ممكن ألبته؟
فالجوابُ: أن هذا الدليلَ لا يتمشى إلا إذا قلنا: إنّ الكُلَّ بقضاء الله وقَدَرِه، فحينئذٍ لا يبقى بين القتلِ وبين الموتِ فرق، فيصح الاستدلالُ، أما إذا قلنا: بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه، كان الفرق بين القتل والموتِ ظاهراً.
وقوله: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره، والوصول إلى المطالب.(6/44)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
«الذين» مفعول أول، و «أمواتاً» مفعول ثانٍ، والفاعلُ إما ضمير كل مخاطب، أو ضمير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما تقدم في نظائره وقرأ حُمَيْد بن قَيْس وهشام - بخلاف عنه - «يحسبن» بياء الغيبة، وفي الفاعل وجهان:
أحدهما: أنه مُضْمَر، إما ضمير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو ضمير مَنْ يَصْلح للحسبان - أي: حاسب.
الثاني: قاله الزمخشري: وهو أن يكون «الذين قتلوا» قال: ويجوز أن يكون «الذين قتلوا» فاعلاً والتقديرُ: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً، أي: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً.
فإن قلت: كيف جاز حذف المفعول الأول؟ قلتُ: هو - في الأصلِ - مبتدأ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: «بل أحياء» أي: هم أحياءٌ؛ لدلالة الكلام عليهما.
وردَّ عليه أبو حيان بأن هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديم الضمير على مفسره، وذلك لا يجوز إلا في أبواب محصورةٍ، وعَدَّ منه باب رُبُّهُ رَجُلاً، نعم رجلاً زيد، والتنازع عند إعمال الثاني في رأيه سيبويه، والبدل على خلاف فيه، وضمير الأمرِ، قال: «وزاد بعضُ أصحابِنَا أن يكون المفَسِّرُ خبراً للضمير» وبأن حذف أحد مفعولي «ظن» اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليل جِداً، نص عليه الفارسيُّ، ومنعه ابنُ ملكون ألبتة.
قال شهابُ الدينِ: «وهذا من تحملاته عليه، أما قوله: يؤدي إلى تقديم المضمر ... إلى آخره، فالزمخشريُّ لم يقدره صناعةً، بل إيراداً للمعنى المقصود، ولذلك لَمّا أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدَّره بلفظ» أنفسهم «المنصوبة وهي المفعول الأول، وأظن الشيخ يتوهم أنها مرفوعة، تأكيداً للضمير في» قتلوا «ولم ينتبه أنه إنما قدرها مفعولاً أول منصوبة، وأما تَمْشِية قوله على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك وما عليه من ابن ملكون، وستأتي مواضعُ يضطر هو وغيره إلى حَذْف أحدِ المفعولينِ، كما ستقف عليه قريباً.
وتقدم الكلامُ على مادة» حسب «ولغاتها، وقراءاتها، وقُرِئَ» تحسبن «- بفتح السين - قاله الزمخشريُّ وقرأ ابن عامر» قتّلوا «- بالتشديد - وهشام وحده في» ما «(6/45)
ماتوا وما قتلوا» والباقون بالتخفيف، فالتشديد للتكثير، والتخفيفُ صالح لذلك، وقرأ الجمهورُ «أحياءٌ» رفعاً، على تقدير: بل هُمْ أحياءٌ، وقرأ ابنُ ابي عَبْلَة «أحياءً» وخرَّجها أبو البقاء على وجهين:
أحدهماك أن يكون عطفاً على «أمواتاً» قال: «أمواتاً» قال: «كما تقول: ما ظننت زيداً قائماً بل قاعداً» .
الثاني: - وإليه ذهب الزمخشري - أيضاً - أن يكون بإضمار فعل، تقديره: بَلِ احسبهم أحياءً، وهذا الوجهُ سبق إليه أبة إسحاق، الزجاجِ، إلا أن الفارسيَّ ردَّه عليه - في الإغفال - وقال، لأن الأمر يقينٌ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يُضمرَ فيه إلا فعلُ المحسبة، فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلاً غير المحسبة، اعتقدهم، أو اجعلهم، وذلك ضعيفٌ؛ إذ لا دَلاَلَةَ في الكلامِ على ما يُضْمَر.
قال شهابُ الدينِ: وهذا تحامُل من أبي عليٍّ أما قوله: إن الأمر يقينٌ، يعني أن كونهم أحياء أمر متيقن، فكيف يقال فيه: أحسبهم - بفعل يقتضي الشك - وهذا غير لازم؛ لأن «حسب» قد تأتي لليقين.
قال الشاعر: [الطويل]
1688 - حَسِبْتُ التُّقَى وَالمَجْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحاً إذَا ما المَرْءُ أصبَحَ ثَاقِلا
وقال آخر: [الطويل]
1689 - شَهِدْت وَفَاتُونِي وَكُنْتُ حَسِبْتُنِي ... فَقيراً إلى أن يَشْهَدوُا وَتَغِيبي
ف «حسب» - في هذين البيتين - لليقين؛ لأن المعنى على ذلك. وقوله: لذلك ضعيف، يعني من حيث عدم الدلالة اللفظية، وليس كذلك، بل إذا أرشَدَ المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءُ - لدلالة المعنى عليه - من غير ضَعْفٍ - وإن كانَ دلالةُ اللَّفظِ أحسنَ - وأما تقديره هو: اعتقدهم أو جعلهم، قال الشيخ: هذا لا يصح ألبتة سواءٌ جعلت: اجعلهم بمعنى اخلقهم، أو صيِّرهم أو سمِّهم، أو الْقهم.
قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} فيه خمسةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكون خبراً ثانياً ل «أحياء» على قراءة الجمهورِ.
الثاني: أن يكون ظرفاً ل «أحياء» لأن المعنى: يحيون عند ربهم.
الثالث: أن يكون ظرفاً ل «يرزقون» أي: يقع رزقهم في هذا المكانِ الشريفِ.
الراع: أن يون صفة ل «أحياء» فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور، ونصب على قراءة ابن أبي عبلة.(6/46)
الخامس: أن يكون حالاً من الضمير المستكن في «أحياء» . أي: يحيون مرزوقين. والمراد بالعندية: المجاز عن قربهم بالتكرمة.
وقيل: {عِندَ رَبِّهِمْ} أي: في حكمه، كما تقول: هذه المسألةُ عند الشافعي كذا، وعنده غيره كذا.
قال ابنُ عطية «وهو على حَذف مضاف، أي: عند كرامة ربهم» . ولا حاجةَ إليه؛ لأن الأولَ أليق.
قوله: {يُرْزَقُونَ} فيه أربعةُ وجهٍ:
أحدها: ان يكون خبراً ثالثاً ل «أحياء» أو ثانياً - إذا لم نجعل الظرفَ خبراً.
الثاني: أنها صفة ل «أحياء:» - بالاعتبارين المتقدمين - فإن أعربنا الظرف وصفاً - أيضاً - فيكون هذا جاء على وعديله؛ لأنه أقرب إلى المفرد.
الثالث: أنه حال من الضمير في «أحياء» أي: يحيون مرزوقين.
الرابع: أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف، إذا جعلته صفة. وليس ذلك مختصاً بجعله صفة فقط، بل لو جعلته حالاً جاز ذلك - أيضاً - وهذه تُسمى الحالَ المتداخلة، ولو جعلته خبراً كان كذلك «.
فصل
هذه الآية نزلت في شهداء بدرٍ، وكانوا أربعةَ عشرَ رجلاً، ثمانية من الأنصارِ، وستة من المهاجرين.
وقيل: نزلت في شهداء أُحُدٍ، وكانو سبعينَ رجلاً، أربعة من المهاجرين - حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عميرٍ، وعثمان بن شماسٍ، وعبد الله جَحْشٍ - وباقيهم من الأنصار.
فصل
ظاهرُ هذه الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء، فإما أن يكون حقيقةً، أو مجازاً، فإن كان حقيقةً، فإما أن يكون بمعنى أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، أو في(6/47)
الحال. وبتقدير أن يكونوا أحياءً في الحال، فإما أن يكون المرادُ الحياةَ الروحانيةَ، أو الجسمانيةَ، فأما الاحتمال الأولُ - وهو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة - فقد ذهب إليه جماعةٌ من المعتزلةِ، منهم الكَعْبِيِّ، قال: لأن الله - تعالى - أورده هذه الآية تكذيباً للمنافقين في جَحْدِهِم البعثَ والمعادَ، وقولهم: إن أصحاب مُحَمَّدٍ يُعَرِّضون أنفسهم للتقل، فَيُقْتَلون، ويخسرون الحياة، ولا يصلونَ إلى خيرٍ.
وهذه الاية تردُّ هذا القول؛ لأن ظاهرَها يدل على كونهم أحياءً حال نزول هذه الآية، وأيضاً فإنه تعالى قال: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] والفاء للتعقيب، والتعذيب مشروط بالحياة. وقال: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] وإذا جعل الله أهل العذاب أحياءً - قبل القيامة - لأجل الثواب أولى؛ لأن جانب الإحسان والرحمةِ أرجح من جانب العذاب، وأيضاً لو كان المراد أنه سيجعلهم أحياءً في القيامة لمَا قال للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك.
فإن قيل: إنه صلى الله عله وسلم كان عالماً بأنهم سيصيرون أحياءً عند البعثِ، لكنه غير عالم أنهم من أهلِ الجَنَّةِ، فجاز أن ييشِّره الله - تعالى - بانهم سيصيرون أحياءً، ويصلون إلى الثواب؟
فالجوابُ: أن قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} وإنما يتناول الموتَ؛ لأنه قال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} فالذي يُزيل هذا الحسبان هو كونُهم أحياءً في الحال؛ لأنه لا حسبان - هناك - في صيرورتهم أحياء يوم القيامة.
وقوله: {يُرْزَقُونَ} خبر مبتدأ، ولا تعلُّق له بذلك الحسبان، فزال السؤالُ، وأيضاً فقوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} فالقوم الذينَ لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدُّنْيا، واستبشارهم بمن يكون في الدنيا ولا بد وأن يكون قبل القيامة، والاستبشار لا يكون إلا مع الحياةِ، فدل على كونهم أحياءً قبل يوم القيامة.
وأيضاً روى ابن عباسٍ أن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال - في صفة الشهداء: «أَرْوَاحُهُمْ في أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنهارَ الجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَسْرَحُ حيثُ شاءتْ، وتأوي إلى قَنَاديلَ تحت العَرْشِ؛ فلمت رأوا طِيبَ مَسْكَنِهِمْ ومَطْعَمِهِمْ ومَشْرَبِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ قومَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيم، كَيْ يَرْغَبُوا فِي الجِهَادِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى أَنَا مُخْبِرٌ عَنْكُمْ، وَمُبَلِّغٌ إخْوَانِكُم، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا» ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذه الآية.
وسُئِلَ ابنُ مسعود(6/48)
عن هذه الآية، فقال: سألنا عنها، فقيل لنا: إن الشهداء على نهر بباب الجنّة في قُبَّةٍ خضراءَ. وفي رواية: في روضةٍ خضراء.
وعن جابرٍ بن عبد الله، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ألاَ أبَشرُكَ أنَّ أباكَ - حَيْثُ أصِيبَ بأحُدٍ - أحْيَاهُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا تُرِيدُ يا عبدَ اللهِ بنَ عَمرو أن أَفْعَلَ لَكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، أحِبُّ أن تَرُدَّنِي إلى الدُّنْيَا فأقْتَلَ فيك مرةً أخْرَى» .
الاحتمالُ الثاني - وهو أنهم أحياءٌ في الحالِ - والقائلون بهذا القولِ، منهم من أثبت الحياةَ للروح، ومنهم من أثبتها للبدنِ، فمن أثبتها للروح قال: لقوله تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30] والمراد: الروح.
وروي انه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدرٍ كان ينادي المقتولين، ويقول: {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44] فقيل: يا رسول الله، إنهم أمواتٌ، فكيف تُناديهم؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنهم أسمع منكم» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنبياء الله لا يموتون ولكن ينتقلون من دار إلى دار» .
الاحتمالُ الثالثُ: من أثبت الحياة للأجساد، وهؤلاء اختلفوا، فقال بعضهم: أنه - تعالى - يُصْعد أجسادَ الشهداءِ إلى السموات، وإلى قناديل تحت العرش، ويوصل إليها الكرامات.
وقد طعنوا في هذا، وقالوا: إنا نرى الشهداء تأكلهم السباع، ونرى المقتول يبقى أياماً إلى أن تتفسّخ وتنفصل أعضاؤه، فَعَوْدُ الحياة إليها مُسْتبعدٌ، وإن جوزنا كونها حية عاقلة، متنعمة عارفة: لزم القول بالسفسطة.(6/49)
الاحتمالُ الرابعُ: إن كونهم أحياء من طريق المجاز.
قال الأصمُّ البلخيُّ: إذا كان الميِّتُ عظيم المنزلةِ في الدينِ، وكانت عاقبته يومَ القيامةِ إلى السعادة والكرامة، صحَّ أن يقالَ: أنه حَيّ، وليس بميتٍ، كما يقال - في الجاهلِ الذي لا ينفع نفسه ولا غيره -: إنه ميتٌ، وكما يقال - للبليد -: إنه حمار، وللمؤذي إنه سبع، كما قال عبد الملك بن مروان - لما رأى الزُّهريَّ، وعلم فقهه وتحقيقه -: مَا مَاتَ مَنْ خَلْفَهُ مِثْلُكَ. وإذا مَاتَ الإنسانُ، وخلف ثناء جميلاً، وذكراً حَسَناً، يقال - على سبيل المجاز: أنه مَا مَاتَ.
وقال آخَرونَ: مجازُ هذه الآية أن أجسادَهم لا تَبْلى تحت الأرضِ، كما روي أن معاوية لما أراد أن يُجري العينَ إلى قبور الشهداء، أمر أن ينادى: مَن كان له قَتيل فليخْرجه من هذا الموضع، قال جابرٌ: فخرجنا إليهم، فأخرجناهم رِطاب الأبدان فأصابَ المسحاةُ أصبعَ رَجُلٍ مَنْهُمْ، فانفطرت دماً.
وقيل: المراد - بكونهم أحياء - أنهم لا يُغَسَّلون كما يُغَسَل الأموات.
قال القرطبي: إذا كان الشهيدُ حيًّا - حكماً - فلا يُصَلَّى عليه، كالحَيِّ حِسًّا.
قوله: {فَرِحِينَ} فيه خمسة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون حالاً من الضمير في «أحياء» .
ثانيها: أن يكون حالاً من الضمير في الظرف.
ثالثها: أن يكون حالاً من الضمير في {يُرْزَقُونَ} .
رابعها: أنه منصوبٌ على المَدْح.
خامسها: أنه صفة ل «أحياء» .
وهذا مختص بقراءة ابن أبي عبلة و «بما» يتعلق ب «فرحين» .
قوله: {مِن فَضْلِهِ} في «من» ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن معناها السببية، أي بسببب فضله، أي: الذي آتاهم الله متسبب عن فضله.
الثاني: أنها لابتداء الغايةِ، وعلى هذين الوجهين تتعلق ب «آتاهم» .
الثالث: أنها للتبعيض، أي: بعض فضله، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف، على أنه حال من الضمير العائدِ على الموصول ولكنه حُذِف، والتقدير: بما آتاهموه كائناً من فَضْلهِ.
قوله: «ويستبشرون» فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون من باب عطفِ الفعلِ على الاسم؛ لكون الفعل في تأويله،(6/50)
فيكون عطفاً على «فرحين» كأنه قيل: فرحين ومُسْتَبْشِرِين، ونظَّروه بقوله تعالى: {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] .
الثاني: أنه - أيضاً - يكون من باب عطف الفعل على الاسم، ولكن لا لأن الاسم في تأويل الفعل، قال أبو البقاء هو معطوف على «فرحين» لأن اسم الفاعل - هنا - يُشْبه الفعل المضارع يعني أن «فرحين» بمنزلة يفرحون، وكأنه جعله من باب قوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله} [الحديد: 18] والتقديرُ الأولُ أولى، لأن الاسم - وهو «فرحين» لا ضرورة بنا إلى أن نجعله في محل رفع فعل مضارع - حتى يتأول الاسم به - والفعل فَرْع فينبغي أن يُرَدَّ إليه.
وإنما فعلنا ذلك في الآية؛ لأن «أل» الموصولة بمعنى: الذي و «الذي» لا يُوصَل إلا بجملة أو شبهها، وذلك الشبهُ - في الحقيقة - يتأول بجملة.
الثالث: أن يكون مُستأنفاً، والواو للعطف، عطفت فعلية على اسمية.
الرابع: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يستبشرون، وحينئذٍ يجوز وجهان:
أحدهما: أن تكون الجملة حاليةً من الضمير المستكن في «فرحين» أو من العائد المحذوف من «آتاهم» وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جعلنا إياها حالاً؛ لأن المضارعَ المثبت لا يجوز اقترانه بواو الحال لما تقدم مراراً.
الثاني من هذين الوجهين: ان تكون استئنافية، عطف جملة اسمية على مثلها.
و «استفعل» - هنا - ليست للطلب، بل تكون بمعنى المجرد، نحو: استغنى الله - بمعنى: غَنِيَ، وقد سُمِع بَشِر الرجل - بكسر العين - فيكون استبشر بمعناه، قاله ابنُ عطية. ويجوز أن يكون مطاوع أبشَرَ، نحو: أكانَهُ فاستكان، وأراحه فاستراح، وأشلاه فاستشلى، وأحكمَه فاستحكم - وهو كثيرٌ - وجعله أبو حيّان أظهر؛ من حيث إن المطاوعَة تدل على الاستفعال عن الغيرِ، فحصلت لهم البُشرى بإبشار الله تعالى، وهذا لا يلزم إذَا كان بمعنى المجردِ.
قوله: {مِّنْ خَلْفِهِمْ} في هذا الجارّ وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «لم يلحقوا» على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم، وهم قد تقدموهم.
الثاني: أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فعل «لم يلحقوا» على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم، وهم قد تقدموهم.
الثاني: أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فاعل «يلحقوا بهم» ، أي: لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلِّفين عنهم - أي: في الحياة -.
فصل
معنى الكلام: ويستبشرون: ويفرحون بالذين لم يلحقوا بهم، من إخوانهم الذين(6/51)
تركوهم أحياءً في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد؛ لِيُعْلِمَهم انهم إذَا استشهدوا لحقوا بهم، ونالوا من الكرامةِ ما نَالوا هُمْ؛ فلذلك يستبشرون.
وقال الزَّجَاج وابن فورك: الإشارة - بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم - لى جميع المؤمنين - وإن لم يقتلوا - ولكنهم لما عايَنُوا ثوابَ الله وقع اليقينُ بأن دين افسلام هُوَ الحقُّ الذي يُثِيبُ الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قوله: {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أن «أن» وما في حيِّزِها في محل جَرّ، بدلاً من «بالذين» بدل اشتمال، أي: يستبشرون بعد خوفهم وحُزْنهم، فهو المستبشَر به في الحقيقة، لأن الذواتَ لا يُسْتَبْشَرُ بها.
الثاني: أنها في محل نَصْبٍ؛ على أنها مفعول من أجله، أي: لأنهم لا خوف عليهم.
و «أن» - هذه - هي المخفَّفة، واسمها ضمير الشأن، وجملة النفي بعدها في محل الخبر. فإن قيل: الذوات لا يُسْتبشر بها - كما تقدم - فكيف قال: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ} .
فالجوابُ أن ذلك على حَذْفِ مُضَافٍ مناسبٍ، تقديره: ويَسْتبشرون بسلامةِ الذين، أو لحوقهم بهم في الدرجة.
وقال مكيٌّ - بعد أن حكى أنها بدلُ اشتمالٍ -: ويجوز أن يكون في موضع نَصْب، على معنى: بأن لا وهذا - هو بعينه - وجه البدل المتقدّم، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهُمّ إلا أن يعني أنها - وإن كانت بدلاً من «الذين» - ليست في محل جَرٍّ، بل في محل نَصْبٍ، لأنها سقطت منها الباء؛ فإن الأصل: بان لا، وإذا حُذِف منها حرفُ الجرِ كانت في محل نصبٍ على رأي سيبويه والفرَّاء - وهو بعيدٌ.(6/52)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
لما بيَّنَ - تعالى - أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم، بيَّن - هنا - أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رُزِقوا من النعيم ولذلك أعاد لفظَ لاستبشارِ.
فإن قيلَ: أليس الذي ذكر فَرَحَهم بأحوالِ أنفسهم والفرحُ عينُ الاستبشارِ - فلزم التكرارُ؟ فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن الاستبشارَ هو الفرحُ التامُّ، فلا يلزم التكرارُ.(6/52)
الثاني: لَعَلَّ المرادَ حصولُ الفرحِ بما حصل في الحالِ، وحصولُ الاستبشارِ بما عرفوا أنّ النعمةَ العظيمةَ تحصيل لهم في الآخرةِ.
فإن قيلَ: ما الفرقُ بين النعمةِ والفَضْلِ، فإنَّ العطفَ يقتضي المغايرةَ؟
فالجواب: أن النعمةَ هي الثواب، والفَضْل: هو التفضُّل الزائد.
وقيل: النعمة: المغفرة، والفَضْل: الثواب الزائد.
وقيل: للتأكيد.
روى الترمذيّ عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لِلشَّهِيْدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خَصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مَنَ الْجَنَّةِ، ويُجارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ الْفَزَعَ الأكْبَرَ، وَيُوضَعٌُ عَلَى رَأسِهِ تَاجُ الْوقارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ويُزَوَّج اثنينِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقارِبِه» ، قال: هذا حديثٌ حَسَنٌ، صحيحٌ، غريبٌ، وهذا تفسيرُ النعمةِ والفضلِ، وهذا في الترمذيِّ وابن ماجه ستٌّ، وهي في العدد سبعةٌ.
فصل
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الإنسانَ يكون فَرحُهُ واستبشارُهُ - بصلاحِ حالِ إخوانِهِ - أتم من استبشاره بسَعَادةِ نَفْسِهِ، لأنهُ - تعالى - مَدَحهم على ذلك بكونهم أوَّلَ ما استبشروا فرحا بإخوانهم، ثم ذكر - بعده - استبشارهم بأنفسهم، فقال: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} .
قوله: {وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ} قرأ الكِسائيُّ بِكَسْرِ «أن» على الاستئنافِ.
وقال الزمخشري: إن قراءة الكسرِ اعتراضٌ.
واستشكلَ كونها اعتراضاً؛ لأنها لم تقع بين شيئن متلازمين.
ويمكن أن يُجاب عنه بأن «الذين استجابوا» يجوز أن يكون تابعاً ل «الذين لم يلحقوا» - نعتاً، أو بدلاً، على ما سيأتي - فعلى هذا لا يتصور الاعتراض.(6/53)
ويؤيدُ كونها الاستئناف قراءةُ عبد الله ومصحفُه: والله لا يضيع، وقرأ باقي السبعةِ بالفتحِ؛ عَطْفاً على قوله: «بنعمة» لأنها بتأويل مصدر، أي: يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل منه وعدم إضاعةِ الله أجْرَ المؤمنين.
فإن قيل: لم قال: «يستبشرون» من غير عطف؟
فالجوابُ فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه استئنافٌ متعلِّقٌ بهم أنفسهم، دون «الذين لم يلحقوا بهم» لاختلافِ متعلِّقٍ البشارتين.
الثاني: أنه تأكيدٌ الأولِ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل مُتَعَلِّقِ الاستبشارِ الأولِ، وإليهِ ذَهَبَ الزمخشري.
الثالثُ: انه بدلٌ من الفعل الأول، ومعنى كونه بدلاً: أنه لما كان متعلقه بياناً لمتعلق الأول حَسُن أن يقال: بدل منه، وإلا فكيف يبدل فعلٌ من فعل موافقٍ له لفظاً ومعنًى؟ وهذا في المعنى يئول إلى وجه التأكيد.
الرابعُ: أنه حال من فاعل «يحزنون» و «يحزنون» عاملٌ فيه، أي: ولا هم يحزنون حال كونهم مستبشرين بنعمة. وهو بعيدٌ، لوجهين:
أحدهما: أن الظاهر اختلافُ مَنْ نفي عنه الحُزْن ومن استبشرَ.
الثاني: أن نفي الحزن ليس مقيَّداً ليكون أبلغ في البشارة، والحال قَيْدٌ فيه، فيفوت هذا المعنى.
فصل
والمقصودُ - من هذا الكلام - أن أيصال الثواب العظيم إلى الشهداء ليس مخصوصاً بهم، بل كل مؤمنٍ يستحق شيئاً من الأجر والثوابِ، فإن الله تعالى يوصِّل ثوابه إليه، ولا يُضيعه.
قوله: «الذين استجابوا» فيه ستة أوْجُهٍ:
أحدها: أنه مبتدأ، وخبره قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
وقال مَكيٌّ: ابتداء وخبره «من بعدما أصابهم القرح» وهذا غلطٌ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة، بل «من بعد» متعلقٌ ب «استجابوا» .
الثاني: أنه خبر مبتدأ مُضْمَر، أي: هم الذين.(6/54)
الثالث: أنه منصوب بإضمار «أعني» وهذانِ الوجهانِ يشملهما قولك: القطع.
الرابع: أنه بدل من «المؤمنين» .
الخامس: أنه بدلٌ من «الذين لم يلحقوا» قَالَه مَكّيٌّ.
السادسُ: أنه نعتٌ ل «المؤمنين» ويجوزُ فيه وجهٌ سابعٌ، وهو أن يكون نعتاً لقوله: «الذين لم يلحقوا» قياساً على جَعْلِهِ بدلاً منهم عند مكيٍّ.
و «ما» في قوله: {مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ} مصدرية، و «الذين أحسنوا» خَبَرٌ مقدَّمٌ، و «منهم» فِيهِ وَجْهَان:
أحدهما: أنه حالٌ من الضمير في «أحسنوا» وعلى هذا ف «من» تكون تبعيضية.
الثاني: أنها لبيان الجنسِ.
قال الزمخشري: «مثلها في قوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} [الفتح: 29] لأن الذين استجابوا لله والرسولِ قد أحسنوا كلهم لا بعضهم» . و «أجر» مبتدأ مؤخَّر، والجملة من هذا المبتدأ وخبره، إما مُستأنفة، أو حالٌ - إن لم يُعْرَب «الذين استجابوا» مبتدأ - وإما خبرٌ - إنْ أعربناه مبتدأ - كما تقدم تقريره.
والمرادُ: أحسنوا فما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله واتقوا ارتكابَ شيءٍ من المنهيات.
فصل
في بيان سبب النزول
في سبب نزول هذه الآية وجهان:
أحدهما - وهو الأصح -: أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحُدٍ، فلما بلغوا الرَّوحاء ندموا وتلاوموا، وقالوا: لا محمداً قَتَلْتُمْ، ولا الكواعبَ أردفتم، قتلتموهم حتى لم يَبْقَ منهم إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فهمُّوا بالرجوع فبلغ ذلك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأراد أن يُرْهِب الكُفَّارَ، ويُريَهم من نفسه وأصحابه قوةً، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيانَ، وقال: لا أريد أن يخرجَ الآن إلا من كان في القتالِ، فانتدبَ عصابةً منهم - ما بهم من ألم الجِراح والقَرْح الذي أصابهم يوم أحُد - ونادى منادي رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألا لا يخرجنَّ معنا أَحَدٌ، إلا مَنْ حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله، فقال: يا رسولَ الله إن أبي كان قد خلَّفني على أخواتٍ لي سَبْع، وقال: يا بُنَيَّ لا يَنْبَغِي لِي وَلاَ لَكَ أن نَتْرك هؤلاء النسوةَ ولا رَجُلَ فِيهنَّ، ولستُ بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتخلَّفْ على أخواتك فتخلفتُ عليهن.
فأذن له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَخَرَجَ مَعَهُ، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُرْهِباً للعدو، وليبلغهم أنه خَرَجَ في طلبهم، فيظنوا به قوةً، وأن الذي أصابهم لم يوهِنهم، فينصرفوا. فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سَبْعِينَ رَجُلاً، منهم أبو بكرٍ وعمرُ، وعثمانُ، وعليٍّ، وطلحةُ، والزبيرُ، وسعدٌ،(6/55)
سعيدٌ، وعبد الرحمن بنُ عوفٍ، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ، وحديفةُ بنُ اليَمانِ، وأبو عبيدةَ بنُ الجراح، حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميال - روي عن عائشةً أنَّها قالتْ - لعبدِ الله بن الزُّبَيْر: ابنَ أختي، أما - والله - إن أباك وجَدَّك - تعني أبا بكر والزبير - لَمِنَ الذين قال الله - عَزَّ وَجَلَّ - فيهم: {الذين استجابوا للَّهِ والرسول} .
وروي أنه كان فيهم مَنْ يحمل صاحبه على عنقه ساعةً، ثم كان المحمولُ يحملَ الحاملَ ساعةً أخرى، وذلك لكثرة الجراحاتِ فيهم، وكان منهم من يتوكأ على صاحِبِه ساعةً، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة أخرى فمر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَعْبَدٌ الخُزَاعِيُّ بحمراء الأسدِ، وكانت خزاعةُ - مسلمهم وكافرهم - عَيْبَة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتهامة، صَفْقَتُهُمْ معهم ولا يُخفونَ عنه شيئاً كان بها، ومعبد - يومئذ - مشرك، فقال: يا محمدُ والله لقد عَزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله قد أعفاك منهم.
ثم خرج من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى لقي أبا سفيان ومَنْ معه - بالروحاء - قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: قد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم، لنكرَّنَّ على بقيتهم، فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك يا معبدُ؟ قال: محمد وقد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلَه قط، يتحرقون عليكم تحرُّقاً، قد اجتمع معه مَنْ كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على صنيعكم وفيهم من الحنَقِ عليكم شيء لم أرَ مِثْلَه قط، قال ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتاً: [البسيط]
1690 - كَادَت تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إذْ سَالَتِ الأرْضُ بِالجُرْدِ الأبَابِيلِ
وذكر أبياتاً. «ففَتَّرَ ذلك أبا سفيان ومَنْ معه. ومَرَّ به رَكْبٌ من بن عبد القيسِ،(6/56)
فقالوا: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينةَ قالوا: ولِمَ؟ قالوا: نريد المِيرَة، قال فهل أنتم مبلِّغون محمداً عني رسالةً وأحمِّلُ لكم إِبلَكم زبيباً ب» عكاظ «غداً إذا وافيتمونا؟ قالوا: نَعَمْ، قال فإن جئتموه فأخبروني فأخبروه أنا قد جمعنا إليه وإلى أصحابه؛ لنَسْتَأْصِلَ بقيته، وانصرف أبو سفيان إلى مكةَ. ومرَّ الركب برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو ب» حمراء الأسد «فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: حَسْبُنَا الله ونِعْمَ الوكيلِ، ثم انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة.» هذا قولُ أكثرِ المفسّرين.
الثاني: «قال الأصمُّ: نزلت هذه الآية في يوم أحُدٍ، لما رجع الناس إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد الهزيمة، فشدّ بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا هم بالمُثْلة، فدفعهم عنها بعد أن مثَّلوا بحمزةَ، فقذف في قلوبهم الرُّعْبَ، فانهزموا، وصلى عليهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودفنهم بدمائهم. وذكروا أن صفيةَ جاءت لتنظرَ إلى أخيها حمزةَ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للزبير: رُدَّها؛ لئلا تجزع من مُثْلَةِ أخيها، فقالت: قد بلغني ما فُعِلَ به، وذلك يسيرٌ في جَنْب طاعةِ الله تعالى، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للزُّبَيْر: فَدَعْها، لتنظرَ إليه، فقالت خيراً، واستغفرت له. وجاءت امرأة - قُتِل زَوْجُها وأبوها وأخوها وابنُها - فلما رأت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو حَيٌّ قالت: كل مصيبةٍ بعدك هدر.»(6/57)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
في قوله: «الذين» ما تقدم في: «الذين» قبله، إلا في رفعه بالابتداء.
وهذه الآية نزلت في غزوة بدر الصُّغْرَى، «روى ابن عباسٍ أن أبا سفيانَ لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مَكَّةَ - قال: يا محمدُ موعدنا موسم بدر الصغرى، فنقتتل بها - إن شِئْتَ - فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعمر: قُلْ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ الله - فلما كان العام المقبل، خرج أبو سفيان في أهل مكةَ، حتى نزل» مجنة «من ناحية» مَرَّ الظهران «فألقى الله تعالى الرُّعب في قلبه، فبدا له أن يرجعَ فلقي نُعَيم بن مسعود الشْجَعِيّ - وقد قَدِم معتمراً - فقال أبو سفيان: يا نعيمُ، إني واعدتُ محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدرٍ، وإن هذا عام جَدْبٍ، ولا يُصْلِحُنا إلا عام نَرْعَى فيه الشجر ونشرب فيه اللبنَ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها، ولكن إن خَرَجَ مُحَمّدٌ - ولم أخرُجْ - زاد بذلك جُرْأةً، وَلأنْ يكونَ الخُلْفُ من قِبَلِهِمْ أحَبُّ من أن يكون من قِبَلي، فالْحَق بالمدينة فَثَبِّطْهُم، ولك عندي عشرةٌ من الإبل، أضعها على يد سُهَيْلِ بْنِ عمرو ويضمنها. قال: فجاء سُهَيلٌ، فقال له نعيمٌ: يا أبا يزيدَ أتضمنُ لي هذه القلائصِ، فأنطلق إلى مُحَمَّدٍ فأثبطه؟ قال:(6/57)
نَعَمْ، فخرج نُعَيْمٌ، حتى أتى المدينة، فوجد المسلمين يتجهَّزون لميعاد أبي سفيان، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: واعَدَنَا أبو سفيان لموسم بدر الصُّغْرَى أن نقتتل بها، فقال: بئس الذي رأيتم، أتَوْكُمْ في دياركم وقراركم، فلم يفلت منكم إلا الشريد، أفتريجون أن تخرجوا إليهم؟ فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، وقد جمعوا لكم عند الموسم.
فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم، فلما عرفوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك قال:» والذي نفسُ محمدٍ بيده لأخرجنّ إليهم ولو وحدي «. فأما الجبان فإنه رجع، وأما الشُّجَاعُ فإنه تأهَّبَ للقتالِ، وقالوا» حسبنا الله ونعم الوكيل «. ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه نحو سبعين رجلاً - فيهم ابنُ مسعود حتى وافَوْا بدر الصغرى - وهي ماء لِبَني كنانةَ، وكانت موضعٍ سوقٍ لهم، يجتمعون فيه كل عام ثمانية أيام - ولم يَلْقَ رسولُ الله - وأصحابه أحداً من المشركين ووافقوا السوق، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ، فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً، وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة، وسَمَّى أهل مكة جيشه جيش السويق، وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق.» هذا سبب نزول الآية.
والمراد ب «الناس» نُعَيم بن مسعود - في قول مجاهد وعكرمة - فهو من العامِّ الذي أرِيدَ به الخاصّ، كقوله تعالى:
{أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} [النساء: 54] يعني محمداً وحده، وإنما جاز إطلاقُ لفظِ «الناس» على الواحد؛ لأن الإنسانَ الواحدَ إذا كان له أتباع يقولون مثل قوله، أو يَرْضَونَ بقوله فإنه يحسن - حينئذٍ - إضافة ذلك الفعل إلى الكل، قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] وقال: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] وهم لم يفعلوا ذلك، وإنما فعله أسلافهم، إلا انهم لما تابعوهم وصوَّبوا فِعْلَهُمْ، حَسُن إضافة ذلك إليهم.
وقال ابنُ عَبَّاس، ومحمد بن إسحاقَ، وجماعة: أراد بالنَّاسِ: الرَّكْبَ من بني عبد القيسِ «قد جمعوا لكم» يعني أبا سفيان وأصحابه.
وقال السُّدِّيُّ: هم المنافقون، قالوا للمسلمين - حين تجهزوا للمسير إلى بدر لميعاد أبي سفيان -: القوم قد أَتَوْكُمْ في دياركم، فقتلوا أكثركم، فإن ذَهَبْتُمْ إليهم لم يَبْقَ منكم أحدٌ، لا سيما وقد جمعوا لكم جَمْعاً عظيماً «فاخشوهم» أي: فخافوهم.
قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} في فاعل «فزادهم» ثلاثة أوجهٍ:
الأول - وهو الأظهرُ -: أنه ضميرٌ يعود على المصدر المفهوم من «قال» أي فزادهم(6/58)
القول بكيتَ وكيتَ إيماناً، كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] .
الثاني: أنه يعود على المقول - الذي هو {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} كأنه قيل: قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيماناً.
الثالث: أنه يعود على «الناس» إذا أريد به فَرْدٌ واحد - كما نُقِلَ في سبب النزول - وهو نعيم بن مسعود الأشْجَعِيّ.
واستضعف أبو حيّان الوجهين الأخيرَيْنِ، قال: «وهما ضعيفانِ؛ من حيثُ إنّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به، لا هو في نفسه، ومن حيثُ إنّ الثاني إذا أطلقَ على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع، لا على المفرد. تقول: مفارقة شابت - باعتبار الإخبار عن الجمع - ولا يجوز: مفارقة شاب - باعتبار: مَفْرِقُهُ شَابَ» .
قال شهابُ الدّين: «وفيما قاله نَظَر؛ لأن المقولَ هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان - وأما قولُهُ: تجري على الجمع، لا على المفرد، فغير مُسَلَّم، ويعضده أنهم نَصُّوا على أنه يجوز اعتبار لفظ الجمع الواقع موقع المُثَنَّى تارةً، ومعناه تارةً أخْرَى، فأجازوا: رؤوس الكبشينِ قطعتهن، وقطعتهما، وإذا ثبت ذلك في الجمع الواقع موقع المثنى، فليَجز في الواقع موقع المفرد. ولقائلٍ أن يفرق بينهما، وهو أنه إنما جاز أن يراعى معنى التثنية - المعبر عنها بلفظ الجمع - لقربها منه؛ من حيثُ إنّ كلاً منهما فيه ضم شيء إلى مثله. بخلاف المفرد، فإنه بعيدٌ من الجمع؛ لعدم الضمِّ، فلا يلزمُ من مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاة معنى المفردِ.
فصل
قال أبو العَبَّاس المُقْرئ: لفظ» الوكيل «في القرآن على وجهين:
الأول: بمعنى المائع - كهذه الآية - ومثله قوله:
{فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء: 109] أي: مانعاً.
الثاني: بمعنى: الشاهدِ، قال تعالى: {وكفى بالله وَكِيلاً} [النساء: 81، 132، 171] أي: شهيداً، ومثله قوله: {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12] . أي: شاهد، ومثله: {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] أي: شهيد.
قوله: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} [آل عمران: 173] عطف «قالوا» على «فزادهم» والجملة بعد القول في محل نَصْب به.
قوله: {وَنِعْمَ الوكيل} المخصوصُ بالمدحِ، أي: الله تعالى.
قوله: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ} في متعلق باء «بنعمة» وجهانِ:(6/59)
أحدهما: أنها متعلقة بنفس الفعل على أنها باء التعدية؟
الثاني: أنها تتعلَّق بمحذوف، على أنَّها حال من الضمير في «انقلبوا» والباء على هذه المصاحبة، كأنه قيل: فانقلبوا ملتبسين بنعمة ومصاحبين لها. والتقدير: وخرجوا فانقلبوا، وحذف الخروجُ؛ لأن الانقلابَ يدل عليه، كقول: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] أي: فضرب فتنفلق ومعنى الآية: «فانقلبوا» بعافية، لم يلقوا عدواً «وفضل» تجارة وربح، وهو ما أصابوا من السوق.
قوله: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} هذه الجملة في محل نصب على الحال - أيضاً - وفي ذي الحال وجهان:
أحدهما: أنه فاعل «انقلبوا» أي: انقلبوا سالمين من السوء.
الثاني: أنه الضمير المستكن في «بنعمة» إذا كانت حالاً، والتقدير: فانقلبوا منعَّمينَ بريئينَ من السوء. والعاملُ فيها: العامل في بنعمة فهما حالان متداخلان، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً ب «لم» وفيها ضمير ذي الحال جاز دخول الواو وعدمه فمن الأول قوله تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] وقول كعب: [البسيط]
1691 - لا تَأخُذَنِّي بِأقْوالِ الوُشَاةِ وَلَمْ ... أذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقَاوِيلُ
ومن الثَّاني هذه الآية، وقوله: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} [الأحزاب: 25] وقول [قيس] بن الأسلت:
1692 - وَأضْرِبُ الْقَوْنَسَ يَوْمَ الْوَغَى ... بِالسَّيْفِ لَمْ يَقْصُرْ بِهِ بَاعِي
وبهذا يُعْرَف غَلَط الأستاذ ابن خروف؛ حيث زعم أنّ الواوَ لازَمةٌ في مِثْلِ هَذَا، سواء كان في الجملة ضمير، أو لَمْ يَكُنْ.
قوله: {واتبعوا} يجوز في هذه الجملة وجهانِ:
الأول: أنا عطف على «انقلبوا» .
الثاني: أنها حال من فاعل «انقلبوا» - أيضاً - ويكون على إضمار «قد» أي: وقد اتبعوا.
فصل
قال القرطبيُّ: «وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونُقْصانه على أقوال، والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان - الذي هو تاج - واحدٌ، وتصديق واحد بشيء ما إنما هو(6/60)
معنى مفرد، لا يدخل معه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال، فلم يَبْقَ إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته، دون ذاتِهِ. ومعنى الآية: زادهم قولِ الناسِ إيماناً ونُصْرَةً ويقيناً في دينهم، وإقامة على نُصْرَته، وقوةً وجرأةً واستعداداً، فزيادة الإيمان - على هذا - هي في الأعمال» .
قال ابنُ الخطيب: المرادُ بالزيادَةِ في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلامَ المخوِّف لم يلتفتوا إليه، بل حدث في قلوبهم عَزْم متأكد على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل ما يأمر به وينهى عنه - ثقل ذلك أو خَفَّ - لأنه قد كان فيهم مَنْ به جراحاتٌ عظيمةٌ، وكانوا محتاجين إلى الممداواةِ، وحدث في قلوبهم وثوق بأنَّ الله ينصره على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة، فهذا هو المراد من قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} .
فصل
هذه الواقعةُ تدل دلالة ظاهرةً على أن الكل بقضاء وقَدَره؛ وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحُدٍ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمينِ عن الآخر، فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف، ثم إنه - سبحانه وتعالى - قَلَبَ القضية ها هنا، فأودع قلوبَ الغالبين - وهم المشركونَ - الخوفَ والرعبَ، وأودع قلوب المغلوبين القوةَ والحميةَ والصلابةَ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارفَ من الله تعالى، وأنها متى حدثت في القلوبِ وقعت الأفعال على وفقتها. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} والمعنى: أنهم كلما زادوا إيماناً في قلوبهم أظهروا ما يطابقه، فقالوا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} قال ابن الأنْبَارِيّ: {حَسْبُنَا الله} أي: كافينا الله.
ومثله قوله امرئ القيس: [الوافر]
1693 - فَتَملأ بِيْتَنَا أقِطاً وَسَمْناً ... وَحَسْبُكَ مِنْ غَنًى شِبَعٌ وَرِيّ
أي: يكفيك الشَّبَعُ والرَّيُّ.
وأما «الوكيل» ففيه أقوالٌ:
أحدُهَا: أنه الكفيل.
قال الشاعر: [الطويل]
1694 - ذَكَرْتُ أبَا أروَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي ... بِرَدِّ الأمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ
الثاني: قال الفرّاء: الوكيل: الكافي، والذي يدل على صحة هذا القول أن «نِعْمَ»(6/61)
سبيلها أن يكن الذي بعدها موافقاً قبلها، تقول: رازقنا الله ونعم الرازق، وخالقنا الله ونعم الخالقُ، وهذا أحسنُ من قول مَنْ يقول: خالقنا الله ونعم الرازقُ، فكذا ههنا تقدير الآية: يكفينا الله ونعم الكافي.
الثالث: «الوكيل» فعيل بمعنى مفعول، وهو الموكول إليه. والكافي والكفيل يجوز أن يُسَمَّى وكيلاً؛ لأن الكافيَ يكون الأمرُ موكولاً إليه، وكذا الكفيلُ يكون الأمر موكولاً إليه.
ثم قال: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} قال مجاهدٌ: النعمة - هنا - العافية، والفَضْل: التجارة.
وقيل: النعمة: منافع الدنيا، والفَضْل: ثواب الآخرة.
قوله: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} أي: لم يصبهم قَتْلٌ ولا جِرَاحٌ - في قول الجميع - {واتبعوا رِضْوَانَ الله} طاعة الله، وطاعة رسوله، {والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا.
روي أنهم قالوا: هل يكن هذا غَزْواً؟ فأعطاهم الله ثوابَ الغَزْوِ.
واختلف أهْلُ المغازي، ذهب الواقديُّ إلى تخصيص الآية الأولى ب «حمراء السد» والثانية ب «بدر الصغرى» .
ومنهم مَنْ جَعَل الآيتين بين واقعة بدرٍ الصُّغْرَى، والأول أوْلَى؛ لأن قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح} [آل عمران: 172] يدل على قُرْب عهدهم بالقَرْح.(6/62)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
«إنما» حرف مكفوف ب «ما» عن العمل وقد تقدم الكلام فيها أول الكتاب. وفي إعراب هذه الجملة خمسةُ أوجهٍ:
الأول: أن يكون «ذلكم» مبتدأ، «والشيطان» خبره، و «يخوف أولياءه» حال؛ بدليل وقوع الحالِ الصريحةِ في مثل هذا التركيب، نحو قوله: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] وقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] .(6/62)
الثاني: أن يكون «الشيطان» بدلاً، أو عطف بيان، و «يخوف» الخبر، ذكره أبو البقاء.
الثالث: أن يكون «الشيطان» نعتاً لاسم الإشارة، و «يخوف» على أن يرادَ ب «الشيطان» نعيم، أو أبو سفيان - ذكره الزمخشري قال أبو حيّان: «وإنما قال: والمراد ب» الشيطان «نعيم، أو أبو سفيان؛ لأنه لا يكون نعتاً - والمراد به إبليس - لأنه إذ ذاك - يكون علماً بالغلبة، إذ أصله صفة - كالعيُّوق - ثم غلب على إبليس كما غلب العيُّوق على النَّجْمِ الَّذِي ينطلق عليه» وفيه نظرٌ.
الرابع: أن يكون «ذلكم» مبتدأ، و «الشيطان» خبر، و «يخوف» جملةٌ مستأنفةٌ، بيان لشيطنته، والمراد بالشَّيْطانِ هو المثبط للمؤمنين.
الخامس: أن يكون «ذلكم» مبتدأ، و «الشيطان» مبتدأ ثانٍ، و «يخوف» خبر الثاني، والثاني وخبره خبرُ الأول؛ قاله ابنُ عطيةَ، وقال: «وهذا الإعرابُ خير - في تناسق المعنى - من أن يكون» الشيطان «خبر» ذلكم «لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة» .
ورَدَّ عليه أبو حيّان هذا الإعراب - إن كان الضمير في «أولياءه» عائداً على «الشيطان» لخُلُوِّ الجملة الواقعة خبراً عن رابط يربطها بالمبتدأ - وليست نفس المبتدأ في المعنى، نحو: هِجِّيرى أبِي بكر لا إلَه إلا الله وإن كان عائداً على «ذلكم» - ويراد ب «ذلكم» غير الشيطان جاز، وصار نظير: إنما هند زيد [يضرب غلامها] ، والمعنى: إنما ذلكم الركب، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أنتم أولياؤه، أي: أولياء الركب، أو أولياء أبي سفيان - والمشار إليه ب «ذلكم» هل هو عين أو معنى؟ فيه احتمالان:
أحدهما: أنه إشارةٌ إلى ناسٍِ مخصوصين - كَنُعَيْم وأبيب سفيانَ وأشياعهما - على ما تقدم.
الثاني: إشارة إلى جميع ما جرى من أخبارِ الركبِ وإرسال أبي سفيان وجزع من جزع - وعلى هذا التقدير فلا بُدَّ من حذف مضافٍ، أي: فعل الشيطان، وقدَّره الزمخشري: قول الشيطانِ، أي: قوله السابق، وهو: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} [آل عمران: 173] وعلى كلا التقديرين - أعني كون الإشارة لأعيان أو معان - فالإخبار ب «الشيطان» عن «ذلكم» مجاز؛ لأن الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعال الصادرة من الكفار - ليست نفس الشيطان، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جَازَ ذلك.
قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} قد تقدم ما محله من الإعراب. والتضعيفُ فيه للتعدية، فإنه قَبْلَ التَّضْعيف متعدٍّ إلى واحدٍ، وبالتضعيف يكتسب ثانياً، وهو من باب «أعطى» ، فيجوز(6/63)
حذف مفعوليه، أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً، وهو في الآية الكريمة يحتمل أوجُهاً:
أحدها: أنْ يكون المفعولُ الأولُ محذوفاً، تقديره: يخوفكم أولياءه، ويقوِّي هذا التقديرَ قراءة ابن عبَّاسٍ وابن مسعود هذه الآية كذلك، والمراد ب «أولياءه» - هنا - الكفارُ، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ، أي: شر أوليائه؛ لأن الذوات لا يخاف منها.
الثاني: أن يكون المفعول الثاني هو المحذوف، و «أولياءه» هو الأول، والتقدير: يخوف أولياءه شَرَّ الكفار، ويكون المراد ب «أولياءه» - على هذا الوجه - المنافقين ومَنْ في قلبه مرضٌ ممن تخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الخروج.
والمعنى: أن تخويفه بالكفار إنما يحصل للمنافقين الذين هم أولياؤه، وأما أنتم فلا يصل إليكم تخويفه قاله الحسنُ والسُّدِّي.
الثالث: أن المفعولين محذوفان، و «أولياءه» نعتٌ - على إسقاط حرف الجر - والتقدير: يخوفكم الشر بأوليائه. والباء للسبب، أي: بسبب أوليائه فيكونون هم كآلةِ التخويف لكم.
قالوا: ومثل حذف المفعول الثاني قوله تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [القصص: 7] أي: فإذا خِفْتِ عليه فرعونَ. ومثال حذف الجارّ قوله تعالى: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] معناه لينذركم ببأسٍ، وقوله: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} [غافر: 15] . وهذا قول الفرّاء والزّجّاج وأبي عليّ، قالوا: ويدل عليه قراءة أبَيٍّ والنَّخَعِيِّ: يخوفكم بأوليائه.
قال شهابُ الدّينِ: فكأن هذا القائل رأى قراءة أبَيّ والنخعيّ «يخوف بأوليائه» فظن أنَّ قراءة الجمهورِ مثلها في الأصل، ثم حُذِفتَ الباء، وليس كذلك، بل تُخَرَّج قراءةُ الجمهورِ على ما تقدم؛ إذ لا حاجةَ إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له.
وأما قراءة أبَيّ فيحتمل أن تكون الباء زائدة، كقوله: [البسيط]
1695 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... سُودُ الْمَحَاجِرِ لا يَقْرَانَ بِالسُّوَرِ
فتكون كقراءة الجمهور في المعنى.
ويحتمل أن تكون للسبب، والمفعولان محذوفان - كما تقدم.
قوله: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} في الضمير المنصوب ثلاثةُ أوجهٍ:(6/64)
الأول - وهو الأظهر -: أنه يعود على «أولياءه» أي: فلا تخافوا أولياءَ الشيطان، هذا إن أريد بالأولياء كفار قريش.
الثاني: أنه يعود على «الناس» من قوله: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] إن كان المراد ب «أولياءه» المنافقين.
الثالث: أنه يعود على «الشيطان» قال أبو البقاء: «إنما جمع الضمير؛ لأن الشيطان جنس» والياء في قوله: «وخافوني» من الزوائد، فإثبتها أبو عمرو وصلاً، وحَذَفَها وقفاً - على قاعدته - والباقون يحذفونها مطلقاً.
فصل في ورود الخوف في القرآن الكريم
ورد الخوف على ثلاثةِ أوجهٍ:
الأول: الخوفُ بعينه، كهذه الآية.
الثاني: الخوف: القتال، قال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] أي: إذا ذهب القتال.
الثالث: الخوف: العِلْم، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229] وقوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] . أي: يعلمون وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] أي: علمتم.
وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابه محذوف، أو متقدم - عند مَنْ يرى ذلك - وهذا من باب الإلهاب والتهييج. إلا فهم ملتبسون بالإيمان.
قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين} قرأ نافع «يُحزنك» - بضم حرف المضارعة - من «أحزن» - رباعياً - في سائر القرآن إلا التي في قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] فإنه كالجماعة. والباقون بفتح الباء - من «حزنه» ثلاثياً - فقيل: هما من باب ما جاء فيه فَعَل وأفْعَل بمعنى.
وقيل: باختلاف معنى، فَحَزَنَه: جَعَل فيه حُزْناَ - نحو: دهنه وكحله، أي: جعل فيه دهناً وكحلاً - وأحزنته: إذا جعلته حزيناً. ومثل حَزَنَه وأحْزَنَه فَتَنَه وأفتَنَه، قال سيبويه: «وقال بعضُ العربِ: أحزنت له الحُزْن، وأحزنته: عرَّضته للحُزْن. قاله أبو البقاء وقد تقدم اشتقاق هذه اللفظة في» البقرة «.(6/65)
قال شهابُ الدينِ:» والحق أن حزنه لغتان فاشيتان، لثبوتهما متوازتين - وإن كان أبو البقاء قال: إن أحزن لغة قليلة، ومن عجيب ما اتفق أن نافعاً - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقرأ هذه المادة من «أحزن» إلا التي في الأنبياء - كما تقدم - وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرأها من «حزنه» - ثلاثياً - إلا التي في الأنبياء، وهذا من الجمع بين اللغتين، والقراءة سنة مُتَّبَعَة «.
وقرأ الجماعة:» يسارعون «بالفتح والإمالة، وقرأ النحوي» يسرعون «- من أسرع - في جميع القرآن، قال ابن عطيةَ:» وقراءة الجماعة أبلغ؛ لأن مَنْ يسارع غيرَه أشد اجتهاداً من الذي يُسرع وحده «.
قوله: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} في نصب» شيئاً «وَجْهَانِ:
أحدهما: أنه مصدر، أي: لا يضرونه شيئاً من الضرر.
الثاني: أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي: لن يضروه بشيء. وهكذا كل موضع أشبهه ففيه الوجهان.
فصل
اختلفوا في هؤلاء المسافرين فقال الضَّحَّاك: هم كفار قريش، وقال غيره: هم المنافقون؛ يسارعون في الكفر مظاهرةً للكفار» إنهم لن يضروا الله «بمُسارعتهم في الكُفْر.
وقيل: إن قوماً من الكفار أسلموا، ثم ارتدوا؛ خوفاً من قريش، فوقع الغمُّ في قَلْبِ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك السبب فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ظن أنهم بسبب تلك الرِّدَّة يُلحِقون به مَضَرَّة، فبيَّن - تعالى - أن ردَّتَهم لا تؤثر في لُحُوقِ ضررٍ بك.
قال القاضي: ويقوى هذا الوجه بأن المستمر على الكفر لا يوصَفُ بأنه يسارعُ في الكفرِ، وإنما يُوصَف بذلك مَنْ يكفر بعد الإيمان.
وأيضاً فإن إرادته ألا يجعل لهم حَظَّاً في الآخرة لا تليق إلا بمن قد آمن واستوجب ذلك، ثم أحبط.
وأيضاً فإن الحُزْن إنما يكون على فوات أمرٍ مقصودٍ، فلما قدَّر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الانتفاع(6/66)
بإيمانهم - ثم كفروا - حَزنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند ذلك؛ لفوات التكثير بهم، فآمنه الله من ذلك، وعرَّفه أن وجودَ إيمانهم كعدمه في أن أحوالَه لا تتغير.
وقيل: المراد رؤساء اليهود - كعب بن الأشرف وأصحابه - كتموا صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمتاع الدنيا. قال القَفَّال ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هِادُواْ} [المائدة: 41] . فإن قيل: الحُزْن على كُفر الكافر، ومعصية العاصي طاعة، فكيف نهاه الله عن الطاعة؟
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنه كان يفرط في احُزْن على كُفْر قومه، حتَّى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه، كما قال: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] .
الثاني: أن المعنى لا يُحْزنوكَ بخوف أن يضروك، ويعينوا عليك؛ ألا ترى إلى قوله: {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} يعني: أنهم لا يضرون - بمسارعتهم في الكفر - غير أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة.
ثم قال: {يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة} وهذا تنصيصٌ وردٌّ على المعتزلة بأنَّ الخيرَ والشر بإرادة الله تعالى، وتدل الآية - أيضاً - على أنَّ النكرةَ في سياق النَّفي تعم؛ إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل في تهديد الكفار بهذه الآية، ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهذا كلام مبتدأ والمعنى: أنه كما لا حَظَّ لهم ألبتة من منافع الآخرة، فلهم الحَظُّ العظيمُ من [مضارِّها] .(6/67)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
اعلم أنه لا يبعد حَمْلَ الآية الأولى على المرتدين، وحمل هذه الآية على اليهود. ومعنى: {اشتروا الكفر بالإيمان} أنهم كانوا يعرفون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويؤمنون به قبل مَبْعَثِه، فلما بُعِثَ كفروا به، وتركوا ما كانوا عليه، فكأنهم أعطوا الإيمان، وأخذوا الكفر بدلاً عنه، كما يفعلُ المشتري من إعطاء شيء وأخْذ غيره بدلاً عنه.
ولا يبعد أيضاً - حَمْلُ هذه الآيةِ على المنافقينَ؛ لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان، فإذا خلوا إلى شياطينهم كفروا، وتركوا الإيمان، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان.(6/67)
فإن قيل: ما فائدة التكرار في الآيتين في قوله: {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} ؟
فالجوابُ: أن فائدةَ التكرارِ أمورٌ:
أحدهما: أن الذين اشتروا الكفرَ بالإيمانِ لا شك أنهم كانوا كافرين أولاً، ثم آمنوا، ثم كفروا بعد ذلك، وهذا يدلُّ على شدَّة الاضطرابِ، وضَعْفِ الرأي، وقِلَّةِ الثباتِ، ومثل هذا الإنسان لا خوف منه، ولا هيبةَ له، ولا قدرةَ له على إلحاق الضَّرَر بالغير.
ثانيها: أن أمر [الدّينِ] أهمّ الأمورِ وأعظمها، ومثل هذا مما لا يقدم الإنسان فيه - على الفعل، أو على التَّركِ - إلا بعد إمعانٍ النّظَرِ، وكَثْرة الفِكْر، وهؤلاء يُقْدِمون على الفعل، أو على الترك في هذا المهم بأهونِ الأسبابِ وأضعفِ الموجباتِ، وهذا يدلُّ على قِلَّةِ عقولهم، وشدة حماقتهم، وأمثال هؤلاء لا يَلْتَفِتُ العاقلُ إليهم.
ثالثها: أن أكثرهم إنما ينازعونك في الدّينِ لا بِنَاءً على الشُّبُهات، بل بناءً على الحَسَدِ والمنازعة في منصب الدُّنْيَا، ومَنْ كان عَقْلَه بهذا القَدْر - وهو بيع السعادة العظيمة الأخروية بالقليل الفاني من سعادة الدنيا - كان في غاية الحماقة، ومِثْلهُ لا يقدر على إلحاق ضرر بالغير، والله أعلم.(6/68)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
قرأ الجمهور «يحسبن» بالغيبة، وحمزة بالخطاب، وحكى الزّجّاج عن خلق كثير كقراءة حمزة إلا أنهم كسروا «أنما» ونصبوا «خير» وأنكرها ابن مجاهدٍ - وسيأتي إيضاح ذلك - وقرأ يحيى بن وثاب بالغيبة وكسر «إنما» . وحكى عنه الزمخشري - أيضاً - أنه قرأ بكسر «أنما» الأولى وفتح الثانية مع الغيبة، فهذه خَمْسُ قراءاتٍ.
فأما قراءة الجمهور، فتخريجها واضح، وهو أنه يجوز أن يكون الفعل مسنداً إلى «الذين» و «أن» وما اتصل بها سادَّة مسد المفعولين - عند سيبويه - أو مسدَّ أحدهما، والآخر محذوف عند الأخفش - ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب، يراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي لا يحسبن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فعلى هذا أن يكون «الذين كفروا» مفعولاً أول، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة، لتتحد هذه القراءة - على هذا الوجه - مع قراءة حمزة رَحِمَهُ اللَّهُ، وسيأتي تخريجها.(6/68)
و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، فيكون العائد محذوفاً، لاستكمال الشروط، أي: الذي نمليه ويجوز أن تكون مصدرية - أي: إملاءنا - وهي اسم «إن» و «خير» خبرها.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن تكون كافةً، وزائدة؛ إذ لو كان كذلك لانتصب» خير «ب» نملي «واحتاجت» أن «إلى خبر، إذا كانت» ما «زائدة، أو قدر الفعل يليها، وكلاهما ممتنع» انتهى. وهي من الواضحات. وكتبوا «أنماط - في الموضعين - متصلة، وكان من حق الأولى الفصل؛ لأنها موصولة.
وأما قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوال الناس وتخاريجهم، حتى أنه نُقل عن ابن أبي حاتم أنها لحن.
قال النحاس: وتابَعَهُ على ذلك [جماعة] وهذا لا يُلتفت إليه، لتواترها، وفي هنا تخريجها ستة أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون فاعل» تحسبن «ضمير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ و» الذين كفروا «مفعول أول، و» أنما نملي لهم خير «مفعول ثان، ولا بُدَّ - على هذا التخريج - من حَذْفِ مضافٍ، إما من الأول، تقديره: ولا تحسبن شأنَ الذين، وإما من الثَّاني، تقديره: أصحاب أن إملاءنا خير لهم.
وإنما احتجْنَا إلى هذا التأويل؛ لأن» أنما نملي «بتأويل مصدر، والمصدر معنى من المعاني لا يَصْدُقُ على» الذين كفروا «والمفعول الثاني في هذا البابِ هُوَ الأولُ في المعنى.
الثاني: أن يكون» أنما نملي لهم «بدلاً من» الذين كفروا «. وإلى هذا ذهب الكسائي، والفرّاء، وتبعهما جماعة، منهم الزَّجَّاج والزمخشري، وابنُ الباذش، قال الكسائي والفرّاء: وجه هذه القراءة التكرير والتأكيد، والتقدير: ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي.
قال الفرّاءُ: ومثله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ} [الزخرف: 66] أي «ما ينظرون إلا أن تأتيهم. انتهى.
ورد بعضهم قولَ الكسائيِّ والفرَاءِ، بأن حَذْفَ المفعولِ الثاني - في هذه الأفعالِ - لا يجوز عند أحد. وهذا الردُّ ليس بشيءٍ؛ لأن الممنوعَ إنما هو حذف الاقتصارِ - وقد تقدم تحقيق ذلك.
وقال ابنُ الباذش: ويكون المفعول الثاني قد حُذِف؛ لدلالة الكلامِ عليه، ويكون التقدير: ولا تحسبن الذين كفروا خَيْريَّةَ إملاءنا لهم ثابتة، أو واقعة.(6/69)
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف صح مَجِيءُ البدلِ، ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصارُ بفعل الحسبانِ على مفعولٍ واحدٍ؟
قلتُ: صحَّ ذلك من حيثُ إنّ التعويلَ على البدل والمبدل منه في حكم المُنَحَّى، ألا تراك تقول: جَعَلْتُ متاعَك بعضَه فوقَ بَعْضٍ، مع امتناع سكوتك على: متاعك.
وهذا البدلُ بدلُ اشتكالٍ - وهو الظاهرُ - أو يدل كُلٍّ من كُلٍّ، ويكون على حَذْف مضافٍ، تقديره: ولا تحسبن إملاء الذين، فحذف» إملاء «وأبدل منه:» أنما نملي «قولان مشهوران.
الثالثُ: وهو أغربها -: أن يكون» الذين كفروا «فاعلاً ب» تحسبن «على تأويل أن تكون التاء في الفعل للتأنيث، كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} [الشعراء: 105] أي: ولا تحسبن القوم الذين كفروا، و» الذين «وضصْف للقوم، كقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ} [الأعراف: 137] . فعلى هذا تتحدد هذه القراءة مع قراءة الغيبة، وتخريجها كتخريجها، ذك ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيره المُسمَّى ب» اللُّباب «. وفيه نظر؛ من حيث إن» الذين «جارٍ مَجْرَى جمع المذكر السالم، والجمع المذكر السالم لا يجوز تأنيث فعله - عند البصريين - لا يجوزُ: قامت الزيدون، ولا: تقوم الزيدون. وأما اعتذاره عن ذلك بأن» الذين «صفة للقوم - الجائز تأنيث فِعلهم - وإنما حذف، فلا ينفعه؛ لأن الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ لا بالمقدَّر، لا يجيز أحدٌ من البصريين: قامت المسلمون - على إرادة: القوم المسلمون - ألبتة.
وقال أبو الحسن الحوفيُّ:» أن «وما عملت فيه من موضع نصب على البدل، و» الذين «المفعول الأول، والثاني محذوف.
وهو معنى قول الزمخشريَّ المتقدم.
الرابع: أن يكون:» أنما نملي لهم «بدلاً من:» الذين كفروا «بدل اشتمال - أي: إملاءنا - و» خير «بالرفع - خبر مبتدأ محذوف، أي: هو خير لأنفسهم، والجملة هي المفعول الثاني، نقل ذلك أبو شامة عن بعضهم، ثم وقال: قُلْتُ: ومثل هذه القراءة بيت الحماسةِ.
1696 - فِينَا الأنَاةُ، وَلبَعْضُ الْقَوْمِ يَحْسَبُنَا ... أَنَّا بِطَاءٌ، وَفِي إبْطَائِنَا سَرَعُ
كذا جاءت الرواية بفتح» أنا «بعد ذكر المفعول الأول، فعلى هذا يجوز أن تقول: حسبت زيداً أنه قائم، أي: حسبته ذا قيام.(6/70)
فوجه الفتح أنها وقعت مفعولاً، وهي ما عملت فيه من موضع مفرد، وهو المفعول الثاني ل «حسبت» انتهى.
وفيما قاله نظرٌ؛ لأن النحاة نصُّوا على وجوب كسر «إن» إذا وقعت مفعولاً ثانياً، والأول اسم عين، وأنشدوا البيتَ المذكورَ على ذلك، وعلَّلوا وجوب الكسر بأنا لو فتحنا لكانت في محل مصدر، فيلزم منه الاخبار بالمعنى عن العين.
الخامس: ان يكون «الذين كفروا» مفعولاً به، و {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} في موضع المفعول الثاني، و {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر اعترض به بين مفعولي «تحسبن» ففي الكلام تقديم وتأخير، نُقِل ذلك عن الأخفشِ.
قال أبو حاتم: وسمعتُ الأخفشَ يذكر فتح «أن» - يحتج به لأهل القَدَر لنه كان منهم - ويجعله على التقديم والتأخير، [أي] : ولا تحسبنَّ الذين كفروا أنما نثمْلي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نملي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم. انتهى.
وإنما جاز أن تكون «أن» المفتوحة مبتدأ بها أول الكلام؛ لأن مذهبَ الأخفش ذلك، وغيره يمنع ذلك، فإن تقدم خبرها عليها - نحو: ظني أنك منطلق، أو «أما» التفصيلية، نحو أما أنك منطلق فعندي، جاز ذلك إجماعاً. وقول أبي حاتم: يذكر فتح «أن» يعني بها التي في قوله: «أنما نملي لهم خير» . ووجه تمسُّك القدرية أن الله تعالى لا يجوز أن يُمْلِي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم، لأنه يجب - عندهم - رعاية الأصلح.
السادس: قال المهدويّ: وقال قوم: قدم «الذين كفروا» توكيداً، ثم حالهم، من قوله: «أنما نملي لهم» رداً عليهم، والتقديرُ: ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم.
وأما قراءة يحيى - بكسر «إنَّما» مع الغيبة - فلا تخلو إما أن يُجْعَلَ الفعلُ مسنداً إلى «الذين» أو إلى ضميرٍ غائبٍ، فإن كانت الأولى كانت «أنما» وما في حيِّزها معلقة ل «تحسبن» وإن لم تكن اللام في خبرها لفظاً، فهي مقدرة، فيكون «إنّما» - بالكسر - في موضع نَصْبٍ؛ لأنها معلقة لفعل الحسبان من نية اللام، ونظير ذلك تعليق أفعال القلوبِ عن المفعولينِ الصريحين - بتقدير لام الابتداء - في قوله [البسيط] :
1697 - كَذَاكَ أدَّبتُ حَتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي ... أَنِّي وَجَدْتُ مِلاَكُ الشَّيْمَةِ الأدَبُ
فلولا تقدير اللاتم لوجب نصب «ملاك» و «الأدب» . وكذلك في الآية لولا تقدير اللام لوجب فتح «إنما» .(6/71)
ويجوز أن يكون المفعول الأول قد حُذِف - وهو ضمير الأمرِ والشأنِ - وقد قيل بذلك في البيت، وهو الأحسنُ فيه.
والأصلُ: لا تحسبنه - أي الأمر - و «إنما نملي لهم» في موضع المفعول الثاني، وهي المفسرة للضمير وإن كان الثاني كان «الذين» مفعولاً أول، و «أنما نملي» في موضع المفعول الثاني.
وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشريُّ، فقد خرَّجَها هو، فقال: على معنى: ولا تحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم - كما يفعلون - وإنما هو ليتوبوا، ويدخلوا في الإيمان، وقوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} اعتراض بين الفعل ومعموله، ومعناه: إن إملاءنا خيرٌ لأنفسهم إن عملوا فيه، وعرفوا إنعام الله عليهم، بتفسيح المُدَّةِ، وترك المعاجلةِ بالعقوبة. انتهى.
فعلى هذا يكون «الذين» فاعلاً، و «أنما» - المفتوحة - سادة مسد المفعولين، أحدهما - على الخلاف - واعترض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله. قال النَّحَّاسُ: قراءة يحيى بن وَثَّابٍ - بكسر «إن» فيهما جميعاً - حسنة، كما تقول: حسبت عمراً أبوه خارجٌ.
وأما ما حكاه الزّجّاج - قراءةً - عن خلق كثير، وهو نصب «خير» على الظاهر من كلامه، فقد ذكر نخريجها، على أن {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} بدل من «الذين كفروا» و «خيراً» مفعول ثانٍ، ولا بد من إيراد نَصِّه، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ قرأ: «ولا يحسبن» بالياء، لم يَجُزْ عند البصريين إلا كسر «إن» والمعنى: لا يجسبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم، ودخلت «إن» مؤكِّدةً، فإذا فتحت صار المعنى: وزلا يبسحبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم، قال: وهو عندي يجوز في هذا الموضع على البدل من «الذين» والمعنى: ولا يحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم، وقد قرأ بها خلقٌ كثير، ومثل هذه القراءة من الشعر قول الشاعر: [الطويل]
1698 - فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
جعل «هلكه» بدلاً من «قيس» والمعنى: فما كان هلك قيس هلك واحدٍ، 1هـ.
يعني: «هلك» - الأول - بدل من المرفوع، فبقي «هلك واحد» منصوباً، خبراً ل «ما كان» كذلك: «أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ» «أن» واسمها - وهي «ما» الموصولة - وصلتها، والخبر - وهو «لَهُم» في محل نصب، بدلاً من «الَّذِينَ كَفَرُوا» فبقي «خَيْراً» منصوباً على أنه مفعول ثانٍ ل «تضحْسَبَنَّ» . إلا أن الفارسي قد رد هذا على أبي إسحاقَ بان هذه القراءة لم(6/72)
يقرأ بها أحد - أعني نصب «خَيْراً» - قال أبو علي الفارسي: لا يصح البدل، إلا بنصب «خَيْرٌ» من حيثُ كان المفعول الثاني ل «حسبت» فكما انتصب «هلكَ واحدٍ» في البيت - لما أبدل الأول من «قيس» - بأنه خبر ل «كان» كذلك ينتصب «خَيْرٌ لَهُمْ» إذا أُبْدِل الاملاء من «الَّذِينَ كَفَرُوا» بأنه مفعول ثانٍ ل «تَحْسَبَنَّ» .
قال: وسألت أحمد بن مُوسَى عنها، فزعم أن أحداً لم يقرأ بها يعني ب «أحمد» هذا أبا بكر بن مجاهد الإمام المشهور، وقال - في الحجة -: «الَّذِينَ كَفَرُوا» في موضع نصب؛ بأنها المفعول الأول، والمفعول الثاني هو الأول - في هذا الباب - في المعنى، فلا يجوزُ - إذَنْ - فتح «إن» في قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} لأن إملاءهم لا يكون إياهم. فإن قُلْتَ: لِمَ لا يجوز الفتح في «أن» وجعلها بدلاً من «الَّذِينَ كَفَرُوا» كقوله تعالى: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] وكما كان «أن» من قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] ؟
قيل: لا يجوز ذلك؛ لأنك إذا أبدلت «أن» من «الذين كفروا» كما أبدلت «أنَّ» من «إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ» لزمك أن تنصب «خَيْراً» على تقدير: لاَ تَحْسَبَنَّ إملاء الذين كفروا خيراً لأنفسهم، من حيثُ كان المفعولُ ل «تَحْسَبَنَّ» .
انتهى ما رد به عليه، فلم يَبْقَ إلا الترجيح بين نَقْل الزجَّاج وابنِ مجاهد.
قال شهاب الدين: طولا شك أن ابنَ مجاهدٍ أَعْنَى بالقراءات، إلا أن الزَّجَّاجَ ثقةٌ، ويقول: قرأ به خلقٌ كثيرٌ وهذا يبعد غلطه فيه، والإثبات مقدم على النفي، وما ذكره أبو علي - من قوله: وإذا لم يجز لا كسر «إن» ... . الخ - هذا - أيضاً مما لم يقرأ به أحد «.
قال مَكِّي:» وجه القراءة لمن قرأ بالتاء - يعني بتاء الخطاب - أن يكسر «إنَّما» فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني، ولم يقرأ به أحدٌ علمته «. وقد نقل أبو البقاء أن نصب» خَيْراً «قراءة شاذة قال: وقد قرئَ شَاذَّاً بالنصب، على أن يكون» لأَنْفُسِهِمْ «خبر» أن «و» لَهُمْ «تبيين، أو حال من» خَيْر «.
يعني: أنه لما جعل» لأَنْفُسِهِم «الخبر، جعل» لَهُمط إما تبييناً، تقديره: أعني لهم وإما حالاً من النكرة المتأخرة، لأنه كان في الأصل صفة لها. والظاهر - على هذه القراءة -(6/73)
ما تقدم من كون «لَهُمْ» هو الخبر، ويكون «لأَنْفُسِهِمْ» في محل نصب؛ صفة ل «خَيْرٌ» - كما كان صفة له في قراءة الجمهور.
ونقل - أيضاً - قراءة كسر «أن» وهي قراءة يحيى، وخرجها على أنها جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه يسد مَسَدَّ المفعولينِ، ولا حاجة إلى ذلك، بل تخريجها على ما تقدم أَوْلَى؛ لأن الأصل عدم الحذفِ.
والإملاء: الأمهالُ والمَدُّ في العمرِ ومنه مَلاَوَةُ الدهر - للمدة الطويلة - يقال: مَلَوْتُ من الدهر مَلْوَةً ومِلْوَةً ومُلْوَةً ومَلاوةً ومِلاَوَةً ومُلاَوَةً بمعنىً واحد.
قال الأصمعيُّ: يقال أملى عليه الزمان - أي: طال - وأملى له - أي: طوَّل له وأمهله - قال أبو عبيدة: ومه: الملا - للأرض الواسعة - والمَلَوَان: الليل والنهار، وقولهم: مَلاَّكَ الله بِنعَمِه أي: مَنَحَكَها عُمْراً طَوِيلاً -.
وقيل: المَلَوَانِ: تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشّاعرِ: [الطويل]
1699 - نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِمٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلِّ حَلِ المَرْءِ يَخْتَلِفَانِ
فلو كانا الليلَ والنَّهارِ لما أُضِيف إليهما؛ إذ الشيءُ لا يُضاف إلى نفسه. فقوله: «أنما نملي لهم» أصل الياء واوٌ، ثم قُلِبَت لوقوعها رابعة.
قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} قد تقدم أن يحيى بن وثَّاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذا فيما نقله الزمخشريُّ وتقدم تخريجُها، إلا أن أبا حيّان قال: إنه لم يَحْكِها عنه غير الزمخشريِّ بل الَّذِينَ نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسر الأولى فقط، قال: وإنما الزمخشريُّ - لولوعه بنْصرة مذهبه - يروم رد كل شيء إليه.
قل شهابُ الدِّينِ: وهذا تحامُلٌ عليه؛ لأنه ثقةٌ، لا ينقل ما لم يُرْوَ. وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان:
الأول: أنها جملة مستأنفة، تعليلٌ للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالُهُمْ يحسبون الإملاء خيراً؟ فقيل « {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} و» إنّ «- هنا مكفوفة ب» ما «ولذلك كُتِبَتْ متصلة - على الأصل ولا يجوز أن تكون موصولة - اسمية ولا حرفية - لأن لام» كي «لا يصح وقوعها خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه.
الثاني: أنّ هذه الجملة تكريرٌ للأولى.(6/74)
قال أبو البقاء: وقيل:» إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ «تكريرٌ لَهُمْ» تكريرٌ للأول، و «لِيَزْدَادوا» هو المفعول الثاني ل «تَحْسَبَنَّ» على قراءة التاء، والتقدير: ولا تحسبنّ يا محمد إملاء الذين كفروا ليزدادوا إيماناً، بل ليزدادوا إثماً. ويُرْوَى عن بعض الصحابة أنه قرأها كذلك.
قال شِهَابُ الدينِ: وفي هذا نظر، من حيث إنه جعل «لِيَزْدَادوا» هو المفعول الثاني، وقد تقدم أن لام «كي» لا تقع خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه، ولأن هذا إنما يتم له على تقدير فتح الثانيةِ، وقد تقدم أنّ أحداً لم ينقلها عن يحيى إلا الزمخشريّ والذي يقرأ «تَحْسَبَنَّ» - بتاء الخطاب - لا يفتحها ألبتة.
واللام في «ليزدادوا» فيها وجهان:
أحدهما: أنها لام «كي» .
والثاني: أنها لامُ الصَّيْرُورَةِ.
قوله: «وَلَهُم عَذَابٌ مُهِينٌ» في هذه الواو قولان:
أحدهما: أنها للعطف؟
والثاني: أنها للحالِ، وظاهرُ قول الزمخشريُّ أنها للحالِ في قراءة يَحْيى بن وثَّاب فقط؛ فإنه قال: فإن قلت: ما معنى القراءة - يعني: قراءة يحيى التي نقلها هو عنه؟
قلتُ: معناه: ولا تحسبوا أن إملاءه لزيادة الإثم والتعذيب، والواو للحال، كأنه قيل: ليزدادوا إثْماً مُعَدًّا لهم عذابٌ مهينٌ.
قال أبو حيَّان: بعد ما ذكر من إنكاره عليه نَقْل فَتْح الثانية عن يحيى كما تقدم -: «ولما قَرَّرَ في هذه القراءة أن المعنى على نَهْي الكافر أن يحسب أنما يُملي اللهُ لزيادة الإثم، وأنه إنما يملي [لزيادة] الخير، كان قوله: {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يدفع هذا التفسير، فخرج ذلك على أن الواو للحالِ، حتى يزول هذا التدافعُ الذي بين هذه القراءة، وبين ظاهر آخر الآية.
فصل
أصل» ليزدادوا «: ليزتادوا - بالتاء - لأنه افتعال من الزيادة، ولكن تاء الافتعال تقلب دالاً بعد ثلاثة أحرف الزاي، والذال، والدال - نحو ادكروا والفعل هنا - متعدٍّ لواحدٍ، وكان - في الأصل - متعدياً لاثنين، - كقوله تعالى: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} [البقرة: 10] ولكنه بالافتعالِ ينقص أبداً مفعولاً، فإن كان الفعلُ - قبل بنائه على» افتعل «للمطاوعة - مُتَعدياً لواحدٍ، صار قاصراً بعد المطاوعةِ، نحو مددتُ الحبلَ فامتدَّ، وإن كان متعدياً لاثنين صار - بعد الافتعال - متعدياً لواحدٍ، كهذه الآية.(6/75)
وخُتِمَتْ كل وحدة من هذه الآيات الثلاث بصفة للعذاب غير ما خُتِمَتْ به الأخْرَى؛ لمعنًى مناسب، وهو أن الأولى تضمنت الإخبار عنهم بالمسارعة في الكُفْرِ، والمسارعةُ في الشيء والمبادرة في تحصيله تقتضي جلالته وعظمته، فجُعِل جزاؤه {عَذَابٌ عَظِيمٌ} مقابلاً لهم، ويدل ذلك على خساسة ما سارعوا فيه. وأما الثانية فتضمنت اشتراءهم الكُفْر بالإيمان، والعادة سرورُ المشتري واغتباطه بما اشتراه، فإذا خسر تألَّم، فخُتِمَت هذه الآية بألم العذابِ، كما يجد المشتري المغبون ألَمَ خسارته.
وأما الثالثة فتضمنت الإملاء - وهو الإمتاع بالمال وزينة الدنيا - وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّرَ والجبروتَ فختمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانتهم وذِلَّتهم بعد عِزِّهم وتكبُّرهم.
فصل
قال ابنُ الخطيبِ: احتج أصحابُنا - بهذه الآية - في إثبات القضاء والقدر؛ لأن الإملاء عبارة عن تأخيره مدة - والتأخيرُ من فعلِ اللهِ تعالى - والآية دلَّت على أنَّ هذا الإملاء ليس بخير لهم، فهو سبحانَهُ خالقُ الخيرِ والشرِ.
ودلَّت على أن المقصودَ من هذا الإملاء هو أن يزدادوا إثماً، فدل على أن المعاصيَ والكُفْر بإرادته وأكَّد بقوله: {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
وأيضاً أخبر عنهم بأنهم لا خير لهم في هذا الإملاء؛ لأنهم لا يحصلون إلا زيادة البغي والطغيان، والإتيان بخلاف خبر لله - مع بقاء ذلك الخبر - جمع بين النقيضين، وهو محالٌ. وإذا لم يكونوا قادرين - مع ذلك الإملاء - على الخير والطاعة - مع أنهم مكلَّفُون بذلك - لزم في نفسه بُطْلان مذهب المعتزلة.
وأجب المعتزلة عن الأول بأنّ المرادَ: ليس خيراً لهم بأن يموتوا كما مات الشهداءُ يومَ أُحُدٍ؛ لأن هذه الآيات في شأن أُحُدٍ، ولا يلزمُ من كَوْنه ليس خيراً من القتل يوم أحد إلا أن يكونَ في نفسه خيراً.
وعن الثاني بأنه ليس المرادُ ليقدموا على الكفرِ والعصيانِ؛ لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فيُحْتَمَلُ أن تكونَ اللامُ للعاقبة - كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]- أو يكون فيه تقديم وتأخير، تقديره: لا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نُمْلي لهم خير لأنفسهم. أو لأنهم لما ازدادوا طغياناً - بإمهاله - أشبه حال مَنْ فعل أهلِ السُّنَّةِ فلأنهم يُحيلون تعليل أفعاله تَعَالَى بالأغراض، وأما على قولنا فلأنَّا إنما نُعَلِّلُ بغرض الإحسانِ، لا بالتعب فسقط ما ذكروه.(6/76)
وقول القائل: ما المرادُ بهذه الآية؟ لا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن المستدلَّ نَفَى الاستدلال على أن اللام للتعليلِ، فإذا بَطَلَ ذلك سقط استدلالُهُ.
وعن الثالث، وهو مسألةُ العلمِ والخبر، أنه معارض بأنه يلزم أنه تعالى موجب لا مختار، وهو باطلٌ.
والجوابُ عن الأول أنَّ المنفيَّ هو الخير في نفس الأمر لا بمعنى المفاضلةِ؛ لأن الذي للمفاضلة لا بد وأن يُذْكِر مُقابِلُه، فلما يُذْكَ دلَّ على المنفيَّ هو الخيرُ مطلقاً. وتمسُّكهم بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ} [النساء: 64] جوابه: أن ما تمسَّكوا به عام، ودليلنا خاصّ. وقولهم: اللام للعاقبة، قلنا: خلاف الظاهر - مع أن البرهان العقليّ يُبْطله؛ لأنه تعالى لما علم ذلك وجب حصولُهُ؛ لأن حصولَ معلومِهِ واجبٌ، وعدم حصوله مُحالٌ، وإرادة المحالِ مُحَالٌ فوجب أن يرد ما هو الواقع، فثبت أن المقصود هو التعليلُ. وأما التقديمُ والتأخيرُ، فجوابُهُ: أن ذلك على خلاف الأصل؛ لأن ذلك إنما يتم لو كانت «أَنَّمَا» الأولى مكسورة والثانية مفتوحة وقولهم: لا يمكن حَمْل اللام على التعليل، قلنا: الممتنع - عندنا - تعليل أفعاله - تعالى - بغرض يصدر عن العباد، فأما أنه يفعل فعلاً ليحصل منه شيء آخرَ، فغير ممتنع.
وأيضاً فالآية نصٌّ على أنه ليس المقصود من الإملاء إيصال الخير لهم، والقوم لا يقولونَ به، فهي حجةٌ عليهم، وأما المعارضة فجوابها: أن تأثيرَ قدرة اللهِ تَعَالَى - في إيجاد المُحْدِثَات - متقدمٌ على تعلُّق علمه بعدمه، فلم يكن أن يكون العلم مانعاً من القدرة، وأما العبدُ فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلُّق علم الله تعالى بعدمه، فصحَّ كَوْنَ هذا العلمِ مانعاً للعبدِ عن الفعل.
قال ابن الخطيبِ: اتفق أصحابُنا، على أنه ليس لله تعالى على الكافر نعمةٌ دينيةٌ، واختلفوا في الدنيوية فتمسك النافون بهذه الآيةِ، وقالوا: دلت على إطالة عُمْره ليس بخير له، والعقل يُقَرِّه لك؛ لأن من أطعم إنساناً طعاماً مسموماً لا يعد ذلك إنعاماً، فإذا كان القصدُ من نعم الدنيا عذاب الآخرة فليست بنعمة، ومما ورد من النعم في حقِّ الكافرِ محمولٌ على ما هو نعمةٌ في الظَّاهر لكنه نقم في محض الحقيقة.(6/77)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
اللام في «ليذر» تُسمَّى لامَ الجحودِ، ويُنْصَب بعدها المضارع بإضمار «أن» ولا(6/77)
يجوز إظهارها. والفرق بين لام «كي» أن هذه - على المشهور - شرطها أن تكون بعد كون منفي، ومنهم من يشترط مضي الكونِ، ومنهم من لم يشترط الكون.
وفي خبر «كان» - هنا - وما أشبه قولان:
أحدهما: قولُ البصريينَ - أنه محذوفٌ، وأن اللامَ مقوية لتعدية ذلك الخبرِ المقدَّر لِضَعْفه، والتقدير: ما كان الله مُريداً لأن يَذَر، و «أن يذر» هو مفعول «مريداً» والتقديرُ: ما كان اللهُ مُريداً ترك المؤمنين.
الثاني: قول الكوفيين - أن اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي، وأن الفعل بعدها هو خبرُ(6/78)
كانَ واللامُ عندهم هي العاملةُ النصْبَ في الفعل بنفسها، لا بإضمار «أن» والتقدير عندهم: ما كان الله ليذرَ المؤمنين.
وضعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنّ النصب قد وُجِد بعد هذه اللامِ، فإن كان النصبُ بها نفسها فليست زائدةً، وإن كان النصبُ بإضمار «أن» فسَد من جهة المعنى لأن «أن» وما في حيزها بتأويل مصدر، والخبر في باب «كان» هو الاسم في المعنى، فيلزم أن يكون المصدر - الذي هو معنى من المعاني - صادقاً على اسمها، وهو مُحَالٌ.
وجوابه: أما قوله: إن كان النصبُ بها فليست زائدةً ممنوع؛ لأن العملَ لا يمنع الزيادةَ، ألا ترى انَّ حروف الجَرِّ تُزاد، وهي عاملة وكذلك «أن» عند الأخفشِ، و «كان» في قول الشاعر: [الوافر]
1700 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَجِيرَان لَنَا كَانُوا كِرَام
كما تقدم تحقيقه و «يذر» فعل لا يتصرف - كَيَدَعُ - استغناء عنه بتصرُّف [مرادفه]- وحُذِفت الواو من «يذر» من غير موجب تصريفي، وإنما حُمِلَت على «يدع» لأنها بمعناها، و «يدع» حُذِفت منه الواوُ لموجب، وهو وقوع الواو بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة وأما الواو في «يذر» فوقعت بين ياء وفتحةٍ أصليةٍ. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} [البقرة: 278] .
فصل
وجه النظم: أن هذه الآية من بقية أحُد، فأخبر - تعالى - أن الأحوالَ التي وقعتْ في تلك الحادثةِ - من القتل والهزيمة، ثم دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الخروج إلى العدو مع من كان بهم من الجراحاتِ، ثم دعاهم مرة أخْرَى إلى بدرٍ الصُّغْرَى، لموعد أبي سفيانَ - دليلٌ على امتيازِ المؤمنين من المنافقين، فأخبر - تعالى - بأنه لا يجوزُ - في حكمته - أن يترككم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم، وإظهارهم أنهم منكم - بل يجب في حكمته أن يُمَيِّز الخبيث - وهو المنافق - من الطيب - وهو المؤمن -.
فصل في سبب النزول
قال الكلبيُّ: قالت قريشُ: يا محمدُ، تزعم أن من خالفك، فهو في النَّارِ، واللهُ عليه غَضْبَانُ، وأن من اتبعك، وهو على دينك، فهو في الجَنَّةِ، واللهُ عَنْهُ راضٍ. فأخْبِرْنا بمن يُؤمنُ بك، ومَن لا يُؤمنُ؛ فأنزل الله هذه الآية.
وقال السُّديُّ: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «عُرِضَتْ عليَّ أمَّتِي فِي صُورَتِهَا في العِلِّيِّينَ، كَمَا(6/79)
عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ وأعْلِمتُ مَنْ يُؤْمِنُ ومَنْ يَكْفُرُ» فبلغ ذلك المنافقين، فقالوا: استهزاءً -: زعم محمدٌ أنه يعلم من يؤمن به، ومَنْ يكفرُ، ممن لم يُخْلَقْ بَعْدُ، ونحن معه، وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقام على المنبر فحمد اللهَ، وأَثْنَى عليه، ثم قال: «مَا بَالُ أقْوامٍ طَعَنُوا فِي عِلمي، لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ - فِيمَا بَيْنَكُم وبَيْنَ السَّاعَةِ - إلاَّ نَبَّأتُكمُ بِهِ» فقام عبد الله بن حذافة السهميّ، وقال: مَنْ أبي، يا رسول اللهِ؟ فقال: «حُذَافة» فقام عُمَرُ، فقال: يا رسول الله، رضينا بالله رَبَّاً، وبالإسلامِ ديناً، وبالقرآن إماماً، وبك نبيًّا، فاعفُ عنا، عفا الله عنك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فَهَل أنْتُمْ مُنْتَهٌونَ» - مرتين - ثم نزل عن المِنْبَرِ «فأنزل اللهُ هذه الآية.
قوله: {حتى يَمِيزَ} حتى - هنا - قيل: هي الغائية المجرَّدة، بمعنى» إلى «والفعل بعدها منصوب بإضمار» أن «وقد تقدم تحقيقه في» البقرة «.
فإن قيل الغاية - هنا - مشكلة - على ظاهر اللفظ - لأنه يصير المعنى: أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية - وهي التمييز بين الخبيثِ والطَّيِّبِ - ومفهومه أنه إذا وُجِدَت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه.
هذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية، وليس المعنى على ذلك قَطْعاً، ويصيرُ هذا نظيرُ قولكَ: لا أكَلِّم زيداً حتى يقدم عمرو، فالكلام منتفٍ إلى قدوم عمرو.
فالجوابُ عنه:» حَتّى «غاية لمن يفهم من معنى هذا الكلام، ومعناه: أنه - تعالى - يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أن يميز الخبيثَ من الطيبِ.
وقرأ حمزة [والكسائي]- هنا وفي الأنفال -» يُمَيِّزَ «بالتشديد - والباقون بالتخفيف، وعن ابن كثيرٍ - أيضاً -» يُميز «من» أماز «فهذه ثلاث لغاتٍ، يقال: مَازَه وميَّزه وأمازه. والتشديد والهمزة ليسا للنقل؛ لأنّ الفِعْلَ - قبلهما - مُتَعَد، وإنما» «فعّل» - بالتشديد - و «أفعل» بمعنى: المجرد. وهل «ماز» و «مَيَّز» بمعنًى واحدٍ، أو بمعنيين مختلفين؟ قولان. ثم القائلونَ بالفرق اختلفوا، فقال بعضهم: لا يقال: ماز، إلا في كثير، فأما واحدٌ من واحدٍ فميَّزت، ولذلك قال أبو مُعاذٍ: يقال ميَّزتُ بين الشيئين تَمْييزاً، ومِزْت بين الأشياء مَيْزاً.
وقال بعضُهُمْ عكس هذا - مزت بين الشيئين مَيْزاً، وميَّزت بين الأشياء تمييزاً - وهذا هو القياس، فإنَّ التضعيفَ يؤذن بالتكثير، وهو لائقٌ بالمتعددات، وكذلك إذا جعلتَ الواحد شيئين قلت: فَرَقْت: - بالتخفيف - ومنه: فرق الشعر، وإن جعلته أشياء، قلت: فرَّقْتها تَفْرِيقاً.
ورجَّح بعضُهم «مَيَّز» - بالتشديد - بأنه أكثر استعمالاً، ولذلك لم يستعملوا المصدر إلا منه، قالوا: التمييز، ولم يقولوا: المَيْز - يعني لم يقولوه سماعاً، وإلا فهو جائز قياساً.(6/80)
فصل
ومعنى الآية: حتى يميز المنافق من المخلصِ، وقد ميَّزهم يَوْمَ أحُدٍ؛ حيث أظهروا النفاق، وتخلَّفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فإن قيل: إنَّ التمييزَ إنْ ظَهَرَ وانكشفَ، فقد ظهر كُفْرُ المنافقينَ، وظهور كُفْرِهم ينفي كونهم منافقين، وإن لم يحصل الوَعْدُ.
فالجوابُ: أنه ظهر بحيث يُفيد الامتيازَ القَطْعِيّ.
قال قتادة: حتّى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهادِ.
قال الضَّحَّاك: «مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ» في أصلاب الرَِّجَالِ، وأرحام النِّساءِ، يا معشرَ المنافقينَ، حتّى يفرق بينكم وبين مَنْ في أصْلابكم، وأرحام نسائكم من المؤمنينَ.
وقيل: «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
وهو الذنب» مِنَ الطَّيِّبِ «وهو المؤمنُ، يعني يَحُطُّ الأوزار عن المؤمنين بما يُصيبهم من نكبةٍ ومحنةٍ ومصيبةٍ.
وقيل: الخبيث: هو الكُفْر: أذلَّه الله وأخْمَدَه، وأعلى الإسلامَ وأظهره، فهذا هو التمييزُ.
قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} ومعناه: أنه لا يجوز أن يطلعكم على أصل ذلك التمييزِ، فيقول: إنَّ فلاناً منافق، وإن فلاناً مؤمنٌ؛ فإن سنَّة اللهِ جارية بأنه لا يُطْلِع عوامَّ الناس على غَيْبه، ولا سبيلَ لَكُمْ إلى معرفة ذَلِكَ الامتيازِ إلا بالامتحاناتِ ووقوع المِحَن والآفاتِ - كما ذكرنا - وأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاعِ على الغيب، فذلك من خواصِّ الأنبياء، فلهذا قال: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن، وهذا منافق، نظيره قوله تعالى: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 26، 27] .
ويحتمل أن يكون المعنى: وما كان اللهُ ليجعَلَكم كلَّكم عالمينَ بالغيب كعلم الرسول، فتنشغلوا عن الرسول، بل اللهُ يخص من يشاءُ من عبادِهِ، ثم يُكَلِّف الباقينَ طاعة هذا الرسولِ.
قوله:» وَلكِنَّ «هذا استدراكٌ من معنى الكلامِ المتقدمِ؛ لأنه تعالى - لما قال: {وَمَا(6/81)
كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ} أَوْهَمَ ذلك أنه لا يُطْلِعُ أحداً على غيبه؛ لعموم الخطابِ - فاستدرك الرُّسُلَ. والمعنى: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي} أي يصطفي {مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} فَيَطْلِعُهُ على الغيبِ، فهو ضِدٌّ لما قبله في المعنى، وقد تقدم أنها بين ضِدَّيْنِ ونقيضَيْن، وفي الخلافين خلافٌ.
يَجْتَبِي: يصطفي ويختار، من: جَبَوْت المال والماء، وجبيتهما - لغتان - فالياء في يجتبي يُحْتَمَل أن تكون على أصلها، ويُحْتَمل أن تكون منقلبةً عن واوٍ؛ لانكسارِ ما قبلها.
ومفعول «يَشَاءُ» محذوفٌ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى، والتقدير: يشاءُ إطلاعه على الغيب.
قوله: «فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ» يعني أن هذه الشبهة الذي ذكرتموها في الطعن في نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وقوع الحوادث المكروهة في قصة أُحُد، وقد أجبْنا عنها، فلم يَبْقَ إلا أن تُؤمِنوا بالله ورُسُله. وإنما قال: «وَرُسُلِهِ» ولم يَقُلْ: ورسوله؛ لأن الطريقةَ الموصلةَ إلى الإقرار بنبوَّة الأنبياء ليس إلا المُعْجِز، وهو حاصل في حقِّ محمَّدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فوجب الإقرار بنبوة الأنبياء، فلهذا قال: «وَرُسُلِهِ» لأن طريقة إثبات نبوة جميع الأنبياءِ واحدٌ، فمن أقر بنبوة واحدٍ لزمه الإقرار بنبوَّة الكُلِّ، ثم لمَّا أمرهم بذلك وعدهم بالثواب فقال: «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم» .(6/82)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
لمَّا حرَّضهم على بذل النفس في الجهاد - فيما تقدم - حرضهم على بذل المال في الجهاد، وبيَّن الوعيد لمن يبخل.
قرأ حمزة بالخطاب في «تَحْسَبَنَّ» والباقون بالغيبة فأما قراءة حمزة ف «الّذِينَ» مفعول أول، و «خَيْراً» هو المفعول الثّاني، ولا بد من حَذْف مضَاف؛ ليصدقَ الخبرُ على «المبتدأ، وتقديره: ولا تحسبن بُخْل الّذين يبخلون.
قال أبو البقاء:» وهو ضَعِيفٌ؛ لأن فيه إضمار البخلِ قبل ذِكْر ما يدل عليه «.
وفيه نظر؛ لأن دلالة المحذوفِ قد تكون متقدمةً، وقد تكون متأخرة، وليس هذا من بابِ الإضمارِ في شيءٍ، حتَّى يشترطَ فيه تقدُّم ما يدل على ذلك الضمير.
و» هو «فيه وجهان:
الأول: أنه فَصل بين مفعولي» يَحْسَبَنَّ «.(6/82)
والثاني - قاله أبو البقاء -: أنه توكيدٌ، وهو خطأٌ؛ لأنَّ المضمَرَ لا يؤكِّد المظهر. والمفعولُ الأولُ اسم مظهرٌ، ولكنه حُذِف - كما تقدم - وبعضُهم يُعَبِّر عنه، فيقول: أُضْمِر المفعولُ الأولُ - يعني حذف فلا يعبر عنه بهذه العبارة.
و» هو «- في هذه المسألة - تتعينُ فصيلتُه لأنه لا يخلو إمّا أن يكونَ مبتدأً، أو بدلاً، أو توكيداً، والأول مُنْتَفٍ؛ لنَصْب ما بعده - وهو خير - وكذلك الثاني؛ لأنه كان يلزمُ أن يوافقَ ما قبله في الإعراب، فكان ينبغي أن يقال: إياه، لا» هُوَ «وكذلك الثالثُ - كما تقدم.
أما قراءة الجماعة، فيجوز أن يكونَ الفعلُ مُسْنَداً إلى ضميرِ غائبٍ - إما الرسولُ، أو حاسب ما - ويجوز أن يكونَ مسنداً إلى الذين فإن كان مسنداً إلى ضمير غائب، ف» الذِينَ «مفعول أولٌ، على حذف مضافٍ، ما تقدّم في قراءة حمزة، أي: بُخْل الذين، والتقدير: ولا يحسبنَّ الرسولُ - أو أحد - بُخْلَ الذين يبخلون خيراً لأنفسهم. و» هُوَ «فَصْل - كما تقدم - فتتحد القراءتان معنى وتخريجاً. وإن كان مسنداً إلى» الذِينَ «ففي المفعول الأول وجهان:
أحدهما: أنه محذوف؛ لدلالة» يَبْخَلُونَ «عليه، كأنه قيل: ولا يحسبن الباخلون بُخْلَهم هو خيراً لهم و» هو «فَصْل.
قال ابن عطية:» ودل على هذا البخل «يَبْخَلون» كما دَلَّ «السَّفيه» على السَّفهِ في قول الشاعر:
1701 - إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إلى خِلاَفِ
أي: جرى إلى السفه.
قال أبو حيّان: وليست الدلالةُ فيهما سواء، لوجهين:
أحدهما: أن الدالَّ في الآية هو الفعلُ، وفي البيتِ هُوَ اسم الفاعِل، ودلالةُ الفعلِ على المصدرِ أقوى من دلالة اسم الفاعل، ولذلك كَثر إضمار المصدرِ؛ لدلالة الفعل عليه - في القرآن وكلام العربِ - ولم يؤثر دلالةُ اسم الفاعل على المصدر، إنما جاء في هذا البيتِ، أو في غيره أن وُجد أن في الآية حَذفاً لظاهرٍ؛ إذ قدَّروا المحذوف «بخلهم» وأما فهو إضمارٌ لا حذفٌ.
الوجه الثاني: أن المفعول نفس «هُوَ» وهو ضمير البخل الذي دلَّ عليه «يَبْخَلُونَ» - كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8]- قاله أبو البقاء. وهو غلطٌ أيضاً، لأنه كان ينبغي أن يأتي به بصيغة المنصوب، فيقول: «إياه» لكونه منصوباً ب «يَحْسَبَن» ولا ضرورة بنا إلى أن نَدَّعِيَ أنه من باب استعارة الرفع مكان النصب كقولهم: ما أنا كأنت، ولا أنتَ كأنا.(6/83)
وفي الآية وجهٌ غريبٌ، خرَّجه أبو حيَّان، قال: «وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال، إذا جعلنا الفعل مسنداً لِ» الذِينَ «وذلك أن» يَحْسَبْنَّ «يطلب مفعولين، و» يَبْخَلُونَ «يطلب مفعولاً بحرف جَر فقوله» ما أتاهم «يَطْلبه» يَحْسَبَنَّ «على أن يكون المفعول الأول، ويكون» هُوَ «فَصْلاً، و» خَيْراً «المفعول الثاني، ويطلبه» يَبْخَلونَ «بتوسُّط حرف الجَر، فأعمل الثانيَ - على الفصح في لسان العرب، وعلى ما جاء في القرآن - وهو» يَبْخَلونَ «فعدي بحرف الجر، وأخذ معمواه، وحذف معمول» يَحْسَبَنَّ «الأول، وبقي معموله الثاني؛ لأنه لم يتنازع فيه، إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأولِ، وساغ حذفه - وحده - كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه: متى رأيت أو قلت: زيد منطلقٌ؟ لأن رأيت وقلت - في هذه المسألة - تنازعا في زيدٌ منطلقٌ، وفي الآية لم يتنازعا إلاَ في الأولِ، وتقدير المعنى: ولا يحسبن ما آتاهم اللهُ من فَضْلِه هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به، فَعَلَى هذا التقدير يكون» هُوَ «فصلاً ل» ما آتاهم «المحذوف، لا لبخلهم المقدَّر في قول الجماعة.
ونظير هذا التركيبِ» ظَنَّ الذي مَرَّ بهند هي المنطلقة، المعنى: ظن هند الشخص الذي مر بها هي المنطلقة، فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأولُ، فأعمل الفعل الثانيَ فيه، وبقي الأول يطلب محذوفاً، ويطلب الثاني مثبتاً، إذ لم يقعْ فيه التنازعُ.
ومع غرابة هذا التخريج، وتطويله بالتنظير والتقدير، فيه نظر؛ وذلك أن النحويين نصوا على أنه إذا أعملنا الفعل الثانيَ، واحتاج الأول إلى ضمير المتنازع فيه، فإن كان يطلبه مرفوعاً أضمر فيه، وإن كان يطلبه غيرَ رفوع حُذِف، إلا أن يكون أحد مفعولي «ظن» فلا يحذف، بل يُضْمَر ويُؤخر وعللوا ذلك بأنه لو حذف لبقي خبر دون مخبر عنه - أو بالعكس - وهذا مذهبُ البصريين، وفيه بحثٌ، لأن لقائلٍ أن يقول: حُذِف اختصاراً، لا اقتصاراً، وأنتم تجيزون حذف أحدهما اختصاراً في غير التنازع، فليَجُزْ في التنازع؛ إذْ لا فارق، وحينئذ يَقْوَى تَخْرِيجُ الشَّيْخِ بهذا البحثِ، أو يلتزم القول بمذهب الكوفيين، فإنهم يُجِيزون الحّذْف فيما نحن فيه.
وذكر مكيٌّ ترجيحَ كُلٍّ من القراءتين، فقال: «فأما القراءة بالتاء - وهي قراءة حمزة - فإنه جعل المخاطب هو الفاعل، وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ و» الذِينَ «مفعول أول - على تقدير حَذْف مضاف، وإقامة المضاف إليه - الذين - مُقامه - و» هو «فصل، و» خَيْراً «مفعول ثانٍ، تقديره: ةلا تحسبن يا محمد بُخلل الذين يَبْخَلُون خَيْراً لهم، ولا بد من هذا الإضمار، ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى، وفيها نظرٌ؛ لجواز ما في الصلة تفسير ما قبل الصلة، على أن في هذه مزية على القراءة بالياء؛ لأمك إذا حذفْتَ المفعول أبقيتَ المضافَ إليه يقوم مقامه، ولو حذفت المفعولَ في قراءة الياء لم يَبْقَ ما يقوم مقامه. وفي القراءة بالياء - أيضاً - مزية على القراءة بالتاء، وذلك أنك حذفت البُخْلَ بعد تقدُّم»(6/84)
يَبْخَلُونَ «وفي القراءة بالتاء حذفتَ البُخْلَ قبل إتيان» يَبْخَلونَ «وجعلْتَ ما في صلة» الذِينَ «تفسيرَ من قبل الصلة، فالقراءتان متوازيتان في القوة والضَّعف» .
والميراثُ: مصدر كالميعاد، وياؤه منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها - وهي ساكنةٌ - لأنها من الوراثة كالميقات والميزان - من الوقت والوزن - وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يَعْمَلُونَ» بالغيبةِ، جَرْياً على قوله: {الذين يَبْخَلُونَ} - والباقون بالخطابِ، وفيها وجهانِ:
أحدهما: انه التفات، فالمراد: الذين يبخلون.
الثاني: أنه رَدَّ على قوله: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} .
فصل
الآية دالَّة على ذَمِّ البُخْل بشيء من الخيراتِ سواء كان مالاً أو علماً.
فإن كان على البُخْلِ بالمال فالمعنى: لا يحسبن البخلاءُ أن بُخْلَهم هو خير لهم، بل هو شرٌّ لهم، لأن المالَ يزول، ويبقى عقابُ بُخْلِهم عليهم، كما قال: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} وهذا هو المراد من قوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} قال أبُو مسعودٍ وابن عباسٍ، وأبو وائل والشعبيُّ والسُّدَّي: يُجْعَل ما منعه من الزكاة حَيَّةً يُطَوَّقُ بها في عنقه يوم القيامة تنهشه من رأسه إلى قَدَمِهِ.
وإن كان المرادُ البُخْلَ بالعلم؛ فلأنّ اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان ذلك الكتمانُ بُخْلاً، ولا شك أن العلم فَضْل من الله.
والقول الأول أوْلَى؛ لقوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} وإذا فسَّرنا الآية بالعِلْم احتجنا إلى تحمُّل المجاز، وإذا فسَّرنا بالمال لم نَحْتَجْ إلى المجازِ.
وأيضاً فالحَمْل على البُخْل بالمال تكون الآية ترغيباً في بَذْل المالِ في الجهادِ، فيحْسُن نظم الآية مع ما قبلها، وبحَمْلها على البُخْل بالعلم ينقطع النَّظْمُ إلا بتكلُّفٍ بعيدٍ.(6/85)
فصل في اختلافهم في البخل في الآيات
اختلفوا في هذا البخلِ، فقال أكثرُ العلماءِ: المراد به مَنْع الواجب، واستدلُّوا بوجوهٍ:
أحدها: أن الآية دالةٌ على الوعيدِ الشديدِ في البُخْل، وذلك الوعيدُ لا يليق إلا بالواجبِ.
ثانيها: أن اللهَ - تعالى - ذَمَّ البُخْل وعابه، وَنْعُ التطوُّعِ لا يجوز أن يُذَمَّ فاعِلُه وأن يُعَابَ به.
ثالثها: أنه لو كان تارك التفضُّل بخيلاً لوجب على مَنْ ملك المالَ العظيمَ أن يُخْرج الكلَّ، وإلا لم يتخلَّص من الذم.
رابعها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «وَأيُّ دَاءٍ أدْوَأُ مِنَ البُخْلِ» ومعلوم أن تارك التطوُّع لا يليق به هذا الوصف.
خامسها: أنه - تعالى - لا ينفك عن ترك التفضُّل؛ لأنه لا نهايةَ لمقدوراته في التفضُّل، وكل ما يدخل في الوجود، فهو متناهٍ، فيكون لا محالة - تاركاً للتفضُّل فلو كان ترك التفضُّل بُخْلاً لزم أنْ يكونَ اللهُ موصوفاً بالبُخْل، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيراً.
فصل
اعلم أنَّ إنفاقَ الواجبِ أقسامٌ:
منها: إنفاقه على نفسه، وعلى أقاربه الذين تلزمه نفقتهم.
ومنها: الزكوات، ومنها: ما إذا احتاج المسلمونَ إلى دَفْع عَدُوٍّ يقصد قَتْلَهُم ومالهم، فيجب عليهم إنفاق المالِ على مَنْ يدفع عنهم.
ومنها: دَفْع ما يسد رَمَقَ المضطر، فهذه الاتفاقات واجبة.
قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} اختلفوا في هذا الوعيد، فقال ابنُ مسعودٍ وابنُ عباس: إنَّ هذه الأموالَ تصير حيّاتٍ يطوقون بها - كما تقدم - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَلَمْ يُؤدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ، لَهُ زَبيبتانِ، يُطَوِّقهُ يَوْم القِيَامَةِ ثُمَّ يأخُذُ بِلهزمتيهِ - يعني: شِدقيهِ: ثُمَّ يَقُولُ: أنَا مَالُكَ، أنَا كَنزُكَ» ثم تلا قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} .(6/86)
وقال مجاهدٌ: معنى «سَيُطَوَّقُونَ» سَيُكَلَّفون أن يأتوا بما بَخِلوا يه يومَ القيامةِ، أي: يُؤمرون بأداء ما منعوا، فلا يمكنهم الإتيان به، فيكون توبيخاً.
وقيل: سيلزَمون إثمه في الآخرة، وهذا على طريق التمثيلِ، يقال: فلانٌ كالطَّوق في رقبة فلان، كما يقال: قلدتك هذا الأمر، وجعلت هذا الأمر في عنقك، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] .
وإن حملنا البخل على البُخْل بالعلم كان معناه: أنَ اللهَ تعالى يجعل في أعناقهم طوقاً من نار، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم يَعْلَمُهُ، فَكَتَمَهُ، ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلجامٍ مِنْ نَارٍ» .
قوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} فيه وجهانِ:
أحدهما: أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلُهما من مالٍ وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، كقوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] .
ثانيهما: - وهو قول الأكثرين -: أنه يُفنى أهلَ السموات والأرض، ويُبْقى الأملاك، ولا مالك لها إلا الله، فجرّى هذا مَجْرَى الوراثة.
قَال ابن الأنباريّ: يقال: وَرِثَ فلانٌ عِلْمَ فُلان، إذا انفرد به بعد أن كانَ مشاركاً فيه، وقال تعالى:
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] لأنه انفردَ بذلك الأمر بعد أن كان داودُ مشاركاً له فيه.
قال القرطبيُّ: أخبر - تعالى - ببقائه ودوام مُلْكِه، وأنه في الأبد كهو في الأزلِ، غنيّ عن العالمين، فيرث الأرضَ بعد فناءِ خَلْقِه، وزوال أملاكِهِم، فتبقى الأملاكُُ والأموالُ لا مدعى فيها، فجرى هذا مجرى الوراثةِ في عادة الخلقِ، وليس بميراث في الحقيقة؛ لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئاً لم يكن ملكَهُ من قبل، والله - سبحانه وتعالى - مالك السمواتِ والأرضِ وما بينهما، وكانت السَّمواتُ وما فيها له، وأن الأموالَ كانت عارية عند أربابها، فإذا ماتُوا العاريةُ إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .(6/87)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
في كيفية النظم وجهانِ:
الأول: أنه - تعالى - لما أمر المكلَّفين ببَذْلِ النفسِ والمالِ في سبيل اللهِ - فيما تقدم - وبالغ في تقريرِ ذلك، قالت الكفارُ: إنه - تعالى - لما طلب الإنفاقَ في تحصيلِ مطلوبِهِ كان فقيراً عاجزاً، والفقر على اللهِ مُحَالٌ، فَطَلَبُه للمال من عبيده مُحَالٌ، وذلك يدل على كذب مُحَمَّدٍ في إسناد هذا الطلب إلى الله.(6/87)
الثاني: أن أمة موسى كانوا إذا أرادوا التقرُّبَ إلى اللهِ تعالى بأموالهم، كانت تجيء نارٌ من السّماء فتحرقها، فلما طلب النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم بذْلَ المال في سبيل الله قالوا له: لو كنت نبياً لما طلبتَ الأموال لهذا الغرض؛ فإنه - تعالى - ليس بفقيرٍ حَتَّى يحتاجَ - في إصلاح دينِهِ - إلى أموالنا، فلو كان يطلب أموالَنا لجاءت نارٌ من السماء فتحرقها، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لستَ بنبيٍّ.
قوله: {قالوا إِنَّ} العامل في «إنَّ هو» قاَلُوا «ف» إنَّ «وما في حيِّزها منصوب المحل ب» قَالُوا «لا بالقول، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع، أعني بين المصدر، وهو» قَوْلَ «وبين الفعلِ وهو» قَالُوا «تَنَازعَا في» إنَّ «لأنه مصدر، وهذا يُخَرَّج على قول الكوفيين في إعمال الأول، وهو قولٌ ضعيفٌ، ويزداد هنا ضَعفاً بأنَّ الثاني فِعْل، والأول مصدرٌ، وإعمال الفعل أَقْوَى» .
وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع، و"نما الضعف عنده من جهة إعمالِ الأولِ، فلو قدَّرْنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده، لكنه منع من ذلك مانع آخر، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه، ولا يجوز حذفه، وهو - هنا - غير مذكور، فدلَّ على أنها ليستْ عنده من التنازع على قول الكوفيين، وهو ضعيفٌ كما ذكر.
وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملة على ما أسندوه إليه - تعالى - وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف.
فصل
قال الحسنُ ومجاهدٌ: لما نزل قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] . قالت اليهودُ: إنَّ اللهَ فقيرٌ يستقرض منا، ونحن أغنياء. وذكر الحسن أنَّ قائل هذه المقالة هو حُيَيّ بن أخْطَبَ.
وقال عكرمةُ والسدِّيُّ ومقاتلٌ ومحمدُ بنُ إسحاقَ: كتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قَيْنُقَاع؛ يدعوهم إلى الإسلام، وإلى أقام الصلاة وإيتاء الزَّكَاةِ، وأن يُقْرِضوا الله قَرْضاً حسناً، فدخَلَ أبو بكر - ذات يومٍ - بيت مِدْراسهم، فوجد كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له: فنحاص بن عازوراء، وكان من علمائهم، ومعه حَبْرٌ آخَرُ، يقال له: أشيع، فقال أبو بكرٍ لفنحاصٍ: اتَّقِ اللهَ وأَسْلِم؛ فوالله إنك لتَعلم أن محمداً رسولُ الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فآمِنْ وصَدِّقْ، وأَقْرِض اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ، ويضاعفْ لك الثَّوابَ،(6/88)
فقال فنحاص: يا أبا بكر، تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا، وما يستقرض إلا الفقيرُ من الغنيّ، فإن كان كما تقول حقاً فإن الله - إذَنْ - فقيرٌ ونحن أغنياء، وأنه ينهاكم عن الرِّبَا ويُعْطِينا، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا - يعني في قوله:
{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] فغضب أبو بكرٍ، وضرب وَجْه فنحاص ضربةً شديدةً، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عَدُوَّ الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا محمدُ، انظر ما صنع بي صاحبُك. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا أبا بكر، ما حملك ما صنعتَ؟ قال يا رسولَ اللهِ، إن عدوّ الله قال قولاً عظيماً، زعم أن الله فقير وهم أغنياء، فغضبت لله، وضربت وجهه، فجحد ذلك فِنْحاصٌ، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الآية رَدًّا على فنحاصٍ، وتصديقاً لأبي بكر.
واعلم أنَّ ظاهرة الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعةً؛ لقوله تعالى: {الذين قالوا} وأما ما روي عن فِنْحاص فلا يدل على أن غيره لم يَقُل ذلك، والكتاب يشهد بأن القائلين جماعة، فيجب القطع بذلك.
قوله: {سَنَكْتُبُ} قرأ حمزة بالياء، مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله، و «ما» وصلتها قائم مقام الفاعل، و «قَتْلُهم» - بالرفع - عَطْفاً على الموصول، و «يَقُولُ» - بياء الغيبة - والمعنى: سيحفظ عليهم. والباقون بالنون للمتكلم العظيم، ف «ما» منصوبة المحل، و «قَتْلَهُمْ» بالنصب عَطْفاً عليها، و «نَقُولُ» بالنون - والمعنى: سنأمر الحفظةَ بالكتابةِ.
وقرأ طلحة بن مُصَرَِّف «سَتُكْتَبُ» - بتاء التأنيث - على تأويل «مَا قَالُوا» ب «مَقَالَتُهُمْ» . وقرأ ابن مسعود - وكذلك هي في مصحفه - سنكتب ما يقولون ويقال. والحسنُ والعرج «سَيَكْتُب» - بالغيبة - مبنياً للفاعل، أي: الله تعالى: أو الملك.
و «ما» - في جميع ذلك - يجوز أن تكون موصولة اسمية - وهو الظاهر - وحذف العائدُ لاستكمال شروطِ الْحَذْفِ، تقديره: سنكتب الذي يقولونه - ويجوز أن تكون مصدرية، أي: قولهم - ويراد به - إذ ذاك - المفعول به، أي: مقولتهم، كقولهم: ضَرْب الأمير.(6/89)
قوله: {وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي: ونكتب قتلهم، أي: رضاهم بالقتل، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء، ولكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم، حسّنَ رجل عند الشعبي قتلَ عثمانَ، فقال الشعبي: قد شركت في دمه، فجعل الرضا بالقتل قتلاً، قال القرطبيُّ: وهذه مسألة عظمى، حيثُ يكون الرضا بالمعصية معصية، وقد روى أبو داود عن العُرس بن عُمَيْرة الكِنديّ، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«إذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأرْضِ كَانَ مِنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - أو فَأنْكَرَهَا - كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، ومَنْ غَابَ فَرَضِيَها كَانَ كَمَن شَهِدَها» وتقدم الكلام على إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء الحاضرين.
والفائدةُ في ضَمِّ أنهم قتلوا الأنبياء إلى وصفهم الله تعالى بالفقر بيان أن جَهْلهم ليس مخصوصاً بهذا الوقت، بل هم - منذ كانوا - مُصِرُّون على الجهالات والحماقات.
ثم قال: {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي: النار، وهو بمعنى المُحْرَق - كالأليم بمعنى المُؤلم - وهذا القول يحتمل أن يقال لهم عند الموت، أو عند الحشر، إن لم يكن هناك قَوْلٌ.
فإن قيل: إنهم أوردوا سؤالاً، وهو أن من طلب المالَ من غيره كان فقيراً، فلو طلب اللهُ المالَ من عبيده لكان فقيراً، وذلك مُحالٌ، فوجب أن يقال: إنه لم يَطْلبِ المال من وعبيده، وذلك قادحٌ في كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صادقاً في ادِّعاء النُّبوةِ، فهذا هو شُبْهَتُهم، فأين الجوابُ؟ وكيف يحسن ذِكر الوعيد قبل ذلك الجوابِ عَنْهَا؟ .
فالجوابُ: إن فرَّعْنا على قول أهل السُّنَّةِ والجماعة قلنا: يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر اللهُ عبيده ببذل الأموال، مع كونه تعالى أغنى الأغنياء. وأما على قول المعتزلة - فإنه تعالى يُراعي المصالح - فلا يَبْعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد؛ فإن إنفاق المال يوجب زوال حُبِّ المالِ عن القلب، وذلك من أعظم المنافع، وتتفرع عليه مصالحُ كثيرةٌ:
منها: أن إنفاقه سببٌ للبقاء المخلد في دار الثَّوابِ.
ومنها: أن يصير القلبُ - بذلك الإنفاقِ - فارغاً من حُبِّ ما سوى اللهِ تَعَالَى.
ومنها: أنه لو ترك الإنفاق لبقي حُبُّ المالِ في قلبه، فتتألم روحه لمفارقته.
قوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ} مبتدأ وخبر، تقديره: ذلك مستحق بما قدمت، كذا قدره أبو البقاء، وفيه نظر. و «ما» يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة، و «ذلك» إشارةٌ إلى ما قدَّم من عقابهم، وهذه الجملة تحتملُ وجهينِ:(6/90)
أحدهما: أن تكون في محلِّ نَصْبٍ بالقول؛ عَطْفاً على «ذُوقُوا» كأنه قيل: ونقول لهم - أيضاً - ذلك بما قدمت أيديكم، وُبِّخُوا بذلك، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب.
الثاني: أن لا تكونَ داخلةً في حكاية القولِ، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم نزولِ الآيةِ. وذكرت الأيدي؛ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَل بها، قال القرطبيُّ: «وخص الأيدي بالذكر؛ ليدل على تَوَلي الفعل ومباشرته؛ إذ قد يضاف الفعلُ إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به، كقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ} [القصص: 4] وأصل» أيْدِيكُمْ «أيْدِيُكُم، فحُذِفت الضمةُ؛ لثقلها.
قوله: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} عطف على» ما «المجرورة بالباء، أي: ذلك العقاب حاصل بسبب كَسْبكم، وعدم ظُلْمه لكم.
فإن قيل: إن «ظلاماً» صيغة مبالغة، تقتضي التكثير، فهي أخص من «ظالم» ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فإذا قلت: زيد ليس بظلامٍ، أي: ليس كثير الظُّلم - مع جواز أن يكون ظالماً وإذا قُلْتَ: ليس بظالم، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ؟ فالجوابُ من وجوهٍ:
الأول: أن «فَعَّالاً» قد لا يُراد به [التكثير] ، كقول طرَفة: [الطويل]
1702 - وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً ... وَلكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمَ أرْفِدِ
لا يريد - هنا - أنه قد يحل التلاع قليلاً؛ لأن ذلك يدفعه آخر البيت الذي يدل على نَفْي البخل على كل حالٍ، وأيضاً تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.
الثاني: أنه للكثرة، ولكنه لما كان مقابلاً بالعباد - وهم كثيرون - ناسب أن يقابلَ الكثيرَ بالكثيرِ.
الثالث: أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليلُ ضرورة؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق مَنْ يجوز عليه النفع والضر - كان للظلم القليل المنفعة أترك.
الرابع: أن يكون على النسب، أي: لا يُنسَب إليه ظُلم، فيكون من باب بَزَّازٍ وعَطَّارٍ، كأنه قيل: ليس بذي ظلم ألبتة. ذكر هذه الأربعة أبو البقاء.
وقال القاضي أبو بكرٍ: العذاب الذي توعد أن يفعلَه بهم، لو كان ظُلْماً لكان عظيماً، فنفاه على حَدِّ عِظْمِه لو كان ثابتاً.
وقال الراغبُ: «العبيد - إذا أُضيف إلى الله تَعَالَى - أعم من العباد، ولهذا قال:(6/91)
{وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] فنبَّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته، ومن انتسب إلى غيره من الذين يُسَمَّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك» .
وكأن الراغبَ قد قدّم الفرق بين «عبيد» و «عباد» فقال: وجمع العَبْد - الذي هو مسترق - عبيد وقيل: عِبِدَّى وجمع العبَدْ - الذي هو العابد - عباد، وقد تقدم اشتقاقُ هذه اللَّفْظَةِ وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة «ق» .
فصل
قالت المعتزلةُ: هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العِبَادِ مخلوقة لَهُمْ، وإلا لم تكن مما قدمت أيديهم، وأجيبوا بمسألة العلمِ والداعي على ما تقدم.(6/92)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
يجوز في حل «الذِينَ» الألقاب الثلاثة، فالجَرّ من ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنه صفة للفريق المخصوصين بإضافة «قَوْلَ» إليه - في قوله: «قول الذين قالوا» .
الثاني: أنه بدل منه.
الثالث: أنه صفة ل «الْعَبِيد» أي: ليس بظلاَّم للعبيد الذين قالوا كيتَ وكيتَ، قاله الزَّجَّاجُ قال ابنُ عطيَّة: «وهذا مفسد للمعنى والوصف» .
والرفعُ على القطع - بإضمار مبتدأ - أي: هم الذين، وكذلك النصب على القطع - أيضاً - بإضمار فعلٍ لائقٍ، أي: أذم الذين.
قوله: «أن لا نؤمن» في «أنْ» وجهان:
أحدهما: أنها عَلَى حَذْف حرف الجرِّ، والأصل: في أن لا نؤمنَ، وحينئذ يجيء فيها المذهبانِ المشهورانِ أهي في محلِّ جَرٍّ، أو نَصْبٍ.
الثاني: أنها مفعول بها، على تَضْمين «عَهِدَ» معنى ألزم، تقول: عهدت إليه كذا - أي: ألزمته إياه - فهي - على هذا - في محل نصب فقط.
و «أن» تُكْتَب متصلة، ومنفصلة، اعتباراً بالأصل، أو بالإدغام. ونقل أبو البقاء أن منهم من يَحذفُها في الخط، اكتفاءً بالتشديد، وحكى مكي - عن المبرد - أنَّها إن أدُغِمَتْ بغير غنة كتبت متصلة، إلا فمنفصلة. ونُقِل عن بعضهم أنها كانت مخففة كتبت منفصلة وإن كانت ناصبة كتبت متصلة.(6/92)
والفرق أن المخففةَ مَعَهَا ضمير مقدر، فكأنه فاصل بينهما، بخلاف الناصبة، وقول أهل الخط - في مثل هذا -: تكتب متصلة، عبارة عن حَذْفها في الخط بالكلية؛ اعتباراً بلفظ الإدغام، لا أنهم يكتبون [متصلة] ، ويثبتون لها بعضَ صورتها، فيكتبون: أنْلاَ، والدليل على ذلك أنهم لما قالوا في «أم من» و «أم ما» ونحوه بالاتصال، إنما يعنون به كتابة حرف واحدٍ، فيكتبون أمَّن، وأما، وفَهم أبو البقاء أن الاتصالَ في ذلك عبارة عن كتابتهم لها في بعض صورتها ملتصقة ب «لا» ، والدليل على أنه فهم ذلك أنه قال: ومنهم مَنْ يحذفها في الخط؛ اكتفاءً بالتشديد.
فجعل الحذف قسيماً للفصل والوصل، ولا يقول أحَدٌ بهذا.
وتعدى «نؤمن» باللام؛ لتضمُّنه معنى الاعتراف. وقد تقدم في أول «البقرة» .
وقرأ عيسى بن عمر «بقُرُبان» - بضمتين -.
قال القرطبيُّ: «كما قيل - في جمع ظُلْمة - ظلمات وفي حجرة - حجرات» .
قال ابن عطيةَ: إتباعاً لضمة القاف، وليس بِلُغَةٍ؛ لأنه ليس في الكلام فعلان - بضم الفاء والعين -.
وحكى سيبويه: السُّلُطان - بضمِّ اللمِ - وقال: إنّ ذلك على الإتباع.
قال أبو حيان: «ولم يَقل سيبويه: إن ذلك على الإتباع، بل قال: ولا نعلم في الكلامِ فِعِلان ولا فِعُلان، ولا شيئاً من هذا النحو، ولكنه جاء فُعُلاَن - وهو قليل - قالوا: السلطان، وهو اسم، وقتل الشَّارحُ لكلام سيبويه: صاحبُ هذه اللغةِ لا يسكن ولا يُتبع، وكذا ذَكَر التصرفيونَ أنه بناء مُسْتقل، قالوا: فيما لحقه زيادتانِ بعد اللامِ، وعلى فعلان - ولم يجيء فُعُلان إلا اسماً، وهو قليلٌ، نحو سُلُطان» .
قال شهاب الدِّينِ: «أما ابن عَطِيّةَ فمسلم أنه وَهِم في النقل عن سيبويه في» سلطان «خاصةٌ، ولكن قوله في» قُربَانٍ «صحيح ولأن أهل التصريف لم يستثنوا إلا السُّلُطان» .
والقُرْبان - في الأصل - مصدر، ثم سُمِّي به المفعول، كالرَّهْن، فإنه في الأصل مصدر، ولا حاجة إلى حذف مضاف، وزعم أبو البقاء أنه على حَذْف مضاف - أي: تقريب قُرْبان - قال: «أي: يُشْرَع لنا ذلك» .
وقوله: {تَأْكُلُهُ النار} صفة لِ «قُرْبَانٌ» وإسناد الأكل إليها مجاز، عبَّرَ عَنْ إفنائها الأشياء بالأكل.(6/93)
قوله: {مِّن قَبْلِي بالبينات} كلاهما متعلق ب «جَاءَكُم» والباءُ تحتمل المعية والتعدية، أي: مصاحبين للآيات.
فصل في رد شبهة الطاعنين في النبوة
هذه شبهةٌ ثانية طعن بها الكفار في نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتقريرها: أنك يا محمد - لم تفعل كذلك، فوجب ألا تكون نبياً، قال ابن عباسٍ: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرفِ، ومالك بن الصَّيف وكعب بن أسدٍ، ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت، وفنحاص بن عازوراء، وحُيَيّ بن أخطب، أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا محمدُ تزعم أن اللهَ بعثك إلينا رسولاً، وأنزل عليك كتاباً، وقد عَهدَ اللهُ إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله، حتى يأتِيَنَا بقُرْبان تأكله النار، فإن جئتنا به صدَّقْنَاك، فأنزل الله هذه الآية.
والقُرْبان: كل ما يَتَقَرَّب به العبدُ إلى الله - تعالى - من نسيكة، وصدقة، وعَمَلٍ صالح.
قال الواحديُّ: وأصله المصدر من قولك: قرب قُرْبَاناً - كالكُفْران والرُّجحان والخُسْران - ثم سمي به نفس المتقرَّب به ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لكعب بن عُجْرة -: «يَا كَعْبُ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ، والصَّلاةُ قُرْبانٌ» .
قال القرطبيُّ: «وهو فُعْلان - من القربة - ويكون اسماً، ومصدراً. فمثال الاسم: السُّلْطان والبُرْهان ومثال المصدر: العُدوان والخُسْران» .
فصل في بيان ادعاء اليهود
واختلفوا فيما ادَّعاه اليهود.
فقال السُّدَّيُّ: إن هذا الشرط جاء في التوراة، ولكنه مع شَرْط، وذلك أنه - تعالى - قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنه رسول الله، فلا تصدقوه، حتى يأتيكم بقربانٍ تأكله النار، إلا المسيحُ ومحمد، فإنهما إذا أتيا فآمِنوا بهما؛ فإنهما يأتيان بقُرْبانٍ لا تأكله النّار، قال: وكان هذه العادة باقية إلى مبعث المسيحِ - عليه السَّلام - فلما بُعِثَ المسيح ارتفعت وزالت.
وقال آخرونَ: إن ادعاء هذا الشرطِ كذب على التَّوراة، لأن القربانَ لم يكن في معجزات موسى وعيسى - عليهما السَّلامُ - وأيضاً فإنه إذا كانت هذه معجزةً، فلا فرقَ بينها وبين باقي المعجزاتِ، فلم يكن لتخصيصها بالذكر فائدةٌ.(6/94)
واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه الشُّبهة، فقال: {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} والمرادُ أسلافهم، فبيَّن - بهذا الكلام - أنهم إنما يطلبونَ ذلك على سبيل التعنُّت، لا على وَجْه الاسترشاد، إذ لو لم يكن كذلك لما سَعَوْا في قَتْلهم.
فإن قيل: لم قال: {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ} ولم يَقل: جاءتكم رُسل؟
فالجوابُ: أن فعل المؤنث يُذَكَّر إذا تقدمه جمعُ تكسير.
والمراد بقوله: {وبالذي قُلْتُمْ} هو ما طلبوه منه، وهو القُرْبان.
فإن قيل: إن القوم إنما طالبوه بالقُرْبان، فما الحكمة في أنه أجابهم بقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات} ثم أضاف إلى قوله: {وبالذي قُلْتُمْ} وهو القربان؟
فالجواب: أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو قال لهم: إن الأنبياء المتقدمين أتوا بالقُربان لم يلزم من ذلك وجوب الاعتراف بنبوتهم؛ لاحتمال أن الإتيان بهذا القُرْبانِ شرطٌ للنبوة، لا موجب لها، والشرط هو الذي يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزمُ من وجوده وجود المشروط، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القَدْرِ لما كان الإلزام وارداً عليهم، فلما قال: {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ} كان الإلزام وارداً عليهم؛ لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتَوا بالموجب للصدق، ولما أتَوا بالقُرْبان فقد أتوا بالشرط، فعند الإتيانِ بهما وجب الإقرارُ بالنبوة.
قال القرطبيُّ: في معنى الآية -: «قُلْ» يا محمد «قَد جَاءَكُمْ» يا معشرَ اليهود {رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ} من القُرْبان «فلم قتلتموهم» يعني زكريا ويحيى وشعيباً وسائر مَنْ قَتَلوا من الأنبياء - عليهم السلام - ولم يؤمنوا بهم.
أراد بذلك أسلافهم. وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبيُّ، واحتج بها على الذي حَسَّن قَتلَ عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأن اللهَ تعالى سمي اليهودَ - لرضاهم بفِعْل أسلافهم - وإن كان بينهم نحوٌ من سبعمائة سنةٍ.(6/95)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
قوله: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ} ليس جواباً، بل الجوابُ محذوف، أي: فقل، ونحوه؛ لأن هذا قد مضَى وتحقَّق، والجملة من «جَاءُوا» في محل رفع، صفة لِ «رُسُلٌ» و «مِنْ قَبْلِكَ» متعلق ب «كُذِّبَ» والباء في «بِالبَيِّنَاتِ» تحتمل الوجهين، كنظيرتها.
ومعنى الآية: فإن كذبوك في قولك: إنَّ الأنبياء المتقدمين أتَوْا بالقُرْبان.
ويحتمل أن يكون المعنى: فإن كذبوك في أصل النبوة - وهو أولى - والمرادُ بالبيناتِ المعجزاتِ.(6/95)
وقرأ الجمهورُ: «وَالزبر والكتاب» - من غير باء الجر - وقرأ ابنُ عامر «وَبِالزُّبُرِ» - بإعادتها - وهشام وحده عنه «وَبِالكِتَابِ» - بإعادتها أيضاً - وهي في مصاحف الشاميين كقراءة ابنِ عامر، فَمَنْ لم يأتِ بها اكتفى بالعطفِ، ومن أتى بها كان ذلك تأكيداً.
والزُّبر: جمع زَبُور - بالفتح - ويقال: بالضم أيضاً - وهل هما بمعنىً واحد أو مختلفان؟ سيأتي الكلام عليهما - إن شاء الله تعالى - في النساء في قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [النساء: 163] . واشتقاقه من زَبَرْتُ: أي: كتبتُ وزَبَرْته: قرأتهُ، وَزَبرْته: حسَّنت كتابتَه، وزَبَرْته: زَجَرته. فزبور - بالفتح - فَعُول بمعنى مفعول - كالركوب بمعنى: المركوب - والحلوب - بمعنى المحلوب - والمعنى: الكُتُب المزبورة، أي: المكتوبة، والزُّبُر: جمع زبور، وهو الكتاب.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
1703 - لمَنْ طَلَلٌ أبصَرْتُهُ فَشَجانِي ... كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِي
وقيل: اشتقاق من الزَّبْر - بمعنى: الزجر: تقول: زبرت الرجل: أي: نهرته. وزبرت البئر: أي: طويتها بالحجارة.
فإن قيل: لِمَ عطف «الْكِتَابِ المُنِيرِ» على «الزُّبُرِ» مع أن الكتاب المنير من الزُّبُر؟
فالجوابُ: لأن الكتاب المنير أشرف الكتب، وأحسن الزبر، فحسُن العطف، كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] . وقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . ووجه شرفه: كونه مشتملاً على جميع الشريعة، أو كونه باقياً على وَجْه الدَّهْر.
وقيل: المراد ب «الزُّبُر» الصُّحُف، والمراد ب «الْكِتَابِ الْمُنِيرِ» التوراة والإنجيل والزبور.
و «الْمُنِير» اسم فاعل من أنار، أي: أضاء، وهو الواضح. والمراد بهذه الآية - تسلية قلب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما جرى على الأنبياء قبله.(6/96)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
والمرادُ بهذه الآية - زيادة تأكيد التسليةِ والمبالغةِ في إزالة الحُزْنِ عن قلبه؛ لأن مَنْ علم أن عاقبته الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان، ولأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء، [والمُحِقُّ من المُبْطِل] .
قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} مبتدأ وخبر، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة العموم والإضافة.
والجمهور على «ذَائِقَةٌ المَوْتَ» بالتنوين والنَّصْب في «الْمَوْتِ» على الأصل.
وقرأ الأعمشُ بعدم التنوين ونَصْب «الْمَوْت» وذلك على حَذْف التنوين؛ لالتقاء الساكنين وإرادته وهو كقول الشاعرِ: [المتقارب]
1704 - فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَبٍ ... وَلاَ ذَاكِرَ اللهَ إلاَّ قَلِيلا
- بنصب الجلالة - وقراءة مَنْ قرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله} [الإخلاص: 1، 2]- بحذف التنوين من «أحَدٌ» لالتقاء الساكنين.
[ونقل] أبو البقاء - فيها - قراءةً غريبةً، وتخريجاً غريباً، قال: «وتقرأ شاذاً - أيضاً - ذَائِقُهُ الْمَوْتُ على جعل الهاء ضمير» كل «على اللفظ، وهو مبتدأ وخبرٌ، وإذا صحت هذه قراءةٌ فتكون» كل «مبتدأ، و» ذَائِقُهُ «خبر مقدَّم، و» الْمَوْتُ «مبتدأ مؤخرٌ، والجملة خبر» كُلّ «وأضيف» ذائق «إلى ضمير» كل «باعتبار لفظها، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأن النفس هي التي تذوق الموت وليس الموت يذوقها، وهنا جعل الموت هو الذي يذوق النفس، قَلْباً للكلامِ؛ لفهم المعنى، كقولهم: عَرَضْتُ الناقة على الحوض،(6/97)
ومنه قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار} [الأحقاف: 34] وقولك: أدخلت القلنسوة في رأسي.
وقول الشَّاعرِ: [البسيط]
1705 - مِثْلُ القَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ، أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجَرُ
الأصل: عرضت الحوض على الناقة، ويوم تُعْرَض النار على الذين كفروا، وأدخلت رأسي في القلنسوة، وبلغت سوآتهم هَجَرَ، فقلبت. وسيأتي خلافُ النّاسِ في القلب في موضعه إن شاء الله - تعالى -.
وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا التأنيث في» ذائقة «إنما هو باعتبار معنى» كلٍّ «قال:» لأن كل نفس نفوس، فلو ذكر على لفظ «كل» جاز، يعني أنه لو قيل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ} جاز، وقد تَقَدَّمَ أول البقرة أنه يجب [اعتبار] لفظ ما يُضافُ إليه إذا كان نكرة ولا يجوز أن يعتبر «كل» وتحقيق هذه المسألةِ هناك.
فصل
قال ابنُ الخطيبِ: هذه الآية من تمام التسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إما بأن غموم الدنيا يقطعها الموتُ، وما كان كذلك لا ينبغي للعاقل أن يَلْتَفِتَ إليه. وإما لأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء، فلا يُلْتَفَت إلى غَمِّ الدنيا وبُؤْسِها.
فإن قيل: قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}
[المائدة: 116] يقتضي الاندراج، وأيضاً فالنفس والذات واحد، فتدخل الجمادات لأنهم ذوات، ويقتضي موت أهلِ الجَنَّةِ؛ لأنهم نفوس.
فالجوابُ: أنّ المُرَادَ: المكلَّفون في دار التكليف، لقوله، عقبيها: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} وذلك لا يتأتَّى إلا فيهم.
فصل
قالت الفلاسفةُ: الموت واجب للأجسامِ؛ لأن الحياةَ الجسمانيةَ إنما تحصل بالرطوبةِ والحرارةِ الغريزيتين، ثم إن الحرارةَ تستمد من الرطوبة إلى أن تفنى، فيحصل الموتُ قالوا: والآية تدل على أن النفوس لا تموت؛ لأنه جعلها ذائقة، والذائق لا بد أن يبقى حال الذوق والمعنى: ذائقة موت البدنِ، وبدل ذلك - أيضاً - على أنَّ النفسَ غير البدن.
قوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} «ما» كافة لِ «إن» عن العمل، قال مكيٌّ: «ولا يحسبن أن تكون» ما «بمعنى الذي، لأنه يلزم رفع» أجورُكم «ولم يقرأ به أحَدٌ، ولأنه يصير التقدير:(6/98)
وأن الذي توفَّوْنَهُ أجوركم، كقولك: إنّ الذي أكرمته عمرو، وأيضاً فإنك تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء» .
يعني لو كانت «ما» موصولة لكانت اسم «إن» فيلزم - حينئذٍ - رفع «أجوركم» على أنه خبرها، كقوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69] ف «ما» - هنا - يجوز أن تكون بمعنى الذي، أو مصدرية، تقديره: إنَّ الذي صنعوه، أو إن صُنْعَهم، ولذلك رفع «كِيْدُ» ، خبرها. وقوله: وأيضاً فإنك تفرق ... ، يعني أن «يَوْمَ الْقِيَامَة» متعلق ب «تُوَفَّوْنَ» فهو من تمام الصلة - التي هي الفعل ومعموله - ولا يُخْبَر عن موصول إلا بعد تمام صلته، وهذا وإن كان من الواضحات، إلا أن فيه تنبيهاً على أصول العلم.
فصل
قال المفسّرون: أجر المؤمنِ الثوابُ، وأجرُ الكافر العقابُ، ولم يعتد بالنعمة في الدنيا - أجراً وجزاء - لأنها عُرْضَةٌ للفناء.
قوله: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} أدغم أبو عمرو الحاء في العين، قالوا: لطول الكلمة، وتكرير الحاء، دون قوله: {ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] وقوله: {المسيح عِيسَى} [آل عمران: 45] ونُقِل عنه الإدغامُ مطلقاً، وعدمه مطلقاً والنحويون يمنعون ذلك، ولا يُجيزونه إلا بعد أن يقلبوا العين حاء ويُدْغِموا الحاء فيها، قالوا: لأن الأقوى لا يُدْغَم في الأضْعَف، وهذا عكس الإدغامِ، أن تقلب فيه الأول للثاني إلا في مسألتين: إحداهما: هذه، والثانية: الحاء في الهاء، نحو: امدح حلالاً - بقلب الهاء حاء أيضاً - ولذلك طعن بعضهم على قراءةِ أبي عمرو، ولا يُلْتَفَت إليه. . ومعنى الكلام، {فَمَن زُحْزِحَ} أي: نُحِّي وأزيل عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
قوله: {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} المتاع: ما يتَمَتَّع به، وينتفع [به الناسُ -[كالقِدْرِ] والقصعة - ثم يزول ولا يبقى قاله أكثرُ المفسّرين.
وقال الحَسَن: هو كخضرة النبات، ولعب البنات، ولا حاصل له.
وقال قتادة: هي متاع متروك: يوشك أن يضمحِلَّ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله - تعالى - ما استطاع.
وقوله: «الْغُرور» يجوز أن يكون مصدراً من قولك: غَرَرْتَ فلاناً غُرُوراً، شبه بالمتاع الذي يُدَلس به على المستام، ويغر عليه حتى يشتريه، ثم يظهر فَسَادُهُ لَهُ، ومنه(6/99)
الحديث: «نهى عن بيع الغرر» ويجوز أن يكون جَمْعاً.
وقرأ عبد الله لفتح الغين وفسرها بالشيطان أن يكون فَعُولاً بمعنى مفعول، أي: متاع الغُرُور، أي: المخدوع: وأصل الغَرَر: الخدع.
قال سعيدُ بن جُبَيْرٍ: هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة، وأما مَنْ طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ.(6/100)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
وهذه الآية زيادة في تَسْلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه بَيَّن له أنّ الكفار بعد أن آذَوُا الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمين يوم أُحدٍ، فسيؤذونهم - أيضاً - في المستقبل في النفسِ والمالِ.
والمرادُ منه أن يُوَطِّنوا أنفسَهم على الصْبر؛ فإن العالم بنزول البلاء عليه لا يعظم وَقْعه في قَلْبِهِ بخلاف غيرِ العالم فإنه يعظم عنده ويَشُقُّ عَلَيْهِ.
قوله: {لَتُبْلَوُنَّ} هذا جوابُ قَسَم محذوف، تقديره: والله لَتُبْلَوُنّ، وهذه الواو هي واو الضمير، والواو التي هي لام الكلمة حُذَفَتْ لأمر تصريفيِّ، وذلك أن أصله: لَتُبْلَوُّنَنَّ، فالنون الأولى للرفع، حُذِفَتْ لأجل نونِ التوكيد، وتحرَّكت الواوُ [الأولى]- التي هي لامُ الكلمةِ - وانفتح ما قبلَهَا فقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى ساكنان - الألف وواو الضمير - فحُذَفَتْ الألف؛ لئلا يلتقيا، وضُمَّتْ الواو؛ دلالةً على المحذوف.
وإنْ شئتَ قلت: استُقْبِلَتْ الضمةُ على الواو الأولى، فحُذِفَت، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ الواوُ الأولى وحُرِّكت الثانية بحركة مجانسةٍ، دلالةً على المحذوف. ولا يجوز قَلْبُ مثل هذه الواوِ همزةً؛ [لأن حركتها عارضةٌ] ولذلك لم [تُقلَب] ألِفاً، وإن تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلَها.
ويقال للواحدِ من المذكَّر: لتُبْلَوَنَّ يا رجلُ وللاثنين: لتبليانِّ يا رجلانِ، ولجماعة الرجال: لتبلوُنَّ. وأصل «لَتسْمعنَّ» : لَتَسْمَعُونَنَّ، ففعل فيه ما تقدم، إلا أن هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير؛ لأن قَبْلَهَا حَرْفاً صحيحاً.
فصل في المراد بالابتلاء
معنى الابتلاء: الاختبار وطلب المعرفةِ، ومعناه في وَصْف الله تعالى به معاملةُ(6/100)
العبد معاملةَ المختبر، واختلفوا في هذا الابتلاء، فقيل: المراد ما نالهم من الشدة والفَقْرِ والقتل والجرح من الكفار، ومن حيثُ أُلزموا الصبر في الجهاد.
وقيل: الابتلاء في الأموال بالمصائب، وبالإنفاق في سبيل اللهِ وسائر تكاليف الشَّرْع، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفَقْد الأحْباب. وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها.
وقال الحسنُ: التكاليفُ الشديدَةُ المتعلقة بالدينِ والمالِ، كالصلاة والزكاة والجهاد.
وقال القاضي: والظاهرُ يحتمل الكُلُّ.
قوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} المرادُ منه أنواع الأذى الحاصلة من اليهود والنصارَى والمشركين للمسلمين، وذلك أنهم كانوا يقولون: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] و {المسيح ابن الله} [التوبة: 30] و «ثالث ثلاثة» وكانوا يطعنون في الرسول بكل ما يقدرون عليه، وهجاه كعبُ بن الأشرفِ، وكانوا يُحَرِّضون النَاس على مخالفة الرسول، ويجمعون الناس لمحاربته، ويُثَبّطون المسلمين عن نُصْرَتِه، ثم قال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور} .
قال المفسّرونَ: بَعَثَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا بكر إلى فنحاص اليهوديِّ، يستمده، فقال فنحاصٌ: قد احتاج ربكم إلى أن نمده فَهَمَّ أبو بكر أن يَضْرِبَه بالسيف، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له - حين أرسله -: لا تغلبن على شيء حتى ترجع إليَّ، فتذكَّر أبو بكر ذلك، وكفَّ عن الضرب، فنزلت الآية.
فصل
في الآية تأويلان:
أحدهما: أن المرادَ منه أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمصابرة على الابتلاء في النفسِ والمالِ، وتحمُّلِ الأذَى، وتَرك المعارضة والمقابلة، وذلك لأنه أقرب إلى دخول المُخالف في الدين، كقوله تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] وقوله: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ} [الجاثية: 14] وقوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وقوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] .
قال الواحديُّ: كان هذا قَبلَ نزولِ آية السيف.
قال القفّال: والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ، والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحُدٍ، والمعنى: أنهم امِرُوا بالصَّبر على ما يؤذون به الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على طريقِ الأقوالِ(6/101)
الجارية فيما بينهم، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوالِ، والأمر بالقتالِ لا ينافي الأمر بالمُصابرة.
التأويل الثاني: أن يكونَ المرادُ من الصَّبرِ والتقوى: الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم. فالصبرُ عبارة عن احتمال الأذى والمكروه، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي. وقوله: {فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور} أي: من صواب التدبير والرشدِ الذي ينبغي لكل عاقلٍ أن يُقْدِمَ عليه.
وقيل: {مِنْ عَزْمِ الأمور} أي: من حق الأمورِ وخَيرها.
وقال عطاءٌ: من حقيقة الإيمان.(6/102)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
في كيفية النظمِ وجهان:
أحدهما: أنه - تعالى - لما حكى عنهم الطَعْنَ في نبوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأجاب عن ذلك، بيَّن في هذه الآية التعجُّب من حالهم.
والمعنى: كيف يليق بكم الطعن في نبوَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتبكم ناطقة بأنه يجب عليكم ذِكْرُ الدلائل الدالة على صِدقه ونبوته؟
ثانيهما: أنه لما أوجب عليه احتمال الأذَى من أهل الكتاب - وكان من جُمْلَة أذاهم كتمانُ ما في التوراة والإنجيل من الدلائلِ الدالةِ على نبوَّتِه، وتحريفها - بيَّن أن هذا من تلك الجملةِ التي يجبُ فيها الصبر.
قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} هذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو، وابن كثيرٍ، وأبو بكر بالياء، جرياً على الاسم الظاهر - وهو كالغائب - وحَسَّن ذلك قوله - بعده -: «فَنَبَذُوهُ» والباقون بالتاء؛ خطاباً على الحكاية، تقديره: وقلنا لهم، وهذا كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 83] بالتاء والياء كما تقدم تحريره.
قوله: {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} يحتمل وجهين:
أحدهما: واو الحال، والجملة بعدها نصب على الحال، أي: لتبينُنَّه غيرَ كاتمين. الثاني: أنها للعَطْف، والفعل بعدها مُقْسَم عليه - أيضاً - وإنما لم يُؤَكِّدْ بالنون؛ لأنه منفيّ، كما تقول: واللهِ لا يقومُ زيدٌ - من غير نون - وقال أبو البقاء: «ولم يأتِ بها(6/102)
في» تَكْتُمُونَ «اكتفاءً بالتوكيد في الأول؛» تَكْتُمُونَهُ «توكيد» .
وظاهر عبارته أنه لو لم يكنْ بعد مؤكَّد بالنون لزم توكيده، وليس كذبك؛ لما تقدم. وقوله: لأنه توكيدٌ، يعني أن نفي الكتمان فُهمَ من قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} فجاء قوله: {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} توكيداً في المعنى.
واستحسن أبو حيَّان هذا الوجه - أعني: جَعْل الواو عاطفةً لا حاليةً - قال: «وهذا الوجه - عندي - أعْربَ وأفصح؛ لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ قبل» لا «لا تدخل عليه واوُ الحال» .
وغيره يقول: إنه يمتنع إذا كانَ مضارعاً مُثْبَتاً، فيُفهم من هذا أن المضارعَ المنفيَّ بكُلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه.
وقرأ عبد الله: لَيُبَينونَه - من غير توكيد - قال ابنُ عطيَّة: «وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد قال سيبويه» .
والمعروفُ - من مذهب البصريين - لزومهما معاً، والكوفيون يجيزون تعاقُبَهما في سعةَ الكلامَ.
وأنشدوا: [الطويل]
1706 - وَعَيْشِكِ - يا سَلْمَى - لأوقِنُ أنَّني ... لِمَا شِئْتِ مُسْتْلٍ، وَلَوْ أنَّهُ الْقَتْلُ
وقال الآخرُ: [المتقارب]
1707 - يَمِيناً لأبْغَضُ كُلَّ امْرِئٍ ... يُزَخْرِفُ قَوْلاً وَلاَ يَفْعَلُ
فأتى باللام وحدها. وقد تقدم تحقيقُ هذا.
وقرأ ابنُ عباس: ميثاق النبيين لتبيننه للناس، فالضمير في قوله: {فَنَبَذُوهُ} يعود على {الناس} المبيَّن لهم؛ لاستحالة عَوْدِهِ على النبيين، وكان قد تقدم في قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] أنه - في أحد الأوجه - على حذف مضاف، أي: أولاد النبيين، فلا بُعْدَ في تقديره هنا - أعني: قراءة ابن عباس -. والهاء في {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} قال سعيدُ بنُ جُبَيْر والسُّدِّيُّ تعود إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى هذا يكونُ الضميرُ عائداً إلى معلوم غير مذكور.(6/103)
وقال الحسنُ وقتادةَ: تعود على «الكِتَابِ» أي: يبينون للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فإن قيل: البيانُ يضادُّ الكتمان، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهياًَ عن الكتمان فما الفائدة في ذِكْرِ النَّهي عن الكتمان؟
فالجوابُ: أن المرادَ من البيان ذِكْرُ الآياتِ الدالةِ على نبوةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التوراة والإنجيل والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة، والشبهات المعطلة.
قال قتادةُ: هذا ميثاقٌ أخذه الله على أهلِ العِلْمِ، فمَنْ عَلِمَ شيئاً فلْيُعَلِّمْه، وإياكم وكتمانَ العِلْمِ، فإنه هَلَكَه. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيامةِ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ» .
قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} طرحوه، وضيَّعوه، ولم يُراعوه، ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثَل للطَّرْح، ونقيضه: جعله نُصْبَ عينيه.
وقوله: {واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} معناه: أنهم أخفوا الحقَّ؛ ليتوسلوا بذلك إلى وجدان شيء من الدنيا، ثم قال: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} .(6/104)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
هذا أيضاً من جملة أذاهم؛ لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخُبْث والتلبيس على ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِين ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِأنَّهُم أهلُ البِرِّ والصدقة والتقوَى، ولا شك أن الإنسانَ يتأذّى بمشاهدة مثل هذه الأحْوالِ، فأمر النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمصابرة عليها.
قوله: و {لاَ تَحْسَبَنَّ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمر «يَحْسَبَنَّ» و «فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ» - بالياء فيهما، ورفع ياء «تَحْسَبَنَّهُم» وقرأ الكوفيونَ بتاءِ الخطابِ، وفتح الباء فيهما معاً، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول، وتاء الخطاب في الثاني، وفتح الباء فيهما معاً، وقُرِئَ شاذاً بتاء الخطاب وضَمِّ الباء فيهما معاً، وقرئ فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما، وفتح الباء فيهما أيضاً فهذه خَمْس قراءاتٍ، فأما قراءة ابن كثيرٍ وأبي عمرو ففيهما خمسةُ(6/104)
أوجهٍ، وذلك: لأنه لا يخلو إما أن يُجْعَلَ الفعل الأول مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ، أو إلى الموصولِ، فإنْ جعلناه مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ، الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو غيره - ففي المسألة وجهان: ِ
أحدهما: أنَّ «الَّذِينَ» مفعول أوّل، والثاني محذوفٌ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه، وهو «بِمَفَازَةٍ» والتقدير: لا يحسبن الرسول - أو حاسب - الذين يفرحون بمفازة، فأسند الفعل الثاني لضميرِ «الَّذِينَ» ومفعولاه الضمير المنصوب، و «بِمَفاَزَةٍ» .
الثاني: أن «الَّذِينَ» مفعول أول - أيضاً - ومفعوله الثاني هو «بِمَفَازَةٍ» الملفوظ به بعد الفعل الثاني، ومفعول الفعل الثاني محذوف؛ لدلالة مفعول الأول عليه، والتقدير: لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك، والعمل كما تقدم، وهذا بعيد جِداً، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول لكلامٍ طويلٍ من غير حاجةٍ، والفاء - على هذين الوجهين - عاطفة؛ والسببية فيها ظاهرة.
وإن جعلناه مسنداً إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجهٍ:
أولها: أن الفعل الأول حُذِفَ مفعولاه، اختصاراً؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما، تقديره: ولا يحسبن الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين.
كقول الآخر: [الطويل]
1708 - بأيِّ كِتَابٍ، أمّ بِأيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وَتحْسَبُ
أي: وتحسب حبهم عاراً، فحذفت مفعولي الفعل الثاني؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما، وهو عكس الآيةِ الكريمةِ، حيث حذف فيها من الفعلِ الأولِ.
ثانيها: أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا.
قال أبو علي «تَحْسَبَنَّ» لم يقع على شيء و «الَّذيِنَ» رفع به، وقد تجيء هذه الأفعال لَغْواً، لا في حُكْمِ الجُمَل المفيدة، نحو قوله: [الطويل]
1709 - وَمَا خِلْتُ أبْقَى بِيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ ... عِرَاضُ الْمَذَاكِي المُسْنِفَاتِ الْقَلائِصا
المذاكي: الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، الواحد: مُذَك مثل المُخَلف من الإبل وفي المثل: جريُ المذكيات غِلاب.
والمُسْنفات: اسم مفعول، يقال: سنفت البعير أسنفه، سنفاً، إذا كففته بزمامه وأنت راكبه وأسنف البعير لغة في سنفه وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه، يتعدى ولا يتعدى وكانت العربُ تركب الإبلَ،(6/105)
وتجنب الخيل، تقول: الحرب لا تبقى مودة وقال الخليلُ: العربُ تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيدٌ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيدٌ.
يعني أبو علي أنها في هذه الأماكن مُلْغَاة، لا مفعول لها.
ثالثها: أن يكون المفعول الأول للفعل الأول محذوفاً، والثاني هو نفس «بِمَفَازَةٍ» ويكون «فَلاَ يَحْسَبَنهُمْ» توكيداً للفعل الأول، وهذا رأي الزمخشريِّ؛ فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة -: «على أن الفعل لِ {الذين يَفْرَحُونَ} والمفعول الأول محذوف، على معنى: لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى: لا يحسبنهم أنفسهم الذين يفرحون فائزين، و» فلا يحسبنهم «تأكيد» .
قال أبو حيّان: «وتقدم لنا الرَّدُّ على الزمخشريّ في تقديره: لا يحسبنهم الذين في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي} [آل عمران: 178] وأن هذا التقدير لا يصح» .
قال شهابُ الدِّينِ: قد تقدَّم ذلك والجواب عنه، لكن ليس هو في قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] بل في قوله: {ولا يَحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله} من قراءة من قرأ بياء الغيبة، فهناك ردَّ عليه بما قال، وقد أجيب عنه والحمد لله، وإنما نبهت على ذلك لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد.
ويجوز أن يقالَ: في تقرير هذا الوجه الثالث -: أنه حذف من إحدى الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر وذلك أن «بِمَفَازَةٍ» مفعول ثانٍ للفعل الأول، حذفت من الفعل الثاني، و «هُمْ» في «فلا يحسبنهم» مفعول أول للفعل الثاني، وهو محذوفٌ من الأولِ.
وإذا عرفت ذلك فالفعلُ الثاني - على هذه الأوجه الثلاثة - تأكيدٌ للأول.
وقال مكِّيٌّ: إن الفعل الثاني بدلٌ من الأولِ.
وفي تسمية مثل هذا بدلاً نظر لا يخفى، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر، فهو يرجع إلى معنى التأكيد. وكذلك قال بعضهم: والثاني مُعَاد على طريق البدل، مشوباً بمعنى التأكيدِ.
وعلى هذين القولين - أعني كونه تأكيداً، أو بدلاً - فالفاء زائدة، ليست عاطفة ولا جواباً.
قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} أصله: تحسبونَنَّهم، بنونين - الأولى نون الرفع، والثانية للتوكيد - وكتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة. وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل، وهو خاص بباب الظن، وبعدم وفقد دون سائر الأفعال. لو قلت: «أكرمتُني» ، أي: «أكرمت أنا نفسي» لم يجز.
وأما قراءة الكوفيين فالفعلانِ فيها مسندان إلى ضمير المخاطب إما الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو(6/106)
كل من يصلح للخطاب - والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثيرٍ، على قولنا إن الفعلَ الأولَ مسندٌ لضميرٍ غائبٍ، والفعل الثاني تأكيدٌ للأولِ، أو بدلٌ منه، والفاء زائدة، كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير، على قولنا: إن الفعلين مسندان للموصول؛ لأن الفاعل فيهما واحد، واستدلوا على أن الفاء زائدة بقول الشاعر: [الكامل]
1710 - لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِساً أهْلَكْتُهُ ... فَإذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذلِكَ فَاجْزَعِي
وقول الآخر: [الكامل]
1711 - لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِرْمُهَا ... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ
وقول الآخر: [الكامل]
1712 - حَتَّى تَرَكْتُ العَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ ... فَيَقُلْنَ: لا تَبْعَدْ، وَقُلْتُ لَهُ: ابْعَدِ
إلا أنَّ زيادةَ الفاءِ ليس رأي الجمهورِ، إنما قال به الأخفش.
وأما قراءة نافع وابن عامرٍ - بالغيبة في الأولِ، والخطاب في الثاني - فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين، والكلام فيهما يؤخذ مما تقدم، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به، إلا أنه ممتنع - هنا - أن يكون الفعل الثاني تأكيداً للأول، أو بدلاً منه؛ لاختلاف فاعليهما، فتكون الفاء - هنا - عاطفةً ليس إلا، وقال أبو علي في الحُجة -: إن الفاءَ زائدة، والثاني بدلٌ من الأولِ، قال: «وليس هذا موضع العطف لأن الكلامَ لم يتم، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يُذْكَر بَعْدُ» .
وفيه نظرٌ؛ لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.
وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيينَ.(6/107)
وأما قراءةُ الغيبةِ وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندانِ إلى ضميرٍ غائبٍ، أي: لا يحسبن الرسولُ، أو حاسبٌ.
والكلامُ في المفعولينِ للفعلينِ، كالكلام في القراءة التي قبلها، والثاني من الفعلين تأكيدٌ، أو بدلٌ، والفاءُ زائدةٌ - على هاتينِ القرائتينِ - لاتحادِ الفاعلِ.
وقرأ النَّخعِيُّ، ومروان بن الحكمِ «بما آتوا» ممدوداً، أي: أعْطُوا، وقرأ علي بن أبي طالبٍ «أوتوا» مبنياً للمفعول.
فصل
قال ابنُ عبّاسٍ: قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} هم اليهودُ، حرَّفوا التوراةَ، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يوصَفُوا بالديانةِ والفَضْلِ.
وقيل: سأل رسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اليهودَ عن شيء من التوراة، فأخبروه بخلافه، وفرحوا بذلك التلبيسِ وطلبوا أن يثنى عليهم بذلك.
وقيل: فرحوا بكتمان النصوص الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأحبوا أن يُحْمَدُوا بأنهم متبعون دين إبراهيم.
وقيل: هُم المنافقونَ، فرحوا بِنفَاقِهِمْ للمسلمينَ، وأحبُّوا أن يَحْمَدَهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإيمانِ.
وقيل: هم بعض المنافقينَ، تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الغَزْو، وفرحوا بقعودهم، واعتذروا، وطمعوا أن يُثَنَى عليهم بالاعتراف بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفَرِحوا بذلك الكتمان، وزعموا أنهم أبناءُ اللهِ وأحباؤهُ.
فصل
قال الفرّاءُ: «يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا» أي: بما فعلوا، كقوله: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم: 27] أي: فَعَلْتِ، وقوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} [النساء: 16] . قال الزمخشريُّ: «أتى وجاء تُسْتَعْملان بمعنى فَعَل قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [مريم: 61] ويدل عليه قراءة أبَي يفرحون بما فَعَلوا» .(6/108)
قوله: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} قد تقدم معناه في كيفية النظم {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} أي: بمنجاة من العذاب، من قولهم: فاز فلان - إذا نجا - أي: ليسوا بفائزين.
وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوَّز الرجل - إذا مات -.
وقال الفرّاءُ: أي: ببعيد من العذاب؛ لأن الفوز معناه التباعُد من المكروه، ثم حقَّق ذلك بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قوله: {مِّنَ العذاب} فيه وجهانِ:
أحدهما: أنه متعلق بمحذوف، على أنه صفة لِ «مَفَازَةٍ» أي: بمفازة كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنَا «مَفَازَةٍ» مكاناً، أي بموضع فَوْز.
قال أبو البقاء: «لأن المفازةَ مكان، والمكانُ لا يعملُ» .
يعني فلا يكون متعلقاً بها، بل محذوف، على أنه صفة لها، إلا أن جعله صفة مشكل؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها {مِّنَ العذاب} اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارُّ شيئاً خاصاً حتى يُصبح المعنى تقديره: بمفازة منجيةٍ من العذابِ، وفيه الإشكالُ المعروفُ، وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوف - في مثله - إلا كَوْناً مطلقاً.
الثاني: أن يتعلق بنفس «مفازة» على أنها مصدر بمعنى الفَوْز، تقول: فزت منه أي: نَجَوْت، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها، وليست الدالة على التوحيد.
كقوله: [الطويل]
1713 - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالمَوَارِدِ
فأعمل «رهبة» في «عقابك» وهو مفعول صريح، فهذا أولى.
قال أبو البقاء: «ويكون التقدير: فلا تحسبنهم فائزين، فالمصدر في موضع اسم الفاعلِ» .
فإن أراد تفسير المعنى فذاك، وإن أراد أنه بهذا التقدير - يصح التعلُّق، فلا حاجة إليه؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظاً ومعنىً.(6/109)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
قال القرطبيُّ: «هذا احتجاجٌ على الذين قالوا: إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء، وتكذيب لهم» .
وقيل: المعنى: لا تظنَّنَّ الفرحين ينجون من العذاب، فإنّ للهِ كُلّ شيء، وهم في قبضة القدير، فيكون معطوفاً على الكلام الأولِ، أي: إنهم لا ينجون من عذابه، يأخذهم متى شاء.(6/109)
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: لهم عذابٌ أليمٌ ممن له ملك السموات والأرض، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا المالك القادر؟(6/110)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
اعلم أنه - تعالى - لما قرَّر الأحكام، وأجاب عن شُبَه المُبْطِلين، عاد إلى ذِكْر ما يدل على التوحيد فذكر هذه الآية.
قال ابنُ عبيد قلت لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبكَتْ وأطالت، ثم قالت: «كُلُّ أمره عَجَبٍ، أتاني في ليلتي، فدخل في لحافي، حتى ألصق جِلدَه بجلدي، ثم قال لي: يَا عَائِشَة، هَلْ لَكِ أن تَأذَنِي لِي اللَّيْلةَ في عِبَادَةِ رَبِّي؟ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي لأحبُّكَ وأحِبُّ مُرَادَكَ، فَقَد أذِنْتُ لَكَ، فَقَامَ إلى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ في البيتِ، فَتَوَضَّأ، ولم يُكْثِرْ من صَبِّ الْمَاءِ، ثُمَّ قَامَ يُصلِّي، فَقَرأ مِنَ الْقُرْآنِ، وجَعَلَ يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَأَيْتُ دُمُوعَه قَدْ بَلَّتِ الأرْض فأتاه بلالٌ يُؤذنُهُ بِصَلاَةِ الْغَدَاةَ، فَرَآهُ يَبْكِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ؟ فَقَالَ: يَا بِلاَلُ، أفَلا أكثونُ عَبْداً شَكُوراً، ثُمَّ قَالَ: مَا لِيَ لا أبكي وَقَدْ أنْزَلَ اللهُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآيات، ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» . وروي: «ويلٌ لِمَنْ لاَكَها بَيْنَ فَكَّيْهِ وَلَمْ يَتَأمَّلْ فِيهَا.»
«وروي عن عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا قامَ من الليلِ يتسوكُ، ثم ينظر إلى السماء ويقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} » .
واعلم أنه - تعالى - ذكر هذه الآية في سورة البقرة، وختمها بقوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] وختمها هنا - بقوله: {لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} وذكر في سورة البقرة - مع هذه(6/110)
الدلائل الثلاثة - خمسة أنواعٍ أخر حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل، وهنا اكتفى بذكر ثلاثةٍ - وهي السموات والأرض والليل والنهار - فأمّا الأول فلأن العقلَ له ظاهرٌ، وله لُبٌّ، ففي أولِ الأمرِ يكون عقْلاً، وفي كمالِ الحالِ يكون لُبًّا، ففي حالةِ كمالِهِ لا يحتاجُ إلى كَثرة الدلائلِ، فلذلك ذكر له ثلاثةَ أنواعٍ من الدلائلِ، وأسقط الخمسةَ، واكتفى بذكر هذه الثلاثة؛ لأن الدلائل السماوية أقْهَر وأبْهَر، والعجائب فيها أكثر.
قوله: {الذين يَذْكُرُونَ الله} فيه خمسة أوجهٍ:
أحدهما: أنه نعت لِ {لأُوْلِي الألباب} فهو مجرور.
ثانيها: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين.
ثالثها: أنه منصوب بإضمار أعني. وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع كما تقدم.
رابعها: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: يقولون: ربنا. قاله أبو البقاء.
خامسها: أنه بدل من {لأُوْلِي الألباب} ذكره مكِّيٌّ، والأول أحسنها.
و {قِيَاماً وَقُعُوداً} حالانِ من فاعلٍ {يَذْكُرُونَ} و {وعلى جُنُوبِهِمْ} حال - أيضاً - فيتعلق بمحذوف، والمعنى: يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين، فعطف الحال المؤوَّلة على الصريحة، عكس الآية الأخْرَى - وهي قوله تعالى:
{دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} [يونس: 12]- حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة.
و {قِيَاماً وَقُعُوداً} جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن، وحينئذ يتأوَّلان على معنى: ذوي قيام وقعود، ولا حاجة إلى هذا.
فصل
قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عباس، والنَّخعيّ، وقتادة: هذا في الصلاة، يُصلي قائماً، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ.
وقال سائر المفسّرين: أراد به المداومة على الذكر في جميع الأحوال، لأن الإنسانَ قلما يخلو من إحدى هذه الحالات.
قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنها عطف على الصلة، فلا محلَّ لها.
والثاني: أنها في محل نصبٍ على الحالِ، عطفاً على {قِيَاماً} أي: يذكرونه متفكِّرين.
فإن قيل: هذا مضارع مثبت، فكيف دخلت عليه الواو؟ .(6/111)
فالجوابُ: أن هذه واو العطف، والممنوع إنما هو واو الحال.
و «خَلْق» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر على أصْله، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله.
الثاني: أنه بمعنى المفعول، أي: في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف، أي: يتفكرون فيما أودع اللهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها.
وقال أبو البقاء: «وأن يكون بمعنى المخلوق، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى» .
قال شِهَابُ الدّينِ: «وهذا كلامٌ متهافتٌ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل» .
فصل
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} وما أبدع فيهما؛ ليدلهم ذلك على قدرة الصانع، [ويعرفوا] أن لهلا مُدَبِّراً حَكِيماً.
وقال بعض العلماءِ: الفكرة تُذْهِب الغفلة، وتُحْدِث للقلب خشية، كما يُحْدث الماء للزرع والنبات، ولا أجليت القلوب بِمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفِكْرة.
واعلم أن دلائلَ التوحيدِ محصورةٌ في قسمين:
دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس، ولا شك أن دلائلَ الآفاق أجَلُّ وأعْظَمُ، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] فلذلك أمر بالتفكر في خلق السموات والأرض؛ لأن دلالتها أعجب، وكيف لا تكون كذلك لو أنَّ الإنسانَ نظرَ إلى ورقةٍ صغيرةٍ من أوراقِ شجرةٍ رأى في تلك الورقةِ عِرْقاً واحداً مُمْتداً في وَسَطها، ثم يتشعَّب من ذلك العرق عروقٌ كثيرةٌ من الجانبين، ثم بتشعَّب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرقٍ عروقٌ أخْرَى، حتى تصيرَ في الورقة بحيثُ لا يراها البَصَر، وعند هذا يعلم أن للحق في تدبير هذه الورقة على هذه الخلقة حِكَمَاً بَالِغَةً، وأسراراً عجيبةً، وان الله تعالى أودَعَ فيها قوةً جاذبةً لغذائها من قََعْر الأرض، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزَّع على كل جزءٍ من أجزاء تلك الورقةِ جُزْءٌ من أجزاء ذلك الغذاء - بتقدير العزيز العليم - ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقه على تلك الورقة، وكيفية التدبير في إيجادها، وإيداع القوى الغذائية والنامية فيها لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصرٌ عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات - مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم - وإلى الأرض - مع ما فيها من(6/112)
البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان - عرف أن تلك الورقة - بالنسبة إلى هذه الأشياء - كالعدم، فإذا اعترف بقصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير، عرف أنه لا سبيل لَهُ - ألبتة - إلى الاطلاع على عجائب حِكمته في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرض فلم يَبْقَ - مع هذا - إلا الاعترافُ بأنَّ الخالقَ أجَلّ وأعظم من أن يُحِيط به وَصْفُ الواصفينَ ومعارفُ العارفين، بل يسلّم أن كل ما خلق ففيه حِكَمٌ بالغة - وإن كان لا سبيلَ له إلى معرفتها - فعند ذلك يقول: {سُبْحَانَكَ} والمرادُ منه الاشتغال بالتهليل والتسبيح والتحميد، ويشتغل بالدعاء، فيقول: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .
قوله: {رَبَّنَآ} هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف، تقديره: يقولون، والجملة القولية فيها وجهان:
أظهرهما: أنها حال من فاعل «يَتَفَكَّرُونَ» أي: يتفكرون قائلين قائلين ربنا، وإذا أعربنا «يَتَفَكَّرُونَ» حالاً - كما تقدم - فيكون الحالان متداخلين.
والوجه الثاني: «هَذَا» إشارة إلى الخلق، إن أريد به المخلوق، وأجاز أبو البقاء - حال الإشارة إليه ب «هذا» - أن يكون مصدراً على حاله، لا بمعنى المخلوق، وفيه نظرٌ.
أو إلى السّموات والأرض - وإن كانا شيئين، كل منهما جمع - لأنهما بتأويلِ هذا المخلوق العجيب، أو لأنهما في معنى الجَمْعِ، فأشير إليهما كما يُشار إلى لفظِ الجمعِ.
قوله: «بَاطِلاً» في نصبه خمسةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: خَلْقاً باطلاً، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالاً من ضمير ذلك المصدر.
الثاني: أنه حالٌ من المفعولِ به، وهو «هَذَا» .
الثالث: أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ - وهو الباء - والمعنى: ما خلقتهما بباطلٍ، بل بحَقٍّ وقُدْرَةٍ.
الرابع: أنه مفعول من أجله، و «فاعل» قد يجيء مصدراً، كالعاقبة، والعافية.
الخامس: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «خلق» قالوا: و «خلق» إذا كانت بمعنى «جَعَلَ» التي تتعدى لاثنين، تعدّت لاثنين. وهذا غيرُ معروفٍ عند أهلِ العربيةِ، بل المعروف أن «جعل» إذا كانت بمعنى «خلق» تعدت لواحدٍ فقط.
وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالاً مِنْ «هَذَا» وهي حالٌ لا يُسْتَغنَى عَنْهَا؛ لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ، وهي كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الدخان: 38] .(6/113)
قوله: {سُبْحَانَكَ} تقدم إعرابه، وهو معترض بين قوله: {رَبَّنَآ} وبين قوله: {فَقِنَا} .
وقال أبو البقاء: «دخلت الفاء لمعنى الجزاءِ، والتقدير: إذا نَزهناك، أو وحَّدْناك فقنا» .
وهذا لا حاجةَ إليه، بل التسبب فيها ظاهرٌ؛ تسبب عن قولهم: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} طلبهم وقاية النار.
وقيل: هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه {سُبْحَانَكَ} من معنى الفعل، أي: سبحانك فقنا. وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء.
فصل
قالتِ المعتزلةُ: دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ كلَّ ما يفعله الله تعالى، فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد، ولأجل الحكمة، والمراد منها رعاية مصالح العباد، قالوا: لأنه لو لم يخلق السمواتِ والأرضَ لغرض كان خلقهما باطلاً، وذلك ضد هذه الآية، قالوا: وقوله: {سُبْحَانَكَ} تنزيهٌ له عن خَلْقِه لهما باطلاً.
وأجابَ الواحدي: بأنّ الباطل هو الذاهبُ الزائلُ؛ الذي لا يكون له قوةٌ ولا صلابةٌ ولا بقاءٌ، وخَلْق السمواتِ والأرض مُحْكَمٌ، مُتْقَنٌ، ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3] ؟ وقوله: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} [النبأ: 12] . فكان المرادُ من قوله: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} هذا المعنى، لا ما ذكره المعتزلة.
فإن قيل: هذا الوجهُ مدفوعٌ بوجوهٍ:
الأول: لو كان المرادُ بالباطلِ: الرخو، المتلاشي؛ لكان قوله: {سُبْحَانَكَ} تنزيهاً لهُ أنْ يخلق مثل الخلق، وذلك باطلٌ.
الثاني: أنه إنما يحسن وصل قوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه؛ لأن التقدير: ما خلقته باطلاً بغير حكمةٍ، بل خلقته بحكمةٍ عظيمةٍ. فعلى قولنا يحسن النظم، وعلى قولكم بشدة التركيب لم يحسن النَّظمُ.
الثالثُ: أنه - تعالى - ذكر هذا في آيةٍ أخْرى، فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} [ص: 27] وقال في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الدخان: 38 - 39] وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى الله الملك الحق} [المؤمنون: 115 و116] . أي: فتعالى الملك الحقُّ على أنْ يكونَ خلقه عَبَثاً، وإذا لم يكن عبثاً فامتناعُ كونِهِ باطلاً أولَى.
فالجواب: أنّ بديهةَ العقلِ شاهدةٌ بأنّ الموجودَ إما واجبٌ لذاته، وإما ممكن لذاته،(6/114)
وشاهدة بانّ كلَّ ممكنٍ لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ الخير والشر بقضاء اللهِ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكونَ المرادُ من الآية تعليلُ أفعالِ اللهِ - تعالى - بالمصالح وأما قوله: لو كان كذلك لكان قوله: {سُبْحَانَكَ} تنزيهاً عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة، وذلك باطلٌ، فجوابُهُ: لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ: ربنا ما خلقت هذا رخواً فاسدَ التركيب، بل خلقته صلباً محكماً؟ وقوله: {سُبْحَانَكَ} معناه: أنك إن خلقت السمواتِ والأرضَ صلبةً، شديدةً، باقيةً، فأنت منزهٌ عن الاحتياج إليه والانتفاع به.
وأما قولهم: إنما يحسن وصل قوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} به إذا فسَّرناه بقولنا، فالجوابُ: لا نسلم بل وجه النظم أنّ قوله: {سُبْحَانَكَ} اعتراف بكونه غنياً عن كل ما سواه، وإذا وصفه بالغنى يكون قد اعترف لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة، فقال: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وهذا الوجه أحسن في النظم.
وأما سائر الآيات التي ذكروها فهي دالةٌ على أن أفعاله منزهة عن اتصافها بالعبث، واللعب، والبطلان ونحن نقولُ بموجبه، وأنّ أفعَالهُ كُلَّها حكمةٌ وصوابٌ.
وقوله: {سُبْحَانَكَ} إقرارٌ بعجز العقولِ عن الإحاطة بآثار اللهِ في خلق السمواتِ والأرضِ. يعني أنَّ الخلقَ إذا تفكروا في هذهِ الأجسامِ العظيمةِ لم يعرفوا منها إلا هذا القدر.
والمقصود منه تعليم العبادِ كيفية الدعاء وآدابه، وذلك أنّ من أراد الدعاء فليقدم الثناءَ، ثم يذكر بعده الدعاء، كهذه الآيةِ.
قوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار} «من» شرطية، مفعول مقدم، واجب التقديم، لأن له صدرَ الكلام، و «تُدْخِل» مجزوم بها، و {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} جوابٌ لها.
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين:
الأول: أن تكون «من» منصوبة بفعل مقدَّر، يُفَسِّره قوله: {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} . وهذا غلطٌ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسَّر على ما هو منصوب، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدم على الشرط.
الثاني: أن تكون «مَنْ» مبتدأ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ. وهذان الوجهان غلط، والله أعلم. وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع؛ خبراً لِ «إنَّ» . ويقال: خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً - والأكثر الرباعي، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً - إذا افتضح - وخزايةً - إذا استحيا - فالفعلُ واحدٌ، وإنما يتميز بالمصدرِ.
قال الواحديُّ: الإخزاء - في اللغو - يَرِدُ على معانٍ يقرب بعضُها من بعض.
قال الزَّجَّاجُ: أخْزَى الله العدُوَّ: أي: أبعده.(6/115)
وقال غيره: أخزاه اللهُ: أي: أهانه.
وقال شمر: أخزاه اللهُ: أي: فضحه، وفي القرآن: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78] .
وقال المفضَّلُ: أخزاه الله: أي: أهلكه.
وقال ابنُ الأنباري: الخِزْي - في اللغة - الهلاك بتلف أو انقطاع حجة، أو وقوع في بلاء، وكل هذه الوجوه متقاربة.
وقال الزمخشريُّ: «فَقَدْ أخْزَيْتَهُ» أي: أبلغت في إخزائه.
فصل
قالت المعتزلةُ: هذه الآيةُ دالةٌ على أن صاحب الكبيرةِ - من أهل الصَّلاةِ - ليس بمؤمن؛ لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاهُ اللهُ؛ لدلالة هذه الآية، والمؤمن لا يخزى؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8] فوجب من [مجموع هاتين] الآيتين ألا يكن صاحب الكبيرةِ مؤمناً.
والجواب أن قوله: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً، وإنما يقتضي ألا يَحْصُلَ الإخزاءُ في وقتٍ آخَرَ.
وأجاب الواحديُّ في «البسيط» بثلاثة أجوبةٍ أُخَرَ.
أحدها: أنه نقل عن سعيد بن المُسَيَّبِ، والثوري، وقتادة، أن قوله: «فَقَدْ أخْزَيْتَهُ» مخصوصٌ بمن يدخل النّارَ للخلودِ. وهذا الجوابُ ضعيفٌ؛ لأن مذهبَ المعتزلةِ أنّ كلَّ فاسقٍ دخل النَّارَ، فإنَّما يدخلها للخلودِ فيها.
وثانيها: أن المُدْخَل في النار مخزًى في حال دخوله، وإن كان عاقبته أن يخرج منها. وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنَّ نفي الخِزْي عن المؤمنين على الإطلاق، وهذه الآيةُ دلت على حصول الخِزْي لكل من دخل النّارَ، فحصل بحُكم هاتين الآيتين - بين كونه مؤمناً، وبين كونه كافراً - من يدخل النار - منافاةٌ.
وثالثها: أنّ الإخزاءَ يحتمل وَجْهَيْن «:
أحدهما: الإهانة والإهلاك. وثانيهما: التخجيل، يقال: خَزِيَ خِزَايةً: إذا استحيا، وأخزاهُ غيرُه: إذا عمل به عملاً يُخْجله ويستحيي منه.
قال ابنُ الخطيبِ:» واعلم أنّ حاصلَ هذا الجوابِ: أنَّ لفظَ الإخزاءِ مشتركٌ بين التخجيلِ وبين الإهلاكِ، واللفظُ لا يمكن حَمْله في طرفي النفي والإثبات على(6/116)
معنييه جميعاً، وإذا كانَ كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8] غير المثبت في قوله: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وعلى هذا يسقط الاستدلالُ، إلا أنّ هذا الجوابَ إنما يتمشى إذا كان لفظُ الإخزاء مشتركاً بين هذين المفهومين، أما إذا كان لفظاً متواطئاً، مفيداً لمعنًى واحدٍ وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحديُّ نوعين تحت جنس واحدٍ، سقط هذا الجوابُ؛ لأن قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8] لنفي الجنس، وقوله: «فقد أخزيته» لإثبات النوع، وحينئذ تحصل المنافاةُ بينهما «.
قال القرطبيُّ:» وقال أهل المعاني: الخِزي أن يكون بمعنى الحياء، يقال: خَزِيَ يَخْزَى خزايةً إذا استحيا، فهو خَزْيان.
قال ذو الرمة: [البسيط]
1714 - خَزَايَةً أدْرَكَتْهُ عِنْدَ جُرْأتِهِ ... مِنْ جَانِبِ الحَبْلِ مَخْلُوطاً بِهَا الْغَضَبُ
فخِزْي المؤمنينَ - يومئذٍ - استحياؤهم في دخول النَارِ من سائرِ أهلِ الأدْيَانِ إلى أن يخرجوا مِنْهَا، والخِزْي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موتٍ، والمؤمنون يموتون، فافترقوا، كذا ثبت في صحيح السنة، من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، أخرجه مسلمٌ «.
فصل
احتجت المرجئة بهذه الآيةِ في القطعِ بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يُخْزَى، وكل مَنْ دخل النَّار فإنه يُخْزَى، فيلزم القطع بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يدخل النارَ، وإنما قُلْنا: صاحبُ الكبيرةِ لا يُخْزَى؛ لأن صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ، والمؤمنُ لا يُخْزَى، وإنما قلنا: إنه مؤمنٌ؛ لقوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] سمي الباغي - حال كونِهِ باغياً - مؤمناً، والبغي من الكبائر بالإجماع، وأيضاً قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] سمى القاتلَ - بالعَمْد العدوان - مؤمناً، فثبت أنَّ صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ، وإنما قلنا: إن المؤمن لا يُخْزَى؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8] ولقوله:
{وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 194] ، ثم قال: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] وهذه الاستجابة تدل على أنه - تعالى - لا يخزي المؤمنين، فثبت أن صاحبَ الكبيرِ لا يُخْزَى وكل مَنْ دخل النار فإنه يُخْزَى؛ لقوله تعالى: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} فثبت - بهاتين المقدمتين - أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار.
والجوابُ: ما تقدم من أن قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8] إنما يدل على نَفْي الإخزاء مع النَّبِيّ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقتٍ آخرَ.(6/117)
عموم هذه الآية مخصوصٌ في مواضع، منها قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] ثم قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} [مريم: 72] وأهل الثَّوابِ مصونونَ عن الحِزْي.
ومنها: أنَّ الملائكةَ - الذين هم خَزَنَة جَهَنَّم يكونون في النَّارِ، وهُمْ - أيضاً - مصونونَ عَنِ الخزي، قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] .
قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} «مِنْ» زائدة، لوجودِ الشَّرْطَيْنِ، وفي مجرورها وجهانِ:
أحدهما: أنه مبتدأ، وخبره في الجارّ قبله، وتقديمه - هنا - جائزٌ لا واجبٌ؛ لأنَّ النفي مسوَّغٌ وحَسَّن تقديمه كونُ مبتدئه فاصلةً.
الثاني: أنه فاعل بالجارِّ قبله، لاعتماده على النفي، وهذا جائزٌ عند الجميعِ.
فصل
تمسَّك المعتزلةُ بهذه الآيةِ في نَفْي الشفاعةِ للفسَّاق؛ وذلك لأن الشفاعة، نوع نُصْرَةٍ، ونَفْي الجنس يقتضي نَفْيَ النَّوعِ، والجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: أن القرآنَ دلَّ على أنّ الظالمينَ - بالإطلاقِ - هم الكفَّارُ، قال تعالى: {والكافرون هُمُ الظالمون} [البقرة: 254] ويؤكّده ما حكى عن الكفار من نفيهم الشفعاء والأنصار في قولهم: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] .
ثانيها: أنَّ الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن اللهِ تَعَالَى، قال تعالى: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيعُ قادراً على النُّصرَةِ إلا بعد الإذن، وإذا حصل الإذن ففي الحقيقة إنما ظهر العفو من اللهِ تَعَالَى، فقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} يُفيد أنه لا حكمَ إلا لله، كما قال: {أَلاَ لَهُ الحكم} [الأنعام: 62] وقال: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] .
فإن قيل: فعلى هذا التقديرِ لا يبقى لتخصيص الظالمينَ - بهذا الحكمِ - فائدةٌ.
فالجوابُ: بل فيه فائدةٌ، لأنه وعد المؤمنينَ المتقينَ في الدُّنْيَا بالفوزِ بالثَّوابِ، والنجاةِ من العقابِ، فلهم يومَ القيامةِ هذه المنزلةُ، وأما الفُسَّاقُ فليس لهم ذلك، فصَحَّ تخصيصهم بنَفْي الأنصارِ على الإطلاقِ.
ثالثها: أن هذه الآيةَ عامةٌ، والأحاديثُ الواردةُ بثبوتِ الشفاعةِ خاصةٌ، والخاصُّ مقَدَّم على العامّ.(6/118)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
«سمع» إن دخلت على ما يصح أن يُسْمَعَ - نحو: سمعتُ كلامكَ وقراءتك - تَعَدَّتْ لواحدٍ، فإن دخلت على ما يصح سماعهُ - بأن كان ذاتاً - فلا يصحُّ الاقتصارُ عليه وَحْدَه، بل لا بد من الدلالة على شيء يُسْمَع، نحو سمعتُ رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم، وللنحويين - في هذه المسألة - قولانِ:
أحدهما: أنها تتعدى فيه - أيضاً - إلى مفعولٍِ واحدٍ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة، أو حالاً، إن كان معرفة.
والثاني: - قول الفارسيُّ وجماعة -: أنها تتعدى لاثنين، والجملة في محلِّ الثاني منهما، فعلى قول الجمهورِ يكون «يُنَادِي» في محل نَصْبٍ، لأنهُ صفةٌ لمنصوبٍ قبلهُ، وعلى قول الفارسيِّ يكون في محل نصْبٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ.
وقال الزمخشريُّ: «تقول: سمعت رجلاً يقولُ كذا، وسمعت زيداً يتكلمُ، فتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع؛ لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالاً منه، فأغناك عن ذِكْره، ولولا الوصف أو الحالُ لم يكن منه بُدٌّ، وأن تقول: سمعتُ كلامَ فلانٍ أو قَوْلَهُ» .
وهذا قولُ الجمهورِ المتقدم ذِكره.
إلا أن أبا حيّان اعترض عليه، فقال «وقوله: ولولا الوصفُ أو الحالُ ... إلى آخره، ليس كذلك، بل لا يكونُ وَصْفٌ ولا حالٌ، ويدخل» سَمِعَ «على ذات على مسموع، وذلك إذا كان في الكلام ما يُشْعِر بالمسموع - وإن لم يكن وَصْفاً ولا حالاً - ومنه قوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء: 72] فأغنى ذكر طرف الدعاء عن ذكر المسموع» .
وأجاز أبو البقاء في «يُنَادِي» أن تكون في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير المستكن في «مُنَادِياً» . فإن قيل: ما الفائدة في الجمع بين «مُنَادِياً» و «يُنَادِي» ؟
فأجاب الزمخشريُّ بأنه ذَكَر النداء مطلقاً، ثم مقيَّداً بالإيمانِ، تفخيماً لشأن المُنَادِي؛ لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ ينادي للإيمان، ونحوه قولك: مررت بهادٍ يهدي للإسلام، وذلك أن المنادِيَ إذا أطلق ذهب الوَهم إلى منادٍ للحرب، أو لإطفاء الثائرة، أو لإغاثة المكروبِ، أو لكفاية بعض النوازلِ، أو لبعض المنافعِ وكذلكَ الهادي يُطلق على مَنْ يهدي للطريق، ويهدي لسدادِ الرأي، وغير ذلك فإذا قُلْتَ: ينادي للإيمان، ويهدي للإسلام فقد رَفَعْتَ من شأن المنادِي والهادي وفخّمته.(6/119)
وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبةٍ:
أحدها: التوكيد، نحو: قُم قَائِماً.
الثاني: أنه وصل به ما حسَّن التكرير، وهو الإيمان.
الثالث: أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون «سَمِعَ» مقروناً بالنداء بذكر ما ليس بنداءٍ، فلمَّا قال: «يُنَادي» محذوفٌ، أي: ينادي في الناس، وبجوز ألا يُرادَ مفعول، نحو: أمات وأحيا.
ونادى ودعا يتعديان باللام تارةٌ، وب «إلى» أخرى، وكذلك نَدَبَ.
قال الزمخشريُّ: وذلك أن معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً، فاللام في موضعها ولا حاجةَ إلى أن يقالَ: إنها بمعنى «إلى» ولا أنها بمعنى الباء، ولا أنها لام العلة - أي: لأجل الإيمان - كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملاً على الرشد وكان كل مَنْ تأمَّلَه وَصَلَ به إلى الهدى - إذا وفَّقه الله لذلك - صار كأن يدعو إلى الهُدَى، وينادي يما فيه من أنواعِ الدلائلِ، كما قيل - في جهنم -: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى} [المعارج: 17] إذْ كان مصيرهم إليها.
فصل
اختلفوا في المراد بالمنادِي: فقال ابنُ مسعود، وابنُ عباسٍ، وأكثرُ المفسّرين: يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال القرطبيُّ: يعني القرآن؛ إذ ليس كلهم سَمِعَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودليلُ هذا القولِ ما أخبر اللهُ - تعالى - عن مؤمني الجِنِّ إذْ قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1 - 2] . قوله: «أَنْ آمَنُوا» في «أن» قولان:
أحدهما: أنها تفسيرية؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعرابِ.
ثانيهما: أنها مصدرية، وصلت بفعل الأمرِ، وفي وَصْلِها به نظرٌ، من حيثُ إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية، واستدلوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم. كتبت إليه بأن قُمْ فهي - هنا - مصدرية [ليس إلا، وإلا يلزم عدم تعلُّق حرف الجر، وإذا قيل بأنها مصدرية] فالأصل التعدي إليها بالباء، أي: بأن آمنوا، فيكون فيها المذهبانِ المشهورانِ - الجرُّ والنصبُ.
قوله: «فآمَنَّا» عطف على ما «سَمِعْنَا» والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبولِ وتسبب الإيمانِ على السَّماع من غير مُهْلَة، والمعنى: فآمنا بربنا.(6/120)
قوله: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} اعلم أنهم قد طلبوا من الله في هذا الدعاءِ ثلاثةَ أشياءٍ:
أحدهَا: غفران الذنوب، والغفران: هو الستر والتغطية.
ثانيها: التكفير، وهو التغطية - أيضاً - يقال: رجل مُكَفَّرٌ بالسِّلاح - أي: مُغَطَّى - ومنه الكُفْر - أيضاً -
قال الشاعرُ: [الكامل]
1715 - ... ... ... ... ... ... ..... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلاَمُهَا
فالمغفرة والتكفير - بحسب اللغة - معناهما شيء واحد، وأما المفسرون فقال بعضهم: المرادُ بهما شيءٌ واحدٌ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد؛ لأن الإلحاحَ والمبالغة في الدعاء أمرٌ مطلوبٌ.
وقيل: المرادُ بالأول ما تقدم من الذنوب، وبالثاني المستأنفُ.
وقيل: المرادُ بالغُفْران ما يزول بالتوبة، وبالتكفير ما تكفِّره الطاعةُ العظيمةُ.
وقيل: المرادُ بالأولِ: ما أتى به الإنسانُ مع العلمِ بكونهِ معصية، وبالثاني ما أتى به مع الجَهْل.
ثالثها: قوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} أي: توفَّنا معدودين في صُحْبَتِهم، فيكون الظرفُ متعلِّقاً بما قَبْلهُ، وقيل: تُجَوَّزَ به عن الزمان ويجوز أن يكون حالاً من المفعول، فيتعلق بمحذوف.
وأجازَ مَكِّيٍّ، وأبو البقاءِ: أن يكون صفة لموصوف محذوف، أي: أبراراً مع الأبرارِ، كقوله: [الوافر]
1716 - كأنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ
أي: كأنك جمل من جمال.
قال أبو البقاء: « [تقديره] أبراراً مع الأبرار، وأبراراً - على هذا - حالٌ» . والأبرار يجوز أن يكونَ جمع بارّ - كصاحب وأصحاب، ويجوز أن يكون جمع بَرٍّ، بزنة: كَتِف وأكتاف، ورَبّ وأرْبَاب.
قال القفّالُ: في تفسير هذه المعية وجهانِ:
أحدهما: أن وفاتهم معهم: هي أن يموتوا على مثل أعمالهم، حتى يكونوا في درجاتهم يومَ القيامةِ، كما تقول: أنّا مع الشافعي في هذه المسألة، أي: مساوٍ له في ذلك الاعتقادِ.(6/121)
ثانيهما: أنّ المرادَ منه كونُهم في جُملة أتباع الأبرار، كقوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين} [النساء: 69] .
فصل
احتجوا بهذه الآية على حصول العفو بدون التوبة من وجهين:
الأول: أنهم طلبوا المغفرةَ مطلقاً، ثم أجابهم الله تعالى بقوله: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] وهذا صريحٌ في أنه - تعالى - قد يغفرُ الذنبَ وإنْ لم توجد التوبةُ.
الثاني: أنه - تعالى - حكى عنهم إخبارَهم بإيمانهم، ثم قالوا: {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} فأتى بفاء الجزاء وهذا يدلُّ على أنّ مجردَ الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى أجابَهُمْ بقوله: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] فدلت هذه الآيةُ على أنَّ مجردَ الإيمانِ سببٌ لحصول الغُفْرانِ، إما ابتداء - بأن يعفوَ عنه، ولا يُدخلَهم النار - بأن يُعَذِّبهم مدةً، ثم يعفوَ عنهم، ويُخْرِجَهم من النار.
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} في هذا الجارّ ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلق ب «وعدتنا» .
قال الزمخشريُّ: «على - هذه - صلة للوعد، كما في قولك: وعد الله الْجَنَّةَ على الطَّاعَةِ، والمعنى: ما وعدتنا مُنَزَّلاً على رسلك، أو محمولاً على رسلك؛ لأنَّ الرُّسُلَ مُحَمَّلون ذلك قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} [النور: 54] .
وردَّ عليه أبو حيّان: بأنَّ الذي قدَّره محذوفاً كون مقيّد، وقد عُلِم من القواعد أنَّ الظرفَ والجارَّ إذا وقعَا حالَيْن، أو وَصْفَيْن، أو خَبَرَيْن، أو صِلَتَيْن تعلُّقاً بكون مطلق، والجار - هنا - وقع حالاً، فكيف يقدر متعلقه كوناً مقيَّداً، وهو منزَّل، أو محمول؟
ثالثها: - ذكره أبو البقاء - أن يتعلق» على «ب» آتِنَا «وقدر مضافاً، فقال: على ألْسِنة رسُلك وهو حسن. وقرأ الأعمشُ: على رُسُلِكَ - بسكون السّينِ.
فإن قيل: إن الخُلْف في وَعْد اللهِ - تعالى - محالٌ، فكيف طلبوا ما علموا أنه واقع لا محالة؟
فالجوابُ من وجوهٍ:
الأول: أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعلِ، بل المقصود منه إظهارُ الخضوعِ والذَّلَّة والعبودية، وقد أمِرْنا بالدعاء بأشياء نقطع بوجودها لا محالة كقوله: {قَالَ رَبِّ(6/122)
احكم بالحق} [الأنبياء: 111] وقوله:
{فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] .
الثاني: أنَّ وعدَ اللهِ لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم، بل بحسب أوصافهم، فإنه - تعالى - وعد المتقين بالثوابِ، ووعد الفُسَّاقَ بالعقاب، فقوله: {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} معناه: وفَّقْنا للأعمال التي نصير بها أهلاً لوعدك، واعصمْنا من الأعمال التي نصير بها أهلاً للعقابِ والخِزْي.
الثالث: أن اللهَ - تَعَالَى - وعد المؤمنينَ بأن ينصُرَهُمْ في الدُّنُيَا على أعدائِهِم، فهُم طلبوا تعجيل ذلك.
فصل
دلَّت الآية على أنَّهُم إنَّمَا طلبوا منافعَ الآخرةِ بحُكْم الوعدِ لا بحُكْم الاستحقاق؛ لقولهم: {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} ثم قالوا: {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} وهذا يدلُّ على أنَّ المقتضي لحصول منافع الآخرةِ هُوَ الوَعْدُ لا الاستحقاقُ.
فإن قيلَ: متى حصل الثوابُ لزم اندفاعُ العقابِ لا محالةَ، فلما طلبوا الثَّوابَ بقولهم: {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} كيف طلبوا ترك العقاب بقولهم: {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} بل لو طلب ترك العقاب - أولاً - ثم طلب الثَّوابَ بعده لاستقام الكلامُ؟
فالجوابُ من وجهينِ:
الأول: أن الثَّوابَ شرطه أن يكون منفعة مرونة بالتعظيم والسرور، فقوله: {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} المراد منه المنافعُ وقوله: {وَلاَ تُخْزِنَا} المرادُ منه التعظيمُ.
الثاني: ما تقدم من أنَّ المقصودَ طلب التوفيق إلى الطاعة، والعصمة عن المعصية، كأنه قيل: وفقنا للطاعات، وإذا وفقتنا فاعصمنا عما يبطلها، ويوقعنا في الخزي. وعلى هذا يحسن النظم. و «الميعاد» مصدر بمعنى الوَعْد.
قوله: {يَوْمَ القيامة} فيه وجهان:
الأول: أنه منصوب ب {وَلاَ تُخْزِنَ} .
والثَّاني: أنه أجاز أبو حيَّان أن يكونَ من باب الإعمالِ؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً ب {وَلاَ تُخْزِنَ} وب {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} إذا كان الموعود به الجنة.
{فاستجاب(6/123)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
} لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب {} بمعنى: أجَابَ ويتعدى بنفسه وباللام، وتقدم تحقيقه في قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} .(6/123)
ونقل تاج القراء أن «أجَابَ» عام، و «اسْتَجَابَ» خاص في حصول المطلوب.
قال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وقال جعفر الصادق: من حزبه أمرٌ فقال خمس مرات «ربَنا» نجّاه مما يخاف، وأعطاه ما أراد، قيل: وكيف ذلك؟ قال اقرءوا: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً} [آل عمران: 191] إلى قوله: {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 194] .
قوله تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ} الجمهور على فتح «أن» والأصل: بأني، فيجيء فيها المذهبان، وقل أن يأتي على هذا الأصل، وقرأ عيسى بن عمر بالكسر، وفيها وجهان:
أحدهما: على إضمار القول أي: فقال: إني.
والثاني: أنه على الحكاية ب «استجاب» ؛ لأن فيه معنى القول، وهو رأي الكوفيين.
قوله: «لا أضيع» الجمهور على «أضيع» من أضاع، وقرئ بالتشديد والتضعيف، والهمزة فيه للنقل كقوله: [الطويل]
1717 - كمُرْضِعَةٍ أوْلاَدَ أخْرَى وَضَيَّعَتْ ... بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلالُ عَنِ الْقَصْدِ
قوله: «منكم» في موضع جر صفة ل: «عامل» ، أي: كائناً منكم.
قوله: «من ذكر وأنثى» فيه خمسة أوجهٍ:
أحدها: أن «مِنْ» لبيان الجنسِ، بيِّن جنس العامل، والتقدير: الذي هو ذكرٌ أو أنثى، وإن كان بعضهم قد اشترطَ في البيانيةِ أن تدخلَ على معرَّفٍ بلامِ الجنسِ.
ثانيها: أنَّهَا زائدةٌ، لتقدم النفي في الكلام، وعلى هذا فيكون {مِّن ذَكَرٍ} بدلاً من نفس «عَامِلٍ» ، كأنه قيل: عامل ذكر أو أنثى، ولكنْ فيه نظرٌ؛ من حيثُ إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه «من» .
ثالثها: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكن في «مِنْكُمْ» ؛ لأنه لما وقع صفة تحمَّل ضميراً، والعامل في الحال العامل في «مِنْكُمْ» أي: عامل كائن منكم كائناً من ذكر.
رابعها: أن يكون «مِنْ ذكرٍ» بدلاً من «مِنْكُمْ» ؛ قال أبو البقاء: «وهو بدلُ الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة» .
يعني فيكون بدلاً تفصيليًّا بإعادة العامل، كقوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [(6/124)
الأعراف: 75] وقوله: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] وفيه إشكالٌ من وجهينِ:
الأول: أنه بدل ظاهر من حاضر في بدل كل من كل، وهو لا يجوز إلا عند الأخفش، وقيَّد بعضُهم جوازه بأن يفيد إحاطة، كقوله: [الطويل]
1718 - فَمَا بَرِحَتْ أقْدامُنَا فِي مَكَانِنَا ... ثَلاَثَتُنَا حَتَّى أرينَا الْمَنَائِيَا
وقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] فلما أفاد الإحاطةَ والتأكيدَ جاز، واستدل الأخْفَش بقول الشَّاعرِ: [البسيط]
1719 - بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وَأمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا
وقول الآخرِ: [الطويل]
1720 - وَشَوْهَاءَ تَعْدُو بِي إلَى صَارِخِ الْوَغَى ... بِمُسْتَلئِمٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُدَجَّلِ
ف «قريش» بدلٌ من «كم» و «بمستلئم» بدل من «بي» بإعادة حرف الجر، وايس ثَمَّ إحاطة ولا تأكيد، فمذهبه يتمشى على رأي الأخفشِ دون الجمهورِ.
الثاني: أن البدلَ التفصيليّ لا يكون ب «أو» إنما يكون بالواو؛ لأنها للجمع.
كقولِ الشّاعرِ: [الطويل]
1721 - وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيِنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
ويُمكن أن يجابَ عنه بأن «أو» قد تأتي بمعنى الواو.
كما في قول الشّاعرِ: [الكامل]
1722 - قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَتَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سَافِعِ
ف «أو» بمعنى الواو، لأن «بين» لا تدخل إلا على متعدد، وكذلك هنا لما كان «عامل» عاماً أبْدِلَ منه على سبيل التوكيدِ، وعطف على أحد الجزأين ما لا بد له منه؛ لأنه لا يؤكَّد العموم إلا بعموم مثله.(6/125)
خامسها: أن يكون {مِّن ذَكَرٍ} صفة ثانية لِ «عامل» قصد بها التوضيح، فيتعلق بمحذوف كالتي قبلها.
قوله: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} مبتدأٌ وخبرٌ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ:
الأولُ: أنَّ هذه الجملةَ استئنافيةٌ، جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجالِ في الثَّواب الذي وَعَدَ الله به عباده العاملين؛ لأنه روي في سبب النزولِ، أنَّ أمَّ سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: يَا رَسُولَ اللهِ إني لأسْمَع الله يذكر الرِّجَالَ في الهجرة، ولا يذكر النَِّسَاءَ، فنزلت الآية.
والمعنى: كما أنكم من أصلٍ واحدٍ، وأن بعضكم مأخوذٌ من بعضٍ، كذلك أنتم في ثواب العملِ، لا يُثابُ عامل دون امرأةٍ عاملةٍ. وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بأنها جملة معترضة، قال: «وهذه جملةٌ معترضةٌ ثبت بها شركة النساءِ مع الرّجال فيما وعد اللهُ عباده العاملينَ» .
ويعني بالاعتراض أنها جيء بها بين قوله: {عَمَلَ عَامِلٍ} وبين ما فُصِّل به عملُ العاملِ من قوله: {فالذين هَاجَرُواْ} ولذا قال الزمخشريُّ: {فالذين هَاجَرُواْ} تفصيل لعمل العاملِ منهم على سبيل التعظيمِ لَهُ.
الثاني: أنَّ هذه الجملَة صِفَةٌ.
الثالث: أنَّها حالٌ، ذكرهما أبو البقاءِ، ولم يُعيِّن الموصوف ولا ذا الحال، وفيه نظرٌ.
قال الكلبي: «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» في الدين والنصرة والموالاة.
وقيل: كلكم من آدم وحوَّاء، وقال الضّحّاك: [رجالكم] شكب نسائكم، ونساؤكم شكل رجالِكم في الطاعات؛ لقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] .
وقيل: «مِنْ» بمعنى اللامِ، أي: بعضكم لبعض ومثل بعض في الثّواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
قال القفَّالُ: هذا من قولكم: فرن مني، أي: عَلَى خلقي وسيرتي. قال تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة: 249] وقال عليه السَّلامُ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» فقوله: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} أي: بعضكم شبه بعض في استحقاق الثوابِ على الطَّاعة والعقاب على المعصية.
فصل
ليس المرادُ أنه لا يُضِيع نفس العمل؛ لأن العملَ - كما وجد - تلاشى وفني، بل المرادُ أنه لا يُضِيع ثوابَ العملِ، والإضاعة: عبارة عن تَرْكِ الإثابةِ، «لاَ أضِيعُ» نفي للنفي، فيكون إثباتاً، فيصير المعنى: إني أوَصِّل ثوابَ أعمالِكم إليكم، وإذا ثبت(6/126)
ذلك فالآية دالَّةٌ على أن أحَداً من المؤمنين لا يُخَلَّد في النار؛ لأنه بعلمه الصالح استحق ثواباً، وبمعصيته استحق عقاباً، فلا بد من وصولهما إليه - بحكم هذه الآية - والجمع بينهما مُحَالٌ، فإما أن يقدم الثواب، ثم يعاقب، وهو باطلٌ بالإجماعِ، أو يقدم العقاب، ثم ينقل إلى الثّوابِ. وهو المطلوب.
فإن قيلَ: القوم طلبوا - أولاً - غفران الذنوب، وثانياً: إعطاء الثواب، فقوله: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} إجابة لهم في إعطاء الثواب، فأين الجوابُ في طلب غُفْران الذنوب.
فالجواب أنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب، لكن يلزم من حصول الثّوابِ إسقاط العذاب فصار قوله: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} إجابةً لدعائهم في المطلوبَيْن.
قال ابنُ الخطيبِ: «وعندي - في الآية - وَجْه آخر، وهو أن المراد من قوله: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} أي لا يضيع دُعاءكم. وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه» .
قوله: {فالذين هَاجَرُواْ} مبتدأ، وقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} جواب قسم محذوف، تقديره: والله لأكَفِّرَنَّ، وهذا القسم وجوابه خبر لهذا المبتدأ. وفي هذه الآية ونظائرها من قوله تعالى: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقولِ الشاعر: [الكامل]
1723 - جَشَأتْ فَقُلْتُ اللَّذْ جَشَأتِ لَيَأتِيَنْ ... وَإذَا أتَاكِ فَلاَتَ حِينَ مَنَاصِ
رَدٌّ على ثعلبٍ؛ حيث زعم أن الجملةَ القسميةَ لا تقع خبراً، وله أن يقول: هذه معمولة لقول مُضْمَر هو الخبرُ - وله نظائر.
والظاهرُ أن هذه الجُمَل - التي بعد الموصولِ - كُلَّها صِلات له، فلا يكون الخبرُ إلا لمن جمع بين هذه الصفاتِ: المهاجرة، والقَتْل، والقتال.
ويجوز أن يكون ذلك على التنويع، ويكون قد حَذف الموصولات لفَهْم المعنى وهو مذهب الكوفيين كما تقدم، والتقدير: فالذين هاجروا والذين أخْرِجوا، والذين قاتلوا: فيكون الخبر بقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} عمن اتصف بواحدةٍ من هذه. وقرأ جمهورُ السبعة: «وَقَاتَلُوا وَقُتِلوا» ببناء للفاعلِ من المفاعَلةِ، والثاني للمفعول، وهي قراءة واضحة. وابنُ عامرٍ، وابن كثيرٍ كذلك، إلا أنهما شدَّدَا التاء من «قُتلوا» للتكثير،(6/127)
وحمزة والكسائي بعكس هذا، ببناء الأولِ للمفعول، والثاني للفاعلِ، وتوجيه هذه القراءة بأحدِ معنيينِ:
الأول: أنّ الواو لا تقتضي الترتيب، كقوله:
{واسجدي واركعي} [آل عمران: 43] فلذلك قدم معها ما هو متأخرٌ عنها في المعنى، هذا إن حَمَلْنا ذلك على اتحاد الأشخاصِ الذِينَ صدر منهم هذانِ الفعلانِ.
الثاني: أن تحمل ذلك على التوزيع، أي: منهم مَنْ قُتِلَ، ومنهم مِنْ قاتل كقولهم: قُتِلْنا ورَبِّ الكعبة إذا ظهرت أماراتُ القتلِ فيهم وهذه الآيةُ في المعنى كقوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] والخلافُ في هذه كالخلافِ في قوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111] والتوجيهُ هناك كالتوجيهِ هنا. وقرأ عمر بن عبد العزيز وقَتَلوا وقُتِلوا - ببناء الأولِ للفاعل، والثاني للمفعول - من «فعل» ثلاثياً، وهي كقراءة الجماعة، وقرأ محارب بن دثار: وقَتَلوا وقَاتَلُوا - ببنائهما للفاعل - وقرأ طلحة بن مُصرِّف: وقُتِّلوا وقاتلوا، كقراءة حمزة والكسائي، إلا أنه شدد التاء، والتخريج كتخريج قراءتهما. ونقل أبو حيّان - عن الحسنِ وأبي رجاء - قاتلوا وقتّلوا، بتشديد التاءِ من «قُتّلوا» وهذه هي قراءة ابن كثيرٍ وابن عامرٍ - كما تقدم - وكأنه لم يعرف أنها قراءتهما.
فصل
هذه في المهاجرينَ الذين أخرجهم المشركون من ديارهم، فقوله: {وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي} أي: في طاعتي وديني.
{لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً} قوله: «ثواباً» في نصبه ثمانية أوجهٍ:
أحدها: أنه نصب على المصدر المؤكد؛ لأن معنى الجملةِ قبله تقتضيه، والتقدير: لأثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً، فوضع «ثَوَاباً» موضع أحد هذينِ المصدرينِ؛ لأن الثوابَ - في الأصل - اسم لما يُثَابُ به، كالعطاء - اسم لما يُعْطَى - ثم قد يقعان موضع المصدر، وهو نظير قوله: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] و {وَعْدَ الله} [القصص: 13] في كونهما مؤكدينِ.
ثانيهما: أن يكون حالاً من «جَنَّاتٍ» أي: مثاباً بها - وجاز ذلك وإن كانت نكرة؛ لتخصصها بالصفة.(6/128)
ثالثها: أنها حالٌ من ضمير المفعول، أي: مثابين.
رابعها: أنه حالٌ من الضمير في «تَجْرِي» العائد على «جَنَّات» وخصَّص أبو البقاء كونه حالاً بجَعْله بمعنى الشيء المُثَاب بِهِ، قال: وقد يقع بمعنى الشيء المثاب به، كقولك: هذا الدرهم ثوابك، فعلى هذا يجوز أن يكونَ حالاً من [ضمير الجنّاتِ، أي: مثاباً بها، ويجوز أن يكون حالاً من] ضمير المفعول به في «لأدْخِلَنَّهُم» .
خامسها: نصبه بفعل محذوف، أي: نعطيهم ثواباً.
سادسها: أنه بدل من «جَنَّاتٍ» وقالوا: على تضمين «لأدْخِلَنَّهُمْ» لأعْطِيَنَّهُمْ، لما رأوا أنَّ الثوابَ لا يصح أن ينسب إليه الدخولُ فيه، احتاجوا إلى ذلك.
ولقائل أن يقول: جعل الثواب ظرفاً لهم، مبالغة، كما قيل في قوله: {تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] .
سابعها: أنه نصب على التمييز، وهو مذهب الفرّاء.
ثامنها: أنه منصوبٌ على القطعِ، وهو مذهبُ الكسائيّ، إلا أن مكِّياً لما نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحالِ، وعلى الجملة فهذانِ وجهانِ غريبانِ.
وقوله: {مِّن عِندِ الله} صفةٌ له، وهذا يدل على كون ذلك الثَّوابِ في غايةِ الشرف، كقول السلطانِ العظيم: أخلع عليك خلعة من عندِي.
قوله: {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} الأحسن أن يرتفع {حُسْنُ الثواب} على الفاعلية بالظرف قبله؛ لاعتماده على المبتدأ قَبْله، والتقدير: والله استقر عنده حُسْنُ الثَّوابِ.
ويجوز أن يكون مبتدأ، والظرف قبله خبره، والجملة خبرُ الأولِ.
وإنما كان الوجه الأول أحسنَ؛ لأنّ فيه الإخبار بمفرد - وهو الأصل - بخلاف الثّانِي، فإنَّ الإخبار فيه بجملة وهذا تأكيد لكونه ذلك الثوابِ في غايةِ الشرفِ.(6/129)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
الغرور: مصدر قولك: غَرَرْت الرجل بما يستحسنه في الظاهر، ثم يجده - عند التفتيش - على خلاف ما يجب.
نزلت في المشركينَ، وذلك أنهم كانوا في رخاءٍ ولينٍ من العيش وتنعم، فقال بعض المؤمنينَ: إنَّ أعداءَ اللهِ فيما نرى من الخير، ونحن في الجَهْد، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ} في ضَرْبهم «فِي الْبِلادِ» وتصرُّفهم في الأرض للتجارات وأنواع المكاسب. فالخطاب مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمرادُ منه غيره.(6/129)
قال قتادةُ: واللهِ ما غروا نبيَّ الله قط، حتى قبضه اللهُ تَعَالَى، ويمكن أن يقالَ: سبب عدم إغراره هو تواتُر الآيات عليه، لقوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74] فسقط قولُ قتادةَ.
قوله: «مَتَاعٌ» خبر مبتدأ محذوف، دَلَّ عليه الكلام، تقديره: تقلبهم، أو تصرفهم متاع قليل. والمخصوص بالذم محذوف، أي: بئس المهاد جهنم. ومعنى «مَتَاعٌ قَلِيلٌ» أي: بُلْغة فانية، ومُتْعة زائلة.
وإنما وصفه بالقِلَّة؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات ثم ينقطع، وكيف لا يكون قليلاً وقد كان معدوماً من الأزل إلى الآن، وسيصير معدوماً من الأزل وإلى الأبد فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي - وهو الأزل والأبد - كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل ثُمّ قال بعده: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} يعني أنه مع قلته يؤول إلى المَضَرَّة العظيمةِ، ومثل ها لا يُعَدُّ نِعْمَةً.(6/130)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
قرأ الجمهورُ بتخفيف «لكن» وأبو جعفر بتشديدها، فعلى القراءة الأولى الموصول رفع بالابتداء، وعند يونس يجوز إعمال المخففة، وعلى الثانية في محل نصب.
ووقعت «لكِن» هنا أحسن موقع؛ فإنها وقعت بين ضِدَّيْن، وذلك أن معنى الجملتينِ - التي بعدها والتي قبلها - آيلٌ إلى تعذيب الكفار، وتنعيم المؤمنين المتقين. ووجه الاستدراك أنه لما وصف الكفار بقلة نَفْع تقلبهم في التجارة، وتصرُّفهم في البلاد لأجْلِها، جاز أن يتوهَّم مُتَوَهِّمٌ أن التجارة - من حيث هي - متصفة بذلك، فاستدرك أنَّ المتقينَ - وإن أخذوا في التجارة - لا يضرهم ذلك، وأنَّ لهم ما وعدهم به.
قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} هذه الجملة أجاز مكيٌّ فيها وجهينِ:
أحدهما: الرفع، على النعت لِ «جَنَّاتٌ» .
والثاني: النصبُ، على الحال من الضمير المستكن في «لَهُمْ» قال: «وإن شئت في موضع نصب على الحال من المضمر المرفوع في» لَهُمْ «إذْ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إن رفعت» جَنَّاتٌ «بالابتداء، فإن رفعتها بالاستقرار لم يكن في» لَهُمْ «ضميرٌ مرفوعٌ؛ إذ هو كالفعل المتقدِّم على فاعله» . يعني أنّ «جَنَّاتٌ» يجوز فيها رفعها من وجهين:(6/130)
أحدهما: الابتداء، والجار قبلها خبرها، والجملة خبر «الَّذِينَ اتَّقوا» .
ثانيهما: الفاعلية؛ لأن الجارَّ قبلها اعتمد بكونه خبراً لِ «الَّذِينَ اتَّقَوْا» . وقد تقدم أن هذا أوْلَى، لقُربه من المفرد.
فإنْ جعلنا رفعها بالابتداء جاز في {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وجهان: وجهان: الرفع على النعت، والنصب على الحال من الضمير المرفوع في «لَهُمْ» لتحمُّله - حينئذٍ - ضميراً.
وإن جعلنا رفعها بالفاعلية تعيَّن أن يكون الجملة بعدها في موضع رَفْع؛ نعتاً لها، ولا يجوز النصبُ على الحال، لأن «لَهُمْ» ليس فيه - حيئذٍ - ضمير؛ لرفعه الظاهر.
و «خَالِدِينَ» نُصِبَ على الحالِ من الضمير في «لَهُمْ» والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ.
قوله: «نُزُ لاً» النُّزُل: ما يُهَيَّأ للنزيل - وهو الضيف.
قال أبو العشراء الضبي: [الطويل]
1724 - وكُفَّا إذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا والْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلا
هذا أصله، ثم اتُّسِع فيه، فأطلق على الرزق والغذاء - وإن لم يكن لضيف - ومنه قوله تعالى: {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 93] وفيه قولانِ، هل هو مصدرٌ أو جمع نازل، كقول الأعشى: [البسيط]
1725 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أو تَنْزِلُونَ فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
إذا تقرَّر هذا ففي نَصْبه سِتَّةُ أوجهٍ:
أحدهما: أنه منصوب على المصدر المؤكّد، لأنه معنى «لَهُمْ جَنَّاتٌ» : نُنْزِلُهم جنات نزلاً، وقدَّره الزمخشريُّ بقوله: «كأنه قيل: رزقاً، أو عطاءً من عند اللهِ» .
ثانيها: نصبه بفعل مُضْمَر، أي: جعلنا لهم نُزُلاً.
ثالثها: نَصبه على الحال من «جَنَّات» لأنها تخصَّصَت بالوَصْف.
رابعها: أن يكون حالاً من الضمير في «فِيهَا» أي مُنزّلةً - إذا قيل بأنّ «نُزلاً» مصدر بمنى المفعول نقله أبو البقاءِ.(6/131)
خامسها: أنه حالٌ من الضمير المستكن في «خَالِدِينَ» - إذا قُلْنَا: إنه جمع نازل - قاله الفارسيُّ في التذكرة.
سادسها: وهو قول الفرّاء - نصبه على التفسير - أي التمييز - كما تقول: هو لك هبةً، أو صدقةً وهذا هو القولُ بكونه حالاً.
والجمهور على ضم الزاي، وقرأ الحسنُ، والأعمشُ، والنَّخَعِيُّ، بسكونها، وهي لغةٌ، وعليها البيتُ المتقدم. وقد تقدم أن مثل هذا يكون فيه المسكَّن مخففاً من المثقل أو بالعكس، والحق الأول.
قوله: {مِّنْ عِندِ الله} فيه ثلاثة أوجه، لأنك إن جعلت «نُزُلاً» مصدراً، كان الظرفُ صفةً له، فيتعلق بمحذوف، أي: نزلاً كائناً من عند اللهِ أي: على سبيلِ التكريمِ، وإنْ جعلته جمعاً كان في الظرف وجهانِ:
أحدهما: جَعْله حالاً من الضمير المحذوفِ، تقديره: نُزُلاً إياها.
ثانيهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: ذلك من عند الله؛ نقل ذلك أبو البقاءِ.
قوله: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ} «ما» موصولة، وموضعها رفع بالابتداء والخبر «خَيْرٌ» و «للأبْرَارِ» صفة لِ «خير» فهو في محل رفع، ويتعلق بمحذوفٍ، وظاهر عبارة أبي حيّان أنه يتعلق بنفس «خَيْرٍ» فإنه قال: و «للأبرارِ» متعلق ب «خَيْرٌ» .
وأجاز بعضهم أن يكون «لِلأبْرَارِ» هو الخبر، و «خَيْرٌ» خبر ثانٍ، قال أبو البقاء: «والثاني - أي: الوجه الثاني -: أن يكون الخبر» لِلأبْرَارِ «والنية به التقديمُ، أي: والذي عند اللهِ مستقرٌّ للأبرارِ، و» خَيْرٌ «- على هذا - خبرٌ ثانٍ» .
وفي ادِّعاء التقديمِ والتأخيرِ نظرٌ؛ لأن الأصلَ في الإخبار أنْ يكونَ بالاسمِ الصريحِ، فإذا اجتمعَ خبرٌ مفردٌ صريحٌ، وخبرٌ مؤوَّلٌ به بُدِئَ بالصريحِ من غير عكس - كالصفة - فإذا وقعا في الآية على الترتيبِ المذكور، فكيف يُدَّعَى فيها التقديمُ والتأخيرُ؟ .
ونقل أبو البقاء - عن بعضهم - أنه جعل «لِلأبْرَارِ» حالاً من الضمير في الظرف، «خّيْرٌ» خبر المبتدأ، قال: «وهذا بعيدٌ؛ لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحالٍ لغيره، والفصلُ بين الحالِ وصاحب الحالِ بخبر المبتدأ، وذلك لا يجوزُ في الاختيار» .
قال أبو حيّان: «وقيل: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: الذي عند الله للأبرار خير لهم، وهذا ذهولٌ عن قاعدةِ العربية من أن المجرور - إذ ذاك - يتعلق بما تعلَّق به الظرف الواقع(6/132)
صلة للموصول، فيكون المجرورُ داخلاً في حيِّز الصِّلَةِ، ولا يُخْبَر عن الموصول إلا بعد استيفائه صِلته ومتعلقاتها» .
فإن عنى الشيخُ بالتقديم والتأخير على الوجه - أعني جعل «لِلأبْرَارِ» حالاً من الضمير في الظرف فصحيحٌ، لأنَّ العاملَ في الحالِ - حينئذ - الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقع صِلةً، فيلزم ما قاله، وإن عنى به الوجهَ الأول - أعني: جعل «لِلأبْرَارِ» خبراً، والنية به التقديم وب «خَيْرٌ» التأخير كما ذكر أبو البقاءِ، فلا يلزم ما قال؛ لأنّ «لِلأبْرَارِ» - حينئذٍ - يتعلَّق بمحذوفٍ آخرَ غير الذي تعلُّق به الظرفُ.
و «خَيْرٌ» - هنا - يجوز أن يكون للتفضيل، وأن لا يكون، فإن كان للتفضيل كان المعنى: وما عند الله خيرٌ للأبرار مما لهم في الدنيا، أو خيرٌ لهم مما ينقلب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ.(6/133)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
قال جابرٌ، وابنُ عبّاسٍ، وقتادةُ، وأنسٌ: نزلت في النجاشي - ملك الحبشة - واسمه أصْحَمة، وهو - بالعربية - عطية، «وذلك أنه لما مات نعاه جبريلُ - عليه السّلام - لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في اليوم الذي مات فيه، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه: اخرجوا، فصلُّوا على أخ لكم مات بِغَيْر أرْضِكم، فقالوا: مَنْ هو؟ قال النجاشيُّ، فخرج إلى البقيع، وكُشِفَ له إلى أرض الحبشةِ، فأبصر سريرَ النجاشي، وصَلَّى عليه أربعَ تكبيراتٍ، واستغفر له، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يُصلي على عِلجٍ حبشيٍّ، نصرانيٍّ، لم يَرَه قطّ، وليس على دينه.» فأنزل الله هذه الآية.
قال عطاءٌ: نزلت في أربعينَ رجلاً من أهل نجرانَ، واثنينَ وثلاثينَ من الحبشة، وثمانيةٍ من الرُّوم، كانوا على دينِ عيسى فآمنوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن جُرَيْحٍ: نزلت في عبد اللهِ بن سلام وأصحابه. وقال مُجَاهدٌ: نزلتْ في مؤمني أهل الكتاب كُلِّهم.
قوله: {لَمَن يُؤْمِنُ} اللام لام الابتداء، دخلت على اسم «إنَّ» لتأخُّرهِ عنها، و «مِنْ(6/133)
أهْلِ» خبرٌ مقدَّمٌ و «من» يجوز أن تكونَ موصولةً - وهو الأظهر - وموصوفة، أي: ل «قوماً» ، و «يؤمن» صلة - على الأول - فلا محلَّ له، وصفة - على الثاني - فمحله النصب، وأتى - هنا - بالصلة مستقبلة - وإن كان ذلك قد مضى - دلالة على الاستمرار والديمومة.
والمعنى: إن من أهْلِ الكتابِ مَنْ يُؤمِن باللهِ وما أنْزِل إليكم، وهو القرآنُ، وما أنْزِلَ إلَيْهَم، وهو التوراة والإنجيل.
قوله: {خَاشِعِينَ} فيه أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه حالٌ من الضمير في «يؤمن» وجَمَعَه، حَمْلاً على معنى «مَنْ» كما جمع في قوله: «إلَيْهِمْ» وبدأ بالحمل على اللفظ في «يُؤْمِن» ثم بالحَمْلِ على المعنى؛ لأنه الأولى.
ثانيها: أنه حال من الضمير في «إلَيْهِمْ» فالعامل فيه «أنْزِلَ» .
ثالثها: أنه حال من الضمير في «يَشْتَرُون» وتقديم ما في حيِّز «لا» عليها جائز على الصحيح وتقدم شيء من ذلك في الفاتحة.
رابعها: أنه صفة لِ «من» إذا قيل بأنها نكرة موصوفة. وأما الأوجه الثلاثة السابقة فجائزة، سواء كانت موصولةٌ، أو نكرة موصوفة.
قوله: «للهِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «خَاشِعِينَ» أي: لأجل الله.
ثانيهما: أنه متعلق ب «لاَ يَشْتَرُونَ» ذكره أبو البقاء، قال: «وهو في نية التأخير، أي: لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله» .
قوله: {لاَ يَشْتَرُونَ} كقوله: {خَاشِعِينَ} إلا في الوجه الثالث، لتعذره، ويزيد عليها وجهاً آخر، وهو أن يكون حالاً من الضمير المستكن في «خَاشِعينَ» أي: غير مشترين.
وتقدم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل في البقرة.
ومعناه: أنهم لا يُحَرِّفُونَ كُتُبَهم، ولا يكتمون صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأجل الرياسة والمأكلة، كفعل غيرهم من رؤساءِ اليهودِ.
واعلم أنه - تعالى - لما بيَّن أنَّ مصير الكفار إلى العقاب، بيَّن - هنا - أنَّ مِنْ آمنَ منهم فإن مَصيرَه إلى الثَّوابِ.
وقد وصفهم بصفات:
أولها: الإيمان بالله.
ثانيها: الإيمان بما أُنْزِلَ على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وثالثها: الإيمان بما أُنْزِلَ على الأنبياء قَبْلَه.
ورابعها: كونهم خَاشِعِينَ لله.(6/134)
وخامسها: أنهم لا يشترون بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً، كما يفعله أهلُ الكتابِ ممن كان يكتم أمرَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: {أولاائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ} «أولئك» مبتدأ، وأما «لَهُمْ أجْرُهُمْ» ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون «لَهُمْ» خبراً مقدَّماً، و «أجْرُهُمْ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الأول، وعلى هذا فالظرفُ فيه وجهانِ:
الأول: أنه متعلق ب «أجْرُهُمْ» .
الثاني: أنه حال من الضمير في «لَهُمْ» وهو ضمير الأجر، لأنه واقع خبراً.
ثانيها: أن يرتفع «أجْرُهُمْ» بالجارِّ قبله، وفي الظرف الوجهان، إلا أنّ الحال من «أجْرُهُمْ» الظاهر؛ لأن «لَهُمْ» لا ضمير فيه حينئذ.
ثالثها: أن الظرف هو خبر «أجْرُهُمْ» و «لَهُمْ» متعلق بما تعلَّق به من هذا الظرف من الثبوت والاستقرار. ومن هنا إلى آخر السورة تقدم إعراب نظائره.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}(6/135)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قال ابنُ الخطيبِ: «ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآدابِ، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان: منها ما يتعلق به وحده، ومنها ما يكون مشتركاً بينه وبين غيره، أما القسم الأول فلا بُدَّ فيه من الصَّبْر، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة» .
قال الحسن: اصبروا على دينكم، فلا تدعوه لشِدَّةٍ لا رَخَاءٍ.
وقال قتادة: اصبروا على طاعةِ الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله.
وقال الضحاكُ، ومقاتل بنُ سليمان: على أمر اللهِ. وقال مقاتلُ بن حيان: على فرائض الله. وقال زيد بن أسلم: على الجهاد. وقال الكلبيّ على البلاء.
واعلم أن الصبر يدخل تحته أنواع: الصبر على مشقّة النظر والاستدلال على الطاعات، وعلى الاحتراز عن المنهيَّات، وعلى شدائد الدُّنْيا من الفَقْر، والقحط والخوف، وأما المصابرة فهي تَحَمُّل المكاره الواقعة بينه وبيْنَ غيره، كتحَمُّل الأخلاق الردئيةِ من أهله وجيرانه وترك الانتقام كقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] وإيثار الغير على نفسه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله: {اصبروا وَصَابِرُواْ} من الجناس اللفظي، وكذلك قوله: {اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} [التوبة: 38] «وصابروا» يعني الكفار، «ورابطوا» يعني المشركين.
قال أبو عبيدة: «أي: اثبتوا ودَاوِمُوا» والربطُ: الشد، وأصل المرابطة: أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم بحيث يمون كل من الخصمين مستعداً لقتال الآخرِ ثم قيل(6/135)
لكل مقيم في ثَغْرٍ يدفع عَمَّنْ وراءه: مرابط، وإن لم يكن له مركوبٌ مربوطٌ.
قال - عليه السلام -: «رِباط يَوْم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وما عليها، وموضع سَوْطِ أحَدِكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها» .
{واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال بعضهم: اصبروا على النَّعْماء، وصابروا على البأساء والضراء، ورابطوا في دار الأعداء، واتقوا إله الأرض والسماء، لعلكم تفلحون في دار البقاء.
وقيل: المرابطة: انتظار الصلاة بعد الصلاة لما روى أبو سلمةَ بن عبد الرحمن، قال: لم يكن في زمنِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غزو يرابط فيه، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة. واحتج أبو سلمة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ألاَ أدلُّكم عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرةُ الْخُطَا إلى المَسَاجِدِ، وانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ ثُمَّ قَالَ: فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ» ثلاث مراتٍ - وقيل الرباط: اللزوم والثبات، وهذا المعنى يعم ما تقدم.
روى ابنُ عباسِ، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قرأ السُّورَةَ الَّتِي يُذكر فِيهَا آل عِمْرانَ يَومَ الْجُمُعَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَمَلاَئِكتهُ حَتَّى تُحْجَب الشَّمس» .
وعن أبَيٍّ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قرأ آلِ عمرانَ أعْطي بكل آيةٍ منها أمَاناً على جِسْر جَهَنَّمَ» وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ آلَ عِمْرَانَ فَهُوَ غَنِيٌّ» .
وعن العرس بن عُمَيْرَةَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «تَعَلَّمُوا البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ؛ فَإنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ، وَإنَّهُمَا يَأتِيَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي صُورَةِ مَلَكَيْنِ يَشْفَعَانِ لَصَاحِبِهمَا حَتَّى يُدْخِلاَهُ الْجَنَّةَ» .(6/136)
قيل: سُمِّيتَ البَقَرَةُ وآل عمران بالزَّهْرَاوَيْنِ؛ لأنهما نُورَان، مأخوذ من الزَّهر والزَّهرة.
وقيل: لِهِدَايَتِهِمَا قَارِئهُمَا بما يُزْهِرُ له من نُورِهما، أي مَعَانيهما.
وقيل: لما يُثِيبُ على قراءتها من النُّورِ التَّامِّ يوم القيامة.
وقيل: لما تَضَمَّنَتَاهُ من اسْمِ الله الأعظمِ، كما رَوَى أبو دَاوُدَ وغيره عن أسْمَاءَ بنت يَزيدَ؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «اسْمُ اللهِ الأعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: {وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} [البقرة: 163] ، والتي في آل عمران: {الله لاا إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 2] .»(6/137)
سورة النساء مدنية
وهي مائة وست وتسعون آية، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة، وستة عشر ألفا وثلاثة وثلاثون حرفا. قال القرطبي: هذه السورة مدنية إلا آية واحدة منها [وهي] قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] فإنها نزلت ب " مكة " عام الفتح، وفي عثمان بن طلحة على ما سيأتي بيانه. قال النقاش: وقيل: نزلت عند هجرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة. وقيل: إن قوله تعالى: {يا أيها الناس} حيث وقع في القرآن إنما هو مكي. قاله علقمة وغيره: " فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني ". وقال النحاس: " هذه السورة مكية ". وقال القرطبي: والصحيح الأول. قال في " صحيح البخاري ": " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعني قد بنى بها، ولا خلاف بين العلماء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما بنى بعائشة بالمدينة، ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها، وأما من قال: {يا أيها الناس} [مكي] حيث وقع، فليس بصحيح. قال: البقرة مدنية وفيها {يا أيها الناس} مرتين في موضعين.(6/138)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
قال بعض المفسرين: «ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف على النساء والأيتام، ذكر فيها أحكاماً كثيرة، وبذلك ختمها، ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس والطِّبَاع، افتتحها بالأمر بالتقوى المشتملة على كل خير» .
فصل
روى الواحدي عن ابن عباس في قوله: {ياأيها الناس} أن هذا الخطاب لأهل مكة.
ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
وأما الأصوليون من المفسرين فاتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلّفين، وهذا هو الأصحُّ؛ لأن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق، ولأنه علّل الأمر بالاتِّقَاءِ لكونه تعالى خالق لهم من نفس واحدة، وهذه العلة موجودة في جميع المكلفين.
وأيضاً فالتكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة، بل هو عام، وَإذَا كان لفظ الناس عاماً، والمر بالتقوى عاماً، وعلة هذا التكليف عامةً، فلا وجه للتخصيص، وحجة ابن عباس أن قوله: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] مختص بالعرب؛ لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم، فيقولون: «أسألك بالله وبالرحم، أنشدك الله والرحم» ، وإذا كان كذلك، كان قوله: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] ، مختصاً بالعرب، فيكون قوله: {ياأيها الناس} مختصاً بهم، لأن الخطابين متوجهان إلى مخاطب واحد.
ويمكن الجواب عنه بأن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم الآية.
فصل
اعلم أنه تعالى جعل الافتتاح لسورتين في القرآن:
أحدهما: هذه وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن، وعلل الأمر بالتقوى فيهما بما يدل على معرفة المبدأ بأنه خلق الخلق من نفس واحدة، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وحكمته.(6/139)
والثانية: سورة الحج وهي الرابعة أيضاً من النصف الثاني من القرآن وعلَّلَ الأمر بالتقوى فيها بما يدل على معرفة المعاد.
فَجَعَلَ صدر هاتين السورتين دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، وقدّم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد، وهذا سر عظيم.
{مِّن نَّفْسٍ} متعلق ب «خلقكم» فهو في محل نصب، و «من» لابتداء الغاية، وكذلك «منها زوجها وبتَّ منهما» والجمهور على واحدة بتاء التأنيث، وأجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنفس الواحدة [هاهنا] آدم عليه السلام، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس لقوله تعالى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74] .
وابن أبي عبلة واحدٍ من غير [تاء] تأنيث وله وجهان:
أحدهما: مراعاة المعنى؛ لأنه المراد بالنفس آدم عليه السلام.
والثاني: أن النفس تذكر وتؤنث. وعليه قوله: [الوافر]
1726 - ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
قوله: {وَخَلَقَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه عطفٌ على معنى «واحدة» لما فيه من معنى الفعل، كأنه قيل: «من نفس وحدت» أي: انفردت، يُقال: «رجل وَحُد يَحِدُ وَحْداً وَحِدَة» انفرد.
الثاني: انه عَطْفٌ على محذوف.
قال الزَّمَخْشرِيُّ: «كأنه قيل: من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه، والمعنى شَعَّبكم من نفس واحدةٍ هذه صفتها» بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها، وَإنَّما حمل الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيب الوجودي؛ لأن خلق حواء - وهي المعبر عنها بالزوج - قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك، لأن الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح.
الثالث: أنه عطف على «خَلْقَكُمْ» ، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يُبَالَى بها،(6/140)
إذ لا تقتضي ترتيباً؛ إلا أن الزَّمَخشريَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى خَصَّ هذا الوجه بكون الخطاب [للمؤمنين] في {ياأيها الناس} لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال: والثاني أنه يُعْطَفُ على «خلقكم» ويكون الخطاب للذين بُعِثَ إليهم الرسول، والمعنى: خلقكم من نفس آدم؛ لأنه من جملة الجنس المفرّع [منه] وخلق منها أُمَّكم حواء.
فظاهر هذا خصوصيَّةُ الوجه الثاني أن يكون الخطاب للمعاصرين، وفيه نظر، وَقَدَّرَ بعضهم مضافاً في «منها» أي: «مِنْ جِنْسِها زوجَها» ، وهو قول أبي مسلم، قال: وهو كقوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل: 72] وقال {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 164] وقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ} [التوبة: 28] .
قال: وحواء لم تخلق من آدم، وإنما خلقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم.
قال الْقَاضِي: والأول أقوى لقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} .
قال ابن الخَطِيبُ: «يمكن أن يجاب بأن كلمة» مِن «لابتداء الغاية، فَلمَّا كان ابتداء الغاية وهو ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم صحّ أن يُقَالَ: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} وأيضاً فالقادر على خلق آدم من التراب، [كان قادراً أيضاً على خلق حواء من التراب] ، وَإذا كان كذلك فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاعه» .
وقرئ «وخالِقُ وباثٌّ» بلفظ اسم الفاعل، وخَرَّجَهُ الزمخشريُّ على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: وهو خالِقٌ وباثٌّ.
وَيُقَالُ: بَثَّ وأبَثَّ ومعناه «فَرَّقَ» ثلاثياً ورباعياً.
قال ابن المظفر: «البثُّ تَفْرِيقَكَ الأشياء» .
يقال: بَثَّ الخيلَ في الغارة، وبَثَّ الصَّيادُ كِلاَبَهُ، وخلق الله الخلق: بَثَّهُمْ في الأرض، وبثثت البسطة إذا نشتريها. قال تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 16] .
فإن قيل: ما المناسبةُ بين الأمر بالتقوى وما ذكر معه من الوصف؟ فالجواب: لما ذكر أنَّه خَلَقَنَا من نفس واحدة، وذلك علة لوجوب الانقياد علينا لتكاليفه؛ لأنا عبيدة وهو(6/141)
مولانا، ويجب على العبد الانقياد لمولاه؛ ولأنه أنعم ومَنَّ بوجوه الإنعام والامتنان، فأوجَدَ وأَحْيَا وعَلَّمَ وهَدَى، فعلى العبد أن يُقَابِلَ تلك النِّعَم بأنواع الخضوع والانقياد؛ ولأنه بكونه موجداً وخالقاً وِرِبَّاً يجبُ علينا عبادته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ويلزم من ذلك ألا نوجب لتلك الأفعال ثواباً؛ لأن أداء الحق لمستحقه لا يوجب، وثواب هذا إن سَلَّمْنَا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه، فكيف وهذا محال؛ لأن الطاعات لا تحصل إلاَّ بخلق الله - تعالى - القدرة عليها، والداعية إليها [ومتى حصلت القدرة والداعي كان] مجموعهما موجباً لصدور الطاعة، فتكون تلك الطاعة إنعاماً آخر.
وأيضاً أنَّهُ خلقنا مِنْ نفسٍ واحدةٍ، ذلك أيضاً يوجبُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على كمالِ القدرة؛ لأن ذلك لو كان بالطبيعة لما تولد عن الإنسان إلاَّ إنسان يشاكله ويشابهه في الْخِلْقَةِ والطبيعةِ، ولَمَّا اختلف الناس في الصفات والألوان، دَلَّ على أن الخالق قَادِرٌ مختارٌ عَالِمٌ، يجب الانقياد لتكاليفه؛ ولأن الله تَعالى عَقَّبَ الأمر بالتقوى بالأمر بالإحسان إلى الْيَتَامَى والنساءِ والضُّعَفَاء وكونهم من نفْس واحدة باعث على ذلك بكونه [وذلك لأن الأقارب لا بد أن] يكون بينهم مواصلة وقرابة، وذلك يزيد في المحبة، ولذلك يفرح الإنسان بمدح أقاربه ويحزن بذمهم فقدَّمَ ذكرهم، فقال: {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ليؤكد شفقة بعضنا على بعض.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: وبَثَّ منها الرِّجال والنِّسَاءَ.
فالجواب: لأن ذلك يقتضي كونهما مبثوثين من نفسيهما، وذلك محال، فلهذا عدل إلى قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} .
وقوله: «كثيراً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه نَعْتٌ ل «رِجَالاً» .
قال أبو البقاء: ولم يؤنثه حَمْلاً على المعنى؛ لأن «رجالاً» بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذَكَّر الفعل المسند إلى جماعةِ لمؤنثِ لقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة} [يوسف: 30] .
والثاني: أنه نعت لمصدر تقديره: وبث منهم بثاً كثيراً؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه في مثله النصبُ على لحالِ.(6/142)
فإن قيل: لم خَصَّ لرّجالَ بوصفِ الكثرةِ دون النساء؟ ففيه جوابان:
أحدهما: أنه حَذَفَ صِفَتَهُنّ لدلالة ما قبلها عليها تقديره: ونساءً كثيرة.
والثاني: أنَّ الرِّجال لشهرتهم [وبروزهم] يُنَاسِبُهم ذلك بخلاف النِّسَاء، فإنَّ الأليقَ بِهِنَّ الخمولُ والإخفاء.
قوله: {تَسَآءَلُونَ} قرأ الكوفيون «تَسَاءَلُونَ» بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً، والأصل: «تتساءلون» به، وقَدْ تَقَدَّمَ الخلافُ: هَلْ المحذوفُ الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين؛ لأن مقاربتها في الهمس، ولهذا تُبْدَلُ من السين، قالوا: «ست» والأصل «سِدْسٌ» وقرأ عبد الله: «تَسْاَلُون» من سأل الثلاثي، وقُرِئَ «تَسَلون» بنقل حركة الهمزة على السين، و «تَسَاءلون» على التفاعل فيه وجهان:
أحدهما: المشاركة في السؤال.
والثاني: أنه بمعنى فَعَلَ، ويدلّ عليه قراءة عبد الله.
قال أبُو البَقَاءِ: «وَدَخَلَ حَرْفُ الجرِّ في المفعول؛ لأن المعنى:» تتخالفون: يعني أن الأصل تعدية «تسألون» إلى الضمير بنفسه، فلما ضُمِّن «تتخلفون» عُدِّي تَعْدِيَتَه «.
قوله: {والأرحام} الجمهور نصبوا الميم، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على لفظ الجلالة، أي: واتقوا الأرحام أي: لا تقطعوها، وقَدَّرَ بعضهم مضافً أي: قَطْعَ الأرحام.
ويقال: إنَّ هذا في الحقيقةِ من عطف الخاصِّ علا العام، وذلك أن معنى اتقوا(6/143)
الله؛ اتقوا مخالَفَتَه، وقَطْعُ لأرحام مندرج فيه، وهذا قول مجاهد وقتادة والسَّدي والضحاك والفرّاء والزّجّاج.
قال الواحدي: ويجوز أن يكون منصوباً بالإغراء، أي: والأرحام احفظوها وصلوها كقولك: الأسدَ الأسدَ، وهذا يَدُلُّ على تحريم قطعيةِ الرحم ووجوب صلته.
والثاني: أنه معطوف على محل المجرور في» به «، نحو: مررت بزيد وعمراً، ولمَّ لم يَشْرَكه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع، وه يؤيده قراءة عبد الله» وبالأرحام «.
وقال أبو البقاء: تُعَظِّمُونه والأرحام، لأنَّ الحَلْفَ به تَعْظِيم له» ،
وقرأ حمزة «والأرحامِ» بالجر، قال القفال: وقد رويت هذه القراءة عن مجاهد وغيره، وفيها قولان.
أحدهما: أنه عَطَفَ على الضمير المجرور في «به» من غير إعادة الجار، وهذا لا يجيزه البصريون، وقد تَقَدَّم تحقيقُ ذلك، وأن فيها ثلاثةَ مذاهب، واحتجاج كل فريق(6/144)
في قوله تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] وقد طَعَنَ جَمَاعَةٌ في هذه القراءة، كالزجاج وغيره، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال: حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم، قال: {والأرحام} بخفض [الأرحام] هو كقولهم: «أسألك باللَّهِ والرحمِ» قال: «وهذا قبيح؛ لأنَّ العرب لا ترُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قَدْ كُنِي به، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهمُ بأنه عطف للمظهر على الضمير، وهو لا يجوز.
قال ابن عيس: إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على الضمير المرفوع، فلا يجوز أن يقال:» اذهب وزيد «و» ذهبت وزيدا «، بل يقولون: اذهبْ أنت وزيد وذهبت أنا وزيد، قال تعالى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} [المائدة: 24] مع أن الضمير المرفوع قد ينفصل، فإذا لم يجز عطف المظهر على الضمير المرفوع مع أنه أقوى من الضمير المجرور، بسبب أنه قد ينفصل؛ فلأن لا يجوز عطف المظهر على الضمير المجرور، مع أنه [لا] ينفصل أَلْبَتَّةَ أولى.
والثاني: أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور، بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به، وجوابُ القسمِ {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} وضُعِّفَ هذا بوجهين:
أحدهما: أن قراءتي النصبِ وإظهار حرفِ الجر في ب» الأرحام «يمنعان من ذلكَ، والأصلُ توافق القراءات.
والثاني: أنَّهُ نُهِيَ أن يُحْلَفَ بغيرِ الله تعالى، والأحاديثُ مُصَرَّحةٌ بذلك.(6/145)
وَقَدَّرَ بَعْضهم مضافاً فراراً من ذلك فقال: «ورَبِّ الأرحام» .
قال أبو البقاء: وهذا قد أغنى عنه ما قبله «يعني: الحلف بالله تعالى.
ويمكن الجواب عن هذا بأن للهَ تعالى أن يُقسمَ بما يشاء من مخلوقاته [كما أقسم] بالشمس والنجم والليل، وإن كنا نَحْنُ منهيين عن ذلك، إلا أنَّ المقصود من حيث المعنى، ليس على القسم، فالأولى حمل هذه القراءات على العطف على الضمير، ولا التفات إلى طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فيها.
وأجاب آخرون بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ لأنهم كانوا يقولون: أسألك بالله وبالرحم، فمجيء هذا الفعل عنهم في الماضي لا ينافي ورود النهي عنه في المستقبل؛ وأيضاً فالنهي ورد عن الحلف بالآباء فقط، وهاهنا ليس كذلك، بل هو حلف باللهِ أولاً، ثُمَّ قرن بِهِ بَعْدَ ذكر لرحم، وهذا لا ينافي مدلول الحديث.
أيضاً فحمزة أحد القراءة السبعة، الظاهر أنه لم يأتِ بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك يوجب القطع بصحة اللغة، ولا التفات إلى أقيسة النحاة عند وجود السماع، وأيضاً فلهذه القراءة وجهان:
أحدهما: ما تقدم من تقدير تكرير الجر، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم.
والثاني: فقد ورد في الشعر وأنشد سيبويه: [البسيط]
1727 - فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتُمْنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَب
وقال الآخر [الطويل]
1728 - تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَاري سُيُوفُنَا ... وَمَا بَيْنَهَا والْكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ
وقال آخر [الوافر]
1729 - أكُرُّ على الكِتيبَةِ لا أُبالِي ... أفِيهَا كَانَ حَتْفِي أمْ سِوَاهَا(6/146)
وحمزة بالرتبة السَّنيَّة المانعةِ له من نقلِ قراءة ضعيفة.
قال بن الخطيبِ:» والعَجَبُ من هَؤلاء [النحاة] أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين، ولا يستحسنوها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن «.
وقرأ عبد الله أيضاً» والأرحامُ «رفعاً على الابتداء، والخبرُ محذوف فقدَّرَهُ ابن عطية: أهلٌ أنْ توصل، وقَدَّرَهُ الزمخشري:» والأرحام مِمَّا يتقي «أو» مما يتساءل به «.
وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية، والمعنوية، بخلاف الأول فإنَّه للدلالة المعنوية فقط، وقَدَّرَهُ أبو البقاء: والأرحام محترمة، أي: واجبٌ حرمتها.
فإن قيل: ما فائدةُ هذا التكرير في قوله أولاً:» اتقوا الله الذي خلقكم «. ثم قال بعده:» واتقوا الله «.
فالجواب فائدته من وجوه:
الأول: فائدته تأكيد الأمر والحث عليه.
والثاني: أن الأمر الأول عامّ في التقوى بناء على الترتيب. والأمر الثاني خاص فيما يلتمس البعض من البعض، ويقع التساؤل به.
الثالث: قوله أولاً: {اتقوا رَبَّكُمُ} ولفظ» الرَّبِّ «يَدَلُّ على التربية والإحسان، وقوله ثانياً {واتقوا الله} ولفظ» الإله «يدل على الغلبة والقهر، فالأمر الأول بالتقوى بناء على الترغيب، والأمر الثاني يدل على الترهيب، فكأنَّهُ قيل: اتقِ الله إنه ربّاك، وأحسن إليك، واتق مخالفته؛ لأنه شديدُ العقاب عظيم السطوة.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} .
جارٍ مجرى التعليل والرقيب: فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْباً، ورُقوباً، ورِقْباناً(6/147)
إذا أحدَّ النَّظَرَ [لأمر يريد تحقيقه] ، والرقيب هو المراقب الذي يحفظ جميع أفعالك، واستعماله في صفات الله تعالى بمعنى الحفيظ قال: [مجزوء الكامل]
1730 - كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ للضْ ... ضُرَبَاءِ أيْدِيهمْ نَوَاهِدْ
وقال: [الكامل]
1731 - وَمَعَ الحَبيبِ بِهَا لَقَدْ نِلْتَ المُنَى ... لِي عَقْلَهُ الْحُسَّادُ وَالرُّقَباءُ
والْمَرْقَبُ: المكان العالي المشرف يقف عليه الرقيب، والرقيب أيضاً [ضرب] من الحيات، والرقيب السهم الثالث من سهام الميسر، وقد تقدمت من البقرة، والارتقاب: الانتظار.
فصل
دَلَّتْ الآيةُ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعه.
قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] .
وقال تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10] قيل: إنَّ الإلّ القرابة، قال: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] وقال عليه السلام: قال الله تعالى: «أنا الرحمن وهي الرحم اشتققتُ لها اسماً من اسمي، من وَصَلَها وَصَلْتُه، ومن قطعها قطعته» .
فصل
قال القرطبيُّ: الرحم: اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره. وأبو حنيفةَ يعتبر الرَّحم المحرم في منع الرجوعِ في الهِبَةِ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام، مع أنَّ القطيعة موجودة، والقرابة حاصلة ولذلك تعلّق بها الإرث، والولاية، وغيرهما من الأحكام، فاعتبار المحرم زيادة على نصِّ القرآن من غير دليل، وهم يرون ذلك [نسخاً] ، سيما وفيه إشارة بالتعليل إلى القطيعة قد جوَّزها في حق بني الأعمام، وبني الأخوال والخالات.
فصل
أجمعت الأمةُ على أنَّ صلة الرَّحم واجبة، وأن قطيعتها محرَّمة، وقد صحَّ أن(6/148)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأسْمَاءَ وقد سألته: أأصِلُ أمِّي؟ «صِلِي أمَّكِ» فأمرها بصلتها وهي كافرة فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافرة حتى انتهى لحل بأبي حنيفة وأصحابه ومن وافقهم إلى توارث ذوي الأرحام، إذا لم يكن عصبة، ولا ذو فرض ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرّحم، ويؤيده قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «مَنْ مَلَكَ ذَا رحمٍ محرمٍ فَهُوَ حُرٌّ» وهذا قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف.
فصل
واختلفوا في ذَوِي المَحَارمِ من الرِّضَاعةِ، فقال أكْثَرُ أهلِ العلمِ: لا يدخلون في مقتضى الحديث.
وقال شريك القاضي: يُعْتَقُونَ.
وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب [لا] يعتق على الابن إذا ملكه.(6/149)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
لما وَصَّى في الآية السابقة بالأرحام وصَّى في هذه الآية بالأيتام؛ لأنهم قد صاروا بحيثُ لا كافِلَ لهم ولا مُشْفِقَ فيهم - أسوأ حلاً ممن له رحم، فإنه عطفه عليه، وهذا خطاب الأولياء والأوصياء. قالوا: إن اليتيم من لا أب له ولا جد، والإيتاء: الإعطاء قال أبو زيد: أتَوْتُ الرجلَ آتُوه إتاوَةٌ، وهي الرّشوة.
وقال الزمخشري: الأيتام الذين مات آباؤهم، وَالايُتْمُ: الانفراد، ومنه الرملة اليتيمة، والدُّرة اليتيمة.
وقيل: [اليتيم] في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات.
قال: وحق هذا الاسم أن يقع على الضعفاء والكبار لمن يبقى معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنَّ في العرف اختصّ هذا الاسم بمن لم يبلغ، فإذا صار مستعينً بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافله، زال عنه هذا الاسم؛ وكانت قريش تقول لرسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يَتِيم أبي طَالِبٍ، إمَّا على القياس، وإما حكاية للحال التي كان عليها حين صغره ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له.
وأما على قوله عليه السلام: «لاَ يتم بَعْدَ بُلُوغ» فهو تعليم للشريعة لا تعليم للغة.
وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه: إذا أونِسَ منه الرشد انقطع يتمه.(6/150)
وفي بعض الروايات: إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعدُ [فأخبر ابن عباس] أن اسم اليتيم يلزمه بعد البلوغ، إذا لم يؤنس منه الرُّشْدُ، ثم قال أبو بكر: «واسم اليتم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها» .
قال عليه السلام: «تستأمر اليتيمة في نفسها» وهي لا تستمر إلاَّ وهي بالغة.
قال الشاعر: [الرجز]
1732 - إنَّ الْقُبٌورَ تَنْكِحُ الأيَامى ... النِّسْوَةَ ولأرَمِلَ الْيَتَامَى
فالحاصل أنّ اسم اليتيم بحسب اللُّغة يتناول الصغير والكبير.
فإن قيل: كيف جُمِعَ اليتيمُ على يتامى؟ واليتيم فعيل: فيجمع على فعلى، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى؟ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فيه وجهان.
أحدهما: أن يقال: إن جمع اليتيم، يَتْامَى، ثمّ يجمع فعلى على فَعَالَى كأسير وأسَارِى.
والثاني: أن نقول: جمع اليتيم يتائم؛ لأن اليتيم جار مجرى الاسم نحو «صاحب» و «فارس» ثم تنقلب «اليتائم» «يتامى» .
قال القفّال: «ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى، ويجوز أيضاً يتيم وأيتام كشريف وأشراف» .
فإن قيل: إن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيماً، فكيف قال: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} .
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أن يقال: المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا، وسمَّاهم لله - تعلى - يتامى، إما على أصل اللغة، وإما لقرب عهدهم باليُتْم، وإن كان قد زال من هذا الوقت(6/151)
كقوله تعالى:
{وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120] .
أي: الذين كانوا سحرة قبل السُّجود، وأيضاً سمَّى اللهُ تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] والمعنى مقاربة الأجل، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] والإشهاد عليهم لا يصح قبل البلوغ.
الوجه الثاني: أن يقال: المراد باليتامى الصِّغار، وعلى هذا ففي الآية وجهان:
أحدهما: أن قوله «وَآتَوَا» أمر، والأمر يتناول المستقبل فيكون المعنى: أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم. فتزول المناقضة.
والثاني: أنَّ المُرَاد: وآتوا اليتامى حال كونهم يَتَامَى ما يحتاجونه مِنْ نفقتهم وكسوتهم، والفائدة فيه: أنه كان يجوز أن يظنّ أنّه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال صغره، فباح اللهُ - تعالى - ذلك، وفيه إشكال وهو: أنه لو كان المراد ذلك لقال: وآتوهم من أموالهم، والآية تَدُلُّ على إيتائهم كل مالهم.
فصل
نقل أبو بكر الرازيُّ في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم، وعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى، فَشَكَوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزل اللهُ تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] . فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
قال المفسرون: الصحيح أنها «نزلت في رجل من غطفان، كان معه كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمُّهُ فترافعا إلى النَّبيِّ صلى لله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فلما علمها العَمُّ قال: أطَعْنَا لرَّسُولَ، نعوذ بالله من الحُوب الكبير، ودفع إليه ماله فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيطعْ رَبَّهُ هكذا فإنَّهُ يَحِلُّ دَارَهُ «أي: جَنَّتهُ، فلما قبض الصَّبِيُّ ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى لله عليه وسلم» ثَبَتَ الأجْرُ وَبَقِيَ الوِزْرُ «.
قال القرطبيُّ: وإيتاء اليتامى أموالهم يكون من وجهين:(6/152)
أحدهما: إجراء الطَّعام والكسوة ما دامت الولاية، إذْ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي كالصغير والسفيه الكبير.
والثاني: الإيتاء بالتمكين وتسليم المال إليه، وذلك عند ابتلاء والإرشاد وتكون تسميته حينئذ يتيماً مجازاً بمعنى: الَّذي كان يتيماً استصحاباً للاسم، كقوله {فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} [الشعراء: 46] أي الذين كانوا سحرة، وكان يقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» يتيم أبي طالب «فإذا تحقَّقَ الوليّ رشده حَرُمَ عليه إمساك ماله عنه.
قال أبو حنيفة: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، أعطي ماله على كل حال؛ لأنَّه يصير جداً.
قوله: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ} وقد تقدَّم في البقرة قوله: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ}
[البقرة: 59] أنَّ المجرور بالباء هو المتروك، والمنصوب هو الحاصل، وتفعل هنا بمعنى استفعل، وهو كثير، نحو تَعَجَّل وَتََأَخَّرَ بمعنى استعجل واستأخر ومن مجيء تبدَّلَ بمعنى اسْتَبْدَلَ قولُ ذي الرمة: [الطويل]
1733 - فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا ... عَنِ الدَّارِ وَالمُسْتَخْلَفِ الْمَتِبَدِّلِ
أي: المستبدل.
قل الواحدي: «تبدل الشَّيء بالشيء إذا أخذ مكانه» .
قوله: «بالطّيب» .
هو المفعول الثاني ل «تتبدلوا» .
وفي معنى هذا التبدُّل وجوه:
الأول: قال الفرّاء والزَّجَّاج: لا تستبدلوا الحرام، وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي لأبيح لكم.
الثاني: قل سعيد بن المسيب والنخعي والزهْري والأسُّدِّيُّ: وكان ولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتم ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد، ويجعل مكانه الزيف، يقول: درهم بدرهم، فَنُهُوا عن ذلك.
وطعن الزمخشريُّ: في هذا الوجه فقال: ليس هذا تَبَدُّلاً، إنما هو تبديل.(6/153)
الثالث: أن يكون صديقه فيأخذ منه نعجة عجفاء مكان سمينة من مال الصبي.
الرابع: معناه لا تأكلوا مال اليتيم سلفاً مع التزام بَدَلِهِ بعد ذلك.
فصل
قل أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «الطيِّب» في القرآن على أربعة أوجه:
الأول: الحلال كهذه الآية.
الثاني: بمعنى الظَّاهر كقوله تعالى: {صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] أي: ظاهراً.
الثالث: بمعنى الحَسَن قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] أي: الحسن، ومثله {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] أي: الكلام الحسن للمؤمنين.
الرابع: الطيِّبَ: المؤمن قال تعالى: {حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} [آل عمران: 179] يعني: الكافر من المؤمن.
قوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} في قوله ثلاثة أوجه:
أحدها: أن «إلى» بمعنى «مع» كقوله: {إِلَى المرافق} [المائدة: 6] ، وهذا رأي الكوفيين.
الثاني: أنها على بابها وهي ومجرورها متعلّقة بمحذوف على أنَّه حال، أي: مضمومة، أو مضافة إلى أموالكم.
الثالث: أن يضمَّن «تأكلوا» بمعنى «تضموا» كأنه قيل: ولا تَضمُّوها إلى أموالكم آكلين.
قال الزمخشري: «فإن قلت: قد حَرَّمَ عليهم أكل مال اليتامى، فدخل فيه أكله وحده ومع أموالهم، فَلِمَ ورد النهي عن أكلها معها؟
قلت:» لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله - تعالى - من الحلال، وهم من ذلك يَطْعمون منها، كان القبحُ أبلغ والذمُّ ألحق، ولأنهم كنوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم، وَنَّعَ بهم ليكون زجر لهم «.
واعلم أنه تعالى، وَإن ذكر الأكل، فالمرادُ به سائر التصرفات المملكة للمال، وإنما(6/154)
ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع التصرف لأجله.
قوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً} في الهاء ثلاثة أوجه:
حده: أنها تعود على الأكل المفهوم، من» لا تأكلوا «.
الثَّاني: على التبدُّلِ المفهوم من» لا تَتَبَدَّلُوا الخبيث «.
الثالث: عليهما ذهاباً به مذهب اسم الإشارة نحو:
{عَوَانٌ
بَيْنَ
ذلك
} [البقرة: 68] ومنه: [الرجز]
1714 - كأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ ... وقد تقدم ذلك في البقرة، والأول أولى لأنه أقرب مذكور.
وقرأ الجمهور «حُوبً» بضم الحاءِ، ولحسن بفتحها، وبعضهم: «حَباً» بالألف، وهي لغت في المصدر، والفتح لغة تميم.
ونظير الحوْب والحاب، والقول والقال، والطُّرد والطَّرْد - وهو لإثم - وقيل: المضموم اسم مصدر، [والمفتوح مصدر] وصله من حوب الأبل، وهو زجرها فسُمِّي به لإثم؛ لأنه يزجر به، ويطلق على الذَّنب أيضاً؛ لأنه يزجر عنه، ومنه قول عليه السلام: «إنَّ طَلاقَ أمِّ أيُّوبَ لَحُوبْ» أي: لذنب عظيم. وقل القرطبي: والحوبُ الوحشة، ومنه قوله عليه السَّلام أبي أيوب «إن طلاق أم أيوب لحوب» .
قال القفال: وكأن أصل لكلمةِ من لتَّحوُّبِ وهو التَّوجُّعُ، فالحوبُ هو ارتكاب ما يتوجَّعُ لمرتكبُ منه، يقال: حَابَ يَحُوب، حَوْباً، وحَاباً وحِيابة.
قال المخبل السعدي: [الطويل]
1735 - فلا يَدْخُلَنَّ الدَّهْرَ قَبْرَكَ حُوبُ ... فَإنَّكَ تَلْقَاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ(6/155)
وقال آخر [الوافر]
1736 - وإنّ مُهَاجِرَيْنِ تَكَنَّفَاهُ ... غَدَاتَئِذٍ لَقَدْ خَطِئَا وَحَابَا
والحَوْبةُ: المرة الواحدة، والحَوْبَةُ: الحاجة، ومنه في الدعاء «إليكَ أرفع حَوْبَتِي» ، وأوقْعَ اللهُ الْحَوْبَة، و «تحوَّب فلان» إذا خرج من الحَوْب كتحرَّج وتَأَثَّمَ، والتضعيف للسَّلْبِ، و «الحَوِأب» بهمزة بعد الواو المكان الواسع والحوب الحاجة، يقال: ألحق اللهُ به الحوبةَ، أي: [المسألة] والحاجة، والمسكنة ومنه قولهم باب بحيبة سوء، وأصل الياء الواو، وتحوَّب فلان أي: تعبد وألقى الحوب عن نفسه، والتحوُّب أيضاً التحزُّن، وهو أيضاً الصياحُ الشديد كالزَّجْرِ.(6/156)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} شرط، وفي جوابه وجهان:
أحدهما: أنه قوله: {فانكحوا} وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ، والعشر، ولا يقومون بحقوقهن، فلمَّا نزلت {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ} أخذوا يَتحرّجونَ من ولاية اليتامى، فقيل لهم: إن خفتم من الجورِ في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجور في حقوق النساء، فانكحوا ما طاب لكم من [النساء مثنى وثلاث ورباع من] الأجنبيات أي: اللاتي لسن تحت ولايتكم، فعلى هذا يحتاج إلى تقدير مضاف، أي: في نكاح يتامى النساء.
فإن قيل: «فواحدة» جواب لقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} فكيف يكون جواباً للأول؛ فالجواب: أنَّهُ أَعَادَ الشرط الثاني لأنه كالأول في المعنى، لما طالَ الفصل بين الأول وجوابه وفيه نظر لا يخفى. والخوف هنا على بابه فالمراد به الحذر.
وقال أبو عبيدة إنه بمعنى اليقين وأنشد الشاعر: [الطويل]
1737 - فَقُلْتُ لهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِي الْمُسَرَّدِ(6/156)
أي: أيقِنُوا، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيْقُ ذلك والردُّ عليه عند قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229] .
قوله: {أَلاَّ تُقْسِطُواْ} إنْ قَدَّرَتْ أنها على حذف حرف الجر، أي: «مِنْ أن لا» ففيها الخلاف المشهور أي: في محل نصب [أو جر، وإنْ لم تقدّر ذلك بل وصل الفعل إليها بنفسه، كأنك قلت: «فَإنْ حَذَرْتم» فهي في محل نصب] فقط كما تَقَدَّمَ في البقرة.
وقرا الجمهور: «تقسطوا» بضم التاء، من أقْسَط: إذا عدل، فتكون لا على هذه القراءة نافيةُ، والتقديرُ: وإنْ خِفْتُمْ عدم الإقساط أي: العدل.
وقرأ إبراهيم النخعي: ويحيى بن وثَّاب بفتحها من «قسط» وفيها تأويلان:
أحدهما: أن «قَسَطَ» بمعنى «جار» ، وهذا هو المشهور في اللغة، أعني أن الرباعي بمعنى عَدَلَ، والثلاثي بمعنى جار، وكأنَّ الهمزة فيه للسَّلْبِ بمعنى «أقسط» أي: أزال القسط وهو الجور، و «لا» على هذا القول زائدة ليس إلا، وإلا يفسد المعنى كهي في قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] .
والثاني: حكي الزجاج أن «قسط» الثلاثي يستعمل استعمال «أقسط» الرباعي، فعلى هذا تكون «لا» غير زائدة، كهي في القراءة الشهيرة؛ إلاَّ أنَّ التَّفْرِقَةَ هي المعروفةُ لغة.
قالوا: قاسطته إذَا غَلَبْتَهُ على قِسْطِهِ، فبنوا «قسط» على بناء ظلم وجار وغلب.
وقال الراغب: «القِسْط» أن يأخذ قِسْطَ غيره، وذلك جَوْرٌ، وأَقْسَطَ غيره، والإقسَاطِ أن يُعْطِيَ قِسْطَ غَيْرِهِ، وذلك إنصاف، ولذلك يقال: قَسَطَ الرَّجُلُ إذَا جَار، وأَقْسَطَ إذَا عدَلَ، قال تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] .
[وقال تعالى: {وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] .
وَحُكِيَ أنَّ الحَجَّاجَ لما أحضر سعيد بن جبير، قال له: ما تقول فيَّ؟ قال: «قَاسِطٌ عادِلٌ» فأعجب الحاضرون، فقال لهم الحجاج: ويلكم لم تفهموا عنه إنّه جعلني جائراً كافراً، ألم تسمعوا قوله تعالى:
{وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] .
المادة من قوله: {قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] .
قوله: {مَا طَابَ} في «ما» هذه أوجه:
أحدها: أنها بمعنى الذي وذلك عند من يرى أن «ما» تكون للعاقل، وهي مسألة(6/157)
مشهورة، وذلك أن «ما» و «من» وهما يتعاقبان، قال تعالى: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] وقال: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] وقال {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} [النور: 45] .
وحكى أبو عمرو بن العلاء: سبحان من سبح الرعد بحمده.
وقال بعضهم: نَزَّلَ الإناث منزلة غير العقلاء كقوله: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] .
قال بعضهم: وَحَسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء، وهن ناقصات العقول. وبعضهم يقول: هي لصفات من يعقل.
وبعضهم يقول: لنوع من يعقل كأنه قيل: النوع الطيب من النساء، وهي عبارات متقاربة. فلذلك لم نعدّها أوجهاً.
الثاني: أنها نَكِرَةٌ موصوفة، أي: انكحوا جنساً طيباً أو عدداً طيِّباً.
الثالث: أنها مصدرية، وذلك المصدر واقع موقع اسم الفاعل، تقديره: فانحكوا [الطَّيِّبَ.
وقال أبو حيان: والمصدر مقدر هنا باسم الفاعل، والمعنى فانكحوا] النكاح الذي طاب لكم. والأول أظهر.
الرابع: أنها ظرفية تستلزم المصدريَّة، والتقدير: فانحكوا ما طاب مدة يطيب فيها النكاح لكم. إذا تقرر هذا، فإن قلنا: إنها موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، أو مصدرية، والمصدرُ واقع اسم الفاعل كانت «ما» مفعولاً ب «انكحوا» ويكون «من النساء» فيه وجهان:
أحدهما: أنها لبيان الجنس المبهم في «ما» عند مَنْ يثبت لها ذلك.(6/158)
والثاني: أنها تبعيضية، أي: بعض النساء، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من «ما طاب» وإن قلنا: إنها مصدرية ظرفية محضة، ولم يُوقع المصدر موقع اسم فاعل كما قال أبو حيان كان مفعول «فانكحوا» قوله «من النساء» نحو قولك: أكلت من الرغيفِ، وشربتُ من العسل أي: شيئاً من الرغيف وشيئاً من العسل.
فإن قيل: لِمَ لا يجعل على هذا «مثنى» وما بعدها هو مفعول «فانكحوا» أي: فانكحوا هذا العدد؟ فالجواب أن هذه الألفاظ المعدولة لا تلي العوامل.
وقرأ ابن أبي عبلة «مَنْ طَابَ» وهو يرجحُ كون «ما» بمعنى الذي للعاقل، وفي مصحف أبي بن كعب بالياء، وهذا ليس بمبني للمفعول؛ لأنه قاصر، وإنما كُتِبَ كذلك دلالة على الإمالة وهي قراءة حمزة.
فصل
اختلف المفسرون في كيفية تعلق هذا الجزاء بهذا الشرط فروى عروة قال: قلت لعائشة: ما معنى قول الله تعالى {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} .
فقالت: يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليِّها فَيرغَبُ في مالها وجمالها، إلاَّ أنَّهُ يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يَذُبُّ عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها، فقال تعالى: {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى} فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - ثم إن الناس استفتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد هذه الآية فيهن، فانزل اللهُ تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء [اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: 127] فالمراد منه هذه الآية، وهن قوله {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} .
وقيل: لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية المتقدمة في اليتامى وأكل أموالهم خاف الأولياء من(6/159)
لحوق الحوبِ بتركِ الإقْسَاطِ في حقوق اليتامى فتحرجوا من أموالهم، وكان الرجل منهم ربما كان عنده العشرة من الأزواج أو اكثر، ولا يقوم بحقوقهنَّ في العدل. فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل في النساء، فقللوا عدد المنكوحات؛ لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله، فكأنه لم يتحرّج، وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة والضحاك والسدي.
وقيل: لما تحرّجوا من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، قاله مجاهد.
وقال عكرمة: هو الرجل عنده النسوة ويكون عند الأيتام، فإذا أنفق ماله على النسوة، وصار محتاجاً أخذ في إنفاق مال اليتامى عليهن، فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} عند كثرة الزوجات فقد حرمت عليكم [نكاح] أكثر من أربع ليزول هذا الخوف، وهذه رواية لطاوس عن ابن عباس.
فصل
قال الواحدي والزمخشري: قوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} أي ما حلَّ لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها وهي الأنواع المذكورة في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] .
قال ابن الخطيب: وهذا فيه نظر؛ لأن قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} هو أمر إباحة، فلو كان المراد ما حل لكم لنزلت الآية منزلة قوله، أبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ من يكون نكاحها مباحاً لكم، وذلك يخرج الآية من الفائدة، وأيضاً على التقدير الذي ذكره تصير الآية مجملة؛ لأنَّ أسباب الحِلِّ والإبَاحَةِ لمَّا لَمْ تُذْكَرْ في هذه الآية صارت مجملة لا محالة،(6/160)
وإذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص، وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإجمال كان رفع الإجمال أولى؛ لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، والمجملُ لا يكون حجة أصلاً.
قوله «مَثْنَى» منصوب على الحال من «طَابَ» وجعله أبو البَقاء حالاً من «النساء» فأجاز هو وابن عطية أن يكون بدلاً من «ما» وهذان الوجهان [ضعيفان] .
أمَّا الأول: فلأنَّ الْمُحْدَّث عنه إنما هو الموصول وأتى بقوله {النسآء} كالتبيين.
وأما الثاني: فلأنَّ البدل على نِيَّةِ تكرار العامل، وقد تقدم أن هذه الألفاظ لا تباشر العوامل.
واعلم أن هذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف، وهل يجوز فيها القياس أم يقتصر فيها على السماع؟ قولان:
وقول الكوفيين وأبي إسحاق: جوازه.
والمسموع [من ذلك] أحد عشر لفظاً: أُحاد، وَمَوْحَد، وثُنَاء، وَمَثْنَى، وَثُلاَثَ، وَمَثْلَث، ورُباع، وَمَرْبَع، ولم يسمع خُماس ومَخْمس، وعَشار ومَعْشَر.
واختلفوا أيضاً في سبب منع الصرف فيها على أربعة مذاهب:
أحدها: مذهب سيبويه، وهو أنها مُنِعَتْ من الصرف للعدلِ والوصفِ أمَّا الوصف فظاهر، وَأَمَّا العدل فلكونها معدولة من صيغة إلى صيغة وذلك أنها معدولة عن عدد مكرر.
فإذا قلت: جاء القوم أحاد أو مَوْحَدَ أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ، كان بمنزلة قولك: جاءوا واحداً واحداً وثلاثةً ثَلاثَةً، ولا يُرادُ بالمعدولِ عنه التوكيد، إنما يُرادُ به تكرار العدد لقولهم: علمته الحساب باباً باباً.
والثاني: مذهب الفراء، وهو العدل والتعريف بنية الألف واللام ولذلك يمتنع(6/161)
إضافتها عنده لتقدير الألف واللام، وامتنع ظهور الألف واللام عنده لأنها في نِيَّة الإضافة.
الثالث: مذهب أبي إسحاق: وهو عدلها عن عدد مكرر وعدلها عن التأنيث.
والرابع: نَقَلَهُ الأخفش عن بعضهم، أنه تكرار العدل، وذلك أنه عَدَلَ عن لفظ اثنين اثنين، وعن معناه؛ لأنه قد لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد في المعدولة بقوله: جاءني اثنان وثلاثة، ولا تقول: «جاءني مَثْنَى وثلاث» حتى يتقدم قبله جمع؛ لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل، فإذا قلت: «جَاءَ الْقَوْمُ مَثْنَى» ، أَفَادَ أنَّ مجيئهم وقع من اثنين اثنين، بخلاف غير المعدولة، فَإنَّها تفيد الإخبار عن مقدارِ المعدودِ دُونَ غيره؛ فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العِلَّةُ مَقَامَ العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين - انتهى.
وقال الزمخشري: «إنَّمَا منعت الصرف لما فيها من العَدْلَيْن؛ عدلها من صيغتها، وعدلها عن تكررها، وهن نكرات يُعَرَّفْنَ بلام التعريف، يقال: فلان ينكح المثْنَى والثلاث» .
قال أبو حيان: «ما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا اعلم أحداً قاله، بل المذهب فيه أربعة» ذكرها كما تقدم، وقد يقال: إنَّ هذا هو المذهب الرابع وعبَّر عن العدل في المعنى بعدلها عن تكررها وناقشه [أبو حيان] أيضاً في مثاله بقوله: ينكح المثنى من وجهين:
أحدهما: دخول «أل» عليها، قال: «وهذا لم يذهب إليه أحد بَلْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ في لسان العرب إلاَّ نكرات»
الثاني: أنه أولاها العوامل، ولا تلي العوامل بل يتقدمها شيء يلي العوامل، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام:
«صلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة أو صفات نحو قوله تعالى: {أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] وقوله: [الطويل]
1738 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(6/162)
ذِئَابٌ تَبَغَّى النَّاسَ مَثْنَى وَمَوْحَدُ
وقد وقعت إضافتها قليلاً كقوله: [الطويل]
1739 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... بِمَثْنَى الزُّقَاقِ المُتْرَعَاتِ وَبِالجُزُرْ
وقد استدلَّ بعضهم على إيلائها العَوَامل على قِلَّةٍ بقوله: [الوافر]
1740 - ضَرَبْتُ خُمَاسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ ... أذارُ سُدَاس ألاَّ يَسْتَقِيمَا
ويمكن تأويله على حذف المفعول لفهم المعنى تقديره: ضربتهم خماس.
ومن أحكام هذه الألفاظ ألا تؤنث بالتاءِ، لا تقول: «مثناة» ولا «ثُلاثة» بل تَجْرِي على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً.
وقرأ النخعي وابن وثّاب «ورُبَعَ» من غير ألف، وزاد الزمخشري عن النخعي: «وثُلَثَ» أيضاً، وغيره عنه «ثُنَى» مقصوراً من «ثُناء» حَذَفوا الألف من ذلك كله تحقيقاً، كما حذفها الآخر في قوله: [الرجز]
1741 - ... ... ... ... ... ... ... ... يريد بارداً وَصلَّياناً بَرِدَا
فصل معنى قوله: «مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ» أي اثنين وثلاثاً وأربعاً أربعاً، والواو بمعنى «أو» للتخيير كقوله تعالى: {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى} [سبأ: 46] وقوله: {أولي(6/163)
أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج أكثر من أربع نسوة، وكانت الزيادة من خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فصل
ذهبَ أكْثرُ الفقهاء إلى أن قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} لا يتناول العبد؛ لأن الخطاب إنما يتناول إنساناً متى طلب امرأة قَدِرَ على نكاحها، والعبد ليس كذلك؛ لأنه لا يتمكن من النكاح إلا بإذن مولاه لقوله تعالى: {عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} [النحل: 75] ، فَيَنْفِي كونه مستقلاًّ بالنكاح.
وقال عليه السلام: «أيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذنِ مَوْلاَهُ فَهُوَ عَاهِرٌ» .
وقال مالك: يجوز للعبد أن يتزوج أربعاً لظاهر الآية.
وأجيب بأن قوله تعالى بعد هذه الآية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مختص بالأحرار؛ لأن العبد لا ملك له، وبقوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر، بل يكون لسيده.
قال مالك: إذا ورد عمومان مستقلان فدخول التقييد في الآخر لا يوجب دخوله في السابق.
وأجيب بأن هذه الخطابات وردت متوالية على نسق واحد، فلما ذكر في بعضها الأحرار علم أن الكل كذلك.
فصل
ذهبت طائفة فقالوا: يجوز التزويج بأيّ عدد شاء، واحتجوا بالقرآن والخبر، أمَّا القرآن فتمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه:
الأول: أن قوله {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} إطلاق في جميع الأعداد، بدليل أنه لا عدد إلاّ ويصح استثناؤه منه.(6/164)
وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل.
الثاني: أن قوله: «مثنى وثلاث ورباع» لا يصلح مخصصاً لذلك العموم؛ لأن تخصيص بعض الأعداد يدخل على رفع الحرج؛ والحجر مطلقاً، فإن الإنسانَ إذا قال لولده: افعل ما شئت، اذهب إلى السوق وإلى المدرسة، وإلى البستان، لم يكن تنصيصاً للإذن بتلك الأشْيَاء المذكورة فقط، بل يكون ذلك إذناً في المذكور، وغيره، هكذا هنا.
الثالث: أن الواو للجمع المطلق، فقوله تعالى: {مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} لا يدخل هذا المجموع، وهو تسعة، بل يفيد ثمانية عشر؛ لأن قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط، بل عن اثنين اثنين، وكذا البقية.
وأما الخبر فمن وجهين:
الأول: أنه ثبت بالتواتر أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مات عن تسع، وأمرنا الله باتباعه بقوله تعالى: {فاتبعوه} [الأنعام: 153] وأقل [مراتب] الأمر الإباحة.
الثاني: أن التزويج بأكثر من أربع طريقة عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فيكون سنةً له.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وهذا يقتضي الذم لمن ترك التزويج بأكثر من أربع، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.
أجاب القدماء بما رُوِيَ أن غَيْلاَنَ أسلم وتحته عشر نسوة فقال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أمْسِكْ أربعاً وَفَارِقْ بَاقِيهنَّ» وهذا ضعيف من وجهين:
الول: أن هذا نسخ للقرآن بخبر الواحد، وذلك لا يجوز.
الثاني: أن هذه واقعة حال، فلعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنَّما أمره بإرسال أربع ومفارقة البواقي؛ لأن الجمع بين الأربع وبين البواقي غير جائز، إمَّا لنسب أو رضاع، أو اختلاف دين محرم، وإذا قام الاحتمال فلا يمكن نسخ القرآن إلا بمثله.
واستدلوا أيضاً بإجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الربع، وهذا أيضاً فيه نظر من وجهين:
أحدهما: أن الإجْمَاعَ لا يُنْسَخُ به فكيف يقال: الإجماع نسخ هذه الآية؟
الثاني: أن هؤلاء الذين قالوا بجواز الزيادة على الأربع من جملة فقهاء الأمصار، والإجماع لا ينعقد مع مخالفة الواحد والاثنين.(6/165)
وأجيب عن الأول بأن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعن الثاني أن هذا المخالف من أهل البدعة، فلا عبرة بمخالفته.
فإن قيل: إذا كان المر على ما قلتم فكان الأولى أن يقال: «مثنى او ثلاث أو رباع» فلم جاء بواو العطف [دون «أو» ] .
فالجواب: أنه لو جاء بالعطف ب «أو» لكان يقتضي أنه يجوز ذلك إلا أحد هذه الأقسام، وألاَّ يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية، وبعضهم بالتثليث، والفريق الثالث بالتربيع، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسماً من هذه الأقسام، ونظيره أن يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف، درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة، فكذا ها هنا في ترك «أو» وذكر الواو.
فصل
قال مالك والشافعيُّ: - رحمهما الله تعالى - «إذا تزوج خامسة وعنده أربع عليه الحد إن كان عالماً» .
وقال الزُّهْرِيُّ: «يرجم إذا كان عالماً، وإذا كان جاهلاً عليه أدنى الحدين، الذي هو الجلد وهو مهرها، ويفرِّق بينهما ولا يجتمعان أبداً» .
وقال النُّعْمَانُ: «لا حدّ عيه في شيء من ذلك» .
وقالت طائفة: «يحدُّ في ذات المحرم، ولا يحدّ في غير ذلك من النكاح، مثل أن يتزوج مجوسية، أو خمساً في عقد، أو تزوّج معتدة، أو بغير شهود، أو [تزوج] أمة بغير إذن مولاها» .
قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} شرط، إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله: {وَلَن تستطيعوا} [النساء: 129] ما أنتج [من] الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوّج غير واحدة، أو يتسرَّى بما ملكت يمينه، ويبقى الفصل بجملة الاعتراض لا فائدة له، بَلْ يكون لغواً على زعمه.
والجمهور على نصب «فواحدة» بإضمار فعل أي: فانكحوا واحدة وطؤوا ما ملكت(6/166)
أيمانكم، وإنما قدّرنا ناصباً آخر لملك اليمين؛ لأن النكاح لا يقع في ملك اليمين، إلا أن يريد به الوطء في هذا، والتزويج في الأول، فيلزم استعمال المشترك في معنيين أو الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكلاهما مقول به، وهذا قريب من قوله: [الرجز]
1742 - عَلَفْتُهَا تِبْنَاً وَمَاءً بَارِدَاً..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وبابه.
وقرأ الحسن وأبو جعفر: «فواحدةٌ» بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: الرفع بالابتداء، وسوَّغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على فاء الجزاء، والخبر محذوف أي: فواحدة كافية.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالمقنع واحدة.
الثالث: أنه فاعل بفعل مقدّر أي: يكفي واحدة.
و «أو» على بابها من كونها للإباحة أو التخيير. و «ما ملكت» كهي [في قوله] : «مَا طَابَ» [فإن قيل: المالك هو نفسه لا يمينه، فلِمَ] أضاف المِلْك لليمين [فالجواب] لأنها محل المحاسن، وبها تُتَلَقَّى رايات المجد.
وروي عن أبي عمرو: «فما ملكت أيمانكم» ، والمعنى: إن لم يعدل في عِشْرَةِ واحدة فما ملكت يمينه.
وقرأ ابن أبي عبلة «أو من ملكت أيمانكم» .
ومعنى الآية: إن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة، أو بالمملوكة.
قوله: «ذلك أدنى» مبتدأ وخبر، و «ذلك» إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي.
و «أدنى» أفعل تفضيل من دنا يدنو أي: قرُب إلى عدم العول.
قال أبو العباس المقرئ: «ورد لفظ أدنى في القرآن على وجهين:
الأول: بمعنى أحرى قال تعالى: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} .
والثاني: بمعنى» دون «قال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] يعني الرديء بالجيد» .(6/167)
قوله تعالى: {أَلاَّ تَعُولُواْ} في محل نصب أو جرٍّ على الخلاف المشهور في «أن» بعد حذف حرف الجر، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثة أوجه:
أحدها: «إلى» أي: أدنى إلى ألا تعولوا.
والثاني: «اللام» والتقدير: أدنى لئلا تعولوا.
والثالث: وقدّره الزمخشريُّ من ألا تميلوا؛ لأن أفعل التفضيل يجري مجرى فعله، فما تعدى به فعله [تعدى] هو به، وأدنى من «دنا» و «دنا» يتعدى ب «إلى» و «اللام» ، و «من» تقول: دنوت إليه، وله، ومنه.
وقرأ الجمهور: «تعولوا» من عال يعول إذا مال وجار، والمصدر العول والعيالة، وعال الحاكم أي: جار.
حكي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له: أتعول عليَّ.
وقال أبو طالب في النبي عليه السلام [الطويل]
1743 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... لَهُ حَاكِمٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - مرفوعاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء: 3] قال: «لاَ تَجُورُوا» .
وفي رواية أخرى «ألا تميلوا» .
قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: «كلا اللفظين مرويّ؛ وعال الرجل عيالَهُ يَعُولهم إذا مانَهُمْ من المؤونة ومنه أبْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بمَنْ تَعُول» .(6/168)
وحكى ابن العرابي: عال الرجل يعول: كثر عياله، وَعَالَ يِعِيلُ افتقر وصار له عائلة، والحاصل أن «عال» يكون لازماً ومتعدياً، فاللازم يكون بمعنى: مال وجار، والمتعدي ومنه «عال الميزان» .
قال أبو طالب: [الطويل]
1744 - بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَغِلُّ شَعِيرَةً ... وَوَزَّان صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ
وعالت الفريضة إذا زارت سهامها، ومعنى كثر عياله، وبمعنى تفاقم الأمر، والمضارع من هذا كله يَعُولُ، وعال الرجل افتقر، وعالَ في الأرض: ذهب فيها، والمضارع من هذين يَعِيل، والمتعدي يكون بمعنى أثقل، وبمعنى مانَ من المؤونة، وبمعنى غَلَبَ ومنه «عيل صبري» ، ومضارع هذا كله يَعُول، وبمعنى أعجز، تقول: أعجزني الأمرُ، ومضارع هذا يَعيل، والمصدر «عَيْل» و «مَعِيل» ، فقد تلخص من هذا أن «عال» اللازم يكون تارة من ذوات الواو، وتارة من ذوات الياء، باختلاف المعنى، وكذلك عال المتعدي أيضاً. ومنه: [الطويل]
1745 - وَوَزَّانُ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ ... وفسَّر الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ {تَعُولُواْ} بمعنى يكثر عيالُكُم.
وردَّ هذا القول جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب النظم.
قال الرازي: «هذا غلط من جهة المعنى واللفظ، أما المعنى فللإباحة السراري صح أنه مظنة كثرة العيال كالتزويج، وأما اللفظ؛ فلأن مادة عال بمعنى كثر عياله من ذوات الياء؛ لأنه من العَيْلَةِ، وأما عال بمعنى» جار «فمن ذوات الواو، واختلفت المادتان، وأيضاً فقد خالف المفسرين» .
وقال صاحبُ النظم: قال أولاً «ألاَّ تعدلوا» فوجب أن يكون ضده الجور.
وأجيب عن الأول وهو أنَّ التَّسْتَرِي أيضاً يكثر معه العيال، مع أنه مباح ممنوع؛ لأن الأمة ليست كالزوجة؛ لأنه يعزل عنها بغير إذنها، ويؤجرها ويأخذ أجرتها ينفقها عليه وعلى أولاده وعليها.
قال الزمخشري: «وجههُ أن يُجْعَلَ من قولك: عَالَ الرجلُ عياله يعولهم كقولك:(6/169)
مانَهم يُمُونهم أي: أنْفَقَ عليهم؛ لأن من كثر عياله لَزِمَهُ أن يَعُولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة من كسب الحلال والأخذ من طيب الرزق» ثم أثنى على الشافعي ثناءً جميلاً، وقال: ولكن للعلماء طُرق وأساليبُ، فسلك في تفسير هذه الآية مسلك الكنايات، انتهى.
وأما قولُهم: «خالف المفسرين» فليس بصحيح، بل قاله زيد بن أسلم وابن زيد.
واما قولهم: «اختلفت المادتان» فليس بصحيح أيضاً؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن الأعرابي عن العرب: عال الرجل يعول كثر عياله، وحكاها الْكِسَائِيُّ أيضاً قال: يقالُ: عالَ الرَّجل يَعُولُ، وأعال يعيل كثر عياله.
قال أبو حاتم: كان الشَّافِعِيُّ أعْلَمَ بلسانِ العرب مشنَّا، ولعلّه لغة، ويقال: هي لغة «حمير» ونقلها أيضاً الدَّوْرِيُّ المقرِئُ لغةً عِنْ حِمْيَرَ وأنشد [الوافر] :
1746 - وَإنَّ الْموتَ يأخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... بِلاَ شَكٍّ وَإنْ أمْشِي وَعَالا
أمشى: كثرت ماشيته، وعَالَ كَثُرَ عياله، ولا حجَّةَ في هذا؛ لاحتمال أن يكون «عال» من ذَوَاتِ الياء، وهم لا يُنْكِرُونَ أنَّ «عال» يكون بمعنى كثر عياله، ورُوِيَ عنه أيضاً أنَّهُ فَسَّرَ تعولوا بمعنى تفتقروا، ولا يُريدُ به أنَّ «تعولوا» وتعيلوا بمعنى، بل قصد الكِنَايَة أيضاً؛ لأن كثرةَ العيالِ سَبَبٌ للفقر.
وقرأ طلحة: «تَعيلوا» بفتح تاء المضارعة من عال يعيل افتقر قال: [الوافر]
1747 - فَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وقرأ طاوس: «تُعيلوا» بضمها من أعَالَ: كثر عياله، وهي تُعَضَّدُ تفسير الشَّافعيِّ المتقدِّم من حيث المعنى.
وقال الرَّاغبُ: عَالَهُ، وَغَالَهُ يتقاربان، لكن الغَوْلَ: فيما يُهلك والعَوْل فيما يُثْقِلُ.(6/170)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
مفعول ثانٍ، وهي جمع «صَدُقة» بفتح الصَّاد وضمَّ الدَّال بزنة «سَمُرة» ، والمرادُ(6/170)
بها: المهر وهذه هي القراءة المشهُورَةُ، وهي لُغَةُ الحجاز.
وقرأ قتادةُ: «صُدْقاتهن» بضمِّ الصَّادِ وإسكان الدَّال، جمعُ صُدْقَةٍ بزنة غُرْفَةٍ.
وقرأ مجاهدٌ وابن أبي عبلة بضمهما وهي جمع صدقة بضم الصاد والدال، وهي تثقيل الساكنة الدَّال للاتباع.
وقرأ ابن وثاب والنخعي «صُدُقَتَهُنَّ» بضمهما مع الإفراد.
قال الزَّمخشريُّ وهي تثقيل صُدْقة كقولهم في «ظُلْمة» «ظُلُمة» ، وقد تقدم الخلاف، هل يجوز تثقيل الساكن المضموم الفاء؟
وقرئ: «صدقاتهن» بفتح الصَّادِ وإسْكَانِ الدَّالِ وهي تخفيف القراءة المشهورة، كقولهم في عَضُد: عَضْد.
قال الوَاحِدِيُّ: «ولفظ الصَّاد والدَّال والقاف موضوع للكمال والصحة، يسمّى المهر صداقاً وصدقة وذلك لأنَّ عقد النكاح به يتم.
وفي نصب» نحلة «أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّها منصوبةِ على المصدر، والعامل فيها الفعل قبلها؛ لأن» آتوهن «بمعنى انحلوهُنَّ، فهي مصدر على غير الصدر نحو:» قَعَدْت جلوساً «.
الثاني: أنها مصدرٌ واقِعٌ موقع الحال، وفي صاحب الحال ثلاثة احتمالات:
أحدها: أنَّهُ الفاعل من» فآتوهن «أي: فآتوهن ناحِلين.
الثاني: أنَّهُ المفعول الأوَّل وهو: النِّسَاءُ.
الثالث: أنه المفعول الثاني وهو» صدقاتهن «. أي: منحولات.
الوجه الثَّالثُ: أنَّها مفعول من أجله، إذا فُسِّرَتْ بمعنى: شِرْعة.
الوجه الرابع: انتصابها بإضمار فعل بمعنى: شَرَعَ أي: نحل الله ذلك نِحلة، أي: شَرَعَةُ شِرْعة وديناً.
والنِّحْلَةُ العَطِيَّةُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ، والنَّحْلَة: الشِّرْعَة، ومنه: نِحْلة الإسلام خَير النحل، وفلان ينتحل بكذا: أي يَدِيِنُ به، والنَّحْلَةُ: الفَرِيضةُ.(6/171)
قال الراغب: والنِّحْلَة والنَّحْلَةُ: الْعَطِيَّةُ على سبيل التبرع، وهي أخصُّ من الهِبَةَ، إذ كُل هبة نحلة من غير عكس، واشتقاقهُ فيما أرَى من النَّحْلِ، نظراً منه إلى فعله، فكأن» نَحَلْتهُ «أعْطَيْتَهُ عَطِيةَ النحل، ثم قال: ويجوز أن تكون النِّحْلةُ أصلاً فَسُمَّى النَّحْلُ بذلك اعتباراً بفعله.
وقال الزَّمخشريُّ: مِنْ نَحَلَه كذا أي: أعطاه إيَّاه ووهبه له عن طيب نفسه، نِحْلَةً وَنَحْلاً، ومنه حديث أبي بكر - رضي الله عَنْهُ -:» غنّي نَحَلْتُكَ جِدَادَ عِشْرِينَ وِسْقاً «.
قال القَفَّالُ: وأصله إضافة الشيء إلى غير من هو له، يقال: هذا شعر منحول، أي: مضاف إلى غير قائله، وانتحلت كذا إذا ادَّعَْتَهُ وَأَضَفْتَهُ إلى نَفْسِكَ.
فصل من المقصود بالخطاب في الآية
في هذا الخطاب قولان:
أحدهما: أنه» لأولياء « [النساء] ؛ لأنَّ العربَ كانت في الجاهليَّةِ لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً، وكذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئاً لك النافجة، ومعناه: أنَّك تأخذ مهرها إبلاً فَتَضُمَّهَا إلى إبلك فتنفج مالك اي: تعظمه، وقال ابن العرابي: النافجة ما يأخذه الرَّجلُ من الحلوانِ إذا زوج ابنته، فَنَهى الله عن ذلك، وامر بدفع الحقِّ إلى أهله، وهذا قول الكلبيِّ وأبي صالح واختيار الفرَّاء وابن قتيبةَ.
وقال الحضرميّ: وكان أولياء النساء يُعطى هذا أُخْتَه على أن يعطيه الآخرُ أخته، ولا مهر بينهما، فَنُهوا عن ذلك، «ونهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الشِّغَار» ، وهو أن يزوج الرَّجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ولا صداق بَيْنَهُمَا.
الثاني: أنَّ الخطاب للأزواج، أمِرُوا بإيفاء مهور النساء، وهذا قول علقمة، والنَخَعِيّ وقتادة، واختيار الزجَّاج، لأنه لا ذكر للأولياء ها هنا، والخطاب قبله للأزواج.
قال قَتَادَةُ: نحلة فريضة.(6/172)
وقال ابن جريج: فريضة مسمَّاة.
قال أبو عبيدة: لا تكون النِّحْلَةُ إلاَّ مُسَمَّاة ومعلومة. قال القَفَّال: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد منه الالتزام كقوله تعالى: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} [التوبة: 29] أي: يضمنوها ويلتزموها، فعلى الول المراد دفع المُسَمَّى، وعلى الثاني أن المراد بيان أن الفروج لا تُستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمَّي أو لم يسمَّ، إلا ما خُصَّ به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الموهوبة.
قوله: «فإن طبن لكم منه» «منه» في محل جر؛ لأنه صفة ل «شيء» فيتعلق بمحذوف أي: عن شيء كائن منه.
و «مِنْ» فيها وجهان:
أحدهما: أنها للتبغيض، ولذلك يجوز أن تَهَبَهُ كُلَّ الصَّداق.
قال ابن عطيَّة: و «مِنْ» لبيان الجنس ها هنا ولذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو [وقعت] على التبغيض لما جَازَ ذلك انتهى.
وقد تَقَدَّمَ أن الليث يمنع ذلك، ولا يشكل كونها للتَّبغيض، وفي هذا الضمير أقوال:
أحدها: أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه ب {صَدُقَاتِهِنَّ} .
الثاني: أنه يعود على «الصَّدُقات» لسدِّ الواحِدِ مَسَدَّها، لو قيل: صَداقَهُنَّ لم يختلَّ المعنى، وهو شبيهٌ بقولهم: هو أحسنُ الفتيان وأجْمَلُهُ؛ ولأنه لو قيل: «هو أحسنُ فتىً» لَصَحَّ المعنى.
ومثله: [الرجز]
1748 - وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ ... في «برد» ضمير يعود على «ألبان» لسدِّ «لبن» مسدَّها. الثالث: أنه يعود على «الصَّدُقات» أيضاً، لكن ذهاباً بالضمير مذهب الإشارة فَإنَّ اسم الإشارة قد يُشارُ بِهِ مفرداً مذكراً إلى أشياء تقدمت، كقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن(6/173)
ذلكم} [آل عمران: 15] بعد ذكر أشياء قبله، وقد تقدم ما روي في البقرة ما حكي عن رؤية لما قيل له في قوله: [الرجز]
1749 - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادِ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
فقال: أردت ذلك فأجْرَى الضمير مجرى اسم الإشارة.
الرابع: أنه يعود على المال، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لأنَّ الصَّدُقاتِ تدُلُّ عليه.
الخامس: أنه يعود على الإيتاء المدلول عليه ب «آتوا» ، قاله الرَّاغب وابن عطيَّة.
السَّادس: قال الزمخشريُّ «ويجوز أن يُذَكَّر الضمير؛ لينصرف إلى الصَّداق الواحد، فيكون متناولاً بَعْضَهُ، ولو أَنّثَ لتناول ظاهرة هبةَ الصَّداق كُلِّه؛ لأنَّ بعض الصُّدقات واحد منها فصاعداً» .
وقال أبو حَيَّان: وأقولُ حَسَّن تذكير الضمير أن معنى «فَإنْ طِبْنَ» فإن طابَتْ كُلُّ واحدةٍ فلذلك قال: «منه» أي: مِنْ صَداقِها، وهو نظير قوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} [يوسف: 31] ؛ أي لكلّ واحدة منهن، ولذلك أفرد «متكأ» .
قوله: «نَفْسَاً» منصوب على التَّمييز، وهو هنا منقولٌ من الفاعل؛ إذ الأصل: فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ، ومثله {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] .
وهذا منصوب عن تمام الكلام، وجِيء بالتمييز هنا مفرداً، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدم اللَّبْسِ، إذْ من المعلوم أنَّ الكُلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ في نفسٍ واحدةٍ، ومثله: قَرَّ الزيدون عيناً، كقوله: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْع} [هود: 77] وقيل: لَفْظثهَا واحد ومعناها جمع، ويجوز «انفساً» «وأعيناً» وَلاَ بُدَّ مِنَ التعرُّض لقاعدةٍ يَعُمُّ نفعها، وهي أنَّه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصبٍ عن تمام الكلام فلا يخلو: إمَّا أن يكون موافقاً لما قبله نحو: كَرُمَ الزيدون رجالاً، كما يطابقهُ خبراً وصفةً وحالاً.
وإن كان الثاني: فإمَّا أن يكونَ مفرد المدلول أو مختلفة، فإن كان مفردَ المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد: كَرُمَ بنو زيدٍ أباً أو أصلاً، أي: إنَّ لهم جميعهم أباً واحداً متصفاً بالكرمِ، ومثله «كَرم التقياء سَعْياً» ، إذا لم تَقصدْ بالمصدر اختلافَ الأنواع لاختلاف محالَّه، وإنْ كَانَ مختلفَ المدلول: فإما أن يُلبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أولاً، فإن ألْبَسَ وَجَبَت المطابقُ نحو: كَرُمَ الزيدون آباء، أي: أن لكل واحد أباً غير أب الآخر يتصفُ بالكرمِ، ولو أفردت هنا لَتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أبٍ واحد، والغرضُ خلافه، وإنْ لم يُلبس جاز الأمران المطابقة والإفراد، وهو الأوْلى، ولذلك جاءت عليه(6/174)
الآية الكريمةُ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمع، وَحَسَّنَ الإفرادَ ها هنا أيضاً ما تقدَّم مِن مُحَسِّنِ تذكير الضمير وإفراده في «منه» ، وهو أنَّ المعنى: فإن طابت كُلُّ واحدة نفساً.
وقال بعض البصريين: «إنَّما أفرد؛ لأن المراد بالنفس هنا الهوى، والهوى مصدر، والمصادر لا تُثَنَّى ولا تجمع» .
وقال الزَّمخشريُّ: و «نَفْسَاً» تمييزٌ، وتوحيدثها؛ لأن الغرضَ بيانُ الجنس والواحد يدل عليه. ونحا أبو البَقاءِ نَحْوَهُ، وشَبَّهَهُ ب «درهماً» في قولك: عشرون درهماً.
واختلف النحاةُ في جوازِ تقديمِ التمييزِ على عامله إذا كان متصرفاً فمنعه سيبويه، وأجازه المبرد وجماعة مستدلين بقوله: [الطويل]
1750 - أتَهْجُرُ لَيْلَى بِالفُرَاقِ حَبيبَها ... وَمَا كَانَ نَفْساً بالفراقِ تَطِيبُ
وقوله: [الطويل]
1751 - رَدَدْتُ بِمِثْلِ السَّيدِ نَهْدٍ مُقَلَّصٍ ... كَمِيشٍ إذَا عِطْفَاهُ مَاءً تَحَلَّبَا
والأصل تطيبُ نفساً، وتحلَّبا ماء، وفي البيتين كلامٌ طويل ليس هذا محلَّه، وحجةُ سيبويه في منع ذلك انَّ التَّمييز فاعل في الأصْلِ، والفاعِلُ لا يَتضقَدَّم، فكذلك ما في قوته، واعترضَ على هذا بنحو: زيداً، من قولك أخرجْتُ زيداً، فإن زيداً في الأصل فاعل قبل النَّقْل، إذ الأصل: خرج زيدٌ والفرق لائح فالتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم. والجارّان في قوله {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ} متعلقان بالفعل قبلهما متضمناً معنى الاعراض، ولذلك عُدِّي ب «عن» كأنَّهُ قيل: فَإن أعْرَضْنَ لَكُمْ عِن شيء منه طيبات النفوس، والفاء في «فَكُلوه» جواب الشرط وهي واجبة، والفاء في «فُكلوه» عائدة على «شيء» .
فإن قيل: لِمَ قال: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ} ولم يقل: وَهَبْنَ لَكُمْ أوْ سَمضحْنَ لَكُمْ؟
فالجواب أنَّ المراعى وهو تجافي نفسها عن بالموهوب طيبة] .
قوله: «فكلوه هنيئاً مريئاً» .(6/175)
في نصب «هَنِيئاً» أربعةُ أقوال:
أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: أكْلاّ هنيّئاً.
الثاني: أنه منصوب على الحال من الهاء في «فَكُلُوهُ» أي: مُهَنِّئاً، أي سهلاً.
والثالث: أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهاره ألبتة؛ لأنَّهُ قصد بهذه الحالِ النيابةُ عن فعلها نحو: «أقائماً وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ» ، كما ينوب المصدر عن فعله نحو «سَقْياً لَهُ وَرَعْياً» .
الرابع: أنهما صفتان قامتا مقام المصدر المقصود به الدعاءُ النائب عن فعله.
قال الزَّمَخشرِيُّ: «وقد يوقف على» فَكُلُوهُ «ويبتدأ ب» هنيئاً مريئاً «على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين؛ كأنه قيل:» هَنْئاً مًرْءاً «.
قال أبو حيان: وهذا تحريف لكلام النُّحاة، وتحريفه هو جَعْلهما أُقِيما مُقام المصدر، فانتصابهما انتصباَ المصدرِ، ولذلك قال: كَأَنَّهُ قيل:» هَنْئاً مَرْءاً «، فصار كقولك» سٌقْياص لك «و» رَعْياً لك «، وَيَدُلُّ على تحريفه وَصِحَّةِ قول النحاة انَّ المصادرَ المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر، لا تقول:» سقياً اللهَ لك «، ولا:» رعياً الله لك «، وإنْ كانَ ذلك جائزاً في أفعالها، و» هنيئاً مرئياً «، يرفعان الظاهر بدليل قوله: [الطويل]
1752 - هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخامِرٍ ... لِعِزَّةَ مِنْ أعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
ف» ما «مرفوع ب» هنيئاً «أو» مريئاً «على الإعمال، وجاز ذلك وَإنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَاملين رَبْطٌ بِعَطْفٍ ولا غيره؛ لأن» مريئاً «لا يستعملُ إلاَّ تابعاً ل» هنيئاً «فكأنَّهما عاملٌ واحد.
ولو قلت: «قام قعد زيد» لم يكن من الإعمال إلاَّ على نِيَّة حرف العطف. انتهى.
إلاَّ أن عبارة سيبويه فيها ما يُرْشِدُ لِما قاله الزَّمخشريُّ، فإنه قال: هنيئاً مَرِيئاً صِفَتَانِ نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل المذكور غير المستعمل إظهارُهُ المختزل لدلالة الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً مريئاً، فَاَوَّلُ البعارة يُسَاعِدُ الزمخشري، وآخرها وهو تقديره بقوله: كأنهم قالوا: ثَبَتَ هنيئاً، يُعَكِّرُ عليه، فعلى القولين الوَّلين يكُون «هَنيئاً مَريئاً» متعلقين بالجملة قبلهما لفظاً ومعنى، وعلى الآخرين مقتطعين لفظاً؛ لأنَّ عاملهما مُقَدَّر من جُملةٍ أخرى كما تقدم تقريره.
واختلف النحويون في قولك لمن قال: أصاب فلان خيراً هنيئاً مريئاً له ذلك. هل «ذلك» مرفوع بالفعل المقدر، وتقديره: ثبت له ذلك هنيئاً، فحذف «ثبت» وقام «(6/176)
هنيئاً» مقامه الذي هو حال أو مرفوع ب «هنيئاً» نفسه؛ لأنه لمَّا قَامً مقامَ الفعلِ رَفَعَ ما كان الفعل يرفعه، كما أن قولك: «زَيْدٌ في الدَّارِ» «في الدَّارِ» ضمير كان مستتراً في الاستقرار فلما حذف الاستقرار، وقام الجار مقامه رفع الضمير [المستتر] الذي كان فيه، وقد ذهب إلى الأول السيرافي وجعل في «هنيئاً» فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهر، وَإذا قُلْتَ: «هَنِيئاً» وَلَمْ تَقُلْ «ذلك» فعلى مذهب السيرافي يكون في «هَنِيئاً» ضمير عائدٌ على ذِي الْحَالِ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في «ثبت» المحذوفِ، وعلى مذهب الفارسي يكون في «هنيئاً» قد قام مقام الفعل المحذوف فارغاً من الضمير.
وأما نصب «مريئاً» ففيه خمسة أوجه: أحدها: أنَّهُ صِفَةٌ ل «هنيئاً» وإليه ذَهَبَ الحوفي.
والثاني: أنَّهُ انتصب انتصاب «هنيئاً» وقد تقدَّم ما فيه من الأوجه، ومنع الفارسي كونه صفة ل «هنيئاً» قال: لأنَّ هنيئاً قام مقام الفعل، والفعل لا يوصف، فكذا ما قام مَقَامَهُ، ويؤيد ما قاله الفارسيُّ انَّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المالغة والمصادر إذا وُصِفَت لم تَعْمَل عمل الفعل، ولم تستعمل «مريئاً» إلا تابعاً ل «هنيئاً» ، ونقل بعضهم أنه قد يجيء [غير] تابع وهو مردود؛ لأن العرب لم تَستَعْمِله إلاَّ تابعاً، وهل «هَنِيئاً» في الأصل اسما فاعل على زنة المَبَالَغَة؟ أم هما مصدران جاءا على وزن فَعِيلٍ، كالصَّهيلِ والهدير؟ خلاف. نقل أبُو حَيَّان القول الثاني عن أبي البَقَاءِ قال: وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على خلاف وزن «فعيل» ، كالصَّهيل والهدير، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر. انتهى.
وأبو البقاء في عبارته إشْكَالٌ، فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها، قال: «هنيئاً» مصدر جاء على وزن «فَعِيل» ، وهو نعت لمصدر محذوفٍ، أي: أكْلاً هنيئاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الهاء والتقدير مُهَنَّأً، و «مريئاً» مثله، وتلمريء فعيل بمعنى مُفْعِل، لأنَّك تقول: «أمْرَأَنِي الشَّيْء» ، ووجه لمصدر محذوف؟ وكيف يفسر «مريئاً» المصدر بمعنى اسم الفاعل؟
ذهب الزمخشري إلى انَّهُمَا وصفان قال: «فإنَّ الهنيءَ والْمَريءَ صفتان من هَنُء(6/177)
الطعام ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه» .
انتهى.
وَهَنَا يضهْنَا بغير همز - لغة ثانية أيضاً - وقرأ أبو جعفر: «هنيّاً مريّاً» ، بتشديد الياء فيهما من غير همزة، كذلك «بري» و «بريون» و «بريَّا» ، ويقال: هَنَأَني الطعامُ ومرأني، وإن أفردت «مَرَأنِي» ، وهذا كما قالوا: أخَذَهُ ما قَدُمَ وَمَا حَدُثَ، بضم الدَّال من «حدث» مشاكلة ل «قَدُمَ» ، ولو أُفرد لم يستعمل إلاَّ مفتوح الدال، وله نظائر أخر، ويقال: هَنَأتُ الرجل أهْنِئُهُ بكسر العين في المضارع أي: أعطيته. واشتقاق الهنيء من الهِناء، وهو ما يُطْلَى به البَعير للجرب كالقطران قال: [الطويل]
1753 - مُتَبَدِّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ ... يَضَعُ الْهَنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ
والمريءُ مَا سَاغَ وَسَهُلَ من الحق، ومنه قِيل لمجرى الطَّعَام من الحُلْقُوم إلى فم المعدة: مَرِيء.
فصل في دلالة الآية على أمور
دَلَّت الآية الكريمة على أمور:
منها انَّ المهر لها ولا حق للولي فيه.
ومنها جواز هبتها للمهر قبل القبضِ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالين.
فإن قيل: قوله: «فكلوه هنيئاً مريئاً» يتناول ما إذا كان المهر عيناً، أما إذا كان ديناً فالآية غير متناولة له لأنَّهُ لا يقال لما في الذمة كُلْهُ مريئاً.
فالجواب أن المراد بقوله «هنيئاً مريئاً» ليس نفس الكل، بل المراد منه كل التصرفات، وإنما خَصَّ الأكل بالذكر، لأنَّهُ معظم المقصود من المال لقوله {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} بالنساء: 10] وقوله: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [النساء: 29] .
فصل
قال بعض العلماء: إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة، علم أنها لم تطب عنه نفساً،(6/178)
وعن الشعبي: أن امرأة جاءت مع زوجها إلى شُريح في عَطِيَّة أعْطَتْهَا إيَّاهُ، وَهِيَ تطلب الرجوع، فقال شُرَيْح: رُدَّ عَلَيْهَا، فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ} ، فقال: لو طابت نفسها عنه ما رجعت فيه.
وروي عنه أيضاً: أقيلها فيما وهبت ولا أقليه؛ لأنهن يخدعن.
وَرُوِيَ أنَّ رجلاً من آل أبي معيطٍ أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه، فلبثت شهراً ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرَّجُلُ: أعْطَتْنِي طيبة به نفسها، فقال عبدُ الملك: فإن الآية التي بَعْدَهَا {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] أردد عليها.
وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه كتب إلى قُضاتِه: إن النساءَ يُعْطين رَغْبَةً ورهبة، وَأَيُّمَا امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها.(6/179)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
أصل تُؤْتُوا تُؤتيوا: تُكْرِموا فاستثقلت الضمةُ على الياءِ وواو الضمير فحذفت الياء لئلا يلتقي ساكنان.
والسُّفَهاء جمع: سفيه، وعن مجاهد: «المراد بالسُّفَهاءِ» النِّسَاءِ مَنْ كُنَّ أزواجاً، أو بنات، أو أمهات، وضَعَّفَهُ بَعْضُهُم بأنَّ فَعِيلة إنَّما تُجْمَع على فَعَائلِ أوْ فَعِيلات، قاله [أبو البقاء] وابن عطية، وقد نقل بعضهم أنَّ سَفَيهةَ تُجْمَعُ: على «سُفَهَاءَ» كالمُذكَّر، وعلى هذا لا يَضْعُفُ قول مُجَاهِدٍ. وجمعُ فَعِيلَةٍ ابن عطية جمع فَعِيلة بِفَعَائِلٍ، أوْ فَعِيلات ليس بظاهر، لأنَّهَا يَطَّرد فيها أيْضاً «فِعَال» نحو: كريمةٍ، وَكرامٍ، وظريفةً، وظِراف، وكذلك إطلاقهُ فَعِيلة، وَكَانَ مِنْ حَقِّه أنْ يقيِّدَها بألاَّ تكون بمعنى: مَفْعُولةٍ، تَحَرُّزاً من قتيلة فَإنَّها لا تُجْمَعُ على فَعَائِل.
والجمهورُ قرؤوا (الَّتِي) بلفظِ الإفراد صفةً للأمْوالِ، وإنْ كانت جَمْعاً؛ لأنَّهُ تَقَدَّم أنَّ جمع ما لا يعقل من الكثرة، أو لم يكن له إلا جمعٌ واحدٌ، الأحسنُ فيه أنْ يُعَامَل مُعَاملةَ الوَاحِدَةِ المؤنَّثة، والأمْوالِ من هذا القبيل، لأنَّهَا جمعُ ما لا يُعْقل، ولم تُجْمَع إلاَّ على أفْعال، وإنْ كانت بلفظِ القِلَّةِ؛ لأن المرادَ بها الكثرة.(6/179)
وقرأ الحسن والنخعي «اللاتي» مطابقةٌ للفظ الجمع، وكان القياسُ ألاَّ يوصف ب «اللاتي» إلا ما يوصفُ مفرده ب «التي» والأموال لا يوصف مفردها وهو «مال» ب «التي» .
وقال الفراء: العرب تقول في النِّساءِ «اللاتي» أو جمع «التي» نفسها.
قوله: «قياماً» إن قلنا: أن «جَعَلَ» بمعنى صَيَّرَ ف «قياماً» مفعول ثانٍ، والأول محذوف، وهو عائد الموصول والتقدير: الَّتِي جعلها اللهُ، أي: صَيَّرَها لكم قياماً، وَإنْ قُلْنَا: إنها بمعنى «خلق» ف «قياماً» حال، من ذلك العائد على المحذوف، والتقدير: جعلها أي: خلقها وأوجدها في حال كونها قياماً.
وقرأ نافع وابن عامر «قيماً» ، وباقي السبعة «قياماً» وابن عمر «قِواماً» بكسر القاف، والحسن وعيسى بن عمر «قَواماً» بفتحها وَيُرْوَى عَنْ أبي عمرو، وقرئ «قِوَماً» بزنة «عِنب» .
فَأَمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن «قِيماً» مصدر كالقيام وليس مقصوراً منه قال الكسائِيُّ والأخْفشُ والفراء. فهو مصدر بمعنى القيام الذي يُرادُ به الثباتُ والدَّوامُ، وقد رُدَّ هذا القولُ بأنه كان يَنْبَغِي أن تَصِحَّ الواو لتحضُنها بِتَوسُّطِها، كما صَحَّت واو «عِوَض» «وحِوَل» ، وقد أجيبَ عنه بأنه تَبعَ فعله من الإعلال وكما أُعِلَّ فعله أُعِلَّ هو، ولأنه بمعنى القِيام فَحُمِلَ عليه في الإعلال.
وَحَكَى الأخفش: «قِيماً» و «قِوَماً» قال: والقياسُ تصحيحُ الواو، وإنما اعتلت على وجه الشُّذُوذِ كقولهم: «ثِيرَة» وقول بني ضبة «طِيال» في جمع طويل، وقول الجميع «جِياد» في جمع جواد، وإذا أعلّوا «دِيَماً» لإعلال «دِيْمة» ، فاعتلالُ المصدر(6/180)
لاعتلال فعلِه أوْلى، ألا تَرَى إلى صِحَّةِ الجمع مع اعتلالِ مُفْرده في معيشة، ومعايش، ومقامة، ومَقَاوِم، ولم يُصَححوا مَصْدراً أعلُّوا فِعْلهُ.
الثاني: أنه جمع «قِيمة» ك «دِيَم» في جمع «دِيْمَة» ، والمعنى: أنَّ الأموال كالقيم للنفوس؛ لأنَّ بقاءها بها، وقد رَدَّ الفارسيُّ هذا الوجه، وإنْ كان هو قول البصريين غير الأخفشِ، بأنه قد قرئ قوله تعالى: {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [الأنعام: 161] وقوله: {البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97] . ولا يصحُّ معنى القيمة فيهما، وقد رَدَّ عليه الناس بأنَّه لا يلزم من عدم صحَّة معناه في الآيتين المذكورتين ألا يصح هنا، إذ معناه لائق، وهناك معنى آخر يليق بالآيتين المذكورتين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما قراءة باقي السَّبعة فهو مصدرُ «قام» والأصلُ «قِوام» ، فأبدلت الواوُ ياءً للقاعدةِ المعروفة، والمعنى: التي جعلها اللهُ سبب قيام أبدانكم أي: بقائها.
وقال الزَّمخشريُّ: «أي: تقومون بها وتنتعشون بها» .
وأما قراءة عبد الله بن عمر ففيها وجهان:
أحدهما: أنه مصدرُ قَاوَمَ ك «لاوَذَ، لِواذاَ» صحَّت الواوُ في المصدرِ كما صحَّت في الفعل.
الثاني: أنه اسم لما يقوم به الشَّيء، وليس بمصدر كقولهم: «هذا ملاك الأمر» أي: ما يملك به الأمر.
وَأمَّا قراءة الحَسَن ففيها وجهان:
أحدهما: أنَّه اسم مصدر كالكلام، والدَّوام، والسَّلام.
والثاني: أنَّهُ لغة من القوام المراد به القامة، والمعنى: التي جعلها الله سببُ بقاءِ قاماتكم، يقال: جارية حَسَنةُ القِوام، والقَوام، والقمة كله بمعنى واحد.
وقال أبو حاتم قوام بالفتح خطأ، قال: لأنَّ القوام امتداد القامة، وقد تقدَّم تأويلُ ذلك على أنَّ الكسائيَّ قال: هو بمعنى القِوام أي بالكسر، يعني أنه مصدر، وَأمَّا «قِوَماً» فهو مصدر جاء على الأصلِ، أعني: الصَّحِيحَ العين كالعِوَض، والحِوَل.
فصل
لما أمر في الآية الأولى بإيتاء اليتامى أمْوَالَهم، وبدفع صدقات النساء إليهنَّ فَكَأنَّهُ(6/181)
قال: إنَّمَا أمرتكم بذلك إذا كانوا عاقلين بالغين، متمكنين من حفظ أموالهم، فأمَّا إذا كانوا غير بالغين، أو غير عقلاء، أو كانوا بالغين عقلاء؛ إلاَّ أنَّهم سُفهاء، فلا تدفعوا إليهم أموالهم، والمقصود منه الاحتياطُ في حفظ أموال الضُّعفاء العاجزين.
واختلفوا في السُّفَهاء:
فقال مجاهد والضَّحَّاك: هم النِّسَاءَ كما قَدَّمْنَا، وهذا مذهب ابن عمر ويدلُّ عليه ما روى أبو أمامة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«ألا إنَّما خُلِقَت النَّارُ للسُّفَهاء، يقولها [ثلاثاً] ألا وإن السُّفهاء النِّساء، [إلاّ امرأة أطاعت قيّمها» ] .
وقال الزَّمخشريُّ وابن زيد: والسُّفهاء ههنا السفهاء عن من الأولاد، ويقول: لا تعط مالك [الذي هو قيامك] ولدك السَّفيه فيفسده. وقال ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير: هم النِّساء [والصبيان] إذا علم الرجل أنَّ امرأته سفيهةٌ مُفْسِدةٌ، وَأنَّ ولده سفيه مفسد، فلا يسلط واحداً منهما على ماله.
وقيل: المرادُ بالسُّفهاء كل من لم يحفظ المال للمصلحة من النِّسَاءِ والصبيان والأيتام، وكلُّ من اتَّصف بهذه الصفة؛ لأنَّ التَّخصيص بغير دليل لا يجوز، وقد تقدَّم في «البقرة» أنَّ السَّفه خفة العقل ولذلك سُمِّي الفاسق سفيهاً، لأنه لا وزن له عند أهل العلم والدين، ويسمى النَّاقص العقل سفيهاً لخفة عقله.
فصل في دلالة الآية في الحجر على السفيه
قال القرطبيُّ: دلت هذه على جواز الحجر على السَّفيه لقوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} ، وقوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة: 282] فأثبت الولاية على السَّفيه كما أثبتها على الضَّعيف، والمراد بالضَّعيف في الآية الضَّعيف الْعَقْلِ لصغرِ أو مرض.
فصل في حال السفيه قبل الحجر عليه
[قال القرطبيُّ] : واختلفوا في حال السَّفيه قبل الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فقال مالك وأكثر(6/182)
أصحابه: إنَّ فعل السَّفيه وأمره كُلّهُ جائز، حتى يحجر عليه الإمامُ، وهو مذهب الشَّافعيِّ وأبي يوسف.
وقال ابن القَاسِم: أفعاله غير جائزة، وإن لم يضرب الإمام على يَدِهِ.
فصل: في الحجر على الكبير
واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال مالك وجمهورُ الفقهاء: يحجر عليه.
وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يحجر على من بلغ عاقلاً إلا ان يكون مُفسداً لماله، فإذا كان كذلك منع من تسلميهم المالَ حتى يبلغ [خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغها] ، سُلِّمَ إليه المال بكل حالٍ، سواء كان مُفْسِداً، أو غير مفسد؛ لأنَّه يُحبَلُ منه لاثنتي عشرة سنة، ثم يُولد له لِستَّةِ أشهرٍ فيصير جَدَّاً وأباً، وأنا أستحي أن أحجر على مَنْ يصلح أن يكون جَدَّاً.
فصل في الخطاب في الآية
في هذا الخطاب قولان:
الأوَّلُ: أنَّهُ خطاب الأولياء بأن يُؤتُوا السُّفهاء الذين تحت ولايتهم أموالهم لقوله تعالى: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} [النساء: 5] وبه يصلح نظمُ الآيةِ مع ما قَبلها.
فإن قيلَ: فكان ينبغي على هذا ان يقال: ولا يؤتوا السُّفَهَاء أموالهم.
فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أنَّه تعالى أضاف المال إليهم، لا لأنَّهم ملكوه، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه، ويكفي في الإضافة الملابسة بأدنى سبب.
وثانيهما: إنَّما حَسًنَتِ هذه الإضافَةُ إجراءاً للوحدة بالنَّوع مجرى الوحدة بالشخص كقوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 25] {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] ومعلوم أنَّ الرَّجل منهم ما كان يقتل نفسه، وإنَّمَا كان يقتل بعضهم بعضاً، وكان الكلُّ من نَوْع واحدٍ، فكا ها هنا لما كان المال ينتفع به نَوْع الإنسان، ويحتاج إليه، فلأجل هذه الوَحْدَة النَّوعيَّة حسنت إضافة أموال السُّفهاء إلى الأولياء.(6/183)
القول الثاني: أنَّه خطاب للآباء بألاَّ يدفعوا مالهم إلى أولادهم إذا كانوا لا يحفظون المال سفهاءُ، وعلى هذا فإضَافَةُ الأموال إليهم حقيقة، والقول الأوَّلُ أرجحُ؛ لأنَّ ظاهر النَّهي التحريم، وأجمعوا على انَّهُ لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصّغار، ومن النِّسوان ما شاء من ماله، وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السُّفهاء أموالهم؛ لأنه قال في آخر الآية: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} وهذه الوصيّة بالأيتام أشبه، لأنَّ المرء مشفق بطبعه على ولده، فلا يقولُ له إلا المعروفَ، وإنَّما يحتاج إلى هذه الوصيَّة مع الأيتام الأجانب.
قال ابنُ الخطيب: «ولا يمتنع [أيضاً] حمل الآية على كلا الوجهين» .
قال القاضي: هذا بعيد؛ لأنه يقتضي حمل قوله: «أمْوالُكم» على الحقيقة والمجاز جميعاً، ويمكن الجوابُ عنه بأن قوله: {أَمْوَالَكُمُ} يفيدُ كون تلك الأموال مختصة بهم، اختصاصاً يمكنه التّصرف فيها، ثم إنَّ هذا الاختصاص حاصل في المال المملوك له وفي المال المملوك للصَّبي، إلاَّ أنَّه تحت تصرُّفه، فهذا التَّفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله {أَمْوَالَكُمُ} وإذا كَانَ كذلك لم يبعد حمل اللَّفظ عليهما من حيث إن اللفظ [أفاد] معنى واحداً مشتركاً بينهما.
قوله: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} .
ومعنى الرزق: أن أنفقوا عليهم. وقوله «فيها» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ «في» على بابها من الظرفية، أي اجعلوا رزقهم فيها.
والثاني: أنها بمعنى «مِنْ» ، أي: بعضها والمراد: [من] أرباحها بالتجارة.
قال ابن الخطيب: «وإنَّمَا قال» فيها «ولم يقل: مِنْهَا، لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رِزْقاً [لهم] ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكاناً لرزقهم، بأنْ يَتَجِرُوا فيها، فيجعلوا أرزاقهم من الأرْبَاحِ لا من أصول الأموال» . والأمر بالكِسْوَةِ ظاهر.
فصل في تفسير القول المعروف
قوله تعالى: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} .
اختلف المفسِّرون في القول المعروف:(6/184)
قال ابن جُريْجٍ ومجاهد: إنه العدة الجميلة من البرِّ والصِّلة.
وقال ابنُ عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سَفْرتِي هذه فعلت بك ما أنت أهله، وإن غنمت في غَزَاتِي جعلت لك حظاً.
وقال ابن زيد: إن لم يكن ممن يجب عليك نفقته، فقل له: عافانا الله وإيَّاك، وبارك اللهُ فيك.
وقيل: قولاً لَيِّنَاً تَطِيبُ بهِ أنفسهم.
وقال الزَّجَّاجُ: «علموهم مع إطعامهم وكسوتهم أمر دينهم» .
وقال القَفَّالُ: «هو أنه إن كان المولى عليه صبياً فيعرفه الولي أنَّ المال ماله، وهو خازن له، وأنه إذا زال صباه يَردُّ إليه المال، ونظيره قوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] [و] لا تعاشره بالتَّسلُّطِ عليه كمعاشرة العبيد، وكذا قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} [الإسراء: 28] وإن كان المولى عليه سفيهاً، وَعَظَهُ ونصحه وحثه على الصلاة، ورَغَّبَهُ في ترك التبذير والإسراف، وعَرَّفَهُ عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق، إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام» .
وقال ابن الخطيب: وهذا أحسن من سائر الوجوه.(6/185)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
لما أمر بدفع مال اليتيم إليه، بيَّن هنا متى يؤتيهم أموالهم، وشرَطَ في دفع أموالهم إليهم شرطين:
أحدهما: بلوغ النكاح.
والثًَّاني: إينَاسِ الرُّشد.
في «حتى» هذه وما أشبهها أعني الداخلة على «إذا» قولان:
أشهرهما: أنَّها حرف غاية، دخلت على الجملة الشَّرطيَّة وجوابها، والمعنى: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم، بشرط إيناس الرُّشد، فهي حرف ابتداء كالدَّاخلة على سائِرِ الجمل كقوله: [الطويل]
1754 - فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا ... بِدجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أشْكَلُ(6/185)
وقول امرئ القيس: [الطويل]
1755 - سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ ... وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بأرْسَانِ
والثاني: وهو قول جماعة منهم الزَّجَّاج وابن درُسْتَوية: أنَّها حرف جر، وما بعدها مجرور بها، وعلى هذا ف «إذا» تتمحَّضّ للظَّرْفِيَّةِ، ولا يكون فيه معنى الشَّرط، وعلى القول الأوَّلِ يكون العامل في «إذَا» ما تَخَلَّص من معنى جوابها تقديره: إذا بلغوا النِّكاح راشدين فادفعوا. وظاهرُ العبارة لبعضهم أنَّ «إذا» ليست بشرطيَّة، لحُصُولِ ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازي بها في الشِّعر، وقال: «فعلوا ذلك مضطرين» ، وإنما جُوزي بها لأنَّها تحتاج إلى جواب، وبأنَّه يليها الفعلُ ظاهراً، أو مضمراً، واحتجَّ الخليلُ على عدم شَرطيَّتِها بحصولِ ما بعدِها، ألا ترى أنك تقول: أجيئك إذا احمر البُسر، ولا تقول: إن أحمر.
قال أبُو حيان: وكلامُه يُدلُّ على أنها تكون ظرفاً مجرداً، ليس فيها معنى الشَّرط، وهو مخالف للنَّحويين، فإنَّهم كالمجمعين على أنها [ظرف] فيها معنى الشِّرط غالباً، وإن وُجِدَ في عبارةِ بعضهم ما يَنْفَى كونها أداة شرطٍ، فإنَّما أنها لا يجزم بها، إلاَّ أنها لا تكون شرطاً، وقَدَّرَ بعضهم مضافاً قال: تقديره يبلغوا حَدَّ النكاحِ أو وقته، والظَّاهرُ أنها لا تحتاج إليه، والمعنى: صَلَحوا للنكاح.
فصل في معنى الابتلاء وكيفيته
والابتلاءُ: الاختيارُ، أي اختبروهم في عقولهم وإدراكهم،، وحفظهم أموالهم. نزلت في ثابت بن رفاعة، مات أبُوهُ رفاعةُ وتركه صغيراً عند عمه، فجاء عمُّه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يَحِلُّ لي مِنْ ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية.
قال سعيد بن جبير ومجاهد والشَّعبيُّ: «لا يدفع إليه ماله، وإنْ كان شيخاً حتى يؤنس رشده» ، فالابتلاءُ باختلاف أحوالهم، فإن كان مِمَّنْ يتصرف في السوق(6/186)
فيدفع الولي إليه شيئاً من المال، وينظر في تَصَرُّفه، وإن كان ممَّن لا يتصرف فيختبره في نفقة داره، والإنفاق على عبيده وأجرائه وتُخْتبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذَا رأى حسن تصرُّفه وتدبيره مراراً حيث يغلب على الظن رشده دفع إليه المال.
فصل فيما إذا عاد إلى السَّفه بعد اخذ المال
قال القرطبيُّ: «إذا سُلِّم إليه المال لوجود الرشد، ثم عاد إلى السَّفه عاد الحجرُ والقصاص. دليلنا قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] .
ويجوز للوصيّ أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارةٍ وإبضاع وشراء وبيع، وعليه أنْ يؤدّى الزَّكاة من سائر أمواله عينٍ وحرث وماشية وفطرة، ويؤدّي عنه أرُوش الجنايات، وقيم المُتْلَفَاتِ، ونفقةِ الوالدين، وسائر الحقوق اللازمة، ويجوز ان يزوجه، ويؤدّي عنه الصداق، ويشتري له جارية يتسرّى بها، ويصالح له وعليه على وجه النَّظر.
فصل المراد من بلوغ النكاح
والمراد من بلوغ النِّكاح هو الاحتلام، لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} [النور: 59] وعند هذا الحدّ يجري على صاحبه قلم التَّكليف، وإنَّما سمي الاحتلام بلوغ النَّكاح بمعنى الجماع.
واعلم أن للبلوغ خمس علامات ثَلاثَةٌ منها مُشْتَرَكةٌ بين الذكور والإناث وهي: الاحتلامُ، والسنُّ المخصوص، ونَبضاتُ الشّعر الخشن على العانَةِ.
وقيل: إنبات الشَّعر الخشن بلوغ في أولاد المشركين، ولا يكون لأولاد المسلمين؛ لأن أولاد المسلمين يمكن الوقوف على مواليدهم بالرُّجوع إلى آبائهم، وأولاد الكفار لا يوقف على مواليدهم، ولا يُقْبَلُ قول آبائهم فيه لكفرهم، فجعل الإنبات الذي هو أمَارةُ البلوغ بلوغاً في حقِّهم.
واثنان منها تختّص بالنّساء وهما: الْحَيْضُ والْحِبَلُ.(6/187)
فصل
قال أبُو حنيفةَ:» تصرفات [الصَّبي] العاقل المميز بإذن الوليّ صحيحة لهذه الآية، ولأنه يصحّ الاستثناء فيه فيقال: ابتلوا اليتامى إلاَّ في البَيْع والشِّراء «.
قال الشَّافعيُّ: اختبار عقله في أنه هل له فَهْم وعَقْلٌ في معرفة المصالح والمفاسد؟ بأن يبيع الوليُّ ويشتري له بحضوره، ثم يستكشفُ من الصبيِّ أحوال ذلك البيع والشِّراء، وما فيها من المصالح والمفاسد، وبهذا القَدْر يحصل الابتلاء والاختبار، وأيضاً هَبْ أنَّا سَلَّمْنَا أنه يدفع إليه شيئاً ليبيع أو يشتري، فَلِمَ قلتَ: إنَّ هذا القدر يدل على صِحَّةِ ذلك البيع والشِّراء؟ قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ} . والفاءُ جواب» إذا «وفي قوله: {فادفعوا} جواب» إن «.
وقرأ ابن مسعود» فإن أحستم «والأصْلُ أحسسْتُم فحذف إحدى السّينين، ويحتمل أن تكون العينَ أو اللام، ومثله قول أبي زبيد: [الوافر]
1756 - سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا ... حَسِينَ بِهِ فَهُنَّ إلّيْهِ شُوسُ
وهذا خلاف لا ينقاسُ، ونقل بعضهم أنَّها لغةُ سُلَيم، وَأنَّهَا مُطَّردة في عين كل فعلٍ مضاعفة اتصل به تاءُ الضَّمير أو نونه ونَكَّر» رُشْداً «دلاّلةُ على التنويعِ، والمعنى أيّ نوعٍ حَصَلَ من الرُّشدِ كان كافياً.
وقرأ الجمهور» رُشْداً «بضمة وسكون، وابن مسعود والسُّلميُّ بفتحتين،(6/188)
وبعضهم بضمتين، وسيأتي الكلامُ على ذلك في الأعراف إن شاء الله تعالى. وآنس كذا أحسَّ به وشَعَرَ، قال: [الخفيف]
1757 - آنسَنْ نَبْأةً وَأفْزَعَهَا القُنْ ... نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ
وقد قيل: «وجد» عن الفراء.
وقيل: أبصر.
وقيل: رأيتم.
وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحدٍ.
وقال القرطبي: وأصْلُ الإيناس في اللُّغة الإبصار، ومنه قوله {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29] .
قال أهل اللُّغة: هو إصابة الخير، قال تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256] ، والغيُّ: هو العصيان: قال تعالى: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] يكون نقضيه هو الرشد، وقال تعالى: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] .
وقال أبو حنيفة: «لا يعتبر هنا الصَّلاح في المال فقط» ، وينبني على هذا أن أبا حنيفة لا يرى الحجر على الفاسق، والشافعي يراه.
فصل
إذا بلغ الرُّشْد زال عنه الحجر، ودفع إليه، رجلاً كان أو امرأة، تزوج أو لم يتزوج.
وعند مالك إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج، فإذا تزوّجتْ دفع المال إليها، ولكن لا ينفذ تصرفها إلاَّ بإذن الزَّوج ما لم تكبر وَتُجَرَّبْ، فإذا بلغ الصبي رشيداً وزال الحجر عنه ثم عاد سفيهاً [نُظِرَ] إنْ مبذراً لماله حُجِرَ عليه، كما يستدام الحجر عَلَيْهِ إذا بلغ بهذه الصفة، وقيل: لا يُعَادُ؛ لأن حكم الدوام أقْوَى من حكم الابتداء، وعند أبي حنيفة لا حَجْرَ على البَالِغِ العاقِلِ بحال.
قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً} .
في نصبهما وجهان:
أحدهما: أنهما منصوبان على المفعولِ من أجْلِهِ أي: لأجل الإسراف والبِدَارِ.(6/189)
ونقل عن ابن عباس أنه قال: «كان الأولياء يستغنمون أكل مال اليتيم، لئلا يكبر فينزع المال منهم» .
والثَّاني: أنَّهما مصدران في موضع الحالِ أي: مُسْرِفينَ وَمُبادِرِينَ.
وبداراً مصدرُ بادرَ والمفاعلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابها، بمعنى ان الوليَّ يبادرُ ليتيم إلى أخْذِ مالهِ، واليتيمُ يُبَادِرُ إلى الكبر، ويجوز أن يكون من واحد بمعنى: أنَّ فاعل بمعنى فعل نحو: سافر وطارق.
قوله: «أن تكبروا» . فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول بالمصدر أي: وبداراً كبرهم، كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] وفي إعمال المصدر المُنَوِّنِ الخلاف المشهور.
والثَّاني: أنَّه مفعول من أجله على حذف أي: مخافة أن يكبروا، وعلى هذا فمفعولُ «بِدَاراً» محذوف، وهذه الجملة النَّهْييَّةُ فيها وجهان:
أصحهما: أنها استئنافية، وليست معطوفةً على ما قبلها.
والثَّاني: أنَّها عطف على ما قبلها، وهو جوابُ الشرط ب «إن» أي: فادفعوا ولا تأكلوها، وهذا فاسدٌ؛ لأن الشّرط وجوابه، مترتِّبان على بلوغ النِّكاح وهو معارضٌ لقوله: {وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} فَيَلزَمُ منه سَبْقُه على ما ترتَّب عَلَيْهِ، وذلك ممتنع.
والمعنى: ولا تأكلوها يا معشرَ الأولياءِ «إسْرافاً» أي: بغير حقٍّ، «وبداراً» أي: ومبادرة، ثم بَيَّنَ مَا يَحِلُّ لهم من مالهم فقال: «وَمَنْ كَانَ غَنِياً فَلْيَسْتَعْفِفْ» أي: فليمتنع من مال اليتيم فلا يرزؤه قليلاً ولا كثيراً، والعفة الامتناع مما لا يحل.
قال الواحديُّ: استعفف عن الشيءِ وعَفَّ: إذا امتنعَ منه وتَرَكَهُ.
قال الزمخشريُّ: «استعفف أبلغ مِنْ عَفٍّ كأنَّه طالب زيادة العِفَّةِ» .
قوله: {وَمَن كَانَ فَقِيراً} .
محتاجاً إلى مال اليتيم، وهو يحفظه ويتعمَّده {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} .
رُوِيَ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «إنِّي فَقِيرٌ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ وَلِي يَتيمٌ، فقال: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمكَ عَيْرَ مُسْرِفٍ وَلا مُبَذِّرٍ وَلاَ مُتَأثِّل» .(6/190)
واختلفوا، هل يلزمهُ القضاءُ؟ فقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير: يقضي إذا أيسر لقوله: {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} والمعروف: هو ان يقترض من مال اليتيم إذا احتاج إليه، فإذا أيْسَرَ قَضَاهُ.
قال عمرُ بن الخطّاب: «إنِّي أنْزَلْتُ نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيتُ استعففتُ، وإنْ افترقتُ أكَلْتُ بالمعروفِ، فَإذا أيْسَرْتُ قضيتُ» .
وأكثر الروايات عن ابن عباس، وبعض العلماء أنّ القرض مخصوص بأصول الأموال من الذَّهب والفضَّة وغيرهما، فأمَّا التَّناول من ألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدَّواب، فمباح له إذا لم يضرَّ بالمال، وهذا قول أبي العالية؛ لأنه أمر بدفع أموالهم إليهم.
قال الشَّعْبيُّ: «لا يأكله إلا أن يضطر كما يضطر إلى الميتة» .
وقال قوم: لا قضاء عليه لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً} وهذا يُشْعِرُ بأن له أن يأكل بقدر الحاجة، وقوله {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} أن للوصي أن ينتفع بمقدار الحاجة، وقوله {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] {سَعِيراً} [النساء: 10] يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل وغير ظلم، وإلاَّ لم يكن لقوله {ظُلْماً} معنى.
وأيضاً الحديث المتقدم، وأيضاً فيقاسُ على السَّاعي فإنَّهُ يُضْرَبُ له من الصَّدقات على قدر عمله، فكذا ها هنا.
وقال أبُو بكرٍ الرازيُّ: الَّذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض، ولا على سبيل الابتداء سواء كان غنياً أو فقيراً، لقوله تعالى: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] إلى قوله {حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] ، وقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] إلى قوله {سَعِيراً} [النساء: 10] وقوله: {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} [النساء: 127] .
فصل
قال القرطبيُّ: كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه كذلك عليه حفظ الصبيِّ في بدنه وتأديبه، «رُوِيَ أنَّ رجلاً قال لِلنبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنَّ في حجري يتيماً أآكل من ماله؟ قال:»(6/191)
نعم «غير متأثل مالاً ولا واقٍ مالك بماله» قال: يا رسول الله أفأضربه، قال: «مَا كُنْت ضَارِبً منه وَلَدَكَ» .
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} .
وهذا أمر رشاد، وليس بواجب، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ ليزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة.
واختلفوا فيما إذا ادَّعى الوصيُّ بعد بلوغ اليتيم أنَّه دفع المال إليه هل يصدَّق؟
أو قال أنْفَقْتُ عليه المالَ في صغر؟ فقال مالكٌ والشَّافعيُّ: لا يصدَّقُ.
وقال أبو حنيفة: «يصدَّقُ» .
قوله: {وكفى بالله حَسِيباً} .
في «كفى» قولان:
أحدهما: أنَّها اسم فعل.
والثاني: وهو الصَّحيح - إنها فعلٌ، وفي فاعلها قولان:
الأول: وهو الصَّحيح أنَّهُ المجرور بالباء، والباء زائدة فيه وفي فاعل مضارعه نحو: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} [فصلت: 53] باطِّراد فقال أبُو البقاء: زيدت لتدلَّ على معنى الأمر إذ التقدير: اكتف بالله، وهذا القول سبقه إليه مَكِي والزَّجاجُ فإنه قال: دَخَلَتْ الباءُ في الفاعل؛ لأن معنى الكلام الأمرُ أي: الباء ليست بزائدة، وهو كلامٌ غيرُ صحيح؛ لأنه من حيث المعنى الذي قدَّره يكون الفاعل هم المخاطبين، و «بالله» متعلّق به، ومن حيث كون «الباء» دخلت في الفاعل يكون الفاعل هو اللهُ تعالى، فيتناقض. وفي كلام ابن عطية نحو من قوله أيضاً فإنه قال: «بالله» في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض،(6/192)
وفائدة زيادته تبيَّن معنى الأمر في صورة الخَبَرِ أي: اكتفوا بالله، «فالباء» تدل على المراد من ذلك، وفي هذا ما رُدَّ به على الزَّجَّاجِ، وزيادة جَعْلِ الحرف زائداً وغير زائدٍ.
والثاني: أنَّه مضمر والتَّقديرُ: كفى الاكتفاء و «بالله» على هذا في موضع نصب؛ لأنه مفعول به في المعنى، وهذا رأي ابن السَّراج، وَرُدَّ هذا بأن إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة كقوله: [البسيط]
1758 - هَلْ تَذْكُرُونَ إلَى الدَّيْرَينِ هجْرَتَكُمْ ... وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَحْمَانُ قُرْبَاناً
أي قولكم: يا رحمان قرباناً، وقَالَ أبو حيان: وقيل: الفاعِلُ مضمر، وهو ضمير الاكتفاء أي: كفى هو أيْ: الاكتفاء، و «الباء» ليست زائدة، فيكون في موضع نصب ويتعلق أنذاك بالفاعل، وهذا الوجه لا يسوغ على مذهب البصريين، لأنه لا يجوز عندهم إعْمَالُ المصدر مضمراً، وإن عني بالإضمار الحذف امتنع عندهم أيضاً لوجهين: حذف الفاعل، وإعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله، وفيه نظرٌ؛ إذْ لقائل أن يقول: إذا قلنا بأن فاعل «كفى» مضمر لا نعلق «بالله» بالفاعل حتّى يلزم ما ذكر بل نعلقه بنفس الفعل كما تقدَّمَ.
وقال ابْن عيسى: إنَّما دخلت الباء في «كفى بالله» ؛ لأنَّهُ كان يتصل اتَّصال الفاعل [وبدخول الباء اتصل] اتصالَ المضافِ، واتَّصال الفاعل، لأنَّ الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره فضوعِفَ لفظها لمضاعفة معناها، ويحتاج إلى فكر.
قوله: {حَسِيباً} فيه وجهان:
أصحهما: أنه تمييز يدلُّ على ذلك صلاحيَّة دخول «مِنْ» عليه، وهي علامة التمييز.
والثَّاني: أنه حال.
و «كفى» ها هنا متعدّية لواحد، وهو محذوف تقديره: «وكفاكم الله» .
وقال أبُو البَقَاءِ: «وكفى» يتعدَّى إلى مفعولين حُذِفَا هنا تقديره: كفاك اللهُ شرَّهم بدليل قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] والظاهر أن معناها غيرُ معنى هذه.
قال أبو حيّان بعد أن ذكر أنها متعدية لواحد: وتأتي بغير هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] وهو محل نظر.
قال ابن الأنباري والأزهري: يحتمل أن يكون الحَسِيبُ بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، فمن الأول قولهم للرَّجل تهديداً: حَسْبُهُ اللهُ، [ومعناه: يحاسبه] الله على ما يفعل من الظُّلم، ومن الثَّاني قولهم: حسبك الله، أي: كافيك الله وهذا وعيد سواء فسَّرنا الحسيب بالمحاسب، أو بالكافي.(6/193)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
لما ذَكَرَ تعالى أمر اليتامى، وصله بذكر المواريثِ، وهذا هو النَّوْع الرَّابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة، ويكون ما يتعلق بالمواريث.
قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة، فجاء رجلان من بَنِي عمّه وهما وصيّان له يقال لهما: سُوَيدٌ وعَرْفجَة فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً وكانوا في الجاهليَّةِ لا يورثون النِّساء ولا الصغار، وإنْ كان الصغير ذكراً إنما كانوا يورثون الرِّجال، ويقولون لا يعطي إلا من قاتل، وطاعن بالرُّمح، وحاز القسمة وذبَّ عن الحَوْزَةِ، «فجأت أمُّ كُحّة فقالت: يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات، وترك عليّ بنات، وأنا امرأته ليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهنّ مالاً حسناً، وهو عند سويد وعرْفجة، ولكم يعطياني ولا بناتي شيئاً وهن في حجري لا يطمعْنَ ولا يسقين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» ارجعي إلى بيتك حتى أنظر فيما يحدثُ الله في أمرك «. فدعاهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً، ولا يحمل كلاًّ، ولا يَنْكَأُ عَدُوّاً فأنزل الله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} يعني للذُّكور مما ترك أولاد الميِّت وأقربائه {نَصيِبٌ} حظّ {مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} من الميراث، {وَلِلنِّسَآءِ} نصيب، ولكنه تعالى لم يُبَيِّن المقدار في هذه الآية، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لا تُفَرِّقَا مِنْ مَالِ أوْسِ بْنِ ثَابِتْ شيئاً فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِبَنَاتِهِ نَصِيباً مِمَّا تِرَكَ، ولَمْ يبيِّن كَمْ هُوَ حَتَّى أنْظُر مَا يَنْزِلُ فِيهِنَّ «فأنزل اللهُ - عزّ وجلّ -: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى سُوَيْدٍ وَعُرْفُجة أن ادفعا إلى أمّ كُحة الثمن وإلى بناته الثلثين، ولكما باقي المال،» فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية.
بين الله تعالى أن للنِّسَاء حقاً في الميراث خلافاً لعادَةِ العرب في الجاهليَّةِ وذكره مُجْملاً أولاً ثم بَيَّنَهُ بعد ذلك على سبيل التدريج؛ لأنَّ النَّقل عن العادة يشق، فقال لهما: «ادفعا إليها نصيب بناتها الثُّلثين ولَكُمَا باقي المال» .
قوله: {مِّمَّا تَرَكَ} هذا الجارُّ في محل رفع؛ لأنه صفة للمرفوع قبله أيْ: نَصِيبٌ(6/194)
كائن أو مستقر، ويجوز أن يكون في محلّ نصبٍ متعلِّقاً بلفظ «نصيب» لأنه من تمامه. وقوله {مِمَّا قَلَّ} [و] في هذا الجارّ أيضاً وجهان:
أحدهما: أنه بدل من «ما» الأخيرة في «مما ترك» بإعادة حرف الجرّ في البدل، والضمير في «منه» عائد على «ما» الأخيرة، وهذا البدل مرادٌ أيضاً في الجملة الأولى حُذِفَ للدلالة عليه، ولأن المقصود بذلك التأكيد؛ لأنه تفصيلٌ للعموم المفهوم من قوله {مِّمَّا تَرَكَ} فجاء هذا البدل مفصّلا لحالتيه من الكثرة والقِلَّةِ.
والثاني: أنه حال من الضَّمِيرِ المحذوف من «ترك» أي: مما تركه قليلاً، أو كثيراً، أو مستقراً مما قلّ.
فصل
قال القُرْطِبِيُّ: استدلّ علماؤنا بهذه الآية على قسم المتروك على الفرائض، فإن كانت القِسْمَةُ لغير المتروك عن حاله كالحمام الصّغير، والدّار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها فقال مالك: يقسم ذلك، وإن لم ينتفع أحدهم بنصيبه لقوله تعالى {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} [النساء: 7] وبه قال الشَّافعيُّ وأبو حنيفة.
قال أبو حنيفة: في الدِّار الصَّغيرة يكون بين اثنين فطلب أحدهما القسمة، وأبى صَاحِبُه قُسمتْ له.
وقال ابن أبي ليلى: إن كان فيهم من لا يَنْتَفِعُ بقسمه، فلا يقسم، وكل قسم يدخل فيه الضّرر على أحدهما، دون الآخر فإنَّه لا يقسم، وهو قول أبي ثَوْرٍ.
وقال ابْنُ المُنْذِرِ: وهو أصحُّ القولين.
قوله: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} فيه أوجه:
أحدها: أن «نصيباً» ينتصب على أنَّهُ واقع موقع المصدر، والعامل فيه معنى ما تقدَّم إذ التَّقدير عطاءً أو استحقاقاً، وهذا معنى قول مَنْ يقول منصوب على المصدر المؤكد.
قال الزَّمخشريُّ: كقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} [النساء: 11] كأنه قيل: قسمة مفروضة، وقد سَبَقه الفرَّاءُ إلى هذا، قال: نُصِبَ؛ لأنه أخرج مُخْرَجَ المَصْدَر؛ ولذلك وحّده كقولك: له عَليَّ كذا حقّاً لازماً، ونحوه {فَرِيضَةً مِّنَ الله} [النساء: 11] ، ولو كان اسْماً صحيحاً لم ينصب، لا تقول: لك عليّ حق درهماً.(6/195)
الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ ويُحتمل أن يكون صاحبُ الحال الفاعل في «قَلَّ» أو «كَثر» ويُحتمل أن يكون «نَصِيب» ، وإن كان نكرة لتخصّصه إمَّا بالوَصْفِ، وإمَّا بالعمل والعامل في الحال الاستقرار الَّذي في قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ} ، وإلى نصبه حالاً ذهب الزَّجَّاج ومكيٌّ قالا: المعنى لهؤلاء أنْصِباء على ما ذكرناها في حالِ الفرض.
الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على الاختصاص بمعنى: أعني نَصيباً، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
قال أبو حيَّان: إن عنى الاخْتِصاص المصطلَح عليه فهو مردود بكونه نكرةً، وقد نَصُّوا على اشتراط تعريفه.
الرابع: النصب بإضمار فعل أي: أو جُعِلَت لهم نصيباً.
الخامس: أنه مصدر صريح أي نَصَّبْتُهُ نَصيباً.
فصل دلالة الآية على توريث ذوي الأرحام
قال أبُو بكرٍ الرازي: هذه الآية تَدُلُّ على توريث ذوي الأرْحَام لأنَّ العمَّاتِ والأخوالِ، والخالاتِ، وأولادَ النبات من القريبين، فوجب دُخُولُهُم تَحْتَ قوله {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} أقصى ما في الباب أنَّ قدر ذلك النَّصيب غير مذكور في هذه الآية إلاَّ أنَّا نثبت كونهم مستحقين لأصل النَّصيب بهذه الآية، وَأَمَّا المقدار فنستفيده من سائر الدلائل.
فصل
معنى «مفروضاً» أي: مَقْطُوعَاً واجباً الفرضِ: الحز والتأثير، ولذلك سُمِيَ الحزّ الَّذي في سية القوس، فرضاً، والحزُّ الَّذي في القداح يسمَّى أيضاً فرضاً، وهو علامة لتميّز بينها وبين غيرها، والفرضة علامة في مقسم الماء يعرفُ بها كل ذي حقٌّ حقَّه من الشُّرْبِ، فهذا أصلُ الفرض في اللُّغةِ، ولهذا سَمَّى أصحابُ أبي حنيفة الفرض [به] ما ثبت بدليل قَطْعِيٍّ، والواجب عبارة عن السقوط يقال: وَجَبَتِ الشَّمْسُ: إذا سَقَطَت وسمعتُ وجبةٌ يعني: سَقْطَة، قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي: سَقَطَتْ، وتأثير القَطْعِ أقوى من تأثير السُّقوط.
قال ابن الخطيب: وهذا التقرير يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام [(6/196)
لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل] قاطع بإجْمَاعِ الأمَّةِ، فلم يكن توريثهم فَرْضَاً، والآية إنَّمَا تناولت التَّوريث المفروض فَلَزِمَ القَطْعُ بأنَّ هذه الآية ما تَنَاولت ذوي الأرحام.(6/197)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
اختلفوا في المُرَادِ بهذه القسمة على ثَلاثَةِ أقوال:
القول الأوَّلُ: أن المُرَادَ بها في قسمة الميراث، واختلفَ القائلون بهذا القول، هل المرادُ به لوجوبُ أو النَّدْبُ؟ فالقائلون بالوُجُوبِ اختلفوا، فقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ والضَّحاك: كانت هذه قَبْلَ آية المواريث، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيةُ المواريث جعلت المواريثُ لأهْلَها ونسخت هذه الآية وقال ابنُ عَبَّاسٍ والشَّعْبِيُّ والنَّخَعِيُّ والزُّهْرِيُّ: وهي محكمة.
قل مُجَاهِدٌ: وهي واجبةٌ على أهل الميراثِ ما طالت به أنفسهم.
قال الحَسَنُ: كانوا يُعْطون التابوت والأواني ورثّ الثياب والمتاع والشيء الذي يُسْتَحْيَا من قسمته، وإن كان بَعْضُ الوَرَثَة صغاراً فقد اختلفوا فيه، قل ابن عبَّاسٍ وغيره: إن كانت الورثة كباراً رضخوا لهم، وإن كانت الوَرَثَةِ صغارً اعتذروا إليهم، فَيَقُولُ الولي: إني لا أملك هذا المال إنَّمَا هو الصغار، ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم.
وقال بعضهم: ذلك حقٌّ واجب في أموال الصغار والكبار، فإن كانُوا كِبَاراً تَوَلوا إعطاءَهم وإن كانوا صِغاراً أعطى وليهم، وروى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرينَ أنَّ عبيدة السَّلْمَانِي قسم أموال أيتام، وأمر بشاة فذبحت فصنع لهم طعاماً لأجل هذه الآية، وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.(6/197)
وقَالَ قَتَادَةُ عن يَحْيَى بن معمر: ثلاث آياتٍ محكمات مذنيات تركهن النَّاسُ، هذه الآية، وآية الاستئذان {ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} [النور: 58] وقوله: {يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13] .
وقال آخرون: ذلك على سبيل النَّدْبِ إذا كان الورثة كباراً، فإن كَانُوا صغاراً فليس إلاَّ القول المعروف، وهذا هو الَّذي عليه فقهاءُ الأمصار لأنَّه لو كان لهم حَقٌّ معين لبينه اللهُ - تعالى - كسائر الحقوق، ولو كان واجباً لتوفّرت الدَّواعي على نقله لشدَّة حرص الفقراء والمساكين على تقريره، ولو كان كَذَلِكَ لنقل على سبيل التَّوَاتُرِ.
القول الثَّاني: أنَّ المراد بالقسمة الوصيَّة فَإذَا [حضرها منة لا يرث] من الأقرباء اليتامى والمساكين أي: الذين لا يرثون ثم قال: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى} واليتامى والمساكين} أنَّهُ راجع إلى أولي القربى الذين يرثون. [وقوله: {فارزقوهم مِّنْهُ} راجع إلى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون] . وهذا القَوْلُ محكيٌّ عن سعيد بن جُبَيْرٍ، وقدم اليتامى على المساكين، لأنَّ ضعفهم أكثرُ وحاجاتهم أشَدُّ فكان وضع الصدقات أفضل وأعظم في الأجر.
قوله: {فارزقوهم مِّنْهُ} .
في هذا الضمير ثَلاَثَةُ أوْجهٍ:
أحدها: أنه يعود على المال، لأنَّ القسمة تَدُلُّ عليه بطريق الالتزام.
الثَّانِي: أنَّهُ يعود على «ما» في قوله: {مِّمَّا تَرَكَ} .
الثَّالِثُ: أنَّهُ يعود على نفس القِسْمَةِ، وإن كان مذكراً مراعاة للمعنى إذ المراد بالقسمة الشيء المقسوم، وهذا على رأي من يرى ذلك، وَأمَّا مَنْ يقول: القسمة من الاقتسام كالخبرة من الاختبار أو بمعنى القَسَم فلا يتأتى ذلك.(6/198)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
قرأ الجمهور بسكون اللاَّم في الأفعال الثَّلاَثَةِ وهي لام الأمر، والفعل بعدها مجزومٌ(6/198)
بها، وقرأ الحَسَنُ وعيسى بْنُ عُمَرَ بكسر اللامِ في الأفْعَالِ الثَّلاثة وهو الأصل، والإسكان تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل، فإنهم شَبَّهوا «وليخش» ب «كَيف» وهذا ما تَقَدَّمَ الكلام في نحو: «وهْيَ» و «لَهْي» في أول البقرة.
قال القرطبي: حذفت الأولف من {وَلْيَخْشَ} للجزم بالأمر، ولا يجوز عند سِيبَويْه إضمار لام الأمر قياساً على حروف الجرّ إلاّ ضرورة شعر، وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم.
وأنشدوا: [الوافر]
1759 - مُحَمَّدُ تَفِدُ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيءٍ تَبَالاَ
أراد لتفد وهو مفعل «يخشى» محذوف لدلالة الكلام عليه، و «لو» هذه فيها احتمالان:
أحدهما: أنَّهَا على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أو حرف امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين.
والثَّانِي: أنَّهَا بمعنى «إن» الشَّرطية وإلى الاحتمال الأوَّل ذهب ابْنُ عطيّة والزَّمخشري.
قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت ما معنى وقوع {لَوْ تَرَكُواْ} وجوابه صلة ل «الذين» قلت: معناه: وليخش الَّذِينَ صفتهم وحالهم أنَّهم لو شارفوا أن يتركوا خَلْفَهُمْ ذريّة ضِعافاً، وذلك عند احتضارهم خَافُوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل: [الوافر]
1760 - لَقَدْ زَادَ الحَيَاةَ إليَّ حُبّاً ... بَنَاتِي إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
أُحَاذِرُ أنْ يَرَيْنَ البُؤسَ بَعْدِي ... وَأنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِي(6/199)
وقال ابن عطية تقديره: لو تركوا لخَافُوا، ويجوزُ حذف اللام من جواب «لو» ووجه التمسك بهذه العبارة أنَّهُ جعل اللامَ مقدَّرَةً في جوابها، ولو كانت «لَوْ» يمتنع بها الشَّيء لامتناع غيره، و «خَافُوا» جوابُ «لَوْ» .
وإلى الاحتمال الثَّانِي ذهب أبو البقاءِ وابنُ مَالِكٍ: «لو» هنا شرطية بمعنى «إنْ» فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال، والتَّقدير: وليخش الذين إنْ تركوا ولو وقع بعد «لو» هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بَعْدَ «إنْ» وأنشد: [الكامل]
1761 - لاَ يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إلاَّ مُظْهِراً ... خُلُقَ الكِرَام وَلَوْ تَكُونُ عَدِيماً
أي: وإنْ تكن عديماً، ومثلُ هذا البيت قول الآخر: [البسيط]
1762 - قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النَّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بأطْهَارِ
والَّذي ينبغي أن تكون على بابها كونها تعليقاً في الماضي، وَإِنَّمَا حمل ابْنُ مالك، وَأبَا البقاء على جَعْلِها بمعنى «إنْ» توهُّمُ أنَّهُ لَمَّا أمر بالخشيةِ - والأمرُ مستقبل ومتعلِّقُ الأمر موصول لم يصحّ أن تكون الصِّلةُ ماضية على تقدير دلالته على العدم الذي ينافي امتثالَ الأمر، وحَسَّنَ مكانَ «لو» لفظ «إنْ» ولأجل هذا التوهُّم لم يُدْخل الزمخشري «لَوْ» على فعل مستقبل، بل أتى بفعل ماضٍ مسندٍ للموصول حالةَ الأمر فقال: «وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا» .
قال أبُو حَيَّان: «وهو الَّذي تَوهَّموه لا يلزم، إلاَّ كانت الصِّلةُ ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل، إذا معنى» لو تركوا من خلفهم «أي: ماتوا فتركوا من خلفهم، فلو كان كذلك للزم التَّأويلُ في» لَوْ «أن تكون بمعنى» إنْ «إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل مَنْ مات بالفعل، فَإذَا كَانَ مَاضياً على تقدير فَيَصِحُّ أن يقع صِلَةً وأن يكون العاملُ في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك: ليزرْنَا الذي لو مات أمسِ لبكيناه» . انتهى.
وَأمَّا البيتان المتقدّمان فلا يلزمُ من صِحَّةِ جَعْلِهَا فيهما بمعنى «إنْ» أنْ تكن في الآية كذلك؛ لأنَّا في البيتين نضطر إلى ذلك، أمَّا البيتُ الأوَّلُ فلأن جواب «لو» محذوف(6/200)
مدلولٌ عليه بقوله: «لا يلفك» وهو نَهْيٌ، والنًّهْيُ مستقبلٌ فلذلك كانت «لَوْ» تعليقاً في المستقبل.
وأمَّا البيت الثَّاني فلدخول ما بعدها في حَيزِ «إذا» ، و «إذا» للمستقبل. ومفعول {وَلْيَخْشَ} محذوفٌ أي: وليخش الله.
ويجوز أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُع فإنَّ {وَلْيَخْشَ} يطلبُ الجلالة، وكذلك {فَلْيَتَّقُواّ} فيكون من إعمال الثَّاني للحذف من الأوَّلِ.
قوله: {مِنْ خَلْفِهِمْ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ متعلِّقٌ ب «تَرَكُوا» ظرفاً له.
والثَّاني: أنَّه مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من «ذرية» ؛ لأنَّه في الأصل صفة نكرة قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً.
قوله: {ضِعَافاً} ، أمال حمزة: ألف {ضِعَافاً} ولم يبال بحرف الاستعلاء لانكساره ففيه انحدارٌ فلم ينافِِ الإمالَة.
وقرأ ابن مُحَيْصِنٍ «ضُعُفاً» بضمِّ الضَادِ والعين وتنوين الفاء، والسُّلمي وعائشة «ضعفاء» بضم الضاد وفتح العين والمد، وهو جمع مَقِيسٌ في فعيل صفةً نحو: ظَرِيفٍ وَظُرَفاء وكَرِيم وكرماء، وقرئ «ضَعافَى» بالفتح والإمالة نحو: سَكَارى، وظاهر عبارةِ الزَِّمشري أنَّه قُرِئَ «ضُعافى» بضمِّ الضَّادِ مثل سُكارى فَإِنَّهُ قال: «وقُرِئَ ضُعَفَاء، وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى» فيحتمل أنْ يريد أنَّه قُرِئَ بضمّ الضَّادِ وفتحها، ويحتمل أن يُرِيدَ أنََّهُ قُرِئَ «ضَعافى» بفتح الضَّاد دونً إمَالَةٍ، و «ضَعافَى» بفتحها مع الإمالة [كَسَكارى بفتح اسلين دون إمالة، وسكارى بفتحها مع الإمالة] ، والظَّاهِرُ الأوَّلُ، والغالب على الظَّنِّ أنَّهَا لم تُنْقل قراءة.
قوله: {خَافُواْ عَلَيْهِمْ} . أمَالَ حمزةُ ألف «خَافُوا» للكسرة المقدَّرَةِ في الألف، إذ الأصل «خَوِفَ» بكسر العين؛ بدليلِ فتحها في المُضَارعِ نحو: «يَخَافُ» .(6/201)
وعلَّل أبو البَقَاءِ وغيره ذلك بأنَّ الكَسْرَ قد يَعْرِض في حال من الأحوال وذلك إذَا أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّم، أو إحدى أخواته: خِفْت وخِفْنَا، والجملةُ من «لَوْ» وجوابها صلةُ «الَّذينَ» .
فصل
اختلفوا في المعنيِّ على أقْوَالٍ:
أحدها: أنَّهَا في الرَّجُلِ يحضره الموت فيقول مَنْ في حضرته: انظر لنفسك فَإنَّ أولادك ورثتك لا يغنون عنك من الله شيئاً. قَدِّم لنفسك، أعتِقْ، وتصدَّقْ، وأعْطِ فلاناً كَذَا، وفلاناً كذا، حتَّى يأتي على عامَّة ماله، فنهاهم اللهُ تعالى عن ذلك، وأمرهم أن يأمروه بأن ينظر لولده ولا يزيد في وصيَّتِهِ على الثُّلُثِ فيكون خطاباً للحاضرين عند الميت. فقيل لهم: كما أنَّكم تكرهون بقا أولادكم الضُّعفاء ماله، ومعناه كما أنَّك لا ترضى لنفسك مثل هذا الفعل فلا تَرْضَاهُ لأخيك المسلم.
وثانيها: أنَّهُ خِطَابٌ للمريض بحضرة الموت ويريد الوصيَّة للأجانب، فيقول له من يحضره: اتَّق الله وأمسك مالك على ولدك مع أنَّ القَائِلَ لَهُ يجب أنْ يُوصِيَ لَهُ.
وثالثها: أنَّهُ خِطَابٌ لمن قرب أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصيَّة، لئلا تضيع ورثته بعد مَوْتِهِ، فَإنْ كانت هذه الآية نزلت قبل تَقْدِيرِ الوصيَّة بالثُّلُثِ، كان المرادُ بها ألا يستغرق التركةَ بالوصيَّةِ، وَإن كانت نزلت بعد تقدير الوصيَّة بالثُّلُثِ كان المرادُ منها ألا يوصي أيضاً بالثُّلُث بل ينقص إذا خاف على ذُرِّيته، وهذا مَرْويٌّ عن كثير من الصَّحَابَة.
رابعها: أنَّ هذا خطابٌ لأولياء اليتيم، قال الكَلْبِيُّ: كَأَنَّهُ يقول من كان في حِجْرِهِ فليحسن إليْه بما يجب أن يُفْعَلَ بذريته من بعده.
قال القاضي: وهذا أليقُ بما تَقَدَّمَ وتأخَّرَ من الآيات الواردة في الأيْتَام.
قوله: {فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} .
أي فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره، والاحتياط فيه، وليقولوا قولاً سديداً، والقولُ السديدُ هو العدل والصّواب من القول.
قال الزمخشريُّ: القولُ السَّديدُ من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب ويخاطبونهم: يا بني، ويا ولدي، والقول السّديد من الجالسين(6/202)
إلى المريض أن يقولوا: لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك [مثل قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِسَعْدٍ] والقول السَّديد من الوَرَثَة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون أن يلطفوا إليهم القول ويخصوهم بالإكرام.(6/203)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
قال مقاتل بن حيّان: نزلت في رجل من غَطَفَانَ يقال له مرثدُ بْنُ زَيْدٍ وَلِي مالَ ابن أخيه وهو يتيمٌ صغيرٌ، فَأكَلَهُ فأنزل اللهُ هذه الآية.
قوله: {ظُلْماً} فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه مفعول من أجله، وشروط النصب موجودة.
الثاني: أنَّهُ مصدرٌ في محلِّ نَصْب على الحَالِ أي: يأكُلُونَهُ ظالمين والجملة من قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ} هذه الجملة في محل رفع ل «إنَّ» ، وفي ذلك خلاف.
قال أبُو حيان: وَحَسَّنَه هنا وقوعُ [اسم] «أن» موصولاً فطال الكلامُ بصلة الموصول فلما تباعد ما بينهما لم يُبَالِ بذلك، وهذا أحْسَنُ من قولك: «إنَّ زيداً إنَّ أبَاهُ منطلق» ، ولقائلٍ أن يقول: ليس فيها دلالة على ذلك؛ لأنها مكفوفة ب «ما» ومعناها الحصرُ فصارت مثل قولك، في المعنى: «إنَّ زيداً ما انطلق إلاَّ أبوه» وهو محل نظر.
قوله: {فِي بُطُونِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: انَّهُ مُتَعَلِّقٌ ب {يَأْكُلُونَ} أي: بطونُهم أوْعِيَةٌ للنَّارِ، إمَّا حَقِيقَةً: بأنْ يَخلق اللهُ لهم ناراً يأكلونَهَا في بُطُونِهِم، أوْ مَجَازاً بِأنْ أطْلِقَ المُسَبِّبَ وأرادَ السبب لكونه يُفْضِي إلَيْهِ ويستلزمه، كما يُطْلَقُ اسْمُ أحَدِ المتلازمين على الآخَرِ كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] .
قال القاضِي: وهذا أوْلَى؛ لأن الإشارةَ فيه إلى كُلِّ واحِدٍ.
وَالثَّاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حال مِنْ «نارا» وكان في الأصل صفة للنكرة فَلَمَّا قُدِّمَتِ انْتَصَبَتْ حَالاً.
وذكر أبُو البَقَاءِ هذا الوجه عن أبِي عَلِيٍّ في «تَذْكِرَتِهِ» ، وحكى عنه أنَّهُ منع أنْ يكون ظرفاً ل {يَأْكُلُونَ} فَإنَّهُ قال: {فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} حال من نار، أي: نَارٌ كَائِنَةٌ في بُطُونِهِمْ، وليس بِظَرْفٍ ل {يَأْكُلُونَ} ذكره في التَّذْكِرَةِ «.
إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ(6/203)
فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وفي قوله:» وَالَّذي يَخُصُّ هذا المَوْضِع «فيه نَظَرٌ، فَإنَّهُ كما يجوزُ أن يكونَ {فِي بُطُونِهِمْ} حالاً من» نَار «هنا يجوزُ أن يكون حالاً من» النَّار «في البقرة، وفي [إبداء] الفرقِ عُسْرٌ، ولم يظهر [منع أبي عليٍّ كَوْنَ {فِي بُطُونِهِمْ} ظرفاًَ للأكْلِ وجه ظاهر فإن قيل: الأكل لا يكون إلا] في البَطْنِ فما فائدةُ قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} ؟ .
فالجوابُ أنَّ المرادَ به التَّأكِيدُ والمبالغةُ كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] والقلبُ لا يكونُ إلاَّ في الصَّدْرِ، وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] والطّيرانُ لا يكون إلاَّ بالنَّجَاحِ.
فصل في جواز الأكل من مال اليتيم
هذه الآيةُ توكيدٌ للوعيدِ المُتَقَدِّمِ لأكل مال اليتيم، وخَصَّ الأكل بالظلم، فأخرج الأكل بغير الظُّلْمِ مثل أكْلِ الوليّ بالمعروف من مال اليتيم، وإلاَّ لم يكن لهذا التَّخصيص فائدة.
فصل في حرمة جميع الإتلافات لمال اليتيم
ذكر تعالى الأكل إلا أنَّ المراد منه كُلّ أنواع الإتلافات فإنَّ ضرر اليتيم لا يختلفُ بأن يكون إتلاف مال بالأكْلِ، أو بطريقٍ آخَرَ، وإنَّمَا ذكر الأكْلَ، وأراد به كُلَّ التَّصرفات المُتْلِفَةِ لِوُجُوهٍ:
أحدها: أنَّ عامَّة أموال اليَتَامَى في ذلك الوقت هو الأنعام الَّتي يؤكل لحومها ويَشْرَبُ ألبانها فخرجَ الكَلاَمُ على عاداتهم.
وثانيها: أنَّهُ جَرَتِ العَادَةُ فيمن أنْفَقَ مَالَهُ في وجوه مراداته خيراً كانت أو شراً أنَّهُ يقال: إنَّهُ أكل ماله.
وثالثها: أنَّ الأكل هو المعظم فما يبتغي من التَّصرفات.
قوله: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} ، قرأ الجمهور بفتح الياء واللام، وابن عامر وأبو بكرٍ بضمِّ اليَاءِ مَبْنِيّاً من الثُّلاَثِيِّ، ويَحْتمل أنْ يكون من أصليٍّ فَلَمَّا بُنِيَ للمفعول قَامَ الأوَّلُ مقام الفَاعِلِ، وابن أبي عبلة بضمهما مبنياً للفاعل الرُّبَاعي، والأصل على(6/204)
هذه القراءة: سَيُصْلون من أصلي مثل يكرمون من أكرم، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت، فالتقى السَّاكنان فَحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وَضَمُّ ما قبل الواو ليصح و «أصْلَى» يُحتمل أنْ تكون الهمزةُ فيه للدُّخول في الشَّيءِ، فَيَتَعَدَّى لواحدٍ وهو {سَعِيراً} ، وأن تكون للتَّعدية، فالمفعول محذوف أي: يُصْلَونَ أنفْسهم سعيراً.
وأبو حَيْوَةَ بضم الياء وفتح الصَّادِ واللاَّم مُشَدَّدَة مبنياً للمفعول من صَلَّى مضعفاً.
قال أبُو البَقَاءِ: والتّضعيفُ للتكثير.
والصَّلْي: الإيقاد بالنَّارِ، يقال: صَلِيَ بكذا - بكسر العين - وقوله {لاَ يَصْلاَهَآ} أي: يَصْلَى بها.
وقال الخليلُ: صَلِيَ الكافرُ النَّارَ أي: قَاسَى حَرَّها وصلاه النَّارَ وَأصْلاَهُ غيرهُ، هكذا قال الرَّاغِبُ. وظاهرُ العِبَارَةِ أنَّ فَعِلَ وَأفْعَل [بمعنى] ، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذَف.
وقال غيره: «صَلِيَ بالنَّارِ أي: تَسَخَّنَ بقربها» ف {سَعِيراً} على هذا منصوبٌ على إسقاط الخَافض. وَيَدُلُّ على أنَّ أصْلَ «يَصْلاها» يَصْلَى بها قول الشاعر: [الطويل]
1763 - إذَا أوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ ... فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلى بِهَا وَسَعِيرِهَا
وقيل: صَلَيْتُه النَّارَ: أدْنَيْتُه منها، فيجوزُ أنْ يكونَ منصوباً مِنْ غير إسقاطِ خافضٍ.
قال الفرَّاءُ: الصلى: اسم الوقود وهو الصّلاء إذا كسرت مدّت، وإذا فتحت قُصِرَتْ، ومن ضَمِّ الياء فهو من قولهم: أصْلاَهُ الله حَرَّ النَّار إصلاء، قال: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} [النساء: 30] وقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] .
وقال أبو زَيْدٍ: يقال: صَلِيَ الرَّجلُ النَّارَ يَصْلاَهَا صَلًى وصلاءً، وهُوَ صَالِي النَّارِ، وقوم صالون وصلاء، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} [الصافات: 163] وقال: {أولى بِهَا صِلِيّاً} [مريم: 70] والسّعير في الأصل الجمر المشتعل، وسَعَرْتُ النَّارَ أوقدتها، ومنه: مُسْعِرُ حَرْبٍ، على التشبيه، والمِسْعَرُ: الآلةُ الَّتي تُحَرَّكُ بها النَّارُ.
فصل
روي أنَّهُ لما أنزلت هذه الآية ثقل ذلك على النَّاسِ فاحترزوا عن مخالطة اليتامى(6/205)
بالكليَّةِ، فصعب الأمر على اليتامى، فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] وزعم بعضهم أنَّ هذه الآية صارت منسوخة بتلك وهو بعيد؛ لأنَّ هذه الآية في المنع من الظُّلْمِ وهذا لا يصير منسوخاً، بل المقصود أنَّ مخالطة أموال اليتامى إن كان على وجه الظُّلْم فهو إثم عظيم كما في هذه الآية، وَإنْ كان على وجه الإحسان والتّربية فهو من أعظم [أبواب] البرّ، لقوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] .(6/206)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان:
الأوَّلُ: أنَّهُ تعالى لَمَّا بَيَّن الحكم في مال الأيتام وما على الأولياء فيه، بَيَّنَ في هذه الآية كيفية تملك الأيتام المال بالإرث.
الثَّاني: أنَّهُ لمَّا بين حكم الميراث مجملاً في قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} فذكر هنا تفصيل ذلك المجمل.
فصل
اعلم أنَّ الوراثة كانت في الجاهليَّةِ بالذُّكورة والقوَة، وكانوا يورثون الرّجال دون النِّسَاء والصّبيان، فأبطل الله ذلك بقوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ} [النساء: 7] الآية. وكانت أيضاً في الجاهليَّة وابتداء الإسلام بالمخالطة، قال تعالى: {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] .
ثم صارت الوراثة بالهجرة، قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} [الأنفال: 72] فنسخ اللهُ ذلك كله بقوله: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} [الأنفال: 75] وصارت الوراثة بأحد الأمور الثَّلاثة: النّسب، أو النكاح، أو الولاء.
وقيل: كانت الوراثة أيضاً بالتَّبنِّي، فإنَّ الرَّجل منهم كان يتبنَّى ابنَ غَيْره فَيُنْسَبُ إليه دون أبيه من النَّسب فيرثه، وهو نوع من المعاهدة المتقدِّمَةِ، وكذلك بالمؤاخَاةِ.
وقال بعض العلماء: لم ينسخ شيء من ذلك بل قررهم الله عليه فقوله: {وَلِكُلٍّ(6/206)
جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [النساء: 33] [ليس المراد منه النصيب من المال، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة] والنصيحة وحسن المعاشرة.
فصل: سبب نزول الآية
روى عطاء قال: استشهد سعدُ بْنُ الرَّبِيع النَّقيب، وترك ابنتين وامرأة وأخاً، فأخذ الأخ المال كُلَّهُ، فأتت المرأةُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالت: يا رسول اللهِ هاتان ابنتا سَعْدٍ، وإن سعداً قتل، وأن عمهما أخذ مالهما، فقال عليه السلام: «ارجعي فَلَعَلَّ اللهَ سَيَقْضِي [فيه] » ثم إنها عادت إليه بعد مدة وبكت، فأنزل الله هذه الآية، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمَّهما، وقال له: «أعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقي فَهُوَ لَكَ» فهذا أوَّلُ ميراث قُسِّمَ في الإسلام.
وقال مقاتلٌ والكَلْبِيُّ: ننزل في أم كُحَّة امرأة أوس بْنِ ثَابتٍ وبناته.
وروى جابر قال: جاء رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنا مريض لا أعقِلُ فتوضّأ فَصَبَّ عَلَيَّ من وضوئه فقلتُ: يا رسول الله لمن المِيرَاثُ، وَإنَّمَا يرثُنِي كَلاَلَةٌ فنزلت آية الفرائض.
فصل
قال القَفَّالُ: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} أي: يقول لكم قولاً يوصلكم إلى إيفاءِ حقوق أولادكم بعد موتكم، وأصل الإيصاء هو الإيصَالُ يقال:(6/207)
وصى يصي إذا وَصَلَ، فإذا قيل: أوصاني، فمعناه: أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه، وكذلك وَصَّى وهو على المبالغة.
وقال الزَّجَّاج: معنى قوله هاهنا {يُوصِيكُمُ} أي: يَفْرِضُ عليكم؛ لأنَّ الوصية مِنَ الله إيجابٌ لقوله بعد نَصِّه على المحرمات
{ذلكم
وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 151] .
وقرأ الحسن وأبي عبلة {يُوصِيكُمُ} بالتَّشديد، وقد تَقَدَّمَ أنَّ أوْصَى ووصَّى لغتان.
قوله: {في أَوْلاَدِكُمْ} قيل: ثَمَّ مضاف محذوف أي: في أولاد موتاكم.
قالوا: لأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُخَاطِبَ الحيُّ بقسمةِ الميراثِ في أولاده، ويُفْرَضَ عليه ذلك.
وقال بعضهم: إن قلنا إنَّ معنى {يُوصِيكُمُ} «يبين لكم» لم يحتج إلى هذا التقدير، وقَدَّر بَعْضُهُم قبل: {أَوْلاَدِكُمْ} مضافاً، أي: في شأن أولادكم، أو في أمر أولادكم.
قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ} هذه الجملة من مبتدأ وخبر، يُحْتَمل أن تكونَ في محلِّ نَصْبٍ ب «يوصي» ؛ لأنَّ المعنى: يَفْرِضُ لكم، أو يُشَرِّع في أوْلادَكُمْ، كذا قاله أبُو البَقَاءِ، وهذا يقرب من مذهب الفرَّاء، فإنَّهُ يُجْرٍي ما كان بمعنى القول مُجْراه في حكاية الجملِ، فالجملةُ في موضع نَصْب ب «يوصيكم» .
وقال مَكِّيٌّ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ} ابتداءُ وخبر في موضع نصب تَبْيينٌ لِلْوَصِيَّةِ وَتَفْسِيرٌ لَهَا.
وقال الكِسَائِيُّ: «ارتفع» مثل «على حذف» أنَّ «تقديره: أنَّ للذكرِ مثلُ حظّ، وبه قرأ ابن ابيب عبلة، ويحتمل ألاَّ يكون لها محلٌّ من الإعراب، بل جيء بها للبيان والتَّفسير فهي جُملةٌ مفسِّرةٌ للوصيَّةِ، وهذا أحسن وجار على مذهب البصريين، وهو ظاهر عبارة الزمخشريِّ، فَإنَّهُ قال: وهذا إجمالٌ تفصيلُه {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} .
وقوله: {لِلذَّكَرِ} لا بُدَّ من ضمير يعود على {أَوْلاَدِكُمْ} من هذه الجملة، فيحتمل أن يكون مجذوفاً أي: للذكر منهم نحو:» السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم «قاله الزمخشريُّ، ويحتمل أن يكون قام مقام الألف واللام عند مَنْ يرى ذلك، والأصل: لذكرهم و» مثل «صفة لموصوفٍ محذوفٍ أي: للذَّكَر منهم حَظٌّ مثلُ حَظِّ الأنثيين.
فإن قيل: لا يقال في اللُّغَةِ: أوصيك لكذا، فكيف قال هنا: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ} ؟ .
فالجوابُ: أنَّهُ لما كانت الوصية قولاً، فلهذا قال بعد قوله: {يُوصِيكُمُ الله} قولاً(6/208)
مستأنفاً وهو قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} ونظيره قوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} [الفتح: 29] أي: قال لهم مغفرة؛ لأن الوعد قولٌ.
فصل
اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأوْلاَدِ؛ لأنَّ تعلُّق الإنسان بولده أشدّ التّعلقات، وللأولاد حال من انفراد وحال اجتماع مع الوالدين.
فحال الانفراد [ثلاثة] إمَّا أن يَكُونُوا ذكوراً وإناثاً، أو ذكوراً فقط، أو إناثاً فقط، فإنْ كانوا ذكوراً وإناثاً فقد بَيَّنَ اللهُ تعالى حكمهم بقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} فبين تعالى أن للذكر مثل ما للأنثى مرتين.
قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} الضمير في» كُنَّ «يعودُ على الإناثِ اللاَّتي شَمَلَهُنَّ قوله: {في أَوْلاَدِكُمْ} .
فإنَّ التَّقدير: في أولادكم الذُّكور والإناث، فعادَ الضَّمِيرُ على أحد قِسمي الأولادِ، وإذا عاد الضَّمِيرُ على جمع التكسير العاقل المراد به مَحْضَ الذُّكور، وفي قوله عليه السَّلام
«ورب الشياطين ومن أضللن» لعوده على جماعة الإناث، فَلأنْ يعودَ كذلك على جمع التكسير المشتمل على الإناث بطريق الأوْلى [والأحرى] ، وهذا معنى قول أبي حيَّان: وفيه نَظَرٌ لأن عوده هناك كضمير الإناث إنما كان لمعنى مفقودٍ هنا وهو طلب المشاكلة لأنَّ قبله «اللهم رب السموات ومن أضللن الأرضين وما أقللن» ذَكَر ذلك النحويون.
وقيل: الضَّمير يعود على المتروكات أي: فإن كانت المتروكات، وَدَلَّ ذِكْرُ الأولاد عليه، قاله أبُو البقاء ومكيٌّ وقدَّره الزمخشريُّ: فإنْ كانت البنات أو المولودات.
فإذا تقرر هذا ف «كُنَّ» كان واسمُها و «نسَاءٌ» خبرها، و «فوق اثنتين» ظرف في فائدةٌ، ألا ترى أنَّه لو قيل: «إنْ كان الزيدون رجالاً كان كذا» لم يَكُنْ فيه فائدةٌ.
وأجاز الزَّمخشريُّ في هذه الآية وَجْهين غريبين:
أحدهما: أن يكون الضمير في «كُنَّ» ضميراً مبهماً، و «نساء» منصوبٌ على أنَّهُ تفسيرٌ له يعني: تمييزاً، وكذلك قال في الضَّمِير الَّذي في «كَانَتْ» من قوله: {وَإِن كَانَتْ(6/209)
وَاحِدَةً} على أنَّ «كن» تَامَّةٌ. والوجه الآخر: أن يكون «فوق اثنتين» خبراً ثانياً ل «كُنَّ» وَرَدَّهما عليه أبو حيّان: أمَّا الأوَّلُ: فلأنَّ «كانَ» ليْسَتْ من الأفعالِ الَّتي يكونُ فاعلُها مضمراً يُفَسِّره ما بَعْدَهُ بل هذا مختصٌّ من الأفعال ب «نعم» و «بئس» وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا وبَابُ التنازع عند إعْمَالِ الثاني، فَلِمَا تَقَّدَمَ من الاحتياج إلى هذه الصفةِ؛ لأنَّ الخبرَ لا بُدَّ أنْ تَسْتَقِلَّ به فَائِدةُ الإسناد، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ لو اقتصر على قوله «فإن كن نساء» لم يُفِدْ شيئاً؛ لأنَّهُ مَعْلُومٌ.
قوله: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} قرأ الجمهور «ثلُثا» بضمِّ اللام، وهي لغة الحجاز وبني أسد.
قال النَّحَّاسُ: من الثُّلث إلى العشر.
وقرأ الحسن ونعيمُ بن ميسرةَ «ثُلْثا» و «الثُّلْثُ» و «النِّصْفُ» و «الرُّبْع» و «الثُّمْنُ» كلُّ ذلك بإسكان الوسط.
وقال الزَّجَّاجُ: هي لغة واحدة، والسُّكونُ تخفيف.
فصل
بَيَّنَ في هذه الآية ما إذا كانوا إناثاً فقط، فقال: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف} ، إلا أنَّه تعالى لم يَبيِّن حُكْمَ الْبِنْتَين تصريحاً، واختلفوا فيه: فعن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ قال: الثُّلثان فرض الثلاث من البنات فصاعداً، وأمَّا فرض البنتين فهو النّصف؛ لهذه الآية؛ لأنَّ لفظة «إن» في اللُّغة للاشتراط، وذلك يدلُّ على أن أخذ الثُّلثي مشروطاً بكونهن فوق الاثنتين وهو الثلاث فصاعداً.
والجواب من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف} فجعل حصول النّصف مشروطاً بكونها واحدةً، وذلك ينفي حصول النّصف نصيباً للبنتين وقد جعل النّصف نصيبَ البنتين، فهذا لازم لَهُ.
الثَّاني: لا نُسَلِّمُ أنَّ كلمة «إن» تَدُلُّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، لأنَّهُ لو كان الآمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين؛ لأن الإجماع دَلًّ على أنَّ نَصِيبَ البنتين إمَّا النِّصْفُ، وإمَّا الثُّلثان، وبتقدير أن تكون كلمة «إن» للاشتراط وجب القول بفسادهما،(6/210)
فثبت أنَّ القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فيكون باطلاً ولأنَّهُ تعالى قال: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وقال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات.
الثَّالث: أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير: فإن كُنَّ نِسَاءً اثنتين فما فَوْقَهُمَا فلهن الثُّلثان.
وَأمَّا سَائِرُ الأمَّةِ، فأجمعوا على أنَّ فرض البنتين الثلثان.
قال أبو مسلم الأصفهاني: عرفناه من قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} فإذا كان نصيب الذكر مثل حظ الأنثيين، ونصيبُ الذكر هاهنا الثُّلثان وجل لا محالةَ أن يكون نصيب البنتين الثلثين.
وقال أبو بكر الرَّازي: إذا مات وخلف ابناً وبنتاً فهاهنا نصيب البنتِ الثّلث لقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذّكر هو الثُّلث، فأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى؛ لأنَّ الذكر أقوى من الأنْثَى، وإذا كان حظ البنتين أزيد من حظ الواحدة، وَجَبَ أن يكون ذلك هو الثُّلثان؛ لأنَّهُ لا قائل بالفرق، وأيضاً فلما ذكرنا من سبب النُّزول أنه عليه السلاَّم أعطى بنتي سعد بن الرَّبيع الثّلثين، ولأنَّه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن، ولم يذكر حكم البنتين، وقال في ميراث الأخوات {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] فذكر ميراث الأخت والأختين، ولم يذكر ميراث الكثير فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مُجْمَلاً من وجه ومبيناً من وجه، فنقول: لما كان نصيبُ الأخوات الكثيرة على ذلك؛ لأنَّ البنت لَمَّا كانت أشد اتِّصالاً بالميت؛ امتنع جعل الأضعف زائداً على الأقْوَى.
وأما القسم الثَّالِثُ: وهو أن يكون الأولاد ذكوراً فقط، فللواحد المنفرد أخذ المال كلّه، لقوله تعالى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} ثم قال في البنات {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف} فلزم من مجموع الآيتين أن نصيب الابن المنفرد جميع المال، وقال عليه السَّلام: «ما أبْقَتِ السِّهَامُ فللأوْلَى عَصَبةٍ ذَكَرٍ» وَإذَا أخَذَ كل ما يبقى بعد السِّهَام، وجب أن يأخذ الكلَّ إذا لم يكن سهام.(6/211)
فإن قيل: حظُّ الأنثيين الثُّلثان فقوله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} يقتضي أن يكون حظُّ الذَكر مطلقاً هو الثُّلث، وذلك ينفي أن يأخذ المال كله.
فالجوابُ: أنَّ المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد؛ لأن قوله {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} يقتضي حصول الأولاد، وقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} يقتضي حصول الذكر والأنثى هناك، هذا كلُّهَ إذا كان ابناً واحداً فقط، فلو كان أكثر من واحد تشاركوا في جهة الاستحقاق؛ ولا رجحان، فوجب قسم المال بينهم بالسَّويَّةِ، والله أعلم.
فإن قيل: إنَّ المرأة أكثر عجزاً من الرجل، وأقل اقتداراً من الرَّجُل لعجزها عن الخروج والبروز، فإنَّ زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك، ولنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها، وإذا ثبت أنَّ عجزها أكمل، وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر، فإن لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة، فما الحكمة في أنَّه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل؟ .
فالجواب: لأن خرج المرأة أقل، لأن زوجها ينفق عليها وخرج الرَّجل أكثر، لأنَّهُ هو المنفق على زوجته ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج؛ ولأنَّ الرَّجُلَ أكملُ حالاً من المرأة في الخلقةِ وفي العقل والمناصب الدينيَّة، مثل صلاحية القضاء والإمامة، وأيضاً شهادة المرأة نِصْفُ شهادة الرَّجُلِ، ومن كان كذلك؛ وجب أن يكون الإنعام إليه أكثر؛ ولأنَّ المرأة قليلةُ العقل كثيرةُ الشَّهْوَةِ، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفسادُ، ولهذا قال الشَّاعرُ: [الرجز]
1764 - إنَّ الفَرَاغَ وَالشَّبَابِ وَالْجِدْه ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهُ
وروي أنَّ جعفر الصادق سُئِلَ عن هذه الآية فقال: «إنَّ حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم، فلما جعلت نصيبها ضعف نصيب الرجل أقلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصفَ نصيب الرَّجل» .
فإن قيل: لِمَ لم يَقُل للأنثيين مثل حظ الذَّكر، أو للأنقى مثلاً حظ الذَّكر؟
فالجواب أنَّه لمَّا كان الذَّكر أفضل من الأنثى قدَّمَ ذِكْرَهُ على كر الأنثى كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى، ولأنَّ قوله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} يدلُّ على فضل الذكر بالمطابقة، وعلى نقص الأنثى بالالتزام، ولو قال كما ذكرتم لَدَلَّ على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذَّكر بالالتزام، فرجح الطرف الأوَّل تنبيهاً على أنَّ السَّعي(6/212)
في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحاً على السعي في تشهير الرَّذائل، ولهذا قال {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] فذكر الإحسان مرتين والإساءة مرَّة واحدة، وأيضاً فلأنهم كانوا يورثون دون الإناث، وهو سبب نزول الآية، فقيل: كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى فلا ينبغي أن يطمع في حِرْمَانِ الأنْثَى بالكليَّةِ.
فإن قيل: قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} جمع، وأقلُّ الجمع ثلاثة فما فائدة قوله: {فَوْقَ اثنتين} ؟ .
فالجواب: للتأكيد كقوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}
[النساء: 10] وقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} [النحل: 51] .
فصل
اسم الولد يقع على ولد الصّلب حقيقة، وهل يستعمل في ولد الابن حقيقة أو مجازاً؟ خلاف.
فإن قلنا: إنَّهُ مجاز، فنقول: ثَبتَ في أصول الفقه أنَّ اللَّفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعةً واحدةً في حقيقته وفي مجازه معاً، فحينئذ يمتنع أنْ يكون المراد بقوله {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} ولد الصّلب، وولد الابن معاً، ويُدْفَعُ هذا الإشكال بأن يقال: إنَّا لا نَسْتَفِيدُ حُكْمَ ولد الابن من هذه الآية، [بل] من دليل آخر، وذلك أن أولاد الابن لا يرثون إلا عند عدم الولد، وإذا لم يستغرق ولد الصّلب كلِّ الميراث، وإن ثبت أنَّه حقيقة فيهما فيكون مشتركاً بينهما فيعود الإشكال، لإنَّه ثبت أنَّهُ لا يجوزُ استعمال اللَّفظ المشترك لإفادة معينية معاً، بل الوَاجِبُ أنَّ اللفظ يكون متواطئاً فيهما كالحيوان بالنِّسبةِ إلى الإنسان، والفرص، [والذي] يدلّ على صحَّةِ ذلك قوله {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [النساء: 23] وأجمعوا على أنه يدخل فيه ابن الصّلب، وأولاد الابن، فعلمنا أنَّ لفظ الابن يتواطأ بالنسبة إلى ولد الصّلب وولد الابن والجدّات. وقد وقع ذلك في قوله تعالى: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] والأظهر أنَّهُ ليس على سبيل الحقيقة، فإن الصَّحَابَةِ اتَّفقوا على أنه ليس للجدّ حكم مذكور في القرآن، ولو كان اسم الأب يتناول الجد لما صحَّ ذلك.
فصل
قالوا إن عموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} مخصوص بأربع صور:(6/213)
أحدها: لا يتوارث الحرّ والعبد.
وثانيها: أنه إذا قتل مورثه عمداً لا يرث.
وثالثها: اختلاف الدّين.
ورابعها: أنَّ الأنبياء عليهم السَّلام لا يورثون، وروي أنَّ فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لما طلبت الميراث ومنعوها، احتجَّوا عليها بقوله عليه السلام: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاء لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة» فعند هذا أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخير الواحد.
وقوله: «وإن كانت واحدة» قرأ نافع «وَاحِدَةٌ» رفعاً على أن «كَانَ» تامة أي: وإن وُجِدَتْ واحدةٌ، والباقون «واحدة» نصباً على أن «كَانَ» ناقصة واسمُها مستتر فيها يعودُ على الوارثة أو المتروكة و «واحدة» نَصْبٌ على خبر «كان» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الزَّمَخشريَّ أجاز أن يكون في «كان» ضمير مبهمٌ مفسَّر بالمنصوبِ بعد. وقرأ السُّلمي: «النُّصف» بضم النون، وهي قراءةُ عليِّ وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة في قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ويعني: كون البنت الواحدة لها النّصف؛ لأن الابن الواحد له جميع المال إذا انفرد، فكذلك البنت إذا انفردت لها نصف ما للذكر إذا انفرد؛ لأنَّ الذَّكر له مثل حظ الأنثيين.
قوله: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس} .
{السدس} مبتدأ و {وَلأَبَوَيْهِ} خبرٌ مقدَّمٌ، و {لِكُلِّ وَاحِدٍ} بدل من {وَلأَبَوَيْهِ} ، وهذا نص الزمخشريِّ فإنَّه قال: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} بدل من {وَلأَبَوَيْهِ} بتكرير العامل، وفائدة هذا البدل أنَّهُ لو قيل: «ولأبويه السدس» لكان ظاهرةُ اشتراكهما فيه، ولو قيل: «لأبويه السدسان» لأوْهَمَ قِسْمَةَ السدسين عليهما بالسويةِ وعلى خلافهما.
فإن قُلْتَ: فهلا قيل: «ولكل واحد من أبويه السدس» وأيُّ فائدةٍ في ذكر الأبوين أولا ثم في الإبدال منهما؟ .
قلت: لأنًّ في الإبدال والتفصيل بَعْدَ الإجمال تأكيداً وتشديداً كالذي تراه في الجمع بين المفسَّر والتفسير.
و {السدس} مبتدأ، وخبره {لأَبَوَيْهِ} والبدلُ متوسط بينهما للبيان. انتهى.(6/214)
ونَاقَشَهُ أبو حيان فِي جَعْلِهِ {لأَبَوَيْهِ} الخبر دون قوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ} قال: «لأنه ينبغي أن يكون البدل هو الخبر دونَ المبدل منه» يعني: أنَّ البدل هو المعتمد عليه، والمبدل منه صار في حكم المُطَّرح، ونَظَّره بقولك: «إنَّ زيداً عينهُ حسنةٌ» فكما أنَّ «حَسَنَةٌ» خبر عن «عينه» دون «زيد» في حكم المُطَّرح فكذلك هذا، ونَظَّره أيضاً بقولك: [أبواك لكل واحد منهما يصنع كذا ف «يصنع» خبر عن كل واحد منهما.
ولو قلت: «أبواك كُلُّ واحدٍ منهما يصنع كذا» لَمْ يَجُزْ.
وفي هذه المناقشة نَظَرٌ، لأنه إذا قيل لك: ما مَحَلُّ لأبويه من الإعراب؟ تُضطر إلى أن تقول: في مَحَلِّ رفع خبراً مقدماً، ولكنه نقل نسبة الخيريّة إلى {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} دون {لأَبَوَيْهِ} قال: وقال بعضهم: {السدس} رفع بالابتداء، و {لِكُلِّ وَاحِدٍ} الخبرُ و {لِكُلِّ} بَدَلٌ من الأبوين، و «منهما» نعت لواحد، وهذا البدلُ هو بدلُ بعضِ من كُلِّ، ولذلك أتَى معه بالضَّمير، ولا يُتَوَهَّمُ أنَّهُ بدلُ شيءٍ من شيْءٍ وهما لعين واحدةٍ لجوازِ أبواك يَصْنعان كذا وامتناع أبواك كل وتجد منهما يصنعان كذا، بل تقول: يصنع. انتهى.
والضَّمير في «لأبويه» عائد على ما عاد عليه الضَّمير في «ترك» ، وهو الميتُ المدلولُ عليه بقوة الكلام، والتثنية في «أبويه» من التَّغليب، والأصل: لأبيه وأمه وَإِنَّما غَلَّبَ المذكر على المؤنث كقولهم: «القمران، والعمران» وهي تثنية لا تنقاس.
فصل
إذا كان مع الأبوين ولد أو أكثر كان لِكُلِّ واحد منهما السُّدس وسوى اللهُ بين الأب والأمّ في هذا الموضع؛ لأنَّ الأبَ وإن كان يستوجب التفضيل لما كان ينفقه على الابن، وبنصرته له والذب عنه صغيراً، فالأم أيضاً حملته كُرهاً ووضعته كُرْهاً؛ وكان بطنها له وعاءً، وثديها له سقاء، وحِجْرُهَا له فناء فتكافأت الحجتان، فلذلك سوَّى بينهما، فإن كانت بنتاً واحدةً وبنت ابن فللبنت النصف وللأمِّ السُّدس وللأب ما بقي، وهو الثلثُ [نصف بفرضه، وهو السُّدس] وباقيه بالتَّعصيب فإن قيل: حقُّ الأبوين على الإنسان أعظمُ من حقِّ ولده عليه، لأنَّ الله تعالى قرن طاعته بطاعتهما فما الحِكْمَةُ في جَعْلِ نصيب الأولادِ أكبر؟ .
فالجواب: أن الوالدين ما بقي من عمرهما إلاّ القليل، فكان احتياجهما إلى المال قَلِيلاً، وأمَّا الأولاد فهم في زمن الصِّبا، فكان احتياجهم إلى المال أكثر [فظهر الفرق] .(6/215)
قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث}
قرأ الجمهور {فَلأُمِّهِ} وقوله: {في أُمِّ الكتاب} [الزخرف: 4] .
وقوله: {حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا} في القصص [آية: 59] .
وقوله: {مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النحل: 78] .
وقوله: {أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61] و {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] بضم الهمزة من «أمّ» وهو الأصلُ.
وقرأ حمزة والكسائيُّ جميعَ ذلك بكسر الهمزة.
وانفرد حمزة بزيادة كسر الميم من «إمِّهات» فإنَّهُ لا خلاف في ضَمِّها.
أمَّا وجهُ قراءة الجمهور فظاهرٌ، لأنَّهُ الأصل كما تَقَدَّمَ.
وَأمَّا قراءة حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا: لمناسبة الكسرة أو الياء الّتي قبل الهمزة، فكسرت الهمزةُ إتباعاً لما قَبْلَها، ولاستثقالهم الخروج من كَسْرِ أو شبه إلى ضم.
قال الزَّجَّاجُ: وليس في كلام العرب «فِعُل» بكسر الفاء وضمِّ العين، فلا جَرَمَ جُعِلَتْ الضمةُ كسرةً، ولذلك إذا ابتدآ بالهمزة ضَمَّاها لزوال الكسر أو الياء، وأمَّا كسر حمزة الميم من «إمَّهات» في المواضع المذكورة فللإتْبَاع، أتبعَ حركة الميم لحركةِ الهمزةِ، فكسرةُ الميم تَبَعُ التَّبَع، ولذلك إذا ابتدأ بها ضم الهمزة وفتح الميم؛ لما تقدَّمَ من زوال موجب ذلك.
وكَسْرُ همزة «أم» بعد الكسرة أو الياء حكاه سببويْهِ لُغَةً عن العرب، ونَسَبَها الكِسائِي والفرَّاء إلى «هوازن» و «هذيل» .
فصل
ذكر ها هنا أنَّ الأبوين إذا لم يكن معهما وَارِثٌ غَيرُهُمَا، فإنَّ الأم تأخذ الثُّلث، ويأخذ الأبُ ما بقي وهو الثُّلثان، وإذا ثبت أنَّهُ يأخذُ الباقي بالتَّعْصِيبِ، وجب أن يأخذ المال كُلَّهُ إذا انفرد؛ لأنَّ هذا شأن التَّعصيب، فإن كان مع الأبوين أحد الزَّوجين، فذهب أكثر الصَّحَابة إلى أنَّ الزَّوْجَ يأخذ فَرْضَهُ، ثم تأخذ الأم ثُلْثَ ما بقي، ويأخذ الأب ما بقي.(6/216)
وقال ابن عباس: يأخذ الزوج فَرْضَهُ، وتأخذ الأم الثلث كاملاً، ويأخذ الأب ما بقي.
وقال: لا أجد في كتاب اللهِ - تعالى - ثلث ما بقي.
وعن ابن سيرينَ أنَّهُ وافق ابن عبَّاس في الزَّوْجَة والأبوين، وخَالَفَهُ في الزَّوْجِ والأبوين، لأنَّهُ يُفْضِي إلى أن يكون للأنثى مثل حَظِّ الذكرين.
وَأمَّا الزَّوْجَةُ، فلا يفضي إلى ذلك.
وحجَّةُ الجمهور أنَّ قاعدة الميراث متى اجتمع ذكر وأنثى من جنس واحد، كان للذَّكَرِ مثل حَظِّ الأنثيين، كالأبوين مع البنت، والأخ مع الأخت، وابن الابن مع بنت الابن، والأم مع الأب كذلك إذا لم يكن للميِّتِ وارث سواهما كما تَقَدَّمَ.
وإن كان كذلك، فإنَّ الزَّوْجَ يأخذ نصيبه، ويقسَّمُ الباقي بين الأبوين للذَّكر مثل حظ الأنثيين؛ ولأن الزَّوج يأخذ نصيبه بحكم عَقْدِ النِّكَاحِ لا بحكم القرابة، فأشبه الوصيَّة في قسمة الباقي.
وأيضاً فإنَّ الزَّوْجَ إذا أخذ النصف، فلو دفعنا ثلث جميع المال للأم والسدس إلى الأب، يلزم منه أن يكون للأنثى مثل حظِّ الذكرين، وهذا خلاف قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} .
قوله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس} .
«إخوة» أعم من أن يكونوا ذكورا أو إناثاً، أو بعضهم ذكورا وبعضهم إناثاً، ويكون هذا من باب التغليب، وزعم قومٌ أن الإخوة خاصٌّ بالذُّكور، وأنَّ الأخوات لا يَحْجُبْنَ الأم من الثُّلثِ إلى السُّدس، فقالوا: لأن «إخوة» جمع «أخ» ، والجمهور على أنَّ الإخوة وإن كانوا بلفظ الجمع يقعون على الاثنين، فيحجب الأخوان أيضاً الأم من الثُّلث إلى السُّدس خلافاً لابن عبَّاسٍ، فإنَّهُ لا يحجبُ بهما والظاهر معه.
روي أنَّ ابن عباس قال لعثمان بِمَ صار الأخوان يَرُدّان الأم من الثُّلث إلى السُّدس، وَإنَّمَا قال الله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والأخوان في لِسان قومك ليس بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيعُ أنْ أرُدَّ قضاءً قُضِيَ به قبلي، ومضى في الأمصار.
وهذه المسألة مبنيَّةٌ على أنَّ أقل الجمع ثلاثة، والموجب لذلك هو القياس يخص هذه المسألة بأنَّ الأختين ميراثهما ميراث الثَّلاث، كما أنَّ ميراث البنتين مثل ميراث الثلاثة(6/217)
فكذلك نصيبُ الأختين من الأمِّ مثل نصيب الثلاثة، وإذا كان كذلك؛ وجب أن يَحْصُلَ الحَجْبُ بالأختين، وإذا وجب الحَجْبُ بالأختين لزم ثبوته في الأخوين؛ لأنَّهُ لا قَائِلَ بالفرق [فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع وفيه إشكال لأن] إجراء القياس في التقديرات صعب لأنَّهُ غير معقول، فيمونُ ذلك مجرَّدُ تشبيه من غير جامعٍ.
فالجوابُ أن يقال: لا يُتَمَسَّكُ به على طريقة القياس بل على طريقة الاستقراء، لأنَّ الكثرة أمارة العموم.
فصل
[والأخوة] إذا حجبوا الأم من الثُّلُثِ إلى السُّدُسِ، فلا يرثون مع الأب شيئاً [ألبتة] بل يأخذ الأب باقي المال، وهو خمسة أسْدَاسٍ، سدس بالفرض، والباقي بالتَّعصيب، وقال ابن عبَّاسٍ: الإخوة يأخذون السُّدُسَ الذي حجبوا الأم عنه، وما بقي فللأب، وحجته الاستقراء دَلَّ على أن مَنْ لا يرث لا يحجب، فهؤلاء الإخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا، وهذا يختص بالإخوة للأم إذا اجتمعوا مع الأبوين فإنَّهُمْ يحجبون الأم من الثُّلث إلى السُّدس، ولا يرثون شيئاً؛ لأن الأب يسقطهم.
قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهُ متعلقٌ بما تقدمه من قسمة المواريث كُلِّهَا لا بما يليه وحده، كأنَّهُ قيل: قسمةُ هذه الأنصباء من بعد وصية قاله الزَّمَخْشَرِيُّ، يعني أنه متعلِّقٌ بقوله: {يُوصِيكُمُ الله} وما بعده.
والثاني: قاله أبُو حيَّان أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: يَسْتَحِقُّون ذلك كما فُصِّلَ من بعد وصية.
[والثالث: أنَّهُ حال من السُّدس، تقديره: مستحقاً من بعد وصيَّة] ، والعاملُ الظرفُ قاله أبُو البَقَاءِ، وَجَوَّزَ فيه وَجْهاً آخر، قال: [ويجوزُ أن يكون ظرفاً] أي: يستقر لهم ذلك بعد إخراج الوصيّةِ، ولا بُدَّ من تقدير حذف المضاف لأنَّ الوصيَّةَ هنا المالُ المُوصَى به، وقد تكون «الوصيَّةُ» مَصْدراً مثل «الفريضة» ، وهذان الوجهان لا يَظْهَرُ لهما وَجْهٌ.
وقوله: والعاملُ الظَّرف، يعني بالظَّرف: الجارَّ والمجرور في قوله تعالى: {فَلأُمِّهِ السدس} فإنه شبيه بالظرفية، وعمل في الحال لما تضمنه من الفعل لوقوعه خبراً،(6/218)
و «يوصي» فعل مضارع المرادُ به المضمر، أي: وصية أوْصَى بها و «بها» متعلق به، والجملة في محلِّ جَرِّ صفةً ل «وصية» .
وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامرٍ وأبُو بكرٍ «يُوصَى» مبنيّاً للمفعول في الموضعين، ووافقهم حفص في الأخير، والباقون مبنياً للفاعل.
وقُرِئَ شاذاً «يُوصَّى» بالتشديد مبنياً للمفعول، ف «بها» في قراءة البناء للفاعل في مَحَلِّ نصب، وفي قراءة البناء للمفعول في مَحَلِّ رفعٍ لقيامه مقامَ الفاعل.
قوله: «أو دين» ، «أو» هنا لأحدِ الشيئين، قال أبو البقاء: «وَلا تَدُلُّ على ترتيب، إذْ لا فرقَ بين قولك:» جاءني زيد أو عمرو «، وبين قولك:» جاءني عمرو أو زيد «؛ لأنَّ» أو «لأحد الشيئين، والواحدُ لا ترتيب فيه، وبهذا يفسد قولُ مَنْ قَالَ:» من بعد دين أو وصية «وإنَّمَا يَقَعُ الترتيبُ فيما إذا اجتمعا، فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ على الوصيَّةِ» .
وقال الزَّمخشريُّ: «فإنْ قُلْتَ: فما معنى أو؟ قلت: معناها الإباحةُ، وأنَّهُ إن كان أحدهما، أو كلاهما قُدِّمَ على قِسْمَةِ الميراثِ، كقولك:» جالس الحسنَ أو ابن سيرين «، فإن قلت: لم قُدِّمَتِ الوصيّة على الدَّيْنِ والدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عليها في الشَّريعةِ؟ .
قلت: لما كانت الوصيّةُ مُشْبهَةً للميراثِ في كونِها مَأخوذةً مِنْ غير عوضٍ، كان إخراجُها مِمَّا يَشُقُّ على الورَثةِ، بخلاف الدَّيْن، فإن نفوسهم مطمئنَّةٌ إلى أدائه، فلذلك قُدِّمَتْ على الدَّيْنِ بَعْثاً على وجوبها، والمسارعة إلى إخراجها مع الدَّيْنِ، ولذلك جيءَ بكلمةِ» أو «للتَّسْوِيَةِ بينهما في الوجوب» . وقال ابن الخَطِيبِ: إنَّ كلمة «أو» إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو، كقوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] وقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] فكانت «أو» هاهنا بمعنى الواو، وكذلك قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال: إلاّ أن يكون هناك وَصِية أوْ دين فيكون المراد بعدهما جميعاً.
قوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} مبتدأ، و {لاَ تَدْرُونَ} وما في حَيِّزه في محلِّ الرفع خبراً له.
و {أَيُّهُمْ} فيه وجهان:(6/219)
أشهرهُمَا: [عند المعربين] أني كونَ {أَيُّهُمْ} مبتدأ وهو اسم استفهام، و «أقربُ» خَبَرُهُ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره في محلِّ نصب ب «تدرون» ؛ لأنَّهَا من أفْعَالِ القُلُوبِ، فَعَلَّقَها اسمُ الاستفهامِ عَنْ أنْ تَعْمَلَ في لفظه؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعْمَلُ فيه ما قبله في غير الاستثبات.
والثَّاني: أنَّهُ يجوزُ أن يكون {أَيُّهُمْ} موصولةً بمعنى {الَّذِي} و {والأقربون} خبرُ مبتدأ مضمر، وهو عائدُ الموصولِ، وجازَ حذفه؛ لأنه يجوز ذلك مع «أي» مطلقاً: أي: أطالت الصِّلَةُ أم لم تَطُل، والتَّقدير: أيُّهم هو أقربُ، وهذا الموصول وَصِلَتُهُ في محلِّ نصب على أنَّهُ مفعول به، نَصَبَه {تَدْرُونَ} ، وإنَّمَا بُنِيَ لوجودِ شَرْطَي البناء، وهما: أنْ تُضافَ «أي» لفظاً، وَأنْ يُحْذَفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، وصارت الآيةٌ نظيرَ قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] ، فصار التقدير: لا تدرون الذي هو أقربُ.
قال أبو حيَّان: «ولم أرهم ذكروه» ، يعني هذا الوجه، ولا مانع منه لا من جهة المعنى، ولا من جهة الصِّنَاعة.
فعلى القول الأوَّلِ تكونُ الجملةُ سَادَّةً مَسَدَّ المفعولين، ولا حاجة إلى تقدير حذف.
وعلى الثَّاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مَفْعُلاً أوَّلَ، ويكون الثَّاني محذوفاً، وبعدم الاحتياج إلى حَذْفِ المفعول الثَّاني، يترجَّحُ الوجه الأوَّلُ.
ثم هذه الجملةُ، أعني قوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ} لا محلَّ لها من الإعراب، لأنَّها جملة اعتراضية.
قال الزمخشريُّ، بعد ان حَكَى في معانيها أقوالاً اختار منها الأوَّلَ: لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضيّة، ومن حقِّ الاعتراض أن يؤكِّد ما اعْتَرَضَ بينه وبين ما يناسِبُه.
يعني بالاعتراض: أنَّهَا واقعةٌ بين قصة المواريث، إلاَّ أنَّ هذا الاعتراض غيرُ مرادِ النحويين، لأنَّهُمْ لا يَعْنُون بالاعتراضِ في اصْطِلاحِهِمْ إلاَّ ما كان بين شيئين مُتَلاَزِمَيْنِ كالاعتراض بين المبتدأ وخبره، والشرط وجزائه والقَسَمِ وجوابه، والصِّلَةِ وموصولها.
فصل في معاني {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ}
ذكر الزَّمخشريُّ في معانيها أقوالاً:
أحدها: - وهو الذي اختاره - أن جَعْلَها متعلَِّقة بالوصيَّة، فقال: ثم أكَّدَ ذلك - يعني الاهتمام بالوصيَّة - ورَغَّبَ فيه بقوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} أي: لا تدرون مَنْ أنفع(6/220)
لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يَمُوتون، أمَنْ أوْصَى منهم أم مَنْ لم يوص، يعني: أنَّ مَنْ أوصى ببعض ماله فعرَّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفَّر عليكم عَرَضَ الدُّنيا، وجعل ثَوَابَ الآخرة أقرب وأحضر من عَرَضِ الدُّنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر؛ لأنَّ عَرَضَ الدُّنيا، وإن كان قريباً عَاجِلاً في الصُّورَةِ إلاَّ أنَّهُ بَاقٍ، وفي الحقيقة الأقربُ الأدنى.
وقيل: إنَّ الله - تعالى - لما ذكر أنصباء الأولاد، وأنصباء الأبوين، وكانت العقول لا تدرك معاني تلك التَّقديرات، فربَّما خطر ببال الإنسان أنَّ القسمةَ لو وقعت على غير هذا الوَجْهِ كانتْ أنفع له وأصلح لا سيما وقد كانت قسمة المواريث عند العرب على غير هذا الوَجْه فأزال اللهُ - تعالى - هذه الشُّبْهَة بأن قال: إنَّ عقولكم لا تحيط بمصالحكم، فَرُبَّمَا اعتقدتم في شيء أنَّهُ صالح لكم، وهو عين المضرة، وربَّمَا اعتقدتم في شيء أنَّهُ مَضَرَّة، ويكون عين المصلحة، وأمَّا الإله الرَّحيم فهو يعلمُ مغيبات الأمور وعواقبها، وكَأنَّهُ قال: اتركوا تقديرات المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم وانقادوا للمقادير التي قَدَّرَهَا اللهُ تعالى عليكم بقوله {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} إشارة إلى ترك ما يميل الطبعُ إليه من قسمة المواريث.
قوله: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} إشارة إلى وجوب الانقياد إلى المقادير الشَّرعيَّة.
وقال ابن عباس: «لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً» أي: أطوعهم الله - عزَّ وجلَّ - من الآباء والأبناء أرفع درجة يوم القيامة [والله تعالى يُشَفّع المؤمنين بعضهم في بعض، فإذا كان الوالد أرفع درجة يوم القيامة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة] رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم.
قوله: {نَفْعاً} نُصِبَ على التَّمييز من «أقرب» ، وهو منقول من الفاعلية، واجب النَّصب؛ لأنَّهُ متى وقع تمييزٌ بَعْدَ «أفْعَلِ» التفضيل، فَإن صَحَّ أنْ يُصَاغَ منها مُسْندٌ إلى ذلك التمييز على جهةِ الفاعليَّة وجل النَّصب كهذه الآية، إذْ يَصِحُّ أن يُقَالَ: أيُّهم أقْرَبُ لكم نَفْعُهُ، وإن لم يَصحّ ذلك وجب جَرُّه نحو: «زيد أحسن فقيه» بخلاف «زيد أحسن فقهاً» ، وهذه قاعدة مفيدة و «لكم» متعلق ب «أقرب» .
قوله: {فَرِيضَةً} فيها ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّها مصدرٌ مؤكد لمضمون الجملة السَّابقة من الوصية؛ لأن معنى «(6/221)
يوصيكم» : فَرَضَ عليكم ذلك، فصار المعنى: «يوصيكم الله وصية فرض» ، فهو مصدر على غير الصَّدْرِ.
والثاني: أنَّها مصدر [منصوبٌ بفعل] محذوف من لفظها.
قال أبو البَقَاء: و {فَرِيضَةً} مصدر لفعل محذوف، أي: فرض اللهُ ذلك فريضة.
والثالث: قاله مَكيٌّ وغيره: أنَّهَا حال؛ لأنَّها ليست مصدراً، وكلامُ الزمخشريُّ محتمل للوجهين الأوَّلَيْن، فإنَّهُ قال: «فريضة» نصبت نَصْبَ المصدر المؤكد، أي: «فرض الله ذلك فرضاً» . ثم قال: «إن الله كان عليماً» أي: بأمور العباد «حكيما» بنصب الأحكام.
فإن قيل: لِمَ قال كان عليماً حكيماً مع أنَّهُ لم يزل كذلك؟ .
فالجوابُ قال الخليلُ: الخبرُ عن الله تعالى بهذه الألفاظ، كالخبر بالحال والاستقبال؛ لأنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الدخول تحت الزمان.
قال سيبويه: القومُ لما شاهدوا علماً وحكمةً وفضلاً وإحساناً تعجبوا، فقيل لهم: إنَّ اللهَ كذلك، ولم يزل موصوفاً بهذه الصفات.(6/222)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
اعلم أنَّ أقسام الوراثة ثلاثة:
قسم لا يسقط بحال وهم: الآباء والأولاد والأزواج قسمان، والثَّالِثُ هو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأوَّلين لأنه قد يعرض لهم السُّقوط بالكليَّة، ولأنَّهم يدلون إلى الميِّتِ بواسطة، والقسمان الأوَّلان يدلون بأنفسهم فقدَّمَ اللهُ تعالى الوارث بالنَّسب؛ لأنَّهُ أعلاها ثمَّ ثنى بذكر الوارث بالسَّبب الَّذي لا يسقط بحال، لأنَّهُ دون الأوَّلِ وهو الزوجان ثم ذكر القسم الثَّالث بعدهما؛ لأنَّهُ دونهما، ولما جعل(6/222)
نصيب الذَّكر مثل حظ الأنثيين في الوارث النّسبي كذلك جعل حظّ الرَّجُلِ مثل حظِّ الأنثيين في الوارث السببي فقال {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ} وسواء كان الولد ذكراً أو أنثى، ولا فرق بين الأوَّلادِ وأولاد الأولاد.
فصل: الخلاف في غسل الزوج زوجته بعد موتها
ذهب الشافعيُّ وأحمدُ إلى أنَّهُ يجوزُ لِلرَّجُلِ أن يغسل زوجته لقوله {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} فسمَّاها زوجة بعد الموت.
قال أبو حنيفة: لا يَجُوزُ؛ لأنَّهَا ليست زوجة؛ لأنَّهُ لا يحلًّ وطؤها بعد الموت.
وأجيب بأنَّها لو لم تكن زوجة لكان قوله {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} مجازاً، وقد ثبت أنَّ التَّخْصيص اولى من المجاز عند التَّعارُضِ، وأيضاً فقد حَرُمَ الوطء في صورٍ كَثِيرَةٍ مع وجود الزوجيَّة كزمن الحيض والنفاس نهار رمضان، وعند الصّلوات المفروضة، والحج المفروض.
ثمَّ قال: «فلهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم فإن كان لكم ولد فلهن الثمن» وسواء كانت واحدة أو أربعاً فهم فيه سواء، وهذه الآية تدلُّ على فضل الرَّجل على المرأة لتفضيلهم في النَّصِيبِ، ولأنَّه ذكر الرِّجَالَ على سبيل المخاطبة وذكر النساء على سبيل المغايبة.
قوله: «وإن كان رجل يورثه كلالة» اضْطَرَبَتْ أقوال العلماء في هذه ولا بُدَّ قبل التعرُّض للإعراب من ذكر معنى {الكلالة} واشتقاقها، فإنَّ الإعراب متوقف على ذلك، فتقول: اختلف الناس في معنى {الكلالة}
فقال جمهور اللغويين وغيرهم: إنَّه الميت الَّذي لا وَلَدَ لَهُ ولا والد، وهو قول عليٍّ وابن مسعودٍ.
وقيل: الَّذي لا والد له فقط، وهو قول عمر.
وقيل: الَّذي لا والد له فقط، وهو قول عمر.
وقيل: الَّذي لا ولد له فقط.
وقيل: هو من لا يرثه أبٌ ولا أم، وعلى هذه الأقوال كلِّها قالكلالةُ واقعة على الميت.
وقيل: الكَلاَلَةُ: الورثة ما عدا الأبوين والولد، قاله قُطْرب، وهو اختيار أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وسموا بذلك؛ لأنَّ الميِّت بذهاب طرفيه تُكَلِّلُهُ الورثة، أي: أحاطوا به(6/223)
من جميع نواحيه، ويُؤَيَّدُ هذا القول بأنَّ الآية نزلت في جَابِرٍ، ولم يَكُنْ له يَوْمَ نزلت أبٌ ولا ابن.
وأيضاً يقال: كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحلم فلان على فلان ثمَّ كَلَّ عنه إذا تباعد، فسميت القرابةُ البعيدةُ كلالة من هذا الوجه.
وأيضاً يقال: كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلاًّ وكَلاَلَةً: إذا أعيا وذهبت قوَّته، فاستعاروا هذا اللفْظ عن القرابة الحاصلة، من غير أولاد لبعدها.
وأيضاً فإنَّهُ تعالى قال {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ} [النساء: 176] وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكلالة من لا ولد له ولا والد؛ لأنَّهُ شرط عدم الولد وَورَّثَ الأخت والأخ، وهما لا يرِثان مع وجود الأب.
وروى جابر قال: مَرِضْتُ مَرَضاً شديداً أشرفتُ منه على الموت، فأتاني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقلتُ: يا رسول الله إنِّي رَجُلٌ لا يَرِثُنِي إلاَّ كَلاَلَة، وَأرَادَ به أنَّهُ ليس له والد ولا ولد، وهو قول سعيد بن جُبَيْرٍ وإليه ذهب أكثرُ الصَّحَابَةَ.
وروي عن عمر أيضاً أنَّهُ قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الكلالة فما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيها، ضرب بيده صدري وقال «يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» ، وهي الآية الأخيرة من سورة النساء سميت بذلك؛ لأنها نزلت في الصَّيْفِ، ومات ولم يَفْهَمْهَا ولم يقل فيها شيئاً.
وقيل: {الكلالة} : المالُ الموروث، وهو قول النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ.
وقيل: {الكلالة} القرابة، وقيل: الوراثة.
فقد تلخص مما تقدم أنَّها [إمَّا] الميِّتُ الموروث أو الوارثُ، أو المال الموروثُ، أو الإرْث، أو القرابة.
وأما اشتقاقها: فقيل: هي مشتقة من تَكَلَّلَهُ الشَّيء، أي: أحاط به، وذلك أنَّهُ إذا لم يترك ولداً ولا والداً فقط انقطع طَرَفَاهُ، وهما عَمُودَا نَسَبِهِ وبقي مال الموروثُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ، أي: يحيط به كالإكْليلِ.
ومنه «الروضة المكللة» أي: بالزَّهْرِ، وعليه قول الفرزدق: [الطويل](6/224)
1765 - وَرِثْتُمْ قَنَاةَ المَجْدِ لاَ عَنْ كَلاَلَةٍ ... عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ
وقيل: اشتقاقها من «الكلال» وهو الإعْيَاء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بَعْدِ إعياء.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: و «الكلالة» في الأصل: مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوَّةِ من الإعياء.
قال الأعشى: [الطويل]
1766 - فَآلَيْتَ لاَ أرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ ... وَلاَ مِنْ وَحًى حَتَّى تُلاَقِيْ مُحَمَّداً
فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد، ولأنَّهَا بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة، وأجاز فيها أيضاً أن تكون صفة على وزن «فَعَالة» ، قال: «كالهَجَاجَةِ والفَقَاقَةِ للأحْمَقِ» .
ويقال: رجل كلالة، وامرأةٌ كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع؛ لأنَّهُ مصدر كالدّلالة والوَكَالة.
إذا تقرَّرَ هذا فَلْنَعد إلى الإعراب بعَوْنِ الله، فتقول: يجوز في «كان» وجهان:
أحدهما: ان تكون ناقصة و «رجل» اسمها، وفي الخبر احتمالان:
أحدهما: أنه «كلالة» إن قيل: إنها الميت، وإن قيل: إنَّها الوارث، أو غير ذلك، فَتُقَدَّر حذف مضاف، أي: ذَا كلالة، و «يورث» حينئذٍ في محلَِّ رفع صفة ل «رجل» وهو فِعْلٌ مبنيٌّ للمفعول، ويتعدّى في الأصل لاثْنَيْنِ أقيم الأوَّلُ مقامَ الفاعلِ، وهو ضمير الرَّجُلِ.
والثَّاني: محذوف تقديره: يورث هو مَالَهُ، وَهَلْ هذا الفِعلُ من «ورث» الثُّلاثي أو «أورث» الرُّبَاعيُّ؟ .
فيه خلافٌ، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا جَعَلَهٌُ مِنَ الثُّلاثي جعله يتعَدَّى إلى [المفعول] الأوَّلِ من المفعولين ب «من» فإنَّهُ قال [وإن كان رجل يورث من كلالة] و «يورث» من وَرِثَ أي: يورث فيه يعني أنَّهُ في الأصْلِ يتعدَّى ب «مِنْ» . [قال:] وقد تُحْذَفُ، تقولُ: «وَرِثْتُ زَيْداً مَالَهُ» أي: مِنْ زَيْد، ولَمّا جَعَلَهُ الرَّجُلَ وارثاً لا(6/225)
موروثاً، فإنَّهُ قال: «فإنْ قلتَ: فإن جَعَلْتَ تُورَثُ على البناء للمفعول من» أورث «فما وَجْهُهُ» .
قلتُ: الرَّجُلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ «.
وقال أبُو حيَّان: إنَِّه من» أورث «الرُّباعِيِّ المبنيِّ للمفعول، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بالمعنى الذي قيده به الزَّمَخْشَرِيُّ.
الاحتمالُ الثَّاني: أن يكون الخبرُ الجملة من» يورث «.
وفي نَصْبِ {كَلاَلَةً} أربعةُ أوْجُهٍ:
أحدها: أنَّهُ حال من الضمير في» يورث «، إنْ أُرِيدَ بها الميِّتُ، أو الوارثُ، إلاَّ أنَّهُ يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضافٍ، أي: يُورث ذا كَلاَلَةٍ؛ لأنَّ الكلالة حينئذٍ ليست نفس الضَّمير المستكن في {يُورَثُ} .
قال أبُو البَقَاءِ: على جعلها بمعنى الميت ولو قُرِئَ» كلالةٌ «بالرَّفع على أنَّهَا صفةٌ أو بدلٌ من الضَّميرِ في {يُورَثُ} لجاز، غير أنِّي لم أعرف أحداً قَرَأ به، فلا يُقْرأنَّ إلا بما نُقِلَ. يعني بكونها صفةً: أنَّهَا صفةٌ ل» رَجُل «.
الثَّاني: أنَّهَا مفعولٌ من أجله، إنْ قيل: إنَّهَا بمعنى القرابة، أي: يُوْرَثُ لأجل الكلالة.
الثَّالثُ: أنَّهُ مفعول ثَانٍ ل {يُورَثُ} إن قيل: إنَّها بمعنى المال المَوْرُوثِ.
الرَّابعُ: أنَّها نعتٌ لمصدر محذوفٍ، إن قيل: إنَّهَا بمعنى الوِرَاثَةِ، أي: يُورَثُ وِرَاثَةَ كَلاَلَةٍ.
وقدَّرَ مَكِّيٌّ في هذا الوجه حَذْفَ مضافٍ تقديره:» ذَات كَلاَلَةٍ «.
الوجه الثَّاني من وجهي» كان «أن تكون تَامَّةً، فيُكْتَفى بالمرفوع، أي: وإن وُجِدَ رجل. و {يُورَثُ} في محلِّ رفع صِفَةٍ ل» رَجُل «و {كَلاَلَةً} منصوبةٌ على ما تَقَدَّمَ من الحال، أو المفعول من أجله أو المفعول به، أو النَّعت لمصدرٍ محذوف عَلَى ما قُرِّرَ من معانيها، وَيخُصُّ هذا وجه آخر ذكره مَكيٌّ، وهو أن تَكُونَ {كَلاَلَةً} منصوبة على التمييزِ.
[قال مَكِّيٌّ: «كان» أي: وقع، و {يُورَثُ} نعت للرَّجُل و «رجل» رفع ب «كان» و {كَلاَلَةً} نصب على التفسير] .(6/226)
وقيل: هو نصبٌ على الحال على أنَّ الكَلاَلَةَ هو الميِّت على هذين الوجهين، وفي جعلها تَفْسيراً - أي: تمييزاً - نظرٌ لا يَخْفى.
وقرأ الجمهور: {يُورَثُ} مبنيّاً للمفعولِ كما تَقَدَّمَ توجيهه.
وقرأ الحسن: يورث مبنيّاً للفاعل، ونُقِلَ عنه أيضاً، وعن أبي رَجَاءَ كذلك، إلاّ أنَّهُما شدَّدا الراء، وتوجيه القراءتين واضح مِمّا تقدَّم، وذلك أنَّهُ إنْ أُريد بالكلالة الميِّتُ، فيكون المفعولان محذوفين، و {كَلاَلَةً} نَصْبٌ على الحال، أي: وَإنْ كان رجلٌ يُورِثُ وَارثَهُ، أوْ أهْلَهُ مالَه في حال كَوْنِهِ كَلالَةً.
وَإِنْ أُرِيدَ بها القرابة، فتكون منصوبةً على المفعول مِنْ أجْله، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما تَقَدَّمَ تقريره، وَإنْ أُرِيدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً، والأوَّلُ محذوفٌ أي: يُورِثُ أهْلَهُ مَالَهُ، وَإنْ أُريدَ بها الوارثُ فبالعكس، أي: يُورِثُ مالَهُ أهلَه.
قوله: {أَو امرأة} عطف على {رَجُلٌ} وحُذِفَ منها ما أُثْبِتَ في المعطوف عليه للدلالة على ذلك، التَّقديرُ: أو امرأةٌ تُورَثُ كَلاَلَةً، وإنْ كان لا يَلْزَمُ من تقييد المعطوف عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس، إلاّ أنَّهُ هو الظَّاهِرُ.
وقوله: {وَلَهُ أَخٌ} جملة مِنْ مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحال، والواو الدَّاخلة عليها واوُ الحال، وصاحبُ الحال إمَّا {رَجُلٌ} أي: إنْ كان {يُورَثُ} صفةً له، وإمَّا الضَّميرُ المستتر في {يُورَثُ} وَوَحَّدَ الضمير في قوله: «وله» ؛ لأنَّ العطف ب «أو» وما ورد على خلاف ذلك أوَّلَ عند الجمهور كقوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] .
فإن قيل: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة} ثم قال {وَلَهُ أَخٌ} فهي عن الرَّجُلِ، وما هي عن المرأة، فما السَّبَبُ فيه؟ .
فالجوابُ: قال النُّحَاةُ: إذا تقدَّمَ متعاطفان ب «أو» مذكر ومؤنَّث كنتَ بالخيار، بَيْنَ أنْ تراعي المتقدم أو المتأخِّرَ، فتقول: «زيدٌ أو هندُ قامَ» وَإنْ شئت: «قَامَتْ» .
وأجاب أبُو البَقَاءِ عن تذكيره بثلاثة أوجه:
أحدُها: أنَّهُ يعود على الرَّجُلِ وهو مذكر مبدوء به.
والثَّالِثُ: أنَّهُ يعود على الميِّت، أو الموروثِ لِتَقَدُّمِ ما يدلُّ عليه، والضَّمير في قوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} فيه وجهان:(6/227)
أحدُهُمَا: أنَّهُ يعود على الأخ والأخت.
والثَّانِي: أنَّهُ يعودُ على الرَّجُلِ، وعلى أخيه وأخته، إذا أُريدُ بالرَّجُلِ في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً} أنَّهُ وارثٌ لا موروثٌ، كما تَقَدَّمَتْ حكايته في قول الزَّمَخْشَرِيِّ.
قال الزَّمخشريُّ - بعد ما حكيناه عنه -: «فإن قلتَ: فالضَّمِيرُ في قوله:» فلكل واحد منهما «إلى مَنْ يرجعُ حينئذٍ؟ .
قلت: على الرَّجُلِ، وعلى أخيه، أو أخته، وعلى الأوَّل إليهما.
فإن قُلْتَ: إذا رجع الضَّمِيرُ إليهما أفاد استواءَهُمَا في حيازةِ السُّدُسِ من غير مُفَاضَلَةِ الذَّكر للأنثى، فهلْ تبقى هذ الفائدةُ قائمةً في هذا الوجه؟ .
قلتُ: نَعَمْ، لأنك إذا قلتَ: السُّدس له أو لواحد مِن الأخِ أو الأخت على التخيير، فقد سَوَّيْتَ بين الذَّكر والأنثى «. انتهى.
وأجمع المفسِّرونَ على أنَّ المراد بالأخ والأخت هاهنا الإخوة من الأمِّ؛ لأنَّ ما في آخر السُّورة يدلُّ على ذلك، وهو كون للأخت النّصف، وللأختين الثُّلثان وللإخوة الذُّكور والإناث للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنثيين، ولقراءة أبِي سَعِيدٍ. وقرأ أبيٌّ» أخ أو أخت من الأم «.
وقرأ سعد بن أبي وقاص» من أم «بغير أداة التَّعريف.
قوله: {فَإِن كانوا} الواو ضمير الإخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله: {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} والمرادُ الذُّكورُ والإناث، وأتى بضمير الذُّكور في قوله: {كانوا} وقوله: {خَلْفِهِمْ} تغليباً للمذكَّر على المؤنَّثِ، و» ذلك «إشارةٌ إلى الواحد، أي: أكثر من الواحد، يعني: فإنْ كان مَنْ يَرِثُ زائداً على الواحد؛ لأنَّهُ لا يَصِحُّ أن يقال:» هذا أكثرُ من واحد «بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد، وإلاّ فالواحدُ لا كثرة فيه، وتقدَّمَ إعراب» من بعد وصية يوصى بها «.
فصل: في أثر عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -
قال أبو بكر الصّديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في خطبته: ألا إنَّ الآيةَ التي أنزل اللهُ - تعالى - في أوَّل سورة النِّسَاءِ في بيان الفرائضِ أنزلها في الوَلَدِ، والوالد والأمِّ، والآية(6/228)