فصل
قال ابن العربيِّ: قال أبو حنيفة: إذا قال الرَّجُلُ إذا شرب عبدي من الفراتِ فهو حرّ، فلا يُعتق إِلاَّ أَنْ يكرع فيه، والكرعُ: أَنْ يشرب الرَّجُلُ بفيه مِنَ النَّهر، فَإِنْ شرب بيده، أو اغترف منه بإِناءٍ، لم يعتق، لأنَّ اللهَ - تعالى - فرَّق بين الكرع في النَّهر، وبين الشّرب باليدِ. قال: وهذا فاسِدٌ لأَنَّ شُرب الماء يُطلق على كُلِّ هيئةٍ وصفةٍ في لسان العرب من غرف باليد، أو كرع بالفم انطلاقاً واحداً.
قال القرطبي: وقول أبي حنيفة أصحّ؛ لأَنَّ أهل اللُّغة فرَّقوا بينهما، كما فرَّق الكتابُ والسُّنَّةُ.
قال الجوهريُّ وغيره: كرع من الماء كروعاً: إذا تناوله بفيه من موضعه، من غير أَنْ يشرب بكفيه، أو بإناءٍ، وفيه لغة أخرى «كرعَ» بكسر الرَّاء كَرَعاً.
وَأَمَّا السُّنَّة، فما رُويَ عن ابن عمر قال: مررنا على بِرْكةٍ، فجعلنا نكرعُ فيها فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ تَكْرَعُوا وَلَكِن اغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ ثُمَّ اشْرَبُوا فيها، فَإِنَّها ليس إِناءٌ بأَطيب مِنَ اليَدِ»
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ شَرِبَ بيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ على إِناءٍ يُريدُ بِهِ التَّواضُع كَتَبَ اللهُ بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ وهو إِناء عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسّلام - إذا اطَّرَح القدح فقال أَفّ هذا مع الدّنيا» أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر.
قوله: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً} هذه القراءةُ المشهورةُ، وقرأ عبد الله، وأُبَيّ والأعمش «إِلاَّ قَليلٌ» وتأويله أنّ هذا الكلام وإِنْ كان موجباً لفظاً فهو منفيّ معنى، فإنه في قُوَّة: لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم، فلذلك جعلهُ تابعاً لِمَا قبلهُ في الإِعْرابِ. قال الزَّمخشريُّ: وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللَّفظ جانباً، وهو بابٌ جليلٌ من عِلْم العربيةِ، فلمَّا كان معنى «فَشَرِبُوا مِنْهُ» في معنى «فلم يُطِيعوه» حمل عليه، ونحوه قول الفرزدق: «لم يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ» يشير إلى قوله: [الطويل]
1167 - وَعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَوْ مُجَلَّفُ(4/283)
فإنَّ معنى «لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً» لم يبقَ من المالِ إِلاَّ مُسْحَتٌ، فلذلك عطف عليه «مُجَلَّفُ» بالرَّفع مُراعاة للمعنى المذكور. وفي البيت وجهان آخران، أحدهما. .
ولا بُدَّ من ذكر هذه المسألة لعموم فائدتها فأقول: إذا وقع في كلامهم استثناءٌ موجبٌ نحو: «قَامَ القَوْمُ إِلاَّ زَيْداً» فالمشهورُ وجوبُ النَّصب على الاستثناءِ. وقال بعضهم: يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ «إِلا» ما قبلها في الإِعراب فتقول: «مَرَرْتُ بالقوم إلا زيدٍ» بجرّ «زَيْدٍ» واختلفوا في تابعيَّة هذا، فعبارةُ بعضهم أَنَّهُ نعتٌ لما قبلَه، ويقولُ: إنه يُنْعَتُ بإِلاَّ، وما بعدها مُطْلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً، أم نكرةً مضمراً، أم ظاهراً، وهذا خارجٌ عن قياس باب النَّعتِ لما قد عرَفْتَ فيما تقدَّم.
ومنهم مَنْ قال: لا يُنْعَتُ بها إِلاَّ نكرةً، أو معرفةً بأل الجنسيّةِ لقربها من النّكرة. ومنهم مَنْ قال: قَولُ النَّحويين هنا نعتٌ: إِنَّما يعنُون به عطفَ البيانِ؛ ومن مَجِيء الإتباع بما بعد «إِلاَّ» قوله: [الوافر]
1168 - وَكُلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ
فصل
لما ذكر تعالى أَنّ هذا الابتلاء ليتميز المُطِيعُ مِنَ المخالف، أخبر بعد ذلك بأَنَّهُم لما هجموا على النَّهرِ شرب أَكثرهم، وأطاع قليلٌ، فلم يشربوا، فأَمَّا الَّذين شربُوا فَرُوي أَنَّهم اسودَّت شفاههم وغلبهم العطش، ولم يرووا، وبقوا على شَطّ النَّهر وجبنوا عن لقاءِ العدُوّ، وأَمَّ الَّذين أطاعوا، فقوي قلبهم، وصحَّ إِيمانهُمُ.
قال السُّدِّيُّ: كانوا أربعة آلاف، وقال الحسن، وهو الصَّحيح: أنهم كانُوا على عَدَدِ أهل بدرِ ثلاثمائة، وبضعة عشر، ويدُلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام لأصحابه يوم بدر:
«أَنَّتُمُ اليَوْمَ عَلَى عَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوت حين عَبَرُوا النَّهَر، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلاَّ مُؤمنٌ» .
قال البراء بن عازب: وكنا يومئذٍ ثلاثمائة، وثلاثة عشر رجلا ولا خلاف بين(4/284)
المُفسِّرين أَنَّ الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم، وإنما اختلفوا هل كان رجوعهم بعد مجاوزة النهر أو قبله؟ والصَّحيح: أنَّهُم لم يجاوزوا النَّهر، وإِنَّما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ} .
قال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ: كان المُخالِفون أهل شكٍّ، ونِفاقٍ، فقالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} فانحرفوا، ولم يجاوزُوا النَّهرَ.
وقال آخرون: بل جاوزُونا النَّهرَ، وإنما كان رجوعهم بعد المجاوزة، ومعرفتهم بجالوت، وجنوده؛ لقولهم {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} .
قوله: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} وهذا يدلُّ على أَنَّهُم حين لا قوا العدوّ، وعاينوا كثرتهم انقسموا فرقتين إحداهما: رجعت وهي المخالفة، وبقيت المطيعة.
قوله: {جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ} «هو» ضميرٌ مرفوعٌ منفصِلٌ مؤكِّدٌ للضّمير المستكنِّ في «جَاوَزَ» .
قوله: «والَّذِين» يحتملُ وجهين:
أظهرهما: أنه عطفٌ على الضَّمير المستكنِّ في «جَاوَزَ» لوجود الشَّرط، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضَّمير المنفصلِ.
والثاني: أَنْ تكُون الواوُ للحالِ، قالوا: ويلزَمُ من الحالِ أن يكونُوا جاوزوا معه، وهذا القائلُ يجعلُ «الَّذِينَ» مبتدأ، والخبرَ قالوا: «لاَ طَاقَةَ» ؛ فصار المعنى: «َفَمَّا جَاوَزَهُ، والحالُ أنَّ الَّذِين آمنوا قالوا هذه المقالة» ، والمعنى ليس عليه.
ويجوزُ إدغامُ هاء «جَاوَزَهُ» في هاء «هُو» ، ولا يُعْتدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ؛ لأنها ضعيفةٌ، وإِنْ كان بعضهم استضعف الإِدغام، قال: «إِلاَّ أَنْ تُخْتَلَسَ الهاءُ» ، يعني: فلا يبقى فاصلٌ. وهي قراءة أبي عمرو، وأدغم أيضاً واوَ «هُوَ» في واو العطف بخلاف عنه، فوه الإِدغام ظاهرٌ لالتقاءِ مثلين بشروطِهما. ومَنْ أظهر وهو ابن مجاهدٍ، وأصحابُهُ قال: «لأَنَّ الواو إِذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ، وإذا سكنت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلها ضمَّةٌ، فصارَت نظير: {آمَنُواْ وَكَانُواْ} [يونس: 63] فكما لا يُدغم ذاك لا يدغم هذا. وهذه العِلَّةُ فاسدةٌ لوجهين:
أحدهما: أنها ما صارَتْ مثلَ» آمنوا، وكانوا «إلا بعد الإِدغام، فكيف يُقال ذلك؟(4/285)
وأيضاً فإِنَّهُم أدغموا: {يَأْتِيَ يَوْمٌ} [البقرة: 254] وهو نظيرُ: {فِي يَوْمٍ} [إبراهيم: 18] و {الذى يُوَسْوِسُ} [الناس: 4] بعين ما عَلَّلوا به.
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ، كهذه الآية، ومثله: {هُوَ والملائكة} [آل عمران: 18] {هُوَ وَجُنُودُهُ} [القصص: 39] ، فلو سكنت الهاءُ؛ امتنع الإِدغامُ نحو {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} [الأنعام: 127] ولو جرى فيه الخلافُ أيضاً لم يكن بعيداً، فله أُسوة بقوله: {خُذِ العفو وَأْمُرْ} [الأعراف: 199] بل أولى لأَنَّ سكون هذا عارضٌ بخلافِ:» الْعفوَ وأمر «.
قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ مَعَهُ} .
ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت، بل المراد: أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ «مع» لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 5] واليسر لا يكون مع العسر.
قوله: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم} [لنَا] هو: خبر «لا» ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بطاقة، وكذلك ما بعده من قوله «اليَومَ» و «بِجَالُوتَ» ؛ لأنه حينئذٍ يصير مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ ينصبُ منوناً، وهذا كما تراهُ مبنياً على الفتح، بل «اليَوْمَ» و «بِجَالُوتَ» متعلِّقان بالاستقرار الَّذي تعلَّق به «لنَا» .
وأجاز أبو البقاء: أن يكون «بِجَالُوتَ» هو خبرَ «لا» ، و «لنَا» حينئذٍ: إِمَّا تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوف على أَنَّه صفةٌ لطاقة.
والطَّاقةُ: القُدرةُ وعينُها واو؛ لأَنَّها مِنَ الطَّوقِ وهو القُدرةُ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزَّوائدِ، فإِنَّها من «أَطَاقَ» ونظيرها: أجَابَ جابةً، وأَغَارَ غارةً، وَأَطَاعَ طَاعةً.
و «جالوت» اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ، لا اشتقاقَ له، وليس هو فَعَلوتاً من جال يَجُول، كما تقدَّم في طَالُوت، ومثلهما داود.
قوله: {كَم مِّن فِئَةٍ} «كَمْ» خبريةٌ، فإنَّ معناها التَّكثيرُ، ويدلُّ على ذلك قراءة أبي: «وكَائِن» ، وهي للتكثير، ومحلُّها الرَّفعُ بالابتداء، و «مِنْ فِئَةٍ» تمييزُها، و «مِنْ» زائدةٌ فيه. وأكثرُ ما يجيءُ مميِّزها، ومميِّز «كَائِن» مجروراً بمِنْ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك، وقد تُحْذفُ «مِنْ» فيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصَّحيح، وقد يُنصَبُ حَمْلاً على مُميِّز «كَم» الاستفهامية، كما أَنَّهُ قد يُجَرُّ مميِّز الاستفهاميّةِ حَمْلاً عليها، وذلك بشروطٍ ذكرها النُّحاةُ.
قال الفرَّاء: لو ألغيت «مِنْ» ها هنا جاز فيه الرَّفع والنَّصبُ والخفضُ.(4/286)
أَمَّا النَّصبُ فلأنّ «كم» بمنزلة عددٍ، فينصب ما بعدهُ نحو: عشرونَ رجلاً. وَأَمَّا الخَفْضُ، فبتقدير دخول حرف «من» عليه.
وأَمَّا الرَّفعُ، فعلى نيَّة الفِعْل تقديره «كم غلبت فئةٌ» ومِنْ مجيءِ «كَائِن» منصوباً قولُ الشاعر: [الخفيف]
1169 - أُطْرُدِ اليَأْسَ بالرَّجَاءِ فَكَائِنْ ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وَأَجازُوا أَنُ يكونَ «مِنْ فِئَةٍ» في محلِّ رفع صفةً ل «كم» فيتعلَّق بمحذوفٍ. و «غَلَبَت» هذه الجملةُ هي خبرُ «كم» والتقديرُ: كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبٌ الفئاتِ الكثيرةَ.
وفي اشتقاق «فئة» قولان:
أحدهما: أنها من فاء يَفِيء، أي: رجع فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة.
والثاني: أَنَّها مِنْ فَأَوْتُ رأسَه أي: كسرتُه، فحُذِفت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة، إِلاَّ أَنَّ لامَ مئة ياءٌ، ولامَ هذه واوٌ، والفِئَةُ: الجماعةُ من النَّاسِ قلَّت، أو كثرت، وهي جمعٌ لا واحد له من لفظه، وجمعها: فئات وفئون في الرَّفع، وفئين في النَّصب والجرِّ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ، فإنَّ الجماعَةَ من النَّاسِ يَرْجِعُ بعضهم إلى بعضٍ، وهم أيضاً قطعةٌ من النَّاسِ كقطَعِ الرَّأْسِ المكسَّرة.
قوله: {بِإِذْنِ الله} فيه وجهان.
أَظهرهُمَا: أنَّه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتَّقدير: ملتبسين بتيسير الله لهم.
والثاني: أَنَّ الباءَ للتَّعْدية، ومجرورها مفعولٌ به في المعنى، ولهذا قال أبو البقاء: «وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مَفْعُولاً به» .
وقوله: {والله مَعَ الصابرين} مبتدأٌ وخبرٌ، وتحتمِل وجهين:
أحدهما: أن يكون محلُّها النَّصْبَ على أنها من مقولهم.
والثاني: أنَّها لا محلَّ لها من الإِعراب، على أَنّها استئنافٌ أَخْبَرَ اللهُ تعالى بها.
فصل في المقصود بالظن في الآية
اختلفوا في الظن المذكور في قوله تعالى: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله} . وذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: قال قتادة: المراد من لقاء الله الموت. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ(4/287)
أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقاءَه وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» وهؤلاء المؤمنون، لما وطَّنُوا أنفسهم على القتل، وغلب على ظنهم أَنَّهُم يموتون وصفهم بأنهم يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله.
وثانيها: قال أبو مسلم: معناه يظنون أَنَّهُم ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة، وذلك لأَنَّ أحداً لا يعلمُ بما فيه عاقبة أمره وَإِنَّما يكون ظاناً راجياً وإِن بلغ في طاعة الله ما بلغ.
وثالثها: أَنَّهم ذكروا في تفسير السَّكينة قول بعض المفسِّرين: إِنَّ التَّابوت كان فيه كُتُبٌ إِلَهيَّةٌ، نزلت على الأَنبياء المُتَقَدِّمين دالَّةٌ على حُصًولِ النَّصر، والظّفر لِطَالُوتَ، وجنوده ولكنه لم يكن في تلك الكُتُبِ أَنَّ النَّصْر والظّفر يحصلُ في المرةِ الأولى، أو بعدها، فهم وإِنْ كانوا قاطعين بالنصر ولكنهم ظَنُّوا: هل هُوَ في تلك المَرَّةِ، أو بعدَها؟!
رابعها: قال كثير من المفسرين: يظنون: أي يعلمون، فأطلق الظن وأراد به العلم كقوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46] ووجه المجاز ما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكيد الاعتقاد.
والمراد من قولهم: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} تَقْويةُ قلوب الَّذِينَ قالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} ، والمعنى: لا عِبرة بكثرةِ العددِ، وإِنَّما العبرةُ بالتَّأْييد الإِلهي، ثم قال: {والله مَعَ الصابرين} . وهذا من تَمامِ قولهم، ويحتمل أَنْ يكُونَ قولاً من اللهِ تعالى، والأَوَّلُ أَظهرُ.(4/288)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
قوله تعالى: {بَرَزُواْ لِجَالُوتَ} في هذه اللام وجهان:
أحدهما: أنَّها تتعلَّق ب «برزوا» .
والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذُوفٍ على أَنَّها ومجرورها حالٌ من فاعل: «بَرَزوا» قال أبو البقاء: «وَيَجُوزُ أن تكُونَ حالاً أي: برزوا قاصِدِين لِجَالُوتَ» . ومعنى برزوا: صاروا إلى بَراز من الأرض، وهو ما انْكَشَفَ منها وَاسْتَوَى، وسميت المبارزة لظهور كُلّ قرنٍ(4/288)
لصاحبه، واعلم أَنَّ عسكر طالُوت لما برزوا عسكر جالوت، ورأوا قِلَّة جانبهم، وكثرة عدوهم، لا جرم اشتغلوا بالدُّعاء، والتَّضرع، فقالوا: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} . وفي ندائِهِم بقولهم: «رَبَّنَا» : اعترافٌ منهم بالعُبُوديَّة، وطلبٌ لإِصلاحهم؛ لأَنَّ لفط «الرَّبَّ» يُشْعر بذلك دونَ غيرها، وأَتوا بلفظِ «عَلَى» في قولهم «أَفْرغ عَلَيْنَا» طلباً؛ لأنْ يكونَ الصَّبْرُ مُسْتعلِياً عليهم، وشاملاً لهم كالظرفِ. ونظيره ما حكى اللهُ عن قوم آخرين أَنَّهُم قالوا حين لاقوا عدوَّهم: ومَا كَانوا قَوْلَهُم إِلاَّ أَنْ قالُوا: {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [آل عمران: 147] {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 147] وكذلك كان عليه الصَّلاة والسَّلام يفعل في المواطن كما رُوِيَ عنه في قصّة بدرٍ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يَزَلْ يُصَلِّي، ويستنجز من الله وعده، وكان إِذَا لقي عدُوّاً قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِم وَاجْعَلْ كَيْدَهُم فِي نُحُورِهِمْ» وكان يقول: «اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَأَجُولُ» .
والإفراغ: الصَّبُّ، يقال: أفرغت الإِناءَ: إذا صببت ما فيه، أصله: من الفراغ يقال: فلان فارغٌ معناه: خالٍ ممَّا يشغله، والإفراغ: إخلاءُ الإناء من كلِّ ما فيه.
واعلم أنَّ الأمور المطلوبة عند لقاء العدو ثلاثة:
الأول: الصَّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} .
الثاني: أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت، ولا يصير ملجأ إلى الفرار.
الثالث: زيادة القوَّة على العدوِّ؛ حتى يقهره، وهو المراد من قولهم «وانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ» .
فصل في دفع شبه المعتزلة في خلق الأفعال
احتجَّ أهل السُّنَّة بقوله: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ... } الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنه لا معنى للصَّبر إلاّ: القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلاّ السُّكون والاستقرار، وهذه الآية دالَّة على أنَّ ذلك القصد بالصَّبر من الله تعالى.
أجاب القاضي: بأنَّ المراد من الصبر، وتثبيت الأقدام: تحصيل أسباب الصّبر، وأسباب ثبات القدم: إمَّا بأن يلقي في قلوب أعدائهم الاختلاف، فيعتقد بعضهم أنَّ البعض الآخر على الباطل، أو يحدث في ديارهم وأهليهم البلاء، كالموت، والوباء، أو يبتليهم بالموت، والمرض الذي يعمهم، أو يموت رئيسهم، ومن يدبّر أمرهم، فيكون ذلك سبباً لجرأة المسلمين عليهم.(4/289)
والجواب عما قاله القاضي من وجهين:
الأول: أنَّا بيَّنَّا أنَّ الصَّبر عبارة عن القصد إلى السكون والثبات عبارة عن السكون وهو الذي أراده العبد من الله - تعالى -، وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره، وتحملونه على أسباب الصَّبر، وترك الظَّاهر لغير دليل لا يجوز.
الثاني: أنَّ هذه الأسباب التي سلمتم أنَّها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في التَّرجيح الدَّاعي، أو ليس لها أثرٌ في التَّرجيح؛ فعند صدور هذه الأسباب المرجحة يحصل الرجحان، وعند حصول الرُّجحان، يمتنع الطَّرف المرجوح، فيجب حصول الطَّرف الرَّاجح، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب.(4/290)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
«الهَزَمُ» : أصله الكسر، يقال «سِقَاءٌ مَتَهزِّم» إذا انشق و «قَصَبٌ مُتَهَزِّمٌ» ، أي متكسِّر.
والهزمة: نقرة في الجبل، أو في الصَّخرة. قال سفيان بن عيينة في زمزم: وهي هزمة جبريل، يريد هزمها برجله فخرج الماء. ويقال: سمعت هزيمة الرعد كأنَّه صوت تشقُّقٍ. ويقال للسَّحاب هزيم؛ لأنَّه ينشق بالمطر.
قوله: {بِإِذْنِ الله} فيه الوجهان المتقدِّمات أعني كونه حالاً، أو مفعولاً به.
فصل
أخبر تعالى أنَّ تلك الهزيمة كانت بإذن الله تعالى وإعانته وتيسيره، ثم قال: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} .
قال القرطبيُّ: وكان جالوت رأس العمالقة وملكهم، ظلُّه ميل ويقال: إنَّ البربر من نسله.
قال ابن عبَّاس: إنَّ داود - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان راعياً، له سبعة إخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم «إِيشَا» ؛ أرسل إليهم داود ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجياد إلى البراز، وكان من قوم عاد، فقال داود لإخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا فذهب إلى ناحية أخرى من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت، وهو يحرض الناس.(4/290)
فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟
فقال طالوت: أنكحه ابنتي، وأعطيه نصف ملكي، فقال داود: فأنا أخرج إليه؛ وكانت عادته أنه يقاتل الأسد والذِّيب بالمقلاع في المرعى، وكان طالوت عارفاً بجلادته، فلما همَّ داود بالخروج إلى جالوت، مرّ بثلاثة أحجار فقلن: يا داود، خذنا معك ففينا منيَّة جالوت، ثمَّ لما خرج إلى جالوت، رماه، فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه، وقتل بعده ناساً كثيرة، فهزم الله جنود جالوت، وقتل داود جالوت وهو داود بن إيشى بكسر الهمزة. وقيل داود بن زكريَّا بن مرشوى من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وكان من أهل بيت المقدس، فحسده طالوت، وأخرجه من مملكته، ولم يف له بوعده، ثم ندم على صنعه، فذهب يطلبه إلى أن قتل، وملك داود، وحصلت له النُّبوَّة، وهو المراد من قوله: {وَآتَاهُ الله الملك والحكمة} هو العلم مع العمل والحكمة: هي وضع الأمور موضعها على الصَّواب، والصَّلاح.
قوله: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ... } .
قال الكلبيُّ وغيره: «صنعة الدُّرُوعِ» .
قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد} [سبأ: 10 - 11] وقيل: منطق الطَّير والنّمل، وقيل الزّبور، وعلم الدّين، وكيفية الحكم، والفصل.
قال تعالى: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] .
وقيل: الألحان الطَّيِّبة. قيل كان إذا قرأ الزَّبور؛ تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وتظله الطّير مصغية له، ويركد الماء الجاري، وتسكن الرّيح.
وروى الضَّحَّاك عن ابن عباس: هو أنَّ الله تعالى أعطاه سلسلةً موصولة بالمجرّة، ورأسها عند صومعته، وقوّتها اللُّؤلؤ قوّة الحديد، ولونها لون النّار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر، مدسَّرة بقضبان اللُّؤلؤ الرطب، فلا يحدث في الهواء حدث إلاّ صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث، ولا يمسُّها ذو عاهة إلاَّ برأ، فكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدَّى على صاحبه، وأنكر حقه أتى إلى السِّلسلة، فمن كان صادقاً مدّ يده إلى السِّلسلة، فنالها، ومن كان كاذباً، لم ينلها، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة، فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلاً جوهرة ثمينة، فلما استردَّها أنكرها فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكَّازه، فنقرها وضمنها الجوهرة، واعتمد عليها حتى حضروا السلسلة، فقال صاحب الجوهرة:(4/291)
ردَّ عليَّ الوديعة.
فقال له صاحبه: ما أعرف لك عندي من وديعة، فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة، فقام صاحب الجوهرة، فتناولها بيده. فقيل للمنكر قم أنت، فتناولها.
فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكَّازي هذا، فاحفظها حتى أتناول السِّلسلة، فأخذها فقال الرجل: «اللَّهم إِن كنت تَعْلم أنَّ هذه الوديعة التي يدّعيها، قد وصلت إليه فقرب مني السّلسلة، فمد يده فتناولها، فتعجب القوم، وشكُّوا فيها، فأصبحوا وقد رفع الله السِّلسلة.
قوله {مِمَّا يَشَآءُ} : فاعلٌ،» يشاء «ضمير الله تعالى.
وقيل: ضمير داود، والأول أظهر.
قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ} ؛ قرأ نافعٌ هنا، وفي الحج:» دِفَاع «، والباقون:» دَفْع «. فأمَّا» دَفْع «، فمصدر» دَفَعَ «» يَدْفَعُ «ثلاثياً، وأمَّا» دِفَاع «فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مصدر» دَفَعَ «الثلاثيِّ أيضاً، نحو: كَتَب كتاباً، وأن يكون مصدر» دَافَعَ «؛ نحو: قاتل قتالاً؛ قال أبو ذؤيبٍ: [الكامل]
1170 - وَلَقَدْ حَرِصْتُ بَأَنْ أُدَافِعُ عَنْهُمُ ... فَإِذَا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لاَ تُدْفَعُ
قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فَعَلَ وفَعِلَ، تقول: جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاءً، وقمت قياماً، وأن يكون مصدر لدفع تقول: دفعته، دفعاً، ودفاعاً نحو: قتل قتلاً وقتالاً.
و» فاعل «هنا بمعنى فَعَلَ المجرد، فتتَّحد القراءتان في المعنى ويحتمل أن يكون من المفاعلة، والمعنى أنه سبحانه إنَّما يكفّ الظَّلمة، والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه، ورسله، وأئمة دينه، وكان يقع بين أولئك المحقين، وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كقوله تعالى: {يُحَارِبُونَ الله} [المائدة: 33] و {شَآقُّواْ الله} [الأنفال: 13] ونظائره كثيرة.
ومن قرأ» دِفَاع «، وقرأ في الحجّ {يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} [الحج: 38] أو قرأ» دَفْع «، وقرأ» يَدْفَع «- وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصله، فجاء بالمصدر على وفق الفعل، وأمَّا من قرأ هنا:» دَفْع «، وفي الحجّ» يُدافِع «، وهم الباقون، فقد جمع بين اللُّغتين، فاستعمل الفعل من الرُّباعي والمصدر من الثلاثي.
والمصدر هنا مضافٌ لفاعله وهو الله تعالى، و «النَّاس» مفعول أول، و «بعضهم» بدلٌُ من «الناسِ» بدل بعضٍ من كلٍّ.(4/292)
و «ببعضٍ» متعلِّقٌ بالمصدر، والباء للتعدية، فمجرورها المفعول الثاني في المعنى، والباء إنَّما تكون للتعدية في اللاَّزم، نحو: «ذَهَبَ بِهِ» فأمَّا المتعدِّي لواحدٍ فإنَّما يتعدَّى بالهمزة، تقول: «طَعِمَ زيدٌ اللَّحْمَ، وأَطْعَمْتُه اللَّحْم، ولا تقول:» طَعِمْته باللَّحْم «، فتعدِّيه إلى الثاني بالباء، إلاَّ فيما شذَّ قياساً، وهو» دَفَعَ «، و» صَكَّ «، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي: جعلت أحدهما يصكُّ الآخر، ولذلك قالوا: صككت الحجرين أحدهما بالآخر.
فصل في المدفوع والمدفوع به
اعلم أنَّه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع، والمدفوع به، وأمَّا المدفوع عنه، فغير مذكورٍ، وهو يحتمل وجوهاً:
الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأئمة الذين يمنعون النَّاس عن الكفر بسبب البعض بإظهار الدَّلائل.
قال تعالى: {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] .
الثاني: دفع بعض الناس عن المعاصي، والمنكرات بسبب البعض، فيكون الدافعون هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110] .
الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج، والمرج، وإثارة الفتن في الدُّنيا بسبب البعض، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - ثم الأئمة والملائكة والدّابّون عن شرائعهم، وذلك أنَّ الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، ما لم يخبز هذا لذاك، ويطحن ذاك لهذا، ويبني هذا لذاك، وينسج ذاك لهذا، ولا تتمّ مصلحة الإنسان.
فالظَّاهر أن مصلحته لا تتمُّ إلاّ باجتماع جمع في موضع واحد، ولهذا قيل إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع، ثم إنَّ الاجتماع سبب للمنازعة المفضية إلى المخاصمة، ثم إلى المقاتلة، فلا بدّ في الحكمة الإلهيَّة من وضع شريعةٍ بين الخلق ليقطع بها الخصومات، والمنازعات، فبعث الله الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بالشَّرائع؛ ليدفع بهم، وبشرائعهم الآفات، والفساد عن الخلق فإنَّ الخلق ما داموا متمسكين بالشَّرائع لا يقع بينهم خصامٌ ولا نزاعٌ، والملوك والأئمة متى كانوا متمسكين بالشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام:» الإِسْلاَمُ والسُّلْطَانُ أَخَوَان «وقال أيضاً:» الإِسْلاَمُ أميرٌ، والسُّلْطَانُ حَارِسٌ، فمن لا أمير له فهو مُنْهَزِمٌ، ومن لا حَارِسَ له فَهُو ضَائِعٌ «.(4/293)
وعلى هذا الوجه فيكون تفسير قوله: {لَفَسَدَتِ الأرض} ، أي: لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي، وذلك يسمّى فساداً. قال تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد}
[البقرة: 205] وقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} [القصص: 19] .
الرابع: ولولا دفع الله بالمؤمنين، والأبرار عن الكفّار، والفجّار، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها. قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إِنَّ اللهَ لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِم الصَّالِح عَنْ مائَةِ أَهْلِ بَيٍْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إِنَّ اللهَ يَدْفَعُ بمن يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي عمَّن لا يصلِّي، وبمن يزكّي عمن لا يُزكِّي، وبمن يصوم عمَّن لا يصوم وبمن يحجّ عمَّن لا يحجّ، وبمن يجاهد عمَّن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين» ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية.
ويدلُّ على صحَّة هذا القول قوله تعالى: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف: 82] . وقال تعالى: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] وقال: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . وعلى هذا التأويل يكون معنى قوله: {لَفَسَدَتِ الأرض} ، أي: لأهلك الله أكثر أهلها الكفّار والعصاة.
قال القرطبيُّ: وقيل: هم الأبدال، وهم أربعون رجلاً، كلّما مات واحدٌ أبدل آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم اثنان وعشرون بالشَّام، وثمانية عشر بالعراق.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إِنَّ الأَبْدَالَ يَكُونُونَ بالشَّام وَهُمْ أَرْبعُونَ رَجُلاً كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُم رَجُلٌ أبدل اللهُ مكانه رَجُلاً يُسْتَقَى بِهِمُ الغَيْث وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الأَعْدَاءِ وَيُصْرَفُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الأَرْضِ البَلاَء» .(4/294)
ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، وخرج أيضاً عن أبي الدرداء قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد يقال لهم الأبدال، لم يفضلوا النَّاس بكثرة صوم، ولا صلاة، ولكن بحسن خلق، وصدق الورع، وحسن النِّية، وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنَّصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله، بصبر، وحلم، ولبٍّ، وتواضع في غير مذلَّةٍ فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله سبحانه لنفسه، واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صدِّيقاً ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن بهم يرفع الله المكاره، والبلايا عن النَّاس، وبهم يمطرون، ويرزقون، لا يموت الرَّجل منهم، حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه.
وقال سفيان الثَّوري: «هم الشُّهود الذين تستخرج بهم الحقوق» .
الخامس: قال ابن عبَّاس ومجاهد: ولولا دفع الله بجنود المسلمين؛ لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين، وخربوا المساجد، والبلاد.
السادس: أن يحمل اللفظ على الكل؛ لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً، وهو دفع المفسدة، فإذا حملنا اللَّفظ عليه، دخلت الأقسام بأسرها فيه.
فصل في بطلان مذهب الجبر
قال القاضي: هذه الآية من أقوى الدَّلائل على بطلان الجبر؛ لأنه إذا كان الفساد من خلقه لم يكن لقوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} تأثير في زوال الفساد؛ لأن على قولهم إنَّما لا يقع الفساد بسبب ألا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى النَّاس، والجواب: أنَّ الله تعالى لمّا كان عالماً بوقوع الفساد، فإذا صح مع ذلك العلم ألاَّ يقع الفساد كان المعنى أنه لا يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد، فيلزم أن يكون العبد قادراً على الجمع بين النَّفي والإثبات، وهو محال ويؤيد ذلك قوله تعالى مستدركاً {ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} بين أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم فلو كان دفع الفساد بهذا الطريق فعل العبد لكان الفضل للعبد؛ لأنه الدَّافع على قولهم، ولم يكن لله تعالى على العالمين فضل سبب ذلك الدَّفع. فإن قالوا: نحمل هذا على البيان، والإرشاد.
قلنا: كلُّ ذلك قائم في حقّ الكفَّار، والفجَّار، ولم يحصل منهم دفاع.
قوله: {ولكن الله} وجه الاستدراك أنه لمَّا قسَّم النَّاس إلى مدفوع ومدفوع به، وأنَّه بهذا الدَّفع امتنع فساد الأرض، فقد يهجس في نفس من غُلب عمّا يريد من الفساد أنَّ الله(4/295)
غير متفضِّلٍ عليه، حيث لم يبلغه مقاصده وطلبه، فاستدرك عليه [أنّه] وإن لم يبلغ مقاصده أنَّ الله متفضّلٌ عليه، ومحسن إليه؛ لأنه مندرجٌ تحت العالمين، وما من أحدٍ إلاّ ولله عليه فضلٌ، وله فضل الاختراع [والإيجاد] .
و «عَلَى» يتعلَّق ب «فَضْل» ؛ لأنَّ فعله يتعدَّى بها، وربَّما حذفت مع تخفيف الفعل؛ وقد جمع [بين] الحذف والإثبات في قوله: [الوافر]
1171 - وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقِيْماً ... كَفَضْل ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ
أمَّا إِذا ضُعِّف، فإنه لا تحذف «على» أصلاً كقوله: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [البقرة: 253] ، ويجوز أن تتعلَّق «عَلَى» بمحذوفٍ لوقوعها صفةً لفضل.(4/296)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله} : مبتدأٌ وخبرٌ، و «نَتْلُوهَا» فيه قولان:
أحدهما: أن تكون حالاً، والعامل فيها معنى الإشارة.
والثاني: أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها. ويجوز غير ذلك، وهو يؤخذ مما تقدم.
قال القرطبيُّ: وإن شِئْتَ كان «آيَاتُ الله» بدلاً، والخبر نتلوها عليك بالحقّ وأشير إليها إشارة البعيد لما بينا في قوله: {ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2] أن «تلك» و «ذَلِكَ» يرجع إلى معنى هذه، وهذا، وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشَّيء الذى انقضى، ومضى، فكانت في حكم الغائب، فلذها التأويل قال: «تِلْكَ» وأشير إليها إشارة البعيد لما تقدَّم في قوله: {ذَلِكَ الكتاب} . قوله: «بالحق» يجوز فيه أن يكون حالاً من مفعول «نَتْلُوها» ، أي: ملتبسةً بالحقّ، أو من فاعله؛ أي: نتلوها ومعنا الحقُّ، أو من مجرور «عَلَيْكَ» ، أي: ملتبساً بالحقّ.
قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} . قال القرطبيُّ: خبر إن أي: وإنك لمرسل.
فصل
اعلم أنَّه أشار بقوله: «تِلْكَ» إلى القضيَّة المذكورة من نزول التَّابوت، وغلب الجبابرة على يد داود، وهو صبيٌّ فقير. ولا شكّ أنَّ هذه الأحوال آياتٌ باهرةٌ دالّة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، وفي معنى قوله: «بالحق» وجوه:
أحدها: أنَّ المراد: أن تعتبر بها يا محمَّد أنت، وأمتك في احتمال الشَّدائد في الجهاد، كما احتملها المؤمنون، فيما مضى، وقال «نَتْلُوهَا» ، أي: يتلوها جبريل، وأضاف ذلك إليه تشريفاً له كقوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] .(4/296)
وثانيها: «بالحق» أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب؛ لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلاً.
وثالثها: أنَّا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالَّة على نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة.
ورابعها: «بالحق» ، أي: يجب عليك أن تعلم: أنَّ نزول هذه الآيات من قبل الله تعالى، وليس من قبل الشياطين، ولا تحريف الكهنة والسحرة، وقوله عقيب ذلك: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} . يحتمل وجهين:
الأول: أن إخبارك عن هذه القصص من غير تعلُّم، ولا دراسة دليل على أنَّك رسول وإنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى.
الثاني: أن يكون المراد منه تسلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والمعنى أنك إذا عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء من الخلاف والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالفك، لأنَّ لك بهم أسوة وإنَّما بعثوا لتأدية الرِّسالة على سبيل الاختبار، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك إنَّما يرجع عليهم.(4/297)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
قال القرطبيُّ: قال «تِلْكَ» ، ولم يقل «ذَلِكَ» مراعاةً لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء، و «الرُّسُلُ» نعته، وخبر الابتداء الجملة وقيل: «الرسل» عطف بيان، و «فضَّلنا» الخبر.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
قال أبو مسلمٍ: وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، ما ذكر في الآية التي قبلها من تسلية الرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو أنَّه أخبر النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأخبار الأنبياء المتقدّمين، وأقوال أُممهم لهم، كسؤال قوم موسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] ، وقولهم: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] . وكقوم عيسى بعد مشاهدة إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، فكذبوه، وراموا قلته، ثم أقام فريقٌ منهم على الكفر به، وهم اليهود، وزعم فريقٌ منهم أنَّهم أولياؤه، وكالملأ من بني إسرائيل الذين حسدوا طالوت،(4/297)
ودفعوا ملكه بعد المسألة، وكذلك ما جرى من أمر النهر، فذكر ذلك كلَّه تسلية للرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمّا رأى من قومه من التّكذيب والحسد، فقال: هؤلاء الرُّسل الذين كلَّم الله بعضهم، ورفع الباقين درجات، وأيّد عيسى بروح القدس، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك من مشاهدة المعجزات، فلا يحزنك ما ترى من قومك، فلو شاء الله لم يختلف أمم أولئك، ولكن ما قضى الله فهو كائن، وما قدَّره، فهو واقع.
فصل
في المراد من تلك الرُّسل أقوال:
أحدها: أنَّ المراد من تقدم ذكرهم من الأنبياء في القرآن كإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وموسى وغيرهم - صلوات الله عليهم -.
الثاني: أنَّ المراد من تقدّم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل، وداود، وطالوت على قول من يجعله نبيّاً.
الثالث: قال الأصمُّ: المراد منه الرُّسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد، وأشار إليهم بقوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} قوله تعالى: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} : يجوز أن يكون حالاً من المشار إليه، والعامل معنى الإشارة كما تقدَّم، وقال «تلك» ولم يقل أولئك الرُّسل؛ لأنه ذهب إلى معنى الجماعة كأنه قيل: تلك الجماعة، ويجوز أن يكون مستأنفاً، ويجوز أن يكون خبر «تِلْكَ» على أن يكون «الرُّسل» نعتاً ل «تِلْكَ» ، أو عطف بيان أو بدلاً.
فصل في تفاضل الأنبياء
أجمع الأمَّة على أنَّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعضٍ، وأنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل من الكلِّ، ويدلُّ على ذلك وجوه:
الأول: قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فلما كان رحمة للعالمين، لزم أن يكون أفضل من كلِّ العالمين.
الثاني: قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قيل فيه لأنه قَرَنَ ذكره بذكره في الشَّهادتين والأذان، والتّشهد، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء.
الثالث: أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وبيعته ببيعته فقال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] وعزته بعزته فقال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] ورضاه برضاه فقال: {أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، وإجابته بإجابته فقال: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} [الأنفال: 24] .(4/298)
الرابع: أنَّ معجزات سائر الأنبياء قد ذهبت، ومن بعض معجزاته - عليه الصَّلاة والسَّلام - القرآن، وهو باقٍ إلى آخر الدَّهر.
الخامس: قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] فأمر محمداً بالاقتداء بهم، وليس هو الاقتداء في أصول الدين؛ لأن شرعه نسخ سائر الشّرائع، فلم يبق إلا أن يكون الاقتداء في محاسن الأخلاق، فكأنه تعالى قال: إنّي أطلعتك على أحوالهم وسيرهم، فاختر أنت أجودها، وأحسنها. فمقتضى ذلك أنه اجتمع فيه من الخصال ما كان متفرقاً فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.
السادس: أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بعث إلى الخلق كلهم، فوجب أن يكون مشقته أكثر من بعث إلى بعضهم، فإذا كانت مشقته أكثر كان أجره أكثر، فوجب أن يكون أفضل.
السابع: أن دين محمَّد أفضل الأديان؛ فيلزم أن يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الأنبياء.
بيان الأول: أنَّ الله تعالى جعل دينه ناسخاً لسائر الأديان، والنَّاسخ أفضل من المنسوخ، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] . وإنَّما نالت الأمة هذه الفضيلة لمتابعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع.
الثامن: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ» وذلك يدل على أنه أفضل من آدم، ومن كل أولاده، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ النَّبيِّين حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا، ولا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتي» وروى أنس أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أَنَا أَوَّل النَّاسِ خُرُوجاً إِذَا بُعِثُوا، وَأَنا خَطِيبُهُم إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَّا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أيسُوا، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلى رَبِّي وَلاَ فَخْرَ» .
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: جلس ناسٌ من الصَّحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حديثهم فقال بعضهم: عجبأ إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر:(4/299)
آدم اصطفاه الله، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «سَمِعْتُ كَلاَمَكُم، وحُجَّتُكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللهِ وهُوَ كَذَلِك، ومُوسَى نَجِيُّ الله، وَهُوَ كَذلِكَ، أَلاَ وَأَنَا حَبِيبُ اللهِ، وَلاَ فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فَخْرَ، وَأَنَا أوّل مَنْ يُحَرِّكُ حَلَقَة الجَنَّة فَيُفْتَحُ لي، فَأَدْخُلها، ومَعِي فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ وَلاَ فَخْرَ» .
التاسع: روى البيهقي في «فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - «أنه ظهر علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من بعيد؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هَذَا سَيِّدُ العَرَبِ «فقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ألَسْتَ أَنْتَ سَيِّدَ العَرَبِ؟ فقال:» أَنَا سَيِّدُ العَالَمِينَ وهو سيِّدُ العرب «.
العاشر: جاء في الصحيحين أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَلاَ فَخْرَ، بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ، والأَسْوَدِ، وكان النَّبي قبل يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ، وجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وطَهُوراً وَنُصِرْتُ بالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ ولَمْ تُحَلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وأُعْطِيتِ الشَّفَاعَةَ، فادَّخَرْتُهَا لأُمَّتِي، فهِيَ نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيئاً «.
الحادي عشر: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال:» إِنَّ الله تعالى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ومُوسَى نَجِيّاً وَاتَّخَذَنِي حَبيباً. قال: وعزَّتي لأوثرنّ حبيبي على خليلي «.
الثاني عشر: أنَّ الله تعالى كلما نادى نبيّاً في القرآن ناداه باسمه قال: {يَاآدَمُ اسكن} [البقرة: 35] {ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر} [المائدة: 116] {يانوح اهبط} [هود: 48] {ياداوود} [ص: 26] {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم} [الصافات: 104] {ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 11 - 12] وأما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فناداه بقوله: {ياأيها النبي} [الأنفال: 64] {ياأيها الرسول} [المائدة: 41] وذلك يفيد التفضيل.(4/300)
قال القرطبي رحمة الله عليه: فإن قيل: قد روى الثِّقات أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَلاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ «، فأجاب بعض العلماء عن ذلك، فقال: كان هذا قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيّد ولد آدم، وأن القرآن ناسخٌ للمنع من التَّفضيل.
وقال قوم: إنَّ المنع من التَّفضيل إنما هو من جهة النُّبوة، التي هي خصلة واحدة، لا تفاضل فيها، وإنَّما التَّفاضل في زيادة الأحوال، والكرامات، والألطاف، والمعجزات المتباينة.
وأما النُّبوَّة في نفسها، فلا تفاضل فيها، وإنما التَّفاضل في أمورٍ أخر زائدةٍ عليها؛ ولذلك منهم» أُولُو العَزْمِ «، ومنهم من اتُّخِذَ خَليلاً، ومنهم مَنْ كَلَّم اللهُ، ورفع بعضهم درجات.
قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال، فإنَّه جمع بين الآي، والأحاديث من غير نسخ، وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى اشتركوا في الصُّحبة، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب، والوسائل، مع أنَّ الكلَّ شملتهم الصُّحبة والعدالة.
قال ابن الخطيب: فإن قيل إنَّ معجزات سائر الأنبياء، كانت أعظم من معجزاته، فإن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - جعل مسجود الملائكة، وإبراهيم ألقي في النَّار العظيمة؛ فانقلبت برداً وسلاماً عليه، وموسى أوتي تلك المعجزات العظيمة من قلب العصا حية تسعى، وتلقفها ما صنعوا، وإخراج اليد البيضاء من غير سوء، وفلق البحر، وفلق الحجر، ومكالمة ربه، وداود ألان له الحديد، وسخّر الجبال يسبحن معه والطّير، وسخر لسليمان الجن، والإنس، والطير والوحوش والرِّياح، وعيسى أنطقه في المهد، وأقدره على إحياء الموتى، ونفخ فيه من روحه، وجعله يبرئ الأكمه، والأبرص، ولم يكن ذلك حاصلاً لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:
«لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وقال: «لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْراً مِنْ يَحْيى بين زَكَرِيَّا» ، وذكر أنه لم يعمل سيئة قط.(4/301)
فالجواب: أن كون آدم - عليه الصّلاة والسّلام - مسجوداً للملائكة؛ لا يوجب أَنْ يكون أفضل من محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ» وقال: «كُنْتُ نَبِيّاً وَآدَمُ بَيْنَ المَاءِ والطِّينِ» ، وروي أَنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذ بركاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة المعراج، وهذا أعظم من السُّجُود. وقال تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصلّى بنفسه على محمَّد، وأمر الملائكة، والمؤمنين بالصَّلاة عليه، وذلك أفضل من سُجُود الملائكة، وأيضاً، فإِنَّ سُجُودَ الملائكة لآدم كان تأديباً، وأمرهم بالصَّلاة على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تقريباً، وأيضاً فالصَّلاة على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[دائمة إلى يوم القيامة وسجود الملائكة لآدم عليه السَّلام] لم يكن إلا مرَّةً واحدة، وأيضاً فإِنَّ الملائكة، إِنَّما أمروا بالسُّجود لآدم لأجل أَنَّ نور محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في جبهة آدم.
قال القرطبي: وقال ابن قتيبة: إِنَّما أراد بقوله: «أَنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» يوم القيامة؛ لأَنَّه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: «لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى يُونسَ بن مَتَّى» على طريق التواضع، لأنَّ قوله تعالى: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أفضل منه.
فإن قيل: إنه تعالى خصّ آدم بالعلم فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31] وقال في حقّ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى ومحمد معلمه جبريل كما قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] .
فالجواب: أن الله تعالى قال في علم محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113] ، وقال: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1 - 2] وقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] ، وأما قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} ، فذلك بحسب التلقين والمعلم هو الله كقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] وقال: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] .
فإن قيل: قال نوحٌ - عليه الصَّلاة والسَّلام - {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا}
[هود: 29] وذلك خلق منه. وقيل لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] .
فالجواب: قد قيل لنوح: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1] فكان أوَّل أمره العذاب. وقيل لنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، وعاقبة نوح أن قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] وعاقبة النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشّفاعة. قال تعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإسراء: 79] فما(4/302)
أوتي نبي آية إلا أُوتي نبينا مثل تلك الآية، وفضل على غيره بآيات مثل انشِقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع على مفارقته، وتسليم الحجر والشّجر عليه، وكلام البهائم، والشَّهادة برسالته، ونبع المَاءِ من بين أصابعه وغير ذلك من المُعجزات، والآيات الَّتي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السَّماء والأَرض عن الإتيان بمثله.
قوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} هذه الجملة تحتملُ وجهين:
أحدهما: أَنْ تكونَ لا مَحَلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافها.
والثاني: أنها بدلٌ من جملةِ قوله «فَضَّلْنا» . والجمهورُ على رفع الجلالة على أنه فاعلٌ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي: مَنْ كَلَّمه الله كقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71] .
وقُرئ بالنصبِ على أنَّ الفاعل ضميرٌ مُستترٌ وهو عائدُ الموصولِ أيضاً، والجلالةُ نَصْبٌ على التَّعظيم.
وقرأ أبو المتوكل وابن السَّميفع: «كالَمَ اللهَ» على وزن فاعَلَ، ونصبِ الجلالةِ، و «كَليم» على هذا معنى مُكَالِم نحو: جَلِيس بمعنى مُجالِس، وخليط بمعنى مخالطٍ. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ؛ لأنه خروجٌ من ضَمِيرِ المتكلّمِ المعظِّم نفسَه في قوله: «فَضَّلْنا» إلى الاسمِ الظَّاهِر الَّذشي هو في حُكْمِ الغائِبِ.
فضل في كلام اللهِ المسموع
اختلفوا في ذلك الكلامِ، فقال الأشعري وأتباعه هو الكلامُ القديم الأزليُّ الذي ليس بحرف، ولا صوت قالوا: كما أَنَّه لم يمتنع رُؤية ما ليس بمكيف، فهكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف.
وقال الماتريديُّ: سماع ذلك الكلام محالٌ إِنَّما المَسْموع هو الحرف والصَّوت.
فصل في المراد بالمُكلَّم
اختلفوا هل المُرادُ بقوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} هل هو موسى وحده أم هو وغيره فقيل: موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحده، وقيل: بل هو وغيره.
قالوا: وقد سمع من قوم موسى السّبعون المختارون، وسمع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة المِعراج بدليل قوله: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} [النجم: 10] فإن قيل: قوله تعالى: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} إِنَّما ذكره في بيان غاية المنقبة والشّرف لأولئك الأَنبياء الذين كلّمهم(4/303)
الله تعالى، وقد جاء في القرآن، مكالمة بين الله، وبين إبليس، حيث قال: {فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} إلى آخر الآيات [الحجر: 36 - 38] وظاهرها يدلُّ على مكالمة كثيرة بين اللهِ، وبين إبليس، فإن كان ذلك يوجب غاية الشَّرف، فكيف حصل لإبليس؟ فإن لم يوجب شَرَفاً، فكيف ذكره في معرض التَّشريف لموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حيث قال:
{وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] .
فالجواب: من وجهين:
أحدهما: أَنَّهُ ليس في قِصَّة إبليس ما يدلُّ على أَنَّ الله تعالى قال في تلك الأجوبة معه من غير واسطة، فلعلَّ الواسطة كانت موجودة.
الثاني: هَبْ أَنَّهُ كان من غير واسطةٍ، ولكن مكالمة بالطَّرد واللَّعن فإِنَّ الله يكلِّم خاصَّتَهُ بما يحبُّونَ من التَّقرُّب والإكرام، ويكلّم من يَهينُهُ بالطَّرْدِ واللَّعْنِ والكلام الموحش فإنه وإِن كان منهما مكالمة لكن إحداهما توجب التَّقرُّبَ والتَّشريف والإكرام، والأخرى تُوجِبُ البُعدَ، والإِهانة والطَّرد.
قوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} .
في نصبه ستَّةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال.
الثاني: أَنَّهُ حالٌ على حذفِ مُضَافٍ، أي: ذوي درجاتٍ.
الثالث: أَنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل «رفع» على أَنَّهُ ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات.
الرابع: أنه بدلُ اشتمالٍ، أي: رفع درجاتٍ بعضهم، والمعنى: على درجاتِ بعض.
الخامس: أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظه؛ لأَنَّ الدّرجة بمعنى الرَّفعة، فكأنه قيل: ورَفَع بعضهم رَفعاتٍ.
السادس: أنه على إِسْقاط الخافضِ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يَكُون «عَلَى» أو «فِي» ، أو «إلى» تقديره: على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجات، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده.
فصل في المراد بالدَّرجات
في تلك الدَّرجات وجوهٌ:
أحدها: أَنَّ المُراد منه بيان أَنَّ مراتِب الرُّسل، ومناصبهم متفاوتة؛ وذلك لأَنَّه تعالى اتَّخَذ إبراهيم خَلِيلاً، ولم تكن هذه الفضيلة لغيره وجمع لِدَاوُد بين المُلْكِ، والنُّبوَّةِ، ولم يحصل هذا لغيره، وسخَّر لِسُليمان الجِنّ والإنس، والطير، والريح، ولم يحصل هذا(4/304)
لأبيه داود، وخصّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأَنَّه مبعوث إِلى الجن والإنس، وبِأَنَّ شرعه نسخ سائِرَ الشَّرائع.
الثاني: أَنَّ المراد منه المعجزات، فَإِنَّ كل واحد من الأَنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزات على ما يَليقُ بزمانه، فمعجزات موسى هي قلب العصا حيّة، واليد البيضاء، وفلق البحر كان كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدّمين فيه، وهو السّحر. ومعجزات عيسى، وهي إِبراءُ الأَكمه، والأَبْرَص، وإِحياء الموتى كالشَّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدِّمين فيه، وهو الطِّبُّ.
ومعجزة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي القرآن كانت من جنس الفصاحة، والبلاغة والخطَب، والأَشعارِ، وبالجملة فالمعجزاتُ متفاوتةٌ بالقلَّةِ والكثرة وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القُوَّةِ.
الثالث: أن المراد بتفاوت الدّرجات ما يتعلّق بالدُّنيا من كثرة الأَتباع والأصحاب وقوَّة الدَّولة، وإذا تَأَمَّلْتَ هذه الوجوه؛ علمت أَنَّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان جامعاً لِلْكُلِّ، فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى، وأقوى، وقومه أكثر، ودولتُهُ أعظمُ وأوفر.
الرابع: أَنَّ المراد بقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} هو محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأنَّه هو المفضل على الكُلّ، وإنما قال «وَرَفَعَ بَعْضَهُم» على سبيل الرَّمْزِ، لمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له: من فعل هذا الفعل؛ فيقول: أحدكم، أو بعضكم، ويرِيدُ به نفسهُ وذلك أفخمُ من التَّصريح به، وقد سُئِل الحُطَيئَةُ عن أَشعرِ النَّاسِ، فذكر زهيراً، والنَّابغة، ثم قال: «ولو شئت لذكرت الثَّالِث» أراد ن فسه.
وقيل: المراد إدريس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 57] ومراتب الأنبياء في السَّمواتِ.
فإن قيل: المفهومُ من قوله {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} هو المفهوم من قوله: «تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ» ، فما فائدة التكرير؟
فالجواب: أَنَّ قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، ولكنّه لا يدلُّ على أَنَّ ذلك التّفضيل، حصل بدرجة، أو بدرجات، فبيَّن بالثَّاني أَنَّ التَّفضِيل بدرجات.
فإن قيل: قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ] كلام كلي، وقوله بعد ذلك {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ، إعادة لذلك الكلام الكُلّي، ومعلومٌ أَنَّ إعادَة الكَلاَمِ الكليّ بعد الشُّرُوعِ في تفصيل جُزْئِيَّاتِهِ، يكون تكراراً.(4/305)
فالجواب: أَنَّ فيه زيادة على الأَوَّل بقوله: «دَرَجَات» إذ التفصيل أَعَمُّ درجة ودرجات، فلا تكرار في شيءٍ من ذلك.
قوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} . فيه سؤالان:
السُّؤال الأَوَّل: قال في أوَّل الآية: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [ثمَّ عَدَل عن هذا النَّوع من الكلام إلى المغايبة فقال: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ] ، ثم عدل من المغايبة إلى النَّوع الأَوَّل فقال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} فما الفائدة في العدول عن المُخاطبة إلى المغايبة، ثم عوده إلى المُخاطبة مرَّة أخرى.
والجوابُ: أَنَّ قوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} أهيب وأكثر وَقْعاً من أن يُقال: منهم من كلمنا، ولذلك قال: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيما} فلهذا اختَارَ لفظ الغيبة.
وأَمَّا قوله {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} فإِنَّما اختار لفظ المخاطبة؛ لأن الضَّمير في قوله «وآتَيْنَا» ضمير التَّعظيم، وضمير تعظيم إحياء الموتى يدلُّ على عظمة الإيتاء.
السُّؤال الثاني: لم خصَّ موسى، وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - بذكر معجزاتهما؟
والجواب: سبب التَّخصيص: أنَّ معجزاتهما أبهر، وأقوى من معجزات غيرهما، وأيضاً، فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزَّمان، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطَّعن في أمتهما، كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما، وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما، بل نازعوهما وخالفوهما وأعرضوا عن طاعتهما.
السُّؤال الثالث: تخصيص عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بإيتاء البيِّنات يوهم أنه مخصوص بالبيِّنات دون غيره، وليس الأمر كذلك، فإن موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوتي أقوى منها، أو مساوٍ.
والجواب: أنَّ المقصود من هذا الكلام: التَّنبيه على قبحِ أفعال اليهود، حيث شاهدوا هذه البيِّنات الواضحة الباهرة، وأعرضوا عنها.
السُّؤال الرابع: «البيِّنات» جمع قلَّة، وذلك لا يليق بهذا المقام!
والجواب: لا نسلِّم أنه جمع قلَّة، لأنَّ جمع السّلامة إنما يكون جمع قلَّة إذا لم يعرَّف بالألف واللام، فأما إذا عرف بهما؛ فإنه يصير للاستغراق، ولا يدلُّ على القلَّة.
قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} «القُدُس» تثقله أهل الحجاز، وتخففه تميم.(4/306)
واختلفوا في تفسيره، فقال الحسن: القُدُسُ، هو الله - تعالى - وروحه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - والإضافة للتَّشريف.
والمعنى أعناه بجبريل في أوَّل أمره، ووسطه، وآخره.
أمَّا أوله؛ فلقوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] .
وأما الوسط، فلأن جبريل علَّمه العلوم، وحفظه من الأعداء.
وأما آخر أمره، فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - ورفعه إلى السَّماء، ويدلُّ على أنَّ روح القدس جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102] .
ونقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي عيسى عليه السلام به الموتى.
وقال أبو مسلم: روح القدس الذي أيَّده به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وميزه بها عن غيره من المخلوقات ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله} مفعوله محذوف، فقيل: تقديره: ألاّ تختلفوا وقيل: ألاَّ تقتتلوا.
وقيل: ألاَّ تؤمروا بالقتال.
وقيل: أن يضطرَّهم إلى الإيمان، وكلُّها متقاربة.
و «مِنْ بَعْدِهِمْ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه صلةٌ، والضَّمير يعود على الرُّسل.
وقيل يعود على موسى، وعيسى، والاثنان جمع.
قال القرطبيُّ: والأوَّل ظاهر اللَّفظ، وأنَّ القتال إنَّما وقع ممَّن جاءوا بعدهم وليس كذلك، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كلِّ نبي، وهذا كما تقول: «اشتريت خيلاً، ثمَّ بِعْتُهَا» . وهذه عبارة جائزة، وأنت إنَّما اشتريت فرساً وبعته ثم آخر وبعته، ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النَّوازل، إنما اختلف النَّاس بعد كلِّ نبي، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر بغياً وحسداً.
و {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ} فيه قولان:
أحدهما: أنه بدلٌ من قوله: «مِنْ بَعْدِهِم» بإعادة العامل.
والثاني: أنه متعلِّقٌ باقتتل، إذ في البيِّنات - وهي الدلالات الواضحة - ما يغني عن(4/307)
التَّقاتل والاختلاف. والضَّمير في «جَاءَتْهم» يعود على الَّذشين من بعدهم، وهم أمم الأنبياء.
فصل
تعلق هذه الآية بما قبلها: أنَّ الرسل - عليهم الصَّلاة والسَّلام - لما جاءوا بالبيِّنات، وأوضحوا الدَّلائل، والبراهين، اختلف أقوامهم فمنهم من آمن، ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا، وتحاربوا، ولو شاء الله ألاَّ يقتتلوا لم يقتتلوا.
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الحوادث إنَّما تحدث بقضاء الله وقدره.
ثم قال: {ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} وإذا اختلفوا، فلا جرم اقتتلوا.
وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّ الفعل لا يقع إلاَّ بعد حصول الدَّاعي؛ لأنَّه بيَّن أن الاختلاف مستلزم للتقاتل، والمعنى: أنَّ اختلافهم في الدِّين يدعو إلى المقاتلة، وذلك يدلُّ على أنَّ المقاتلة لا تقع إلا لهذا الدَّاعي، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكلَّ بقضاء الله وقدره؛ لأنَّ الدَّواعي تستند لا محالة إلى داعية خلق الله تبارك وتعالى في العبد دفعا للتَّسلسل، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه أيضاً على صحَّة هذا المذهب.
قوله: {ولكن اختلفوا} وجه الاستدراك واضحٌ، فإنَّ «لَكِنْ» واقعةٌ بين ضدّين، إذ المعنى: ولو شاء الله الاتِّفاق لاتَّفقوا؛ ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «لكنْ» استدراك لما دلَّ الكلام عليه، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم، ثم بيَّن الاختلاف بقوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} ، فلا محلَّ حينئذٍ لقوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ} .
وكسرت النُّون من {ولكن اختلفوا} لالتقاء السَّاكنين ويجوز حذفها في غير القرآن الكريم، وأنشد سيبويه: [الطويل]
1172 - فَلَسْتُ بِآتِيهِ، وَلاَ أَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَكِ اسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا} فيه قولان:(4/308)
أحدهما: أنها الجملة الأولى كرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري.
وقال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما كرَّر ذلك تأكيداً للكلام، وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء من الله، ولا قدر.
الثاني: أنها ليست لتأكيد الأولى، بل أفادت فائدة جديدة، والمغايرة حصلت بتغاير متعلَّقهما، فإنَّ متعلَّق الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئة الثانية، والتقدير في الأولى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول، وفي الثانية: ولو شاء لم يأمر المؤمنين بالقتال، ولكن شاء أمرهم بذلك.
قوله: {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من اختلافهم، فيوفق من يشاء، ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله، وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين، والخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن.
ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى، ولما دلَّت على أنه يفعل ما يريد، فلو كان يريد الإيمان من الكفَّار لفعل فيهم الإِيمان، ولكانوا مؤمنين، ولما لم يكن كذلك، دلَّ على أنَّه تعالى لا يريد الإيمان منهم فدلَّت الآية على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات.
وقالت المعتزلة: يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه، وهذا ضعيفٌ لوجهين:
أحدهما: أنه تقييدٌ للمطلق.
والثاني: أنَّه على هذا التّقييد تصير الآية من باب إيضاح الواضحات؛ لأنه يصير معنى الآية: أنَّه يفعل ما يفعله.
سأل رجل عليَّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: يا أمير المؤمنين؛ أخبرني عن القدرِ! فقال: طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكه. فأعاد السُّؤال فقال: بحرٌ عميقٌ لا تلِجْه، فأعاد السُّؤال، فقال: «سِرُّ الله في الأَرْضِ، قَد خَفِي عَلَيْكَ، فَلاَ تَفْتِشْهُ» .(4/309)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
اعلم أنه تعالى لما أمر بالقتال بقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244] أعقبه بالحض على النفقة في الجهاد فقال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] والمقصود منه الإنفاق في الجهاد، ثمَّ إنَّه أكد الأمر بالقتال بذكر قصَّة طالوت، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد في هذه الآية الكريمة.(4/309)
قوله: {أَنْفِقُواْ} : مفعوله محذوفٌ، تقديره: شيئاً ممَّا رزقناكم، فعلى هذا {مِمَّا رَزَقْنَاكُم} متعلّقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعه صفةً لذلك المفعول، وإن لم تقدِّر مفعولاً محذوفاً، فتكون متعلِّقة بنفس الفعل. و «مَا» يجوز أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ، أي: رزقناكموه، وأن تكون مصدريَّةً، فلا حاجة إلى عائدٍ، ولكن الرّزق المراد به المصدر لا ينفق، فالمراد به اسم المفعول، وأن تكون نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] .
قوله: {مِّن قَبْلِ} متعلِّقٌ أيضاً بأنفقوا، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافهما معنًى؛ فإنَّ الأولى للتَّبعيض والثانية لابتداء الغاية، و «أَنْ يَأْتي» في محلِّ جرٍّ بإضافة «قبل» إليه، أي: من قبل إتيانه.
وقوله: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} إلى آخره: الجملة المنفيَّة صفةٌ ل «يَوم» فمحلُّها الرَّفع. وقرأ «بَيْعٌ» وما بعده مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير، وتوجيه ذلك تقدم في قوله تبارك وتعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 197] .
والخلَّة: الصَّداقة، كأنها تتخلَّل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وسطها.
والخلَّة: الصديق نفسه؛ قال: [الطويل]
1173 - وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ ... يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا
وكأنه من إطلاق المصدر على العين مبالغةً، أو على حذف مضافٍ، أي: كان لها ذو خلَّة، والخليل: الصَّديق لمداخلته إيَّاك، ويصلح أن يكون بمعنى فاعل، أو مفعول، وجمعه «خُلاَّن» ، وفعلان جمع فعيل يقل في الصّفات، وإنما يكثر في الجوامد نحو: «رُغْفَانٍ» .
قال القرطبيُّ: والخُلَّة: خالص المودَّة [مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين والخِلالة والخَلالة، والخُلالة: الصداقة، والمودة] ؛ قال الشاعر: [المتقارب]
1174 - وَكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
وأبو مرحب كنية الظِّلّ، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: «مواعيد عرقوب» .(4/310)
والخَلَّة - بالضَّمِّ - أيضاً - ما خالل من النبت يقال: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها.
والخَلَّة: - بالفتح - الحاجة والفقر، يقال: سدَّ خلته، أي: فقره.
والخِلَّة بالكسر ابن مَخَاض، عن الأصمعي: يقال أتاهم بقرص كأنَّه فِرْسِنُ خلة.
والأنثى خلَّة أيضاً، والخلّة: الخمرة الحامضة.
والخِلَّة - بالكسر - واحدة خلل السُّيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السُّيوف منقوشة بالذَّهب وغيره، وهي أيضاً سُيُور تلبس ظهور سيتي القوس، والخلّة أيضاً ما يبقى بين الأسنان.
و «هم» يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ ثانياً، و {الظالمون} خبره والجملة خبر الأوَّل.
فصل
قالت المعتزلة: لما أمر بالإنفاق من كلِّ ما كان رزقاً، وبالإجماع لا يجوز الإنفاق من الحرام وجب القطع بأنَّ الرّزق لا يكون إلاّ حلالاً.
وأجاب ابن الخطيب: بأنَّ الأصحاب مخصَّصة بالأمر بالإنفاق ما كان رزقاً حلالاً أو حراماً. واختلفوا في هذه النَّفقة، فقال الحسن: هذا الأمر مختص بالزكاة قال: لأنَّ قوله {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} كالوعد والوعيد، ولا يتوجه الوعيد إلاَّ على الواجب، وهو قول السُّدي.
وقال الأكثرون: هذا الأمر يتناول الواجب، والمندوب وليس في الآية وعيد، فكأنه قال: حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدُّنيا، فإنكم في الآخرة لا يمكنكم تحصيلها.(4/311)
وقال الأصمُّ: المراد منه الإنفاق في الجهاد.
وفي المراد من البيع هنا وجهان:
أحدهما: أنَّه بمعنى الفدية كما قال: {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] وقال: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 123] ، وقال: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} [الأنعام: 70] فكأنه قيل من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه، فتكسب ما تفتدي به من العذاب.
الثاني: أن يكون المعنى: قدِّموا لأنفسكم من المال الذي هو ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة يكتسب بسببها شيء من المال.
{وَلاَ خُلَّةٌ} ولا صداقة، ونظيره قوله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] وقال {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166] .
وقوله: {وَلاَ شَفَاعَةٌ} يقتضي نفي كلّ الشَّفَاعَاتِ، فقوله: {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} عام في الكل إلاَّ أنَّ سائر الدَّلائل دلَّت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين، وعلى ثبوت الشفاعة بين المؤمنين والسبب في عدم الخلة والشفاعة أمور:
أحدها: أنَّ كل واحد يكون مشغولاً بنفسه. قال تبارك وتعالى: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] .
الثاني: أنَّ الخوف الشَّديد يغلب على كلِّ أحدٍ] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] .
الثالث: أنَّه إذا نزل العذاب بسبب الكفر، أو الفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما؛ صار مبغضاً لمن اتَّصف بهما.
وقوله: {والكافرون هُمُ الظالمون} ، ولم يقل «والظَّالِمُونَ هم الكافرون» .
وذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً:
أحدها: أنَّ نفي الخلَّة، والشَّفاعة مختص بالكافرين، لأنّه أطلقه ثم عقبه بقوله {والكافرون هُمُ الظالمون} وعلى هذا تصير الآية دالَّةً على إثبات الشَّفاعة في حقّ الفسَّاق.
قال القاضي: هذا التأويل غير صحيحٍ؛ لأن قوله: {والكافرون هُمُ الظالمون} كلام مبتدأ، فلم يجب تعليقه بما تقدَّم.
والجواب: أنَّا لو جعلناه كلاماً مبتدأً تطرق الخُلْفُ إلى كلام الله تعالى؛ لأنَّ غير(4/312)
الكافرين قد يكون ظالماً، وإذا علَّقناه بما تقدَّم زال الإشكال.
الثاني: أنَّ معناه أنَّ الله لم يظلم الكافر بإدخاله النَّار، وإنَّما الكافر هو الذي ظلم نفسه، حيث اختار الكفر والفسق، ونظيره قوله تعالى:
{وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] .
الثالث: معناه: أنَّكم أيُّها الحاضرون لا تقتدوا بالكفَّار حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم، وحاجتهم، ولكن قدّموا لأنفسكم ما يفديها يوم القيامة.
الرابع: {الكافرون هُمُ الظالمون} حيث وضعوا أنفسهم في غير مواضعها لتوقعهم الشَّفاعة بمن لا يشفع لهم عند الله، لأنهم كانوا يقولون عن الأوثان {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} [يونس: 18] وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] .
الخامس: المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً} [الكهف: 33] أي أعطت فلم تمنع فيكون معنى الآية الكريمة والكافرون هم التاركون للإنفاق في سبيل الله، وأمَّ المسلم فلا بدَّ أن ينفق شيئاً قلَّ أو كثر.
السادس: {والكافرون هُمُ الظالمون} أي هم الكاملون في الظلم البالغون الأمر العظيم فيه. ذكر هذه الوجوه القفال.(4/313)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
اعلم أنَّ عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أن يذكر علم التَّوحيد، وعلم الأحكام، وعلم القصص، فإنَّ الإنسان إذا بقي في النَّوع الواحد، كان يوجب بعض الملال فإذا انتقل من نوع إلى نوع آخر، كان كأنَّه انشرح صدره، وفرح قلبه، فكأنه سافر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، وانتقل من بستان إلى بستان آخر، أو من تناول طعام لذيذ إلى تناول طعام آخر، ولا شكّ أنه يكون ألذَّ، وأشهى، فلمَّا تقدَّم من علم الأحكام وعلم القصص ما رآه مصلحة، ذكر الآن ما يتعلَّق بالتَّوحيد.
قوله تعالى: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي} : مبتدأٌ وخبرٌ وهو مرفوعٌ محمولٌ على المعنى، أي: ما إله إلاَّ هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلاَّ إيَّاه، نصب على الاستثناء.
وقيل: {الله} مبتدأٌ، و {لاَ إله} مبتدأ ثان، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود.
و {الحي} فيه سبعة أوجه:
أحدها: أن يكون خبراً ثانياً للجلالة.
الثاني: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو الحيُّ.(4/313)
الثالث: بدل من موضع: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فيكون في المعنى خبراً للجلالة، وهذا في المعنى كالأول، إلا أنَّه هنا لم يخبر عن الجلالة إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلاف الأول.
الرابع: أن يكون بدلاً من «هُوَ» وحده، وهذا يبقى من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، لأنَّ جملة النَّفي خبرٌ عن الجلالة، وإذا جعلته بدلاً حلَّ محلَّ الأول، فيصير التقدير: الله لا إله إلا الله.
الخامس: أن يكون مبتدأٌ وخبره {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} .
السادس: أنه بدلٌ من «اللهِ» .
السابع: أنه صفة لله، وهو أجودها، لأنه قرئ بنصب «الحيَّ القَيُّومَ» على القطع، والقطع إنَّما هو في باب النَّعت، ولا يقال في هذا الوجه الفصل بين الصِّفة والموصوف بالخبر، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [تقول: قائمٌ العاقلُ] .
و {الحي} فيه قولان:
أحدهما: أن أصله حييٌ بياءين من حيي يحيا فهو حيٌّ، وإليه ذهب أبو البقاء.
والثاني: أنَّ أصله حيوٌ فلامه واو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرِّفة، وهذا لا حاجة إليه، وكأنَّ الذي أحوج هذا القائل إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كون العين، واللام من واد واحدٍ هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه، ولذلك كتبوا «الحَيَاةَ» بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصل، ويؤيده «الحَيَوَانُ» لظهور الواو فيه. ولناصر القول الأول أن يقول: قلبت الياء الثانية واواً تخفيفاً؛ لأنَّه لمَّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثقل المثلان.
وفي وزنه أيضاً قولان:
أحدهما: أنه فعل.
والثاني: أنَّه فيعل فخُفِّف، كما قالوا ميْت، وهيْن، والأصل: هيّن وميّت.
قال السُّدِّيُّ المراد ب «الحَيّ» الباقي؛ قال لبيدٌ: [الطويل]
1175 - فَإِمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً ... فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلاَبٍ وَجَعْفَرِ
وقال قتادة: والحيُّ الذي لا يموتُ والحيُّ اسمٌ من أسمائه الحسنى، ويقال إنه اسم الله الأعظم.(4/314)
وقيل إنَّ عيسى ابن مريم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» .
ويقال: إنَّ آصف بن برخيا، لمَّا أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - دعا بقوله: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» .
ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم «أيا هيا شراهيا» يعني «يا حي يا قيوم» ، ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يا حي يا قيوم وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا هو ساجدٌ يقول «يَا حَيُّ يَا قيُّومُ» ، فترددت مرات، وهو على حاله لا يزيدعلى ذلك إلى أن فتح الله له.
وهذا يدلُّ على عظمة هذا الاسم.
والقيُّوم: فيعولٌ من: قام بالأمر يقوم به، إذا دبَّره؛ قال أميَّة: [الرجز]
1176 - لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ والنُّجُومُ ... وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ
قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ ... وَالحَشْرُ وَالجَنَّةُ والنَّعِيمُ
إلاَّ لأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ ... وأصله «قَيْوُومٌ» ، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصار قيُّوماً.
وقرأ ابن مسعود والأعمش ويروى عن عمر: «الحَيُّ القَيَّام» ، وقرأ علقمة: «القَيِّم» وهذا كما يقولون: ديُّور، وديار، وديِّر. ولا يجوز أن يكون وزنه فعُّولاً ك «سَفُّود» إذ لو كان كذلك؛ لكان لفظه قوُّوماً؛ لأنَّ العين المضاعفة أبداً من جنس الأصليَّة كسُبُّوح، وقُدُّوس، وضرَّاب، وقتَّال، فالزَّائد من جنس العين، فلمَّا جاء بالياء دون الواو؛ علمنا أنَّ أصله فيعول، لا فعُّول، وعدَّ بعضهم فيعولاً من صيغ المبالغة كضروبٍ، وضرَّاب.
قال بعضهم: هذه اللَّفظة عبريَّة؛ لأنَّهم يقولون «حياً قياماً» ، وليس الأمر كذلك؛ لأنا قد بيَّنا أن له وجهاً صحيحاً في اللُّغة.(4/315)
فصل
اعلم أنَّ تفسير الجلالة قد تقدَّم في أوَّل الكتاب، والإله؛ قال بعضهم: هو المعبود، وهو خطأ من وجهين:
الأول: أنه تبارك وتعالى كان إلهاً في الأزل، وما كان معبوداً.
الثاني: أنَّه تعالى أثبت معبوداً سواه في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [الأنبياء: 98] .
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ: وإنما «الإله» هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقاً للعبادة، وأما «الحيُّ» قال المتكلِّمون: هو كلُّ ذاتٍ يصحُّ أن يعلم، ويقدر، واختلفوا في أنَّ هذا المفهوم صفةٌ وجوديَّةٌ أم لا، فقال بعضهم: إنَّه عبارةٌ عن كون الشَّيء بحيث لا يمتنع أنَّه يعلمُ ويقدرُ، وعدم الامتناع صفةٌ موجودة، أم لا؟
قال المحقِّقون: لما كانت الحياة عبارةٌ عن عدم الامتناع، وقد ثبت أنَّ الامتناع أمر عدمي، إذ لو كان وصفاً موجوداً؛ لكان الموصوف به موجوداً، فيكون ممتنع الوجود موجوداً، وهو محالٌ، وإذا ثبت أنَّ الامتناع عدمٌ وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع، وثبت أنَّ عدم العدم: وجودٌ، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة، وهو المطلوب.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ولقائل أن يقول لمّا كان الحيّ أنَّه الذي يصحّ أن يعلم، ويقدر، وهذا القدر حاصلٌ لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات.
والذي عندي في هذا الباب: أنَّ الحيَّ عبارةٌ عن الكامل في نفسه، ولما لم يكن كذلك مقيداً بأنه كاملٌ في هذا دون ذاك دلّ على أنه كاملٌ على الإطلاق.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّه كان يقول: أعظم أسماء الله - تعالى - «الحيّ القيوم» .
روي أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يزيد على ذكره في السجود يَومَ بَدْرٍ.
والقيوم؛ قال مجاهدٌ: القائم على كلِّ شيءٍ وتأويله قائمٌ بتدبير الخلائق في إيجادهم وأرزاقهم.
وقال الكلبيُّ: القائم على كلّ نفس بما كسبت.(4/316)
وقال الضحاك: القيُّوم الدَّائم الوجود الذي يمتنع عليه التغيير.
وقيل: القيُّوم الذي لا ينام، وهذا القول بعيد؛ لأنه يصير قوله - تعالى - {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} تكراراً.
وقال أبو عبيدة: القيُّوم الذي لا يزول.
قوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} في هذه الجملة خمسة أوجه:
أحدها: أنها في محلِّ رفع خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحد أوجه رفع الحيّ.
الثاني: أنَّها خبرٌ عن الله تعالى عند من يجيز تعدُّد الخبر.
الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضَّمير المستكنِّ في «القَيُّومِ» كأنَّه قيل: يقوم بأمر الخلق غير غافل، قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
الرابع: أنها استئناف إخبارٍ، أخبر - تبارك وتعالى - عن ذاته القديمة بذلك.
الخامس: أنها تأكيد للقيُّوم؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيُّوماً، قاله الزَّمخشريُّ، فعلى قوله إنَّها تأكيدٌ يجوز أن يكون محلُّها النصب على الحال المؤكَّدة، ويجوز أن تكون استئنافاً، وفيها معنى التأكيد، فتصير الأوجه أربعةً.
والسِّنة: النُّعاس، وهو ما يتقدَّم النَّوم من الفتور؛ قال عديّ بن الرقاع: [الكامل]
1177 - وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
وهي مصدر وسن يَسِنُ؛ مثل: وَعَد، يَعِد، وقد تقدَّم علة الحذف عند قوله {سَعَةً مِّنَ المال} [البقرة: 247] .
فإن قيل: إذا كانت السِّنة عبارةٌ عن مقدِّمة النَّوم، فقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} يدلُّ على أنَّه لا يأخذه نومٌ بطريق الأولى، فيكون ذكر النَّوم تكراراً.
فالجواب: تقدير الآية: لا تأخذه سنة، فضلاً عن أن يأخذه نومٌ.
وقيل هذا من باب التكميل.
وقال ابن زيد: «الوَسْنَانُ: الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّومِ وهو لا يَعْقِلُ؛ حَتَّى إنَّه رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ على أهْلِهِ» ، وهذا القول ليس بشيء، لأنَّه لاَ يفهم من لغة العرب ذلك، وقال المفضَّل: «السِّنَةُ: ثِقَلٌ في الرَّأْسِ، والنُّعَاسُ في العَيْنَيْنِ، والنَّوْمُ في القَلْبِ» .(4/317)
وكُرّرت «لاَ» في قوله تعالى: {وَلاَ نَوْمٌ} تأكيداً، وفائدتها انتفاء كلِّ واحدٍ منهما، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه نفيُ كلِّ واحدٍ منهما على حدته، ولذلك تقول: «مَا قَامَ زيدٌ، وعمرو، بل أحدهما» ، [ولو قلت: «مَا قَامَ زيدٌ وَلاَ عمْرو، بل أحدهما» ] لم يصحَّ.
فصل في تفسير «الوَسْنَانِ»
والوسنان: بين النَّائم، واليقظان، والنَّوم: هو الثَّقيل المزيل للقوَّة والعقل.
وقيل السِّنة: أوَّل النَّوم، وهو النُّعاس، والنَّوم: غشيةُ ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء.
قيل: إنَّ النَّوم عبارةٌ عن ريح تخرج من أعصاب الدِّماغ فإذا وصلت العينين، حصل النُّعاس، وإذا وصلت إلى القلب، حصل النوم.
فصل
والمعنى: لا يغفل عن شيءٍ دقيقٍ، ولا جليلٍ، فعبَّر بذلك عن الغفلة، لأنه سببها، فأطلق اسم السَّبب على مسببه.
نفى الله - تعالى - عن نفسه النَّوم، لأنَّه آفةٌ وهو منزَّهٌ عن الآفات؛ ولأنَّهُ تغيُّرٌ، ولا يجوز عليه التَّغيُّر.
عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بخمس كلمات، فقال: «إنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ بَالْقِسْطِ، ويَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» .
يروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه حكى عن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى! فأرسل إليه ملكاً فأرَّقه ثلاثاً، ثمَّ أعطاه قارورتين في كلِّ يدٍ واحدة، وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرَّز بجهده ألا ينام، فنام في آخر الأمر، فاطفقت يداه وانكسرت القارورتان فضرب الله - تعالى - ذلك مثلاً له في بيان أنَّه لو كان ينام؛ لم يقدر على حفظ السَّموات والأرض.(4/318)
واعلم أنَّ مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فإن كلَّ من جوَّز النَّوم على الله - تعالى - أو كان شاكاً في جوازه كفر، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى - عليه السَّلام - فإن صحَّت هذه الرواية فالواجب نسبة هذا السُّؤال إلى جهال قومه.
قوله: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} هي كالتي قبلها إلاَّ في كونها تأكيداً، و «ما» للشُّمول، واللاّم في «لَهُ» للملك، وكرَّر «مَا» تأكيداً، وذكرها هنا المظروف دون الظرف؛ لأنَّ المقصود نفي الإلهيَّة عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلاّ هو، لأنَّ ما عبد من دونه في السَّماء كالشَّمس، والقمر، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم، فكلُّهم ملكه تعالى تحت قهره، واستغنى عن ذكر أنَّ السَّموات، والأرض ملكٌ له بذكره قبل ذلك أنه خالق السَّموات والأرض.
فصل
لما كان المراد من هذه الإضافة الخلق، والملك، احتجوا بهذه الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
قالوا: لأنَّ قوله تعالى {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يتناول كل ما في السموات والأرض، وأفعال العباد من جملة ما في السَّموات والأرض، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق.
فإن قيل: لم قال «لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض» ولم يقل من في السموات.
فالجواب: لما كان المراد إضافة كلِّ ما سواه إليه بالمخلوقيّة، وكان الغالب عليه ما لا يعقل، أجرى الغالب مجرى الكلِّ، فعبر عنه بلفظة «مَا» ، وأيضاً فهذه الأشياء إنَّما أسندت إليه من حيث إنَّها مخلوقة، وهي غير عاقلةٍ، فعبر عنه بلفظ «مَا» للتنبيه على أنَّ المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة.
قوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} كقوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} [البقرة: 245] .
قال القرطبيُّ: «مَنْ» رفع بالابتداء، و «ذَا» خبره، و «الَّذِي» نعتٌ ل «ذَا» ، أو بدل ولا يجوز أن تكون «ذا» زائدة كما زيدت مع «مَا» ؛ لأنَّ «ما» مبهمة، فزيدت «ذا» معها لشبهها بها.
و «مَنْ» ، وإن كان لفظها استفهاماً فمعناه النَّفي، ولذلك دخلت «إلاَّ» في قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} .
و «عِنْدَهُ» فيه وجهان:(4/319)
أحدهما: أنَّه متعلِّق بيشفع.
والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف لكونه [حالاً] من الضَّمير في «يَشْفَعُ» ، أي: يشفع مستقراً عنده، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريبٌ منه فشفاعة غيره أبعد وضعَّف بعضهم الحاليَّة بأنَّ المعنى: يشفع إليه.
و {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} متعلِّققٌ بمحذوف، لأنَّه حال من فاعل، «يَشْفَع» فهو استثناءٌ مفرَّغ، والباء للمصاحبة، والمعنى: لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له منه، ويجوز أن يكون مفعولاً به، أي: بإذنه يشفعون كما تقول: «ضَرَب بِسَيْفِهِ» ، أي: هو آلةٌ للضَّرب، والباء للتعدية.
و «يَعْلَمُ» هذه الجملة يجوز أن تكون خبراً لأحد المبتدأين المتقدمين، أو استئنافاً، أو حالاً. والضَّمير فِي «أيْدِيهم» و «خَلْفَهُم» يعود على «مَا» في قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلا أنَّه غلَّب من يعقل على غيره. وقيل: يعود على العقلاء ممَّن تضمَّنه لفظ «ما» دون غيرهم. وقيل: يعود على ما دلَّ عليه «مَنْ ذَا» من الملائكة والأنبياء. وقيل: من الملائكة خاصّةً.
فصل
قال مجاهدٌ وعطاءٌ والسديُّ: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما كان قبلهم من أمور الدُّنيا «وَمَا خَلْفَهُم» ما يكون خلفهم من أمور الآخرة بعدهم.
وقال الضَّحَّاك والكلبي: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» يعني الآخرة؛ لأنَّهم يقدمون عليها. «وَمَا خَلفَهُمْ» يعني الدُّنيا؛ لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم.
وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاس: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم» من السماء إلى الأرض «وَمَا خَلْفَهُم» يريد ما في السَّموات.
وقال ابن جريج: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» : مضيّ آجالهم «وما خَلْفَهُم» : ما يكون بعدهم.
وقال مقاتل: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ» ما كان قبل الملائكة. «وَمَا خَلْفَهُم» أي: ما كان بعد خلقهم.
وقيل: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما قدموا من خير وشر «وَمَا خَلْفَهُمْ» ما هم فاعلوه.(4/320)
والمقصود من هذا الكلام: أنَّه عالم بأحوال الشَّافع، والمشفوع له، فيما يتعلَّق باستحقاق الثَّواب والعقاب؛ لأنَّه عالمٌ بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيءٌ والشُّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنَّ لهم من الطَّاعة ما يستحقُّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله، ولا يعلمون أنَّ الله هل أذن لهم في تلك الشَّفاعة، أم لا.
قوله: {بِشَيْءٍ} متعلِّقٌ ب «يحيطون» . والعلم عنا بمعنى المعلوم؛ لأنَّ علمه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاته المقدَّسة لا يتبعَّض، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا» وحديث موسى، والخَضِر - عليهما الصَّلاة والسَّلام - «مَا نَقَص علمي وعلمُك من علمه إلاَّ كَمَا نقص العُصْفُورُ من هذا البَحْر» ولكون العلم بمعنى المعلوم، صحَّ دخول التَّبعيض، والاستثناء عليه. و «مِنْ عِلْمِهِ» يجوز أن يتعلَّق ب «يحيطون» ، وأن يتعلَّق بمحذوف لأنه صفة لشيء، فيكون في محلِّ جر. و «بمَا شَاءَ» متعلِّقٌ ب «يحيطون» أيضاً، ولا يضرُّ تعلُّق هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأول، بإعادة العامل بطرق الاستثناء، كقولك: «مَا مَرَرْتُ بأحدٍ إلاَّ بِزَيْدٍ» ، ومفعول «شَاءَ» محذوفٌ تقديره: إلا بما شَاءَ أن يحيطوا به، وإنما قدَّرته كذلك لدلالة قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} .
فصل
هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النَّبيين، والصِّديقين والشهداء والصالحين.
وفي معنى الاستثناء قولان:
أحدهما: أنَّهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} [البقرة: 32] .
الثاني: أنَّهم لا يعلمون الغيب إلاَّ بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26 - 27] .
قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} : الجمهور على «وَسِعَ» بفتح الواو وكسر السِّين وفتح العين فعلاً ماضياً.
و «كُرْسِيُّه» بالرَّفع على أنَّه فاعله، وقرئ «وَسْعَ» سكَّن عين الفعل تخفيفاً نحو: عَلْمَ في عَلِمَ. وقرئ أيضاً: «وَسْعُ كُرْسِيِّه» بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء، و «كُرْسِيِّه» خفضٌ بالإضافة «السَّمَوَاتُ» رفعاً على أنه خبر للمبتدأ.(4/321)
واعلم أنه يقال: وَسِعَ فلاناً الشَّيء يَسعهُ سَعَةً إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به، ولا يسعك هذا أي: لا تطيقه ولا تحتمله، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي» أي: لا يحتمل غير ذلك.
والكُرْسِيُّ: الياء فيه لغير النَّسب، واشتقاقه من الكِرْسٍ، وهو الجمع؛ ومنه الكُرَّاسة للصَّحائف الجامعة للعلم؛ ومنه قول العجَّاج: [الرجز]
1178 - يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا؟ ... قَالَ: نَعَمْ، أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وقيل: أصله من تراكب الشَّيء بعضه على بعض، ومنه الكرس أبوال الدَّوابِّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض. [وأكرست الدَّار: إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها، وتلبَّد بعضها فوق بعض] ، وتكارس الشَّيء: إذا تركب ومنه الكرَّاسة، لتركب بعض الأوراق على بعضٍ. و «الكُرْسِيُّ» هو هذا الشَّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعضٍ.
وجمعه كراسيّ كبُخْتِيّ وبَخَاتِيّ، وفيه لغتان: أشهرهما ضمُّ كافه، والثانية كسرها، وقد يعبَّر به عن الملك؛ لجلوسه عليه، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ؛ ومنه: [الرجز]
1179 - قَدْ عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ ... أَنَّ أَبَا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
في مَعْدِنِ المَلْكِ القَدِيمِ الكُرْسِي ... وعن العلم؛ تسميةً للصفة باسم مكان صاحبها؛ ومنه قيل للعلماء: «الكَرَاسِيّ» ؛ قال القاتل: [الطويل]
1180 - يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ ... كَرَاسِيُّ بِالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور، ونوازلها؛ ويعبَّر به عن السَّرِّ، قال: [البسيط]
1181 - مَا لِي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ ... وَلاَ بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللهُ - مَخْلُوقِ
وقيل: الكرسيُّ لكلِّ شيء: أصله.
فصل في حقيقة «الكُرْسِيّ»
واختلفوا فيه على أربعة أقوال:(4/322)
أحدها: أنَّه جسم عظيم يسع السَّموات، والأرض قال الحسن: هو العرش نفسه.
وقال أبو هريرة: الكرسيُّ: موضوعٌ أمام العرش ومعنى قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} أي: سعته مثل سعة السَّموات والأرض.
وقال السُّدِّيُّ: إنَّه دون العرش، وفوق السَّماء السَّابعة، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسيّ كحلقة في فلاةٍ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاةٍ.
وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسيُّ: موضع القدمين فمن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع القدمين لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح.
وثانيها: أنَّ «الكرسي» هو السُّلطان، والقدرة، والملك.
ثالثها: هو العلم، لأنَّ العلم هو الأمر المعتمد عليه «والكُرْسِيُّ» هو الشَّيء الذي يعتمد عليه، وقد تقدَّم هذا.
ورابعها: ما ختاره القفَّال وهو: أنَّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه؛ لأنَّه خاطب الخلق في تعريف ذاته، وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم، وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتاً له يطوف النَّاس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر النَّاس بزيارته، كما يزورون بيوت ملوكهم.
وذكر في الحجر الأسود: «أنَّهُ يمين اللهِ في أَرْضِهِ» وجعله موضوعاً للتقبيل كما(4/323)
يقبل الناس أيضاً أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشُّهداء، ووضع الميزان، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه العرش في قوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] ووصف العرش بقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} [هود: 7] ثم قال: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75] ثم قال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] وقال: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] ، وكذلك إثبات الكرسيّ.
وقال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا جوابٌ مبيّن إلاَّ أنَّ المعتمد هو الأوَّل، وأنَّ ترك الظَّاهر بغير دليل لا يجوز.
قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} يقال: آده كذا، أي: أثقله، ولحقه منه مشقَّةٌ؛ قال القائل: [الطويل]
1182 - أَلاَ مَا لِسَلْمَى اليَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا ... وَضَنَّتْ وَمَا كَانَ النَّوَالُ يُؤُودُها
أي: يثقلها، ومنه الموءودة للبنت تدفن حيّة، لأنَّهم يثقلونها بالتُّراب. وقرئ: «يَوْدُهُ» بحذف الهمزة، كما تحذف همزة «أُنَاسٍ» ، وقرئ «يُوُودُهُ» بإبدال الهمزة واواً.
و «حِفْظ» : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي: لا يَئُودُهُ أن يحفظهما.
و «العَلِيُّ» أصله: «عَلْيِوٌ» ، فأُدْغِمَ؛ نحو: مَيِّتٍ؛ لأنَّه من علا يعلو؛ قال القائل في ذلك البيت: [الطويل]
1183 - فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ
فصل في المراد بالعلو
والمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن التحيز والعلي والعالي القاهر الغالب للأشياء تقول العرب: علا فلان فلاناً أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر: [الطويل](4/324)
1184 - فَلَمَّا عَلَوْنَا ... ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
البيت المتقدِّم، وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض}
[القصص: 4] .
قال ابن الخطيب: لو كان علوُّه بالمكان لكان متناهياً؛ فإنَّ الجزء المفروض فوقه، أعلى منه، فلا يكون عليّاً مطلقاً، وإن كان غير متناه، وقد دلَّت البراهين اليقينيَّة على استحالة بعدٍ غير متناهٍ.
وأيضاً فلو فرضنا في ذلك نقطاً غير متناهية، فإن لم يحصل فوق تلك النّقط نقطة، أخرى، وكانت تلك النُّقطة طرفاً، لذلك البعد، فيكون متناهياً، وإن لم يوجد في ذلك البعد سفلاً فلا يكون فيها ما هو فوق على الإطلاق، وذلك ينفي حصول العلوّ المطلق، ولأنَّ العالم كرة، فكل علوّ بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض هو سفل بالنسبة للوجه الثاني، فينقلب العلوُّ سفلاً، ولأن لو كان علُّوه بالمكان، لكان حصول العلوّ للمكان بالذَّات، والله تعالى بالعرض، وما بالذات أشرف منها بالعرض، فيكون علوُّ المكان أشرف من علوِّه سبحانه، وذلك باطلٌ.
و {العظيم} تقدَّم معناه، وقيل: هو هنا بمعنى المعظَّم؛ كما قالوا: «عَتِيقٌ» بمعنى: مُعَتَّق؛ قال القائل: [الخفيف]
1185 - فَكَأَنَّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإِسْ ... فَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلاَلِ
قيل: وَأُنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف. وقيل في الجواب عنه: إنَّه صفة فعلٍ، كالخلق، والرِّزق، والأوَّل أصحُّ.
قال الزَّمخشريُّ: «فإنْ قلت: كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الجُملُ في آية الكرسيّ من غير حَرْفِ عطفٍ؟ قلت: ما منها جملةٌ إلاَّ وهي واردةٌ على البيان لما ترتَّبت عليه، والبيان متَّحدٌ بالمبيَّن، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب:» بَيْنَ العَصَا وَلِحَائِهَا «فالأولى بيانٌ لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه، والثانية لكونه مالكاً لما يدبِّره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم، المستوجب للشَّفاعة وغير المرتضى، والخامسة لسعة علمه، وتعلُّقه بالمعلومات كلِّها، أو لجلاله وعظم قدرته» انتهى. يعني غالب الجمل وإلاَّ فبعض الجمل فيها معطوفة وهي قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ} ، وقوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ} وقوله {وَهُوَ العلي العظيم} .(4/325)
فصل في فضل هذه الآية
في فضل هذه الآية الكريمة روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «ما قُرِئَت هذه الآية في دَارٍ إلاَّ اهْتَجَرَهَا الشَّيْطَانُ ثَلاَثِينَ يَوْماً، ولاَ يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلاَ سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» .
وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: سمعت نبيَّكم على أعواد المنبر وهو يقول: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ، لم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّة إِلاَّ المَوْتُ، ولا يواظب عليها إلاَّ صدّيق، أو عابدٌ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه؛ أمَّنه الله على نفسه وجاره، وجار جاره، والأبيات التي حوله» .
وتذاكر الصَّحابة أفضل ما في القرآن، فقال لهم عليٌّ: أين أنتم من آية الكرسيّ قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَا عَلِيُّ سَيِّدُ البَشَرِ آدَمُ، وسَيِّدُ العَرَبِ مُحَمَّدٌ، وَلاَ فَخْرَ، وَسَيِّدُ الكَلاَمِ القُرْآنُ، وسَيِّد القُرْآنِ البَقَرَةُ وسَيِّدُ البَقَرَةِ آيةُ الكُرْسِيّ»
وعن أبيّ بن كعبٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَا أبا المنذر؛ أيُّ آيةٍ في كِتَابش اللهِ أعْظَم» ؟ قلت: اللهُ لا إله إلاَّ هو الحيُّ القَيُّومُ، قال: فضرب صدري ثم قال: «ليَهْنِكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ» ثم قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ لهذه الآية لِسَاناً وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ سَاقِ العَرْشِ» .
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «وكلني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحفظ زَكَاةِ رمضان فأتاني آت، فجعل يحثو من الطَّعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: [إنّي محتاج، ولي عيالٌ، ولي حاجة شديدةٌ قال: فخلّيت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] » يا أبا هريرة مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ «؛ قلت يا رسول الله؛ شَكَا حَاجَةً شديدة، وعيالاً؛ فرحمته، فخلَّيت سبيله. قال:» أَمَا إِنَّهُ قَدُ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ «فعرفت أنه سيعود، بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرصدته، فجاء يحثو من الطَّعام، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: دعني فإنِّي محتاج ولي عيال ولا أعود فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة «قلت: يا رسول الله شكا حاجةً،(4/326)
وعيالاً فرحمته وخلَّيت سبيله قال:» أمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وسيعود «فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه سيعود فرصدته الثالثة: فجاء يحثو من الطَّعام؛ فأخذته، فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم ألاَّ تعود، ثم تعود قال: دعني أُعلّمك كلمات، ينفعك الله بها، قلت: ما هي قال: إذا أَوَيْتَ إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسيّ {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} حتى تختم الآية، فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطانٌ، حتّى تصبح، فخلَّيت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَا فَعَلْتَ بِأَسِيركَ البَارِحَةَ؟ قلت: يا رسول الله - عليك الصَّلاة والسَّلام - زَعَمَ أنَّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخلّيت سبيله - قال: ما هي قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أولها، حتى تتمّ الآية، وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان، حتى تصبح، وكانوا أحرص شيءٍ على الخير، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ، وهو كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِب منذ ثَلاَث لَيَالٍ يا أبا هُرَيْرَةَ؟ «قلت: لا، قال:» ذَلِكَ شَيْطَانٌ «.(4/327)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} : كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وقد تقدَّم. وأل في «الدِّين» للعهد، وقيل: عوضٌ من الإضافة أي «في دِينِ اللهِ» لقوله تعالى: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] ، أي: تأوي.
والجمهور على إدغام دال «قَد» في تاء «تَبَيَّن» ؛ لأنها من مخرجها.
والرُّشد: مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمِّها، ومعناه في اللُّغة، إصابة الخير. وقرأ الحسنُ «الرُّشُد» بضمتين كالعنق، فيجوز أن يكون هذا أصله، ويجوز أن يكون إتباعاً، وهي مسألة خلاف أعني ضمَّ عين الفعل. وقرأ أبو عبد الرحمن الرَّشد بفتح الفاء والعين، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها، وروي عن أبي عبد الرَّحمن أيضاً: «الرَّشَادُ» بالألف.
ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام. قال الزَّجَّاج: «لاَ تَنْسُبوا إلى الكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرِهاً» ، يقال: «أَكْفَرَهُ» نسبه إلى الكفر؛ قال: [الطويل](4/327)
1186 - وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُوني بِحُبِّهِمْ ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيٌ وَمُذنِبُ
قوله: {مِنَ الغي} متعلِّقٌ بتبيَّن، و «مِنْ» للفصل، والتمييز كقولك: ميَّزت هذا من ذاك. وقال أبو البقاء: «في موضع على أنَّه مفعولٌ» وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ معنى كونه مفعولاً به غير لائقٍ بهذا المحلِّ. ولا محلِّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لأنَّها استئنافٌ جارٍ مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين.
والتّبيين: الظهور والوضوح، بان الشَّيء، واستبان، وتبيَّين: إذا ظهر ووضح ومنه المثل: تَبَيَّنَ الصُّبح لذي عينين.
قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الإيضاح، والتعريف، إنَّما سمِّي بياناً؛ لأنَّه يوقع الفصلة، والبينونة بين المقصود وغيره.
والغيُّ: مصدر غوى بفتح العين قال: {فغوى} [طه: 121] ، ويقال: «غَوَى الفَصِيلُ» إذا بَشِمَ، وإذا جاع أيضاً، فهو من الأضداد. وأصل الغيّ: «غَوْيٌ» فاجتمعت الياء والواو، فأُدغمت نحو: ميّت وبابه.
والغيُّ: نقيض الرُّشد: يقال: غَوَى يَغْوِي، غيّاً، وغَوَايَةٌ إذا سلك خلاف طريق الرُّشد.
فصل في معنى «الدِّين» في الآية
قال القرطبيُّ: المراد «بالدِّينِ» في هذه الآية الكريمة المعتقد، والملة بدليل قوله {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} .
قال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة، لا يعيش لها ولد، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديَّة. فلمَّا جاء الإسلام، وفيهم منهم، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عددٌ من أولاد الأنصار، فأرادت الأنصار استردادهم، وقالوا: أبناؤنا وإخواننا، فنزلت: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فإن اخْتَارُوكم فهم منكم، وإن اخْتَارُوهم، فأجلوهم مَعَهمْ» .
وقال مجاهد: كان ناسٌ مسترضعين في اليهود من الأوس، فلما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم،(4/328)
فمنهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين ...
} .
وقال مسروقٌ: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصّران قبل مبعث النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قدما المدينة في نفر من النَّصارى يحملون الطَّعام فلزمهما أبوهما، وقال لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «يَا رَسُولَ الله أَيَدْخُلُ بعضي النَّار وأنا أَنْظُرُ، فأنزل الله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ، فخلى سبيلهما.
وقال قتادة وعطاء: نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أنَّ العرب كانت أُمَّة أمّية لم يكن لهم كتاب، فلم يقبل منهم إلاَّ الإسلام، فلما أسلموا طوعاً، أو كرهاً؛ أنزل الله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ؛ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا، أو يقرُّوا بالجزية، فمن أعطى منهم الجزية، لم يكره على الإسلام.
وقال ابن مسعود كان هذا في ابتداء الإسلام، قبل أن يؤمر بالقتال، فصارت منسوخة بآية السَّيف. ومعنى {تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} ، أي: تميَّز الحقّ من الباطل، والإيمان من الكفر، والهدى من الضّلالة بالحجج والآيات الظَّاهرة.
قوله: {بالطاغوت} متعلِّقٌ ب» يَكْفر «، والطاغوت بناء مبالغةٍ كالجبروت والملكوت. واختلف فيه، فقيل: هو مصدرٌ في الأصل، ولذلك يوحَّد ويذكَّر، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان، وهذا مذهب الفارسيّ، وقيل: هو اسم جنس مفردٍ، فلذلك لزم الإفراد والتَّذكير، وهذا مذهب سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ. وقيل هو جمعٌ، وهذا مذهب المبرّد، وهو مؤنّث لقوله تعالى {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257] قال أبو علي الفارسي: وليس الأمر كذلك، لأن» الطَّاغُوتَ «مصدر كالرّغبوت، والرَّهبوت، والملكوت، فكما أنَّ هذه الأسماء آحاد، كذلك هذا الاسم مفردٌ، وليس بجمع ومما يدلّ على أنَّه مصدر مفرد وليس بجمع قوله تبارك وتعالى: {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} ، فأفرد في موضع الجمع، كما يقال هم رضاً، وهم عدل انتهى. وهو مؤنَّث لقوله تعالى {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] .(4/329)
وأجاب من ادَّعى التّذكير عن هذا الاستدلال بأنَّه إنما أنَّث هنا؛ لإرادة الآلهة وقال آخرون: ويكون مذكراً، ومؤنثاً، وواحداً وجمعاً قال تعالى في المذكر والواحد: {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60] قوال في المؤنث: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] وقال في الجمع: {يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات} [البقرة: 257] . واشتقاقه من طغَى يَطْغَى، أو من طَغَا يَطْغُو، على حسب ما تقدَّم أول السورة، هل هو من ذوات الواو أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التّقديرين، فأصله طَغَيُوت، أو طَغَوُوت لقولهم:» طُغْيان «في معناه، فقلبت الكلمة بأن قدِّمت اللاّم وأُخِّرت العين، فتحرَّك حرف العلَّة، وانفتح ما قبله فقلب ألفاً، فوزنه الآن فلعوت، وقيل: تاؤه ليست زائدةً، وإنَّما هي بدلٌ من لام الكلمة، ووزنه فاعول من الطُّغيان كقولهم» حانوت «، و» تابوت «، والتاء فيهما مبدلة من» هَا «التأنيث.
قال مكي «وقد يجُوز أن يكون أصلُ لامه واواً، فيكون أصله طغووتاً؛ لأنه يقال: طَغَى يَطْغى ويَطْغو، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ، ومثله في القلب والاعتلال، والوزن: حانوت؛ لأَنَّه من حَنا يحنو وأصله حَنَووت، ثم قُلِب وأُعِلَّ، ولا يجوزُ أن يكونَ من: حانَ يَحِين لقولهم في الجمعِ حَوانيت» انتهى قال شهاب الدين: كأنَّه لمَّا رأى أنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه، وتُخَمَة، وتُراث، وتُكَأة، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً، وهذا ليس بشيءٍ.
وقدَّم ذِكْرَ الكفر بالطَّاغوت على ذِكْرِ الإِيمان باللهِ - تعالى - اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطَّاغوتِ، وناسبَهَ اتصالُهُ بلفظ «الغَيّ» .
فصل في المراد بالطاغوت
واختلف في الطَّاغوت فقال عمر، ومجاهدٌ، وقتادة: هو الشَّيطان.
وقال سعيد بن جبير: هو الكاهن. وقال أبو العالية: هو الساحر. وقال بعضهم: الأَصنام.
وقيل مردة الجنّ والإنس، وكلُّ ما يطغى الإِنسان.(4/330)
وقيل: الطَّاغُوتُ هو كلّ ما عُبِدَ مِنْ دون الله، وكان راضياً بكونه معبُوداً، فعلى هذا يكُونُ الشَّيطان والكهنة، والسَّحرة، وفرعون والنمروذ كلُّ واحد منهم طاغوتاً؛ لأنهم راضون بكونهم معبودين وتكونُ الملائكة، وعزير، وعيسى ليسوا بطواغيت، لأنهم لم يرضوا بأن يكونوا معبودين.
قوله: {وَيْؤْمِن بالله} عطف على الشَّرط وقوله {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} جواب الشَّرط، وفيه دليل على أنَّهُ لا بدّ للكافر من أن يتوب عن الكفر، ثم يؤمنُ بعد ذلك.
وفيه دليل على أَنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح؛ لأنَّهُ قدّم الكُفر بالطَّاغوت [على الإيمان باللهِ اهتماماً به فإن قيل الإيمان باللهِ مستلزم لِلْكُفر بالطَّاغُوت.
قلنا: لا نسلم، قد يكفر بالطَّاغوت] ولا يؤمن بالله واستمسك أي: استمسك واعتصم {بالعروة الوثقى} أي العقد الوثيق المحكم في الدِّين.
و «العُرْوَة» : موضعُ شَدِّ الأَيدي، وأصلُ المادّةِ يَدُلُّ على التَّعلُّق، ومنه: عَرَوْتُه: أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً، وَاعتراه الهَمُّ: تعلَّق به، و «الوُثْقى» : فُعْلى للتفضيل تأنيث الأوثق، كفُضْلى تأنيث الأفضل، وجمعُها على وُثَق نحو: كُبْرى وكُبَر، فأمَّا «وُثُق» بضمّتين فجمع وَثيق. وهذا استعارة المحسُوس للمعقول؛ لأَنَّ من أراد إمساك هذا الدِّين تعلّق بالدلائل وأوضحها الدّالة عليه، ولما كانت دلائِلُ الإِسلام أقوى الدَّلائل وأوضحها وصفها الله تبارك وتعالى بأَنَّها العروة الوثقى.(4/331)
قال مجاهِدٌ: «العُرْوَةُ الوثقى» الإيمان.
وقال السُّدِّي: الإِسلام.
وقال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير والضحاك: لا إِله إلاَّ الله.
قوله: {لاَ انفصام لَهَا} كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن تكونَ استئنافاً، فلا مَحَلَّ لها حينئذٍ.
والثاني: أنها حالٌ من العُرْوة، والعاملُ فيها «اسْتَمْسَكَ» .
والثالث: أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في «الوُثْقَى» . و «لها» في موضعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائنٌ لها. والانفصامُ - بالفَاءِ - القَطْعُ من غير بَيْنُونة، والقصمُ بالقافِ قَطْعُ بينونةٍ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ.
والمقصودُ من هذا اللَّفظ المُبالغةُ؛ لأَنَّهُ إذا لم يكن لها انفِصَام، فأن لا يكون لها انقطاع أولى، ومعنى الآية: بالعُرْوَة الوثقى التي لا انفصام لها، والعرب تُضْمِرُ «الَّتي» و «الذي» و «مَن» وتكتفي بصلاتها منها.
قال سلامة بن جندل: [البسيط]
1187 - وَالعَادِيَاتُ أَسَالِيُّ الدِّمَاءِ بِهَا ... كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أَنْصَابُ تَرْجِيبِ
يريد والعاديات التي قال تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي من له.
قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيه قولان:
أحدهما: أنَّهُ تعالى يسمع قول من يتكلم بالشَّهادتين، وقول من يتكلَّم بالكُفْر، ويعلمُ ما في قلب المؤمِنِ من الاعتقاد الطاهر، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث.
الثاني: روى عطاء عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يحب إسلام أهل الكِتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة، وكان يَسْأَلُ الله ذلك سِرّاً، وعلانية، فمعنى قوله {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يريدُ لدعائك يا محمَّد عليم بحرصك واجتهادك.(4/332)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
«الوليّ» فعيل بمعنى: فاعل من قولهم: ولي فلان الشَّيء يليه ولاية، فهو وَال وولى، وأصله من الوَلْي الَّذي هو القُرْبُ؛ قال الهُذليُّ: [الكامل]
1188 - ... ... ... ... ... ... ... ..... وَعَدَتْ عَوَادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ
ومنه يقال داري تلي دارها، أي: تقرب منها ومنه يُقالُ للمحبّ المقارب ولي؛ لأَنَّهُ يقرب منك بالمحبَّةِ والنُّصرة، ولا يفارقك، ومنه الوالي؛ لأَنَّه يلي القوم بالتَّدبير والأمر والنّهي، ومنه المولى، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية: العداوة من عدا الشَّيء: إذا جاوزه، فلأجل هذا كانت العَدَاوةُ خلاف الوِلاَية ومعنى قوله تبارك وتعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} ، أي: ناصرهم ومعينهم، وقيل: مُحبهم.
وقيل: متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره.
وقال الحسنُ: ولي هدايتهم.
قوله: {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} ، أي: من الكُفْرِ إلى الإيمان.
قال الواقدي: كلّ ما في القرآن من الظُلُماتِ، والنور فالمرادُ منه: الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] فالمراد منه اللَّيل والنَّهار، سُمي الكفر ظُلمة لالتباس طريقه، وسُمي الإسلام نُوراً، لوضوح طريقه.
وقال أَبو العبَّاس المُقْرىءُ «الظُّلُمَات» على خمسة أوجه:
الأول: «الظُّلُمَاتُ» الكفر كهذه الآية الكريمة.
الثاني: ظُلمة اللَّيلِ قال تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} يعني اللَّيل والنهار.
الثالث: الظُّلُمَات ظلمات البر والبحر والأهوال قال تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر} [الأنعام: 63] أي من أهوالهما.
الرابع: «الظُّلُمَات» بطون الأُمَّهات، قال تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} [الزمر: 6] يعني المشيمة والرحم والبطن.
الخامس: بطنُ الحُوتِ قال تعالى: {فنادى فِي الظلمات} [الأنبياء: 87] أي في بطنِ الحوت.(4/333)
فصل في سبب النُّزولِ
ظاهر الآية يقتضي أنهم كانُوا في الكفر، ثم أخرجهم اللهُ تعالى من ذلك الكُفْرِ إلى الإِيمان، وها هنا قولان:
الأول: أَنَّ هذه الآية مختصَّةٌ بمن كان كافراً، ثم أَسلم، وذكر في سبب النُّزول روايات:
أحدها: قال مجاهدٌ: نزلت هذه الآية في قوم آمنوا بعيسى، وقوم كفروا به، فلما بعث اللهُ سبحانه وتعالى محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى.
وثانيتهما: أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - على طريقة النَّصَارى، ثم آمنوا بعده بمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقد كان إِيمانهم بعيسى حين آمنوا به كفراً، وظلمةً، لأَنَّ القول بالاتِّحاد كفرٌ باللهِ تعالى، أخرجهم من تِلْكَ الظُّلمات إلى نور الإِسلامِ.
وثالثتها: أنها نزلت في كُلِّ كافر أسلم وآمن بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
القول الثاني: أَنْ يحمل اللَّفظ على كُلِّ مَنْ آمن بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سواء كان ذلك الإيمان بعد كُفْرٍ، أو لم يكن؛ لأنه إخراج من ظُلُمات الكفر إلى نور الإِسلامِ؛ لقوله تعالى:
{وَكُنْتُمْ
على
شَفَا
حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} [آل عمران: 103] ومعلومٌ أَنهم ما كانوا في النار أَلْبَتَّةَ، وقال في قِصَّة يُوسُف عليه الصَّلاة والسَّلام {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 37] ولم يكن فيها قطّ، وسمي النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنساناً يقولُ: أشهد ألا إله إِلا الله، فقال: «عَلَى الفِطْرَةِ» ، فلما قال: أشهَدُ أَنَّ محمداً رسول اللهِ قال: «خَرَجَ مِنَ النَّارِ» ، ومعلوم أنه ما كان فيها.
روي أنه عليه السَّلامُ أقبل على أَصحابه، فقال «تَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ تَهَافُتَ الجَرَادِ، وَهَا أَنَا آخِذٌ بِحُجزِكُم» ومعلوم أَنَّهم ما كانوا متهافتين في النَّارِ.
فصل
استدلَّ بعضُ العُلماء بهذه الآية على أَنَّ الغاية تدخل في المُغيَّا. لقوله تعالى على لسانه -(4/334)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» فلو لم يدخلون في النُّور لم يخرجهم من الظُّلمات إِلى النُّور، ولو لم تدخل الغايةُ في المُغيّا، لما أدخلوهم في النُّور.
فصل
فإن قيل: هذه الآية صريحة في أَنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي أخرج الإِنسان من الكُفْر، وأدخله في الإيمان، فيلزمُ أن يكون الإِيمانُ بخلق الله تعالى؛ لأَنَّهُ لو حصل بخلق العبد، لكان العبدُ هو الذي أخرجَ نفسهُ من الكُفر إلى الإِيمان وذلك يناقض صريح الآية.
أَجَاب المعتزلةُ بأَنَّ هذا محمولٌ على نصبِ الأَدلَّةِ وإِرسال الأنبياء، وإِنزالِ الكُتُبِ، والتَّرغيب في الإِيمانِ، والتَّحذير عن الكُفْرِ بأقصى الوجوه:
قال القاضي: وقد نَسَبَ اللهُ الإِضلال إِلى الصَّنَم بقوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} [إبراهيم: 36] ، لأجل أَنَّ الأَصْنَامَ سبب بوجه ما لضلالهم، فبأن يضاف الإِخراج من الظُّلمات إلى النُّور إلى الله تعالى مع قوَّةِ الأسبابِ التي فعلها بمن يؤمن أولى.
والجواب: من وجهين:
أحدهما: أَنَّ هذا حمل للَّفظ على خلاف حقيقته.
الثاني: أَن هذه التَّرغيبات إِنْ كانت مؤثرة في ترجيح الدَّاعية، صار الرَّاجح واجباً والمرجوح ممتنعاً، وحينئذٍ يبطلُ قولهم، وإن لم تؤثر في التَّرجيح لم يصحّ تسميتها بالإِخراج.
قوله تعالى: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} : «الذين» مبتدأ أولُ، وَأَوْلياؤهم مبتدأ ثانٍ، وَالطَّاغُوتُ: خبرهُ، والجملةُ خبرُ الأَوَّلِ. وقرأ الحسنُ «الطَّوَاغيت» بالجمع، وإن كان أصلُه مصدراً؛ لأنه لمَّا أطلق على المعبود مِنْ دُونِ الله اختلفَت أنواعهُ، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضميرِ مَجْمُوعاً من قوله: «يُخْرِجونهم» .
قوله: «يُخْرِجونهم» هذه الجُملة وما قبلها من قوله: «يُخْرِجُهم» الأحسنُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ، لأَنَّهُمَا خَرَجا مخرجَ التفسير للولاية، ويجوزُ أن يكونَ «يُخْرِجُهم» خبراً ثانياً لقوله: «الله» وَأَنْ يكونَ حالاً من الضَّمير في «وليُّ» ، وكذلك «يُخْرِجُونَهُم» والعاملُ في الحالِ ما في معنى الطَّاغُوتِ، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسيُّ في قوله تعالى:
{نَزَّاعَةً للشوى} [المعارج: 16] إنها حالٌ العاملُ فيها «لَظَى» وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى و «مَنْ» [و] «إِلى» مُتعلِّقان بفعلي الإِخراج.(4/335)
فإن قيل كيف قال «يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلى الظُّلماتِ» وهم كفارٌ لم يكونوا في نور قطّ.
فالجواب هم اليهود كانوا مؤْمنين بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أنْ يُبعث لما يجدون في كتبهم من نعته، فلما بُعث كَفَرُوا به.
وقال مُقاتلٌ: يعني كعب بن الأَشرف وحيي بن أخطب، وسائر رؤوس الضلالة؛ «يُخْرِجُونَهُم» يدعونهم.
وقيل هو على العُموم في حقِّ جميع الكُفَّار، وقالوا: منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج، كما يَقُولُ الرَّجُل لأبيه أخرجتني من مالك، ولم يكن فيه، ولما قدَّمنا في التي قبلها.
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجت المعتزلةُ بهذه الآية الكريمة على أَنَّ الكُفْر ليس من الله تعالى، قالوا: لأنه تعالى أضافه إلى الطَّاغوت لا إلى نفسه.
وأُجيبوا بأَنَّ إسناد هذا إلى الطَّاغُوت مجاز بالاتفاق بيننا وبينكم؛ لأن المراد ب «الطَّاغُوت» على أظهر الأقوال هو الصَّنَمُ، وإذا كانت هذه الإضافة مجازية بالاتفاق، خرجت عن أن تكُون حجة لكم.
قوله: {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يحتمل أَنْ يرجع ذلك إلى الكُفَّار فقط ويحتمل أَنْ يرجع إلى الكُفَّار والطَّواغيت معاً.(4/336)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
تقدَّم الكلامُ في {أَلَمْ تَرَ إِلَى} في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243] قال القرطبيّ: وهذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التَّعجب، أي: أعجبوا له قال الفرَّاء: «أَلَمْ تَرَ» ، بمعنى: هل رأيتَ الَّذي حاجَّ إبراهيم، وهل رأَيْتَ الَّذي مرَّ على قرية؟
وقرأ عليٌّ رضي اللهُ عنه: بِسُكون الرَّاء وتقدَّم أيضاً توجيهها. والهاءُ في «رَبِّهِ» فيها قولان:
أظهرهما: أنها تعود على «إبراهيم» .(4/336)
والثاني: على «الَّذِي» ، ومعنى حاجَّه: أظهرَ المغالبة في حجته.
فصل
أعلم أَنَّه تعالى ذكر ها هنا قصصاً ثلاثاً.
الأولى: في بيان إِثبات العالم بالصَّانع، والثانية والثالثة: في إثبات الحشرِ والنَّشرِ والبعث.
فالأولى مناظرة إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع ملك زمانِهِ، وهي هذه.
قال مجاهِدٌ هو النُّمروذُ بن كنعانَ بن سام بن نُوح، هو أول من وضع التَّاجَ على رأسه، وتجبر وادَّعى الرُّبوبية؛ حاجَّ إبراهيم أي: خاصمَهُ وجادله، واختلفوا في وقتِ هذه المحاجَّةِ. فقال مقاتل: لمّا كسَّرَ الأَصنامَ سجنه النمروذ، ثم أخرجه ليحرقهُ فقال [له] : من رَبُّكَ الذي تَدعُونا إليه؛ فقال: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} .
وقال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النَّار.
وقال قتادةُ: هو أَوَّلُ من تَجَبَّرَ، وهو صاحب الصَّرح ببابل.
وقيل هو نُمروذُ بن فالج بن عابر بن شالخ بن أَرفخشذ بن سام، وحكى السُّهيليُّ أنه النُّمروذُ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وكان ملكاً على السَّواد، وكان ملكه الضحاك الَّذي يُعْرَفُ بالأزدهاق وذلك أن النَّاس قحطوا على عهد نمروذ، وكان النَّاسُ يمتارون من عنده الطَّعام، وكان إذا أتاه الرَّجلُ في طلب الطَّعام سأَلَ: مَنْ رَبُّكَ فإن قال: أَنْت؛ نال من الطعام فأتاه إبراهيم فيمن أتاه، فقال له نمروذُ: من رَبُّكَ؛ فقال له إبراهيم: ربيّ الّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ. فاشتغل بالمحاجَّة، ولم يعطه شيئاً، فرجع إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فمر على كثيبٍ من رَمْلٍ أعفرٍ، فأخذ منه تطييباً لقلوبِ أهْلِه إذا دخل عليهم؛ فلما أَتى أَهلهُ، ووضع متاعه نام فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته فإذا هو بأجود طعام رأَتهُ؛ فصنعت له منه فقربته إليه، فقال من أين هذا؟ قالت مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جئت به، فعرف أن الله - تعالى - رزقه فَحَمَدَ اللهَ تعالى.
قوله: {أَنْ آتَاهُ الله} فيه وجهان:
أظهرهما: أَنَّهُ مفعولٌ من أجله على حذفِ العِلّة، أي: لأَنْ آتاه، فحينئذٍ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهوران، أعني النَّصب، أو الجرِّ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِّ قبل «(4/337)
أَنْ» ؛ لأَنَّ المفعول مِنْ أجلهِ هنا نَقَّص شرطاً، وهو عدمُ اتِّحادِ الفاعلِ، وإنما حُذفت اللامُ، لأَنَّ حرف الجرِّ يطَّرد حذفُهُ معها، ومع أنَّ، كما تقدَّم.
وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ وجهان:
أحدهما: أَنَّهُ من باب العكسِ في الكلام بمعنى: أنه وضعَ المُحاجَّة موضع الشُّكْر، إذ كان مِنْ حقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْكِ، ولكنَّهُ عَمِلَ على عكس القضية، كقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ، وتقول: «عَادَاني فُلانٌ؛ لأني أَحسنت إليه» وهو باب بليغٌ.
والثاني: أَنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك؛ لأَنَّهُ أورثه الكِبْرَ وَالبَطَرَ، فَنَشَأَ عنهما المُحاجَّةُ.
الوجه الثاني: أنَّ «أَنْ» ، وما في حيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزَّمانِ، قال الزَّمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «وَيَجُوزُ أن يكونَ التَّقديرُ: حاجَّ وقتَ أَنْ آتاهُ اللهُ» . وهذا الذي أجازه الزمخشريُّ فيه نظر؛ لأَنَّهُ إِنْ عنى أَنَّ ذلكَ على حذفِ مُضافٍ ففيه بُعْدٌ من جهةِ أَنَّ المحاجَّة لم تقع وقتَ إِيتاءِ اللهِ له المُلْك، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الوقتِ، فلا يُحْمَل على الظَّاهر، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَت ابتداء إيتاءِ المُلْك، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعت وقتَ وجود المُلْك، وإن عنى أَنَّ «أَنْ» وما حيِّزها واقعةٌ موقع الظَّرف، فقد نصَّ النَّحويون على منع ذلك وقالوا: لا يَنُوب عن الظَّرف الزَّماني إلا المصدرُ الصَّريحُ، نحو: «أَتيتُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ» ولو قلت: «أَنْ يصيحَ الدِّيكُ» لم يَجز. كذا قاله أبو حيَّان قال شهاب الدين وفيه نظرٌ، لأنه قال: «لا ينوبٌ عن الظَّرفِ إلا المصدرُ الصّريح» ، وهذا معارضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ «ما» المصدريةَ تنوبُ عن الزَّمانِ، وليست بمصدرٍ صريحٍ.
والضمير في «آتاه» فيه وجهان:
أظهرهما: أَنْ يعودَ على «الَّذِي» ، وهو قول جمهور المفسرين وأَجاز المهدويُّ أن يعودَ على «إِبْرَاهِيم» ، أي: ملك النُّبُوَّة. قال ابن عطيَّة: «هذا تَحاملٌ من التَّأْوِيل» ، وقال أبو حيان: هذا قولُ المعتزلة، قالوا: لأنَّ الله تعالى قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] والمُلْك عهدٌ، ولقوله تبارك وتعالى: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] . وعودُ الضَّمير إِلى أقرب مذكور واجب، وأقرب مذكورٍ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأجيب عن الأَوَّل بأَنَّ الملك حصل لآل إبراهيم، وليس فيها دلالةٌ على حصوله لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
وعن الثاني: بأن الذي حاج إبراهيم كان هو المَلِكُ، فعود الضَّمير إليه أَوْلَى.
قوله: «إِذْ قَالَ» فيه أربعةُ أوجهٍ:
أظهرها: أَنَّهُ معمولٌ لحاجَّ.(4/338)
والثاني: أن يكون معمولاً لآتاه، ذكرهُ أبو البقاء. وفيه نظرٌ من حيثُ إنَّ وقت إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم، {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الظَّرفِ كما تقدَّم.
والثالث: أن يكون بدلاً من {أَنْ آتَاهُ الله الملك} إذا جُعِلَ بمعنى الوقت، أجازه الزَّمخشريّ بناءً منه على أَنَّ «أَنْ» واقعةٌ موقعَ الظَّرف، وقد تقدَّم ضعفُهُ، وأيضاً فإِنَّ الظّرفين مختلفان، كما تقدَّم إلا بالتَّجوز المذكورِ.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ «وَذَكَرَ بَعْضُهم أنه بَدَلٌ من» أَنْ آتَاهُ الملك «وليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ، فلو كان بدلاً لكان غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل» إذ «بمعنى» أَنْ «المصدرية، وقد جاء ذلك» انتهى. وهذا بناءً منه على أنَّ «أَنْ» مفعولٌ من أجله، وليست واقعةً موقع الظَّرفِ، أمَّا إِذَا كانت «أَنْ» واقعةٌ موقع الظرف فلا تكون بدل غلط، بل بدلُ كلِّ من كُلِّ، كما هو قول الزمخشري وفيه ما تقدَّم بجوابه، مع أَنَّه يجوزُ أَنْ تكون بدلاً مِنْ «أَنْ آتاهُ» ، و «أَنْ آتَاهُ» مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ؛ لأَنَّ وقتَ القولِ لاتِّسَاعِهِ مُشتملٌ عليه وعلى غيره.
الرابع: أَنَّ العامِلَ فيه «تَرَ» منق وله: «أَلَمْ تَرَ» ذكره مكيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الرُّؤية على كِلاَ المذكورين في نظيرها لم تكن في وقتِ قوله: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} .
قوله: {الذي يُحْيِي} مبتدأٌ في محلِّ نصب بالقول.
فصل
الظَّاهر أن هذا جواب سؤالٍ سابق غير مذكورٍ؛ لأَنَّ الأَنبياء بعثوا للدَّعوة ومتى ادَّعى الرسالة والدَّعوة، فلا بدَّ وأن يطالبه المنكر بإثبات أَنَّ للعالم إلهاً؛ ألا ترى لما قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] فاحتجَّ موسى على إثبات الإِله بقوله {رَبُّ السماوات والأرض} [الشعراء: 24] فكذا ها هنا لما ادَّعى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرِّسالة قال النُّمروذ من ربك؟ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت.
وقرأ حمزة: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} بإسكان الياء، وكذلك {حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش} [الأعراف: 33] {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض} [الأعراف: 146] ، و {قُل لِّعِبَادِيَ الذين} [إبراهيم: 31] ، و {آتَانِيَ الكتاب} [مريم: 30] و {مَسَّنِيَ الضر} [الأنبياء: 83] و {مَسَّنِيَ الشيطان} [ص: 41] و {عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105] ، و {عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] و {إِنْ أَرَادَنِيَ الله} [الزمر: 38] ، و {إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله} [(4/339)
تبارك: 28] أسكن الياء فيهن حمزة؛ وافق ابن عامر والكسائي في «لعبادي الذين آمنوا» وابن عامر في «آيَاتِي الَّذِين» ، وفتحها الآخرون.
فصل
استدلَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام على إثبات الإله بالإحياء والإماتة، وهو دليلٌ في غاية القُوَّة لأَنَّهُ لا سبيل إلى معرفةِ اللهِ تعالى إِلاَّ بواسطة أفعاله التي لا يُشاركُهُ فيها أحدٌ من القادرين، والإحياء والإماتة كذلك؛ لأَنَّ الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري، وهذا الدَّليل ذكره اللهُ تعالى في مواضع من كتابه كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى آخرها وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 4، 5] وقال: {الذي خَلَقَ الموت والحياة}
[الملك: 2] .
فإن قيل: لِمَ قدَّم هنا ذِكر الحياةِ على الموتِ في قوله {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، وقدَّمَ الموتَ على الحياةِ في آياتٍ كقوله {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] وقال {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] ، وحكى عن إِبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قوله في ثنائِهِ على الله تعالى {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] .
فالجواب: أَنَّ الدَّليل إذا كان المقصود منه الدَّعوة إلى اللهِ - تعالى - يجب أَنْ يكون في غاية الوضُوح، ولا شكّ أَنَّ عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإِنسان عليها أتم، فلا جرم قَدَّم ذكر الحياة هُنا.
{قَالَ أَنَا أُحْيِي} مبتدأٌ، وخبرٌ منصوب المحلِّ بالقول أيضاً. وأخبر عن «أَنَا» بالجملة الفعلية، وعن «رَبّي» بالموصولِ بها؛ لأَنَّه في الإِخبار بالموصولِ يُفيد الاختصاص بالمُخبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإِنَّهُ لم يدَّعِ لنفسه الخسيسة الخصوصية بذلك.
و «أَنَا» : ضميرٌ مرفوعٌ مُنفصلٌ، والاسمُ منه «أَنَ» والألفُ زائدةٌ؛ لبيان الحركةِ في الوقفِ، ولذلك حُذِفت وصلاً، ومن العربِ مَنْ يثبتها مطلقاً، فقيل: أُجريَ الوصلُ مجرى الوقف؛ قال القائل في ذلك: [المتقارب]
1189 - وَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالي القَوَا ... فِي بَعْدَ المَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارا
وقال آخر: [الوافر]
1190 - أَنَا سَيْفُ فَاعْرِفُونِي ... حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَاما(4/340)
والصحيح أنه فيه لغتان، إحداهما: لغةُ تميم، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً، وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإِنَّه قرأ بثبوت الألف وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ، أو مفتوحةٍ نحو: {وَأَنَاْ أَوَّلُ} [الأعراف: 143] ، واختلف عنه في المكسروة نحو: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ} [الشعراء: 115] ، وقرأ ابن عامرٍ: {لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف: 38] على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وهذا أحسنُ من توجيه مَنْ يَقُولُ «أُجْري الوصلُ مجرى الوَقْفِ» . واللُّغة الثانية: إثباتُها وَقْفاً وحَذفُها وَصْلاً، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إِلاَّ ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل: بل «أَنَا» كلُّه ضمير.
وفيه لغاتٌ: «أَنا وأَنْ» - كلفظ أَنِ النَّاصبةِ - و «آن» ؛ وكأنه قَدَّم الألف على النون، فصار «أانَ» ، قيل: إنَّ المراد به الزَّمان، وقالوا: أَنَهْ، وهي هاءُ السَّكْتِ، لا بدلٌ من الألف؛ قال: «هكذا فَرْدِي أَنَهْ» ؛ وقال آخر: [الرجز]
1191 - إِنْ كُنْتُ أَدْرِي فَعَلَيَّ بَدَنَهْ ... مِنْ كَثْرَةِ التَّخْلِيطِ أَنِّي مَنْ أَنَهْ
وإنما أثبت نافعٌ ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللُّغتين، أو لأَنَّ النُّطقَ بالهمزِ عسرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ.
فصل
قال أكثرُ المفسِّرين: لما احتج إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على إثبات الإله بالإحياء، والإماتة؛ دعا النُّمروذ برجلين، فقتل أحدهما، واستبقى الآخر، وقال: أَنَا أيضاً أحيي وأُميت، فجعل تَرْكَ القتلِ إِحياءً.
قال ابن الخطيب: وعندي أَنَّه بعيد؛ لأَنَّ الظَّاهر من حال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه شرح حقيقة الإحياء وحقيقة الإماتة ومتى شرحه امتنع أَن يشتبه على العاقل الإِماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أَنْ يكونُوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق، والمرادُ من الآية - واللهُ أعْلَمُ -(4/341)
أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما احتجّ بالإحياء، والإِماتة قال المنكر: أتدعي الإِحياء والإِماتة مِن اللهِ ابتداء من غير واسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، أو بواسطتها.
أَمَّا الأَوَّل: فلا سبيل إليه، وأَمَّا الثَّاني، فلا يدلُّ على المقصود، لأَنَّ الواحد منا يقدر على الإِحياء والإِماتة بواسطة سائر الأسباب فإِنَّ الجماع قد يُفْضي إلى الولد الحيّ بواسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، وتناول السّم قد يفضي إلى الموت، فلما ذكر النُّمروذ هذا السُّؤَال على هذا الوجه؛ أجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقال: [هب أَنَّ الإِحياء، والإماتة] حصلا من الله تعالى بواسطة الاتِّصالات الفلكية إلاَّ أنه لا بُدَّ لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مُدَبّر، فإذا كان المُدبِّر لتلك الحركات الفلكيّة هو اللهُ تعالى؛ كان الإِحياءُ والإماتةُ الصَّادران من البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية ليست كذلك؛ لأنه لا قدرة للبشر على الاتِّصالات الفلكية؛ فظهر الفرقُ.
إذا عرف هذا فقوله تعالى: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق} ليس دليلاً آخر، بل من تمام الدَّليل الأَوَّل؛ ومعناه: أَنَّهُ وإن كان الإحياء والإماتة [من اللهِ] بواسطة حركات الأَفلاك إِلاَّ أن حركات الأفلاك من اللهِ تعالى فكان الإِحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأَسباب السَّماويَّة والأَرضيَّة إلاَّ أن تلك الأَسباب ليس واقعة بقدرته؛ فثبت أَنَّ الإِحياء والإِماتة الصَّادرين عن البشر ليسا على ذلك الوجه، فلا يصلح نقضاً عليه، فهذا هو الَّذي اعتقده في كيفيَّة جريان هذه المناظرة، لا ما هو المشهورُ عند الكلِّ واللهُ أَعلمُ بحقيقة الحال.
قوله: {فَإِنَّ الله} هذه الفاءُ جواب شرطٍ مقدَّر تقديره: قال إبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - إِنْ زعمتَ، أو موَّهْتَ بذلك فإِنَّ اللهَ. ولو كانت الجملةُ محكيَّةً بالقول، لما دخلت هذه الفاءُ، بل كان تركيب الكلام: قال إبراهيم: إِنَّ اللهَ يَأْتِي، وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «دَخَلَتِ الفاءُ؛ إيذاناً بتعلُّق هذه الكلام بما قبلَه، والمعنى: إذا ادَّعيت الإِحياءَ والإِماتة، ولم تفهم، فالحُجَّة أَنَّ الله تعالى يأتي، هذا هو» المعنى «والباءُ في» بالشَّمْسِ «للتعديةِ، تقول: أَتَتِ الشَّمْسُ، وأَتَى اللهُ بها، أي: أجاءها، و» مِنَ المَشْرِقِ «و» مِنَ المَغْرِبِ «متعلِّقان بالفعلين قبلهما، وأجاز أبو البقاء فيهما بعد أَنْ مَنع ذلك أن يكونا حالين، وجعل التقدير: مُسخَّرةً أو منقادةً قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وليته استمر على منعه ذلك.
فصل
للناس ها هنا طريقان:
أحدهما: طريقة أكثر المفسِّرين: وهو أنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما(4/342)
رأى من النُّمروذ إِلقاءَ تلك الشُّبهة، عدل إلى دليل آخَرَ أوضح من الأَوَّل، فقال: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق، فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} فزعم هؤلاء أن الانتقال مِنْ دليل إلى دليلٍ أوضح منه جائزٌ للمستدلِّ.
فإن قيل: هلاَّ قال النمروذُ فليأتِ بها ربُّك من المغربِ.
قلنا: الجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن هذه المُحاجَّة كانت بعد إلقاء إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في النَّار وخروجه منها سالماً، فعلم أَنَّ من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق، يقدر على أن يأتي بالشَّمس من المغرب.
والثاني: أن الله تعالى خذله وأنساه إيرادَ هذه الشُّبهة؛ نصرةً لنبيِّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
والطريقُ الثاني: قاله المحقِّقون: إن هذا ليس بانتقالٍ من دليل إلى دليلٍ، بل الدليلُ واحدٌ في الموضعين، وهو أنا نرى حدوث الأشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، فلا بُدَّ من قادر آخر يتولَّى إحداثها، وهو سبحانه وتعالى، ثم إنَّ قولنا: نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، أمثلةٌ؛ منها: الإِحياء والإِماتة، ومنها: السحاب، والرعد، والبرق، ومنها: حركات الأفلاك، والكواكب، والمستدلُّ لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليلٍ، ولكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً، فله أن ينتقل مِنْ ذلك المثال إلى مثالٍ آخر، فيكون ما فعله إبراهيم - عليه السَّلامُ - من باب ما يكونُ الدليلُ فيه واحداً، إلاَّ أنه يقع الانتقال عند إيضاحه مِنْ مثالٍ إلى مثالٍ آخر، وليس ما يقع [من باب الانتقال من دليل إلى دليل آخر] .
قال ابن الخطيب: وهذا الوجه أحسن من الأوَّل وأليقُ بكلام أهل التحقيق، وعليه إشكالات من وجوه:
الإشكال الأول: أن صاحب الشُّبهة، إذا ذكرها وقعت في الأسماع، وجب على المحقِّ القادر على الجواب أن يجيب في الحال؛ إزالةً لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر في الدَّليل الأوَّل أو في المثال الأول بتلك الشبهة، كان الاشتغال بإبطال تلك الشبهة واجباً مضيِّقاً، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب.
الإشكال الثاني: أن المبطل لمَّا أورد تلك الشُّبهة، فإذا ترك المحق الجواب عنها، وانتقل إلى كلام آخر، أوهم أن كلامه الأوَّل، كان ضعيفاً ساقطاً، وأنه ما كان عالماً بضعفه، وأن ذلك المبطل، علم وجه ضعفه، ونبَّه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط شأن المحقِّ، وهو لا يجوز.(4/343)
الإشكال الثالث: أنَّه وإن كان يحسن الانتقال من دليلٍ إلى دليلٍ آخر، أو من مثالٍ إلى مثالٍ آخر، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وها هنا ليس كذلك؛ لأنَّ جنس الإحياء والإماتة لا قدرة للخلق عليهما، وأما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرةق عليه ولا يبعد في العقل وجود ملكٍ عظيم في الجثة أعظم من السموات، وأنه هو الذي يحرِّك السموات، وعلى هذا التقدير فالاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من الاستدلال بطلوع الشَّمس على وجود الصانع، فكيف يليق بالمعصوم أن ينتقل من الدَّليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفيِّ.
الإشكال الرابع: أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من دلالة طلوع الشَّمس عليه؛ لأنَّا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبدّلات واختلافات، والتبدُّل قويّ الدلالة على الحاجة إلى المؤثِّر القادر، وأمَّا الشمس فلا نرى في ذاتها تبدُّلاً، ولا في صفاتها، ولا في منهج حركاتها ألبتَّة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأجلى لأقوى للأضعف الأخفى، وإنه لا يجوز.
الإشكال الخامس: أنَّ النمروذ، لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تبارك وتعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشَّمس أن يقول: طلوع الشمس من المشرق مني، فإن كان لك إلهٌ، فقل له يطلعها من المغرب؛ وعند ذلك التزم المحقِّقون من المفسِّرين ذلك، فقالوا: إنه لو أورد هذا السُّؤال، لكان من الواجب أن تطلع الشَّمس من المغرب، ومن المعلوم: أن إفساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثيرٍ من إلزامه بطلوع الشَّمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشَّمس من المشرق دليلاً على وجود الصَّانع، وحينئذٍ يصير دليله الثَّاني ضائعاً؛ كما صار دليله الأوَّل ضائعاً، فالذي حمل سيدنا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أن يترك الجواب عن ذلك السؤال الرَّكيك، والتزام الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال والتمسُّك بدليلٍ لا يمكنه تمشيته، إلا بالتزام طلوع الشَّمس من المغرب، وبتقدير أن يأتي بإطلاع الشمس من المغرب، فإنه يضيع دليله الثَّاني أيضاً كما ضاع الأوَّل، والتزام هذه المحذورات لا يليق بأقلِّ الناس علماً؛ فضلاً عن أفضل العقلاء، وأعلم العلماءس، فظهر بهذا أنَّ الذي أجمع جمهور المفسِّرين عليه ضعيفٌ.
قال ابن الخطيب: وأما الوجه الذي ذكرناه، فلا يتوجَّه عليه شيءٌ من هذه الإشكالات، لأنَّا نقول: لما احتجَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالإحياء والإماتة، أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء، وهو أنَّك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا(4/344)
بواسطةٍ، فلا تجد إلى إثبات ذلك سبيلاً، وإن ادعيت حصولها بواسطة حركات الأفلاك، [فنظيره أو ما يقرب منه حاصلٌ للبشر؛ فأجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن الإحياء والإماتة، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك] ، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى؛ بخلاف الخلق، فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك، فلا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، وعلى هذا تزول الإشكالات المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[قال القرطبيُّ: وروي في الخبر أن الله تعالى قال: «وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى آتِيَ بِالشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ لِيُعْلَمَ أَنِّي أَنَا القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ.
» ] «قوله: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} الجمهور:» بُهِتَ «مبنيّاً للمفعول، والموصول مرفوعٌ به، والفاعل في الأصل هو إبراهيم، لأنه المناظر له، ويحتمل أن يكون الفالع في الأصل ضمير المصدر المفهوم من» قَالَ «، أي: فبهته قول إبراهيم، وقرأ ابن السَّميفع:» فَبَهَتَ «بفتح الباء والهاء مبنيّاً للفاعل، وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الفعل متعديّاً، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -، و» الَّذِي «هو المفعول، أي: فبهت إبراهيم الكافر، أي: غلبه في الحجَّة، أو يكون الفاعل الموصول، والمفعول محذوفٌ، وهو إبراهيم، أي: بهت الكافر إبراهيم، أي: لمَّا انقطع عن الحجَّة بهته، أي: سبَّه وقذفه حين انقطع، ولم تكن له حيلةٌ.
والثاني: أن يكون لازماً، والموصول فاعلٌ، والمعنى معنى بهت، فتتَّحد القراءتان، أو بمعنى أتى بالبهتان، وقرأ أبو حيوة:» فَبَهُتَ «بفتح الباء، وضمِّ الهاء، كظرف، والفاعل الموصول، وحكى الأخفش: فَبَهِتَ بكسر الهاء، وهو قاصر أيضاً، فيحصل فيه ثلاث لغاتٍ: بَهَت بفتحهما، بَهُتَ بضم العين، بَهِتَ بكسرها.
قال عروة العدويُّ: [الطويل]
1192 - فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً ... فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
فالمفتوح يكون لازماً ومتعدياً، قال تعالى: {فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء: 40] .(4/345)
والبَهْتُ: التحيُّر، والدَّهش، وبَاهَتَهُ وَبَهَتَهُ واجهه بالكذب، ومنه الحديث:» إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ «، وذلك أن الكذب يحيِّر المكذوب عليه.
ومعنى الآية: أنَّه: بقي مغلوباً لا يجد مقالاً، ولا للمسألة جواباً.
قوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} . وتأويله على قول أهل السُّنة ظاهر، وأما المعتزلة، فقال القاضي: يحتمل وجوهاً:
منها: أنه لا يهديهم؛ لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق، كما يهدي المؤمن، فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع.
ومنها: لا يهديهم بزيادة الهدى والألطاف.
ومنها: لا يهديهم إلى الثواب أو لا يهديهم إلى الجنَّة.
والجواب عن الأول: أنَّ قوله:» لاَ يَهْدِيهِمْ «إلى الحجاج إنما يصحُّ إذا كان الحجاج موجوداً؛ إذ لا حجاج على الكفر.
وعن الثاني: أن تلك الزيادة، إذا كانت ممتنعةً في حقِّهم عقلاً، لم يصحَّ أن يقال: إنه تبارك وتعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تبارك وتعالى لا يجمع بين الضِّدَّين، فلا يجمع بين الوجود والعدم.
وعن الثالث: أنه لم يهدهم للثواب ولم يجز للجنة ذكر فيبعد صرف اللَّفظ إليهما، بل اللائق بسياق الآية الكريمة أن يقال: إنه تعالى لما أخبر أن الدليل، لمَّا بلغ في الظهور والحجَّة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عن سماعه، إلاَّ أن الله تعالى لم يقدِّر له الاهتداء، لم ينفعه ذلك الدليل الظَّاهر، ونظير هذا التفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111] .(4/346)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
هذه القصة الثانية والجمهور على سكون واو «أَوْ» وهي هنا للتفضيل، وقيل: للتخيير بين التعجُّب من شأنهما، وقرأ سفيان بن حسين «أَوَ» بفتحها، على أنها واو العطف، والهمزة قبلها للاستفهام.(4/346)
وفي قوله: «كَالَّذِي» أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين، قالوا: ونظيره من القرآن قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84 - 85] ثم قال: {مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86 - 87] . فهذا عطف على المعنى؛ لأنَّ معناه: لمن السَّموات؟! فقيل لله؛ وقال الشَّاعر: [الوافر]
1193 - مُعَاوِيَ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا
فحمل على المعنى، وترك اللفظ، وتقدير الآية:
هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم، أو كالذي مرَّ على قريةٍ، هكذا قال مكيٌّ، أمَّا العطف على المعنى، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم؛ كقوله: [الطويل]
1194 - تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
وقول الأخر في هذين البيتين: [الوافر]
1195 - أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ ... وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ ... بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ
فإنَّ معنى الأول: ليس بمكثِّر، ولذلك عطف عليه «وَلاَ بِحَقَلَّد» ، ومعنى الثاني: أجِدَّك لست بِرَاءٍ، ولذلك عطف عليه «وَلاَ مُتَدَارِكٍ» ، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه.
الثاني: أنه منصوبٌ على إضمار فعل، وإليه نحا الزمخشريُّ، وأبو البقاء، قال الزمخشريُّ: «أو كالَّذِي: معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي» ، فحذف لدلالة «أَلَمْ تَرَ» عليه؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ، بخلاف العطف على المعنى.(4/347)
الثالث: أنَّ الكاف زائدةٌ؛ كهي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وقول الآخر: [السريع أو الرجز]
1196 - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ ... والتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ الاصل عدم الزيادة.
والرابع: أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل، لا حرفٌ؛ وهو مذهب الأخفش. قال شهاب الدِّين: وهو الصحيح من جهة الدليل، وإن كان جمهور البصريين على خلافه، فالتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى مثل الذي مرَّ، وهو معنى حسنٌ. وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب.
منها: معادلتها في الفاعلية ب «مِثْل» في قوله: [الطويل]
1197 - وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ... ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ
ومنها دخول حروف الجر، والإسناد إليها. وتقدَّم [الكلام] في اشتقاق القرية.
قوله: «وهي خَاوِيَةٌ» هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون حالاً من فاعل «مَرَّ» والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها، والإتيان بها واجبٌ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه.
الثاني: أنها حالٌ من «قرية» : إمَّا على جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» صفةٌ لقرية على أحد الأوجه الآتية في هذا الجارِّ، أو على رأي من يجيز الإتيان بالحال من النكرة مطلقاً؛ وهو ضعيف عند سيبويه.
الثالث: أنها حالٌ من «عُرُوشِهَا» مقدَّمةٌ عليه، تقديره: مرَّ على قرية على عروشها خاويةٌ.
الرابع: أن تكون حالاً من «هَا» المضاف إليها «عُرُوش» قال أبو البقاء: «والعَامِلُ مَعْنَى الإِضَافَةِ، وهو ضَعِيفٌ مع جوازه» انتهى. والذي سهَّل مجيء الحال من المضاف إليه، كونه بعض المضاف؛ لأنَّ «العُرُوشَ» بعض القرية، فهو قريب من قوله تعالى: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] .(4/348)
الخامس: أن تكون الجملة صفةً لقرية، وهذا ليس بمرتضى عندهم؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين الصفة والموصوف، وإن كان الزمخشريُّ قد أجاز ذلك في قوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] [فجعل: «وَلَهَا كِتَابٌ» ] صفةً، قال: «وتَوَسَّطَتِ الواوُ؛ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف» وهذا مذهب سبقه إليه أبو الفتح ابن جنِّي في بعض تصانيفه، وفي ما تقدَّم، وكأنَّ الذي سهَّل ذلك تشبيه الجملة الواقعة صفةً، بالواقعة حالاً، لأنَّ الحال صفةٌ في المعنى، ورتَّب أبو البقاء جعل هذه الجملة صفةً لقرية، على جواز جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» بدلاً من «قَرْيَةٍ» على إعادة حرف الجرِّ، ورتَّب جعل «وَهِي خَاوِيَةٌ» حالاً من العروش، أو من القرية، أو من «ها» المضاف إليها، على جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» صفةٌ للقرية، وهذا نصُّه، قد ذكرته؛ ليتضح لك، فإنه قال: وقد قيل: هو بدلٌ من القرية تقديره: مرَّ على قريةٍ على عروشها، أي: مَرَّ على عروش القرية، وأعاد حرف الجرِّ مع البدل، ويجوز أن يكون «عَلَى عُرُوشِهَا» على هذا القول صفةً للقرية، لا بدلاً، تقديره: على قرية ساقطةٍ على عروشها، فعلى هذا لا يجوز أن تكون «وَهِيَ خَاوِيَةٌ» حالاً من العروش وأن تكون حالاً من القرية؛ لأنها قد وصفت، وأن تكون حالاً من «هَا» المضاف إليه، وفي هذا البناء نظرٌ لا يخفى.
قوله: {على عُرُوشِهَا} فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون بدلاً من «قرية» بإعادة العامل.
الثاني: أن يكون صفةً ل «قَرْيَةٍ» كما تقدَّم فعلى الأول: يتعلَّق ب «مَرَّ» ؛ لأنَّ العامل في البدل العامل في المبدل منه، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوفٍ، أي: ساقطةٍ على عروشها.
الثالث: أن يتعلَّق بنفس خاوية، إذا فسَّرنا «خَاوِيَةٌ» بمعنى متهدِّمة ساقطة.
الرابع: أن يتعلَّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه المعنى، وذلك المحذوف قالوا: هو لفظ «ثَابِتَةٌ» ؛ لأنهم فسَّروا «خَاوِيَةٌ» بمعنى: خاليةٌ من أهلها ثابتةٌ على عروشها، وبيوتها قائمة لم تتهدَّم، وهذا حذفٌ من غير دليلٍ، ولا يتبادر إليه الذهن، وقيل: «عَلَى» بمعنى «مَعَ» ، أي: مع عروشها، قالوا: وعلى هذا فالمراد بالعروش الأبنية.
وقيل: «عَلَى» بمعنى «عَنْ» أي: خاويةٌ عن عروشها، جعل «عَلَى» بمعنى «عَنْ» كقوله: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس} [المطففين: 2] أي: عنهم.
والخاوي: الخالي. يقال: خوت الدار تخوي خواءً بالمد، وخويّاً، وخويت - أيضاً - بكسر العين تَخْوَى خَوّى بالقصر، وخَوْياً، والخَوَى: الجوع؛ لخلوِّ البطن من الزَّاد. والخويُّ على فعيل: البطن السَّهل من الأرض، وخوَّى البعير: جَافَى جنبه عن الأرض؛ قال القائل في ذلك: [الرجز](4/349)
1198 - خَوَّى عَلَى مُسْتَوِيَاتٍ خَمْسِ ... كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ
ومنه الحديث: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا سَجَدَ خَوَّى» أي: خلا عن عضده، وجنبيه، وبطنه، وفخذيه، وخوَّى الفرس ما بين قوائمه، ويقال للبيت إذا انهدم خوى؛ لأنه بتهدمه يخلو من أهله، وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت.
والعُرُوشُ: جمع عرش، وهو سقف البيت، وكذلك كلُّ ما هُيِّىءَ ليستظلَّ به، وقيل: هو البنيان نفسه؛ قال القائل في ذلك: [الكامل]
1199 - إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحَارِثِ بِنْ شِهَابِ
اختلفوا في الذي مرَّ بالقرية فقال مجاهد، وأكثر المفسرين من المعتزلة: كان رجلاً كافراً شاكّاً في البعث.
وقال قتادة، وعكرمة، والضحاك، والسديُّ: هو عُزَيرُ بن شرخيا.
وقال وهب بن منبه، ورواه عطاء، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هو إرمياء بن خلقيا، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: إنَّ إرمياء هو الخضر - عليه السَّلام -، وهو من سبط هارون بن عمران - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو قول محمد بن إسحاق.
وقال وهب بن منبِّه: إنَّ إرمياء، هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الذي بعثه الله عندما خرَّب بخت نصَّر بيت المقدس، وأحرق التوراة.
واحتجَّ من قال إنه كان كافراً بوجوه:
الأول: استبعاده الإحياء بعد الإماتة من الله وذلك كفرٌ.
فإن قيل: يجوز وقوع ذلك منه قبل البلوغ.(4/350)
قلنا: لو كان كذلك، لم يجز أن يعجب الله رسوله منه إذ الصَّبيُّ لا يتعجَّب من شكِّه في مثل ذلك، وضعَّفوا هذه الحجة؛ بأن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشَّكِّ في قدرة الله تعالى، بل يحتمل أن يكون بسبب اطِّراد العادات في أنَّ مثل ذلك الموضع الخراب قلَّما يصيِّره الله معموراً، كما أنَّ الواحد إذا رأى جبلاً، فيقول: متى يقلب الله هذا ذهباً، أو ياقوتاً؟ لا أن مراده الشَّكُّ في قدرة الله، بل إنَّ ذلك لا يقع في مطرد العادات، فكذا ها هنا.
الحجة الثانية: قوله تعالى في حقه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين، وضعِّف ذلك بأن تبيُّن الإحياء على سبيل المشاهدة، ما كان حاصلاً له قبل ذلك، وأمَّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسمل أنه لم يكن حاصلاً له.
الحجة الثالثة: قوله: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا يدلُّ على أنَّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد، وطمأنينة، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت، وهذا يدلُّ على أنَّ أصل العلم ما كان موجوداً قبل ذلك.
الحجة الرابعة: انتظامه مع النمروذ في سلكٍ واحدٍ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنه وإن كان قبله قصَّة النمروذ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم.
واحتج من قال إنه كان مؤمناً بوجوه:
منها قوله تعالى: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} وهذا يدلُّ على أنَّه كان عالماً بعد موتها بالله تعالى وبأنَّه يصحُّ منه الإحياء في الجملة، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء، إنما يصحُّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة، فأما من يعتقد أنَّ القدرة على الإحياء ممتنعةٌ لم يبق لهذا التخصيص فائدة.
ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله: {كَمْ لَبِثْتَ} وبقوله: {بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ} ، وبقوله: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ} ، وبقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} ، وبقوله {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر، قال تعالى: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] ، فجعله آية للناسن دليلٌ على مزيد التشريف.
ومنها ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير، ومنهم العزير وكان من علمائهم، فجاء بهم إلى «بابل» فدخل عُزَيرٌ يوماً تلك القرية ونزل تحت ظلِّ شجرةٍ، وهو على حمارٍ، فربط حماره، وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً، فعجب من ذلك، وقال {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} لا على سبيل الشَّكِّ في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، وكانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التين والعنب، وشرب من عصير العنب، ونام فأماته الله في منامه مائة عام(4/351)
وهو شابٌّ ثم أعمى عنه عيون الإنس والسِّباع والطَّير، ثمَّ أحياه الله بعد المائة، ونودي من السَّماء يا عزير «كَمْ لَبِثْتَ» بعد الموت، فقال: «يَوْماً» وذلك أن الله أماته ضحًى في أول النهار، وأحياه بعد مائة عامٍ آخر النَّهار قبل غيبوبة الشَّمس، فلما أبصر من الشَّمس بقيةً قال: «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» فقال الله تبارك وتعالى: {بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ} من التِّين، والعنب «وَشَرَابِكَ» من العصير لم يتغير طعمه، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما قال: «وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ» فنظر فإذا هو عظامٌ بيض تلوح وقد تفرَّقت أوصاله، وسمع صوتاً: أيَّتها العظام البالية، إنِّي جاعلٌ فيك روحاً، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعضٍ، ثم التصق كلُّ عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع، والذِّراع إلى مكانه، ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم العصب والعروق، ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد، ثمَّ نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق، فخرَّ عزير ساجداً، وقال: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم إنَّه دخل بيت المقدس.
فقال القوم: حدَّثنا آباؤنا: أنَّ عزير بن شرخيا مات ببابل، وقد كان بختنصر قد قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة، وكان فيهم عزير، والقوم ما عرفوا أنَّه يقرأ التوراة، فلمَّا أتاهم بعد مائة عام جدَّد لهم التوراة، وأملاها عليهم عن ظهر قلبه، فلم يخرم منها حرفاً، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاها فما اختلفا في حرفٍ واحدٍ، فعند ذلك قالوا: عزير ابن الله، وهذه الرواية مشهورة.
ويروى أنه أرميا - عليه الصَّلاة والسَّلام - فدلَّ على أنَّ المارَّ كان نبيّاً؛ واختلفوا في تلك القرية:
فقال وهبٌ، وقتادة، وعكرمة، والربيع هي: إيلياء، وهي بيت المقدس، وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت، وعن ابن زيد أيضاً أن القوم الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوفٌ حذر الموت فقال الله لهم: موتوا، مرَّ عليهم رجلٌ، وهم عظامٌ تلوح فوقف ينظر؛ فقال: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ} .
قال ابن عطية: وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذا الآية إنما تضمَّنت قريةً خاويةً، لا أنيس فيها، والإشارة ب «هذه» إنَّما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة، ووجود البناء والسكان.
قال القرطبي: روي في قصص هذه الآية: أنَّ الله تعالى بعث لها ملكاً من(4/352)
الملوك، فعمرها وجدَّ في ذلك، حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل. وقيل: إنه لمَّا مضى لمدته سبعون سنةً، أرسل الله ملكاً من ملوك فارس عظيماً يقال له «كُوشَك» فعمَّرها في ثلاثين سنةً.
وقال الضحاك: هي الأرض المقدَّسة.
وقال الكلبيُّ: هي دير سابر أباد وقال السديُّ مسلم أباد، وقيل: دير هرقل.
وقوله: {أنى يُحْيِي هذه الله} في «أَنَّى» وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى «متى» .
قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «فَعَلى هذا تكون ظرفاً» .
والثاني: أنَّها بمعنى كيف.
قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: فيكون مَوْضِعُها حالاً من «هذه» ، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام، والظاهرُ أنها بمعنى كيف، وعلى كلا القولين: فالعاملُ فيها «يُحْيِي» ، و «بعد» أيضاً معمول له. والإحياء، والإماتة: مجازٌ؛ إن أريد بهما العمران والخراب، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافاً، أي: أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية، وجثثهم المتمزقة، دلَّ على ذلك السياق.
قوله: {مِئَةَ عَامٍ} قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «مائَة عامٍ» : ظرفٌ لأماته على المعنى؛ لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام، ولا يجوز أن يكون ظرفاً على ظاهر اللفظ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف، تقديره: «فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام» ويدلُّ على ذلك قوله: «كَمْ لَبِثْتَ» ، ولا حاجة إلى هذين التأويلين، بل المعنى جعله ميِّتاً مائة عام.
و «مِئة» عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامها محذوفة، وهي ياء، يدلُّ على ذلك قولهم: «أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ» ، أي: صيَّرتها مئة، فوزنها فعة ويجمع على «مِئَات» ، وشذَّ فيها مئون؛ قال القائل: [الطويل]
1200 - ثَلاَثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا ... رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ
كأنَّهم جروها بهذا الجمع لما حذف منها؛ كما قالوا: سنون: في سنة.(4/353)
والعام: مدَّة من الزمان معلومةٌ، وعينه واوٌ؛ لقولهم في التصغير: عويم، وفي التكسير: «أَعْوَام» .
وقال النقَّاش: «هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك، والعوم: هو السبح؛ وقال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال» .
فإن قيل: ما الحكمة في أنْ أماته الله مائة عامٍ، مع أنَّ الاستدلال بالإحياء بعد يومٍ، أو بعض يومٍ حاصل.
فالجواب: أنَّ الإحياء بعد تراخي المدَّة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدَّة، وبعد تراخي المدَّة يشاهد منه، ويشاهد هو من غيره، ما هو عجبٌ.
قوله: «ثُمَ بَعَثَهُ» ، أي: أحياه، ويوم القيامة يسمَّى يوم البعث؛ لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله: من بعثت الناقة، إذا أقمتها من مكانها.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله - تبارك وتعالى - «ثُمَّ بَعَثَهُ» ولم يقل: ثمَّ أحياه؟
فالجواب: أن قوله: «بَعَثَهُ» يدلُّ على أنه عاد كما كان أوَّلاً: حيّاً، عاقلاً، فاهماً، مستعداً للنظر، والاستدلال، ولو قال: ثمَّ أحياه، لم تحصل هذه الفوائد.
قوله: «كَمْ» منصوبٌ على الظرف، ومميِّزها محذوفٌ تقديره: كم يوماً، أو وقتاً.
والناصب له «لَبِثْتَ» ، والجملة في محلِّ نصب بالقول، والظاهر أنَّ «أَوْ» في قوله: «يوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» بمعنى «بَلْ» للإضراب، وهو قول ثابت، وقيل: هي للشك.
فصل
قال ابن الخطيب: من الخوارق ما يمكن في حالة، ومن الناس من يقول في قصة أهل الكهف، والعزير: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه، ولكنه لا مؤاخذة به، وإلاَّ فالكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، وذلك لا يختلف بالعمل، والجهل؛ فعلى هذا يجوز أن يقال: إنَّ الأنبياء لا يعصمون عن السَّهو والنِّسيان، والقول الأوَّل أصحُّ.
قوله: «قَالَ بَلْ لَبِثْتَ» عطفت «بل» هذه الجملة على جملةٍ محذوفةٍ، تقديره: ما لبثتَ يوماً أو بعض يوم، بل لبثت مئة عام. وقرأ نافع، وعاصم، وابن كثير: بإظهار الثَّاء في جميع القرآن الكريم، والباقون: بالإدغام.(4/354)
فصل فيمن قال: كم لبثت
أجمعوا على أن ذلك القائل هو الله تعالى؛ لأنَّ ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره، وظهور البلى في عظامه، ما عرف به أنَّ تلك الخوارق لم تصدر إلاَّ من الله تعالى.
وقيل: سمع هاتفاً من السماء، يقول له ذلك.
وقيل: خاطبه جبريل، وقيل: نبيٌّ.
وقيل: مؤمنٌ شاهده من قومه عند موته، وعمِّر إلى حين إحيائه.
قال القرطبي: والأظهر أنَّ القائل هو الله - عَزَّ وَجَلَّ -، لقوله تعالى: {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} .
فإن قيل: إنه تعالى كان عالماً بأنه كان مَيْتاً، والميِّت لا يمكنه بعد أن صار حيّاً أن يعلم مدَّة موته طويلةً كانت أم قصيرةً؛ فلأيِّ حكمةٍ سأله عن مقدار المدة؟
فالجواب: أنَّ المقصود منه التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق، بقوله: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} على حسب ظنِّه؛ كما روي في القصة: أنه أماته ضحًى، وأحياه بعد المائة قبل غروب الشمس؛ فظن أنَّ اليوم لم يكمل، كما حكي عن أصحاب الكهف: {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] على ما توهَّموه، ووقع في ظنِّهم.
وقول إخوة يوسف {ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] وإنما قالوا ذلك؛ بناءً على إخراج الصُّواع من رحله.
قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال، وزعم بعضهم: أنَّ المضارع المنفيَّ ب «لَمْ» إذا وقع حالاً، فالمختار دخول واو الحال؛ وأنشد: [الطويل]
1201 - بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيْمُوا سُيُوفَهُمْ ... وَلَمْ تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ
وزعم آخرون: أنَّ الأولى نفي المضارع الواقع حالاً بما، ولمَّا. وهذان الزَّعمان غير صحيحين؛ لأنَّ الاستعمالين واردان في القرآن، قال تعالى: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] ، وقال تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}
[الأنعام: 93] فجاء النفي ب «لم» مع الواو ودونها.(4/355)
فإن قيل: قد تقدَّم شيئان، وهما «طَعَامِكَ وشَرَابِكَ» ولم يعد الضَّمير إلاَّ مفرفاً، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدهما: أنها لمَّا كانا متلازمين، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر، صارا بمنزلة شيء واحد؛ حتى كأنه [قال:] فانظر إلى غذائك.
الثاني: أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط؛ لأنه أقرب مذكور، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها. والتقدير: وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه، وإلى شرابك لم يتسنَّه، وقرأ ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه» ، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه، فعدم تغيُّر الطعام أولى، قال معناه أبو البقاء.
الثالث: أنه أفرد في موضع التثنية، قاله - أيضاً - أبو البقاء؛ وأنشد: [الكامل]
1202 - فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
وليس بشيءٍ.
وقرأ حمزة، والكسائي: «لَمْ يَتَسَنَّهْ» بالهاءِ وقفاً، وبحذفها وصلاً، والباقون: بإثباتها في الحالين. فأمَّا قراءتهما، فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ: فالهاءُ تحتملُ وجهين:
أحدهما: أن تكون - أيضاً - للسكت، وإنما أُثبتت وصلاً إِجراءً للوصل مجرى الوقف، وهو في القرآن كثيرٌ، [سيمرُّ بك منه مواضع] فعلى هذا يكون أصل الكلمة: إِمَّا مشتقاً من لفظ «السَّنَةِ» على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع؛ قالوا: «سُنَيَّة وَسَنَوات» ؛ وعلى هذه اللغة قالوا: «سَانَيْتُ» أُبْدِلَتِ الواو ياءً؛ لوقوعها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ؛ قال الشاعر: [الكامل]
1203 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ(4/356)
ويقولون في جمعها: سنوات فقلبوا الواو تاءً، والأصلُ: أَسْنُووا، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة؛ كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزماً.
وإما من لفظ «مَسْنُون» وهو المتغيرُ، ومنه {حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28] ، والأصلُ: يتَسَنَّنُ، بثلاثٍ نونات، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال، فأَبدلنا الأخيرة ياءً؛ كما قالوا في تظنَّن: تظنَّى، وفي قصَّصت أظفاري: قصَّيتُ، ثم أبدلنا الياء ألفاً؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، ثم حُذِفت جزماً، قاله أبو عمرو، وخطَّأَه الزجاج، قال: «لأنَّ المسنونَ: المصبوبُ على سنن الطريق» .
وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال: «هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ» أي: تغيَّر، وهذا وإِنْ كان صحيحاً معنًى، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقاً، إذ لو كان مشتقاً من «أَسِنَ الماءُ» لكان ينبغي حين منه تفعَّل، أَنْ يقال تأسَّنَ. ويمكن أَنْ يُجاب عنه: أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضع لامها، فبقي: يَتَسَنَّأ، بالهمزة آخراً، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفاً، كقولهم في قرأ: «قَرَا» ، وفي استهزأ: «اسْتَهْزا» ثم حُذفت جزماً.
والوجه الثاني: أن تكون الهاءُ أصلاً بنفسها، ويكونُ مشتقاً من لفظ «سَنَة» أيضاً، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً، وهم الحجازيون، والأصلُ: سُنَيْهة، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير، قالوا: سُنَيْهةٌ، وسُنَيْهَاتٌ، وسَانَهْتُ؛ قال شاعرهم:
1204 - وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلاَ رُجَبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ
ومعنى «لم يَتَسَنَّهْ» على قولنا: إِنَّهُ من لفظ السَّنَة، أي: لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِهِ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء في أثناء كلامه: «مِنْ قولك: أَسْنَى يُسْنِي، إذا مَضَتْ عليه سِنُون» ؛ لأنه يصير المعنى: لم تمضِ عليه سِنُون، وهذا يخالفه الحِسُّ، والواقع.
وقرأ أُبَيّ؛ «لَمْ يَسَّنَّهْ» بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ، والأَصْلُ: «لم يَتَسَنَّهْ» .(4/357)
كما قُرِئ: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ} [الصافات: 8] ، والأصل: يَتَسَمَّعُونَ؛ فأُدغم، وقرأ طلحة بن مصرفٍ: «لِمِئَةِ سَنَةٍ» .
فإن قيل: لما قال تعالى: {بَلْ لبثت مائة عام} كان مِنْ حقِّه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} لا يدلُّ على أنه لبث مائة عامٍ، بل يدلُّ ظاهراً على قول المسؤول إنه لبث يوماً أو بعض يوماً.
فالجواب أنه ذكر ذلك ليعظم اشتياقه إلى طلب الدَّليل الذي يكشف هذه الشبهة، فلما قال تعالى: {وانظر إلى حِمَارِكَ} فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة، فعظُم تعجبه من قُدرة الله تعالى؛ فإنَّ الطعامَ، والشراب يسرع التغير إليهما، والحمارُ ربما بقي دهراً طويلاً عظيماً، فرأى ما لا يبقى باقياً، وهو الطعامُ، والشَّرابُ، وما يبقى غير باقٍ، وهو العظامُ فعظُم تعجبه من قدرة الله تعالى، وتمكّنت الحجةُ في قلبه، وعقله.
قوله: {وانظر إلى حِمَارِكَ} معناه أَنَّه عرَّفه طُول مدة موته، بأن شاهد انقلاب العِظام النخرة حيّاً في الحال، فإنه إذْ شاهد ذلك، علِمَ أن القادر على ذلك قادِرٌ على أَنْ يُميته مائة عام، ثم يُحْييه.
فإن قيل: إنَّ القادِرَ على إحياء العِظام النخرة، قادِرٌ على أَنْ يجعل الحمار عظاماً نخرة في الحال، وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طُول مدة الموت.
فالجواب: أَنَّ انقلاب العِظام إلى الحياة معجزةٌ دالَّةٌ على صدق قوله: «بَلْ لَبِثْتَ مائةَ عامٍ» . قال الضحاك: إنَّهُ تعالى بعثهُ شابّاً أسود الرأس، وبنو بنيه شيوخٌ بيض اللِّحى، والرُّؤوس.
قوله: «وَلِنَجْعَلَكَ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده، تقديره: ولنجعلك فعلنا ذلك.
الثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديره: فعلنا ذلك، لتعلَمَ قُدْرتنا ولنجعلك.
الثالث: أن الواو زائدة واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلها، أي: وانظر إلى حِمارِك، لنجعلَكَ.
قال الفرَّاء: وهذا المعنى غير مطلوبٍ من الكلامِ؛ لأنه لو قال فانظر إلى حِمارك لنجعلك آيةً للناسِ، كان النظرُ إلى الحمار شرطاً، وجعله آية جزاءً أَمَّا لمَّا قال: «وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً» [كان المعنى: ولنجعلك آيةً فعلنا ما فعلنا، من الإماتة، والإحياء. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، كما زعم بعضهم؛ فقال: إن قوله: «وَلِنَجْعَلَكَ» مؤخر بعد قوله(4/358)
تعالى: {وانظر إِلَى العظام} ، وأَنَّ الأَنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضها على بعضٍ، فُصِل بينها بهذا الجارّ؛ لأنَّ الثالث مِنْ تمامِ الثاني، فلذلك لم تجعل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أَنْ» وهي وما بعدها من الفعلِ في محلِّ جرٍّ على ما سبق بيانُهُ غير مرةٍ. و «آية» مفولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى: التصيير. و «لِلنَّاسِ» صفةٌ لآيةٍ، و «أَلْ» في الناس، قيل: للعهدِ، إِنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ، وقيل: للجنس، إِنْ عَنَى بهم جميع بني آدم] .
قوله: {وانظر إِلَى العظام} .
أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام حمارُه، وقال آخرون: أراد بها عظام الرجلِ نفسه، قالوا: إِنَّ الله أَحْيَا رأسهُ وعينيه، وكانت بقيةُ بدنه، عظاماً نخرةً، فكان ينظرُ إلى أَجزاء عظام نفسه فرآها تجتمعُ، وينضمُّ بعضها إلى بعضٍ وكان يرى حمارَه واقفاً كما ربطه حين كان حيّاً لم يأكل، ولم يشرب مائة عام، وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك؛ وهو قولُ قتادة، والرَّبيع، وابن زيدٍ، وضُعِّف ذلك بوجوه:
منها: أَنَّ قوله «لَبِثْتُ يَوْمَا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» إنما يليقُ بمن لا يرى أثر التغير في نفسه، فيظن أنه كان نائِماً في بعض يومٍ، وأَمَّا من شاهد بعض أجزاءِ بدنه متفرقةً، وعظامُه رميمة نخرةً، فلا يليقُ به ذلك.
ومنها أنه خاطبُه، وأَجاب، والمجيب، هو الذي أَماتهُ اللهُ، فإذا كانت الإِماتةُ راجعةً إلى كله، فالمجيب - أيضاً - الذي بعثه اللهُ، يجب أن يكون جملة الشَّخص.
ومنها أَنَّ قوله - تعالى - {فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} يدلُّ على أَنَّ تلك الجملة أَحياها، وبعثها.
قوله: «كَيْفَ» منصوبٌ نصبَ الأَحوال، والعاملُ فيها «نُنْشِزُها» وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في «نُنْشِزُها» ، ولا يعملُ في هذا الحالِ «انظُرْ» إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلام، فلا يعملُ فيه ما قبله، هذا هو القولُ في هذه المسألة، ونظائرها.
وقال أبو البقاء: «كيف نُنْشِزُها» في موضِعِ الحالِ من «العِظَامِ» ، والعاملُ في «كيف» نُنْشِزُها، ولا يجوز أن يعمل فيها «انظُرْ» لأنَّ هذه جملة استفهام، والاستفهامُ لا يقعُ حالاً، وإنما الذي يقعُ حالاً «كَيْفَ» ، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادة حرفِ الاستفهامِ، نحو: «كيف ضَرَبْتَ زيداً؛ أقائماً أم قاعداً» ؟
والذي يَقْتَضِيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألة، وأمثالها: أَنْ تكونَ جملةُ «كَيْفَ نُنْشِزُها» بدلاً مِنَ «العِظَامِ» فيكونَ في محلِّ جَرٍّ أو محلِّ نصبِ، وذلك أنَّ «نظر» البصرية(4/359)
تتعدَّى ب «إِلَى» ، ويجوزُ فيها التعليقُ، كقوله تعالى:
{انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [الإسراء: 21] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنَّ ما يتعدى بحرف الجرِّ يكونُ ما بعده في محلِّ نصبٍ به. ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ؛ لتصِحَّ البدليَّة، والتقدير: إلى حال العظام، ونظيرُهُ قولهم: عَرفْتُ زيداً: أبو مَنْ هُوَ؟ ف «أَبُو مَنْ» هو بدلٌ من «زَيْداً» ، على حذفٍ تقديرُهُ: «عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ» . والاستفهامُ في بابِ التعليقِ، لا يُراد به معناه؛ بل جرى في لسانِهم مُعلَّقاً عليه، حكُم اللفظِ دونَ المعنى، و [هو] نظيرُ «أي» في الاختصاص، نحو: «اللهُمَّ اغفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَةُ» فاللفظُ كالنداء في جميعِ أَحكامه، وليس معناه عليه.
وقرأ أبو عمروٍ، والحرميَّان: «نُنْشِزُهَا» بضم النون، وكسر الشِّين، والراءِ المُهملةِ، والباقُون: كذلك؛ إلاَّ أَنَّها بالزاي المُعْجمة. وابن عباسٍ: بفتح النونِ، وضمِّ الشِّين، والراءِ المهملةِ أيضاً والنخعيّ: كذلك؛ إلا أنها بالزاي المعجمةِ، ونُقِل عنه أيضاً ضمُّ الياءِ، وفتحِها مع الراءِ، والزاي.
فأَمَّا قراءة الحرميّين: فمن «أَنشَرَ اللهُ الموتى» بمعنى: أَحْيَاهم، وأمَّا قراءةُ ابن عباس: فَمِنْ «نَشَر» ثُلاَثيّاً، وفيه حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أَنْ يكون بمعنى أَفعلَ، فتتحدَ القراءتان.
والثاني: أَنْ يكونَ مِنْ «نَشَرَ» ضِدَّ: طَوى، أي: يَبسُطها بالإِحياء، ويكونُ «نَشَرَ» أيضاً مطاوِع أَنْشَرَ، نحو: أَنْشَرَ الله الميتَ، فَنَشَرَ، فيكونُ المتعدي، واللازمُ بلفظٍ واحدٍ؛ إلاَّ أنَّ كونه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمة؛ لتعدِّي الفعل فيها، وإنْ كان في عبارة أبي البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا الموضع بعضُ إبهامٍ؛ ومِنْ مجيء «نَشَر» لاَزِماً قوله: [السريع]
1205 - حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
فناشِر: مِنْ نَشَر؛ بمعنى: حَيِيَ. والمراد بقوله ننشرها، أي: نُحْييها، يقال أنشر الله الميتَ ونشرَهُ، قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 22] وقد وصف اللهُ العِظِام بالإِحياءِ في قوله: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ} [يس: 78، 79] .(4/360)
وأَمَّا قراءةُ الزَّاي فمن «النَّشْزِ» وهو الارتفاعُ، ومنه: «نَشْزُ الأَرْضِ» وهو المرتفع، ونشوزُ المرأةِ، وهو ارتفاعها عن حالها إلى حالةٍ أُخرى، فالمعنى: يُحرِّك العِظام، ويرفعُ بعضها إلى بعضٍ للإِحياء.
قال ابن عطية: «وَيَقْلَقُ عندي أَنْ يكونَ النشوزُ رفعَ العِظَامِ بعضها إلى بعضٍ، وإنما النشوزث الارتفاعُ قليلاً قليلاً» ، قال: «وانظر استعمال العربِ، تَجده كذلك؛ ومنه:» نَشَزَ نَابُ البَعِير «و» أَنْشَزُوا، فَأَنْشَزوا «، فالمعنى هنا على التدرُّج في الفعلِ» فجعل ابنُ عطية النشوزَ ارتفاعاً خاصّاً.
ومَنْ ضَمَّ النونَ جعلهُ مِنْ «أَنْشَزَ» ، ومَنْ فَتَحها، فَمِنْ «نَشَزَ» ، يقال: «نَشَزه» و «أَنْشَزَه» بمعنى. ومَنْ قرأَ بالياءِ، فالضميرُ لله تعالى. وقرأ أُبيّ «نُنْشِئُها» من النَّشْأَةِ. ورجَّح بعضهم قراءة الزاي على الراء، بِأَنْ قال: العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ؛ بل بانضمام بعضِها إلى بعضٍ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى؛ إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ، فالموصُوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ، ولا يقال: هذا عظمٌ حيٌّ. وهذا ليس بشيءٍ؛ لقوله: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] .
ولا بُدَّ من ضميرِ محذوفٍ من قوله: «العِظام» أي؛ العظامِ منه، أي: من الحمارِ، أو تكونُ «أَلْ» قائمةً مقامَ الإِضافة، أي: عظامِ حمارِك.
قوله: «لَحْماً» مفعولٌ ثانٍ لِ «نَكْسُوها» وهو من باب أَعْطَى، وهذا من الاستعارة، ومثله قول لبيدٍ: [البسيط]
1206 - الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِيني أَجَلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالا
قوله: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ» في فاعل «تَبيَّن» قولان:
أحدهما: مُضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ، تقديرُهُ: فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياءِ التي استقر بها، وقدَّره الزمخشريُّ: «فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه» يعني مِنْ أَمْرِ إِحياءِ الموتى، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ قوةَ الكلامِ تدِلُّ عليه بخلافِ الثاني.
والثاني: - وبه بدأ الزمخشري -: أن تكون المسألةُ من بابِ الإِعمالِ، يعني أن «تَبَيَّن» يطلُبُ فاعلاً، و «أَعْلَمُ» يطلبُ مفعولاً، و «أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ» يصلُح أَنْ يكونَ فاعلاً لتبيَّن، ومفعولاً لأعلَمُ، فصارَتِ المسألةُ من التنازع، وهذا نصُّه، قال: وفَاعِلُ «تبيَّن» مضمرٌ تقديره: فلمَّا تبيَّن له أَنَّ الله على كل شيءٍ قدير قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ(4/361)
على كل شيء قديرٌ، فحُذف الأَوَّل؛ لدلالةِ الثاني عليه، كما في قولهم: «ضَرَبَنِي، وضَرَبْتُ زَيْداً» فجعله مِنْ باب التنازع وجعله من إعمال الثاني، وهو المختارُ عند البصريين، فلمَّا أعملَ الثاني، أَضْمَرَ في الأَولِ فاعلاً، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ من إعمال الأَولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول، فكأنه قال: فلمَّا تبيَّن له، قال أعلمه أن الله. ومثله في إعمال الثاني: {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96] {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] لما ذكرت.
إِلاَّ أَنَّ أبا حيَّان ردَّ عليه بأنَّ شرط الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَينِ، وأَدْنى ذلك بحرفِ العطفِ - حتى لا يكون الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول، نحو: «جاءني يَضْحَكُ زيدٌ» فإنَّ «يَضْحَكُ» حالٌ عاملها «جاءني» فيجعل في: «جاءني» ، أو في: «يضحك» ضميراً؛ حتَّى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً، ولا يَردُ على هذا جعلُهُم «آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً»
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} [المنافقون: 5] و {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] من باب الإِعمال؛ لأنَّ هذه العوامل مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراكِ، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العَمَلِ، فإذا كان على ما نصُّوا، فليس العاملُ الثاني مُشْتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ، ولا بغيره، ولا هو معمولٌ للأول؛ بل هو معمولٌ لقال، و «قال» جوابُ «لَمَّا» إِنْ قلنا: إنَّها حرفٌ، وعاملةٌ في «لَمَّا» إن قلنا: إنها ظرفٌ، و «تبيَّن» على هذا القول مخفوضٌ بالظرف، ولم يذكر النحاةُ التنازع في نحو: «لَوْ جَاءَ قَتَلْتُ زيداً» ، ولا «لَمَّا جاء ضربت زيداً» ، ولا «حِينَ جاء قتلْتُ زيداً» ، ولا «إذا جاء قتلتُ زيداً» ، ولذلك حكى النحاةُ أَنَّ العربَ لا تقول: «أَكْرَمْتُ أَهْنتُ زيداً» - يعني لعدم الاشتراكِ بين العاملين - وقد ناقضَ قوله؛ حيثُ جعل الفاعل محذوفاً، كما تقدَّم في عبارتِهِ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمار في قوله: «وفاعِلُ تبيَّن مُضْمَرٌ» الحذفَ فهو قول الكسائيِّ؛ لأنه لا يُجيزُ إضمارَ المرفوع قبل الذكر فيدَّعي فيه الحذف، ويُنشد: [الطويل]
1207 - تَعَفَّقَ بِالأَرْطَى لَهَا وَأَرَادَهَا ... رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ
ولهذا تأويل مذكورٌ؛ ورُدَّ عليه بالسماع قال القائِلُ: [البسيط]
1208 - هَوَيْنَنِي وَهَوَيْتُ الخُرَّدَ الْعُرُبَا ... أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطاً بِي هَوًى وَصِبَا(4/362)
فقال: «هَوَيْنَنِي» فجاءَ في الأَوَّل بضمير الإِناث، من غير حذفٍ. انتهى ما رُدَّ به عليه، قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفيه نظرٌ لا يخفى.
وقرأ ابن عبَّاس: «تُبُيِّن» مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ، الجارُّ والمجرورُ بعدَه. وابنُ السَّمَيْفع «يُبَيِّن» من غير تاء مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامه ضميرُ كيفية الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ.
قوله: {قَالَ أَعْلَمُ} الجمهورُ على: «قال» مبنيّاً للفاعلِ. وفي فاعله على قراءة حمزة والكسائي: «اعْلَمْ» أمراً من «عَلِمَ» قولان:
أظهرهما: أنه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى أو على المَلِك، أي: قال اللهُ تعالى أو الملكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ.
الثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسه، نزَّل نفسه منزلة الأجنبي، فخاطبها؛ ومنه: [البسيط]
1209 - وَدِّعْ أُمَامَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ..... ... ... ... ... ... ... ... .
وقوله: [المتقارب]
1210 - تَطَاوَلَ لَيْلُكَ ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... . .
يعني نفسه، قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «كما تقول لنفسك: اعلم يا عبد الله، ويُسَمَّى هذا التجريدَ» يعني: كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطباً يخاطِبُه.
وأمَّا على قراءةِ «أَعْلَمُ» مضارعاً [للمتكلم] وهي قراة الجمهور ففاعل «قال» ضميرُ المارِّ، أي: قال المارُّ: أعلمُ أنا. وقرأ الأَعمشُ: «قِيل» مبنيّاً للمفعولِ. والقائمُ مقام الفاعل: إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ، وإمَّا الجملةُ التي بعده، على حسبِ ما تقدَّم أول السورة.
[وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ: «اعلمْ» على الأَمر، والباقون: «أَعْلَمُ» مضارعاً] وقرأ الجعفيّ عن أبي بكر: «أَعْلِمْ» أَمْراً من «أَعْلَمَ» ، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل «قال» ما هو؟(4/363)
فصلٌ في معنى قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ}
قال الطبريُّ: معنى قوله: «فلمَّا تبيَّنَ لهُ» أي: لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه، قال: أَعلمُ. قال ابن عطيَّة: وهذا خطأٌ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذِّ، وهذا عندي ليس بإِقرارٍ بما كان قبل ينكره، كما زعم الطبريُّ، بل هو قولٌ بعثه الاعتبارُ؛ كما يقول المؤمنُ إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى: لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ، ونحو هذا. وقال أبو عليّ: معناه أعلم هذا الضرب من العلمِ الذي لم أكُن أَعْلَمه.
و «أَنَّ الله» في محلّ نصب، سادَّةً مسد المفعولين، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف.(4/364)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
هذه القصة الثالثة الدالَّةُ على صحَّة البعث.
في العامل في «إذْ» ثلاثةُ أوجه:
أظهرها: أنه قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} ، أي: قال له ربَّه وقتَ قوله ذلك.
والثاني: أنه «أَلَمْ تَرَ» أي: ألم تر إذ قال إبراهيم.
والثالث: أنه مضمرٌ تقديره: واذكر قاله الزجاح ف «إِذْ» على هذين القولين مفعولٌ به، لا ظرفٌ. و «ربِّ» منادى مضافٌ لياءِ المتكلم، حُذفَتْ؛ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها، وهي اللغةُ الفصيحةُ، وحُذِف حرفُ النداءِ.
وقوله: «أَرِنِي» تقدَّم ما فيه من القراءات، والتوجيه في قوله: {وَأَرِنَا} [البقرة: 128] والرؤية - هنا - بصرية تتعدَّى لواحدٍ، ولمَّا دخلَتْ همزةُ النقل، أكسبته مفعولاً ثانياً، والأولُ ياءُ المتكلم، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي معلقة للرؤية و «رأى» البصرية تُعَلَّق، كما تعلق «نَظر» البصرية، ومن كلامهم: «أَمَا تَرَى أَيُّ بَرْقٍ هَهُنَا» .
و «كَيْفَ» في محلِّ نصب: إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على التشبيه بالحال، كما تقدَّم في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] . والعاملُ فيها «تُحيي» وقدَّره مكي: بأي حالٍ تُحْيي الموتى، وهو تفسيرُ معنًى، لا إعرابٍ.
قال القرطبيُّ: الاستفهامُ بكيف، إنما هو سؤالٌ عن حالةِ شيءٍ موجودٍ متقرر(4/364)
الوجوه عند السائل، والمسؤول؛ نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا: ومتى قلت: كيف ثوبُكَ؟ وكيف زيدٌ؟ فإِنَّما للسؤال عن حالٍ من أحواله، وقد تكون «كَيْفَ» خبراً عن شيءٍ شأنه أَنْ يُسْتفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شِئتَ فكُنْ، ونحو قول البخاريّ: «كَيْفَ كان بَدْءُ الوَحْي» ، و «كَيْفَ» في هذه الآية إِنَّما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء، والإحياءُ متقرِّرٌ، ولكن لمَّا وجدنا بعض المنكرين لوجود شيءٍ، قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة ذلك الشيء، يعلم أنها لا تصح؛ فيلزم من ذلك أَنَّ الشيء في نفسه لا يصحُّ؛ مثاله أَنٍْ يقول مُدَّعٍ أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذِّب له: أَرِني كيف ترفعه فهذه طريقةُ مجاز في العبارة، ومعناها تسلِيمٌ جدلي، كأنه يقول: افرِض أَنَّكَ ترفعه، فأرني كيف ترفعه فلما كان في عبارة الخليل - عليه الصَّلاة والسَّلام - هذا الاشتراك المجازي، خلص اللهُ له ذلك، وحمله على أَنْ بيَّن له الحقيقة، فقال لله: «أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال: بَلَى» فكمل الأَمر، وتخلص من كُلِّ شكٍّ.
فإِن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى لم يُسَمِّ عزيراً، بل قال: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} [البقرة: 259] ، وها هُنَا سمَّى إبراهيم، مع أَنَّ المقصُودَ في كِلتا القصَّتين شيءٌ واحِدٌ؟!
فالجواب: قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والسببُ فيه: أَنَّ عزيراً لم يحفظِ الأَدَبَ، بل قال
{أنى
يُحْيِي
هذه
الله بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في نفسه، وإبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام - حفظ الأَدب، ورَاعاهُ؛ فقال أَوَّلاً «رَبِّ» ثُمَّ دعا فقال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في الطيور.
قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} في هذه الواوِ وجهان:
أظهرهما: أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي، قَرَّره؛ كقول القائل: [الوافر]
1211 - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
و {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ، المعنى: أنتم خيرُ، وقد شرحنا.
والثاني: أنها واوُ الحالِ، دخلت عليها ألفُ التقرير، قال ابن عطية؛ وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ، كانت الجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ، وإذا كانت كذلك، استدعَتْ ناصباً، وليس ثمَّ ناصبٌ في اللفظِ، فلا بُدَّ من تقديره؛ والتقديرُ «أَسأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ» ، فالهمزةُ في الحقيقة، إِنما دخَلَتْ على العامل في الحالِ. وهذا ليس بظاهر، بل الظاهرُ الأَوَّلُ، ولذلك أُجيبت ببلى، وعلى ما قال ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى.
وقوله: {بلى} جوابٌ للجملة المنفيَّة، وإنْ صار معناه الإِثبات اعتباراً باللفظ لا(4/365)
بالمعنى، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى، نحو: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] وقد تقدَّم تحقيقه واللهُ أَعْلَمُ.
قوله: {لِّيَطْمَئِنَّ} اللامُ لامُ كَيْ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها، بإضمار «أَنْ» ، وهو مبنيٌّ لاتِّصاله بنون التوكيد واللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ بعد «لكنْ» تقديرُه «ولكن سألتُكَ كيفية الإِحياء للاطمئنان، ولا بُدَّ من تقدير حذفٍ آخر، قبل» لكنْ «؛ حتَّى يصحَّ معه الاستدراكُ، والتقديرُ: بلى آمنْتُ، وما سألتُ غير مؤمنٍ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قَلْبي ليحصل الفرقُ بين المعلوم بالبرهان وبين المعلوم عياناً.
قال السُّدِّيُّ، وابن جبير: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} بأَنَّكَ خليلي {قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بالخُلَّةِ.
والطُّمأنينةُ: السكونُ، وهي مصدرُ» اطمأنَّ «بوزن: اقْشَعَرَّ، وهي على غير قياس المصادر، إذ قياسُ» اطْمَأنَّ «أَن يكون مصدرُه على الاطمئنان. واختلف في» اطْمَأَنَّ «هل هو مقلوبٌ؛ أم لا؟ فمذهب سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مقلوبٌ من» طَأْمَنَ «، فالفاءُ طاءٌ، والعينُ همزةٌ، واللامُ ميمٌ، فقُدِّمت اللامُ على العينِ فوزنه: افْلَعَلَّ بدليل قولهم: طامنتُه، فتطامَنَ. ومذهبُ الجرمي: أنه غيرُ مقلوب، وكأَنَّه يقول: إِنَّ اطمَأَنَّ وطَأْمَنَ مادَّتانِ مُسْتَقلَّتانِ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء فإنه قال: والهَمزةُ في» لِيَطْمَئِنَّ «أصلٌ، ووزنه يفعَلِلُّ، ولذلك جاء {فَإِذَا اطمأننتم} [النساء: 103] مثل:» اقْشَعْرَرْتُمْ «. انتهى. فوزنه على الأصل دونَ القلب، وهذا غيرُ بعيدٍ؛ ألا ترى أَنَّهم في» جَبَذَ، وجَذَبَ، قالوا: ليس أحدهما مقلُوباً من الآخر لاستواءِ المادَّتين في الاستعمال.
ولترجيح كلٍّ من المذهبين موضعٌ غير هذا.
فصلٌ في الداعي على السؤال
ذكروا في سبب سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وجوهاً:
أحدها: قال الحسنُ، والضحاكُ، وقتادةُ، وعطاءٌ، وابن جريج: أَنَّهُ رأى جيفةً مطروحةً على شطّ البحر، قال ابن جريج: جيفة حمارٍ، بساحل البحر وقال عطاءٌ: بحيرة طبريَّة؛ فإذا مَدَّ البحر أكل منها دوابُّ البحر، وإذا جزر البحر، جاءت السِّباعُ وأَكلت، وإذا ذهب السابع، جاءت الطيورُ، فأكلت وطارت، فقال إبراهيم: ربِّ أَرِنِي كيف تجمعُ أجزاءَ الحيوانِ من بطون السباع، والطيور، ودوابِّ البحر؟ فقيل: أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال: بلى، ولكن المطلُوبُ من السؤال أن يصير العلمُ الاستدلاليُّ ضروريًّا.(4/366)
الثاني: قال محمد بن إسحاق، والقاضي إِنَّ سببهُ أَنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مناظرته مع النُّمروذ، لما قال: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] قال الملعون {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فأطلق محبوساً، وقتل رجلاً، فقال إبراهيم ليس هذا بإحياءٍ وإماتة، وإنما الإِحياءُ، أن [الله] يقصد إلى جسد ميِّت فيُحْييه. فقال له نمروذ: أَنتَ عانيته؟ فلم يقدر أن يقول: نعم، فقال له نمروذ: قُل لربّك حتَّى يحيي، وإِلاَّ قتلتك، فسأل اللهَ - تعالى - ذلك.
وقوله: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} يعني: بنجاتي من القتل، أو ليطمئِنَّ قلبي بقوة حُجَّتي، وإذا قيل لي: أنت عانيته؟ فأقول: نعم، وأَنَّ عدولي منها إلى غيرها، ما كان بسبب ضعفِ تلك الحُجَّة، بل بسبب جهل [المستمع] .
الثالث: قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والسديُّ: إِنَّ الله تعالى أوحى إليه إِنِّي متَّخذٌ بشراً خليلاً، فاستعظم إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك، وقال: إِلهي، ما علامةُ ذلك؟ فقال تعالى: علامتُه: أَنْ يُحْيي الميِّت بدعائه فلمَّا عظُم مقام إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مقام العُبُودية وأداءِ الرسالة خطر بباله إنّي لعلِّي أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت، فقال الله: أَوَ لَمْ تُؤْمِنُ؟ قال: بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بأَنِّي خليلٌ لك.
الرابع: أنه - عليه السلام - إِنَّما سأل ذلك لقومه؛ لأَنَّ أَتْبَاع الأَنبياءِ كانوا يُطالبونهم بأشياء: تارةً باطلةٌ وتارةً حقة، كقولهم لموسى {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] فسأل إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك. والمقصودُ أَنْ يُشاهِدَه قومه فيزول الإنكارُ عنهم.
الخامس: قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّ الأمَّة لا يحتاجون إلى العلم بأَنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - صادق في ادِّعاء الرسالة إلى معجزة تظهر عليه، فكذلك الرسولُ، عن وصول الملك إليه، وإِخباره بأَنَّ اللهَ بعثه رسولاً يحتاج إلى معجزة تظهرُ على يد ذلك الملك؛ ليعلم الرسولُ أَنَّ ذلك الواصل ملكٌ لا شيطانٌ، فلا يبعد أَن يقال: إنه لمَّا جاء الملك إلى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأخبره بأن اللهَ بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة، فقال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} على أَنَّ الآتي ملكٌ كريمٌ لا شيطانٌ رجيمٌ.
[قال ابن الخطيب: وعلى قول المتكلمين طلب العلم الضروريِّ، لأَنَّ الاستدلاليَّ مما يتطرقُ إليه الشكوكُ، والشُّبهاتُ، ولعلَّه طالع في الصُّحف المتقدمة أَنَّ(4/367)
عيسى يُحيي الموْتَى بدعائه، ومعنى {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} على أَني لستُ أَقَلَّ منزلةً من عيسى، أو أَنَّهُ سارع في الطَّاعة بذبح ولده، كأنه قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح، ففعلتُ، فأنا أسألُك أن تجعل غير ذي روح رُوحانيّاً؛ ليطمئن قلبي بإجابتك، أو أَنَّ المعنى أَرِني كيف يكونُ الحشرُ يوم القيامة؟ أَي: ليطمئِنَّ قلبي بهذا التشريف أو يكون قصَّة سماع الكلام، لا نفس الإِحياء] .
قال ابن الخطيب: وها هنا سؤالٌ صعبٌ، وهو أنَّ الإنسان حال حصول العلم له إمَّا يكون مجوِّزاً لنقيضه أو لا.
فإن جوَّز نقيضه بوجهٍ من الوجوه، فذلك ظنٌّ قويٌّ لا اعتقاد جازم، وإن لم يجوّز نقيضه بوجه من الوجوه، امتنع وقوع التفاوت في المعلوم.
وهذا الإشكال إنما يتوجَّه إذا قلنا: المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء، أمَّا إذا قلنا: المقصود شيءٌ آخرن فالسؤال زائلٌ.
روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ورحم اللهُ لوطاً، لَقَد كَانَ يَأْوِي إلى ركْن شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي» وأخرج مسلم بن الحجَّاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب مثله. وقال: نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى «.
حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث: لم يشكَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله قادرٌ على أن يحيي الموتى، وإنَّما شكَّا أنه: هل يجيبهما إلى ما سألاه؟ وقال أبو سليمان الخطَّابي لي في قوله» نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ «اعترافٌ بالشكِّ على نفسه، ولا على إبراهيم، ولكن فيه نفي الشَّكِّ عنهما يقول: إذا لم أشُكُّ أنا في قدرة الله، على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى ألا يشكَّ، وقال ذلك على سبيل التَّواضع، وهضم النَّفس، فكذلك قوله:» لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي «وفيه إعلامٌ بأنَّ المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال.(4/368)
وقيل: لما نزلت هذه الآية الكريمة قال قوم: شكَّ إبراهيم، ولم يشك نبيُّنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا القول تواضعاً منه؛ وتقديماً لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
[قال القرطبيُّ: اختلف النَّاس في هذا السؤال: هل صدر من إبراهيم - عليه الصلاة والسَّلام - عن شكٍّ، أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ، وإنَّما طلب المعاينة؛ وذلك أنَّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به؛ ولهذا قال - عليه السلام -: «لَيْسَ الخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» رواه ابن عباس قال أبو عمر: لم يروه غيره] .
قوله: {مِّنَ الطير} في متعلِّقه قولان:
أحدهما: أنه محذوفٌ لوقوع الجارِّ صفةً لأربعة، تقديره: أربعةً كائنةً من الطير.
والثاني: أنه متعلقٌ بخذ، أي: خذ من الطير.
و «الطير» اسم جمع، كركبٍ وسفر، وقيل: بل هو جمع طائرٍ، نحو: تاجر وتجر، وهذا مذهب أبي الحسن. وقيل: بل هو مخفَّف من «طَيَّر» بتشديد [الياء] ، كقولهم: «هَيْن ومَيْت» في «هَيِّن ومَيِّت.
قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ:» هو في الأصل مصدر طارَ يطِير، ثم سمِّي به هذا الجنسُ «. فتحصَّل فيه أربعة أقوال.
وجاء جرُّه ب» مِنْ «بعد العدد على أفصح الاستعمال، إذ الأفصح في اسم الجمع في باب العدد أن يفصل بمن كهذه الآية الكريمة، ويجوز الإضافة كقوله تعالى: {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] ؛ وقال ذلك القائل: [الوافر]
1212 - ثَلاثَةَ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي(4/369)
وزعم بعضهم: إن إضافته نادرةٌ، لا يقاس عليها، وبعضهم: أنَّ اسم الجمع لما يعقل مؤنث، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ؛ لما تقدَّم من الآية الكريمة، واسم الجمع لما لا يعقل يذكَّر، ويؤنَّث؛ وهنا جاء مذكراً لثبوت التاء في عدده.
قوله: {فَصُرْهُنَّ} قرأ حمزة، والكسائي: بكسر الصَّاد، والباقون: بضمِّها، وتخفيف الراء. واختلف في ذلك، فقيل: القراءتان يحتمل أن تكونا بمعنًى واحدٍ، وذلك أنه يقال: صاره يصوره ويَصِيرُهُ، بمعنى قطعه، أو أماله، فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين، والقراءتان تحتملهما معاً، وهذا مذهب أبي عليّ.
وقال الفراء:» الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين، وأمَّا الكسر: فمعناه القطع فقط «.
وقال غيره:» الكَسْرُ بمعنى القطع، والضمُّ بمعنى الإمالة «. يقال رجل أصور، أي: مائلُ العنق، ويقال: صار فلان إلى كذا، إذا قال به، ومال إليه، وعلى هذا يصير في الكلام محذوفٌ، كأنه قيل أملهنَّ إليك، وقطِّعهنَّ.
وقال ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد: صرهنَّ بالضم: بمعنى قطِّعهنَّ، يقال صار الشَّيء يصوره صوراً، إذا قطعه، قال رؤبة يصف خصماً ألد: [الرجز]
1213 - صُرْنَاهُ بِالحُكْمِ وَيَبْغِي الحَكَمَا ... أي: قطعناهُ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار، وقال عطاء: معناه اجمعهنَّ، واضممهنَّ إليك، يقال: صار يصور صوراً، إذا اجتمع، ومنه قيل لجماعة النَّحل: صورٌ.
فصل في لفظ «الصِّرِّ» في القرآن
قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: بمعنى القطع؛ كهذه الآية، أي: قطِّعهنَّ إليك صوراً.
الثاني: بمعنى الريح الباردة، قال تعالى: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] أي: بردٌ.
الثالث: يعني الإقامة على الشيء؛ قال تعالى {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} [آل عمران: 135] ، أي: لم يقيموا، ومثله: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} [الواقعة: 46] .(4/370)
ونقل عن الفرَّاء أيضاً: أنه قال: «صَارَه» مقلوبٌ من قولهم: «صَرَاهُ عَنْ كَذَا» ، أي: قطعه عنه، ويقال: صُرْتُ الشيء، فانصار، أي: انقطع؛ قالت الخنساء: [البسيط]
1214 - فَلَوْ يُلاَقِي الَّذي لاَقَيْتُهُ حَضِنٌ ... لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ
أي: تنقطع.
قال المبرد: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر.
واختلف في هذه اللفظة: هل هي عربيةٌ، أو معرَّبة؟ فعن ابن عباس: أنها معرَّبة من النَّبطية، وعن أبي الأسود، أنَّها من السُّريانية، والجمهور على أنها عربيةٌ، لا معرَّبةٌ.
و «إِلَيْكَ» إن قلنا: إِنَّ «صُرْهُنَّ» بمعنى أملهنَّ: تعلَّق به، وإن قلنا: إنه بمعنى: قطِّعهنَّ، تعلَّق ب «خُذْ» .
ولمَّا فسَّر أبو البقاء «فَصُرْهُنَّ» بمعنى: أَمْلْهُنَّ «قدَّر محذوفاً بعده تقديره: فأملهنَّ إليك، ثم قطِّعهنَّ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن - كما تقدم - قدَّر محذوفاً يتعلَّق به» إِلَى «تقديره: قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك. ثم قال:» والأجودُ عندي أن يكون «إليك» حالاً من المفعول المضمر تقديره: فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك، أو ممالةً، أو نحو ذلك «.
وقرأ ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» فَصُرْهُنَّ «بتشديد الراء، مع ضم الصاد وكسرها، مِنْ: صرَّه يَصُرّه، إذا جمعه؛ إلاَّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل - بكسر العين في المضارع - قليلٌ.
ونقل أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى عمَّن شدَّد الراء: أنَّ منهم من يضمُّها، ومنهم من يفتحها، ومنهم من يكسرها، مثل:» مُدَّهُنَّ «فالضمُّ على الإتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين.
قال القرطبي: قرئ» صَرِّهِنَّ «بفتح الصاد، وتشديد الراء مكسورة؛ حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة؛ بمعنى فاحبسهنَّ، من قولهم:» صرَّى يُصَرِّي «: إذا حبس، ومنه الشاة المصرَّاة، قال القرطبي: وها هنا اعتراضٌ ذكره الماوردي، وهو أن يقال: كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى - عليه السلام - في قوله: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] ؟(4/371)
فعنه جوابان:
أحدهما: أن ما سأله موسى لا يصحُّ مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاصٌّ يصحُّ معه بقاء التكليف.
الثاني: أن الأحوال تختلف، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي قوتٍ آخر المنع، فيما لا يتقدَّم فيه إذنٌ.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أمر الله تعالى إبراهيم بهذا، قبل أن يولد، وقبل أن ينزل عليه الصُّحف.
فصل في الطير المأخوذة
قال مجاهدٌ، وعطاءٌ، وابن جريج: أخذ طاووساً، وديكاً، وحمامةً، وغراباً. ونقل عن ابن عباس: ونسراً بدل الحمامة. وقال عطاء الخراساني: بطَّة خضراء، وغراباً أسود، وحمامةً بيضاء، وديكاً أحمر «فَصُرْهُنَّ» أي: قطِّعهنَّ، ومزقهن، وقيل أملهُنَّ على ما تقدَّم.
فصل في الحكمة في نوع الطير وعدده
وها هنا سؤالات:
الأول: ما الحكمة في كونه أمره بأخذ أربعةٍ من الطير، ولم يأمره بأكثر، ولا بأقل؟ {
الثاني: ما الحكمة في كونها من الطير، دون غيرها من الحيوان؟}
الثالث: هل كان من حيوان البحر، ثم الوحش، والطير وبهم الأنعام؟
الرابع: هل كان الأربعة كلُّ واحدٍ مخلوقٌ من غالب عنصرٍ من العناصر الأربعة، كالطير، مخلوق من غالب عنصر الهواء، والسمك مخلوق من غالب عنصر الماء، وحيوان البرّ مخلوقٌ من غالب عنصر التراب، وسراج البحر، والدرّاج التي هي تطيرُ بالليل كلُّها نارٌ، والسَّمندل الذي يعيش في النار فإنهم مخلوقون من غالب عنصر النار.(4/372)
فإن قيل: ما الفائدة في أمره بضمِّها إلى نفسه بعد أخذها؟
فالجواب: فائدته أن يتأمل فيها، ويعرف أشكالها، وهيئاتها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ولا يتوهَّم أنَّها غير تلك، وأجمع المفسِّرون على أن المراد من الآية الكريمة قطعهن، وأنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قطع أعضاءها، ولحومها، وريشها، ودماءها، وخطل بعضها ببعضٍ؛ غير أبي مسلم؛ فإنه أنكر ذلك، وقال: إنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما طلب إحياء الميت من الله تعالى، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه.
والمراد ب {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} الإمالةُ والتمرين على الإجابة، وتعلمها، أي: فعوَّد الطير الأربعة، بحيث تصير إذا دعوتها، أجابتك. والغرض منه ذكر مثالٍ محسوسٍ في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه: فقطعهن.
واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ:
أحدها: أنَّ المشهور في قوله: «فَصُرْهُنَّ» أي: أملهنَّ، وأمَّا التقطيع والذبح، فليس في الآية ما يدل عليه، فكان إدراجه في الآية الكريمة زيادة بغير دليل، وهو لا يجوز.
وثانيها: لو كان المراد قطِّعهنَّ، لم يقل إليك؛ فإنَّ ذلك لا يتعدى بإلى.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديمٌ، وتأخيرٌ، تقديره: فخذ إليك أربعةً من الطير، فصرهن؟
قلنا: التزام التقديم والتَّأخير من غير ضرورة خلاف الظاهر.
وثالثها: أن الضمير في قوله: {ثُمَّ ادعهن} عائدٌ إليها لا إلى أجزائها، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً، وكان الموضوع على كلِّ جبلٍ بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها، وهو خلاف الظاهر، وأيضاً في قوله: {يَأْتِينَكَ سَعْياً} عائد إليها، لا إلى أجزائها، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض، كان الضمير في «يَأْتِينَكَ» عائداً إلى أجزائها لا إليها.(4/373)
واحتجَّ الجمهور بوجوهٍ:
الأول: أنَّ المفسِّرين قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه ذبح تلك الطيور، وقطَّعها أجزاءً، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع.
الثاني: أنَّ ما ذكره غير مختصٍّ بإبراهيم؛ فلا يكون له فيه مزية على الغير.
الثالث: أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - إنما أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى، وظاهر الآية، يدلُّ على أنه أجيب إلى ذلك، وعلى قول أبي مسلمٍ لم تحصل الإجابة في الحقيقة.
الرابع: أنَّ قوله {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} يدلُّ على أنَّ تلك الطيور جعلت أجزاءً.
قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه: إنَّه أضاف الجزء إلى الأربعة، فيجب أن يكون المراد بالجزء، هو الواحد من تلك الأربعة.
وأُجيب بأنَّ ما ذكرتم، وإن كان محتملاً إلاَّ أنَّ ما ذكرناه أظهر، والتقدير: فاجعل على كل جبلٍ من كلِّ واحدٍ منهن جزءاً أو بعضاً.
قوله: {ثُمَّ اجعل} «جَعَلَ» يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء، فيتعدَّى لواحدٍ، وهو «جُزْءاً» ، فعلى هذا يتعلَّق «عَلَى كُلِّ» و «مِنْهُنَّ» ب «اجعل» ، وأن يكون بمعنى «صَيَّر» ، فيتعدَّى لاثنين، فيكون «جُزءاً» الأول، و «عَلَى كُلِّ» هو الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ.
و «منهنَّ» يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفً على أنَّه حالٌ من «جُزْءاً» ، لأنه في الأصل صفة نكرة، فلمَّا قُدِّم عليها، نصب حالاً.
وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ل «اجْعَلْ» يعني: إذا كانت «اجْعَلْ» بمعنى «صَيَّر» ، فيكون «جُزْءاً» مفعولاً أول، و «منهنَّ» مفعولاً ثانياً قدِّم على الأول، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف. [ولا بد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد] قوله: «كُلِّ جَبَلٍ» تقديره: «عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك، أو يليك» حتى يصحَّ المعنى.
وقرأ الجمهور: «جُزْءاً» بسكون الزاي والهمز، وأبو بكر ضمَّ الزاي، وأبو جعفر شدَّد الزاي، من غير همزٍ؛ ووجهها: أنَّه لمَّا حذف الهمزة، وقف على الزاي، ثم ضعَّفها، كما قالوا: «هذا فَرَجّ» ، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف. وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله: {هُزُواً} [البقرة: 67] . وفيه لغةٌ أخرى وهي: كسر الجيم.(4/374)
قال أبو البقاء: «وَلاَ أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها» . والجزء: القطعة من الشيء، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع، والتفرق، ومنه: التجزئة والأجزاء.
فصل في المعنيِّ بالجبل في الآية
ظاهر قوله: {على كُلِّ جَبَلٍ} جميع جبال الدنيا، فذهب مجاهد، والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان، كأنه قيل: فرقها على كلِّ جبلٍ يمكنك التفرقة عليه.
وقال ابن عبَّاس، والحسن، وقتادة، والربيع: أُمر أن يجعل كلَّ طائرٍ أربعة أجزاءٍ، ويجعلها على أربعة أجبلٍ، على كل جبلٍ ربعاً من كل طائرٍ.
وقيل: على حسب الجهات الأربع: أعني المشرق، والمغرب، والشمال، والجنوب. وقال السديُّ، وابن جريج: سبعةٌ من الجبال؛ لأنَّ المراد على كل جبل يشاهده إبراهيم حتى يصح منه دعاء الطائر، وكانت الجبال التي يشاهدها - عليه الصَّلاة والسَّلام - سبعةٌ.
قوله: {يَأْتِينَكَ} جواب الأمر، فهو في محلِّ جزمٍ، ولكنه بُني لاتصاله بنون الإناث.
قوله: {سَعْياً} فيه أوجه:
أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال من ضمير الطير، أي: يَأتينك ساعياتٍ، أو ذوات سعي.
والثاني: أن يكون حالاً من المخاطب، ونقل عن الخليل ما يقوِّي هذا، فإنه روي عنه: «أن المعنى: يأتينك وأنت تسعى سعياً» فعلى هذا يكون «سعياً» منصوباً على المصدر، وذلك الناصب لهذا المصدر في محلِّ نصب على الحال من الكاف في «يَأْتِينَكَ» . قال شهاب الدين: والذي حمل الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا التقدير؛ أنه لا يقال عنده: «سَعَى الطائرُ» فلذلك جعل السَّعي من صفات الخليل - عليه السلام - لا من صفة الطيور.
الثالث: أن يكون «سَعْياً» منصوباً على نوع المصدر؛ لأنه نوعٌ من الإتيان، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ، فكأنه قيل: يأتينك إتياناً سريعاً.
وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ السعي، والإتيان يتقاربان» ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدر المؤكِّد لا يزيد على معنى عامله، إلاَّ أنه تساهل في العبارة.(4/375)
فصل في معنى «سَعْياً»
قيل: معنى «سَعْياً» عدواً ومشياً على أرجلهنَّ؛ لأن ذلك أبلغ في الحجة.
وقيل: «طَيَراناً» . ولا يصحُّ؛ لأنه لا يقال للطائر إذا طار: سعى، ومنهم من أجاب عنه: بأن «السَّعْي» هو الاشتداد في الحركة، فإن كانت الحركة طيراناً، فالسَّعيُ فيها هو الاشتداد في تلك الحركة.
روي أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذبحها، ونتف ريشها، وقطَّعها أجزاءً، وخلط لحمها، وريشها، ودمها، ووضع على كلِّ جبلٍ جزءاً من ذلك المجموع، وأمسك رؤوسهن، ثم دعاهنَّ فقال: تَعَالَيْن بإذن الله تعالى، فجعلت كلُّ قطرةٍ من دم طائرٍ تطير إلى القطرة الأخرى، وكل عظم يصير إلى الآخر من جثَّته، وكل بضعةٍ تصير إلى الأخرى، وإبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - ينظر؛ حتى لقيت كل جثَّة بعضها بعضاً في الهواء بغير رأسٍ، ثم أقبلن إلى رؤوسهنَّ سعياً: كلّث جثَّةٍ إلى رأسها، فانضمَّ كلَّ رأسٍ إلى جثَّته، وصار الكلُّ أحياءً بإذن الله. {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على جميع الممكنات {حَكِيمٌ} عالمٌ بعواقب الأمور، وغاياتها.(4/376)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
لمَّا بين تعالى أصل العلم بالمبدأ، والمعاد، وبيَّن دلائل صحَّتها، أتبع ذلك ببيان الشرائع، والأحكام، فبدأ ببيان التكليف، بالإنفاق.
قال القاضي في كيفية النَّظم: إنه تعالى لمَّا أجمل قوله تعالى {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] فصل بهذه الآية الكريمة تلك الأضعاف، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلَّة على قدرته بالإحياء والإماتة، من حيث: لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب، لكان الإنفاق، وسائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق: قد عرفت أنِّي خلقتك، وأكملت نعمتي عليك، بالإحياء، والإقدار، وقد علمت قدرتي على المجازاة، فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال؛ فإنه يجازي القليل بالكثير، ثمَّ ضرب لذلك الكثير مثلاً.
وقال الأصم: إنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتجّ على الكلِّ بما يوجب تصديق النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ ليرغبوا بالمجاهدة بالنفس، والمال، في نصرته، وإعلاء شريعته.(4/376)
وقيل: لما بيَّن تعالى أنَّه وليُّ المؤمنين، وأن الكفَّار أولياؤهم الطاغوت، بيَّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله، وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت.
فصل في سبب نزول الآية
[روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفَّان، وعبد الرحمن بن عوف]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ «وذلك أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما حثَّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة» تَبُوك «، جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم، فقال: يا رسول الله، كان عندي ثمانية آلافٍ، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلافٍ، وأربعة آلافٍ أقرضتها لربِّي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ «وقال عثمان: يا رسول الله، عليَّ جهاز من لا جهاز له؛ فنزلت هذه فيهما.
وروى البستي عن ابن عمر، قال:» لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي» ؛ فنزلت: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي» ، فنزلت {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] .
قوله «مَثَلُ» مبتدأُ، و «كَمَثَلِ حَبَّةٍ» خبره. ولا بدَّ من حذفٍ، حتى يصحَّ التشبيه؛ لأنَّ الذين ينفقون لا يشبَّهون بنفس الحبة.
واختلف في المحذوف، فقيل: من الأول، تقديره: ومثل منفق الذين، أو نفقة الذين.
وقيل: من الثاني، تقديره: ومثل الذين ينفقون كزارع حبةٍ؛ أو من الأول، والثاني باختلاف التقدير، أي: مثل الذين ينفقون، ونفقتهم كمثل حبَّةٍ وزارعها.
وهذه الأوجه قد تقدَّم تقريرها محررةً عند قوله تعالى:
{وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] . والقول بزيادة الكاف، أو «مِثْلَ» بعيدٌ جدّاً، فلا يلتفت إليه.(4/377)
والحبَّة: واحدة الحبِّ، وهو ما يزرع للاقتيات، وأكثر إطلاقه على البر، قال المتلمِّس: [البسيط]
1215 - آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ ... وَالحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ
و «الحِبَّة» بالكسر: بذور البقل ممَّا لا يقتات به، و «الحُبَّة» بالضَّمِّ: الحُبُّ.
والحُبُّ: المحبة، وكذلك «الحِبّ» بالكسر، والحِبُّ أيضاً: الحبيب، وحبة القلب سويداؤه، ويقال ثمرته، وهو ذاك.
قوله: {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} أي: أخرجت وهذه الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ لحبة، كأن قيل: كمثل حبَّةٍ منبتةٍ.
وأدغم تاء التأنيث في سين «سَبْع» أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشامٌ. وأظهر الباقون، والتاء تقارب السين، ولذلك أُبدلت منها؛ قالوا: ناسٌ، وناتُ، وأكياسٌ، وأكياتٌ؛ قال: [الرجز]
1216 - عَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ ... لَيْسُوا بَأَجْيَادٍ وَلاَ أَكْيَاتِ
أي: شرار الناس، ولا أكياسِ.
وجاء التَّمييز هنا على مثال مفاعل، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألف والتَّاء، فقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: هلاَّ قيل:» سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ «على حقِّه من التمييز بجمع القلَّة، كما قال: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ} [يوسف: 43 و46] . قلت: هذا لما قدَّمت عند قوله: {ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] من وقوع أمثلة الجمع [متعاورةً] مواقعها» .
يعني: أنه من باب الاتساع، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص، [ولا محَصِّلٍ] ، فلا بدَّ من ذكر قاعدةٍ مفيدة في ذلك:
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعلم أن جمعي السَّلامة لا يميَّز بهما عددٌ إلا في موضعين:
أحدهما: ألا يكون لذلك المفرد جمعٌ سواه، نحو: سبع سموات، وسبع بقرات، وسبع سنبلات، وتسع آيات، وخمس صلوات، لأنَّ هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة، فأمَّا قوله: [الطويل]
1217 - ... ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... ... ...(4/378)
فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا
فشاذٌ، منصوصٌ على قلَّته، فلا يلتفت إليه.
والثاني: أن يعدل إليه لمجاوزة غيره، كقوله: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ} [يوسف: 43 و46] عدل من «سَنَابِلَ» إِلى «سُنْبُلاَتٍ» ؛ لأجل مجاورته «سَبْعَ بَقَرات» ، ولذلك إذا لم توجد المجاورة، ميِّز بجمع التكسير دون جمع السلامة، وإن كان موجوداً نحو: «سَبْعَ طَرَائِق، وسَبْعِ لَيَالٍ» مع جواز: طريقات، وليلات.
والحاصل أنَّ الاسم إذا كان له جمعان: جمع تصحيح، وجمع تكسيرٍ، فالتكسير إمَّا للقلة، أو للكثرة، فإن كان للكثرة: فإمَّا من باب مفاعل، أو من غيره، فإن كان من باب مفاعل، أُوثر على التصحيح، تقول: ثلاثة أحَامِدَ، وثَلاَثُ زَيَانِبَ، ويجوز قليلاً: أَحْمَدِينَ وَزَيْنَبَات.
وإن كان من غير باب مفاعل: فإمَّا أن يكثر فيه من غير التصحيح، وغير جمع الكثرة، أو يقلَّ.
فإن كان الأول: فلا يجوز التصحيح، ولا جمع الكثرة إلا قليلاً؛ نحو: ثَلاثَةُ زُيُودٍ، وَثَلاثُ هُنُودٍ، وثَلاَثَةُ أَفْلُسٍ، ولا يجوز: ثلاثةُ زيْدِينَ، ولا ثَلاَثُ هِنْدَات، ولا ثَلاَثةُ فُلُوسٍ، إلاَّ قليلاً.
وإن كان الثاني: أُوثر التصحيح وجمع الكثرة، نحو: ثلاثُ سُعَادَات، وثلاثة شُسُوع، وعلى قلّة يجوز: ثَلاثُ سَعَائد، وثلاثةُ أشْسُع. فإذا تقرَّر هذا، فقوله: «سَبْعَ سَنَابِلَ» جاء على المختار، وأمَّا قوله «سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ» ؛ فلأجل المجاورة كما تقدَّم.
وقيل: لمَّا كان الكلام - ها هنا - في تضعيف الأجر، ناسبها جمع الكثرة، وفي سورة يوسف ذكرت في سياق الكلام في سني الجدب؛ فناسبها التقليل؛ فجمعت جمع القلة.
والسُّنْبُلَةُ فيها قولان:
أحدهما: أنَّ نونها أصليةٌ؛ لقولهم: «سَنْبَلَ الزرعُ» أي: أخرج سنبله.
والثاني: أنها زائدةٌ، وهذا هو المشهور؛ لقولهم: «أَسْبَلَ الزرعُ» ، فوزنها على الأول: فُعلُلَةٌ، وعلى الثاني: فُنْعُلَة، فعلى ما ثبت من حكاية اللُّغتين: سَنْبَلَ الزرعُ، وأسْبَلَ تكون من باب سَبِط وسِبَطْر.
قال القرطبي: من أسْبَلَ الزرعُ: إذا صار فيه السُّنبل، كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل: معناه: صار فيه حبٌّ مستورٌ، كما يستر الشيء بإسبال السَّتر عليه.(4/379)
قوله: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ} هذا الجارُّ في محلِّ جر؛ صفةً لسنابل، أو نصبٍ؛ صفةً لسبع، نحو: رأيت سبع إماءٍ أحرارٍ، وأحراراً، وعلى كلا التقديرين فيتعلَّق بمحذوفٍ.
وفي رفع «مئة» وجهان:
أحدهما: بالفاعلية بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وقع صفةً.
والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره، والجملة صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍّ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم، إلاَّ أنَّ الوجه [الأول] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات، دون الجمل. ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ، أي: في كلِّ سنبلة منها، أي: من السنابل.
والجمهور على رفع: «مِئَة» على ما تقدَّم، وقرئ: بنصبها.
وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين:
أحدهما: بإضمار فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ، أو أَخْرَجَتْ.
والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره، والجملة صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍّ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم، إلاَّ أنَّ الوجه [الأول] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات، دون الجمل. ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ، أي: في كلِّ سنبلة منها، أي: من السنابل.
والجمهور على رفع: «مِئَة» على ما تقدَّم، وقرئ: بنصبها.
وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين:
أحدهما: بإضمار فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ، أو أَخْرَجَتْ.
والثاني: أنها بدلٌ من «سَبْعِ» ، وردَّ بأنَّه لا يخلو: إمَّا أن يكون بدل [كلِّ] من كلٍّ، أو بدل بعضٍ من كلٍّ، أو بدل اشتمالٍ.
فالأول: لا يصحُّ؛ لأنَّ المائة ليست كلَّ السبع سنابل.
والثاني: لا يصحُّ - أيضاً؛ لعدم الضمير الراجع على المبدل منه، ولو سلِّم عدم اشتراط الضمير، فالمئة ليست بعض السبع؛ لأنَّ المظروف ليس بعضاً للظرف، والسنبلة ظرفٌ للحبة، ألا ترى قوله: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فجعل السُّنْبُلَة وعاءٌ للحَبِّ.
والثالث - أيضاً - لا يصحُّ؛ لعدم الضَّمير، وإن سُلِّم، فالمشتمل على «مِئَةِ حَبَّةٍ» هو سنبلة من سبع سنابل، إلا أن يقال إنَّ المشتمل على المشتمل على الشيء، هو مشتملٌ على ذلك الشيء، فالسنبلة مشتملةٌ على مائة والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل، فلزم أنَّ السبع مشتملةٌ على «مائة حبة» .
وأسهل من هذا كلِّه أن يكون ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: حبَّ سَبْع سَنَابِلَ، فعلى هذا يكون «مِئَةُ حَبَّةٍ» بدل بعضٍ من كل.
فصل في المقصود بسبيل الله
معنى {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} يعني: دينه، قيل: أراد النفقة في الجهاد خاصَّةً، وقيل: جمع أبواب الخير من الواجب والنَّفل.
قال القرطبيُّ: شبَّه المتصدِّق بالزَّارع، وشبَّه البذر بالصدقة، فيعطيه بكل صدقةٍ(4/380)
له سبعمائة حسنة، ثمَّ قال {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزَّارع، إن كان حاذقاً في عمله فيكون البذر جيّداً، وتكون الأرض عامرةً يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحاً، والمال طيِّباً، ويضعه موضعه، فيصير الثواب أكثر.
فإن قيل: لم نر سُنبُلَةً فيها مائة حبَّةٍ، فكيف ضرب المثل بها؟
فالجواب: قال القفَّال: المقصود أنه لو علم طالب الزيادة والرِّبح أنَّه إذا بذر حبَّةً واحدةً، أخرجت له سبعمائة حبةٍ ما كان ينبغي له ترك ذلك، فكذلك ينبغي لطالب الآخرة والأجر عند الله ألاَّ يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة، وإذا كان المراد منه هذا المعنى فسواء وجدت هذه السنبلة، أو لم توجد، فإنَّ المعنى حاصل مستقيم. وقيل: وجد ذلك في الدُّخن.
{والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} .
قيل: معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء.
وقيل يضاعف على هذا، ويزيد لمن يشاء، ما بين سبع إلى سبعين، إلى سبعمائة، إلى ما شاء الله من الأضعاف، مما لا يعلمه إلا الله تعالى. {والله وَاسِعٌ} أي: القدرة على سبيل المجازاة على الجود، والإفضال عليهم بنية من ينفق ماله.
فصل في الاستدلال بالآية على فضل الزراعة
قال القرطبيُّ: دلَّت هذه الآية على أنَّ حرفة الزَّرع من أعلى الحرف، التي يتخذها الناس، والمكاسب التي يشتغل بها العمَّال، ولذلك ضرب الله به المثل وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً، أو يَزْرَعُ زَرْعاً فَتأَكْلُ مِنْهُ الطَّيْرُ، أو إِنْسَانٌ، أوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَة» رواه مسلم.
وروى الترمذي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «الْتَمِسُوا الرِّزْقَ في خَبَايَا الأَرْضِ» ، يعني: الزَّرع، والزِّراعة من فروض الكفايات،(4/381)
يجب على الإمام أن يجبر النَّاس عليها، وما كان في معناها من غرس الأشجار.(4/382)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
{الذين يُنْفِقُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره الجملة من قوله تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ} ، ولم يضمَّن المبتدأ هنا معنى الشَّرط، فلذلك لم تدخل الفاء في خبره، لأنَّ القصد بهذه الجملة تفسير الجملة التي قبلها؛ لأنَّ الجملة قبلها أخرجت مخرج الشَّيء الثَّابت المفروغ منه، وهو تشبيه نفقتهم بالحبَّة المذكورة، فجاءت هذه الجملة كذلك، والخبر فيها أُخرج مخرج الثَّابت المستقرِّ غير المحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع [غيره] ما قبله.
والثاني: أنَّ {الذين} خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين ينفقون، وفي قوله: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ} على هذا وجهان:
أحدهما: أنَّها في محل نصبٍ على الحال.
والثاني: - وهو الأولى - أن تكون مستأنفةٌ، لا محلَّ لها من الإعراب، كأنها جواب سائل قال: هل لهم أجرٌ؟ وعطف ب «ثمّ» جَرْياً على الأغلب؛ لأنَّ المتصدِّق لغير وجه الله لا يحصل منه المنُّ عقيب صدقته، ولا يؤذي على الفور، فجرى هذا على الغالب، وإن كان حكم المنِّ والأذى الواقعين عقيب الصّدقة كذلك.
قال الزَّمخشريُّ: ومعنى «ثُمَّ» : إظهار التَّفاوت بين الإنفاق، وترك المنِّ والأذى، وأنَّ تركهما خبرٌ من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدُّخول فيه بقوله: {ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] ، فجعلها للتَّراخي في الرُّتبة، لا في الزَّمان، وقد تكرَّر له ذلك غير مرَّةٍ.
و «مَا» في قوله تعالى: {مَآ أَنْفَقُواُ} يجوز أن تكون موصولةً اسميّةً، فالعائد محذوفٌ، أي: ما أنفقوه، وأن تكون مصدريةً، فلا تحتاج إلى عائدٍ، أي: لا يتبعون إنفاقهم. ولا بدَّ من حذفٍ بعد «مَناً» ، أي: مناً على المنفق عليه، ولا أذى له، فحذف للدّلالة عليه.
والمنُّ: الاعتداد بالإحسان، وهو في الأصل: القطع، ولذلك يطلق على النِّعمة؛ لأنَّ المنعم يقطع من ماله قطعةً للمنعم عليه. يقال: قد منَّ الله على فلان، إذا أنعم عليه، ولفلان عليَّ منَّةٌ، أي: نعمة؛ وأنشد ابن الأنباريّ: [الطويل]
1218 - فَمُنِّي عَلَيْنَا بالسَّلاَمِ فَإِنَّمَا ... كَلاَمُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمٌ(4/382)
ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَمَنَّ عَلَيْنَا في صُحْبَتِهِ، وَلاَ ذَات يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ» يريد أكثر إنعاماً بماله، وأيضاً فالله تعالى يوصف بأنَّه منَّانٌ، أي: منعمٌ، و «المنّ» أيضاً النَّقص من الحقّ. قال تبارك وتعالى: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] أي: غير مقطوع وغير ممنوع؛ ومنه سمي الموت منوناص؛ لأنه ينقص الحياة، ويقطعها، ومن هذا الباب: المنَّةُ المذمومة؛ لأنَّها تنقص النّعمة، وتكدّرها، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنِّعمة قال قائلهم: [الرمل]
1219 - زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عِظَماً ... أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حَقِيرْ
تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ ... وَهْوَ في العَالَمِ مَشْهُودٌ كَثِيرْ
والمنُّ: الذي يوزن به، ويقال في هذا: «مَنَا» مثل: عَصَا. وتقدَّم اشتقاق الأذى.
و «مَنّاً» مفعولٌ ثانٍ، و «لاَ أَذًى عطفٌ عليه، وأبعد من جعل» وَلاَ أَذًى «مستأنفاً، فجعله من صفات المتصدِّق، كأنَّ قال: الذين ينفقون، ولا يتأذَّون بالإِنفاق، فيكون» أَذى «اسم لا، وخبرها محذوفٌ، أي: ولا أذًى حاصل لهم، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النَّهي.
قال شهاب الدِّين: وهذا تكلُّفٌ، وحقُّ هذا القائل أن يقرأ» وَلاَ أَذَى «بالألف غير منوَّنٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الفتح على مشهور مذهب النُّحاة.
فصل في سبب النزول
قال الكلبيُّ: نزلت في عثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف.
أمَّا عثمان فجهّز جيش العسرة في غزوة» تبوك «، بألف بعيرٍ بأقتابها، وأحلاسها، وألف دينارٍ.
» قال عبد الرَّحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينارٍ في جيش العسرة، فصبّها في حجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدخل فيها يده الكريمة ويقلبها، ويقول: «مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْم» وقال «يَا رَبِّ؛ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ» فنزلت هذه الآية الكريمة.
«وأمَّا عبد الرحمن بن عوفٍ، فإنَّه جاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(4/383)
فقال: كانت عندي ثمانية آلاف، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلافٍ أقرضتها ربّي، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ، وفِيمَا أَعْطَيْتَ «فنزلت الآية. وقال بعض المفسِّرين: إن الآية المتقدمة مختصّة فيمن أنفق على نفسه وهذه الآية الكريمة فيمن أنفق على غيره، فبين تعالى أنَّ الإنفاق على الغير، يوجب الثَّواب المذكور في الآية المتقدِّمة، إذا لم يتبعه» مَنّ «،» ولا أَذًى «قال القفَّال: وقد يحتمل أن يكون هذا الشَّرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمؤمنين، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين، مثل أن يقول: لو لم أحضر لما تمَّ هذا الأمر، ويقول لغيره: أنت ضعيفٌ لا منفعة بك في الجهاد.
وقال بعضهم:» فِي سبيلِ «، أي: طاعة الله - تعالى -؛ ولا يمنّ بعطائه، ولا يعدّ عليه نعمه، فيكدرها عليه ولا يؤذيه بأن يعيره، فيقول: إلى كم تسأل، وكم تؤذيني؟ وقيل: الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه.
وقال سفيان:» مَنّاً وَلاَ أَذًى «: هو أن قول: قد أعطيتك، فما شكرت. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً، ورأيت أنَّ سلامك يثقل عليه، فكف سلامك عنه، فحظر الله على عباده المنَّ بالصَّنيعة، واختصّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّه من العباد تعييرٌ وتكديرٌ، ومن الله إفضال، وتذكير، وإنَّما كان المنُّ، والأذى مذموماً، لأنَّ الفقير الآخذ للصَّدقة منكسر القلب، لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك: إظهار ذلك الإنعام، زاد ذلك في انكسار قلبه، فيكون في حكم المضرَّة بعد المنفعة، وينفّر أهل الحاجة عن الرَّغبة في صدقته إذا اشتهر بتلك الطَّريقة، وأمَّا» الأذَى «، فمنهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين، وليس بظاهرٍ، بل اختصاصه بما تقدَّم من أذى الفقير أولى.
فإن قيل: ظاهر اللَّفظ: أنَّ مجموع المنّ، والأذى يبطلان الأجر، فيلزم منه أنَّه لو وجد أحدهما دون الآخر، لا يبطل الأجر.
قلنا: بل الشَّرط ألاَّ يوجد واحدٌ منهما؛ لأن قوله: {لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى} يقتضي ألاَّ يقع منه، لا هذا، ولا ذاك.
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
قالت المعتزلة: الآية الكريمة دلَّت على أنَّ الكبائر تحبط ثواب فاعلها؛ وذلك لأنَّ الله - تعالى - بين أنَّ هذا الثَّواب إنَّما يبقى إذا لم يوجد المنّ والأذى؛ لأنَّه لو ثبت مع(4/384)
فقدهما، ومع وجودهما؛ لم يكن لهذا الاشتراط فائدة.
وأُجيبوا بأنَّ المراد منها أنَّ حصول المنّ والأذى يخرجان الإنفاق عن أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً من حيث يدلاَّن على أنَّه إنَّما أنفق لكي يمنّ، ولم ينفق، لطلب رضوان الله، ولا على وجه القربة والعبادة، فلا جرم، بطل الأجر.
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجَّت المعتزلة بقوله تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} على أنَّ العمل موجبٌ للأجر على الله - تعالى -.
وأجيبوا بأنَّ حصول الأجر بسبب الوعد، لا بسبب نفس العمل؛ لأن العمل واجبٌ على العبد، وأداء الواجب لا يوجب الأجر.
فصل
وأجمعت الأمَّة على أنَّ قوله: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مشروطٌ بعدم الكفر، وذلك يدلُّ على جواز التَّكلُّم بالعام لإرادة الخاصّ، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللَّفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التَّمسُّك بالعمومات على القطع بالوعيد.
قوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فيه قولان:
أحدهما: أنَّ إنفاقهم في سبيل الله، لا يضيع، بل يجدونه يوم القيامة، فلا يخافون فقده «وَلاَ يَحْزَنُونَ» بسبب ألاَّ يوجد، ونظيره {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [طه: 112] .
الثاني: أنهم يوم القيامة، لا يخافون العذاب ألبتة، ونظير {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] وقال {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] .(4/385)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
في قوله: {مَّعْرُوفٌ} ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه مبتدأٌ، وساغ الابتداء بالنَّكرة لوصفها، وللعطف عليها. و «مَغْفِرةٌ» عطفٌ عليه، وسوَّغ الابتداء بها العطف، أو الصِّفة المقدَّرة، إذ التَّقدير: ومغفرةٌ من السَّائل، أو من الله. و «خَيْرٌ» خبرٌ عنهما. وقال أبو البقاء في هذا الوجه: «والتَّقدير:(4/385)
وسبب مغفرة، لأنَّ المغفرة من الله تعالى، فلا تفاضل بينهما، وبين فعل العبد، ويجوز أن تكون المغفرة: مجاوزة المتصدّق، واحتماله للفقير، فلا يكون فيه حذف مضافٍ» .
الثاني: أنَّ {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} مبتدأٌ وخبره محذوفٌ، أي: أمثل، أو أولى بكم، و «مَغْفِرَةٌ» مبتدأق، و «خَيْرٌ» خبرها، فهما جملتان، ذكره المهدوي وغيره. قال ابن عطيَّة: «وهذا ذهابٌ برونق المعنى» .
والثالث: أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ تقديره: المأمور به قولٌ معروفٌ.
وقوله: {يَتْبَعُهَآ أَذًى} في محلِّ جرِّ صفةً لصدقةٍ، فإن قيل لم يعد ذكر المنِّ فيقول: يتبعها منٌّ، وأذى. فالجواب؛ لأنَّ الأذى يشمل المنَّ، وغيره، وإنَّما نصَّ عليه في قوله: {لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى} [البقرة: 262] لكثرة وقوعه من المتصدِّقين، وعسر تحفُّظهم منه، ولذلك قدِّم على الأذى.
فصل
القول المعروف: هو القول الذي تقبله القلوب، والمراد منه هنا: ردُّ السَّائل بطريقٍ حسنٍ.
وقال عطاءٌ: عِدَةٌ حسنة.
وقال القرطبيُّ: وروي من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِذَا سأَلَ السَّائِلُ فَلاَ تَقْطَعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ رُدّوا عليه بِوَقَارٍ، وَلِينٍ، أو ببذل يَسِيرٍ، أوْ رَدٍّ جميلٍ، فقد يأْتِيكُم مَنْ لَيْسَ بإِنْسٍ ولا جَانّ يَنْظُرُونَ صَنِيعَكُم فيما خَوَّلَكُمُ اللهُ تعالى» .
وأمَّا المغفرة فقيل: هي العفو عن بذاءة الفقير، والصَّفح عن إساءته فإنه إذا ردَّ بغير مقصوده؛ شقَّ عليه ذلك، فربَّما حمله ذلك على بذاءة اللِّسان.
وقيل المراد ونيل مغفرةٍ من الله بسبب الردّ الجميل.
وقال الضَّحَّاك: نزلت في إصلاح ذات البين.
وقيل المراد: أن يستر حاجة الفقير، فلا يهتك ستره، ولا يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله.
وقيل: إن قوله {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} خطابٌ مع المسؤول بأن يردّ السَّائل بأحسن الطُّرق.(4/386)
وقوله «مَغْفِرَةٌ» : خطابٌ مع السَّائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرَّدِّ، فإنَّه ربَّما لم يقدر على ذلك المطلوب في تلك الحالة، ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ فعل الرَّجل لهذين الأمرين خير له من صدقةٍ يتبعها أذى؛ لأنَّه إذا أعطى، وأَتْبع الإعطاء بالأذى، فقد جمع بين النفقة والإضرار.
وأمَّا القول المعروف، فقيه نفعٌ بلا ضررٍ؛ لأنَّه يتضمَّن إيصال السُّرور إلى قلب المسلم، فكان خيراً من الأوَّل.
قال بعضهم: الآية الكريمة واردة في التَّطوُّع؛ لأنَّ الواجب لا يحلُّ منعه ولا ردّ السّائل منه، ويحتمل أن يراد به الواجب، فإنَّه قد يعدِل به عن سائلٍ إلى سائلٍ، وعن فقيرٍ إلى فقيرٍ. ثم قال: {والله غَنِيٌّ} عن صدقة العباد، وإنما أمركم بها ليثيبكم عليها {حَلِيمٌ} لم يتعجَّل بالعُقُوبة على من يمنّ، ويؤذي بصدقته.(4/387)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
اعلم أنَّه تعالى، لم ذكر هذين النَّوعين من الإنفاق ضرب واحداً منهما مثلاً.
قوله: {كالذي} الكاف في محلِّ نصبٍ، فقيل: نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: لا تبطلوها إبطالاً كإبطال الذي ينفق رئاء النَّاس. وقي: في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدر المقدَّر كما هو رأي سيبويه، وقيل: حالٌ من فاعل «تُبْطِلُوا» ، أي: لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق ماله رياء النَّاس.
و {رِئَآءَ} فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ تقديره: إنفاقاً رئاء النَّاس، كذا ذكره مكي.
والثاني: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل رئاء النَّاس، واستكمل شروط النَّصب.
الثالث: أنه في محلِّ حالٍ، أي: ينفق مرائياً.
والمصدر هنا مضافٌ للمفعول، وهو «النَّاس» ، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالاً، والأصل: «رِئايا» فالهمزة الأولى عين الكلمة، والثانية بدلٌ من ياءٍ هي لام الكلمة، لأنها(4/387)
وقعت طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ. والمفاعلة في «راءَى» على بابها، لأنَّ المرائي يري النَّاس أعمال؛ حتى يروه الثَّناء عليه، والتَّعظيم له. وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم -: «رِيَاء» بإبدال الهمزة الأولى ياء، وهو قياس الهمزة تخفيفاً؛ لأنَّها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ.
قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ} مبتدأٌ وخبرٌ، ودخلت الفاء، قال أبو البقاء: «لتربط الجُمْلَة بِمَا قَبْلَهَا» كما تقدَّم، والهاء في «فَمَثَلُهُ» فيها قولان:
أظهرهما: أنها تعود على «الَّذي يُنْفِقُ رِئَاءَ النَّاسِ» ؛ لأنَّه أقرب مذكورٍ فيكون المعنى أنَّ الله شبّه المانَّ المؤذي بالمنافق، ثم شبَّه المنافق بالحجر.
والثاني: أنها تعود على المانِّ المؤذي، كأنه تعالى شبَّهه بشيئين: بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه ترابٌ، فيكون قد عدل من خطاب إلى غيبة، ومن جمع إلى إفراد.
والصَّفوان: حجرٌ كبيرٌ أملس، وفيه لغتان:
أشهرهما سكون الفاء، والثانية فتحها، وبها قرأ ابن المسيّب والزُّهريُّ، وهي شاذَّةٌ؛ لأنَّ «فَعَلان» إنَّما يكون في المصادر نحو: النَّزوان، والغليان، والصفات نحو: رجلٌ طغيان وتيس عدوان، وأمَّا في الأسماء فقليلٌ جداً. واختلف في «صَفْوَان» فقيل: هو جمعٌ مفرده: صفا، قال أبو البقاء: «وجَمْعُ» فَعَلَ «على» فَعْلاَن «قليلٌ» . وقيل: هو اسم جنس.
قال أبو البقاء: «وهو الأجود، ولذلك عاد الضَّمير عليه مفرداً في قوله: عَلَيْه» .
وقيل: هو مفردٌ، واحده «صُفيٌّ» قاله الكسائي، وأنكره المبرَّد. قال: «لأنَّ صُفيّاً جمع صفا نحو: عصيّ في عصا، وقُفِيّ في قَفَا» . ونقل عن الكسائي أيضاً أنه قال: «صَفْوان مفردٌ، ويجمع على صِفوان بالكسر» . قال النَّحاس: «ويجوز أن يكون المكسور الصَّاد واحداً أيضاً، وما قاله الكسائيُّ غير صحيح، بل صفوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصفا ك» وَرَل «وَوِرْلان، وأخ وإخوان وكرى وكروان» .
وحكى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الصَّلإوان، والصَّفا، والصَّفو واحد والكلُّ مقصورٌ.
وقال بعضهم: الصَّفوان: جمع صفوانة، كمرجانٍ ومرجانةٍ وسعدان، وسعدانة.(4/388)
وقال بعضهم: الصَّفوان: هو الحجر الأملس، وهو واحدٌ وجمعٌ.
و {عَلَيْهِ تُرَابٌ} : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ، وخبرٍ، وقعت صفةً لصفوان، ويجوز أن يكون «عَلَيْه» وحده صفةً له، و «تُرَابٌ» فاعلٌ به، وهو أولى لما تقدَّم عند قوله {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] . والتُّراب معروفٌ وهو اسم جنسٍ، لا يثنَّى، ولا يجمع.
وقال المبرِّد: وهو جمع واحدته «ترابة» . وذكر النَّحَّاس له خمسة عشر اسماً: ترابٌ وتَوْرَبٌ، وتَوْرَابٌ، وتَيْرَابٌ وإِثْلَب وأَثْلَب وَكَثْكَثٌ وَكِثْكِثٌ ودَقْعَمٌ وَدَقْعَاءُ ورَغام بفتح الراء، ومنه: أرغم الله أنفه أي: ألصقه بالرَّغام وبَرى، وقرى بالفتح مقصوراً [كالعصا وكملح وعثير] وزاد غيره تربة وصعيد.
ويقال: ترب الرَّجل: افتقر. ومنه: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] كأنَّ جلده لصق به لفقره، وأترب، أي: استغنى، كأنَّ الهمزة للسَّلب، أو صار ماله كالتُّراب.
قوله: {فَأَصَابَهُ} عطفٌ على الفعل الذي تعلَّق به قوله: «عَلَيْهِ» ، أي: استقرَّ عليه ترابٌ، فأصابه. والضَّمير يعود على الصَّفوان، وقيل: على التُّراب. وأمَّا الضَّمير في «فَتَرَكَهُ» فعلى الصفوان فقط. وألف «أصَابَه» من واوٍ؛ لأنه من صاب يصوب.
والوابل: المطر الشَّديد، وبلت السَّماء تبل، والأرض موبولة، ويقال أيضاً: أوبل، فهو موبل، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل، وأفعل، وهو من الصِّفات الغالبة كالأبطح، فلا يحتاج معه إلى ذكر موصوفٍ. قال النَّضر بن شيملٍ:
أولُ ما يَكُونُ المَطَرُ رَشاً، ثم طشاً، ثم طَلاًّ، ورَذاذاً، ثم نضحاً، وهو قطرٌ بين قطرين، ثم هطلاً وتهتاناً، ثم وابلاً وجوداً. والوبيل: الوخيم، والوبيلة: حزمة الحطب، ومنه قيل للغليظة: وبيلةٌ على التَّشبيه بالحزمة.
قوله: {فَتَرَكَهُ صَلْداً} كقوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] . والصَّلد: الأجرد الأملس، ومنه: «صَلَدَ جبينُ الأصْلَعِ» : أي برق، والصَّلد أيضاً صفة، يقال: صلد بكسر اللام يصلد بفتحها، فهو صلد. قال النَّقَّاش: «الصَّلْدُ بلغة هُذَيل» . وقال أبان بن تغلب: «الصَّلْد: اللَّيِّن من الحجارة» وقال علي بن عيسى: «هو من الحجارة ما لا خير فيه، وكذلك من الأرضين وغيرها، ومنه:» قِدْرٌ صَلُود «أي: بطيئة الغَلَيان» ، وصلد الزّند: إذا لم يورد ناراً.
قوله: {لاَّ يَقْدِرُونَ} في هذه الجملة قولان:
أحدهما: أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب.
والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من «الَّذِي» في قوله: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ} ،(4/389)
وإنما جمع الضَّمير حملاً على المعنى، لأنَّ المراد بالذي الجنس، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرَّةً في قوله: «مَالَهُ» و «لاَ يُؤْمِنُ» ، «فمثلُه» وعلى معناه أخرى.
وصار هذا نظير قوله: {كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} [البقرة: 17] ثم قال: {بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} [البقرة: 17] ، وقد تقدَّم.
وزعم ابن عطيَّة أنَّ مهيع كلام العرب الحمل على اللَّفظ أولاً، ثم المعنى ثانياً، وأنَّ العكس قبيحٌ، وتقدَّم الكلام معه في ذلك. وقيل: الضَّمير في «يَقْدِرُونَ» عائدٌ على المخاطبين بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم} ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وفيه بعدٌ.
وقيل: يعود على ما يفهم من السِّياق، أي: لا يقدر المانُّون، ولا المؤذون على شيءٍ من نفع صدقاتهم. وسمَّى الصّدقة كسباً.
قال أبو البقاء: «وَلا يَجُوزُ أن يَكُونَ» لاَ يَقْدِرُونَ «حالاً من» الَّذِي «؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله:» فَمَثَلُه «وما بعده» . ولا يلزم ذلك؛ لأنَّ هذا الفصل فيه تأكيدٌ، وهو كالاعتراض «.
فصل
قال القاضي: إنه تبارك وتعالى أكَّد النَّهي عن إبطال الصَّدقة بالمنّ، والأذى، وأزال كلّ شبهة للمرجئة، وبيَّن أنَّ المنَّ والأذى يبطلان الصَّدقة، ومعلومٌ أنَّ الصَّدقة قد وقعت، فلا يصحُّ أن تبطل، فالمراد إبطال أجرها، لأنَّ الأجر لم يحصل بعد، وهو مستقبل، فيصحُّ إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى.
واعلم أنَّه تعالى ضرب لكيفية إبطال الصَّدقة بالمنّ والأذى مثلين، فمثله أوَّلاً: بمن ينفق ماله رئاء النَّاس، وهو مع ذلك لا يؤمن بالله، واليوم الآخر، لأنَّ بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر، أظهر من بطلان أجر صدقة من يُتْبعها بالمنّ، والأذى. ثم مثَّله ثانياً: ب» الصَّفْوَانِ «الذي وقع عليه تُرابٌ، وغبارٌ، ثم أصابه المطر القويُّ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتّى يصير كأنه لم يكن عليه غبار أصلاً، فالكافر كالصَّفوان، والتُّراب مثل ذلك الإنفاق، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر، وكالمنّ والأذى اللَّذين يحبطان عمل هذا المنفق.
قال: فكما أنَّ الوابل أزال التُّراب الذي وقع على الصَّفوان، فكذلك المنّ والأذى، وجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله، وذلك صريحٌ في القول بالإحباط.
قال الجبَّائيُّ: وكما دلّ هذا النَّص على صحَّة قولنا فالعقل دلَّ عليه عليه أيضاً؛(4/390)
لأن من أطاع، فلو استحقّ ثواب طاعته، وعقاب معصيته لوجب أن يستحقّ النّقيضين؛ لأنَّ شرط الثَّواب أن يكون منفعة خالصةً دائمةً مقرونةً بالإجلال، وشرط العقاب أن يكون مضرةً خالصةً دائمةً مقرونةً بالإهانة فلو لم تقع المحابطة، لحصل استحقاق النّقيضين وذلك محال، ولأنَّه حين يعاقبه، فقد منعه الإثابة، ومنع الإثابة ظلمٌ، وهذا العقاب عدل، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنَّه حقّه، وأن يكون ظلماً من حيث إنَّه منع الإثابة، فيكون ظلماً بنفس الفعل الذي هو عادلٌ فيه؛ وذلك محال، فصحّ بهذا النَّصّ ودلالة العقل صحّة قولنا في الإحباط والتَّكفير.
وأجيبوا بأنه ليس المراد بقوله «لاَ تُبْطِلُوا» النَّهي عن إزالة هذا الثَّواب بعد ثبوته، بل المراد به ألاَّ يأتي بهذا العمل باطلاً؛ لأنَّه إذا قصد به غير وجه الله تعالى، فقد أتى به من الابتداء موصوفاً بالبطلان.
قال ابن الخطيب: ويدلّ على بطلان قول المعتزلة وجوه:
أولها: أنَّ الباقي والطّارئ إن لم يكن بينهما منافاة، لم يلزم من طَرَيَانِ الطَّارئ زوال الباقي، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن زوال الباقي أولى من اندفاع الطَّارئ، بل ربَّما كان اندفاع الطَّارئ، أولى؛ لأن الدفع أسهل من الرفع.
وثانيها: أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي، وهو محال؛ لأنَّ الماضي قد انقضى، ولم يبق في الحال، وإعدام المعدوم محالٌ، وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال؛ لأنَّ الموجود في الحال، لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محالٌ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محالٌ، لأنَّ الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال، وإعدام ما لم يوجد بعد محال.
وثالثها: أنَّ شرط طريان الطَّارئ، زوال الباقي، فلو جعلنا زوال النافي معلّلاً بطريان الطَّارئ، لزم الدَّور، وهو محالٌ.
ورابعها: أنَّ الطَّارئ إذا طرأ وأعدم الثَّواب السَّابق، فالثَّواب السَّابق إمَّا أن يعدم(4/391)
من هذا الطَّارئ شيئاً، أو لا يعدم منه شيئاً، والأول هو الموازنة، وهو قول أبي هاشم، وهو باطلٌ، وذلك لأنَّ الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معاً اللَّذان هما معلومان، لزم حصول الموجودين اللَّذين هما علَّتان، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما موجوداً حال كون كلّ واحد منهما معدوماً وهو محالٌ.
والثاني، وهو قول أبي علي الجبَّائي: هو أيضاً باطل؛ لأنَّ العقاب الطَّارئ لما أزال الثَّواب السَّابق، وذلك الثَّواب السَّابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشَّيء من هذا العقاب الطَّارئ؛ فحينئذ لا يحصل له من العلم الذي أوجب الثَّواب السَّابق فائدة أصلاً، لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب، وذلك على مضادة النَّصّ الصّريح في قوله تبارك وتعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، لأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقّة الطَّاعة، ولم يظهر له منها أثر، لا في جلب منفعةٍ، ولا في دفع مضرةٍ.
خامسها: أنكم تقولون الصَّغيرة تحبط بعض أجزاء الثَّواب دون البعض وذلك محالٌ؛ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهيَّة، فالصَّغيرة الطَّارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكلّ في الماهيَّة كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجّح، وهو محالٌ فلم يبق إلاَّ أن يقال بأنَّ الصَّغيرة الطَّارئة تزيل كلَّ تلك الاستحقاقات، وهو باطلٌ بالاتّفاق، أو لا تزيل شيئاً منها، وهو المطلوب.
سادسها: أنَّ عقاب الكبيرة، إذا كان أكثر من ثواب العَمَل المتقدّم، فإمَّا أن يقال: بأنَّ المؤثر في إبطال الثَّواب بعض أجزاء العقاب الطَّارئ، أو كلها، والأوَّل باطل؛ لأنَّ اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثريّة دون البعض مع استواء كلِّها في الماهيَّة ترجيح للمكن من غير مرجّح، وهو محالٌ. الثاني باطلٌ، لأنَّه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثَّواب جزآن من العقاب مع أنَّ كلَّ واحد من ذينك الجزأين مستقلٌّ بإبطال ذلك الثَّواب، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران كلّ واحدٍ منهما مستقلٌّ وذلك محالٌ؛ لأنَّه يستغني بكلِّ واحدٍ منهما عن كلّ واحد منهما فيكون غنيّاً عنهما معاً، حال كونه محتاجاً إليهما معاً، وهو محالٌ.
سابعها: أنَّه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين؛ لأنَّ السَّيِّد إذا قال لعبده: احفظ هذا المتاع لئلاّ يسرقه السَّارق، ثم في ذلك الوقت جاء العدوّ، وقصد قتل السّيِّد، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدوِّ، وقتله، فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح، والتعظيم حيث دفع القتل عن سيِّده، ويوجب استحقاقه للذَّمِّ، حيث عرض ماله للسّرقة، وكلّ واحدٍ من الاستحقاقين ثابت، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى التَّرجيح أو إلى المهايأة، فأمَّا أن يحكموا بانتفاء الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوعٌ في بداية العقول.(4/392)
ثامنها: أَنَّ الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المُتقدِّم، فهذا الطَّارئ إِمَّا أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق، أو لا يكون. والأوَّل محالٌ؛ لأَنَّ ذلك العل إنَّما يكون موجوداً في الزَّمان الماضي، فلو كان لهذا الطَّارئ أَثَرٌ في ذلك الفعل لكان هذا إيقاعاً للتَّأثير في الزَّمان الماضي، وهو محالٌ، وإن لم يكن لهذا الطَّارئ [أثر] في اقتضاءِ ذلك الفعل السَّابق لذلك الاستحقاق، وجب أَن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وألاَّ يزول.
وتاسعها: أَنَّ المعتزلة يقولون: إِنَّ شُرب جرعةٍ من الخمرِ، يحبطُ ثواب الإِيمان وطاعة سبعين سنةٍ على سبيل الإِخلاص، وذلك محالٌ؛ لأنَّا نعلم بالضَّرورة أَنَّ ثواب هذه الطَّاعات أكثر مِنْ عقاب هذه المعصية الواحدة، والأعظم بالأَقلّ.
قال الجبَّائي: لا يمتنع أَنْ تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كُلِّ طاعةٍ، لأن معصية الله تعالى تعظم على قدر كثرة نعمه، وإحسانه، كما أَنَّ استحقاق قيام الرَّبَّانيَّة، وقد ربَّاهُ وملكه، وبلغه إلى النِّهاية [العظيمة أعظم] من قيامه بحقِّه لكثرة نعمه، فإِذا كانت نعم الله على عباده، بحيث لا تُضبط عظماً، وكثرةً لم يمتنع أَنْ يستحقَّ على المعصية الواحدة العقاب العظيم الَّذي يعلو على ثواب جملة الطَّاعات.
قال ابن الخطيب: وهذا العُذْرُ ضعيفٌ؛ لأَنَّ المَلِك الَّذِي عظمت نعمُهُ على عبده، ثمّ إِنَّ ذلك العبدَ قام بحقِّ عبوديَّته خمسين سنةً، ثم إنّه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً، فلو أحبط المَلك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكُلُّ أحدٍ يذمُّهُ، وينسبه إلى ترك الإِنصاف والقسوة، ومعلومٌ أَنَّ جميع المعاصي بالنِّسبة إلى جلال الله تعالى أقلُّ من كسر رأس القلم، فظهر أَنَّ قولهم على [خلاف] قياس العقول.(4/393)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
عاشرها: أَنَّ إِيمان ساعةٍ يهدم كُفْر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنةً كيف يهدمُ بفسق ساعةٍ، وهذا مِمَّا لا يقبلُهُ العقلُ، والله أعلمُ.
قوله {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} يحتمل أمرين:
أحدهما: لا تأْتُوا به باطِلاً، وذلك أَنْ يَنْوي بالصَّدقة الرِّياء والسُّمعة.
[قال القرطبيُّ: إِنَّ اللهَ تعالى عبَّر عن عدم القبول، وحرمان الثوب] بالإبطال، والمراد الصَّدقة الَّتي يمُنُّ بها، ويُؤذي لا غيرها، فالمَنُّ والأَذى في صدقة؛ لا يُبطلُ صدقةً غيرها.
قال جمهور العلماء في هذه الآية: إنَّ الصَّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ، أو يُؤذي بها، فإِنَّها لا تقبل.(4/393)
وقيل: إِنَّ اللهَ جعل للملك عليها أمارة، فهو لا يكتبها.
قال القرطبيُّ: وهذا حسنٌ.
والثاني: أن يأتوا بها على وجهٍ يوجب الثَّواب، ثُمَّ يتبعوها بالمَنِّ والأذى، فيزيلوا ثوابها، وضرب لذلك مثلين:
أحدهما: يطابقُ الأَوَّل وهو قوله: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله} ، إِذْ من المعلوم [أَنَّ المراد من كونه عمل] هذا باطلاً أَنَّه دخل في الوجود باطلاً، لا أَنَّهُ دخل صحيحاً، ثم يزول؛ لأَنَّ الكُفر مقارنٌ له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود.
والمثال الثاني: وهو الصَّفوان الَّذي وقع عليه تراب، ثمَّ أصابهُ وابلٌ فهذا يشهدُ لتأَويل المعتزلة؛ لأنَّه جعل الوابلَ مُزِيلاً لذلك التُّراب بعد وقُوع التُّراب على الصَّفوان، فكذا ها هنا: يجب أن يكون المنُّ والأَذى مزيلين للأجر والثَّواب بعد حصول استحقاق الأَجر.
ويمكن أَنْ يجاب عنه: بأَنَّا نُسلِّم أَنَّ المشبه بوقوع التُّراب على الصَّفوان حُصُولُ الأَجر للكافر؛ بل المشبَّه بذلك صُدُورُ هذا العمل الَّذي لولا كونه مقروناً بالنِّيَّة الفاسدة، لكان موجباً لحصول الأَجر والثواب؛ لأَنَّ التُّراب إذا وقع على الصَّفوان، لم يكن ملتصقاً به، ولا غائصاً فيه أَلْبَتَّة، بل يكون لك الاتِّصال كالانفِصال، فهو في مرأَى العين متَّصلٌ، وفي الحقيقة منفصلٌ، فكذا الإِنفاقُ المقرون بالمَنّ والأَذى، يُرَى في الظَّاهر أَنَّه عَمَلٌ مِنْ أَعمال البِرّ، وفي الحقيقة ليس كذلك، فظهر أَنَّ استدلالهم بهذه ضعف.
فصلٌ
قال ابن عبَّاس قوله: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن} على الله بسب صدقتِكُم، وبالأذى لذلك السَّائل.
وقال الباقون: بالمَنّ على الفقير وبالأذى للفقير {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس} ؛ لأنَّ المُنافق، والمُرائي يأتيان بالصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - ومن يَقْرُنُ الصَّدقة بالمنّ والأَذى، فقد أتى بتلك الصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - أيضاً، إذ لو كان غرضه من تلك الصَّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما مَنَّ على الفقير، ولا آذاه، فثبت اشتراكُ الصُّورتين في كون الصَّدقة لم يأت بها لوجه اللهِ - تعالى - وتقدَّم الكلامُ على الإِلقاء.(4/394)
(فصل في " هل تعطى الصدقة للأقارب)
قال القرطبي: كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه؛ لئلا يعتاض منهم الحمد، والثناء، ويظهر منته عليهم، ويكافئوه عليها، فلا تخلص لوجه الله - تعالى - واستحب أن يعطيها الأجانب، واستحب أيضا أن يولي غيره تفريقها، إذا لم يكن الإمام عدلا؛ لئلا تحبط بالمن والأذى، والشكر، والثناء، والمكافأة بالخدمة من المعطى بخلاف صدقة التطوع السر؛ لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد.
(فصل في كيفية التشبيه في الآية)
في كيفية هذا التشبيه وجهان:
الأول: ما تقدم أن العمل الظاهر كالتراب والمان والمؤذي والمنافق كالصفوان يوم القيامة كالوابل، هذا على قولنا، وما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل.
الوجه الثاني: قال القفال رحمه الله: إن أعمال العباد يجازون بها يوم القيامة، فمن عمل بالإخلاص، فكأنه طرح بذرا في الأرض، فهو ينمو، ويتضاعف له، حتى يحصده في وقته، ويجده وقت حاجته، والصفوان محل بذر المنافق، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء، ولا يكون فيه قبول للبذر، والمعنى أن عمل المان، والمؤذي، والمنافق كالبذر المطروح في تراب قليل على صفوان، فإذا أصابه مطر بقي مستودع بذره خاليا، لا شيء فيه؛ ألا ترى أنه تعالى: ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة؟ والجنة ما يكون فيها أشجار ونخيل، فمن أخلص لله، كان كمن غرس بستانا في ربوة من الأرض، فهو يجني ثمر غراسه في أوقات حاجته " وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " متضاعفة زائدة.
ثم قال تعالى " لا يقدرون على شيء مما كسبوا ".
وفيه قولان مبنيان على ما تقدم في الإعراب، فعلى الأول لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان، لزوال التراب، وما فيه من البذر بالمطر، فلم يقدر أحد على الانتفاع به، وهذا يقوي تشبيه القفال، وإن عاد الضمير إلى الذي ينفق، فإنما أشير به إلى الجنس والجنس في حكم العام، ثم قال " والله لا يهدي القوم الكافرين ".
(فصل في التحذير من الرياء)
قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا يا رسول الله: وما الشرك الأصغر؟ قال: " الرياء، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا(4/395)
إلى الذي كنتم تراءون في الدنيا، [فانظروا] هل تجدون عندهم جزاء ".
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثه " أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضى بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعون رجلا جمع القرآن، ورجلا قتل في سبيل الله ورجلا كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله - تبارك وتعالى - بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله تعالى له: ألم أوسع عليك حتى [لم] أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله - تعالى - بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول له: في ماذا قتلت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت: ويقول الله تعالى بل أدرت أن يقال فلان جريء، وقد قيل ذلك ثم ضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ركبتي، ثم قال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تعالى تسعر بهم النار يوم القيامة.
قوله " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله ".
قوله " ومثل الذين ينفقون " كقوله " مثل الذين ينفقون كمثل حبة أنبتت سبع " في جميع التقادير فليراجع. وقرأ الجحدري " كمثل حبة " بالحاء المهملة والباء.
في قوله: " ابتغاء " وجهان:
أحدهما: أنه مفعول من أجله، وشروط النصب متوفرة.(4/396)
والثاني: أنه حال، و" تثبيتا " عطف عليه بالاعتبارين، أي: لأجل الابتغاء والتثبيت، أو مبتغين متثبتين. ومنع ابن عطية أن يكون " ابتغاء " مفعولا من أجله، قال: لأنه عطف عليه تثبيتا، وتثبيتا لا يصح أن يكون مفعولا من أجله، [لأن الإنفاق لا يكون لأجل التثبيت ". وحكى عن مكي كونه مفعولا من أجله] قال: " وهو مردود بما بيناه ".
وهذا الذي رده لا بد فيه من تفصيل، وذلك أن قوله تبارك وتعالى: " وتثبيتا " إما أن يجعل مصدرا متعديا، أو قاصرا، فإن كان قاصرا، أو متعديا، وقدرنا المفعول هكذا: " وتثبيتا من أنفسهم الثواب على تلك النفقة "، فيكون تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملا لهم على النفقة، وحينئذ يصح أن يكون " تثبيتا " مفعولا من أجله.
وإن قدرنا المفول غير ذلك، أي: وتثبيتا من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية، أو جعلنا " من أنفسهم هو المفعول في المعنى، وأن " من " بمعنى اللام، أي: لأنفسهم، كما تقول: " فعلته كسرا من شهوتي " فلا يتضح فيه أن يكون مفعولا لأجله.
وأبو البقاء قد قدر المفعول المحذوف " أعمالهم بإخلاص النية "، وجوز أيضا أن يكون " من أنفسهم " مفعولا، وأن تكون " من " بمعنى اللام، وقد كان قدم أولا أنه يجوز فيهما المفعول من أجله، والحالية؛ وهو غير واضح كما تقدم.
وتلخص أن في " من أنفسهم " قولين:
أحدهما: أنه مفعول بالتجوز في الحرف.
والثاني: أنه صفة ل " تثبيتا "، فهو متعلق بمحذوف، وتلخص أيضا أن التثبيت يجوز أن يكون متعديا، وكيف يقدر مفعوله، وأن يكون قاصرا.
فإن قيل: " تثبيت " مصدر ثبت؛ وثبت متعد، فكيف يكون مصدره لازما؟
فالجواب: أن التثبيت مصدر تثبت، فهو واقع موقع التثبت، والمصادر تنوب عن بعضها؛ قال تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا} [المزمل: 8] والأصل: " تبتلا " ويؤيد ذلك قراءة مجاهد " وتثبتا "، وإلى هذا نحا أبو البقاء.
قال أبو حيان: " ورد هذا القول؛ بأن ذلك لا يكون إلا مع الإفصاح بالفعل المتقدم على المصدر، نحو الآية، وأما أن يؤتى بالمصدر من غير نيابة على فعل مذكور، فلا يحمل على غير فعله الذي هو له في الأصل "، ثم قا: " والذي نقول: إن ثبت - يعني(4/397)
مخففا - فعل لازم، معناه تمكن ورسخ، وثبت معدى بالتضعيف، ومعناه مكن وحقق؛ قال ابن رواحة: [البسيط] 1220 -
(فثبت الله ما أتاك من حسن ... تثبيت عيسى ونصرا كالذي نصروا)
فإذا كان التثبيت مسندا إليهم، كانت " من " في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر، وتكون للتبعيض، مثلها في: " هز من عطفه "، و" حرك من نشاطه " وإن كان مسندا في المعنى إلى أنفسهم، كانت " من " أيضا في موضع نصب؛ صفته لتثبيتا ".
قال الزمخشري: " فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله تعالى، فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل روحه، وماله معا، فقد ثبت نفسه كلها ". قال أبو حيان: " والظاهر أن نفسه هي التي تثبته، وتحمله على الإنفاق في سبيل الله، ليس له محرك إلا هي؛ لما اعتقدته من الإيمان والثواب " يعني: فيترجح أن التثبيت مسند في المعنى إلى أنفسهم. والابتغاء: افتعال من بغيت، أي: طلبت، وسواء قولك: بغيت، وابتغيت.
(فصل)
معنى قوله: " ابتغاء مرضات الله "، أي: طلب رضي الله " وتثبيتا من أنفسهم " قال قتادة: احتسابا.
وقال الشعبي، والكلبي: تصديقا من أنفسهم، أي: يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم، على يقين الثواب، وتصديق بوعد الله، ويعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا، وقيل: على يقين بإخلاف الله عليهم.
وقال عطاء، ومجاهد: يتثبتون، أي: يضعون أموالهم.
قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت، فإن كان لله، أمضى، وإن كان يخالطه شك، أمسك، ثم إنه تعالى لما بين أن غرضهم من الإنفاق هذان الأمران، ضرب الإنفاق مثلا، فقال: " كمثل جنة بربوة ".(4/398)
قال القرطبي: الجنة هي البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار، حتى تغطيها، مأخوذة من لفظ الجن والجنين، لاستتارهم.
قوله: " بربوة " في محل جر؛ لأنه صفة لجنة. والباء ظرفية بمعنى " في "، أي: جنة كائنة في ربوة. والربوة: أرض مرتفعة طيبة، قاله الخليل. وهي مشتقة من: ربا يربو، أي: ارتفع، وتفسير السدي لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء. ويقال ربوة ورباوة، بتثليث الراء فيهما، ويقال - أيضا - رابية، قال القائل: [الطويل] 1221 -
(وغيث من الوسمي حو تلاعه ... أجابت روابيه النجاء هواطله)
وقرأ ابن عامر، وعاصم: " ربوة " بالفتح، والباقون: بالضم، قال الأخفش: " ونختار الضم؛ لأنه لا يكاد يسمع في الجمع إلا الربا " يعني فدل ذلك على أن المفرد مضموم الفاء، نحو برمة، وبرم، وصورة، وصور. وقرأ ابن عباس: " ربوة " بالكسر، [والأشهب] العقيلي: " رباوة "، مثل رسالة، وأبو جعفر: " رباوة " مثل كراهة، وقد تقدم أن هذه لغات.
(فصل)
تقدم أن الربوة: هي المرتفع من الأرض، ومنه الرابية، لأن أجزاءها ارتفعت ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد، ومنه الربا؛ لأنه الزيادة قال المفسرون: إن البستان إذا كان في ربوة من الأرض، كان أحسن، وأكثر ريعا.
قال ابن الخطيب: وفيه إشكال: وهو أن البستان إذا كان في موضع مرتفع من الأرض، فلا ترتفع إليه الأنهار، وتضر به الرياح كثيرا؛ فلا يحسن ريعه وإذا كان في وهدة من الأرض، انصبت إليه مياه الأنهار، ولا يصل إليه إثارة الرياح، فلا يحسن أيضا ريعه فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة، ولا وهدة فإذن ليس المراد من هذه الربوة، ما ذكروه، بل المراد منه كون الأرض طينا حرا بحيث إذا نزل المطر عليها، انتفخ وربا ونما، فإن الأرض متى كانت بهذه الصفة يكثر ريعها، وتكمل أشجارها، ويؤيد هذا التأويل قوله تبارك وتعالى {وترى الأرض هامدة فإذا(4/399)
أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5] والمراد من ربوها ما ذكرنا، فكذا ها هنا.
وأيضا فإنه تبارك وتعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول، وهو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر، ولا يربو، ولا ينمو؛ بسبب نزول المطر عليه، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو، وتنمو والله أعلم.
قال ابن عطية: ورياض الحزن لست من هذا، كما زعم الطبري؛ بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد؛ لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية: " زوجي كليل تهامة ".
قوله: " أصابها وابل " هذه الجملة فيها أربعة أوجه:
أحدها: أنها صفة ثانية لجنة، وبدئ هنا بالوصف بالجار والمجرور، ثم بالجملة؛ لأنه الأكثر في لسانهم؛ لقربه من المفرد، وبدئ بالوصف الثابت المستقر وهو كونها بربوة، ثم بالعارض، وهو إصابة الوابل. وجاء قوله في وصف الصفوان بقوله: " عليه تراب " ثم عطف على الصفة " فأصابه وابل " وهنا لم يعطف بل أخرج صفة.
والثاني: أن تكون صفة ل " ربوة ".
قال أبو البقاء: " لأن الجنة بعض الربوة " كأنه يعني أنه يلزم من وصف الربوة بالإصابة، وصف الجنة به.
الثالث: أن تكون حالا من الضمير المستكن في الجار؛ لوقوعه صفة.
الرابع: أن تكون حالا من " جنة "، وجاز ذلك؛ لأن النكرة قد تخصصت بالوصف.
قوله: " فآتت أكلها " أي أعطت و" أكلها " فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: وهو الأصح أن " آتت " تتعدى لاثنين، حذف أولهما وهو " صاحبها "، أو " أهلها ". والذي حسن حذفه، أن القصد الإخبار عما تثمر، لا عمن تثمر له؛ ولأنه مقدر في قوله: " كمثل جنة " أي: غارس جنة، أو صاحب جنة؛ كما تقدم. و" أكلها " هو المفعول الثاني. و" ضعفين " نصب على الحال من " أكلها ".
والثاني: أن " ضعفين " هو المفعول الثاني، وهذا غلط.
والثالث: أن " آتت " هنا بمعنى أخرجت، فهو متعد لمفعول واحد. قال أبو البقاء: " لأن معنى " آتت ": أخرجت، وهو من الإتاء، وهو الريع ". قال أبو حيان:
"(4/400)
لا نعلم ذلك في لسان العرب ". ونسبة الإتاء إليها مجاز.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " أكلها " بضم الهمزة، وسكون الكاف، وهكذا كل ما أضيف من هذا إلى مؤنث، إلا أبا عمرو، فإنه يثقل ما أضيف إلى غير ضمير، أو إلى ضمير المذكر، والباقون: بالتثقيل مطلقا، وسيأتي إيضاح هذا كله. والأكل بالضم: الشيء المأكول والأكلة في المعنى مثل الطعمة؛ وأنشد الأخفش: [الطويل] 1222 -
(فما أكلة إن نلتها بغنيمة ... ولا جوعة إن جعتها بغرام)
وقال أبو زيد: يقال: إنه لذو أكل، إذا كان له حظ من الدنيا. وبالفتح مصدر، وأضيف إلى الجنة؛ لأنها محله أو سببه ومعنى " ضعفين " أي: ضعفت في الحمل؛ لأن ضعف الشيء مثله زائدا عليه، وقيل: ضعف الشيء مثلاه.
قال عطاء: حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين.
وقال عكرمة: حملت في السنة مرتين.
وقال الأصم: ضعف ما يكون في غيرها.
قوله: " فإن لم يصبها وابل فطل ". الفاء: جواب الشرط، ولا بد من حذف بعدها؛ لتكمل جملة الجواب. واختلف في ذلك على ثلاثة أوجه:
فذهب المبرد إلى أن المحذوف خبر، وقوله: " فطل " مبتدأ، والتقدير: " فطل يصيبها ". وجاز الابتداء هنا بالنكرة؛ لأنها في جواب الشرط، وهو من جملة المسوغات للابتداء بالنكرة، ومن كلامهم: " إن ذهب عير، فعير في الرباط ".
والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فالذي يصيبها طل.
والثالث: أنه فاعل بفعل مضمر؛ تقديره: فيصيبها طل، وهذا أبينها.
إلا أن أبا حيان قال - بعد ذكر الثلاثة الأوجه - " والأخير يحتاج فيه إلى حذف الجملة الواقعة جوابا، وإبقاء معمول لبعضها؛ لأنه متى دخلت الفاء على المضارع، فإنما هو على إضمار مبتدأ؛ كقوله: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95] [أي: فهو ينتقم] ، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا، أي: فهي، أي: الجنة يصيبها طل، وأما في(4/401)
التقديرين السابقين، فلا يحتاج إلا إلى حذف أحد جزئي الجملة ". قال شهاب الدين: وفيما قاله نظر؛ لأنا لا نسلم أن المضارع بعد الفاء الواقعة جوابا يحتاج إلى إضمار مبتدأ. ونظير الآية قول امرئ القيس: [الوافر] 1223 -
(ألا إن لا تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي)
فقوله " فمعزى " فيه التقادير الثلاثة.
وادعى بعضهم أن في هذه الآية الكريمة تقديما وتأخيرا، والأصل: " أصابها وابل، فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين " حتى يجعل إيتاؤها الأكل ضعفين على الحالين: من الوابل، والطل، وهذا لا حاجة إليه؛ لاستقامة المعنى بدونه، والأصل عدم التقديم والتأخير، حتى يخصه بعضهم بالضرورة.
والطل: المستدق من القطر الخفيف وقال مجاهد: " هو الندى " وهذا تجوز منه؛ ويقال: " طله الندى وأطله أيضا؛ قال: [الطويل] 1224 -
(ولما نزلنا منزلا طله الندى ... ... ... ... ... ... ... ...)
ويجمع " طل " على طلال؛ نقول: طلت الأرض، وأطلها الندى فهي مطلولة قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر، وأقل ريعا.
(فصل)
هذا مثل ضربه الله تعالى؛ لعمل المؤمن المخلص، فيقول: كما أن هذه الجنة تريع في كل حال، ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر؛ كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن، ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت، وذلك أن الطل إذا كان يدوم، يعمل عمل الوابل الشديد.
وقيل: معناه إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها، فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمرا دون ثمر الوابل، فهي على كل حال لا تخلو من ثمرة، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى، لا يضيع كسبه؛ قليلا كان، أو كثيرا.
قوله: " والله بما تعملون بصير " هذا وعد، ووعيد.
قرأ الجمهور: تعملون خطابا وهو واضح، فإنه من الالتفات من الغيبة إلى(4/402)
الخطاب الباعث على فعل الإنفاق الخالص لوجه الله تعالى، والزاجر عن الرياء والسمعة. وقرأ الزهري: بالياء على الغيبية، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يعود على المنفقين. والثاني: أن يكون عاما فلا يخص المنفقين، بل يعود على الناس أجمعين؛ ليندرج فيهم المنفقون اندراجا أوليا. والمراد من البصير: العليم، أي: هو تبارك وتعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها والأمور الباعثة عيلها، وأنه تعالى يجازي بها.(4/403)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
هذا مثالٌ آخر ذكره اللهُ تعالى في حقِّ من يُتبعُ إنفاقه بالمَنِّ والأَذَى، «الودُّ» : هو المحبةُ الكامِلةُ، والهمزةُ في «أَيَودُّ» للاستفهام، وهو بمعنى الإِنكارِ، وإنما قال: «أَيَوَدُّ» ، ولم يقل أَيُرِيد؛ لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبةُ التامةُ، ومعلومٌ أن محبةَ كُلِّ أحدٍ لعدم هذه الحالة محبةً كاملة، فلهذا ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت؛ تنبيهاً على الإِنكار التَّام، والنفرةِ البالغةِ إلى الحد الذي لا مزيد فوقه.
قوله تعالى: {مِّن نَّخِيلٍ} في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة، أي: كائنة من نخيل. و «نَخِيلٍ» فيه قولان:
أحدهما: أنه اسم جمع.
والثاني: أنه جمع «نَخْل» الذي هو اسم الجنسِ، ونحوه: كلب وكَلِيب، قال الراغب: «سُمِّي بذلك؛ لأنه منخولُ الأشجارِ، وصَفِيُّها؛ لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ» وذكر له منافع وشبهاً من الآدميين.
والأعنابُ: جمع عِنَبَة، ويقال: «عِنَباء» مثل «سِيرَاء» بالمدِّ، فلا ينصرفُ. وحيثُ جاء في القرآن ذكرُ هذين، فإنما يَنصُّ على النخلِ دون ثمرتها، وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم؛ لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثَمرَتهُ دونَ باقيه.
قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} هذه الجملة في محلِّها وجهان:
أحدهما: أنَّها في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة.
والثاني: أنها في محلِّ نصب، وفيه أيضاً وجهان، فقيل: على الحال من «جنَّة» ؛ لأنها قد وُصِفَتْ. وقيل: على أنها خبرُ [تكون] نقله مكيّ.(4/403)
قوله: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} جملة من مبتدإٍ، وخبرٍ، فالخبر قوله: «لَهُ» و «مِنْ» كُلِّ الثَّمَراتِ «هو المبتدأُ، وذلك لا يستقيمُ على الظاهر، إذ المبتدأُ لا يكونُ جارّاً ومجروراً؛ فلا بُدَّ من تأويله. واختلف في ذلك:
فقيل: المبتدأ في الحقيقة محذوفٌ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامه، تقديره:» له فيها رِزقٌ من كلِّ الثمراتِ، أو فاكهةٌ مِنْ كلِّ الثمرات «فحُذف الموصوفُ، وبقيت صفتُه؛ ومثله قول النَّابغة: [الوافر]
1225 - كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ
أي: جملٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ، وقوله تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي: وما مِنَّا أحدٌ إِلاَّ له مقامٌ.
وقيل:» مِنْ «زائدةٌ تقديره: له فيها كلُّ الثمرات، وذلك عند الأخفش؛ لأنه لا يَشْتَرِطُ في زيادتها شيئاً.
وأمَّا الكُوفيُّون: فيشترطون التنكير، والبصريون يَشْتَرطونه وعدم الإِيجاب، وإذا قُلنا بالزيادة، فالمرادُ بقوله:» كُلِّ الثَّمَرَاتِ «التكثيرُ لا العموم، لأنَّ العُمومَ مُتعذِّرٌ.
قال أبو البقاء: ولا يجوزُ أَنْ تكونَ» مِنْ «زائدةً، لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفشِ؛ لأنَّ المعنى يصيرُ: له فيها كُل الثمراتِ، وليسَ الأمرُ على هذا، إلاَّ أَنْ يُرادَ به هنا الكثرة لا الاستيعاب، فيجوزُ عند الأخفش؛ لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ» مِنْ «في الواجب.
فإن قيل: كيف عطف «وأَصَابَهُ» على «أيودُّ» ؟ وكيف يجوزُ عطفُ الماضي على المستقبل؟
فالجواب: من وجوه:
أحدها: أَنَّ الواو للحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، و «قد» مقدَّرةٌ أي: وقد أصابه، وصاحبُ الحال هو «أَحَدُكُمْ» ، والعاملُ فيها «يَودُّ» ، ونظيرُها: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] ، وقوله تعالى: {وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا} [آل عمران: 168] أي: وقد كُنتم، وقد قَعَدوا.
والثاني: أَن يكون قد وضع الماضي موضع المضارع، والتقديرُ «ويُصيبَه الكِبَر» كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ} [هود: 98] أي: يوردهُم. قال(4/404)
الفراء: يجوزُ ذلك في «يَوَدُّ» ؛ لأنه يُتَلَقَّى مرةً ب «أَنْ» ومرةً ب «لو» فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكان الآخر.
الثالث: أنه حُمِل في العطفِ على المعنى؛ لأنَّ المعنى: أَيَودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ، فأصابه الكِبَرُ، وهذا الوجهُ فيه تأويلُ المضارع بالماضي؛ ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه، عكسُ الوجه الذي قبله، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع. واستضعف أبو البقاء هذا الوجه؛ بأنه يُؤدّي إلى تغيير اللفظ مع صحّة المعنى.
والزمخشريُّ نَحَا إلى هذا الوجه - أيضاً - فإنه قال «وقيل: يُقالُ: وَدِدْتُ لو كان كذا؛ فحُمِل العطفُ على المعنى، كأنه قيل: أَيَودُّ أحدُكم لو كانت له جَنَّةٌ، وأصابَه الكِبَرُ» .
قال أبو حيان: «وظاهرُ كلامه أَنْ يكونَ» أَصَابَهُ «معطوفاً على متعلِّق» أَيَودُّ «وهو» أَنْ تَكُونَ «؛ لأنه في معنى» لَوْ كانَتْ «، إذ يقال: أيودُّ أحدكم لو كانت، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه يمتنع من حيثُ المعنى أَنْ يكونَ معطوفاً على» كانت «التي قبلها» لو «؛ لأنه متعلَّق الوُدِّ، وأمَّا» أَصابَه الكِبَرُ «فلا يمكنُ أن يكون متعلَّق الودِّ؛ لأنَّ» أصَابه الكِبَرُ «لا يودُّه أَحَدٌ ولا يتمنَّاه، لكن يُحْمل قول الزمخشريُّ على أنه لمّا كان» أَيَوَدُّ «استفهاماً معناه الإِنكارُ جُعِلَ متعلَّقُ الودادةِ الجمع بين الشيئين، وهما: كونُ جنةٍ له، وإصابةُ الكِبَر إياه، لا أنَّ كلَّ واحد منهما يكونُ مَوْدُوداً على انفراده، وإنما أَنكروا ودادة الجمع بينهما» .
قوله تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في «وأَصابَه» ، وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة. وقُرئ «ضِعافٌ» ، وضُعفاءُ، وضعاف، منقاسان في ضعيف، نحو: ظريف، وظُرَفَاء، وظِراف، وشَريف، وشُرَفاء وشِراف.
قوله: {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} هذه الجملة عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها، قاله أبو البقاء. يعني على قوله تعالى: {مِّن نَّخِيلٍ} وما بعده.
وأتى في هذه الآياتِ كلِّها بلفظ الإِصابة نحو فأصابه وَابِلٌ، وأَصابَه الكِبَر، فأصابها إعصارٌ؛ لأنه أبلغُ، وأَدَلُّ على التأثير بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيء، من أنه لم يُذكر بلفظ الإِصابة، حتى لو قيل: «وَبَل» ، و «كَبِر» ، و «أَعْصَرَتْ» لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ.
والإِعصارُ: الريحُ الشديدةُ المُرتفعةُ، وتُسَمِّيها العامَّةُ: الزَّوبعة. وقيل: هي الريحُ السَّموم، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ، حكاه المهدوي. وقيل: لأَنها تَعْصِر السَّحابَ، وتُجمع على أَعَاصير، قال: [البسيط](4/405)
1226 - أ - وَبَيْنَما المَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ ... إِذْ هُوَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ
والإعصارُ من بين سائر أسماءِ الريحِ، مذكرٌ، ولهذا رجع إليه الضمير مذكَّراً في قوله: «فيه نارٌ» .
و «نَارٌ» يجوز فيه الوجهان: أعني الفاعلية، والجارُّ قبلها صفةٌ ل «إِعْصار» والابتدائية، والجارُّ قبلها خبرها، والجملة صفةُ «إِعْصارٌ» ، والأول أَولى؛ لما تقدَّم من أنَّ الوصف بالمفرد أَولى، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة.
قوله: {فاحترقت} أي: أحرقها، فاحترَقَتْ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي، وأمَّا «حَرَقَ» من قولهم: «حَرَقَ نابُ الرجُلِ» إذا اشتدَّ غيظهُ، فيُستعمل لازِماً، ومتعدِّياً، قال: [الطويل]
1226 - ب - أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابُهُ ... عَلَيْه فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ
رُوي برفع «نَابهُ» ونصبه، وقوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} إلى آخره قد تقدَّم نظيرُه.
فصل
قال عبيد بن عمير: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيمن ترون هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} ؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: قولوا: نعلم، أو لا نعلم، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ضُرِبَت مثلاً لعمل فقال عمر: أيُّ عملٍ؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لعمل منافقٍ، ومراءٍ، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لأي رجل؟ قال لرجل غني يعمل بطاعة الله، بعث الله له الشيطان؛ فعمل بالمعاصي؛ حتى أحرق أعماله.
وقال المفسّرون: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لعمل المنافق، والمرائي، يقول: عمله في حسنه كحسن الجنَّة، كما ينتفع صاحب الجنَّة بالجنة.(4/406)
{مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} وإنما خصهما بالذكر؛ لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها منظراً حيث تكون باقيةً على الأشجار، ووصف تلك الجنَّة بأن الأنهار تجري من تحتها، وذلك زيادةٌ في الحسن، وأنَّ فيها من كلِّ الثمرات، وهذا سبب لكمال حال هذه الجنَّة من الرؤية، والمنظر، وكثرة النَّفع، والرَّيع، ولا يمكن الزيادة على ذلك، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولادٌ ضعافٌ، أي: بسبب الصِّغر، والطفوليَّة، فإنه إذا صار كبيراً؛ عجز عن الاكتساب، وكثرت جهات حاجاته في مطعمه، وملبسه، ومسكنه، ومن يقوم بخدمته، وتحصيل مصالحه، فإذا تزايدت حاجاته، وتناقصت جهات مكسبه، أصاب جنَّته إعصار فيه نارٌ فاحترقت، وهو أحوج ما يكون إليها، وضعف عن إصلاحها؛ لكبره، وضعف أولاده عن إصلاحها؛ لصغرهم، فلم يجد هو ما يعود به على أولاده، ولا أولاده ما يعودون به عليه، فبقوا جميعاً متحيرين عجزةً لا حيلة بأيديهم، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق، والمرائي حيث لا مغيث لهما، ولا توبة، ولا إقالة، ونظير هذه الآية الكريمة {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] .(4/407)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
اعلم أنه تعالى لما ذكر الانفاق على قسمين، وبين كل قسم وضرب له مثلاً، ذكر في هذه الآية كيفية الإِنفاق.
قوله تعالى: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} : في مفعول «أَنْفِقُوا» قولان:
أحدهما: أنه المجرور ب «مِنْ» ، و «مِنْ» للتبعيض، أي: أنفقوا بعض ما رزقناكم.
والثاني: أنه محذوفٌ قامت صفته مقامه، أي: شيئاً ممَّا رزقناكم، وتقدَّم له نظائر.
و «ما» يجوز أن تكون موصولةً اسمية، والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط، أي: كسبتموه، وأن تكون مصدريةً أي: من طيِّبات كسبكم، وحينئذٍ لا بدَّ من تأويل هذا المصدر باسم المفعول، أي: مكسوبكم، ولهذا كان الوجه الأول أولى.
و {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا} عطفٌ على المجرور ب «مِنْ» بإعادة الجار، لأحد معنيين: إمَّا التأكيد، وإمَّا للدلالة على عاملٍ آخر مقدرٍ، أي: وأنفقوا ممَّا أخرجنا. ولا بدَّ من حذف مضافٍ، أي: ومن طيبات ما أخرجنا. و «لكم» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» ، واللام للتعليل. و «مِنَ الأرض» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية.
قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} الجمهور على «تَيَمَّموا» ، والأصل: تتيمموا بتاءين، فحذفت إحداهما تخفيفاً: إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية، وقد تقدّم تحريره عند قوله: {تَظَاهَرُونَ} [البقرة: 85] .(4/407)
وقرأ البزِّيُّ هنا وفي مواضع أُخر بتشديد التاء، على أنه أدغم التاء الأولى في الثانية، وجاز ذلك هنا وفي نظائره؛ لأنَّ الساكن الأول حرف لين، وهذا بخلاف قراءته {نَاراً تلظى} [الليل: 14] {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] فإنه فيه جمع بين ساكنين، والأول حرفٌ صحيحٌ، وفيه كلامٌ لأهل العربية، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
قال أبو علي: هذا الإدغام غير جائزٍ؛ لأنَّ المدغم يسكَّن، وإذا سكِّن، وجب أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به كما جلبت في أمثلة الماضي، نحو {فادارأتم} [البقرة: 72] و {ارتبتم} [المائدة: 106] و {اطيرنا} [النمل: 47] .
لكن أجمعوا على أنَّ همزة الوصل لا تدخل على المضارع.
وقرأ ابن عباس، والزُّهريُّ «تُيَمِّمُوا» بضم التاء، وكسر الميم الأولى، وماضيه: يمَّم، فوزن «تُيَمَّمُوا» على هذه القراءة: تفعِّلوا من غير حذفٍ، وروي عن عبد الله «تُؤَمِّموا» من أمَّمت، أي: قصدت.
والتيمم: القصد، يقال: أمَّ ك «رَدَّ» ، وأمَّم ك «أخَّر» ، ويمَّم، وتيمَّم بالتاء، والياء معاً، وتأمَّم بالتاء والهمزة. وكلُّها بمعنى قصد. وفرَّق الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - بينها بفروقٍ لطيفةٍ، فقال: «امَّمْتُه أي قصدت أمامه، ويمَّمْتُه: قصدته من أيِّ جهةٍ كان» .
والخبيث والطيب: صفتان غالبتان، لا يذكر موصوفهما؛ قال تعالى: {والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] ، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} [الأعراف: 157] ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«مِنَ الخُبْثِ، والخَبائث» .
قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} «منه» متعلِّقٌ بتنفقون، وتنفقون فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل في «تَيَمَّموا» أي: لا تقصدوا الخبيث منفقين منه، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرة، لأن الإنفاق منه يعق بعد القصد إليه، قاله أبو البقاء وغيره.(4/408)
والثاني: أنها حالٌ من الخبيث؛ لأن في الجملة ضميراً يعود إليه، أي: لا تقصدوا منفقاً منه.
والثالث: أنه مستأنف منه ابتداء إخبار بذلك، وتمَّ الكلام عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} ثم ابتدأ خبراً آخر، فقال: تنفقون منه، وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم، كأن هذا عتابٌ للناس، وتقريعٌ.
والتقدير: تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الإغماض، فهو استفهامٌ على سبيل الإنكار. قال شهاب الدِّين: وهذا يردُّه المعنى.
فصل في بيان المراد من النفقة
اختلفوا في المراد بهذه النفقة: فقال الحسن: المراد بها الزكاة المفروضة؛ لأن هذا أمرٌ، والأمر للواجب.
وقال قومٌ: صدقة التطوع؛ لما روي عن علي، والحسن، ومجاهد: أنهم قالوا: كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم، ورديء أموالهم؛ فنزلت هذه الآية.
«وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال جاء رجلٌ ذات يوم بعذق خشف فوضعه في الصَّدقة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بِئْسَ مَا صَنَعَ صاحبُ هذا «فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال آخرون: المراد الفرض، والنفل؛ لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز وهذا المفهوم قدرٌ مشتركٌ بين الفرض والنَّفل؛ فوجب أن يدخلا فيه، فعلى القول بأنَّه الزكاة فنقول: ظاهر الآية يدلُّ على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان، من الذَّهب، والفضَّة، والتجارة، وزكاة الإبل، والغنم، والبقر؛ لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسبٌ.
قال القرطبيُّ: والكسب يكون بتعب بدنٍ، وهي الإجارة، أو مقاولة في تجارةٍ، وهو البيع، والميراث داخلٌ في هذا؛ لأن غير الوارث قد كسبه.
وقال ابن خويزمنداد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أَوْلاَدُكُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِ أَوْلاَدِكُمْ هَنِيئاً «.(4/409)
قوله: {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} يدلُّ على وجوب الزَّكاة في كل ما تنبته الأرض، على ما هو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» لَيْسَ في الخُضْرَوَاتِ صَدَقَةٌ «وأستدل أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً بهذه الآية الكريمة على وجوب إخراج الزكاة من كلِّ ما أنبتته الأرض، قليلاً كان، أو كثيراً؛ لظاهر الآية وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة أَوْسُق صَدَقَةٌ» .
أما المعدن والرِّكازُ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «العَجْمَاءُ جَرْحُها جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، والمعْدنُ جُبَارٌ، وفي الرِّكاز الخمسُ» الجبار: الهدر الذي لا شيء فيه، والعجماء: الدَّابَّة، والرِّكاز: هو ما دفنه أهل الجاهلية وعليه علامتهم.
فصل
اختلفوا في الطِّيب: فقيل: هو الجيد، فعلى هذا يكون الخبيث هو الرديء. وقال(4/410)
ابن مسعودٍ، ومجاهدٌ، والسدّي: الطيب هو الحلال، وعلى هذا، فالخبيث هو الحرام.
حجة الأول ما ذكرنا في سبب النزول، ولأن المحرم لا يجوز أخذه؛ لا بإغماضٍ ولا غيره، والآية تدلُّ على جواز أخذه بالإغماض.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الإغماض: المسامحة، وترك الاستقصاء، فيكون المعنى: ولستم بآخذيه، وأنتم تعلمون أنه محرَّم؛ إلاَّ أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام، ولا تبالون من أيِّ وجهٍ أخذتم المال أمن حلالٍ، أم حرام.
واحتجُّوا - أيضاً - بقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وذلك يؤكد أنَّ المراد بالطيب هو النَّفيس الذي يستطاب تملكه، لا الخسيس الذي يرفضه كل أحد واحتجَّ القاضي للقول الثاني: بأنَّا أجمعنا على أن الطِّيب في هذه الآية؛ إمَّا الجيد؛ وإما الحلال، فإذا بطل الأول، تعيَّن الثاني.
وإنما قلنا: بطل الأول؛ لأن المراد لو كان هو الجيد، لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيِّد سواءٌ كان حلالاً أو حراماً، وذلك غير جائزٍ، والتزام التخصيص خلاف الأصل؛ فتعين الحلال.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يذكر فيه قولٌ ثالثٌ، وهو: أن المراد من «الطِّيِّب» - هاهنا - ما يكون طيِّباً من كلِّ الوجوه، فيكون طيّباً بمعنى: الحلال، ويكون طيِّباً بمعنى: الجودة، وليس لقائلٍ أن يقول إنَّ حمل اللفظ المشترك على مفهوميه، لا يجوز؛ لأنا نقول: الحلال إنما يسمى طيِّباً؛ لأنه يستطيبه العقل، والدِّين، والجيد: إنما يسمَّى طيباً؛ لأنه يستطيبه الميل، والشهوة. فمعنى الاستطابة مفهومٌ واحدٌ مشترك بين القسمين، فكان اللفظ محمولاً عليه. إذا ثبت أنَّ المراد منه الجيد الحلال؛ فنقول: الأموال الزكاتيَّة إما أن تكون كلُّها شريفةً، أو كلها خسيسةٌ، أو تكون متوسطة أو مختلطة، فإن كان الكل شريفاً، كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك، وإن كان الكل خسيساً، كانت الزكاة كذلك، أيضاً، ولا يكون ذلك خلافاً للآية؛ لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إذا كان في المال جيد ورديء، فحينئذٍ يقال للإنسان: لا تجعل الزكاة من رديء مالك، وأمَّا إن كان المال مختلطاً، فالواجب هو الوسط، «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمعاذٍ حين بعثه إلى اليمن:» إِيَّاكَ وكَرَائِمَ أَمْوَالهمْ «وأما إن قلنا: المراد صدقة التطوع أو كلاهما،(4/411)
فنقول: إنَّ الله تعالى ندبهم إلى التقرُّب إليه بأفضل ما يملكونه، كمن يتقرب إلى السُّلطان بتحفة، وهدية، فلا بدّ وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه، فكذا - هاهنا -.
قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} هذه الجملة فيها قولان:
أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب، وإليه ذهب أبو البقاء.
والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، ويظهر هذا ظهوراً قوياً عند من يرى أن الكلام قد تمَّ عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} وما بعده استئنافٌ، كما تقدَّم.
والهاء في {بِآخِذِيهِ} تعود على «الخَبِيث» وفيها، وفي نحوها من الضمائر المتصل باسم الفاعل؛ قولان مشهوران:
أحدهما: أنها في محلِّ جر، وإن كان محلُّها منصوباً؛ لأنها مفعولٌ في المعنى.
والثاني: - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصبٍ، وإنما حذف التنوين، والنون في نحو: «ضَارِبُنْكَ» بثبوت التنوين، وقد يستدلُّ لمذهبه بقوله: [الطويل]
1227 - هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ..... ... ... ... ... ... ... ...
وقوله الآخر: [الطويل]
1228 - وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ..... ... ... ... ... ... ... ... .
فقد جمع بين النون النائبة عن التنوين، وبين الضمير.
قوله: {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ} الأصل: إلاَّ بأن، فحذف حرف الجرِّ مع «أنْ» فيجيء فيها القولان: أهي في محلِّ جرٍّ، أم نصب؟ وهذه الباء تتعلَّق بقوله: {بِآخذيه} . وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن تكون «أنْ» وما في حيِّزها في محلِّ نصب على الحال، والعامل فيها «آخِذيه» . والمعنى: لَسْتُم بآخذِيه في حالٍ من الأحوال إلا في حال الإغماض، وقد تقدَّم أنَّ سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجيز أن تقع «أَنْ» ، وما في حيِّزها موقع الحال. وقال(4/412)
الفراء: المعنى على الشرط والجزاء؛ لأنَّ معناه: إن أغمضتم أخذتم، ولكن لمَّا وقعت «إلاَّ» على «أَنْ» ، فتحها، ومثله، {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} [البقرة: 229] {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} [البقرة: 237] . وهذا قول مردودٌ.
والجمهور على: «تُغْمِضُوا» بضمِّ التاء، وكسر الميم مخففةً؛ من «أَغْمَض» ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه على حذف مفعوله، تقديره: تغمضوا أبصاركم، أو بصائركم.
والثاني: في معنى ما لا يتعدَّى، والمعنى إلاَّ أن تغضوا، من قولهم: «أَغْضَى عنه» .
وقرأ الزهريُّ: «تُغَمِّضُوا» بضم التاء، وفتح الغين، وكسر الميم مشددةً؛ ومعناها كالأولى. وروي عنه أيضاً: «تَغْمَضُوا» بفتح التاء، وسكون الغين، وفتح الميم؛ مضارع «غَمِضَ» بكسر الميم، وهي لغةٌ في «أَغْمض» الرباعي، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل وأفعل.
وروي عن اليزيديّ: «تَغْمُضُوا» بفتح التاء، وسكون الغين، وضمِّ الميم.
قال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهو مِنْ: يَغْمُضُ، كظرفُ يظرُفُ، أي: خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه» .
وروي عن الحسن: «تُغَمَّضُوا» بضمِّ التاء، وفتح الغين، وفتح الميم مشددةً على ما لم يسمَّ فاعله.
وقتادة كذلك، إلا أنه خفَّف الميم، والمعنى: إلاَّ أن تحملوا على التغافل عنه، والمسامحة فيه. وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قراءة قتادة: «ويجوزُ أن يكون مِنْ أغْمَضَ، أي: صودف على تلك الحال؛ كقولك: أَحْمَدْتُ الرجُلَ، أي: وجدته مَحْمُوداً» وبه قال أبو الفتح.
وقيل فيها أيضاً: إنَّ معناها إلاَّ أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه.
والإغماض: في اللغة غضُّ البصر، وإطباق الجفن، وأصله من الغموض، وهو الخفاء، يقال: هذا كلامٌ غامضٌ أي خفي الإدراك.
قال القرطبيُّ: من قول العرب: أغمض الرجل؛ إذا أتى غامضاً من الأمر؛ كما(4/413)
تقول: أعمن الرجل: إذا أتى عمان، وأعرق: إذا أتى العراق، وأنجد: إذا أتى نجداً، وأغار: إذا أتى الغور الذي هو تهامة.
أو من أغمض الرجل في أمر كذا: إذا تساهل فيه، والغمض: المتطامن الخفيُّ من الأرض، فقيل المراد به في الآية المساهلة؛ لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه؛ لئلا يرى ذلك، ثم كثر ذلك؛ حتى جُعِل كل تجاوزٍ، ومساهلةٍ في البيع، وغيره إغماضاً، فتقديره في الآية: لو أُهْدِي إليكم مثل هذه الأشياء، لما أخذتموها إلاَّ على استحياءٍ، وإغماضٍ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! قاله البراء.
وقيل معناه: لو كان لأحدكم على رجل حقٌّ، فجاءه بهذا لم يأخذه إلاَّ وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقِّه، وتركه.
وقال الحسن، وقتادة: لو وجدتموه يباع في السوق، ما أخذتموه بسعر الجيد؛ إلاَّ إذا أغمضتم بصر البائع، يعني أمرتموه بالإغماض، والحطِّ من الثمن.
ثم قال: {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} والمعنى أنَّه غنيٌّ عن صدقاتكم، و «الحميد» أي: محمودٌ على ما أنعم بالبيان.
وقيل: قوله: «غَنِيٌّ» كالتَّهديد على إعطاء الرديء في الصدقات، و «حَمِيدٌ» : بمعنى حامدٍ، أي: أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات، وهو كقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [الإسراء: 19] .(4/414)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
قوله تعالى: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء ... } الآية: مبتدأٌ وخبرٌ، وتقدَّم اشتقاق الشيطان، وما فيه عند الاستعاذة. ووزن يعدكم: يعلكم بحذف الفاء، وهي الواو؛ لوقوعها بين ياءٍ، وكسرةٍ، وقرأ الجمهور: «الفَقْر» بفتح الفاء، وسكون القاف، وروى أبو حيوة، عن بعضهم: «الفُقْر» بضم الفاء وهي لغةٌ، وقرئ «الفَقَر» بفتحتين.
والوعد: يستعمل في الخير، والشَّرِّ؛ قال تعالى في الخبر: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20] وقال في الشَّرِّ: {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} [الحج: 72] ويمكن أن يحمل هذا على التهكم به كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فإذا لم يذكر الخير والشر، قلت في الخير: وعدته، وفي الشر أوعدته؛ قال: [الطويل](4/414)
1229 - وَإِنِّيَ إِنْ أَوْعَدتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
والفَقْر والفُقْر لغتان؛ وهو الضعيف بسبب قلَّة المال، وأصله في اللغة: كسر الفقار، يقال: رجلٌ فقيرٌ وفَقِرٌ، إذا كان مكسور الفقار؛ قال طرفة: [الرمل]
1230 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... إِنَّنِي لَسْتُ بِمَوْهُونٍ فَقِرْ
وسيأتي له مزيد بيان في قوله: «لِلْفُقَراءِ» .
فصل في المراد من الآية
معنى الآية الكريمة أن الشيطان يخوّفكم الفقر، ويقول للرجل: أمسك عليك مالك؛ فإنك إذا تصدقت به افتقرت.
وهذه أوجه اتصال هذه الآية بما قبلها.
قيل المراد ب «الشيطان» : إبليس، وقيل: شياطين الجن، والإنس.
وقيل: النَّفس الأمَّارة بالسُّوء.
{وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} أي: بالبخل، ومنع الزكاة.
قال الكلبي: كلُّ فحشاء في القرآن فهو الزنا إلاَّ هذا، والفاحش عند العرب: البخيل، قال طرفة: [الطويل]
1231 - أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَددِ
«يعتامُ» : منقولٌ من عام فلانٌ إلى اللبن، إذا اشتهاه، وقد نبَّه الله تعالى في هذه الآية الكريمة على لطيفةٍ، وهي أنَّ الشيطان يخوفه أولاً بالفقر، ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء، ويغريه على البخل؛ وذلك لأن البخل صفةٌ مذمومةٌ عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلاَّ بتقديم تلك المقدمة، وهي التخويف من الفقر، وقيل «الفَحْشَاءُ» : هو أن يقول: لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله تعالى؛ لئلا تصير فقيراً؛ فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك، زاد الشيطان فيمنعه من الإنفاق بالكلية؛ حتى لا يعطي الجيد، ولا الرديء، وحتى يمنع الحقوق الواجبة، فلا يؤدِّي الزكاة، ولا(4/415)
يصل الرحم، ولا يردُّ الوديعة، فإذا صار هكذا، سقط وقع الذنوب عن قلبه، ويصير غير مبالٍ بارتكابها، وهناك يتَّسع الخرق، ويصير مقداماً على كلِّ الذنوب، وذلك هو الفحشاء، وتحقيقه: أنَّ لكل خلقٍ طرفين، ووسطاً، فالطرف الكامل: هو أن يكون بحيث يبذل كلَّ ما يملكه في سبيل الله: الجيِّد، والرديء، والطرف الفاحش النَّاقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله: لا الجيد، ولا الرديء، والمتوسط بأن يبخل بالجيد، وينفق الرديء، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش، لا يمكنه إلاَّ بأن يجره إلى الوسط، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام، انقطع طمع الشيطان عنه، وإن أطاعه فيه، طمع في أن يجرَّه من الوسط إلى الطرف الفاحش، فالوسط: هو قوله تعالى: {يَعِدُكُمُ الفقر} والطرف الفاحش قوله تعالى: {وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} .
وقال القرطبيُّ: «الفَحْشَاءُ» : المعاصي، قال: ويجوز في غير القرآن: ويأمركم الفحشاء بحذف الباء، وأنشد سيبويه: [البسيط]
1232 - أ - أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبٍ
فصل في بيان هل الفقر أفضل من الغنى؟!
تمسك بعضهم بهذه الآية في أنَّ الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه.
قال ابن عطية: وليس في الآية حجَّةٌ؛ لقوله تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [سبأ: 39] ثم قال: {والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} لذنوبكم، كقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] .
وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة:
أحدهما: التنكير في لفظ «المغْفِرَةِ» ، والمعنى: مغفرةٌ وأيُّ مغفرة.
والثاني: قوله: «مَغْفِرَةً مِنْه» يدل على كمال حال هذه المغفرة؛ لأن كمال كرمه ونهاية جوده، معلومٌ لجميع العقلاء، فلما خص هذه المغفرة بكونها منه، علم أنَّ(4/416)
المقصود تعظيم حال هذه المغفرة؛ لأنَّ عظم المعطي يدلُّ على عظم العطيَّة.
قوله: {مِّنْهُ} فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه نعتٌ لمغفرة.
والثاني: أن يكون مفعولاً متعلقاً بيعد، أي: يعدكم من تلقاء نفسه.
و {وَفَضْلاً} صفته محذوفةٌ، أي: وفضلاً منه، وهذا على الوجه الأول، وأمَّا الثاني، فلا حذف فيه.
فصل
يحتمل أن يكون المراد من كمال هذه المغفرة ما قاله في آيةٍ أخرى: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، ويحتمل أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين، ويحتمل أن يكون المقصود أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا، فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا، ما دمنا في الدنيا.
وأمَّا معنى الفضل، فهو الرزق، والخلف المعجَّل في الدنيا.
ثم قال تعالى: {والله وَاسِعٌ} ، أي: واسع المغفرة والقدرة على إغنائكم، وإخلاف ما تنفقونه {عَلِيمٌ} لا يخفى عليه ما تنفقون؛ فهو يخلفه عليكم.(4/417)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
قال السَّدِّي: هي النبوة.
وقال ابن عباس، وقتادة: علم القرآن: ناسخه، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدّمه، ومؤخره، وحلاله، وحرامه، وأمثاله.
قال الضحاك: في القرآن مائةٌ وتسع آياتٍ، ناسخةٌ ومنسوخةٌ، وألف آية حلالٌ وحرامٌ، لا يسع المؤمنين تركهن، حتى يتعلموهنَّ، ولا يكونوا كأهل النهروان فإنهم تأوَّلوا آيات من القرآن في أهل القبلة، وإنما أنزلت في أهل الكتاب، جهلوا علمها، فسفكوا بها الدماء، وانتهبوا الأموال، وشهدوا علينا بالضلال، فعليكم تعلم القرآن؛ فإنه من علم فيما أُنزل؛ لم يختلف في شيء منه.(4/417)
وقال مجاهد: هي القرآن، والعلم، والفقه، وروى ابن أبي نجيح عنه هي الإصابة في القول، والفعل.
وقال إبراهيم النخعيُّ: هي معرفة معاني الأشياء، وفهمها.
وروي عن مقاتل، قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه:
أحدها: مواعظ القرآن. قال: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] وفي النساء {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} [النساء: 113] يعني المواعظ ومثلها في آل عمران.
وثانيها: الحكمة بمعنى: الفهم، والعلم قال {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} [مريم: 12] وفي لقمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} [لقمان: 12] يعني الفهم، والعلم، وفي الأنعام {أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام: 89] وفي «ص» {وَآتَيْنَاهُ الحكمة} [ص: 20] .
وثالثها: النبوة.
ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، قال في النحل: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة} [النحل: 125] وفي هذه الآية {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وعند التحقيق ترجع هذه الوجوه إلى العلم.
قال أبو مسلم: الحكمة: فعلةٌ من الحكم، وهي كالنَّحلة: من النَّحل، ورجلٌ حكيمٌ إذا كان ذا حِجًى، ولُبَّ، وإصابة رأي وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل، ويقال: أمر حكيمٌ، أي: محكمٌ.
قوله تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ} : الجمهور على «يُؤْتِي» «وَمَنْ يُؤْتَ» بالياء فيهما، وقرأ الريع بن خيثم: بالتاء على الخطاب فيهما. وهو خطابٌ للباري؛ على الالتفات.
وقرأ الجمهور: «وَمَنْ يُؤْتَ» مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير «مَنْ» الشرطية، وهو المفعول الأول فتكون في محل رفع، و «الحكمة» مفعول ثانٍ.(4/418)
وقرأ يعقوب: «يُؤْتِ» مبنياً للفاعل، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى، و «مَنْ» مفعولٌ مقدمٌ، و «الحكمة» مفعولٌ ثانٍ؛ كقولك: «أَيّاً يُعْطِ زيداً دِرْهماً أُعْطِه درهماً» ويدل لهذه القراءة قراءة الأعمش.
وقال الزمخشريُّ: بمعنى «وَمْن يُؤْتِهِ اللهُ» . قال أبو حيان: «إِن أرادَ تفسير المعنى، فهو صحيحٌ، وإن أراد الإعراب، فليس كذلك؛ إذ ليس ثمَّ ضمير نصب محذوفٌ، بل مفعول» يُؤْتِ «من الشرطية المتقدمة» . قال شهاب الدين: ويؤيِّد تقدير الزمخشري قراءة الأعمش.
قوله: {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} جواب الشرط، والماضي المقترن بقد، الواقع جواباً للشرط، تارةً يكون ماضي اللفظ مستقبل المعنى، كهذه الآية الكريمة، فهو الجواب حقيقةً، وتارةً يكون ماضي اللفظ، والمعنى نحو:
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ} [فاطر: 4] فهذا ليس جواباً، بل الجواب محذوفٌ، أي: فتسلَّ، فقد كذِّبت رسلٌ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
والتنكير في «خَيْراً» قال الزمخشريُّ: يفيد التعظيم، كأنه قال: فقد أُوتي [أيَّ] خير كَثيرٍ «. قال أبو حيَّان: وتقديره هكذا، يؤدي إلى حذف الموصوف ب» أَيَّ «وإقامة الصفة مقامه، فإنَّ التقدير: فقد أُوتِيَ خيراً أي خيرٍ كثيرٍ، وحذف» أيَّ «الواقعة صفةً، وإقامة المضاف إليها مقامها، وكذلك وصف ما يضاف إليه» أيَّ «الواقعة صفةً، نحو: مررت برجلٍ أيِّ رجلٍ كريم، وكلُّ هذا يحتاج في إثباته إلى دليلٍ، والمحفوظ عن العرب: أنَّ» أيّاً «الواقعة صفةً تضاف إلى ما يماثل الموصوف نحو:
1232 - ب - دَعَوْتُ امْرَأً أَيَّ امْرِئٍ فَأَجَابَنِي ... وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلاَذاً وَمَوْئِلاً
وقد يحذف المصوف ب» أي «؛ كقوله: [الطويل]
1233 - أ - إِذَا حَارَبَ الحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ ... عَلاَهُ بِسَيْفٍ كُلَّما هُزَّ يَقْطَعُ
تقديره: منافقاً أيَّ منافقٍ، وهذا نادرٌ، وقد تقدم أنَّ تقدير الزمخشريِّ كذلك، أعني كونه حذف موصوف» أيّ «كقراءة الأعمش بإثبات» ها «الضمير و» مَنْ «في قراءته مبتدأٌ، لاشتغال الفعل بمعموله، وعند من يجوِّز الاشتغال في أسماء الشَّرط، والاستفهام، يجوز في»(4/419)
مَنْ «النصب بإضمار فعلٍ، وتقديره متأخراً والرفع على الابتداء، وقد تقدم نظائر هذا.
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجُّوا بهذه الآية الكريمة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم، لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية؛ لأنها حاصلة للبهائم، والمجانين، والأطفال، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكمة، فهي مفسرة بالعلوم النظرية، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهرٌ، وعلى التقديرين: فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية، والحسية ثابتاً من غيرهم، وبتقدير مقدِّرٍ من غيرهم، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة أو القرآن، أو قوة الفهم أو الخشية، على ما قال الرَّبيع بن أنسٍ؟
فالجواب: إنَّ الدليل الذي ثبت بالتواتر أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن، بل هي مفسرة: إمَّا بمعرفة حقائق الأشياء، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة، وعلى التقديرين، فالمقصود حاصلٌ فإن حاولت حمل الإيتاء على التوفيق، والإعانة، والألطاف، قلنا: كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين، فقد فعل مثله في حق الكفَّار، مع أن هذا المدح العظيم لا يتناولهم، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيءٌ آخر سوى فعل الألطاف.
قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} وأصل» يَذَّكَّرُ «: يتذكر، فأدغم.
» وأُولُوا الأَلْبَابِ «ذوو العقول، ومعناه: أن الإنسان إذا تأمَّل، وتدبر هذه الأشياء، وعرف أنها لم تصل إلاَّ بإيتاء الله تعالى، وتيسيره، كان من أولي الألباب.(4/420)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
قوله تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ} [البقرة: 106] {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 197] وقد تقدَّم. وأيضاً تقدَّم الكلام في مادة «نَذَرَ» في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] ، إلاَّ أنَّ النَّذر له خصوصيَّة: وهو عقد الإنسان ضميره على شيءٍ، يقال: نذر ناذرٌ؛ قال عنترة: [الكامل]
1233 - ب - الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا ... والنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَم الْقَهُمَا دَمِي(4/420)
وأصله من التَّخويف تقول أنذرت القوم إنذاراً بالتخويف، وفي الشرع على ضربين: مفسر: كقوله للهِ عليَّ عَتْق رَقَبةٍ، ولِلَّهِ عليَّ حجٌّ فهاهنا يلزم الوفاء، ولا يجزيه غيره، وغير مفسَّر كقوله: نذرت لله تعالى ألاَّ أفعل كذا، ثم يفعله، أو يقول: لله عليَّ نذرٌ، ولم يسمِّه، فيلزمه كفارة يمينٍ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «َمَنْ نَذَرَ نَذْراً، وسَمَّى فَعَلْيهِ ما سمَّى، ومَنْ نَذَرَ نَذْراً، ولَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارةُ يَمِينٍ» .
قوله: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} جواب الشرط؛ إن كانت «ما» شرطيةً، أو زائدة في الخبر، إن كانت موصولة.
فإن قيل: لم وحَّد الضمير في «يَعْلَمُه» وقد تقدم شيئان النفقة، والنذر؟
فالجواب أن العطف هنا ب «أو» ، وهي لأحد الشيئين، تقول: «إنْ جاء زيدٌ، أو عمروٌ أكرمتُه» ، ولا يجوز: أكرمتها، بل يجوز أن تراعي الأول نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ، أو الثاني، نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقة، والآية من هذا، ولا يجوز أن يقال: منطلقان. ولهذا أوَّل النحاة: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومن مراعاة الأول قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ، على هذا لا يحتاج إلى تأويلات ذكرها المفسرون. وروي عن النَّحاس أنه قال: التقدير: وما أنفقتم من نفقةٍ، فإنَّ الله يعلمها، أو نذرتم من نذر، فإنَّ الله يعلمه، فحذف، ونظَّره بقوله تعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34] وقوله: [المنسرح]
1234 - نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقول الآخر في هذا البيت: [الطويل]
1235 - رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْه وَوَالِدِي ... بَرِيئاً وَمِنْ أَجْلِ الطَوِيِّ رَمَانِي
وهذا لا يحتاج إليه؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواو المقتضية للجمع بين الشيئين، وأمَّا «(4/421)
أَوْ» المقتضية لأحد الشيئين، فلا. وقال الأخفش: الضمير عائدٌ إلى الأخير كقوله: {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} [النساء: 112] وقيل: يعود إلى «ما» في قوله: «وَمَا أَنْفَقْتُمْ» لأنها اسمٌ كقوله: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] ، ولا حاجة إلى هذا أيضاً؛ لما عرفت من حكم «أو» .
قوله: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} أفاد: الوعد العظيم للمطيعين، والوعيد الشديد للمتمردين، لأنه يعلم ما في قلب المتصدق من الإخلاص فيتقبل منه تلك الطاعة؛ كما قال:
{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] ، وقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] .
قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} اعلم أنَّ الظالم قسمان:
الأول: من ظلم نفسه وهو يشتمل على كل المعاصي.
الثاني: من ظلم غيره بأن لا ينفق أو لا يصرف الإنفاق عن المستحق إلى غ يره، أو ينفق على المستحقِّ رياءً وسمعةً، أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظُّلم على الغير، بل من باب الظلم على النَّفس.
فصل في دحض شبهة للمعتزلة في إنكار الشفاعة
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية، في نفي الشَّفاعة عن أهل الكبائر، قالوا: لأنَّ ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه، فلو اندفعت العقوبة عنهم بالشفاعة، لكان أولئك الشفعاء أنصاراً لهم، وذلك يضاد الآية.
وأجيبوا بوجوه:
الأول: أن الشفيع لا يسمَّى في العرف ناصراً، بدليل قوله: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 123] ففرَّق تعالى بين الشفيع، والناصر؛ فلا يلزم من نفي الناصر نفي الشفيع.
الثاني: أن الشفيع إنما يشفع عن المشفوع عنده على سبيل استعطافه، والناصر ينصره عليه، والفرق ظاهرٌ.
وأجاب آخرون: بأنه ليس لمجموع الظالمين من أنصارٍ.
فإن قيل: لفظ «الظَّالِمِينَ» ، ولفظ «الأَنْصَارِ» جمعٌ، والجمع إذا قوبل بالجمع، توزع الفرد على الفرد، فكان المعنى: ليس لأحدٍ من الظالمين، أحدٌ من الأنصار.
قلنا لا نسلّم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد؛ لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد.
الوجه الثالث: أن هذا الدليل للشفاعة عامٌّ في حقِّ الكلِّ في الأشخاص،(4/422)
والأوقات، ودليل إثبات الشفاعة خاصٌّ في بعض الأوقات، والخاصُّ مقدمٌ على العامِّ.
الوجه الرابع: ما بينا أن اللفظ العامَّ لا يكون قاطعاً في الاستغراق؛ بل ظاهرٌ على سبيل الظن القويِّ، فصار الدليل ظنياً، والمسألة ليست ظنيَّة، فسقط التمسُّك بها.
و «الأَنْصَارُ» جمع نصير؛ كأشرافٍ، وشريف، وأحبابٍ، وحبيب.(4/423)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
قوله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} أي تُظهرونها {فَنِعِمَّا هِيَ} .
الفاء جواب الشرط، و «نِعْمَط فعلٌ ماضٍ للمدح، نقيض بئس، وحكمها في عدم التصرف، والفاعل، واللغات حكم بئس، كما تقدَّم.
و» مَا «في محلِّ الرفع. و» هِيَ «في محل النصب، كما تقول: نِعْمَ الرجل رجلاً، فإذا عرَّفت، رفعت فقلت: نِعْمَ الرجلُ زَيْدٌ.
قال الزجاج:» ما «في تأويل الشيء، أي: نعم الشيء هو.
قال أبو علي: الجيد في تمثيل هذا أن يقال:» ما «في تأويل شيءٍ؛ لأن» مَا «ها هنا نكرةٌ فتمثيله بالنكرة أبين، والدليل على أن» ما «ها هنا نكرةٌ أنها لو كانت معرفةً، فلا بد لها من صلة، وليس ها هنا ما يوصل به؛ لأن الموجود بعد» ما «هو» هي «وكلمة» هِيَ «مفردةٌ، والمفرد لا يكون صلةً ل» مَا «وإذا بطل هذا، فنقول» مَا «نصبٌ على التمييز، والتقدير: نِعْمَ شيئاً هي إبداء الصدقات، فحذف المضاف؛ لدلالة الكلام عليه.
وقرأ ابن عامرٍ، وحمزة، والكسائيُّ، هنا وفي النساء:» فَنَعِما «بفتح النون، وكسر العين، وهذه على الأصل؛ لأنَّ الأصل على» فَعِلط كعلم، وقرى ابن كثير، وورش، وحفص: بكسر النون والعين، وإنما كسر النون إتباعاً لكسرة العين، وهي لغة هذيل.
قيل: وتحتمل قراءة كسر العين أن يكون أصل العين السكون، فلمّا وقعت بعدها «ما» وأدغم ميم «نِعْم» فيها، كسرت العين؛ لالتقاء الساكنين، وهو محتملٌ.
وقرأ أبو عمرو، وقالون، وأبو بكر: بكسر النون، وإخفاء حركة العين.(4/423)
وروي عنهم الإسكان أيضاً، واختاره أبو عبيد، وحكاه لغةً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في [نحو] قوله: «نِعْمَّا المالُ الصالح مع الرجلِ الصالحِ» .
والجمهور على اختيار الاختلاس على الإِسكان، بل بعضهم يجعله من وهم الرواة عن أبي عمرو، وممَّن أنكره المبرد، والزجاج والفارسي، قالوا: لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدِّهما. قال المبرد: «لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يَنْطِقَ به، وإنما يَرُومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّك، ولا يَشْعُر» وقال الفارشي: «لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سُكُوناً» .
وقد تقدَّم الكلام على «مَا» اللاحقة لنعم، وبئس. و «هي» مبتدأٌ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حذف مضاف، أي: فنعم إبداؤها، ويجوز ألاَّ يقدَّر مضافٌ، بل يعود الضمير على «الصَّدَقَاتِ» بقصد صفة الإبداء، تقديره: فنعمَّا هي، أي: الصدقات المبداة. وجملة المدح خبرٌ عن «هي» ، والرابط العموم، وهذا أولى الوجوه، وقد تقدَّم تحقيقها.
والضمير في {وَإِن تُخْفُوهَا} يعود على الصدقات. قيل: يعود عليها لفظاً ومعنًى، وقيل: يعود عليها لفظاً لا معنًى؛ لأنَّ المراد بالصدقات المبداة: الواجبة، وبالمخفاة: المتطوَّع بها، فيكون من باب «عِنْدِي دِرْهمٌ، ونصفُه» ، أي: ونصف درهمٍ آخر؛ وكقول القائل: [الوافر]
1236 - كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ ... خَرِيقٌ وَهْيَ سَاكِنَةُ الهُبُوبِ
أي: وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية.
والفاء في قوله: «فهو» جواب الشرط، والضمير يعود على المصدر المفهوم من «تُخْفُوهَا» أي: فالإخفاء، كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] و «لكم» صفةٌ لخير، فيتعلَّق بمحذوفٍ. و «خَيْر» يجوز أن يكون للتفضيل، فالمفضَّل عليه محذوف، أي: خيرٌ من إبدائها، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيريَّة، أي: خيرٌ لكم من الخيور.
وفي قوله: «إِن تُبْدُواْ، وَإِن تُخْفُوهَا» نوعٌ من البديع، وهو الطِّباق اللَّفظيّ. وفي قوله: {وَتُؤْتُوهَا الفقرآء} طباق معنوي؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الأغنياء الصدقات، وإن يخف الأغنياء الصدقات، ويؤتوها الفقراء، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظاً، والأغنياء بالفقراء معنًى.(4/424)
والصَّدقة: قال أهل اللغة: موضوع: «صَ دَ قَ» على هذا الترتيب للصحة، والكمال ومنه قولهم: رجلٌ صدقُ النَّظر، وصدقُ اللقاء، وصدقُوهم القتال، وفلانٌ صادق المودَّة، وهذا خلٌّ صادق الحموضة، وشيءٌ صادق الحلاوة، وصدق فلانٌ في خبره، إذا أخبر به على وجه الصِّحة كاملاً، والصَّديق يسمى صديقاً؛ لصدقه في المودَّة، وسمِّي [الصَّداق صداقاً لأن] مقصود العقد يتمُّ به ويكمل، وسميت الزكاة صدقةً؛ لأن المال بها يصحُّ ويكمل، فهي إمَّا سببٌ لكمال المال، وبقائه، وإما أنها يستدلُّ بها على صدق إيمان العبد، وكماله فيه.
فصل في بيان فضيلة صدقة السِّر
سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صدقة السرِّ أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية.
«وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» سَبْعَةٌ يُظْلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ... «إلى أن قال:» ... ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعلم شِمَالُه ما تُنْفِقُ يَمِينُه «.
وقيل: الآية في صدقة التطوُّع؛ أما الزكاة المفروضة، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى يقتدي الناس به؛ كالصلاة المكتوبة في الجماعة، والنافلة في البيت أفضل.
وقيل: الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيراً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمَّا في زماننا، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى لا يساء به الظن.
واعلم أنَّ الصدقة تطلق على الفرض والنَّفل؛ قال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وقال: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} [التوبة: 60] ،» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «نَفَقَةُ المرْءِ عَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ» والزكاة لا تطلق إلاَّ على الفرض.
قوله: {وَيُكَفِّرُ} بالواو، والأعمش: بإسقاطها، والياء، وجزم الراء؛ وفيها تخريجان:
أحدهما: أنه بدلٌ من موضع قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ؛ لأنه جواب الشرط، كأنَّ التقدير: وإن تخفوها، يكن خيراً لكم، ويُكَفِّرْ.(4/425)
والثاني: أنه حذف حرف العطف، فتكون كالقراءة المشهورة، والتقدير: «ويُكَفِّرُ» وهذا ضعيفٌ جداً.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر: بالنون ورفع الراء، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بالنون وجزم الراء، وابن عامرٍ، وحفصٌ عن عاصم: بالياء ورفع الراء، والحسن: بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش أيضاً: بالياء ونصب الراء، وابن عباس: «وتُكَفِّرْ» بتاء التأنيث وجزم الراء، وعكرمة: كذلك؛ إلا أنه فتح الفاء؛ على ما لم يسمَّ فاعله، وابن هرمز: بالتاء ورفع الراء، وشهر بن حوشب - ورويت عن عكرمة أيضاً -: بالتاء ونصب الراء، وعن الأعمش إحدى عشرة قراءةً، والمشهور منها ثلاثٌ.
فمن قرأ بالياء، ففيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه أضمر في الفعل ضمير الله تعالى؛ لأنه هو المكفِّر حقيقةً، وتعضده قراءة النون؛ فإنها متعيِّنةٌ له.
والثاني: أنه يعود على الصَّرف المدلول عليه بقوة الكلام، أي: ويكفِّر صرف الصدقات.
والثالث: أنه يعود على الإخفاء المفهوم من قوله: {وَإِن تُخْفُوهَا} ، ونسب التكفير للصَّرف، والإخفاء مجازاً؛ لأنَّهما سببٌ للتكفير، وكما يجوز إسناد الفعل إلى فاعله، يجوز إسناده إلى سببه.
ومن قرأ بالتاء ففي الفعل ضميرُ الصَّدقات، ونُسب التكفير إليها مجازاً كما تقدَّم، ومن بناه للمفعول؛ فالفاعل هو الله تعالى، أو ما تقدَّم.
ومن قرأ بالنون، فهي نون المتكلِّم المعظِّم نفسه.
ومن جزم الراء؛ فللعطف على محلِّ الجملة الواقعة جواباً للشرط؛ ونظيره قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186] في قراءة من جزم «وَيَذَرُهُمْ» .
ومن رفع، فعلى ثلاثة أوجهٍ:.
أحدها: أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب، وتكون الواو عاطفةً جملة كلام على جملة كلام آخر.
والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمر، وذلك المبتدأ: إمَّا ضمير الله تعالى، أو الإخفاء،(4/426)
أي: وهو يُكفِّر؛ فيمن قرأ بالياء، ونحن نكفِّر؛ فيمن قرأ بالنون، أو وهي تُكَفِّر؛ فيمن قرأ بتاء التأنيث.
والثالث: أنه عطفٌ على محلِّ ما بعد الفاء، إذ لو وقع مضارعٌ بعدها، لكان مرفوعاً؛ كقوله تبارك وتعالى: {ومعناه وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] ، ونظيره {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186] في قراءة من رفع.
ومن نصب، فعلى إضمار «أَنْ» ؛ عطفاً على مصدر متوهَّم، مأخوذ من قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، والتقدير: وإن تخفوها يكن، أو يوجد خيرٌ لكم وتكفيرٌ. ونظيرها قراءة من نصب: «فيغفر» بعد قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284] ، إلاَّ أنَّ تقدير المصدر في قوله: «يُحَاسِبْكُمْ» ثَمَّ أسهل منه هنا؛ لأنَّ ثمَّة فعلاً مصرَّحاً به، وهو «يُحَاسِبْكُمْ» ، والتقدير: يقع محاسبةً فغفرانٌ، بخلاف هنا، إذ لا فعل ملفوظٌ به، وإنما قدَّرنا المصدر من مجموع قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} .
وقال الزمخشريُّ: «ومعناه: وإِنْ تُخْفُوها، يكُنْ خَيْراً لكم، وأَنْ يُكَفِّرَ» قال أبو حيَّان: «وظاهِرُ كَلاَمِهِ هذا أنَّ تقديره:» وأَنْ يُكَفِّرَ «يكون مقدَّراً بمصدر، ويكون معطوفاً على» خَيْراً «الذي هو خبر» يَكُنْ «التي قدَّرها، كأن قال: يكنِ الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً، فيكون» أَنْ يُكَفِّرَ «في موضع نصبٍ، والذي تقرَّر عند البصريِّين: أنَّ هذا المصدر المنسبك من:» أنْ «المضمرة مع الفعل المنصوب بها، هو معطوفٌ على مصدر متوهَّم مرفوع، تقديره من المعنى. فإذا قلت:» مَا تَأْتِينَا فتحدثنا «فالتقدير: ما يكون منك إتيانٌ فحديثٌ، وكذلك:» إِنْ تَجِىءْ وتُحْسِنَ إليَّ، أُحْسِنْ إليك «التقدير: إن يكن منك مجيءٌ، وإحسانٌ أُحْسن إليك، فعلى هذا يكون التقدير: وإن تخفوها، وتؤتوها الفقراء، فيكون زيادة خير للإخفاء على خير الإبداء وتكفيرٌ» . انتهى. قال شهاب الدين: ولم أدر ما حمل الشيخ على العدول عن تقدير أبي القاسم، إلى تقديره وتطويل الكلام في ذلك؛ مع ظهور ما بين التقديرين؟
وقال المهدويُّ: «هو مُشَبَّهٌ بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء، لوجوب غيره كالاستفهام» . وقال ابن عطيَّة: «الجزمُ في الراء أفصحُ هذه القراءات؛ لأنها تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التكفير في الجزاء، وكونه مَشْرُوطاً إن وقع الإخفاء، وأمَّا رفع الراء، فليس فيه هذا المَعْنَى» قال أبو حيان: «ونقولُ إنَّ الرفع أبلغُ وأعمُّ؛ لأنَّ الجزم يكون على أنَّه معطوفٌ على جواب الشرط الثاني، والرفع يدلُّ على أنَّ التكفير مترتِّبٌ من جهة المعنى على بذل الصدقات أُبْدِيَتْ، أو أُخْفيت، لأنَّا نعلم أنَّ هذا التكفير متعلِّقٌ بما قبله، ولا يختصُّ التكفير بالإخفاء فقط، والجزم يخصِّصه به، ولا يمكن أن(4/427)
يقال إن الذي يبدي الصدقات، لا يُكَفِّرْ مِنْ سيئاتِهِن فقد صار التكفيرُ شاملاً للنوعَيْن: من إبداء الصدقاتِ، وإخفائها؛ وإن كان الإخفاء خيراً» .
قوله تعالى: {مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} في «مِنْ» ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنها للتَّبعيض، أي: بعض سيئاتكم، لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات، وعلى هذا فالمفعول في الحقيقة [محذوفٌ] ، أي: شيئاً من سيئاتكم، كذا قدَّره أبو البقاء.
والثاني: أنها زائدة وهو جارٍ على مذهب الأخفش، وحكاه ابن عطية عن الطبري عن جماعةٍ، وجعله خطأً؛ يعني من حيث المعنى.
والثالث: أنها للسببية، أي: من أجل ذنوبكم؛ وهذا ضعيفٌ.
والسيئات: جمع سيِّئة، ووزنها: فيعلة، وعينها واوٌ، والأصل: سيوءة، ففعل بها ما فعل بميِّت، كما تقدَّم.
قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إشارةٌ إلى تفضيل صدقة السرِّ على العلانية؛ كأنه يقول: أنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاة الله، وقد حصل مقصودكم في السر؛ فما معنى الإبداء؛ فكأَنَّهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء؛ ليكون أبعد من الرياء، وكسر قلب الفقير.(4/428)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
هذا الكلام متصلٌ بما قبله من ذكر الصدقات، كأنه بيَّن فيه جواز الصدقة على المشركين.
قوله: «هُداهُمْ» : اسم ليس، وخبرها الجارُّ والمجرور. و «الهُدَى» مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول، أي: ليس عليك أن تهديهم، ويجوز أن يكون مضافاً لفاعله، أي: ليس عليك أن يهتدوا، يعني: ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء.
وفيه طباقٌ معنويٌّ، إذ التقدير: هَدْيُ الضَّالِّين، وفي قوله: {ولكن الله يَهْدِي} مع قوله تعالى: {هُدَاهُمْ} جناسٌ مغاير؛ لأنَّ إحدى الكلمتين اسمٌ، والأخرى فعلٌ، ومفعول {يَشَآءُ} محذوفٌ، أي: هدايته.
فصل في بيان سبب النزول
روي في سبب النزول وجوه:
أحدها: أن قُتَيْلَةَ أمَّ أسماء بنت أبي بكر، أتت إليها؛ تسألها شيئاً، وكذلك جدَّتها،(4/428)
وهما مشركتان؛ فقالت: لا أُعطيكما حتى أستأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإنَّكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك؛ فنزلت هذه الآية؛ فأمرها رسول الله - صلى الله لعيه وسلم - أن تتصدق عليهما.
الثاني: كان أُناسٌ من الأنصار، لهم قرابةٌ من قريظة والنَّضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً؛ فنزلت هذه الآية الكريمة.
الثالث: قال سعيد بن جبير: كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين، نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن التصدق على المشركين؛ كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام؛ فنزلت الآية الكريمة فتصدق عليهم والمعنى على جميع الروايات: ليس عليك هدى من خالفك؛ حتى تمنعهم الصدقة؛ لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدقْ عليهم، لوجه الله، ولا توقف ذلك على إسلامهم، والمراد بهذه الهداية هداية التوفيق، وأما هداية البيان، والدعوة، فكان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وظاهر هذه الآية أنها خطابٌ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكن المراد به هو، وأُمَّته؛ ألا تراه قال: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} [البقرة: 271] وهذا عامٌّ، ثم قال: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} وظاهره خاصٌّ، ثم قال بعده {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} وهذا عامٌّ، فيفهم من عموم ما قبل الآية الكريمة، وعموم ما بعدها: عمومها أيضاً.
فَصْلٌ في بَيان هدايةِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ
دلَّت هذه الآية الكريمة على أن هداية الله تبارك وتعالى غير عامَّةٍ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين، لأن قوله تعالى: {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} إثباتٌ للهداية المنفيَّة بقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ولكنَّ المنفي بقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} هو حصول الاهتداء، على سبيل الاختيار، فكان قوله: {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} عبارةٌ عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار، وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى، وتخليقه وتكوينه؛ وهو المطلوب.
وحمله المعتزلة على أنه يهدي بالإثابة، والألطاف، وزيادة الهدى؛ وهو مردودٌ بما قررناه.
قوله: {فَلأَنْفُسِكُمْ} خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: فهو لأنفسكم شرط وجوابه، «والخَيْرُ» في هذه الآية المال؛ لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم يقترن بما يدلُّ على أنه المال، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال؛ نحو قوله: {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] وقوله: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ونحوه.(4/429)
وقوله: {إِلاَّ ابتغآء} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعولٌ من أجله، أي: لأجل ابتغاء وجه الله، والشروط هنا موجودةٌ.
والثاني: أنه مصدرٌ في محلّ الحال، أي: إلاَّ مبتغين، وهو في الحالين استثناءٌ مفرَّغٌ، والمعنى: وما تنفقون نفقة معتداً بقبولها؛ إلاَّ ابتغاء وجه [الله] ، أو يكون المخاطبون بهذا ناساً مخصوصين، وهم الصحابة، لأنهم كانوا كذلك، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين؛ لأنَّ كثيراً ينفق لابتغاء غير وجه الله.
قال بعض المفسرين: هذا جحدٌ لفظه نفيٌ، ومعناه نفيٌ، أي: لا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه.
قوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} تأكيدٌ وبيان؛ كقوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} .
وقوله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} جواب الشرط، وقد تقدَّم أنه يقال: «وَفَّى» بالتشديد و «وَفَى» بالتخفيف و «أَوْفَى» رباعياً.
وإنما حسن قوله: «إِلَيْكُمْ» مع التوفيه؛ لأنها تضمَّنت معنى التَّأدية، ومعناه يوفّ لكم جزاؤه في الآخرة.
وقوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} جملةٌ من مبتدأ، وخبرٍ: في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «إِلَيْكُمْ» ، والعامل فيها «يُوَفَّ» ، وهي تشبه الحال المؤكَّدة؛ لأنَّ معناها مفهومٌ من قوله: «يُوَفَّ إِلَيْكُم» ؛ لأنهم إذا وفُّوا حقوقهم، لم يظلموا. ويجوز أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب، أخبرهم فيها أنه لا يقع عليهم ظلمٌ، فيندرج فيه توفية أجورهم؛ بسبب إنفاقهم في طاعة الله تعالى، اندراجاً أوَّلياً.
فصل في المراد من الآية
في معنى الآية وجوه:
الأول: أن معناه: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين لا تقصدون إلاَّ وجه الله تعالى، وقد علم الله هذا من قلوبكم، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله تعالى في صلة رحم، وسدِّ خلَّة مضطر، وليس عليكم اهتداؤهم، حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم.
الثاني: أن هذا وإن كان ظاهره خبراً، إلاَّ أن معناه النهي، أي: ولا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه الله وورود الخبر بمعنى الأمر، والنهي كثير؛ قال تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} [البقرة: 233] {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] .(4/430)
الثالث: معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح؛ حتى تبتغوا بذلك وجه الله.
فصل في ذكر الوجه في قوله {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله}
إذا قلت: فعلته: لوجه زيدٍ، فهو أشرف في الذكر من قولك: فعلته له؛ لأن وجه الشيء أشرف ما فيه، وإذا قلت: فعلت هذا الفعل له، فيحتمل أن يقال فعلته له ولغيره، أما إذا قلت: فعلت هذا الفعل لوجهه، فهذا يدل على أنَّك فعلت هذا الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركةٌ.
فصل في بيان عدم صرف الزكاة لغير المسلم
أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير مسلم؛ فتكون هذه الآية مختصةً بصدقة التطوع، وجوّز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وأباه غيره؛ وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق الله، لكان لك ثواب نفقتك.(4/431)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ} الآية: في تعلُّق هذا الجارِّ خمسة أوجهٍ:
أحدها: - وهو الظاهر - أنه متعلِّق بفعل مقدرٍ، يدلُّ عليه سياق الكلام، واختلفت عبارات المعربين فيه، فقال مكي - ولم يذكر غيره -: «أَعْطُوا لِلْفقراءِ» ، وفي هذا نظرٌ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل: إمَّا بتقدُّم معموله كقوله تعالى: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، وإمَّا لكونه فرعاً؛ نحو قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ويبعد أن يقال: لمَّا أُضمر العاملن ضعف؛ فقوي باللام، على أنَّ بعضهم يجيز ذلك، وإن لم يضعف العامل، وجعل منه {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقدَّره أبو البقاء: «اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ» وفيه نظرٌ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب. وقدَّره الزمخشريُّ: «اعْمدُوا، أو اجعلوا ما تُنْفقون للفقراء» والأحسن من ذلك ما قدَّره مكي، لكن فيه ما تقدَّم.
الثاني: أنَّ هذا الجارَّ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنهم لما حثُّوا على الصدقات، قالوا: فلمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء، وفيها بيان مصرف الصَّدقات. وهذا اختيار ابن الأنباري.(4/431)
قال ابن الخطيب: لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق، قال بعدها «لِلْفُقَرَاءِ» أي: ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل، فتقول: عاقلٌ لبيبٌ، والمعنى: أن ذلك الذي مرَّ وصفه عاقلٌ لبيبٌ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس يجعلون فيه الذهب، والفضَّة: ألفان، أو مائتان، أي: ذلك الذي في الكيس ألفان، أو مائتان.
وأنشد ابن الأنباري: [الرجز]
1237 - تَسْأَلُنِي عَنْ زَوْجِهَا أَيُّ فَتَى ... خبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى
يريد: هو خبٌّ.
الثالث: أنَّ اللام تتعلَّق بقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} [البقرة: 271] وهو مذهب القفَّال، واستبعده الناس؛ لكثرة الفواصل.
الرابع: أنه متعلِّقٌ بقوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} وفي هذا نظرٌ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب، فيصير نظير قولك: مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صرَّح الواحديُّ بالمنع من ذلك، معلِّلاً بما ذكرناه، فقال: وَلاَ يجوزُ أن يكون العاملُ في هذه اللام «تنفقوا» الأخير في الآية المتقدمة الكريمة؛ لأنه لا يفصل بين العامل، والمعمول بما ليس منه، كما لا يجوز: «كانَتْ زَيْداً الحُمَّى تأخُذُ» .
الخامس: أنَّ «للفقراء» بدلٌ من قوله: «فلأَنْفُسِكُمْ» ، وهذا مردودٌ؛ قال الواحدي، وغيره: «لأنَّ الإنفاق من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من باب {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ؛ لأنَّ الأمر لازمٌ للمستطيع خاصةً» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: يعني أنَّ الفقراء ليست هي الأنفس، ولا جزاءً منها، ولا مشتملةً عليها، وكأن القائل بذلك توهَّم أنه من باب قوله تعالى:
{وَلاَ
تقتلوا
أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] في أحد التأويلين.
والفقير: قيل: أصله من «فَقَرَتْه الفَاقِرَةُ» ، أي: كسرت فقارات ظهره الداهية. قال الراغب: وأصل الفقير: هو المكسُورُ الفقار، يقال: «فَقَرَتْه الفاقرةُ» أي: الداهية تكسر الفقار، و «أَفْقَرَكَ الصَّيْدُ [فَارْمِهِ» ] أي أمكنك من فقاره، وقيل: هو من الفُقرة، أي: الحفرة، ومنه قيل لكلِّ حفرةٍ يجتمع فيها الماء، فقيرٌ: وفقرت للفسيل: حفرت له حفرة؛ غرسته فيها؛ قال: [السريع أو الرجز](4/432)
1238 - مَا لَيْلَةُ الفَقِيرِ إِلاَّ شَيْطَانْ ... قيل: هو اسم بئر، وفقرت الخرز: ثقبته.
وقال الهروي: يقال «فَقَره» إذا أصاب فقار ظهره، نحو: رَأَسَه، أي: أصاب رأسه، وبَطَنَهُ، أي: أصاب بطنه. وقال الأصمعي: «الفقر: أن يحزَّ أنف البعير، حتى يخلص الحزُّ إلى العظم، ثم يلوي عليه جريراً يذلَّل به الصَّعب من الإبل، ومنه قيل: عمل به الفاقرة» . والفقرات - بكسر الفاء، وفتح القاف -: جمع فقرة: الأمور العظام، ومنه حديث السَّعي: «فِقَراتُ ابن آدَم ثلاثٌ: يَوْمَ وُلِد، ويومَ يَمُوتُ، ويومَ يُبْعَثُ» . والفقر - بضم الفاء، وفتح القاف -: جمع فقرة؛ وهي الحزُّ، وخرم الخطم، ومنه قول أبي زيادٍ: «يُفْقَرُ الصَّعْبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خطْمِه» ومنه حديث سعدٍ: «فَأَشَارَ إلى فُقَرٍ في أنْفِهِ» ، أي: شقٍّ، وحزِّ. وقد تقدَّم الكلام في الإحصار عندق وله: «فإن أحصرتم» .
قوله: {فِي سَبِيلِ} في هذا الجار وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بالفعل قبله؛ فيكون ظرفاً له.
والثاني: أن يكون متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من مرفوع «أُحصروا» ، أي: مستقرين في سبيل الله. وقدَّره أبو البقاء بمجاهدين في سبيل الله، فهو تفسير معنًى لا إعراب؛ لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّق إلا بالكون المطلق.
فصل في بيان سبب النزول
نزلت في فقراء المهاجرين، وكانوا نحو أربعمائةٍ، وهم أصحاب الصُّفَّة، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد؛ يتعلمون القرآن الكريم، ويرضخون النوى بالنهار ويخرجون في كل سريَّةٍ يبعثها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فحث الله عليهم الناس؛ فكان من عنده فضلٌ أتاهم به، إذا أمسى.
«عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوماً على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم، وجهدهم؛ فطيَّب قلوبهم، فقال:» أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فإنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللهَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ رَاضِياً بِمَا فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رُفَقَائِي «واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفاتٍ:
الأولى: قوله: {الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} والإحصار: أن يعرض للرجل ما(4/433)
يحول بينه وبين سفره من مرضٍ، أو كسرٍ، أو عدوٍّ، أو ذهاب نفقةٍ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء، يقال: أحصر الرجل: فهو محصرٌ، وفي معنى هذا الإحصار، وجوه:
الأول: أنَّهم حصروا أنفسهم، ووقفوها على الجهاد؛ لأن قوله: {فِي سَبِيلِ الله} مختصٌّ بالجهاد في عرف القرآن.
الثاني: قال قتادة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن زيد: منعو أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش؛ خوف العدوِّ؛ لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم، قتلوهم.
الثالث: قال سعيد بن جبير؛ وهو اختيار الكسائي: إنَّ هؤلاء القوم أصابتهم جراحاتٌ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وصاروا زمنى، فأحصرهم المرض، والزمانة عن الضَّرب في الأرض.
الرابع: قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هؤلاء القوم من المهجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله، فعذرهم الله.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} في هذه الجملة احتمالان:
أظهرهما: أنها حالٌ، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه «الفقراء» ، وثانيهما: أنه مرفوع «أُحْصِرُوا» .
والاحتمال الثاني: أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب؛ و «ضَرْباً» مفعولٌ به، وهو هنا السفر للتجارة؛ قال: [الوافر]
1239 - لَحِفْظُ المَالِ أَيْسَرُ مِنْ بَقَاهُ ... وَضَرْبٌ في البِلاَدِ بِغَيْرِ زَادِ
ويقال: ضَرَبْتُ في الأَرْضِ ضَرْباً، ومَضْرِباً، أي: سرتُ.
فصل في بيان عدم الاستطاعة في الآية
عدم استطاعتهم: إمَّا أن يكون لاشتغالهم بصلاح الدِّين، بأمر الجهاد؛ فيمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإمَّا لخوفهم من الأعداء، وإمَّا لمرضهم، وعجزهم؛ وعلى جميع الوجوه فلا شكَّ في احتياجهم إلى من يعينهم.(4/434)
الصفة الثالثة: قوله: {يَحْسَبُهُمُ} يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف، وكذلك ما بعدها.
«يَحْسَبُهُمْ» هو الظَّنُّ، أي: إنّهم من الانقباض، وترك المسألة، والتوكل على الله، بحيث يظنهم الجاهل أغنياء.
وقرأ ابن عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزة: «يَحْسَبُ» - حيث ورد - بفتح السين، والباقون: بكسرها. فأمَّا القراءة الأولى؛ فجاءت على القياس؛ لأنَّ قياس فعل - بكسر العين - يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخفَّ اللفظ، وهي لغة تميم، والكسر لغة الحجاز، وبها قرأ رسول الله - صلى الله عيه وسلم -، وقد شذَّت ألفاظٌ أخر؛ جاءت في الماضي، والمضارع بكسر العين منها: نَعِم يَنْعِم، وبَئِس يَبْئِسُ، ويَئِسَ يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة، وعَمِد يَعْمِد، وقياسها كلُّها الفتح، واللغتان فصيحتان في الاستعمال، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة: أبو عمرٍو - وكفى به -، والكسائي، وقارئا الحرمين: نافع، وابن كثير.
والجاهل هنا: اسم جنس لا يراد به واحدٌ بعينه.
ولم يرد - هنا - به الجهل الذي هو ضدّ العلم، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدُّ الاختيار، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء، و «أغنياءَ» هو المفعول الثاني.
قوله: {مِنَ التعفف} في «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها سببيةٌ، أيك سَبَبُ حُسْبَانِهم أغنياء تعفُّفهم، فهو مفعولٌ من أجله، وجرُّه بحرف السبب هنا واجبٌ، لفقد شرطٍ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، وذلك أنَّ فاعل الحسبان الجاهل، وفاعل التعفُّف هم الفقراء، ولو كان هذا المفعول له مستكملاً لشروط النصب، لكان الأحسن جرَّه بالحرف؛ لأنه معرَّفٌ بأل، وقد تقدَّم أنَّ جرَّ هذا النوع أحسن من نصبه؛ نحو: جئت للإكرام، وقد جاء نصبه؛ قال القائل: [الرجز]
1240 - لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ ... وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرَ الأَعْدَاءِ
والثاني: أنها لابتداء الغاية، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم، نشأت من تعفُّفهم؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ، إنما يحسبه غنى مالٍ، فقد نشأت محسبته من تفُّفهم، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام.
والثالث: أنها لبيان الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال: يكون التعففُ داخلاً في(4/435)
المحسبة، أي: إنه لا يظهر لهم سؤالٌ، بل هو قليلٌ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه، ف «مِنْ» لبيان الجنس على هذا التأويل.
قال أبو حيَّان: «وليس ما قالَه مِنْ أنَّ» مِنْ «هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر» مِنْ بموصولٍ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف؛ كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] يصح أن يقال: الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا: «يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف» لم يصحَّ هذا التقدير؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس، أي: بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم، أي: غناهم بالتعفف لا غنى بالمال، فسمَّى «مِنْ» الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ «مِنْ» سببية، لكنها تتعلق بأغنياء، لا بيحسبهم «. انتهى.
وتتعلَّق» مِنْ «على الوجهين الأولين بيحسبهم. قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ:» ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى «أغْنِياء» ؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود، وذلك أنَّ معنى الآية: أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم؛ فيظنُّهم أغنياء، ولو علِّقت بأغنياء، صار المعنى، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء، ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال «. انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثاً.
وأما على الوجه الثالث - وهو كونه لبيان الجنس - فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء؛ لأن المعنى يعود إليه، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان، وعلى الجملة: فكونها لبيان [الجنس، قلق المعنى] .
والتعفُّف: تفعُّل من العفَّة: وهو ترك الشيء، والإعراض عنه، مع القدرة على تعاطيه؛ قال رؤبة: [الرجز]
1241 - فعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الغَسَقْ ... وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعَشَقْ
وقال عنترة: [الكامل]
1242 - يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أَنَّنِي ... أَغْشَى الوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ
ومنه: «عَفِيفُ الإِزَارِ» كنايةٌ على حصانته، وعرَّف التعفف، لأنه سبق منهم مراراً فصار كالمعهود، ومتعلَّق التعفف، محذوفٌ؛ اختصاراً، أي: عن السؤال، والأحسن ألاَّ يقدَّر.(4/436)
الصفة الرابعة: قوله: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} السِّيما: العلامة بالقصر ويجوز مدُّها، وإذا مدَّت، فالهمزة فيها منقلبةٌ عن حرف زائدٍ، للإلحاق: إمَّا واوٌ، وإمَّا ياء، فهي كعلباء ملحقة بسرداح، فالهمزة فيه للإلحاق، لا للتأنيث؛ وهي منصرفةٌ لذلك.
و «سيما» مقلوبة، قدِّمت عينها على فائها؛ لأنها مشتقةٌ من الوسم فهي بمعنى السِّمة، أي: العلامة، فلما وقعت الواو بعد كسرةٍ قلبت ياءً، فوزن سيما: عِفْلا، كما يقال اضمحلَّ، وامضحلَّ، [و] «وَخِيمَة» ، و «خامة» وله جاهٌ، ووجه، أي: وجاهَةٌ.
وفي الآية الكريمة طباقٌ في موضعين:
أحدهما: «أُحْصِروا» مع قوله: {ضَرْباً فِي الأرض} .
والثاني: قوله تعالى: {أَغْنِيَآءَ} ، مع قوله: {لِلْفُقَرَآءِ} نحو: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44] . ويقال «سِيمِيَا» بياء بعد الميم، وتمدُّ كالكيمياء؛ وأنشد: [الطويل]
1243 - غُلاَمٌ رَمَاهُ اللهُ بِالْحُسْنِ يَافِعاً ... لَهُ سِيمِيَاءُ لاَ تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرْ
والباء تتعلَّق ب «تَعْرِفُهُمْ» ومعناها السببية، أي: إنَّ سبب معرفتك إياهم هي سيماهم. والسِّيما: العلامة، وقال قومٌ: السِّيما: الارتفاع، لأنَّها علامةٌ وضعت للظُّهور.
فصل
قال القرطبيُّ: هذه الآية تدلُّ على أن للسِّيما أثرٌ في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام، وعليه زنَّارٌ، وهو غير مختونٍ؛ لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدَّم ذلك على حكم الدار؛ في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30] فدلَّت هذه الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثيابٌ، وكسوة وزيٌّ في التجمل.
فصل في تفسير «السِّيما»
قال مجاهد: هو التخشع، والتواضع.
وقال الربيع، والسديُّ: أثر الجهد من الفقر، والحاجة.
وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع، والضر.(4/437)
وقال ابن زيدٍ: رثاثة ثيابهم.
قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الكلَّ فيه نظرٌ؛ لأن كل ما ذكروه علاماتٌ دالَّةق على حصول الفقر، وذلك يناقض قوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} بل المراد شيء آخر، وهو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق، كل من رآهم تأثر منهم، وتواضع لهم؛ وذلك إدراكاتٌ روحانيةٌ، لا علاتٌ جسمانيةٌ؛ ألا ترى أنَّ الأسد إذا مرَّ هابته جميع السباع بطباعها، لا بالتجربة؛ لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت، وكذلك البازي، إذا طار فرّت منه الطيور الضَّعيفة، وكل ذلك إدراكاتٌ روحانية، لا جسمانية فكذا ها هنا، روي أنهم كانوا يقومون الليل، للتهجّد، ويحتطبون بالنهار؛ للتعفف.
الصفة الخامسة: قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} في نصبه «إلحافاً» ثلاثة أوجه:
أحدها: نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر، أي: يلحفون إلحافاً، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل «يَسْألون» .
والثاني: أن يكون مفعولاً من أجله، أي: لا يسألون؛ [لأجل الإلحاف.
والثالث: أن يكون مصدراً في موضع الحال، تقديره: لا يسألون] ملحفين.
فصل في تفسير الإلحاف
الإلحاف: هو الإلحاح؛ قال عطاءٌ: إذا كان عنده غداءٌ لا يسأل عشاءً، وإذا كان عنده عشاءٌ لا يسأ غداءً.
وعن ابن مسعودٍ إن الله يحب العفيف المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السَّائل الملحف، الذي إن أعطي كثيراً، أفرط في المدح، وإن أعطي قليلاً أفرط في الذَّمِّ.
وعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ يَفْتَحُ أَحَدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتح الله عليه بَابَ فَقْرٍ، ومَنْ(4/438)
يَسْتَغْنِ، يُغْنِه اللهُ، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ، يُعِفَّهُ الله، لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً يَحْتِطِبُ فِيهِ فَيَبِيعَهُ بمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ» .
فصل
اعلم: أنَّ العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه، فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد؛ نحو: «مَا رَأَيْتُ رَجُلاً صَالِحاً» ، الأكثر على أنك رأيت رجلاً، ولكن ليس بصالح، ويجوز أنَّك لم تر رجلاً ألبتة؛ لا صالحاً ولا طالحاً، فقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} المفهوم أنهم يسألون، لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم لا يسألون، ولا يلحفون؛ والمعنيان منقولان في التفسير، والأرجح الأول عندهم، ومثله في المعنى: «مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا» يجوز أنه يأتيهم، ولا يحدِّثهم، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثهم، انتفى السبب، وهو الإتيان، فانتفى المسبِّب، وهو الحديث.
وقد شبَّه الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس؛ وهو قوله: [الطويل]
1244 - عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا
قال أبو حيَّان: «تَشْبيهُ الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين، أي: لا سؤال ولا إلحاف، وكذلك هذا: لا منار ولا هداية، لا أنه مثله في خصوصيَّة النفي، إذ كان يلزم أن يكون المعنى: لا إلحاف، فلا سؤال، وليس تركيب الآية على هذا المعنى، ولا يصحُّ: لا إلحاف، فلا سؤال؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، كما لزم من نفي المنار، نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه، وإنما يؤدِّي معنى النفي على طريقة النَّفي في البيت أن لو كان التركيب:» لا يُلْحِفُونَ الناسَ سُؤالاً «لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف، إذ نفي العامِّ يدلُّ على نفي الخاص؛ فتلخَّص من هذا: أنَّ نفي الشيئين: تارة يدخل حرف النفي على شيءٍ، فتنتفي جميع عوارضه، وينبِّه على بعضها بالذكر لغرض ما، وتارةً يدخل حرف النفي على عارضٍ من عوارضه، والمقصود نفيه، فتنتفي لنفيه عوارضه» .
قال شهاب الدين: قد سبق الشيخ إلى هذا ابن عطية فقال: «تَشْبيهه ليس مثله في خصوصية النفي؛ لأنَّ انتفاء المنار في البيت يدلُّ على نفي الهداية، وليس انتفاء الإلحاح،(4/439)
يدلُّ على انتفاء السؤال في الآية» . وأطال ابن عطية في تقرير هذا، وجوابه ما تقدم: من أنَّ المراد نفي الشيئين، لا بالطريق المذكور في البيت، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفاً: «ونظير هذا: ما تَأْتِينَا فتحدِّثَنا» فعلى الوجه الأول: يعني نفي القيد وحده: ما تأتينا محدِّثاً، إنما تأتي ولا تحدِّث.
وعلى الوجه الثاني: يعني نفي الحكم بقيده ب «ما يكُونُ مِنْكَ إتيانٌ، فلا يكونُ حديثٌ» ، وكذلك هذا: لا يقع منهم سؤالٌ ألبتَّة، فلا يقع إلحاحٌ، ونبَّه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح؛ لقبح هذا الوصف، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده، ووجود غيره؛ لأنه كان يصير المعنى الأول، وإنما يراد بنفي هذا الوصف، نفي المترتبات على المنفيِّ الأول؛ لأنه نفى الأولى على سبيل العموم، فتنتفي مترتِّباته، كما أنك إذا نفيت الإتيان، فانتفى الحديث، انتفى جميع مترتِّبات الإِتيان: من المجالسة، والمشاهدة، والكينونة في محلٍّ واحد، ولكن نبَّه بذكر مترتِّب واحدٍ؛ لغرضٍ ما على ذكر سائر المترتِّبات «وهذا يقرر ما تقدَّم.
وأمَّا الزمخشريُّ: فكأنه لم يرتض تشبيه الزجاج، فإنه قال:» وقيل: هو نفيٌ للسؤال والإلحاف جميعاً؛ كقوله: [الطويل]
1245 - عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمنَارِهِ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
يريد نفي المنار والاهتداء به «.
قال شهاب الدين: وطريق أبي إسحاق الزجاج هذه، قد قبلها الناس، ونصروها، واستحسنوا تنظيرها بالبيت؛ كالفارسيِّ، وأبي بكر بن الأنباريِّ، قال أبو عليٍّ: لم يُثْبِتْ في قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} مسألةً فيهم؛ لأن المعنى: ليس منهم مسألةٌ، فيكون منهم إلحافٌ، ومثل ذلك قول الشاعر: [السريع]
1246 - لاَ يَفْزَعُ الأَرْنَبُ أَهْوَالَهَا ... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أي: ليس فيها أرنبٌ؛ فيفزع لهولها، ولا ضبٌّ فينجحر، وليس المعنى: أنه ينفي الفزع عن الأرنب، والانجحار عن الضب.
وقال أبو بكرٍ: تأويل الآية: لاَ يَسْأَلُونَ أَلْبَتةَ، فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف؛ فجرى هذا مجرى قولك: فلانٌ لا يُرْجى خيره، أي: لا خير عنده ألبتة فيرجى؛ وأنشد قول امرئ القيس: [الطويل](4/440)
1247 - وَصُمٌّ صِلاَبٌ مَا يَقِينَ مِنَ الوَجَى ... كَأَنَّ مَكَانَ الرَّدْفِ مِنْهُ عَلَى رَالِ
أي: ليس بهن وجًى، فيشتكين من أجله؛ وقال الأعشى: [البسيط]
1248 - لاَ يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلاَ وَصَبٍ ... وَلاَ يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ
معناه: ليس بساقه أينٌ، ولا وصبٌ؛ فيغمزها.
وقال الفراء قريباً منه، فإنه قال:» نفى الإلحاف عنهم، وهو يريد جميع وجوه السؤال؛ كما تقول في الكلام: «قَلَّ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هذا الرجل» ولعلك لم تر قليلاً، ولا كثيراً من أشباهه «.
وجعل أبو بكر الآية الكريمة عند بعضهم من باب حذف المعطوف، وأن التقدير: لاَ يَسْأَلُونَ الناسَ إلحافاً، ولا غير إلحاف، كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، أي: والبرد.
وقال بعضهم: إنَّ السائل الملحف الملح، هو الذي يستخرج المال بكثرة تَلَطُّفِهِ، فقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} أي: لا يسألون الناس بالرِّفق، والتَّلطُّف، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه، فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى.
وذكر ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها ثلاثة أوجه أخر:
أحدها: أنه ليس المقصود منق لوه: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً؛ لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بالتعفُّف، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة، قد علم - أيضاً - أنهم لا يسألون الناس إلحافاً، بل المراد التَّنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً، مثاله: إذا حضر عندك رجلان: أحدهما عاقلٌ، وقورٌ ثابتٌ، والآخر طيَّاش مهذارٌ سفيهٌ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما، وتعرض بالآخر، قلت: فلانٌ، رجل عاقلٌ وقُورٌ قليل الكلام، لا يخوض في الترّهات، ولا يشرع في السفاهات، ولم يكن غرضك من قولك: لا يخوض في التّرّهات، والسفاهات، وصفه بذلك؛ لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك؛ بل غرضك التنبيه على مذمَّة الثاني؛ فكذا هاهنا قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} بعد قوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} الغرض منه التنبيه على مذمَّة من يسأل الناس إلحافاً.
وثانيها: أنه تعالى بيَّن فيما تقدَّم شدَّة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته، فإنه لا يمكنه ترك السؤال؛ إلاَّ بإلحاحٍ شديد منه على نفسه، فقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً}(4/441)
أي: لا يسألون الناس، وإنَّما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحُّوا على النفس، ومنعوها بالتكليف الشَّديد عن ذلك السؤال، ومنه قول عمر بن الخطَّاب: [الوافر]
1249 - وَلِي نَفْسٌ أَقُولُ لَهَا إِذَا مَا ... تُنَازِعُنِي: لَعَلِّي أَوْ عَسَانِي
وثالثها: أنَّ من أظهر من نفسه آثار الفقر، والمذلَّة، والمسكنة؛ ثم سكت عن السؤال، فكأنَّه أتى بالسؤال الملحِّ الملحف؛ لأن ظهور أمارات الحاجة، تدلُّ على الحاجة، وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع تلك الحاجة، ومتى تصوَّر الإنسان من غيره ذلك، رقَّ له قلبه جدّاً، وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف، فقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} معناه: أنهم سكتوا عن السؤال، لكنَّهم لا يضمُّون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال، وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف، بل يزيّنون أنفسهم عند الناس، ويتجملون عند الخلق، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليها إلاَّ الخالق.
فصل
قال ابن عبد البرِّ: من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السُّؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه. ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل، وقد سئل عن المسألة، متى تحل؟ قال: إذا لم يكن عنده ما يغدِّيه ويعشيه، قيل لأبي عبد الله: فإن اضطرَّ إلى المسألة؟ قال: هي مباحةٌ إذا اضطر.
قيل له: فإن تعفَّف؟ قال: ذلك خيرٌ له، وقال: ما أظن أنَّ أحداً يموت من الجوع؛ الله يأتيه برزقه، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدريّ: «مَنْ اسْتَعْفَفَ أَعَفَّهُ الله» .
قال أبو بكر: وسمعته يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئاً؛ أيسأل الناس، أم يأكل الميتة؟ فقال: أيأكل الميتة، وهو يجد من يسأله؟ هذا شنيعٌ.
قال القرطبيُّ: فإن جاءه شيءٌ من غير سؤالٍ، فله أن يقبله ولا يرده؛ إذ هو رزقٌ رزقه الله، لما روي «أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرسل إلى عمر بن الخطَّاب بعطاءٍ، فردَّه؛ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» لِمَ رَدَدْتَه؟ «فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أنَّ خيراً لأحدنا ألاَّ يأخذ شيئاً؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إنَّما ذَاكَ عَنِ المَسْأَلَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ،(4/442)
فَإِنَّمَا هو رزقٌ رَزَقَكَهُ الله «فقال عُمَر بن الخطَّاب:» والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ أَسْأَلُ شَيْئاً، وَلاَ يَأْتِيني شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ أَخَذتُه «.
والإلحاف، والإلحاح، واللُّجاج، والإحفاء، كلُّه بمعنًى، يقال: أَلحف، وألحَّ في المسألة: إذا لجَّ فيها.
وفي الحديث:» مَنْ سَألَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ، فَقَدْ أَلْحَفَ «، واشتقاقه من اللِّحاف؛ لأنه يشتمل الناس بمسألته، ويعمُّهم؛ كما يشتمل اللِّحاف من تحته ويغطِّيه؛ ومنه قول ابن أحمر يصف ذكر نعامٍ، يحضن بيضه بجناحيه، ويجعل جناحه لها كاللِّحاف: [الوافر]
1250 - يَظَلُّ يُحُفُّهُنَّ بِقَقْقَفَيْهِ ... وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافاً ثَخِينَا
وقال آخر في المعنى: [الرمل]
1251 - ثُمَّ رَاحُوا عَبَقُ المِسْكِ بِهِمْ ... يُلْحِفُونَ الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ
أي: يلبسونها الأرض، كإلباس اللِّحاف للشيء. وقيل: بل اشتقاق اللفظة من» لَحْفِ الجَبَلِ «وهو المكان الخشن، ومجازه أنَّ السائل لكثرة سؤاله كأنه استعمل الخشونة في مسألته، وقيل: بل هي من» لَحَفني فُلاَنٌ «، أي: أعطاني فضل ما عنده، وهو قريبٌ من معنى الأوَّل.
قوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} هو نظير قوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] ، وليس بتكرارٍ؛ لأنه لمَّا قال في الآية الأولى: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ(4/443)
خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} فهم منه التوفية من غير بخسٍ؛ ولا نقصان، وذلك لا يمكن إلاَّ بالعلم بمقدار العمل، وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب.(4/444)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
قوله: {الذين يُنْفِقُونَ} : مبتدأٌ، وخبره الجملة من قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ودخلت الفاء؛ لما تضمَّنه الموصول من معنى الشرط. وقال ابن عطية رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإنما يوجد الشَّبه - يعني بين الموصول، واسم الشرط - إذا كان الموصول موصولاً بفعل، وإذا لم يدخل على الموصول عاملٌ يغيِّر معناه» . قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فَحَصر الشَّبه فيما إذا كان» الَّذِي «موصولاً بفعل، وهذا كلامٌ غير محرَّرٍ، أمَّا قوله:» الَّذِي «فلا يختصُّ ذلك ب» الذي «، بل كلُّ ما كان موصولاً غير الألف واللام، حكمه حكم الذي» بلا خلافٍ، وفي الألف واللام خلاف، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء.
الثاني: قوله «مَوْصولاً بفعل» فأطلق الفعل واقتصر عليه، وليس كذلك، بل شرط الفعل أن يصلح لمباشرة أداة الشرط، فلو قلت: الذي سَيَأْتِيني، أو لمَّا يأتيني، أو ما يأتيني، أو ليس يأتيني - فله درهمٌ لم يجز شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ أداة الشرط لا يصلح أن تدخل على شيءٍ من ذلك، وأمَّا الاقتصار على الفعل، فليس كذلك؛ بل الظرف والجارُّ والمجرور في الوصل كذلك، متى كان شيءٌ منهما صلةً لموصول، جاز دخول الفاء.
وقوله: «وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ على» الَّذي «عاملٌ يغيِّر معناه» عبارةٌ غير ملخَّصةٍ؛ لأن العامل لا يغيِّر معنى الموصول، إنما يغيِّر معنى الابتداء، بأن يصيِّره تمنِّياً، أو ترجِّياً، أو ظناً، نحو: لعل الذي يأتضيني، أو ليت الذي يأتيني، أو ظننت الذي يأتيني - فله درهمٌ، لا يجوز دخول الفاء لتغيُّر معنى الابتداء.
وكان ينبغي له - أيضاً - أن يقول: «بِشَرْطِ أَنْ يكونَ الخبرُ مستحِقاً بالصلةِ؛ كالآية الكريمة؛ لأنَّ ترتُّبَ الأجرِ إنما هو على الإِنْفاقِ» .
وقول الشيخ أيضاً: «بل كلُّ مَوْصُولٍ» ليس الحكم - أيضاً - مقتصراً على كلِّ موصولٍ، بل كلُّ نكرةٍ موصوفةٍ بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخول الفاء، أو ما أُضيف إلى تلك النكرة، أو إلى ذلك الموصول، أو الموصوف بالموصول - حكمه كذلك. وقد تقدمت المسألة.(4/444)
فصل في بيان سبب النُّزول
في سبب النزول وجوه:
الأول: لما نزل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 273] ، بعث عبد الرَّحمن بن عوف بدنانير كثيرةٍ إلى أصحاب الصُّفة، وبعث عليٌّ - كرم الله وجهه - بوسق تمرٍ ليلاً؛ فكان أحبَّ الصَّدقتين إلى الله تعالى، صدقه عليٍّ؛ فنزلت الآية.
وقدَّم الله تعالى ذكر الليل؛ ليعرف أنَّ صدقة اللَّيل كانت أكمل، رواه الضَّحَّاك، عن ابن عبَّاسٍ.
الثاني: روى مجاهدٌ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال:
«نزلت هذه الآية في عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان عنده أربعة دراهم، لا يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:» مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ «فقال: أن أستوجب ما وعدني ربِّي، فقال:» لَكَ ذَلِكَ «.
الثالث: قال الزَّمخشريُّ نزلن في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين تصدَّق بأربعين ألف دينار: عشرةٌ باللَّيل، وعشرةٌ بالنهار، وعشرةٌ في السِّرِّ، وعشرة في العلانية.
الرابع: قال أبو أمامة، وأبو الدَّرداء، ومكحولٌ، والأوزاعي: نزلت هذه الآية الكريمة في الذين يربطون الخيل للجهاد؛ فإنها تعتلف ليلاً ونهاراً، وسراً وعلانية، فكان أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إذا مرَّ بفرسٍ سمين، قرأ هذه الآية.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» مَنِ احْتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ اللهِ إيمَاناً، وتَصْدِيقاً بوعدِهِ، فإنَّ شِبَعَهُ وريَّه ورَوْثَهُ، وبَوْلَهُ في ميزانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ «.(4/445)
الخامس: أن الآية الكريمة عامةٌ في الذين يعمون الأوقات، والأحوال بالصدقة، تحريضاً لهم على الخير.
وفي الآية إشارة إلى أن صدقة السِّرِّ أفضل؛ لأنه قدم اللَّيل على النهار، والسر على العلانية في الذكر، وتقدم نظير هذه الآية؛ ومدلولها، وهو مشروطٌ عند الكل بألاَّ يحصل عقيبه الكفر، وعند المعتزلة ألاَّ يحصل عقيبه كبيرةٌ محبطةٌ.(4/446)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
«الرِّبَا» في اللُّغة: عبارةٌ عن الزِّيادة؛ يقال ربا الشيء يربو ربواً، ومنه قوله {اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5] ، أي زادت، وأربى الرَّجل: إذا عامل في الربا، ومنه الحديث «مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى» ، أي: عامل بالرِّبا، والإجباء: بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه.
والمادة تدلُّ على الزيادة والارتفاع، ومنه الرَّبوة. وقال حاتم الطائيُّ يصف رمحاً: [الطويل]
1252 - وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ ... نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْبَى ذِرَاعاً عَلَى العُشْرِ
والرِّبا: لامه واوٌ؛ لقولهم: ربا يربو؛ فلذلك يثنَّى بالواو، ويكتب بالألف. وجوَّز الكوفيُّون تثنيته بالياء، وكذلك كتابته، قالوا: لكسر أوَّله، ولذلك أمالوه، وليس هذا مختصّاً بمكسور الأول، بل الثُّلاثيُّ من ذوات الواو، المكسور الأول، أو المضمومه؛ نحو: «رِبا» ، و «عُلا» حكمه ما ذكرته عنهم، فأمَّا المفتوح الأول نحو: عصا، وقفا، فلم يخالفوا البصريين، وكتب في القرآن بخطِّ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ.
وقيل: إنما بالواو؛ لأنَّ أهل الحجاز تعلَّموا الخطَّ من أهل الحيرة، وأهل الحيرة يقولون: «الرِّبَوا» بالواو، فكتبوها كذلك، ونقلها أهل الحجاز كذلك؛ خطّاً لا لفظاً.
قرأ العدويُّ: «الرِّبَو» كذلك بواوٍ خالصةٍ بعد فتحة الباء. فقيل: هذا القارئ أَجرى الوصل مجرى الوقف، وذلك أنَّ من العرب من يقلب ألف المقصور واواً؛ فيقول: هذه أفعو، وهذا من ذاك، إلاَّ أنه أجْرَى الوصل مُجْرى الوقف.(4/446)
وقد حكى أبو زيدٍ ما هو أغرب من ذلك، فقال: «قرأ بعضهم بكسر الراء، وضمِّ الباء، وواو بعدها» ، ونسب هذه للغلط؛ وذلك لأنَّ العرب لا يبقى واواً بعد ضمة في الأسماء المعربة، بل إذا وجد ذلك، لم يقرَّ على حاله، بل تقلب الضَّمَّة كسرةً، والواو ياءٌ، نحو: دلوٍ وأدلٍ، وجروٍ؛ وأنشد أبو عليّ: [البسيط]
1253 - لَيْثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عِنْدَ خِيسَتِهِ ... بِالرَّقْمَتَيْنِ لَهُ أَجْرٍ وأَعْرَاسُ
ونهاية ما قبل فيها: أنَّ قارئها قلب الألف واواً؛ كقولهم في الوقف: أَفْعَو، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك، قيل: ولم يضبط الرَّاوي عنه ما سمع؛ فظنَّه بضمِّ الباء؛ لأجل الواو؛ فنقلها كذلك، وليت الناس أخلو تصانيفهم من مثل هذه القراءات التي لو سمعها العامة لمجُّوها، ومن تعاليلها، ولكن صار التارك لها، يعده بعضهم جاهلاً بالاطِّلاع عليها.
ويقال: رِبا ورِما، بإبدال بائه ميماً؛ كما قالوا: كثم في كثب. والألف واللام في «الرِّبا» : يجوز أن تكون للعهد، إذ المراد الرِّبا الشرعيُّ، ويجوز أن تكون لتعريف الجنس.
فصل في وجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها
اعلم أنَّ بين الصدقة، والرِّبا مناسبةٌ من جهة التضادِّ؛ لأن الصدقة عبارةٌ عن تنقيص المال بسبب أمر الله تبارك وتعالى بذلك؛ والرِّبا عبارةٌ عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله - سبحانه وتعالى - عنه، فكانا كالمتضادَّين، ولهذا قال تعالى:
{يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276] فلما حصلت المناسبة بينهما من هذا النوع، ذكر حكم الربا عقيب حكم الصدقات، وخصَّ الأكل؛ لأنه معظم الأمر؛ كقوله: {الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] فنبَّه بالأَكل على ما سواه من وجوه الإتلافات، ولأنَّ نفس الرِّبا الذي هو الزيادة لا يؤكل، وإنما يصرف في المأكول، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، ومُوكِلَه وشاهده وكَاتِبَهُ، والمحلِّلَ لَهُ» فعلمنا أنَّ الحرمة غير مختصة بالأكل.
فصل في تقسيم الرِّبا
الرِّبا قسمان: ربا النَّسيئة، وربا الفضل.(4/447)
أمَّا ربا النسيئة، فهو الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهليَّة، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلَّ شهرٍ قدراً معيناً، ويكون رأس المال باقياً، ثم إذا حلَّ الدَّين طالبوا المدينون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحقِّ والأجل، فهذا هو الرِّبا الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية.
وأمَّا «ربا الفضل» فهو أن يباع منٌّ من الحنطة بمنوين منها، أو ما أشبه ذلك.
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه كان لا يحرِّم إلاَّ القسم الأول، فكان يقول لا ربا إلاَّ في النَّسيئة، وكان يجوِّز ربا الفضل؛ فقال له أبو سعيدٍ الخدريِّ: أشهدت ما لم تشهد، أو سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما لم نسمع! ثمَّ روى له الحديث المشهور في هذا الباب، ثم قال أبو سعيدٍ: لا أواني وإيَّاك ظلُّ بيتٍ، ما دمت على هذا.
ثمَّ روي أنه رجع عنه.
قال محمد بن سيرين: كنَّا في بيتٍ، ومعنا عكرمة، فقال رجلٌ: يا عكرمة، أما تذكر ونحن في بيت فلانٍ، ومعنا ابن عباس فقال: إنما كنت استحللت الصرف برأيي، ثم بلغني أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حرَّمه، فاشهدوا أنِّي حرمته، وبرئت منه إلى الله.
وحجَّة ابن عباس أنَّ قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} يتناول بيع الدرهم بالدِّرهمين نقداً؛ وقوله: {وَحَرَّمَ الربا} ] إنما يتناول العقد المخصوص المسمَّى فيما بينهم رباً، وذلك هو ربا النَّسيئة، فكان ذلك مخصوصاً بالنَّسيئة؛ فثبت أنَّ قوله {وَأَحَلَّ الله البيع} يتناول ربا الفضل، وقوله: {وَحَرَّمَ الربا} لا يتناوله؛ فوجب أن يبقى على الحلِّ ولا يمكنه أن يقال إنما يحرمه بالحديث؛ لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد، وهو غير جائزٍ وهذا هو عرف ابن عباسٍ، وحقيقته راجعةٌ إلى أنَّ تخصيص القرآن بخبر الواحد: هل يجوز أم لا؟
وأمَّا جمهور العلماء، فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، أمَّا القسم الأوَّل، ربا النَّسيئة فبالقرآن، وأمَّا ربا الفضل، فبالخبر، ثم إن الخبر دلَّ على حرمة ربا الفضل في الأشياء الستة، ثم اختلفوا.
فقال جمهور الفقهاء: حرمة ربا الفضل غير مقصورةٍ على هذه النسيئة؛ بل ثابتةٌ في غيرها بالعلَّة الجامعة وقال نفاةُ القياس: بل الحرمة مقصورة عليها.
فصل في سبب تحريم الربا
ذكروا في سبب تحريم الرِّبا وجوهاً:(4/448)
أحدها: أنه يُفضي إلى أخد الإنسان مال غيره من غير عوضٍ؛ لأنه إذا باع الدِّرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئةً، فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان له حرمةٌ عظيمةٌ، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «حُرْمَةُ مَالِ المسلمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» ؛ فكان أخذ ماله بغير عوض محرَّماً.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكونَ لبقاء رأس المال في يده مدَّةٌ مديدةٌ عوضاً عن الدِّرهم الزَّائد؟ لأنَّ رأس المال لو بقي في يد مالكه، لتمكَّن من التجارة به، والربح، فلمَّا تركه في يد المديون، وانتفع المديون به، لم يبعد أن يدفع إلى ربِّ المال ذلك الدرهم الزَّائد؛ عوضاً عن انتفاعه بماله.
فالجواب أنَّ هذا الانتفاع المذكور أمرٌ موهومٌ قد يحصل له منه كسبٌ، وقد لا يحصل، وأخذ الدرهم الزائد أمرٌ متيقنٌ فتفويت المتيقن لأجل أمر موهوم، لا ينفكُّ عن نوع ضرر.
وثانيها: أنَّ الرِّبا يمنع النَّاس عن الاشتغال بالمكاسب؛ لأنه إذا حصَّل الدرهم بالربا، فلا يكاد يحتمل مشقَّة التَّكسُّب بالتجارة، والصناعة، فيفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أنَّ [مصالح العالم] لا تنتظم إلاَّ بالتجارات، والعمارات، والحرف، والصِّناعات.
وثالثها: أنَّ الربا يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الرِّبا إذا حرم، طابت النفوس بقرض الدرهم، واسترجاع مثله، ولو حلَّ الربا، لكانت حاجة المحتاج تحمله حاجته على أخذ الدرهم بالدرهمين، فيفضي ذلك إلى قطع المواساة، والمعروف، والإحسان.
ورابعها: أنَّ الغالب أنَّ المقرض يكون غنيّاً، والمستقرض يكون فقيراً، فالقول بتجويز الرِّبا تمكينٌ للغني من أن يأخذ من الفقير الضَّعيف مالاً زائداً، وهو غير جائزٍ برحمة الرَّحيم.
وخامسها: أنَّه غير معقولٍ المعنى.
قوله: {لاَ يَقُومُونَ} الظَّاهر أنَّها خبر الموصول المتقدِّم، وقال بعضهم: إنها حالٌ، وهو سهوٌ، وقد يتكلَّف تصحيحه بأن يضمر الخبر؛ كقراءة من قرأ {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] ؛ وقوله: [الطويل]
1254 - ... ... ... ... ... . .(4/449)
لاَ أَنَا بَاغِيَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
في أحد الوجهين.
والمراد القيام يوم القيامة أو من القبور.
قوله: {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ} فيه الوجهان المشهوران وهما:
النصب على النعب؛ لمصدر محذوف، أي: لا يقومون إلا قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان، وهو المشهور عند المعربين.
أو النصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المقدَّر، أي: لا يقومونه، أي: القيام إلاَّ مبشهاً قيام الذي يتخطبه الشيطان، وهو رأي سيبويه، وقد قدَّمت تحقيقهما.
و «ما» الظاهر أنها مصدريةٌ، أي: كقيام. وجوَّز بعضهم أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ، والتقدير: إلا كالقيام الذي يقومه الذي يتخبَّطه الشيطان، وهو بعيدٌ.
و «يتخبَّطه» يتفعَّله، وهو بمعنى المجرد أي يخبطه؛ فهو مثل: تعدَّى الشيء وعداه فهو تفعَّل بمعنى فعل، نحو تقسَّمه: بمعنى قسمه، وتقطَّعه: بمعنى قطعه. ومعنى ذلك مأخوذٌ من خبط البعير بأخفافه: إذا ضرب بها الأرض. ويقال: فلانٌ يخبط خبط عشواء؛ قال علقمة: [الطويل]
1255 - وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
وقال زهير: [الطويل]
1256 - رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ ... تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ
والتخبط معناه: الضَّرب على غير استواء، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه، إنه يخبط خبط عشواء، وخبط البعير الأرض بأخفافه، وتخبطه الشيطان، إذا مسَّه بخبلٍ، أو جنونٍ؛ لأنه كالضَّرب على غير استواء في الإدهاش.
قوله: {مِنَ المس} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهة الجنون، فيكون في موضع نصبٍ، قاله أبو البقاء.(4/450)
الثاني: أنه يتعلَّق بقوله تبارك وتعالى: {لاَ يَقُومُونَ} ، أي: لا يقومون من المسِّ الذي بهم، إلا كما يقوم المصروع.
الثالث: أنه يتعلَّق بقوله: «يَقومُ» ، أي: كما يقوم المصروع من جنونه؛ ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشريُّ.
قال أبو حيَّان: وكان قدَّم في شرح المسِّ أنه الجنون، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّق «مِنَ المَسِّ» بقوله: «لاَ يَقُومُونَ» ضعيفٌ؛ لوجهين:
أحدهما: أنه قد شرح المسَّ بالجنون، قلت: وهو بابٌ في البلاغة مشهورٌ، وهو أعلى رتب التشبيه؛ ومنه قوله: [الطويل]
1257 - وَرَمْلٍ كَأَوْرَاكِ العَذَارَى قَطَعْتُهُ..... ... ... ... ... ... ... . .
فصل في دفع شبهة في تحليل الرِّبا
القوم كانوا في تحليل الرِّبا على هذه الشُّبهة، وهي أنَّ من اشترى ثوباً بعشرة، ثمَّ باعه بأحد عشر، فهذا حلالٌ؛ فكذا إذا باع العشرة بأحد عشر، يجب أن يكون حلالاً؛ لأنه لا فرق في العقل بين الصُّورتين، فهذا في ربا الفضل، وكذلك - أيضاً - في ربا النَّسيئة؛ لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهرٍ، جاز، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهرٍ، وجب أن يجوز؛ لأنه لا فرق في العقل بينهما، وإنما جاز ذلك، لحصول التراضي من الجانبين، فكذا هاهنا، لما حصل التراضي من الجانبين، وجب أن يجوز أيضاً، والبياعات إنَّما شرعت لدفع الحاجة، ولعل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال، شديد الحاجة، ويكون له في المستقبل من الزمان أموالٌ كثيرةٌ، فإذا لم يجز الرِّبا، لم يعطه ربُّ المال مجاناً، فيبقى الإنسان في الشدة، والحاجة، وبتقدير جواز الربا فيعطيه ربُّ المال؛ طمعاً في الزيادة، والمديون يردُّه عند وجدان المال، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال، أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال، فهذا يقتضي حلَّ الرِّبا، كما قلنا في سائر البياعات أنَّها إنما شرعت؛ لدفع الحاجة، فهذه شبهة القوم.(4/451)
فأجابهم الله تعالى بقوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} ، وتوجيه هذا الجواب أنَّ ما ذكرتم معارضةٌ للنَّصِّ بالقياس؛ وهو لا يجوز.
فصل في دفع شبهة لنفاة القياس
تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: لو كان الدِّين بالقياس، لكانت هذه الشبهة لازمةً، فلمَّا بطلت، علمنا أن الدين بالنَّصّ لا بالقياس.
وفرَّق القفَّال بينهما، فقال: من باع ثوباً يساوي عشرةً بعشرين، فقد جعل ذات الثَّوب مقابلةً بالعشرين، فلمَّا حصل التراضي على هذا التقابل، صار كلُّ واحدٍ منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض. أمَّا إذا باع العشرة بالعشرة، فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوضٍ، ولا يمكن أن يقال: إنَّ غرضه هو الإمهال في الأجل؛ لأن الإمهال ليس إلاَّ مالاً أو شيئاً يشار إليه، حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة؛ فافترقا.
فإن قيل: ما الحكمة في قلب هذه القضية؟ ومن حقّ القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؛ لأن حلَّ البيع متفقٌ عليه، وهم أرادوا قياس الربا عليه؛ فكان نظم الكلام أن يقال: إنما الرِّبا مثل البيع، فقلبه، وقال: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} ؟
فالجواب أنّه لم يكن مقصود القوم أن يتمسَّكوا بنظم القياس، بل كان غرضهم أنَّ البيع والرِّبا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة، فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحلِّ، والآخر بالحرمة، وعلى هذا التقدير: فأيُّهما قدِّم، أو أخِّر جاز.
قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} الظاهر أنه من كلام الله تعالى، أخبر بأنه أحلَّ هذا، وحرَّم ذاك، وعلى هذا؛ فلا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب. وقال بعضهم: «هذه الجملة من تَتِمَّة قول الذين يأكلون الربا، فتكون في محلِّ نصبٍ بالقول؛ عطفاً على المَقُولِ» وهو بعيدٌ جداً، لأنَّ القائل بأنَّ هذا من كلام الكفَّار، لا يتمُّ إلاَّ بإضمار زيادةٍ، إمَّا بأن يحمل ذلك على الاستفهام؛ على سبيل الإنكار، أو يحمل ذلك على الرِّواية من قول المسلمين، والإضمار خلاف الأصل، وعلى الأول لا يحتاج إلى الإضمار، فكان أولى أيضاً فإنَّ المسلمين - أبداً - يتمسَّكون في جميع مسائل البيع بهذه الآية، ولو كان ذلك من كلام الكفَّار، لما جاز لهم الاستدلال به. وأيضاً، فقوله بعده: {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ ... } إلى قوله: { ... خَالِدُونَ} يقتضي أنَّهم لما تمسَّكوا بقولهم: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} فالله تعالى قد كشَفَ عن فساد تلك الشُّبهة، وبيَّن ضعفها، فلو لم(4/452)
يكن قوله {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} من كلام الله تعالى، لم يكن أجاب عن تلك الشبهة، فلم يكن قوله {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} - لائقاً بهذا الموضع.
فصل
ذهب بعض العلماء إلى أنَّ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} من المجملات التي لا يجوز التمسك بها.
قال ابن الخطيب: وهو المختار عندي لوجوه:
الأول: أنه ثبت في «أصول الفِقْهِ» أنَّ الاسم المفرد المحلَّى ب «لام» التَّعريف، لا يفيد العموم ألبتَّة، بل ليس فيه إلاَّ تعريف الماهيَّة، ومتى كان كذلك، كفى في العمل ثبوت حكمه في الصورة الواحدة.
الثاني: سلَّمنا أنه يفيد العموم، ولكنا لا نشكُّ في أنَّ إفادته أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم، مثلاً قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} وإن أفاد الاستغراق إلاَّ أن قوله: «وأحل الله البيعات» أقوى في إفادة الاستغراق فثبت أن قوله: «وأحل الله البيع» لا يفيد الاستغراق إلاَّ إفادة ضعيفة، ثم بتقدير العموم لا بدَّ أن يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرةٌ خارجةٌ عن الحصر والضبط، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى، وكلام رسوله؛ لأنه كذبٌ، والكذب على الله محالٌ.
فأما العامُّ الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جدّاً، فذلك جائزٌ؛ لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرفٌ مشهورٌ في كلام العرب.
الثالث: روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: خرج رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الدنيا، وما سألناه عن الربا. ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم، لما قال ذلك؛ فعلمنا أنَّ هذه الآية من المجملات.
الرابع: أن قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً، وكل ربا حراماً؛ والرِّبا: هو الزيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع، وآخرها حرَّم الجميع؛ فلا يعرف الحلال من الحلال بهذه الآية؛ فكانت مجملةً، ووجب الرجوع في معرفة الحلال، والحرام إلى بيان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قوله: {فَمَن جَآءَهُ} يحتمل أن تكون شرطيةً وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، وعلى كلا التقديرين فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء.
وقوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} هو الخبر، فإن كانت شرطيةً، فالفاء واجبةٌ، وإن كانت موصولةٌ، فهي جائزةٌ، وسبب زيادتها ما تقدَّم من شبه الموصول لاسم الشرط. ويجوز(4/453)
حال كونها شرطيةً وجهٌ آخر، وهو أن تكون منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعده، وتكون المسألة من باب الاشتغال، ويقدَّر الفعل بعدها؛ لأنَّ لها صدر الكلام، والتقدير: فأيُّ شخصٍ جاءت الموعظة جاءته، ولا يجوز ذلك فيها موصولةً؛ لأنَّ الصلة لا تفسِّر عاملاً؛ إذ لا يصحُّ تسلُّطها على ما قبلها، وشرط التفسير صحة التسلُّط. وسقطت علامة التأنيث من فعل الموعظة لأن ثانيها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ وأيضاً للفصل بين الفعل، وفاعله بالمفعول. وقرأ أبيّ والحسن: «جاءَتْه» على الأصل.
قوله: {مِّنْ رَّبِّهِ} يجوز أن تكون متعلقةً بجاءته، وتكون لابتداء الغاية؛ مجازاً، وأن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظةٍ، أي: موعظةٌ من موعظات ربه، أي: بعض مواعظه.
وقوله
: {فانتهى
} نسقٌ على «جاءَتْه» عطفه بفاء التعقيب، أي: لم يتراخ انتهاؤه عن مجيء الموعظة.
وقوله: {وَمَنْ عَادَ} الكلام على «مَنْ» هذه في احتمال الشرط، والموصول، كالكلام على التي قبلها.
«عاد» أي: رجع، يقال: عاد يعود عوداً، ومعاداً، وعن بعضهم: أنها تكون بمعنى «صار» ؛ وأنشد [الطويل]
1258 - وَبِالمَحْضِ حَتَّى عَادَ عَنَطْنَطاً ... إِذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ
وأنشد: [الطويل]
1259 - تُعِدُّ لَكُمْ جَزْرَ الجَزُورِ رِمَاحُنَا ... وَيَرْجِعْنَ بالأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ
والضمير في قوله «فَأمْرُه» يعود على «مَا سَلَف» ، أي: وأمر ما سلف إلى الله، أي: في العفو عنه وإسقاط التِّبعة منه. وقيل: يعود على المنتهي المدلول عليه بانتهى، أي: فأمر المنتهي عن الربا إلى الله؛ في العفو؛ والعقوبة.
وقيل: يعود على ذي الرِّبا في أن ينتبه على الانتهاء، أو يعيده إلى المعصية.
وقيل: يعود على الرِّبا، أي: في عفو الله عمَّا شاء منه، أو في استمرار تحريمه.
قال الواحديُّ «السُّلُوفُ» : التقدم، وكلُّ شيءٍ قدمته أمامك فهو سلفٌ، ومنه الأمم السَّالفة، وسالف الذكر، وله سلفٌ صالحٌ: آباءٌ متقدِّمون، ومنه {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} [(4/454)
الزخرف: 56] أي: أمةً متقدمةً تعتبر بهم من بعدهم، وتجمع السَّلف على: أسلافٍ وسلوفٍ، والسالفة والسُّلاف: المتقدِّمون في حرب أو سفرٍ، والسالفة من الوجه؛ لتقدُّمها؛ قال: [الوافر]
1260 - وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً ... وَسَالِفَةٌ وأَحْسَنُهُ قَذَالاَ
والسُّلفة: ما يقدَّم من الطعام للضَّيف. يقال: «سَلِّفُوا ضَيْفَكُمْ، ولَهِّنُوهُ» أي: بادروه بشيءٍ مَّا، ومنه: السَّلف في الدَّين؛ لأنه تقدَّمه مالٌ.
والسَّالفة: العنق؛ لتقدُّمه في جهة العلو، والسلفة: ما قدم قبل الطعام، وسلافة الخمر: صفوتها؛ لأنه أوَّل ما يخرج من عصيرها.
فصل في تأويل ما سلف
قال الزجاج: أي صفح له عمَّا مضى من ذنبه، قبل نزول الآية؛ كقوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وضعِّف؛ بأن قبل نزول الآية في التحريم، لم يكن ذلك حراماً، ولا ذنباً؛ فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنبٌ؟ والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم! ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك، وهو قوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي: كلُّ ما أكل من الرِّبا، وليس عليه ردُّه، فأمَّا ما لم يقضَ بعد، فلا يجوز له أخذه، وإنما له رأس ماله فقط؛ كما بيَّنه تعالى في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] .
فصل
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُ إِلَى الله} وجوهٌ للمفسرين، والذي أقوله: إنَّ هذه الآية مختصةٌ بمن ترك استحلال الرِّبا من غير بيان أنه ترك أكل الربا، أو لم يترك؛ ويدلُّ عليه مقدمة الآية ومؤخِّرتها.
أمَّا مقدمة الآية؛ فلأن قوله {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى} ليس فيه بيان أنه انتهى عماذا، فلا بدَّ وأن يصرف ذلك إلى المدلول السابق، وأقرب المذكورات إلى هذه الكلمة قولهم: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} فكان قوله: {فانتهى} عائداً إليه فيكون المعنى: فانتهى عن هذا القول.
وأما مؤخرة الآية فقوله: {وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} معناه(4/455)
عاد إلى الكلام المتقدم، وهو استحلال الربا «فَأَمْرهُ إلى اللهِ» ثم هذا الإنسان إمَّا أن يقال: إنه كما انتهى عن استحلال الربا، انتهى - أيضاً - عن أكل الربا، وليس كذلك؛ فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله تعالى؛ فحينئذٍ يستحق المدح والتعظيم، لكنَّ قوله «فَأَمْرُهُ إِلى اللهِ» ليس كذلك؛ لأنه يدلُّ على أنه تعالى إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر، ولا بالمؤمن المطيع، فلم يبق إلاَّ أنها تختصُّ بمن أقرَّ بحرمة الرِّبا، ثم أكل الربا؛ فهذا أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فهو كقوله {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] . ثم قال: {وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي ومن عاد إلى استحلال الربا، حتى يصير كافراً، وفيها دليلٌ على أنَّ الخلود لا يكون إلاَّ للكافر.(4/456)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي} : الجمهور على التخفيف في الفعلين من: مَحَقَ، وأربى. وقرأ ابن الزبير: ورويت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «يُمْحِّقُ، ويُرَبِّي» بالتشديد فيهما.
والمحق: النقص، يقال: محقته فانمحق، وامتحق؛ ومنه المحاق في القمر؛ قال: [البسيط]
1261 - يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ ... كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصاً ثُمَّ يَنْمَحِقُ
وأنشد ابن السِّكِّيتِ: [الطويل]
1262 - وَأَمْصَلْتُ مَالِي كُلَّهُ بِحَيَاتِهِ ... وَمَا سُسْتَ مِنْ شَيْءٍ فَرَبُّكَ مَاحِقُهْ
ويقال: هجيرٌ ماحقٌ: إذا نقص كلُّ شيءٍ بحرِّه.
وقد اشتملت هذه الآية على نوعين من البديع:
أحدهما: الطِّباق في قوله: «يَمْحَقُ، ويُرْبِي» فإنهما ضدَّان، نحو: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] .
والثاني: تجنيس التغاير في قوله: «الرِّبا، ويُرْبي» إذ أحدهما اسم والآخر فعل.
فصل في بيان وجه النَّظم
لما كان الداعي إلى فعل الرِّبا، تحصيل الزيادة، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقص الخيرات - بيَّن تعالى - ها هنا - أنَّ الربا وإن كان زيادةً، فهو نقصانٌ في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصاً في الصورة، فهي زيادةٌ في المعنى، فلا يليق(4/456)
بالعاقل أن يلتفت إلى ما يقضي به الطبع، والحسُّ من الدواعي والصَّوارف؛ بل يعوِّل على ما ندبه الشرع إليه؛ فهذا وجه النظم.
فصل
اعلم أن محق الربا، وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.
أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه:
أحدها: أنَّ الغالب في المربي - وإن كثر ماله - أن تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن مالح؛ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «الرِّبا وَإِنْ كَثُرَ فإنَّ عَاقِبتَهُ تَصِيرُ إِلى قلٍّ» .
وثانيها: أنه وإن لم ينتقص ماله، فإن عاقبته الذَّمُّ والنقص، وسقوط العدالة، وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق، والقسوة، والغلظة.
ثالثها: أنَّ الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا، يلعنونه، ويبغضونه، ويدعون عليه؛ وذلك يكون سبباً لزوال الخير، والبركة عنه في نفسه وماله.
الرابع: أنه متى اشتهر بين الناس بأنه إنما جمع ماله من الرِّبا، توجهت إليه الأطماع، وقصده كلُّ ظالمٍ، ومارقٍ وطمَّاعٍ، ويقولون: إنَّ ذلك المال ليس له في الحقيقة، فلا يترك في يده.
وأمَّ أن الربا سبب للمحق في الآخرة فمن وجوهٍ:
أحدها: قال ابن عباس: معنى هذا المحق: أن الله تعالى لا يقبل منه صدقةً، ولا جهاداً ولا حجّاً، ولا صلة رحم.
ثانيها: أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت، ويبقى عليه التبعة، والعقوبة، وذلك هو الخسار الأكبر.
وثالثها: ثبت في الحديث: أنَّ الأغنياء يدخلون الجنَّة بعد الفقراء بخمسمائة عامٍ، فإذا كان الغِنَى من الحلال كذلك، فما ظنُّك بالغنى من الحرام المقطوع به فذلك هو المحق والنقصان!
وأمَّا «إِرْبَاءُ الصدقاتِ» فيحتمل - أيضاً - أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.(4/457)
أما في الدنيا: فمن وجوهٍ:
أحدها: أن من كان لله كان الله له، فإذا كان الإنسان يحسن إلى عبيد الله، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً، ولا جائعاً في الدنيا، وقد ورد في الحديث أنَّ ملكاً ينادي كلَّ يومٍ: «اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِكُلِّ مُنْفِقٍ خَلَفاً، ولكل مُمْسِكٍ تَلَفاً» .
وثانيها: أنه يزداد كلَّ يومٍ في جاهه، وذكره الجميل، وميل القلوب إليه.
وثالثها: أن الفقراء يعينونه بالدعاء الخالص من قلوبهم.
ورابعها: أنَّ الأطماع تنقطع عنه، فإنه متى اشتهر بإصلاح مهمَّات الفقراء، والضعفاء؛ فكلُّ أحدٍ يحترز عن منازعته، وكلُّ ظالم، وطمَّاع يتخوف من التعرض إليه، اللهم إلاَّ نادراً، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا.
وأما إرباؤها في الآخرة، فروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقبلُ الصَّدَقَاتِ وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاَّ الطَّيِّبَ ويَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُربِّيها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مَهرَةُ أَوْ فَلُوَّهُ حتى إنَّ اللقمةَ تَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ» وتصديق ذلك بيِّنٌ في كتاب الله تعالى {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} [التوبة: 104] .
وقال ابن الخطيب: ونظير قوله: {يَمْحَقُ الله الربا} المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً ونظير قوله: {وَيُرْبِي الصدقات} المثل الذي ضربه الله بحبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلةٍ مائة حبَّةٍ.
قوله: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} اعلم أن الكفَّار فعَّالٌ من الكفر، ومعناه: أن ذلك عادته، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول: فلان فعَّالٌ للخير أمَّارٌ به و «الأَثِيم» فعيل بمعنى فاعلٍ، وهو الآثم، وهو - أيضاً - مبالغةٌ في الاستمرار على اكتساب الإثم والتمادي فيه، وذلك لا يليق إلاَّ بمن ينكر تحريم الربا، فيكون جاحداً.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون «الكَفَّارُ» راجعاً إلى المستحلّ «والأَثيم» يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم؛ فتكون الآية الكريمة جامعةً للفريقين.(4/458)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
اعلم أنَّ من عادته تعالى في القرآن الكريم مهما ذكر وعيداً، ذكر بعده وعداً فلما بلغ ها هنا في وعيد المرابي، أتبعه بهذا الوعد، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية.
واحتجّ من قال بأن العمل الصالح خارجٌ عن مسمى الإيمان بهذه الآية، فإنه عطف عمل الصالحات على الإيمان؛ والمعطوف يغاير المعطوف عليه.
وأجيب عنه بأنه قال: {وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} ولا نزاع في أن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، داخلان تحت عمل الصالحات، فكذا ما ذكرتُم، وأيضاً قال تبارك وتعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [النحل: 88] وقال: {والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} [البقرة: 39] ويمكن أن يجاب بأن الأصل حمل كل لفظةٍ على فائدةٍ جديدة، تُرِكَ العملُ به عند التَّعذُّر، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل.
فإن قيل إنَّ الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله تعالى وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه، ثم مات، فهو من أهل الثواب بالاتفاق، فدلَّ على أن استحقاق الثواب لا يتوقَّف على حصول العمل.
وأيضاً فقد يثيب الله تعالى المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال، وإذا كان كذلك فكيف وقف الله ها هنا حصول الأجر على حصول العمل؟
فالجواب: أنه تبارك وتعالى إنما ذكر هذه الخصال؛ لا لأجل أنَّ استحقاق الثواب مشروطٌ بهذا، بل لأجل أنَّ لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب، كما قال في ضدِّ هذا {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] ومعلومٌ أنَّ من ادعى مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر، وإنما جمع اللهُ الزِّنا، وقتل النَّفس، مع دعاء غير الله إلهاً، لبيان أنَّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة.(4/459)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
اعلم أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة أنَّ من انتهى عن الربا، فله ما سلف؛ فقد يظنُّ أنه لا فرق بين المقبوض منه، وبين الباقي في ذمَّة الغريم، فبين في هذه الآية الكريمة بقوله: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} أي: الذي لم يقبض فالزيادة حرامٌ، وليس لهم أن يأخذوا إلاَّ رؤوس أموالهم، فقال: {اتقوا الله} والاتقاء إنما يكون باتقاء ما نهى عنه، {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} يعني: إن كنتم قد قبضتم منه شيئاً، فيعفو عنه، وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه، فالذي لم يقبض حرامٌ قبضه، وهذه الآية دليلٌ على أحكام الكفَّار إذا أسلموا؛ لأن ما مضى في زمن الكفر، فإنه لا ينقض، ولا يفسخ، وما لم يوجد منه(4/459)
شيء في حال الكفر، فحكمه الإسلام، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم، ولا يجوز في الإسلام فمعفوٌّ عنه، وإن وقع على مهرٍ حرامٍ، وقبضته المرأة، فقد مضى، وليس لها شيءٌ، وإن لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المسمى.
قوله تعالى: {وَذَرُواْ} : فتحت العين من «ذَرْ» حملاً على «دَعْ» ، إذ هو بمعناه، وفتحت في «دَعْ» ؛ لأنه أمرٌ من «يَدَعُ» ، وفتحت من «يَدَعُ» ، وإن كان قياسها الكسر؛ لكون الفاء واواً؛ [كيَعِدُ] لكون لامه حرف حلقٍ.
ووزن «ذَرُوا» : علوا؛ لأنَّ المحذوف الفاء لا يستعمل منه ماضٍ إلاَّ في لغيَّة، وكذلك «دَعْ» .
وقرأ الحسن: «مَا بَقَى» بقلب الكسر فتحةً، والياء ألفاً، وهي لغةٌ لطَيِّىءٍ، ولغيرهم؛ ومنه قول علقمة: [الطويل]
1263 - زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إِنْسَانُ عَيْنِهِ ... يَفِيضُ بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأَقِ
وقال آخر: [الوافرٍ] .
1264 - وَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةس عَلَيْنَا ... وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ
ويقولون في الناصية: ناصاةٌ. وقرأ الحسن أيضاً: «بَقِيْ» بتسكين الياء، قال المبرد: «تسكين ياء المنقوص في النصب من أحسن الضرورة، هذا مع أنَّه معربٌ، فهو في الفعل الماضي أحسنُ» قال شهاب الدين: وإذا كانوا قد حذفوها من الماضي صحيح الآخرن فأولى من حرف العلة، قال: [مجزوء الرمل]
1265 - إِنَّمَا شِعْرِيَ قَيْدٌ ... قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانِ
وقال جرير في تسكين الياء: [البسيط]
1266 - هُوَ الخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيْ لَكُمُ ... مَاضِي العَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ
وقال آخر: [الطويل]
1267 - لَعَمْرُكَ لاَ أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقِيْ ... عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا(4/460)
قوله: {مِنَ الربا} متعلِّقٌ ببقي، كقولهم: «بَقِيَتْ منه بقيةٌ» ، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ على أنه حال من فاعل «بقَى» ، أي: الذي بقي حال كونه بعض الربا، فهي تبعيضيةٌ.
ونقل ابن عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ «مِنَ الرِّبُو» بتشديد الراء مكسورة، وضمِّ الباء بعدها واوٌ. قال شهاب الدين: قد تقدم أنَّ أبا السَّمَّال إنما قرأ «الرِّبَا» في أول الآية الكريمة بواوٍ بعد فتحة الباء، وأنَّ أبا زيدٍ حكى عن بعضهم: أنه ضمَّ الباء، وقدَّمت تخريجهما على ضعفه.
وقال ابن جنِّي: «شَذَّ هَذَا الحَرْفُ في أمرين:
أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناءَ لازماً.
والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل؛ نحو: يغزو ويدعو، وأمَّا» ذو «الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً، ومنهم من يغيِّر واوها، إذا فارق الرفع، فيقول:» رأيتُ ذَا قَامَ «.
ووجه القراءة أنه لمَّا فخَّم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها، على حدِّ قولهم: الصَّلاة والزكاة، وهي بالجملة قراءة شاذةٌ» . قال شهاب الدين: غيره يقيِّد هذه العبارة، فيقول: «ليس في الأسماء المعربة واو قبلها ضمة» حتى يخرج عنه «ذُو» بمعنى الذي، و «هو» من الضمائر، وابن جنِّي لم يذكر القيد استثناء «ذو الطائية» ويرد عليه نحو «هو» ، ويرد على العبارة «ذُو» بمعنى صاحب؛ فإنَّها معربةٌ في آخرها واوٌ بعد ضمةٍ.
وقد أجيب عنه بأنها تتغيَّر إلى الألف والياء فلم يبال بها، وأيضاً فإنَّ ضمة الدَّال عارضةٌ، إذ أصلها الفتح، وإنما ضمَّت؛ إتباعاً على ما تقرر في إعراب الأسماء الستة في كتب النحو.
وقله: «بناءً لازماً» تحرُّزٌ من وجود الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ، بطريق العرض؛ نحو: الحِبُك؛ فإنه من التداخل، ونحو: الرِّدُءْ «موقوفاً عليه، فالخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ في هاتين الكلمتين، ليس بلازمٍ.
وقوله:» مِنْهُمْ مَنْ يغيِّرُ واوَها «المشهور بناؤها على الواو مطلقاً، وقد تعرب؛ كالتي بمعنى صاحب؛ وأنشدوا: [الطويل]
1268 - فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ ... فَحَسْبِيَ مِنْ ذِي عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا(4/461)
ويروى:» مِنْ ذُو «على الأصل.
فصل
قوله: {إِن كُنْتُمْ} شرطٌ، وجوابه محذوفٌ عند الجمهور، أي: فاتَّقوا، وذروا، ومتقدِّم عند جماعةٍ، وقيل:» إِنْ «هنا بمعنى إذ؛ وهذا مردودٌ.
فإن قيل: كيف قال {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} ثم قال {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} فالجواب من وجوهٍ:
الأول: أن هذا كما يقال إن كنت أخي فأكرمني، معناه: إِنَّ من كان أخاً، أكرم أخاه.
الثاني: أنَّ معناه إن كنتم مؤمنين قبله، أي: معترفين بتحريم الرِّبا.
الثالث: إن كنتم تريدون استدامة حكم الإيمان.
الرابع: يا أيُّها الذين آمنوا، بلسانهم، ذروا ما بقي من الرِّبا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم.
الخامس: ما تقدم أنَّ» إن «بمعنى» إذْ «.
فصل في سبب النزول
في سبب النزول رواياتٌ:
الأولى: أن أهل مكة كانوا يرابون، فلما أسلموا عند فتح مكة، أمرهم الله تعالى بهذه الآية، أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة.
الثانية: قال مقاتلٌ: نزلت في أربعة إخوةٍ من ثقيف: مسعودٍ، وعبد [ياليل] ، وحبيبٍ، وربيعة، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بنى المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكانوا يرابون. فلما ظهر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على لاطائف، أسلم هؤلاء الإخوة، فطلبوا رباهم من بنى المغيرة. فقال بنو المغيرة: والله ما نعطي الرِّبا في الإسلام، وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين، فاختصموا إلى عتَّاب بن أسيد، فكتب عتَّابٌ - وكان عامل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقصة الفريقين، وكان ذلك مالاً عظيماً؛ فنزلت الآية.(4/462)
الثالثة: قال عطاء، وعكرمة: نزلت في العباس بن عبد المطَّلب، وعثمان بن عفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال لهما صاحب التمر: إن أنتما أخذتما حقكما، لا يبقى لي ما يكفي عيالي! فهل لكما أن تأخذا النصف، وتؤخِّرا النّصف؛ وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما جاء الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنهاهما فأنزل الله هذه الآية؛ فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.
الرابعة: قال السُّدِّيُّ: نزلت في العباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عميرٍ، وناسٍ من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمةٌ في الربا؛ فأنزل الله هذه الآية. فقال النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في «حجةِ الوَدَاعِ» في خطبته يوم عرفة «أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، ودِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَم أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بن الحَارِثِ، كان مُسْتَرْضِعاً في بني سعدٍ؛ فقَتَلَه هُذيْلٌ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وأَوَلُّ رِباً أَضَعُ رِبَا العباسِ بنِ عَبْد المطلبِ؛ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّه» .
فصل
القاضي قوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} يدلُّ على أنَّ الإيمان لا يتكامل إذا أصرَّ الإنسان على الكبائر، ولا يصير الإنسان مؤمناً على الإطلاق، إلاَّ إذا اجتنب كل الكبائر.
والجواب: لمَّا دلَّت الدلائل الكثيرة المذكورة في قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] على أنَّ العمل خارج عن مسمَّى الإيمان، كانت هذه الآية محمولةً على كمال الإِيمان وشرائعه، فكان التقدير: إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه؛ لتلك الدلائل.
فإن قيل: كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟
قلنا: هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر
«مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً، فَقَدْ بَارَزَنِي بالمُحَارَبَةِ» ، وعن جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ لم يَدَع المخابرة، فليأذَن بحرب من اللهِ ورسُوله» وقد جعل كثيرٌ من المفسرين والفقهاء قوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب وسنة رسوله.
وفي الجواب عن السؤال وجهان:
الأول: أن المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب.(4/463)
الثاني: أن المراد منه نفس الحرب، وفيه تفضيلٌ؛ فنقول: إنّ المصرَّ على فعل الربا، إذا كان من شخص، وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التَّعزير، والحبس إلى أن تظهر منه التوبة، وإن كان المصر ممن له عسكرٌ وشوكة، حاربه الإمام، كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مانعي الزكاة، وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الأذان، وترك دفن الموتى، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه.
وقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - من عامل بالربا، يستتاب، فإن تاب، وإلاّض ضرب عنقه.
والقول الثاني: أنه خطابٌ للكفار، وأن معنى قوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: معترفين بتحريم الربا {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي: فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} ومن ذهب إلى هذا القول، قال: إنَّ فيه دليلاً على أنّض من كفر بشريعة واحدةٍ من شرائع الإسلام، فهو خارجٌ من ملة الإسلام، كافرٌ كما لو كفر بجميع شرائعه.
قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ} فالمعنى على القول الأول: وإن تبتم عن معاملة الربا، وعلى الثاني: من استحلال الربا {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} أي: لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال {وَلاَ تُظْلَمُونَ} أي: بنقصان رأس المال.
قوله: {لاَ تَظْلِمُونَ} فيها وجهان:
أظهرهما: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، أخبرهم تعالى بذلك، أي: لا تظلمون غيركم بأخذكم الزيادة منه، ولا تظلمون أنتم - أيضاً - بضياع رؤوس أموالكم.
والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «لَكُمْ» والعامل ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرار؛ لوقوعه خبراً وهو رأي الأخفش.
وقرأ الجمهور الأول مبنيّاً للفاعل، والثاني مبنياً للمفعول. وروى أبانٌ، والمفضَّل، عن عاصم بالعكس. ورجَّح الفارسي قراءة العامة؛ بأنها تناسب قوله: «وإن تُبْتُمْ» في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فتظلمون مبنياً للفاعل أشكل بما قبله. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقْرَأُ بتسميةِ الفَاعِلِ في الأوَّلِ، وترْكِ التسمية في الثاني؛ ووجهه: أنَّ منعهم من الظلم أهمُّ؛ فبدئ به، ويقرأ بالعكس، والوجه فيه: أنه قدَّم ما تطمئن به نفوسهم من نفي الظلم عنهم، ثم منعهم من الظلم، ويجوز أن تكون القراءتان بمعنى واحدٍ؛ لأنَّ الواو لا ترتِّب.(4/464)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} : في «كان» هذه وجهان:
أحدهما: - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حدث، ووجد، أي: وإن حدث ذو عسرةٍ، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال، قيل: وأكثر ما تكون كذلك إذا كان مرفوعها نكرةٌ، نحو: «قد كان مِنْ مَطَرٍ» .
والثاني: أنها الناقصة والخبر محذوفٌ. قال أبو البقاء: «تقديره: وإن كان ذو عسرة لكم عليه حقٌّ، أو نحو ذلك» وهذا مذهب بعض الكوفيين في الآية، وقدَّر الخبر: وإن كان من غرمائكم ذو عسرةٍ. وقدَّره بعضهم: وإن كان ذو عسرةٍ غريماً.
قال أبو حيَّان: «وَحَذْفُ خبرِ كَانَ لا يجيزه أصحابنا؛ لا اختصاراً؛ ولا اقتصاراً، لعلَّةٍ ذكروها في كتبهم. وهي أنَّ الخبر تأكّد طلبه من وجهين:
أحدهما: كونه خبراً عن مخبر عنه.
والثاني: كونه معمولاً للفعل قبله، فلما تأكدت مطلوبيته، امتنع حذفه.
فإن قيل: أليس أن البصريين لمَّا استدلَّ عليهم الكوفيون في أنَّ» ليس «تكون عاطفةً بقوله: [الرمل]
1269 - ... ... ... ... ... ... ... ..... إِنَّمَا يَجْزِي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ
تأوَّلُوهَا على حَذْفِ الخَبَرِ؛ وأَنْشدوا شَاهِداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه: [الكامل]
1270 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... يَبْغِي جِوَارَكِ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ
وإذا ثبت هذا، ثبت في سائر الباب.
فالجواب أن هذا مختصٌّ بليس؛ لأنها تشبه لا النافية، و» لا «يجوز حذف خبرها، فكذا ما أشبهها» .(4/465)
وتقوَّى الكوفيُّون بقراءة عبد الله، وأُبيّ؛ وعثمان: «وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ» أي: وإن كان الغريم ذا عُسْرَةٍ. قال أبو عليّ: في «كان» اسمها ضميراً تقديره: هو، أي: الغريم، يدلُّ على إضماره ما تقدَّم من الكلام؛ لأنَّ المرابي لا بدَّ له ممَّن يرابيه.
وقرأ الأعمش: «وإِنْ كان مُعْسِراً» قال الدَّاني، عن أحمد بن موسى: «إنها في مُصْحَفِ عبد الله كذلك» .
ولكنَّ الجمهور على ترجيح قراءة العامة وتخريجهم القراءة المشهورة. قال مكي: وَإِنْ وقع ذُو عُسْرَةٍ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس، ولو نصبت «ذا» على خبر «كان» ، لصار مخصوصاً في ناس بأعيانهم؛ فلهذه العلة أجمع القرَّاء المشهورون على رفع «ذو» .
وقد أوضح الواحديُّ هذا، فقال: «أي: وإنْ وقع ذو عسرةٍ، والمعنى على هذا يصحُّ، وذلك أنه لو نصب، فقيل: وإن كان ذا عسرة، لكان المعنى: وإن كان المشتري ذا عُسْرةٍ، فنظرةٌ؛ فتكون النظرة مقصورةً عليه، وليس الأمر كذلك؛ لأن المشتري، وغيره إذا كان ذا عسرةٍ، فله النظرة إلى الميسرة» .
وقال أبو حيَّان: مَنْ نصب «ذَا عُسْرَةٍ» ، أو قرأ «مُعْسِراً» فقيل: يختصُّ بأهل الرِّبا، ومن رفع، فهو عامٌّ في جميع من عليه دينٌ، قال: «وليس بلازمٍ، لأنَّ الآية إنما سِيقَتْ في أهل الربا، وفيهم نزلت» قال شهاب الدين: وهذا الجواب لا يجدي؛ لأنه وإن كان السياق كذا، فالحكم ليس خاصاً بهم.
وقرئ «وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ» ، وقرأ أبو جعفرٍ «عُسْرَةٍ» بضم السين.
فصل
قال ابن الخطيب: لما كنتُ ب «خَوَارِزْم» ، وكان هناك جمعٌ من أكابر الأدباء،(4/466)
فأوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب؛ فقلت: إنكم تقولون: إنَّ «كان» إذا كانت ناقصةً، أنها تكون فعلاً؛ وهذا محالٌ؛ لأن الفعل ما دلَّ على اقتران حدثٍ بزمان، فقولك «كان» يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي، وإذا أفاد هذا المعنى، كانت تامةً، لا ناقصةً، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً، كانت تامةً لا ناقصة، وإن لم تكن تامةً لم تكن فعلاً ألبتة؛ بل كانت حرفاً، وأنتم تنكرون ذلك؛ فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً، وصنَّفوا في الجواب عنه كتباً، وما أفلحوا فيه، ثم انكشف لي فيه سرٌّ أذكره - ها هنا - وهو: أنَّ «كانَ» لا معنى له إلاَّ أنه حدث، ووقع، ووجد إلاَّ أن قولك وجد، وحدث على قسمين:
أحدهما: أن يكون المعنى وجد، وحدث الشيء؛ كقولك: وجد الجوهر، وحدث العرض.
والثاني: أن يكون المعنى وجد، وحدث موصوفية الشيء بالشيء، فإذا قلت: كان زيدٌ عالماً، فمعناه: حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم.
والقسم الأول هو المسمَّى ب «كان» التامة.
والقسم الثاني: هو المسمَّى ب «الناقصة» وفي الحقيقة: فالمفهوم من «كان» في الموضعين هو الحدوث، والوقوع إلاَّ أنه في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً، بل لا بدَّ فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر، وهذا من لطائف الأبحاث.
فأما إن قلنا إنه فعل، كان دالاًّ على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذٍ تكون تامةً لا ناقصةً، وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرفٌ، فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل، والأمر، وجميع خواصِّ الأفعال؟ وإذا حمل الأمر على ما قلناه، تبيَّن أنه فعلٌ وزال الإشكال بالكلية.
المفهوم الثالث ل «كان» أن تكون بمعنى «صَارَ» ؛ وأنشدوا: [الطويل]
1271 - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
وعندي أنَّ هذا اللفظ - ها هنا - محمولٌ على ما ذكرناه، فإنَّ معنى «صار» أنَّها حدثت موصوفية الذات بهذه الصفة، بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك؛ فتكون «كان» هنا أيضاً بمعنى حدث، ووقع؛ إلاَّ أنه حدوثٌ مخصوصٌ وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة، بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى.(4/467)
المفهوم الرابع: أن تكون زائدة؛ وأنشدوا: [الوافر]
1272 - سَرَاةُ بَنِي أبي بَكْرٍ تَسَامَى ... عَلَى كَانَ المُسَوَّمَةِ الجِيَادِ
و «العُسْرَةِ» اسم من الإعسار، ومن العسر، وهو تعذُّر الموجود من المال؛ يقال: أعسر الرجل، إذا صار إلى حالة العسرة، وهي الحالة التي يتعسَّر فيها وجود المال.
قوله: {فَنَظِرَةٌ} الفاء جواب الشرط، و «نَظِرَةٌ» خبر مبتدأ محذوف، أي: فالأمر أو فالواجب، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ، أي: فعليكم نظرةٌ.
وقرأ العامَّة: «نَظِرَةٌ» بزنة «نَبَقَة» . وقرأ الحسن، ومجاهدٌ، وأبو رجاء: «فَنَظِرةٌ» بتسكين العين، وهي لغةٌ تميمةٌ يقولون: «كَبْد» في «كَبِد» و «كَتْف» في «كَتِف» .
وقرأ عطاء «فَنَاظِرَةٌ» على فاعلة، وقد خرَّجها أبو إسحاق على أنها مصدر نحو: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين} [غافر: 19] {أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] . وقال الزمخشري: «فناظِرُهُ، أي: فصاحب الحقّ ناظره، أي: منتظره، أو صاحب نظرته على طريقة النسب؛ كقولهم: مَكَانٌ عَاشِبٌ، وبَاقِلٌ؛ بمعنى ذو عشبٍ، وذو بقلٍ، وعنه:» فناظِرْهُ «على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة، وباشره بها» فنقله عنه القراءة الأولى يقتضي أن تكون قراءته «ناظِر» اسم فاعل مضافاً لضمير ذي العسرة، بخلاف القراءة التي قدمها عن عطاء، فإنها «نَاظِرَةٌ» بتاء التأنيث، ولذلك خرَّجها الزَّجَّاج على المصدر. وقرأ عبد الله: «فناظِرُوه» أمراً للجماعة بالنظرة، فهذه ستُّ قراءات مشهورها واحدةٌ.
وهذه الجملة لفظها خبرٌ، ومعناها الأمر؛ كقوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} [البقرة: 233] وقد تقدَّم. والنظرة: من الانتظار، وهو الصبر والإمهال.
تقول: بعته الشيء بنظرة، وبإنظار. قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الأعراف: 14 - 15] {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38] .(4/468)
قوله: {إلى مَيْسَرَةٍ} قرأ نافع وحده: «مَيْسَرَة» بضمِّ السِّين، والباقون بفتحها. والفتح هو المشهور؛ إذ مفعل، ومفعلة بالفتح كثيرٌ، ومفعُلٌ بالضم، معدومٌ؛ إلا عند الكسائي، فإنه أورد منه ألفاظاً، وأمَّا مفعلةٌ، فقالوا: قليلٌ جدّاً وهي لغة الحجاز، وقد جاءت منها ألفاظٌ، نحو: المسرُقة، والمقبرة، والمشربة، والمسربة، والمقدرة، والمأدبة، والمفخرة، والمزرعة، ومعربة، ومكرمة، ومألكة.
وقد ردَّ النحاس الضمَّ؛ تجرؤاً منه، وقال: «لم تَأْتِ مَفْعُلَةٌ إِلاَّ في حُرُوفٍ معدودةٍ ليس هذه منها، وأيضاً فإنَّ الهاء زائدةٌ، ولم يَأْتِ في كلامِهِم مَفْعُل أَلْبتةَ» انتهى.
وقال سيبويه: «لَيْسَ في الكَلاَمِ مَفْعُل» قال أبو عليّ: «يَعْنِي في الآحاد» . وقد حكى سيبويه «مَهْلك» مثلَّث اللاَّم، وقال الكسائيُّ: «مَفْعُل» في الآحاد، وأورد منه مكرُماً في قول الشاعر: [الرجز]
1273 - لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فَعَالِ مَكْرُمِ ... ومَعْوُن في قول الآخر - هو جميلٌ -: [الطويل]
1274 - بُثَيْنُ، ألْزَمِي «لاَ» ؛ إنَّ «لاَ» إِنْ لَزِمْتِهِ ... عَلَى كَثْرَةِ الوَاشِينَ أَيُّ مَعْوُنِ
ومألكاً في قول عديّ: [الرمل]
1275 - أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكاً ... أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي
وهذا لا يرد على سيبويه لوجهين:
أحدهما: أنَّ هذا جمعٌ لمكرمةٍ، ومعونة، مألكة، وإليه ذهب البصريون، والكوفيون خلا الكسائي، ونقل عن الفراء أيضاً.
والثاني: أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل، فيقول: «لم يَرِدْ كذا» وإن كان قد ورد منه الحرف والحرفان، لعدم اعتداده بالنادر القليل.(4/469)
وإذا تقرَّر هذا، فقد خطَّأ النحويون مجاهداً، وعطاءً في قراءتهما: «إلى مَيْسُرِهِ» بإضافة «مَيْسُر» مضموم السين إلى ضمير الغريم؛ لأنهم بنوه على أنه ليس في الآحاد مفعل، ولا ينبغي أن يكون هذا خطأً؛ لأنه على تقدير تسليم أنَّ مفعلاً ليس في الآحاد، فميسر هنا ليس واحداً، إنما هو جمع ميسرة، كما قلتم أنتم: إنَّ مكرماً جمع مكرمةٍ، ونحوه، أو يكون قد حذف تاء التأنيث للإضافة؛ كقوله: [البسيط]
1276 - إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فَانْجَرَدُوا ... وأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا
أي: عدة الأمر؛ ويدلُّ على ذلك أنهم نقلوا عنهما، أنهما قرآ أيضاً: «إِلَى مَيْسَرِهِ» بفتح السين، مضافاً لضمير الغريم، وهذه القراءة نصٌّ فيما ذكرته لك من حذف تاء التأنيث للإضافة؛ لتوافق قراءة العامَّة: «إلى مَيْسَرَةٍ» بتاء التأنيث.
وقد خرَّجها أبو البقاء على وجهٍ آخر، وهو أن يكون الأصل: «مَيْسُورِه» فخفِّف بحذف الواو؛ اكتفاءً بدلالة الضمة عليها، وقد يتأيَّد ما ذكره على ضعفه، بقراءة عبد الله، فإنه قرأ: إلى «مَيْسُورِه» بإضافة «مَيْسورٍ» للضمير، وهو مصدرٌ على مفعول؛ كالمجلود والمعقول، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش؛ إذ أثبت من المصادر زنة مفعول، ولم يثبته سيبويه.
«والمَيْسَرَةُ» : مفعلةٌ من اليسر، واليسار الذي هو ضدُّ الإعسار، وهو تيسر الموجود من المال ومنه يقال أيسر الرجل، فهو موسرٌ، أي: صار إلى حالة وجود المال فالميسرة، واليسر، والميسور: الغنى.
فصل في سبب نزول «وإن كان ذو عسرة»
لما نزل قوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] قال بنو عمرو الثَّقفي: بل نتوب إلى الله، فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله، فرضوا برأس المال، فشكى بنو المغيرة العسرة، وقالوا: أخِّرونا إلى أن تدرك الغلاَّت، فأبوا أن يؤخروا؛ فأنزل الله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} يعني وإن كان الذي عليه الدَّين معسراً، {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} ، يعن: أَنْظِرُوه إلى اليسار، والسَّعة.
فصل في بيان حكم الإنظار
اختلفوا في حكم الإنظار: هل هو مختصٌّ بالربا، أو عامٌّ في كل دين؟ فقال ابن عباس، وشريح، والضحاك، والسدي، وإبراهيم: الآية في الربا، وذكر عن شريح أنَّه أمر(4/470)
بحبس الخصم، فقيل له: إنه معسرٌ، فقال شريح إنما ذلك في الربا، والله تعالى قال في كتابه العزيز {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .
وقال جماعة منهم مجاهد: إنها عامَّة في كل دين؛ لعموم قوله تعالى: {ذُو عُسْرَةٍ} ولم يقل ذا عسرة.
فصل
والإعسار: هو ألاَّ يجد في ملكه ما يؤدِّيه بعينه، ولا يكون له ما لو باعه، لأمكنه أداء الدَّين من ثمنه خارجاً عن مسكنه وثيابه، ولا يجوز أن يحبس من لم يجد إلاَّ قوت يوم لنفسه وعياله، وما لا بدَّ لهم من كسوةٍ لصلاتهم ودفع البرد والحرِّ عنهم.
واختلفوا: إذا كان قويّاً، هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدَّين، أو غيره؟
فقال بعضهم: يلزمه ذلك، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه، أو لعياله.
وقال بعضهم: لا يلزمه ذلك، واختلفوا أيضاً إذا بذل للمعسر ما يؤدِّي به الدَّين، هل يلزمه قبوله والأداء، أو لا يلزمه؟ فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجبٌ عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلاَّ ذلك، ويؤدِّيه في الدَّين.
فصل في تحريم حبس المعسر
إذا علم الإنسان أنَّ غريمة معسرٌ - حرم عليه حبسه، وأن يطالبه بما له عليه ووجب عليه إنظاره إلى يساره، فإن ارتاب في إعساره، جاز له حبسه إلى أن يظهر إعساره، فإذا ادَّعى الإعسار وكذَّبه الغريم، فإن كان الدَّين عن عوضٍ، كالبيع، والقرض، فلا بدَّ له من إقامة البيِّنة على أنَّ ذلك العوض قد هلك، وإن كان الدَّين عن غير عوض كالإتلاف، والصَّداق، والضَّمان؛ فالقول قول المعسر؛ لأن الأصل الفقر وعلى الغريم إقامة البينة.
فصل
قال المهدويُّ: قال بعض العلماء: هذه الآية ناسخةٌ لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر.
قال القرطبيُّ: وحكى مكيٌّ: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر به في صدر الإسلام.
قال ابنُ عطية: فإن ثبت فِعْلُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهو نسخٌ، وإلاَّ فليس بنسخ.
قال الطَّحاوي: كان الحرُّ يباع في الدَّين أول الإسلام، إذا لم يكن له مالٌ يقضيه عن نفسه؛ حتى نسخ الله ذلك بقوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} .(4/471)
واحتجُّوا بما رواه الدَّارقطنيُّ من حديث مسلم بن خالد الزَّنجي، قال: حدثنا زيد ابن أسلم عن ابن البيلمانيّ، عن سرَّقٍ، قال: كان لرجلٍ عليّ مالٌ - أو قال - دينٌ فذهب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلم يصب لي مالاً، فباعني منه، أو باعني له؛ أخرجه البزَّار بإسناد طويل، ومسلم بن خالد الزنجي، وعبد الرحمن البيلماني لا يحتجُّ بهما.
قوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ} مبتدأ وخبره «خير» وقرأ عاصم: بتخفيف الصاد، والباقون: بتثقيلها. وأصل القراءتين واحدٌ؛ إذ الأصل: تتصدَّقوا، فحذف عاصمٌ إحدى التاءين: إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية، وتقدَّم تحقيق الخلاف فيه، وغيره أدغم التاء في الصاد، وبهذا الأصل قرأ عبد الله: «تَتَصَدَّقوا» . وحذف مفعول التصدُّق للعلم به، أي: بالإنظار؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ يَحِلُّ دَيْنُ رَجلٍ مُسْلم، فيؤخره؛ إلاَّ كان له بِكُلِّ يَوْمٍ صدقةٌ» وهذا ضعيفٌ؛ لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدةٍ جديدةٍ، ولأن قوله «خَيْرٌ لكُمْ» إنما يليق بالمندوب، لا بالواجب. وقيل: برأس المال على الغريم، إذ لا يصحُّ التصدق به على غيره؛ كقوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] .
قوله: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابه محذوفٌ، و «اَنْ تَصَدَّقُوا» بتأويل مصدرٍ مبتدأ، و «خيرٌ لكم» خبره.
فصل في تقدير مفعول «تعلمون» ونصب «يوماً»
وتقدير مفعول «تَعْلَمُونَ» فيه وجوه:
أحدها: إن كنتم تعلمون أنَّ هذا التصدُّق خير لكم إن عملتموه.
الثاني: إن كنتم تعلمون فضل التصدُّق على الإنظار والقبض.
الثالث: إن كنتم تعلمون أنَّ ما يأمركم به ربُّكم أصلح لكم.(4/472)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
قوله: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} الآية انتصب قوله «يَوْماً» على المفعول به، لا على الظرف؛ لأنه ليس المعنى واتَّقوا في هذا اليوم، لكن المعنى تأهَّبوا للقائه، بما تقدِّمون من العمل الصالح، ومثله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [(4/472)
المزمل: 17] أي: كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه، مع الكفر بالله تعالى.
فصل في آخر ما نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من القرآن
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذلك لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما حجَّ نزلت {وَيَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 172] وهي آية الكلالة ثم نزلت، وهو واقفٌ بعرفة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ثم نزل {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} فقال جبريل - عليه السلام - يا محمد ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة، وعاش رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعدها أحداً وثمانين يوماً، وقيل أحداً وعشرين يوماً.
وقال ابن جريجٍ: تسع ليالٍ.
وقال سعيد بن جبير: سبع ليالٍ، وقيل: ثلاث ساعاتٍ، ومات يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، حين زاغت الشمس، سنة إحدى عشرة من الهجرة.
وقال الشعبي، عن ابن عباس: آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أية الرِّبا.
قوله تعالى: {تُرْجَعُونَ فِيهِ} : هذه الجملة في محلِّ نصبٍ؛ صفةً للظرف. وقرأ أبو عمرو: «تَرْجِعُونَ» بفتح التاء؛ مبنياً للفاعل، والباقون بضَمِّ التَّاءِ مبنياً للمفعُولِ. وقرأ الحسنُ: «يَرْجِعُون» بياء الغيبة؛ على الالتفات. قال ابن جنِّي: «كأنَّ اللهَ تعالى رَفَقَ بالمؤمنينَ عن أنْ يواجِهَهُم بذكر الرَّجْعَة، إذ هي ممَّا تتفطَّر لها القلوب، فقال لهم:» واتَّقُوا «ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة، فقال: يَرْجِعُون» .
واعلم أنَّ الرجوع لازمٌ ومتعدٍّ، وعليه خرِّجت القراءتان.
فصل في المراد باليوم
قال القاضي: اليوم: عبارةٌ عن زمانٍ مخصوصٍ، وذلك لا يتَّقى؛ إنَّما يتقى ما يحدث(4/473)
فيه من الشِّدة، والأهوال، واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلاَّ في دار الدُّنيا بمجانبة المعاصي، وفعل الواجبات؛ فصار قوله: {واتقوا يَوْماً} يتضمن الأمر بجميع أنواع التكليف.
قال جمهور العلماء: المراد بهذا اليوم المحذَّر منه هو يوم القيامة.
وقيل يوم الموت، قال ابن عطية: والأول أصحُّ.
فصل
اعلم أنَّ الرجوع إلى الله ليس المراد منه، ما يتعلق بالمكان والجهة؛ فإن ذلك محالٌ على الله تعالى، وليس المراد الرجوع إلى علمه، وحفظه؛ فإنه معهم أينما كانوا، لكن كل ما في القرآن من الرجوع إلى الله، فله معنيان:
الأول: أن الإنسان له ثلاثة أحوالٍ مرتَّبين، فالأولى: كونهم في بطون أمَّهاتهم لا يملكون نفعهم، ولا ضرَّهم؛ بل المتصرف فيهم ليس إلاَّ الله تعالى.
والثانية: بعد خروجهم من البطون، فالمتكفل بإصلاح أحوالهم في أوَّل الأمر الأبوان، ثم بعد ذلك، يتصرف بعضهم في بعض، في حكم الظاهر.
الثالثة: بعد الموت وهناك لا يتصرف فيهم إلاَّ الله تعالى، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا، فهذا معنى الرجوع إلى الله.
المعنى الثاني: أن المراد يرجعون إلى ما أعدَّ الله لهم من ثوابٍ، وعقابٍ.
قوله: {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} معناه: أنَّ المكلف يصل إليه جزاء عمله بالتمام، كما قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] ، وقال: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] .
وفي تأويل قوله: {مَّا كَسَبَتْ} وجهان:
أحدهما: فيه حذفٌ تقديره: جزاء ما كسبت.
والثاني: أنَّ المكتسب إنَّما هو الجزاء في الأصل، فقوله {مَّا كَسَبَتْ} معناه: ذلك الجزاء وهذا أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى الإضمار.
قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} جملة حالية من «كلِّ نَفْسٍ» وجمع اعتباراً بالمعنى، وأعاد الضمير عليها أولاً مفرداً في «كَسَبَتْ» اعتباراً باللفظ، وقدِّم اعتبار اللفظ؛ لأنه الأصل، ولأنَّ اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة؛ فكان تأخيره أحسن.
قال أبو البقاء: وَيَجُوزُ أن يكون حالاً من الضمير في: «يُرْجَعُون» على القراءة بالياء، ويجوز أن يكون حالاً منه - أيضاً - على القراءة بالتاء، على أنَّه خروج من(4/474)
الخطاب إلى الغيبة؛ كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] ، قال شهاب الدين: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك.
فإن قيل: لما قال {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فهم منه عدم الظلم، فيكون قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} من باب التكرير.
فالجواب: أنه تعالى لما قال {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} دلَّ على إيصال العذاب إلى الكفار والفسَّاق، فكان لقائلٍ أن يقول: كيف يليق بأكرم الأكرمين تعذيب عبيده؟ فأجاب بقوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} والمعنى: أن العبد هو الذي ورط نفسه؛ لأن الله تعالى مكَّنه، وأزاح عذره، فهو الذي أساء إلى نفسه.
وهذا الجواب إنَّما يستقيم على أصول المعتزلة، وأمَّا على أصولنا، فالله سبحانه مالك الخلق، يتصرف في ملكه كيف شاء، وأراد؛ فلا يكون ظلماً.(4/475)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
في كيفية النظم وجهان:
الأول: أنَّ تعالى لمَّا ذكر الإنفاق في سبيل الله، وهو يوجب تنقيص المال، وذكر الرِّبا، وهو - أيضاً - سبب تنقيص المال، وختم هذين الحكمين بالتهديد بقوله {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] والتقوى تسدُّ على الإنسان أكثر أبواب المكاسب، والمنافع - أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال، وصونه عن الفساد، فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله، وعلى ترك الرِّبا، وعلى ملازمة التقوى، لا يتم إلاَّ عند حصول المال؛ فلأجل هذا بالغ في الوصيَّة بحفظ المال، ونظيره {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] فحثَّ على الاحتياط في أمر الأموال؛ لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد.(4/475)
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - ويدلُّ على ذلك: أنَّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسطٌ شديدٌ؛ ألاَّ ترى أنَّه قال تعالى {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} ، ثم قال ثانياً: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} ، ثم قال ثالثاً: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله} ، فكان هذا كالتِّكرار لقوله: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} ؛ لأنَّ العدل هو ما علَّمه الله، ثم قال رابعاً: {فَلْيَكْتُبْ} وهذا إعادةٌ للأمر الأول؛ ثم قال خامساً: {وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق} وفي قوله: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} كفاية عن قوله: {وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق} ؛ لأنَّ الكاتب بالعدل إنَّما يكتب ما يملُّ عليه، ثم قال سادساً: {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} ، وهذا تأكيدٌ، ثم قال سابعاً: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} ، وهذا كالمستفاد من قوله: {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} ، ثم قال ثامناً: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ} ، وهو أيضاً تأكيد لما مضى، ثم قال تاسعاً: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا} ، فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التَّأكيدات السَّالفة، وكلُّ ذلك يدلُّ على المبالغة في التَّوصية بحفظ المال الحلال، وصونه عن الهلاك؛ ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخط الله: من الرِّبا، وغيره، والمواظبة على تقوى الله.
الوجه الثاني: قال بعض المفسرين: إنَّ المراد بهذه المداينة «السَّلَمُ» فإن الله تبارك وتعالى لما منع من الرِّبا في الآية المتقدِّمة؛ أذن في السَّلم في هذه الآية، مع أنَّ جميع المنافع المطلوبة من الرِّبا حاصلة في السَّلم، وبهذا قال بعض العلماء: لا لذَّة، ولا منفعة يوصل إيها بالطَّريق الحرام، إلا والله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سبحانه وتعالى - وضع لتحصيل تلك اللَّذَّة طريقاً حلالاً، وسبيلاً مشروعاً.
فصل
قال سعيد بن المسيَّب: بلغني أنَّ أحدث القرآن بالعرش آية الدَّين.
التداين تفاعل من الدَّين كتبايع من البيع، ومعناه: داين بعضكم بعضاً، وتداينتم: تبايعتم بدين.
يقال: داينت الرجل أي: عاملته بدينٍ، وسواء كنت معطياً، أم آخذاً؛ قال رؤبة: [الرجز](4/476)
1277 - دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى ... فَمَطلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا
ويقال: دنت الرجل: إذا بعته بدينٍ، وأدنته أنا: أخذت منه بدين ففرَّقوا بين فعل وأفعل.
قال ابن الخطيب: قال أهل اللغة القرض غير الدين؛ لأنَّ القرض أن يقرض الرجل الإنسان دراهم أو دنانير أو حباً أو تمراً وما أشبه ذلك، ولا يجوز فيه الأجل، والدَّين يجوز فيه الأجل ويقال من الدّين: أدَّان إذا باع سلعته بثمن إلى أجلٍ، ودان يدين إذا أقرض ودان إذا استقرض؛ وأنشد الأحمر: [الطويل]
1278 - نَدِينُ وَيَقْضِي اللهُ عنَّا وَقَدْ نَرَى ... مَصَارعَ قَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ ضُيَّعِ
فصل في بيان إباحة السلف
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لما حرم الله تعالى الرِّبا؛ أباح السَّلف، وقال: أشهد أن السَّلف المضمون إلى أجل مسمّى، قد أحلَّه الله في كتابه، وأذن فيه ثمَّ قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: نزلت في السَّلف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم المدينة وهم يسلفون الثِّمار السَّنتين، والثَّلاث؛ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ أَسْلَفَ؛ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» .
وقال آخرون: المراد القرض، وهو ضعيف؛ لأن القرض لا يشترط فيه الأجل والآية فيها اشتراط الأجل، وقال أكثر المفسِّرين البياعات على أربعة أوجه:
أحدها: بيع العين بالعين، وذلك ليس بمداينة ألبتة.
والثاني: بيع الدَّين بالدَّين، وهو باطلٌ، فلا يدخل تحت الآية. بقي قسمان، وهما بيع العين بالدَّين، وهو بيع الشَّيء بثمن مؤجَّل، وبيع الدَّين بالعين، وهو المسمَّى ب «السّلم» وكلاهما داخلان تحت هذه الآية الكريمة.(4/477)
فإن قيل: المداينة: مفاعلة، وحقيقتها أن يحصل من كلّ واحدٍ منهما دين، وذلك هو بيع الدَّين بالدَّين، وهو باطلٌ بالاتفاق.
فالجواب: أنَّ المراد من «تَدَايَنْتُمْ» : تعاملتم، والتَّقدير تعاملتم بما فيه دين.
فإن قيل: قوله «تَدَايَنْتُمْ» يدلُّ على الدّين، فما الفائد في قوله: «بِدَيْنٍ» .
فالجواب من وجوه:
أحدها: قال ابن الأنباريّ: التَّداين يكون لمعنيين:
أحدهما: التَّداين بالمال؛ والتَّداين بمعنى المجازاة من قولهم: «كَمَا تَدِينُ تُدَانُ» فذكر الدين لتخصيص أحد المعنيين.
الثاني: قال الزَّمخشريُّ: وإنَّما ذكر الدَّين؛ ليرجع الضمير إليه في قوله تبارك وتعالى {فاكتبوه} إذ لو لم يذكر، لوجب أن يقال: فاكتبوا الدُّين.
الثالث: ذكره ليدلّ به على العموم، أي: أي دين كان من قليلٍ، أو كثيرٍ من قرضٍ، أو سلمٍ، أو بيع دين إلى أجل.
الرابع: أنَّه تبارك وتعالى ذكره للتَّأكيد كقوله تبارك وتعالى
{فَسَجَدَ
الملاائكة
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] .
الخامس: قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: إنَّ المداينة مفاعلة، وهي تتناول بيع الدَّين بالدَّين وهو باطلٌ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطلٌ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل فلما قال: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} كان المعنى: إذا تداينتم تدايناً يحصل فيه دين واحد وحينئذٍ يخرج عن بيع الدّين بالدين، ويبقى بيع العين بالدّين أو بيع الدّين بالعين، فإن الحاصل في كلِّ واحدٍ منهما دين واحد لا غير.
فإن قيل: إن كلمة «إذَا» لا تفيد العموم، والمراد من الآية العموم؛ لأن المعنى كلَّما تداينتم بدين فاكتبوه فلم عدل عن كلما وقال: {إِذَا تَدَايَنتُم} .
فالجواب: أنَّ كلمة «إِذَا» ، وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنَّها لا تمنع من(4/478)
العموم، وها هنا قام الدَّليل على أنَّ المراد هو العموم؛ لأنه تعالى بين العلَّة في الأمر بالكتابة في آخر الآية، وهي قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا} والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدّين، ولم يكتب فالظَّاهر أنه تنسى الكيفيَّة فربَّما توهم الزِّيادة، فطلب الزِّيادة ظلماً، وربَّما توهم النُّقصان، فترك حقَّه من غير حمد ولا أجر، فأمَّا إذا كتب كيفيَّة الواقعة أمن من هذه المحذورات، فلمَّا دلَّ النَّصُّ على أن هذا هو العلَّة، وهي قائمةٌ في الكلّ كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكلِّ.
قوله تعالى: {إلى أَجَلٍ} : متعلِّق بتداينتم، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة لدين، و {مُّسَمًّى} صفة لدين، فيكون قد قدَّم الصفة المؤولة على الصَّريحة، وهو ضعيفٌ، فكان الوجه الأول أوجه.
والأجل: في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدّين لوقت معيَّن في المستقبل، وأصله من التَّأخير يقال: أجل الشَّيء بأجل أجولاً إذا تأخَّر، والآجل: نقيض العاجل.
فإن قيل: المداينة لا تكون إلا مؤجلة، فما فائدة ذكر الأجل المداينة؟
فالجواب: إنَّما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله {مُّسَمًّى} والفائدة ف يقوله {مُّسَمًّى} ليعلم أنَّ من حقّ الأجل أن يكون [معلوماً] كالتَّوقيت بالسَّنة، والأشهر، والأيَّام، فلو قال إلى الحصاد، أو إلى الدياس، أو إلى رجوع قدوم الحاج؛ لم يجز لعدم التَّسمية.
وألف «مُسَمًّى» منقلبةٌ عن ياءٍ، تلك الياء منقلبةٌ عن واو؛ لأنه من التَّسمية، وقد تقدَّم أنَّ المادَّة من سما يسمو.
فصل
والأجل يلزم في الثَّمن في البيع، وفي السّلم بحيث لا يكون لصاحب الحقّ الطلب قبل محله، وفي القرض، لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم.
قال القرطبي: شروط السّلم تسعة، ستّة في المسلم فيه، وثلاثة في رأس مال السّلم.
أمَّا السِّتَّة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذِّمَّة، وأن يكون موصوفاً، وأن يكون الأجل معلوماً، وأن يكون الأجل معلوماً، وأن يكون مؤجّلاً، وأن يكون عام الوجود عند الأجل، وأمَّا الثلاثة(4/479)
التي في رأس مال السلم، فأن يكون معلوم الجنس، معلوم المقدار، وأن يكون نقداً.
قوله: {فاكتبوه} الضَّمير يعود على «بِدَيْنٍ» .
فصل
أمر الله تعالى في المداينة بأمرين:
أحدهما: الكتابة بقوله: {فاكتبوه} .
الثاني: الإشهاد. بقوله: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} ، وفائدة الكتابة والإشهاد أنَّ دخول الأجل تتأخّر فيه المطالبة، ويتخلَّله النِّسيان ويدخله الجحد، فالكتابة سبب لحفظ المال من الجانبين، لأنَّ صاحب الدّين إذا علم أنَّ حقّه مقيّد بالكتابة، والإشهاد تحذر من طلب زيادة، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، والمديون يحذر من الجحد، ويأخذ قبل حلول الدّين في تحصيل المال ليتمكن من أدائه وقت الحلول.
فصل
القائلون بأن ظاهر الأمر النَّدب، لا إشكال عليهم، واختلف القائلون بأن ظاهر الأمر الوجوب، فقال عطاء، وابن جريج والنَّخعي بوجوب الكتابة، وهو اختيار محمد بن جرير الطَّبري، قال النَّخعي: يشهد، ولو على دُسْتَجةِ بَقْلٍ.
وقال جمهور الفقهاء: هذا أمر ندب؛ لأنّا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار المسلمين يبيعون بالأثمان المؤجَّلة من غير كتابة، ولا إشهاد، وذلك إجماعٌ على عدم وجوبها، ولأنَّ في إيجابها حرجٌ شديدٌ، ومشقَّة عظيمةٌ. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بُعِثْتُ بالحنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» .
وقال الحسن، والشَّعبيُّ، والحكم بن عتيبة: كانا واجبين ثمّ نسخا بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] .
وقال التيمي: سألت الحسن عنها فقال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألا تسمع قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} [البقرة: 283] .(4/480)
فصل
لما أمر الله تعالى بكتابة هذه المداينة؛ اعتبر في الكتابة شرطين:
الأولَّل: أن يكون الكاتب عدلاً لقوله: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} وذلك أنَّ قوله تعالى: {فاكتبوه} ظاهره يقتضي أنَّه يجب على كلِّ أحدٍ أن يكتب، لكن ذلك غير ممكنٍ، فقد يكون ذلك الإنسان غير كاتب، فصار معنى قوله: {فاكتبوه} ، أي: لا بدَّ من حصول هذه الكتابة وهو كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فإن ظاهره، وإن كان يقتضي خطاب الكلّ بهذا الفعل، إلاَّ أنَّا علمنا أنَّ المقصود منه أنَّه لا بدَّ من حصول قطع اليد من إنسان واحد، إمَّا الإمام، أو نائبه أو المولى، فكذا ها هنا.
ويؤكِّد هذا قوله تعالى: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} فإنَّه يدلُّ على أنَّ المقصود حصول الكتابة من أيّ سخصٍ كان.
قوله: {بالعدل} فيه أوجهٌ:
أحدها: أن يكون الجارُّ متعلّقاً بالفعل قبله. قال أبو البقاء: «بالعَدْلِ متعلِّق بقوله: فليكتب، أي: ليكتب بالحقِّ، فيجوز أن يكون حالاً، أي: ليكتب عادلاً، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي: بسبب العدل» .
قوله أولاً: «بالعدلِ مُتَعَلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب» يريد التعلق المعنوي؛ لأنَّه قد جوَّز فيه بعد ذلك أن يكون حالاً، وإذا كان حالاً تعلَّق بمحذوف لا بنفس الفعل.
وقوله: «ويجوزُ أن يكون مفعولاً» يعني فتتعلق الباء حينئذٍ بنفس الفعل.
والثاني: أن يتعلَّق ب «كَاتِب» . قال الزَّمخشريُّ: «مُتَعَلِّقٌ بكاتب صفةً له، أي: كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتُب» ، وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابن عطيَّة: «والبَاءُ متعلِّقةٌ بقوله:» ولْيَكْتُبْ «، وليست متعلِّقة بقوله» كَاتِبٌ «؛ لأنه كان يلزم ألاَّ يكتب وثيقةً إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصّبيُّ والعبد» .
الثالث: أن تكون الباء زائدةٌ، تقديره: فليكتب بينكم كاتب بالعدل.
فصل في معنى العدل
في تفسير العدل وجوه:
أحدها: أن يكتب بحيث لا يزيد، ولا ينقص عنه، ويكتب بحيث يصلح أن يكون حجَّة له عن الحاجة إليه.
وثانيها: لا يخصّ أحدهما بالاحتياط له دون الآخر، بل يكتبه بحيث يكون كل(4/481)
واحد من الخصمين آمناً من تمكن الآخر من إبطال حقّه.
ثالثها: قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متّفقاً عليه بين أهل العلم، بحيث لا يجد قاضٍ من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على قول بعض المجتهدين.
ورابعها: أن يحترز عن الألفاظ المجملة المتنازع في المراد بها، فهذه الأمور لا يمكن رعايتها إلاَّ إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين، أديباً مميّزاً بين الألفاظ المتشابهة.
قوله: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ} وهذا ظاهره نهي الكاتب عن الامتناع عن الكتابة وإيجاب الكتابة على كل من كان كاتباً، وهذا على سبيل الإرشاد، والمعنى: أنَّ الله تعالى لمَّا علمه الكتابة وشرفه بمعرفة أحكام الشَّريعة، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهمّ أخيه المسلم شكراً لتلك النِّعمة، فهو كقوله تعالى: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] .
وقال الشعبي: هو فرض كفاية، فإن لم يوجد من يكتب غيره وجب عليه الكتابة، وإن وجد غيره؛ وجبت الكتابة على واحد منهم.
وقيل: كانت الكتابة واجبة على الكاتب، ثمَّ نسخت بقوله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} .
وقيل: متعلِّق الإيجاب، هو أن يكتب كما علمه الله، يعني: أنَّه بتقدير أنه يكتب، فالواجب أن يكتب كما علَّمه الله، ولا يخلّ بشرط من الشّرائط، ولا يدرج فيه قيداً يُخلّ بمقصود الإنسان.
قوله: {أَنْ يَكْتُبَ} مفعولٌ به، أي: لا يأب الكتابة.
قوله: {كَمَا عَلَّمَهُ الله} يجوز أن يتعلَّق بقوله: {أَنْ يَكْتُبَ} على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير: أن يكتب كتابةً مثل ما علَّمه الله، أو أن يكتبه أي: الكتب مثل ما علَّمه الله.
ويجوز أن يتعلَّق بقوله: «فَلْيَكْتُبْ» .
قال أبو حيَّان: «والظّاهر تعلُّق الكاف بقوله: فَلْيَكْتُبْ» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وهو قلق لأجل الفاء، ولأجل أنه لو كان متعلِّقاً بقوله: «فَلْيَكْتُبْ» ، لكان النَّظم: فليكتب كما علمه الله، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخرٌ في المعنى.
وقال الزَّمخشريُّ - بعد أن ذكر تعلُّقه بأن يكتب، وب «فَلْيَكْتُبْ» - «فإِنْ قلت: أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت: إن علَّقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيَّدة، ثم قيل [له] : فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها، وإن علَّقته بقوله:» فَلْيَكْتُبْ «فقد نهى(4/482)
عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيّدةً» . فيكون التقدير: فلا يأب كاتبٌ أن يكتب، وها هنا تمَّ الكلام، ثم قال بعده: {كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ} ، فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً، ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إيَّاها.
ويجوز أن تكون متعلقةً بقوله: لا يأب، وتكون الكاف حينئذٍ للتعليل. قال ابن عطيّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ويحتمل أن يكون» كما «متعلّقاً بما في قوله» ولا يأْبَ «من المعنى، أي: كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة، فلا يأب هو، وليفضل كما أفضل عليه» . قال أبو حيَّان: «وهو خلاف الظاهر، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: وعلى القول بكونها متعلقةً بقوله: «فليكتب» يجوز أن تكون للتعليل أيضاً، أي: فلأجل ما علَّمه الله فليكتب.
وقرأ العامة: «فَلْيَكْتُبْ» بتسكين اللام كقوله: «كَتْف» في كتِف، إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل. وقد قرأ الحسن بكسرها وهو الأصل.
قوله: «ولْيُمْلِل» أمرٌ من أملَّ يملُّ، فلمَّا سكن الثاني جزماً جرى فيه لغتان: الفكُّ وهو لغة الحجاز وبني أسد، والإدغام وهو لغة تميم، وقيس، ونزل القرآن باللُّغتين.
قال تعالى في اللغة الثانية: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] وكذا إذا سكن وقفاً نحو: أملل عليه وأملَّ، وهذا مطَّرد في كل مضاعفٍ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى عند قراءتَيْ: «مَنْ يَرْتَدِدْ، ويرتدَّ» .
وقرئ هنا شاذّاً: «وَلْيُمِلَّ» بالإدغام، ويقال: أملَّ يملُّ إملالاً، وأملى، يملي إملاءً؛ ومن الأولى قوله: [الطويل]
1279 - أَلاَ يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوانِ
ويقال: أمللت وأمليت، فقيل: هما لغتان، وقيل: الياء بدلٌ من أحد المثلين، وأصل المادتين: الإعادة مرة بعد أخرى.
و «الحَقُّ» يجوز أن يكون مبتدأٌ، و «عَلَيْهِ» خبر مقدمٌ، ويجوز أن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على الموصول، والموصول هو فاعل «يُمْلِل» ومفعوله محذوف،(4/483)
أي: وليملل الديَّان الكاتب ما عليه من الحقِّ، فحذف المفعولين للعلم بهما.
ويتعدَّى ب «عَلَى» إلى أحدهما فيقال: أمللت عليه كذا، ومنه الآية الكريمة.
فصل
اعلم أنَّ الكتابة، وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشُّروط والسِّجلات، لكن ذلك لا يتمّ إلاَّ بإملاء من عليه الحق؛ فيدخل في جملة إملائه اعترافه بالحقّ في قدره، وجنسه وصفته، وأجله، وغير ذلك.
ثم قال: {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} بأن يقرّ بمبلغ المال، {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} ، أي: لا ينقص منه شيئاً.
قوله: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} يجوز في «منه» وجهان:
أحدهما: أن يكون متعلقاً بيبخس، و «مِنْ» لابتداء الغاية، والضمير في «منه» للحقِّ.
والثاني: أنَّها متعلقة بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفةٌ للنكرة، فلمَّا قُدِّمت على النكرة نصبت حالاً.
و «شَيئاً» : إمَّا مفعول به، وإمَّا مصدرٌ.
والبخس: النَّقص، يقال منه، بخس زيدٌ عمراً حقَّه يبخسه بخساً، وأصله من: بخست عينه، فاستعير منه بَخْسُ الحق، كما قالوا: «عَوَرْتُ حَقَّه» استعارة من عور العين. ويقال: بخصه بالصَّاد. والتباخس في البيع: التناقص، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايعين ينقص الآخر حقَّه.
قوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ} إدخال حرف «أو» بين هذه الألفاظ الثلاثة يقتضي تغايرها؛ لأنَّ معناه: أنَّ الذي عليه الحقّ كان متَّصفاً بإحدى هذه الصِّفات الثلاثة {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} وإذا ثبت تغايرها وجب حمل السَّفيه على الضعيف الرَّأي النَّاقص العقل من البالغين الذين لا يحسنون الأخذ لأنفسهم، ولا الإعطاء منها أخذاً من الثَّوب السَّفيه وهو خفيف النَّسج، والبذيء اللسان يسمى سفيهاً، لأنَّه لا يكاد أن تتفق البذاءة إلاَّ في جهَّال النَّاس، وأصحاب العقول الخفيفة، والعرب تسمي الضعيف العقل سفيهاً؛ قال الشاعر: [السريع]
1280 - نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا ... وَيَجْهَل الدَّهْرُ مَعَ الحَالِمِ
والضَّعيف على الصَّغير، والمجنون، والشَّيخ الخرف وهو الذين فقدوا العقل(4/484)
بالكلية، «والَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُملّ» من يضعف لسانه عن الإملاء لخرسٍ، أو لجهله بما عليه، وله.
فهؤلاء لا يصحُّ منهم الإملاء، ولا الإقراء، فلا بدَّ ممَّن يقوم مقامهم.
فقال تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} .
قيل: الضُّعف بضم الضَّاد في البدن، وبفتحها في الرأي.
وقيل: هما لغتان.
قال القرطبيُّ: والأول أصحُّ.
قوله: {أَن يُمِلَّ هُوَ} أن، وما في حيِّزها في محل نصب مفعولاً به، أي: لا يستطيع الإملال، و «هو» تأكيدٌ للضمير المستتر. وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير، والتَّنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه، قاله أبو حيان.
وقرئ بإسكان هاء: «هو» وهي قراءة ضعيفة؛ لأنَّ هذا الضمير كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلها.
ومن سكَّنها أجرى المنفصل مجرى المتصل، وقد تقدَّم هذا في أول هذه السورة، قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهذا أشذُّ من قراءة من قرأ: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة} [القصص: 61] .
قال شهاب الدين: فجعل هذه القراءة شاذةً وهذه أشذُّ منها، وليس بجيد، فإنَّها قراءة متواترة قرأ بها نافع بن أبي نعيم قارىء أهل المدينة فيما رواه عنه قالون، وهو أضبط رواته لحرفه، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة.
والهاء في» وليُّه «للذي عليه الحقُّ، إذا كان متصفاً بإحدى الصِّفات الثلاث؛ لأن وليَّه هو الَّذي يُقر عليه بالدَّين كما يقرُّ بسائر أُموره، وقال ابن عبَّاس، ومقاتلٌ والرَّبيعُ: المراد بوليِّه: وَلِيُّ الدَّين وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ قول المُدّعي لا يقبل، فإِن اعتبرنا قوله، فأيُّ حاجة إلى الكتابة، والإشهاد؟
وقوله:» بالعدْلِ «تقدَّم نظيره.
فصلٌ
واعلم أَنَّ المقصود من الكتابة: هو الاستشهادُ؛ لكي يتمكَّن صاحب الحقّ بالشُّهود إلى تحصيل حقّه عند الجحود.(4/485)
وقوله:» فاسْتَشْهِدُوا «يجوز أن تكون السِّين على بابها من الطَّلبِ، أي: اطلبُوا شهيدَين، ويجوزُ أن يكونَ استفعل بمعنى أفعل، نحو: اسْتَعْجضلَ بمعنى أَعجَل، واستيقن بمعن أَيقَنَ فيكون» اسْتَشْهِدُوا «بمعنى شهدوا، يقال أشهدت الرَّجُل واشتشهدته بمعنى واحدٍ، والشَّهيدان: هما الشَّاهدانِ، فعيلٌ بمعنى فاعلٍ.
وفي قوله:» شَهِيدَيْن «تنبيهٌ على أَنَّهُ ينبغي أن يكون الشَّاهد ممَّن تتكرَّرُ منه الشَّهادةُ، حيث أَتَى بصيغة المبالغة.
قوله:» مِنْ رِجَالِكُمْ «يجوزُ أن يتعلَّق باستشهدوا، وتكونُ» مِنْ «لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ، على أَنَّهُ صفةٌ لشهيدين، و» مِنْ «تبعيضيةٌ.
فصلٌ
في المراد بقوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} ثلاثة أقوال:
أحدها: قال أكثر العلماء: المراد الأَحرارُ المسلمون.
الثاني: قال شريحٌ، وابن سيرين: المراد المسلمون؛ فيدخل العبيد.
الثالث: من رجالكم الَّذين تعدونهم للشَّهادة، بسبب العدالة. حجَّةُ شريح، وابن سرين: عمومُ الآية؛ ولأَنَّ العدالة لا تختلف بالحريَّة والرِّقِّ، واحتَجَّ الآخرونَ بقوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ} ، وهذا يقتضي: أَنَّ الشَّاهد؛ يجب عليه الذَّهاب إلى موضع أدَاءِ الشَّهادة، ويحرمُ عليه الامتناعُ والإِجماعُ على أَنَّ العبد لا يجبُ عليه الذَّهابُ، فلا يكونُ شاهداً، وهذا مذهبُ الشَّافعي، وأبي حنيفة.
والجواب عن قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} ، أي: الذين تعدُّونهم لأداء الشَّهادة، كما قدَّمناهُ.
قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} ، جوَّزوا في» كَانَ «هذه أَنْ تكون النَّاقصة، وأَنْ تكون التامة، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى: فإنْ كانت ناقصةً فالألفُ اسمها، وهي عائدةٌ على الشَّهيدين أي: فإن لم يكنِ الشّاهدان رجُلَين، والمعنى على هذا: إن أغفَل ذلك صاحبُ الحقّ، أو قصد أَنْ لا يُشهد رجلين لغرض له، وإن كانت تامّةً فيكون» رجلين «نصباً على الحالِ المؤكِّدة كقوله:
{فَإِن كَانَتَا اثنتين} [النساء: 176] ، ويكون المعنى على هذا أنه لا يعدل إلى ما ذكر إلا عند عدمِ الرِّجال. والألفُ في «يَكُونَا» عائدةٌ على «شَهِيدَيْنِ» ، تفيدُ الرجولية.
فصلٌ
قال القرافيُّ: العلماءُ يقولون: إِذَا ورد النَّصُّ بصيغة «أو» فهو للتَّخيير، كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ،(4/486)
وإن ورد النَّصُّ بصيغة الشَّرط كقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجدْ} [البقرة: 196] الآية فهو على التَّرتيب، وهذا غير صحيح لهذه الآية؛ لأَنَّ قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} يقتضي على قولهم أَلاَّ يجوز استشهادُ رجُلٍ وامرأتين إِلاَّ عند عدم الرَّجلين، وقد أَجمعت الأُمَّة على جواز ذلك، عند وجود الرَّجلين، وأَنَّ عدمهما ليس بشرطٍ، واستفدنا من هذه الآية سؤالين عظيمين.
الأول: أَنَّ الصِّيغة لا تقتضي التَّرتيب.
الثاني: أَنَّهُ لا يلزمُ من عدم الشَّرط عدم المشروط، وهو خلافُ الإِجماع، وهو هناك كذلك.
قولنا: إذا لم يكن العدد زوجاً، فهو فردٌ، وإِنْ لم يكن فرداً، فهو زوج مع أَنَّهُ لا تتوقَّف زوجيَّته على عدم الفرديَّة، ولا فرديته على عدمِ الزَّوجيَّة. بل هو واجبُ الثُّبوت في نفسه، وجد الآخر أم لا، وإذا تقرَّر هذا، فالمُرادُ من الآية: انحصارُ الحُجَّة التَّامَّة من الشَّهادة، بعد الرَّجلين في الرَّجل، والمرأتين، فإِنَّه لا حُجَّة تامَّةٌ من الشَّهادة في الشَّريعة، إِلاَّ الرَّجُلين، والرَّجُلَ، والمرأتين، هذا هو المجمع عليه من البيِّنة الكامِلة، في الأَموال، فإذا فرض عدم إحداهما، قبل الحصر في الأُخرى، وقد وضح أَنَّ الشَّرط كما يستعملُ في الترتيب؛ كذلك يُسْتعملُ في الحصر، والكل حقيقة لغوية، فضابطُ ما يتوقَّف فيه المشروطُ على الشَّرطِ، هو الَّذي لا يراد به الحصرُ، فمتى أُريد به الحصرُ فلا يدلُّ على التَّرتيب، بل لا بُدَّ من قرينة.
قوله: {فَرَجُلٌ وامرأتان} يجوزُ أن يرتفع ما بعد الفاءِ على الابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ تقديره: فرجلٌ، وامرأتان، يكفُون في الشَّهادة، أو مُجزِئون، ونحوه. وقيل: هو خبرٌ والمبتدأُ محذوفٌ تقديره: فالشَّاهدُ رجلٌ، وامرأتان وقيل: مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديره: فيكفي رجُلٌ، أي: شهادةُ رجلٍ، فحُذِف المضافُ للعلم به، وأُقيم المضافُ إليه مقامه. وقيل: تقدير الفعلِ فَلْيَشْهَدْ رجلٌ، وهو أحسنُ، إذ لا يُحوج إلى حذفِ مُضافٍ، وهو تقديرُ الزَّمخشريُّ.
وقيل: هو مرفوعٌ بكان النَّاقصة، والتَّقدير: فليكن مِمَّن يشهدون رجلٌ وامرأتان، وقيل: بل بالتَّامَّةِ وهو أَولى؛ لأنَّ فيه حذف فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ، وفي تقدير النَّاقصة حذفُها مع خبرها، وقد عُرِفَ ما فيه، وقيل: هو مرفوعٌ على ما لم يسمَّ فاعلُهُ، تقديرُهُ: فليُسْتَشْهَد رجلٌ. قال أبو البقاء: «وَلَوْ كَانَ قَدْ قُرئ بالنَّصب لكان التَّقديرُ: فَاسْتَشْهِدُوا» وهو كلامٌ حسنٌ.
وقرئ: «وَامْرَأَتَانِ» بسكون الهمزة التي هي لامُ الكلمة، وفيها تخريجان.(4/487)
أحدهما: أنه أَبْدَل الهمزة ألفاً، وليس قياسُ تخفيفها ذلك، بل بَيْنَ بين، ولمَّا أبدلها ألفاً همزها كما هَمزتِ العربُ نحوك العأْلَمِ، والخَأْتَمِ؛ وقوله: [الرجز]
1281 - وَخِنْدفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ ... وقد تقدَّم تحقيقه في سورة الفاتحة، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ إِنْ شاء اللهُ - تعالى - في قراءة ابن ذكوان: «مِنْسَأْتَه» في سبأ.
وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجهِ، ونحا إلى القياس فقال: ووجهُهُ أنه خفَّفَ الهمزة - يعني بينَ بينَ - فقَرُبَتْ من الألف، والمُقَرَّبة من الألفِ في حكمها؛ ولذلك لا يُبْتَدأُ بها، فلمَّا صارت كالألف، قَلَبها همزةً ساكنةً كما قالوا: خَأْتم وعَأْلم.
والثاني: أن يكُونَ قد استثقَلَ تواليَ الحركاتِ، والهمزةُ حرفٌ يُشبِهُ حرف العلة فتُستثقل عليها الحركة فسُكِّنت لذلك. قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: ويمكنُ أنه سكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ؛ وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزةِ في قول الشَّاعر: [الطويل]
1282 - يَقُولُونَ جَهْلاً لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ ... لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأْنَ رَقُوبُ
يريدُ: وَأَنَا رَقوب، فسكِّنَ همزةَ «أَنَا» بعد الواوِ، وحذف ألف «أنا» وصلاً على القاعدة. قال شهاب الدين: قد نصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال: «ولا يَجُوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزة؛ لأنَّ المفتوح لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفَتْحَةِ» وهذا من أبى الفتح محمولٌ على الغالب، وإلا فقد تقدَّم لنا في قراءة الحسنِ «مَا بَقِي مِنَ الرِّبَا» ، وقبل ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً، حتَّى في الحروفِ الصَّحيحة السَّهلةِ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفلَة؟
قوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء} فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجُلٍ وامرأتين.
والثاني: أنه في محلِّ نصب؛ لأنه نعتٌ لشهيدين. واستضعف أبو حيّان هذين الوجهين قال: «لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن شَهِيدَيْنِ» ، واستضعفَ الثَّاني أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال: للوصف الواقعِ بينهما.
الوجه الثالث: أنه بدلٌ من قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} بتكريرِ العاملِ، والتقدير: «(4/488)
وَاستَشْهِدوا شَهِيدَيْن مِمَّن تَرْضَوْن» ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفه. وكان ينبغي أن يُضعِّفَه بما ضَعَّف وجهَ الصّفة، وهو للفصلِ بينهما، وضعَّفه أبو حيّان بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشَّهيدين الرَّجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا من بَدَلِ البَعْض إن أخذنا «رِجَالكُمْ» على العموم، أو الكلِّ من الكلِّ إن أخذناهم على الخصوصِ، وعلى كلا التّقديرين، فلا ينفي ذلك عمَّا عداه، وأمّا في الوصف فمسلَّمٌ؛ لأنَّ مفهوماً على المختارِ.
الرابع: أن يتعلَّقَ باستشهِدوا، أي: استشهدوا مِمَّنْ ترضَوْن. قال أبو حيان: «ويكون قيداً في الجميعِ، ولذلك جاء مُتَأخّراً بعد الجميعِ» .
قوله: {مِنَ الشهدآء} يجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ من العائدِ المحذوفِ، والتَّقديرُ: مِمَّن تَرْضَونَه حال كونه بعض الشُّهداءِ.
ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ «مِنْ» بإعادةِ العامل، كما تقدَّم في نفسِ {مِمَّن تَرْضَوْنَ} ، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القَوْلينِ في كلِّ منهما.
فصلٌ
قوله {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء} كقوله تعالى في الطلاق: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] وهذه الآية تدلُّ على أَنَّهُ ليس كلُّ أحدٍ يكونُ شاهداً، والفقهاءُ شرطوا في الشَّاهد الَّذي تقبلُ شهادته عشرة شروطٍ: أَنْ يكونَ حُرّاً بالغاً، مسلماً عدلاً، عالماً بما شهد به؛ ولا يجر بتلك الشَّهادة منفعة إلى نفسه، ولا يدفع بها مضرَّة عن نفسه، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلطِ، ولا بترك المُروءةِ، ولا يكُونُ بينه وبين من يشهد عليه عداوة.
وقيل: سبعة: الإِسلامُ، والحريَّةُ، والعقلُ، والبُلُوغُ، والعدالةُ، والمروءةُ وانتفاء التُّهمة.
قوله: {أَنْ تَضِلَّ} قرأ حمزة بكسر «إِنْ» على أنَّها شرطيَّةٌ والباقون بفتحها، على أنَّها المصدريةُ النَّاصبةُ، فأمَّا القراءة الأولى، فجوابُ الشَّرط فيها قوله «فتذكِّرُ» ، وذلك أَنَّ حمزة رَحِمَهُ اللَّهُ يقرأ: «فَتُذَكِّرُ» بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ؛ فصَحَّ أن تكونَ الفاءُ، وما في حيِّزها جواباً للشَّرط، ورَفَعَ الفعل؛ لأَنَّهُ على إضمارِ مبتدأ، أي: فهي تُذَكِّر، وعلى هذه القراءة فجملة الشَّرطِ والجزاءِ هل لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟(4/489)
فقال ابن عطيَّة: إِنَّ محلَّها الرَّفْعُ صفةً «لامْرَأَتَيْن» ، وكان قد تقدَّم أنَّ قوله: «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ» صفةٌ لقوله «فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان» قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فَصَارَ نظيرَ جَاءَني رجُلٌ، وامرأتان عُقَلاَءُ حُبْلَيَان» وفي جواز مثل هذا التّركيب نظرٌ، بل الَّذي تقتضيه الأَقيسة تقديمُ «حُبْلَيَان» على «عُقَلاَء» ؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ «ممَّنْ تَرْضَوْن» بدلٌ من رِجَالِكُم، أو مُتعلِّقٌ باستشهِدُوا، فيتعذَّر جعلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصل بين الصِّفة، والموصوفِ بأجنبيّ. قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وابن عطيَّة لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ، بل سبقه إليه الواحديُّ فإنه قال: وموضعُ الشَّرط وجوابُه رفعٌ بكونهما، وصفاً للمذكورين وهما «امْرَأَتَانِ» في قوله: «فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ» لأنَّ الشَّرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما، كما يُوصَف بهما في قوله: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة} [الحج: 41] .
والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشَّرطية مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحُكْم، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأَنَّ قائلاً قال: ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيب بهذه الجملة.
وأمَّا القراءةُ الثَّانيةُ؛ ف «أَنْ» فيها مصدريَّة ناصبة للفعل بعدها، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ، بخلافها في قراءةِ حمزة، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغام في الثَّانية، مُسَكَّنةٌ للجزم، ولا يُمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ، فحرَّكنا الثَّانية بالفتحة هرباً من التقائِهما، وكانتِ الحركةُ فتحةٌ؛ لأَنَّها أَخَفُّ الحركاتِ، وأَنْ وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذفِ حرفِ الجَرّ، وهي لامُ العِلَّة، والتَّقديرُ: لأن تَضِلَّ، أو إرادة أَنْ تَضِلَّ.
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أَنَّهُ فِعلٌ مضمرٌ دلَّ عليه الكلامُ السَّابق، إذا التَّقديرُ: فاسْتَشْهِدُوا رَجُلاً وامرأتين لئلا تَضِلَّ إِحداهما، ودلَّ على هذا الفعلِ قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} ، قاله الواحديُّ ولا حاجة إليه؛ لأَنَّ الرَّافع لرجُلٍ وامرأتين مُغنٍ عن تقدير شيءٍ آخر، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولك: «فَرَجُلٌ وامرأتان» إذ تقديرُ الأول: فَلْيَشهد رجلٌ، وتقديرُ الثاني: فرجلٌ وامرأتان يشهدُون؛ لأَنْ تَضِلَّ، وهذان التَّقديران هما الوجهُ الثَّاني والثَّالث من الثَّلاثةِ المذكورة. فإن قيل هل جُعِل ضلالُ إِحداهما علَّةً لتطلُّب الإِشهاد أو مراداً لله تعالى، على حسبِ التقديرين المذكورين أولاً؟ وقد أَجابَ سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ وغيرُه بأن الضلالَ لمَّا كان سبباً للإِذكار، والإِذكارُ مُسبِّباً عنه، وهم يُنَزِّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسهما، واتِّصالهما كانت إرادةُ الضَّلال المُسَبَّب عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكار. فكأنه قيل: إرادة أَنْ تُذَكِّر إِحداهما الأخرى إِنْ ضَلَّتْ، ونظيرُه قولُهم: «أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائِطُ فأدعمَه، وأعدْدتُ السَّلاح أن يجيء عدوٌّ(4/490)
فأدفعَه» فليس إعدادُك الخشبة؛ لأَنء يميلَ الحائطُ، ولا إعدادُك السلاح لأن يجيء العدو وإنما للإدغام إذا مال، وللدفع إذا جاء العدو، وهذا مِمَّا يعودُ إليه المعنى ويُهجَرُ فيه جانبُ اللفظ.
وقد ذهب الجرجانيُّ في هذه الآيةِ الكريمة إلى أَنَّ التقدير: مخافةَ أَنْ تَضِلَّ؛ وأنشد قول عمروٍ: [الوافر]
1283 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... فَعَجَّلْنَا القِرَى أَنْ تَشْتِمُونَا
أي: «مخافَةَ أَنْ تَشْتِمُونَا» وهذا صحيحٌ لو اقتصر عليه مِنْ غير أَنْ يُعْطَفَ عليه قوله «فَتُذَكِّرَ» ؛ لأنه كان التَّقديرُ: فاستشهدوا رجلاً وامرأتين، مخافةَ أَنْ تضلَّ إحداهما، ولكنَّ عطفَ قوله: «فَتُذَكِّر» يُفسده، إذا يصيرُ التقديرُ: مخافةَ أَنْ تُذكِّرَ إحداهما الأخرى، [وإذكارُ إحداهما الأخرى] ليس مخوفاً منه، بَلْ هو المقصودُ، وقال أبو جعفرٍ: «سمعتُ عليّ بن سليمان يحكي عن أبي العباس أَنَّ التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ» قال أبو جعفر رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «وهو غلطٌ إذ يصير المعنى: كراهةَ أَنْ تُذَكِّرَ إحداهما الأخرى» .
وذهب الفرَّاء إلى أَن تقدير الآيةِ الكريمة: «كي تذكِّر إِحْدَاهُمَا الأخرى إِنْ ضَلَّت» ، فلمَّا قُدِّم الجزاءُ اتَّصَل بما قبلَه ففُتِحَتْ «أَنْ» ، قال: ومثلُه من الكلام: «إنه ليعجبُني أَنْ يسأل السَّائلُ فيُعْطى» معناه: إنه ليعجبني أَنْ يُعْطَى السَّائلُ إن سَأَلَ؛ لأَنَّه إنما يُعجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ، فلمَّا قدَّموا السُّؤالَ على العطيَّة أصحبوه أن المفتوحة لينكشِفَ المعنى، فعنده «أنْ» في «أَنْ تَضِلَّ» للجزاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ قُدِّم وفُتِح، وأصله التأخير.
وردَّ البصريُّون هذا القول أبلغَ ردٍّ. قال الزّجَّاج: «لَسْتُ أدري لِمَ صارَ الجَزَاءُ [إذا تقدَّم] وهو في مكانهِ وغير مكانه يوجب فتح أن» . وقال الفارسيُّ: ما ذكره الفرَّاءُ دَعوى لا دلالةَ عليها، والقياسُ يُفْسِدها، أَلاَ ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العامل، إذا تغيَّرت حركته؛ لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عملِهِ ولا معناه، كما روى أبو الحسن من فتح اللام الجارَّةِ مع المُظْهر عن يونس، وأبي عُبيدة، وخلف الأَحمرِ، فكما أنَّ هذه اللامَ لمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ، كذلك «إنْ» الجزائيّة ينبغي، إذا فُتِحت أَلاَّ يتغيَّر عملُها ولا معناها، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديم و [لا] بالتأخيرِ، تقول «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ» وتقول: «بزيدٍ مَرَرْتُ» فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها(4/491)
من تأخيرٍ. وأجاب ابن الخطيب فقال هاهنا غرضان:
أحدهما: حُصُولُ الإِشهاد وهذا لا يتأَتَّى إِلاَّ بتذكير إحدى المرأتين.
والثاني: بيانُ تفضيل الرَّجُل على المرأة حتّى يبين أَنَّ إقامة المرأتين مقامَ الرَّجُل الواحد هو العدلُ في القضيَّة، وذلك لا يتأتى إِلاَّ بضلالِ إحدى المرأتين، وإذا كان كُلّ واحد من هذين أعني الإِشهاد، وبيان فضل الرَّجُل على المرأةِ مقصود، فلا سبيلَ إلى ذلك إِلاَّ بإِضلال أَحدهما وتذكر الأخرى، لا جرم صار هذان الأمران مطلُوبين.
فصل
لَمَّا كان النّسيان غالباً على طباع النِّساءِ لِكثرةِ البَرْدِ والرُّطوبة في أمزجتهنَّ؛ أقيمت المرأتان مقام الرَّجل الواحد؛ لأن اجتماع المرأَتين على النِّسيان أبعد في العقل من صُدُورِ النّسيان عن المرأة الواحدة؛ لأَنَّ إحداهما إذا نسيت؛ ذكَّرتها الأخرى، والمراد بالضَّلال هنا النِّسيان قال أبو عُبيدةَ: الضلال عن الشَّهادة إِنَّما هو نسيانها.
قوله: «فَتُذَكِّرَ» وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو: «فَتُذَكِرَ» بتخفيفِ الكافِ، ونصب الرَّاءِ من أَذْكَرْتهُ أي: جَعلُه ذاكراً للشَّيءِ بعد نسيانه، فإِنَّ المراد بالضَّلالِ هنا النسيانُ كقوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] وقال في ذلك الفرزدق: [الكامل]
1284 - وَلَقَدْ ضَلَلْتَ أَبَاكَ يَدْعُو دَارِماً ... كَضَلاَلِ مُلْتَمِسٍ طَريقَ وَبَارِ
فالهمزةُ في «أَذْكَرْتُهُ» للنقلِ والتَّعدية، والفِعلُ قبلها متعدٍّ لواحدٍ؛ فلا بُدَّ من آخر، وليس في الآية مفعولٌ واحدٌ، فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثَّاني، والتقديرُ فتُذْكر إحداهما الأُخرى الشَّهادة بعد نِسيانها إن نَسِيَتْهَا هذا مشهورٌ قول المفسِّرين.
وقد شَذَّ بعضهم قال: مَعْنَى فَتُذَكِّرَ إحداهما الأُخرى أي: فتجعلها ذكراً، أي: تُصَيِّرُ حكمها حكم الذَّكر في قبولِ الشَّهادة وروى الأَصميعُّ عن أبي عمرو بن العلاء قال: «فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى بالتَّشديد فهو من طريقِ التَّذكير بعد النِّسيان، تقولُ لها: هَلْ تَذْكُرين إذ شهدنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ، أو فلانة، ومَنْ قرأ» فَتُذكِرَ «بالتَّخفيف فقال: إذا شهدت المرأةُ، ثم جاءَتِ الأخرى؛ فشهِدَت معها، فقد أَذْكَرَتْها لقيامِها مقامَ ذَكَر» ولم يَرْتَضِ المفسِّرون وأهلُ اللِّسان هذا من أبي عمرو، بل لم يُصحِّحوا رواية ذلك عنه لمعرفتهم بمكانتهِ في العلمِ، ورَدُّوه على قائِلِه من وجوهٍ:(4/492)
منها: أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلة الضَّلالِ المرادِ به النّسيانُ بالإِذكار والتَّذكير، ولا تناسُبَ في المقابلة بما نقل عنه.
ومنها: أنَّ النِّساء لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العددِ لا بدَّ معهنَّ مِنْ رجلٍ، هكذا ذكروا، وينبغي أن يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأَتين، وإلاَّ فقد نجدُ النِّساء يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انْضِمام رجلٍ إِليهنَّ.
ومنها: أَنَّها لَوْ صَيَّرتها ذكراً؛ لكان ينبغي أن يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ، ولا يُقتصَرُ به على ما فيه ماليّةٌ وفيه نظرٌ أيضاً، إذ هو مشتركُ الإِلزامِ لأنه يقال: وكذا إذا فسَّرتموه بالتَّذكير بعد النِّسيان لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها، فما أُجيبَ به فهو جوابُهم أيضاً.
وقال الزمخشريُّ: «ومِنْ بِدَع التَّفَاسِير: [فَتُذَكِّرَ] فتجعلَ إحداهما الأخرى ذكَراً، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر» انتهى. ولم يجعل هذا القول مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخرى.
وأمَّا نصبُ الرَّاء؛ فنسقٌ على «أَنْ تَضِلَّ» ؛ لأَنَّهما يَقْرآن: «أَنْ تَضِلَّ» بأن النَّاصبةِ، وقرأ الباقون بتشديد الكافِ من «ذَكَّرْتُه» بمعنى جعلتُه ذاكِراً أيضاً، وقد تقدَّم أَنَّ حمزة وحده هو الَّذي يرفع الرَّاءَ.
وخرج من مجموع الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ: فحمزةُ وحدَه: بكسرِ «إِنْ» ويشدد الكافِ ويرفع الرَّاء، وابن كثير: بفتح «أنْ» ويخفف الكاف وينصب الرَّاء، والباقون كذلك، إِلاّ أنهم يُشَدِّدون الكافَ.
والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى: أَكْرَمْتُه وكَرَّمته، وفرَّحته وأَفْرَحته. قالوا: والتَّشديد في هذا اللَّفظ أكثرُ استعمالاً مِنَ التَّخفيف، وعليه قوله: [المتقارب]
1285 - عَلَى أَنَّنِي بَعْدَ مَا قَدْ مَضَى ... ثَلاَثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلاً كمِيلاَ
يُذَكِّرُنِيك حَنِينُ العَجُولِ ... ونَوْحُ الحَمَامَةِ تَدْعُو هَدِيلاَ(4/493)
وقرأ عيسى بن عمرو والجحدريُّ: «تُضَلَّ» مبنيّاً للمفعول، وعن الجحدريّ أيضاً: «تُضِلَّ» بضمِّ التَّاء، وكسر الضَّاد من أضلَّ كذا، أي: أضاعهُ، فالمفعول محذوفٌ أي: تُضِلَّ الشَّهادة. وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهدٌ: «فَتَذْكُر» برفع الرَّاءِ، وتخفيف الكافِ، وزيدُ بن أسلمَ «فتُذاكِرُ» من المذاكرة.
وقوله: إحداهما «فاعل،» والأخرى «مفعولٌ، وهذا مِمَّا يجبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعراب، والمعنى نحو: ضَرَب مُوسَى عِيسَى.
قال أبو البقاء: ف» إحداهما «فاعلٌ، و» الأخرى «مفعول، ويصحُّ العكسُ، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النَّحويّين في الإِعراب، لأَنَّهُ إذا لم يظهر الإعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ، وجَبَ تقديمُ الفاعل فيما يُخاف فيه اللَّبسُ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جاز تقديم المفعولِ كقولك:» كَسَرَ العَصَا مُوسَى «، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ، لأنَّ النِّسيان، والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما، بل ذلك على الإِبهامِ، وقد عُلِم بقوله:» فَتُذَكِّرَ «أنَّ الَّتي تُذَكِّر هي الذَّاكرةُ، والتي تُذَكَّر هي النَّاسية، كما علم من لفظ» كَسَر «مَنْ يصحُّ منه الكَسْرُ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل» إِحْدَاهُما «فاعلاً، و» الأُخْرَى «مفعولاً وبالعكس انتهى.
ولمَّا أبهم الفاعل في قوله: «أَنْ تَضِلَّ إحداهما» أَبْهَمَ أيضاً في قوله: «فَتُذَكِّرَ إحداهما» ؛ لأنَّ كلاًّ من المَرْأَتين يجوزُ [عليها ما يجوزُ] على صاحبتها من الإِضلالِ، والإِذكارِ، والمعنى: إن ضلَّت هذه أَذْكَرَتْها هذه، فَدَخَلَ الكلامَ معنى العموم.
قال أبو البقاء: فإنْ قيل: لِمَ يَقُلْ: «فَتُذَكِّرَها الأُخرَى» ؟ قيل فيه وجهان:
أحدهما: أَنَّهُ أَعاد الظَّاهر، ليدلَّ على الإِبهام في الذِّكر والنّسيان، ولو أَضمرَ لتعَيَّن عودُه على المذكور.
والثاني: أنه وضع الظَّاهر موضع المضمرِ، تقديره: «فَتُذَكِّرهَا» وهذا يَدُلُّ على أن «إحداهما» الثانية مفعولٌ مقدمٌ، ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجه؛ لأنَّ المُضَمرَ هو المُظْهَرُ بعينه، والمُظْهَرُ الأول فاعل «تضِلَّ» ، فلو جعل الضَّمير لذلك المظهر؛ لكانت النَّاسيةُ حقاً هي المُذَكِّرَة، وهو مُحالٌ قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وقد يتبادرُ إلى الذهن أنَّ الوجهين راجعان لوجهٍ واحدٍ قبل التأمُّل؛ لأنَّ قوله: «أَعادَ الظَّاهِرُ» قريبٌ من قوله: «وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمر» .
و «إِحْدَى» تأنيثُ «الواحِد» قال الفارسيُّ: أَنَّثُوه على غيره بنائِه، وفي هذا نظرٌ، بل(4/494)
هو تأنيثُ «أحَد» يقابُلونها به في: أحد عشرَ وإحدى عشرة وأحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين، وتُجْمَعُ «إِحْدَى» على «إِحَد» نحو: كِسْرَة وكِسَر.
قال أبو العباس: «جَعَلُوا الألفَ في الإِحْدَى بمنزلةِ التاء في» الكِسْرَة «، فقالوا في جمعها:» إِحَد «؛ كما قالُوا: كِسْرَة وكِسَر؛ كما جعلوا مثلها في الكُبْرَى والكُبَر، والعُلْيا والعُلَى، فكما جعلوا هذه كظُلمة، وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر» قال: «وكَمَا جعلوا الألف المقصُورة بمنزلةِ التَّاءِ فيما ذُكِر؛ وجعلوا الممدودةَ أيضاً بمنزلتها في قولهم» قَاصِعَاء وقَوَاصع «و» دَامَّاء ودَوَامّ «، يعني: أنَّ فاعلة نحو: ضارِبَة تُجمع على ضَوارِب، كذا فاعِلاَء؛ نحو: قاصِعَاء، ورَاهِطَاء تُجْمَعُ على فَوَاعِل؛ وأنشد ابن الأعرابيّ على إحدى وإِحَد قول الشاعر: [الرجز]
1286 - حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إِحْدَى الإِحَدِ ... لَيْثاً هِزَبْراً ذَا سِلاَحٍ مُعْتدِي
قال: يقال: هو إحدى الإِحَدِ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ، وواحدُ الآحادِ، كما يقال: واحدٌ لا مثل له، وأنشد البيت.
واعلَم أنَّ «إِحْدَى» لا تُستعمل إلا مُضَافَةً إلى غيرها؛ فيقال: إِحْدَى الإِحَدِ وإِحْدَاهُما، ولا يقال: جاءَتْني إِحْدى، ولا رأيتُ إِحْدَى، وهذا بخلافِ مذكَّرها.
و «الأُخرى» تأنيث «آخرَ» الذي هو: أَفْعَلُ التَّفضيل، وتكونُ بمعنى آخِرة؛ كقوله تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ} [الأعراف: 38] ، ويُجْمَعُ كلٌّ منهما على «أُخَر» ، ولكنَّ جمع الأُولَى ممتنعٌ من الصَّرفِ، وفي علَّته خلافٌ، وجمعُ الثانية منصرفٌ، وبينهما فرقٌ يأتي إيضاحه إن شاء اللهُ تعالى في الأَعراف.
فصلٌ
أجمع الفقهاءُ على أنَّ شهادة النِّساء جائزةٌ مع الرِّجال في الأموال، حتى يثبت برجُل وامرأتين، واختلفوا في غير الأموال، فقال سُفيانُ الثَّوريُّ وأصحابُ الرَّأي: تجوز شهادتُهُنَّ مع الرِّجال في غير العُقُوباتِ.
وذهب جماعةٌ إلى أَنّ غير المال، لا يثبُتُ إِلاَّ برجلين عدلين وذهب الشَّافعيُّ، وأحمدُ إلى: أنّ ما يطلع عليه النِّساءُ غالباً كالولادة والرّضاع، والثُّيوبة والبكارةِ ونحوها يَثْبُتُ بشهادة رجلٌ وامرأتين، وبشهادة أربع نسوةٍ.
وعن أحمد: يثبت بشهادةِ امرأة عدلٍ، واتَّفَقُوا على أن شهادة النّساء لا تجوز في العُقُوباتِ.(4/495)
فصلٌ
قال القُرطبيُّ: لما جعل اللهُ تعالى شهادة امرأتين بَدَلَ شهادة رجل؛ وجب أن يكون حكمهما حُكْمُه، فكما له أن يخلف مع الشَّاهد عندنا، وعند الشَّافعي، كذلك يجبُ أن يحلف مع شهادةِ امرأتين بمُطْلق هذه العِوضيَّة، وخالف في هذا أبُو حنيفة، وأصحابُهُ، فلم يروا اليمين مع الشَّاهد.
قالوا: لأَنَّ اللهَ تعالى قسم الشَّهادة، وعددها، ولم يذكر الشَّاهد مع اليمين، فلا يجوزُ القضاءُ به؛ لأَنَّهُ يكُونُ قسماً ثالثاً على ما قسَّمه الله، وهذه زيادةٌ على النَّصِّ، فيكون نسخاً، وهذا قولُ الثَّوري، والأوزاعي والحكم بن عُتَيْبَة وطائفة.
قال بعضهم: الحكم باليمين مع الشَّاهد منسوخٌ بالقرآن، وزعم عطاءٌ أنَّ أوَّل من قضى به عبد الملك بن مروان.
وقال الحكم: القضاء باليمين والشَّاهد بدعةٌ، وهو كلُّه غلط، وليس في قوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} الآية ما يرد به قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - باليمين، والشاهد؛ ولا أنَّه لا يتوصل إلى الحقوق إلاَّ بما ذكر فيها لا غير، فإنَّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطَّالب، فإن ذلك يستحقّ به المال إجماعاً، وليس هو في الآية، مع أنَّ الخلفاء الأربعة: قضوا بالشَّاهد واليمين، وقضى به أُبيُّ بن كعبٍ، ومعاوية وشريحٌ وعمر بن عبد العزيز، وكتب به إلى عمَّاله، وإياس بن معاوية، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزّناد وربيعة.
قال مالك: أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم مع ما روى ابن عباس أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قضى بالشَّاهد مع اليمين.
قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء} مفعوله محذوفٌ لفهم المعنى، أي: لا يأبون إقامة الشهادة، وقيل: المحذوف مجرور لأن «أبى» بمعنى امتنع، فيتعدَّى تعديته أي من إقامة الشهادة.
قوله: {إِذَا مَا دُعُواْ} ظرفٌ ل «يَأْبَ» أي: لا يمتنعون في وقت [دَعْوَتهم] لأدائها، أو لإقامتها، ويجوز أن تكون [متمحضةً للظرف، ويجوز أن تكون] شرطيةً والجواب محذوفٌ أي: إذا دُعُوا فلا يأبوا.(4/496)
فصل
في الآية وجوه:
أحدها: أنَّ هذا نهيٌ للشَّاهد عن الامتناع عن أداء الشَّهادة عند احتياج صاحب الحقّ إليها.
الثاني: أراد إذا دُعُوا لتحمل الشَّهادة على الإطلاق، وهو قول قتادة، واختيار القفَّال، قال كما أمر الكاتب ألاَّ يأب الكتابة، كذلك أمر الشَّاهد ألاَّ يأب من تحمل الشَّهادة، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتعلَّق بالآخر وفي عدمها ضياع الحقوق، وسمَّاهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء، وهو أمر إيجابٍ عند بعضهم.
الثالث: المراد تحمّل الشَّهادة إذا لم يوجد غيره، فهو مخير، وهو قول الحسن.
الرابع: قال الزَّجَّاج، وهو مروي عن الحسن أيضاً، وهو قول مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ: المراد مجموع الأمرين التحمُّل أولاً، والأداء ثانياً.
قال الشعبي: الشَّاهد بالخيار ما لم يشهد وقال قومٌ: هو أمر ندب، وهو مخيّر في جميع الأحوال. قال القرطبيُّ: قد يؤخذ من هذه الآية دليلٌ على أنَّه يجوز للإمام أن يقيم للنَّاس شهوداً، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغلٌ إلاَّ تحمل حفظ حقوق النَّاس، وإن لم يكن ذلك؛ ضاعت الحقوق وبطلت.
فصل
قال القرطبيُّ: دلَّت هذه الآية على أنَّ الشَّاهد يمشي إلى الحكم، وهذا أمر بُني الشَّرع عليه، وعمل به في كلّ مكان وزمان، وفهمته كلُّ أمَّةٍ.
وإذا ثبت هذا فالعبد خارجٌ عن جملة الشُّهداء، فيخص عموم قوله: «مِنْ رِجَالِكُمْ» لأنَّه لا يمكنه أن يجيب؛ لأنَّه لا استقلال له بنفسه، فلا يصحُّ له أن يأتي فانحطّ عن منصب الشَّهادة، كما انحطَّ عن منصب الولاية، وكما انحطَّ عن فرض الجمعة وعن الجهاد والحجّ.
قوله: {وَلاَ تسأموا} والسَّأم والسآمة: الملل من الشَّيء والضَّجر منه.
قوله: {أَن تَكْتُبُوهُ} مفعولٌ به إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً تقديره: «ولا تَسْأَمُوا كِتَابَتَه» ، وإن شئت بنزع الخافض والنَّاصب له «تَسْأَموا» ؛ لأنه يتعدَّى بنفسه قال: [الطويل](4/497)
1287 - سَئِمْتُ تَكَالِيف الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلاً لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ
وقيل: بل يتعدَّى بحرف الجرّ، والأصل: من أن تكتبوه، فحذف حرف الجرِّ للعلم به، فيجري الخلاف المشهور في «أَنْ» بعد حذفه، ويدلُّ على تعدِّيه ب «مِنْ» قوله: [الكامل]
1288 - وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ
والهاء: في «تَكْتبوه» يجوز أن تكون للدَّين في أوَّل الآية، وأن تكون للحقّ في قوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق} ، وهو أقرب مذكورٍ، والمراد به «الدَّيْن» وقيل: يعود على الكتاب المفهوم من «تَكْتبوه» قاله الزَّمخشريُّ.
و {صَغِيراً أَو كَبِيرا} حالٌ، أي: على أيّ حالٍ كان الدَّين قليلاً أو كثيراً، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتاب مختصراً، أو مشبعاً، وجوَّز السَّجاونديُّ انتصابه على خبر «كان» مضمرةٌ، وهذا لا حاجة تدعو إليه، وليس من مواضع إضمارها.
وقرأ السُّلميُّ: «وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يَكْتبُوهُ» بالياء من تحت فيهما. والفاعل على هذه القراءة ضمير الشُّهداء، ويجوز أن يكون من باب الالتفات، فيعود: إمَّا على المتعاملين وإمَّا على الكتَّاب.
فصل
والمقصود من الآية الكريمة الحثُّ على الكتابة قلَّ المال، أو كثر، فإنَّ النِّزاع في المال القليل ربَّما أدَّى إلى فسادٍ عظيم، ولجاج شديد.
فإن قيل: هل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر؟
فالجواب: لا، لعدم جريان العادة به.
قوله: {إلى أَجَلِهِ} فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: أن تكتبوه مستقرّاً في الذّمَّة إلى أجل حلوله.
والثاني: أنه متعلِّقٌ بتكتبوه، قاله أبو البقاء. وردَّه أبو حيان فقال: «متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب» تَكْتُبُوهُ «لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدَّين، إذ ينقضي في زمن يسير، فليس نظير: سِرْتُ إلى الكُوفَةِ» .(4/498)
والثالث: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاء، قاله أبو البقاء.
قوله: «ذَلِكم» مشارٌ به لأقرب مذكورٍ وهو الكتب.
وقال القفَّال: إليه وإلى الإشهاد.
وقيل: إلى جميع ما ذكر وهو أحسن. و «أَقْسَطُ» قيل: هو من أقسط إذا عدل، ولا يكون من قسط، [لأن قسط] بمعنى جار، وأقسط بمعنى عدل، فتكون الهمزة للسَّلب، إلا أنه يلزم بناء أفعل من الرباعي، وهو شاذٌّ.
قال الزَّمخشريُّ: «فإن قلتَ ممَّ بني أفعلا التّفضيل - أعني أقسط وأقوم؟ - قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيّين من» أَقْسَطَ «، و» أَقَامَ «وأن يكون» أَقْسَط «من قاسط على طريقة النَّسب بمعنى: ذي قسطٍ؛ و» أَقْوَم «من قويم» . قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعل التّفضيل يبنى من «أَفْعل» ، إنَّما يؤخذ ذلك بالاستدلال، فإنَّه نصَّ في أوائل كتابه على أنَّ «أَفْعَل» للتعجب يكون من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ، فظاهر هذا أن «أَفْعَل» للتعجب يبنى منه أفعل للتَّفضيل، فما جاز في التَّعجُّب، وأفعل التَّفضيل من أفعل على ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتفضيل بين أن تكون الهمزة للنَّقل، فيمتنع، أو لا فيجوز، وعليه يؤوَّل الكلام، أي: كلام سيبويه، حيث قال: «إنه يبنى من أفعل» ، أي: الذي همزته لغير التَّعدية. ومن منع مطلقاً قال: «لم يَقُلْ سيبويه، وأفعل بصيغة الماضي» إنَّما قالها أفعل بصيغة الأمر، فالتبس على السَّامع، يعني: أنه يكون فعل التّعجب على أفعل، بناؤه من فَعَلَ، وفَعِل، وفَعُل، وعلى أَفْعِلْ.
ولهذه المذاهب موضع هو أليق بالكلام عليها.
ونقل ابن عطيَّة أنه مأخوذٌ من «قَسُطَ» بضمِّ السِّين نحو: «أَكْرَمَ» من «كَرُم» . وقيل: هو من القسط بالكسر وهو العدل، وهو مصدر لم يشتقَّ منه فعلٌ، وليس من الإقساط؛ لأنَّ أفعل لا يبنى من «الإِفْعَالِ» . وهذا كله بناء منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجوز والرُّباعيَّ بمعنى العدل.
ويحكى أنَّ سعيد بن جبيرٍ لمَّا سأله الظَّالم [الحجَّاج] بن يوسف: ما تقول فيَّ؟ فقال: «أقولُ إنّك قَاسِطٌ عَادِلٌ» ، فلم يفطن له إلا هو، فقال: إنه جعلني جائراً كافراً، وتلا قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] .
وأمَّا إذا جعلناه مشتركاً بين عدل، وبين جار فالأمر واضحٌ قال ابن القطَّاع: «قَسَط، قُسُوطاً، وقِسْطاً: جار وعَدَل ضِدٌّ» . وحكى ابن السِّيد في كتاب: «الاقْتِضَابِ» له عن ابن(4/499)
السَّكِّيت في كتاب: «الأَضْدَادِ» عن أبي عبيدة: «قَسَطَ: جارَ، وقَسَط، [عَدَل] ، وأقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير» . وقال أبو القاسم الرَّاغب الأصبهاني: «القِسْطُ أَنْ يأخذ قسط غيره، وذلك جورٌ، والإقساط أن يعطي قسطَ غيره، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقول: قَسَط إذا جَارَ، وأقْسَط إذا عَدَل» .
والقسط: اسم، والإقساط مصدر يقال: أقسط فلانٌ في الحكم يقسط إقساطاً، إذا عدل، فهو مقسطٌ.
قال تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] ويقال: هو قاسط إذا جار فقال تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] ، وأمَّا إذا جعلنان مشتركاً بين عدل وبين جار فالأمر واضحٌ.
قال ابن القطَّاع: قَسَطَ قُسُوطاً، وقسطاً: جَارَ، وعَدَلَ ضدٌّ، وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في سورة النساء إن شاء الله تعالى.
قوله: {عِندَ الله} ظرفٌ منصوبٌ ب «أَقْسَط» ، أي في حكمه. وقوله: «وَأَقْوَمُ» إنَّما صحَّت الواو فيه؛ لأنه أفعل تفضيل، وأفعل التَّفضيل يصحُّ حملاً على فعل التَّعجُّب، وصحَّ فعل التَّعجُّب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرُّفه.
و {وَأَقْومُ} يجوز أن يكون من «أَقَامَ» الرُّباعي المتعدِّي؛ لكنَّه حذف الهمزة الزَّائدة، ثمَّ أتى بهمزة [أفعل] كقوله تعالى: {أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى} [الكهف: 12] فيكون المعنى: أثبت لإقامتكم الشهادة، ويجوز أن يكون من «قام» اللازم ويكون المعنى: ذلك أثبت لقيام الشَّهادة، وقامت الشهادة: ثبتت، قاله أبو البقاء.
قوله: {لِلشَّهَادَةِ} متعلِّقٌ ب «أَقْوَم» ، وهو مفعولٌ في المعنى، واللاَّم زائدةٌ ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التَّفضيل إلاَّ لضرورة؛ كقوله: [الطويل]
1289 - ... ... ... ... ... ... ... ..... وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا
وقد قيل: «إشن» القَوانسَ «منصوبٌ بمضمر يدلُّ عليه أفعل التَّفضيل، هذا معنى كلام أبي حيّان، وهو ماشٍ على أنّ» أَقْوَم «من أقام المتعدّي، وأمَّا إذا جعلته من» قَام «بمعنى ثبت فاللاَّم غير زائدة.
قوله: {أدنى أَلاَّ ترتابوا} ، أي: أقرب، وحرف الجرّ محذوفٌ، فقيل: هو اللاَّم أي: أدنى لئلاَّ ترتابوا، وقيل هو» إلَى «وقيل: هو» من «، أي: أدنى إلى ألاّ ترتابوا، وأدنى من ألا ترتابوا. وفي تقديرهم:» مِنْ «نظرٌ، إذ المعنى لا يساعد عليه. و» تَرْتَابُوا «: تفتعلوا من الرِّيبة، والأصل:» تَرْتَيِبُوا «، فقلبت الياء ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها.(4/500)
والمفضَّل عليه محذوفٌ لفهم المعنى، أي: أقسط وأقوم، وأدنى لكذا من عدم الكتب، وحسَّن الحذف كون أفعل خبراً للمبتدأ بخلاف كونه صفةً، أو حالاً. وقرأ السُّلمي:» ألاّ يَرْتَابُوا «بياء الغيبة كقراءة:» وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يكتبُوهُ «وتقدَّم توجيهه.
فصل في فوائد الإشهاد والكتابة
اعلم أنَّ الكتابة، والاستشهاد تشتمل على ثلاث فوائد:
الأولى: قوله: {أَقْسَطُ عِندَ الله} ، أي: أعدل عند الله وأقرب إلى الحقّ.
والثانية: قوله: {أَقْومُ لِلشَّهَادَةِ} ، أي: أبلغ في استقامته التي هي ذد الاعوجاج؛ لأنَّ المنتصب القائم ضدّ المنحني المعوج، وإنَّما كانت أقوم للشَّهادة؛ لأنها سبب للحفظ والذكر، فكانت أقرب إلى الاستقامة.
والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلّق بتحصيل مرضاة الله، والثانية تتعلّق بتحصيل مصلحة الدُّنيا، ولهذا قدمت الأولى عليها؛ لأن تقديم مصلحة الدّين على مصلحة الدُّنيا واجب.
الفائدة الثالثة: قوله: {وأدنى أَلاَّ ترتابوا} يعني أقرب إلى زوال الشَّكِّ والارتياب عن قلوب المتداينين، فالفائدة الأولى إشارة إلى تحصيل مصلحة الدِّين.
والثَّانية: إشارة إلى تحصيل مصلحة الدُّنيا.
والثالثة: إشارة إلى دفع الضَّرر عن النَّفس وعن الغير، أمَّا عن النَّفس فلأنه يبقى في الفكران، أنَّ هذا الأمر كيف كان، وهذا الذي قلت: هل كان صدقاً، أو كذباً، أمَّا عن الغير، فلأنّ ذلك الغير ربَّما نسبه إلى الكذب، فيقع في عقاب الغيبة.
قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} في هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه متَّصل قال أبو البقاء:» والجُمْلَةُ المستثناة في موضع نصبٍ؛ لأنَّه استثناءٌ [من الجنس] لأنه أمرٌ بالاستشهاد في كلِّ معاملةٍ، فالمستثنى منها التجارة الحاضرة، والتَّقدير: إلاَّ في حال حضور التِّجارة «.
والثاني: أنَّه منقطع، قال مكي بن أبي طالبٍ: و» أَنْ «في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع» وهذا هو الظَّاهر، كأنه قيل: لكنّ التّجارة الحاضرة، فإنَّه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها.(4/501)
وقرأ عاصم هنا «تِجَارَةً» بالنَّصب، وكذلك «حَاضِرَةً» ؛ لأنها صفتها، ووافقه الأخوان، والباقون قرءوا بالرَّفع فيهما.
فالرَّفع فيه وجهان:
أحدهما: أنها التامة، أي: إلا أن تحدث، أو تقع تجارة، وعلى هذا فتكون «تُدِيرونها» في محلِّ رفع صفةً لتجارة أيضاً، وجاء هنا على الفصيح، حيث قدَّم الوصف الصريح على المؤول.
والثاني: أن تكون النَّاقصة، واسمها «تِجَارَةٌ» والخبر هو الجملة من قوله: «تُدِيرُونَهَا» كأنه قيل: إلا أنَّ تكون تجارةٌ حاضرةٌ مدارةٌ، وسوَّغ مجيء اسم كان نكرةً وَصْفُه، وهذا مذهب الفراء و [تابعه] آخرون.
وأمَّا قراءة عاصم، فاسمها مضمرٌ فيها، فقيل: تقديره: إلا أن تكون المعاملة، أو المبايعة، أو التجارة. وقدَّره الزَّجاج إلاَّ أن تكون المداينة، وهو أحسن. وقال الفارسيُّ: «ولا يجوز أن يكون [التَّداينُ] اسم كان؛ لأنَّ التَّداين معنًى، والتّجارة الحاضرة يراد بها العين، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى، والتَّداين حقٌّ في ذمة المستدين، للمدين المطالبة به، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون اسم كان لاختلاف التَّداين، والتّجارة الحاضرة» وهذا الرد لا يظهر على الزجاج، لأنَّ التِّجارة أيضاً مصدرٌ، فهي معنًى من المعاني لا عينٌ من الأعيان، وأيضاً فإنَّ من باع ثوباً بدرهم في الذِّمَّة بشرط أن يؤدى الدّرهم في هذه السَّاعة، كان مداينة، وتجارةً حاضرة.
وقال الفارسيُّ أيضاً: ولا يَجُوزُ أيضاً أن يكون اسمها «الحَقُّ» الذي في قوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق} للمعنى الذي ذكرنا في التَّداين، لأنَّ ذلك الحقَّ دينٌ، وإذا لم يجز هذا لم يخل اسم كان من أحد شيئين:
أحدهما: أنَّ هذه الأشياء التي اقتضت من الإشهاد، والارتهان قد علم من فحواها التبايُع، فأضمر التَّبايع لدلالة الحال عليه كما أضمر لدلالة الحال فيما حكى سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ: «إذا كَانَ غَداً فَأتني» ؛ وينشد على هذا: [الطويل]
1290 - أَعَيْنَيَّ هَلاَّ تَبْكِيَانِ عِفَاقَا ... إِذَا كَانَ طَعْناً بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا
أي: إذا كان الأمر.(4/502)
والثاني: أن يكون أضمر التِّجارة؛ كأنه قيل: إلاَّ أن تكون التِّجارة تجارةً؛ ومثله ما أنشده الفرَّاء رَحِمَهُ اللَّهُ: [الطويل]
1291 - فدًى لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي ... إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْهَبَا
وأنشد الزمخشريُّ: [الطويل]
1292 - بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنَا ... إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
أي: إذا كان اليوم يوماً، و «بَيْنَكُم» ظرفٌ لتديرونها.
قوله: «فَلَيْسَ» قال أبو البقاء: «دَخَلَتِ الفَاءُ في» فَلَيْسَ «إيذاناً بتعلُّق ما بعدها بما قبلها» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: هي عاطفةٌ هذه الجملة على الجملة من قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} إلى آخرها، والسَّببيَّة فيها واضحةٌ أي: بسببٍ عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة.
وقوله: {أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} أي: «في أن لا» ، فحذف حرف الجر فبقي في موضع «أَنْ» الوجهان.
فصل
التِّجارة عبارةٌ عن التَّصرُّف في المال سواء كان حاضراً أو في الذِّمَّة لطلب الرِّبح، يقال: تجر الرَّجل يتجر تجارةً، فهو تاجرٌ.
قال النَّوويُّ في «التَّهْذِيبِ» : «ويقال: اتَّجر يتَّجر تجراً، وتجارةً فهو تاجرٌ، والجمع تجار كصاحب، وصحاب، ويقال أيضاً: تجَّار بتشديد الجيم كفاجرٍ، وفجَّارٍ» .
وقال في «المُهَذَّبِ» في آخر «بَابِ زَكَاةِ الزَّرْعِ» يجب العشر والخراج، ولا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر، وزكاة التجارة، فالمتجر بفتح الميم، وإسكان التَّاء، وفتح الجيم، والمراد به المخزون وصرَّح به صاحب «المُهَذَّبِ» في كتابه «الخِلاَفُ» فقال: كأجرة المخزون، وكذا ذكره غيره من أصحابنا.
فصل
وسواء كانت المبايعة بدينٍ، أو بعينٍ، فالتِّجارة تجارةٌ حاضرةٌ فقوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ(4/503)
تِجَارَةً حَاضِرَةً} لا يمكن حمله على ظاهره، بل المراد من التِّجارة ما يتجر فيه من الأبدال، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيدٍ، ومعنى نفي الجناح، أي: لا مضرّة عليكم في ترك الكتابة، ولم يرد نفي الإثم، لأنَّه لو أراد الإثم؛ لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم، ويأثم صاحب الحقّ بتركها، وقد ثبت خلافه، وبيان أنَّه لا مضرَّة عليهم في تركها؛ لأنَّ التِّجارة الحاضرة تقع كثيراً، فلو تكلَّفوا فيها الكتابة، والإشهاد؛ يشقُّ عليهم، وأيضاً فإنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاملين إذا أخذ حقَّه من صاحبه في المجلس؛ لم يكن هناك خوف التَّجاحد، فلا حاجة إلى الكتابة، والإشهاد.
قوله: {وأشهدوا} : هذا أمر إرشاد إلى طريق الاحتياط.
قال أكثر المفسِّرين: إنَّ الكتابة، وإن رفعت عنهم في التِّجارة الحاضرة؛ فلا يرفع الإشهاد؛ لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته.
قوله: {إِذَا تَبَايَعْتُمْ} يجوز أن تكون شرطيةً، وجوابها: إمَّا متقدّم عند قومٍ، وإمَّا محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه تقديره: إذا تبايعتم فأشهدوا، ويجوز أن تكون ظرفاً محضاً، أي: افعلوا الشَّهادة وقت التبايع.
قوله: {وَلاَ يُضَآرَّ} العامَّة على فتح الرَّاء جزماً، ولا ناهيةٌ، وفتح الفعل لما تقدَّم في قراءة حمزة: «إِن تَضِلَّ» . ثمَّ هذا الفعل يحتمل أن يكون مبنيّاً للفاعل، والأصل: «يُضَارِرْ» بكسر الرَّاء الأولى، فيكون «كَاتِب» ، و «شَهِيد» فاعلين نهيا عن مضارَّة المكتوب له، والمشهود له، نهي الكاتب عن زيادة حرف يبطل به حقّاً أو نقصانه، ونهي الشَّاهد عن كتم الشَّهادة، واختاره الزجاج، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال: {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ، ولا شكَّ أنَّ هذا من الكاتب والشَّاهد فسقٌ، ولا يحسن أن يكون إبرام الكاتب والشهيد والإلحاح عليهما فسقاً. لأنَّ اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشَّهادة؛ حتّى يبطل الحقّ بالكليّة أولى منه بمن أضرّ الكاتب والشَّهيد؛ ولأنه تبارك وتعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشَّهادة «
{وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] والإثم والفسق متقاربان وهذا في التَّفسير منقول عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومجاهد وطاوس، والحسن وقتادة. ونقل الدَّاني عن ابن عمر، وابن عبَّاس، ومجاهد، وابن أبي إسحاق أنهم قرءوا الرَّاء الأولى بالكسر، حين فكُّوا.
ويحتمل أن يكون الفعل فيها مبنيّاً للمفعول، والمعنى: أنَّ أحداً لا يُضَارِرُ الكاتب ولا الشَّاهد، ورجَّح هذا بأنه لو كان النَّهي متوجِّهاً للكاتب والشّهيد لقال: «وإِنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما» ، ولأنَّ السياق من أول الآيات إنما هو للمكتوب له والمشهود له بأن يودّهما(4/504)
ويمنعهما من مهمَّاتها، وإذا كان خطاباً للذين يقدمون على المداينة، فالمنهيُّون عن الضِّرار هم، وهذا قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وابن مسعود. ونقل الداني أياضً عن ابن عمر وابن عباس ومجاهد أنهم قرءوا الراء الأولى بالفتح. فالآية عندهم محتملةٌ للوجهين ففسروا وقرءوا بهذا المعنى تارةً وبالآخر أخرى.
وقرأ أبو جعفر، وعمرو بن عبيدٍ: «ولا يُضارَ» بتشديد الرّاء ساكنةً وصلاً، وفيها ضعفٌ من حيث الجمع بين ثلاث سواكن، لكنَّه لمَّا كانت الألف حرف مدٍّ؛ قام مدُّها مقام حركةٍ، والتقاء السَّاكنين مغتفرٌ في الوقف، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك.
وقرأ عكرمة: «ولا يُضَارِرْ كَاتِباً وَلاَ شَهِيداً» بالفكِّ، وكسرِ الراءِ الأولى، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق، ونَصْب «كاتباً» ، و «شهيداً» على المَفْعُول به، أي: لا يضارِرْ صَاحِبُ حقٍّ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكِتَابَة والشهادةِ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز.
وقرأ ابن محيصن: «ولا يُضارُّ» برفع الرَّاء، وهو نفيٌ فيكون الخبر بمعنى النهي كقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 197] .
وقرأ عكرمة في رواية مقسم: «ولا يُضارِّ» بكسر الرَّاء مشدَّدةً على أصل التقاء الساكنين. وقد تقدَّم تحقيقُ هذه عند قوله: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] .
قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ} ، أي: تفعلوا شيئاً ممَّا نهى الله عنه، فحذف المفعول به للعلم به. والضّمير في «فإنَّهُ» يعود على الامتناع، أو الإضرار. و «بِكُمْ» متعلّقٌ بمحذوفٍ، فقدَّره أبو البقاء: «لاحِقٌ بِكُم» ، وينبغي أن يقدَّر كوناً مطلقاً؛ لأنه صفةٌ ل «فُسُوق» ، أي: فسوق مستقرٌّ بكم، أي: ملتبسٌ بكم ولاحق بكم.
قوله: {واتقوا الله} ، يعني: فيما حذَّر منه هاهنا، وهو المضارة، أو يكون عاماً، أي: اتَّقوا الله في جميع أوامره، ونواهيه.
قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الله} يجوز في هذه الجملة الاستئناف - وهو الظَّاهر - ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل في «اتَّقوا» قال أبو البقاء: «تقديره: واتقوا الله مضموناً لكم(4/505)
التَّعليم، أو الهداية، ويجوز أن تكون حالاً مقدَّرة» . قال شهاب الدين: وفي هذين الوجهين نظرٌ، لأنَّ المضارع المثبت لا تباشره واو الحال، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤوَّل، لكن لا ضرورة تدعو إليه ههنا.
فصل
المعنى: يعلمكم ما يكون إرشاداً، أو احتياطاً في أمر الدُّنيا، كما يعلِّمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدِّين، {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، أي: عالم بجميع مصالح الدُّنيا، والآخرة.(4/506)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
قوله: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ} .
قال أهل اللُّغة (س ف ر) تركيب هذه الحروف للظُّهور، والكشف، والسفر هو الكتاب؛ لأنه يبيِّن الشيء ويوضحه، وسمي السِّفر سفراً؛ لأنَّه يسفر عن أخلاق الرِّجال، أي: يكشف، أو لأنه لمّا خرج من الكن إلى الصَّحراء فقد انكشف للنَّاس؛ أو لأنه لمَّا خرج إلى الصَّحراء فقد صارت أرض البيت منكشفةً خاليةً، وأسفر الصُّبح: إذا ظهر، وأسفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته، وسفرت عن القوم أسفر سفارة، أي: كشفت ما في قلوبهم، وسفرت أُسفر، أي: كنست، والسَّفر: الكنس، وذلك لأنك إذا كنست، فقد أظهرت ما كان تحت الغبار، والسّفر من الورق ما سفر به الرِّيح، ويقال لبقية بياض النَّهار بعد مغيب الشَّمس سفر لوضوحه.
فصل في بيان وجه النَّظم
اعلم أنَّه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام:
بيع بكتاب وشهود، وبيع برهن مقبوضة، وبيع بالأمانة، ولما أمر في آخر الآية المتقدّمة بالكتاب، والإشهاد، وأعلم أنَّه ربما تعذَّر ذلك في السَّفر إمَّا ألاَّ يوجد الكاتب، أو إن وجد لكنَّه لا توجد آلات الكتابة، ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرَّهن، فهذا وجه النَّظم، وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد.
قوله: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها عطفٌ على فعل الشَّرط، أي: «وَإِنْ كُنْتُم» ، {وَلَمْ تَجِدُواْ} فتكون في(4/506)
محلِّ جزمٍ لعطفها على المجزوم تقديراً.
والثاني: أن تكون معطوفةً على خبر «كان» ، أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتباً.
والثالث: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال، فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلّ نصبٍ.
والعامة على «كاتباً» اسم فاعل. وقرأ أُبي ومجاهدٌ، وأبو العالية: «كِتاباً» ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّه مصدرٌ أي ذا كتابة.
والثاني: أنه جمع كاتبٍ، كصاحبٍ وصحاب. ونقل الزمخشريُّ هذه القراءة عن أُبيّ وابن عبَّاسٍ فقط، وقال: «وَقَالَ ابْنُ عباس: أرأيت إن وَجَدْتَ الكاتب، ولم تجد الصَّحيفة والدَّواة» . وقرأ ابن عباس والضَّحَّاك: «كُتَّاباً» على الجمع [اعتباراً] بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ. وقرأ أبو العالية: «كُتُباً» جمع كتاب، اعتباراً بالنَّوازل، قال شهاب الدين: قول ابن عباس: «أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتَ الكَاتِبَ ... إلخ» ترجيحٌ للقراءة المرويَّة عنه واستبعادٌ لقراءة غيره «كاتباً» ، يعني أن المراد الكتاب لا الكاتب.
قوله: {فَرِهَانٌ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فيكفي عن ذلك رهنٌ مقبوضةٌ.
الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ، أي: فرهن مقبوضة تكفي.
الثالث: أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالوثيقة، أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضةٌ.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرٍو: «فَرُهُنٌ» بضم الرَّاء، والهاء، والباقون «فَرِهَانٌ» بكسر الرَّاء وألف بعد الهاء، روي عن ابن كثير، وأبي عمرو تسكين الهاء في رواية.
فأمَّا قراءة ابن كثير، فجمع رهن، وفَعْلٌ يجمع على فُعُلٍ نحو: سَقْف وسُقُف. ووقع في أبي البقاء بعد قوله: «وسَقْف وسُقُف. وأسَد وأُسُد، وهو وهمٌ» ولكنَّهم قالوا: إنَّ فعلاً جمع فعل قليل، وقد أورد منه الأخفش ألفاظاً منها: رَهْن ورُهُن،(4/507)
ولَحْد القبر، ولُحُد، وقَلْب النَّخلة، وقُلُب، ورجلٌ ثَطٌّ وقومٌ ثُطٌّ، وفرس وَرْدٌ، وخيلٌ وُرُدٌّ، وسَهمٌ حَشْرٌ وَسِهَامٌ حُشُرٌ. وأنشد أبو عمرو حجةً لقراءته قول قعنب: [البسيط]
1293 - بَانَتُ سُعَادُ وأَمْسَى دُونَها عَدَنُ ... وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَبْلِكَ الرُّهُنُ
وقال أبو عمرو: «وإنما قرأت فرُهُن للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع» رَهْن «في غيرها» ومعنى هذا الكلام أنما اخترت هذه القراءة على قراءة «رهَان» ؛ لأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك كما ذكر دون اتِّباع روايةٍ.
واختار الزَّجَّاج قراءته هذه قال: «وَهَذِه القِرَاءَة وافَقَت المصحف، وما وافق المصحف وصحَّ معناه، وقرأ به القرَّاء فهو المختار» . قال شهاب الدين: إن الرسم الكريم «فرهن» دون ألفٍ بعد الهاء، مع أنَّ الزَّجَّاج يقول: «إنَّ فُعُلاً جمع فَعْلٍ قليلٌ» ، وحكي عن أبي عمرو أنه قال: «لا أَعْرِفُ الرَّهان أكثر، والرِّهان في الخيل أكثر» وأنشدوا أيضاً على رَهْنٍ ورُهُن قوله: [الكامل]
1294 - آلَيْتُ لاَ نُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا ... رُهُناً فيُفْسِدُهُمْ كَمَنْ قَدُ أَفْسَدَا
وقيل: إنَّ رُهُناً جمع رهان، ورهان جمع رَهْن، فهو جمع الجمع، كما قالوا في ثمار جمع ثمر، وثُمر جمع ثمار، وإليه ذهب الفراء وشيخه، ولكنَّ جمع الجمع غير مطرَّدٍ عند سيبويه وجماهير أتباعه.
وأمَّا قراءة الباقين «رِهان» ، فرهان جمع «رَهْن» وفعل وفعال مطردٌ كثير نحو: كَعْب، وكِعَاب، وكَلْب وكِلاَب، ومَنْ سَكَّن ضمة الهاء في «رُهُن» فللتخفيف وهي لغةٌ، يقولون: سُقْفٌ في سُقُف جمع سَقْفٍ.
والرَّهنُ في الأصل مصدر رهنت، يقال: رهنت زيداً ثوباً أرهنه رهناً أي: دفعته إليه رهناً عنده، قال: [الوافر]
1295 - يُرَاهِنُنِي فَيَرْهَنُنِي بَنِيهِ ... وأَرْهَنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ
وأرهنت زيداً ثوباً، أي: دفته إليه ليرهنه، ففرَّقوا بين فعل وأفعل. وعند الفرَّاء رهنته وأرهنت بمعنى، واحتجَّ بقول همَّامٍ السَّلوليِّ: [المتقارب](4/508)
1296 - فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكاً
وأنكر الأصمعيُّ هذه الرِّواية، وقال إِنَّما الرَّواية: «وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا» والواو للحال؛ كقولهم: «قَمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ» وهو على إضمار مبتدأ.
وقيل: أرْهَنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتّى أخذها بكثير الثَّمن، ومنه قوله: [البسيط]
1297 - يَطْوِي ابنُ سَلْمَى بِهَا مِنْ رَاكِبٍ بُعْداً ... عِيديَّةً أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَايِيرُ
ويقال: رَهنتُ لساني بكذا، ولا يُقال فيه «أَرْهَنْتُ» ثم أُطْلق الرَّهنُ على المرهون من باب إطلاق المصدرِ على اسم المفعول كقوله تعالى: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] ، و «درهَمٌ ضَرْبُ الأَمِير» ، فإذا قلت: «رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً» فرهناً هنا مصدرٌ فقط، وإذا قلت «رهنْتُ زيداً رَهْناً» فهو هنا مفعولٌ به؛ لأن المراد به المرهونُ، ويُحتملُ أن يكونَ هنا «رَهْناً» مصدراً مؤكداً أيضاً، ولم يذكرِ المفعول الثَّاني اقتصاراً كقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} [الضحى: 4] .
و «رَهْن» مِمَّا استغني فيه بجمعِ كثرته عن جمع قلَّته، وذلك أنَّ قياسه في القلةِ أفعل كفلس، وأفلسُ، فاستُغنيَ برَهن ورِهان عن أرَهنُ.
وأصل الرَّهن: الثُّبوت والاستقرارُ يقال: رهن الشَّيءُ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر، ونعمةٌ راهنةٌ، أي: دائمة ثابتة، وأنشد ابن السَِّكِّيت: [البسيط]
1298 - لاَ يَسَفِيقُونَ مِنْهَا وَهْيَ رَاهِنَةٌ ... إِلاَّ بهَاتِ وَإِنْ نَهِلُوا
ويقال: «طَعَامٌ رَاهِنٌ» أي: مُقيمٌ دائمٌ؛ قال: [البسيط]
1299 - الخُبْزُ واللَّحْمُ لَهُمْ رَاهِنٌ..... ... ... ... ... ... ... ...
أي: دائمٌ مستقرٌّ، ومنه سُمِّي المرهونُ «رَهْناً» لدوامِه واستقراره عند المُرتهِن.
فصل في إثبات الرهن في الحضر والسفر
جمهورُ الفُقهاء على أَنَّ الرهن في الحضرِ، والسَّفر سواءٌ، وفي حال وجود الكاتب، وعدمهِ، وذهب مجاهِدٌ: إلى أَنَّ الرهنَ لا يجوزُ إِلاَّ في السقر؛ لظاهر الآية، ولا عمل عليه، وإِنَّما قيدت الآيةُ بالسفر؛ لأَنَّ الغالبَ في السفرِ عدمُ الكاتِب؛ فهو(4/509)
كقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] وليس الخوفُ من شرط جواز القصرِ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ رهن دِرْعَهُ عند أَبِي الشَّحم اليهوديِّ ولم يكن ذلك في سفرٍ.
قوله: {فَإِنْ أَمِنَ} قرأ أُبي فيما نقله عنه الزَّمخشريُّ «أُومِنَط مبنيّاً للمفعول، قال الزَّمخشريُّ: أي:» أَمِنَه الناسُ وَوَصَفُوا المَدْيُونَ بالأمانةِ والوفاءِ «قلت: وعلامَ تنتصبُ بَعْضاً؟ والظاهرُ نصبه بإسقاطِ الخافض على حذف مضافٍ، أي: فإن أُومِنَ بعضُكم على متاعٍ بعضٍ، أو على دينِ بعضٍ.
وفي حرف أُبيّ:» فَإِن اؤْتُمِنَ «يعني: وإن كان الذي عليه الحقُّ أَمِيناً عند صاحب الحقِّ؛ فلم يرتهن منه شيئاً؛ لحسن ظنه به.
قوله: {فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} إذا وُقِفَ على الَّذِي، وابتُدىءَ بما بعدها قيل:» اوتُمِنَ «بهمزةٍ مضمومةٍ، بعدها واوٌ ساكنةٌ، وذلك لأنَّ أصله اؤْتُمِنَ؛ مثل اقتُدر بهمزتين: الأُولى للوصل، والثَّانية فاءُ الكلمة، ووقعت الثانيةُ ساكنةً بعد أُخرى مثلها مضمومةً؛ فوجب قَلْبُ الثانية لمُجانس حركة الأُولى، فقلت: اوتُمِنَ؛ فأمَّا في الدَّرج، فتذهبُ همزةُ الوصل؛ فتعودُ الهمزةُ إلى حالها؛ لزوالِ موجب قلبها واواً، بل تُقلبُ ياءً صريحةً في الوصلِ؛ في رواية ورشٍ.
ورُوي عن عاصم:» الَّذِي اؤْتُمِنَ «برفع الأَلف ويُشير بالضَّمَّةِ إلى الهمزةِ، قال ابن مجاهدٍ:» وهذه الترجمةُ غلطٌ «ورَوَى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضَّمَّ، وفي الإِشارة، والإِشمام المذكُورَين نظرٌ.
وقرأ عاصمٌ أيضاً في شاذِّه: «الَّذِي اتُّمِنَ» بإِدغام الياء المبدلة من الهمزة في تاءِ الافتعال، قال الزمخشريُّ: قياساً على: «اتَّسَرَ» في الافتعال من اليُسْر، وليس بصحيح؛ لأَنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ، فهي في حُكمِ الهمزةِ، واتَّزر عامِّيٌّ، وكذلك «رُيَّا» في «رُؤْيَا» .
قال أبو حيَّان: وَمَا ذَكَرهُ الزمخشريُّ فيه: أَنَّهُ ليس بصحيح، وأَنَّ «اتَّزَرَ» عامِّيٌّ - يعني أنه مِنْ إِحداث العامَّةِ لا أصلَ له في اللغة - قد ذكره غيره أنَّ بعضهم أَبدلَ، وأدْغَمَ: «اتَّمَنَ واتَّزَرَ» وأنَّ لغةٌ رديئةٌ، وكذلك «رُيَّا» في رُؤْيَا، فهذا التشبيهُ إمَّا أَنْ يعودَ على قوله: «واتَّزَرَ عَامِّيٌّ» ، فيكون إدغام «رُيَّا» عَامِّيًّا، وإمَّا أن يعود إلى قوله «فَلَيْسَ بِصَحِيح»(4/510)
أي: وكذلك إدغامُ «رُيَّا» ليس بصحيحٍ، وقد حكى الكِسائيُّ الإدغام في «رُيَّا» .
وقوله: {أَمَانَتَهُ} يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشَّيءِ المُؤْتَمَنِ عليه؛ فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقوله: «فَلْيُؤَدِّ» ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلها، وتكونَ على حذفِ مضافٍ، أي: فليؤدِّ دين أَمانتهِ، ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبة على مصدرِ اؤْتمنَ، والضَّمير في «أَمَانَتَهُ» يُحْتَمَلُ أَنْ يعودَ على صاحب الحقِّ، وأَنْ يعودَ على {الذي اؤتمن} .
فصلٌ
هذا هو القِسْمُ الثّالث مِنَ البياعاتِ المذكورة في الآية، وهو بيعُ الأمانة، أعني: ما لا يكون فيه كتابةٌ، ولا شهودٌ، ولا يكونَ فيه رهنٌ.
يقال: «أَمِنَ فُلاَنٌ غَيْرَهُ» إذا لم يخف منه.
قال تعالى: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ} [يوسف: 64] فقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} أي: لم يخف خيانتهُ وجحودَه للحقِّ {فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} أي: فليؤدِّ المديونُ الذي كان أميناً، ومؤتمناً في ظنِّ الدَّائن - أمانتَهُ، أي: حقَّهُ، كأنه يقولُ: أَيّها المديُونُ، أنتَ أمينٌ، ومُؤْتمن في ظنِّ الدَّائِن، فلا تخلف ظنَّه، وأدِّ إليه أمانتَهُ، وحقه، يقالك أَمِنتُه، أو ائْتَمَنْتُه، فهو مأمونٌ، ومُؤْتَمَنٌ، {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} أي: يتق اللهَ، ولا يجحدُ، لأن الدَّائن لمَّا عامله المعاملة الحسنة؛ حينئذٍ عَوَّل على أَمانته، ولم يُطَالبه بالوثائق من الكتابة، والإِشهاد، والرهنِ؛ فينبغي لهذا المديُون أنْ يتَّقِي الله، ويعامله أَحسنَ معاملة، بأن لا يُنكر الحقَّ، ويؤديه إليه عند حلول الأَجل.
وقيل: إنه خطابٌ للمرتَهِن بأن يُؤَدِّي الرهنَ عند استيفاءِ المالِ، فإنه أمانةٌ في يده.
فصلٌ
قال بعضهم: هذه الآيةُ ناسخةٌ للآياتِ المتقدمةِ الدالَّةِ على وجوب الكتابة، والإِشهادِ، وأخذ الرهن.
واعلم أَنَّ التزام وقُوع النسخِ من غير دليلٍ يُلجئُ إليه خطأٌ.
[بل] تلك الأَوامِرُ محمولةٌ على الإِرشاد، ورعاية الاحتياط، وهذه الآيةُ محمولةٌ على الرخصة.
وعن ابن عباسٍ، أنه قال: ليس في آية المداينة نسخٌ.
قوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} وفيه وجوهٌ:
الأول: قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ ُ -: إنه تعالى لما أباحَ تركَ الكتابةِ والإِشهادِ، والرهنِ عند اعتقادِ أمانة المديونِ، ثم كان من الجائز أَنْ يكون المديونُ خائِناً جاحداً(4/511)
للحقِّ، وكان من الجائزِ أيضاً أن يكون بعضُ الناسِ مُطّلعاً على أحوالهم، فهاهنا ندب اللهُ ذلك المطلع إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف صاحبُ الحق تلك الشهادة، أم لا، وشدَّد فيه بأن جعله آثِمَ القلبِ بكتمانها.
وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ» .
الثاني: أَنَّ المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة، ونظيره قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} [البقرة: 140] والمرادُ الجُحودُ وإنكارُ العِلْمِ.
الثالث: كِتمانُ الشهادة: هو الامتناع مِنْ أدَائها عند الحاجة إلى إقامتها، كما تقدَّمَ في قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة: 282] ؛ لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة صار كالمبطل لحقه، وحُرمة مال المسلم كحُرمةِ دمه، فلهذا بالغَ في وعيده.
وقرأ أَبُو عَبدِ الرحْمَن «وَلاَ يَكْتُمُوا» بياءِ الغيبةِ؛ لأن قَبْلَهُ غَيْباً وهم مَنْ ذُكر في قوله: «كَاتِبٌ ولا شهيد» .
قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} في هذا الضمير وجهان:
أحدهما: أنه ضميرُ الشأنِ، والجملةُ بعدَه مفسِّرٌ له.
والثاني: أنه ضميرُ «مَنْ» في قوله: «ومَنْ يَكْتُمْهَا» وهذا هو الظاهرُ.
وأمَّا «آثِمٌ قَلْبُهُ» ففيه أوجهٌ:
أظهرها: أنَّ الضميرَ في «إِنَّهُ» ضميرُ «مَنْ» و «آثِمٌ» خبرُ «إِنَّ» ، و «قَلْبُهُ» فاعلٌ ب «آثِمٌ» ، نحو قولك: «زَيْدٌ إِنَّهُ قَائِمٌ أَبُوهُ» ، وعَمَلُ اسم الفاعل هنا واضحٌ؛ لوجودِ شروطِ الإِعمال، ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأنِ؛ لأنَّ ضميرَ الشأن لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، واسمُ الفاعلِ مع فاعله عند البصريِّين مفردٌ، والكوفيُّون يُجيزون ذلك.
الثاني: أن يكون «آثِمٌ» خبراً مقدَّماً، و «قَلْبُهُ» مبتدأٌ مؤخراً، والجملةُ خبرَ «إِنَّ» ، ذكره الزمخشريُّ وأبو البقاء وغيرهما وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيِّين؛ لأنه لا يعودُ عندهم الضَّميرُ المرفوعُ على متأخِّرٍ لفظاً، و «آثِمٌ» قد تحمَّل ضميراً، لأنه وقع خبراً؛(4/512)
وعلى هذا الوجه: فيجوزُ أن تكونَ الهاءَ ضميرَ الشأ، وأَنْ تكونَ ضميرَ «مَنْ» .
والثالث: أن يكونَ «آثِمٌ» خبرَ «إِنَّ» ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في «إِنَّهُ» ، و «قَلْبُهُ» بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كُلٍّ.
الرابع: [أن يكونَ] «آثمٌ» مبتدأً، و «قَلْبُهُ» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، والجملةُ خبرُ «إِنَّ» ، قاله ابن عطية، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين؛ لأنَّه لا يعملُ عندهم اسمُ الفاعل، إلا إذا اعتمد على نفي، أو استفهام؛ نحو: ما قائِمٌ أَبَوَاكَ، وهَلْ قائِمٌ أَخَوَاكَ؟ وَمَا قَائِمٌ قَوْمُكَ، وَهَلْ ضَارِبٌ إِخْوَتُكَ؟ وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين، والأخفشِ من البصريِّين؛ إذ يجيزانِ: قائمٌ الزَّيدانِ، وقائِمٌ الزَّيدُونَ، فكذلك في الآية الكريمة.
وقرأ ابن عبلة: «قَلْبَهُ» بالنصب، نسبها إليه ابن عطيَّة.
وفي نصبه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه بدلٌ من اسم «إِنَّ» بدلُ بعض من كلٍّ، ولا محذورَ في الفصلِ [بالخبر - وهو آثِمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه، كما لا محذورَ في الفصل] به بين النعتِ والمنعوتِ، نحو: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ العَاقِلُ مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ؛ بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه؛ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبدلِ منه.
الثاني: أنه منصوبٌ على التشبيه بالمفعولِ به؛ كقولك: «مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهَهُ» ، وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ:
فمذهب الكوفيين: الجواز مُطْلَقاً، أعني نظماً ونَثْراً. ومذهبُ المبرد المنع مطلقاً، ومذهب سيبويه: منع في النثر، وجوازه في الشعرِ، وأنشد الكسائي على ذلك: [الرجز]
1300 - أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَّاتِهَا ... مُدَارَةَ الأَخْفَافِ مُجْمَرَّاتِهَا
غُلْبَ الرِّقَابِ وَعَفْرْنِيَّاتِهَا ... كُومَ الذُّرَى وَادِقَةَ سُرَّاتِهَا
ووجه ضعفه عند سيبويه في النثر تكرار الضمير.
الثالث: أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكيٌّ وغيره؛ وضعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً، وهذا عند البصريِّين، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه، ومنه عندهم: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] و {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] ؛ وأنشدوا قوله: [الوافر](4/513)
1301 - إِلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلاَءٍ ... لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ
وقرأ ابن أبي عيلة - فيما نقل عنه الزمخشريُّ - «أَثَّمَ قَلْبَهُ» جعل «أَثَمَّ» فعلاً ماضياً مشدَّد العين، وفاعله مستترٌ فيه، و «قَلْبَهُ» مفعول به، أي: جعل قلبه آثِماً، أي: أَثِمَ هو؛ لأنه عَبَّر بالقلبِ عن ذاتِه كلِّها؛ لأنه أشرفُ عضوٍ فيها. وهو، وإِنْ كان بلفظِ الإِفراد، فالمرادُ به الجمعُ، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن، فجمع في قوله: «وَلاَ يَكْتُمُوا» .
وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على أنواع من البديع: منها: التجنيسُ المغايرُ في «تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ» ، ونظائره، والمماثلُ في قوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا} ، والطباقُ في «تَضِلَّ» و «تُذَكِّرَ» و «صَغِيراً وكَبِيراً» ، وقرأ السُّلمِيُّ أيضاً: «واللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ» بالغَيبَة؛ جرياً على قراءته بالغَيْبَة.
و «الآثم» : الفاجرُ رُوِيَ أَنَّ عمر كان يُعلِّمُ أَعرابيّاً {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} [الدخان: 43، 44] فكان يقول: «طَعَامُ اليَتِيم» فقال له عُمرُ: طعام الفاجِرِ، وهذا يدلُّ على أَنَّ الإِثم يكون بمعنى الفجورِ. قيل: ما وعد اللهُ على شيءٍ كإيعاده على كتمان الشهادة؛ قال: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وأراد به مسخ القلب؛ نعوذُ بالله من ذلك.
وقوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تحذيرٌ من الإِقدامِ على الكِتمانِ؛ لأنَّ المكلَّفَ إذا علم أَنَّ الله تعالى لا يعزُبُ عن عِلْمِه ضميرُ قلبه، كان خائِفاً حذراً من مُخالفة أَمرِ اللهِ تعالى.(4/514)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
في كيفية النَّظم وجوه:
الأول: قال الأَصمّ: إنه تعالى لمَّا جمع في هذه السُّورة أشياءَ كثيرةً مِنْ علم الأُصُول: من دلائل التَّوحيدِ، والنُّبوةِ، والمعادِ، وبيان الشَّرائِع، والتكاليف؛ كالصلاةِ(4/514)
والزكاةِ، والصومِ، والحجِّ، والقِصَاصِ، والجهادِ، والحيضِ، والطَّلاَقِ، والعِدَّةِ، والصَّدَاقِ، والخُلعِ، والإِيلاءِ، والرَّضَاعةِ، والبيع، والرِّبَا، وكيفيَّةِ المُداينةِ - ختم هذه السورة بهذه الآية على سبيل التَّهديد.
قال ابن الخطيب: لمَّا كان أكملُ الصفاتِ هو العلم والقدرة عبَّرَ عن كمالِ قُدْرته بقول {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} مِلكاً ومُلْكاً، وعبَّرَ عن كمال علمه، وإِحاطته بالكُلِّيَّاتِ، والجُزْئِيَّاتِ بقوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} ، وإذا اختصَّ بكمال العلم، والقُدرة، فكل من في السموات والأرض عبيدٌ مربوبون له، وجدوا بتخليقه، وتكوينه، وهذا غاية الوعدِ للمطيعين، ونهايةُ الوعيد للمذنبين، ولهذا ختم السورة بهذه.
الثاني: قال أبو مسلم: إنه تعالى لمَّا نزَّل في آخر الآية المتقدِّمة: «إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ» ، ذكر عقيبهُ ما يجرِي مجرى الدليل العقلي فقال: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ومعنى هذا الملك أَنَّ هذه الأشياء لمَّا كانت محدثةً، فقد وجدت بتكوينه؛ وإبداعه، ومن أتقن هذه الأفعال العجيبة الغريبة المشتملةِ على الحِكم المُتكاثرة؛ والمنافع العظيمة، فلا شَكَّ أَنَّ ذلك مِنْ أعظم الأَدِلَّة على كونه عالماً مُحيطاً بأجزائها.
الثالث: قال القاضي: إنه تعالى لمَّا أمر بهذه الوثائِق - أعني الكتابة، والإِشهادَ، والرهنَ، وكان المقصودُ من الأَمر بها صيانة الأَموالِ، والاحتياط في حفظها - بيَّن تعالى أن المقصودَ من ذلك إنما يرجع لمنفعة الخلقِ، لا لمنفعةٍ تعُودُ إليه سبحانه، فإنَّ له مُلْكَ السَّموات، والأَرضِ.
الرابع: قال الشعبيُّ، وعكرمةُ، ومجاهدٌ: إنه تعالى لما نهى عن كِتمان الشهادة، وأَوعد عليه، بيَّن أَنَّ له مُلك السمواتِ، والأَرضِ؛ فيجازِي على الكِتْمانِن والإِظهارِ.
فصلٌ في بيان سبب النُّزُول
قال مقاتلٌ: نزلت فيمن يتولَّى الكافرين من المؤمنين، يعني: وإن تُعْلِنُوا ما في أَنفُسِكُم من ولاية الكُفَّار، أو تُسِّروه، يُحَاسِبكُم به الله، كما ذكر في سورة آل عمران(4/515)
{لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ} [آل عمران: 28] ، إلى أن قال: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} [آل عمران: 29] .
وذهب الأَكثرُون إلى أنَّها عامَّةٌ.
فصلٌ
رُوِي عن ابن عبَّاسٍ؛ أنه قال: لمَّا نزلت هذه الآية، «جاء أبو بكرٍ وعمرُ، وعبدُ الرَّحمن بن عوف، ومعاذ، وناسٌ إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم بركُوا على الرَّكبِ، فقالوا: يا رسُول اللهِ، كُلِّفنا من الأَعمالِ ما نُطيقُ؛ الصلاةُ، والصِّيامُ، والجِهَادُ، والصَّدَقَةُ، وقد أُنزِلت عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُهَا، إنَّ أَحدنا ليُحدِّثُ نفسهُ بما لا يحبّ أن يثبتَ في قلبهِ وإنَّ له الدُّنيا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْل الكِتابينِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بل قولوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ»
فَلمَّا قرأها القومُ، ذلَّتْ بهم أَنفُسُهُم، فأنزل الله في إثرها {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} [البقرة: 285] فمكَثُوا في ذلك حولاً، واشتدَّ ذلك عليهم، فأَنزل اللهُ - تعالى - {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فَنَسَخَتْ هذه الآية، فقال النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُم مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ» .
قال ابن مسعود، وابن عبَّاسٍ، وابن عمر: هذه الآية منسوخةٌ، وإليه ذهب محمَّد بن كعبٍ القرظيّ؛ ويدُلُّ عليه ما رَوَى أَبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» .(4/516)
وقال آخرون: الآية من باب الخبر، والنَّسخُ لا يتطرَّق إلى الأخبارِ، إنما يرِدُ على الأمرِ والنَّهي، وقوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} خبر، وهؤلاء ذكرُوا في الآيةِ وجُوهاً:
الأول: أن الخواطر الواردة على النَّفس قسمان:
منها: ما يعزمُ على فعله وإيجاده، فيكون مؤاخذاً به؛ لقوله - تعالى -: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] ، وقال بعد هذه الآية: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] ، وقال: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] .
ومنها: ما يخطر بالبالِ مع أَنَّ الإنسان يكرهُهَا ولا يمكنه دفعها، فهذا لا يُؤاخذُ به.
الثاني: أن كُلَّ ما كان في القلب ممَّا لا يدخُل في العملِ؛ فإنه في محلِّ العفوِ.
وقوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} فالمرادُ منه أن يوجد ذلك العمل، إمَّا ظاهراً وإمَّا خُفيَةً، وأمَّا ما يُوجدُ في القلبِ من العزائم والإراداتِ، ولم تتَّصِل بعمل، فذلك في محلِّ العفو.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأن أكثر المُؤاخذاتِ إنَّما تكون بأفعالِ القُلُوبِ؛ ألا ترى أنَّ اعتقادَ الكُفْرِ والبدَع إِلاَّ مِنْ أَعمال القُلُوبِ، وأعظم أَنواع العِقَابِ مُتَرتِّبٌ عليه.
وأيضاً: فأفعالُ الجوارح إذا خلت عن أفعال القُلُوبِ، لا يترتَّب عليها عقابٌ؛ كأفعال النَّائِمِ والسَّاهي.
الثالث: قال الحسن: كُلُّ من أسرَّ عملاً أو أَعْلَنهُ من حركةٍ من جوارحه، أو همَّةٍ في قلبه، إِلاَّ يُخْبرُه الله به ويُحاسبُه عليه، ثم يغفِر ما يشاءُ ويُعذِّب من يشاء؛ لأن الله - تعالى - أَثبت للقلبِ كسباً؛ فقال: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] .
الرابع: أن الله - تعالى - يُحاسِبُ خلقهُ بجميع ما أَبدوا من أعمالهم أو أخفوهُ، ويُعاقِبُهُم عليه، غير أنَّ معاقبَتَهُ على ما أَخفوهُ ممَّا يعملُوه هو ما يحدث لهم في الدُّنيا من الهَمِّ والغَمِّ والمصائِبِ، والأُمُور التي يحزنزن عليها.
روى الضَّحَّاك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: قالت: سألت رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما حدَّث العبد به نفسهُ من شرٍّ كانت مُحاسبةُ الله - تعالى - عليه، فقال: «يا عائشة، هذه مُعاتَبةُ الله - عزّ وجلّ - العبد بما يُصيبُهُ من الحُمَّى والنّكبة، حتَّى الشَّوكة والبضاعة يضعُهَا(4/517)
في كُمِّهِ فيفقدها فيرُوعُ لها فيجِدُها في ضِبْنه حتَّى إنَّ المؤمن ليخرُجُ من ذُنُوبه؛ كما يخرج التَّبرُ الأحمرُ من الكِبر.»
وعن أنس بن مالكٍ، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الشَّرَّ أَمْسَك عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوافِيَهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
فإن قيل: كيف تحصل المُؤَاخذةُ في الدُّنيا مع قوله: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] .
قلنا: هذا خاصٌّ، فيُقدَّمُ على ذلك العامِّ.
الخامس: أنه - تعالى - قال: «يُحَاسِبْكُم» ولم يَقُل «يُؤَاخِذْكُم» وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومُحَاسباً وجوهاً كثيرة، ومن جملتها كونه عالماً بها، فيرجعُ معنى الآية إلى كونه عالماً بكُلِّ ما في الضَّمائر والسَّرائر.
والمرادُ من المُحاسبة: الإِخبار والتَّعريفُ.
ومعنى الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَافِي أَنْفُسِكُمْ فتعملُوا به أَوْ تُخْفُوهُ ممَّا أضمرتم ونويتم، يحاسبكم به الله، ويُخبركم به، ويُعرفكم إيَّاه ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله، ويعذِّب الكافرين إظهاراً لعدلِهِ.
وهذا معنى قول الضَّحَّاك، ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ يدلُّ عليه أَنَّهُ قال: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} ولم يَقُلْ: «يُؤَاخِذْكُمْ» ، والمُحاسبةُ غير المُؤَاخذة.
ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ أنه - تعالى - إذا جمع الخلائق يُخْبَرهم بما كان في نفوسهم، فالمُؤْمِنُ يُخبِرهُ ويعفو عنه، وأهل الذُّنُوب يُخبرهم بما أَخفوا من التَّكذِيب والذَّنب روى صفوان بن محرز قال: كُنتُ آخِذاً بيد عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فأتاهُ رجلٌ، فقال: كيف سمعتَ رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول في النَّجوى؟ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «(4/518)
إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُه من النَّاسِ، فيقُولُ: أي عَبْدِي، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فيقولُ: نَعَمْ أي ربِّ، ثم يقُول: أي رَبِّ، حتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قال: فَإِنِّي قد سترتُها عليك في الدُّنيا وقد غَفَرْتُهَا اليَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ [بِيَمِينِهِ] ، وأَمَّا الكافِرُ والمُنَافِقُ فَيقُولُ الأَشهادُ هؤلاءِ الَّذِين كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» .
السادس: أنه - تعالى - قال: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} فيكون الغُفرانُ لمن كان كارِهاً لورُودِ تلك الخواطِرِ، والعَذَابُ إن كان مُصِرّاً على تِلك الخواطِرِ مستحسِناً لها.
السابع: المراد كتمان الشَّهادة؛ وهذا ضعيفٌ، لعُموم اللَّفظ.
قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ} : قرأ ابن عامر وعاصمٌ برفع «يَغْفِرُ» و «يُعَذِّبُ» ، والباقون من السبعةِ بالجزم، وقرأ ابن عباس والأعرجُ وأبو حيوة: «فَيَغْفِرَ» بالنصب.
فأمَّا الرفعُ: فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فهو يَغْفِرُ.
والثاني: أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ، عُطِفت على ما قبلها.
وأمَّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم.
وأمَّا النصبُ: فبإضمار «أَنْ» ، وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهِّم من الفعلِ قبل ذلك، تقديره: تكنْ محاسبةُ، فغفرانٌ، وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجه الثلاثة، وهو: [الوافر]
1302 - فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبيعُ النَّاسِ وَالبَلَدُ الحَرَامُ
ونَأْخُذْ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَامُ(4/519)
بجزم: «نَأْخُذْ» عطفاً على «يَهْلِكْ رَبِيعُ» ونصبه ورفعِه، على ما ذُكِرَ في «فَيَغْفِرْ» وهذه [قاعدة مطَّرِدة، وهي أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جاز فيه هذه] الأوجُهُ الثلاثةُ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ، جاز جزمه ونصبه وامتنع رفعه، نحو: إِنْ تَأْتِنِي فَتَزُرْنِي أَوُ فَتَزُورَنِي، أَوْ وَتَزُرْني أَوْ تَزُورَنِي.
وقرأ الجعفي وطلحة بن مصرِّف وخلاَّد: «يَغْفِرْ» بإسقاط الفاء، وهي كذلك في مصحف عبد الله، وهي بدلٌ من الجواب؛ كقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب} [الفرقان: 68 - 69] . وقال أبو الفتح: «وهي على البدلِ من» يُحاسِبْكُمْ «، فهي تفسيرٌ للمحَاسَبَة» قال أبو حيان: «وليس بتفسيرٍ، بل هما مترتِّبان على المُحَاسَبَةِ» . وقال الزمخشريُّ: «ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة، الحساب؛ لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّل، فهو جارٍ مجرى بدل البعض من الكلِّ أو بدل الاشتمال؛ كقولك:» ضَرَبْتُ زَيْداً رَأْسَهُ «و» أَحْيَيْتُ زَيْداً عَقْلَهُ «، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ؛ لحاجةِ القبلتينِ إلى البيان» .
قال أبو حيان: وفيه بعضُ مناقشةٍ: أمَّا الأولُ؛ فقوله: «معنَى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ» ، ولس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ؛ لأنَّ الحِسَابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئاتِه وحصرُها، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المُحاسَبَة، فليست المحاسبةُ مفصَّلةٌ بالغفرانِ والعذابِ. وأمَّا ثانياً؛ فلقوله بعد أَنْ ذكر بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال: «وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ لحاجةِ القبيلَين إلى البيان» ، أمَّا بدلُ الاشتمال، فهو يمكن، وقد جاءَ؛ لأنَّ الفعلَ يدُلُّ على الجنسِ، وتحته أنواعٌ يشتملُ عليها، ولذلك إذا وقع عليه النفيُ، انتفَتْ جميعُ أنواعه، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ، فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤَ؛ فلا يقال في الفعلِ له كلٌّ وبعضٌ، إلا بمجازٍ بعيدٍ، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يستحِيلُ وجودُ [بدل] البعضِ من الكلِّ في حق الله تعالى؛ إذ الباري لا يتقسَّم ولا يتبعَّض.
قال شهاب الدين: ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرة والعذابِ تفسيراً، أو تفصيلاً للحساب، والحسابُ نتيجتُه ذلك، وعبارةُ الزمخشريِّ هي بمعنى عبارة ابن جنِّي، وأمَّا قوله: «إِنَّ بدلَ البعضِ من الكلِّ في الفعْلِ متعذِّرٌ، إذ لا يتحقَّق فيه تجزُّؤٌ» ، فليس بظاهرٍ؛ لأنََّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعه، فإنَّ الجنسَ كلٌّ، والنوعَ(4/520)
بعضٌ، وأمَّا قياسُه على الباري تعالى، فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلام الزمخشريُّ ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال: وقرأ الأعمش: «يَغْفِر» بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من «يُحَاسِبْكُمْ» ؛ كقوله: [الطويل]
1303 - مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعد ذلك؛ كما تقدَّم حكايتُه عنه؛ لأن البيت قد أُبدِلَ فيه من فعلِ الشرط، لا من جوابِه، والآية الكريمة قد أُبْدِلَ فيها من نفسِ الجواب، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له.
وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام، والباقون بإظهارها، وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ [عنه] ، وورشٌ عن نافع، والباقون بالإِدغام، وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرٍو؛ لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت:» كيف يَقْرأ الجَازِمُ «؟ قلت: يُظْهِر الراءَ، ويُدْغِم الباء، ومُدْغِمُ الراءِ في اللام لاحِنٌ مخطىءٌ خطأً فاحِشاً، وراويه عن أبي عمرٍو مخطىءٌ مرتين؛ لأنه يَلْحَنُ وينسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يُؤذِنُ بجهلٍ عظيم، والسببُ في هذه الروايات قِلَّةُ ضبطِ الرواة، وسبب قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية، ولا يَضْبطُ نحو هذا إلا أهلُ النَّحو» قال شهاب الدين. وهذا من أبي القاسم غيرُ مرضيٍّ؛ إذ القُرَّاء معتنُونَ بهذا الشأن؛ لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ [بعد الحَرْفِ] ، فكيف يقلُّ ضبطُهُم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعيِّ، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللام والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتُها، والأقوى لا يدغم في الأضعَف، وهذا مَذهبُ البصريِّين: الخليل وسيبويه ومَنْ تبعهما، وأجاز ذلك الفراءُ والكسائيُّ والرُّؤاسيُّ ويعقوبُ الحضرميُّ ورأسُ البصريِّين أبو عمرو، وليس قوله: «إن هذه الرواية غلطٌ علَيْه» بمُسَلَّم، ثم ذكر أبو حيان نقولاً عن القراء كثيرةٌ، وهي منصوصة في كتبهم، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً؛ فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته، [وكيف] يقال: إنَّ الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطىءٌ مرتين، ومن جملة رُواتِهِ اليزيديُّ إمامُ النَّحو واللغةِ، وكان يُنازعُ الكسائيُّ رئاسته، ومحلُّهُ مشهُور بين أهلِ هذا الشَّأْن.(4/521)
روى طاوُس عن ابنِ عبَّاس: «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ» الذَّنب العَظِيم «ويُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ على الذَّنْبِ الصَّغِير، لا يُسْأَلَ عمَّا يَفْعَل وهُمْ يُسْأَلُون، واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير» .
قوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قد بيَّن بقوله تعالى: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أنه كامل الملك والمَلَكُوتِ، وبيَّن بقوله: {إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} أنه كامل العِلْمِ والإحاطةِ، ثم بيَّن بقوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أنه كامِل القُدْرة، مُسْتَولٍ على كل المُمكِنَات بالقَهرِ والقُدرة والتَّكوين والإِعدام، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفات، يجبُ على كُلِّ عاقِلٍ أن يكون عَبْداً له مُنْقَاداً خاضِعاً لأوامرهِ ونواهِيهِ.(4/522)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
في كيفية النَّظم وجوهٌ:
الأول: لما بيَّن في الآيةِ المتقدِّمة كمال المُلْكِ والعلم والقُدرةِ له - تعالى -، وأنَّ ذلك يوجب كمال صفة الرُّبُوبيَّة، أَتْبَع ذلك ببيان كون المؤمن في نهاية الانقياد والطَّاعة والخُضُوع لله - تعالى -، وذلك هو كمالُ العُبُوديَّة.
الثاني: أنه - تعالى - لَمَّا قال: {إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284] وبيَّن أنه لا يخفى عليه من سِرِّنا وجهرنا شيءٌ أَلبتَّة، ذكر عقيب ذلك ما يَجْرِي مُجْرَى المَدْحِ لنا؛ فقال: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون} كأنَّهُ بفضله يقول: عبدي، أنا وإن كُنْتُ أعلم جميع أحوالِك، فلا أَذكُرُ مِنها إِلاَّ ما يكون مدحاً لك، حتى تَعْلَمَ أَنِّي الكامِلُ في العِلم والقُدْرَة، فأنا كامِلٌ في الجُودِ والرَّحْمَةِ، وفي إِظهارِ الحسناتِ، وفي السَّتْرِ على السَّيِّئَاتِ.
الثالث: أنه بَدَأَ السُّورة بمدح المُتَّقين {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] بيَّن في آخر السُّورة أنَّ الَّذِين مدحهُم في أوَّل السُّورة هم أُمَّةُ محمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: {والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} وهذا هو المراد بقوله في أَوَّل السُّورة: {يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] ، ثم قال هَهُنا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} وهو المراد بقوله أَوَّل السُّورة: {وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] ثم(4/522)
حكى عنهم هَهُنَا كيفيَّة تضرُّعِهِمِ في قولهم: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ ... } [البقرة: 286] إلى آخر السُّورَة، وهو المراد بقوله أَوَّل السورة: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] .
فصلٌ في بيان سبب النُّزُول
قال القرطبيُّ: سبب نزول هذه الآية: الآيةُ الَّتِي قبلها، وهو قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284] فإنه لمَّا نزل هذا على النَّبيِّ صلى الله عليه سولم اشتدَّ ذلك على أصحابِ رسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم بَرَكُوا على الرُّكب، فقالوا: أي رسولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذْ كُلِّفْنَا من الأَعمالِ ما نُطِيق؛ الصَّلاة والصِّيام والجِهَادُ، وقد أُنزِل عليكَ هذه الآيُ ولا نُطِيقُهَا، فقال رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكِتَابَيْنِ من قَبْلِكُمْ: سَمِعنَا وعَصَيْنَا، بل قولُوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ» فلما قَرَأَها القومُ وذَلَّت بها أنْفُسُهْم، أَنزَل اللهُ في إِثرها {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} إلى قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} فلما فعلُوا ذلك، نسخَها اللهُ، فأنزلَ اللهُ
{لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] قال: نعم، {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم {واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} قال: نعم أخرجهُ مسلمٌ، عن أبي هُرَيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -
فصلٌ
معنى قوله: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} : أنه عَرَفَ بالدَّلائل القاهرة؛ أن هذا القُرْآن وجُملة ما فيه من الشَّرائع والأَحكامِ مُنزَّلٌ من عِندِ الله - تعالى -، وليس من إلقاء الشَّيَاطين ولا السِّحر والكهانة، بل بما ظَهر من المُعجزات على يد جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
وقوله: {والمؤمنون} فيه احتمالان:
أحدهما: أَنَّهُ يَتِمُّ الكلامُ عند قوله - تعالى - {والمؤمنون} ، فيكُونُ المعنى: آمَن الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ بما أُنزِل إِلَيهم من ربِّهم، ثم ابتدأ [بعد] ذلك بقوله: {كُلٌّ آمَنَ بالله} والمعنى: كُلُّ أحَدٍ من المذكُورين وهم الرَّسُول والمُؤْمِنُون آمَنَ بالله.
والاحتمال الثَّاني: أن يتمَّ الكلامُ عند قوله: {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} ثم يَبْتَدِىءُ(4/523)
{المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله} ويكون المعنى: أن الرَّسول آمَنَ بكُلِّ ما أُنزلَ إليه من ربِّه، وأمَّا المُؤْمِنُونَ فإِنَّهم آمَنُوا بالله ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ.
فالوجه الأول يشعر بأنه - عليه السَّلام - ما كان مؤمناً بِرَبِّه، ثم صار مُؤْمِناً به، ويَحْتمِلُ عدم الإِيمان إلى وقت الاستدلالِ.
وعلى الوجه الثاني يُشْعِر اللَّفظُ بأنَّ الَّذِي حدث هو إيمانُهُ بالشَّرائع التي نَزَلَتْ عليه؛ كما قال - تعالى - {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] فأمَّا الإِيمانُ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ على الإِجمال، فقد كان حاصلاً منذُ خُلِقَ من أَوَّل الأَمْرِ، وكيف يُسْتَبْعَدُ ذلك مع أَنَّ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - حين انفصَلَ عن أُمِّهِ، قال {إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب} [مريم: 30] فإذا لم يَبْعُد أن يكُونَ عيسى رسولاً من عند اللهِ حين كان طِفْلاً، فكيف يُستبعد أن يقال: إن محمَّداً كان عارفاً بربِّه من أَوَّل [مَا] خُلِقَ كامل العقلِ.
فصلٌ
دلَّت الآية على أنَّ الرَّسُول آمَنَ بما أُنزِل إليه من رَبِّه، والمؤْمِنُون آمَنُوا بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وإنما خُصَّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - بذلك؛ لأنَّ الذي أُنزِل إليه من رَبِّه قد يكُونُ كلاماً مَتْلُوّاً يسمعهُ الغير ويعرِفُه، فيمكنُه أن يؤمن به، وقد يكون وحياً لا يعلمُه فيكونُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُختصّاً بالإيمان به، ولا يتمكَّنُ غيره من الإِيمان به، فلهذا السَّبب كان الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مختصّاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره.
قوله تعالى: {والمؤمنون} : يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مرفوعٌ بالفاعلية عطفاً على «الرَّسُول» - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيكونُ الوقفُ هنا، ويدُلُّ على صحَّةِ هذه قراءةُ عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: «وَآمَنَ المُؤْمِنُونَ» ، فأَظْهَرَ الفعلَ، ويكون قوله: «كُلٌّ آمَنَ» جملةً من مبتدأ وخبر يدُلُّ على أنَّ جميع مَنْ تقدَّم ذكره آمَنَ بما ذكر.
والثاني: أن يكون «المُؤْمِنُونَ» مبتدأٌ، و «كلٌّ» مبتدأ ثانٍ، و «آمَنَ» خبرٌ عن «كُلّ» وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأوَّل؛ وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه، وهو محذوفٌ، تقديرُه: «كُلٌّ مِنْهُمْ» وهو كقولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَم» ، تقديرُه: مَنَوَانِ مِنْهُ، قال الزمخشريُّ: «والمؤمنُونَ إن عُطِفَ على الرسول، كان الضّميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في» كُلّ «راجعاً إلى» الرَّسُول «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - و» المُؤْمِنُونَ «أي: كلُّهم آمَنَ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ من المذكورين. ووُقِفَ عليه، وإن كان مبتدأً كان الضميرُ للمؤمنين» .(4/524)
فإن قيل: هل يجوزُ أَنْ يكون «المُؤْمِنُونَ» مبتدأ، و «كُلٌّ» تأكيد له، و «آمَنَ» [خبر هذا] المبتدأ؟ فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنهم نَصُّوا على أَنَّ «كُلاًّ» وأخواتها لا تقعُ تأكيداً للمعارف، إلا مضافةٌ لفظاً لضميرِ الأولِ، ولذلك ردُّوا قولَ مَنْ قال: إِنَّ كُلاًّ في قراءة مَنْ قَرَأَ: {إِنَّا كُلاًّ فِيهَآ} [غافر: 48] تأكيدٌ لاسم «إِنَّ» وقرأ الأَخَوان هنا «وَكِتَابِهِ» بالإِفراد، والباقون بالجمعِ، وفي سورة التحريم [آية12] قرأ أبو عمرو وحفصٌ عن عاصم بالجَمْع، والباقون بالإفراد، فتلخّصَ من ذلك أنَّ الأخوين يَقْرَآن بالإِفراد في الموضعين، [وأنَّ أبا عمرو وحفصاً يقْرآن بالجمعِ في الموضعَيْن] ، وأنَّ نافعاً وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصمٍ قَرَءُوا بالجمع هنا، وبالإِفرادِ في التحريم.
فأمَّا الإِفرادُ، فإنه يُراد به الجنسُ، لا كتابٌ واحدٌ بعينه، وعن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «الكتَابُ أكثرُ من الكُتُب» قال الزمخشريُّ: فإنْ قلت: كيف يكون الواحدُ أكثرَ من الجمعِ؟ قلت: لأنه إذا أُريد بالواحدِ الجنسُ، والجنسيةُ قائمةٌ في وحداتِ الجنس كُلِّها، لَمْ يَخْرُج منه شيءٌ، وأمَّا الجمعُ، فلا يَدْخُل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجُمُوع. قال أبو حيان: «وليس كما ذكر؛ لأنَّ الجمعَ متى أُضيفَ، أو دَخَلَتْه الألفُ واللامُ [الجنسية] ، صارَ عامّاً، ودلالةُ العامِّ دلالةٌ على كلِّ فردٍ فردٍ، فلو قال:» أَعْتَقْتُ عَبِيدِي «، لشمل ذلك كلَّ عَبْدٍ له، ودلالةُ الجمعِ أظهرُ في العموم من الواحدِ، إلاَّ بقرينةٍ لفظيَّةٍ، كأَنْ يُسْتَثْنَى منه أو يوصفَ بالجمع؛ نحو: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ}
[العصر: 2 - 3] «أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ والدِّرْهَمُ البِيضُ» أو قرينةٍ معنويةٍ؛ نحو: «نِيَّة المُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ» وأقصى حالِهِ: أن يكونَ مثل الجمعِ العامِّ، إذا أريد به العموم «. قال شهاب الدِّين: للناس خلافٌ في الجمع المحلَّى بأَلْ أو الضمافِ: هل عمومُه بالنسبةِ إلى مراتبِ الجموعِ، أم إلى أعمَّ من ذلك، وتحقيقُه في علم الأُصُول. وقال الفارسيُّ: هذا الإِفرادُ ليس كإفراد المصادر، وإن أريدَ بها الكثيرُ؛ كقوله تعالى: {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14] ولكنه كما تُفْرَدُ الأسماءُ التي يُرَاد بها الكثرةُ، نحو: كَثُرَ الدِّينَارُ والدِّرهمُ، ومجيئها بالألف واللام أكثرُ من مجيئها مضافةً، ومن الإِضافةِ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وفي الحديث:» مَنَعَتِ العِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا «يُراد به الكثيرُ، كما يُراد بما فيه لامُ التعريف. قال أبو حيان:» انتهى(4/525)
ملخصاً، ومعناه أنَّ المفرد المحلَّى بالألفِ واللام يعُمُّ أكثر من المفرد المُضافِ «.
قال شهاب الدين: وليس في كلامه ما يدُلُّ على ذلك ألبتةَ، إنما فيه أنَّ مجيئها في الكلامِ معرَّفةً بأَلْ أكثرُ من مجيئها مضافةً، وليس فيه تَعَرُّضٌ لكثرةِ عمومٍ ولا قِلَّتِهِ.
وقيل: المرادُ بالكتابِ هنا القرآن؛ فيكونُ المرادُ الإِفراد الحقيقيَّ. وأمَّا الجمعُ، فلإِرادةِ كلِّ كتابٍ؛ إذْ لا فرق بين كتابٍ وكتابٍ، وأيضاً؛ فإنَّ فيه مناسبةً لَما قبلَه وما بعدَه من الجمعِ.
ومَنْ قرأ بالتَّوحيد في التحريم، فإنما أراد به الإِنجيل؛ كإرادة القرآن هنا، ويجوزُ أن يُرادَ به أيضاً الجِنْسُ، وقد حَمَلَ على لفظ» كُلّ «في قوله:» آمَنَ «فَأَفْرد الضمير، وعلى معناه، فجمع في قوله:» وَقَالُوا سَمِعْنَا «، قال الزمخشريّ: ووحَّد ضمير» كُلّ «في» آمَنَ «على معنى: كُلُّ واحدٍ منهم آمَنَ، وكان يجوزُ أن يُجْمَعَ؛ كقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] .
وقرأ يحيى بن يعمر - ورُويت عن نافع -» وكُتْبِهِ وَرُسْلِهِ «بإسكان العين فيهما، ورُوي عن الحسن وأبي عمرو تسكين سين» رُسْلِهِ «.
فصلٌ
دلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ معرفة هذه المراتب الأربع من ضرورات الإيمان: فالمرتبة الأولى: هي الإيمانُ بالله - سبحانه - بأنَّهُ الصَّانع القادِرُ العالِمُ بجميع المعلومات، الغنيُّ عن كُلِّ الحاجات.
والمرتبة الثانية: الإِيمانُ بالملائكة؛ لأَنَّه - سبحانه - إنَّما يُوحِي إلى الأَنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بواسطة الملائكة، قال: {يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] ، وقال: {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} [الشورى: 51] وقال: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 - 194] ، وقال: {شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] ، وإذا ثبت أنَّ وحي اللهِ إنَّما يصلُ إلى البشر بواسطة الملائكة، فالملائكة واسطةٌ بين اللهِ وبيْن البشرِ؛ فلهذا السَّبب ذكر الملائكة في المرتبة الثانية، ولهذا قال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط}
[آل عمران: 18] .
والمرتبة الثالثة: الكُتُب؛ وهو الوَحْي الذي يتلقَّاهُ الملك من اللهِ - تعالى -، ويُوصِلُه إلى البشر، فلمَّا كان الوَحْيُ هو الَّذِي يتلقَّاهُ المَلَكُ من اللهِ؛ فلهذا السَّبَب جُعِلَ في المرتبة الثالثة.(4/526)
المرتبة الرابعة: الرسُلُ؛ وهم الَّذِين يأخذُون الوَحْيَ من الملائكة، فيكونون متأخِّرين عن الكتب؛ فلهذا جعلُوا في المرتبة الرابعة.
قوله: {لاَ نُفَرِّقُ} هذه الجملة منصوبةٌ بقولٍ محذوف، تقديره: «يقولون: لا نُفَرِّقُ» ، ويجوز أن يكون التقدير: «يَقُولُ» يعني يجوز أن يراعى لفظ «كُلّ» تارةً، ومعناها أخرى في ذلك القول المقدَّر، فمن قدَّر «يَقُولُونَ» ، راعى معناها ومن قدَّر «يَقُولُ» ، راعى لفظها، وهذا القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحال، ويجوز أن يكون في محلِّ رفعٍ؛ لأنه خبر بعد خبر، قاله الحوفيُّ.
والعامَّة على «لاَ نُفَرِّقُ» بنون الجمع.
وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب - ورويت عن أبي عمرو أيضاً - «لا يُفَرِّقُ» بياء الغيبة؛ حملاً على لفظ «كُلّ» ، وروى هارون أنَّ في مصحف عبد الله «لا يُفَرِّقُونَ» بالجمع؛ حملاً على معنى «كُلّ» ؛ وعلى هاتين القراءتين، فلا حاجة إلى إضمار قولٍ، بل الجملة المنفية بنفسها: إمَّا في محلِّ نصب على الحال، وإمَّا في محلّ رفعٍ خبراً ثانياً؛ كما تقدَّم في ذلك القول المضمر.
قوله: {بَيْنَ أَحِدٍ} متعلِّقٌ بالتفريق، وأضيف «بَيْنَ» إلى أحد، وهو مفرد، وإن كان يقتضي إضافته إلى متعدد؛ نحو: «بَيْنَ الزَّيْدَيْنِ» أو «بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو» ، ولا يجوز «بَيْنَ زَيْدٍ» ، ويسكت - إمَّا لأنَّ «أَحَداً» في معنى العموم، وهو «أَحَد» الذي لا يستعمل إلا في الجحد، ويراد به العموم؛ فكأَنَّه قيل: لا نفرِّق بين الجميع من الرسل، قال الزمخشريُّ: كقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ، ولذلك دخل عليه «بَيْنَ» وقال الواحدي: و «بَيْنَ» تقتضي شيئين فصاعداً، وإنما جاز ذلك مع «أَحَدٍ» ، وهو واحدٌ في اللفظ؛ لأنَّّ «أَحَداً» يجوز أن يؤدِّي عن الجميعِ؛ قال الله تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] وفي الحديث: «مَا أُحِلَّت الغَنَائِمُ لأَحَدٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْركُمْ» ، يعني: فوصفه بالجمع؛ لأنَّ المراد به جمعٌ، قال: وإنَّما جاز ذلك؛ لأنَّ «أَحَداً» ليس كرجل يجوز أن يثنَّى ويجمع، وقولك: «مَا يَفْعَلُ هَذَا أَحَدٌ» ، تريد ما يفعله الناس كلُّهم، فلما كان «أَحَد» يؤدَّى عن الجميع، جاز أن يستعمل معه لفظ «بَيْنَ» ، وإن كان لا يجوز أن تقول: «لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْهُمْ» .
قال شهاب الدين: وقد ردَّ بعضهم هذا التأويل؛ فقال: وقِيلَ إنَّ «أَحَداً» بمعنى «جميع» ، والتقدير: «بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ» ويبعد عندي هذا التقدير، لأنه لا ينافي كونهم مفرِّقين بين بعض الرسل، والمقصود بالنفي هو هذا؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا(4/527)
يفرّقون بين كلِّ الرسل، بل البعض، وهو محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ فثبت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ، بل معنى الآية: لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ من رسله، وبين غيره في النبوَّة.
فصل
قال شهاب الدين: وهذا وإن كان في نفسه صحيحاً، إلا أنَّ القائلين بكون «أَحَد» بمعنى «جميع» ، وإنما يريدون في العموم المصحِّح لإضافة «بَيْنَ» إليه؛ ولذلك ينظِّرونه بقوله تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} [الحاقة: 47] ، وبقوله: [الرجز]
1304 - إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِيكَتْ دَوْكَا ... لاَ يَرْهَبُونَ أَحَداً رَأَوْكَا
فقال: «رَأَوْكَ» ؛ اعتباراً بمعنى الجميع المفهوم من «أَحَد» .
وإمَّا لأن ثمَّ معطوفاً محذوفاً؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: «لاَ نُفَرِّقُ بين أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وبَيْنَ أَحَدٍ» وعلى هذا: فأحد هنا ليس الملازم للجحد، ولا همزته أصليةٌ، بل هو «أَحَد» الذي بمعنى واحد، وهمزته بدلٌ من الواو، وحذف المعطوف كثيرٌ جدّاً، نحو: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد، وقوله: [الطويل]
1305 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أَبُو حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي: بين الخير وبيني.
و «مِنْ رُسُلِهِ» في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ ل «أَحَد» ، و «قَالُوا» عطفٌ على «آمَنَ» ، وقد تقدَّم أنه حمل على معنى «كُلّ» .
فصل
قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» أي: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، إلاَّ أنه حذف المفعول.
قال ابن الخطيب: وحذف المفعول في هذا الباب ظاهراً وتقديراً، أولى؛ لأنَّك إذا جعلت التَّقدير: سمعنا قوله وأطعنا أمره، أفاد أن ههنا قول آخر غير قوله، وأمر آخر يطاع سوى أمره، فأمَّا إذا لم يقدَّر فيه ذلك المفعول، أفاد أنَّه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلاَّ قوله، وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلاَّ أمره، فكان حذف المفعول صورةً ومعنًى في هذا الموضع أولى.(4/528)
فصل
لما وصفهم بقوله: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» ، علمنا أنه ليس المراد منه السَّماع الظَّاهر؛ لأن ذلك لا يفيد المدح، بل المراد: عقلناه وعلمنا صحَّته، وتيقَّنا أنَّ كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - إلينا، فهو حقٌّ صحيحٌ واجبٌ قبوله وسمعه، والسَّمع بمعنى القبول والفهم واردٌ في القرآن؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ}
[ق: 37] ، والمعنى: لمن سمع الذِّكرى بفهم حاضرٍ، وعكسه قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} [لقمان: 7] ، وقولهم بعد ذلك: «وَأَطَعْنَا» فدلَّ على أنَّهم ما أَخلُّوا بشيءٍ من التَّكاليف، فجمع تعالى بهذين اللَّفظين كلَّ ما يتعلَّق بأحوال التَّكاليف علماً وعملاً.
قوله: «غُفْرَانَكَ» منصوبٌ: إمَّا على المصدرية، قال الزمخشريُّ: «منصوبٌ بإضمار فعله، يقال:» غُفْرَانَكَ، لاَ كُفْرَانَكَ «أي: نستغفرك ولا نكفرك، فقدَّره جملةً خبريةً، وهذا ليس مذهب سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إنما مذهبه تقدير ذلك بجملةٍ طلبية؛ كأنه قيل:» اغْفِرْ غُفْرَانَكَ «ويستغنى بالمصدر عن الفعل نحو:» سقياً ورعياً «ونقل ابن عطيَّة هذا قولاً عن الزَّجَّاج، والظاهر أنَّ هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها؛ لنيابتها عنه، وقد اضطرب فيها كلام ابن عصفور، فعدَّها تارةً مع ما يلزم فيه إضمار الناصب؛ نحو:» سُبْحَانَ اللهِ، [ورَيْحَانَهُ «] ، و» غُفْرَانَكَ لاَ كُفْرَانَكَ «، وتارةً مع ما يجوز إظهار عامله، والطلب في هذا الباب أكثر، وقد تقدَّم في أول الفاتحة نحو من هذا.
وقال الفرَّاء: هو مصدرٌ وقع موقع الأمر، فنصب وهو أولى من قول من يقول:» نَسْأَلك غُفْرَانَكَ «لأن هذه الصِّيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى، فقد كانت أدلَّ عليه؛ ونظيره: حمداً وشكراً، أي: أحْمَدُ حَمْداً وأشْكُر شُكْراً.
فإن قيل: إن القوم لما قبلوا التَّكاليف، وعملوا بها، فأيُّ حاجةٍ لهم إلى طلب المغفرة؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّهم وإن بذلوا جهدهم في أداء التَّكاليف، فهم خائفون من صدور تقصيرٍ، فلمَّا جوَّزوا ذلك، طلبوا المغفرة للخوف من التَّقصير.
الثاني: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» [إِنَّهُ لَيُغَانُ] عَلَى قَلْبِي، حَتّى أَنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّة «، وذكروا لهذا الحديث تأويلات؛ من جملتها: أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يترَقَّى في(4/529)
جملة العبوديَّة، فكان كلما ترقَّى عن مقام إلى مقام أعلى من الأوَّل، رأى الأوَّل حقيراً، فيستغفر الله منه؛ فكذلك طَلَبُ الغفران في هذه الآية. والمصير: اسم مصدر من صار يصير: أي: رجع، وقد تقدَّم في قوله: {المحيض} [البقرة: 222] أنَّ في المفعل من الفعل المتعلِّ [العين] بالياء ثلاثة مذاهب، وهي: جريانه مجرى الصحيح، فيبنى اسم المصدر منه على مفعل بالفتح، والزمانُ والمكان بالكسر، نحو: ضَرَبَ يَضْرِب مَضْرِباً، أو يُكْسَرُ مطلقاً، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماع، فلا يتعدَّى، وهو أعدلها، ويطلق المصير على المِعَى، ويجمع على مصران، كرغيفَ ورغفان، ويجمع مصران على مصارين.
فصل
في قوله - تبارك وتعالى -: {وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} فائدتان:
إحداهما: أنَّهم كما أقرُّوا بالمبدإ؛ فكذلك أقرُّوا بالمعاد؛ لأن الإيمان بالمبدإ أصل الإيمان بالمعاد.
والثانية: أن العبد متى علم أنَّه لا بدَّ من المصير إليه، والذهاب إلى حيث لا حكم إلاَّ حكم الله - تعالى -، ولا يستطيع أحدٌ [أن] يشفع إلاَّ بإذن الله، كان إخلاصه في الطَّاعات أتمَّ، واحترازه عن السَّيِّئات أكمل.(4/530)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} : «وُسْعَهَا» مفعولٌ ثانٍ، وقال ابن عطية: «يُكَلِّفُ يتعدَّى إلى مفعولين، أحدهما محذوفٌ، تقديره: عبادةً أو شيئاً» . قال أبو حيان: «إن غَنَى أنَّ أصله كذا، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» إِلاَّ وُسْعَهَا «استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني، وإن عَنَى أنَّ أصله كذا، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» إِلاَّ وُسْعَهَا «استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني، وإن عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصنعة، فليس كذلك، بل الثاني هو» وُسْعَهَا «؛ نحو:» مَا أَعْطَيْتُ زَيْداً إِلاَّ دِرْهَماً «، و» مَا ضَرَبْتُ إِلاَّ زَيْداً «هذا في الصناعة هو المفعول، وإن كان أصله: ما أعْطَيْتُ زَيْداً شَيْئاً إِلاَّ دِرْهَماً» ، والوسع: ما يسع الإنسان، ولا يضيق عليه، ولا يخرج منه. قال الفرَّاء: هو اسم كالوجد والجهد. وقال بعضهم: الوسع هو هدون المجهود في المشقَّة، وهو ما يتَّسع له قدرة الإنسان.(4/530)
وقرأ ابن أبي عبلة: «إِلا وَسِعَهَا» جعله فعلاً ماضياً، وخرَّجوا هذه القراءة على أنَّ الفعل فيها صلةٌ لموصول محذوفٍ تقديره: «إِلاَّ ما وَسِعَهَا» وهذا الموصول هو المفعول الثاني، كما كان «وُسْعَهَا» كذلك في قراءة العامَّة، وهذا لا يجوز عند البصريِّين، بل عند الكوفيِّين، على أنَّ إضمار مثل هذا الموصول ضعيفٌ جدّاً؛ إذ لا دلالة عليه؛ وهذا بخلاف قول الآخر حيث قال: [الخفيف]
1306 - مَا الَّذِي دَأْبُهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ ... وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ
وقال حسَّان أيضاً -[الوافر]
1307 - أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ ... وَيَنْصُرُهُ وَيَمْدَحُهُ سَواءُ
وقد تقدَّم تحقيق هذا، وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإعراب، أم لا؟ الظاهر الثاني؛ لأنها سيقت للإخبار بذلك، وقيل: بل محلُّها نصبٌ؛ عطفاً على «سَمِعْنَا» و «أَطَعْنَا» ، أي: وقالوا أيضاً: لا يكلِّف الله نفساً، وقد خرِّجت هذه القراءة على وجه آخر؛ وهو أن تجعل المفعول الثاني محذوفاً لفهم المعنى، وتجعل هذه الجملة الفعليَّة في محلِّ نصبٍ لهذا المفعول، والتقدير: لا يكلِّف الله نفساً شيئاً إلا وسعها. قال ابن عطية: وفي قراءة ابن أبي عبلة تجوُّزٌ؛ لأنه مقلوبٌ، وكان يجوز وجه اللفظ: إلا وسعته؛ كما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} [البقرة: 255] {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98] ، ولكن يجيء هذا من باب «أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي» .
فصل في كيفيَّة النَّظم
إن قلنا إِنَّه من كلام المؤمنين، فإنَّهم لمَّا قالوا: «سَمِعْنَا وأَطَعْنَا» فكأنَّهم قالوا: كيف نسمع ولا نطيع، وهو لا يكلِّفنا إلاَّ ما في وسعنا وطاقتنا بحكم الرَّحمة الإلهيَّة.
وإن قلنا: إنه من كلام الله - تبارك وتعالى -، فإنَّهم لمَّا قالوا: «سَمِعْنَا وَأَطْعْنَا» ثم قالوا بعده: «غُفْرَانَكَ رَبَّنَا» ، طلبوا المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التَّقصير على سبيل الغفلة [والسَّهو؛ لأنَّهم لمَّا سمعوا وأطاعوا، لم يتعمّدوا التَّقصير، فطلبوا المغفرة لما يقع منهم على سبيل الغفلة] ، فلا جرم خفَّف الله عنهم، وقال: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} والتَّكليف: هو إلزام ما فيه كلفة ومشقَّة، يقال: كلَّفته فتكلَّف.
فصل في بيان مسألة تكليف ما لا يطاق
استدلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة ونظائرها؛ كقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ(4/531)
حَرَجٍ} [الحج: 78] ، {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] ، {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] على أنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق، وإذا ثبت هذا فههنا أصلان:
الأول: أن العبد موجدٌ لأفعال نفسه؛ لأنه لو كان موجدها هو الله تعالى، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة، ولا قدرة للعبد ألبتَّة على فعله ولا تركه؛ أمَّا أنَّه لا قدرة له على الفعل؛ فلأنَّ ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى، والموجود لا يوجد ثانياً، وأمَّا أنَّه لا قدرة للعبد على الدَّفع، فلأنَّ قدرته أضعف من قدرة الله تعالى، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى، وإذا لم يخلق الله الفعل، استحال أن يكون للعبد قدرة على تحصيل الفعل؛ فثبت أنَّه لو كان موجد فعل العبد هو الله، فكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق.
الثاني: أن الاستطاعة قبل الفعل، وإلاَّ لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان، فكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق.
وأجيبوا: بأنَّ الدَّلائل العقليَّة دلَّت على وقوع هذا التَّكليف، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية، وذلك من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ من مات على الكفر، تبيَّنَّا بموته على الكفر أنَّ الله تعالى كان في الأزل عالماً بأنَّه يموت على الكفر، ولا يؤمن أصلاً، فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النَّقيضين، وهذه الحجَّة كما جرت في العلم، فتجري أيضاً في الجر.
وثانيها أيضاً: أن صدور الفعل عند العبد يتوقَّف على الدَّاعي، وتلك الدَّاعية مخلوقةٌ لله تعالى، ومتى كان الأمر كذلك، لزم تكليف ما لا يطاق؛ لأنَّ قدرة العبد لمَّا كانت صالحةً للفعل والترك، فلو ترجَّح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجِّح، لزم وقوع الممكن من غير مرجِّح، وذلك نفيٌ للصَّانع.
وإنما قلنا: إن تلك الدَّاعية من الله تعالى؛ لأنَّها لو كانت من العبد، لافتقر إيجادها إلى داعيةٍ أخرى ولزم التَّسلسل، وإنما قلنا: إنه متى كان الأمر كذلك، لزم الجبر، لأنَّ عند حصول الدَّاعية المرجِّحة لأحد الطَّرفين، صار الطَّرف الآخر مرجوحاً، والمرجوح ممتنع الوقوع، وإذا كان المرجوح ممتنعاً، كان الرَّاجح واجباً ضرورة أنَّه لا خروج عن النَّقيضين؛ فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلّف به، فلزم تكليف ما لا يطاق.
وثالثها: أنه تعالى كلَّف «أبَا لَهَب» بالإيمان، والإيمان تصديق الله في كلِّ ما أخبر عنه، ومن جملة ما أخبر عنه أنه لا يؤمن، فقد صار «أبُو لَهَب» مكلَّفاً بأن يؤمن بأنَّه لا يؤمن، وذلك تكليف ما لا يطاق.(4/532)
ورابعها: أن العبد غير عالم بتفاصيل فعله؛ لأن من حرَّك أصبعه، لم يعرف عدد الأحيان التي حرَّك أصبعه فيها، ولم يخطر بباله أنه حرَّك أصبعه في بعض الأوقات، وسكن في بعضها وأنَّه أين تحرَّك وأين سكن، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله، لم يكن موجداً لها، وإذا لم يكن موجداً، لزم تكليف ما لا يطاق.
فصل في تأويل هذه الآية
اختلفوا في تأويل هذه الآية:
فقال ابن عباس وعطاء وأكثر المفسِّرين: أراد به حديث النَّفس المذكور في قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] .
وروي عن ابن عباس؛ أنه قال: هم المؤمنون خاصَّة، وسَّع الله عليهم أمر دينهم، ولم يكلِّفهم فيه إلاَّ ما يطيقونه؛ كقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] ، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} هذه الجملة لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، وهي كالتفسير لما قبلها؛ لأنَّ عدم مؤاخذتها بكسب غيرها، واحتمالها ما حصَّلته هي فقط من جملة عدم تكليفها بما [لا] تسعه، وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنًى، أم لا؟ فقال بعضهم: نعم، وفرَّق بأنَّ الكسب أعمُّ، إذ يقال: «كَسَبَ» لنفسه ولغيره، و «اكْتَسَبَ» أخصُّ؛ إذ لا يقال: «اكْتَسَبَ لِغَيْرِهِ» ؛ وأنشد قول الحطيئة: [البسيط]
1308 - أَلْقَيْتُ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ..... ... ... ... ... ... ... ... . .
ويقال: هو كاسب أهله، ولا يقال: مكتسب أهله.
وقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: لم خصَّ الخير بالكسب، والشرَّ بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمالٌ، ولمَّا كان الشرُّ ممَّا تشتهيه النفس، وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به، كانت في تحصيله أعمل وآجد، فجعلت لذلك مكتسبةً فيه، ولمَّا لم تكن كذلك في باب الخير، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال» .
وقال ابن عطيَّة: وكَرَّر فعلَ الكسب، فخَالَفَ بين التصريف حُسناً لنمط الكلام؛ كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ} [الطارق: 17] ، قال شهاب الدين: «والذي يظهر لي في هذا: أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلُّفٍ؛ إذ كاسبها على جادَّة أمر الله تعالى،(4/533)
ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها؛ فحسن في الآية مجيء التصريفين؛ إحرزاً لهذا المعنى» .
وقال آخرون: «افْتَعَل» يدلُّ على شدَّة الكلفة، وفعل السَّيِّئة شديدٌ لما يئول إليه.
وقال الواحديُّ: «الصَّحيح عند أهل اللغة: أنَّ الكسب والاكتساب واحدٌن لا فرق بينهما.
وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ؛ قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] . وقال تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وقال تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] ، وقال تعالى: {بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} [الأحزاب: 58] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشرِّ» .
قال ذو الرُّمَّة: [البسيط]
1309 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ
وإنما أَتَى في الكسب باللام، وفي الاكتساب ب «عَلَى» ؛ لأنَّ اللام تقتضي الملك، والخير يحبُّ ويسر به، فجيء معه بما يقتضي الملك، ولمَّا كان الشرُّ يحذر، وهو ثقلٌ ووزرٌ على صاحبه جيء معه ب «عَلَى» المقتضية لاستعلائه عليه.
وقال بعضهم: «فيه إيذانٌ أنَّ أدنى فعلٍ من أفعال الخير يكون للإنسان تكرُّماً من الله على عبده؛ حتَّى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به؛ لأنه من كسبه في الجملة، بخلاف العقوبة؛ فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدَّ فيها واجتهد» ، وهذا مبنيٌّ على القول بالفرق بين البنائين، وهو الأظهر.
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجت المعتزلة بهذه الآية على أنَّ فعل العبد بإيجاده؛ قالوا: لأنَّ الآية صريحةٌ في إضافة خيره وشرِّه إليه، ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى، لبطلت هذه الإضافة، ويجري صدور أفعاله مجرى لونه، وطولهن وشكله، وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتَّة.
قال القاضي: لو كان تعالى خالقاً أفعالهم، فما فائدة التَّكليف، والكلام فيه معلوم.(4/534)
فصل
احتجوا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة؛ لأنَّه - تعالى - أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع، فبيَّن أن لها ثواب ما كسبت، وعليها عقاب ما اكتسبت، وهذا صريحٌ في اجتماع هذين الاستحقاقين، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر.
قال الجبَّائي: ظاهر الآية وإن دلَّ على الإطلاق، إلاَّ أنَّه مشروطٌ، والتَّقدير: لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابِ العَمَلِ الصَّالِح إذا لم يبطله، وعليها ما اكتَسَبَتْ مِن العَقَاب إذا لَمْ يُكَفِّرْه بالتَّوبة، وإنَّمَا صِرْنَا إلى إضْمَارِ هذا الشَّرط، لمَّا ثبت أن الثَّواب يجب أن يكون منفعةً خالصةً دائمةً، والجمع بينهما محالٌ في العقول، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضا محالٌ.
فصل
تمسَّك الفقهاء بهذه الآية في أنَّ الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار؛ لأن اللام في قوله: {مَا كَسَبَتْ} تدلُّ على ثبوت الاختصاص، ويؤكِّد ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «كُلُّ امْرِىءٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وسَائِر النَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، وينبني على هذا الأصل فروع كثيرة:
منها: أن المضمونات لا تملك إلاَّ بأداء الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ.
ومنها: إذا غصب ساجةً فأدرجها في بنائه، أو حنطةً فطحنها، لا يزول الملك.
ومنها: أن القطع في السَّرقة لا يمنع وجوب الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ، وهو قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} ويجب ردُّ المسروق إن كان باقياً.(4/535)
قوله: {لاَ تُؤَاخِذْنَا} يقرأ بالهمزة، وهو من الأخذ بالذَّنب، ويقرأ بالواو، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من الأخذ أيضاً، وإنما أُبدلت الهمزة واواً؛ لفتحها وانضمام ما قبلها، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ، ويحتمل أن يكون من: واخذه بالواو، قاله أبو البقاء. وجاء هنا بلفظ المفاعلة، وهو فعل واحدٍ؛ لأنَّ المسيء قد أمكن من نفسه، وطرق السبيل إليها بفعله؛ فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه، ويأخذ به على نفسه.
قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجهٌ آخر، وهو أنَّ الله تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة، فالمذنب كأنَّه يأخذ ربَّه بالمطالبة بالعفو والكرم، فإنَّه لا يجد من يخلِّصه من عذابه إلاَّ هو، فلهذا يتمسَّك العبد عند الخوف منه به، فلمَّا كان كلُّ واحدٍ منهما يأخذ الآخر، عبَّر عنه بلفظ المؤاخذة، ويجوز أن يكون من باب سافرت وعاقبت وطارقت.
قوله: {إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} .
في النِّسيان وجهان:
الأول: أنَّ المراد النِّسيان الذي هو ضدُّ الذِّكر.
فإن قيل: أليس فعل النَّاسي في محلِّ العفو بحكم دليلِ العقل؛ حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق، وبدليل السَّمع؛ وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وإن كان كذلك، فما معنى طلب العفو عنه؟
فالجواب من وجوهٍ:
الأول: أن النِّسيان منه ما يعذر فيه صاحبه، ومنه ما لا يعذر؛ ألا ترى أنَّ من رأى في ثوبه نجاسة، فأخَّر إزالتها عنه إلى أن نسي فصلَّى وهي على ثوبه، عدَّ مقصِّراً؛ إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالتها، وأمَّا إذا لم ير في ثوبه نجاسة، فإنه يعذر فيه، ومن رمى صيداً فأصاب إنساناً، فقد يكون بحيث لا يعلم الرَّامي أنه يصيب ذلك الصَّيد أو غيره، فإذا رمى ولم يحترز، كان ملوماً، وأمَّا إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرةٌ، ثم رمى فأصاب إنساناً؛ كان ههنا معذوراً، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدَّرس والتِّكرار، حتى نسي القرآن يكون ملوماً، وأمَّا إذا واظب على القراءة ونسي القرآن، فههنا يكون معذوراً؛ فثبت أن النِّسيان على قسمين: منه ما يعذر فيه، ومنه ما لا يعذر فيه، وهو ما إذا ترك التَّحفُّظ،(4/536)
وأعرض عن أسباب التذكُّر، فهذا يصحُّ طلب غفرانه بالدُّعاء.
الثاني: أن هذا دعاء على سبيل التَّقدير؛ لأنَّ هؤلاء الَّذِين ذكروا هذا الدُّعاء كانوا متَّقين لله حقَّ تقاته، فلم يكن يصدر عنهم ما لا ينبغي إلاَّ على وجه النِّسيان والخطأ، فكان وصفهم بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عمَّا يؤاخذون به؛ كأنه قيل: إذا كان النِّسيان ممَّا تجوز المؤاخذة به، فلا تؤاخذنا به.
الثالث: أنَّ المقصود من هذا الدُّعاء إظهار التَّضرُّع إلى الله تعالى لا طلب الفعل؛ لأن الدَّاعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأنَّ الله تعالى يفعله، سواءٌ دعا أو لم يدع؛ قال: {رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] ، وقال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] ، وقالت الملائكة: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} [غافر: 7] فكذا ههنا.
الرابع: أن مؤاخذة النَّاسي ممتنعةٌ عقلاً، لأنَّ الإنسان إذا علم أنه بعد النِّسيان يكون مؤاخذاً، فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذٍ لا يصدر عنه، إلاَّ أنَّ استدامة ذلك الذِّكر يشقُّ على النَّفس، فلمَّا جاز ذلك في العقول، حسن طلب المغفرة منه.
الخامس: أن الَّذين جوَّزوا تكليف ما لا يُطاق بهذه الآية، فقالوا: النَّاسي غير قادرٍ على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنَّه جائزٌ عقلاً أن يعاقبه الله عليه، لما طلب بالدُّعاء ترك المؤاخذة به.
القول الثاني: أن المراد بالنِّسيان: التَّرك؛ قال الله تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، أي: تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم، ويقول الرَّجل لصاحبه «لاَ تَنْسِني من عَطِيَّتِكَ» ، أي: لا تتركني، فالمراد بهذا النِّسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسدٍ، والمراد بالخطأ: أن يفعل الفعل لتأويل فاسدٍ.
قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً} .
الإصر: في الأصل: الثِّقل والشِّدَّة؛ قال النابغة: [البسيط]
1310 - يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ ... وَالحَامِلَ الإِصْرِ عَنْهُمْ بَعْدَمَا غَرِقُوا
وأُطلق على العهد والميثاق لثقلهما؛ كقوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي: عهدي، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] أي: التكاليف الشاقة ثم يطلق على كلِّ ما يثقل، حتى يروى عن بعضهم أنه فسَّر الإصر هنا بشماتة الأعداء؛ وأنشد: [الكامل](4/537)
1311 - أَشْمَتَّ بِيَ الأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتَنِي ... وَالمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ
ويقال: الإصر أيضاً: العطف والقرابة، يقال: « [مَا] يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ» أي: ما يعطفني عليه قرابةٌ ولا رحمٌ؛ وأنشد للحطيئة: [مجزوء الكامل]
1312 - عَطَفُوا عَلَيَّ بِغَيْرِ آ ... صِرَةٍ فَقَدْ عَظُمَ الأَوَاصِرْ
ويقال: ما يأصرني عليه آصرةٌ أي: رحمٌ وقرابة، وإنما سمِّي العطف إصراً؛ لأن من عطفت عليه، ثقل على قلبك كلُّ ما يصل إليه من المكاره.
وقيل: الإصر: الأمر الذي تربط به الأشياء؛ ومنه «الإصَارُ» للحبل الشديد الذي تشدُّ به الأحمال، يقال: أصَرَ يَأْصِرُ أَصْراً بفتح الهمزة، فأما بكسرها، فهو اسمٌ، ويقال بضمِّها أيضاً، وقد قرىء به شاذًّا.
وقرأ أُبيّ: «رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْ عَلَيْنَا» بتشديد الميم.
قال الزَّمخشريُّ: «فإن قلت: أيُّ فرقٍ بين هذه التَّشديدة والتي في» وَلاَ تُحَمِّلْنَا «؟
قلت: هذه للمبالغة في حمله عليه، وتلك لنقل حمله من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولين» انتهى.
يعني: أن التَّضعيف في الأوَّل للمبالغة، ولذلك لم يتعدَّ إلاَّ لمفعولٍ واحدٍ، وفي الثانية للتَّعدية، ولذلك تعدَّى إلى اثنين: أوَّلهما: «نَا» ، والثاني: ما لا طاقة لنا به.
فصل
قال مجاهدٌ وعطاء وقتادةٌ والسُّدِّيُّ والكلبيُّ وجماعة: المراد عهداً ثقيلاً ومشاقَّ لا نستطيع القيام به، فتعذِّبنا بنقضه وتركه {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} ، يعني: اليهود.(4/538)
وقال عثمان بن عفَّان، ومالك بن أنس، وأبو عبيدة، وجماعة: معناه: لا تُشتدِّد علينا في التَّكاليف ما لا نستطيع المقام معه، فتعذِّبنا بنقضه وتركه؛ كما شدَّدت على الذين من قبلنا، يعني: اليهود، فلم يقوموا به فيعذِّبهم.
قال المفسِّرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاةً، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزَّكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسةً أمر بقطعها، ومن أصاب ذنباً، أصبح وذنبه مكتوب على بابه، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجِّلت لهم العقوبة في الدُّنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئةٍ، حرم عليهم من الطَّعام بعض ما كان حلالاً لهم؛ قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] ، ونحو ذلك؛ كتحريمه على قوم طالوت الشُّرب من النَّهر، وتعجيل تعذيبهم في الدُّنيا بكونهم مسخوا قردةً وخنازير.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ومن نظر في السِّفر الخامس من التَّوراة التي تدَّعيها هؤلاء اليهود، وقف على ما أخذ عليه من غلظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة، فالمؤمنون سألوا ربَّهم أن يصونهم عن أمثال هذه التَّغليظات، وهو بفضله ورحمته قد أزال عنهم ذلك.
قال تعالى في صفة هذه الأمة: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «دُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَسْفُ والمَسْخُ والغَرَقُ» .
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّة السَّمْحَة» والمؤمنون إنَّما طلبوا هذا التَّخفيف؛ لأن التِّشديد مظنَّة التَّقصير، والتَّقصير موجبٌ للعقوبة، ولا طاقة لهم بعذاب الله، فلا جرم طلبوا تخفيف التَّكاليف.
وقيل: الإصر ذنبٌ لا توبة له، معناه: اعصمنا من مثله، قالوا: والأصل فيه العقد والإحكام.
قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} .
الطَّاقة: القدرة على الشيء، وهي في الأصل، مصدرٌ، جاءت على حذف الزوائد، وكان من حقِّها «إطَاقَة» ؛ لأنها من أطاق، ولكن شذَّت كما شذَّت أُلَيْفَاظٌ؛ نحو: أَغَارَ(4/539)
غَارةً، وأجَاب جَابةً، وقالوا: «سَاءَ سَمعاً؛ فَسَاءَ جَابَةً» ؛ ولا ينقاس؛ فلا يقال: طَال طَالَةً، ونظير أجاب جَابَةً: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] وأعطى عطاء في قوله: [الوافر]
1313 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرَّتَاعَا
فصل في المراد بالآية
معناه: لا تكلِّفنا من العمل ما لا نطيق.
وقيل: هو حديث النَّفس والوسوسة المتقدِّم في الآية الأولى، وحكي عن مكحول: أنَّه الغلمة.
وعن إبراهيم: هو الحبُّ، وعن محمَّد بن عبد الوهَّاب: هو العشق.
وقال ابن جريج: هو مسخ القردة والخنازير، وقيل: هو شماتة الأعداء.
وقيل: هو الفرقة والقطيعة.
فإن قيل: لم خصَّ الآية الأولى بالحمل، فقال «لا تَحْمِلْ عَلَيْنا» وهذه الآية بالتَّحميل؟
فالجواب: أن الشَّاقَّ يمكن حمله، أمَّا ما لا يكون مقدوراً، فلا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التَّحميل فقط، فإن التَّحمُّل غير ممكنٍ.
وأمَّا الشاقُّ: فالحمل، والتَّحميل فيه ممكنان، فلهذا السَّبب خصَّ الآية الأخيرة بالتَّحميل.
فإن قيل: ما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بلفظ الجمع في قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، ولفظ الإفراد أكثر تذلُّلاً وخضوعاً من التَّلفُّظ بنون الجمع.
فالجواب: أن قبول الدُّعاء عند الاجتماع أكثر، وذلك لأن للهمم تأثيراتٍ، فإذا اجتمعت الأرواح والدَّواعي على شيء واحدٍ، كان حصوله أكمل.
فصل
استدلُّوا بهذه الآية الكريمة على جواز التَّكليف بما لا يطاق، قالوا: إذ لو لم يكن(4/540)
جائزاً، لما حسن طلب دَفْعِهِ بالدُّعاء من الله تعالى، وأجاب المعتزلة بوجوهٍ:
الأول: المراد بالآية ما يشقُّ فعله مشقَّةً عظيمةً؛ كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أنظر إلى فلانٍ؛ إذا كان مستثقلاً له؛ قال الشاعر: [الرجز]
1314 - إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ ... سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المملوك: «لَهُ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، ولاَ يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُ» أي: ما يشقُّ عليه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المريض «يصلِّي وهو جالسٌ، فإن لم يَسْتَطِعْ، فَعَلَى جَنْبٍ» ، فقوله: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» ليس المراد به: عدم القوَّة على الجلوس، بل كلُّ الفقهاء يقولون: المراد منه: إذا كان يلحقه في الجلوس مشقَّةٌ شديدةٌ؛ وقال تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} [هود: 20] ، أي: كان يشقُّ عليهم ذلك.
الثاني: أنه تعالى لم يقل: «لاَ تُكَلِّفْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ» بل قال: {لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} والتَّحميل: هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمُّله، فيكون المراد منه العذاب، والمعنى: لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله، فلو حملنا الآية على ذلك، كان قوله: «لاَ تُحَمِّلْنَا» حقيقةً فيه، ولو حملناه على التكليف، كان قوله: «لاَ تُحَمِّلْنَا» مجازاً فيه، فكان الأوَّل أولى.
الثالث: هب أنَّهم سألوا الله تعالى ألاَّ يكلِّفهم ما لا قدرة لهم عليه، لكن ذلك لا يدلُّ على جواز أن يفعل خلافه؛ لأنَّه لو دلَّ على ذلك، لدلَّ قوله: {رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] على جواز أن يحكم بالباطل، وكذلك قول إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] على جواز خزي الأنبياء.
وقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] ، وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
[الزمر: 65] ، وذلك لا يدلُّ على جواز أن يطيع الكافرين والمنافقين، ولا على جواز الشِّرك.
وأجاب مخالفوهم: بأن الوجه الأول مدفوعٌ من وجهين:
الأول: أنه لو كان المراد من ألا يشدِّد عليهم التَّكاليف، لكان معناه ومعنى الآية الأولى واحداً، فتكون تكراراً محضاً، وهو غير جائزٍ.(4/541)
والثاني: أنَّا بيَّنا أنَّ الطَّاقة هي الإطاقة والقدرة، فقوله: {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ظاهره لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا عليه، أقصى ما في الباب أنَّه جاء هذا اللَّفظ بمعنى الاستقبال في بعض الوجوه على سبيل المجاز، إلاَّ أنَّ الأصل حمل اللَّفظ على الحقيقة.
وأمَّا الوجه الثاني: فإن التَّحميل مخصوصٌ في عرف القرآن بالتَّكليف، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات} [الأحزاب: 72] إلى قوله: {وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] ، ثم هب أنَّه لم يوجد هذا العرف، إِلاَّ أنَّ قوله: {لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} عامٌّ في العذاب والتَّكليف، فوجب إجراؤه على ظاهره، فأَمَّا تخصيصُهُ بغير حُجَّةٍ، فلا يجوز.
وأَمَّا الوجه الثالث: فإن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً، لم يجز طلب امتناعه بالدُّعاء؛ لأنه يجري مجرى قوله في دعائه ربَّنا لا تجمع بين الضِّدَّين.
وإذا كان هذا هو الأصل، فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصُّور لدليلٍ مفصَّلٍ، لم يجب تركهُ في سائر الصُّور بغير دليلٍ.
قوله: {واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ} قال ابن الخطيب: لما كانت الأدعية الثَّلاثةُ المُتقدِّمةُ، المطلوب بها الترك، قُرِنت بلفظ «رَبَّنَا» ، وأَمَّا هذا الدُّعاء فحذف فيه لفظ «رَبَّنَا» وظاهره يدلُّ على طلب الفعل.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر هنا لفظ «رَبَّنَا» .
فالجواب: أن النِّداء إنما يحتاجُ إليه عند البعد أمَّا عند القرب فلا؛ وإنَّما حذف النِّداء إشعاراً بأنَّ العبد إذا واظب على التَّضرُّع نال القرب من اللهِ - تعالى -.
فإن قيل: ما الفرقُ بين العفو والمغفرة والرّحمة.
الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التَّخجيل والفضيحة؛ كأن العبد يقول: أطلُبُ منك العفو، وإذا عفوت عنِّي فاسترهُ عليَّ فإِنَّ الخلاص من عذاب النَّار إنَّما يطيبُ، إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، فلما تخلَّص من هذين العذابين، أقبل على طلب الثَّواب، فقال: {وارحمنآ} فإنَّنا لا نقدر على فعل الطَّاعة وترك المعصية إِلاَّ برحمتك.
قوله تعالى: {أَنتَ مَوْلاَنَا} المَولى مفعلٌ من وَلِي يلي، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ، فيجوز أن يكون على حذف مضافٍ، أي: صاحبُ تَولِّينا، أي: نُصرتنا، ولذلك قال: {فانصرنا} ، والمَوْلأى يجوزُ أن يكونَ اسم مكانٍ أيضاً، واسم زمانٍ.
في قوله: {أَنتَ مَوْلاَنَا} فائدةٌ؛ وهي أَنَّها تدلُّ على نهاية التَّذلُّل، والخُضوع، فلا جرم(4/542)
ذكرها عند الدُّعاء متكلين على فضله وإحسانه بمنزلة الطِّفل، لا تتمُّ مصلحته إِلاَّ بتدبير قيمه، والعبد الَّذِي ينتظم شمل مهمَّاته إلا بإصلاح مولاهُ، وهو المولى في الحقيقة لِلكُلِّ على ما قال
{نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الأنفال: 40] ونظير هذه الآية الكريمة {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ} [البقرة: 257] أي: ناصرهم، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ} [التحريم: 4] أي: ناصره، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] .
قوله تعالى: {فانصرنا} أتى بالفاء هنا؛ إعلاماً بالسببية؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كان مولاهم ومالك أمورهم، وهو مُدَبِّرِهم تسبَّبَ عنه أن دعَوْهُ أن ينصرهم على أعدائهم؛ كقولك: «أَنْتَ الجَوَادُ فَتَكرَّمْ» ، و «أَنت المُعطي فرجاً فضلاً منك» .
قوله: {عَلَى القوم الكافرين} أي: انصرنا في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجَّة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] .
فصلٌ
روى الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ عن مقاتل بن سليمان؛ أنه لما أُسري بالنَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُعطي خواتيم سورة البقرة، فقالت الملائكةُ: إنَّ الله - تعالى - قد أكرمك بحسن الثَّناء عليك بقوله - تعالى -: «آمَن الرَّسُول» فسلهُ وارغب إليه، فعلَّمهُ - جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كيف يدعو، فقال محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - «غُفْرَانَكَ رَبَّنَا» وقال الله: قد غفرتُ لكم، فقال: «لاَ تُؤَاخِذْنَا» فقال الله: لاَ أؤاخذكم، فقال: «ولاَ تَحْمل عَلَينا إصراً» فقال: لا أُشدّد عليكم، فقال محمَّد: «لاَ تُحمِّلنا ما لاَ طاقةَ لنَا به» فقال: لا أُحملكم ذلك، فقال محمد: «واعْفُ عنا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنَا» فقال الله: قد عَفَوتُ عنكم، وغَفَرتُ لكم، ورحمتكم، وأنصركم على القوم الكافرين.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس، وسمعناه في بعض الرِّوايات؛ أن محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان يذكر هذه الدَّعوات والملائكة كانوا يقولون: آمين.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلةٍ كفتاه» وعن النُّعمان بن بشير؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(4/543)
قال: «إنَّ اللهَ تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السَّمواتِ والأَرض بأَلفي عام، فأَنزل آيتين خَتَم بهما سورة البقرة، فلا تُقْرآن في دار ثلاث ليالٍ فيقربها شيطانٌ» والله - سبحانه وتعالى - أعلم.(4/544)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة آل عمران
حكى النقاش: أن هذه السورة اسمها في التوراة " طيبة " مدنية بالإتفاق، وهي مائتا آية، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان كلمات، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا.(5/3)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
قوله: {الم} قد تقدكم الكلامُ على هذا مُشْبَعًا، ونقل الجرجانيُّ - هنا - أن «الم» إشارة، إلى حروف المعجم، كأنه يقول: هذه الحروفُ كتابك - أو نحو هذا - ويدل {لاا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} على ما ترك ذكره من خبر هذه الحروف، وذلك في نظمه مثل قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} ؟ [الزمر: 22] وترك الجواب لدلالة قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} [الزمر: 22] عليه؛ تقديره: كمن قسا قلبه.
ومنه قول الشاعر: [الطويل]
1315 - ... - فَلاَ تَدفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خَامِرِي أمَّ عَامِرِ ... أي: ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر «انتهى» .
قال ابنُ عطيةَ: يحسن في هذا القول - يعني قول الجُرْجَانيِّ - أن يكون «نَزَّلَ» خبر، قوله: «اللهُ» حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى.
قال أبو حيَّان: وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظر؛ لأن مثليته ليست صحيحة الشبع بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتمل، ولكن الأبرع في [نظم] الآية أن يكون «الم» لا يُضَمُّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكون قوله {الله لا إله إِلاَّ(5/3)
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} كلاماً مبتدأ جملة رادة على نصارى نجران.
قال شهاب الدينِ: وهذا الذي ردَّه الشيخُ على الجرجانيِّ هو الذي اختاره الجرجانيُّ وجعله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه «نَظْم الْقُرْآنِ» .
قوله: {لاا إله إِلاَّ هُوَ} يجور أن تكون هذه الجملة خَبَرَ الجَلاَلَة، و «نَزَّلَ عَلَيْكَ» خَبْرٌ آخَرُ، ويجوز أن يَكُونَ {لاا إله إِلاَّ هُوَ} مُعْتَرِضَة بين المبتدأ والخَبَرِ، ويجوز أن يكون حَالاً، وفي صاحبه احتمالان:
أحدهما: أن يكون لَفْظَ الجلالة.
والثاني: أن يكون الضمير في «نَزَّلَ» تقديره: نَزَّل عليك الكتاب متوحِّداً بالربوبية. ذكره مَكِّيٌّ، والأَوَّلُ أولَى.
وةقرأ الجمهور {الم الله} بفتح الميم، وإسقاط همزة الجلالة، واختلفوا في فتحة هذه الميم على ستة أوْجُهٍ:
أحدها: أنها حركة التقاء الساكنين، وهو مذهب سيبويه، وجمهورِ الناس.
فإن قيل: أصل التقاء الساكنين الكَسْرُ، فلِمَ عُدِلَ عنهُ؟
فالجوابُ: أنهم لو كَسَروا لكان ذلك مُفْضِياً إلى ترقيق الميم لام الجلالة، والمقصود تفخيمها للتعظيم، فأوثر الفتح لذلك، وأيضاً: فقبل هذه ياء [وهي أخت الكسرة وأيضاً فصل هذه الياء كسرة] ، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات، فحركوها بالفتح كما حركوا في نحو: مِنَ اللهِ، وأما سقوط الهمزة فواضحٌ، وبسقوطها التقى الساكنان.
الثاني: أن الفتحة لالتقاء الساكنين [أيضاً ولكن الساكنين] هما الياء التي قبل الميم، والميم الأخيرة، فحُرِّكت بالفتح لئلا يلتقي ساكنان، ومثله: أيْنَ وكَيْف [وكيت، وذيت] ، وما أشبهها.(5/4)
وهذا على قولنا: إنَّه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروف المقطَّعة، وهذا خلاف القول الأول: فإنه ينوى فيه الوقف على الحروف المقطعة، فسكنت أواخرها، وبعدها ساكن آخر، وهو لام الجلالة، وعلى هذا القول الثاني ليس لإسقاط الهمزة تأثير في التقاء الساكنين، بخلاف الأول، فإن التقاء الساكنين إنما نشأ من حذفها دَرْجاً.
الثالث: أن هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين، بل هي حركة نقل، أي: نُقِلَتْ حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو {قَدْ أَفْلَحَ} [طه: 64] وهي قراءة ورش وحمزة - في بعض طرقه - في الوقف، وهو مذهب الفراء، واحتج على ذلك بأن هذه الحروف النيِّةُ بها الوقف، وإذا كان النيةُ بها الوقْفَ، فسكن أواخرها، والنية بما بعدها الابتداء والاستئناف، فكأن همزة الوصل جرت مجرى همزة القطع؛ إذ النية بها الابتداء، وهي تثبت ابتداءً ليس إلاَّ، فلما كانت الهمزةُ في حُكْم الثَّبِتَةِ، وما قبلها ساكن صحيح قابل لحركتها خففوها بأن ألقَوْا حركتها على الساكن قبلها فقد وصلتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلها وإن كان ما قبلها موضوعاً على الوقف، فقولك: ألقيت حركته عليه بمنزلة قولك: وصلته، ألا ترى أنك إذا خففت: مَنْ أبوك؟ قلتَ: من أبُوكَ، فوصلت، ولو وقفت لم تلق الحركة عليها، وإذا وصلتها بما قبلها لزم إسقاطها، وكان إثباتها مخالفاً لأحكامها في سائر متصرفاتها.
قال شهاب الدينِ: «وهذا الرد مردود بأن ذلك مُعامل معاملةَ الموقوف عليه والابتداء بما بعده لا أنه موقوف عليه، ومبتدأ بما بعده حقيقة، حتى يردّ عليه بما ذكره» ، وقد قَوَّي جماعةٌ قولَ الفراء بما حكاه سيبويه من قولهم: ثَلاثَهَ رْبَعَة، والأصل: ثلاثةٌ أربعةٌ، فلما وقف على ثلاثة أبدل التاء هاء كما هو اللغة المشهورة، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فترك الهاء على حالها في الوصل، ثم نقل حركة الهمزة إلى الهاء فكذلك هذا.
ورد بعضهم هذا الدليل وقال: الهمزة في «أربعة» همزة قطع، فهي ثابتة ابتداءً ودَرْجًا فلذلك نُقِلت حركتها، بخلاف همزة الجلالة، فإنها واجبة السقوط، فلا تستحق نقل حركتها إلى ما قبلها، فليس وزان ما نحن فيه.(5/5)
قال شهاب الدين: «وهذا من هذه الحيثية - صحيح، والفرق لائح، إلا أن لفظ الفرّاء فيه أنه أجرى فيه الوصل مُجْرى الوقف من حيث بقيت الهاء المنقلبة عن التاء وصلاً لا وقفاً واعتد بذلك، ونقل إليها حركة الهمزة، وإن كانت همزة قطع» .
وقد اختار الزمخشري مذهب الفراءِ، وسأل وأجاب فقال: «ميم» حقها أن يُوقَفَ عليها كما يوقف على الف ولام، وأن يُبْتَدَأ بما بعدها، كما تقول: واحد. اثنان، وهي قراءة عاصم، وأما فتحتها فهي حركة الهمزة أُلْقِيت عليها حين أسْقِطت للتخفيف.
فإن قلت: كيف جاز إلقاء حركتها عليها، وهي همزة وصل لا تثبت في درْج الكلامِ، فلا تثبت حركتها؛ لأن ثبات حركتها كثباتها؟
قلتُ: هذا ليس بدرْج، لأن «ميم» في حكم الوقف والسكون، والهمزة في حكم الثابت، وإنما حُذفت تخفيفاً وألقِيَت حركتها على الساكن قبلها؛ ليدل عليها، ونظيره: وَاحِدِ اثْنَانِ بإلقائهم حركة الهمزة على الدال.
قال أبو حيّان: «وجوابه ليس بشيء؛ لأنه ادَّعَى أن الميم - حين حُرِّكَتْ - موقوف عليها، وأن ذلك ليس بدرْج، بل هو وقف، وهذا خلاف ما أجمعت عليه العرب، والنحاة من أنه لا يُوقف على متحرك ألبتة سواء ك انت حركته إعرابية، أم بنائية، أن نقلية، أم لالتقاء الساكنين، أم للإتباع، أم للحكاية، فلا يجوز في {قَدْ أَفْلَحَ} إذا حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى دال» قَدْ «أن تقف على دال» قد «بالفتحة، بل تسكنها - قولاً واحداً.
وأما قوله: ونظير ذلك وَاحِدِ اثْنَانِ - بإلقاء حركة الهمزة على الدال - فإن سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّون آخر» واحد «لتمكنه، ولم يَحْكِ الكسرَ لغةً، فإن صَحَّ الكسر فليس ولكنه موصول بقولهم: اثنان، فالتقى ساكنان دال» واحد «وثاء» اثنين «، فكسرت الدال؛ لالتقاء الساكنين، وحُذِفَتْ همزة الوصل؛ لأنها لا تثبت ي الوصل» .
قال شهاب الدينِ: «ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يوقف على» مِيمْ «من» الم «- وهي متحركة - حتى يُلْزِمَهُ بمخالفة إجماع العرب والنحاة؟ إنما ادعى أن هذا في نية الموقوف عليه قبل تحريكه بحركة النقل، لا أنه نُقِل إليه، ثم وقف عليه، هذا لم يقله ألبتة، ولم يَخْطُرْ له» .(5/6)
ثم قال الزمخشريُّ: «فإن قلْتَ: هَلاَّ زعمتَ أنها حركة التقاء الساكنين؟
قلت: لأن التقاء الساكنين لا يُبَالَى به في باب الوقف، وذلك قولك: هذا إبْراهيمْ، ودَاوُدْ، وإسْحَاقُ، ولو كان التقاء الساكنين - في حال الوقف - يوجب التحريك لحُرِّك الميمَان في ألف لام ميم؛ لالتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن أخر» .
قال أبو حيَّان: «وهو سؤال صحيح وجواب صحيح لكن الذي قال: إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من» الم «- في الوقف - وإنما عنى التقا ءالساكنين اللذين هما ميم» ميم «الأخري’، ولام التعريف كالتقاء نون» من «ولام» الرجل «إذا قلت مِنَ الرَّجُلِ» .
وهذا الوجه هو الذي تقدَّم عن مكي وغيره.
ثم قال الزمخشريُّ: «فإن قلْتَ: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في» ميم «لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا.
قلت: الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن، أنه كان يمكنهم أن يقولوا: وَاحدْ. اثْنَانِ - بسكون الدال مع طرح الهمزة - فيجمعوا بين ساكنين؛ كما قالوا: اصَيْمٌّ ومُديْقٌّ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وأنها ليست لالتقاء الساكنين «.
[قال أبو حيّان:» وفي سؤاله تعمية في قوله: فإن قلت: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين]- ويعني بالساكنين الياء والميم في «ميم» - وحينئذٍ يجيء التعليل بقوله: لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين - يعني الياء والميم - فحركوا - يعني الميم -؛ لالتقائها ساكنةٌ مع لام التعريف؛ إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن، وهو لا يمكن، هذا شرح السؤال، وأما جواب الزمخشري فلا يطابق؛ لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم: وَاحِدْ، اثْنَانِ - بأن يُسكنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ، وتسقط الهمزة، فعدلوا عن هذا الإسكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال - وهذه مكابرة ف يالمحسوس؛ إذ لا يمكن ذلك أصلاً، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكن الثاء وطرح الهمزة، وأما قوله فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع؛ لما قلناه، وأما قوله: كما قالوا: أُصَيْمٌّ وَمُدَيْقٌّ فهذا ممكن كما هو في رادّ وضالّ؛ لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط(5/7)
في النحو، فأمكن ذلك، وليس مثل ذلك «واحد» «اثنان» ؛ لأن الساكن الأول ليس حرفَ مدٍّ، ولا الثاني مُدْغماً، فلا يمكن الجمع بينهما، وأما قوله: فلما حركوا الدال، علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وأنها ليست لالتقاء الساكنين [ويعني بالساكنين الياء والميم] ؛ لما بنى على أن الجمع بين الساكنين في «واحد» «اثنان» ممكن، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فميا لا يمكن أن يجتمعا في اللفظ ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة «.
قال شهاب الدينِ:» وهذا الذي رَدَّ به عليه صحيح، وهو معلوم بالضرورة؛ إذ لا يمكن النطق بما ذكر «.
ونصر بعضهم رأي الفرّاء واختيار الزمخشري بأن هذه الحروف جيء بها لمعنى في غيرها، فأواخرها موقوفة، والنية بما بعدها الاستئناف، فالهمزة في حكم الثابت كما في أنصاف الأبيات، كقول حسان: [البسيط]
1316 - ... - لَتَسْمَعُنَّ وَشِيكاً فِي ديارِكُمُ
اللهُ أكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا ... ورجحه بعضهم أيضاً بما حكي عن المبرد: أنه يجيز: اللهُ أكْبَرَ اللهُ أكْبَر - بفتح الراء الأولى - قال: لأه في نية الوقف على» أكبر «والابتداء مبا يعده، فلما وصلوا مع قصدهم التنبيه على الوقف على آخر كل كلمة من كلمات التكبير نقلوا حركة الهمزة الداخلة على لام التعريف إلى الساكن قبلها؛ التفاتاً ملا ذكر من قصدهم، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في حركات الإعراب وأتَوا بغيرها - مع احتياجهم إلى الحركة من حيث هي فلأنْ يفعلوا ذلك فيما كان موقوفَ [الأخير] من باب أولى.
الرابع: أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعراب على أنه مفعول بفعل مقدَّر، أي اقرءوا {الم} وإنما منعه من الصرف العلمية والتأنيث المعنويّ إذْ أريد به اسم السورة، نحو قرأت هودَ، وقد قالوا هذا الوجه بعينه في قراءة مَنْ قرأ {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] بفتح الدال من صاد، فهذا يجوز أن يكون مثله.
الخامس: أن الفتحة علامة الجر، والمراد بألف لام ميم أيضاً السورة، وأنها مُقْسَمٌ بها، فحُذِفَ حرفُ القسم، وبقي عمله، وامتنع من الصرف لما تقدم، وهذا الوجه - أيضاً - مقول في قراءة من قرأ صَادَ - بفتح الدال -، إلا أن القراءة هناك شاذَّةٌ، وهنا متواترةٌ.
والظاهر أنها حركة التقاء الساكنين - كما هو مذهب سيبويه وأتباعه -.(5/8)
السادس: قال ابن كَيْسَانَ: «ألف» اله «وكل ألف مع لام التعريف [ألف] قطع بمنزلة» قَدْ «وحكمها حكم ألف القطع؛ [لأنهما حرفان جاء لمعنى] ، وإنما وُصِلَت لكثرة الاستعمال، فمن حرك الميم ألقى عليها حركة الهمزة التي بمنزلة القاف من» قَدْ «ففتحها بفتح الهمزة» ، نقله عنه مَكِّي.
فعلى هذا هذه حركة نقل من همزة قطع، وهذا المذهب مشهور عن الخليل بن أحمد، حيث يعتقد أن التعريف حصل بمجموع «أل» ، كالاستفهام يحصل بمجموع «هَلْ» ، وأن الهمزة ليست مزيدة، لكنه مع اعتقاده ذلك يوافق على سقوطها في الدَّرْج؛ إجراءً لها مُجْرَى همزة الوصل، لكثرة الاستعمال، لذلك قد تثبت ضرورةً؛ لأن الضرورة ترد الأشياء إلى أصولها.
ولما نقل أبو البقاء هذا القول ولم يَعْزُه، قال: «وهذا يصح على قول من جعل أداة التعريف» أل «- يعني الخليل؛ لأنه المشهور بهذه المقالة» .
وقد تقدم النقل عن عاصم أنه يقرأ بالوقف على «ميم» ويبتدئ ب {الله لاا إله إِلاَّ هُوَ} كما هو ظاهر عبارة الزمخشري عنه، وغيره يحكي عنه أنه يسكن الميم ويقطع الهمزة - من غير وقف منه على الميم - كأنه يجري الوصل مجرى الوقف، وهذا هو الموافق لغالب نقل القرّاءِ عنه.
وقرأ عمرو بن عُبَيْدٍ - فيما نقل الزمخشري - وأبو حيوة والرُّواسي فيما نقل ابن عطية «المِ اللهُ» - بكسر الميم -.
قال الزمخشريُّ: «وما هي بمقبولة عنه» ، والعجب منه كيف تجرأ على عمرو بن عُبَيْدٍ وهو عنده معروف المنزلة، وكأنه يريد: وما هي بمقبولة عنه، أي: لم تصحَّ عنه.
وكأن الأخفش لم يطلع على أنها قراءة فقال: «لو كُسِرَتِ الميمُ؛ لالتقاء الساكنين - فقيل:» المِ اللهُ «- لجاز» .
قال الزّجّاج: وهذا غلط من أبي الحسن، لأن قبل الميم ياءٌ مكسوراً ما قبلها فحقها الفتح، لالتقاء الساكنين، وذلك لثقل الكسر مع الياء. وهذا - وإن كان كما قال -(5/9)
إلا أن الفارسيَّ انتصر لأبي الحَسَن، ورَدَّ على أبي إسحاق رَدَّة فقال: «كَسْر الميم لو ورد بذلك سماع لم يدفعه قياس، بل كان يُثْبِتُهُ ويُقَوِّيه -؛ لأن الأصل في التحريك - لالتقاء الساكنين - الكسر، وإنما يُبْدَل إلى غير ذلك لما يعرض من علَّة وكراهة، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وَجْهَ لردِّه، ولا مساغ لدَفْعِه، وقول أبي إسحاق؛ إن ما قبل الميم ياءً مكسوراً ما قبلها، فحقها الفتح منقوض بقولهم: جَيْرِ، حيث حَرَّك الساكن - بعد الياء - بالكسر، كما حُرك بعدها بالفتح في أيْنَ، ويدل على جواز التحريك لالتقاء الساكنين بالكسر - فيما كان قبله ياء، - جواز تحريكه بالضم نحو قولهم: حَيْثُ، وإذا جاز الضم كان الكسر أجْوَزَ وأسْهَلَ» .
فصل في بيان سبب النزول
في سبب نزول هذه الآية قولان:
الأول: أنها نزلت في اليهود، وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 1، 2] .
الثاني: أنها من أولها إلى آية المباهلة في نصارى نجران.
قال الكلبي، والربيعُ بنُ أنس - وهو قول محمد بن إسحاقَ -: قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفد نجران - ستون راكباً - فيهم أربة عشر رجلاً من أشرافهم، وثلاثة منهم كانوا(5/10)
أكابر القوم، أحدهم أميرهم، وصاحب مشورتهم، يقال له: العاقب، واسمه عبد المسيح، والثاني مشيرهم ووزيرهم، وكانوا يقولون له: السيد، واسمه الأيهم، والثالث حبرهم وأسقفهم، وصاحب مِدْراسهم، يقال له: أبو حارثة بن علقمة - أحد بني بكر بن وائل - وكان ملوك الروم قد أكرموه وشرَّفوه، وموَّلوه؛ لِما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من «نجران» ركب أبو حارثةَ بغلتَه، وكان إلى جنبه أخوه كُرْزُ بنُ علقمةَ، فبينما بغلة ابي حارثةَ تسير إذ عَثَرَتْ، فقال كُرز: تَعْساً للأبعد - يريد رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال أبو حارثة: بل تَعِسَتْ أمُّك، فقال: ولِمَ يا أخي؟ فقال: إنه - واللهِ - النبيُّ الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه كرز: فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا؟
قال: لأن هؤلاء الملوك أعطَوْنَا أموالاً كثيرةً، وأكرمونا، فلو آمنَّا بمحمد لأخذوا مِنَّ كُلَّ هذه الأشياءِ، فوقع ذلك في قَلْبِ أخيه كُرْز، وكان يُضْمِره إلى أن أسْلم؛ فكان يُحَدِّثُ بذلك، ثم دخلوا مسجدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين صلى العصر - عليهم ثياب الحِبراتِ جبب وأرْدِيَةٌ -، وقد حانت صلاتهم، فقاموا للصلاة [العاقب والسيد والحبر] في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال رسول الله: دعوهم، فصلوا إلى المشرق، ثم(5/11)
تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على اختلاف من أديانهم - فتارة يقولون: عيسى هو الله، وتارةً يقولون: هو ابنُ الله، وتارة يقولون: ثالث ثلاثة، ويحتجون على قولهم: هو الله بأنه كان يُحْيي الموتَى، ويُبْرئ الأسقامَ ويُخْبِر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيطير، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله بأنه لم يكن له أبٌ يُعْلَم، ويحتجون على قولهم: ثالث ثلاثة بقوله تعالى: {فَعَلْنَا} ، قلنا، ولو كان واحداص لقال: فعلتُ، قلتُ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«أسلموا» ، قالوا: قد أسلمنا، قال عليه السلام: «كذبتم؛ يمنعكم من الإسلام دعاؤُكم لله ولداً، وعبادتكم الصليب، وأكلُكُم الخنزيرَ» ، قالوا: إن لم يكن ولدَ الله فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل اللهُ تعالى أولّ سورةِ آل عمرانَ إلى بضع وثمانين آية، منها أخذ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بناظرهم، فقال: «ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّه لاَ يَكُونُ وَلَدٌ إلا ويشبه أبَاهُ؟ قالوا: بَلَى، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لا يَمُوتُ، وأنَّ عِيسَى يأتي عليه الفناءُ؟ قالوا: بَلَى، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ، يَحْفَظُهُ ويَرْزُقُهُ؟ قالوا: بَلَى، قال: فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ تَعَالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض، ولا في السَّماءِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسَى شيئاً من ذلك إلا ما عُلِّمَ؟ قالوا: لا، قال: فإن ربَّنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، قال: ألستم تعلمون أنَّ ربَّنا لا يأكل، ولا يشربُ ولا يُحْدِثُ؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمُّه كما تحمل المرأةُ، ووضعته كما تضع المرأةُ ولدَها، ثم غُذِّي كما يُغَذَّى الصبيُّ، ثم كان يَطْعَم الطعامَ، ويَشْرَب الشراب ويُحدِث الحدثَ؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم» ؟ فسكتوا، وأبَوْا إلا جُحُوداً، ثم قالوا: يا محمد، ألستَ تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: «بلَى» ، قالوا: فحسبنا، فأنزل الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] ، ثم أمر الله محمداً بملاعنتهم _ إن ردوا عليه - فدعاهم إلى الملاعنة، فقالوا: يا أبا القاسم، دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن تفعل، فانصرفوا، ثم قال بعضُ أولئك الثلاثةِ لبعضهم: ما ترى؟ فقال: والله يا معشرَ النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبيٌّ مُرْسَل، ولقد جاءكم بفَضلٍ من خَبَرِ صاحبكم، ولقد علمتم مَا لاَعَنَ [قط] قومٌ نبيًّا إلا وفنِيَ كبيرُهم وصغيرُهم، وإنه الاستئصالُ منكم - إن فعلتم - وأنتم قد أبيتم إلا دينَكم، والإقامة على ما أنتم عليه فوادِعُوا الرجلَ، وانصرِفوا إلى بلادِكم، فأتَوْا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا [ابا القاسم] قد رأينا أن لا نُلاعنك، وأن نتركَك على دينك، وأن نرجعَ نحن على ديننا، فابعثْ رجلاً من أصحابك [معنا] يحكم بيننا في أشياءَ قد اختلَفْنا فيها من أموالِنا؛ فإنَّك عندنا رِضّى، فقال عليه السلامُ: [ائتوني] في العشيةِ أبعثْ معكم القويَّ لأمينَ، فكان عمرُ يقول: ما أحببت الإمارة قَطّ(5/12)
إلا يومئذٍ؛ رجاءَ أن أكونَ صاحبَها، قال: صلينا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، وجعلت أتَطَاولُ له؛ ليراني، فمل يزَلْ يُرَدِّدُ بصره، حتى رأى أبا عبيدةَ بنَ الجَرَّاحِ، فدعاه، فقال: اخرج معهم واقض بينهم بالحقِّ فيما اختلفُوا فيه، قال عُمرُ: فذهبَ بها أبو عبيدة.
وهذه الرواية تدل على أن المناظرة في تقرير الدين حرفة الأنبياء - عليهم السلام - وأن مذهب الحَشْوية - في إنكار البحث والنظر - باطل قطعاً.
فصل في بيان الرد على النصارى
«في وَجْه الرد على النصارى في هذه الآية» :
وهو أن الحيَّ القيومَ يمتنع أن يكون له ولد؛ لأنه واجب الوجود لذاته، وكلُّ ما سواه فإنه ممكن لذاته، مُحْدَث، حصل بتكوينه وإيجاده، وإذا كان الكُلُّ مُحْدَثًا مخلوقاً امتنع كونُ شيء منها ولداً له، ولما ثبت أن الإله يجب أن يكون حَيًّا قيوماً، وثبت أن عيسى ما كان حيًّا قيُّومًا، لأنه وُلِدَ، وكان يأكل، ويشرب، ويُحْدِث. والنصارى زعموا أنه قُتِل، ولم يقدر على دفع القتل عن نفسه، وهذا يقتضي القطع بأنه ليس بإله.
قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} العامة على التشديد في «نَزَّل» وَنَصْب «الْكِتَاب» ، وقرأ الأعمشُ، والنَّخَعِيُّ، وابنُ أبي عبلة {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} بتخفيف الزاي ورفع الكتاب.
فأما القراءةُ الأولى فقد تقدم أن هذه الجملةَ تحتمل أن تكون خبراً، وأن تكون مستأنفةً.
وأما القراءةُ الثانيةُ، فالظاهر أن الجملةَ فيها مستأنفةٌ، ويجوز أن تكون خبراً، والعائد محذوف، وحينئذ تقديره: نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ مِنْ عِنْدِهِ.
قوله: {بِالْحَقِّ} فيه وجهان:
أحدهما: أن تتعلق الباء بالفعل قبلها، والباء - حينئذ - للسببية، أي: نزله بسبب الحق.
ثانيهما: أن يتعلق بمحذوف؛ على أنه حال، إما من الفاعل - أي: نزَّله مُحِقًّا - أو من المفعول - أي: نزله ملتبساً بالحق - نحو: جاء بكر بثيابه، أي: ملتبساً بها.(5/13)
وقال مَكيّ: «ولا تتعلق الباء ب» نَزَّل «؛ لأنه قد تعدى إلى مفعولين - أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث» .
وهذا - الذي ذكره مكيٌّ - غيرُ ظاهر؛ فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون، وقد تقدم أن معنى الباء السببية، فأيُّ مانع يمنع من ذلك؟
قوله: {مُصَدِّقًا} فيه أوجهٌ:
أحدها: أن ينتصبَ على الحال من «الْكِتَاب» . فإن قيل بأن قوله: «بِالْحَقِّ» حال، كانت هذه حالاً ثانيةً عند مَنْ يُجِيز تعدد الحال، وإن لم يُقَلْ بذلك كانت حالاً أولى.
الثاني: أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل «بِالْحَقِّ» ، وذلك عند مَنْ يمنع تعدد الحال في غير عَطْفٍ، ولا بدليَّةٍ.
الثالث: أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في «بِالْحَقِّ» - إذا جعلناه حالاً - لأنه حينئذٍ يتحمل ضميراً؛ لقيامه مقام الحال التي تتحمله، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حال مؤكِّدة؛ لأن الانتقالَ فيها غير مُتَصَوَّر، وذلك نظير قول الشاعر: [البسيط]
1317 - أنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي ... وَهَلْ بِدَارَةَ - يَا لَلنَّاسِ - مِنْ عَارِ
قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مفعول ل «مصَدِّقاً» وزِيدَت اللامُ في المفعول: [تقويةٌ] للعامل؛ لأنه فرع له؛ إذْ هو اسمُ فاعل، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، وإنما ادَّعَيْنَا ذلك؛ لأنَّ هذه المادةَ متعديةٌ بنفسها.
فصل في تفسير «الحي» و «القيوم»
الحيُّ: هو الفعَّال الدرَّاك، والقيُّومُ: هو القائمُ بذاته، والقائم بتدبير الخلق، وقرأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الحي القيَّام، والمراد ب «الكتاب» - هنا - هو القرآن.
قال الزمخشري: «وخص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال؛ لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نَزَّل القرآن مُنَجَّماً، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه، وأنزل التوراةَ والإنجيل دفعَةً واحدةً، فلهذا خصَّهما بالإنزال» .
فإن قيل: يُشْكِل هذا بقوله: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] ، وبقوله: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] .
فالجواب: أن المرادَ به كُلُّ نَجْمٍ وَحْدَه.
[وسمي الكل باسم البعض مجازاً، أو نقول: «إن أنزل تشتمل على أمرين والتضعيف لا يشتمل إلاّ الإنزال مرة واحدةٌ»(5/14)
قال أبو حيَّان: وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير، ولا على التنجيم، وقد جاء في القرآن أنزل، ونزَّل قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ويدل على أنهما بمعنًى واحدٍ قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّداً بالتخفيف إلاَّ ما استثني، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعةً واحدةً لتناقضت الأخبار، وهو محال، وقد سبق الزمخشريَّ في هذا القول بعينه الواحديُّ] .
قوله: {بِالْحَقِّ} قال أبو مسلم: يحتمل وجوهاً.
أحدها: أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة.
الثاني: أن ما فيه من الوعد والوعيد يحملُ المكلَّف على اتباع الحقِّ في الْعِلم والعملِ.
ثالثها: أنه حَقٌّ؛ بمعنى أنه قول فَصْل وليس بالهَزْل.
رابعها: قال الأصَمُّ: أنْزَلُه بالحق الذي يجبُ له على خلقه من العبوديةِ، وشُكْرِ النعمةِ وما يجب لبعضهم على بعض من العدلِ، والإنصافِ.
خامسها: أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضةِ الفاسدةِ، كما قال: {أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] ، وقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] .
وقوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} معناه: مصدقاً لكُتُبِ الأنبياء، ولِما أخبروا به عن اللهِ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين:
أحدهما: أنه موافق لسائر الكتب، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها، وهو - عليه السلام - لم يختلط بالعلماء، ولا تتلمذ لأحد، ولا قرأ على أحد شيئاً [والمفتري]- إذا كان هكذا - يمتنع أن يَسْلم من الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصصَ من الله تعالى.
الثاني: قال أبو مسلم: إن الله تعالى لم يبعث نبيًّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك.
فإن قيل: كيف سمَّي ما مَضَى بأنه بَيْنَ يديه؟
فالجوابُ: أن تلك الأخبارَ - لغاية ظهورها، وكونها موجودة - سماها بهذا الاسم.
فإن قيل: كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟
فالجوابُ: إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن(5/15)
فإنها تصير منسوخةً بنزول القرآن، كان القرآن مصدقاً لها، وأيضاً فدلائل المباحث الإلهية، وأصول العقائد لا تختلف، فلهذا كان مصدِّقاً لها.
قوله: {وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} اختلف الناس في هذين اللفظين، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف، أم لا يدخلانهما؛ [لكونهما أعجميَّيْن؟] .
فذهب الزمخشريُّ وغيرهُ إلى الثاني، قالوا: لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين، قال الزمخشريُّ: «وتكلف اشتقاقهما من الوَرْي والنَّجْل، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [عربيين] » .
قال أبو حيّان: «وكلامه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً، وهو قوله» تَفْعِلَة «ولم يذكر مذهبَ البصريين وهو أن وزنها فَوْعَلَة، ولم ينبه على» تفعلة «هل هي بكسر العين أو فتحها» ؟
قال شهاب الدينِ: «لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما، وإنما ذكر المستغرب» ، ويؤيد ما قاله الزمخشريُّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديُّ، وهو أن التوراة، والإنجيل، والزبور سريانية فعرَّبوها، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا:
فقال بعضهم: التوراة مشتقة من قولهم: وَرِيَ الزَّنْدُ إذا قدح، فظهر منه نار، يقال: وَرِيَ الزند وأوريته أنا، قال تعالى:
{أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} [الواقعة: 71] ؟ ، فُثلاثيُّه قاصر، ورباعيه مُتَعَدٍّ، وقال تعالى: {فالموريات قَدْحاً} [العاديات: 2] ، ويقال أيضاً: وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي، فاستعمل الثلاثي متعدياً، إلا أن المازني زعم أنه لا يُتَجَاوز به هذا الفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال: وريت النار مثلاً، إذا تقرر ذلك، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور، سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً} [الأنبياء: 48] وهذا قولُ الفراء و [مذهب] جمهور الناسِ.
وقال آخرون: بل هي مشتقة من ورَّيتُ في كلامي، من التورية، وهي التعريض، وفي الحديث: «كَانَ إذَا أرادَ سَفَراً وَرَّى بِغَيْرِهِ» ، وسميت التوراة بذلك: لأن أكثرها(5/16)
تلويحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهب المؤرج السَّدُّوسي وجماعة، وفي وزنها ثلاثةُ أقوال:
أحدها - وهو قول الخليل وسيبويه - أن وزنها فَوْعَلَة، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو الدَّوْخَلَة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعة، والأصل: وَوْرَيَة - بواوين؛ لأنها إما من وَرِيَ الزَّنْدُ، وإما من وَرَّيْتُ في كلامي، فأبدلت الواو الأولى تاءٌ، وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً فصار اللفظ «توراة» - كما ترى - وكُتِبَت بالياء، تنبيهاً على الأصل، كما أميلت لذلك، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو تَوْلَج، وتَيْقُور، وتُخَمَة، وتُراث وتُكأة وتُجَاه وتُكْلاَن، من الوُلُوج والوَقَار والوَخَامة والوِرَاثة والوكَاء والوَجْه والوكَالة، ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضاً من قولهم - لما تراه المرأة في الطُّهْرِ بعد الحيض -: التَّرِيَّة، هي فعيلة من لفظ الوراء؛ لأنها تُرَى بعد الصُّفرة والكُدْرة.
الثاني: وهو قول الفراء: أن وزنها تَفْعِلَة - بكسر العين - فأبدلت الكسرة فتحة، وهي لغة طائية، يقولون في الناصية: نَاصَاة، وفي جارية: جَارَاة، وفي نَاجِيَة: نَاجَاة، قال الشاعِرُ: [الطويل]
1318 - ... ... ... ... ... ... .....(5/17)
فَخَرَّتْ كَنَاصَاةِ الْحُصَانِ الْمُشَهَّرِ
وقال آخر: [المنسرح]
1319 - ... ... ... ... ... ... . ... نُفُوساً بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ
وأنشد الفرَّاءُ: [الوافر]
1320 - فَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ ... وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ
وقد رد البصريون ذلك بوجهَيْن:
أحدهما: أن هذا البناء قليل جدًّا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فَوْعَلَة، فإنه كثير، فالحمل على الأكثر أولى.
الثاني: أنه يلزم منه زيادة التاء أولاً، والتاء لم تُزَد - أوَّلاً - إلا في مواضع ليس هذا منها، بخلاف قلبها في أول الكلمة، فإنه ثابت، وذلك أن الواو إذا وقعت أولاً قُلبت إما همزة نحو أجُوه وأُقِّتَتْ وإشَاح - في: وجوه ووُقِّتَتْ ووِشَاح - وإما تاء نحو: تُجَاه وتُخْمَة، فاتباع ما عُهِد أولى من اتباع ما لم يُعْهَد.
الثالث: أن وزنها «تَفْعَلة» [بفتح العين]- وهو مذهب الكوفيين - كما يقولون في تَفْعُلَة - بالضم - تَفْعَلَة - بالفتح - وهذا لا حاجة إليه، وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها.
وأَمَالَ «التوراة» - حيث ورد في القرآن - إمالة محضة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان وأمالها بين بين حمزة وورش [عن نافع] ، واختلف عن قالون، فروي عنه بين بين والفتح، وقرأها الباقون بالفتح فقط، ووجه الإمالة إن قلنا إن ألفها [منقلبة عن ياء ظاهر، وإن قلنا: إنها أعجمية لا اشتقاق لها، فوجه الإمالة شبه ألفها(5/18)
لألف] التأنيث من حيث وقوعها رابعة، فسبب إمالتها، إما الانقلاب، وإما شبه ألف التأنيث.
والإنجيل؛ قيل: إفعيل كإجفيل، وفي وزنه أقوال:
أحدها: أنه مشتق من النَّجْل، وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها، ومنه النجْل للولد، وسمي الإنجيل؛ لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ.
وقيل: من النجل وهو الأصل، ومنه النجل للوالد، فهو من الأضداد؛ إذ يُطْلَق على الولد والوالد، قال الأعشى: [المنسرح]
1321 - أنْجَبَ أيَّامَ وَالِدَاهُ بِهِ ... إذْ نَجَلاَهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلاَ
وقيل: من النجل - وهو التوسعة - ومنه العين النجلاء، لسعتها، ومنه طعنة نجلاء وسمي الإنجيل بذلك؛ لأن فيه توسعةً لم تكن في التوراة؛ إذْ حلل فيه أشياء كانت محرمة.
وقيل: هو مشتق من التناجل وهو: التنازع، يقال: تناجل الناسُ أي: تنازعوا وسُمِّي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه، قاله أبو عمرو الشيباني.
والعامة على كسر الهمزة من «إنجيل» ، وقرأ الحسن بفتحها.
قال الزمخشري: وهذا يدل على أنه أعجمي؛ لأن أفعيلاً - بفتح الهمزة - قليل عديم في أوزان العرب. قلت: بخلاف إفعيل - بكسرها - فإنه موجود نحو: إجفيل وإخريط وإصليت.(5/19)
قال ابن الخطيبِ: «وأمر هؤلاء الأدباء عجيبٌ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخرَ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل، وإما الدور، ولما كانا باطلَيْنِ وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وَضْعًا أوَّلاً، حتى يُجْعَل سائرُ الألفاظ مشتقةً منها، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا، والفرع هو ذاك الآخر، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل؟
وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يُسَمَّى بالتوراة، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يُسَمَّى بالإنجيل، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً، والذهب أصل الخاتم، والغزل أصل الثوب، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم أنه ليس كذلك، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع، ويقولوا: العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة، فلِمَ لا نتمسك به في أول الأمر، ونُرِيح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان، أحدهما بالعبرية، والآخر بالسريانية [فقيل: التوراة بالعبرانية نور، ومعناه الشريفة، والإنجيل بالسريانية» إنكليون «، ومعناه الإكليل] [فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب؟ فظهر أنَّ الأوْلَى بالعاقل أن لا يلتفتَ إلى هذه المباحث» ] .
قوله: «مِن قَبْلُ» متعلق ب «أنْزَلَ» والمضاف إليه الظرف محذوف؛ لفَهْم المعنى، تقديره: من قبلك، أو من قبل الكتاب، و «الْكِتَاب» غلب على القرآن، وهو - في الأصل - مصدر واقع موقع المفعول به، [أي] المكتوب.
وذكر المنزل عليه في قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ} ، ولم يذكره في قوله: {وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} تشريفاً لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: «هُدًى» فيه وجهان:(5/20)
أحدهما: أنه منصوب على المفعول من أجله، والعامل فيه «أنْزَلَ» أي: أنزل هذين الكتابين لأجل هدايته.
وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هُدًى، والوصفان متقاربان.
فإن قيل: لم وصف القرآن - في أول سورة البقرة - بأنه {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، ولم يصفه هنا بذلك؟ قيل: إنما وصفه - هناك - بذلك؛ [لأن] المتقين هم المنتفعون به، فهو هدى لهم لا لغيرهم وها هنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يَهْتَدُونَ بالقرآن، فلا جرم لم يقل هنا في القرآن إنه هدًى، بل قال: إنه حق في نفسه - سواء قبلوه أو ردوه - وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، ويدعون أنهم إنما يعولون في دينهم عليهما، فلا جرم، وصفهما بكونهما هدى. ويجوز أن يكون متعلقاً - من حيث المعنى - ب «نَزَّلَ» و «أنْزَلَ» معاً، وتكون المسألة من باب التنازع على إعمال الثاني والحذف من الأول، تقديره: نزل عليك الكتاب له أي: للهدى، فحذفه.
ويجوز أن يتعلق بالفعلين - معاً - تعلقاً صناعياً، لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علة للفعلين معاً، كما تقول: أكرمت زيداً وضربت عمراً إكراماً لك، يعني أن الإكرام علة الإكرام والضرب.
والثاني: أن ينتصب على الحال من التوراة والإنجيل. ولم يُثَنَّ؛ لأنه مصدر، وفيه الأوجه المشهورة من حذف المضاف - أي ذَوَي هُدًى - أو على المبالغة - بأن جُعِلا نَفْسَ الهُدَى - أو على جعلهما بمعنى هاديَيْنِ.
وقيل: إنه حال من الكتاب والتوراة والإنجيل.
وقيل: حال من الإنجيل فقط، وحذف مما قبله؛ لدلالة هذا عليه.
وقال بعضهم: تَمَّ الكلام عند قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ} فيوقف عليه، ويُبْتَدَأ بقوله: {هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان} أي: وأنزل الفرقان هدًى للناس.
وهذا التقدير غير صحيح؛ لأنه يُؤدي إلى تقديم المعمول على حرف النسق، وهو ممتنع؛ إذ لو قلت: قام زيدٌ مكتوفةٌ وضربتُ هِنْداً - تعني وضربت هنداً مكتوفةً - لم يصح، فكذلك هذا.
قوله: «لِلناسِ» يحتمل أن يتعلق بنفس «هُدًى» لأن هذه المادة تتعدى باللام، كقوله تعالى: {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وأن يتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة ل «هُدًى» .(5/21)
قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية، ولم يُجْمَع لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران، وهو يحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الفاعل، أو المفعول، والأول أظهر.
قال الزمخشريُّ: «وكرر ذكر القرآن بما هو نعت له. ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس؛ تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله» .
قال شهاب الدينِ: «قد يعتقد معتقد أن في كلامه هذا رَدًّا لقوله الأول؛ حيث قال: إن» نَزَّل «يقتضي التنجيم، و» أنْزَلَ «يقتضي الإنزال الدفعي؛ لأنه جوز أن يراد بالفرقان القرآن، وقد ذكره ب» أنْزَلَ «، ولكن لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ ذلك؛ لأنه لم يَقُل: إن أنزل للانزال الدفعيِّ فقط، بل يقول: إن» نَزَّل «- بالتشديد - يقتضي التفريق، و» أنْزِلَ «يحتمل التفريق، ويحتمل الإنزال الدفعي» .
فصل في المراد ب «الفرقان»
قيل: المراد بالفرقان هو الزبور؛ لقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [الإسراء: 55] .
وقيل القرآن، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه، ومدحاً له بكونه فارقاً بين الحق والباطل.
أو يقال: إنه تعالى أعاد ذكرَه ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل، ليجعله فارقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير، فلا تكرار.
وقال الأكثرون: إن المراد أنه تعالى - كما جعل هذه الكتب الثلاثة هدًى ودلالة - قد جعلها مفرقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع.
قال ابن الخطيبِ: «وهذه الأقوال - عندي - مُشْكِلةٌ.
فأما حمله على الزبور فبعيد؛ لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، وإنما هو مواعظ ووصف التوراة والإنجيل - مع اشتمالهما على الدلائل والأحكام - بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك.
وأما حمله على [القرآن] فبعيد من حيث إنه عطف على ما قبله، والمعطوف يغاير المعطوف عليه، والقرآن مذكور قبل ذلك فيقتضي أن يكون الفرقان مغايراً للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه [الكتب] فارقةً بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب، وعطف الصفة على الموصوف - وإن كان قد ورد فيه بعض الأشعار النادرة [إلا أنه] ضعيف، بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللهِ تعالى.
والمختار عندي هو أن المراد بالفرقان - هنا - المعجزات المقرونة بإنزال هذه(5/22)
الكتب؛ لأنهم لما أتوا بهذه الكتب، وادعوا أنها نزلت عليهم من عند الله تعالى افتقروا إلى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم ودعوى الكاذبين، فلما أظهر الله تلك المعجزات على وفق دعواهم حصلت المفارقة بين دعوى الصادق، ودعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب بالحق، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا ما عندي «.
ويمكن أن يجاب بأنه إذا قلنا: المراد به جميع الكتب السماوية، فيزول الإشكال الذي ذكره، ويكون هذا من باب ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: 27 - 31] .
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ} يحتمل أن يرتفعَ» عَذَابٌ «بالفاعلية بالجار قبله، لوقوعه خبراً عن» إنَّ «ويحتمل أن يرتفعَ على الابتداء، والجملة خبر» إنَّ «والأول أولى؛ لأنه من قبيل الإخبار بما يقرب من المفردات و» انتقام «افتعال، من النقمة وهي السطوة والتسلط، ولذلك عبر بعضهم عنها بالمعاقبة، يقال: نَقَمَ - بالفتح - وهو الأفصح، ونَقِم - بالكسر - وقد قُرِئ بهما ويقال: انتقم من انتم، أي: عاقبه وقال الليث: ويقال لم أرض عنه، حتى نقمت، وانتقمت إذا كافأه عقوبة بما صنع. وسيأتي له مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى.
فصل
اعلم أنه تعالى لما قرر جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد؛ زَجْراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرةِ، فقال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} فخصَّ بعضُ المفسّرين ذلك بالنصارى؛ قَصْراً للفظ العام على سبب نزوله.
وقال المحقِّقون: الاعتبار بعموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله {والله عَزِيزٌ} ، أي: غالب لا يُغْلَب، وهذا إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، و {ذُو انتقام} إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب، فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل.(5/23)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
هذا الكلام يحتمل وجهَيْنِ:
الأول: أن يُنَزَّلَ على سبب النزول؛ وذلك لأن النصارى ادَّعَوُا الإلهيةَ لعيسَى؛ لأمور:(5/23)
أحدها: العلم، فإنه كان يُخْبِر ن الغيوب، ويقول لهذا: إنك أكلت في دارك كذا، ويقول لذلك: إنك صنعت في دارك كذا.
الثاني: القدرة، وهي أن عيسى كان يُحْيي الموتَى، ويُبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً.
الثالث: من جهة الإلزام المعنويّ، وهو أنه لم يكن له أبٌ من البشر.
الرابع: من جهة الإلزام اللفظي، وهو قولهم لنا: أنتم تقولون: إنه روح الله، وكلمته.
فالله تعالى استدل على بطلان قولهم بإلهية عيس، والتثليث بقوله: {الحي القيوم} ، فالإله يجب أن يكون حيًّا قَيُّوماً، فلزم القطعُ بأنه لم يكن إلهاً، وأجاب عن شبهتهم بعلم الغيوب بقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} ، وكون عيسى عالماً ببعض المغيِّبات، لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنه عَلِم ذلك بوحي من الله تعالى، فعدم إحاطته بكل المغيَّبات يدل قطعاً على أنه ليس بإله؛ لأن الإله هو الذي لا يَخْفَى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء؛ لأنه خالقهما، والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى ما كان عالماً بجميع المغيَّبات، وكيف والنصارى يقولون: إنه قُتِل، فلو كان يعلم الغيب، لعلمَ بأن القوم يريدون قتله، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه، وأما تعلقهم بقدرته على إحياء الموتى، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} وتقديره: أن حصول الإحياء لعيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنَّ الله تعالى أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته، وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم إلهيته، لأن الإله هو القادر على أن يُصَوِّرَ في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب، فلو كان عيسى قادراً على الإحياء، والإماتة، لأمات أولئك الذين أخذوه وقتلوه - على زعمهم - فثبت أن الإحياء والإماتة في بعض الصور لا تدل على كونه إلهاً، وكذلك عدم حصول الإحياء والإماتة له في كل الصور دليل على أنه ما كان إلهاً.
وأما الشبهة الثالثة وهي الإلزام المعنويّ بأنه لم يكن له أب من البشر، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} فإن شاء صوره من نطفة [الأب] ، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب، كما خلق آدم من غير ابٍ أيضاً ولا أمّ.
وأما قولهم لنا: أنتم تقولون: إنه روح الله وكلمته، فهذا الإلزام لفظي، وهو محتمل للحقيقة والمجاز، فإذا ورد لفظ يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات، فوجب ردُّه إلى التأويل، وذلك هو المراد بقوله:
{هُوَ
الذي
أَنزَلَ
عَلَيْكَ الكتاب(5/24)
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] ، فظهر بما ذكرنا أن قوله: {الحي القيوم} يدل على أن المسيح ليس بإله، ولا ابن الإله.
وقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} جواب عن تعلُّقهم بالعلم، وقوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} جواب عن تمسُّكهم بقدرته على الإحياء والإماته، وعن تمسُّكهم بأنه ما كان له أب من البشر، وقوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} جوابٌ عن تمسُّكهم بما ورد في القرآنِ من أن عيسى روحُ الله وكلمته.
الحتمال الثاني: أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح [الخلق] ، وذلك لا يتم إلا بأمرين:
الأول: أن يكون عالماً بجميع حاجاتهم بالكمية والكيفية.
الثاني: أن يكون قادراً على دَفْع حاجاتهم، فالأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات، والثاني لا يتم إلا إذا كان قادراُ على جميع الممكنات، ثم إنه استدل على كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} وذلك يدل على كمال علمه، وإثبات كونه عالماً لا يجوز أن يكون بالسمع؛ لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً ما بجميع المعلومات، وإنما الطريق إليه بالدليل العقلي، وذلك بأن نقول: إن أفعال الله محكمة متقنة والفعل المُحْكَم المتقَن يدل على كون فاعله عالماً، وإذَا كان دليل كونه تعالى عالماً ما ذكرنا، فحين ادعى كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} [أتبعه] بالدليل العقلي، وهو أنه يُصَوِّرُ في ظلمات الأرحام هذه البنيةَ العجيبةَ ويركبها تركيباً غريباً من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، فبعضها أعصاب، وبعضها أوردة، وبعضها شرايين، وبعضها عضلات، ثم إنه ضَمَّ بعضها إلى بعض على أحسن تركيب وأكمل تأليف، وذلك يدل على كمال قدرته، حيث قدر أن يخلق من قطرة من نطفةٍ هذه الاعضاءَ المختلفةَ في الطبع والشكل واللون، فدلَّ هذا الفعلُ المُحْكَم المتقَن على كمال علمه وقدرته.
قوله: {فِي الأرض} يجوز أن يتعلق ب «يخفى» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «شيء» .
فصل
المراد بقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} أي: لا يخفى عليه شيء.
فإن قيل: ما فائدة قوله: «فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء» مع أنه لو أطلق لكان أبلغ؟(5/25)
فالجواب: أن الغرض منه إفهام العباد كمال علمه، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى؛ لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض، فيُعين العقل على معرفة عظمة علم الله تعالى، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم، والإدراك أكمل، ولذلك فإن المعانيَ الدقيقةَ إذا أريد إيضاحُها ذُكِر لها مثال؛ فإن المثال يُعِين على الفهم.
قوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} تحتمل هذه الجملة أن تكون مستأنفةً سيقت لمجرد الإخبار بذلك، وأن تكون في محل رفع خبراً ثانياً لإنَّ.
قوله: {فِي الأرحام} يجوز أن يتعلق ب «يُصَوِّرُكُمْ» وهو الظاهر، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «يُصَرِّرُكُمْ» أي: يصوركم وأنتم في الأرحام مُضَغٌ.
وقرأ طاوسُ: تَصَوَّرَكُمْ - فعلاً ماضياً - ومعناه: صوركم لنفسه، ولتعبدوه، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل، كقولهم: تأثلث مالاً، وأثَّلته، أي: جعلته أثلة أي: أصلاً، والتصوير: تفعيل من صاره، يصوره، أي: أماله وثناه، ومعنى صوره: جعل له صورة مائلة إلى شكل أبويه.
والصورة: الهيئة يكون عليها الشيء من تأليف خاص، وتركيب منضبط، قاله الواحدي وغيره.
والأرحام: جمع رحم، وأصلها الرحمة، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة، والعطف، فلهذا سُمِّيَ العُضْوُ رَحِماً.
قوله: {كَيْفَ يَشَآءُ} في أوجه:
أظهرُها: أنَّ «كَيْفَ» للجزاء، وقد جُوزِيَ بها في لسانهم في قولهم: كيف تَصْنَعُ أصنع، وكيف تكونُ أكونُ، إلا أنه لا يُجْزَمُ بهما، وجوابها محذوف؛ لدلالة ما قبلها عليه، وكذلك مفعول «يشاء» لما تقدم أنه لا يُذْكَر إلا لغرابة والتقدير: كيف يشاء تصويركم يصوركم، فحذف تصويركم؛ لأنه مفعول «يَشَاءُ» ويصوركم؛ لدلالة «يُصَوِّرُكُمْ» الأول عليه، ونظيره قولهم: أنت ظكالم إن فعلتَ، تقديره: أنت ظالم إن فعلتَ فأنتَ ظالمٌ.
وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يجعل «يُصَوِّرُكُمْ» المتقدم هو الجزاء، و «كَيْفَ» منصوب على الحال بالفعل بعده، والمعنى: على أي حالٍ شاء أن يصوركم صوركم، وتقدم الكلام على ذلك في قوله «كيف تكفرون» ولا جائز أن(5/26)
يكون «كَيْفَ» معمولة «يُصَوِّرُكُمْ» ؛ لأن لها صدرَ الكلام، وما له صدر الكلام لا يعمل فيه إلا أحدُ شيئين: إما حرف الجر نحو بمن تمر؟ وإما المضاف نحو غلامُ مَنْ عندَك؟
الثاني: أن يكون «كَيْفَ» ظرفاً ل «يَشَاءُ» والجملة في محل نصب على الحال من ضمير اسم الله تعالى، تقديره: يصوركم على مشيئته، أي: مُريداً.
الثالث: كذلك إلا أنه حال من مفعول «يُصَوِّرُكُمْ» تقديره: يصوركم متقلبين على مشيئته.
ذكر الوجهين أبو البقاء، ولما ذكر غيره كونها حالاً من ضمير اسم الله تعالى قدرها بقوله: يصوركم في الأرحام قادراً على تصويركم مالكاً ذلك.
الرابع: أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى: يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة كما يشاء قاله الحوفي، وفي قوله: الجملة في موضع المصدر تسامح؛ لأن الجمل لا تقوم مقام المصادر، ومراده أن «كَيْفَ» دالة على ذلك، ولكن لما كانت في ضِمْن الجملة نسب ذلك إلى الجملة.
فصل في معنى الآية
معنى: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} ذكراً أو أنثى، أبيضَ أو أسودَ، حسناً أو قبيحاً، تاماً أو ناقصاً، وقد ذكرنا أن هذا رَدٌّ على وفد نجران؛ حيث قالوا: عيسى ولد الله وكان يقول: كيف يكون ولده وقد صوره في الرحم؟ ثم إنه لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد؛ زَجْراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} و «الْعَزِيزُ» إشارة إلى كمال القدرةِ، يعني أن قدرته أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء، و «الْحَكِيمُ» إشارة إلى كمالِ العلم، يعني: أن علمه أكملُ من علم عيسى بالغيوبِ؛ فإن علمَ عيسى ببعض الصُّوَرِ، وقَدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً، وإنما الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكناتِ، عالماً بجميع الجزئيات والكليات.
قال عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو الصادقُ المصدوقُ - «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَ عُ خَلْقُهُ في بطن أمه أرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةٌ مثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةٌ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَل إلَيْهِ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيه الرُّوحَ، وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَعَمَلِهِ، وَأجَلِهِ، وَشَقِيّ أوْ سَعِيد، فَوَالَّذِي لاَ إلَه غَيْرَهُ إنَّ أحدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ(5/27)
فَيَدْخُلَهَا، وَإنَّ أحَدَكُمُ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا» .
وعن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحم بِأرْبَعِينَ أوْ خَمْسَةٍ وَأرْبَعِينَ يَوْماً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُول: أيْ رَبِّ أذَكَرٌ أوْ أنْثَى؟ فَيُكْتَبَان، وَيُكْتِبُ عَمَلُهُ، وَأثَرهُ، وَأجَلُهُ، ورِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ» .(5/28)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
وَجه النَّظْمِ على الاحتمال الأول في الآية المتقدمة أن النصارى تمسكوا - في بعض شُبَهِهِمْ - بما جاء في القرآن من صفة عيسى عليه السلام أنه روحُ اللهِ وكلمتُه، فبَيَّن الله تعالى بهذه الآيةِ أن القرآن مشتمل على مُحْكَم ومتشابه، والتمسّك بالمتشابهاتِ غيرُ جائزٍ - هذا على الاحتمال الأول في الآيةِ المتقدمةِ، وعلى الثاني - أنه تعالى لما بين أنه قيوم، وهو القائم بمصالح الخلق، والمصالح قسمان: جسمانية، وروحانية، فالجسمانية أشرفها تعدليل البنية على أحسن شكل، وهو المراد بقوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} [آل عمران: 6] وأما الروحانية فِأشرفُها العِلْمُ، وهو المراد بقوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ} يجوز أن تكون «آيَاتٌ» رَفْعاً بالابتداء، والجار خبره، وفي الجملة على هذا وجهانِ:
أحدهما: أنها مستأنفة.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «الْكِتَابِ» أي: هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال، أي: منقسماً إلى محكم ومتشابهٍ.
ويجوز أن يكون «منه» هو الحال - وحده - وآيات: رفع [به]- على الفاعلية.(5/28)
و {هُنَّ أُمُّ الكتاب} يجوز أن تكون الجملةُ صفةٌ للنَّكِرَةِ قَبْلَهَا، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً.
وأخْبَرَ بلفظ الواحد «أمُّ» عن جمع «هُنَّ» إمَّا لأن المرادَ أن كل واحدةٍ منه أمٌّ، وإمَّا لأن المجموعَ بمنزلة آية واحدةٍ، كقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع، كقوله: {وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] .
وقوله: [الوافر]
1322 - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
وقوله: [الطويل]
1323 - بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأمّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
وقال الأخفش: وَحَّد «أمُّ الْكِتَابِ» بالحكاية على تقدير الجواب، كأنه قيل: ما أمُّ الكتاب؟ فقال: هن أم الكتاب، كما يقال: مَن نظيرُ زَيْدٍ؟ فيقول قوم: نحن نظيره، كأنهم حكوا ذلك اللفظ، وهذا على قولهم: دعني من تمرتان، أي: مما يُقَال له: تمرتان.
قال ابنُ الأنباري: «وهذا بعيد من الصواب في الآية؛ لأن الإضمار لم يقم عليه دليل، ولم تدع إليه حاجةٌ» .
وقيل: لأنه بمعنى أصْل الكتاب، والأصْل يُوَحَّد.
قوله: «وأُخَر» نسق على «آيات» و «متشابهات» نعت ل «أخر» ، وفي الحقيقة «أخر» نعت لمحذوف تقديره: وآيات أخر متشابهات.
قال أبو البقاء: فإن قيل: واحدة [متشابهات: متشابهة، وواحدة أخر: أخرى، والواحد هنا - لا يصح أن يُوصَف بهذا الواحد -، فلا يقال: أخرى متشابهة] ، إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضاً، وليس المعنى على ذلك، إنما المعنى أن كل آية تشبه آيةٌ أخرى، فكيف صح وصف هذا الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصْف مفردِه بمفردِه؟
قيل: التشابهُ لا يكون إلا بين اثنين فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر، فلما لم يصح التشابه إلا في حالةِ الاجتماعِ وُصِفَ الجمعُ بالجمعِ؛ لأن كل واحد منها يشابه باقيها، فأما الواحد فلا يصح فيه هذا المعنى، ونظيره قوله:
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} [القصص: 15] فثنَّى الضمير، وإن كان الواحد لا(5/29)
يقتتل، يعني أنه ليس من شرط صحة الوصف في التثنية أو الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات، وإن كان الأصل ذلك كما أنه لا يُشترط في إسناد الفعل إلى المثنى والمجموع صحة إسناده إلى كل واحد على حدته، وقريب من ذلك قوله: {حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75] ، وقيل: ليس لِ «حَافينَ» مفرد؛ لأنه ولو قيل: حافّ لم يَصِحّ؛ إذ لا يتحقق الحفوف في واحد فقط، إنما يتحقق بجمع يُحيطون بذلك الشيءِ المحفوفِ [وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى] .
فصل
اعلم أن القرآن الكريمَ كلَّه مُحْكَمٌ من دجهة الإحكام والإتقان والفصاحة وصحة المعاني، وكونه كلاماً حقًّا؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] ، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [يونس: 1] فهو أفضل من كل كلام يُوجَد في هذه المعاني، ولا يمكن أحد أن يأتي بكلام يساويه فيها، والعرب تقول في البناء الوثيق، والعقد الوثيق الذي لا يمكن حَلُّه: مُحْكَم، وكلُّه متشابه من حيث إنه يشبه بعضهُ بعضاً في الحُسن، ويصدِّقُ بعضُهُ بعضاً؛ لقوله تعالى: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} [الزمر: 23] .
وذكر في هذه الآيةِ أن بعضه مُحْكَمٌ، وبعضه متشابه.
واختلف المفسّرون في المحكم - هنا - والمتشابه، فقال ابنُ عباس: المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الانعام، {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] الآيات، ونظيرها في بني إسرائيل {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] .
وعنه أنه قال: المتشابهات: حروف التهجي في أوائل السور.
وقال مجاهد وعكرمة: المحكم: ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه، يشبه بعضه بعضاً في الحق، ويصدق بعضه بعضاً، كقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] ، وقوله: {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 100] .
وقال قتادة والضحاك والسُّديُّ: المحكم: الناسخ الذي يُعْمَل به، والمتشابه: المنسوخ الذي لا يُعْمَل به ويؤمن به، ورَوَى علي بن أبي طلحةَ عن ابن عباس قال:(5/30)
محكمات القرآن: ناسخه، وحلالُه، وحرامُه، وحدودُه، وفرائضُه، وما يؤمن به ولا يُعْمَل به.
وقيل المحكمات: ما أوقف الله الخلقَ على معناها، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، ولا سبيل لأحد إلى علمه نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجالِ، ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة، وفناء الدنيا.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المُحْكَم ما لا يَحْتَمل من التأويل غير وجه، والمتشابه ما احتمل أوجهاً.
وقيل: المحكم: ما يعرف معناه، وتكون حُجَجُه واضحةً، ولا تشتبه دلائله، والمتشابه: هو الذي يُدرك علمه بالنظر، ولا يَعْرِفُ العوامُّ تفصيلَ الحق فيه من الباطل، وقيل المحكم: ما يستقل بنفسه في المعنى، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه بل يُرَدّ إلى غيره.
فصل
«في تفسير المحكم في أصل اللغةِ» :
العرب تقول: أحكمتُ وحكمتُ بمعنى رددتُ، ومنعت، والحاكم يمنع الظالمَ عن الظلم، وحَكَمَةُ اللجامِ هي التي تمنعُ الفرسَ عن الاضطرابِ، وفي حديث النَّخَعِيِّ: أحْكم اليتيم كما تُحْكِمُ وَلدَك، أي: امنعه من الفساد.
وقال جَرير: [الطويل]
1324 - أبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُم..... ... ... ... ... ... ... ... .
أي: امنعوهم.
وبناءٌ مُحْكَم: أي: وثيق، يمنع مَنْ تعرَّض له، وسُمِّيت الحكمةُ حكمةً؛ لأنها تمنعُ عما لا ينبغي.
والمتشابه: هو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز [(5/31)
بينهما] ، قال تعالى: {إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] ، وقال في وصف ثمارِ الجنةِ: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها} [البقرة: 25] أي: مُتَّفِق المنظر، وقال تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم} [البقرة: 118] ، ويقال: أشبه عليَّ الأمر إذا لم يَظْهَر له الفرق ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُتَشابِهَاتٌ» وفي رواية مشتبهات، ثم لما كان من شأن المتشابهَيْن عَجْزُ الإنسانِ عن التمييز بينهما، سمِّي كلُّ ما لا يَهْتَدِي إليه الإنسان بالمتشابه؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبَّب، ونظيره المشكل، سُمِّي بذلك؛ لأنه أشكل أي: دخل في شكل غيره، فأشبهه وشَاكَله، ثُمَّ يقال لكل ما غَمُضَ - وإن لم يكن غموضُه من هذه الجهةِ - مشكلاً، ولهذا يُحْتَمَل أن يقال للذي لا يُعْرَف ثبوتُه أو عدمُه، وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابهاً [له] ، ولم يتميز أحدُهما عن الآخر بمزيد رُجْحَان، فلا جرم يُسَمَّى غير المعلوم بأنه متشابه.
قال ابن الخطيبِ: «فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغةِ، والناس قد أكثروا في تفسير المحكَم والمتشابه، ونحن نذكر الوجهَ الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول: إذا وُضِعَ اللفظ لمعنى فإما أن يحتمل غيره أو لا، فإن كان لا يحتمل غيره فهو النص، وإن احتمل غيرَه فإما أن يكونَ احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر، فيكون بالنسبة إلى الراجح ظاهراً، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً، وإن كان احتماله لهما على السوية، فيكون اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً، فحصل من هذا التقسيم أن اللفظ، إما أن يكون نصاً، أو ظاهراً، أو مؤولاً، أو مشتركاً، والنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى بالمحكَم، أما المجمل والمؤول، فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة [وإن لم يكن راجحاً، أو غير مرجوح، والمؤوَّل - مع أنه غير راجح - فهو مرجوح، لا بحسب الدليل المنفرد] ، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى المتشابه؛ لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً، وقد بينَّا أن ذلك يسمى متشابهاً، إما لأن الذي لا يُعْلَمُ يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن، وإما لأجل أن الذي [يحصل] فيه التشابه يصير غير معلوم، فيطلق لفظ» المتشابه «على ما لا يُعْلَم؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصَّل في المحكَم والمتشابه.(5/32)
فصل
روى البخاري عن سعيد بن جبيرٍ قال: قال رجلٌ لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: ما هي؟ قال: قوله: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 50] ، وقوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] مع قولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية وفي «النازعات» قال: {أَمِ السمآء بَنَاهَا} [النازعات: 27] إلى قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 27 - 30] فذكر خلق السماء قبل الأرض، وقال {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9 - 11] إلى: «طَآئِعِينَ» فذكر خلق الأرض قبل السماء وقال: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 100] {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 158] {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 134] فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس: معنى قوله: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُم} النفخة الأولى ثم يُنْفَخُ في الصور فيُصْعَق مَن في السموات ومن في الأرض إلا مَنْ شَاءَ الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك، وفي النفخة الأخيرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
أما قولهم: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أي: أن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فيقول المشركون: تعالوا نقول: ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم، وتنطق جوارحُهم بأعمالهم، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً، وعنده {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] ، وخلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دَحا الأرض، بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الأشجار والجبال [والآكام] وما بينهما في يومين آخرين، وذلك قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فخلق الأرض وما فيها في أربعة ايام وخلق السماء في يومين.
وقوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} يعني نفسه، أي: لم يزل، ولا يزال كذلك، وأن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراده ويحك، فلا يختلف عليك القرآنُ، فإن كُلاًّ من عند الله.
فصل
في الفوائد التي لأجلها جُعِل بَعْضُ القرآن محْكَماً، وبعضهُ متشابهاً.
قال ابن الخطيبِ: «طعن بعضُ الملحدة في القرآن؛ لأجل اشتماله على المتشابهات، وقالوا: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم(5/33)
القيامة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله:
{وَجَعَلْنَا
على
قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرا} [الأنعام: 25] ، والقدَريُّ يقول: بل هذا مذهب الكفار؛ بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْف} [البقرة: 88] ، وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 232 - 23] ، والنافي يتمسك بقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103] ، ومثبت الجهة يتمسك بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِم} [النحل: 50] وقوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] والنافي يتمسك بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة، وإنما يُرْجَع في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام القيامة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً خالياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض؟ فذكر العلماء في فوائد المتشابهات وجوهاً:
الأول: أنه متى ك انت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.
الثاني: أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه افتقر الناظر إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال، ولو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية، وكان يبقى - حينئذٍ - في الجهل والتقليد.
الثالث: أن القرآن لما كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر إلى تعلم طرق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علوم اللغة، والنحو، وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان يحتاج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد هذه المتشابهات هذه الفوائد.
الرابع: أن القرآن يشتمل على دعوة الخواص، والعوامّ بالكلية، وطباع العوام تنبو - في أكثر الأمر - عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام - في أول الأمر - إثبات موجود ليس بجسم ولا متحرك ولا يشار إليه ظَنَّ بأن هذا عَدَم ونَفْي، فوقع في العطيل، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه، وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح فالمخاطبة في أولِ الأمرِ تكون من أبواب المتشابهات، والثاني وهو الذي انكشف لهم في آخر الأمر هو المحكم.(5/34)
الخامس: [لو ك ان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما يُنَفِّر أربابَ المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كلِّ مذهب أن يجدَ فيه ما يقوي له حكمه ويُؤثِرُ مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميعً أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كلُّ صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله، ويصل إلى الحق، والله أعلم] .
قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يجوز أن يرتفع «زيغ» بالفاعلية؛ لأن الجار قبله صلة لموصول، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله.
قوله «الزيغ» قيل: المَيْل [مطلقاً] ، وقال بعضهم: هو أخَصُّ من مطلق الميل؛ فإن الزيع لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل.
قال الراغب: «الزيغُ: الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، وزاغَ وزالَ ومالَمتقاربٌ، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل» انتهى. يقال: زاغ يَزيغُ زَيْغاً، وزَيْغُوغَةً وزَيغَاناً، وزُيوغاً.
قال الفراء: والعرب تقول في عامة ذواتِ الياء - فيما يُشْبه زِغْت - مثل: سِرْتُ، وصِرْتُ، وطِرْتُ: سَيْرورة، وصَيْرورة، وطَيْرُورة، وحِدت حَيْدودة، ومِلت ميلولة. . لا أحصي ذلك، فأما ذواتُ الواوِ مثل قُلْت، ورُضْت، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظٍ: الكَيْنُونة والدَّيْمومة - من دام والهَيْعُوعَة - من الهُوَاع، والسَّيْدودَة - من سُدت -، ثم ذكر كلاماً كثيراً غير متعلق بما نحن فيه. وقد تقدم الكلام على هذا المصدر، وأنه قد سمع في هذا المصدرِ الأصل - وهو كَينُونة - في قول الشاعر: [الرجز]
1325 - يَا لَيْتَنَا قَدْ ضَمَّنَا سَفِينَهْ ... حَتَّى يَعُودَ الوَصل كَيَّنُنَهْ
قوله: «ما تشابه» مفعول الاتباع، وهي موصولة، أو موصوفة، ولا تكون مصدريةً؛ لعَوْد الضمير من «تشابه» عليها، إلا على رأيٍ ضعيفٍ، و «مِنه» حال من فاعل «تَشَابه» أي تشابه حال كونه بعضه.
قوله: «ابْتِغَاءَ» منصوب على المفعول له، أي: لأجل الابتغاء، وهو مصدر مضاف لمفعوله. والتأويل: مصدر أوَّل يُؤوِّلُ، وفي اشتقاقه قولان:(5/35)
أحدهما: أنه من آل يَئُولُ أوْلاً، ومآلاً، أي: عَادَ، ورجع، وآلُ الرجلِ من هذا - عند بعضهم إلا أنهم يرجعون إليه في مُهِمَّاتِهِم ويقولون: أولتُ الشيء: أَي: صرفته لوجهٍ لائقٍ به فانصرف، قال الشاعر: [السريع]
1326 - أؤَوِّلُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ ... لَيْسَ قَضَائِي بِالْهَوَى الْجَائِرِ
وقال بعضهم: أوَّلت الشيء، فتأول، فجعل مطاوعه تفعل، وعلى الأول مطاوعه فعل، وأنشد الأعشى: [الطويل]
1327 - عَلَى أنَّهَا كَانَتْ تَأوَّلُ حُبَّهَا ... تَأوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فأصْحَبَا
أي: يعني أن حبها كان صغيراً، قليلاً، فآل إلى العِظَم كما يَئُول السَّقْبُ إلى الكِبر، ثم قد يُطْلَق على العاقبة، والمردِّ؛ لأنَّ الأمر يصير إليهما.
الثاني: أنه مشتق من الإيَالَةِ، وهي السياسةُ، تقول العر: قَدْ ألْنَا وَإيلَ عَلَيْنَا، أي: سُسْنَا وساسَنا غيرُنا، وكأن المؤوِّلَ للكلام سايسهُ، والقادر عليه، وواضِعه موضعَه، نُقِل ذلك عن النضر بن شميل.
وفرق الناس بين التفسير والتأويل في الاصطلاح بأن التفسير مقتصر به على ما لا يُعْلَم إلاَّ بالتوقيف كأسباب النزول، ومدلولات الألفاظ، وليس للرأي فيه مَدْخَل، والتأويل يجوز لمن حصلت عنده صفة أهلِ العلمِ، وأدواتٌ يقدر أن يتكلم بها إذا رجع بها إلى أصولٍ وقواعدَ.
فصل
روى ابنُ عباسٍ: أن رَهْطاً من اليهود منهم حُيَيّ بنُ أخْطَبَ، وكعبُ بنُ الأشرف ونظراؤهما أتوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له حُيَيّ: بلغنا أنه نزلَ عليك الم، فننشدك الله، أنزل عليك؟ قال: نَعَمْ، قال: فإن كان ذلك حقاً فأنا أعلم مدّة مُلْك أمتك، هي إحْدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرُها؟ قال: نعم، المص، قال: هذه أكثر، هي مائة وإحدى وثلاثون سنة، فهل أنزل غيرها؟ قال: نعم، المر، قال: هذه أكثر، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة، وقد خَلَّطتَ علينا، فلا ندري ابكثيره نأخذ، أم بقليله ونحن ممن لا يُؤمن(5/36)
بهذا؟ فأنزلَ الله {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} .
وقال الربيع: هم وَفْدُ نجرانَ، خاصموا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عيسى، وقالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: حَسْبُنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم أنزل: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] .
قال ابن جريج: هم المنافقون.
وقال الحسن: هم الخوارج، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري مَنْ هُمْ، وقال المحققون: إن هذا يَعُم جميعَ المبطلين، قالت عائشة: تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآيةَ منه آيات محكمة هي أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله: أولي الألباب {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} فقال رسول الله: «فَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأولَئِكَ الذين سمى الله فاحذرهم» وعن أبي غالب قال: «كنت أمشي مع أبي أمامة، وهو على حمار حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق، فإذا رؤوسٌ منصوبة، فقال: ما هذه الرؤوس؟ قيل: هذه رؤوس يُجاء بهم من العراق، فقال أبو أمامة: كلابُ النار، كلابُ النار، [كلابُ النار] أو قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قَتَلهم وقتلوه - يقولها ثلاثاً - ثم بكى، فقلت: ما يُبْكيك يا أبا أمامة؟ قال: رحمةً لهم؛ إنهم كانوا من أهل الإسلام، فخرجوا منه، ثم قرأ: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} الآية، ثم قرأ: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات} [آل عمران: 105] ، فقلت: يا أبا أمامة، هم هؤلاء؟ قال: نعم، قلت: أشيء تقوله برأيك، أم شيء سمعته من رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال: إني إذَنْ لَجرِيء، إني إذاً لَجَريءٌ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه سولم غيرَ مرةٍ ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس، ولا ست، ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال: وإلا فَصُمَّتَا، قالها ثلاثاً - ثم قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول
«تَفرَّقَتْ بَنو إسرائيلَ على أحْدَى وسبعينَ فرقةً،(5/37)
واحدةٌ في الجَنَّةِ، وَسَائِرَهُم في النَّارِ، ولتزيدَنَّ عليهم هَذِهِ الأمةُ واحدةً، واحدةٌ في الجنَّة وسائرُهم في النّار» .
فصل
لما بيَّنَ الله تعالى أن الزائغِين يتَّبعون المتشابهِ بيَّن أنّ لهم فيه غرضَيْنِ:
الأول: ابتغاء الفتنة.
والثاني: ابتغاء التأويل.
أما الفتنة فقا لالربيع والسدي: الفتنة: طلب الشرك.
وقال مجاهد: ابتغاء الشبهات واللَّبْس، ليضلوا بها جُهَّالهم.
وقال الأصم: متى وقعوا في المتشابهات، صَارَ بعضهم مخالفاً للبعض في الدين، وذلك يفضِي إلى التقاتل، والهَرْج والمَرْج.
وقيل: المتمسك بالمتشابه يُقَرِّر البِدَع والأباطيل في قلبه، فيصير مفتوناً بذلك الباطلِ، عاكفاً عليه، لا يقلع عنه بحيلة ألبتة لأن الفتنة في اللغة: التوغُّل في محبة الشيء، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي: مُوغِل في طلبها.
وقيل: الفتنة في الدين هي الضلال عنه، [ومعلوم أنه لا فتنة، ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه] .
وأما التأويل فقد ذكرنا تفسيره في اللغة، والفرق بينه وبين التفسيرز
قد يسمى التفسيرُ تأويلاً قال تعالى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78] ، وقال: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء: 35] ، وذلك لأنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى، والمراد منه: أنهم يطلبون التأويل الذي ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا بيان، كطلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب للمطيع والعاصي كم تكون؟(5/38)
وقيل: ابتغاء التأويل: طلب عاقبته، وطَلَبُ أجَل هذه الأمة من حساب الجُمل؛ لقوله تعالى: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء: 35] أي: عاقبةً.
وقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} اختلف الناسُ في هذا الموضع: فقال قوم: الواو في قوله: «وَالرَّاسِخُونَ» عاطفة على الجلالة، فيكونون داخلين في عِلْم التأويل وعلى هذا يجوز في الجملة القولية وجهان:
أحدهما: أنها حال: أي: يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك.
والثاني: أن تكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم يقولون - وهذا قول مجاهد والربيع وهذا لقوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} [الحشر: 7] ثم قال {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8] إلى أن قال: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] ثم قال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} ولهذا عطف على ما سبق ثم قال: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} [الحشر: 10] يعني هم مع استحقاقهم الفيء(5/39)
يقولون: {رَبَّنَا اغفر لَنَ} أي: قائلين على حال. وروي عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم، وعن مجاهد: أنا ممن يعلم تأويله.
وذهب الأكثرون إلى أن الواو في وقله: «والرَّاسِخُونَ» واو الاستئناف، فيكون مستدأ، وتم الكلام عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} والجملة من قوله: «يَقُولُونَ» خبر المبتدأ، وهذا قول أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وعائشةَ، وعروة بن الزبير، ورواية طاوس عن ابن عباس وبه قال الحسنُ، وأكثر التابعين، واختاره الكسائي، والفرّاء، والأخفش، وقالوا: لا يعلم تأويلَ المتشابه إلا اللهُ، ويجوز أن يكون للقرآن تأويلٌ استأثر الله بعلمه لم يُطْلِع عليه أحداً من خلقه، كما استأثر بعلم السَّاعة، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدَّجَّالِ ونزول عيسى - عليه السلام - ونحوها، والخلق متعبدون بالمتشابه، والإيمان به، وفي المحكم في الإيمان به والعمل، ومما يُصَدّق ذلك قراءةُ عبد الله: «إنْ تأويلُه إلا عندَ الله والرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. .» ، وفي حرف أبي: ويقول الراسخون في العلم آمنا به. قال عمر بن عبد العزيز - في هذه الآية -: انتهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بتأويل القرآن إلى أن قالوا: آمنا به، كل من عند ربنا.
وهذا القول أقيسُ في العربية وأشبه بظاهر الآية، ويدل لهذا القول وجوه:
أحدها: أنه ذم طالب المتشابه بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} .
الثاني: أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، وقال [في أول البقرة] : {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِم} [البقرة: 26] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل كان لهم في الإيمان به مدحٌ؛ لأن كل من عرف شَيئاً على سبيل التفصيلِ، فلا بد وأن يُؤمن به.
الثالث: لو كان قوله: «وَالرَّاسِخًونَ» معطوفاً لصار قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ابتداء، وهو بعيد عن الفصاحة، وكان الأولى أن يُقَالَ: وهم يقولون، أو يقال: ويقولون.
فإن قيل: في تصحيحه وجهان:
الأول: أن «يَقُولُونَ» خبر مبتدأ، والتقديرُ: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا.
الثاني: أن يكون «يَقُولُونَ» حالاً من الراسخين.
فالجواب: أن الأول مدفوع بأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الإضمار أولى، والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره - وهو الراسخون - فوجب أن يكون قوله: «آمنا به» حالاً من الراسخينَ لا من «الله» وذلك ترك للظاهر.(5/40)
رابعاً: قوله: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله، وبما لا يعرفون تفصيله، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل، لم يبق لهذا الكلامِ فائدة.
وخامسها: نُقل عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: تفسير القرآن على اربعة أوجه: «تفسير لا يسمع أحداً جهلُه، وتفسير تعرفه العربُ بألسنتها، وتفسيرٌ تعرفه العلماء، وتفسيرٌ لا يعلمه إلا اللهُ تعالى» .
وسئل مالك بن أنس عن قوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] فقال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» .
والرسوخ: الثبوت والاستقرار ثبوتاً متمكّناً، فهو أخص من مطلق الثَّبَاتِ.
قال الشاعر: [الطويل]
1328 - لَقَد ْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ... لِلَيْلَى أبَتْ آيَاتُهَا أن تُغَيَّرا
«آمَنَّا بِهِ» في محل نصب بالقول، و «كُلٌّ» مبتدأ، أي: كله، والجار بعده خبره، والجملة نصب بالقول أيضاً.
فإن قيل: ما الفائدة في لفظ «عِنْدِ» ولو قال: كل من ربنا لحصل المقصود؟
فالجوابُ: أن الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد من التأكيد.
فإن قيل: لِمَ حُذِفَ المضاف إليه من «كُلٌّ» ؟
فالجوابُ: لأن دلالته على المضاف قوية، فالأمْنُ من اللَّبْسِ بعدَ الحذفِ حاصلٌ.
قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} مَدْحٌ للذين قالوا: آمنا، قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ والسُّدِّيُّ: بقولهم آمنَّا سماهم الله راسخينَ في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم: آمنا به - أي المتشابه - كلٌّ من عند ربنا - المحكم والمتشابه، وما علمناه، وما لم نعلم -.
وقيل: الراسخونَ: علماء أهل الكتاب - كعبد الله بن سلام وأصحابه - لقوله تعالى: {لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُم} [النساء: 162] يعني الدارسين علم التوراة، وسُئِل مالك بن أنس عن الراسخينَ في العلمِ فقال: العالمُ العاملُ بما عَلِم، المتَّبع له.
وقيل: الراسخ ي العلم من وُجِدَ في علمه أربعة أشياءٍ: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
«وَمَا يذكَّرُ» يتَّعظ بما في القرآن {إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} ذوو العقول.(5/41)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
اعلم أنه تعالى لمَّا حكى عن الراسخين أنهم يقولون: «آمنا به» ، حكى أنهم(5/41)
يقولون: ربنا لا تزغ قلوبنا وحذف يقولون؛ لدلالة الأول عليه، كما في قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا} [آل عمران: 191] .
قال القرطبيُّ: ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمدُ.
قوله: «لا تُزغْ» العمة على ضَمِّ حَرْف المضارعةِ، من أزاغ يزيغ، و «قُلُوبَنَا» مفعول به، وقرأ أبو بكر بن فايد وأبو واقد الجراح: «لا تَزغْ قُلُوبُنَا» - بفتح التاء، ورفع «قُلُوبُنَا» ، وقرأ بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعلى القراءتين، فالقلوب فاعل بالفعل المنهي عنه، والتذكير وأتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمع وتذكيره، والنهي في اللفظ للقلوب، وفي المعنى دعاء لله تعالى - أي: لا تزغ قلوبنا فتزيغ، فهو من باب «لا أرَينَّكَ ههُنَا» .
وقول النابغة: [البسيط]
1329 - لا أعرِفَن رَبْرَباً حُوراً مَدَامِعُهَا..... ... ... ... ... ... ... ... ...
قوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، «بَعْدَ» منصوب ب «لا تُزِغْ» ، و «إذْ» هنا خرجت عن الظرفية؛ للإضافة إليها وقد تقدم أن تصرفها قليل، وإذا خرجت عن الظرفيةِ، فلا يتغير حكمها من لزوم إضافتها إلى الجملة بعدها، كما لم يتغير غيرها من الظروف في هذا الحكمِ، ألا ترى إلى قوله {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] و {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} [الانفطار: 19]- قراءة من رفع «يومُ» في الموضعين -.
وقول الآخر: [الطويل]
1330 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... عَلَى حِينِ الكِرَامُ قَلِيلُ
وقوله: [الطويل]
1331 - عَلى حِينِ مَنْ تَلْبَثْ عَلَيْهِ ذُنُوبهُ..... ... ... ... ... ... ... .(5/42)
وقوله: [الطويل]
1332 - عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا..... ... ... ... ... ... .
وقوله: [الطويل]
1333 - أَلا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاء جَدِيدُ..... ... ... ... ... ... ... ...
كيف خرجت هذه الظروف عن النصب إلى الرفع والجر والنصب ب «لَيْت» ، ومع ذلك هي مضافةٌ للجمل التي بعدها.
فصل
هذه الآية تدل على أن الزيغَ والهداية خلق الله تعالى، قال أهل السنة: ذلك لأن القلب صالح لأن يميلَ إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين، إلا عند حدوث داعية وإرادة أحدثها الله تعالى.
فإن كانت تلك الداعية [داعية] الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والرَّيْن، والقسوة والوقر والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.
وإن كانت تلك الداعيةُ داعيةَ الإيمان، فهي التوفيق، والإرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «قَلْبُ المؤمن بَيْنَ أصبعينِ مِنْ أصابعِ الرَّحْمَنِ، إنْ شَاءَ أقامه، وإن شاء أزاغَهُ» ، والمرادُ من هذين الأصبعين الداعيتان، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:
«اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ القلوب(5/43)
والأبصار ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دينك» ومعناه ما ذكرنا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَثَلُ الْقلبِ كَرِيشَةٍ بأرْضٍ فَلاَةٍ تُقلبُهَا الرِّياحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ» .
وقالت المعتزلةُ: الزيغُ لا يجوز أن يكون بفعل الله؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] ، وهذا صريح في أن ابتداء الزيغ منهم.
والجوابُ: أن مذهبهم أن كل ما صح في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لُطْفاً، وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته، ولصار محتاجاً، والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجةٍ إلى طلبه بالدعاء؟
فإن قيل: فما الجواب عن قوله: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} ؟
قلنا: لا يبعد أن الله تعالى يُزيغهم ابتداء، فعند ذلك يزيغون، ثم يترتب على الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى، ولا منافاةَ فيه.
وقوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، أي: جعلتنا مهتدين، وهذا صريحٌ أيضاً في أن حصولَ الاهتداءِ في القلب بتخليق اللهِ تعالى.
قوله: {وَهَبْ لَنَا} الهِبَة: العَطِيَّة، حذفت فاؤها، وكان حق عين المضارع منها كسر العين منه، إلا أن ذلك منعه كونُ العين حرفَ حَلْقٍ، فالكسرة مقدَّرة، فلذلك اعتبِرَت تلك الكسرةُ المقدرةُ فحذفت لها الواو وهذا نحو: «يضع» و «يسع» ، لكون اللام حرف حلقٍ، ويكون «هَبْ» فعل أمر بمعنى اعتقد، فيتعدى لمفعولين.
كقوله: [المتقارب]
1334 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَإلاَّ فَهَبْنِي أمْرَأ هالِكا
وحينئذ لا يتصرف.
ويقال أيضاً: وَهَبني الله فِداك، أي: جعلني، ولا يتصرف أيضاً عن الماضي بهذا المعنى.(5/44)
قوله: «مِنْ لَدُنْكَ» متعلق ب «هَبْ» ، و «لَدُنْ» ظرف، وهي لأول غاية زمان أو مكان، أو غيرها من الذوات نحو: من لدن زيد، فليست مرادفة لِ «عِنْد» ، بل قد تكون بمعناها، وبعضهم يقيدها بظرف المكانِ، وتضاف لصريح الزمانِ.
قال: [الراجز]
1335 - تنتَهِضُ الرِّعْدَةُ فِي ظُهَيْرِي ... مِن لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى الْعُصَيْرِ
ولا يُقْطع عن الإضافة بحال، وأكثر ما تضاف إلى المفردات، وقد تُضاف إلى «أنْ» وَصِلَتها؛ لأنهما بتأويل مفردٍ.
قال: [الطويل]
1336 - وُلِيتَ فَلَمْ تَقْطَعْ لَدُنْ أنْ وَلِيتَنَا ... قَرَابَةَ ذِي قُرْبَى وَلاَ حَقَّ مُسْلِمِ
أي: لدن ولايتك إيانا، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية.
كقوله: [الطويل]
1337 - وَتَذْكُرُ نُعْمَاهُ لَدُنْ أنْتَ يَافِعٌ ... إلَى أنْتَ ذُو فَؤْديْنِ أبيضَ كَالنَّسْرِ
وقد تُضَافُ للفعلية.
كقوله: [الطويل]
1338 - لزمْنَا لَدُنْ سَالَمْتُمُونَا وِفَاقَكُمْ ... فَلاَ يَكُ مِنْكُمْ لِلْخِلاَفِ جُنُوحُ
وقال آخرُ: [الطويل]
1339 - صَرِيعُ غَوانٍ رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ ... لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ
وفيها لغتان: الإعراب، وهي لغة قَيْس، وبها قَرَأ أبو بكر عن عاصم {مِنْ لَدُنْهُ} [النساء: 40]- بجر النون -، وقوله: [الرجز]
1340 - ... ... ... ... ... ... ... .....(5/45)
مَنْ لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى العُصَيْرِ
ولا تخلو من «من» غالباً، قاله ابنُ جني، ومن غير الغالب ما تقدم من قوله:
1341 - ... ... ... ... . لَدُنْ أنت يافع..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وإن وقع بعدها لفظ «غدوة» خاصة - جاز نصبها، ورفعها، فالنصب على خبر «كان» أو التمييز والرفع على إضمار «كَانَ» التامة، ولولا هذا التقدير لزم إفراد «لَدُن» عن الإضافة، وقد تقدم أنه لا يجوز، فمن نَصْب «غدوة» قوله: [الطويل]
1342 - فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمُ ... لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ
واللغةُ المشهورةُ بناؤها؛ لشبهها بالحرف في لزوم استعمالٍ واحدٍ، وامتناع الإخبار بها، بخلاف «عند» ، و «لدن» فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً؛ إذ يكون فضلةً، وعُمدةً، وغايةً وغير غاية، بخلاف «لَدُن» .
وقال بعضهم: «علة بنائِها كونها دالة على الملاصقة، ومختصةً بها، بخلاف» عند «فإنها لا تدل على الملاصقة، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف، فكأنها مضمنة معنى حرف كان من حقه أن يوضَع لذلك، فلم يُوضَع، كما قالوا في اسم الإشارةِ، واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان ب» لَدُنْ «المفتوحة اللام، المضمومة الدال، الواقع آخرُها نونٌ، وأما بقية لغاتها فهي - فيها - مبنية عند جميع العرب، وفيها عشر لغاتٍ: أشهرها الأولى، ولدَن، ولدِن - بفتح الدال وكسرها - ولَدْنِ، ولُدنِ - بفتح اللام وضمها، مع سكون الدالِ وكسر النونِ - ولُدْنَ - بالضم والسكون وفتح النون -، ولَدْ، ولُدْ - بفتح اللام وضمها مع سكون الدالِ، ولَدُ - بفتح اللام وضم الدال ولت - بإبدال الدال تاءً ساكنةً، ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رَدُّ النون.
قوله: {أَنْتَ الوهاب} » أنت «يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون ضميرَ الفصل، وأن يكون تأكيداً لاسم» إنَّ «.
فصل
اعلم أن هؤلاء المؤمنين سألوا ربهم ألا يَجْعَل قلوبَهُم مائلةً إلى العقائد الفاسدة ثم أتبعوا ذلك بطلب تنوير قلوبهم.(5/46)
وقال» رحمة «؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيمَ إلا هو أكد ذلك بقوله: {مِن لَّدُنْكَ} تنبيهاً للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه.
وقوله: {أَنْتَ الوهاب} كأن العبد يقول: إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ - حقير - بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودِك ورحمتك؛ فإنك أنت الوهاب.(5/47)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
قرأ أبو حاتم {جَامِعُ الناس} بالتنوين والنصب - و «لِيَوْمٍ» اللام للعلة، أي: لجزاءِ يوم، وقيل: هي بمعنى «في» ، ولم يذكر المجموع لأجله، و «لا رَيْبَ» صفة ل «يَوْم» ، أي: لا شك فيه، فالضمير في «فِيهِ» عائد عليه، وأبْعَد مَن جَعَلَه عائداً على الجمع المدلول عليه ب «جَامِعُ» ، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى، أو على العَرْض.
قوله: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} يجوز أن يكون من تمام حكايةِ قولِ الراسخين، فيكون التفاتاً من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيَان بالاسم الظاهر؛ دلالةً على تعظيمه، ويجوز أن يكون مستأنفاً من كلام الله تعالى، فلا التفاتَ حينئذٍ.
و «الميعاد» مصدر، وياؤه منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها كميقات.
فإن قيل: لم قالوا - في هذه الآية -: إن اللهَ لا يخلف الميعادَ، وقالوا - في تلك الآية - إنك لا تخلف الميعاد؟
فالجوابُ: أن هذه الآيةَ في مقام الهيبةِ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر؛ ليُنْتَصَف للمظلومين من الظالمين، فكان ذكره باسمه الأعظم أوْلَى في هذا المقامِ، وفي تلك الآية مقام طلب العبدِ من ربه أن ينعم عليه بفضله، ويتجاوز عن سيئاته، فليسَ مقام الهيبةِ، فلا جرم قال: {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 194] .
فصل
اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالأخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.
فصل
اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.
فصل
احتج الجبائيُّ - بهذه الآية - على القطع بوعيد الفساق، قال: لأن الوعيدَ داخل(5/47)
تحت لفظ الوعد؛ لقوله تعالى: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44] ، والموعد والميعاد واحد، وقد أخبر - في هذه الآيةِ - أنه لا يُخْلف الميعاد.
والجواب: لا نسلم القول بوعيد الفساق مطلقاً، بل ذلك مشروط بعدم العفو، كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاقِ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه توعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد، ويكون قوله: {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} كقوله:
{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] ، فيكون من باب التهكمِ، ويجوز أن يكون المراد أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله تعالى.
وذكر الواحديُّ في البسيط - أنه يجوز أن يُحْمَل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء؛ لأن خُلْفَ الوعيد كرم عند العرب؛ لأنهم يمدحون بذلك، قال: [الطويل]
1343 - إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنَجْزَ وَعْدَهُ ... وَإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُه
وروى المناظرة بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عُبَيْد: قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عُبَيْد فما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال: أقول: إنَّ الله تعالى وَعَدَ وعْداً وأوعد إيعاداً، فهو مُنجز إيعاده كما هو منجز وعده، فقال أبو عمرو بن العلاء: إنك رجل أعْجَمُ، لا أقول: أعجم اللسان، ولكن أعجمُ القلب؛ إن العربَ تَعُدُّ الرجوعَ عن الوعد لُؤماً، وعن الإيعاد كَرَمًا، وأنشد: [الطويل]
1344 - وَإنِّيَ إن أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُكْذِبُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
فقال له عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو، فهل يُسَمّى الله مكذب نفسه؟ فقال: لا، فقال له عمرو بن عبيد: فقد سقطت حجتك.
قال ابن الخطبيبِ: «وكان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول: إنك قِسْت الوعيد على الوعد، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين؛ وذلك لأن الوعدَ حق عليه، والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره، فذلك هو اللؤم، فظهر الفرق.(5/48)
وأما قولك: لو لم يفعلْ لصار كاذباً، أو مكذب نفسه.
فالجوابُ: أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيدُ ثابتاً جزماً من غير شرط، وعندي أن الوعيد مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى» .(5/49)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
لما حكى دعاءَ المؤمنين وتضرُّعَهم حكى كيفيةَ حال الكافرين، وشدة عقابهم، وفيهم قولان:
أحدهما: أن المراد بهم وفد نجران؛ لأنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني أعلم أنه رسولُ اللهِ حقاً، ولكني إن أظهرتُ ذلك أخذ ملوكُ الرومِ مني ما أطَوْنِي من المال، فبيَّن الله تعالى أن أموالهم لا تدفع عنهم عذابَ الله.
الثاني: أن اللفظ عام، وخصوصُ السبب لا سمنع عمومَ اللفظ.
قوله: {لَن تُغْنِيَ} العامة على «تُغْنِي» بالتاء من فوق؛ مراعاةً لتأنيث الجميع، وقرأ الحسنُ وأبو عبد الرحمن بالياء من تحت - بالتذكير - على الأصل، وسكن الحسن ياءَ «تُغْنِي» ؛ استثقالاً للحركةِ على حرف العلة، وذهاباً به مَذْهَبَ الألف، وَبَعضهم يخص هذا بالضرورةِ.
قوله: {مِّنَ الله} في «مِن» هذه أربعة أوجه:
أحدها: أنها لابتداء الغايةِ - مجازاً - أي: من عذاب اله وجزائه.
الثاني: أنها بمعنى «عند» قاله أبو عبيدة، وجعله كقوله تعالى: {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] ، أي: عند جوع، وعند خوف، وهذا ضعيف عند النحويين.
الثالث: أنها بمعنى بدل.
قال الزمخشري: قوله: {مِّنَ الله} مثل قوله: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} [يونس: 36] ، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعته شيئاً، أي: بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق ومنه [قوله] : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» ، أي: لا(5/49)
ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلاً، أي: بدل طاعتك وما عندك، وفي معناه قوله تعالى: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} [سبأ: 37] ، وهذا الذي ذكره من كونها بمعنى بدل جمهور النحاة يَأبَاه؛ فإن عامة ما أوْرَدَهُ يتأوَّله الجمهورُ.
ومنه قوله: [الرجز]
1345 - جاريةٌ لَمْ تَأكُلِ الْمُرَقَّقَا ... وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا
وقول الآخر: [الكامل]
1346 - أخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفصيلِ غُلُبَّةً ... ظُلْماً، وَيَكْتُبُ للأميرِ أفِيلا
وقوله تعالى: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} [الزخرف: 60] ، وقوله: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] ؟
الرابع: أنها تبعيضية، إلا أن هذا الوجه لما أجازه أبو حيّان مبنياً على إعراب «شَيْئاً» مفعولاً به، بمعنى: لا تدفع، ولا تمنع، قال: فعلى هذا يجوز أن يكون «من» في موضع الحال من «شَيْئاً» ؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعتِ له، فلما تقدم انتصب على الحال، وتكون «من» إذ ذاك - للتبعيض.
قال شهاب الدينِ: «وهذا ينبغي أن لا يجوز ألبتة؛ لأن» منَ «التبعيضية تؤوَّلُ بلفظ بعض مضافةً لما جرَّتْه» مِنْ «ألا ترى أنك إذا قلتَ: رأيت رجلاً من بني تميم، معناه: بعض بني تميم، وأخذت من الدراهم: أي: بعضَ الدراهم، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصْلاً، وإنما يصح جعله صفة لِ» شَيْئاً «إذا جعلنا» مِنْ «لابتداء الغاية، كقولك: عندي درهم من زيد، أي: كائن أو مستقر من زيد، ويمتنع فيها التبعيض، والحال كالصفة في المعنى، فامتنع أن تكون من للتبعيض مع جعله» مِنَ اللهِ «حالاً من» شَيْئاً «، وأبو حيّان تبع أبا البقاءِ في ذلك، إلا أن أبا البقاء حين قال ذلك - قَدَّر مضافاً وضَّح به قوله، والتقدير: شيئاً من عذاب الله، فكان ينبغي أن يتبعه - في هذا الوجهِ - مُصَرِّحاً بما يدفع هذا الذي ذكرته» .
و «شَيْئاً» إما منصوب على المفعول به وقد تقدم تأويله وإما على المصدرية، أي: شَيْئاً من الإغناء.
قوله: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} هذه الجملة تحتمل وجهَيْن:(5/50)
أحدهما: أن تكون مستأنفةً.
والثاني: أن تكون منسوقة على خبر «إنَّ» و «هم» تحتمل الابتداء والفصل.
وقرأ العامة «وَقُودُ» بفتح الواو، والحَسن بِضَمِّها وتقدم تحقيقُ ذلك في البقرة، وأن المصدرية محتملة في المفتوح الواو أيضاً، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويله، فلا حاجة إلى إعادته.
فصل
اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنهم كل ما يُنْتَفَعُ به، ثم تجتمع عليه الأسبابُ المؤلمة.
الأول هو المراد بقوله: {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم} ؛ فإن المرء - عند الخطوب - يفزع إلى المال والولد؛ لأنهما أقربُ الأمور التي يُفْزَع إليها في دَفْع النوائب، فبيَّن تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالِفَةٌ لصفةِ الدنيا، وإذا تعذَّر عليه الانتفاع في ذلك اليوم بالمالِ والولدِ - وهما أقرب الطرق - فما عداه بالتعذُّر أوْلَى، ونظيره: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] .
وأما الثاني من أسباب كمال العذاب - وهو اجتماع الأسباب المُؤْلمةِ - فهو المراد بقوله: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} وهذا هو النهايةُ في العذابِ؛ فإنه لا عذابَ أعظم من أن تشتَعِل النارُ فيم كاشتعالها في الحطب اليابِسِ.(5/51)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
في كاف «كَدَأب» وجهانِ:
أحدهما: أنها في محل رَفْع؛ خَبَراً لِمبتدأ مُضْمَر، تقديره: دأبهم - في ذلك «كَدَأبِ آلِ فِرعَوْن» وبه بدأ الزمخشريُّ، وابنُ عطية.
الثاني: أنها في محل نَصْب، وفي الناصب لها تسعةُ أقوالٍ:
أحدها: أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف، والعامل فيه «كَفَرُوا» ، تقديره: إنَّ الذين كفروا كُفْراً كدأب آل فرعون، أي: كعادتهم في الكفر، وهو رأي الفرَّاءِ.
وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته، فلزم الفصلُ بينَ أبْعَاضِ العلةِ بالأجنبيِّ، وهو لا يجوز.(5/51)
الثاني: أنه مصوب ب «كَفَرُوا» لكن مقدر؛ لدلالة هذا الملفوظ به عليه.
الثالث: أن الناصبَ مقدَّر، مدلول عليه بقوله: «لَنْ تُغْنِيَ» أي: بطل النتفاعهم بالأموالِ والأولادِ كعادة آل فرعونَ في ذلك. والمعنى: إنكم قد عرفتم ما حلَّ بآل فرعون ومَنْ قبلَهم من المكذبين بالرسل - من العذاب المعجل الذي عنده - لم ينفعهم مال ولا ولد.
الرابع: أنه منصوب بلفظ «وَقُودُ» ، أي: تُوقَد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون، كما تقول: إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك، تريد: كظلم أبيك، قاله الزمخشريُّ، وفيه نظر؛ لأن الوقود - على القراءة المشهورة - الأظهر فيه أنه اسم لِما يوقد به، وإذا كان اسماً فلا عَمَل له، فإن قيل: إنه مصدر على قراءة الحَسن صَحَّ، ويكون معنى الدأب: الدؤوب - وهو اللُّبْثُ والدوام، وطول البقاء في الشيء - وتقدير الآية: «وَأُولَئِكَ هُم وَقُودُ كَدَأْبِ آل فِرْعَونَ» .
[أي: دؤوبهم في النار كدأب آل فرعون] .
الخامس: أنه منصوب بنفس «لَنْ تُغْنِي» أي: لن تغني عنهم مثل ما لم تُغنِ عن أولئك، ذكره الزمخشري، وضعَّفه أبو حيَّان بلزوم الفصل بين العامل ومعموله بالجملة - التي هي قوله: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} قال: «على أي التقديرين اللَّذَيْنِ قدرناهما فيهما من أن تكون معطوفة على خبر» إنَّ «أو على الجملة المؤكَّدة ب» إنَّ «قال: فإن جعلتها اعتراضيةً - وهو بعيد - جازَ ما قال الزمخشريُّ» .
السادس: أن يكون العامل فيها فعلاً مقدَّراً، مدلولاً عليه بلفظ «الوَقُود» ، تقديره: توقَد بهم كعادة آل فرعون، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق، قاله ابنُ عطية.
السابع: أن العامل يُعَذَّبُونَ كعادةِ آل فرعونَ، يدل عليه سياق الكلام.
الثامن: أنه منصوب {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ، والضمير في «كَذَّبُوا» - على هذا - لكفار مكة وغيرهم من معاصِرِي رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي: كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعونَ في ذلك التكذيب.
التاسع: أن العامل فيه قوله: {فَأَخَذَهُمُ الله} ، أي: فأخذهم الله أخْذاً كأخذه آل فرعون، والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل، وتارةً إلى المفعول، والمعنى: كَدَأبِ الله في آل فرعون، ونظيره قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} [البقرة: 165] أي: كَحُبِّهم لله، وقال: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} [الإسراء: 77] والمعنى: سنتي فيمن أرسلنا قبلك، وهذا مردود؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها، لا يجوز قمت زيداً فضربت وأما زيداً فاضرب، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة.(5/52)
وقد حكى بعضُ النحاةِ - عن الكوفيين - أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف، فعلى هذا يجوز هذا القول، وفي كلام الزمخشريِّ سهو؛ فإنه قال: ويجوز أن ينتصب محلُّ الكاف ب «لَنْ تُغْنِيَ» أو ب «خَالِدُونَ» ، [أي: لم تُغنِ عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، أو هم فيها خالدون كما يُخَلَّدُون] .
وليس في لفظ الآية الكريمة {خَالِدُونَ} ، إنما نظم الآية {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} ، ويبعد أن يقال: أراد «خَالِدُون» مُقَدَّراً، يدل عليه السياق، اللهم إلا إن فسرنا الدأبَ باللُّبْث والدوام وطول البقاء.
وقال القفَّالُ: «يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى، والعادة المضافة إلى الكفار، كأنه قيل: إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كعادة من قبلهم في إيذاء رُسُلِهِم وعادتنا أيضاً في إهلاك الكفارِ، كحعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين، والمقصود - على جميع التقديراتِ - نصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على إيذاء الكفار، وبشارته بأن الله سينتقم منهم» .
الدأب: العادة، يقال: دأب، يَدْأبُ، اي: واظب، ولازم، ومنه {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} [يوسف: 47] ، أي: مداومة.
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
1347 - ... - كَدَأبكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
وَجَارَتِهَا أمِّ الرَّبَابِ بِمَاسَلِ ... وقال زُهير: [الطويل]
1348 - لأرْتَحِلَنّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لأدْأبَنّْ ... إلَى اللَّيْلِ إلاَّ أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ
وقال الواحديُّ: «الدأب: الاجتهاد والتعب، يقال: صار فلان يومه كله يَدْأب فيه، فهو دائب، أي: اجتهج في سَيْرِه، هذا أصله في اللغة، ثم [يصير] الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله» .
وكذا قال الزمخشريُّ، قال: «مصدر دأب في العمل إذا كَدَح فيه، فوُضِع مَوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنه وحاله» .(5/53)
ويقال: دأَب، ودأْب - بفتح الهمزة وسكونها - وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأَن وكالمَعْز والمَعَز وقرأ حفص: {سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} بالفتح.
قال الفرَّاء: «والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنَّعْل والنَّعَل، والنَّهْر والنَّهَر، والشَّأْم والشَّأَم.
وأنشد: [البسيط]
1349 - قَدْ سَارَ شَرْقِيُّهُمْ حَتَّى أتَوْا سَبَأ ... وَانْسَاحَ غَرْبِيُّهُمْ حَتَّى هَوى الشَّأَمَا
{والذين مِن قَبْلِهِمْ} يجوز أن يَكُونَ مجروراً نسقاً على {آلِ فِرْعَوْنَ} ، وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء، والخبر قوله - بعد ذلك - {كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} ، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكافِ في محل رفع، فقال:» فعلى هذا - أي: على كونها مرفوعة المحل؛ خبراً لمبتدأ مضمر - يجوز في {والذين مِن قَبْلِهِمْ} مبتدأ، و «كَذَّبُوا» خبره «.
قوله: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} قد تقدم أنه يجوز أن يكون خَبراً عن «الَّذِينَ» إن قيل: إنه مبتدأ، فإن لم يكن مبتدأ فقد تقدم أيضاً أنه يكون تفسيراً للدأب، كأنه قيل: ما فعلوا، وما فعل بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتِنا، فهو جوابُ سؤال مقدر، وأن يكون حالاً، وفي قوله: {بِآيَاتِنَا} التفات؛ لأن قبله {مِّنَ الله} وهو اسم ظاهر.
والمراد بالآيات: المعجزات، والباء في «بِذُنُوبِهِمْ» يَجوز أن تكون سببيةً، أي: أخذهم بسبب ما اجترحوا، وأن تكون للحالِ، أي أخذهم متلبسين بالذنوب، غير تائبين منها والذنب في الأصل - التِّلْو والتابع، وسُمِّيَت الجريمةُ ذَنْباً؛ لأنها يتلو، أي: يتبع عقابُها فاعلمه والذَّنُوب: الدَّلْو؛ لأنها تتلو الحبلَ في الجذبِ، وأصل ذلك من ذَنَب الحيوان؛ لأن يذنبه أي: يتلوه، يقال: ذنبه يذنبه ذنباً، أي: تبعه، واستعمل في الأخذ؛ لأن مَنْ بينَ يده العقاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يَقْدر على التخلُّص. قوله {شَدِيدُ العقاب} كقوله: {سَرِيعُ الحساب} [البقرة: 202] ، أي: شديدٌ عِقَابه وقد تقدم تحقيقه.(5/54)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
قرأ الأخوان: «سَيُغلبُونَ» و «يُحْشَرُونَ» - بالغيبة - والباقون بالخطاب، وهما واضحان كقولك: قل لزيد: قم؛ على الحكاية، وقل لزيد: يقوم وقد تقدم نحو من هذا في قوله: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [البقرة: 83] .
وقال أبو حيّان: - في قراءة الغيبة -: «الظاهر أنَّ الضميرَ للذين كفروا، وتكون الجملة - إذ ذاك ليست محكية ب» قل «بل محكية بقول آخَرَ، التقدير: قل لهم قولي: سيغلبون وإخباري أنهم سيقع عليهم الغَلَبةُ، كما قال:» قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سلف «فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيُغْلَبون، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيُغْلَبُون» .
وهذا الذي قاله سبقه إليه الزمخشريُّ، فأخذه منه، ولكن عبارة الزمخشريِّ أوضحُ، قال رَحِمَهُ اللَّهُ: فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين القراءتين - من حيث المعنى؟
قلت معنى القراءة بالتاء - أي من فوق - الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحَشْر إلى جهنَّمَ، فهو إخبار بمعنى: ستُغْلَبُون وتُحْشَرون، فهو كائن من نفس المتوعَّد به، وهو الذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكي لهم ما أخْبِرَ به من وعيدهم بلفظه، كأنه قال: أدِّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك: «سيُغْلَبون ويُحْشَرون» .
وجوَّز الفرَّاءُ وثعلبُ أن يكون الضمير في «سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ» لكفار قريش، ويُرَاد بالذين كفروا اليهود، والمعنى: قل لليهود: ستُغْلَبُ قريش. وهذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط.
قال مَكيٌّ: «ويقوِّي القراءة بالياء - أي من تحت - إجماعهم على الياء في قوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ، لإجماع الحَرَميَّينِ وعاصم وغيرهم على ذلك» .
قال شهابُ الدينِ: ومِثْل إجماعهم على قوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ} [الأنفال: 38] إجماعُهم على قوله {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} [النور: 30] ، وقوله: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ} [الجاثية: 14] ، وقال الفرّاء: «مَن قرأ بالتاءِ جعل(5/55)
اليهود والمشركين داخِلينَ في الخطاب، ثم يجوز - في هذا المعنى - التاء والياء، كما تقول في الكلام: قل لعبد الله: إنه قائم، وإنك قائم» .
وفي حرف عبد الله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} ، ومَن قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وأنَّ الغَلَبَةَ تقع على المشركين، كأنه قيل: قل يا محمد لليهود سيُغْلَب المشركون، ويُحْشَرُونَ، فليس يجوز في هذا المعنى إلاَّ الياءُ لأن المشركين غيب.
فصل في سبب النزول
في سبب نزول الآية أوجه:
الأول: قال ابن إسحاق - ورواه سعيدُ بنُ جُبَيْر، وعكرمةُ عن ابن عباس -: لما أصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قريشاً ببدر، ورجع إلى المدينة، جمع اليهودَ في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشرَ اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، فأسلموا قبل أن يَنْزِل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نَبِيٌّ مُرْسَل، تجدون ذلك في كتابكم، فقالوا: يا محمد، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت قوماً أغماراً - لا عِلْم لهم بالحرب - فأصَبْتَ منهم فُرْصَةٌ، وإنا - والله - لو قاتلناك لعرفْتَ أنَّا نحن الناس، فأنزل الله تعالى: { {قُل لِلَّذِينَ كفروا} ، يعني اليهود «سَتُغْلَبُونَ» تُهْزَمُونَ، «وَتُحْشَرُونَ» فِي الآخرة «إلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَادُ» أي: الفراش.
الثاني: قال الكلبيُّ عن ابن عباس - أيضاً -: إن يهود أهل المدينة - لما شاهَدُوا هزيمة المشركين يومَ بدر - قالوا: والله إن هذا لهو النبيُّ الأميُّ الذي بَشَّرَنَا به موسى، وفي التوراة نعته، وأنه لا يُرَدُّ عليه رأيه، وأرادوا اتباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى، فلما كان يوم أحد، ونُكِبَ أصحابُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شَكُّوا، وقالوا: ليس هو ذلك، فغَلَبَ عليهمُ الشقاءُ فلم يُسْلِموا، وقد كان بينهم وبين أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عهدٌ إلى مدة فنقضوا ذلك العهدَ، وانطلق كعبُ بن الأشرف في ستين راكباً - إلى مكة يستنفرهم، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله هذه الآية.
الثالث: أن هذه الآية واردة في جميع الكفار.
فصل في تكليف ما لا يطاق
استدلوا على [جواز] تكليف ما لا يطاق بهذه الآية، قالوا: لأن الله تعالى أخبر(5/56)
عن الكفارِ بأنهم يُحْشَرونَ إلى جهنم، فلو آمنوا لانقلب هذا الخبر كَذِباً، وذلك محال، فكأنَّ الإيمان منهم محال، وقد أمِروا به، فيكون تكليفاً بالمحال.
{سَتُغْلَبُونَ} إخبار عن أمر يحصل في المستقبل، وقد وقع مخبره على موافقته، فكان هذا إخباراً عن الغيب، فهو مُعْجز، ونظيره - في حق عيسى - {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] .
قوله: {بِئْسَ المهاد} المخصوص بالذم محذوفٌ، أي بئس المهاد جهنمُ، والحذف للمخصوص يدل على صحة مذهب سيبويه من أنه مبتدأ.
والجملة قبله خبره، ولو كان - كما قال غيره - مبتدأ محذوف الخبر، أو بالعكس، ملا حف ثانياً؛ للإجحاف بحذف سائر الجملة.
و «بئس» مأخوذ من البأساء، وهو الشر والشدة، قال تعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] أي: شديد.(5/57)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
«قَدْ كَانَ» جواب قسم محذوفٍ، و «آيَةٌ» اسم «كان» ولم يُؤنث الفعلُ؛ لأن تأنيث الآية مجازيٌّ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان.
فهذا كقول امرئِ القيسِ: [المتقارب]
1350 - بَرَهْرَهَةٌ، رُؤدَةٌ، رَخْصَةٌ ... كَخُرُعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ
قال الأصمعي: «البَرَهْرَهَةُ: الممتلِئَة المُتَرَجْرِجَة، والرُّؤدَة، والرادة: الناعمة» .
قال أبو عمرو: وإنما قال: الْمُنْفَطِر، ولم يقل: المنفطرة؛ لأنه رَدٌّ على القضيب، فكأنه قال: البان المنفطر، والخرعوبة: القضيب، والمنفطر: الذي ينفطر بالورق، وهو ألين ما يكون.
قال أبو حيّان: أوَّل البانةَ بمعنى القضيب، فلذلك ذكر المنفطر، ولوجود الفصل ب «لَكُم» فإن الفصلَ مسوغ لذلك مع كون التأنيث حقيقيًّا، كقوله: [البسيط]
1351 - إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنكُنَّ وَاحِدَةٌ ... بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيا لَمَغْرُورُ(5/57)
وقال بعضهم: محمول على المعنى، والمعنى: قد كان لكم بيانُ هَذه الآيةِ.
وفي خبر «كان» وَجهَانِ:
أحدهما: أنه «لَكُم» و «فِي فِئَتَيْنِ» في محل رفع نَعْتاً لِ «آيَةٌ» .
والثاني: أنه «فِي فِئَتَيْنِ» وفي «لَكُمْ» وجهانِ:
أحدهما: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «آية» ؛ لأنه - في الأصل - صفة لآية، فلمَّا تقدَّم نُصِبَ حَالاً.
الثاني: أنه متعلق ب «كان» ذكره أبو البقاء، وهذا عند مَنْ يَرَى أنها تعمل في الظرف وحرف الجر ولكن في جَعْل «فِي فِئَتَيْنِ» الخَبَرَ إشْكالٌ، وهو أن حكم اسم «كان» حكم المبتدأ، فلا يجوز، أن يكونَا اسماً لها إلا ما جاز الابتداء به، وهنا لو جعلت «آية» مبتدأ، وما بعدها خبراً لم يجز؛ إذْ لا مُسَوِّغَ لربتداء بهذه النكرة، بخلاف ما إذا جَعَلْتَ «لَكُم» الخبرَ، فإنَّه جائز لوجود المسوِّغ، وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جَرٍّ.
قوله: {التقتا} في محل جر، صفة ل «فِئَتَيْنِ» ، أي: فئتين ملتقيتين، يعني بالفئتين المسلمين والمشركين يوم بَدر.
قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ} العامة على رفع «فِئَةٌ» وفيها أوجُه:
أحدها: أن تَرْتَفِعَ على البدل من فاعل «الْتَقَتَا» ، وعلى هذا فلا بد من ضمير محذوف يعود على «فِئَتَيْنِ» المتقدمتين في الذكر؛ ليسوغ الوصف بالجملة؛ إذ لو لم يقدَّر ذلك لما صَحَّ؛ لخلو الجملة الوصفية من ضمير، والتقدير: في فئتين التقت فئةٌ منهما مؤمنة، وفئة أخرى كافرة.
الثاني: أن يرتفع على خبر ابتداء مُضْمَرٍ، تقديره: إحداهما فئةٌ تقاتل، فقطع الكلام عن أوله، ومِثْلُه ما أنشده الفرّاء على ذلك: [الطويل]
1352 - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ شَامِتٌ ... وَآخَرُ مُثنٍ بالذي كُنْتُ أصْنَعُ
أي أحدهما شامت، وآخر مُثنٍ، ومثله في القطع قول الآخر: [البسيط](5/58)
1353 - حَتَّى إذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ ... وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ
أي: بعضه مَلْويٌّ، وبَعْضُه مَحْصُود.
قال أبو البقاء: فإن قلتَ: إذا قدرت في الأولى إحداهما مبتدأ كان القياس أن يكون والأخرى أي الفئة الأخر كافرة.
قيل: لمَّا عُلِم أن التفريقَ هنا لنفس الشيء المقدم ذكره كان التعريفُ والتنكيرُ واحداً، ومثل الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيت المتقدِّم: شامت، وآخر مُثْنٍ، فجاء به نكرة دون ال.
الثالث: أن يرتفع على الابتداء، وخبره مُضْمَر، تقديره: منهما فئةٌ تقاتل، وكذا في البيت، أي: منهم شامت، ومنهم مثنٍ.
ومثله قول النابغةِ: [الطويل]
1354 - تَوهَّمْتُ آيَاتٍ لهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِستَّةِ أعْوَامٍ، وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْن لأياً أبِينُهُ ... نُؤيٌ كجذمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ
تقديره: منهنَّ - أي من الآيات - رمادٌ، ومنهن نُؤيٌ ويحتمل البيت أن يكون - كما تقدم - من تقدير مبتدأ، ورماد خبره، كما تقدم في نظيره.
وقرأ الحسنُ ومجاهدٌ وحُمَيدٌ: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ} بالجر على البدل من فِئَتَيْنِ «، ويُسَمَّى هذا البدل بدلاً تفصيلياً كقول كُثَيِّر عَزَّةَ: [الطويل]
1355 - وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْن رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيْهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
هو بدل بعض من كل، وإذا كان كذلك فلا بد من ضمير يعود على المبدل منه، تقديره: فئةٍ منهما.
وقرأ ابن السَّمَيْفَع، وابن أبي عَبْلَة» فِئَةٌ «بالنصب، وفيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: النصب بإضمار أعني.(5/59)
والثاني: النصب على المَدْح، وتحرير هذا القول أن يقال على المدح في الأول وعلى الذم في الثاني، كأنه قيل: أمدح فئةٌ تقاتل في سبيل الله، وأذمُّ أخرى كافرةً.
والثالث: أن ينتصب على الاختصاص، جوَّزَه الزمخشريُّ.
قال أبو حيّان:» وليس بجيد؛ لأن المنصوبَ لا يكون نكرةٌ ولا مُبْهَماً «.
قال شهابُ الدينِ: لا يعني الزمخشريُّ الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو:» نَحْنُ - مَعَاشِرَ الأنبياءِ - لا نُورَثُ «، إنما على النصب بإضمار فعلٍ لائقٍ، وأهل البيان يُسَمُّونَ هذا النحوَ اختصاصاً.
الرابع: أن ينتصب» فِئَةٌ «على الحال من فاعل» الْتَقَتَا «، كأنه قيل: التقتا مؤمنةً وكافرةً، فعلى هذا يكون» فئة «و» أخرى «توطئةً للحال؛ لأن المقصود ذكر وَصْفَيْهما، وهذا كقولهم: زيد رجلاً صالحاً، ومثله في باب الإخبار - {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] ، ونحوه. قوله: {وأخرى كَافِرَةٌ} » أخْرَى «صفة لموصوف محذوف، تقديره: وفِئَةٌ أخْرَى كَافِرَةٌ وقرئت» كافرة «بالرفع والجر على حسب القراءتين المذكورتين في» فِئَةٌ تُقَاتِلُ «، وهذه منسوقة عليها.
وكان من حق من قرأ» فِئَةٌ «- بالنصب - أن يقرأ» وأخْرَى كَافِرَةٌ «بالنصب عطفاً على الأولى، وفي عبارة الزَّمخشريِّ ما يوهم القراءة به؛ فإنه قال:» وقرئ «فِئَةٍ تقاتلُ» «وأخرى كافرةٍ» بالجر على البدل من «فئتين» ، والنصب على الاختصاص أو الحال «فظاهر قوله: و» بالنصب «أي في جميع ما تقدم وهو فئةً تقاتلُ أخرى كافرةً وقد تقدم سؤال أبي البقاء، وهو لو لم يقل: والأخرى بالتعريف أعني حال رفع فئة تقاتل على خبر ابتداء مضمر تقديره إحداهما، والجواب عنه.
والعامة على «تُقَاتِلُ» - بالتأنيث «؛ لإسناد الفعل إلى ضمير المؤنث، ومتى أسْنِد إلى ضمير المؤنث وجب تأنيثه، سواء كان التأنيث حقيقةً أو مجازاً، نحو الشمس طلعت، وعليه جمهور الناس.
وخالف ابنُ كَيْسان، فأجاز: الشمسُ طلع.
مستشهداً بقول الشاعر: [المتقارب](5/60)
1356 - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَِهَا
حيث قال: أبقل - وهو مسند لضمير الأرض - ولم يقل: أبقلت، وغيره يخصه بالضرورة.
وقالوا: إذ كان يمكن أن يَنقلَ حركةَ الهمزةِ على تاء التأنيثِ الساكنةِ، فيقول: ولا أرضَ أبقلتِ أبْقَالَها.
وقد رَدُّوا عليه بأن الضرورة ليس معناها ذلك، ولئن سلمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان ممن لغته النقل، لأن النقل ليس لغةَ كلِّ العربِ.
وقرأ مجاهدٌ ومقاتل:» يُقَاتِلُ «- بالياء من تحت - وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابنِ كَيْسَانَ، ومُقوِّيَةٌ له، قالوا: والذي حسن ذلك كونُ» فِئَةٌ «في معنى القوم والناس، فلذلك عاد الضمير عليها مذكراً.
قوله:» يَرَوْنَهُمْ «، قرأ نافع - وحده - من السبعة، ويعقوب، وسهل:» تَرَوْنَهُمْ «بالخطاب والباقون من السبعة بالغيبة.
فأما قراءة نافع ففيها ثمانية أوجهٍ:
أحدها: أن الضميرَ في» لَكُمْ «والمرفوع في» تَرَوْنَهُمْ «للمؤمنين، والضمير المنصوب في» تَرَوْنَهُمْ «والمجرور في» مِثْلَيْهِمْ «للكافرين، والمعنى: قد كان لكم - أيها المؤمنون - آية في فئتين بأن رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد، وهو أبلغ في القدرة؛ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عَدَدِ الكافرين، ومع ذلك انتصروا عليهم وغلبوهم، وأوقعوا بهم الأفاعيلَ، ونحوه قوله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] .
واستبعد بعضهم هذا التأويلَ؛ لقوله تعالى - في الأنفال [الآية: 44]-: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} ، فالقصة واحدة، وهناك تدل الآية على أن الله - تعالى - قلَّل المشركين في أعين المؤمنين؛ لئلا يَجْبُنُوا عنهم، وعلى هذا التأويل - المذكور ههنا - يكون قد كثرهم في أعينهم. ويمكن أن يجاب باختلاف الحالين؛ وذلك أنه في وقتٍ أراهم [إياهم] مثلي عددهم؛ ليمتحنهم ويبتليهم، ثم قلَّلهم في أعينهم؛ ليقدموا عليهم، فالآيتان باعتبارين، ومثله قوله تعالى:
{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [(5/61)
الرحمن: 39] ، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وقوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] مع قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35] .
قال الفرّاء: المراد بالتقليل: التهوين، كقولك - في الكلام - إني لأرى كثيركم قليلاً، أي: قد هوّن عليّ، [لا أني أرى الثلاثة اثنين] .
الثاني: أن يكون الخطاب في «تَرَوْنَهُم» للمؤمنين - أيضاً - والضمير المنصوب في «تَرَوْنَهُمْ» للكافرين - أيضاً - والضمير المجرور في «مِثْلَيْهِمْ» للمؤمنين، والمعنى: تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون الكافرين مثلَي عدد أنفسكم، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأي العينِ؛ وذلك أن الكفار كانوا ألفاً ونَيِّفاً، والمسلمون على الثلث منهم، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم، على ما قرر عليهم - في مقاومة الواحدِ للاثنين - في قوله تعالى: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] بعدما كُلِّفوا أن يقاوم كلُّ واحد عشرة في قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 65] .
قال الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «وقراءة نافع لا تُساعِد عليه» ، يعني على هذا التأويل المذكور ولم يُبين وجه عدم المساعدةِ، ووجهه - والله أعلم - أنه كان ينبغي أن يكون التركيبُ: ترونهم مثليكم - بالخطاب في «مِثْلَيهم» لا بالغيبة.
قال أبو عبدِ الله الفارسيّ - بعد الذي ذكره الزمخشريّ -: «قلت: بل يُساعد عليه، إن كان الخطاب في الآية للمسلمين، وقد قيل ذلك» اه، فلم يأت أبو عبد الله بجواب؛ إذ الإشكالُ باقٍ. وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أنه من باب الالتفاتِ من الخطاب إلى الغيبة، وأنَّ حقَّ الكلام: مثلَيْكم - بالخطاب - إلا أنه التفت إلى الغيبة، ونظَّره بقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] .
والثاني: أن الضمير في «مِثْلَيْهِمْ» وإن كان المراد به المؤمنين إلا أنه عاد على قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله} ، والفئة المقاتلة في سبيل الله عبارة عن المؤمنين المخاطبين.
والمعنى: تَرَوْنَ - أيها المؤمنون - الفئةَ الكافرةَ مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله، [فكأنه] قيل: ترونهم - أيها المؤمنون - مثليكم، وهو جواب حسن.
فإن قيل: كيف يرونهم مثليهم رأيَ العينِ، وقد كانوا ثلاثة أمثالكم؟
فالجواب: أن الله - تعالى - إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي(5/62)
علم المسلمون أنهم يغلبونهم؛ وذلك لأنه - تعالى - قال: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} فأظهر ذلك العدد [من المشركين] للمؤمنين؛ تقوية لقلوبهم، وإزالةٌ للخوف عن صدورهم.
الثالث: أن يكون الخطاب في «لَكُمْ» وفي «تَرَونَهُم» للكفار وهم قريش، والضمير المنصوب والمجرور للمؤمنين أي: قد كان لكم - أيها المشركون - آية؛ حيث ترون المسلمين مثلي أنفسهم في العدد، فيكون قد كثرهم في أعين الكفارِ، ليجبنُوا عنهم، فيعود السؤالُ المذكور بين هذه الآية، وآية الأنفال، وهي قوله تعالى:
{وَيُقَلِّلُكُمْ
في
أَعْيُنِهِمْ
} [الأنفال: 44] ، فكيف يقال - هنا - إنه يكثرهم؟ فيعود الجواب المتقدم باختلاف الحالتين، وهو أنه قللهم أولاً، ليجترئ عليهم الكفارُ، فلما التقى الجمعان كثرهم في أعينهم؛ ليحصل لهم الخَوَرُ والفَشَلُ.
الرابع: كالثالث، إلا أن الضمير في «مثليهم» يعود على المشركين، فيعودُ ذلك السؤالُ، وهو أنه كان ينبغي أن يقال: مثليكم، ليطابق الكلام، فيعود الجوابان.
وهما: إما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وإما عوده على الفئة الكافرة؛ لأنها عبارة عن المشركين، كما كان ذلك الضمير عبارة عن الفئة المقاتلة، ويكون التقدير: ترون - أيها المشركون - المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة. وعلى هذا فيكونون قد رَأوا المؤمنين مثلي أنفسِ المشركين - ألفين ونيفاً - وهذا مَدَدٌ من الله تعالى، حيثُ أرى الكفارَ المؤمنين مثلي عدد المشركين، حتى فشلوا، وجبنوا، فطمع المسلمون فيهم، فانتصروا عليهم، ويؤيده قوله تعالى: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} [آل عمران: 13] الإرادة - هنا - بمنزلة المدد بالملائكة في النصرة بكليهما، ويعود السؤال، وهو كيف كثرهم إلى هذه الغايةِ مع قوله - في الأنفال -: {وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] ؟ ويعود الجواب.
الخامس: أن الخطاب في «لَكُم» و «تَرَوْنَهُمْ» لليهود، والضميران - المنصوب والمجرور - على هذا عائدان على المسلمين، على معنى: ترونهم - لو رأيتموهم - مثليهم، وفي هذا التقدير تكلُّف لا حاجة إليه.
وكأن هذا القائل اختار أن يكون الخطاب في الآية المتقدمة - وهي قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} - {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} - لليهود، فجعله في «تَرَوْنَهُم» لهم - أيضاً - ولكن الخروج من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أوْلَى من هذا التقدير المتكلف؛ لأن اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ، حتى يُخَاطَبُوا برؤيتهم لهم كذلك، ويجوز - على هذا القول - أن يكون الضمير - المنصوب والمجرور - عائدَيْن على الكفار، أي: أنهم كُثِّرَ في أعينهم الكفارُ، حتى صاروا مثلي عدد المؤمنين، ومع ذلك غلبهم المؤمنون، وانتصروا(5/63)
عليهم، فهو أبلغ في القدرة. ويجوز أن يعود المنصوب على المسلمين، والمجرور على المشركين، أي: ترون - أيها اليهود المسلمين مثلي عدد المشركين؛ مهابةً لهم، وتهويلاً لأمر المؤمنين، كما كان ذلك في حق المشركين - فيما تقدم من الأقوال -، ويجوز أن يعود المنصوب على المشركين، والمجرور على المسلمين، والمعنى: ترون - أيها اليهود لو رأيتم - المشركين مثلي عدد المؤمنين وذلك أنتم قُلِّلوا في أعينهم؛ ليَحْصُل لهم الفزَعُ والغَمُّ؛ لأنه كان يغمهم قلةُ المؤمنين، ويعجبهم كثرتهم ونصرتهم على المسلمين، حَسَداً وبَغْياً.
فهذه ثلاثة أوجهٍ مرتبة على الوجهِ الخامسِ، فتصير ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع. أما قراءة الباقين ففيها أوجه:
أحدها: أنها كقراءة الخطاب، فكل ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا، ولكنه جاء على باب الالتفاتِ من خطاب إلى غيبةٍ.
الثاني: في أن الخطاب في «لَكُمْ» للمؤمنين، والضمير المرفوع في «يَرَوْنَهُم» للكفار، والمنصوب والمجرور للمسلمين، والمعنى: يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين - ستمائة ونيفاً وعشرين - أراهم الله - مع قتلهم - إياهم ضعفهم؛ ليهابوهم، ويجبنوا عنهم.
الثالث: أن الخطاب في «لَكُم» للمؤمنين - أيضاً - والضمير المرفوع في «يَرَوْنَهُم» للكفار، والمنصوب للمسلمين، والمجرور للمشركين، أي: يرى المشركون [المؤمنين] مثلي عدد المشركين أراهم الله المؤمنين أضعافهم؛ لما تقدم في الوجه قبله.
الرابع: أن يعود الضميرُ المرفوعُ في «يَرَوْنَهُم» على الفئة الكافرةِ؛ لأنها جمع في المعنى، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين، أو [على] المسلمين، أو أحدهما لأحدهم.
والذي تقوى في هذه الآيةِ - من جميع الوجوه المتقدمةِ - من حيث المعنى أن يكون مدارُ الآيةِ على تقليل المسلمين، وتكثير الكافرين؛ لأن مقصود الآية ومساقها للدلالةِ على قدرةِ الله الباهرةِ، وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم، وخُذْلان الكافرين مع كَثْرةِ عددهم وتحزبهم لنعلم أن النصر كله من عند الله، وليس سببه كثرتكم وقلةَ عدوِّكم، بل سببه ما فعله الله تعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم، ويؤيده قوله بعد ذلك: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} وقال في موضع آخر: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} [التوبة: 25] .(5/64)
وقال أبو شامة - بَعْدَ ذِكر هذا المعنى وتقويته -: فالهاء في «يَرَوْنَهُمْ» للكفار، سواء قُرِئ بالغيبة أم بالخطاب، والهاء في «مِثلَيْهم» للمسلمين.
فإن قلت: إن كان المراد هذا فهلاَّ قيل: يَرَونَهُمْ ثلاثةَ أمثالهم، فكان أبلغ في الآية، وهي نَصْر القليل على هذا الكثير، والعدة كانت كذلك أو أكثر؟
قلت: أخبر عن الواقع، وكان آية أخرى مضمومة إلى آيةِ البصر، وهي تقليل الكفارِ في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه، وهو أن الواحد من المسلمين يَغْلِب الاثنين، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا، وفيه فائدةُ وقوع ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه انتهى.
قال شهاب الدين: «وإلى هذا المعنى ذهب الفراء، أعني أنهم يرونهم ثلاثةَ أمثالهم فإنه قال: مثليهم: ثلاثة أمثالهم، كقول القائل: عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها» .
وغلطة أبو إسحاقَ - في هذا - وقال: مِثْل الشيء: ما ساواه، ومثلاه [ما ساواه] مرتين.
قال ابن كَيْسان: الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا - يوم بدر - ثلاثة أمثالِ المؤمنين فتوهَّم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم، والمعنى ليس عليه، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين:
إحداهما: أنه رأى الصلاح في ذلك؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبُهم بذلك.
والأخرى: أنه آية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والجملة - على قراءة نافع - يحتمل أن تكون مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، ويحتمل أن يكون لها محل، وفيه - حينئذ - وجهانِ:
أحدهما: النصب على الحال من الكاف في «لَكُم» أي: قد كان لكم حال كونكم ترونهم.
والثاني: الجر؛ نعتاً ل «فِئَتَيْنِ» ؛ لأن فيها ضميراً يرجع عليهما، قاله أبو البقاء وأما على قراءة الغيبة فيحتمل الاستئناف، ويحتمل الرفع؛ صفة لإحدى الفئتين، ويحتمل الجر؛ صفة ل «فِئَتَيْنِ» أيضاً، على أن تكون الواو في «يَرَوْنَهُمْ» ترجع إلى اليهود؛ لأن في الجملة ضميراً يعود على الفئتين.
وقرأ ابن عباس وطلحة «تُرَوْنَهُمْ» - مبنياً للمفعول على الخطاب - والسُّلَميّ كذلك إلا أنه بالغيبة وهما واضحتان مما تقدم تقريره والفاعل المحذوف هو الله تعالى والرؤية - هنا - فيها رأيان:(5/65)
أحدهما: أنها البصرية، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر المؤكد، وهو قوله: «رَأيَ الْعينِ» .
قال الزمخشريُّ: «رؤية ظاهرة مكشوفة، لا لبس فيها» ؛ لأن الإدراك عند المعتزلة واجب الحصول عند اجتماع الشرائط، وسلامة الحاسَّةِ، ولهذا اعتذر القاضي عن هذا الموضع [بوجوه] :
أحدها: أن عند الاشتغالِ بالمحاربةِ لا يتفرغ الإنسان لأن يُدِيرَ حدقته حول العسكر، وينظر إليهم على سبيل التأمل
وثانيها: أنه قد يحصل من الغبار ما يمنع من إدراك البعض.
وثالثها: يجوز أن يقال: إن الله تعالى خلق في الهواء ما منع من إدراك ثلث العسكر، [فعلى هذا] ، يتعدى لواحد، ومثليهم نصب على الحالِ.
الثاني: أنها من رؤية القلبِ، فعلى هذا يكون «مِثْلَيهِم» مفعولاً ثانياً، وقد ردّه أبو البقاء فقال: ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب - على كل الأقوال - لوجهين: أحدهما: قوله: «رأي العين» .
الثاني: أن رؤية القلب علم، ومحال أن يُعْلَمَ الشيء شَيْئَين.
وأجيب عن [الوجه] الأول بأن انتصابهَ انتصابُ المصدر التشبيهي، أي: رأياً مثل رأي العين، أي: يشبه رأي العين، فليس إياه على التحقيق، وعن الثاني بأن الرؤية هنا يُرَاد بها الاعتقاد، فلا يلزم المحال المذكور، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم - في اللغة - على الاعتقاد - دون اليقين - فلأن يطلقوا عليه الرأيَ أوْلَى وأحْرَى.
ومن إطلاق العلم على الاعتقاد قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] ؛ إذْ لا سبيلَ إلى العلم اليقيني في ذلك؛ إذ لا يعلم ذلك إلاَّ اللهُ تعالى، فالمعنى: فإن اعتقدتموهن، والاعتقاد قد يكون صحيحاً، وقد يكون فاسداً، ويدل على هذا التأويل قراءة من قرأ «تُرَوْنَهُمْ» - بالتاء والياء مبنيًّا للمفعول -؛ لأن قولهم: أرَى كذا - بضم الهمزة - يكون فيما عند المتكلم فيه شك وتخمينٌ، لا يقين وعلم، فلما كان اعتقاد التضعيف في جمع الكفار، أو في جمع المؤمنين تضميناً وظناً؛ لا يقيناً دخل الكلامَ ضربٌ من الشكِّ، وأيضاً - كما يستحيل حملُ الرؤيةِ هنا على العلم - يستحيل أيضاً حملها على رؤية البصر بعين ما ذكرتم من المحال، وذلك كما أنه لا يقع العلم غيرَ مطابقٍ للمعلوم، كذلك لا يقع النظر البصري غير مطابق لذلك الشيء المُبْصَر المنظور إليه، فكان المراد التخمين والظن، لا اليقين والعلم، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم(5/66)
أن البصر لا يخالف المُبْصَر؛ لجواز أن يحصل خَلَلٌ في البصر، وسوء في النظر، فيتخيل الباصر الشيئَ شيئَيْن فأكثر، وبالعكس.
احتج من قال: إن الرائي هو المشركون بوجوه: الأول: أن تعلُّق الفعل بالفاعل أشدُّ من تعلُّقهِ بالمعفول، فجَعْلُ أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أوْلَى من العكس، وأقرب المذكورين هو قوله: {كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ} .
الثاني: مُقَدَّمُ الآية - وهو قوله {قَدْ كَانَ لِكُمْ آيَةٌ} خطاب مع الكفار، فقراءة نافع - بالتاء - تكون خطاباً مع أولئك الكفار، والمعنى: تَرَوْنَ يا مشركي قريش المسلمين مثليهم، فهذه القراءة لا تساعد غلا على كون الرائي مشركاً.
الثالث: أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار حتى تكونَ حُجَّةً عليهم، ولو كانت هذه الحالةُ حاصلة للمؤمن لم يصح جَعْلُها حُجَّةٌ على الكافر.
واحتج من قال: الراءون هم المسلمون بأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤيةُ ما ليس بموجود وهو محال - ولو كان الراءون هم المؤمنين لزم أن لا يرى ما هو موجود، وهذا ليس بمحال فكان أولى، قال ابن مسعودٍ: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علنيا رجلاً واحداً، ثم قللهم الله - أيضاً - في أعينهم حتى رَأوْا عدداً يسيراً أقل من أنفسهم، قال ابن مسعود: «حَتَّى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعينَ؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً» .
فصل
وجه النظم أنه - تعالى - لما أنزل الآية المتقدمة في اليهود، وهي قوله: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} ، فدعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإسلام، أظهروا التمرد، وقالوا: لسنا أمثال قريشٍ في الضعفِ، وقلة المعرفة بالقتال، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما نغلب به كل مَنْ ينازعنا، فقال تعالى: إنكم - وإن كنتم [أغنياء] ، أقوياء، أرباب قدرة وعدة فإنكم - ستغلبون، ثم ذكر - تعالى - ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك، فقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا} يعني واقعة بدر؛ فإن الكثرة والعُدَّة كانت للكفار، والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين، ثم إن الله تعالى قهر الكفارَ، ونصر المسلمين، وهذا يدل على أن النصر بتأييد الله ونصرِه.(5/67)
الفئة: الجماعة، والمراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله - أي: في طاعته رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه يوم بدر، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، سبعة وسبعين رجلاً من المهاجرين، ومائتين وستة وثلاثين من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين عليّ بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيراً، بين كل أربعة منهم بعير، وفرسان: فرس للمقدادِ بن عمرو، وفرس لمرثد بن ابي مريد، وأكثرهم رجَّالةٌ، وكان معهم من الدروع ستة، وثمانية سيوف، والمراد بالأخْرَى الكافرة مُشركو مكة، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة، رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم مائةُ فرس، وكان فيهم أبو سفيان وأبو جهلٍ، وكان معهم من الإبل سبعمائةُ بعيرٍ، وأهل الخيل كلُّهم كانوا دارعين وهم مائة نفرٍ، وكان في الرجال دروع سوى ذلك.
فصل
ذكر العلماءُ في كَوْنِ هذه الواقعةِ آية وجوهاً:
أحدها: أن المسلمين كانوا قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور، منها: قِلَّةٌ العَدَد.
ومنها: أهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا.
ومنها: قِلَّةُ السلاح والخيل.
ومنها: أن ذلك أول غزواتهم، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من كثرة العدد، وأنهم خرجوا متأهبين للمحاربة، وأنهم كانوا معتادين للحروب في الأزمنة الماضية، وإذْ كان الأمر كذلك فكان غَلَبُ هؤلاء الضعفاء خارجاً عن العادة، فيكون مُعْجزاً.
وثانيها: أنه - عليه السلام - كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش، بقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] ، يعني جمع قريش، وكان قد أخبر - قبل الحرب - بأن هذا مصرع فلان، فلما وُجِدَ مَخْبَرُ خَبَرهِ في المستقبل على وَفقِ خَبَرِه، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب؛ فكان مُعْجِزاً.
وثالثها: قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} ، والصحيح أن الرائين هم المشركون، والمرئيين هم المؤمنون، وعلى كلا التقديرين يكون مُعْجِزاً.
ورابعها: قال الحسنُ: إن الله - تعالى - أمدَّ رسولَه في تلك الغزوة بخمسةِ آلافِ من الملائكة، لقوله تعالى: {فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] ، وقال: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] قيل: إنه كان على أذناب خيولهم ونواصيهم صوفٌ أبيض، وهو المراد من قوله: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} .(5/68)
قوله: {رَأْيَ العين} في انتصابه ثلاثة أوجهٍ، تقدم منها اثنان النصب على المصدر التوكيدي، أو النصب على المصدر التشبيهيّ.
الثالث: أنه منصوب على ظرف المكانِ، قال الواحديُّ: «. . كما تقول: ترونهم أمامكم، ومثله هو مني مَزجَرَ الكلب، وَمَناطَ [الْعُنق] ، وهذا إخراج للفظ عن موضوعه - مع عدم المساعد - معنًى أو صناعةً.
و» رأى «مشترك بين» رأى «معنى أبصر، ومصدره: الرَّأي، والرؤية، وبمعنى اعتقد وله الرأي وبمعنى الحلم، وله الرؤيا كالدنيا، فوقع الفرق بالمصدر، فالرؤية للبصر خاصةً، والرؤيا للحلم فقط، والرأي مشترك بين البصرية والاعتقادية، يقال: هذا رأي فلان، أي: اعتقاده.
قال: [الطويل]
1357 - رَأى النَّاسَ - إلاَّ مَنْ رَأى مِثْلَ رَأيِهِ ... خَوَارِدَ تَرَّاكِينَ قَصْدَ الْمَخَارِجِ
قوله: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} التأييد: تفعيل، من الأَيْد، وهو القوَّة، والباء سببية أي: سبب تأييده، ومفعول» يَشَاءُ «محذوف، أي: من يشاء تأييده.
وقرأ ورش» يُويِّدُ «، بإبدال الهمزة واواً مَحْضَةً، وهو تسهيل قياسيٌّ؛ قال أبو البقاء وغيره:» ولا يجوز أن يُجْعَل بَيْنَ بَيْنَ؛ لقربها من الألف، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، ولذلك لم تجعل الهمزة المبدوء بها بَيْنَ بَيْنَ لاستحالة الابتداء بالألف «.
وهو مذهب سيبويه في الهمزة المفتوحة بعد كسرة قلبها ياء محضة، وبعد الضمة قَلْبُها واواً محضة للعلة المذكورة وهي قُرْب الهمزة التي بَيْنَ بَيْنَ من الألف، والألف لا تكون ضمة ولا كسرة.
و» عبرة «: فِعْلَة - من العبور كالركبة وكالجِلْسة، والعبور: التجاوز، ومنه عبرتُ النهر، والمعبر السفينة؛ لأن بها يُعْبَر إلى الجانب الآخر، وعَبْرَةُ العين: دَمْعُهَا؛ لأنها تجاوزها، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتعاظ والاستيقاظ؛ لأن المتَّعِظَ يَعْبُر من الجَهْل غلى العلم، ومن الهلاك إلى النجاة، والاعتبار: افتعال منه، والعبارة: الكلام الموصل إلى الغرض، لأن فيه مجاوزةً، وعبرت الرؤيا وعبَّرتها، - مخفَّفاً ومثقلاً - لأنك نقلت ما عندك من تأويلها إلى رائيها.
و» لأولي أبصار «صفة ل» عبرة «، أي: عبرة كائنة لأولي الأبصار - لذوي العقول يقال: لفلان بصر بهذا الأمر.(5/69)
وقيل: لمن أبصر الجمعين.(5/70)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
والعامة على بناء «زُيِّنَ» للمفعول، والفاعل المحذوف هو الله تعالى؛ لما ركب في طباع البشر من حب هذه الأشياء، وقيل: هو الشيطان، فالأوّل قول أهلِ السنة؛ قالوا: لو كان المزين هو الشيطان فمن ذا الذي زَيَّن الكفرَ والبدعةَ للشيطان؟ فإن كان ذلك شيطاناً آخرَ لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن في الإنسان كذلك، وإن كان من الله وهو الحق - فليكن في حَقِّ الإنسان أيضاً كذلك، ويؤيده قوله تعالى: {هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] يعني إن اعتقد أحد أنَّا أغويناهم، فمَن الذي أغوانا؟ وهذا ظاهر جداً، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} [الكهف: 7] ونُقِل عن المعتزلة ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدها: أن الشيطان زَيَّن لهم، حكي عن الحسن أنه [كان]- يحلف بالله على ذلك - ويقول: من زينها؟ إنما زيَّنها الشيطانُ؛ لأنه لا أحد أبغض لها من خالقها.
احتج لهم القاضي بوجوه:
الأول: أنه تعالى أطلق حبَّ الشهواتِ، فيدخل فيه حُبُّ الشهواتِ المحرمةِ، ومُزَينُ الشهواتِ المحرمة هو الشيطانُ.
الثاني: أنه - تعالى - ذكر القناطيرَ المقنطرةَ من الذهبِ والفضةِ، وحُبُّ هذا المالِ الكثيرِ لا يليق إلا بمَنْ جعل الدنيا قِبْلَةَ طلبه، ومُنتَهَى مقصودِه؛ لأن أهْلَ الآخرةِ يكتفون بالبُلْغَةِ.
الثالث: قوله تعالى: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا} ، فذكره في مَعْرض ذَمِّ الدنيا، والذامُّ للشيء لا يزينُهُ.
الرابع: قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} [آل عمران: 15] والمقصود من هذا الكلامِ صرفُ العبدِ عن الدنيا وتقبيحُها له، وذلك لا يليق بمن يزيِّنُ الدنيا في عينه.
القول الثاني: أن المزين هو الله تعالى، واحتجوا عليه بوجوه:
أحدها: أنه تعالى كما رغَّب في منافِع الآخرةِ فقد خلق مَلاَذَّ الدنيا، وأباحها لعبيده؛ فإنه إذا خلق الشهوةَ والمُشْتَهَى، وخلق للمشتهى عِلْماً بما في تناوُل المشتَهَى من اللذةِ، ثم أباح له ذلك التناولَ؛ يقال: إنه زيَّنَها له.(5/70)
وثانيها: أن الانتفاع بهذه الشهواتِ وسائلُ إلى منافع الآخرةِ، والله تعالى نَدَب إليها، فكان تزييناً لها، أمَّا كونها وسائلَ إلى ثوابِ الآخرةِ أنه يتصدق بها، ويتقوَّى بها على الطاعة وأيضاً إذا علم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله حمله ذلك على الاتشغال بالشكر.
قال صاحب بن عبَّادٍ: «شُرْبُ الْماءِ الْبَارِدِ في الصَّيْفِ يَسْتَخْرِجُ الْحَمْدَ مِنْ أقْصَى الْقَلْبِ» وأيضاً فإن القادرَ على التمتُّع باللذات إذا تركها واشتغل بالعبادة، وتحمل ما في ذلك من المشقة ك ان أكثرَ ثواباً.
وثالثها: قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} [البقرة: 29] ، وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] ، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا}
[الكهف: 7] وقال: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، وقال: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} [البقرة: 22] ، وقال: {كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168] ، وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى.
القول الثالث - وهو اختيار الجبائي والقاضي -: وهو التفصيل، فإن كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان، وإن كان واجباً، أو مندوباً، فالتزيين فيه من الله تعالى ذكره القاضي في تفسيره وبقي قسمٌ ثالث، وهو المباح الذي ليس في فعله ثواب، ولا في تركه عقابٌ، وكان من حق القاضي أن يذكره فلم يذكره. ويُبَيِّنَ التزيين فيه، هل هو من الله تعالى أو من الشيطان؟
وقرأ مجاهد: «زَيَّنَ» مبنيًّا للفاعل، و «حُبَّ» مفعول به نصاً، والفاعل إما ضمير الله تعالى؛ المتقدم ذكره في قوله: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} [آل عمران: 13] ، وإما ضمير الشيطان، أضمر - وإنْ لم يجر له ذكر - لأنه أصل ذلك، فذكرُ هذه الأشياءِ مُؤذِنٌ بذِكْرِه، وأضافَ المصدر لمفعوله في {حُبُّ الشهوات} .
والشهوات جمع شَهْوَة - بسكون العين - فحُرِّكت في الجمع، ولا يجوز التسكين إلا في ضرورة، كقوله: [الطويل]
1358 - وَحُمِّلتُ زَفْرَاتِ الضُّحَى فَأطَقْتُهَا ... وَمَا لِي بِوَفْرَاتِ العَشِيِّ يَدَانِ
بتسكين الفاء. والشهوةُ مصدر يُراد به اسم المفعول، أي: المشتهيات، فهو من(5/71)
باب: رَجُل عَدل حيث جعلت نفس المصدر مبالغةً. والشهوة: مَيْل النفس، وتُجْمَع على شهوات - كالآية الكريمة - وعلى شُهًى - كغُرَفٍ -.
قالت امرأة من بني نصر بن معاوية: [الطويل]
1359 - فَلَوْلاَ الشُّهَى - وَاللهِ - كُنْتُ جَدِيرَةٌ ... بِأنْ أتركَ اللَّذَاتِ في كُلِّ مشْهَدِ
قال النحويون: لا تُجْمَع فَعْلَة - المعتلة اللام يعنون بفتح الفاء وسكون العين على فُعَل إلا ثلاثة ألفاظٍ: قرية وقُرًى، ونَزْوَة ونُزًى، وكَوَّة - عند من فتح الكاف - وكُوًى.
واستدرك أبو حيّان: «واستدركت - أنا - شُهًى، وأنشد البيت» .
وقال الراغب: «وقد يُسَمَّى المشتهى، شهوةً، وقد يقال للقوَّة التي بها يُشْتَهَى الشيء: شهوة، وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} يحتمل الشهوتين» .
قال الزمخشريُّ: وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان:
إحداهما: أنه جعل الأعيانَ التي ذكرها شهواتٍ؛ مبالغةً في كونها مشتهاةٌ، محروصاً على الاستمتاع بها.
الثانية: أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية، فكأن المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير منها.
فصل
وَجهُ النظم: أنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني قال لأخيه: إنه يعرف صدق محمد فيما جاء به، إلا أنه لا يُقرُّ بذلك؛ خوفاً من أن يأخذ ملكُ الروم منه المالَ والجاهَ، وأيضاً روينا أن النبي - عليه السلام - لما دعا اليهود إلى الإسلام - بعد غزوة بدر - أظهروا من أنفسهم القوةَ والشدةَ، والاستظهارَ والسلاحَ، فبين - تعالى - في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها - من متاع الدنيا - زائلة، باطلة، وأن الآخرة خير وأبقى.
فصل
قال المتكلمون: دلت هذه الآية على أن الحبَّ غيرُ الشهوةِ؛ لأنه أضافهُ إليها، والمضاف غيرُ المضافِ إليه، والشهوة فعل الله تعالى، والمحبة فعل العبد.
قالت الحكماءُ: الإنسان قد يحب شيئاً، ولكنه يحب ألا يحبه، كالمسلم قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات، لكنه يحب ألا يحبه، وأما من أحب شيئاً، وأحب أن يحبه،(5/72)
فذلك هو كمال المحبة، فإن كان ذلك في جانب الخير، فهو كمال السعادة، كقول سليمان: {إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} [ص: 32] ، ومعناه: أحب الخير، وأحب أن أكون محباً للخير، وإن كان ذلك في جانب الشرِّ فهو كما قال في هذه الآية؛ فإن قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} يدل على ثلاثةِ أمور مترتبة:
أولها: أنه يشتهي أنواع المشتهيات.
ثانيها: أنه يحب شهوته لها.
ثالثها: أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة.
ولما اجتمعت هذه الدرجاتُ الثلاثُ في هذه القضية بلغت الغايةَ القصوى في الشدة، فلا تنحلّ إلا بتوفيق عظيمٍ من الله تعالى، ثم إنه أضاف ذلك إلى الناس، ولفظ «النَّاس» عام، دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس، والعقل - أيضاً - يدل عليه؛ لأن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب، ومطلوب لذاته، والمنافع قسمان: جسماني، وروحاني، فالجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر، والروحاني لا يحصل إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة، ثم إن انجذاب نفسه إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب، فلا جرم كان الغالب على الخلق هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية، فلهذا السبب عم الله هذا الحكمَ في الكل.
قوله تعالى: {مِنَ النساء} في محل نَصْب على الحال من الشهوات، والتقدير: حال كون الشهوات من كذا وكذا، فهي مفسرة لها في المعنى.
ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس، لقول الزمخشريِّ: «ثم يفسره بهذه الأجناس» .
كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ، والمعنى: فاجتنبوا الأوثان التي هي رِجْسٌ.
وقدم النساءَ على الكل، قال القرطبيُّ: لكثرة تشوُّق النفوس إليهن؛ لأنهن حبائلُ الشيطان، وفتنة الرجالِ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجالِ مِنَ النِّسَاءِ» أخرجه البخاري ومسلم لأن الالتذاذ منهن أكثرُ، والاستئناسَ بهن أتَمُّ، ولذلك قال(5/73)
تعالى: {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] ، ثم ثَنَّى بالولد الذَّكَر؛ لأن حُبَّ الولد الذكر أكثر من حب الولد الأنثى، واعلم أن الله تعالى - في إيجاد حُبِّ الزوجة والولد في قلب الإنسان - حكمةً بالغةً؛ إذْ لولا هذا الحُبُّ لَمَا حصل التوالُدُ والتناسُل، وهذه المحبة غريزة في جميع الحيوان، والبنين: جمع ابن، قال نوح:
{رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] ويًصَغَّر «ابن» على بُنَيّ، قال لقمان: {يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13] ، وقال نوح: {يابني اركب مَّعَنَا} [هود: 42] .
قوله تعالى: {والقناطير} هي جمع قِنْطار، وفي نونه قولان:
أحدهما: أنها أصلية، وأن وَزْنَه فِعْلاَل، كحِمْلاق، وقِرْطاس.
والثاني: أنها زائدة، وأن وزنه فِنْعال كفِنْعاس، وهو الجمل الشديد، واشتقاقه من قطر يقطر - إذا سال؛ لأن الذهب والفضة يُشَبَّهَان بالماء في سرعة الانقلابِ، وكثرة التقلُّب.
وقال الزَّجَّاج: هو مأخوذ من قَنْطَرتُ الشيء - إذا عقدته وأحكمته - ومنه القنطرة؛ لإحْكام عقدها.
حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: القنطار وزن لا يُحَدُّ.
قال ابن الخطيب: «وهذا هو الصحيح» .
وقال الربيع بن أنس: القنطار: المال الكثير بعضه على بعض.
وقال القرطبي: «والعرب تقول قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار» .
وقال معاذ بن جبل - ورواه أبَيّ بنُ كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «القنطارُ ألفٌ ومئتا أوقية» .
وقال ابن عباس والضحاك: ألف ومائتا مثقالٍ، وعنهما - في رواية أخرى - اثنا عشر ألفَ درْهمٍ أو ألف دينار دية أحدكم، وبه قال الحسن.
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْفَ أوْقيةٍ» .(5/74)
وروى أنس - أيضاً - عنه أن القنطار ألف دينار.
وروى سعيد بن المسيب وقتادة: ثمانون ألفاً.
وقال مجاهدٌ: سبعون ألفاً.
وقال السُّدِّيُّ: أربعة آلاف مثقالٍ.
وقال الكلبيُّ أبو نضرة: القنطار - بلسان الروم - ملء مسك الثور من ذهب، أو فضة.
وقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال.
وقال سعيد بن جبير وعكرمة: مائة ألفٍ، ومائة مَنّ، ومائة رَطل، ومائة مثقال، ومائة درهم، وقد جاء الإسلام - يوم جاء - وبمكة مائة رجل قد قَنْطروا.
قوله: «الْمُقَنطَرَة» مُنَفْعَلَة من القنطار وهو للتأكيد، كقولهم: ألف مؤلَّفة، وبدرة مبدرة، وإبل مُؤبَّلة، ودراهم مُدَرْهمة.
وقال الكلبي: القناطير الثلاثة، والمقنطرة المضاعفة، فكان المجموع ستة.
وقال الضحاك: معنى «الْمُقَنْطَرَة» : المحَصَّنة المُحْكمة.
وقال قتادة: هي الكثير بعضها فوق بعض.
وقال السُّدِّي: المضروبة، المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير.
وقال الفراء: المضعّفة، والقناطير الثلاثة، فالمقنطرة تسعة وجاء في الحديث أن القنطار ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض.
وقال ابو عبيدة: القناطير أحدها قنطار، ولا نجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه.(5/75)
وقال ثعلب: المعوَّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قَنَاطير مقنطرةٌ، فهي اثنا عشر ديناراً وقيل: غن القنطار ملء جلد ثور ذهباً.
وقيل: ثمانون ألفاً وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير.
قوله: {مِنَ الذَّهَبِ} كقوله: {مِنَ النِّسَاءِ} ، [والذَّهَب] مؤنث، ولذلك يُصَغَّر على ذهيبة، ويُجْمَع على أذهاب وذُهوب، واشتقاقه من الذهاب، ويقال: رجل ذَهِب بكسر الهاء - رأى معدن الذهب فدُهِش و [ «الفضة» تجمع على فضض، واشتقاقها من انفض إذا تفرق] .
قال القرطبيُّ: والذهب مكيالٌ لأهل اليَمَن، قال: واشتقاق الذهب والفضة، يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد ف ي الوجود، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول بعضهم: [البسيط]
1360 - النَّارُ آخِرُ دِينَارٍ نَطَقْتَ بِهِ ... وَالهَمُّ آخِرُ هَذَا الدِّرْهَمِ الجَارِي
وَالمَرْءُ بَيْنَهُمَا إذْ كَانَ ذَا وَرَعٍ ... مُعَذَّبُ القَلْبِ بَيْنَ الهَمِّ وَالنَّارِ
والذهب والفضة: إنما كانا محبوبَيْن لأنهما جُعِلا ثَمَن جميع الأشياء، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء.
قوله: «وَالْخَيْلِ» عطف على النساء، قال أبو البقاء: [معطوف على النساء] ، لا على الذهب والفضة، لأنها لا تسمى قنطاراً وتوهم مثل هذا بعيد جداً، والخيل فيه قولان:
أحدهما: قال الواحديُّ: «إنه جمع لا واحد له من لفظه، كالقَوْم، والنساء والرهط» .
الثاني: أن واحده خائل، فهو نظير راكب وركب، وتاجر وتجر، وطائر وطير.
وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش، فسيبويه يجعله اسم جمع، والخفش يجعله جمع تكسير.
وفي اشتقاقها وجهان:
أحدهما: من الاختيال - وهو العجب - سُمِّيت بذلك؛ لاختيالها في مِشيتها
بطول أذنابها قال امرؤ القيس: [المتقارب]
1361 - لَهَا ذَنَبٌ مِثْلُ ذَيْلِ الْعَرُوسِ ... تَسُدُّ بِهِ فَرْجَهَا مِنْ دُبُرْ(5/76)
الثاني: من التخيل، قيل: لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها.
وقيل: أصل الاختيال من التخيل، وهو التشبيه بالشيء؛ لأن المختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه كِبْراً. والأخيل: الشَّقِرَّاق؛ لأنه يتغير لونهُ، فمرة أحمر، ومرة أصفر وعليه قوله: [مجزوء الكامل]
1362 - كَأبِي بَرَاقِشَ كُلُّ لَوْ ... نٍ لَوْنُهُ يَتَخَيَّلُ
وجوز بعضهم: أن يكون مخفَّفاً من «خَيَّل» - بتشديد الياء - نحو مَيْت - في ميِّت - وهيْن في هَيِّن، وفيه نظر؛ لأن كل ما سُمِع فيه التخفيف سُمِع فيه التثقيل، وهذا لم يُسْمع إلا مخفَّفاً؛ وهذا تقدم.
وقال الراغب: «الخيل - في الأصل - اسم للأفراس والفرسان جميعاً، قال تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60] في الأصل للأفراس، ويستعمل في كل واحد منهما منفرداً، نحو ما رُوِي» يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي «، فهذا للفرسان، وقوله - عليه السلام -:» عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ «، يعني الأفراس، وفيه نظر؛ لأن أهل اللغة نَصُّوا على أن قوله - عليه السلام -» يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي «إما مجاز إضمار أو مجاز علاقة، ولو كان للفرسان حقيقة لما ساغ قولهم.
قوله: «الْمُسَوَّمَة» أصل التسويم: التعليم، ومعنى مسومة: مُعَلَّمة.
قال أبو مسلم: مأخوذ من السيما - بالمد والقصر - ومعناه واحد، وهو الهيئة الحسنة، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29] واختلفوا في تلك العلامة.
فقال أبو مسلم: هي الأوضاح والغُرز التي تكون في الخيل وهي أن تكون غُرًّا محجلة.
وقال الأصم: البلق.
وقال قتادة: الشِّية. وقال المؤرج: الكَيّ، والأول أحسن؛ لأن الإشارة في الآية إلى أشرف أحوالها وقال: بل هي من سوم الماشية، أي: مرعية، يقال: أسَمْتُ ماشيتس، فسامت، قال تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] ، وسومتها فاستامت، أي: مرعية، فيتعدى - تارة - بالهمزة، وتارة بالتضعيف.(5/77)
وقيل: بل هو من السيمياء - وهي الحسن - فمعنى مُسَومة: أي: ذات حُسن، قاله عكرمة، واختاره النحاس؛ قال لأنه من الوَسْم، ورد عليه بعضهم: باختلاف المادتين، وأجاب بعضهم بأنه من باب المقلوب، فيصح ما قاله وتقدم تحقيق ذلك في «يسومونكم» وقوله «بسيماهم» .
فصل
قال القرطبيُّ: جاء في الخبر عن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله عَزَّ وَجَلَّ خلق الفرس من الريح، ولذلك جعلها تطير بلا جناح.
قال وهب بن منبه: خلقها من ريح الجنوب. وفي الخبر: أن الله تعالى عرض على ىدم جميع الدواب، فقال له: اختر منها واحدة، فاختار الفرس، فقيل له: اخترتَ عِزَّك، فصار اسمه الخيل من هذا الوجه، ويُمِّي خَيْلاً؛ لأن من ركبها اختال على أعداء الله، وسُمِّي فرساً؛ لأنه يفترس مسافات الجو افتراس السبع، ويقطعها كالالتهام بيديه على الشيء خَطْفاً وتَنَاولاً، وسمي عَربيًّا؛ لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل؛ جزاء على رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربي، فصارت له نحلةً من الله، وسمي عربياً، وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يَدْخُلُ الشَّيْطَان دَاراً فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ» ، وإنما سمي عتيقاً؛ لأنه تخلص من الهجانة، وقال - عليه السلام -: «خَيْرُ الْخَيْلِ الأدْهَمُ، الأقرعُ، الأرْثم ثم الأقرح المحجل طَلْقُ اليَمينِ» .
قوله: {والأنعام} جمع نَعَمٍ، والنعم مختصة بالإبل، والبقر، والغنم.
وقال الهروي: النعم يذكر ويؤنث، فإذا جُمِع أطلق على الإبل والبقر والغنم، وظاهر هذا أنه - قبل جمعه على أنعام - لا يطلق على الثلاثة، بل يختص بواحد منها، وقد صرَّح الفراء بهذا، فقا لالنعم: الإبل فقط قال بعضهم لكونها تشبه النعام في جزاء الصبر. وقال ابن كيسان: إذا قلت: نعم لم يكن إلا للإبل وإذا قلت: أنعام وقعت على الإبل وكل ما يرعى؛ قال حسان: [الوافر]
1363 - وَكَانَتْ لاَ يَزَالُ بِهَا أنِيْسٌ ... خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ(5/78)
وهو مذكر ولا يؤنث، تقول: هذا نعم وارد، وهو جمعٌ، لا واحد له من لفظه.
وقال ابن قتيبة: «الأنعام: الإبل والبقر والغنم، واحده: نَعَمٌ وهو جمع لا واحد له من لفظه» ، سميت بذلك؛ لنعومة مشيها ولينها، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدًّا.
قوله: «وَالْحَرْثِ» ، الحرث تقدم تفسيره وهو - هنا - مصدر واقع موقع المفعول به، فلذلك وُحِّد، ولم يُجْمع كما جُمِعت أخواته، ويجوز إدغام الثاء في الذال، وإن كان بعض الناس ضعفه: بأنه يلزم الجمع بين ساكنين، والأول ليس حرف لين، قال: بخلاف «يَلْهَثْ ذلك» حيث أدغم الثاء في الذال؛ لانتفاء التقاء الساكنين، إذ الهاء قبل الثاء متحركة.
فصل
الحرث هنا اسم لكل ما يحرث. تقول: حرث الرجل حرثاً إذا أثار الأرض بمعنى الفلاحة، ويقال: حرث وفي الحديث: «احرثوا هذا القرآن أي: فتشوه» قال ابن الأعرابي الحرث: التفتيش، وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث، لأن الحارث هو الكاسب، واحترس المال كسبه، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس، والجمع: أحْرِثَة، وأحرث الرجل ناقته أهزلها. وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبلاغة، منها: الإتيان بها مجملة، ومنها جعله لها نفس الشهوات؛ مبالغة في التنفير عنها، ومنها: البداءة بالأهم، فالأهم، فذكر - أولاً - النساء لأنهن أكثر امتزاجاً، ومخالطة بالإنسان، وهن حبائل الشيطان، قال - عليه السلام -: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتنَةً أضَرَّ عَلَى الرَّجَالِ مِنَ النسَاءِ» ، وقال: «مَا رَأيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أسْلَبَ لِلُبِّ الرَّجُل الْحَلِيمِ مِنكُنَّ» ، ويُرْوَى: الحازم منكن.
وقيل: فيهن فتنتان، وفي البنين فتنة واحدة؛ لأنهن يقطعن الأرحام والصلات بين الأهل - غالباً -، وهن سبب في جَمْع المال من حلال وحرام - غالباً -، والأولاد يُجْمَع لأجلهم المال، فلذلك ثنى بالبنين، وفي الحديث: «الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» ، ولأنهم لأجلهم المال، فلذلك ثنى بالبنين، وفي الحديث: «الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» ، ولأنهم(5/79)
فروع منهن، وثمراتٌ نشأت عنهن، وفي كلامهم: «المرء مفتون بولده» ، وقُدِّمت على الأموال؛ لأنها أحَبُّ إلى المرء من ماله.
وأما تقديمُ المال على الولد - في بعض المواضع - فإنما ذلك في سياق امتنان، وإنعام أو نُصْرة، ومعاونة؛ لأن الرجالَ تُستمال بالأموال - ثم ذكر تمامَ اللذةِ، وهو المركوب البهيمي من بينِ سائر الحيوانات، ثم أتى بما يَحصل به جمال حين تريحون وحين تسرحون، كما تشهد به الآية الأخرى ثم ذكر ما به قوامهم، وحياة بنيتهم، وهو الزروع والثمار.
ومنها الإتيان بلفظ يشعر بشدة حب هذه الأشياء، بقوله: «زين» والزينة محبوبة في الطباع.
ومنها: بناء الفعل للمفعول؛ لأن الغرضَ الإعلام بحصول ذلك.
ومنها: إضافة الحبِّ للشهوات، والشهوات هي الميل والنزوع إلى الشيء.
ومنها التجنيس: القناطير المقنطرة.
ومنها: الجمع بين ما يشبه المطابقة في قوله: {الذهب والفضة} ؛ لأنهما صارا متقابلَيْن في غالبِ العُرْف.
ومنها: وصف «الْقَنَاطِيرِ» ب «الْمُقَنْطَرَةِ» الدالة على تكثيرها مع كَثْرتها في ذاتها.
ومنها: ذكر هذا الجنس بمادة «الْخَيْلِ» لما في اللفظ من الدلالة على تحسينه، ولم يقل: الأفراس، وكذا قوله «الأنْعَامِ» ، ولم يَقُل: الإبل والبقر والغنم؛ لأنه أخصر.
فصل
قال القرطبيُّ: قال العلماء: ذكر الله - تعالى - أربعة أصناف من المال، كل نوع منها يتموَّل به صِنْفٌ من الناس، أمَّا الذهب والفضة فيتموَّل به التُّجَّارُ، وأما الخيل المسومة فيتموّل بها الملوكُ، وأما الأنعامُ فيتموَّل بها أهلُ البوادِي، وأما الْحَرْثُ فيتموَّل به أهل البساتين، فتكون فتنة كل صنفٍ في النوع الذي يتموَّل به، وأما النساء والبنون ففتنة للجميع.
قوله: {ذلك مَتَاعُ} الإشارة بذلك للمذكور المتقدم، فلذلك وَحَّدَ اسم الإشارة والمشارُ إليه متعدد، كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وقد تقدم.
فصل
قال القاضي: وهذا يدل على أن هذا التزيين مضافٌ إلى الله تعالى؛ لأن متاعَ الدنيا(5/80)
إنما خُلِقَ ليُسْتَمْتَعَ بها، والاستمتاعُ بمتاع الدنيا على وجوه:
منها: أن ينفرد به من خَصَّه الله تعالى بهذه النعم، فيكون مذموماً.
ومنها: أن يتركَ الانتفاع به - مع الحاجة إليه - فيكون مذموماً.
ومنها: أن ينتفع به في وجه مباحٍ، من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالحِ الآخرةِ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم.
ومنها: أن ينتفع به على وَجْهٍ يتوصل به إلى مصالحِ الآخرةِ، وذلك هو الممدوحُ.
قوله: {والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} ، أي: الْمَرْجع، فالمآب: مَفْعَل، من آب، يئوب، إياباً، وأوْبَةً وأيبةً، ومآباً، أي: رجع، والأصل: مَأوَب، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى الهمزةِ الساكنة قبلَها، فقلبت الواوُ ألفاً، وهو - هنا - اسم مصدر، أي: حسن الرجوع، وقد يقع اسم مكانٍ، أو زمان، تقول: آب يَئُوبُ أواباً وإياباً كقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] وقوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَآباً} [النبأ: 21 - 22] . فإن قيل: المآب قسمان: الجنة، وهي في غاية الحُسْن، والنار، وهي خالية عن الحُسْن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن؟
فالجواب: أنَّ المقصود - بالذات - هو الجنة، وأما النار فمقصودة بالعرض، والمقصود من الآية التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة؛ لأن قوله: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا} أي: ما يتَمتع به فيها، ثم يذهب ولا يَبقَى، قال - عليه السلام -: «ازهد فِي الدُّنيا يحِبَّك اللهُ» أي: في متاعِها من الجاهِ والمالِ الزائدِ على الضَّرورِيِّ والله تعالى - أعلم.(5/81)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية، والباقون بالتحقيق فيهما، ومَد هاتَيْن الهمزَتَيْن - بلا خلاف - قالون عن نافع، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل.(5/81)
وورش على أصله من نقل حركة الهمزة الأولى إلى لام «قُلْ» .
ولا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها، وتحرير مذاهبهم؛ فإنه موضع عسير الضبط، فنقول: الوارد من ذلك في القرآن الكريم ثلاثة مواضع - أعني همزتين، أولاهُمَا مفتوحةُ، والثانية مضمومة - الأول: هذا الموضع.
والثاني: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] ، والثالث: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} [القمر: 25] ، والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتب:
أحدها: مرتبة قالون، وهي تسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ، وإدخال ألِفٍ بين الهمزتين - بلا خلاف - كذا رواه عن نافع.
الثانية: مرتبة وَرْش وابن كثير، وهي تسهيل الثانية - أيضاً - بين بين، من غير إدخال ألِفٍ بين الهمزتين بخلاف كذا روى ورش عن نافع.
الثالثة: مرتبة الكوفيين وابنِ ذكوان عن ابن عامر، وهي تحقيق الثانيةِ، من غير إدخال ألف بلا خلاف -، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر.
الرابعة: مرتبة هشام، وهي أنه رُويَ عنه ثلاثةُ أوجه:
الأول: التحقيق، وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في الثلاثِ مواضِعَ.
الثاني: التحقيق، وإدخال ألف بينهما في المواضع الثلاثة.
الثالث: التفرقة بين السور، فيُحقق ويُقْصِر في هذه السورة، ويُسَهِّل ويمد في السورتين الأخْرَيَيْن.
الخامسة: مرتبة أبي عمرو، وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه. وتسهيل هذه الأوجه تقدم في أول البقرة.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِئَ: أَؤُنَبِّئكم - بواوٍ خالصةٍ بعد الهمزةِ؛ لانضمامها - وليس ذلك بالوَجْه.
وفي قوله: {أَؤُنَبِّئُكُم} التفاتٌ من الغيبة - في قوله: «للنَّاسِ» - إلى الخطاب، تشريفاً لهم.
«بِخَيْرٍ» متعلق بالفعل، وهذا الفعل لَمَّا لم يضمن معنى «أعلم» تعدى لاثنين، الأول تعدى إليه بنفسه، وإلى الثاني بالحرف، ولو ضُمِّنَ معناها لتعدَّى إلى ثلاثة.
و «مِنْ ذَلِكُمْ» متعلق ب «خَيْر» ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل، والإشارة ب «ذَلِكُمْ» إلى ما تقدم من ذكر الشهوات وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع، ولا(5/82)
يجوز أن تكون «خير» ليست للتفضيل، ويكون المراد به خيراً من الخيور، ويكون «مِنْ» صفة لقوله: «خَيْرٍ» .
قال أبو البقاء: «من» في موضع نَصْب بخير، تقديره [بما يفضل من ذلك، ولا يجوز أن يكون صلة لخير؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها] مما رغبوا فيه بعضاً لِمَا زهدوا فيه من الأموال ونحوها، وتابَعَهُ في ذلك أبو حيان.
فصل
كيفية النَّظم أنه - تعالى - لما عدَّد نِعَم الدنيا بيَّن - هنا - أن منافع الآخرة خيرٌ منها كما قال في آية أخرى: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17] ؛ لأن نعم الدنيا مشوبَةٌ بالأنكاد، فانيةٌ، ونِعَم الآخرة خالصةٌ، باقيةٌ.
قوله: {لِلَّذِينَ اتقوا} يجوز فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلّق بخَيْرٍ، ويكون الكلام تم هنا، وتُرْفَع «جَنَّاتٌ» على خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره هو جنات، أي ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات، فالجملة بيان وتفسير للخَيْريَّة، ومثله قوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم} [الحج: 72] ، ثم قال:
{النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} [الحج: 72] ويؤيد ذلك قراءة «جَنَّاتٍ» - بكسر التاء - على أنها بدل من «بِخَيْرٍ» فهي بيان للخير.
والثاني: أن الجارَّ خبر مقدم، و «جَنَّاتٌ» مبتدأ مؤخر، أو يكون «جَنَّاتٌ» فاعلاً بالجار قبله - وإن لم يعتمد - عند مَنْ يَرَى ذلك، وعلى هذين التقديرين، فالكلام تم عند قوله: {مِّن ذلكم} ، ثم ابتدأ بهذه الجملة، وهي - أيضاً مبينة ومفسِّرة للخَيْرية.
وأما الوجهان الأخيران فذكرهما مكي - مع جَرِّ «جَنَّات» - يعني أنه لم يُجِز الوجهين إلا إذا جررت «جنات» بدلاً من «خَيْر» .
الوجه الأول: أنه متعلق ب «أؤثنَبِّئُكُمْ» .
الوجه الثاني: أنه صفة ل «خَيْر» .
ولا بد من إيراد نصه؛ فإن فيه غشكالاً، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن ذكر أن «لِلَّذِينَ» خبر مقدَّم، و «جنات» مبتدأ -: «ويجوز الخفض في» جناتٍ «على البدل من» خَيْر «على أن تجعل اللام في» لِلَّذِينَ «متعلقةً ب» أؤُنَبِّئُكُمْ «، أو تجعلها صفة ل» خَيْر «، ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض» جنات «؛ لأن حروف الجر، والظروف(5/83)
إذا تعلقت بمحذوف، وقد قامت مقامه - صار فيها ضمير مقدر مرفوع، واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير، كقولك: لزيد مال، في الدار زيد، خلفك عمرو، فلا بد من رفع» جَنَّات «، إذا تعلقت اللام بمحذوف، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت» جَنَّات «بفعلها، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف، أو حروف الخفض صفةً لما قبلها، فحينئذ يتمكن ويحْسُن رفعُ الاسم بالاستقرار، وقد شرحنا ذلك وبيناه في أمثلة؛ وكذلك إذا كانت أحوالاً» .
فقد جوَّز تعلُّقَ هذه اللام ب «أؤُنَبِّئُكُمْ» أو بمحذوف على أنها صفة لخير، بشرط أن يُجَرَّ لفظُ «جنات» على البدل من «خَيْر» وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع «جَنَّات» وعلَّل ذلك بأن حروف الجر تتعلق بمحذوف، يحمل الضمير، فوجب أن يُؤتَى له بمبتدأ هو «جَنَّات» وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم؛ إذ لقائل أن يقول: أجوز تعلق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع «جَنَّات» على أنها خبر مبتدأ محذوف، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت ولكن الوجهين ضعيفان من جهة أخرى، وهو أن المعنى ليس واضحاً بما ذكر مع أنّ جعله صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة ب «أؤُنَبِّئُكُمْ» ؛ إذ لا معنى له، وقوله - في الظروف وحروف الجر -: إنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات. . وكذلك إن كانت أحوالاً - فيه قصور؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع:
منها: الموضعان اللذان ذكرهما.
وثالثها: أن يقعا صلة.
ورابعها: أن يقعا خبراً لمبتدأ.
وخامسها: أن تعتمد على نقي.
وسادسها: أن تعتمد على استفهام. وقد تقدم تحرير هذا.
فصل
قد بيَّنا في قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] معنى التقوى، وبالجملة فإن المتقي هو الآتي بالواجبات، المتحرز عن المحظورات.
وقيل: التقوى عبارة عن اتقاء الشرك؛ لأن التقوى - في عُرْف القرآن - مختصة بالإيمان. قال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] ، وظاهر اللفظ يطابق الامتنان بحقيقة التقوى، وهي حاصلةٌ عند حصولِ اتقاء الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك، فوجب حملُه على مَن اتقى الكفر:
قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} فيه أربعة أوجهٍ:(5/84)
أحدها: أنه في محل نصب على الحال من «جَنَّات» ؛ لأنه - في الأصل - صفة لها، فلما قُدِّم نصب حالاً.
الثاني: أنه متعلق بما تعلق به «لِلَّذِينَ» من الاستقرار، إذَا جعلناه خبراً، أو رافعاً «جَنَّاتٌ» بالفاعلية، أما إذا علقته ب «خَيْر» أو «أؤنَبَّئُكُمْ» فلا؛ لعدم تضمينه الاستقرار.
الثالث: أن يكون معمولاً ل «تَجْرِي» ، وهذا لا يساعد عليه المعنى.
الرابع: أنه متعلق ب «خَيْر» ، كما تعلق به «لِلَّذِينَ» ، كما تقدم.
ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله: {لِلَّذِينَ اتقوا} ثم يُبْتَدَأ بقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} - على الابتداء والخبر - وتكُون الجملة مبيِّنة ومفسِّرة للخيرية، كما تقدم في غيرها. وقرأ يعقوب «جَنَّاتٍ» بكسر التاء - وفيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها بدل من لفظ «بِخَيْر» فتكون مجرورة، وهي بيان له - كما تقدم.
الثاني: أنها بدل من محل «بِخَيْر» - ومحله النصب - وهو في المعنى كالأول.
الثالث: أنه منصوب بإضمار «أعني» ، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر.
قوله: «تَجْرِي» صفة لِ «جَنَّات» ، فهو في محل رفع، أو نصب، أو جر - على حسب القراءتين، والتخاريج فيهما - و «مِنْ تَحْتِهَا» متعلق ب «تَجْرِي» وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حال من «الأنهار» قال: أي: تجري الأنهار كائنةً تحتها، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه.
قوله: {خَالِدِينَ} حال، وصاحبها الضمير المستكن في «لِلَّذِينَ» والعامل فيها - حينئذ - الاستقرار المقدَّر.
وقال أبو البقاء: «إن شئت من الهاء في: تَحْتِهَا» ، وهذا الذي ذكره - إنما يتمشى على مذهب الكوفيين، وذلك أن جعلها حالاً من الهاء في تحتها يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى؛ لأن الخلود من أوصاف الجنة ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاءِ، فكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير مرفوع بارز، هو الذي كان مستتراً في الصفة نحو: زيد هند ضاربها هو، والكوفيون يقولون: إن أمِنَ اللبس - كهذا - لم يجب بروز الضمير، وإلا يجب، والبصريون لا يفرقون. وتقدم البحث في ذلك.
قوله: {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ} «من رفع» جَنَّاتٌ «- كما هو المشهور - كان عطف» أزْواجٌ «و» رِضْوانٌ «سَهْلاً، ومَنْ كَسَر التاء فيجب - حينئذ - على قراءته أن يكون مرفوعاً على أنه مبتدأ خبره مضمر، تقديره: ولهم أزواجٌ، ولهم رضوان، وتقدم الكلام على» أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ «في البقرة.(5/85)
فصل
اعلم أن النعمة - وإن عَظُمَت - لن تكمل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنْس إلاَّ بِهِنَّ وقد وصفهن بصفة واحدةٍ جامعةٍ لكل مطلوب، فقال:» مُطَهَّرَةٌ «فيدخل في ذلك الطهارة من الحيض والنفاس والأخلاق الدنيئة، والقُبْح، وتشويه الخِلْقة، وسوء العِشرة، وسائر ما ينفر عنه الطبع.
قوله:» وَرِضْوَان «فيه لغتان:
ضم الراء، وهي لغة تميم وقيس، وبها قرأ عاصم في جميع القرآن إلا في الثانية من سورة المائدة وهي {مَنِ اتبع رِضْوَانَه} [المائدة: 16] ، فبعضهم نقل عنه الجَزْم بكسرها، وبعضهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة.
والكسر، وهو لغة الحجاز، وبها قرأ الباقون - وهل هما بمعنى واحد، أو بَينهما فرقٌ؟
قولان:
أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحد - كالعُدْوان.
قال الفرّاء:» رَضِيتُ رِضاً، ورِضْوَاناً ورُضْواناً، ومثل الرِّضْوَان - بالكسر - الحِرْمان، وبالضم الطُّغْيَان، والرُّجحان، والكُفْران، والشُّكْران «.
الثاني: أن المكسور اسم، ومنه رِضوان: خازن الجنة صلّى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته.
والمضموم هو المصدر، و «مِنَ اللهِ» صفة لِ «رِضْوَان» .
فصل
روى أبو سعيد الخدري أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: ألاَ أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أسْخَطْ عَلَيْكُمُ بَعْدَهُ أبَداً» .(5/86)
ثم قال: «وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» ، أي: عالم بمصالحهم، فيجب أن يَرْضَوْا لأنفسهم ما اختاره لهم.
قوله تعالى: {الذين يَقُولُونَ} يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ، والنصبَ، والجرَّ، فالرفع من وجهينِ:
أحدهما: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: الذين يقولون كذا مستجاب لهم، أو لهم ذلك الجزاء المذكور.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون؟ فقيل: الذين يقولون كيت، وكيت.
والنصب من وجه واحدٍ، وهو النصب بإضمار أعني، أو أمدح، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر، ويُسَمَّيَان: الرفع على القطع، والنصب على القطع.
والجر من وجهين:
أحدهما: النعت.
والثاني: البدل، ثم لك - في جعله نَعْتاً أو بَدَلاً - وجهان:
أحدهما: جعله نعتاً لِلَّذِينَ اتَّقَوا، أو بدلاً منه.
والثاني: جعله نعتاً للعباد، أو بدلاً منهم.
واستضعف ابو البقاء جعله نعتاً للعباد، قال: [ويضعف أن يكون صفةً للعباد] ؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم اللهِ، وهو جائز - على ضعفه - ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة، فهو يُجازيهم عليها، كما قال: {والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم} [النساء: 25] .
والجملة من قوله: {والله بَصِيرٌ} يجوز أن تكون معترضة، لا محل لها، إذا جعلتَ «الَّذِينَ يَقُولُونَ» تابعاً لِ «الَّذِينَ اتَّقَوا» - نعتاً أو بدلاً -، وإن جعلته مرفوعاً، أو منصوباً فلا.
فصل
اعلم أن قولَهم {رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} يدل على أنهم توسَّلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة، والله - تعالى - مدحهم بذلك، وأثْنَى عليهم، فدلَّ هذا على أن العبد - بمجرد الإيمان - يستوجب الرحمةَ والمغفرةَ من الله تعالى، ويؤيِّدُ هذا قولُه تعالى: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} [آل عمران: 193] .(5/87)
فإن قيل: أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة؛ حيث أتبع هذه الآية بقوله: {الصابرين والصادقين} ؟
فالجواب: أن هذه الآيةَ تؤكد ما قلنا؛ لأنه - تعالى - جعل مجردَ الإيمانِ وسيلةً إلى طَلَب المغفرة، ثم ذكر بعده صفاتِ المطيعين، وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائطَ للحصول على المغفرة لكان ذِكرُها قبل طَلَب المغفرة أولى، فلما رتَّب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعده هذه الصفاتِ، علمنا أن هذه الصفاتِ غيرُ معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي مُعْتَبَرَة في حصول كمال الدرجات.
قوله تعالى: {الصابرين} إن قدرت {الذين يَقُولُونَ} منصوبَ المحل، أو مجروره - على ما تقدم - كان «الصَّابِرِينَ» نعتاً له - على كلا التقديرين، فيجوز أن يكون في محل نصب، وأن يكون في محل جر، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب «الصَّابِرِينَ» بإضمار «أعني» .
فصل
المراد بالصابرين في أداء المأمورات، وترك المحظورات، وعلى البأساء، والضراء وحين البأس، والصادقين في إيمانهم.
قال قتادة: «هم قوم صدقت نِيَّاتُهم، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم، فصدقوا في السر والعلانية» .
فالصدق يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً، يقال: صدق فلان في القتال، وصدق في الحكمة، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ.
«القانِتِينَ» المطيعين، المُصَلِّين، والقنوت: عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها، «والمنفقين» أموالهم في طاعة الله، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه، وأهله، وأقاربه، وصلة رحمه، وفي الزكاة، والجهاد، وسائر وجوه البر.
{والمستغفرين بالأسحار} .
قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ: يعني المصلين بالأسحار.
وعن زيد بن أسلم: هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ.(5/88)
وقال الحسنُ: مدوا الصلاة إلى السَّحَر، ثم استغفروا.
وقال نافع: كان ابن عمر يُحْيِي الليل، ثم يقول: يا نافِعُ، أسْحَرْنَا؟ فيقول: لا، فيعاوِدُ الصلاةَ، فإذا قلتُ: نَعَمْ، قعد يستغفر اللهَ، ويدعو حتى يُصْبحَ.
وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أنا الْملِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ؟» رواه مسلم.
قال القرطبيُّ: وقد اختلف في تأويله، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قالا: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله - عَزَّ وَجَلَّ - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً، يَقُولُ: هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟» ، صححه أبو محمد عبدُ الحق، وهو يرفع الإشكال، ويوضِّح كلَّ احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي: ينزل مَلَكُ رَبِّنَا، فيقول. وقد رُوِيَ «يُنْزَلُ» - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا.
وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه: «لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ» .
واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبوديةِ، كانت الطاعة أكملَ، وأشقَّ، فيكثر ثوابُها، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً، فيكون وقتاً للوجود العام.
و «الأسْحَار» جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ، ايُّ وقت هو؟(5/89)
فقال الزّجّاج وجماعة: إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر، ومنه تسحر، أي: أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ - إذا سافر فيه -.
قال زُهَيْر: [الطويل]
1364 - بَكَرْنَ بُكُوراً، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ
وقال الرَّاغب: «السَّحَر: اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت، ويقال: لَقِيتُه بأعلى السحرين، والْمُسْحِر: الخارج سَحَراً، والسّحور: اسم للطعام المأكول سَحَراً، والتَّسَحُّر: أكلُه» .
والمُسْتَحِر: الطائر الصيَّاح في السَّحَر.
قال الشاعر: [المتقارب]
1365 - يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا ... إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَجِرْ
وقال بعضهم: أسْحَر الطائرُ، أي: صاح، وتحرك في صياحه، وأنشد البيت، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر، ويقال: أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي: دخل في وقت الظهر.
قال: [المتقارب]
1366 - وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً ... فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَ
ومثله: استحر أيضاً.
وقال بعضهم: السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.
وقال بعضهم - أيضاً -: السحر - عند العرب - من آخر الليل، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه، يقال له سحر قيل: وسمي السحر سحراً؛ لخفائه، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ؛ للُطْفِهِ وخفائه.(5/90)
والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة، ومنه قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري» سُمِّي بذلك لخفائه.
و «سَحَر» فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه، والتصرف وعدمه، والإعراب وعدمه، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى -.
فإن قيل: كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ، وكلُّها لقبيل واحد؟ ففيه جوابان:
أحدهما: أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً -، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح.
الثاني: أن هذه الصفات متفرقة فيهم، فبعضُهم صابر، وبعضُهم صادق، فالموصوف بها متعدِّد. هذا كلام أبي البقاء.
وقال الزمخشريُّ: «الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها» .
قال ابو حيّان: «ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال» .
قال شهاب الدين: «قد علمه علماء البيان، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب» .
والباء في قوله: «بِالأسْحَارِ» بمعنى «في» .(5/91)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
العامة على «شَهِدَ» فعلاً ماضياً، مبنيًّا للفاعل، ولفظ الجلالة رَفْع به.
وقرأ أبو الشعثاء: «شُهِدَ» مبنيًّا للمفعول، ولفظ الجلالة قائِم مقام الفاعل، وعلى هذه القراءة يكون «أنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ» في محل رفع؛ بدلاً من اسم «اللهُ» - بدل اشتمال، تقديره: شُهِدَ وحدانيةُ الله - تعالى - وألوهيتهُ.
ولما كان المعنى على هذه القراءة كذلك أشكل عطف الملائكة، وأولي العلم على لفظ الجلالة، فخُرِّج ذلك على عدم العطف، بل إما على الابتداء، والخبر محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، تقديره: والملائكة، وأولو العلم يشهدون بذلك، يدل عليه قوله تعالى: {شَهِدَ الله} ، وإما على الفاعلية بإضمار محذوف، تقديره: وشَهِدَ الملائكةُ،(5/91)
وأولو العلم بذلك، وهو قريب من قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36] ، في قراءة مَنْ بناه للمفعول.
وقوله: [الطويل]
1367 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
وقرأ أبو المهلَّب: «شُهَدَاءَ اللهِ» جمعاً على فُعَلاَء - كظُرفاءَ - منصوباً، ورُوِيَ عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك إلا أنه مرفوع، وفي كلتا القراءتين مضاف للفظ الجلالة، فأما النصب فعلى الحال، وصاحبها هو الضمير المستتر في «الْمُسْتَغْفِرِينَ» .
قال ابنُ جني، وتبعه الزمخشريُّ، وأبو البقاء: وأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ، أي: هم شهداءُ الله.
وشهداء: يُحْتَمل أن يكون جمع شاهد - كشاعر وشُعَراء - وأن يكون جمع شهيد كظريف وظُرفاء. وقرأ أبو المهلب - أيضاً -: «شُهُداً الله» - بضم الشين والهاء والتنوين ونصب لفظ الجلالة وهو منصوب على الحال؛ جمع شهيد - كنذير ونُذُر - واسم «الله» منصوب على التعظيم أي يشهدون الله، أي: وحدانيته.
وروى النقاش أنه قرأ كذلك، إلاّ أنه قال: برَفْع الدال ونصبها، والإضافة للَفْظ الجلالة، فالرفع والنصب على ما تقدم في «شُهَدَاءَ» ، وأما الإضافة، فيحتمل أن تكون محضة، بمعنى أنك عرفتهم إضافتهم إليه من غير تعرض لحدوث فعل، كقولك: عباد الله، وأن يكون من نصب كالقراءة قبلها فتكون غير محضة.(5/92)
ونقل الزمخشريُّ أنه قُرِئ «شُهَدَاء لله» جمعاً على فُعَلاَء، وزيادة لام جر داخلة على اسم الله، وفي الهمزة النصب والرفع، وخرجهما على ما تقدم من الحال والخبر، وعلى هذه القراءات كلها ففي رفع «الْمَلاَئِكَةِ» وما بعدها ثلاثة أوجه:
أحدها: الابتداء، والخبر محذوف.
والثاني: أنه فاعل بفعل مقدر.
الثالث: - ذكره الزمخشريُّ - وهو النسق على الضمير المستكن في «شَهِدَ اللهُ» ، قال: «وجاز ذلك لوقوع الفاصلِ بينهما» .
قوله: «أنَّهُ» العامة على فَتح الهمزة، وإنما فُتِحَت؛ لأنها على حذف حرف الجر، أي: شهد الله بأنه لا إله إلا هو، فلما حذف الحرف جاز أن يكون محلها نصباً، وأن يكون محلها جَرًّا.
وقرأ ابن عباس «إنَّهُ» - بكسر الهمزة - وفيها تخريجان:
أحدهما: إجراء «شَهِدَ» مُجْرَى القولن لأنه بمعناه، وكذا وقع في التفسير: شهد الله اي: قال الله، ويؤيدَه ما نقله المؤرِّجُ من أن «شَهِد» بمعنى «قال» لغة قيس بن عيلان.
الثاني: أنها جملة اعتراض - بين العامل - وهو شَهِد - وبين معموله - وهو قوله: إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ «، وجاز ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيد، وتقوية المعنى وهذا إنما يتجه على قراءة فتح» أنَّ «من» أنَّ الدِّينَ «، وأما على قراءة الكسر فلا يجوز، فتعيَّنَ الوجهُ الأول.
والضمير في» أنَّهُ «يحتمل العود على الباري؛ لتقدم ذكره، ويحتمل أن يكون ضميرَ الأمر، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ف» أنْ «مخفَّفة في هذه القراءة، والمخففة لا تعمل إلا في ضمير الشأن - ويُحْذَف حينئذ - ولا تعمل في غيره إلا ضرورة [وأدغم أبو عمرو بخلاف عنه واو هُوَ في واو النسق بعدها، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة عند قوله:» هُوَ وَالَّذِينَ ىمَنُوا مَعَه «] .
فصل
قال سعيدُ بنُ جُبَيْر: كان حَوْلَ البيت ثلاثمائةٍ وستون صَنَماً، فلما نزلت هذه الآية خَرَرْنَ سُجَّداً.(5/93)
وقيل: نزلت هذه الآية في نصارى نجران.
وقال الكلبيُّ: قدم حَبْران من أحبار الشام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما أبْصَرَ المدينةَ قال أحدهما: ما أشبه هذه المدينةَ بصفة مدينةِ النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان؟ فلما دخَلاَ عليه عرفاه بالصفة، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: وأنت أحمد؟ قال: أنا محمد وأحمد، قال: فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا به آمَنَّا بك، وصدقناك، فقال: سَلاَ، فقالا: أخبرنا عَنْ أعظم شهادة في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، فأنزل الله هذه الآيةَ، فأسلم الرجلان.
فصل
قال بعض المفسرين: شهد الله، أي: قال.
وقيل: بَيَّن الله؛ لأن الشهادة تبيين.
وقال مجاهد: حَكَم الله.
وقيل: أعْلَمَ الله أنه لا إله إلا هو.
فإن قيل: المدَّعِي للوحدانية هو الله - تعالى - فكيف يكون المدَّعِي شاهداً؟
فالجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: ما تقدم من أن» شَهِدَ «بمعنى» قال «أو» بَيَّن «أو» حَكَم «.
الثاني: أن الشاهدَ الحقيقي ليس إلا الله - تعالى -؛ لأنه الذي خلق الأشياءَ، وجعلها دلائلَ على توحيده، فلولا تلك الدلائلُ لم يتوصل أحد إلى معرفته بالوحدانيةِ، فهو - تعالى وفقهم، حتى أرشدهم إلى معرفة التوحيد، وإذا كان كذلك كان الشاهد على الوحدانيةِ هو الله تعالى، ولهذا قال:
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيد} [الأنعام: 19] .
الثالث: أنه الموجود - أزلاً وأبداً - وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صِرْفاً، والعدم غائب، والموجود حاضر، وإذا كان ما سواه - في الأزل - غائباً، وهو - تعالى - حاضر فبشهادته صار شاهداً، فكان الحق شاهداً على الكل، فلهذا قال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} .
فصل
تقدم أن شهادة اللهِ الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والمراد بأولي العلم، قيل: الأنبياء - عليهم السلام -.
قال ابنُ كَيْسَان: يعني المهاجرين والأنصار.
وقال مقاتل: علماء مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه.(5/94)
قال السُّديُّ والكلبيُّ: يعني جميع المؤمنين الذين عرفوا وحدانية الله - تعالى - بالدلائل القاطعة؛ لأن الشهادة إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار بها مقروناً بالعلم، ولذلك قال - عليه السلام -: «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» .
فإن قيل: إذا كانت شهادةُ الله عبارةً عن إقامة الدلائل، وشهادة الملائكة، وأولي العلم عبارة عن الإقرار، فكيف جمعهما في اللفظ؟
فالجواب: أن هذا ليس ببعيد، ونظيره قوله - تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] ، ومعلوم أن الصلاة من الله تعالى الرحمة - كما ورد - ومن الملائكة الدعاء، ومن المؤمنين الاستغفار، وقد جمعهما في اللفظ.
فصل
دلّت هذه الآيةُ على فَضْل العلم وشرف العلماء؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنه الله باسمه واسم ملائكته، كما قرن الله اسم العلماء، وقال تعالى - لنبيه -: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] ، فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله - تعالى - نبيَّه المزيد منه، كما أمره أن يستزيد من العلم.
وقال عليه السلام: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ» ، وقال: «العُلمَاءُ أمناء اللهِ عَلَى خَلْقِهِ» [وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير] .
قوله تعالى: {قَآئِمَاً بالقسط} في نَصْبه أربعة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على الحال، واختلفوا في ذلك؛ فبعضهم جعله حالاً من اسم «اللهُ» ، فالعامل فيها «شَهِدَ» .
قال الزمخشري: وانتصابه على أنه حال مؤكِّدة منه، كقوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقا} [البقرة: 91] .
قال أبو حيّان: وليس من باب الحال المؤكدة؛ لأنه ليس من باب {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} [مريم: 15] ولا من باب: أنا عبد الله شجاعاً فليس «قَائِماً بِالْقِسْطِ» بمعنى «شَهِدَ» وليس مؤكداً مضمونَ الجملة السابقة في نحو: أنا عبد الله شجاعاً، وهو زيد شجاعاً، لكنْ في هذا التخريج قلقٌ في التركيب؛ يصير كقولك: أكل زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً، ففصل بين المعطوف عليه، والمعطوف بالمفعول، وبين الحال وصاحبه بالمفعول، والمعطوف، لكن يمشيه كونها كلُّها معمولةٌ لعاملٍ واحدٍ.
قال شهاب الدينِ: مؤاخذته له في قوله «مؤكِّدة» غير ظاهرةٍ، وذلك أن الحالَ على قسمين:(5/95)
إما مؤكدة، وإما مبيِّنة - وهي الأصل - فالمبيِّن ةلا جائز أن تكون ههنا؛ لأن المبيّنة منتقلة، والانتقال - هنا - محال؛ إذْ عَدْلُ الله - تعالى - لا يتغير.
وقيل: لنا قسم ثالث - وهي الحال اللازمة - فكان للزمخشري مندوحة عن قوله: «مؤكِّدة» وعن قوله «لازمة» .
فالجواب: أن كل مؤكِّدة لازمة، فلا فرق بين العبارتين - وإن كان الشيخ زعم أن إصلاح العبارة يحصل بقوله: لازمة - ويدل على ما ذكرته من ملازمة التأكيد للحال اللازمة وبالعكس الاستقراء وقوله: ليس معنى «قَائِماً بِالْقِسْطِ» معنى «شَهِدَ» ممنوع، بل معنى: «شَهِدَ» مع متعلَّقِهِ هو {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} - مساوٍ لقوله: «قَائِماً بِالْقِسْطِ» ؛ لأن التوحيد ملازمٌ للعدل.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: لِمَ جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفَيْن عليه، ولو قلتَ: جاءني زيدٌ وعمرو راكباً لم يَجُزْ؟
قلتُ: إنما جاز هذا؛ لعدم الإلباس، كما جاء في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]- إن انتصب» نَافِلَةً «حالاً عن يعقوب، ولو قلت: جاءني زيد وهند راكباً، جاز؛ لتميزه بالذكورة» .
قال أبو حيّان: «وما ذَكَرَ من قوله: جاءني زيد وعمرو راكباً، أنه لا يجوز ليس كما ذكر، فهذا جائز؛ لأن الحال قَيْدٌ فيمن وقع منه أو به الفعل، أو ما أشبه ذلك، وإذا كان قَيْداً فإنه يُحْمَل على أقرب مذكور؛ ويكون» راكباً «حالاً مما يليه، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة لو قلت: جاءني زيد وعمرو الطويل، لكان» الطويل «صفة لعمرو، ولا تقول: لا تجوز هذه المسألة؛ لأنه يلبس، بل لا لبس في هذا، وهو جائز، فكذلك الحال، وأما قوله: إن» نَافِلَة «انتصب حالاً عن» يعقوب «فلا يتعين أن يكون حالاً عن يعقوب؛ إذ يحتمل أن يكون» نَافِلَةً «مصدراً - كالعاقبة والعافية - ومعناه زيادة، فيكون ذلك شاملاً إسحاق ويعقوب؛ لأنهما زِيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره» .
قال شهاب الدينِ: «مراد الزمخشريِّ بمنع جاءني زيد وعمرو راكباً إذا أريد أن الحال منهما معاً، أما إذا أُريد أنها حال من واحد منهما فإنما يُجْعَل لِما يليه؛ لعَوْد الضمير على أقرب مذكور» .
وبعضهم جعله حالاً من «هُوَ» .
قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: قد جعلته حالاً من فاعل «شَهِدَ» فهل يصح أن ينتصب حالاً عن «هو» في «لا إلَهَ إلاَّ هُوَ» ؟(5/96)
قلتُ: نعم؛ لأنها حالٌ مؤكِّدةٌ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة - التي هي زيادة في فائدتها - عامل فيها، كقولك: «أنا عبد الله جاعاً» ، يعني: أن الحال المؤكِّدة لا يكون العامل فيها النصب شَيْئاً من الجملة السابقة قبلها، إنما تنتصب بعامل مضمر، فإن كان المتكلم مُخْبِراً عن نفسه، نحو أنا عبد الله شجاعاً قدرته: أحُقَّ - مبنياً للمفعول - شجاعاً، وإن كان مُخبراً عن غيره قدرته - مخبراً عن الفاعل - نحو هذا عبد الله شجاعاً أي: أحقه، هذا هو المذهب المشهور في نَصْب مثل هذه الحال، وفي المسألة قولٌ ثانٍ - لأبي إسحاق - أن العامل فيها هو خبر المبتدأ؛ لِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى المشتق؛ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى، وقول ثالث أن العامل فيها المبتدأ؛ لما ضُمِّن من معنى التنبيه وهي مسألة طويلة.
وبعضم جعله حالاً من الجميع على اعتبار كل واحدٍ قائماً بالقسط، وهذا مناقض لما قاله الزمخشري من أن الحال مختصة بالله - تعالى - دون ما عُطِف عليه، وهذا المذهب مردود بأنه لو جاز ذلك لجاز: جاء القوم راكباً، أي: كل واحد منهم «راكباً» والعربُ لا تقول ذلك ألبتة ففسد هذا، فهذه ثلاثة أوجهٍ في صاحب الحال.
الوجه الثاني من أوجه نصب قائماً: نصبه على النعت للمنفي ب «لا» كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلا هو.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: هل يجوز أن يكون صفةً للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو؟
قلتُ: لا يَبْعد؛ فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف» ثم قال: «وهو أوجه من انتصابه عن فاعل» شَهِدَ «، وكذلك انتصابه على المدح» .
قال أبو حيّان «:» وكأن الزمخشريَّ قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله: لا رجل إلا عبد الله شجاعاً، ... وهذا الذي ذكره لا يجوز؛ لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما {والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} ، وليسا معمولَيْن لشيءٍ من جملة {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ، بل هما معمولان ل «شَهِدَ» ، وهو نظير: عرف زيدٌ أنَّ هِنْداً خَارِجَةٌ وعمرو وجَعْفَرٌ التميميَّةَ، فيفصل بين «هند» و «التميمية» بأجنبي ليس داخلاً في خبر ما عمل فيها، وذلك الأجنبي هو «عمرو وجعفر» المرفوعان المعطوفان ب «عرف» - على زيد، وأما المثال الذي مَثَّل به، وهو: لا رجل إلا عبد الله شجاعاً، فليس نظير تخريجه في الآية؛ لأن قولك: إلا عبد الله، بدل على الموضع من «لا رجل» ، فهو تابع على الموضع، فليس بأجنبي على أنَّ في جواز هذا التركيب نظراً؛ لأنه بدل، و «شجاعاً» وصف، والقاعدة: أنه إذا اجتمع البدل والوصف قُدِّم الوصف على البدل، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل - على الصحيح - فصار من جملة أخْرَى على هذا المذهب «.(5/97)
الوجه الثالث: نصبه على المدح.
قال الزمخشري: فإن قلت: أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة، كقولك: الحمدُ للهِ الحميدَ، «إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ» ، وقوله: [البسيط]
1368 - إنَّا - بَنِي نَهْشَلٍ - لا ندعِي لأبٍ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
قلتُ: قد جاء نكرةً كما جاء معرفةً، وأنشد سيبويه - مما جاء منه نكرة - قول الْهُذَلِيّ: [المتقارب]
1369 - وَيَأوِي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ ... وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي
قال أبو حيان: «انتهى هذا السؤال وجوابه، وفي ذلك تخليط؛ وذلك أنه لم يُفَرِّقُ بين المنصوب على المدح، أو الذم، أو الترحم، وبين المنصوب على الاختصاص، وجعل حكمَها واحداً، وأوْرَد مثالاً من المنصوب على المدح، وهو الحمد لله الحميدَ، ومثالَيْن من المنصوب على الاختصاص، وهما:» إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ «، وقوله:» إنَّا - بَنِي نهشل - لا ندَّعِي لأب «والذي ذكره النحويون أن المنصوبَ على المدح أو الذم أو الترحُّم، قد يكون معرفة، وقبله معرفة - يصلح أن يكون تابعاً لها، وقد لا يصلح - وقد يكون نكرةً وقبله معرفة، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها.
نحو قول النابغة:
1370 - أقَارعُ عَوْفٍ، لا أحَاوِلُ غَيْرَهَا ... وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ
فنصب» وُجُوهَ قُرُودٍ «على الذم، وقبله معرفة، وهي» أقارعُ عَوْفٍ «، وأما المنصوب على الاختصاص فنصوا على أنه لا يكون نكرةً، ولا مُبْهَماً، ولا يكون إلا معرَّفاً بالألف واللام، أو بالإضافة، أو بالعلميَّة، أو لفظ» أي «، ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص(5/98)
به، أو مشارك فيه، وربما أتى بعد ضمير مخاطب» .
الوجه الرابع: نَصْبه على القطع، أي إنه كان من حقه أن يرتفع؛ نعتاً لله تعالى بعد تعريفه ب «أل» والأصل: شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط، فلما نُكِّر امتنع إتباعه، فقُطِع إلى النصب، وهذا مذهبُ الكوفيين، ونقله بعضهم عن الفراء - وحده -، ومنه عندهم قول امرئ القيس:
1371 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ الْبُسرِ أحْمَرَا
وقد تقدم ذلك محققاً.
الأصل: «من البُسْر الأحمر» ويؤيد هذا قراءة عبدِ الله «القائمُ بالقسط» - برفع القائم؛ تابعاً للفظ الجلالة - وخرَّجه الزمخشري وغيره على أنه بدل من «هو» أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو القائم.
قال أبو حيّان: ولا يجوز ذلك؛ لأن فيه فَصْلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي، وهو المعطوفان؛ لأنهما معمولان لغير العامل في المبدَل منه، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل ف يالمعطوف لم يجز ذلك - أيضاً -؛ لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قُدِّمَ البدل على العطف. لو قلت: جاء زيدٌ وعائشةُ أخوك، لم يجز، إنما الكلام: «جاء زيدٌ أخوك وعائشةُ» .
فيحصل في رفع «القائم» - على هذه القراءة - ثلاثة اوجهٍ: النصب، والبدل، وخبر مبتدأ محذوف.
ونقِل عن عبد الله - أيضاً - أنه قرأ «قَائِمٌ بِالْقِسطِ» - بالتنكير، ورفعه من وجْهَي البدل، وخبر المبتدأ.
وقرأ أبو حنيفة: «قَيِّماً» - بالنصب على ما تقدم -.
فهذه أربعة أوجه مُحَرَّرَة من كلام القوم.
والظاهر أن رفع {والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} عطفٌ على لفظِ الجلالةِ.
وقال بعضهم: الكلام تم عند قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ، وارتفع «الْمَلاَئِكَةُ» بفعل مُضْمَر، تقديره: وشهد الملائكة وأولو العلم بذلك، وكأن هذا المذهبَ يرى أن شهادة الله مغايرة لشهادة الملائكة وأولي العلم، ولا يجيز إعمال المشترك في معنيَيْه، فاحتاج من(5/99)
أجل ذلك إلى إضمار فعل يوافق هذا المنطوقَ لفظاً، ويخالفه معنى، وهذا نظير قوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] كما قدمناه.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هل دخل قيامُه بالقسط في حكم شهادة الله والملائكة، وأولي العلم، كما دخلت الوحدانية؟
قلتُ: نعم، إذا جعلته حالاً من» هُوَ «أوْنَصْباً على المدح منه، أو صفة للمنفي، كأنه قيل: شهد الله والملائكة، وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط» .
فصل
معنى «قَائِماً بِالْقِسْطِ» أي: قائماً بتدبير الخلْقِ، كما يقال: فلان قائم بأمر فلان، أي مدبِّر له، رزَّاق، مجازٍ بالأعمال، والمراد بالقِسْط: العدل.
قال ابن الخطيب: وهذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا، ومنه ما هو متصل بباب الدين أما المتصل بالدنيا فانظر - أوَّلاً - في كيفية خَلْقِه أعضاءَ الإنسان؛ حتى تعرفَ عدلَ الله - تعالى - فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحُسْن والقُبْح، والغِنَى والفقر، والصحةِ والسقم، وطول العمر وقصره، واللذة والآلام، واقطع بأن كل ذلك عدل من الله، وحكمة وصواب، ثم انظر في كيفية خلق العناصر، وأجرام الأفلاك، وتقدير كل واحد منها بقدر معين، وخاصيَّةٍ معينة، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب.
وأما ما يتصل بأمر الدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل، والفطانة والبلادة، والهداية والغواية، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط.
قوله تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} في هذه الجملة وجهان:
الأول: أنها مكرَّرة للتوكيد، قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لِمَ كرَّر قولَه: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ؟ قلت: ذكره - أولاً - للدلالة على اختصاصه بالوحدانية، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة، ثم ذكره - ثانياً - بعدما قَرَن بإثبات الوحدانية إثبات العدل؛ للدلالة على اختصاصه بالأمرين، كأنه قال: لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين، ولذلك قرن به قوله تعالى: {العزيز الحكيم} ؛ لتضمنها معنى الوحدانيةِ والعدلِ» .
وقال بعضهم: ليس بتكرير؛ لأن الأول شهادة الله - تعالى - وحده. والثاني: شهادة الملائكة وأولي العلم، وهذا عند من يرفع «الْمَلاَئِكَةُ» بفعل آخر مضمر - كما ذكرنا - من أنه لا يرى إعمال المشترك، وأن الشهادتين متغايرتان، وهو مذهب مرجوح.
وقال الراغبُ: «إنما كرَّر {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ؛ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد؛ لأن أكثرها مشارك - في ألفاظها - العبيد، فيصح وصفُهم بها، ولذلك وردت ألفاظ في حقه أكثر وأبلغ» .
وقال بعضهم: «فائدة هذا التكرار الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون - أبداً - في(5/100)
تكرير هذه الكلمة؛ فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان، هي هذه الكلمة، فإذا كان في أكثر أوقاتِه مشتغلاً بذكرِها، كان مشتَغِلاً بأعظم أنواع العبادات» .
قوله: {العزيز الحكيم} فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه بدل من «هُوَ» .
الثاني: أنه خبر مبتدأ مُضْمَر.
الثالث: أنه نعت لِ «هُوَ» ، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب الكسائي؛ فإن يرى وَصْفَ الضمير الغائبِ.
فصل
ذِكْرُ هاتين الصفتين إشارةٌ إلى كمال العلم؛ لأن الإلهية لا تحصل إلا معهما؛ لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات، وكان قادراً على تحصيل المهمات، وقد قدَّم «الْعَزِيزُ» على «الْحَكِيمُ» ؛ لأن العلم بكونه - تعالى - قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية، فلما كان هذا الخطاب مع المستدلين - لا جرم - قدَّم ذكر «الْعَزِيزُ» على «الْحَكِيمُ» .(5/101)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
قرأ الكسائي بفتح الهمزة، والباقون بكسرها، فأما قراءة الجماعةِ فعلى الاستئناف، وهي مؤكِّدة للجملة الأولى.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت: فائدته أن قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} توحيد، وقوله:» قائِماً بِالقِسْط «تعديلٌ، فإذا أردفه بقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} فقد آذَن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس في شيء من الدين عنده» .
وأما قراءة الكسائي ففيها أوجه:
أحدها: أنها بدل من {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} - على قراءة الجمهورِ - في أن {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فيها وجهان:
أحدهما: أنه من بدل الشيء من الشيء، وذلك أن الدين - الذي هو الإسلام - يتضمن العدلَ، والتوحيد، وهو هو في المعنى.(5/101)
والثاني: أنه بدل اشتمال؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيدِ والعدلِ.
والثاني من الأوْجُهِ السابقةِ: أن يكون «إنَّ الدِّينَ» بدلاً من قوله «بِالْقِسْطِ» ثم لك اعتباران:
أحدهما: أن تجعله بدلاً من لفظه، فيكون محل «إنَّ الدِّينَ» الجر.
والثاني: أن تجعلَه بدلاً من موضعه، فيكون محلها نصباً، وهذا - الثاني - لا حاجة إليه - وإن كان أبو البقاء ذَكَرَه.
وإنما صحَّ البدلُ في المعنى؛ لأن الدين - الذي هو الإسلامُ - قِسْط وعَدْل، فيكون - أيضاً - من بدل الشيء من الشيء - وهما لعينٍ واحدة -.
ويجوز أن يكون بدل اشتمال؛ لأن الدين مشتمل على القسط - وهو العدل - وهذه التخاريج لأبي علي الفارسي، وتبعه الزمخشريُّ في بعضها.
قال أبو حيّان: «وهو _ أبو علي - معتزليّ، فلذلك يشتمل كلامُه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل، وعلى البدل من أنه خرجه هو وغيره، وليس بجيد؛ لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي في كلام العرب وهو: عَرَفَ زَيْدٌ أنَّهُ لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ وَبَنُو تَمِيمٍ وَبَنُ دَارِمٍ مُلاَقِياً لِلْحُرُوبِ، لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ الْبَطَلُ الْحَامِي، إنَّ الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ، وتقريب هذا المثال: ضرب زيدٌ عائشة، والعُمرانِ حَنِقاً أختك، فحَنقاً، حال من» زيد «و» أختك «بدل من» عائشة «ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف - وهذا لا يجوز - والحال لغير المبدل منه - وهو لا يجوز -؛ لأنه فصل بأجنبي بين البدل والمبدل منه» .
قوله عرف زيد هو نظير «شَهِدَ اللهُ» ، وقوله: أنه لا شجاع إلا هو نظير {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وقوله: وبنو دارم نظير قوله: «وَالْمَلاَئِكَةُ» وقوله: ملاقياً للحروب نظير قوله: «قَائِماً بِالْقِسْطِ» وقوله: لا شجاع إلا هو نظير قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فجاء به مكرَّراً - كما في الآية - وقوله: البطل الحامي نظير قوله «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وقوله: إن الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ نظير قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} .
قال شهابُ الدين: «ولا يظهر لي منعُ ذلك ولا عدمُ صحةِ تركيبهِ، حتى يقول: ليس بجيِّد، وبعيد أن يأتي عن العرب مثلُه، وما ادَّعاه بقوله - في المثال الثاني -: إن فيه الفصل بأجنبيٍّ فيه نظر؛ إذْ هذه الجمل صارت كلُّها كالجملةِ الواحدةِ؛ لما اشتملت عليه من تقويةِ كلمات بعضها ببعض، وأبو علي وأبو القاسم وغيرُهما لم يكونوا في محل مَنْ يَجْهَل صحةَ تركيبِ بعضِ الكلام وفساده» .
ثم قال أبو حيّان: «قال الزمخشريُّ: وقُرِئَتَا مفتوحتَيْن على أن الثاني بدل من الأول، كأنه قيل: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، والمبدَل هو المبدَل منه في(5/102)
المعنى، فكان بياناً صريحاً؛ لأن دينَ الإسلام هو التوحيد والعدل» فقال: فَهَذَا نَقْل كَلاَمِ أبي عَلِيٍّ دُونَ استيفاس.
الثالث - من الأوجل -: أن يكون «إنَّ الدِّينَ» معطوفاً على {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} حذف منه حرف العطف، قاله ابن جرير، وضعفه ابن عطية، ولم يُبَيِّن وَجْهَ ضَعْفه.
قال أبو حيان: «ووجه ضَعْفِه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفَين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل، نحو أكل زيدٌ خُبْزاً، وعَمْرو سَمَكاً، يعني فصلت بين زيد وعمرو ب» خبزاً وسمكاً «.
الرابع: أن يكون معمولاً لقوله: {شَهِدَ الله} ، أي: شهد الله بأن الدين، فلما حذف حرف الجر جاز أن يحكم على موضعه بالنصب، أو الجر.
فإن قلت: إنما يتجه هذا التخريجُ على قراءة ابن عباس، وهي كسر» أنّ «الأولى، وتكون الجملة - حينئذ - اعتراضاً بين طشَهِدَ» وبين معموله كما تقدم، وأما على قراءة فتح «أن» الأولى - وهي قراءة العامة - فلا يتجه ما ذكرتَ من التخريج؛ لأن الأولى معمولة له، استغنى بها.
فالجوابُ: أن ذلك مُتَّجِهٌ - أيضاً - مع فتح الأولى، وهو أن يُجْعَل الأولى على حذف لام العلة تقديره: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام؛ لأنه لا إله إلا هو، وهذا التخريج ذكره الواحديُّ، وقال: «هذا معنى قول الفراء حيث يقول - في الاحتجاج للكسائي -: إن شئت جعلت» أنه «على الشرط، وجعلنا الشهادة واقعة على قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} ، ويكون» إنَّ «الأولى يصلح فيها الخفض، كثولك: شهد الله لوحدانية أن الدين عند الله الإسلام» .
وهو كلام مُشْكِلٌ في نفسه، ومعنى قوله على الشرط، أي: العلة، سمَّى العلةَ شرطاً؛ لأن المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقف المعلول على علتع، فهو علة، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين.
ثم اعترض الواحدي على هذا التخريج بأنه لو كان كذلك لم يَحْسُن إعادة اسم «الله» ، ولكان التركيب: إن الدين عنده الإسلام؛ لأن الاسم قد سَبَق، فالوجه الكناية.
ثم أجاب بأن العربَ رُبَّما أعادت الاسم موضعَ الكناية، وأنشد: [الخفيف]
1372 - لاَ أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالفقِيرَا(5/103)
يعني أنه من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر، ويزيده - هنا - حُسْناً أنه في موضع تعظيم وتفخيم.
الخامس: أن تكون على حذف حرف الجر معمولة للفظ «الْحَكِيم» ، كأنه قيل: الحكيم بأن، أي: الحاكم بأن ف «حَكِيم» مثال مبالغة، مُحَوَّل من فاعل، فهو كالعليم والخبير والبصير، أي: المبالغ في هذه الأوصاف، وإنما عَدَل عن لفظ «حاكم» إلى «حكيم» - مع زيادة المبالغة -؛ لموافقة «الْعَزِيز» ، ومعنى المبالغة: تكرار حكمهِ - بالنسبة إلى الشرائع - أن الدينَ عند الله الإسلام؛ إذْ حَكَم في كلّ شريعة بذلك، قاله أبو حيّان، ثم قال: فإن قلتَ: لم حَمَلْتَ «الْحَكِيم» على أنه مُحوَّل من «فاعل» إلى فعيل؛ للمبالغة، وهَلاَّ جعلته «فَعِيلا» ، بمعنى «مُفْعِل» فيكون معناه «الْمُحكِم» كما قالوا في «أليم» : إنه بمعنى «مُؤْلِم» وفي «سميع» من قول الشاعر: [الوافر]
1373 - أمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعي السَّمِيع..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
أي: المُسْمِع؟
فالجوابُ: أنا لا نسلم أن «فَعِيلا» يأتي بمعنى «مفعل» ، وقد يؤول «أليم» و «سميع» على غير «مفعل» ، ولئن سلمنا ذلك، فهو من الندور والشذوذ، بحيث لا يَنْقاس، [وأما] «فعيل» محوَّل من «فاعل» ؛ للمبالغة فهو منقاس؛ كثير جداً، خارج عن الحصر، كعليم، وسميع، وقدير، وخبير، وحفيظ إلى ألفاظ لا تُحْصَى كَثْرَةً، وأيضاً فإن العربيَّ الْقُحَّ، الباقي على سجيته لم يفهم من «حكيم» إلا أنه محوَّل من «فاعل» ؛ للمبالغة، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} [المائدة: 38] والله غفور رحيم أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، فقيل له: التلاوة: {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، فقال: هكذا يكون، عَزَّ فَحَكَم فقط، ففَهِم من «حكيم» أنه محوَّل - للمبالغة - من «حاكم» ، وفَهْم هذا العربيِّ حُجَّةٌ قاطعةٌ بما قلناه، وهذا تخريج سَهْل، سائغ جداً، يزيل تلك التكلفات والتركيبات التي يُنزّه كتابُ الله عنها، وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول، ولا نجعل {إِنَّ الدِّينَ} معمولاً لِ «شَهِدَ» - كما فهموا - وأن {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} اعتراض - يعني بين الحال وصاحبها، وبين معموله - بل نقول: معمول «شَهِدَ» هو «إنَّهُ» - بالكسر - على تخريج من خرج أن «شَهِدَ» - لما كان بمعنى القول - كسر ما بعده؛ إجراءً له مُجْرَى القول.
أو نقول: إنه معموله، وعلقت، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي، بخلاف ما لو كان مثبتاً فإنك تقول: شهدت إنَّ زيداً لَمُنْطَلِقٌ، فتعلق ب «إنَّ» مع وجود اللام؛ لأنه لو لم تكن اللام لفتحت «إنَّ» ، فقلت: شهدت أنَّ زَيْداً منطلقٌ، فمن قرأ بفتح «أنَّه» ، فإنه لم يَنْو(5/104)
التعليقَ، ومن كسر فإنه نوى التعليق، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي كما ذكرنا.
قال شهاب الدينِ: وكان الشيخ - لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية - قال ما نصه: «وأما قراءة ابن عباس فتخرج على أن {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} هو معمول» شَهِدَ «ويكون في الكلام اعتراضان:
أحدهما: بين المعطوف عليه والمعطوف وهو {لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وإذا أعربنا {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} خبرَ مبتدأ محذوفٍ كان ذلك ثلاثة اعتراضات، انظر هذه التعوجيهات البعيدة، التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظيرٍ من كلام العربِ، وإنما حمل على ذلك العُجْمَةُ، وعدمُ الإمعان في تراكيب كلام العربِ، وحِفْظِ أشعارِها» .
قال شهاب الدينِ: «ونسبة كلامِ أعلام الأئمة إلى العجمة، وعدم معرفتهم بكلام العرب، وحملهم كلام الله على ما لا يجوز، وأن هذا - الذي ذكره - هو تخريج سهل واضح، غير مقبول ولا مُسَلَّم، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناسُ، وتلك الاعتراضات بين أثناء تلك الآيةِ الكريمةِ موجودٌ نظيرُها في كلامِ العربِ، وكيف يجهل الفارسي والزمخشريُّ والفراءُ وأضرابهم ذلك؟ وكيف يَتَبَجَّجُ باطِّلاعه على ما لم يَطلع عليه مثلُ هؤلاء؟ وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرفُ مواقعَ النظم، وهو المسلَّم له في علم المعاني والبيان والبديع، ولا يَشُك أحد أنه لا بد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرفَ جملةً صالحةً من هذه العلوم» .
قوله: {عِنْدَ الله} ظرف، العامل فيه لفظ «الدِّين» ؛ ملا تضمنه من معنى الفعل.
قال أبو البقاء: «ولا يكون حالاً؛ لأن» إنَّ «لا تعمل في الحال» .
قال شهاب الدين: قد جوز في «ليت» وفي «كأن» أن تعمل في الحال «.
قال شهاب الدين: قد جوز في «ليت» وفي «كأن» أن تعمل في الحال.
قالوا: لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه، ف «إن» للتأكيد، فلْتَعْمَل في الحال - أيضاً - فليست تتباعد عن «الهاء» التي للتنبيه.
قيل: هي أولى منها، وذلك أنها عاملة، و «هاء» ليست بعاملة، فهي أقرب لشبه الفعل من هاء.
فصل
الدين - في أصل اللغة - عبارة عن الانقياد والطاعة والتسليم والمتابعة، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء: 94] ، أي: لمن صار منقاداً(5/105)
لكم، ومتابعاً، والإسلام هو الدخول في السلم، يقال: أسلم، أي: دخل في السلم، كقولهم: أشتى، وأقحط، وأصل السِّلم: السلامة، وقال ابن الأنباري: «المُسْلِم» معناه المخلص لله عبادته، من قولهم: سَلِم الشيء لفلان، أي: خَلصَ، فالإسلام معناه: إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى «.
وأما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان؛ لوجهين:
أحدهما: هذه الآية؛ لأن قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} يقتضي أن الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام، فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله - وهو باطل -.
الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام لوجب أن لا يكون مقبولاً عند الله تعالى.
قال القرطبيُّ: الإسلام هو الإيمان، بمعنى التداخل، وهو أن يُطْلَق أحدهما ويُراد به مسماه في الأصل ومُسمَّى الآخر، كما في هذه الآية؛ إذ قد دخل فيهما التصديق والأعمال، ومنه قوله - عليه السلام -:» الإيمانَ مَعْرِفةٌ بالْقَلْبِ، وقَوْلٌ باللِّسَان، وعَمَلٌ بالأرْكَانِ «أخرجه ابن ماجه.
فإن قيل: قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] صريح في أن الإسلام غير الإيمان.
فالجواب: أن الإسلام عبارة عن انقياد - كما بينَّا في أصل اللغة - والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف - فلا جرم - كان الإسلام حاصلاً في الظاهر، والإيمان - أيضاً - كان حاصلاً في حكم الظاهر؛ لأنه - تعالى - قال: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] والإيمان الذي يُبيح النكاحَ في الحكم - هو الإقرار الظاهر، فعلى هذا، الإسلام والإيمان تارةً يُعتبران في الظاهر دون الباطن، وتارة في الباطن والظاهر، فالأول هو النفاق، وهو المراد بقوله:» قَالَتِ الأعْرَابُ «؛ لأن باطن المنافق غير منقاد لدين الله تعالى، فكان تقدير الآية: لم تسلموا في القلب والباطن، ولكن قولوا: أسلمْنا في الظاهر.
فصل
قال قتادة - في قوله تعالى -: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} ، شهادة ألا إله إلا الله،(5/106)
والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رُسُلَه وَدَلَّ عليه أولياءه، لا يقبلُ غيرَه، ولا يَجْزِي إلا به.
روى غالب القطان، قال: أتيتُ الكوفةَ في تجارة، فنزلتُ قريباً من الأعمش، فكنت أختلف إليه، فلما كنت ذاتَ ليلةٍ، أردت أن أنحدر إلى البصرة، قام من الليل يتهجد، فمرَّ بهذه الآيةِ: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] قال الأعمش: وأنا أشهدُ بما شَهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي - عند الله - وديعة، {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} - قالها مراراً.
قلت: لقد سمع فيها شيئاً، فصليْت معه، وودعته، ثم قلت: إني سمعتُكَ تُرَدِّدُهَا، فما بلغك؟ قال: واللهِ لا أحَدثُكَ بها إلى سنةٍ، فكتَبْتُ على بابه ذلك اليومَ، وأقمتُ سنةً، فلمَّا مضت السنةُ، قلتُ: يا أبا محمد، قد مضت السنةُ، فقال: حَدَّثني من حدثني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يُجَاء بِصَاحِبهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ اللهُ تعالى: إنَّ لِعَبْدِي هذا - عندي - عهداً، وَأنا أحَقُّ مَنْ وَفَى بِالْعَهْدِ، أدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ» .
قوله تعالى: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} .
قال الكلبي: نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام، أي: وما اختلف الذين أوتوا الكتابَ في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم، يعني بيان نعته في كتبهم.
وقال الربيع: إن موسى - عليه السلام - لما حضره الموتُ دعا سبعين رجلاً من أحبار بني إسرائيل، فاستَوْدَعَهم التوراة، واستخلف يُوشَعَ بن نون، فلما مضى القرنُ السبعين - حتى أهرقوا بينهم الدماء، ووقع الشَّرُّ والاختلافُ، وذلك {مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} يعني بيان ما في التوراة، {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي: طلباً للملك والرياسة، فسلط الله عليهم الجبابرةَ.
قال محمدُ بنُ جفعر بن الزبير: نزلت في نصارى نجران، معناها: {وَمَا اختلف(5/107)
الذين أُوتُواْ الكتاب} يعني الإنجيل في أمر عيسى، وفرَّقوا القول فيه: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} بأن الله واحد، وأن عيسى عبدُ اله ورسوله، {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} ، أي: المعاداة والمخالفة.
وقيل: المراد اليهود والنصارى، واختلافهم هو قولُ اليهودِ: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقول النصارى: المسيح ابنُ الله، وأنكروا نبوة محمد، قالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش، لأنهم أميُّونَ، ونحن أهل الكتاب.
وقوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} أي: الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم؛ لأنا لو حملناهم على العلم لصاروا معاندين، والعناد على الجمع العظيم لا يصح. [وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب، وهو جمع عظيم.
وقال الأخفش: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب؛ بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.
وقال ابن عمر وغيره: أخبر - تعالى - عن] اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائقِ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا.
وفي الكلام تقديم وتأخير، فالمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.
قوله: «بَغْياً» فيه أوجه:
أحدها: أنه مفعول من أجله، العامل فيه «اخْتَلَفَ» والاستثناء مُفَرَّغ، والتقدير: وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره، قاله الأخفش، ورجحه أبو علي.
الثاني: أنه مصدر في محل نصب على الحال من «الذين» كأنه قيل: ما اختلفوا إلا في هذه الحال، والاستثناء مُفَرَّغ أيضاً.
الثالث: أنه منصوب على المصدر، والعامل فيه مقدَّر، كأنه لما قيل: {وَمَا اخْتَلَفَ} دل على معنى: وما بغى، فهو مصدر، قاله الزّجّاجُ، ووقع بعد «إلا» مستثنيان، وهما: «مِنْ بَعْدِ» و «بَغْياً» وقد تقدم تخريج ذلك.
قال الأخفش: قوله: «بَغْياً» من صلة قوله: «اخْتَلَفُوا» ، والمعنى: وما اختلفوا بغياً بينهم إنما اختلفوا للبغي.
قال القفّالُ: وهذا أجودُ من الأول؛ لأن الأولَ يُوهِمُ أنَّ اختلافَهم بسبب مجيء العلم، والثاني يفيد أن اختلافهم لأجل الحَسَدِ والبغي.
قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله} «مَنْ» مبتدأ، وفي خبره الأقوال الثلاثة - أعني: فعل(5/108)
الشرط وحده، أو الجواب وحده، أو كلاهما - وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدَّر، أي: سريع الحساب له.
فصل
وهذا تهديد، وفيه وجهان:
الأول: المعنى: فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً، فيحاسبه، أي: يُجازيه على كُفْره.
الثاني: أن الله تعالى سيُعْلِمه بأعماله معاصيه وأنواع كفره، بإحصاء سريع، مع كَثْرَةِ الأعمال.(5/109)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{فَإنْ حَآجُّوكَ} أي: خاصموك يا محمد في الدين بالأقاويل المزوَّرة، المغالطات، فأسْند أمرك إلى ما كُلِّفْتَ به من الإيمان والتبليغ، وعلى الله نصرك وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: لسنا على ما سميتنا به يا محمد، إنما اليهودية والنصرانية نسب، والدين هو الإسلام، ونحن عليه، فقال الله تعالى - {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} أي: انقدت لله وحده، وإنما خص الوجه؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان.
وقال الفرّاءُ: معناه: أخلصت عملي لله.
وفي كيفية إيراد هذا الكلام وجوه:
أحدها: أنه - عليه السلام - كان قد أظهر لهم الحجةَ - على صدقه - قبل نزول هذه الآية - مراراً، فإن هذه السورة مدنية، وكان قد أظهر لهم المعجزاتِ بالقرآن، ودعاء الشجرة، وكلام الذئب، وغيرها مما يدل على صحة دينه، وذكر الحجة على فساد قول النصارى بقوله {الحي القيوم} ، وأجاب عن شبه القوم بأسرها، ومشاهدة يوم بدر وأثبت التوحيد، ونفى الضدَّ والندَّ والصاحبة والولد بقوله: {شَهِدَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] ، وبين - تعالى - أن إعراضهم عن الحق إنما كان بَغْياً وحَسَداً، فلما لِمْ يَبْقَ حجة على فِرَق الكفار إلا أقامها، قال بعده: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} وهذه عادة المُحِقِّ مع المُبْطِلِ، إذا أورد عليه حُجَّة بَعْدَ حُجَّة، ولم يرجع إليه، فقد يقول - في آخر الأمر -: أما أنا فمنقادٌ للحق، فإن وافقتم، واتبعتم الحق الذي أنا عليه، فقد اهتديتم، وإن اعترضتم، فالله بالمرصاد.
ثانيها: أن القوم كانوا مُقِرِّينَ بوجود الصانع، وكونه مستحقاً للعبادة، فكأنه - عليه السلام - قال لهم: هذا القدر متفق عليه بين الكُلِّ، فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك، وأنتم المدعون فعليكم الإثبات،(5/109)
ونظيره قوله: {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [أل عمران: 64] .
وثالثها: قال أبو مسلم: هو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرِّين بتعظيم إبراهيم - عليه السلام -، وبأنه كان مُحِقًّا صادقاً في دينه إلا في زيادات من الشرائع، فأمر الله تعالى - محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يتبع ملته، بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] ، ثم أمخر محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم حيث قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض} [الأنعام: 79] فقل يا محمد: «أسْلَمْتُ وَجْهِيَ» كقول إبراهيم: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» ، أي: أعرضت عن كل معبود سوى الله - تعالى - وقصدته وأخصلت له، كأنه قال: فإن نازعوك في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريقة إبراهيم - عليه السلام - وأنتم مقرون بأن طريقته حق لا شبهة فيها، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات.
فصل
فَتَحَ الياءَ من «وَجْهِيَ» - هنا وفي الأنعام - نافع وابن عامر وجعفر وحفص وسكنها الباقون.
قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} في محل «مَنْ» وجوه:
أحدها: الرفع؛ عطفاً على التاء في «أسْلَمْتُ» ، وجاز ذلك؛ لوجود الفصل بالمفعول؛ قاله الزمخشريُّ وابن عطية.
قال أبو حيان: «ولا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه إذا عطف الضمير في نحو:» أكلت رغيفاً وزيدٌ «لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف، وهنا لا يسوغ ذلك؛ لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم. وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسلم وجهه، بل المعنى على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسلم وجهه لله، وأنهم أسلموا وجوههم لله؛ [فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول، لا مشارك في مفعول» أسْلَمْتُ «والتقدير: ومن اتبعني وجهه، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: ومن اتبعني كذلك، أي: أسلموا وجوههم لله] ، كما تقول: قضى زيد نحبه وعمرو، أي: عمرو كذلك، أي: قضى نحبه» .
قال شهابُ الدينِ: «إنما صحت المشاركة في نحو: أكلتُ رغيفاً وزيدٌ؛ لإمكان ذلك، وأما في الآية الكريمة فلا يُتَوَهَّمُ فيه المشاركة» .(5/110)
الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف - كما تقدم.
الثالث: أنه منصوب على المعية، والواو بمعنى «مع» أي: أسلمت وجهي لله مع من اتبعني؛ قاله الزمخشريُّ.
وقال أبو حيّان: «ومن الجهة التي امتنع عطف» مَنْ «على الضمير - إذا حُمِلَ الكلام على ظاهره دون تأويل - يمتنع كون» مَنْ «منصوباً على أنه مفعول معه؛ لأنك إذا قلتَ: أكلتُ رغيفاً وعمرو أي مع عمرو - دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز الزمخشريُّ هذا الوجهَ، - وهو لا يجوز - لما ذكرنا - على كل حال؛ لأنه لا يجوز حذف المفعول مع كون الواوِ واوَ» مع «ألبتة» .
قال شهابُ الدينِ: «فهم المعنى، وعدم الإلباس يسَوِّغ ما ذكره الزمخشريُّ، وأي مانع من أن المعنى: فقل: أسلمت وجهي لله مصاحباً لمن أسلم وَجْهَهُ لله أيضاً، وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية» .
الرابع: أن محل «مَنْ» الخفض، نسقاً على اسم «الله» ، وهذا الإعراب - وإن كان ظاهره مُشْكِلاً - قد يؤول على معنى: جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له، ولمن اتبعني بالحفظ له.
وقد أثبت الياءَ في «مَنِ اتَّبَعَنِي» نافع، وحذفها أبو عمرو وخلاد - وقفاً - والباقون حذفُوهَا فيهما؛ موافقةً للرسم، وحسن ذلك أيضاً كونها فاصلةً ورأس آية، نحو {أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15] و {أَهَانَنِ} [الفجر: 16] وعليه قول الأعشى: [المتقارب]
1374 - وَهَلْ يَمْنَعَنِّي أرْتيادِي الْبِلاَ ... دَ مِنْ حَذَر الْمَوْتِ أنْ يَأتِيَنْ
وقول الأعشى - أيضاً -: [المتقارب]
1375 - وَمَنْ شَانِىءٍ كَاسِفٍ بَالُهُ ... إذا مَا انْتَسَبْتُ لَهْ أنْكَرَنْ
قال بعضهم: حذف هذه الياء مع نون الوقاية - خاصّة - فإن لم تكن نونٌ فالكثير إثباتُها.
قوله: قال {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} يعني اليهود والنصارى، والمراد بالأميِّيِّين: مشركو(5/111)
العرب، ووصفهم بكونهم أميين؛ لأنهم لم يَدَّعوا كتاباً، شبههم بمن لا يقرأ ولا يكتب، وإما لكونهم ليسوا من أهل الكتابة والقراءة، وإن كان فيهم من يكتب فهو نادر.
قوله: {أَأَسْلَمْتُمْ} صورته استفهام، ومعناه الأمر، أي: أسلموا، كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] .
قال الزمخشري: «يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجب الإسلام، ويقتضي حصوله - لا محالة - فهل أسلمتم بعدُ أم أنتم على كفركم؟ ، وهذا كقولك - لمن لخَّصْتُ له المسألة، ولم تُبْقِ من طُرُق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته -: هل فهمتها، أم لا - لا أُمَّ لك - ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ - {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي الاستفهام استقصار، وتعبير بالمعاندة، وقلة الإنصاف؛ لأن المُنْصِفَ - إذا تَجَلَّتْ لَهُ الحجَّةُ - لم يتوقف إذْعانه للحق» .
وقال الزّجّاج: «أأسْلَمْتُم» تهديد.
قال القرطبيُّ: «وهذا حَسَنٌ؛ لأن المعنى: أأسْلَمْتُمْ أمْ لاَ؟» .
قوله: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا} دخلت «قد» على الماضي؛ مبالغة في تحقُّق وقوعِ الفعل، وكأنه قد قَرُب من الوقوع.
رُوي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ هذه الآية، فقال أهل الكتاب: أسْلَمْنَا، فقال لليهود: أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى كَلِمَةُ اللهِ وَعَبْدُهُ، وَرَسُولُهُ؟ فقالوا: معاذَ اللهِ، وقال للنَّصَارَى: أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؟ فقالوا معاذَ الله أن يكون عيسى عبداً، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ -: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} ، أي: تبليغ الرسالة، وليس عليك الهداية.
والبلاغ: مصدر «بَلَغَ» - بتخفيف عين الفعل -.
قيل: إنها نُسِخَت بالجهاد. {والله بَصِيرٌ بالعباد} عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن، وهذا يفيد الوعد والوعيد.(5/112)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
لما ذكر حال من يُعْرِض ويتولّى وصفهم في هذه الآيةِ بثلاثِ صفاتٍ:
الأولى قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ} لما ضمن هذا الموصول معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو قوله: {فَبَشِّرْهُم} ، وهذا هو الصحيح، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأ ب «إنَّ» فجواز دخول الفاء باقٍ؛ لأن المعنى لم يتغير، بل ازداد تأكيداً، وخالف الأخفش،(5/112)
فمنع دخولها من نسخه ب «إنَّ» والسماع حُجَّةٌ عليه كهذه الآية، وكقوله: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} الآية [البروج: 10] ، وكذلك إذا نُسِخَ ب «لَكِنَّ» كقوله: [الطويل]
1376 - فَوَاللهِ مَا فَارَقْتُكُمْ عَنْ مَلَلَةٍ وَلَكِنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ
وكذلك إذا نُسِخ ب «أنَّ» - المفتوحة - كقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] أما إذا نُسِخ ب «لَيْتَ» ، و «لَعَلَّ» و «كَأنَّ» امتنعت الفاءُ عند الجميع؛ لتغيُّرِ المعنى.
فصل
المراد بهؤلاء الكفارِ اليهودُ والنصارى.
فإن قيل: ظاهر هذه الآيةِ يقتضي كونَهم كافرين بجميع آيات الله - تعالى -، واليهود والنصارى، كانوا مقرِّين بالصانع وعلمِه وقدرته والمعادِ.
الجواب: أن تُصْرَفَ الآياتُ إلى المعهود السابق - وهو القرآن ومحمد - أو نحمله على العموم، ونقول: إن من كذب بنبوة محمد - عليه السلام - يلزمه أن يُكذب بجميع آيات الله تعالى.
الصفة الثانية: قوله: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه: التكثير، وجاء - هنا - {بِغَيْرِ حَقٍّ} منكَّراً، وفي البقرة [بِغَيْرِ الحَقِّ} معرَّفاً قيل: لأن الجملة - هنا - أخرجت مخرَجَ الشرط - وهو عام لا يتخصَّص - فلذلك ناسبَ أن تذكر في سياق النفي؛ لتعمَّ.
وأما في البقرة فجاءت الآية في ناسٍ معهودين، مختصين بأعيانهم، وكان الحق الذي يُقْتَل به الإنسان معروفاً عندهم، فلم يقصد هذا العموم الذي هنان فجِيء في كل مكان بما يناسبه.
فصل
روى أبو عبيدة بنُ الجراح، قال: قلت: يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أشَدُّ عذاباً يَوْمَ القيامةِ؟ قال: رجل قتل نبيًّا، أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرأ هذه الآية، ثم قال: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبيًّا، من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل، واثنا عشر رجلاً من عُبَّادِ بني إسرائيلَ، فأمَرُوا قَتَلَتَهُمْ(5/113)
بالمعروفِ، ونَهَوْهُمْ عن المنكر، فقُتِلوا جميعاً من آخرِ النَّهَارِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، فَهُم الَّذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى.
وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن زكريا، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم.
فإن قيل: قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} في حكم المستقبل؛ لأنه كان وعيداً لمن كان في زمن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يقع منهم قتل الأنبياء، ولا الآمرين بالقسط، فكيف يَصِحُّ ذلكظ
فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن هذه لما كانت طريقة أسلافِهم صحَّت الإضافة إليهم؛ إذْ كانوا مُصَوِّبِينَ لهم، راضين بطريقتهم، فإن صُنْعَ الأب قد يُضاف إلى الابن، إذا كان راضياً به.
الثاني: أن القوم كانوا يريدون قَتلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقتلَ المؤمنين، إلا أن الله - تعالى - عَصَمَه منهم، فلما كانوا راغبين في ذلك صحَّ إطلاق هذا الاسم عليهم - على سبيل المجاز - كما يقال: النار مُحْرِقةٌ، السَّمُّ قاتل.
فإن قيل: قَتْل الأنبياء لا يصح أن يكون إلا بغير حق، فما فائدة قوله: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} ؟
فالجوابُ تقدم في البقرة، وأيضاً يجوز أن يكون قصدوا بقتلهم أنها طريقة العدل عندهم.
فإن قيل: قوله: {وَيَقْتُلُونَ النبيين} ظاهره يُشْعِر بأنهم قتلوا كُلَّ النبيِّين، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل، ولا الأكثر، ولا النصف.
فالجواب أن الألف واللام هنا للعَهْد، لا للاستغراق.
الصفة الثالثة: قوله: {وَيَقْتُلُونَ الذين} قرأ حمزة «وَيُقَاتِلُونَ» - من المقاتلة - والباقون «وَيَقْتُلُونَ» - كالأول.
فأما قراءةُ حمزةَ فإنه غاير فيها بين الفعلين، وهي موافقة لقراءة عبد الله «وَقَاتَلُوا» - من المقاتلة - إلا أنه أتى بصيغة الماضي، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع - في قراءته - لحكاية الحال، ومعناه: المُضِيّ.(5/114)
وأما الباقون فقيل - في قراءتهم -: إنما كرر الفعل؛ لاختلاف متعلَّقه، أو كُرِّرَ؛ تأكيداً، وقيل: المراد بأحد القتلَيْن إزهاق الروح، وبالآخر الإهانة، وإماتة الذكر، فلذلك ذكر كل واحد على حدته، ولولا ذلك لكان التركيبُ: ويقتلون النَّبِيِّينَ والذين يأمرون، وبهذا التركيب قرأ أبَيّ.
قوله: {مِنَ النَّاسِ} إما بيان، وإما للتبعيض، وكلاهما معلوم أنهم من الناس، فهو جَارٍ مَجْرَى التأكيد.
فصل
قال القرطبيُّ: «دلت هذه الآيةُ على أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدمةِ، وهو فائدة الرِّسالةِ وخلافة النبوة» .
قال الحسنُ: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ أمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، أو نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهُوَ خَلِيفَةُ اللهِ في أرْضِهِ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ، وَخِلِيفَةُ كِتَابِهِ» .
وعن دُرَّةَ بِنْتِ أبِي لَهَب، قالت: جاء رجل إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو على المنبر - فقال: مَنْ خيرُ الناس يا رسول الله؟ قال: «آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأتْقَاهُمْ لله، وَأوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ» .
قد ورد في النزيل: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف} [التوبة: 67] ، ثم قال: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [التوبة: 71] .
فجعل - تعالى - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين، فدل ذلك على أن أخَصَّ أوصاف المُؤمِن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه، ثم إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطانُ؛ إذْ كانت إقامةُ الحدودِ إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلاً قويًّا، عالماً، اميناً، ويأمره بذلك، ويُمْضِي الحدودَ على وَجْهها من غير زيادةٍ، كما قال تعالى:
{الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} [الحج: 41] .
فصل
قال الحسنُ: هذه الآيةُ تدل على أن القائمَ بالأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر - عند الخوف - تلي منزلته - في العِظَم - منزلةَ الأنبياء، ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً قام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(5/115)
بمِنًى - فقال: أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال عليه السلام: «أفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ» .
قال ابن جريج: كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل - ولم يكن يأتيهم كتابٌ - فيدكِّرُون قومَهم فيُقْتلون، فيقوم رجال ممن تَبِعهم وصدَّقهم، فيذكرون قومَهم، فيُقْتَلون - أيضاً - فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس.
قوله: {أولئك الذين حَبِطَتْ} قرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن «حَبَطَتْ» بفتح الباء - وهي لغة معروفة، أي: بطلت في الدنيا - بإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن، وقَتْلِهم، وسَبْيِهم وأخذ أموالهم، واسترقاقِهم، وغير ذلك من أنواع الذل - وفي الآخرة - بإزالة الثواب، وحصول العقاب - {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} يَدْفَعُونَ عَنْهُم.(5/116)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
لمَّا نَبَّهَ على عِنادِهم بقوله: {فَإنْ حَآجُّوكَ} [آل عمران: 20] بَيَّنَ في هذه الآيةِ غايةَ عِنادِهم، واعلم أن ظاهر الآية يتناول الكُلَّ؛ لأنه ذكره في معرض الذم، إلا أنه قد دَلَّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك، لقوله تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] والمراد بالكتاب غير القرآن؛ لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار، وهم اليهود والنصارى.
فصل
في سبب النزول وجوهٍ:
أحدها: رَوَى ابنُ عباس: أنَّ رجلاً وامرأةً - من اليهود - زَنَيَا وكانا ذَوَى شَرَفٍ، وكان في كتابهم الرَّجْمُ، فكرهوا رَجْمَهُمَا؛ لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، رجَاءَ أن يكون عنده رخصةٌ في تَرْك الرجم، فحكم الرسولُ - عليه السلام - بالرجم، فأنكروا ذلك، فقال - عليه السلام - «بيني وبينكم التوراةُ؛ فإن فيها الرَّجمَ، فمَنْ أعْلَمُكم» ؟ قالوا: رجل أعور يسكن فَدك، يقال له: ابن صوريا، فأرسلوا إليه فقدِمَ المدينةَ، وكان جبريلُ قد وصفه لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنت ابن صُوريا» ؟ قال: نَعَمْ، قال: «(5/116)
أنت أعلمُ اليهودِ» ؟ قال: كذلك يَزْعُمُونَ، قال: «فأحْضِروا التوراةَ» ، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابنُ سَلاَم: قد جاوَزَ موضِعَها يا رسول الله، وقام فرفع كَفَّه عنها فوجدوا آيةَ الرجم، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهما فرُجِمَا، فغضبت اليهودُ لذلك غَضَباً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثانيها: روى سعيدُ بنُ جُبَيْر وعكرمةُ - عن ابنِ عباس - قال: دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيت المِدْرَاس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن يزيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم، قالا: إن إبراهيمَ كان يهوديًّا فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فهلموا إلى التوراة؛ فهي بيننا وبينكم حَكَمْ فأتيَا عليه» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثالثها: أن علامة بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مذكورةٌ في التوراةِ، والدلائل على صحة نبوته موجودة فيها فلما دادلوه في النبوة والبعثة دعاهم إلى التحاكم إلى كتابهم، فأبَوْا، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيةَ، ولذلك قال: {فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] وهذه الآية تدل على أن دلائلَ صحةِ نبوتهِ موجودةٌ في التوراة؛ إذْ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إليه، ولَمَا ستروا ذلك.
رابعها: أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى؛ فإن دلائل صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت موجودة في التوراة والإنجيل.
وقوله: {نَصِيباً مِّنَ الكتاب} أي: من علم الكتاب؛ لأنا لو أجريناه على ظاهره، فهم قد أوتوا كل الكتاب، والمراد بذلك العلماء منهم، وهم الذين يُدْعَوْن إلى الكتاب؛ لأن مَنْ لا علمَ له بذلك لا يدعى إليه.
قوله: «يُدْعَوْنَ» في محل نَصْب على الحال من {الذين أُوتُواْ الكتاب} .
قوله: «إلَى كِتَابِ اللهِ» قال أكثرُ المفسرين: هو التوراة؛ لوجوهٍ:
أحدها: ما ذكرنا في سبب النزول.
ثانيها: أن الآيةَ سِيقت للتعجُّب من تمرُّدِهم وإعْرَاضِهم، والتعجُّب إنما يحصل إذا تَمَرَّدُوا على حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته.
ثالثها: أن هذا هو المناسب لما قبل الآية؛ لأنه لما بَيَّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبَّره على معاندتهم - مع ظهور الحُجَّة عليهم - بيَّن أنهم استعملوا طريقَ المكابرةِ في نفس كتابِهم الذي أقروا بصحته، فستروا ما فيه من الدلائلِ الدالةِ على صحةِ نبوةِ محمدٍ - عليه السلام - فهذا يدل على أنهم في غاية التعصُّب والبُعْدِ عن قبول الحق.(5/117)
قال ابنُ عباس والحسنُ وقتادةُ: هو القرآن.
روى الضّحاكُ عن ابن عباس - في هذه الآية - أن الله - تعالى - جعل القرآن حَكَماً فيما بينهم وبَيْنَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهُدَى، فأعرضوا عنه، وقال تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] ، وقال تعالى: {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} [النور: 48] .
فإن قيل: كيف دُعُوا إلى حُكْم كتاب لا يؤمنون به؟
فالجواب: أنه مدعوا إليه بَعْدَ قِيَام الحُجَج الدالَّةِ على أنه كتابٌ من عند الله.
قوله: «ليحكم» متعلق ب «يدعون» . وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور.
وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري «لِيُحْكَمَ» - مبنيًّا للمفعول - والقائم مقام الفاعل هو الظرف، أي: ليقع الحكمُ بينهم.
قال الزمخشريُّ: قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: {ثُمَّ يتولى} عطف على «يُدْعَوْنَ» و «مِنْهُمُ» صفة ل «فَرِيقٌ» ، وقوله: {وَهُم مُّعْرِضُونَ} يجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في «مِنْهُمْ» ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في «مِنْهُمْ» ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون حالاً من «فَرِيقٌ» ، وجاز ذلك - وإن كان نكرةً - لتخصيصه بالوصف قبله، وإن كان حالاً فيجوز أن تكون مؤكِّدةً؛ لأن التولِّ] والإعراض عما دعا إليه.
قال ابنُ الخطيبِ: «فكأن المتولِّيَ والمعرضَ هو ذلك الفريق، والمعنى أنه مُتَوَلِّ عن استماع الحُجَّة في ذلك المقام، ومُعْرِضٌ عن استماع سائر الحُجَج» .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، لا محل لها، أخبر عنهم بذلك، فيكون المتولِّي هم الرؤساء والعلماء، والأتباع مُعرضون عن القبول؛ لأجل تَوَلِّي علمائِهم.(5/118)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
قوله: «ذَلِكَ» فيها وجهان:
أصحهما: أنها مبتدأ، والجار بعده خبره، اي: ذلك التوَلِّي بسبب هذه الأقوال الباطلةِ، التي لا حقيقةَ لها.(5/118)
والثاني: ان «ذَلِكَ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، اي: الأمر ذلك، وهو قول الزَّجَّاج وعلى هذا قوله: «بأنَّهُمْ» متعلق بذلك المقدَّر - وهو الأمر ونحوه -.
وقال أبو البقاء: فعلى هذا يكون قوله «بأنَّهُمْ» في موضع نَصْب على الحال بما في «ذَا» من معنى الإشارة، أي: ذلك الأمر مستحقاً بقولهم، ثم قال: «وهذا ضعيفٌ» .
قلت: بل لا يجوز ألبتة.
وجاء - هنا - «مَعْدُودَاتٍ» ، بصيغة الجمع - وفي البقرة «مَعْدُودَةً» ، تفنُّناً في البلاغة، وذلك أن جمع التكسير - غير العاقل - يجوز أن يعامَل معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً، ومعاملةَ جمع الإناث أخْرَى، فيقال: هذه جبال راسيةٌ - وإن شئت: راسياتٌ -، وجمال ماشية، وإن شئت: ماشيات.
وخص الجمع بهذا الموضع؛ لأنه مكان تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا: فأتى بلفظ الجمع مبالغةٌ في زجرهم، وزجر من يعمل بعملهم.
فصل
قال الجبائيُّ: «هذه الآية فيها [دلالة] على بُطْلان قَوْل مَنْ يقول: إنَّ أهلَ النار يخرجون من النار، قال: لأنه لو صَحَّ ذلك في هذه الآية لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المُخْبِر بذلك كاذباً، ولما استحق الذمَّ، فلما ذكر الله - تعالى - ذلك في معرض الذمِّ، علمنا أن القول بخروج أهل النارِ من النار [قول] باطل» .
قال ابن الخطيبِ: «كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام؛ لأن مذهبه أن العَفْوَ حَسَنٌ، جائز من الله، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفوِ في هذه الأمةِ حصولُه في سائر الأمم سلمنا أنه لا يلزم ذلك، لكن لِمَ قلتم: إن القومَ إنما استحقوا الذمَّ على مجرَّد الإخبارِ بأن الفاسقَ يخرج من النار؟
بل ههُنَا وُجُوهٌ أخَر:
الأول: لعلهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسقِ قصيرة، قليلة؛ فإنه روي أنهم كانوا يقولون: إنَّ مدة عذابنا سبعةُ أيام، ومنهم من قال: لا، بل أربعينَ ليلةً - على قدر مُدَّة عبادة العَجْل -.
الثاني: أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين، ويقولون: بتقدير وقوع الخطأ منا، فإنَّ عذابنا قليل، وهذا خطأ؛ لأن عندنا المخطئ في التوهيد والنبوة والمعاد كافر، والكافر عذابه دائم.
الثالث: أنهم لما قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} استحقروا تكذيبَ محمد -(5/119)
عليه السلام -، واعتقدوا أنه لا تأثيرَ له في تغليظ العقاب، فكان ذلك تصريحاً بتكذيبه - عليه السلام - وذلك كُفر، والكافر المُصِرُّ على كُفره لا شكَّ أن عذابَه مُخَلَّد، فثبت أنَّ احتجاجَ الجبائي بهذه الآية ضعيف» .
قوله: {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ} الغُرور: الخِدَاع، يقال منه: غَرًَّهُ، يَغُرُّهُ، غُرُوراً، فهو غَارٌّ، ومغرور.
والغَرُور: - بالفتح - مثال مبالغة كالضَّرُوب.
والغِرُّ: الصغير، والغِرِّيرَة: الصغيرة؛ لأنهما يُخ
عان، والغِرَّة: مأخوذة من هذا، قال: أخذه على غِرَّة، أي: تغفُّل وخداعِ، والغُرَّة: بياض في الوجه، يقال منه: وَجْهٌ أغَرُّ، ورجل أغَرّ وامرأة غَرَّاء.
والجمع القياسي: غُرٌّ، وغير القياسي غُرَّانُ.
قال: [الطويل]
1377 - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ ... وَأوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ
والغرة من كل شيء أنفسه، وفي الحديث: «وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً، عَبْداً أوُ أمَةً» .
قيل: الغُرًَّة: الخِيار، وقال أبو عمرو بن العلاء - في تفسير هذا الحديث - إنه لا يكون إلا الأبيض من الرقيق، كأنه أخَذَه من الغُرَّة، وهو البياض في الوَجْه.
قوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} «ما» يجوز أن تكون مصدريةً، أو بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف أي: الذي كانوا يفترونه.
قيل هو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] .
وقيل: هو قولهم: نحن على الحق وأنت على الباطل.
قوله: «فَكَيْفَ إذا» «كَيْفَ» منصوبة بفعل مُضْمَر، تقديره: كيف يكون حالهم، كذا قدَّره الحوفيّ وهذا يحتمل أن يكون الكون تاماً، فيجيء في «كيف» الوجهان المتقدمان في قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ» من التشبيه بالحال، أو الظرف، وأن تكون الناقصة فتكون «كيف» خبرها.(5/120)
وقدّر بعضهم الفعل، فقال: كيف يصنعون؟ [فإن أراد «كان» التامة كانت في موضع نصب على الحال، وإن أراد الناقصة كانت في موضع نصب على خبر «كان» ] ، فكيف على ما تقدم من الوجهين.
ويجوز أن تكون «كيف» خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالُهم؟
قوله: {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} «إذا» ظرف محض من غير تضمين شرط، والعامل فيه العامل مُضْمَر، وهي منصوبة انتصاب الظروفِ كان العامل في «إذَا» الاستقرار العامل في «كَيْفَ» ؛ لأنها كالظرف، وإن قلنا: إنها اسم غير ظرف، بل لمجرد السؤال كان العامل فيها نفس المبتدأ - الذي قدرناه - أي: كيف حالهم في وقت جمعهم؟
ويُحْذَف الحال - كثيراً - مع «كيف» ، لدلالته عليها، تقول: كنت أكرمه - ولم يزرني - فكيف لو زارني؟ أي: كيف حاله إذا زارني؟ وهذا الحذف يوجب مزيد البلاغة، لما فيه من تحرُّك النفي على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة، وكل نوع من أنواع العذاب - في هذه الآية -.
قوله: «لِيَوْمٍ» متعلق ب «جَمَعْنَاهُمْ» أي: لقضاء يوم، أو لجزاء يوم.
فإن قيل: لِمَ قال: «لِيَوْمٍ» ولم يقل: في «يَوْمٍ» .
فالجوابُ: ما ذكرناه من أنّ المرادَ: لجزاء يوم، أو لحساب يوم، فحذف المضاف، ودلت اللام عليه قال الفرّاءُ: اللام لفعل مضمر، فإذا قلتَ: جُمِعُوا ليوم الخميس، كان المعنى: جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس، وإذا قلت: جُمِعُوا في يوم الخميس لم تُضْمِرْ فِعْلاً.
وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدةَ فيه إلا المجازاة.
وقال الكسائيُّ: اللام بمعنى «في» .
«لا ريب فيه» صفة للظرف.
قوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} إن حَمَلْتَ «مَا كَسَبَتْ» على عمل العبد، جُعِلَ في الكلام حذفٌ، والتقدير: ووفيت كلُّ نفسٍ جزاءَ ما كسبت من ثواب وعقاب، وإن حملت «مَا كَسَبَتْ» على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار، ثم قال: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فلا يُنْقَص من ثواب حسناتهم، ولا يُزاد على عقاب سيئاتهم.
فصل
استدلوا بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة - من أصحاب الصلاة - لا يُخَلَّد في(5/121)
النار؛ لأنه مستحق للعقاب - بتلك الكبيرة - ومستحق ثواب الإيمانِ، فلا بُدَّ وأن يُوَفَّى ذلك الثوابَ؛ لقوله تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فإما أن يُثاب في الجنة ثم يُنقَل إلى النار، وذلك باطل بالإجماع. وإما أن يُعاقَبَ في النار، ثم يُنْقَل إلى دار الثواب أبَداً مُخَلَّداً، وهو المطلوب. وقد تقدم إبطال تمسك المعتزلة بالعمومات.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يُقال: إن ثوابَ إيمانهم يُحْبَط بعقاب معصيتهم؟
فالجوابُ: أن هذا باطل لما تقدم في البقرة من أن القول بالمحابطة محال؛ وأيضاً فإنا نعلم - بالضرورة - أن ثوابَ توحيدِ [سبعين] سنةً أزيد من عقاب شُرْبِ جَرْعَةٍ من الخمر والمنازع فيه مُكابِر، وبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط ثوابِ كل الإيمانِ بعقاب شُربِ جَرعَةٍ من الخمر.
وكان يحيى بن معاذ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ثواب إيمان لحظة يُسْقِط كُفْرَ ستين سنةً، فثواب إيمان ستين سنةً كيف يُعْقَل أن لا يُحْبِطَ عِقَابَ ذَنْبِ لَحْظَة؟(5/122)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
لمَّا بيَّن دلائلَ التوحيدِ والنبوَّةِ، وصحة دينِ الإسلام، وذكر صفاتِ المخالفين، وشدةَ عنادِهم وغُرُورِهم، ثم ذكر وعيدَهم بجمعهم يوم القيامة، أمر رسوله - عليه السلام - بدعاءٍ وتمجيدٍ يخالف طريقةَ هؤلاءِ المعاندين.
قوله: «اللَّهُمَّ» اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظةِ.
قال البصريون: الأصل: يا الله، فحُذِفَ حَرْفُ النداءِ، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة، وهذا خاصٌّ بهذا الاسم الشريف، فلا يجوز تعويضُ الميم من حرف النداء في غيره، واستدلوا على أنها عِوَضٌ من «يا» بأنهم لم يجمعوا بينهما إلا في ضرورة الشعر، كقوله: [الرجز]
1378 - وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولِي كُلَّمَا ... سَبَّحْتِ أوْ هَلَّلْتِ يَا اللَّهُمَّ مَا
أُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا ... فَإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نُعْدَمَا(5/122)
وقَوْلِ الآخر: [الرجز]
1379 - إنِّي إذَا مَا حَدَث ألَمَّا ... أقُولُ: يَا اللَّهُمَّ، يَا اللَّهُمَّا
وقال الكوفيون: الميم المشددة بَقِيَّةُ فِعْل محذوفٍ، تقديره: أمَّنَا بخير، أي: اقْصِدنا به، من قولك: أمَمْتُ زيداً، أي: قصدته، ومنه: {ولاا آمِّينَ البيت الحرام} [المائدة: 2] أي: قاصديه، وعلى هذا فالجمع بين «يا» والميم ليس بضرورةٍ عندهم، وليست عوضاً منها.
وقد رَدَّ عليهمُ البصريون هذا بأنه قد سُمِعَ: اللهمَّ أمَّنا بخير، وقال تعالى: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفالِ: 32] فقد صرَّح بالمدعُوِّ به، فلو كانت الميمُ بقيةَ «أمَّنَا» لفسد المعنى، فبان بُطْلانهُ.
وهذا من الأسماء التي لزمت النداءَ، فلا يجوز أن يقع في غيره، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلاً، أنشد الفرّاء: [مخلّع البسيط]
1380 - كَحَلْقَةٍ مِنْ أبِي دِثَارٍ ... يَسْمضعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ
استعمله - هاهنا - فاعلاً بقوله: يسمعها.
ولا يجوز تخفيفُ الميم، وجوَّزه الفراء، وأنشد البيت: بتخفيف الميم؛ إذ لا يمكن استقامةُ الوزن إلا بذلك.
قال بعضهم: هذا خطأ فاحشٌ، وذلك لأن الميم بقية «أمَّنَا» - على رأي الفراء - فكيف يجوزه الفراء؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك، بل الرواية: [مخلّع البسيط]
1381 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... يَسْمَعُهَا لاَهُهُ الْكُبَارُ
قال شهابُ الدينِ: «وهذا لا يعارِض الرواية الأخرى؛ فإنه كما صحّت هذه صحت تلك» .
ورد الزّجّاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل: يا الله آمَّنا للفْظِ به مُنَبِّهاً على الأصل، كما قالوا - في وَيلمِّهِ -: وَيْلٌ لأمِّهِ.
وردوا مذهب الفراءِ - أيضاً - بأنه يلزم منه جواز أن تقول: يا اللهم، ولما لم يَجُزْ(5/123)
ذلك علمنا فساد قولِ الفراءِ، بل نقول: كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً، كما يقال: يا الله اغفر لي، وأجاب الفراء عن قول الزَّجَّاجِ بأن أصله - عندنا - أن يقال: يا الله أمَّنا - ومن يُنْكِر جوازَ التكلم بذلك -؟ وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامةُ الفرع مُقامَ الأصل، ألا ترى أنَّ مذهب الخليل وسيبويه أن «ما أكرمه» معناه: شيء أكرمه، ثم إنه - قط - لا يُسْتَعْمَل هذا الكلام - الذي زعموا أنه هو الأصل - في معرض التعجُّب، فكذا هنا.
وأجاب عن الرد الثاني بقوله: مَن الذي يُسَلِّم لكم أنه لا يجوز ان يقال: يا اللهمَّ، وأنشد قول الراجز المتقدم يا اللهمّ، وقول البصريين: هذا الشعر غير معروف، فحاصله تكذيب النقل، ولو فتحنا هذا البابَ لم يَبْقَ من اللغة والنحو شيءٌ سَلِيماً من الطعن.
وقولهم: كان يلزم ذكر حرف النداء، فقد يُحْذَف حرف النداءِ، كقوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} [يوسف: 46] فلا يبعد أن يُخَصَّ هذا الاسم بالتزام الحذف.
واحتج الفراء على فساد قول البصريين بوجوه:
أحدها: أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء، لكنا قد أجزنا تأخير حرف النداء عن ذكر المنادى فيقال: الله يا، وهذا لا يجوز ألبتة.
ثانيها: لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثلُه في سائر الأسماءِ، فيقال: زيدُمَّ، وبكرُمَّ كما يجوز يا زيد، يا بَكر.
ثالثها: لو كانت الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه.
ومن أحكام هذه اللفظة أنها كثر دورها، حتى حذفت منها الألف واللام - في قولهم: لا هُمَّ - أي: اللهم.
قال الشاعرُ: [الراجز]
1382 - لاهُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ ... أحْرَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ
وقال آخرُ: [الرجز]
1383 - لاهُمَّ إنَّ جُرْهُماً عِبَادُكَا ... النَّاسُ طُرْقٌ وَهُمْ بِلادُكَا
قوله: {مَالِكَ الملك} فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من «اللَّهُمَّ» .(5/124)
الثاني: أنه عطف بيان.
الثالث: أنه منادًى ثانٍ، حُذِف منه حرف النداء، أي: يا مالكَ الملك، وهذا هو البدل في الحقيقة؛ إذ البدل على نية تكرار العامل؛ إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابعٍ.
الرابع: أنه نعت ل «اللَّهُمَّ» على الموضع، فلذلك نُصِبَ، وهذا ليس مذهبَ سيبويه؛ لأنه لا يُجيز نعتَ هذه اللفظة؛ لوجود الميم في آخرها؛ لأنها أخرجتها عن نظائِرها من الأسماء، وأجاز المبرّدُ ذلك، واختارَه الزّجّاج، قالا: لأن الميم بدل من «يا» والمنادى مع «يا» لا يمتنع وصفه، فكذا مع ما هو عوضٌ منها، وأيضاً فإن الاسمَ لم يتغير عن حكمه؛ ألا ترى إلى بقائه مبنيًّا على الضم كما كان مبنيًّا مع «يا» .
وانتصر الفارسيّ لسيبويه، بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد «اللَّهُمَّ» ، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة، ودخل في حيِّز ما لا يوصَف من الأصوات، وجب أن لا يُوصف. والأسماء المناداة، المفردة، المعرفة، القياس أن لا تُوصَف - كما ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف وكما أنه لما وقع موقع ما لا ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موضع ما لا يوصف وكما أنه لما موقع ما لا يعرب لم يعرب، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف، فأما قوله: [الرجز]
1384 - يا حَكَمث الْوَارِثُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكْ ... [وقوله] : [الرجز]
1385 - يَا حَكَمُ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودْ ... سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ
وقوله: [الوافر]
1386 - فَمَا كَعْبُ بْنُ مَامَةَ وَابْنُ سُعْدَى ... بِأجْوَدَ مِنْكَ يَا عُمَرَ الجَوادَا
فإن الأول على أنت.
والثاني على نداء ثانٍ
والثالث: على إضمار أعني.(5/125)
فلما كان هذا الاسم الأصل فيه أن لا يوصَف؛ لما ذكرنا، كان «اللهم» أولى أن لا يوصَف، لأنه قبل ضَمِّ الميم إليه واقعٌ موقع ما لا يوصف، فلما ضُمَّت إليه الميم صِيغ معها صياغةً مخصوصةً فصال حكمه حكم الأصواب، وحكم الأصوات أن لا توصف نحو غاقٍ، وهذا - مع ما ضُمَّ إليه من الميم - بمنزلة صوت مضمومٍ إلى صوتٍ نحو حَيَّهَلْ، فحقه أن لا يوصَف، كما لا يوصَف حيَّهَلْ.
قال شهابُ الدينِ: «هذا ما انتصر به أبو علي لسيبويه، وإن كان لا ينتهض مانعاً» .
قوله: تُؤتِي «هذه الجملة، وما عُطِفَ عليها يجوز أن تكون مستأنفةً، مبينة لقوله: {مَالِكَ الملك} ويجوز أن تكون حالاً من المنادى.
وي انتصاب الحال من المنادى خلاف، الصحيح جوازه؛ لأنه مفعول به، والحال - كما يكون لبيان هيئة الفاعل - يكون لبيان هيئةِ المفعول، ولذلك أعرَبَ الْحُذَّاقُ قولَ النابغة: [البسيط]
138 - يَا دَار مَيَّة بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأبدِ
» بالعلياء «حالاً من» دار مية «، وكذلك» أقوت «.
والثالث من وجوه» تُؤتِي «: أن تكون خبرَ مُبتدأ مضمر، أي: أنت تؤتي، لتكون الجملة اسمية وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون حالية.
قوله:» تشاء «أي: تشاء إيتاءَه، وتشاء انتزاعه، فحذف المفعول بعد المشيئة؛ للعلم به، والنزع: الجذب، يقال: نَزَعَه، ينزعه، نزعاً - إذا جذَبَهُ - ويُعَبَّر به عن المَيْل، ومنه: نزعت نفسه إلى كذا كأن جاذباً جذبها، ويعبر به عن الإزالة، يقال نزع الله عنك الشر - أي: أزاله - ومنه قوله تعالى: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] ومثله هذه الآية، فإن المعنى وتُزيل الملك.
فصل في بيان سبب النزول
في سبب النزول وجوهٍ:
أحدها: قال ابن عباس وأنس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين افتتح مكة - وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهاتَ، هيهاتَ، من أين لمحمد ملك فارس والروم -(5/126)
وهم أعزُّ وأمْنَعُ من ذلك -! ألم يكفِ محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وثانيها: روي أنه - عليه السلام - لما خَطَّ الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون، خرج من وسط الخندق صخرة كالتل العظيم، لم تعمل فيها المَعَاوِلُ.
فوجهوا سَلْمَان إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخذ المعول من سلمان، فلما ضربها صدعها وبرق منها بَرْقٌ أضاء ما بين لابتَيْها، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر، وكبر المسلمون، وقال عليه السلام: «أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلابِ، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها قصور صنعاء، ثم ضرب الثالثة فقال: أخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة على كلها، فأبشروا» ، فقال المنافقون: ألا تعجبوا من نبيكم، يَعِدُكم الباطل، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا، فنزلت هذه الآية.
وثالثها: قال الحسنُ: إن الله - تعالى - أمر نبيه أن يَسأله أن يعطيه ملك فارس والروم، ويردَّ ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاءَ، وهكذا منازل الأنبياء - إذا أمِرُوا بدعاء استُجِيب دعاؤهم.
وقيل: نزلت دامغةً لنصارى نجرانَ، في قولهم: إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الأوصافَ تبين - لكل صحيح الفطرة - أن عيسى ليس فيه شيءٌ منها.
قال ابن إسحاق: أعلم الله - تعالى - في هذه الآية - بعنادهم وكُفْرهم، وأن عيسى -(5/127)
عليه السلام - وإن كان الله - تعالى - أعطاه آياتٍ تدل على نبوته، من إحياءِ الموتى - وغير ذلك - فإن الله - عَزَّ وَجَلَّ - هو المنفردُ بهذه الأشياءِ - من قوله: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} إلى قوله: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
فصل
قوله: {مَالِكَ الملك} أي: مالك العباد وما ملكوا.
وقيل: مالك السموات والأرض قال الله تعالى - في بعض كتبه -: «أَنَا اللهُ، مالك الملك وملك الملوك، قُلُوبُ المُلُوكِ ونواصِيهم بِيَدِي، فإِن العِبَادُ أطاعوني جَعَلْتُهُم عَلَيهم رحمةً، وإن عصوني جعلتُهُم عليهم عقوبةً، فلا تشغلوا أنفسَكم بسَبِّ الملوكِ، ولكن توبوا إليَّ فأُعَطِّفَهُم عَلَيكُم» .
فصل
قال الزمخشريُّ: «مالك الملك، أي: يملك جنس الملك، فيتصرف فيه تصرُّفَ المُلاَّك فيما يملكون» .
قال مجاهدٌ وسعيدٌ بنُ جُبَيْر والسُّدِّي: «تُؤتِي الْمُلْكَ» يعني النبوَّة والرسالة، كما قال تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] ، فالنبوة أعظم مراتب الملك؛ لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلقِ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ ظاهراً وباطناً، أما باطناً؛ فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتَهم، وأن يعتقدَ أنه هو الحقُّ، وأما ظاهراً؛ فلأنهم لو خالفوهم لاستوجبوا القتلَ.
فإن قيل: قوله: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} يدل على أنه قد يَعْزِل عن النبوة مَنْ جعله نَبِيًّا، وذلك لا يجوزُ.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أن الله تعالى - إذا جعل النبوة في نسل رجلٍ، فإذا أخرجها الله تعالى من نسله، وشرَّف بها إنساناً آخرَ - من غير ذلك النسل - صح أن يقال: إنه - تعالى - نَزَعَهَا منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوةَ لا تكون إلا في بني إسرائيل، فلما شرَّف الله بها محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صَحّ أن يُقَالَ: إنه نزع مُلْكَ النبوةِ من بني إسرائيلَ إلى العرب.
الثاني: أن يكون المراد من قوله: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} ، أي: تحرمهم، ولا(5/128)
تعطيهم هذا الملك، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه، ونظيره قوله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] مع أن هذا الكلام يتناول مَن لم يكن في ظلمة الكفرِ قطّ.
وحكي عن الكفار قولهم - للأنبياء عليهم السلام -: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] وقول الأنبياء: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا} [الأعراف: 89] مع أنهم لم يكونوا فيها - قط -.
وعلى هذا القول تكون الآية رَدًّا على أربع فِرَقٍ:
إحداها: الذين استبعدوا أن يجعل الله بَشَراً رسولاً.
الثانية: الذين جوَّزوا أن يكون الرسول من البشر، إلا أنهم قالوا: إن محمداً فقير {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .
الثالثة: اليهود الذين قالوا: إن النبوة في أسلافِنَا، وإن قريشاً ليست أهلاً للكتاب والنبوة.
الرابعة: المنافقون، فإنهم ك انوا يحسدونه على النبوة - على ما حكى عنهم في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54] .
وقيل: المراد ما يُسَمَّى مُلْكاً في العُرْف، وهو عبارة عن أشياء:
أحدها: كثرة المال والجاه.
الثاني: أن يكون بحيث يجب على غيره طاعتُه، ويكون تحت أمرِه ونهيِه.
الثالث: أن يكونَ بحيث لو نازعه في مُلْكه أحدٌ قَدَرَ على قهر ذلك المنازع.
أما كثرةُ المالِ فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له - مع العناء العظيم، والمعرفة الكثيرة - إلا قليل من المال، ونرى الأبْلَهَ الغافلَ قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها.
وأما الجاه، فالأمر فيه أظهر، أما القسم الثاني - وهو وجوب طاعة الغير له - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله.
وأما القسم الثالث - وهو حصول النصرة والظفر - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى؛ فكم شاهدنا من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله تعالى.
فصل
قال الكعبيُّ: قوله: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} ، أي: بالاستحقاق، فتؤتيه من يقوم به، وتنزعه من الفاسقِ؛ لقوله تعالى:
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] وقوله - في العبد الصالح -: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} [البقرة: 247] فجعله سبباً للملك.(5/129)
وقال الجبائيُّ: هذا الملك مختص بملوك العَدْل، فأما ملوك الظلم، فلا يجوز أن يكون ملكُهم بإيتاء الله - تعالى - وكيف يصح أن يكون بايتاء الله - تعالى - وقد ألزمهم أن لا يمتلكوه، ومنعهم من ذلك، فقد صح - بما ذكرناه - أن الملوك العادلين هم المخصوصون بأن الله - تعالى - آتاهم ذلك الملكَ: وأما الظالمون فلا، قالوا: ونظيرُ هذا ما قلنا في الرزق أنه لا يكون من الحرام الذي زَجَرَ الله - تعالى - عنه، وأمره بأن يرده على مالكه، فكذا ههنا.
قالوا: وأما النزعُ، فإنه بخلاف ذلك؛ لأنه - كما ينزع الملكَ من الملوك العادلين؛ لمصلحة تقتضي ذلك - قد ينزع الملكَ عن الملوك الظالمين، ونزع الملك يكون بوجوه:
منها: بالموت، وإزالة العقل، وإزالة القوى، والقدرة، والحواسّ.
ومنها: بورود الهلاكِ، والتلف على الأموال.
ومنها: أن يأمر الله - تعالى - المُحِقَّ بأن يسلبَ الملكَ الذي في يد المتغلب المُبْطِل، ويؤتيه القُوة، والنُّصرة عليه، فيقهره، ويسلب ملكه، فيجوز أن يُضاف هذا السلب، والنزع إلى الله - تعالى - لأنه واقع عن أمره، كما نزع الله - تعالى - مُلْكَ فارسِ، على يد الرسول - عليه السلام.
فالجوابُ: أن تقول: حصولُ المُلْكِ للظالِم إما أن يكون حصل لا عَنْ فاعل، وذلك يقتضي نفي الصانع، وإما أن يكون حصل بفعل المتغلِّب، وذلك باطل؛ لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه، ولا يتيسر له ألبتة، فلم يبق إلا أن يقال: بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى - وهذا أمرٌ ظاهر؛ فإن الرجلَ قد يكون مُهَاباً، والقلوب تميل إليه، والنصر قريب له، والظفر جليس معه، وأينما توجه حصل مقصوده، وقد يكون على الضد من ذلك، ومن تأمل في كيفية أحوالِ الملوكِ اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله.
ولذلك قال بعض الشعراءِ: [الكامل]
1388 - لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدتنِي ... بِأجَلِّ أسْبَابِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي
لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الغِنَى ... ضِدَّانِ مُفْتَرقَانِ أيَّ تَفَرُّقِ
وَمِنَ الدَّلِيل عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ
وقيل: قوله تعالى: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} محمول على جميع أنواع الملكِ، فيدخل فيه ملك النبوةِ، وملكُ العلمِ، وملكُ العقلِ والأخلاقِ الحسنةِ، وملكُ البقاءِ(5/130)
والقدرةِ، وملك محبة القلوبِ، وملك الأموال؛ لأن اللفظ عام، فلا يجوز التخصيص من غير دليل.
وقال الكلبيُّ: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} العرب، {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} أبا جهل وصناديد قريش.
وقيل: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} آدم وولده، {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} من إبليس وجنده.
قوله: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} .
قال عطاء: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} المهاجرين والأنصار، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} فارس والروم.
وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} محمداً وأصحابه، حين دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} أبا جهل وأصحابه، حين حُزَّت رؤوسُهم، وألْقُوا في القليب.
وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} بالإيمان والهداية، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بالكفر والضلالة.
وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} بالطاعة، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بالمعصيةِ.
وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} بالنصر، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بالقهرِ.
{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} بالغنى، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بالفقرِ.
{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} بالقناعة والرِّضا، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بالحرص والطمع.
قوله: {بِيَدِكَ الخير} في الكلام حذف معطوف، تقديرُهُ: والشَّرُّ، كقَوْلِهِ تَعَالى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، أي: وَالبَرْدَ.
وكَقَوْلِهِ: [الطويل]
1389 - كأنَّ الْحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأمامِهَا ... إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أعْسَرَا
أي ويدها.
قال الزمَخْشَريُّ: «فَإن قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ:» بِيَدِكَ الْخَيْرُ «دُونَ الشَّرِّ؟
قلت: لأنَّ الكَلامَ إنَّما وَقَعَ في الْخَيْرِ الَّذِي يَسُوْقُهُ اللهُ إلى الْمُؤمِنين، - وَهُوَ الَّذِي أنْكَرتهُ الْكَفَرةُ.
فقال: {بِيَدِكَ الخير} تؤتِيْه أوْلِياءَكَ عَلى رَغْم مِنْ أعْدائِكَ» .(5/131)
وقيل: خَصَّ الخيرَ؛ لأنَّه فِي مَوْضِعِ دُعَاءٍ، وَرَغْبَةٍ فِي فَضْلِهِ.
وقيل: هَذَا مِنْ آدابِ الْقُرآنِ؛ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّح إلاَّ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ لِخَلْقِه، وَمِثْلُه: «والشر ليس إليك» ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] .
فصل
الألف وَاللامُ فِي «الْخَيْرِ» يُوجِبَانِ العُمُوم، وَالْمَعْنَى: [أنَّ الْخَيْرَاتِ تَحْصُلُ] بقدرتك، فَقولُهُ: «بِيَدِكَ» لاَ بِيَدِ غَيْركَ، كَقَوْلِهِ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] ، أي: لَكُم دِيْنُكُمْ لا لغيركم، وذَلِكَ الحَصْرُ منَافٍ لِحُصُولِ الْخَيْرِ بِيَدِ غَيْرِه فثبت دلالةُ الآيةِ عَلَى أنَّ الْجَمِيع مِنهُ بِخَلْقِه وتكوينه، وَإيْجَادِهِ وَفَضْلِهِ، وَأفضلُ الخيرات هو الإيمان بالله، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله لا مِنْ تَخْلِيق الْعَبْدِ، وَهَذا استدلالٌ ظَاهرٌ.
وزاد بَعْضُهُم فَقَالَ: كُلُّ فَاعِلَيْنِ فِعْلُ أحدِهمَا أفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الآخَرِ، كَانَ ذَلِكَ الفَاعِلُ أشْرَفَ وَأكْملَ من الآخرِ، وَلاَ شَكَّ أنَّ الإيمانَ أفْضَلُ مِنْ الْخَيْرِ، ومِنْ كُلِّ مَا سِوى الإيْمانِ، فَلَوْ كَانَ الإيمانُ بِخَلْقِ العبد - لا بِخَلْقِ اللهِ تعالى - لوجَبَ كَوْنُ العبْدِ زَائِداً في الخَيْرِية على اللهِ - تَعَالى - وَذَلِكَ كفر قبيح، فدلت الآية - من هذين الوجهين - على أنَّ الإيْمَانَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى.
فإن قيل: هَذِه الآيةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجهٍ آخر؛ لأنه لما قال: {بِيَدِكَ الخير} كان معناه: ليس بيدك إلا الخير، وهذا يقتضي أن لا يكونَ الكفرُ والمعصيةُ بيده.
فالجوابُ: أن قوله: {بِيَدِكَ الخير} يُفيد أن بيدك الخير - لا بيد غيرك - فهذا ينافي أن يكون الخير بيد غيره، لكن لا ينافي أن يكون بيده الخير، وبيده ما سوى الخيرِ، إلا أنه خَصّ الخير بالذكر؛ لأنه الأمر المنتفَع به، فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى.
قال القاضي: «كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه - تعالى - أقدرهم عليه، وهداهم إليه، لما تمكنوا منه، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى» .
قال ابن الخطيبِ: «وهذا ضعيفٌ؛ لأن بعضَ الخير يصير مضافاً إلى الله - تعالى - ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد، وهذا خلافُ النص» .
وقوله: {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونَزْعه، والإعزار، والإذلال.
قوله: {تُولِجُ الليل فِي النهار} يقال: وَلَجَ، يَلِجُ، وُلُوجاً، وَلِجَةً - كعِدَة - ووَلْجاً - ك «وَعْدًا» ، واتَّلَجَ، يتَّلِجُ، اتِّلاجاً، والأصل: اوْتَلج، يَوْتَلِجُ، اوتِلاَجاً، فقُلبت الواوُ تاءً قبل تاء الافتعال، نحو: اتَّعَدَ يتَّعِد اتِّعاداً.(5/132)
قال الشاعر: [الطويل]
1390 - فَإنَّ القَوَافِي يَتَّلِجْنَ مَوَالِجاً ... تَضَايَقَ عَنْهَا أنْ تَوَلَّجَهَا الإبَرْ
الولوج: الدخول، والإيلاج: الإدخالُ - ومعنى الآية على ذلك.
وقول من قال: معناه النقص فإنما أراد اللازم؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا أدخل من هذا في هذا فقد نقص المأخوذ منه المُدْخَل في ذلك الآخر. وزعم بعضهم أن تولج بمعنى ترفع، وأن «في» بمعنى «على» وليس بشيءٍ.
وقيل: المعنى: أنه - تعالى - يأتي بالليل عقيب النهار -، فيُلْبس الدنيا ظُلْمَتَه - بعد أن كان فيها ضوءُ النهارِ - ثم يأتي بالنهار عقيب الليل، فيُلْبس الدنيا ضَوْءَه، فكأن المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر.
قال ابن الخطيب: «والقول بأن معناه النقص أقرب إلى اللفظ؛ لأنه إذا كان النهار طويلاً، فجعل ما نقص منه زيادةٍ في الليل، كان ما نقص منه زيادة في الآخر» .
قوله: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} اختلف القراء في لفظة «الْمَيِّتِ» فقرأ ابنُ كثير وأبو عَمْرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم لفظ «الْمَيْتِ» من غير تاء تأنيث - مُخَفَّفاً، في جميع القرآن، سواء وصف به الحيوان نحو: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [آل عمران: 27] أو الجماد نحو: {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} [فاطر: 9]- مُنَكَّراً أو معرفاً كما تقدم ذكره - إلا قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، وقوله: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17]- في إبراهيم - مما لم يمت بعد، فإن الكل ثقلوه، وكذلك لفظ «الميتة» في قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة} [يس: 33] دون الميتة المذكورة مع الدم - فإن تلك لم يشدِّدْها إلا بعضُ قُرَّاء الشواذ - وكذلك قوله: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً}
[الأنعام: 139] ، وقوله: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} [الزخرف: 11] ، وقوله: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة} [الأنعام: 145] فإنها مخَفَّفاتٌ عند الجميع، وثَقّل نافعٌ جميعَ ذلك، والأخوان وحفص - عن نافع - وافقوا ابن كثير ومن معه في الأنعام في قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه} [الأنعام: 122] ، وفي الحجرات: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا} [الحجرات: 12] ، وفي يس: {الأرض الميتة} [يس: 33] ، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، فجمعوا بين اللغتين؛ إيذاناً بأن كلاًّ من القراءتين صحيح، وهما بمعنًى؛ لأن «فَيْعِل» يجوز تخفيفه في المعتل بحَذْف إحْدى ياءَيْه، فيقال: هَيْن وهيِّن، لَيْن وليِّن، ميْت وميِّت، وقد جمع(5/133)
الشاعر بين اللغتين في قوله: [الخفيف]
1391 - لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ
إنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيباً ... كَاسِفاً بِالُهُ قَليلَ الرَّجَاءِ
وزعم بعضهم أن «ميتاً» بالتخفيف - لمن وقع به الموت، وأن المشدّد يُستعمَل فيمن مات ومن لم يَمُتْ، كقولهً - تعالى -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] .
وقسم لا خلاف في تخفيفه - وهو ما تقدم في قوله: {الميتة والدم} {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} [الأنعام: 139] {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة} ، وقوله: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} [الزخرف: 11] .
وقسم فيه الخلاف - وهو ما عدا ذلك - وتقدم تفصيله وقد تقدم أيضاً أن أصل «ميِّت» مَيْوِت، فأدغم، وفي وزنه خلاف، هل وزنه «فَيْعِل» - وهو مذهب البصريين - أو «فَعْيِل» - وهو مذهب الكوفيين - وأصله مَوْيِتٌ، قالوا: لأن فَيْعِلاً مفقود في الصحيح؛ فالمعتل أولى أن لا يوجد فيه، وأجاب البصريون عن قولهم: لا نظير له في الصحيح بأن قُضَاة - في جميع قاضٍ - لا نظير له في الصحيح، ويدل على عَدم التلازم «قُضاة» جمع قاضٍ وفي «قضاة» خلاف طويل ليس هذا موضعه.
واعترض عليهم البصريون بأنه لو كان وزنه «فَعْيِلاً» لوجب أن يصح، كما صحت نظائره من ذوات الواو نحو: طويل، وعويل، وقويم، فحيث اعتل بالقلب والإدغام امتنع أن يُدَّعى أن أصله «فَعْيِل» لمخالفة نظائره، وهو ردٌّ حسنٌ.
فصل
قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة: يُخْرِجُ الحيوانَ من النطفة -(5/134)
وهي ميتة - والطير من البيضة، وبالعكس.
وقال الحسنُ وعطاء: يُخْرِج المؤمن من الكافر - كإبراهيم من آزر - والكافر من المؤمن - مثل كنعان من نوح.
وقال الزَّجَّاج: يُخْرِج النبات الغضَّ الطريَّ من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات، قال القفّال: «والكلمة محتملة للكل.
أما الحيوان والنطفة فقال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] .
والكافر والمؤمن فقال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] ، أي: كافراً فهديناه» .
قال القرطبيُّ: روى معمر عن الزهريِّ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل على نسائه، فإذا بامرأة حسنة النعمة، قال: مَنْ هذه؟ قلن: إحدى خالاتك، قال: ومَنْ هِي؟ قلن: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«سبحان الذي يخرج الحي من الميت» .
وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافراً.
وأما النبات والحب فقال تعالى: {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] .
قوله: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل، أي: ترزقه وأنت لم تحاسبه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول، أي: غير مُضَيِّقٍ عليه وقد تقدم الكلام على مثل هذا مشبعاً في قوله تعالى في البقرة: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
واشتملت هذه الآيةُ على أنواع من البديع:
منها: التجنيس المماثل في قوله تعالى: {مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك} .(5/135)
ومنها: الطباق، وهو الجمع بين متضادين أو شبههما - في قوله: «تُؤتي» وتَنْزعُ «وتعزُّ وتُذِلُّ وفي قوله: {بِيَدِكَ الخير} أي: والشَّرُّ - عند بعضهم -، وفي قوله:» اللَّيْل «و» النَّهَار «و» الحيّ «و» الميّت «.
ومنها رَدُّ الأعجازِ على الصدورِ، والصدورِ على الأعجاز في قوله: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} ، وفي قوله: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} ونحوه عادات الشاذات شاذات العاداتِ.
وتضمنت من المعاني التوكيد بإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر في قوله: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} وفي تجوُّزه بإيقاع الحرف مكان ما هو بمعناه، والحذف لفهم المعنى.
فصل
قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: بمعنى التعبِ، قال تعالى: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
الثاني: بمعنى العدد، كقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] أي: بغير عَددٍ.
الثالث: بمعنى المطالبة، قال تعالى: {فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] [أي: بغير مطالبة.
فصل
عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ فاتحةَ الكتابِ، وآية الكرسي، وآيتين من آل عمرانَ - وهما {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 18 - 19] ، {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} مُعلَّقاتٌ، ما بينهُنَّ وبَيْنَ اللهِ حجابٌ، قُلْنَ: يا ربِّ، تُهْبِطُنا إلى أرْضك، وإلى مَنْ يَعْصِيك؟ قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: إنِّي حَلَفْتُ لا يقرؤكُنَّ أحدٌ من عبادي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ إلا جَعَلْتُ الجنةَ مثواهُ - على ما كان منه - ولأسْكَنْتُه حَظيرةَ القدس، ولنظرتُ إليه بعين مكنونة كلَّ يَوْم سَبْعِينَ مرةً، ولقضيتُ له كلَّ يومٍ سبعين حاجةً أدناها المغفرة - ولأعذته من كلِّ عدوٍّ وحاسدٍ، ونصرتُه منهم «.(5/136)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
العامة على قراءة «لا يَتَّخِذْ» نَهْياً، وقرأ الضَّبِّيُّ «لا يَتَّخِذُ» برفع الذال - نفياً - بمعنى لا ينبغي، أو هو خبر بمعنى النهي نحو {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} [البقرة: 233] و {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ} [البقرة: 282]- فيمن رفع الراء.
قال أبو البقاء وغيره: «وأجاز الكسائيُّ فيه [رفع الراء] على الخبر، والمعنى: لا ينبغي» .
وهذا موافق لما قاله الفرَّاء، فإنه قال: «ولو رَفَع على الخبر - كقراءة مَنْ قرأ: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} جاز» .
قال أبو إسحاق: ويكون المعنى - على الرفع - أنه مَنْ كان مؤمناً، فلا ينبغي أن يتخذ الكافرَ ولياً؛ [لأن ولي الكافر راضٍ بكُفْره، فهو كافر] .
كأنهما لم يَطَّلِعَا على قراءة الضبي، أو لم تثبت عندهما.
و «يتخذ» يجوز أن يكون متعدياً لواحد، فيكون «أوْلِيَاءَ» حالاً، وأن يكون متعدياً لاثنين، وأولياء هو الثاني.
قوله: {مِن دُونِ المؤمنين} فيه وجهان:
أظهرهما: أن «مِن» لابتداء الغايةِ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ.
قال علي بن عيسى: «أي: لا تجعلوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دون مكان المؤمنين» .
وقد تقدم تحقيقُ هذا، عند قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله} في البقرة [الآية 23] .
والثاني - أجاز أبو البقاء - أن يكون في موضع نصب، صفة لِ «أوْلِيَاءَ» فعلى هذا يتعلق بمحذوف.
قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أدغم الكسائيُّ اللام في الذال هنا، وفي مواضع أخَر تقدم التنبيه عليها في البقرة.
قوله: {مِنَ الله} الظاهر أنه في محل نصب على الحال من «شَيءٍ» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له.(5/137)
«فِي شَيءٍ» هو خبر «لَيْسَ» ؛ لأن به تستقل فائدةُ الإسنادِ، والتقدير: فليس في شيء كائن من الله، ولا بد من حذف مضافٍ، أي: فليس من ولاية الله.
وقيل: من دين الله، ونظَّر بعضُهم الآيةَ الكريمةَ ببيت النابغةِ: [الوافر]
1392 - إذَا حَاوَلْتَ مِنْ أسَدٍ فُجُوراً ... فَإنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِني
قال ابو حيّان: «والتنظير ليس بجيِّدٍ؛ لأن» منك «و» مني «خبر» لَيْسَ «وتستقل به الفائدةُ، وفي الآية الخبر قوله:» فِي شَيءٍ «فليس البيتُ كالآيةِ» .
وقد نحا ابن عطية هذا المنحى المذكورَ عن بعضهم، فقال: فليس من الله في شيء مَرْضِيِّ على الكمالِ والصوابِ، وهذا كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ، تقديره: فليس من التقرب إلى الله والثواب، وقوله: «فِي شَيءٍ» هو في موضع نصبٍ على الحالِ من الضمير الذي في قوله: {فَلَيْسَ مِنَ الله} .
قال أبو حيّان: «وهو كلام مضطرب؛ لأن تقديره:» فليس من التقرُّب إلى الله «يقتضي أن لا يكون» مِنَ اللهِ «خبراً لِ» لَيْسَ «؛ إذْ لا يستقل، وقوله:» فِي شَيءٍ «هو في موضع نصبٍ على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً، فيبقى» ليس «- على قوله - ليس لها خبر، وذلك لا يجوز، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» من غشنا فليس منا «ليس بجيِّد؛ لما بينَّا من الفرق بين بيت النابغة، وبين الآية الكريمةِ» .
قال شهاب الدين: «وقد يجاب عن قوله: إن» مِنَ اللهِ «لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ، تقديره: فليس من أولياء اللهِ» لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ، تقديره: فليس من أولياء اللهِ؛ لأن اتخاذَ الكفار أولياء ينافي ولاية الله - تعالى -، وكذا قول ابن عطية: فليس من التقرُّب، أي: من أهل التقرب، وحينئذٍ يكون التنظير بين الآية، والحديث، وبيت النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما(5/138)
ذكر، ونظير تقديرِ المضافِ هنا - قوله: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] ، أي: من أشياعي وأتباعي، وكذا قوله: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] أي: من أشياعي وقول العرب: أنت مني فرسخين، أي: من أشياعي ما سرنا فرسخين، ويجوز أن يكون «مِنَ اللهِ» هو خبر «ليس» و «فِي شيءٍ» يكون حالاً منالضمير في «لَيْسَ» - كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً، وغيره إيماءً، وتقدم الاعتراض عليهما والجواب «.
قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ} هذا استثناء مُفَرَّغ من المفعول من أجله، والعامل فيه» لا يَتَّخِذْ «أي: لا يتخذ المؤمنُ الكافرَ وليًّا لشيء من الأشياء إلا للتقيةِ ظاهراً، أي: يكون مواليه في الظاهر، ومعاديه في الباطن، وعلى هذا فقوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} وجوابه معترضٌ بين العلةِ ومعلولِها وفي قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ} التفات من غيبةٍ إلى خطابٍ، ولو جرى على سنن الكلامِ الأول لجاء الكلام غيبة، وذكروا للالتفات - هنا - معنى حسناً، وذلك أن موالاةَ الكفارِ لما كانت مستقبحةً لم يواجه الله - تعالى - عباده بخطاب النهي، بل جاء به في كلام أسْندَ الفعل المنهي عنه لغيب، ولما كانت المجاملة - في الظاهر - والمحاسنة جائزة لعذرٍ - وهو اتقاء شرهم - حَسُنَ الإقبال إليهم، وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك.
قوله: {تُقَاةً} في نصبها ثلاثة أوجهٍ، وذلك مَبْنِيٌّ على تفسير» تُقَاةً «ما هي؟
أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدرِ، والتقدير: تتقوا منهم اتِّقَاءً، ف» تُقَاة «واقعة موقع الاتقاء، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها، والأصل: أن تتقوا اتقاءً - نحو تقتدر اقتداراً - ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائدِ، كقوله:
{أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] والأصل إنباتاً.
ومثله قول الشاعر: [الوافر]
1393 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمَائَةَ الرِّتَاعَا
أي: اعطائك، ومن ذلك - أيضاً - قوله: [الوافر]
1394 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَلَيْس بِأنْ تَتَبَّعَُ اتِّبَاعَا(5/139)
وقول الآخر: [الوافر]
1395 - وَلاَحَ بِجَانِبِ الْجَبَلَيْنِ مِنْهُ ... رُكَامٌ يَحْفِرُ الأرْضَ احْتِفَارَا
وهذا عكس الآية؛ إذ جاء المصدرُ مُزَاداً فيه، والفعل الناصب له مُجَرَّد من تلك الزوائدِ، ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] .
وقول الآخر: [الرجز أو السريع]
1396 - وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْحِضْبِ ... والأصل: تَطَوِّيَّا، والأصل في «تُقَاةً» وقية مصدر على فُعَل من الوقاية. وقد تقدم تفسير هذه المادة، ثم أبدلت الواوُ تاءً مثل تخمة وتكأة وتجاه، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، فصار اللفظ «تقاة» كما ترى بوزن «فعلة» ومجيء المصدر على «فُعَل» و «فُعَلَة» قليل، نحو: التخمة، والتؤدة، والتهمة والتكأة، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير المصدر، والكثير مجيء المصادرِ جارية على أفعالها.
قيل: وحسَّن مجيءَ هذا المصدر ثلاثياً كونُ فعله قد حُذِفت زوائده في كثيرٍ من كلامهم، نحو: تقى يتقى.
ومنه قوله: [الطويل]
1397 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... تَقِ اللهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
وقد تقدم تحقيق ذلك أول البقرة.
الثاني: أنها منصوبة على المفعول به، وذلك على أن «تَتَّقُوا» بمعنى تخافوا، وتكون «تُقَاةً» مصدراً واقعاً موقعَ المفعول به، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ، فإنه قال: «إلا أن تَخَافُوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه» .
وقُرِئَ «تَقِيَّةً» وقيل - للمتقى -: تُقَاة، وتقية، كقولهم: ضَرْب الأمير - لمضروبه فصار تقديرُ الكلامِ: إلا أن تخافوا منهم أمْراً مُتَّقًى.(5/140)
الثالث: أنها منصوبةٌ على الحال، وصاحب الحال فاعل «تَتَّقُوا» وعلى هذا تكون حالاً مؤكدةً لأن معناه مفهوم من عاملها، كقوله: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] ، وقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] وهو - على هذا - جمع فاعل، - وإن لم يُلْفَظْ ب «فاعل» من هذه المادة - فيكون فاعلاً وفُعَلَة، نحو: رَامٍ ورُمَاة، وغَازٍ وغُزَاة، لأن «فُعَلَة» يطَّرد جمعاً لِ «فاعل» الوصف، المعتل اللام.
وقيل: بل لعله جمع ل «فَعِيل» أجاز ذلك كلَّه أبو علي الفارسي.
قال شهاب الدينِ: «جمع فعيل على» فُعَلَة «لا يجوز، فإن» فَعِيلاً «الوصف المعتل اللام يجمع على» أفعلاء «نحو: غَنِيّ وأغنياء، وتَقِيّ وأتقياء، وصَفِيّ وأصفياء.
فإن قيل: قد جاء» فعيل «الوصف مجموعاً على» فَُلَة «قالوا: كَمِيّ وكُمَاة.
فالجواب: أنه من النادر، بحيثُ لا يُقاس عليه «.
وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ، وأبو رجاء وقتادةُ وأبو حَيْوةَ ويعقوبُ وسهلٌ وعاصمٌ - في رواية المعتل عينه - تتقوا منهم تقيَّة - بوزن مَطِيَّة - وهي مصدر - أيضاً - بمعنى تقاة، يقال: اتَّقَى يتقي اتقاءً وتَقْوًى وتُقَاةً وتَقِيَّة وتُقًى، فيجيء مصدر» افْتَعَل «من هذه المادة على الافتعال، وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزانِ، ويقال - أيضاً -: تقيت أتقي - ثلاثياً - تَقِيَّةً وتقوًى وتُقَاةً وتُقًى، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق.
وأمال الأخوانِ» تُقَاةً «هنا؛ لأن ألفَها منقلبةٌ عن ياءٍ، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في منع الإمالة؛ لأن السبب غيرُ ظاهر، ألا ترى أن سبب الياء الإمالة المقدرة - بخلاف غالب، وطالب، وقادم فإن حرف الاستعلاء - هنا - مؤثِّر؛ لكن سبب الإمالة ظاهر، وهو الكسرة، وعلى هذا يقال: كيف يؤثر مع السبب الظاهر، ولم يؤثر مع المقدَّر وكان العكس أولى.
والجوابُ: أن الكسرة سببٌ منفصلٌ عن الحرف المُمَال - ليس موجوداً فيه - بخلاف الألف المنقلبة عن ياء، فإنها - نفسها - مقتضية للإمالة، فلذلك لم يقاوِمها حرفُ الاستعلاء.
وأمال الكسائي - وحده - {حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] فخرج حمزة عن(5/141)
أصله، وكأن الفرق أن» تُقَاةً «- هذه - رُسِمَتْ بالياء، فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه، ولذلك قال بعضهم:» تَقِيَّة «- بوزن مطيّة - كما تقدم؛ لظاهر الرسم، بخلاف» تُقَاتِهِ «.
قال شهاب الدين: [وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا؛ لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذٌّ؛ لأجل حرف الاستعلاء، وأن سيبويه حكى عن قوم أنَّهم يُميلُون شَيْئاً لا تجوز إمالَُه، نحو: رَأيْتُ عِرْقَى بالإمالة، وليس هذا من ذلك؛ لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في كسْرِهِ ظاهرٌ.
وقوله:» مِنْهُمْ «متعلق ب» تَتَّقُوا «أو بمحذوف على أنه حال من» تُقَاةً «؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون صفةً لها، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً، هذا إذا لم نجعل» تُقَاةً «حالاً، فأما إذا جعلناها حالاً تعيَّن أن يَتَعلَّق» مِنْهُمْ «بالفعل قبله، ولا يجوز أن يكون حالاً من» تُقَاةً «لفساد المعنى؛ لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين.
فصل في كيفية النظم
في كيفية النظمِ وجهان:
أحدهما: أنه - تعالى - لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم اللهِ - تعالى - ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس، فقال: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} .
والثاني: أنه لما بَيَّن أنه - تعالى - مالك الدنيا والآخرة، بيَّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه - دون أعدائه -.
فصل
في سبب النزول وجوه:
أحدها: قال ابن عبّاسٍ: كان الحجاج بن عمرو وابنُ أبي الحُقَيْقِ وقيسُ بنُ زيد [قد بطنوا] بنفر من الأنصار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن عبد المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين: اجتنبوا هؤلاءِ اليهودَ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلاّ مباطَنَتَهُمْ، فنزلت هذه الآية.
وثانيها: قال مقاتلٌ: نزلت في حاطب بن أبي بلتعةَ، وغيره؛ حيث كانوا يُظْهرون المودةَ لكفار مكة فنهاهم عنها.(5/142)
ثالثها: قال الكلبيُّ - عن أبي صالح عن ابن عبّاس -: نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيِّ وأصحابه - ك انوا يتولَّون اليهودَ والمشركين، ويأتونهم بالأخبار، يرجون لهم الظفر والنصر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت الآية.
ورابعها: أنها نزلت في عُبَادةَ بن الصامتِ - وكان له حلفاء من اليهود - في يوم الأحزاب قال: يا رسول الله، معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فنزلت هذه الآية في تحريم موالاة الكافرين.
وقد نزلت آيات أخَرُ في هذا المعنى، منها قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] ، وقوله: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] وقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} [المائدة: 51] وقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} [الممتحنة: 1] ، وقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] .
فصل
موالاة الكافر تنقسم ثلاثة أقسامٍ.
الأول: أن يَرْضَى بكفره، ويُصَوِّبَه، ويواليَه لأجْلِه، فهذا كافر؛ لأنه راضٍ بالكفر ومُصَوِّبٌ له.
الثاني: المعاشرةُ الجميلةُ بحَسَب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه.
الثالث: الموالاة، بمعنى الركون إليهم، والمعونة، والنُّصْرة، إما بسبب القرابة، وإما بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينَه باطل - فهذا منهيٌّ عنه، ولا يوجب الكفر؛ لأنه - بهذا المعنى - قد يجره إلى استحسان طريقِه، والرِّضَى بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام، ولذلك هدد الله بهذه الآية - فقال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} .
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء - بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين - فأما إذا تولَّوْهم، وتولَّوُا المؤمنين معهم، فليس ذلك بمنهيٍّ عنه، وأيضاً فقوله: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ} فيه زيادة مَزِيَّةٍ؛ لأن الرجلَ قد يوالي غيره، ولا يتخذه موالياً له، فالنهيُّ عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل موالاته؟
فالجوابُ: أن هذين الاحتمالين - وإن قاما في الآية - إلا أن سائر الآيات الدالةِ على أنه لا يجوز موالاتُهم دلت على سقوطِ هذينِ الاحتمالينِ.
فصل
معنى قوله: {مِن دُونِ المؤمنين} أي: من غير المؤمنين، كقوله: {وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن(5/143)
دُونِ الله} [البقرة: 23] ، أي: من غير الله؛ لأن لفظة «دون» تختص بالمكان، تقول: زيد جلس دون عمرو، أي: في مكان أسفلَ منه، ثم إن مَن كان مُبَايِناً لغيره في المكان، فهو مغاير له، فجعل لفظ «دون» مستعملاً في معنى «غير» ، ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} يقع عليه اسم الولاية أي: فليس من ولاية الله في شيءٍ، يعني أنه مُنْسَلِخ من ولاية الله - تعالى - رأساً، وهذا أمر معقول؛ فإن موالاةَ الوليّ وموالاةَ عدوِّه ضدان.
قال الشاعر: [الطويل]
1398 - تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أنَّنِي ... صَدِيقُكَ، لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ
وكتب الشَّعبيُّ إلى صديق له كتاباً، من جملته: وَمَنْ وَالَى عَدُوَّكَ فَقَدْ عَادَاكَ، وَمَنْ عَادَى عَدُوَّكَ فَقَدْ وَالاَكَ. وقد تقدم القول بأن المعنى فليس من دون اله في شيء.
ثم قال: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة، قال الحسنُ: أخذ مُسَيْلمةَ الكذابُ رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال لأحدهما: تشهد أن محمَّداً رسولُ الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حَنِيفَةَ، ومحمد رسول قُرَيْش - فتركه، ودعا الآخر قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم نعم نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، ثلاثاً - فقدمه، فقتله، فبلغ ذلك رسولَ الله، فقال: أما هذا المقتولُ فمضى على يقينه وصدقه، فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] .
فصل
التَّقِيَّة لها أحكامٌ:
منها: أنها تجوز إذا كان الرجلُ في قومٍ كفارٍ، ويخاف منهم على نفسه، وماله، فيداريهم باللسان، بأن لا يُظْهِرَ العداوةَ باللسان، بل يجوز له أن يُظْهِر الكلامَ الموهمَ للمحبة والموالاة، بشرط أن يضمر خلافَه، وأن يُعَرِّضَ في كُلِّ ما يقول؛ فإن التقية تأثيرُها في الظاهر، لا في أحوال القلوبِ، ولو أفصح بالإيمان - حيث يجوز له التقية - كان أفضل؛ لقصةِ مسيلمةَ.
ومنها: أنها إنما تجوز فيما يتعلق بدفع الضرر عن نفسه، أما ما يرجع ضرره إلى(5/144)
الغير كالقتلِ، والزنا، وغصب الأموالِ، والشهادة بالزور، وقذف المحصنات، وإطلاع الكفارِ على عورات المسلمين، فلا تجوز البتة.
ومنها: أنها تحل مع الكفار الغالبين، وقال بعض العلماء: إنها تحل مع المسلمين - إذا شاكلت حالُهم حال المشركين؛ محاماةً على النفس، وهل هي جائزة لصَوْن المال؟ يُحْتَمل أن يُحْكَم فيها بالجواز؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِم كَحُرْمَةِ دَمهِ» ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ، ولأن الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بِيعَ بالغبن سقط فرضُ الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمم؛ دفعاً لذلك القدر من نقصان المال، فهاهنا أوْلَى.
فصل
قال معاذُ بن جبل ومجاهدٌ: كانت التَّقِيَّةُ في أول الإسلام - قبل استحكام الدين، وقوة المسلمين - أما اليوم فلا؛ لأن الله أعَزَّ الإسلامَ، فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم، وروي عن الحسنِ أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامةِ.
قال ابن الخطيبِ: «وهذا القول أوْلَى؛ لأن دَفْعَ الضررِ عن النفس واجبٌ بقدر الإمكان» .
وقال يحيى البِكَالِيّ: قلت لسعيد بن جُبَيرٍ - في أيام الحجاجِ -: إن الحسنَ كان يقول: لكم التقية باللسان، والقلب مطمئن، فقال سعيد بن جبيرٍ: ليس في الإسلام تَقِيَّة، إنما التَّقِيَّة لأهل الحرب.
قوله: {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} ، «نَفْسَهُ» مفعول ثان ل «يُحَذِّرُ» ؛ لأنه في الأصل مُتَعَدِّ لواحد، فازداد بالتضعيف آخر، وقدَّر بعضهم حذفَ مضاف - أي: عقاب نفسه - وصرح بعضهم بعدم الاحتياجِ إليه، كذا نقله أبو البقاء عنهم.
قال الزّجّاج: «أي: ويحذركم الله إياه، ثم استغنَوْا عن ذلك بذا، وصار المستعملَ، قال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] فمعناه: تعلم ما عندي، وما في حقيقتي، ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك» .
قال شهابُ الدينِ: «وليس بشيءٍ؛ إذْ لا بد من تقدير هذا المضافِ، ألا ترى إلى(5/145)
غير ما نحن فيه - في نحو قولك: حذرتك نفسَ زيد - أنه لا بد من شيءٍ تحذر منه - كالعقاب والسطوة؛ لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّرُ الحذرُ منها نفسها، إنما يتصور من أفعالِها وما يَصْدُرُ عنها» .
قال أبو مسلم: «والمعنى {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} أن تعصوه، فتستحقوا عقابه» .
وَعَبَّر - هنا - بالنفس عن الذات؛ جَرْياً على عادةِ العرب، كما قال الأعشى: [الكامل]
1399 - يَوْماً بِأجْوَدَ نَائِلاً مِنْهُ إذَا ... نَفْسُ الْجَبَانِ تَجَهَّمْتَ سُؤَّالَهَا
قال بعضهم: «الهاء في» نَفْسَهُ «تعود على المصدر المفهوم من قوله:» لاَ يَتَّخِذ «، أي: ويحذركم الله نفس الاتخاذ، والنفس: عبارة عن وجود الشيء وذاته» .
قال أبو العباس المُقْرِئُ: ورد لفظ «النفس» في القرآن على أربعة أضربٍ:
الأول: بمعنى العلم بالشيء، والشهادة، كقوله: {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} ، يعني علمه فيكم، وشهادته عليكم.
الثاني: بمعنى البدن، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} [آل عمران: 185] .
الثالث: بمعنى الهَوَى، كقوله: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} [يوسف: 53] يعني الهَوَى.
الرابع: بمعنى الروحِ، قال تعالى: {أخرجوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93] ، أي: أرواحكم.
فصل
المعنى: يخوفكم الله عقوبته على موالاةِ الكُفَّار، وارتكاب المناهي ومخالفة المأمور.
والفائدة في ذكر النفس: أنه لو قال: ويحذركم الله، فهذا لا يُفِيد أن الذي أرِيدَ التحذيرُ منه هو عقاب يصدر من الله - تعالى - أو من غيره، فلما ذَكَر النفسَ زالت هذه الأشياءُ، ومعلوم أن العقابَ الصادرَ عنه، يكون أعظمَ أنواع العقابِ؛ لكونه قادراً على ما لا نهايةَ له، وأنه لا قُدْرَةَ لأحد على دَفْعِهِ وَمَنْعِه مما أراد، ثم قال: {وإلى الله المصير} ، أي: يحذركم اللهُ عقابه عند مصيركم إليه.(5/146)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء - واستثنى عنه التَّقِيَّة في الظاهر - أتبعه(5/146)
بالوعيد على أن يصير الباطنُ موافقاً للظاهر - في وقت التقية -؛ لئلا يجرَّه ذلك الظاهرُ إلى الموالاةِ في الباطن، فبيَّن - تعالى - أن علمه بالظاهر كعِلْمِه بالباطن.
فإن قيل: قوله: {إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} شرط، وقوله: {يَعْلَمْهُ الله} جزاء، ولا شك أن الجزاء مترتِّب على الشرط، متأخِّرٌ عنه، فهذا يقتضي حدوثَ علمِ اللهِ تعالى.
فالجوابُ: أن تعلق علم الله بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن، وهذا التجدُّد إنما يعرض في النِّسَب، والإضافات، والتعلُّقات، لا في حقيقة العلم.
فإن قيل: إن محل البواعثِ والضمائر هو القلب، فلم قال: {إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ} ولم يَقُلْ: {مَا فِي قلُوبِكُمْ} ؟
فالجوابُ: لأن القلبَ في الصدر، فجاز إقامة الصدر مقام القلب، كما قال: {يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] .
فصل
قوله: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ} قلوبكم، من مودة الكفار وموالاتهم {أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} .
وقال الكلبيُّ: إن تُسرُّوا ما في قلوبكم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التكذيب، أو تُظْهِرُوه، لحَرْبِهِ وقتاله يعلْمه الله، ويجازكم عليه.
قوله: «وَيَعْلَمُ» مستأنف، وليس منسوقاً على جواب الشرطِ؛ لأن علمه بما في السموات وما في الأرض غير متوقِّف على شرط، فلذلك جِيء مستأنفاً، وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} من باب ذكر العام بعد الخاص. {مَا فِى صُدُورِكُمْ} ، وقدَّم - هنا - الإخْفَاءَ على الإبداء وجعل محلهما الصدور، بخلاف آية البقرةِ - فإنه قدَّم فيها الإبداء على الإخفاء، وجعل محلهما النفس، وجعل جواب الشرطِ المحاسبة؛ تفنُّناً في البلاغة، وذكر ذلك للتحذير؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف يَخْفَى عليه الضميرُ؟
قوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهو تمام التحذير؛ لأنه إذا كان قادراً على جميع المقدورات كان - لا محالة - قادراً على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون هذا تمام الوعدِ، والوعيد، والترغيب، والترهيب.(5/147)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
أحدها: أنه منصوب ب «قَدِيرٌ» ، أي: قدير في ذلك اليوم العظيم، لا يقال: يلزم(5/147)
من ذلك تقييد قدرته بزمان؛ لأنه إذا قدر في ذلك اليوم الذي يُسْلَب فيه كلُّ أحدٍ قدرته، فلأنْ يقدرَ في غيره بطريق الأولى. وإلى هذا ذهب ابو بكر ابن الأنباري.
الثاني: أنه منصوب ب «يُحَذِّرُكُمْ» ، أي: يخوفكم عقابه في ذلك اليوم، وإلى هذا نحا أبو إسحاق، ورجحه.
ولا يجوز أن ينتصب ب «يُحَذِّرُكُمْ» المتأخرة.
قال ابن الأنباري: لا يجوز أن يكون اليوم منصوباً ب «يُحَذِّرُكُمْ» المذكور في هذه الآية؛ لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها «.
وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبه معترضاً، وهو كلامٌ طويلٌ، والفصل بمثله مستبعد، هذا من جهة الصناعة، وأما من جهة المعنى، فلا يصح؛ لأن التخويف لم يقع في ذلك اليوم؛ لأنه ليس زمانَ تكليف؛ لأن التخويف موجود، واليوم موعود، فكيف يتلاقيان؟
قال: أن يكون منصوباً بالمصير، والتقدير: وإلى الله المصير يومَ تَجِدُ، وإليه نحا الزّجّاجُ - أيضاً - وابن الأنباري ومكيٌّ، وغيرُهم، وهذا ضعيف على قواعد البصريين؛ للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلامٍ طويلٍ.
وقد يقال: إن جُمَل الاعتراضِ لا يُبَالَى بها في الفصل، وهذا من ذاك.
الرابع: أن يكون منصوباً ب» اذكر «مقدراً، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً، وقدر الطبريُّ الناصب له» اتَّقُوا «، وفي التقدير ما فيه من كونه على خلاف الأصلِ، مع الاستغناء عنه.
الخامس: أن العامل فيه ذلك المضاف المقدر قبل» نفسه «، أي: يحذركم اللهُ عقاب نفسه يوم تجد، فالعامل فيه» عقاب «لا» يحذركم «قاله أبو البقاء، وفي قوله:» لا يُحَذِّرُكُمْ «فرار عما أورد على أبي إسحاقَ كما تقدم.
السادس: أنه منصوب ب» تَوَدُّ «.
قال الزمخشريُّ:» يَوْمَ تَجِدُ «منصوب ب» تَوَدُّ «والضمير في» بينه «لليوم، أي: يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها تتمنى لو أن بينها، وبين ذلك اليوم، وهَوْله أمداً بعيداً» .
وهذا ظاهر حسنٌ، ولكن في هذه المسألة خلافٌ ضعيف؛ جمهور البصريين والكوفيين على جوازها، وذهب الأخفشُ الفرّاءُ إلى مَنْعِهَا.
وضابط هذه المسألة أنه إذا كان الفاعلُ ضميراً عائداً إلى شيء مُتَّصِلٍ بمعمولِ الفعلِ نحو: ثَوْبَيْ أخَوْيك يلبسان، فالفاعل هو الألف، وهو ضمير عائد على «أخويك» المتصلين بمفعول «يلبسان» ومثله: غلام هندٍ ضربَتْ، ففاعل «ضربت» ضمير عائد على «هند» المتصلة ب «غلام» المنصوب ب «ضربت» والآية من هذا القبيل؛ فإن فاعل «تَوَدُّ»(5/148)
ضميرٌ عائدٌ على «نَفْس» المتصلة ب «يَوْمَ» لأنها في جملة أضِيفَ الظرفُ إلى تلك الجملةِ، والظرف منصوب ب طتَوَدُّ «، والتقدير: يوم وُجدان كل نفس خيرها وشرها مُحْضَرَيْنِ تَوَدُّ كذا.
احتج الجمهور على الجواز بالسماع.
وهو قول الشاعر: [الخفيف]
1400 - أجَلَ الْمَرْءِ يَسْتَحِثُّ وَلاَ يَدْ ... ري إذَا يَبْتَغِي حًصُولَ الأمَانِي
ففاعل «يستحثَ» ضمير عائد على «المرء» المتصل ب «أجل» المنصوب ب «يستحث» .
واحتج المانعون بأن المعمول فضلة، يجوز الاستغناء عنه، وعَوْد الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزوم ذكره، فيتنافى هذان السببان، ولذلك أجمع على منع زيداً ضرب، وزيداً ظن قائماً، أي: ضرب نفسه، وظنها، وهو دليلٌ واضح للمانع لولا ما يرده من السماع كالبيت المتقدم وفي الفرق عُسْر بين: غلامَ زَيدٍ ضَرَبَ، وبين: زيداً ضَرَبَ، حيث جاز الأول، وامتنع الثاني، بمقتضى العلة المذكورة.
قوله: «تجد» يجوز أن تكون [المتعدية لواحد بمعنى «تصيب» ، ويكون «محضراً» على هذا منصوباً على الحال، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن تكون علمية] ، فتتعدى لاثنين، أولهما «مَا عَمِلَتْ» ، والثاني «مُحْضَراً» وليس بالقويّ في المعنى، و «ما» يجوز فيها وجهان:
أظهرهما: أنها بمعنى «الذي» فالعائد - على هذا - مقدَّر، أي: ما عملته، وقوله: {مِنْ خَيْرٍ} حال، إما من الموصول، وإما من عائده، ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنسِ.
ويجوز أن تكون «ما» مصدرية، ويكون المصدر - حينئذ - واقعاً موقع مفعول، تقديره: يوم تجد كلُّ نفس عملها - أي: معمولها - فلا عائد حينئذ [عند الجمهور] .
قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ} يجوز في «ما» هذه أن تكون منسوقة على «ما» التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها - أي: وتجد الذي عملته، أو وتجد عملها - أي: معمولها - من سوء. فإن جعلنا «تَجِدُ» متعدياً لاثنين، فالثاني محذوف، أي: وتجد الذي عملته من سوء محضراً، أو وتجد عملها مُحْضَراً، نحو علمت زيداً ذاهباً وبكراً - أي: وبكراً ذاهباً - فحذفت مفعوله الثاني؛ للدلالة عليه بذكره مع الأول. وإن جعلناها متعدية لواحد، فالحال من الموصول أيضاً - محذوفة، أي: تجده محضراً - اي: في هذه الحال - وهذا كقولك: أكرمت زيداً ضاحكاً وعمراً - أي: وعمراً ضاحكاً - حذفت حال الثاني؛(5/149)
لدلالة حال الأول عليه -، وعلى هذا فيكون في الجملة من قوله: «تَوَدُّ» وجهان:
أحدهما: أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل «عَمِلَتْ» ، أي: وما عملته حال كونها وَادَّةً، اي: متمنِّيًَ البعد من السوءِ.
والثاني: أن تكون مستأنفةً، أخبر الله تعالى عنها بذلك، وعلى هذا لا تكونُ الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين.
ووضع الكرم، واللطف هذا؛ لأنه نَصَّ في جانب الثوابِ على كونه مُحْضَراً، وأما في جانب العقاب فلم ينصّ على الحضورِ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه، والبعد عنه، وذلك بَيِّنٌ على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيدِ.
ويجوز أن تكون «ما» مرفوعة بالابتداء، والخبر الجملة في قوله: «تَوَدُّ» ، أي: والذي عملته وعملها تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.
والضمير في «بَيْنَهُ» فيه وجهان:
أحدهما - وهو الظاهر - عوده على «مَا عَمِلَتْ» ، وأعاده الزمخشري على «الْيَوْم» .
قال أبو حيّان: «وأبعد الزمخشري في عوده على» اليوم «؛ لأن أحد القسمين اللذين أحْضِروا له في ذلك اليوم هو الخير الذي عمله، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير، إلا بتجوُّز إذا كان يشتمل على الخير والشر، فتود تباعده؛ لتسلم من الشرِّ، ودعه لا يحصل له الخير. والأولى عوده على {وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء} ؛ لأنه أقربُ مذكورٍ؛ ولأن المعنى أن السوء تَتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدَ منه» .
فإن قيل: هل يجوز أن تكون «ما» هذه شرطية؟
فالجواب: أن الزمخشريَّ، وابن عطية مَنَعَا من ذلك، وَجَعَلا علة المنع عدم جزم الفعل الواقع جواباً، وهو «تَوَدُّ» .
قال شهاب الدينِ: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنهم نَصُّوا على أنه إذا وقع فعلُ الشرطِ ماضياً، والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان - الجزم والرفع - وقد سُمِعَا من لسان العرب، ومنه بيت زُهَيْر: [البسيط]
1401 - وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقُولُ: لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرمُ(5/150)
ومن الجزم قوله تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ} [هود: 15] ، وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ} [الشورى: 20] ، وقوله: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] فدل ذلك على أن المانع من شرطيتها ليس هو رَفْعَ تَودُّ» .
وأجاب ابو حيّان بأنها ليست شرطية - لا لما ذكر الزمخشريُّ وابن عطيّة - بل لعلَّةٍ أخرى، قال: كنت سُئِلت عن قول الزمخشريِّ: فذكره ثم قال: ولنذكر هاهنا ما تمس إليه الحاجة بعد أن تقدم ما ينبغي تقديمه، فنقول: إذا كان فعل الشرط ماضياً، وبعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء جاز في ذلك المضارع، الجَزْمُ، وجاز فيه الرفعُ، مثال ذلك: إن قام زيد يَقُمْ - ويقوم عمرو، فأما الجزم فعلى جواب الشرط ولا نعلم في جواز ذلك خلافاً، وأنه فصيح، إلا ما ذكره صاحب كتاب «الإعراب» عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح، وإنما يجيء مع «كان» كقوله تعالى:
{مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} [هود: 15] ، لأنها أصل الأفعال، ولا يجوز ذلك مع غيرها، وظاهر كلام سيبويه، وكلام الجماعة، أنه لا يختص ذلك ب «كان» بل سائر الأفعال في ذلك مثل «كان» .
وأنشد سيبويه للفرزدق: [البسيط]
1402 - دَسَّتْ رَسُولاً بِأنَّ الْقَوْمَ إنْ قَدَرُوا ... عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتَ تَوغِيرِ
وقال أيضاً: [الطويل]
1403 - تَعَالَ فَإنْ عَاهَدتنِي لا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَجِبَانِ
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثيراً.
قال بعض أصحابنا: هو أحسن من الجزم، ومنه بيت زهير السابق. ومثله - أيضاً - قوله: [الطويل]
1404 - وَإنْ شُلَّ رَيْعَانُ الْجَمِيع مَخَافَةً ... نَقُولُ - جِهَاراً - وَيْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا
وقال أبو صخر: [الطويل](5/151)
1405 - وَلاَ بِالَّذِي إنْ بَانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ ... يَقُول - وَيُخْفِي - الصَّبْرَ - إنِّي لَجَازعُ
وقال الآخر: [الطويل]
1406 - وَإنْ بَعُدُوا لا يَأمَنُونَ اقْتِرَابَهُ ... تَشَوُّفَ أهْلِ الْغَائِبِ الْمُتَنَظَّرِ
وقال الآخر: [الطويل]
1407 - فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي ... إلَى قَطَرِيٍّ لا إخَالُكَ رَاضِيا
وقال الآخر: [البسيط]
1408 - إنْ يُسْألُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإنْ خُبِرُوا ... فِي الجَهْدِ أدْرَكَ مِنْهُمْ طيبُ أخْبَارِ
قال شهاب الدين: «هكذا ساق هذا البيتَ في جملة الأبيات الدالة على رفع المضارع، ويدل على ذلك أنه قال - بعد إنشاده هذه الأبيات كلَّها -: فهذا الرفع - كما رأيت - كثير» .
وهذا البيتُ ليس من ذلك؛ لأن المضارع فيه مجزوم - وهو يُعْطُوه - وعلامة جزمهِ سقوط النون فكان ينبغي أن ينشده حين أنشد: دَسَّتْ رَسُولاً، وقوله: «تعال فإن عاهدتني» .
وقال: فهذا الرفع كثير - كما رأيت - ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام - وإن اختلفت تأويلاتُهم كما سنذكره - وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور بن رشيد المالقي - وهو مصنف كتاب رصف المباني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام، وإذا جاء فقياسه الجزم؛ لأنه أصل العمل في المضارع - تقدم الماضي أو تأخَّر - وتأوَّل هذا المسموعَ على إضْمَار الفاء، وجملة مثل قول الشاعر: [الرجز]
1409 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ(5/152)
على مذهب من جعل الفاءَ منه محذوفة.
وأما المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرَّفعِ.
فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم، وأنَّ جوابَ الشرط ليس مذكوراً عِنْدَه، وذهب المبردُ والكوفيون إلى أنه هو الجواب، وإنما حُذِفَ منه الفاءُ، والفاء يُرْفَع ما بعدها، كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] فأعْطِيَتْ - في الإضمار - حكمَها في الإظهار.
وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجوابُ بنفسه - أيضاً - كالقول قبله، إلا أنه ليس معه فاء مقدرة قالوا: لكن لما كان فعلُ الشرط ماضياً، لا يظهر لأداة الشرط فيه عملٌ ظاهِرٌ استضعفوا أداةَ الشرط، فلم يُعْمِلُوها في الجواب؛ لضَعْفِها، فالمضارع المرفوع - عند هذا القائل - جواب بنفسه من غير نية تقديم، ولا على إضمار الفاء، وإنما لم يُجْزَم لما ذُكِر، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان.
وتلخص من هذا الذي قلناه - أن رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً، لكن امتنع أن يكون «وما عملت» شرطاً لعلة أخرى - لا لكون «تَوَدُّ» مرفوعاً، وذلك على ما تقرَّر من مذهب سيبويه أن النية بالمرفوع التقديم، وأنه - إذ ذاك - دليل على الجواب لا نفس الجواب، فنقول: لما كان «تَوَدُّ» مَنوياً به التقديم أدَّى إلَى تقديم المُضْمَ رعلى ظاهرهِ في غير الأبوابِ المستثناة في العربية، ألا ترى أن الضمير في قوله: «وَبَيْنَه» عائد على اسم الشرط - الذي هو «ما» - فيصير التقدير: تَوَدُّ كلُّ نفسٍ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء، فلزم هذا التقدير تقديم المضمر على الظاهر، وذلك لا يجوز.
فإن قلت: لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت نيتُه التقديمَ فقد حصل عَوْدُ الضمير على الاسم الظاهر قَبْلَه، وذلك نظير: ضرب زيداً غلامُه، فالفاعل رُتْبته التقديمُ، ووجب تأخيره لصحة عود الضمير؟
فالجواب: أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه؛ لعود الضمير، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء - لا دليله - ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل؟ بل إنها تعمل في جملة الجزاء، وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب، وإذا كان كذلك تدافَع الأمر؛ لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل شرط، ومن حيث عَوْد الضمير على اسم(5/153)
الشرط اقتضاها، فتدافَعَا، وهذا بخلاف: ضرب زيد أخاه؛ فإنها جملة واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً، فكل واحد منهما يقتضي صاحبه، ومن ذلك جاز - عند بعضهم - ضرب غلامُها هنداً، لاشتراك الفاعل - المضاف إلى الضمير - والمفعول الذي عاد عليه الضمير - في العامل، وامتنع ضرب غلامُها جازَ عنده؛ لعدم الاشتراك في العامل، ففرق ما بين المسألتين، ولا يُحْفَظ من لسان العربِ: أوَدُّ لو أني أكْرمه أبا ضربتُ هِندٍ؛ لأنه يلزم منه تقديم المُضْمَر على مفسِّره - في غير المواضع التي ذكرها النحويون - فلذلك لا يجوز تأخيره «انتهى.
وقد جوَّز ابو البقاء كونَها شرطية، ولم يلتفت لما مَنَعُوا به ذلك، فقال:» والثاني - أنها شرط وارتفع «تَوَدُّ» على إرادة الفاء، أي: فهو تود «.
ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حذف؛ لأن الشرط - هنا - ماضٍ، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الوجهان: الجزم والرفع.
[وقد تقدم تحقيق القول في ذلك، فالظاهر موافقته للقول الثالث من تخريج الرفع في المضارع كما تقدم تحقيقه وقرأ ... ] عبد الله وابن أبي عبلة: «ودت» - بلفظ الماضي - وعلى هذه القراءة يجوز في «ما» وجهان:
أحدهما: أن تكون شرطية، وفي محلها - حينئذ - احتمالان.
الأول: النصب بالفعل بعدها، والتقدير: أيَّ شيء عملت من سوء ودت، ف «وَدَّتْ» جواب الشرط.
الثاني: الرفع على الابتداء، والعائد على المبتدأ محذوف، تقديره: وما عملته، وهذا جائز في اسم الشرط خاصة عند افرّاء في فصيح الكلام، أعني حذف عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعل نحو: «أيُّهُمْ ضرب أكرمه» - برفع «أيُّهم» وإذا كان المبتدأ غير ذلك ضَعُفَ نحو: زيدٌ ضربت، [وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في قراءة من قرأ: «أفحكمُ الجاهلية يبغون» ، وفي قوله: «وكل وعد الله الحسنى» في الحديد] .
الوجه الثاني من وجهي «ما» : أن تكون موصولة، بمعنى: الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً، ومحلها - على هذا - رفع بالابتداءِ، و «وَدَّتْ» الخبر، وهو اختيار الزمخشريِّ؛ لأنه قال: «لكن الحمل على الابتداء والخبر أوْقَعُ في المعنى: لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم، وأثبت؛ لموافقة قراءة العامة» انتهى.(5/154)
فإن قيل: لِمَ لَمْ يمتنع أن تكون «ما» شرطية على هذه القراءة، كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة؟
فالجواب: أن العلة إن كانت رفعَ الفعل، وعدم جَزْمه - كما قال به الزمخشريّ وابن عطية - فهي مفقودة في هذه القراءة؛ لأن الماضيَ مبني اللفظ، لا يظهر فيه لأداة الشرط عملٌ وإن كانت العلة أن النية به التقديم، فيلزم عَوْدُ الضميرِ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبةًن فهي أيضاً مفقودة فيها؛ إذ لا دَاعِيَ يدعو إلى ذلك.
قوله - هنا - على بابها، من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوعِ غيره، وعلى هذا ففي الكلام حذفان:
أحدهما: حذف مفعول «تَوَدُّ» .
والثاني: حذف جواب «لَوْ» ، والتقدير فيها: تود تباعُدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّت بذلك، أو لفرحت ونحوه. والخلاف في «لو» بعد فعل الودادة وما بمعناه أنها تكون مصدرية كما تقدم تحريره في البقرة، يبعد مجيئه هنا؛ لأن بعدها حرفاً مصدرياً وهو «أن» .
قال أبو حيان: ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] ، قال شهاب الدين: إلا قليلاً يشعر بجوازه، وهو لا يجوز ألبتة، وأما الآية التي أوردها فقد مضى النحاة على أن ما زائدة.
وقد تقدم الكلام في «أنَّ» الواقعة بعد «لَوْ» هذه، هل محلها الرفع على الابتداء، والخبر محذوفٌ - كما ذهب إليه سيبويه - أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدَّر، أي: لو ثبت أن بينها وما قال الناس في ذلك وقد زعم بعضهم أن «لو» - هنا - مصدرية، هي وما في حيزها من معنى المفعول لِ «تَوَدُّ» ، أي تود تباعد ما بينها وبينه، وفي ذلك إشكال، وهو دخول حرف مصدري على مثله، لكن المعنى على تسلط الوداد على «لو» وما في حيِّزها لولا المانع الصناعي. والأمد: غاية الشيء ومنتهاه، وجمعه آماد - نجو أجل وآجال - فأبدِلَت الهمزةُ ألِفاً، لوقوعها ساكنةً بعد همزةِ «أفعال» .
قال الراغب: «الأمَد والأبد متقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمانِ التي ليس لها حَدٌّ محدود، وَلا يتقيد فلا يقال: أبَدَ كذا والأمد مدة لها حَدٌّ مجهول إذا أطلق، وقد ينحصر إذا قيل: أمَد كذا، كما يقال: زمان كذا، والفرق بين الأمد والزمان، أن الأمد يقال لاعتبار الغايةِ، والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم: المدى والأمد يتقاربان» .
فصل
المعنى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} يعني: لو أن بين النفس وبين السوء أمداً بعيداً.(5/155)
قال السُّدِّيُّ: مكاناً بعيداً.
وقال مقاتلٌ: كما بين المَشرق والمَغْرِب؛ لقوله تعالى: {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} [الزخرف: 38] .
قال الحسنُ: يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً.
اعلم أن المقصود تَمَني بُعْدِه، سواء حملنا لفظ الأمَد على الزمان، أو على المكان.
ثم قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} وهو تأكيد للوعيد، ثم قال: {والله رَؤُوفُ بالعباد} وفيه وجوه:
الأول: أنه رؤوفٌ بهم، حَيْثُ حذَّرهم من نفسه، وعرفهم كمالَ علمِه وقدرتهِ، وأنه يُمْهِل ولا يُهْمِل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذَّرهم من استحقاق غضبه.
قال الحسنُ: «ومن رأفته بهم أن حذَّرَهُم نفسه» .
الثاني: أنه رؤوف بالعباد، حيث أمْهَلَهُمْ للتوبة والتدارك والتَّلاَفِي.
الثالث: أنه لما قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} - وهو للوعيد - أتبعه بالوعد، وهو قوله: {والله رَؤُوفُ بالعباد} ، ليعلم العبد أن وَعْدَ رحمته غالب على وعيده.
الرابع: أن لفظ «العباد» في القرآن مختص بالمؤمنين، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] ، وقال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] ، فعلى هذا لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة، فقال: {والله رَؤُوفُ بالعباد} ، أي: كما هو منتقم من الكفار والفساق فهو رؤوف بالعباد المطيعين.(5/156)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
قرأ العامة «تُحِبُّونَ» - بضم حرف المضارعة، من «أحَبَّ» وكذلك {يُحْبِبْكُمُ الله} .
وقرأ ابو رجاء العُطَارِديّ «تَحِبُّون، يَحْبِبْكم» بفتح حرف المضارعة - من حَبَّ - وهما لغتان، يقال حَبَّه يَحُبُّه - بضم الحاء وكسرها في المضارع - وأحَبَّهُ يُحبُّهُ.
وحكى أبو زيد: حَبَبْتُهُ، أحِبُّه.
وأنشد:
1410 - فَوَاللهِ لَوْلاَ ثُمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ ... وَلاَ كَانَ أدْنَى مِنْ عُوَيفٍ وَمُشرِقِ(5/156)
ونقل الزمخشريُّ: قراءة يحبكم - بفتح الياء والإدغام - وهو ظاهر، لأنه متى سكن المثلين جَزْماً، أو وقْفاً جاز فيه لغتان: الفك والإدغام. وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله في المائدة.
والحُبّ: الخَابِيَة - فارسيّ مُعَرَّب - والجمع: حِباب وحِبَبَة، حكاه الجوهريُّ.
وقرأ الجمهور «فَاتَّبِعُونِي» بتخفيف النون، وهي للوقاية.
وقرأ الزُّهري بتشديدها، وخُرِّجَتُ على أنه ألحق الفعل نون التأكيد، وأدغمها في نون الوقاية وكان ينبغي له أن يحذف واوَ الضمير؛ لالتقاء الساكنين، إلا أنه شبَّه ذلك بقوله: {أتحاجواني} وهو توجيه ضعيف ولكن هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ.
وطعن الزجاجُ على من روى عن أبي عمرو إدغام الراء من «يغفر» في لام «لكم» .
وقال: هو خطأ وغلط على أبي عمرو. وقد تقدم تحقيقه، وأنه لا خطأ ولا غلط، بل هو لغة للعرب، نقلها الناس، وإن كان البصريون لا يُجِيزون ذلك كما يقول الزجاج.
فصل
اعلم أنه - تعالى - لما دعاهم إلى الإيمان به وبرسولِه على سبيل التهديدِ والوعيد دعاهم إلى ذلك بطريق آخرَ، وهو أن اليهود كانوا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] فنزلت هذه الآية.
وروي الضحاك - عن ابن عباس - أن النبي وقف على قريش - وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها السيوف.
- فقال: يا معشر قريش، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم، فقالت قريش: إنما نعبدها حباً لله: {لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] ، فقال الله - تعالى -: «قل» يا محمد {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} فتعبدون الأصنام لتقربكم إليه {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} فأنا رسولُه إليكم، وحجتُه عليكم أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله.
وقال القرطبي: «نزلت في وفد نجرانَ؛ إذْ زعموا أنّ ما ادَّعَوْه في عيسى حُبٌّ لله عَزَّ وَجَلَّ» .
وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنحب رَبَّنا، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني} [آل عمران: 31] .(5/157)
قال ابن عرفة: المحبة - عند العرب - إرادة الشيء على قَصْدٍ له.
وقال الأزهري: محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما، واتباعه أمرهما، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني} [آل عمران: 31] [ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران، قال الله تعالى: {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران: 32] ، أي: لا يغفر لهم] .
قال سهل بن عبد الله: علامة حُبُّ الله حُبَّ القرآن، وعلامة حب القرآن حبُّ النبي، وعلامة حب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حب السنة، وعلامة حب السنة، حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة، أن لا يحب نفسه، وعلامة أن لا يحب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا الزاد والبُلْغَة.
قوله: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} الآية قيل: إنه لما نزلت هذه الآية، قال عبد الله بن أبي لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارَى عيسى - عليه السلام - فنزل قوله: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ} أعرَضوا عنها {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} لا يَرْضَى فعلَهم ولا يغفر لهم.
والمعنى: إنما أوجب الله عليكم طاعتي، ومتابعتي - لا كما تقول النصارى في عيسى، [بل لكوني رسولاً من عند الله] .
قوله: {فإِن تَوَلَّوْاْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مضارعاً، والأصل «تَتَوَلُّوْا» فحذف إحدى التاءين كما تقدم، وعلى هذا، فالكلام جارٍ على نسق واحدٍ، وهو الخطاب.
والثاني: أن يكون فعلاً ماضياص مسنداً لضمير غيب، فيجوز أن يكون من باب الالتفاتِ، ويكون المراد بالغُيَّبِ المخاطبين في المعنى، ونظيره قوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] .
فصل
روي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «كُلُّ أمتي يدخلونَ الجنة إلا مَنْ أبَى»(5/158)
قالوا: ومن يَأبَى؟ قال: «مَنْ أطَاعَني دَخَلَ الْجَنَّةَ، ومَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» .
قال جابر بن عبد الله: «جاء الملائكة إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو نائم - فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مَثَلاً، فاضربوا له مَثَلاً، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبَةً، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دَخل الدارَ، وأكل من المأدبةِ، ومن لم يجب الداعيَ لم يدخل الدارَ، ولم يأكُلْ من المأدُبَةِ، فقالوا: أوِّلُوها له بفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العينَ نائمة والقلب يقظانُ، قالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عَصَى محمداً فقد عصى الله، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَرَقَ بين الناس» .
روى الترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «من أراد أن يحبه اللهُ عليه بصدقِ الحديثِ، وأداء الأمانة وأن لا يؤذِي جاره» وروى مسلم - عن أبي هريرة - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
«إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً دعا جبريلَ فقال: إنِّي أحِبُّ فلاناً، فأحبه، قال: فيحبه جبريلُ، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يُحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهلُ السّماءِ، قال: ثم يُوضَع له القبولُ في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريلَ فيقول: إني أبْغِضُ فلاناً فأبْغِضْهُ، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبْغِضُوه، قال فيبغضونه، ثم تُوضَع له البَغْضَاءُ في الأرض» .
وقال: {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} ولم يَقُلْ: فإنه لا يحب؛ لأن العرب إذا عظَّمت الشيءَ أعادت ذِكْرهَ، أنشد سيبويه [قول الشاعر] : [الخفيف]
1411 - لا أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرا
ويحتمل أن يكون لأجل أنه تقدم ذِكْرُ الله والرسول، فذكره للتمييز؛ لَئِلاّ يعودَ الضمير على الأقْرَبِ.(5/159)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
لما بين - تعالى - أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسول بين علو درجات الرُّسُل(5/159)
فقال: «إنَّ اللهَ اصطفى آدم ونوحاً» «نوح» اسم أعجمي، لا اشتقاق له عند محققي النحويين، وزعم بعضهم أنه مشتق من النُّواح. وهذا كما تقدم لهم في آدم وإسحاق ويعقوب، وهو منصرف وإن كان فيه عِلَّتان فَرعيَّتان: العلمية والعجمة الشخصية - لخفّة بنائه؛ لكونه ثلاثياً ساكن الوسط، وقد جوَّز بعضهم منعَه؛ قياساً على «هند» وبابها لا سماعاً؛ إذْ لم يُسمَع إلا مصروفاً وادعى الفرّاء أن في الكلام حذفَ مضاف، تقديره: إن الله اصطَفى دينَ آدمَ.
قال التبريزي: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه لو كان الأمر على ذلك لقيل: ونوحٍ - بالجر - إذ الأصل دين آدم ودين نوح» .
وهذه سقطة من التبريزيُّ؛ إذْ لا يلزم أنه إذا حُذِفَ المضاف، بقي المضاف إليه [على جره]- حتى يرد على الفراء بذلك، بل المشهور - الذي لا يعرف الفصحاء غيره - إعراب المضاف إليه بإعراب المضاف حين حذفه، ولا يجوز بقاؤه على جرِّه إلا في قليل من الكلام، بشَرْطٍ مذكورٍ في النحو يأتي في الأنفال إن شاء الله تعالى.
وكان ينبغي - على رأي التبريزيّ: أن يكون قوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] بجر «القرية» ؛ لأن الكُلَّ هو وغيره - يقولون: هذا على حَذْف مضاف، تقديره: أهل القرية.
قال القرطبيُّ: «وهو - نوح - شيخُ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض - بعد آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بتحريم البنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وسائر القرابات المحرمة، ومن قال - من المؤرخين - إن إدريس كان قبلَه فقد وهم» على ما يأتي بيانه في الأعراف - إن شاء الله تعالى.
وعمران اسم أعجميٌّ.
وقيل: عربيّ، مشتق من العَمْر، وعلى كلا القولين فهو ممنوع من الصرف؛ للعلمية، والعُجْمة الشخصية، وإما للعلمية، وزيادة الألِف والنون.
قوله: {عَلَى العالمين} متعلق ب «اصْطَفَى» .
قوله: «اصْطَفَى» يتعدى ب «مِنْ» نحو اصطفيتك مِن الناس.
فالجواب: أنه ضُمِّنَ معنى «فَضَّل» ، أي: فضَّلَهُم بالاصطفاء.
فصل
اعلم أن المخلوقات على قسمين: مكلَّف، وغير مكلَّف، واتفقوا على أن المكلَّف أفضل. وأصناف المكلفين أربعة: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين.(5/160)
أما الملائكة فقد روي أنهم خُلِقوا من الريح، ولهذا قدروا على الطيران، وعلى حمل العرش، وسُمُّوا روحانيين
وروي أنهم خُلِقوا من النور، ولهذا صَفَتْ وأخلصت لله - تعالى - ويُمْكن الجمع بين الروايتين بأن نقول: أبدانهم من الريح، وأرواحهم من النور وهؤلاء سكان عالم السموات.
أما الشياطين فهم كفرة، أما إبليس فكُفْره ظاهر؛ لقوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34] . وأما سائر الشياطين فكفرة؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] .
ومن خواص الشياطين أنهم أعداء للبشر، قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112] .
وهم مخلوقون من النار؛ لقوله تعالى - حكاية عن إبليس -: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} [الأعراف: 12] .
وأما الجن فمنهم كافر، ومنهم مؤمن، قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} [الجن: 14] .
وأما الإنس فوالدهم الأول آدم؛ لقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] وقوله: {الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] .
واتفق العقلاءُ على أن البشر أفضل من الجنِّ والشياطين، واختلفوا هل البشر أفضل أم الْمَلَك؟ كما قدمناه في البقرة، واستدل القائلون بأن البشر أفضل بهذه الآية؛ لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة، وعُلُوِّ الدرجة، فكما بيّن - تعالى - أنه اصطفى آدم وأولادَه من الأنبياء على كل العالمين، وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة؛ لأنهم من العالمين.
فإن قيل: إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض؛ لأن الجمع الكثير إذا وُصفُوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين، يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محالٌ، ولو حملناه على كونه أفضل المعنى، دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى - في صفة بني إسرائيل - {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] ولا يلزم كونهم أفضل من محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل قلنا: المراد به عالمو زمان كل واحد منهم، فكذا هنا.(5/161)
فالجواب أن ظاهر قوله: اصْطَفَى آدم على العالمين، يتناول كل مَنْ يَصِحُّ إطلاق لفظ «العالم» عليه فيندرج فيه الملك، غاية ما في الباب أنه تُرِكَ العملُ بعمومه - في بعض الصور - لدليل قام عليه فلا يجوز أن يتركه في سائر الصور من غير دليل.
فصل
الاصطفاء - في اللغة - الاختيار فمعنى اصْطَفاهُم: أي: جعلهم صفوةَ خلقه تمثيلاً بما يُشَاهَد من الشيء الذي يُصَفَّى من الكدورة، ويقال: صفَّاهم صَفْوَةً، وصِفْوَةً، وصُفْوَةً.
ونظير هذه الآية قوله - لموسى -: {إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس} [الأعراف: 144] .
وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} [ص: 47] وفي الآية قولان:
أحدهما: المعنى أ، الله اصطفى دين آدمَ ودين نوح - على حذف مضاف - كما تقدم.
الثاني: أن الله اصطفاهم؛ أي: صفَّاهم من الصفاتِ الذميمة، وزينهم بالصفات الحميدة، وهذا أولى لعدم الاحتياج إلى الإضمار، ولموافقة قوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] .
فصل
قيل: اختار الله آدم بخمسة أشياءٍ:
أولها: أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته.
الثاني: أنه علَّمه الأسماء كلَّها.
الثالث: أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له.
الرابع: أنه أسكنه الجنة.
الخامس: أنه جعله أبا البشر.
واختار نوحاً بخمسة أشياءٍ:
أولها: أنه جعله أبا البشر - بعد آدم -؛ لأن الناس كلَّهم غرقوا، وصار ذريته هم الباقين.
الثاني: أنه أطال عمره، ويقال: «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» .
الثالث: أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين.
الرابع: أنه حمله على السفينة.
الخامس: أنه كان أول من نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يُحَرَّم تزويج الخالات والعمات.(5/162)
واختار إبراهيم بخمسة أشياءٍ:
أولها: أنه خرج منها جراً إلى ربه ليَهْدِيه.
الثاني: أنه اتخذه خليلاً.
الثالث: أنه أنجاه من النار.
الرابع: أنه جعله للناس إماماً.
الخامس: أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن.
وأما آل عمران فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنهم اختارهما على العالمين؛ حيث أنزل على قومهما المن والسلْوى، وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم وإن كان عمران أبا مريم فإنه اصطفى مريم بولادة عيسى من غير أب، ولك لم يكن لأحد من العالمين والله أعلم.
فصل
ذكر الحليمي في كتابه - المنهاج للأنبياء - قال: لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القُوَى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مُدْرِكة، وإمَّا محرِّكة؛ أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة:
أحدها: القوة الباصرة، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مخصوصاً بكمال هذه الصفة، لقوله: «زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها» وقوله: «أقيموا صفوفكم وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري» ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم - عليه السلام - قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75] وذكر في تفسيرها أنه - تعالى قَوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل.
قال الحليمي: وهذا غير مُسْتبعَد؛ لأن البُصراء يتفاوتون، فيُرْوَى أن زرقاء اليمامةِ كانت تُبْصِر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بَصَرُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أقْوَى من بصرها.(5/163)
وثانيها: القوة السامعة، فكان - عليه السلام - أقوى الناسِ في هذه القوة؛ لقوله: «أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى» .
وسمع أطيط السماء وسمع دوياً فذكر أنه هويّ صخرة قذفت في جهنم، فلم تبلغ مقرها إلى الآن.
قال الحليمي: ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا؛ فإنهم زعموا أن فيثاغورث راضَ نفسه حتى سمع حفيف الفلك. ونظير هذه القوة لسليمان - عليه السلام - في قصة النملة حيث قالت: {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ}
[النمل: 18] فالله - تعالى - أسمع سليمان كلامَ النملة، وأوقفه على معناه وحصل ذلك لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين تكلم مع الذئب والبعير والضَّبِّ.
وثالثها: تقوية قوة الشَّمِّ، كما في حق يعقوب - حين قال: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] فأحسّ بها من مسيرة ثلاثة أيامٍ.
ورابعها: تقوية قوة الذوقِ، كما في حق نبيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «إن هذا الذراع يخبرني بأنه مسموم» .
خامسها: تقوية قوة اللمس، كما في حق الخليل - عليه السلام - حيث جُعِلَتْ له النارُ بَرْداً وسلاماً وكيف يستبعد هذا ويُشَاهَد مثلُه في السَّمَنْدَل، والنعامة.
وأما الحواس الباطنة فمنها: قوة الحفظ، قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] ، ومنها: قوة الذكاء: قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألف باب من العلم، واستنبط من كلّ باب ألف باب. فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
أما القوى المحرِّكة، فمثل عروج الرسول إلى المعراج، وعروج عيسى حيًّا إلى السماء، ورَفْع إدريس وإلياس - على ما وردت به الأخبار - قال تعالى: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] .
وأما القوة الروحانية العقلية، فلا بد أن تكون في غاية الكمال، ونهاية الصفاء، إذا(5/164)
عرفت هذا فقوله: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً} معناه أن الله اصطفى آدم، إمَّا من سكان العالم السفلي - على قول من يقول: الملك أفضل من البشر - أو من سكان العالم العلويّ والسفليّ - على قول من يقول: البشر أفضل المخلوقات - ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة، من أولاد آدم، وهم شيث وأولاده، إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم حصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو، فوضع النبوة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو، واستمرَّ ذلك غلى زمان نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما ظهر محمد نُقِل نور النبوة، ونور الملك إليه، وبقيا - أعني الدين والملك لا تباعد بينهما إلى قيام الساعة.
فصل
من الناس من قال: المرادُ بآل إبراهيم: المؤمنون، لقوله تعالى: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] والصحيح أن المراد بهم الأولاد: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من آل إبراهيم.
وقيل: المراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم وعمران نفسهما؛ لقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] ، وقوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لَقَد أعُطيَ مِزْمَاراً مِنْ مَزِامِيرِ آله دَاوُد» .
وقال الشاعر: [الطويل]
1412 - وَلاَ تَنْسَ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أجَنَّهُ ... عَلِيٌّ وعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ
وقال الآخر: [الوافر]
1413 - يُلاَقِي مِنْ تَذَكر آل لَيْلَى ... كَمَا يَلْقَى السَّليمُ مِنَ العِدَادِ
وقيل: المراد من آل عمران عيسى - عليه السلام - لأن أمه ابنة عمران.
وأما عمران فقيل: والد موسى، وهارون، وأتباعهما من الأنبياء.
وقال الحسن ووهب: المراد عمران بن ماثان، أبو مريم، وقيل اسمه عمران بن أشهم بن أمون، من ولد سليمان وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام - قالوا: وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بأنه والد مريم بذكر قصة مريم عقيبه.(5/165)
قوله: {ذُرِّيَّةَ} في نَصْبها وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة على البدل مما قبلها، وفي المُبْدَل منه - على هذا - ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من «آدَمَ» وما عُطِفَ عليه وهذا إنَّمَا يتأتَّى على قول من يُطْلِق «الذُّرِّيَّة» على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذَهَب جماعةٌ.
قال الجرجاني: «الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء. وجاز ذلك؛ لأنه من ذرأ الخلق، فالأب ذُرِئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب» .
قال الراغبُ: «الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل، لقوله تعالى: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 40] أي: آباءهم، ويقال للنساء: الذراريّ» . فعلى هذين القولين صَحَّ جَعْل «ذُرِّيَّةٌ» بدَلاً من «آدم» بما عطف عليه.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون بدلاً من» آدم «؛ لأنه ليس بذريته» ، وهذا ظاهر إن أراد آدَمَ وحده دون مَنْ عُطِف عليه، وإن أراد «آدم» ومَنْ ذُكِرَ معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذُّرِّيَّة على الآباء.
الثاني - من وجهي البدل - أنها بدل من «نُوح» ومَنْ عطف عليه، وإليه نحا أبو البقاء.
الثالث: أنها بدل من الآلين - أعني آل إبراهيمَ وآل عمرانَ - وإليه نحا الزمخشريُّ. يريد أن الأولين ذرية واحدة.
الوجه الثاني - من وجهي نصب «ذُرِّيَّةً» - النصب على الحال، تقديره: اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض، فالعامل فيها اصطفى. وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة.
قوله: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} هذه الجملة في موضع نصب، نعتاً لِ «ذُرِّيَّةً» .
فصل
قيل: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} أي: بعضها من وَلَد بعض.
وقال الحسن وقتادة: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} في الضلالة.
وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة.
وقيل: بعضها من بعض في التناصُر.
وقيل: بعضها على دين بعض - أي: في التوحيد، والإخلاص، والطاعة كقوله(5/166)
{المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} [التوبة: 67] ، أي: بسبب اشتراكهم في النفاق.
قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال القفَّال: والله سميع لأقوال العباد، عليم بضمائرهم، وأفعالهم، يصطفي من يعلم استقامته قولاً وفعلاً، ونظيره قوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] .
وقيل: إن اليهود كانوا يقولون: نحن من ولد إبراهيم، وآل عمران، فنحن أبناء الله، والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله، وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلامَ باطل، إلا أنه بقي مصراً عليه، ليُطَيِّب قلوبَ العوامِّ، فكأنه - تعالى - يقول: والله {سَمِيعٌ} لهذه الأقوالِ الباطلةِ منكم، «عليم» بأغراضكم الفاسدةِ من هذه الأقولال، فيجازيكم عليها، فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياءِ والرسل وتهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم.(5/167)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
في الناصب لِ «إذْ» أوجه:
أحدها: أنه «اذكر» مقدَّراً، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً، أي: اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت وإليه ذهب ابو الحسن وأبو العباس.
الثاني: أن الناصب له معنى الاصطفاء، أي: «اصْطَفَى» مقدَّراً مدلولاً عليه ب «اصْطَفَى» الأوَّل والتقدير: واصطفى آل عمران - إذ قالت امرأة عمران. وعلى هذا يكون قوله: {وَآلَ عِمْرَانَ} [آل عمران: 33] من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات؛ إذ لو جُعِل من عطف المفردات لزم أن يكون وقتُ اصطفاءِ آدمَ وقول امرأةِ عمران كيت وكيت، وليس كذلك؛ لتغاير الزمانَيْن، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظِ به، وإلى هذا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وغيره.
الثالث: أنه منصوب ب «سميع» وبه صرح ابن جرير الطبري، وإليه نحا الزمخشري؛ فإنه قال: سميع عليم لقول امرأة عمران ونِيَّتها، و «إذْ» منصوب به.
قال أبو حيّان: ولا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لأن قوله: {عَلِيمٌ} إمّا أن يكون خبراً بعد خبر، أو وصفاً لقوله: «سميع» فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول؛ لأنه أجنبيٌّ عنهما، وإن كان وَصْفاً فلا يجوز أن يَعْمَل {سَمِيعٌ} في الظرف؛ لأنه قَدْ وُصِفَ،(5/167)
واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وُصِفَ قَبْلَ معموله لا يجوز له - إذ ذاك - أن يعمل، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك؛ لأن اتصافه تعالى ب {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لا يتقيد بذلك الوقت.
قال شهابُ الدين: «وهذا القدر غيرُ مانع؛ لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيره، ولذلك تقدم على ما في خبر» أل «الموصولة وما في خبر» أن «المصدرية» .
وأما كونه - تعالى - سميعاً عليماً لا يتقيد بذلك الوقت، فإن سَمْعَه لذلك الكلام مقيَّد بوجود ذلك الكلام، وعلمه - تعالى - بأنها تذكر مقيَّد بذكرها لذلك، والتغيُّر في السمع والعلم، إنما هو في النسبِ والتعلُّقات.
الرابع: أن تكون «إذْ» زائدةً، وهو قول أبي عُبَيْدَةَ، والتقدير: قالت امرأة عمرانَ، وهذا غلط من النحويين، قال الزّجّاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً؛ لأن إلغاء حرفٍ من كتاب الله تعالى - من غير ضرورةٍ لا يجوز، وكان أبو عبيدة يُضَعَّفُ في النحو.
الخامس: قال الأخفش والمُبَرِّد: التقدير: «ألم تر إذْ قالت امرأة عمران، ومثله في كتاب الله كثير» .
فصل
امرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا أم مريم، وهي حنة - بالحاء المهملة والنون - وجدة عيسى - عليه السلام - وليس باسم عربي.
قال القرطبيُّ: «ولا يُعْرَف في العربية» حنة «: اسم امرأة - وفي العرب أبو حنة البدريّ، ويقال فيه أبو حبة - بالباء الموحَّدة - وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشام، ودير آخر أيضاً يقال له كذلك.
قال أبو نواس:
1414 - يَا ديرَ حَنَّةَ مِنْ ذَاتِ الأكَيْرَاحِ ... مَنْ يَصْحُ عَنْكِ فَإنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِي
وفي العرب كثير، منهم أبو حبة الأنصاريّ وأبو السنابل بن بعْكك - المذكور في حديث سبيعة الأسلمية، ولا يعرف» خَنَّة «- بالخاء المعجمة - إلا بنت يحيى بن أكثم، وهي أم محمد بن نصر، ولا يُعْرَف» جَنَّة «- بالجيم - إلاَّ أبو جنة وهو خال ذي الرمة الشاعر، نقل هذا كله ابنُ ماكولا» .
وعمران بن ماثان، وليس بعمران أبي موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
وقيل: عمران بن أشهم، وكان زكريا قد تزوَّج إيشاع بنت فاقوذ، وهي أخت حنة(5/168)
أم مريم، فكان يحيى بن زكريا ومريم عليهما السلام ولدي خالة، وفي كيفية هذا النذر روايات.
قال عكرمةُ: إنها كانت عاقراً لا تلد، وتغبط النساء بالأولاد، فقالت: اللهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً ن أتصدَّقَ به على بيتك المقدَّس، فيكونَ من سَدَنَتِهِ.
الثانية: قال محمد بن إسحاق: إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد، فلما شاخت جلست يوماً في ظل شجرة فرأت ظائراً يُطْعِم فِراخًاً له فتحركت نفسها للولد، فدعت رَبَّها أن يَهَبَ لها وَلَداً، فحملت مريم وهلك عمران - فلما عرفت جعلته لله محرراً - أي: خادماً للمسجد.
قال الحسن البصري: إنما فعلت ذلك بإلهام من الله - تعالى - ولولاه لما فعلت، كما رأى إبراهيم - عليه السلام - ذبحَ ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر الله تعالى - وإن لم يكن عن وحي، وكما ألهم الله أمَّ موسى بقَذْفه في اليم وليس بوحي، فلما حررت ما في بطنها - ولم تعلم ما هو، قال لها زوجها: ويحكِ: ما صنعتِ؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثَى لا يصح لذلك؟ فوقعوا جميعاً في هَمٍّ من ذلك، فهلك عمران وحنة حامل بمريم {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} .
قوله: «مُحَرَّراً» في نَصبه أوجه:
أحدها: أنها حال من الموصول - وهو {مَا فِي بَطْنِي} - فالعامل فيها «نذرت» .
الثاني: أنه حال من الضمير المرفوع بالجار؛ لوقوعه صلة «ما» وهو قريب من الأول، فالعامل الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور.
الثالث: أن ينتصب على المصدر؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعول من الفعل الزَّائد على ثلاثة أحرف، وعلى هذا، فيجوز أن يكون في الكلام حذفُ مضاف، تقديره: نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير، ويجوز أن يكون «ما» انتصب على المعنى؛ لأن معنى {نَذَرْتُ لَكَ} : حرَّرتُ لك ما في بطني تحريراً، ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله:
{وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] وقوله: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج: 18]- في قراءة من فتح الراء - أي: كلَّ تمزيق، فما له من إكرام.
ومثله قول: [الوافر](5/169)
1415 - ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي ... فَلاَ عِيًّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَا
أي تسريحي القوافي.
الرابع: أن يكون نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ، تقديره: غلاماً مُحَرَّراً، قاله مكيُّ بن أبي طالب - وجعل ابنُ عطية، في هذا القول نظراً.
قال شهاب الدين: «وجه النظر فيه أن» نذر «قد أخذ مفعوله - وهو قوله: {مَا فِي بَطْنِي} فلم يتعد إلى مفعول آخرَ، وهو نظر صحيح» .
وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالاً مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العِتْق ومقدرة معنى خدمة الكنيسة - كما جاء في التفسير، ووقف أبو عمرو والكسائي على «امرأة» بالهاء - دون التاء - وقد كتبوا «امرأة» بالتاء وقياسها الهاء هاهنا وفي يوسف «امرأة العزيز» موضعين - وامرأة نوح، وامرأة لوط، وامرأة فرعون، وأهل المدينة يقفون بالتاء؛ إتباعاً لرسم المصحف، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة: حمزت.
وأنشدوا:
1416 - وَاللهُ نَجَّاكَ بِكَفَّيْ مَسْلَمَتْ ... مِنْ بَعْدِمَا وَبعْدِمَا وَبَعْدِمَتْ
فصل
والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه وهذا النوع من النَّذْر كان في بني إسرائيل، ولم يوجَد في شرعنا.
قال ابن العربي: «لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حَمْلِها نذرٌ؛ لكونها حُرَّةٌ، فلو كانت امرأته أَمَة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده. وكيفما تصرفت حاله فإنه إن كان الناذرُ عبداً فلم يتقرر وله في ذلك، وإن كان حُرًّا، فلا يصح أن يكون، مملوكاً له، وكذلك المرأة مثله، فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريدُ ولَده للأنس به والتسلّي، والاستنصارِ، فطلبت هذه المرأة أنساً به، وسُكوناً إليه، فلمَّا مَنَّ الله - تعالى - عليها به نذرَتْ أن حظها من الأنس متروك فيه، وهو على خدمة الله - تعالى - موقوفٌ، وهذا نَذْر الأحرار من الأبرار،(5/170)
وأرادت به مُحَرَّراً من جهتي رق الدنيا وأشغالها.
قوله: {مَا فِي بَطْنِي} أتى ب» ما «التي لغير العاقلِ؛ لأن ما في بطنها مُبْهَمٌ أمرُه، والمُبْهَم أمره يجوز أن يُعَبَّر عنه ب» ما «.
ومثاله أن تقول إذا رأيتَ شبحاً من بعيد لا تدري إنسان هو أم غيره: ما هذا؟ ولو عرفته إنساناً وجهلت كونه ذكراً أو أنثى، قلت: ما هو أيضاً؟ والآية من هذا القبيل، هذا عند مَنْ يرى أن» ما «مخصوصة بغير العاقل، وأما من يرى وقوعها على العقلاء، فلا يتأوَّل شيئاً.
وقيل: إنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر عنه ب «ما» التي لغير العُقَلاء.
المحرر: الذي يُجْعَل حُرًّا خالصاً، يقال: حرَّرت العبدَ - إذا أخلصته من الرق - وحرَّرْت الكتاب، أي: أصلحته وخلصته من وجوه الغلط، ورجل حُرّ: إذا كان خالصاً لنفسه، وليس لأحد عليه تعلُّق.
والطين الحر: الخالص من الرمل والحمأة والعيوب، فمعنى «مُحَرَّراً» ، أي: مُخْلصاً للعبادة، قاله الشعبيُّ.
وقيل: خادماً للبيعة.
وقيل: عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله.
وقيل: خادماً لمن يدرس الكتاب، ويُعَلِّم في البيع.
والمعنى أنها نذرت أن تجعلَ الولدَ وَقْفاً على طاعة الله تعالى.
قيل: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا شيء، فكان تحريرهم جعلَهم أولادَهم على الصفة التي ذكرنا؛ وذلك؛ لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صَارَ بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين، فكانوا - بالنذر - يتركون ذلك النوعَ من الانتفاع، ويجعلونهم محرَّرين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى.
وقيل: كان المحرر يجعل في الكنيسة - يقوم بخدمتها - حتى يبلغَ الحلم، ثم يُخَيَّر بين المُقام والذهاب فإن أبي المقام، وأراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فليس له بعدَ ذلك خيار، ولم يكن نبيّ إلا ومن نسله محرَّر في بيت المقدس.
وهذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان، أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك؛ لِمَا يُصِيبها من الحيض، والأذى، وحنَّةُ نذرت مطلقاً، إما لأنها بنت الأمر على التقدير، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلةً إلى طلب الذكر ومعنى: نذرت لك أي لعبادتك، وتقدم الكلام على النذر، ثم قال تعالى - حاكياً عنها -: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} ، والتقبُّل: أخذ الشيء على الرضا، قال الواحديُّ: «وأصله من المقابلة؛(5/171)
لأنه يقابَل بالجزاءِ، وهذا كلام مَن لم يرد بفعله إلا رضا الله - تعالى - والإخلاصَ في عبادته ومعنى {السميع} أي: لتضرعي ودعائي وندائي {العليم} بما في ضميري ونيَّتي.
قوله: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} الضمير في» وضعتها «يعود على» ما «- من حيث المعنى -؛ لأن الذي في بطنها أنْثَى - في علم الله - فعاد الضمير على معناها دون لفظها.
وقيل: إنما أنث؛ حَمْلاً على مضيّ النسمة أو الْجِبلَّة أو النفس، قاله الزمخشريُّ.
وقال ابنُ عطية: حملاً على الموجودة، ورفعاً للفظ» ما «في قوله {مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} .
قوله: {أنثى} فيه وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة على الحال، وهي حال مؤكِّدَة؛ لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير، فجاءت» أنثى «مؤكدة.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: كيف جاز انتصاب» أنثى «حالاً من الضمير في» وَضَعْتُهَا «وهو كذلك كقولك: وضعت الأنثى أنثى؟
قلت: الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال؛ لأن الحالَ وذا الحال لشيء واحد، كما أنث الاسم في من كانت أمك؛ لتأنيث الخبر، ونظيره قوله تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} [النساء: 176] .
وأما على تأويل النسمة والجبلة فهو ظاهرٌ، كأنه قيل: إني وَضَعْتُ النسمةَ أنثى» .
يعني أن الحال على الجواب الثاني - تكون مبيِّنة لا مؤكِّدة؛ وذلك لأن النسمة والجبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى، فلما حصل الاشتراكُ جاءت الحال مبيِّنةً لها، إلا أن أبا حيّان ناقشة في الجواب الأول، فقال: وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أن «أنثى» تكون حالاً مؤكِّدة، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن يكون حالاً مؤكِّدة، وأما تشبيهه ذلك بقوله: من كانت أمّك - حيث عاد الضمير على معنى «ما» - فليس ذلك نظير {وَضَعْتُهَآ أنثى} ؛ لأن ذلك حَمْلٌ على معنى «ما» إذ المعنى: اية امرأة كانت أمك، أي كانت هي أي أمُّك، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبرِ، وإنما هو من باب الحملِ على معنى «ما» ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير {وَضَعْتُهَآ أنثى} ؛ لأن الخبر تخصَّصَ بالإضافة غلى الضمير فاستفيد من الخبر ما لا يُستفاد من الاسم، بخلاف «أنْثَى» فإنه لمجرَّد التأكيد، وأما تنظيره بقوله: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} . فيعني أنه ثَنَّى الاسمَ؛ لتثنية الخبر. والكلام يأتي عليه في مكانه إن شاء الله تعالى فإنها من المشكلات، فالأحسن أن يُجعل الضمير - في {وَضَعْتُهَآ أنثى} - عائداً على النسمة أو النفس، فتكون الحال مبيِّنة مؤكِّدة.
قال شهاب الدين: قوله: «ليس نظيرها؛ لأن من كانت أمك» حُمل فيه على معنى(5/172)
من، وهذا أنث لتأنيث الخبر «ليس كما قال، بل هو نظيره، وذلك أنه في الآية الكريمة حُمل على معنى» ما «كما حمل هناك على معنى» من «، وقول الزمخشري:» لتأنيث الخبر «أي لأن المرادَ ب» من «: التأنيث، بدليل تأنيث الخبر، فتأنيث الخبر بَيَّنَ لنا أن المراد ب» من «المؤنث كذلك تأنيث الحال وهو أنثى، بيّن لنا أن المراد ب» ما «في قوله: {مَا فِي بَطْنِي} أنه شيءٌ مؤنث، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر، وأما قوله:» فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف {وَضَعْتُهَآ أنثى} ، فإنه لمجرد التوكيد «ليس بظاهر أيضاً؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأكيد في كلّ من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية وقَبْل مجيء الخبر في النظير المأما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض، فلا يضر ذلك في التنظير، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة، وقد تحصل لك في هذه الحالة وجهان:
أحدهما: أنها مؤكِّدة إن قلنا: إن الضمير في {وَضَعَتْهَا} عائد على معنى» ما «.
الثاني: أنها مبيِّنة إن قلنا: إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجِبلَّة لصدق كل من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكر والأنثى.
الوجه الثاني من وجهي «أنثى» : أنها بدل من «ها» في {وَضَعَتْهَا} بدل كل من كل - قاله أبو البقاء.
ويكون في هذا البدلِ بيان ما المراد بهذا الضميرِ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبة، فإن كان الضمير مرفوعاً نحو: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3]- على أحد الأوجهِ - فالكل يجيزون فيه البدلَ، وإن كان غير مرفوعٍ نحو ضربته زيداً ومررت به زيدٍ فاختلِفَ فيه، والصحيح جوازه كقول الشاعر: [الطويل]
1417 - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
بجر حاتم الأخير بدلاً من الهاء في «جُودِهِ» .
فصل
والفائدةُ في قولها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالبُ على ظَنِّها أنه ذَكَر، فلم تشترط ذلك في كلامِها، وكانت عادتُهم تحريرَ الذكر، لأنه هو الذي يُفَرَّغ لخدمة المسجد دون الأنثى، فقالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يُعتَد به، ومعتذرةً من إطلاقها النذر المتقدم، فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار، لا على سبيل الإعلام؛ تعالى الله عن [أن يحتاج إلى إعلامها] .(5/173)
قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرأ ابن عامر وأبو بكر «وَضَعْتُ» بتاء المتكلم - وهو من كلام أمِّ مَرْيَمَ خاطبت بذلك نفسَها؛ تَسَلِّياً لها واعتذاراً للهِ تعالى؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس.
قال الزمخشريُّ - وقد ذكر هذه القراءة -: «تعني ولعل الله - تعالى - فيه سِرًّا وحكمةً، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر؛ تَسلِيَةً لنفسها» .
وقيل: قالت ذلك؛ خوفاً أن يُظَنَّ بها أنها تُخْبِر الله - تعالى - فأزالت الشبهةَ بقولها هذا وبينت أنها إنما قالتْ ذلك للاعتذارِ لا للإعلام - وفي قولها: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ إذ لو جَرَتْ على مقتضَى قولها: «رَبِّ» لقالت: وأنت أعلم.
وقرأ الباقون: «وَضَعَتْ» بتاء التأنيث الساكنةِ - على إسناد الفعل لضمير أم مريم، وهو من كلام الباري تعالى، وفيه تنبيه على عِظَم قَدْر هذا المولود، وأنَّ له شأناً لم تعرفيه، ولم تعرفي إلا كونه أنثى لا غير، دون ما يئول إليه من أمور عِظَامٍ، وآيات واضحةٍ.
قال الزمخشريُّ: «ولتكلُّمها بذلك على وجه التحسُّر والتحزُّن قال الله - تعالى -: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} تعظيماً لموضوعها، وتجهيلاً لها بقدر ما وُهِبَ لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت، وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت» .
وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله: {والله أَعْلَمُ} قال: «ولو كان من كلامِ مريم لكان التركيب: وأنت أعلم» . وقد تقدم جوابُه بأنه التفات.
وقرأ ابن عباس «والله أعلم بِمَا وَضَعَتِ» - بكسر التاء - خاطبها الله - تعالى - بذلك، بمعنى: أنك لا تعلمين قدرَ هذه المولودة، ولا قدر ما علم الله فيها من عظائمِ الأمورِ.
قوله: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} ؛ هذه الجملة - يحتمل أن تكون معترضةً، وأن يكون لها محل، وذلك بحسب القراءات المذكورة في «وَضَعَتْ» - كما يأتي تفصيله - والألف واللام في «الذكَر» يحتمل أن تكون للعهدِ، والمعنى: ليس الذكر الذي طلبَتْ كالأنثى التي وَهِبَتْ لها.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: فما معنى قولها: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} ؟(5/174)
قلت: هو بيان لما في قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} من التعظيم للموضوع، والرفع منه، ومعناه: ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهِبَتْ لها، والألف واللام فيهما يحتمل أن تكون للعهد وأن تكون للجنس، على أن المراد: أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات والتحرير ولمخالطة الأجانب، بخلاف الأنثى؛ لِما يعتريها من الحيض، وعوارض النسوان.
وكان سياقُ الكلام - على هذا - يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر، وحصل عندَها، وانتفت عنه صفاتُ الكمال للغرض المقصود منه، فكان التركيبُ: وليس الأنثى كالذكر، وإنما عدل عن ذلك؛ لأنها بدأت بالأهم لما كانت تريده، وهو المُتَلَجلِج في صدرها، والحائل في نفسها، فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به، فصار التقديرُ: وليس جنسُ الذكرِ مثل جنس الأنثى، لما بينهما من التفاوتِ فيما ذكر، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء، وفهموها عن الله - تعالى - لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنًى؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلَمُ أن الذكر لَيْسَ كالأنثى.
وقوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} هذه الجملة معطوفة على قوله {إِنِّي وَضَعْتُهَآ} على قراءة مَنْ ضَمَّ التاء في قوله وضعت فتكون هي وما قبلها في محل نصب بالقول، والتقدير: قالت: إني وضعتُها، وقالت: والله أعلم بما وَضَعْتُ، وقالت: وليس الذكر كالأنثى، وقالت: إنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَم.
وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فتكون {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا} أيضاً معطوفاً على {إِنِّي وَضَعْتُهَآ} ويكون قد فصل بين المتعاطفَيْن بجملتي اعتراض، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] قاله الزمخشريُّ.
قال أبو حيّان: «ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان؛ لأنه يحتمل أن يكون: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} من كلامها في هذه القراءة» ويكون المعترض جملة واحدة - كما كان من كلامها في قراءة من قرأ «وَضَعْتُ» بضم التاء - بل ينبغي أن يكون هذا المتعيِّن؛ لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة، ولأن في اعتراضِ جملتين خلافاً لمذهب أبي علي الفارسي من أنه لا يعترض جملتان.
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما - على زعمه - بين المعطوف والمعطوفِ عليه، بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] ليس تشبيهاً مطابقاً للآية؛ لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم - الذي هو {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75]- وبين جوابه - الذي هو {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]- بجملة واحدة - وهي قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} - لكنه جاء في جملة(5/175)
الاعتراض - بين بعض أجزائها، وبعض اعتراض بجملة - وهي قوله: {لَّوْ تَعْلَمُونَ} اعتراضٌ بها بين المنعوتِ الذي هو «لَقَسَمٌ» - وبين نعته - الذي هو «عَظِيمٌ» - فهذا اعتراضٌ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} .
قال شهابُ الدين: والمشاحَّة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة، وقوله: «ليس فصلاً بجملتي اعتراض» ممنوع، بل هو فَصْلٌ بجملتي اعتراض، وكونه جاء اعتراضاً في اعتراض لا يضر ولا يقدَح في قوله: فصل بجملتين «ف» سمى «يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، ويجوز حذفه، تقول: سميت زيداً، والأصل: بزيدٍ، وجمع الشاعرُ بين الأصل والفرع في قوله: [المتقارب]
1418 - وَسُنِّيْتَ كَعباً بِشَرِّ الْعِظَامِ ... وَكَانَ أبُوكَ يُسَمَّى الْجَعَل
أي يسمى بالجُعَل - وقد تقدم الكلامَ في مريمَ واشتقاقها ومعناها.
فصل
ظاهر هذا الكلام يدل على أن عمران كان قد مات قبل وَضْعِ حَنَّة مَرْيمَ، فلذلك تولَّت الأم تسميتها؛ لأن العادة أن التسمية يتولاّها الآباء، وأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله أن يعصمها من آفاتِ الدين والدنيا؛ لأن مريم - في لغتهم - العابدة، ويؤكد ذلك قوله: بعد ذلك: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} . وقولها: {سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} جَعَلت هذا اللفظَ اسماً لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة، وعلى أن تسمية الولد يكون يوم الوضع.
قوله: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا} عطف على {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا} وأتى - هنا - بخبر» إنَّ «فعلاً مضارعاً؛ دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها، بخلاف قوله: {وَضَعْتُها} و {سَمَّيْتُهَا} حيث أتى بالخبرين ماضيَيْن؛ لانقطاعهما، وقدم المُعَاذَ به على المعطوف؛ اهتماماً به.
وفتح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزة المضمومة، وكذلك ياء وقع بعدها همزة مضمومة إلا في موضعين فإن الكُلَّ اتفقوا على سكونها فيهما -: {بعهدي أُوف} [البقرة: 40] و {آتوني أُفْرِغ} [الكهف: 96] والباقي عشرة مواضع، هذا الذي في هذه السورة أحدها.
فصل
لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد، تضرعت إلى الله تعالى(5/176)
أن يحفظها من الشيطان، وأن يجعلها من الصالحات القانتات.
قال القرطبي: «معنى قوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} يعني خادم الرب - بلغتهم - {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} مريمَ. {وَذُرِّيَّتَهَا} عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصّة» .
قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} الجمهور على {فَتَقَبَّلَهَا} فعلاً ماضياً على «تَفَعَّل» بتشديد العينِ - و {رَبُّهَا} فاعل به، وتفعل يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير، و «تَفَعَّل» يأتي بمعنى «فَعَل» مُجَرَّداً، نحو تعجب وعَجب من كذا، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه.
والثاني: أن «تفعل» بمعنى: استفعل، أي: فاستقبلها ربُّها، يقال: استقبلت الشيءَ أي: أخذته أول مرة.
والمعنى: أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها.
ومنه قول الشاعر: [الوافر]
1419 - وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا
ومنه المثل: خذ الأمر بقوابله. و «تَفَعَّل» بمعنى «استفعل» كثير، نحو: تعظم، واستعظم، وتكبر، واستكبر، وتعجَّل واستعجل.
قال بعضُ العلماء: «إن ما كان من باب التفعُّل، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل، كالتصبُّر والتجلُّد، ونحوهما، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في غظهار الصَبْرِ والجَلَدِ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ» .
فإن قيل: فلِمَ لَمْ يَقُلْ: فتقبلها ربُّها بتَقَبُّلٍ حَسَنٍ، حتى تكمُلَ المبالغةُ؟
فالجوابُ: أنَّ لفظَ التَّقَبُّل - وإن أفاد ما ذكرنا - يُفِيدُ نوعَ تكلُّفِ خلاف الطبعِ، فذكر التقبلَ، ليفيد الجد والمبالغة، ثم ذكر القبولَ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبعِ، بل على وفق الطبعِ، وهذه الوجوه - وإن كانت ممتنعةً في حق اللهِ تعالى - تدل من حيثُ الاستعارةُ - على حصول العنايةِ العظيمةِ في تربيتها، وهو وجه مناسبٌ.
والباء - في قوله: «بِقَبُولٍ» - فيها وجهانِ:
أحدهما: أنها زائدة، أي: قبولاً، وعلى هذا فينتصب «قبولاً» على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد؛ إذْ لو جاء على «تَقَبُّل» لقيل: تَقَبُّلاً، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً.
وَقَبُول: من المصادر التي جاءت على «فَعُول» - بفتح الفاء - قال سيبويه: خمسة(5/177)
مصادر جاءت على «فَعُول» قَبُول، وطَهُور، ووَقُود، ووَضُوء، وولُوع، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ، يقال: قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس، كالدخولِ والخروجِ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب: قبلت قَبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم، وأنشدوا: [السريع]
1420 - قَدْ يُحْمَدث الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ ... بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ
بضم القاف - كذا حكاه بعضهم.
قال الزَّجَّاجُ: إن «قَبُولاً» هذا ليس منصوباً بهذا الْفِعْلِ حتى يكونَ مصدراً على غير المصدر، بل هو منصوب بفعل موافقٍ له، - أي: مجرداً - قال: والتقدير: فتقبلها بتقبُّلٍ حَسَنٍ، وقَبِلَها قبولاً حَسَناً، أي: رضيها، وفيه بُعَدٌ.
والوجه الثاني: أن الياء ليست بزائدة، بل هي على حالها، ويكون المرادُ بالقبول - هنا - اسماً لما يقبل به الشيءُ، نحو اللدود، لما يُلَدُّ به. والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكرِ في النذر.
فصل
في تفسير ذلك القبولِ الْحَسَنِ وجوهٌ:
أحدها: أنه - تعالى - استجاب دعاءَ أمِّ مريمَ، وعصمها، وعصم ولدَهَا عيسى - عليه السلام - من الشيطان.
روى أبو هريرةَ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسه - حِيْنَ يُولَدُ - فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إلاَّ مَرْيَمَ وَابنها» ، ثم قال أبو هريرة: اقرَأُوا - إنْ شِئْتُمْ - {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} ، طعن القاضي في هذا الخبر، وقال: إنه خبر واحد على خلاف الدَّليلِ؛ وإنما قلنا: إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ:
الأول: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشَّرِّ مَنْ يَعْرف الخير والشر، والطفل المولود ليس كذلك.(5/178)
الثاني: أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك - من إهلاك الصالحين، وإفساد أحوَالهم.
الثالث: لِمَ خَصَّ - بهذا الاستثناء - مريم وعيسى - عليهما السلام - دون سائر الأنبياء؟
الرابع: أن ذلك المس لو وُجِدَ بَقِيَ أثَرهُ، ولو بقي أثره لدام الصُّرَاخُ والبُكاءُ، فلمَّا لم يكن كذلك علمنا بُطْلانَهُ.
الوجه الثاني - في معنى القبول الحسن -: ما رُوِيَ أن حَنَّةَ - حين ولدت مريمَ - لفَّتْها في خِرْقَةٍ وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة - وقالت: خذوا هذه النذيرةَ، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم، فقال لهم زكريَّا: أنا أحق بها؛ عندي خالتها، فقالوا: لا، حتى نقترع عليها، فانطلقوا - وكانوا سبعةً وعشرين - إلى نهرٍ جارٍ.
قال السُّدِّيُّ: هو نهر الأردُن - فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها، على أن كل من يرتفع قلمه، فهو الراجحُ، ثم ألقوا أقلامَهم ثلاثَ مراتٍ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماءِ، وترسب أقلامهم، فأخذها زكريَّا.
قاله محمد بن إسحاق وجماعة، وقيل: جرى قلم زكريا مُصْعِداً إلى أعلى الْمَاءِ، وجرت أقلامهم بجري الماء.
وقال السُّدِّيُّ وجماعة: ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين، وجرت أقلامُهم، فذهب بها الماء، فسَهَمَهُم زكريا - وكان رأس الأحبار ونبيهم - فأخذها.
الوجه الثالث: رَوَى القفّالُ عن الحسنِ أنه قال: إن مريم تكلمت في صباها - كما تكلم المسيحُ - ولم تلتقم ثدياً قط، وإن رزقها كان يأتيها من الْجَنَّةِ.
الوجه الرابع: أن عادتَهم في شريعتهم أن التحريرَ لا يجوز إلا في حق الغلام، وحتى يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد، وهنا قبل الله تلك الْجَارِيَةَ على صغرهَا، وعدم قدرتها على خدمة المسجد.
وقيل: معنى التَّقَبُّل: التكفُّل في التربية، والقيام بشأنها.
وقال الحسنُ: معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار.(5/179)
وقوله: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} نبات: مصدر على غير المصدر؛ إذ القايس إنبات، وقيل: بل هو منصوب بمُضْمَرٍ موافق له أيضاً، تقديره: فتنبت نباتاً حسناً، قاله ابنُ الأنباريّ.
وقيل: كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام.
وقيل: تنبت في الصلاح والعِفَّةِ والطاعةِ.
وقال القرطبي: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} أي: سَوَّى خَلْقَها من غير زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ.
قوله: {وَكَفَّلَهَا} قرأ الكوفيون {وَكَفَّلَهَا} - بتشديد الْعَيْنِ - «زَكَرِيَّا» - بالقصر - إلا أبا بكر، فإنه قرأه بالمد كالباقين، ولكنه ينصبه، والباقون يرفعونه.
وقرأ مجاهدٌ «فَتَقَبَّلَهَا» بسكون اللام «رَبَّهَا» منصوباً، «وأنْبَتَهَا» - بكسر الباء وسكون التاء - وكَفِّلْها - بكسر الفاء [وسكون اللام] والتخفيف وقرأ أبي: «وأكْفَلَهَا» - كأكْرَمَهَا - فعلا ماضياً.
وقرأ عبد الله المزني «وَكَفِلَهَا» - بكسر الفاء والتَّخْفِيفِ -.
فأما قراءة الكوفيين فإنهم عَدَّوُا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين، ثانيهما زكريا، فمن قصره، كالأخَوَيْن وحفص - كان عنده مُقَدَّر النصب، ومن مَدَّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به، وأما قراءة بقية السبعة ف «كَفِلَ» مخفف عندهم، متعد لواحد - وهو ضمير مريم - وفاعله زكريا.
قال أبو عبيدة: ضمن القيام بها، ولا مخالفة بين القراءتين؛ لأن الله لما كفَّلَها إياه كَفِلَها، وهو في قراءتهم ممدود، مرفوع بالفاعلية.
وأما قراءة: «أكْفَلهَا» فإنه عدَّاه بالهمزة كما عدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو خرَّجْته وأخْرَجته، وكرَّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعْرَابِ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى، والمفعول الأول هو: ضمير مَرْيَمَ والثاني: هو زكريا.
أما قراءة «وَكفِلها» - بكسر الفاءِ - فإنها لغة في «كَفَل» يقال: كَفَلَ يَكْفُل - كقَتَل يقْتُل - وهي الفاشية، وكَفِلَ يَكْفَلُ - كعَلِمَ يَعْلَمُ - وعليها هذه الْقِرَاءةُ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون «زكريا» فاعلاً.
وأما قراءة مجاهدٍ فإنها «كَفِّلْهَا» على لفظ الدعاء من أم مريم لله - تعالى - بأن يفعل لها ما سألته ربَّهَا منصوب على النداء، أي: فَتَقَبَّلْهَا يَا رَبَّهَا، وأنبِتْهَا وكَفِّلْهَا يَا رَبَّهَا،(5/180)
وزكريا في هذه القراءة مفعول ثان أيضاً كقراءة الكوفيين. وقرأ حفص والأخوانِ «زكريا» - بالقصر - حيث ورد في القرآن، وباقي السبعة بالْمَدِّ والمدُّ والقَصْرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز. وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه: مُنِع من الصرف للعلمية، والعُجْمَة - كنظاشره - وإنَّما قالوا منع من الصرف لوجود ألفِ التَّأنِيثِ فيه: إما الممدودة كَحَمْرَاءَ، وإما المقصورة كحُبْلَى، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأوْه ممنوعاً - معرفةً ونكرة - قالوا: فلو كان منعه للعلمية والعُجمَةِ لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع، لكن العرب منعته نكرةً، فعلمنا أن المانع غير ذلك، وليس معناه - هنا - يصلح مانعاً من صَرْفهِ إلا ألف التأنيث - يَعْنُون للشبه بألف التأنيث - وإلا فهذا اسم أعجمي لا يُعْرفَ له اشتقاقٌ، حتى يُدَّعَى فيه أنَّ الألف فيه للتأنيث.
على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صَرْفه نكرةً، وكأنه لحظ المانعَ فيه ما تقدمَ من العلميَّة والعُجْمَةِ، لكنهم غلطوه وخطئوه في ذلك، وأشبع الفارسيُّ القولَ فيه فقال: «لا يخلو من أن تكون الهمزة فيه للتأنيث، أو للإلحاق أو منقلبة، ولا يجوز أن تكون منقلبةٌ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرفٍ أصلي، أو من حرف الإلحاق؛ لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا مُلْحَقاً به، وإذا ثَبَتَ ذلكَ ثبت أنها للتأنيث وكذلك القول في الألف المقصورة» .
قال شِهَابُ الدِّينِ: «وهذا - الذي قاله أبو علي - صحيح، لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاق ويدخله تصريف، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجميّة مُجْرَى العربية بمعنى أنَّ هذا لَوْ وَرَدَ في لسان العرب كيف يكون حكمه» .
وفيه - بَعْدَ ذلك - لغتانِ أخْرَيَانِ:
إحداهما: زكريّ - بياء مشددة في آخره فقط دون ألف - وهو في هذه اللغة منصرف، ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال: «القول فيه أنَّهُ حُذِفَ منه الياءان اللتان كانتا فيه - ممدوداً ومقصوراً - وما بعدها، وألحق بياء النَّسَب، ويدل على ذلك صرفُ الاسم، ولو كانت اياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ؛ للعجمة والتعريف، وهذه لُغَةُ أهل نجد ومَنْ والاهم» .
الثانية: زَكْر - بوزن عَمْرو - حكاه الأخفشُ.
والكفالة أي: الضمان - في الأصل - ثم يُستعار للضَّمِّ والأخذ، يقال منه: كَفَل يَكْفُل، وكَفِلَ يَكْفَلُ، كعلم يعلم - كفالةً وكَفْلاً، فهو كافِل وكفيل، والكافل: هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله، وفي الحديث: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وقال تعالى: {أَكْفِلْنِيهَا} [ص: 23] .(5/181)
واختلفوا في كَفَالةِ زكريا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إياها، فقال الأكثرون: كان ذلك حال طفولتها، وبه جاءت الروايات.
وقال بعضهم: بل إنما كفلها بعد أن طمثت، واحتجوا بوجهين:
أحدهما: قوله تعالى: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ثم قال: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وهذا يوهم أن تكل الكفالة بعد ذلك النباتِ الحسنِ.
الثاني: أنه - تعالى - قال: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع في وقت تلك الكفالة.
وأجيبوا عن الأول بأن الواو لا توجب الترتيب، فلعل الإنباتَ الحسنَ وكفالة زكريا حَصَلا معاً. وعن الثاني بأن دخول زكريا عليها، وسؤالَه لها هذا السؤالَ لعله وقع في آخرِ زمانِ الكفالةِ.
قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب} «المحراب» فيه وجهان:
أحدهما: وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف، وشذ عن سائر أخواته بعد «دَخَلَ» خاصَّةً، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة «في» نحو صليت في المحراب - ولا تقول: صليت المحرابَ - ونِمْتُ في السوقِ - ولا تقول: السوقَ - إلا مع دخل خاصة، نحو دخلت السوق والبيت ... الخ. وإلا ألفاظاً أخر مذكورة في كتب النحو.
والثاني مذهب الأخفش وهو نَصب ما بعد «دَخَلَ» على المفعول به لا على الظرف فقولك: دخلت البيت، كقولك: هدمت البيت، في نصب كل منهما على المفعول به - وهو قول مرجوح؛ بدليل أن «دَخَلَ» لو سُلِّطَ على غير الظَّرْفِ المختص وجب وصوله بواسطة «في» تقول: دخلتُ في الأمر - ولا تقول: دخلت الأمر - فدل ذلك على عدم تَعَدِّيه للمفعول به بنفسه.(5/182)
والجواب: قال ابو عبيدة: هو سَيِّدُ المجالس ومقدَّمها وأشرفها، وكذلك هو من المسجد.
وقال أبو عمرو بن العلاء: هو القصر؛ لعُلُوِّه وشَرَفِهِ.
وقال الأصمعيُّ: هو الغُرْفَة.
وأنشد لامرئِ القيس: [الطويل]
1421 - وَمَاذَا عَلَيْهِ أنّ ذَكَرْتَ أو أنِسَا ... كَغِزْلاَنِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أقْيَالِ
قالوا معناه: في غرف أقيال. وأنشد غيره - لعُمَرَ بن أبي ربيعة: [السريع]
1422 - رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا ما جِئْتُهَا ... لَمْ أدْنُ حَتَّى أرْتَقِي سُلَّما
وقيل: هو المحراب من المسجد المعهود، وهو الأليق بالآية.
وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يَعْنُونَ به: المحراب من حيث هو، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه. واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21] فوجه الإمالة تقدم الكسرة، ووجه التَّفْخِيم أنه الأصل.
قوله: {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} «وجد» هذه بمعنى أصاب ولَقِيَ وصَادَفَ، فيتعدى لِواحِدٍ وهو «رِزْقاً» و «عندها» الظاهر أنه ظرف للوجدان.
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من «رِزْقاً» ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف، ف «وجد» هو الناصب لِ «كُلَّمَا» لأنها ظرفية، وأبو البقاء سمَّاه جوابها؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي.(5/183)
قوله: {قَالَ يا مريم} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف، قال ابو البقاء: «ولا يجوز أن يكون بدلاً من» وَجَدَ «؛ لأنه ليس بمعناه» .
الثاني: أنه معطوف بالفاء، فحذف العاطف، قال أبو البقاء: «كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، وكذلك قول الشاعر: [البسيط]
1423 - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وهذا الموضع يشبه جوابَ الشرط، لأن» كُلَّمَا «تشبه الشرط في اقتضائها الجواب.
قال شهاب الدين: وهذا - الذي قاله - فيه نظر من حيث إنه تخيَّل أن قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أن جوابَ الشرط هو نفس {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} حُذِفَتْ منه الفاء، وليس كذلك، بل جواب الشرط محذوف، و {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} جواب قسم مقدر قبل الشرط وقد تقدم تحقيق هذه المسألة، وليس هذا مما حُذِفَتْ منه فاء الجزاء ألبتة، وكيف يَدَّعِي ذلك، ويُشَبِّهه بالبيت المذكور، وهو لا يجوز إلا في ضرورة؟
ثم الذي يظهر أن الجملةَ من قوله:» وَجَدَ «في محل نصب على الحال من فاعل» دَخَلَ «ويكون جواب» كُلَّمَا «هو نفس» قَالَ «والتقدير: كلما دخل عليها زكريا المحراب واجداً عندَها الرزق.
قال: وهذا بَيِّن.
ونكر» رِزْقاً «تعظيماً، أو ليدل به على نوع» ما «.
قوله: {أنى لَكِ هذا} » أنى «خبر مقدم، و» هَذَا «مبتدأ مؤخر ومعنى أنى هذا: من أين؟ كذا فسَّره أبو عبيدة.
قيل: ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية، أي: كيف تَهَيأ لكِ هذا؟
قال الكميت: [المنسرح]
1425 - أنَّى وَمِنْ أيْنَ هَزَّكَ الطَّرَبُ ... مِنْ حَيْثُ لاَ صَبْوةٌ وَلاَ رِيَبُ
وجوَّز أبو البقاء في» أنَّى «أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في» ذلك «. و» لك «رافع ل» هذا «يعني بالفاعلية.
ولا حاجة إلى ذلك، وتقدم الكلام على «أنى» في «البقرة» .(5/184)
فصل
قال الرَّبيع بن أنس: إن زكريا كان إذا خرج من عندها غلق عليها سبعةَ أبوابٍ، فإذا دخل عليها غُرفتها وجد عندها رزقاً - أي: فاكهة في غير حينها - فاكهة الصَّيْفِ في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيقول يا مريمُ، أنى لك هذا؟
قال ابو عبيدة: معناه من أين لك هذا، وأنكر بعضهم عليه وقال: معناه من أي جهة لك هذا؛ لأن أنّى للسؤال عن الجهة، وأين للسؤال عن المكان.
فصل
احتجوا على صحة القول بكرامات الأولياء بهذه الآية؛ فإنَّ حصول الرزق عندها إمَّا أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون، فإن كان غيرَ خارقٍ للعادة، فذلك باطلٌ من خمسة أوْجُهٍ:
الأول: أنه على هذا التقدير لا يكون ذلك الرزقُ عند مريم دليلاً على عُلُوِّ شأنِهَا، وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصِّيَّةِ، وهو المعنى المراد من الآية.
الثاني: قوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] والقرآن دلَّ على أنه كان آيساص من الولد؛ بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته، فلما رأى خَرْقَ العادة في حق مريمَ طمع في حصول الولد، فيستقيم قوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} . ولو كان الذي شاهده في حق مريم غيرَ خارق لم تكن مشاهدةُ ذلك سبباص لطمعه في انخراق العادة له بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر.
الثالث: تنكير الرزق في قوله: «رِزْقاً» فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل: رزق وإنه رزق عديب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية.
الرابع: أنه - تعالى - قال: {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] ولولا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك.
الخامس: تواتُر الروايات على أن زكريا - عليه السلام - كان يجد عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقاً للعادة، وإذا ثبت ذلك فنقول: إمّا أنه كان معجزةً لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك، والأول باطل؛ لأن النبيَّ الموجودَ في ذلكَ الزمانِ زكريا - عليه السلام - ولو كان ذلك معجزةً له لكان عالماً بحاله، ولم يَشْتبه أمْرُه عليه، ولم يَقُلْ ل «مريم» أنَّى لَكِ هَذَا؟ وأيضاً فقوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} مُشْعِرٌ بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله، فهنالك طمع في انخراق العادةِ في حصول الولد من المرأة الشيخة(5/185)
العقيم العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا من إخبار مريم، وإذا كان كذلك، وإذا ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزةً لزكريا - عليه السلام - فلم يَبْقَ إلاَّ أنها كانت لمريم عليها السلام إما بسبب ابنها أو لعيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كرامة لمريم، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل.
قال أبو علي الجبائي: لم لا يجوز أن يقال تلك الخوارق كانت معجزات زكريا - عليه السلام - لوجهين:
الأول: أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها، وأنه كان غافلاً عما يأتيها من الأرزاق من عند الله، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معيَّن قال لها: أنَّى لكِ هذا؟ فقالت هو من عند الله، فعند ذلك يعلم أن الله أظهر بدعائه تلك المعجزةَ.
الثاني: يحتمل أن يكون زكريا شاهد عند مريم رزقاً معتاداً، إلا أنه كان يأتيها من السماء، وكان زكريا يسألها عن ذلك، حَذَراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها، فقالت: هو من عند الله لا من عند غيره.
وأيضاً لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من الخوارق، بل معنى الآية أن الله - تعالى - كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الانفاق على الزاهداتِ العابداتِ، فكأن زكريا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمّا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه رُبَّما أتاها ذلك الرزق من جهةٍ لا ينبغي، فكان يسألها عن كيفية الحال.
والجواب عن الأول والثاني: أنه لو كان معجزاً لزكريا لكان زكريا مأذوناً له من عند الله في طلب ذلك، ومتى كان مأذوناً له في ذلك الطلب كان عالماً - قطعاً - بأنه يحصل، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال، ولم يكن لقول: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} فائدة.
والجواب عن الثالث: أنه - على هذا التقدير - لا يبقى لاختصاص مريم بمثل هذه الواقعة وجه.
أيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا يليق، فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة؟ فسقطت هذه الأسئلة.
واحتج المعتزلة على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النَّبِيِّ لا يوجد مع غير النبي، كما أن الفعل المُحْكَم - لما كان دليلاً على العلم لا جرم - لا يوجد في حَقِّ غَيْرِ العالمِ.
والجواب من وجوه:
الأول: أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدَّعِي، فإن ادَّعَى صاحبهُ النبوةَ، فذلك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيًّا، وإن ادَّعَى الولايةَ، فذلك يدل على كونه وليًّا.(5/186)
والثاني: قال بعضهم: «الأنبياء مأمورون بإظهارها، والأولياء مأمورون بإخفائها» .
والثالث: أن النبي يدَّعي المعجزة ويقطع به، والولي لا يمكنه القطع به.
الرابع: أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة.
قوله: {إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يُحْتَمَل أن يكون من جملة كلام مريم - عليها السلام - فيكون منصوباً.
ويحتمل أن يكون مستأنفاً، من كلام الله تعالى، وتقدم الكلامُ على نظيره.(5/187)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
«هنا» هو الاسم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، وهو منصوب على الظرف المكاني ب «دَعَا» وزان «ذلك» ، وهو منصوب على الظرف المكاني، ب «دعا» أي: في ذلك المكان الذي راى فيه ما رأى من أمر مريمَ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية ب «مِنْ» وَ «إلَى» .
قال الشاعر: [الرجز]
1426 - قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمكِنَهْ ... مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هُنَهْ
وحكمه حكم «ذَا» من كونه يُجَرَّد من حرف التنبيه، ومن الكاف واللام، نحو «هُنَا» وقد يَصْحَبه «ها» التنبيه، نحو هاهنا، ومع الكاف قليلاً، نحو ها هناك، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام. وأخوات «هنا» بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها - و «ثَمَّ» بفتح الثاء - وقد يقال: «هَنَّت» . ولا يشار ب «هُنَالِكَ» وما ذُكِرَ مَعَهُ إلا للأمكنة، كقوله: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 119] وقوله: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق} [الكهف: 44] وقوله: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] .(5/187)
وقد زعم بعضهم أن «هُنا» و «هناك» و «هنالك» للزمان، فمن ورود «هنالك» بمعنى الزمان عند بعضهم - هذه الآية أي: في ذلك الزمان دعا زكريا ربه، ومثله: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] ، وقوله: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ} ومنه قول زهير: [الطويل]
1427 - هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ومن «هنَّا» قوله: [الكامل]
1428 - حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ
لأن «لات» لا تعمل إلا في الأحيان.
وفي عبارة السجاوندي أن «هناك» في المكان، و «هنالك» في الزمان، وهو سهو؛ لأنها للمكان سواء تجردت، أو اتصلت بالكاف واللام معاً، أم بالكاف من دون اللام.
فصل
ذكر المفسّرون أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خَوَارِقَ العادة عند مريم طمع في خرق العادةِ في حقه، فرزقه الله الولد من الشيخة العاقر.
فإن قيل: لِمَ قلتم: إنَّ زكريا - عليه السلام - ما كان عالماً بأن الله قادر على خَرْق العادة إلا عند مشاهدة تلك الكرامات عند مريم، وهذه النسبة شَكٌّ في قدرة الله - تعالى - من زكريا، وإن قلتم بأنه كان عالماً بقدرة الله تعالى على ذلك لم تكن المشاهدة سبباً لزيادة علمه بقدرة الله - تعالى - فلم يكن لمشاهدته لتلك الكرامات أَثرٌ في السببية؟
فالجواب: أنه كان عالماً قبل ذلك بالخوارق، أما أنّه هل تقع أم لا؟ فلم يكن عالماً به، فلما شاهد وعلم أنه إذا وقع كرامة لوَلِيّ فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيّ كان أولى، فلا جرم قوي طمعه عند ذلك.
قوله: {مِن لَّدُنْكَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه يتعلق ب «هَبْ» وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً، أي: يا رب هَبْ(5/188)
لي من عندك. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة لِ «ذُرِّيَّة» فلما قُدِّم عليها انتَصَبَ حالاً.
وتقدم الكلام على «لَدُنْ» وأحكامها.
قال ابن الخطيب: «وقول زكريا: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً} لما لم تكن أسباب الولادة في حقه موجودة، قال: {مِن لَّدُنْكَ} أي بمحض قدرتك، من غير شيء من هذه الأسباب» .
فصل
الذرية: النسل، وهو يقع على الواحدِ والجمعِ والذكرِ والأنثى، والمراد - هنا - ولد واحد، وهو مثل قوله: «فهب لي من لدنك وليًّا» .
قوله: {طَيِّبَةً} إن أريد ب «ذُرِّيَّة» الجنس، فيكون التأنيث في «طيِّبة» باعتبار تأنيث الجماعة، وإن أريد به ذَكر واحد فالتأنيث باعتبارِ اللفظِ.
قال الفراء: وأنّث «طَيِّبَةً» لتأنيث لفظ «الذرية» كما قال القائل في ذلك البيت: [الوافر]
1429 - أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى ... وَأنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
الشخص، فإذا كان مذكَّراً لم يجز فيه إلا التذكيرُ، وقد جمع الشاعر بين التذكير والتانيث في قوله: [الطويل]
1430 - فَمَا تَزْدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جبَلِيَّةٍ ... سُكَاتٍ إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأدْرَدَا
قوله {سَمِيعٌ الدعآء} مثال مبالغة، مُحَوَّل من سامع، وليس بمعنى مُسْمِع؛ لفساد المعنى؛ لأن معناه إنك سامعه، وقيل: مُجِيبه، كقوله: {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} [يس: 25] أي: فأجيبوني، وكقول المصلي: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، يريد قبل اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ من المؤمنين.
فصل
قال القرطبيُّ: دَلَّتْ هذه الآيةُ على طلب الولد، وهي سُنَّةُ المرسلين والصِّدِّيقينَ.(5/189)
قال تعالى - حكاية عن إبراهيم -: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84] .
وقال تعالى: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] ودعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنس فقال: «اللهُمَّ أكثر مالَه وولَده، وبَارِك لَهُ فِيمَا أعْطَيْتَه» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الوَدُودَ؛ فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ الْقِيَامةِ» فدلَّ على أن طلب الولَد مندوبٌ إليه؛ لِما يُرْجَى من نفعه في الدنيا والآخرة، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا مَاتَ أحَدُكُم انْقَطَع عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ» فذكر «أو ولَدٌ صَالح يَدْعُو لَهُ» .
فصل
ويجب على الإنسان أن يتضرَّع إلى الله - تعالى - في هداية زوجته وولده بالتوفيق، والهداية، والصَّلاح، والعَفَاف، وأن يكونا معينَيْنِ له على دينه ودُنياه، حتى تَعْظُم منفعتُهما قال زكريا:
{واجعله رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 6] ، وقال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} وقال تعالى: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] .
قوله: {فَنَادَتْهُ الملاائكة} قرأ الأخوان «فَنَادَاهُ المَلاَئِكَةُ» - من غير تأنيث - والباقون «(5/190)
فَنَادَتْهُ» بتاء التأنيث - باعتبار الجمع المُكَسَّر، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع، والتأنيث باعتبار الجماعة، ولتأنيث لفظ «الملائكة» مع أن المذكور إذا تقدَّم فعلُهم - وهم جماعة - كان التأنيث فيه أحسن؛ كقوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب} [الحجرات: 14] . ومثل هذا {إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملاائكة} [الأنفال: 50] تُقْرأ بالتاء والياء، وكذا قوله: {تَعْرُجُ الملائكة} [المعارج: 4] .
قال الزجاج: يلحقها التأنيث للفظ الجماعة، ويجوز أن يُعَبَّر عنها بلفظ التذكير؛ لأنه - تعالى جمع الملائكة، وهكذا قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 30] .
وإنما حَسُنَ الحذفُ - هنا - للفصل بين الفعل وفاعله.
وقد تجرأ بعضُهم على قراءة العامة، فقال: «أكره التأنيثَ؛ لما فيه من موافقة دَعْوَى الجاهلية؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث» .
روى إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الملائكةَ في كُلِّ القرآنِ.
قال أبو عُبَيْد: «نراه اختار ذلك؛ خلافاً على المشركين؛ لأنهم قالوا: الملائكة بناتُ اللهِ» .
وروى الشعبيُّ أن ابن مسعود قال: «إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً» .
وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين، فقال: وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية، ولذلك قرأ «فناداه» بغير تاء - والقراءة غير جيِّدة؛ لأن الملائكة جمع، وما اعتلوا ليس بشيءٍ؛ لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم} [آل عمران: 42] .
وهذان القولان - الصادران من أبي البقاء وغيره - ليسا بجيِّدَيْن؛ لأنهما قراءتان متواترتان، فلا ينبغي أن ترد إحداهما ألبتة.
والأخوان على أصلهما من غمالة «فَنَادَاهُ» . والرسم يحتمل القراءتين معاً - أعني: التذكير والتأنيث والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد - وهو جبريل.
قال الزَّجَّاج: أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة، كقولك: فلان يركب السُّفُنَ - أي: هذا الجنس كقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الملاائكة} [النحل: 2] يعني جبريل «بِالرُّوحِ» يعني الوحي. ومثله قوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] وهو نعيم بن مسعود، وقوله: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] يعني أبا سفيان. ولما كان جبريل - عليه السلام - رئيسَ الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة؛ تعظيماً له.
قيل: الرئيس لا بدَّ له من أتباع، فلذلك أخبر عنه وعنهم، وإن كان النداء قد صدر منه - قاله الفضل بن سلمة - ويؤيد كون المنادي جبريل وحده قراءةُ عبد الله - وكذا في مصحفه - فناداه جبريل.(5/191)
والعطف بالفاء - في قوله «فَنَادَتْهُ» - مُؤذِنٌ بأن الدعاء مُتَعقب بالتبشير.
والنداء: رفع الصوت، يقال: نادَى ندَاء - بضم النون وكسرها - والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم، نحو البُكَاء، والصُّراخ، والدُّعاء، والرُّغاء.
وقيل: المكسور مصدر، والمصموم اسم. ولو عُكِسَ هذا لكان أبْيَنَ؛ لموافقته نظائره من المصادر.
قال يعقوب بن السكيت: إن ضمّيت نونه قصرته، وإن كسرتها مددته.
وأصل المادة يدل على الرفع، ومنه المنْتَدَى والنادي؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم. وقالت قريش: دار الندوة، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها، وفلان أنْدَى صَوْتاً من فلان - أي: أرفع - هذا أصله في اللغة، وفي العرف: صار ذلك لأحسنها نَغَماً وصوتاً، والنَّدَى: المَطَر، ومنه: نَدِيَ، يَنْدَى، ويُعَبَّر به عن الجود، كما يُعَبَّر بالمطر والغيث عنه استعارةً.
قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} جملة حالية من مفعول النداء، و «يُصَلِّي» يحتمل أوجهاً:
أحدها: أن يكون خبراً ثانياً - عند مَنْ يرى تَعَدُّدَه مطلقاً - نحو: زيدٌ شاعرٌ فقيهٌ.
الثاني: أنه حال من مفعول النداء، وذلك - أيضاً - عند مَنْ يجوِّز تعدُّدَ الحال.
الثالث: أنه حال من الضمير المستتر في «قَائِمٌ» فيكون حالاً من حال.
الرابع: أن يكون صفة لِ «قَائِمٌ» .
قوله: {فِي المحراب} متعلق ب «يُصَلِّي، ويجوز أن يتعلق ب» قَائِمٌ «إذا جعلنا يُصَلِّي حالاً من الضمير في» قَائِمٌ «؛ لأن العامل فيه - حينئذ - وفي الحال شيء واحد، فلا يلزم فيه فَصْل، أما إذا جعلناه خبراً ثانياً أو صفة لِ» قَائِمٌ «أو حالاً من المفعول لزم الفصلُ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبيٍّ. هذا معنى كلام أبي حيّان.
قال شِهَابُ الدِّيْنِ: والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع؛ فإن كُلاًّ من» قَائِمٌ «و» يصلِّي «يصح أن يتسلَّط على» فِي الْمِحْرَابِ «وذلك على أي وجهٍ تقدم من وجوه الإعراب.
والمحراب - هنا -: المسجد.
قوله: {إِنَّ الله} قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر» إنَّ «والباقون بفتحها، فالكسر عند الكوفيين؛ لإجراء النداء مُجْرَى القولِ، فيُكْسر معه، وند البصريين، على إضْمار القول - أي: فنادته، فقالت. والفتح والحذف - على حذف حرف الجر، تقديره: فنادته(5/192)
بأن الله، فلما حُذِفَ الخافض جَرَى الوجهان المشهوران في مَحَلِّها.
وفي قراءة عبد الله:» فنادته الملائكة يا زكريا «فقوله:» يا زكريا «هو مفعول النداء، وعلى هذه القراءة يتعين كسر» إن «ولا يجوز فتحُها؛ لاستيفاء الفعلِ معموليه، وهما الضمير وما نُودي به زكريا.
قوله: {يُبَشِّرُكَ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة في هذه السورة {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} - في موضعين - وفي سورة الإسراء:
{وَيُبَشِّرُ المؤمنين} [الإسراء: 9] وفي سورة الكهف: {وَيُبَشِّرُ المؤمنين} - بضم الياء، وفتح الباء، وكسر الشين مشددة - من بَشَّرَه، يُبَشِّرُه.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى، وهو قوله: {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ} [الشورى: 23] .
وقرأ الجميع - دون حمزة - كذلك في سورة براءة: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} [التوبة: 21] وفي الحجر - في قوله: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]- ولا خلاف في الثاني - وهو قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]- أنه بالتثقيل.
وكذلك قرأ الجميع - دون حمزة - في سورة مريم - في موضعين {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} [مريم: 7] وقوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين} [مريم: 97] . وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة، وسكون الياء وضم الشين.
وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفَضل، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلماتٍ، والقُرَّاء فيه على أربع مراتبٍ:
فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلُوا الجميعَ.
وحمزة خفّف الجميع إلا قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] .
وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميعَ إلا التي في سورة الشورَى فإنهما وافقَا فيها حمزة. والكسائي خفَّف خمساً منها، وثقَّل أربعاً، فخفَّفَ كلمتي هذه السورةِ، وكلمات الإسراء والكهفِ والشورَى. وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغاتٍ: بشَّر - بالتشديد - وبَشَرَ - بالتخفيف -.(5/193)
وعليه ما أنشده الفراء قوله: [الطويل]
1431 - بَشَرْتَ عِيَالِي إذْ رَأيْتَ صَحِيفَةً ... أتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
الثالثة: أبْشَرَ - رباعياً - وعليه قراءة بعضهم «يُبَشِّرُكَ» - بضم الياء.
ومن التبشير قول الآخر: [الكامل]
1432 - يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ ... هَلاَّ غَضِبْتَ لَنَا وَأنْتَ أمِيْرُ؟
وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو «فَبَشِّرْهُمْ» . {وَأَبْشِرُوا} [فصلت: 30] ، {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] . قالوا: {بَشَّرْنَاكَ بالحق} [الحجر: 55] . فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دونَ الماضي.
وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة.
قوله: {بيحيى} متعلق ب {يُبَشِّرُكَ} ولا بد من حذف مضاف، أي: بولادة يحيى؛ لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة، ولا بد في الكلام من حذف معمول قاد إليه السياقُ، تقديره: بولادة يحيى منك ومن امرأتك، دلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلامِ.
و «يحيى» فيه قولان:
أحدهما - وهو المشهور عند المفسِّرين -: أنه منقول من الفعل المضارع وقد سَمُّوا بالأفعالِ كثيراً، نحو يعيش ويعمر ويموت.
قال قتادة: «سُمِّي {بيحيى} لأن الله أحياه بالإيمان» .
وقال الزَّجَّاج: «حيي بالعلم» وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلميَّة ووزن الفعل، نحو يزيد ويشكر وتغلب.
والثاني: أنه أعجميّ لا اشتقاق له - وهو الظاهر - فامتناعه للعلمية والعُجْمَة الشخصية.
وعلى كلا القولين يُجْمَع على «يَحْيَوْنَ» بحَذْف الألف وبقاء الفتحةِ تدلّ عليها.
وقال الكوفيون: إن كان عربيَّا منقولاً من الفعل فالأمر كذلك، وإن كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو، وكسر ما قبل الياء؛ إجراءً له مُجْرَى المنقوص، نحو جاء القاضُون، ورأيت القاضِين، نقل هذا أبو حيّان نهم. ونقل ابنُ مالك عنم أن الاسم إن كانت ألفه زائدةً ضُمَّ ما قبلَ الواو، وكُسِرَ ما قبلَ الياءِ، نحو: جاء حبلون ورأيت حُبلِين، وإن كانت أصليةً نحو دُجَوْن وجب فتح ما قبل الحرفين.(5/194)
قالوا: فإن كان أعجمياً جاز الوجهان؛ لاحتمال أن تكون ألفهُ أصليةً أو زائدة؛ إذْ لا يُعْرَف له اشتقاق. ويصغر يحيى على «يُحَيَّى» وأنشد للشيخ أبي عمرو بن الحاجب في ذلك: [مجزوء الرمل]
1433 - أيُّها الْعَالِمُ بِالتَّصْرِ ... يفِ لا زِلْتَ تُحَيَّا
قَالَ قَوْمٌ: إنَّ يَحْيَى ... إنْ يُصَغَّرْ فَيُحَيَّا
وَأبَى قَوْمٌ فَقَالُوا ... لَيْسَ هَذَا الرَّأيُ حَيَّا
إنَّمَا كَانَ صَوَاباً ... لَوْ أجَابُوا بِيُحَيَّا
كَيْفَ قَدْ رَدُّوا يُحَيَّا ... أمْ تَرَى وَجْهاً يُحَيَّا؟
وهذا جارٍ مَجْرَى الألْغاز في تصغير هذه اللفظة، وذلك يختلف بالتصريف والعمل، وهو أنه لما اجتمع في آخر الاسم المصَغَّر ثلاثُ ياءاتٍ جرى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبةِ إلى الحَذْف والإثبات، وأصل المسألة تصغير «أحْوَى» ويُنْسَب إلى «يَحْيَى» «يَحْيَى» - بحذف الألف، تشبيهاً لها بالزائد - نحو حُبْلِيّ - في حُبْلَى - و «يَحْيَوِيّ» - بالقلب؛ لأنها أصل كألف مَلْهَوِيّ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً - و «يَحْيَاوِيّ» - بزيادة ألف قبل قَلْبِ ألفِهِ واواً.
وقرأ حمزة والكسائي «يَحْيَى» بالإمالة؛ لأجل الياء والباقون بالتفخيم.
قال ابن عباس: «سُمِّيَ» يَحْيَى؛ لأن اللهَ أحيا به عَقْرَ أمِّه.
وقال قتادة: لأن الله أحيا قلبه بالإيمان.
وقيل: لأن الله أحياه بالطاعة حتى إنه لم يَعْصِ اللهَ، ولم يَهِمّ بمعصيةٍ.
قال القرطبي: «كان اسمه - في الكتاب الأول - حَيَا، وكان اسم سارة - زوجة إبراهيم - يسارة، وتفسيره بالعربية: لا تلد، فلما بُشِّرَت بإسحاق قيل لها: سارة، سمَّاها بذلك جبريل - عليه السلام - فقالت: يا إبراهيم، لم نقص من اسمي حرف؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل - عليه السلام - فقال: إن ذلك حرف زيد في اسمِ ابنٍ لها من أفضل الأنبياء، اسمه حيا، فسُمِّي بيَحْيَى» .
قوله: {مُصَدِّقًا} حال من «يَحْيَى» وهذه حال مقدرة.(5/195)
وقال ابن عطية: «هي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» . و «بِكلِمةٍ» متعلق ب «مُصَدِّقاً» .
وقرأ أبو السّمال «بِكِلْمَةٍ» - بكسر الكاف وسكون اللام - وهي لغة صحيحة؛ وذلك أنه أتبع الفاء للعين في حركتها، فالتقى بذلك كسرتان، فحذف الثانيةَ؛ لأجل الاستثقال.
فصل
قيل: المراد بها الجمع؛ إذ المقصود التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المُنَزَّلة فعبَّر عن الجمع ببعضه، ومثل هذا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ» حيثُ قال: [الطويل]
1434 - ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِل..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وذكر جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الحُوَيْدِرَة فقال: لَعَنَ اللهُ كلمته - يعني قصيدته.
وقال الجمهور: الكلمة: هي عيسى عليه السلام.
قال السديُّ: لقيت أمُّ عيسى، أمَّ يَحيى - وهذه حامل بعيسى، وتلك حامل بيحيى - فقالت أم يحيى: أشعَرْتِ أني حُبْلَى؟ : فقالت: مريم: وأنا - أيضاً - حُبْلَى، قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك قوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} .
قال القرطبيُّ: «رُوِيَ أنها أحسَّت بجنينها يَخِرّ برأسه إلى ناحية بطن مريم» .
وقال ابن عبّاسٍ: إن يحيى كان أكبر سِنًّا من عيسى بستةِ أشهر.
وقيل: بثلاث سنين، وكان يحيى أول من آمن به وصدق بأنه كلمة الله وروحه.
وسمي عيسى عليه السلام كلمة. قيل: لأنه خُلِقَ بكلمة من الله {كُنْ فَيَكُونُ} من غير واسطة أب فسمي لهذا كلمة - كما يسمى المخلوق خَلْقاً، والمقدور قُدْرة، والمرجُوُّ رجاءً، والمشتَهَى شهوةً - وهو باب مشهور في اللغة.
وقيل: هو بشارة اللهِ مريم بعيسى - بكلامه على لسان جبريل عليه السَّلام.(5/196)
وقيل: لأنه تكلم ف يالطفوليَّة، وأتاه الكتاب في زَمَنِ الطفوليَّةِ، فلهذا كان بالغاً مبلغاً عظيماً، فسُمِّيَ كلمة كما يقال: فلان جود وإقبال - إذا كان كاملاً فيهما.
وقيل: لما وردت البشارةُ به في كتب الأنبياء قبله، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة - كما إذا أخبر عن حدوث أمر، فإذا حَدَث ذلك الأمر، قال: قد جاء قولي، وجاء كلامي - أي: ما كنت أقول، وأتكلم به - ونظيره قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار} [غافر: 6] وقوله: {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} [الزمر: 71] .
وقيل: لأن الإنسان قد يُسَمَّى ب «فضل الله» و «لطف الله» وكذلك عيسى كان اسمه كلمة الله وروح الله.
واعلم أن كلمة الله - تعالى - كلامه، وكلامه - على قول أهل السنة - صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاته وفي قول المعتزلة: صفة يخلقها الله في جسم مخصوص، دالة بالوضع على معاني مخصوصة.
وضروريّ حاصل بأن الصفة القديمة، أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال: إنها ذات عيسى، ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول، لم يَبْقَ إلا التأويل.
قوله: {مِّنَ الله} في محل جر؛ صفة ل «كَلِمَةٍ» فيتعلق بمحذوف، أي: بكلمة كائنة من الله {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً} أحوال أيضاً - كمصَدِّقاً. والسيد: فَيْعِل، والأصل سَيْود، ففُعِلَ به ما فعل ب «ميت» ، كما تقدم، واشتقاقه من سَادَ، يَسُودُ، سِيَادَةً، وسُؤدُداً - أي فاق نظراءه في الشرف والسؤدد.
ومنه قوله: [الرجز]
1435 - نَفْسٌ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما ... وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ والإقْدَامَا
وَصَيَّرَتْهُ بطلاً هُمَامَا
وجمعه على «فَعَلَة» شاذ قياساً، فصيح استعمالاً؛ قال تعالى: {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا} [الأحزاب: 67] .
وقال بعضهم: سُمي سيِّداً؛ لأنه يسود سَوَاد الناس أي: مُعْظَمهم وجُلَّهم. والأصل سَوَدَة، و «فَعَلَة» لِ «فاعِل» نحو كافِر وكفرة، وفاجِر وفَجَرَة، وبارّ وبررة.
وقال ابن عباس: السَّيِّد: الحليم.(5/197)
قال الجبائي: إنه كان سيداً للمؤمنين، ورئيساً لهم في الدين - أعني: في العلم والحلم والعبادة والورع.
قال مجاهدٌ: السَّيِّد: الكريم على الله تعالى.
وقال ابن المُسَيِّبِ: السيِّد: الفقيه العالم.
وقال عكرمة: السيد: الذي لا يغلبه الغضبُ.
وقيل: هو الرئيس الذي يتبع، ويُنتَهَى إلى قولهِ.
وقال المفضل: السيد في الدين.
وقال الضحاك: الحسن الخلق.
وقال سعيد بن جبير: هو الذي يُطيع ربَّه.
ويقول عن الضَّحَّاكِ: السيد: التقِيّ.
وقال سفيان: الذي لا يحسد.
وقيل: هو الذي يفوق قومَه في جميع خصال الخيرِ.
وقيل: هو القانع بما قسم الله له.
وقيل: هو السَّخِيّ.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ سَيدُكُمْ يَا بَنِي سَلمةَ» ؟ قالوا: جَد بن قَيْس على بُخْلِه، فقال: «وأي دواء أدوى من البخل، لكن سَيِّدَكم عمرو بن الجموح» وفي الآية بذلك دليل على جواز تسمية الإنسان سيداً كما تجوز تسميته عزيزاً وكريماً. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لبني قريظة: «قوموا إلى سيِّدكم» .(5/198)
وقال - في الحسن -: «إن ابني هذا سَيِّدٌ، فلعلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْن عَظِيْمَتين من المسلمين» .
قال الكسائي: السيّد من المَعْز: [الْمُسِّن] . وفي الحديث: «الثَّنِيُّ من الضَّأن خير من السَّيِّد مِن الْمَعْزِ الْمُسِنّ» .
وقال الشاعر: [الطويل]
1436 - سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَت لَهُ ... لِيَذْبَحَهَا للِضَّيْفِ أمْ شَاةُ سَيِّد
والحصور: فعول للمبالغة، مُحَوَّل من حاصر، كضروب.
وفي قوله: [الطويل]
1437 - ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا ... إذَا عَدِمُوا زاداً فَإنَّكَ حَاصِرُ
وقيل: بل هو فَعُول بمعنى: مفعول، أي: محصور، ومثله ركوب بمعنى: مركوب، وحلوب بمعنى: محلوب.
والحصور: الذي يكتم سره.
قال جرير: [الكامل]
1438 - وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أمَيْمَ ضَنِينَا(5/199)
وهو البخيل - أيضاً - قال: [البسيط]
1439 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئّارِ
وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء - إما لطبعه على ذلك، وإما لمغالبته نفسه - قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن: الحصور: الذي لا يأتي النساء ولا يقربُهُنَّ، وهو - على هذا - بمعنى فاعل، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات.
قال سعيد بن المُسيِّبِ هو العِنِّين الذي لا ماء له، فيكون بمعنى «مفعول» كأنه ممنوع من النساء.
واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد - مثل الشروب والظلوم والغشوم - والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائماً، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغِلْمَة. والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضاً فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء - والصفة التي ذكروها صفة نقص، وذكر صفة النقصان في معرِض المدحِ، لا يجوز، ولا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً.
فصل
احتجَّ بعضُهم - بهذه الآية - على أن ترك النكاح أفضل؛ لأنه - تعالى - مدحه بترك النكاح، فيكون تركه أفضل في تلك الشريعة، فيجب أن يكون الأمر كذلك في شريعتنا؛ للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] .(5/200)
وأمَّا المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان، والنسخ على خلاف الأصل.
وأجيبوا بأن هذا منسوخ بقوله - «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا» وقوله: «لا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإسلامِ» . وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأنبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، فَمَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .
وقولهم: النسخ على خلاف الأصل.
قلنا: مسلم إذا لم يُعْلَم الناسخُ، وقد علمناه.
قوله: {وَنَبِيًّا} اعلم أن السيادةَ إشارة إلى أمرين:
أحدهما: القدرة على ضبط مصالح الخَلْق فيما يرجع إلى تعليمِ الدين.
والثاني: ضبط مصالحهم في تأديبهم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
والحصور إشارة إلى الزهد التام، فلما اجتمعا حصلت النبوة؛ لأنه ليس بعدهما إلا النبوة.
قوله: {مِّنَ الصالحين} صفة لقوله: {وَنَبِيّاً} فهو في محل نصب، وفي معناه ثلاثة أوجهٍ:
الأول: معناه من أولاد الصالحين.
الثاني: أنه خَيِّر - كما يقال للرجل الخَيِّر: إنه من الصالحين.
الثالث: أن صلاحه كان أتمَّ من صلاح سائر الأنبياء؛ لقوله - عليه السلام -: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ عَصَى وَهَمّ بِمَعْصِيَةٍ إلاَّ يحيَى بن زكريا، فإنه لم يَعْصِ ولم يَهِمَّ بمعصيةٍ» .
فإن قيل: إن كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح، فما الفائدة في ذكر منصب الصلاح بعد ذكر النبوة؟
فالجواب: أن سليمان - بعد حصول النبوة - قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19] .(5/201)
وتحقيقه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر - بالنسبة إليهم - يجري مجرى حفظ الواجبات - بالنسبة إلينا - وبعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتُهم في الزيادة على ذلك القدر، فكلما كان أكثر نصيباً كان أعلى قَدْراً.
والله أعلم.
قوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} يجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها - حينئذ - وجهان:
أحدهما: « {أنى» لأنها بمعنى «كيف» أو بمعنى «مِنْ أيْنَ» ؟ ، و «لِي» - على هذا - تبيين.
والثاني: أن الخبر هو الجار والمجرور، و «كيف» منصوب على الظرف. ويجوز أن تكون التامة، فيكون الظرف والجار - كلاهما - متعلقين ب «يَكُونُ» ، أي: كيف يحدث لي غلام؟
ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «غُلاَمٌ» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له.
قوله: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} جملة حالية.
قال أهل المعاني: «كل شيء صادفتَه وبلغتَه فقد صادفكَ وبلغكَ» .
فلهذا جاز أن نقول: بلغتُ الكِبَرَ، وجاز أن تقول: بلغَنِي الكِبَرُ، يدل عليه قولُ العربِ: تلقيت الحائط وتلقاني الحائط.
وقيل: لأن الحوادث تطلب الإنسان. وقيل: هو من المقلوب، كقوله: [البسيط]
1440 - مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجرُ
فإن قيل: أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد؟
فالجواب: أنه لا يجوز، والفرق بينهما أن الكِبَر كالشيء الطالب للإنسان، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه - أيضاً - بمرور السنين عليه، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب، فظهر الفرقُ.
فصل
قدم في هذه السورة حال نفسه، وأخَّر حالَ امرأته، وفي سورة مريم عكس.
فقيل: لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه، واشتعالَ شيْبه، وخوفه مواليه ممن ورائه، وقال: «وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً» فلما أعاد ذِكْرَهما(5/202)
في استفهامه أخر ذِكْر الكِبَر، ليوافق رؤوس الآي - وهي باب مقصود في الفصاحة - والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانيًّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير.
فصل
الغلام: الفَتِيُّ السِّنِّ من الناس - وهو الذي بَقَلَ شَارِبُه - وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه، وأما الكهل، فباعتبار ما كان عليه.
قالت ليلى الأخيليّة: [الطويل]
1441 - شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلاَمٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا
وقال بعضهم: ما دام الولد في بطن أمِّه سُمِّي جَنِيناً، قال تعالى: {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا، فإذا فُطِمَ سمي غُلاماً إلى سبع سنين، ثم يُسَمَّى يافعاً إلى أن يبلغ عشر سنين، ثم يُطْلَق عليه حَزَوَّر إلى خمس عشرة سنة، ثم يصير قمراً إلى خمس وعشرين سنةً، ثم عنطْنَطاً إلى ثلاثين.
قال الشاعر: [الطويل]
1442 - وَبِالْمَخْضِ حَتَّى صَارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً ... إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ
ثم حَلْحَلاً إلى أربعين، ثم كَهْلاً إلى خمسين - وقيل: إلى ستين - ثم شيخاً إلى ثمانين، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله: {فِي المهد وَكَهْلاً} [آل عمران: 46] ثم هو راغم بعد ذلك.
واشتقاق «الغلام» من الغِلْمَة والاغتلام، وهو طلب النكاح، لما كان مسبباً عنه أخذ منه لفظه.
ويقال: اغتلم الفَحْلُ: أي: اشتدت شهوتُه إلى طلب النكاح، واغتلم البحر، أي: هاج وتلاطمت أمواجه، مستعار منه.
وجمعه - في القلة - أغْلِمَةٌ، وفي الكثرة: غِلْمان، وقد جمع - شذوذاً - على غِلْمَة، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع؟
قال الفراء: «يقال: غلام بيِّن الغلومة والغلومِيَّة والغُلامية، قال: والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون: عبد بَيِّنُ العبودية والعُبَاديَّة - يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل -» .
قال القرطبي: والغَيْلم: ذكر السلحفاة، والغَيْلم: موضع.(5/203)
وهي مصدر كَبِر يَكْبَر كِبَراً أي: طعن في السِّنِّ، قال: [الطويل]
1443 - صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أنَّنَا ... إلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ
فصل
قال الكلبيُّ: كان زكريا - يوم بُشِّر بالولد - ابن ثنتين وتسعين سنة.
وقيل: ابن ثنتين وسبعين سنة.
وروى الضحاك - عن ابن عباسٍ - قال: كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنةً.
فإن قيل: قوله: {رَبِّ أنى يَكُونُ} خطاب مع الله، أو مع الملائكة، وليس جائزاً أن يكون مع الله تعالى؛ لأن الآية المقدمةَ دلَّت على أن الذين نادَوْه هم الملائكةُ، وهذا الكلام، لا بُدَّ أن يكون خطاباً مع ذلك المنادَى لا مع غيره، وليس جائزاً أن يكون خطاباً مع الملك؛ لأنه لا يجوز أن يقول الإنسان للملك: يا رب، فذكر المفسّرون فيه جوابَيْنِ:
أحدهما: أن الملائكة لما نادَوه وبَشَّروه تعجَّب زكريا، ورجع في إزالة ذلك التعجُّب إلى الله - تعالى -.
الثاني: أنه خطاب مع الملائكة، والربُّ إشارة غلى المربِّي، ويجوز وَصْف المخلوقِ به، فإنه يقال: فلان يربيني ويُحْسِن إليَّ.
فإن قيل: لم قال زكريا - بعدما وعده الله وبشره بالولد -: «أنى يكون لي غلام» أكان ذلك عنده محال أو شَكًّا في وعد الله وقدرته؟
فالجواب: من وجوهٍ:
أحدها: إن قلنا: معناه من أين؟ هذا الكلام لم يكن لأجل أنه لو كان لا نُطْفَةَ إلا مِن خَلْق، ولا خَلْقَ إلا من نطفة، لزم التسلسل، ولزم حدوث الحوادث في الأزل - وهو محال - فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله - تعالى - لا من نطفة، أو من نطفة خلقها اللهُ - تعالى - لاَ مِنْ إنسان.
[ثانيها] : يحتمل أن زكريَّا طلب ذلك من الله - تعالى - فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لَمَا طلبه من الله - تعالى -.
وإذا كان معنى «أنَّى» : كيف، فحدوث الولد يحتمل وجهين:
أحدهما: أي منع شيخوخته، وشيخوخة امرأته، أو يجعله وامرأته شابين، أو يرزقه الله(5/204)
ولداً من امرأة أخْرَى، فقوله: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} معناه: كيف تعطيني الولد؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهماً لا شاكاً. قاله الحسنُ والأصمّ.
وثانيهما: أن من كان آيساً من الشيء مستبعِداً لحصوله ووقوعه، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرحِ، ويقول: كيف حصل هذا؟ ومن أين وقع؟ كمن يرى إنساناً وَهَبَ أموالاً عظيمة، يقول: كيف وَهَبَ هذه الأموالَ؟ ومن أين سَمَحَتْ نفسك بِهبَتِهَا. كذا هنا.
الثالث: أن الملائكة لما بشَّروه بيحيى، لم يعلم أنه يُرزَق الولد من جهة أنثى، أو من صُلْبه، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال.
الرابع: أن العبد إذا كان في غاية الاشتياقِ إلى شيء يطلب من السيد، ثم إن السيد يَعِدُه بأنه سيعطيه، فعند ذلك يلتذُّ السائلُ بسماعِ ذلك، فربما أعاد السؤال؛ ليُعِيدَ ذلك الجواب، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام.
الخامس: نقل عن سفيان بن عيينة قال: كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارةِ، فلما سمع البشارة - زمان الشيخوخة - استبعد ذلك - على مجرى العادة لا شكًّا في قدرة الله - تعالى -.
السادس: قال عكرمة والسُّدِّيُّ: إنَّ زكريا - عليه السلام - جاءه الشيطان عند سماع البشارة، فقال يا زكريا إن هذا لصوت من الشيطان - وقد سخر منك - ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور، فقال زكريا ذلك؛ دَفْعاً للوسوسة، ومقصوده من هذا الكلام أن يُرِيَه الله آيةً تدل على ن ذلك الكلامَ من الوَحْيِ والملائكة لا من إلقاء الشيطانِ.
قال القرطبي: لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطينِ عند الأنبياء عليهم السلام؛ إذْ لَوْ جوَّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع.
ويمكن أن يُجاب بأنه لمَّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة، ولا مَدْخَل للشيطان فيه، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات. فلا جرم [بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان] ، فرجع إلى الله - تعالى - في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال.(5/205)
قوله: {وامرأتي عَاقِرٌ} جملة حالية، إما من الياء في «لِي» فيتعدد الحال - عند مَنْ يراه - وإما من الياء في «بَلَغَنِي» ، والعاقر: مَنْ لا يولد له رجلاً كان أو امرأة، مشتقاً من العَقْر، وهو القتل، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده، والفعل - بهذا المعنى - لازم، وأما عَقَرْتُ - بمعنى «نَحَرْت» فمُتَعَدٍّ.
قال تعالى: {فَعَقَرُواْ الناقة} [الأعراف: 77] .
وقال الشاعر: [الطويل]
1444 - ... ... ... ... ... ... ... . ... عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
وقيل: عاقر - على النسب - أي: ذات عقر، وهي بمعنى مفعول، أي: معقورة، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث، والعَُقْر بفتح العين وضمها - أصل الشيء، ومنه عقر الدار، وعقر الحوض، وفي الحديث: «ما غُزِيَ قَوْمٌ قَطٌّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا» وعقرته، أي: أصبت عقره، أي: أصله - نحو رأسته، أي أصبت رأسه، والعقر - أيضاً - آخر الولد، وكذلك بيضة العَقر، والعقار: الخمر لأنها تعقر العقل - مجازاً - وفي كلامهم رفع فلان عقيرته، أي: صوته، وذلك أن رَجَلاً عُقِرَ رجله فرفع صوته، فاستُعِير ذلك لكلّ من رفع صوته. وقال: وأنشد الفراء: [الرجز]
1445 - أرْزَامُ بَابٍ عَقُرَتْ أعْوَامَا ... فَعَلَّقَتْ بُنَيَّهَا تَسْمَامَا
وقال بعضهم: يقال: عَقُرت المرأةُ تعقُر عَقْراً وعَقَاراً ويقال: عَقُر الرجل وعَقَر وعَقِرَ إذا لم تَحْبَل زوجته، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة.
قال الزّجّاج: عاقر بمعنى ذات عُقر قال: لأن فَعُلْت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة، وكريمة، وإنما عاقر على ذات عُقْر، قلت: وهذا نص في أن الفعل(5/206)
المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عَقُرَتْ - بضم القاف؛ إذْ لَوْ جاز فَتْحها، أو كسرها لجاء منهما فَاعِل - من غير تأويل على النسب، ومن ورود عاقر وصفاً للرجل قول عامر بن الطفيل: [الطويل]
1446 - لَبِئْسَ الْفَتَى إنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراً ... جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ
قال القرطبيُّ: «والعاقر: العظيم من الرمل، لا يُنْبِت شيئاً، والعُقْر - أيضاً - مهر المرأة إذا وطئت بِشُبْهَةٍ وبَيْضَةُ الْعُقْر: زعموا أنها بيضة الديك، لأنه يبيض في عمره بيضةً واحدةً إلى الطول، وعقر النار - أيضاً - وسطها ومعظمها وعقر الحوض: مُؤخِّره - حيث تقف الإبل إذا وردت» .
قوله: {قَالَ كَذَلِكَ} هذا القائل هو الرب المذكور في قوله: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون هو الله تعالى وأن يكون هو جبريل - عليه السلام.
قوله: {كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} في الكاف وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب، وفيه التخريجان المشهوران:
الأول - وعليه أكثر المعربين -: أنها نعت لمصدر محذوف، وتقديره يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة، مثل ذاك الفعل، وهو خلق الولد بين شيخ فَانٍ وعجوز عاقرٍ.
والثاني أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدرِ، أي: يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك وهو مذهب سيبويه، وقد تقدم إيضاحه.
الثاني - من وجهي الكاف -: أنها في محل رفع خبر مقدَّم، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر، فقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة لله، ويفعل ما يشاء بيان له، وقدره ابن عطية: «كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله» .
وقدّره أبو حيّان، فقال: «وذلك على حذف مضاف، أي: صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع، فيكون {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة» .
فالكلام - على الأول - جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان.
وقال ابن عطية: «ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته، كأنه قال: رَبِّ على أيّ وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال لهما: كما أنتما يكون لكما الغلام، والكلام تام، على هذا التأويل - في قوله» كذلك «، وقوله: {الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} جملة مبيِّنة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب» .(5/207)
وعلى هذا الذي ذكره يكون «كَذَلِكَ» متعلقاً بمحذوف، و «اللهُ يَفْعَلُ» جملة منعقدة مع مبتدأ وخبر.
قوله: {اجعل لي آيَةً} يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير، فيتعدى لاثنين: أولهما «آية» ، الثاني: الجار قبله، والتقديم - هنا - واجب؛ لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة - وهي آية - أي: لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار، وحكمها بعد دخول الناسخ حكمها قبله، والتقدير: صير آية من الآيات لي، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد - أي: أوجد لي آية - فيتعدى لواحد، وفي «لِي» - على هذا - وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بالجَعْل.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «آيةً» ؛ لأنه لو تأخَّر لجاز أن يقع صفة لها. ويجوز أن يكون للبيان.
وحرك الياء - بالفتح - نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون.
فصل
المراد بالآية: العلامة، أي: علامة أعلم بها وقتَ حضمْل امرأتي، فأزيد في العبادة شكراً لذلك، وذكروا في الآية وجوهاً:
أحدها: أنه - تعالى - حبس لسانه ثلاثة أيامٍ، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً؛ وهو قول أكثر المفسّرين، وفيه فائدتان:
إحداهما: أن يكون ذلك دليلاً على علوق الولد.
والثانية: أنه تعالى - حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقْدَره على الذكر، والتسبيح، والتهليل، فيكون في تلك المدةِ مشتغِلاً بذكر الله - تعالى - وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة.
واعلم أن اشتمالَ تلك الْوَاقِعَةِ على المعجزة من وجوهٍ:
أحدها: أن قدرته على التكلُّم بالتسبيح والذكر، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا من أعظم المعجزات.
وثانيها: أن حصول تلك المعجزة في تلك الأيامِ المقدرة - مع حصول البنية واعتدال المزاج - معجزة ظاهرة.
ثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة، فقد حصل الولد، ثُم إنَّ الأمر خرج على وفق هذا الخبر.(5/208)
الثاني: قال أبو مسلم: إنّ زكريا لما طلب من الله آيةً تدل على علوق الولد، قال تعالى: آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ بلياليها مع الخلق، وأن تكون مشتغلاً بالذكر، والتسبيح، والتهليل، معرضاً عن الخلق والدنيا؛ شكراً لله - تعالى - على إعطاء مثل هذه الموهبة، فإن كانت لك حاجة دُلَّ عليها بالرمز، فإذا أمرت بهذه الطاعة فقد حصل المطلوب.
الثالث: قال قتادة: أمسك لسانه عن الكلام؛ عقوبة لسؤاله الآية - بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة - فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام.
وقوله: {أَلاَّ تُكَلِّمَ} «أن» وما في حَيِّزها في محل رفع؛ خبراً لقوله: {آيَتُكَ} أي آيتك عدم كلامك الناس. والجمهور على نصب «تُكَلِّمَ» بأن المصدرية.
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، وفيه وجهان:
أحدهما: أن تكون «أن» مخففة من الثقيلة، واسمها - حينئذ - ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيَّة بعدها في محل رفع، خبراً لِ «أن» ومثله: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ} [طه: 89] وقوله: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [المائدة: 71] ووقع الفاصل بين «أن» والفعل الواقع خبرها حرف نفي، ولكن يُضعف كونَها مخفَّفةً عدمُ وقوعها بعد فعل يقين.
والثاني: أن تكون «أن» الناصبة حُمِلَتْ على «ما» أختها، ومثله: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] و «أن» وما في حيزها - أيضاً - في محل رفع، خبراً ل «آيتك» .
قوله: {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف، خلافاً للكوفيين، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به.
وقيل: وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها، فحذف، كقوله تعالى: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ونظائره؛ يدل على ذلك قوله - في سورة مريم - {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم: 10] وقد يقال: إنه يؤخذ المجموع من الآيتين، فلا حاجة إلى ادعاء حذف؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه - يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرىك ثلاث ليال وأيامها.
قوله: {إلاَّ رَمْزًا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء منقطع؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام، إذ الرمز الإشارة بعَيْن، أو حاجب أو نحوهما، ولم يذكر أبو البقاء غيره.
وبه بدأ ابن عطية مختاراً له، فإنه قال: «والمراد بالكلام - في الآية - إنما هو النطق(5/209)
باللسان لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الاستثناء، منقطع، ثم قال: وذهب الفقهاءُ إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيْمَان ونحوها؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً» .
والوجه الثاني: أنه متصل؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معانٍ: الرمز والإشارة من جملتها.
أنشدوا: [الطويل]
1447 - إذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ ... رَدَدتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ
وقال آخر: [الطويل]
1448 - أرَادَتْ كَلاَماً فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا ... فَلَمْ يَكُ إلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ
وهو مستعمل، قال حبيب: [البسيط]
1449 - كَلَّمْتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ ... فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ
وبهذا الوجه بدأ الزمخشريُّ مختاراً له، قال: «لما أدى مؤدَّى الكلام، وفُهِم منه ما يُفْهَم سُمِّي كلاماً، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً» .
والرمز: الإشارة والإيماء بعين، أو حاجب أو يَدٍ - ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمُسَبِّحة ومنه قيل للفاجرة: الرَّمَّازة، والرمَّازة، وفي الحديث: «نَهَى عَنْ كَسْبِ الرَّمَّازَةِ» ، يقال منه: رمزت ترمُز وترمِز - بضم العين وكسرها في المضارع.
وأصل الرمز: التحرك، يقال: رمز وارْتَمز أي: تحرَّك، ومنه قيل للبحر: الراموز، لتحركه واضطرابه.
وقال الراغب: «الرمز: الإشارة بالشفة والصوت الخفي، والغمز بالحاجب. وما ارمَازَّ: أي ما تكلم رمزاً، وكتيبه رمَّازة: أي: لم يُسْمَع منها إلا رَمزاً؛ لكثرتها» .
ويؤيد كونه الصوت الخفي - على ما قاله الراغب - أنه كان ممنوعاً من رفع الصوت.
قال الفراء: «قد يكون الرمز باللسان من غي أن يتبيَّن، وهو الصوت الخفي، شبه الهَمْس» .(5/210)
وقال عطاء: أراد صوم ثلاثة أيامٍ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزاً.
وقرأ العامة: «رمزاً» - بفتح الراء وسكون الميم - وقرأ يحيى بن وثَّابِ وعلقمة بن قيس «رُمُزاً» بضمها - وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر على «فُعْل» - بتسكين العين - في الصل، ثم ضُمَّتِ العين؛ إتباعاً، كقولهم اليُسُر والعُسُر - في اليُسْر والعُسْر - وقد تقدم كلام أهل التصريف فيه.
والثاني: أنه جمع رموز - كرُسُل في جمع رسول - ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
وقال أبو البقاء: «وقرئ بضمها - أي: الراء - وهو جمع رُمُزَة - بضمتين - وأقر ذلك في الجمع. ويجوز أن يكون مسَكَّنَ الميم - في الأصل - وإنما أتبع الضمُّ الضَّمَّ.
ويجوز أن يكون مصدراً غير جمع، وضُمَّ، إتباعاً، كاليُسُر واليُسْر» .
قال شهاب الدين: قوله: «جمع رُمُزة» إلى قوله: في الصل؛ كلام لا يفهم منه معنى صحيح.
وقرأ الأعمش: «رَمَزاً» بفتحهما.
وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز - كخادم وخَدَم - وانتصابه على هذا - على الحال من الفاعل - وهو ضمير زكريا - والمفعول معاً - وهو الناس - كأنه قال: إلا مترامزين، كقوله: [الوافر]
1450 - مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ ... رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا
وكقوله: [الكامل]
1451 - فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ ... أَيِّي وَأيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ؟
قوله: «كَثِيراً» نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضمير ذلك المصدر، أو نعت لزمان محذوف تقديره: ذِكْراً كثيراً، أو زماناً كثيراً، والباء في قوله: «بِالْعَشِيِّ» بمعنى «فِي» أي: في العشي والإبكار.
والعشي: يقال من وقت زوال الشمس إلى مَغيبها، كذا قال الزمخشريُّ.(5/211)
وقال الراغب: «العشيُّ من زوال الشمسِ إلى الصباحِ» . والأول هو المعروف.
قال الشاعر: [الطويل]
1452 - فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَ الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ
وقال الواحديُّ: «العَشِيّ: جمع عشية، وهي آخر النهارِ» .
والعامة قرءوا: «والإبْكَارِ» بكسر الهمزة، وهو مصدر أبكر يُبْكِر إبكاراً - أي: خرج بُكْرَةً، ومثله: بَكَرَ - بالتخفيف - وابتكر.
قال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
1453 - أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنْتَ غَادٍ فَمُبْكر..... ... ... ... ... ... ... . .
وقال: [الخفيف]
1454 - أيُّهَا الرَّائِحُ المُجِدُّ ابْتِكَاراً..... ... ... ... ... ... ... .
وقال أيضاً: [الطويل]
1455 - بَكَرْنَ بُكُوراً وَاسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ
وقرئ شاذاً «والأبْكَار» - بفتح الهمزة - وهو جمع بَكَرَ - بفتح الفاء والعين - ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرُّف، فلا يُستعمَل غيرَ ظرف، تقول: أتيتك يوم الجمعة بَكَر. وسبب مَنْع صَرْفه التعريفُ والعدل عن «أل» . فلو أرِيدَ به وقت مُبْهَم انصرف نحو أتيتك بكراً من الأبكار ونظيره سحر وأسْحار - في جميع ما تقدم.
وهذه القراءة تناسب قوله: {بالعشي} عند من يجعلها جمع عَشِيَّة؛ ليتقابل الجَمْعَان.
ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.(5/212)
وقال الراغب: أصل الكلمة هي البكرة - أول النهار - فاشتقَّ من لفظه لفظُ الفعل، فقيل: بكر فلان بُكُوراً - إذا خرج بُكْرَةً. والبَكور: المبالغ في البكور، وبَكَّر في حاجته، وابتكر وبَاكَر. [وتصور فيها] معنى التعجيل؛ لتقدُّمِها على سائر أوقاتِ النهار فقيل لكل مُتَعَجِّل: بَكَّر.
وظاهر هذه العبارة أن البَكَر مختص بطلوع الشمس إلى الضُّحَى، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى فإنه على خلاف الأصلِ.
وقد صرح الواحديُّ بذلك، فقال: «هذا معنى الإبكارِ، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجر إلى الضُّحَى إبكاراً كما يسمى إصْبَاحاً» .
فصل
قيل: المراد بالذكر الكثير: الذكر بالقلب، وقوله: {وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} محمول على الذكر باللسان.
وقيل: المراد بالتسبيح: الصلاة؛ لأنها تسمى تسبيحاً، قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] . ومنه سمي صلاة الظهر والعصر: صلاتي العشيّ.(5/213)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
إن شئت جعلتَ «إذ» نسقاً على الظرف قبله - وهو قوله: {إِذْ قَالَتِ امرأة عِمْرَانَ} [آل عمران: 35] ،(5/213)
وإن شئت جعلته منصوباً بمقدّر، قاله أبو البقاء.
وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} ، - دون تاء تأنيث، وتقدم توجيهه في «فناداه الملائكة» - ومعمول القول الجملة المؤكدة ب «إنَّ» - من قوله: {إِنَّ الله اصطفاك} - وكرر الاصطفاء؛ رَفْعاً من شأنها.
قال الزمخشريُّ: «اصطفاك أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أمِّكِ، وربَّاكِ، واختصك بالكرامة السنية، واصطفاك آخراً على نساء العالمين، بأن وَهَبَ لكِ عيسى من غير أبٍ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء» .
واصطفى: «افتعل» من الصفوة أبدلت التاء طاءً؛ لأجل حرف الإطباق كما تقدم تقريره في البقرة، وتقدم سبب تعديه ب «على» وإن كان أصل تعديته بمن.
وقال أبو البقاء: «وكرر اصطفى إما توكيداً وإما لتبيين من اصطفاها عليهم» .
وقال الواحديُّ: «وكرَّر الاصطفاء؛ لأنّ كلا الاصطفاءين يختلف معناهما، فالاصطفاء الأول عموم يدخل فيه صوالح النساءِ، والثاني: اصطفاءٌ بما اختصت به من خصائصها» .
فصل
المراد بالملائكة - هنا جبريل وحده كقوله: {يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ1764;اْ} [النحل: 2] يعني: جبريل وإنما عدلنا عن الظاهر؛ لأن سورةَ مريمَ دلت على أن المتكلمَ مع مريم عليه السلام هو جبريلُ؛ لقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17] .
فصل
اعلم أن مريمَ - عليها السلامُ - ما كانت من الأنبياء، لقوله تعالى {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] ، وهذا الاستدلالُ فيه نظرٌ؛ لأن الإرسالَ ليس هو المدَّعَى، وإنما المدَّعَى هو النبوة، فإنَّ كلَّ رسول نبيٌّ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولاً، وإذا كان كذلك كان إرسالُ جبريلَ إليها إمَّا يكون كرامةً لها - وهو مذهب مَنْ يُجوز كرامات الأولياء - وإرهاصاً لعيسى، والإرهاص: هو مقدمة تأسيسِ النبوةِ، وإما أن يكون معجزةً لزكريا عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة.
وقال بعضهم: إن ذلك كان على سبيل النفث في الرَّوع، والإلهام، والإلقاء في القلب، كما كان في حقِّ أم موسى - عليه السلام - في قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] .
فصل
قيل: المرادُ بالاصطفاء الأول أمور:(5/214)
أحدها: أنه - تعالى - قبل تحريرها - مع كونها أنثى - ولم يحصل هذا لغيرها.
وثانيها: قال الحسنُ: إن أمَّها لما وضعتها ما غذَّتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، فكان رزقُها يأتيها من الجَنَّةِ.
وثالثها: أنّه - تعالى - فرَّغها لعبادته، وكفاها أمر رِزقها.
ورابعها: أنه - تعالى - أَسْمَعَها كلام الملائكة شِفَاهاً، ولم يتَّفِق ذلك لأُنْثَى غيرها.
فصل
وفي التطهير أيضاً وجوه:
أحدها: أنه - تعالى - طهرها عن الكفر والمعصية، كقوله تعالى في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
{وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] .
وثانيها: طهرها عن مسيس الرجال.
وثالثها: طهرها عن الحيض والنفاس.
ورابعها: طهرها عن الأفعال الخسيسة.
وخامسها: طهرها عن مقال اليهود وكذبهم وافترائهم. وأما الاصطفاء الثاني، فالمراد منه أنه - تعالى - وَهَبَ لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأَنْطَق عيسى حين انفصاله منها وحين شَهِد لها ببراءتها من التهمة، وجعلها وابنها ىية للعالمين. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَان، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ» رواه وكيع وأشار وكيع إلى السماء والأرض.
وعن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ ابْنَة عمران، وآسِية امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَة عَلَى سائِر النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» .
وعن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «حَسْبُك مِنْ نِسَاء العَالَمِين أَرْبَعٌ: مَرْيم بِنْتُ عِمْرانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» .(5/215)
وقيل: دلَّ هذا الحديثُ على أن هؤلاء الأربع أفضلُ من سائر النساء، وهذه الآية دلت على أنَّ مريم عليها السلام أفضل من الكُلِّ. وقَول مَنْ قال: «المراد أنها مُصْطَفَاةٌ على عالمي زمانها، فهذا تَركٌ للظاهر. وروى موسى بن عقبة عن كُريب عن ابن عباسٍ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» سَيِّدَةُ نساءِ العَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَة، ثُمَّ خَدِيْجَةُ، ثُمَّ آسيَةُ «حديث حسن.
قال القرطبي: خصَّ الله مريَم بما لم يؤتهِ أحداً من النساء؛ وذلك أن رُوحَ القدس كلَّمها، وظهر لها ونفخ في دِرْعها، ودنا منها للنفخة، وليس هذا لأحد من النساء، وصدَّقت بكلمات ربِّها، لم تَسأَلْ آيةً عندما بُشرَت - كما سأل زكريا - من الآية، ولذلك سمَّاها الله - تعالى - في تنزيله: صِدِّيقةً، قال» وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ «وقال: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق بكلمات البشرى، وشهد لها بالقنوت؛ ولما بُشِّرَ زكريا بالغلام لحظ إلى كِبَر سِنِّه، وعقم رحم امرأته فقال: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40] ، فسأل آية. وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر، ولم يَمْسَسْها بَشَر، فقيل لها كذلك قال رَبُّكِ فاقتصرت على ذلك، وصدَّقت بكلمات ربها، ولم تسأل آية، فمن يَعْلم كُنه هذا الأمر، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدمَ ما لها من هذه المناقب؟
قوله: {يا مريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} تقدم الكلام في القنوت عند قوله تعالى:
{وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وأنه طول القيام.
فإن قيل: لِمَ قدم ذكر السجود على الركوع؟
فالجواب من وجوهٍ:
أحدها: أن الواو تفيد التشريك لا الترتيبَ.
الثاني: أن غاية قُرْب العبد من ربه إذا كان ساجداً، فلما اختص السجود بهذه الفضيلة قُدِّم على بَاقِي الطَّاعَاتِ.
الثالث: قال ابنُ الأنباري: «قوله تعالى: {اقنتي لِرَبِّكِ} أمر بالعبادة على العموم، وقوله بَعْدَ ذلك: {واسجدي واركعي} يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، وليس المراد أن تجمع بينهم، ثم تقدم السجود على الركوعِ» .
الرابع: أن الصلاة تسمى سجوداً - كما قيل في قوله: {وَأَدْبَارَ السجود} [ق: 40] وفي الحديث: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» .
وأيضاً قال: فالسجود أفضل أجزاء الصلاة، وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه مجاز مشهور.(5/216)
وإذا ثبت ذلك فقوله: {يامريم اقنتي} معناه: قومي، وقوله: {واسجدي} أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد، وقوله: {واركعي مَعَ الراكعين} أمر بالخضوع، والخشوع بالقلب.
الخامس: لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّماً على الركوع. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: واركعي مع الراكعات؟
فالجواب: لأن الاقتداء بالرجل - حال الاختفاء من الرجال - أفضل من الاقتداء بالنساء.
وقيل: لأنه أعم وأشمل.
قال المفسّرون: لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات - شفاهاً - لمريم قامت في الصّلاة، حتى تورمت قدماها، وسالت دماً وقَيْحاً.
وقوله: {واركعي مَعَ الراكعين} قيل: معناه: افعلي كفعلهم.
وقيل: المراد به الصلاة الجامعة.
قوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ} يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يكون «ذَلِكَ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، وتقديره: الأمر ذلك. و {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} متعلقاً بما بعدَه، وتكون الجملة من «نُوحِيهِ» - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها، وإما حالاً.
الثاني: أن يكون «ذَلِكَ» مبتدأ، و {مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} خبره، والجملة من «نُوحِيهِ» مستأنفة، والضميرُ من «نوحِيهِ» عائد على الغيب، أي: الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في «نُوحِيهِ» . وهذا أحسن من عَوْده على «ذَلِكَ» ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص، وما لم يتقدم منها، ولو أعدته على «ذَلِكَ» اختص بما مَضَى وتقدم.
الثالث: أن يكون «نُوحِيهِ» هو الخبر و {مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك، أو متعلقاً ب «نُوحِيه» .
ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول «نُوحِيهِ» أي: نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ.
فصل
الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة.(5/217)
كما في قوله: [الطويل]
1456 - ... ... ... ... ... ... . ... فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا
وقال تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 11] . ويكون بالكتابة، قال زهير: [الطويل]
1457 - أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ ... بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ
ويطلق الوحي على الشيء المكتوب، قال: [الكامل]
1458 - فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ... خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا
قيل: الوُحِيّ: جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً.
قال القرطبيُّ: «وأصل الوحي في اللغة: إعلام في خفاءٍ» .
وتعريفُ الوحي بأمر خفي من غشارة، أو كتابة، أو غيرها، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً، كقوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] وقال - في الشياطين -: {لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ} [الأنعام: 121] وقال: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 11] ، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً.
قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبراً.
والثاني - وإليه ذهب الفارسي -: أنه منصوب ب «كُنْتَ» . وهو منه عجيب؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدثِ، فكيف يعمل في الظرف، والظرف وعاء للأحداث؟
والذي يظهر أن الفارسيَّ إنما جوَّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مراداً في الآية، وهو أن تكون «كان» تامة بمعنى: وما وُجدتَ في ذلك الوقت.
والضمير في «لَدَيْهِمْ» عائد على المتنازعين في مريم - وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ -؛ لأن السياقَ قد دلّ عليهم.
فإن قيل: لم نُفِيَت المشاهدةُ - وانتفاؤها معلوم بالضرورة - وتُرِك نفي استماع هذه الأنباء من حُفَّاظِها، وهو أمر مجوز؟(5/218)
فالجواب: أن هذا الكلامَ ونحوه، كقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور} [القصص: 46] وقوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ} [يوسف: 102] وقوله: {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا} [هود: 49]- وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جار مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك، ولم تُدارِس أحداً في العلم، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي.
ومعنى الآية: ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك، وذلك دليلٌ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك. ثم قال: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي: وما كنت يا محمد بحضرتهم {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ} .
أقلام: جمع قَلَم، وهو فَعَل بمعنى مفعول، أي: مَقْلُوم.
والقَلْمُ: القَطْع، ومثله: القبض بمعنى المقبوض، والنقض بمعنى المنقوض، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة.
وقيل له: قَلَم؛ لأنه يُقْلَم، ومنه قلمت ظفري - أي: قطعته وسويته.
قال زهير: [الطويل]
1459 - لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وقيل: سمي القَلَمُ قَلَماً، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف.
فصل
في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ:
أحدها: التي يُكْتَب بها، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء، فالحقُّ معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك، فسلموا الأمر له، وهذا قول الأكثرين.
الثاني: قال الربيع: ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء.
الثالث: قال ابو مسلم: هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة، يكتبون عليها أسماءَهُمْ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر، قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين} [الصافات: 141] . وإنما سميت هذه السهامُ أقْلاَماً؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً.(5/219)
واختلفوا فيهم، فقيل: هم سَدَنَةُ البيت، وقيل: هم العلماء والحبار وكُتَّاب الوَحْي.
قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} هذه الجملة منصوبة المحل؛ لأنها مُعَلقة لفعل محذوف، ذلك الفعل في محل نصب على الحال، تقديره: يُلْقُون أقلامَهم ينظرون - أو يعلمون - أيهم يكفل مريم.
وجوز الزمخشريُّ: أن يقدَّر ب «يقولون» فيكون مَحْكيًّا به، ودل [على ذلك] قوله، يُلْقُون.
وقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} كقوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون} .
فصل
اختلفوا في السبب، الذي لأجله رغبوا في كفالتها، حتى تنازعوا فيها:
قيل: لن أباها عمرانَ كان رئيساً لهم، ومتقدِّماً فيهم، فلأجل حَقِّ أبيها رغبوا في كفالتها.
وقيل: لأن أمَّها حرَّرَتْها لعبادة الله - تعالى - ولخدمة بيته، فلأجْل ذلك حرصوا على التكفُّل بها. وقيل: لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى مبيَّناً في الكتب الإلهيةِ، فلهذا السببِ اختصموا في كفالتها.
فصل
دلت هذه الآية على إثبات القُرْعة، وهي أصل في شَرْعِنا لكل من أراد العدل في القسمة.
قال القرطبيُّ: وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظِّنَّةُ عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحدٌ منهم على صاحبه، وقد ورد الكتاب والسنة بالقرعة، وقال أبو حنيفة وأصحابه؛: لا معنى لها، وزعموا أنها تُشْبِه الأزلام التي نَهَى اللهُ عنها.
قال أبو عبيد: «وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ومحمد صلّى الله عليهم وسلّم» .
قال ابنُ المُنْذِرِ: «واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء» .
فصل
قال القرطبيُّ: دلَّتْ هذه الآية على أن الخالةَ أحقُّ بالحضانةِ من سائر الْقَرَابَاتِ ما(5/220)
عدا الجَدَّة، وقد قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بابنة حمزة لجعفر - وكانت خالتها عنده - وقال:
«الخالة بِمَنْزِلَةِ الأمِّ» .
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} في هذا الظرف أوجهٌ:
أحدها: أن يكون منتصباً ب «يَخْتَصِمُونَ» .
الثاني: أنه بدل من «إذْ يَخْتَصِمُونَ» وهو قول الزجاج.
وفي هذين الوجهين بُعْدٌ؛ حيث يلزم اتحاد زمان الاختصام، وزمانِ قَوْل الكلام، ولم يكن ذلك؛ لأن وقت الاختصام كان صغيراً جِدًّا، ووقت قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحْيَانٍ.
قال الحسنُ: إنها كانت عاقلة في حال الصِّغَرِ، وإن ذلك كان من كراماتها. فإن صحَّ ذلك صحَّ الاتحاد، وقد استشعر الزمخشريُّ هذا السؤال، فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقَعَا في زمان واسعٍ، كما تقول: لقيته سنةَ كذا، يعني أن اللقاءَ إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا.
الثالث: أن يكون بدلاً من {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} - أولاً - وبه بدأ الزمخشريُّ - كالمختار له - وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدلَ والمبدل منه.
الرابع: نصبه بإضمار فعل.
الخامس: قال أبو عبيدة: «إذْ - هنا - صلة زائدة» . والمراد بالملائكة هنا: جبريل عليه السلام لما قررناه وقد تقدم الكلام في البشارة.
فصل
قال القرطبيُّ: «قوله تعالى: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ} دليل على نبوتها مع ما تقدم من كونها أفضل نساءِ العالمين، وأن الملائكة قد بلّغتها الوحي عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلَّغت سائر الأنبياءِ، فهي إذاً نَبِيّة، والنبيُّ أفضل من الوليّ» . وقال ابنُ الخطيب: ذلك كرامة لها؛ إذ ليست نبية؛ لختصاص النبوةِ بالرجال، وقال جمهورُ المعتزلة؛ ذلك معجزة لعيسى - عليه السلام -.
قال ابنُ الْخَطِيبِ: وهو عندنا إرهاصٌ لعيسى، أو كرامة لمريم.
قوله: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} في محل جر؛ صفة ل «كَلِمَةٍ» و «مِنْ» ليست للتبعيض؛ إذ لو كان كذلك، لكان الله - تعالى - مُتبعِّضاً مُتجزِّئاً - تعالى الله عن ذلك - بل لابتداء الغاية؛ لأن كلمة الله مبدأ لظهوره وحدوثه، والمراد بالكلمة - هنا - عيسى - لوجوده بها وهو قوله: كن فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبّب.
فإن قيل: أليس كل مخلوق، فهو يخلق بهذه الكلمة؟(5/221)
فالجوابُ: نَعَمْ، إلا أن ما هو السبب المتعارَف كان مفقوداً في حق عيسى - عليه السلام - فكان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم، فجعل هذا التأويل كأنه نفس الكلمة، كمن غلب عليه الجود والكرم يُقال على سبيل المبالغة -: إنه نفس الجود ومَحْض الكرم، فكذا ها هنا.
وأيضاص فإن السلطان قد يُوصَف بأنه ظلُّ اللهِ، ونور اللهِ - إذا أظهر لهم ظل العدل، ونور الإحسانِ، فكذا عيسى - عليه السلام - لما كان سبباً لظهور كلام الله - تعالى - بكثرة بياناته، وإزالة الشبهاتِ والتحريفات عنه، فسُمِّيَ بكلمة الله على هذا التأويل.
فصل
حدوث الولد من غير نطفة الأب مُمكن، أما على اصول المسلمين، فظاهر؛ لأنّ الله تعالى قادرٌ على كل الممكنات، وإذا خلق آدمَ من غير أمٍّ ولا أبٍ، فخَلْقُه عيسى - عليه السلام - من غير أب أولى، وأما على أصول الفلاسفة فإنهم اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التولُّد؛ لامتزاج العناصر الأربعة على القدر الذي يناسب بَدَنَ الإنسان، وعند امتزاجها يجب حدوث الكيفية المزاجية، وعند حصول الكيفية المزاجية، يجب تعلُّق النفس، فثبت أن حدوث الإنسان - على سبيل التولد - معقول ممكن، وأيضاً إنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد - كتولُّد الفأر عن المدر، والحيَّات عن الشعر، والعقارب عن الباذَروج - وإذا كان كذلك فتولُّد الولَدِ لا عَنِ أبٍ أوْلَى ألا يكون ممتنعاً. وأيضاً، فإن التخيُّلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة كما أن تصور حدوث المنافي، يوجب حصول كيفية الغضب، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن، وكما أن اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض، قدر الإنسان على المشي عليه، ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه، بل كلما يمشي سقط، وما ذاك إلا لأن تصور السقوط يوجب حصول السقوط، وقد ذكر الفلاسفة أمثلة كثيرة لهذا الباب، فما المانع أن يقال: إنها لما تخيلت صورةَ جبريل عليه السلام [كفى ذلك في علوق] الولد في رحمها، وإذا كانت هذه الوجوهُ ممكنةٌ كان القول بحدوث عيسى - من غير أبٍ - غير ممتنع.
قوله: {اسمه المسيح عِيسَى} اسمه مبتدأ، والمسيح خبره، وعيسى بدل منه، أو عطف بيان.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون خبراً آخرَ؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ، والمبتدأ مفرد - وهو قوله: اسمه - ولو كان» عِيسَى «خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها - على تأنيث الكلمة» وأما من يجيز ذلك فقد أعرب «عِيسَى» خبراً ثانياً، وأعربه(5/222)
بعضهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ - اي: هو عيسى.
ويجوز على هذا الوجه وَجْهٌ رابعٌ، وهو النَّصْب بإضمار أعني؛ لأن كل ما جاز قطعه رفعاص جاز قطعه نصباً، والألف واللام في المسيح للغلبة كهي في الصعق والعيُّوق وفيه وجهان:
أحدهما: أنه فَعِيل بمعنى فاعل، فحُوِّلَ منه مبالغةً.
قيل: لأنه يمسح الأرض بالسياحة، أي: يقطعها ومنه: مسح القسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقالَ لعيسى: مِسِّيح - بالتشديد - على المبالغة، كما يقال: رجل شريب.
وقيل: لأنه يمسح ذا العاهةِ فَيَبْرَأُ - قاله ابن عباس.
وقيل: كان يمسح رأسَ اليتيم.
وقيل: يلبس المسح فسمي بما يئوب إليه.
وقيل: إنه فَعِيل بمعنى مفعول؛ لأنه مُسِحَ بالبركة.
وقيل لأنه مُسِح من الأوزار والآثام، أو لأنه مَشِيح القَدَم لا أخْمَصَ له.
قال الشاعر: [الرجز]
1460 - بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ ... مُدَمْلَجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ
أو لمسح وَجْههِ بالمَلاحة، قال: [الطويل]
1461 - عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مِسْحَةٌ مِنْ مَلاَحَةٍ..... ... ... ... ... ... ... .
أو لأنه كان ممسوحاً بدُهْنٍ طاهرٍ مبارَكٍ، تُمْسَح به الأنبياء، ولا يُمْسَح به غيرُهم، قالوا: وهذا الدهن من مسح به وقتَ الولادة فإنه يكون نبيًّا، أو لأنه مَسَحَهُ جبريلُ بجَنَاحه(5/223)
وقت الولادة؛ صوناً له عن مَسِّ الشيطان. أو لأنه خرج من بطن أمه مَمْسُوحاً بالدُّهْن.
والثاني: أنّ وزنه مَفْعِل - من السياحة - وعلى هذا تكون الميمُ فيه زائدة، وعلى هذا كلِّه، فهو منقول من الصفة.
وق لأبو عمرو بن العلاء: المَسِيح: الملك.
وقال النَّخَعِيُّ: المسيح: الصديق. ويكون المسيح بمعنى: الكذَّاب، وبه سُمِّي الدجال، والحرف من الأضداد.
وسمي الدجَّال مَسِيحاً لوجهَيْن.
أحدهما: أنه ممسوح إحدى العينَيْن.
الثاني: أنه يَمْسَح الأرضَ - أي يقطعها - في المدةِ القليلةِ، قالوا: ولهذا قيل له: دَجَّال؛ لضَرْبه الأرضَ، وقَطْعِه أكثر نواحيها. يقال: قد دَجَل الرجلُ - إذا فعل ذلك.
وقيل: سُمِّي دَجَّالاً من دَجَّل الرجل إذا موَّه ولبَّس.
قال أبو عبيدٍ واللَّيْث: أصله - بالعبرانية - مَشِيحَا، فغُيِّر.
قال أبو حيان: «فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً، ليس مُشْتَقاً من المَسْح، ولا من السياحة» .
قال شهاب الدينِ: «قوله: ليس مشتقاً صحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مُرْتَجَلاً ولا بد، لاحتمال أن يكون في لغتهم مَنْقُولاً من شيء عندهم» .
وعيسى أصله: يسوع، كما قالوا في موسى: أصله موشى، أو ميشا - بالعبرانية.
فيكون من الاشتقاق الأوسط لأنه يُشْتَرط فيه وجود الحروف لا ترتيبها، والأكبر يُشترط فيه أن يكون في الفرع حرفان، والأصغر يُشْتَرط فيه أن يكون في الفرع حروف الأصل مرتَّبَةً.
وعيسى اسم أعجمي، فلذلك لم يَنْصَرف - في معرفة ولا نكرة - لأنَّ فيه ألفَ تأنيث، ويكون مُشْتَقاً من عاسه يعوسه، إذا سَاسَه وقام عليه.
وأتى الضمير مذكَّراً في قوله: «اسْمُهُ» وإن كان عائداً على الكلمة؛ مراعاةً للمعنى؛ إذ المراد بها مذكَّر.
وقيل - في الدَّجّال -: مِسِّيح - بكسر الميم وشد السين، وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة، وبعضهم يقوله بفتح الميم والخاء المعجمة - مُخَفَّفاً - والأول هو المشهور؛ لأنه يمسح الأرض - أي: يطوفها - ويدخل جميعَ بلدانِها إلا مكةَ والمدينةَ وبيتَ المقدسِ، فهو فعيل بمعنى فاعل. والدَّجَّال يمسح الأرضَ محنة وابنُ مريمَ يمسحها مِنْحَةً. وإن كان سُمِّي مسيحاً؛ لأنه ممسوح العين فهو فعيل بمعنى مفعول.(5/224)
قال الشاعر: [الرجز]
1462 - ... ... ... ... ... ... ... . ... إذَا الْمَسِيحُ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا
فصل
«ابنُ مريم» يجوز أن يكون صفة ل «عيسَى» قال ابن عطية: وعيسى خبر لمبتدأ محذوف، ويدعو إلى هذا كون قوله: «ابن مريم» صفة لعيسى؛ إذْ قد أجمع الناسُ على كَتْبِهِ دون ألفٍ. وأما على البدل، أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون «ابْنُ مَريمَ» صفة ل «عِيسَى» لأن الاسم - هنا - لم يُرَدْ به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام نظرٌ. انتهى.
قال شهابُ الدِّينِ: «فقد حَتَّم كونه صفة؛ لأجل كَتْبهِ بغير ألف، وأما على البدل، أو عطف البيان فلا يكون» ابْنُ مَرْيَمَ «صفة ل» عِيسَى «يعني: بدل عيسى من المسيح، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره، وهو كتبه بغير ألف» .
وقد منع أبو البقاء أن يكون «ابْنُ مَرْيَمَ» بدلاً أو صفة ل «عِيسَى» قال: «لأن» ابْن مَرْيَمَ «ليس بالاسم ألا ترى أنك لا تقول: اسم هذا الرجل ابن عمرو - إلا إذا كان قد عُلِّق عَلَماً عليه» .
قال شهاب الدينِ: «وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض دليلاً في عدم كونه بدلاً، وأما كونه صفة، فلا يمنع ذلك، بل إذا كان اسماً امتنع كونه صفة؛ إذ يصير في حكم الأعلامِ، وهي لا يُوصف بها، ألا ترى أنك إذا سميت رجلاً ب» ابن عمرو «امتنع أن يقع» ابن عمرو «صفة والحالة هذه» .
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: لِمَ قِيلَ: {اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ} وهذه ثلاثة أشياء، الاسم عِيسَى، وأما المسيح والابن فلَقَب، وصفة؟
قلت: الاسم للمسمَّى يُعْرَف بها، ويتميَّزُ من غيره، فكأنه قِيلَ: الذي يُعْرَف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الألفاظِ الثلاثةِ» .
فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظِ الثلاثة أخبار عن اسمه، بمعنى أنَّ كُلاًّ منها ليس مُستَقِلاً بالخبريَّةِ، بل هو من باب: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ [وهذا أعسر يسرا] .
ونظيره قول الشاعر: [الخفيف]
1463 - كَيْفَ أصْبَحْتَ كَيْفَ أمْسَيْتَ مِمَّا ... يَزْرَعُ الوُدَّ فِي فُؤادِ الْكَرِيمِ(5/225)
أي مجموع كيف أصبحت، وكيف أمسيت.
فكما جاز تعدُّد المبتدأ لفظاً - من غير عاطف - والمعنى على الْمَجْمُوعِ، فكذلك في الْخَبَرِ.
وقد أنشدوا عليه أبياتاً كقوله: [الرجز}
1464 - مَنْ يَكُ ذَا بَتٍّ فَهَذَا بَتِّي ... مُقَيِّظٌ، مُصَيِّفٌ، مَشَتِّي
وقد زعم بعضهم أن «المَسِيح» ليس باسم لَقَب له، بل هو صفة كالضّارِبِ والظريف، قال: وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخِيرٌ؛ إذ «الْمَسِيحُ» صفةٌ ل «عِيسَى» والتقدير: اسمه عيسى المسيح «. وهذا لا يجوز أعني: تقديم الصفة على الموصوف - لكنه يعني: أنه صفة له في الأصل، والعرب إذا قدِّمت ما هو صفة في الأصل جعلوه مبيناً على العامل قَبْلَهُ، وجعلوا الموصوف بدلاً من صفته في الأًل، نحو قوله: [الرجز]
1465 - وَبِالطَّوِيْلِ الْعُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا..... ... ... ... ... ...
الأصل: وبالعمر الطويل، هذا في المعارفِ، وأما في النِّكِرَاتِ، فينصبون الصفةَ حالاً.
وقال أبو حيَّان: «ولا يصح أن يكون» الْمَسِيحُ «- في هذا التَّركيبِ - صفة؛ لأن المُخْبَر به - على هذا لفظ» عِيسَى «والمسيح من صفة المدلول، لا من صفة الدَّالِّ؛ إذ لفظ» عِيسَى «ليس المسيح» .
ومن قال: إنهما اسمانِ، قال: تَقَدَّمَ المسيحُ على عيسى؛ لشهرته.
قال ابن الأنباريّ: وإنما بدأ بلقبه؛ لأن المسيح أشهرُ من عيسى؛ لأنه قَلَّ أن يقع على سَمِيِّ، فيشتبه به، وعيسى قد يقع على عدد كثيرٍ، فقدَّمه لشهرته، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم، فهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لَقَبٌ، لا اسمٌ.
قال أبو إسحاق: «عيسى معرب من أيسوع، وإن جعلته عربياً لم ينصرفْ في معرفة ولا نكرة؛ لأن فيه ألفَ التأنيثِ، ويكون مشتقاً من عاسه يعوسه: إذا ساسه وقام عليه» .
قال الزمخشريُّ: «ومُشْتَقُّهُمَا - يعني المسيح وعيسَى - من المَسْح والعَيْس كالراقم على الماء» ، وقد تقدم الكلام على عيسى ومريم واشتقاقهما في سورة البقرة.
وقوله: {وَجِيهًا} حال، وكذلك قوله: {وَمِنَ المُقَرَّبِينَ} وقوله: {وَيُكَلِّمُ} وقوله: {مِّنَ الصالحين} هذه أربعة أحوالٍ انتصبت عن قوله: «بِكَلِمَةٍ» . وإنما ذَكَّر الحالَ؛ حملاً(5/226)
على المعنى؛ إذ المعنى المرادُ بها: الولد والمُكَوِّن، كما ذكَّر الضميرَ في «اسْمُهُ» .
فالحال الأولى جِيءَ بها على الأصل - اسماً صريحاً - والباقية في تأويله. والثانيةُ: جار ومجرور، وأتى بِهَا هكذا؛ لوقوعها فاصلةً في الكلام، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً، لفات مناسبة الفواصل. والثالثة جملة فعليَّة، وعطف الفعل على الاسم؛ لتأويلهِ به، وهو كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] ، أي: وقَابضات، ومثله في عطفِ الاسمِ على الفعل؛ لأنه في تأويله، قولُ النابغة: [الطويل]
1466 - فَأَلْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيْرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَحِقُّ الْمَعَابِرَا
وقال الآخر: [الرجز]
1467 - بَاتَ يُغشِّيها بِغَضَبٍ بَاتِرِ ... يَقْصِدُ في أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ
والمعنى: مُبِيراً عدوه، وقاصداً.
وجاء بالثالثة جملة فعلية؛ لأنها في رُتْبتها، إذ الحالُ وَصْفٌ في المعنى، وقد تقدم أنه إذا اجتمعَ صفات مختلفة في الصراحةِ والتأويل قُدِّم الاسمُ، ثمَّ الظرفُ - أو عديلهُ - ثم الجملةُ. فكذا فعل هنا، فقدم الاسم - وهو {وَجِيهًا} - ثم الجار والمجرور، ثم الفعل، وأتى به مضارعاً؛ لدلالته على التجدُّد وقتاً مؤقتاً، بخلاف الوجاهةِ، فإنَّ المرادَ ثبوتها واستقرارها، والاسمُ مُتَكَفِّلٌ بذلِك، والجار قريبٌ من المفرد، فلذلك ثَنَّى به، إذ المقصودُ ثبوتُ تَقْرِيبِهِ.
والتضعيف في «الْمُقَرَّبِينَ» للتعدية، لا للمبالغةِ؛ ملا تقدم من أن التضعِيفَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً، وهذا قد أكسبه مفعولاً - كما ترى - بخلاف: قَطَّعْتُ الأثوابَ، فإنَّ التعدي حاصل قبل ذلك.
وجيء بالرابعة - بقوله: {مِّنَ الصالحين} مراعاةً للفاصلةِ، كما تقدم في «الْمُقَرَّبِينَ» .
والمعنى: إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ.
ومنع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من «الْمَسِيحِ» أو من «عِيسَى» أو من «ابْن مرْيَمَ» قال: «لأنها أخبارٌ، والعاملُ فيها الابتداءُ، أو المبتدأ، أو هما، وليس شيءٌ من ذلك يعملُ في الحالِ» .
ومنع أيضاً - كونَهَا حالاً من الهاء في «اسْمُهُ» قال: «للفصل الواقعِ بينهما، ولعدمِ العاملِ في الحال» .(5/227)
قال شهابُ الدينِ: «ومذهبهُ - أيضاً - أنَّ الحالَ لا يجيءُ مِنَ المُضَافِ إليهِ، وهو مرادُهُ بقولِهِ: ولعدم العامل. وجاءت الحالُ من النكرةِ؛ لتخصُّصِها بالصفة بعدها. وظاهرُ كلام الواحديِّ - فيما نقَلهُ عن الفرَّاء - أنَّها يجوز أن تكون أحوالاً من» عِيسَى «فإنَّه قال: والقرَّاء تسمِّي هذا قَطْعاً، كأنه قال: عيسى ابن مريم الوجيه، قطعَ منه التعريف. فظاهرُ هذا يُؤذِنُ بأنَّ {وَجِيهًا} من صفةِ» عِيسَى «في الأصلِ، فقطع عنه، والحالُ وصفٌ في المعنى» .
والوجيه: ذو الجاه، وهو القوةُ، والمنعةُ، والشرفُ.
وجمع «وَجيه» وُجَهاءُ، ووِجَاهٌ، يقال: وَجُهَ الرَّجُلُ يوجه وجاهة، فهو وجيه - إذا صارت له منزلةٌ رفيعةٌ عند الناسِ.
وقال بعضهم: الوجيهُ: الكريمُ.
و «كَهْلاً» من قولهم: اكتهلت الدوحة، إذا عَمَّها النُّوْرُ - والمرأة كهلة.
وقال الراغب: «والكهل: مَنْ وَخَطَه الشَّيْبُ، واكتهل النباتُ: إذا شارف اليُبُوسَةَ مشارفةَ الكهل الشَّيْبَ» .
وأنشد قولَ الأعشى - في وَصْف رَوْضَةٍ بأكمل أحوالها -: [البسيط]
1468 - يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
وقد تقدم الكلام في تنقُّل أحوالِ الولدِ من لدُنْ كونهِ في البطن إلى شيخوخته، عند ذِكْر «غلام» .
وقال بعضهم: «ما دامَ في بطن أمِّه، فهو جنين، فإذا وُلِدَ فوليد، فإذا لم يستتمّ الأسبوع فصديغٌ؛ وما دام يرضع فهو رضيع، ثم هو فَطِيمٌ - عند الفِطَام - وإذا لم يرضع؛ فجَحْوَش، فإذا دبَّ ونما: فدراج، فإذا سقطت رواضِعهُ فثَغور ومثغور، [فإذا نبتت أسنانهُ بعد السقوط بمُتَّغِر - بالتاء والثاء] ، فإذا جاوز العشر: فمترعرع، وناشئ. فإذا رَاهَق الحُلم: فيافع، ومُراهق. فإذا احتلم فحَزَوَّر. والغلام يُطْلَق عليه في جميع أحواله بعد الولادة، فإذا اخضر شارُبه، وسال عذاره: فباقِل، فإذا صار ذا لِحْيَةٍ: ففتًى وشارخ، فإذا اكتملت لحيته؛ فمُجْتَمِع، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شابّ، ومن الأربعين إلى ستين كهل» ، ولأهل اللغة عبارات مختلفة في ذلك، وهذا أشهرها.
فإن قيل: المستغرب إنما هو كلام الطفل في المَهْد، وأما كلام الكهول فغير مُسْتَغْرَب.(5/228)
فالجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: قالوا: لم يتكلم صبيٌّ في المهد، وعاش، أو لم يتكلمْ أصلاً، بل يبقى أخرس أبداً، فبشَّر اللهُ مريم بأن هذا يتكلم طفلاً، ويعيش حتى يكلم الناس في كهولته، ففيه تَطْمِينٌ لخاطرِها.
وثانيها: قال الزَّمخْشَريُّ وأبو مسلم: «يكلم الناس طفلاً وكهلاً ومعناه يتكلم في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة» .
وثالثها: يكلم الناسَ مرةً واحدةً في المهدِ؛ لإظهار بَرَاءةِ أمِّه، ثم عند الكُهُولةِ يتكلم بالوحي والنبوة.
ورابعها: قال الأصَمُّ: المراد منه: بيان أنه يبلغ من [الصِّبَا، إلى] الكهولة.
وخامسها: أنّ المرادَ منه الرد على وَفْد نجرانَ في قولهم: إن عيسى كان إلهاً، فإنه منقلب في الأحوال من الصِّبَا إلى الكهولة، والتغيُّر على الإلهِ محال.
فإن قيل: قد نقل أن عُمْر عيسى - لما رُفِع - كان ثلاثاً وثلاثين سنةً وأشْهُراً، وعلى هذا التقدير، فلم يبلغْ سِنَّ الكهولةِ.
فالجوابُ: قد بيَّنَّا أن الكهلَ - في اللُّغةِ - عبارة عن الكامل التام، وأكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين إلى الأربعين - فصَحَّ وصْفُه بكونه كَهْلاً.
وقال الحُسَيْن بنُ الفَضْل البَجَلِيُّ: «ويكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، ويكلم الناسَ، ويقتل الدَّجَّالَ، قال: وفي الآية نص على أنه - عليه السلامُ - سينزل إلى الأرض» .
و «وَجِيهاً» اشتقاقه من الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء. والجاه مقلوب منه، فوزنه «عَفل» .
قوله: {فِي الدنيا} متعلق ب «وَجِيهاً» ؛ لما فيه من معنى الْفِعْلِ، ومعنى كونه {وَجِيهاً فِي الدنيا} بسبب النبوة، و «في الآخرة» بسبب عُلُوِّ المنزلة.
وقوله: {فِي الدنيا} بأنه مُسْتَجَاب الدعاء، ويُحْيي الموتى، ويُبْرِئ الأكمه والأبْرَصَ بدعائه، وفي الآخرة بأنه يشفع في المُحِقِّين من أمته.
وقيل: في الدنيا؛ لأنه مبرأٌ من العيوب التي وَصَفَتْه اليهودُ بها، وفي الآخرة بكثرة ثوابه وعُلُوِّ درجته.
فإن قيل: كيف كان وجيهاً في الدنيا، واليهود عاملوه بما عاملوه؟
والجوابُ: أنه - تعالى - سمَّى موسى - عليه السلامُ - بالوجيه، مع أن اليهودَ طعنوا(5/229)
فيه، وآذَوْهُ إلى أن برأه اللهُ مما قالوا، ولم يقدح ذلك في وجاهته، فكذا هنا.
قوله: {وَمِنَ المُقَرَّبِينَ} قيل «كان هذا مَدْحاً عظيماً للملائكة؛ لأنه ألْحَقَه بمثل مَنْزِلَتِهِمْ، وهو دليل لمن جعل الملائكة أفضل.
وقيل: معناه: سيُرْفَع إلى السماء بمصاحبة الْمَلاَئِكَةِ.
وقيل: ليس كل وجيه في الآخرة يكون مُقَرَّباً؛ لأن أهل الجنة تتفاوت درجاتُهم.
وقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} الواو للعطف على قوله: «وَجِيهًا» ، والتقدير: وجيهاً ومُكَلَّماً.
قال ابن الخطيب: وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا لضرورة [أو لفائدة] ، والأوْلَى أن يُقال: تقدير الآيةِ: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، الوجيه في الدنيا والآخرة، المعدود من المقرَّبِينَ، وهذا المجموع جملة واحدة، ثم قال: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} . فقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} عطف على قوله: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ} .
وأجيب بأن هذا خطأ؛ لأنه إن أراد العطف على جملة {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ} فهي جملة اسمية فقد عطف الفعلية على الاسمية، فوقع فيما فَرَّ منه. وإن أراد العطفَ على «يُبَشِّرُكِ» فهو خطأ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر - و «يُبَشِّرُكِ» خبر - فيصير التقدير: إن الله يكلم الناسَ في المهدِ، والصواب ما قالوه من كونه حالاً، وأن الجملة الحالية إذا كانت فعلاً فهي مقدرة بالاسم، فجاز العطف.
قوله: {فِي المهد} يجوز فيه وَجْهَان:
أظهرهما: أنه متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير في {وَيُكَلِّمُ} أي: يكلمهم صَغِيراً، و «كَهْلاً» على هذا نسق على هذه الحال المؤوَّلة فعلى هذا تكون خمسة أحوال.
والثاني: أنه ظرف ل «يُكَلِّمُ» كسائر المنفصلات، و «كَهلاً» على هذا نَسَق على «وَجِيهاً» فعلى هذا يكون خَمْسَةَ أحْوَالٍ.
والكهل: هو مَنْ بلغ سِنَّ الكُهُولة، وأولها ثلاثون.
وقيل: اثنان وثلاثون.
وقيل: ثلاث وثلاثون.
وقيل: أربعون. وآخرها: خمسون.
وقيل: ستون. ثم يدخل في سن الشَّيْخُوخَةِ. واشتقاقه من: اكتهل النبات - إذا علا وارتفع - ومنه الكاهل.(5/230)
وقال صاحبُ المُجْمَلِ: «أكهل الرجل: وَخَطَهُ الشَّيْبُ» .
فصل
كلامه - عليه السلام - في المَهْد هو قوله: {إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 30 - 33] .
وحكي عن مجاهدٍ قال: قالت مريم: كنت إذا خلوتُ أنا وعيسى حدَّثني وحدّثته، فإذا شغلني عنه إنسان كان يُسَبِّحُ في بطني وأنا أسمعُ.
فصل
ذكر القرطبيُّ في تفسيره عن ابن أبي شيبةَ بسنده، قال: «لم يتكلمْ في الْمَهْدِ إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب يوسف، وصاحب جُرَيْج» . [وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم، وصاحب جريج وصاحب الجبار» ] .
وقال الضَّحَّاكُ: «تكلم في المهد ستة شاهد يوسف، وصبيّ ماشطة امرأة فرعون، وعيسى، ويحيى، وصاحب جريج» ولم يذكر صاحب الأخدود، فأسقط صاحب الأخدود، وبه يكون المتكلمون سبعةً.
قال القرطبيُّ: «ولا معارضة بين هذا وبين قوله - عليه السلام -:» لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاَثَةٌ «بالحصر - فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحِي إليه في تلك الحالِ، ثم بعد هذا أعلمه اله - تعالى - بما شاء من ذلك، فأخْبَرَ به.
والمهدُ: ما يُهُيَّأُ للصَّبِيِّ أن يربى فيه، من مَهَّدت له المكان - أي: وطَّأته وليَّنته له - وفيه احتمالانِ: أحدهما يُحتمل أن يكون أصله المصدر، فسُمِّي به المكانُ، ويحتمل أن يكون بنفسه اسم مَكان غير مصدر. وقد قرئ: مَهْداً ومِهَاداً في طه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب [قوله: وكهلاً يدل على أنه يكلم الناس بعد الكهولة، وذلك بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان.
قال الحسين بن الفضل: في الآية نص على نزوله إلى الأرض وقد] أنكرت النصارَى كلامَ المسيح - عليه السلام - في المَهْد، واحتجوا - على صحة قولهم بأن كلامه من أعْجب الأمور وأغربها، ولا شك أن هذه الواقعةَ لو وقعت لوجب أن يكون وقوعُها(5/231)
في حضور الجَمْع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم؛ لأن تخصيصَ مثل هذا المُعْجِز بالواحد والاثنين لا يجوز، ولو حدثت هذه الواقعة لتوفَّرَت الدواعي على نقلها، فيصير ذلك بالغاً حَد التواتُرِ، يمتنع إخفاؤه. وأيضاً فإن النصارَى بالَغُوا في المسيح، حتى ادَّعَوْا ألوهيته، ومن هذا شأنه في التعصُّب يمتنع أن تخفى مناقِبُه، فلما أنكروه - وهم أحق النّاسِ بإظهاره - علمنا أنه ما كان موجوداً.
وأجاب المتكلمون بأن كلامه - حينئذٍ - إظهار لبراءة أمِّه، والحاضرون قليلون يجوز تواطؤهم على الإخفاء، فنسبهم الناس إلى الكذب، أو خافوا من ذلك الأمر إلى أن أخبر به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك يدل على معجزته، وصدقه.
قوله: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} » يكون «يحتمل التمام والنقصان، وتقدم إعراب هذه الجمل في قصة زكريا إلا أنه قال هناك: {يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} وقال هنا {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} قيل: لأن قِصَّتَها أغربُ من قضته؛ ذلك أنه لم يُعْهَد ولد من عذراءَ لم يَمْسَسْها بشرٌ ألبتة، بخلاف الولد بين الشيخ والعجوز، فإنه يستبعد، وقد يُعْهَد بمثله - وإن كان قليلاً - فلذلك أتى ب» يَخْلُقُ «المقتضي للإيجاد والاختراع من غير إحالة على سببٍ ظاهرٍ، وإن كانت الأشياء كلها بخَلقه وإيجاده - وإن كان لها أسبابٌ ظاهرة.
قوله: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} هذه الجملة حَالٌ، والبشر - في الأصل - مصدر كالخَلق، ولذلك يُسَوَّى فيه بين المذكَّر ولمؤنَّث، والمفرد، والمثنى، والجمع، تقول: هذه بَشَرٌ، وهذا بَشَرٌ، وهؤلاء بَشَرَ. كقولك: هؤلاء خَلْق.
قيل: واشتقاقه من البشرة، وهي ظاهر الجلدِ؛ لأنه الذي شأنه أن يظهر الفرح والغم في بشرته، وتقدم اختلاف القرَّاء في {فَيَكُونُ} وما ذُكِر في توجيهه.
فصل
قال المفسّرون: إنما قالت ذلك؛ لأن البشريةَ تقتضي التعجُّبَ مما وقع على خلاف العادة؛ إذْ لم تَجْرِ عادة بأن يُولَدَ وَلَدٌ بلا أبٍ.
فصل
قال القرطبيُّ: «معنى قوله: {قَالَتْ رَبِّ} أي: يا سيدي، تخاطب جبريل - عليه السلامُ - لأنه لما تمثَّل لها، قال لها: {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} [مريم: 19] فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد، فقالت: {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ؟ أي: بنكاح، وذلك: لأن العادة التي أجراها الله في خَلْقه أن الولد لا يكون إلا من نكاح، [أو سفاح] .(5/232)
وقيل: إنها لم تستبعد من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت: كيف يكون هذا الولد؟ من قِبَلِ زَوْجٍ في المستقبل؟ أم يخْلُقُه الله ابتداءً.
قوله: {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . تقدم الكلام فيه.
قال ابنُ جُرَيْجٍ: نفخ جبريلُ في جيب درعها وكُمِّها، فحملت من ساعتها بعيسى.
وقيل: وقع نفخ جبريل - عليه السلام - في رَحِمِهَا، فعلقت بذلك.
وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون الخَلْق من نفخ جبريل؛ لأن الولدَ يكون بعضُه من الملائكة وبعضه من الإنس؛ ولكن سبب ذلك، أن اللهَ تعالى لما خلق آدمَ وأخذ الميثاقَ من ذريته، فجعل بعضَ الماءِ في أصلاب الآباء، وبعضه في أرحام الأمَّهَاتِ، فإذا اجتمع الماءان صارَ ولداً، وإن اللهَ - تعالى - جعل الماءين جميعاً في مريمَ، بعضه في رحمها، وبعضه في صلبها، فنفخ جبريلُ، ليهيجَ شهوتَها، فإن المرأة ما لم تهج شهوتها لم تحبل فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء - الذي كان في صُلْبها - في رَحِمِهَا، فاختلط الماءان، فعلقت بذلك، فذلك قوله تعالى: {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} قرأ نافع وعاصم ويعقوب {وَيُعَلِّمُهُ} - بياء الغيبة - والباقون بنون المتكلم المعظم نفسه، وعلى كلتا القراتين ففي محل هذه الجملة أوجهٌ:
أحدها: أنها معطوفة على» يُبَشِّرُكِ «أي: أن الله يبشركِ بكلمةٍ ويعلم ذلك المولود المُعَبَّر عنه بالكلمة.
الثاني: أنها معطوفة على» يَخْلُقُ «أي: كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه. وإلى هذين الوجهين، ذهب جماعة منهم الزمخشريُّ وأبو علي الفارسيّ، وهذان الوجهان ظاهران على قراءة الياء، وأما قراءة النون، فلا يظهر هذان الوجهان عليها إلا بتأويل الالتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، إيذاناً بالفخامة والتعظيم.
فأما عطفه على» يُبَشِّرُكِ «فقد استبعده أبو حيَّانَ جِدًّا، قال:» لطول الفصل بين المعطوف، والمعطوف عليه «، وأما عطفه على» يَخْلُقُ «فقال:» هو معطوف عليه سواء كانت - يعني «يَخْلُقُ» خبراً عن الله أم تفسيراص لما قبلها، إذا أعربت لفظ «اللهُ» مبتدأ، وما قبله خبر «.
يعني أنه تقدم في إعراب {كَذَلِكَ الله} في قصة زكريا أوجهٍ:
أحدها ما ذكره - ف «يُعَلِّمُهُ» معطوف على «يخلُقُ» بالاعتبارين [المذكورين] ؛ إذْ(5/233)
لا مَانِعَ من ذلك، وعلى هذا الذي ذكره أبو حيّان وغيره، تكون الجملة الشرطية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، والجملة من «نُعَلِّمُهُ» - في الوجهين المتقدمين - مرفوعة المحل، لرفع محل ما عُطِفَتْ عليه.
الثالث: أن يعطف على «يُكَلِّمُ» فيكون منصوباً على الحال، والتقدير: يُبَشِّرُكَ بكلمة مُكَلِّماً ومُعلِّماً الكتاب، وهذا الوجه جوزه ابنُ عَطِيَّةَ وغيره.
الرابع: أن يكون معطوفاً على «وَجِيهاً» ؛ لأنه في تأويل اسم منصوبٍ على الحال، وهذا الوجه جوَّزه الزمخشريُّ.
واستبعد أبو حيّان هذين الوجهين الأخيرين - أعني الثالث والرابع - قال: «الطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يقع مثلُه في لسان العرب» .
الخامس: أن يكون معطوفاً على الجملة المحكية بالقول: - وهي {كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} .
قال أبو حيّان: «وعلى كلتا القراءتين هي معطوفة على الجملة المقولة؛ وذلك أن الضمير في (قال كذلك) لله - تعالى - والجملة بعده هي المقولة، وسواء كان لفظ (الله) مبتدأ خبره ما قبله، أم مبتدأ، وخبره» يَخْلُقُ «- على ما مر إعرابه في {قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} - فيكون هذا من القول لمريم على سبيل الاغتباط، والتبشير بهذا الولد، الذي أوجده اللهُ منها» .
السادس: أن يكون مستأنفاً، لا محلَّ له من الإعراب.
قال الزَّمَخْشريُّ - بعد أن ذكر فيه أنه يجوز أن يكون معطوفاً على «يُبَشِّرُكِ» أو يخلق أو «وَجِيهاً» -: «أو هو كلام مبتدأ» يعني مستأنفاً.
قال أبو حيّان: «فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله، أو من الله - على اختلاف القراءتين - فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في وتعلمه، فحينئذٍ يَسِحُّ أن يكون ابتداءَ كلامٍ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه، وأن يكون الذي عُطِف عليه ابتداء كلام، حتى يكون المعطوف كذلك» .
قال شهاب الدين: «وهذا الاعتراض غير لازم؛ لأنه لا يلزم من جعله كلاماً مستأنفاً أن يُدَّعَى زيادة الواو، ولا أنه لا بد من معطوف عليه؛ لأن النحويين، وأهل البيان نَصُّوا على أن الواوَ تكون للاستئناف، بدليل أن الشعراء يأتُون بها في أوائل اشعارهم، من غير تقدُّم شيءٍ يكون ما بعدَها معطوفاً عليه، والأشعار مشحونة بذلك، ويُسمونها واوَ(5/234)
الاستئناف، ومَن منع ذلك قدَّر أنّ الشاعرَ عطف كلامه على شيء منويٍّ في نفسه، ولكن الأول أشهر القولين» .
وقال الطبريُّ: قراءة الياء عطف على قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ، وقراءة النون، عطف على قوله: {نُوحِيهِ إلَيْكَ} .
قال ابن عطيةَ: «وهذا الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى» . ولم يبين أبو محمد وجه إفساد المعنى.
قال أبو حيّان: «أما قراءةُ النون، فظاهر فساد عطفه عفى» نُوحِيهِ «من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان الْعَرَبِ؛ لبُعْدِ الفَصْل المُفْرِط، وتعقيد التركيب وتنافي الكلامِ، وأما من حيث المعنى فإنَّ المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه في المعنى، فيصير المعنى بقوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} ، أي: إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمرانَ وولادتها لمريم، وَكَفَالَةِ زكريا، وقصته في ولادة يحيى، وتبشير الملائكة لمريمَ بالاصطفاء والتطهير كل ذلك من أخبار الغيب - نعلمه، أي: نعلم عيسى الكتاب، فهذا كلام لا ينتظم [معناه] مع معنى ما قبله.
أما قراءة الياء وعطف» وَيُعَلِّمُهُ «على» يَخْلُقُ «فليست مُفْسِدَةً للمعنى، بل هو أوْلَى وأصَحّ ما يحمل عطف» وَيُعَلِّمُهُ «لقُرب لفظه وصحة معناه - وقد ذكرنا جوازَه قبل - ويكون الله أخبر مريم بأنه - تعالى - يخلق الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادة بِمثلِهَا، مثلما خلق لك ولداً من غير أبٍ، وأنه - تعالى - يُعَلِّمُ هذا الولَد الذي يخلقه لك ما لم يُعَلِّمْه مَنْ قَبْلَه من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشيرٍ لها بهذا الولد، وإظهار بركته، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس - من بني إسرائيل - بل هو مخالف لهم في أصل النشأة، وفيما يعلمه - تعالى - من العلم، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف وَيُعَلِّمُهُ» اه.
قال أبو البقاء: «يُقْرَأ - نعلمه - بالنون، حملاً على قوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ويقرأ بالياء؛ حملاً على» يُبَشِّرُكِ «وموضعه حال معطوفة على» وَجِيهاً «.
قال أبو حيّان: وقال بعضهم:» وَنُعَلِّمُهُ «- بالنون - حملاً على» نُوحِيهِ «- إن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح» .
قال شهاب الدين: «يتعين أن يعني بقوله: حَمْلاً؛ الالتفات ليس إلا، ولا يجوز أن يعني به العطف لقوله: وموضعه حال معطوفة على» وَجِيهاً «وكيف يستقيم أن يُرِيدَ(5/235)
عطفه على» يُبَشِّرُكِ «أو على توجيهه مع حكمه عليه بأنه معطوف على» وَجِيهاً «؟ هذا ما لا يستقيم أبداً» .
فصل في المراد ب «الكتاب»
المرادُ من «الكِتَاب» : تعليم الخط والكتابة، ومن «الْحِكْمَة» تعليم العلوم، وتهذيب الأخلاق: {والتوراة والإنجيل} كتابان إلهيان، وذلك هو الغاية العُلْيا في العلم؛ لأنه يحيط بالأسرار العقلية والشرعية، ويطَّلع على الحِكَم العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ.
قوله: {وَرَسُولاً} فيه وجهان:
أحدهما: أن صفة - بمعنى مُرْسَل - على «فَعُول» كالصَّبور والشَّكُور.
والثاني: أنه - في الأصل - مصدر، ومن مَجِيء «رسول» مصدراً قوله: [الطويل]
1469 - لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ ... يِسِرِّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
وقال آخر: [الوافر]
1470 - ألاَ أبْلِغْ أبَا عَمْرٍو رَسُولاً ... بِأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
أي أبلغه رسالة.
ومنه قوله تعالى: «إنَّا رسُولُ رَبِّ العالمين» - على أحد التأويلين - أي: إنا ذوا رسالةِ ربِّ العالمينَ. وعلى الوجهين يترتب الكلامُ في إعراب «رَسُولاً» ، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون معطوفاً على «يُعَلِّمُهُ» - إذا أعربناه حالاً معطوفاً على «وَجِيهاً» - إذ التقدير وجيهاً ومُعَلَّماً ومُرْسَلاً.
قاله الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ.
وقال أبو حيّان: «وقد بيَّنا ضَعْفَ إعرابِ مَنْ يقول: إن» وَيُعَلِّمُهُ «معطوف على» وَجِيهاً «؛ للفصل المُفْرِط بين المتعاطفَيْن [وهو مبني على إعراب» ويعلمه «] » .
الثاني: أن يكون نَسَقاً على «كَهْلاً» الذي هو حال من الضمير المستتر في «وَيُكَلِّمُ» ، أي: يكلم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيلَ، وقد جَوَّز ذلك ابنُ عطيةَ، واستبعده أبو حيّان؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.(5/236)
قال شهاب الدين: «ويظهر أن ذلك لا يجوز - من حيث المعنى - إذْ يصير التقدير: يكلم الناس في حال كونه رسولاً إليهم وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ» .
فإن قيل: هي حَالٌ مُقَدَّرة، كقولهم: مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، وقوله: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] .
وقيل: الأصل في الحال أن تكون مقارنة، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لَبْسَ.
الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مُضْمَرٍ لائقٍ بالمعنى، تقديره: ويجعله رسولاً، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملاً يناسب. وهذا كما قالوا في قوله: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] وقوله: [مجزوء الكامل]
1471 - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سيْفاً وَرُمْحَا
وقول الآخر: [الكامل]
1472 - فَعَلَفتُهَا تبْناً وَمَاءً بَارِداً..... ... ... ... ... ... ... ... .
وقول الآخر: [الوافر]
1473 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا
أي: واعتقدوا الإيمانَ، وحاملاً رُمْحاً، وسيقتها ماءً بارداً، وكحَّلْنَ العيون.
وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة.
الرابع: أن يكون منصوباً بإضمار فعل من لفظ «رسول» ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول مُضْمَرٍ - أيضاً - هو من قول عيسى.
الخامس: أن الرسول - فيه بمعنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم، ويوضِّحُ هذين الوجهين الأخيرين، ما قاله الزمخشريُّ: «فإن قلت: عَلاَم تَحْمِل»(5/237)
وَرَسُولاً «و» مُصَدِّقاً «من المنصوبات المتقدمة، وقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} و {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يأبى حَمله عليها؟
قلت: هو من المضايق، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يُضمر له» وأرسَلْت «- على إرادة القول - تقديره: ويعلمه الكتاب والحكمة، ويقول: أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يديَّ.
الثاني: أن الرسول والمصدِّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يدي» . اه.
إنما احتاج إلى إضمار ذلك كُلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات، لا يصح عطفه عليه في الظاهر؛ لأن الضمائر المتقدمة غُيَّب، والضميرانِ المصاحبانِ لهذين المنصوبين في حُكْم المتكلم؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير؛ ليناسب الضمائر.
وقال أبو حيان: «وهذا الوجه ضعيف؛ إذْ فيه إضمارُ الْقَوْلِ ومعموله - الذي هو أرسلت - والاستغناء عنهما باسمِ منصوبٍ على الحال المؤكِّدة، إذْ يُفْهَم من قوله: وأرسلت، أنه رسول، فهي - على هذا - حال مؤكِّدة» .
واختار أبو حيّان الوجه الثالث، قال: «إذْ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى - ويكون قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} معمولاً ل» رَسُولاً «أي: ناطقاً بأني قد جئتكم، على قراءة الجمهور» .
الثالث: أن يكون حالاً من مفعول «وَيًعَلِّمُهُ» وذلك على زيادة الواو - كأنه قيل: ويعلمه الكتاب، حال كونه رسولاً. قاله الأخفشُ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو، وهو مذهب مَرْجُوحٌ.
وعلى الثاني وهو كون «الرسول» مصدراً كالرسالة في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به - عطفاً على المفعول الثاني لِ «يُعَلِّمُهُ» - أي: ويعلمه الكتاب والرسالة معاً، أي: يعلمه الرسالة أيضاً.
الثاني: أنه مصدر في موضع الحال، وفيه التأويلات المشهورة في: رَجُلٌ عَدْل.
وقرأ اليزيديُّ «وَرَسُولٍ» بالجر - وخرجها الزمخشريُّ على أنها منسوقة على قوله: «بِكَلِمَةٍ» أي: يبشرك بكلمة وبرسول.
وفيه بُعْدٌ لكثرة الفصل بين المتعاطفين، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج.(5/238)
قوله: {إلى بني إِسْرَائِيلَ} فيه وَجْهَانِ:
أحدهما: أن يتعلق بنفس «رسول» إذْ فعله يتعدى ب «إِلَى» .
والثاني: أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل «رَسُولاً» فيكون منصوبَ المحلِّ في قراءة الجمهور، مجرورة في قراءة اليزيديِّ.
فصل
هذه الآية تدل على أنه - عليه السلامُ - كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل، وقال بعض اليهودِ: إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين.
قيل: إنما كان رسولاً بعد البلوغ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى - عليهما السلام - وقال القرطبيُّ: وفي حديث أبي ذر الطويل: « ... وَأولُ أنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُوْسَى، وآخرهُم عِيسَى» .
قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} قرأ العامَّةُ «أنِّي» بفتح الهمزة، وفيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن موضعها جر - بعد إسقاط الخافض -، إذ الأصل: بأني، فيكون «بأنَّي» متعلِّقاً ب «رَسُولاً» وهذا مذهب الخليلِ والكسائي.
والثاني: أن موضعها نصب، وفيه ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنه نصب بعد إسقاط الخافض - وهو الباء - وهذا مذهبُ التلميذين: سيبويه والفرّاء.
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدَّر، أي: يذكر، فيذكر صفة ل «رَسُولاً» حُذِفَت الصفة، وبقي معمولُها.
الثالث: أنه منصوب على البدل من «رَسُولاً» ، أي: إذا جعلته مصدراً مفعولاً به، تقديره: ويسلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم.
وقرأ بعضهم بكسر الهمزة، وفيها تأويلان:
أحدهما: أنها على إضمار القول، أي قائلاً: إني قد جئتكم، فحُذِفَ القولُ - الذي هو حالٌ في المعنى، وأبقي معموله.
والثاني: أن «رَسُولاً» بمعنى ناطق، فهو مُضَمَّن معنى القول، وما ك ان مُضَمَّناً معنى القول أعْطِيَ حكم القول. وهذا مذهب الكوفيين.
قوله: {بِآيَةٍ} يحتمل أن يكون متعلقاص بمحذوفٍ، على أنه حال من فاعل(5/239)
«جِئْتُكمُ» ، أي: جئتكم [ملتبساً بآية] . والثاني: أن يكون متعلقاً بنفس المجيء، أي: جاءتكم الآية. . والآية: العلامة.
فإن قيل: لم قال «بِآيَةٍ» وقد أتى بآياتٍ؟
فالجوابُ: أن المراد بالآية: الجنس.
وقيل: لأن الكل دل على شيء واحدٍ، وهو صدقه في الرسالة.
قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} صفة ل «آيَةٍ» فيتعلق بمحذوف، أي: بآية من عند ربكم، ف «مِنْ» للابتداء مجازاً، ويجوز أن يتعلق {مِّن رَّبِّكُمْ} بنفس المجيء - أيضاً.
وقدر أبو البقاء الحال - في قوله: «بِآيَةٍ» - بقوله: «محتجاً بآيةٍ، إن عنى من جهة المعنى صح، وإن عنى من جهة الصناعة لم يَصِحّ؛ إذْ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكن، إلا الأكوان المُطْلَقَة» .
وقرأ الجمهور «بِآيةٍ» - بالإفراد - في الموضعين، وابن مسعود -: بآياتٍ - جمعاً - في الموضعين.
قوله: {أني أَخْلُقُ} قرأ نافع بكسر الهمزة، والباقون بفتحها، فالكسر من ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: على إضمار القول، أي: فقلت: إني أخلق.
الثاني: أنه على الاستئناف.
والثالث: على التفسير، فسر بهذه الجملة قوله: «بِآيَةْ» ، كأن قائلاً قال: وما الآية؟ فقال هذا الكلام.
ونظيره قوله: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] ثم قال: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] ف «خَلَقَهُ» مفسرة للمثل؛ ونظيره - أيضاً قوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [المائدة: 9] ثم فسر الوعد {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9] . وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف؛ فإن المستأنَفَ يؤتى به تفسيراً به لمجرد الإخبار بما تضمنه، وفي الوجه الثالث نقول: إنه متعلِّق بما تقدمه، مفسِّر له.
وأما قراءة الجماعة ففيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ:
أحدها: أنها بدل من {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} فيجيء، فيها ما تقدم في تلك؛ لأن حكمها حكمها.(5/240)
الثاني: أنها بدل من «بِآيَةٍ» فيكون محلُّها الجَرّ، أي: وجئتكم بأني أخلق لكم، وهذا نفسه آية من الآيات.
وهذا البدلُ يحتمل أن يكون كُلاًّ من كُلٍّ - إن أريد بالآية شيء خاصٌّ - وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس.
الثالث: أنها خبر مبتدأ مُضْمَر، تقديره: هي أني أخلق، أي: الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة - في الحقيقة - جوابٌ لسؤال مقدر، كأن قائلاً قال: وما الآية؟ فقال ذلك.
الرابع: أن تكون منصوبةً بإضمار فعل، وهو - أيضاً - جواب لذلك السؤال، كأنه قال: أعني أني أخلُقُ.
وهذان الوجهان يلاقيان - في المعنى - قراءة نافع - على بعض الوجوه - فإنهما استئناف.
قوله: {أَخْلُقُ لَكُم} [البقرة: 21] أن الخلق هو التقدير، ويدل عليه وُجُوهٌ:
أحدها: قوله: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] أي: المقدِّرين، وقد ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع، فوجب أن يكون بالتقدير والتسوية.
وثانيها: أن لفظ الخلق: يطلق على الكذب، قال تعالى: {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} [الشعراء: 137] وقال: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] وقال: {إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق} [ص: 7] . والكاذب إنما سُمِّي خالقاً، لأنه يقدِّر الكذب في خاطره ويُصَوره.
وثالثها: هذه الآية.
ورابعها: قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض} [البقرة: 29] إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله: «خلق» على الإيجاد والإبداع لكان المعنى: أن كل ما في الأرض الآن فهو - تعالى - كان قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك بَاطِلٌ، فوجب حَمْل الخلق على التقدير - حتى يَصِحّ الكلام - وهو أنه - تعالى - قدَّر في الماضي كلَّ ما وُجِدَ الآن في الأرض.
وخامسها: قول الشاعر: [الكامل]
1474 - وَلأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي
وقال الآخر: [البسيط](5/241)
1475 - وَلاَ يَئِطُّ بِأيْدِي الْخَالِقِينَ وَلاَ ... أيْدِي الْخَوَالِقِ إلاَّ جَيِّدُ الأدَمِ
وسادسها: أنه يقال: خلق الفعل إذا قدرها وسواها بالمقياس، والخَلاَق: المقدار من الخير، وفلان خليق بكذا، أي: له هذا المقدار من الاستحقاق، والصخرة الخَلْقاء: الملساء؛ لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف، فثبت أن الخلق عبارةٌ عن التقدير والتسوية.
وقال أبو عبد الله البصريُّ: لا يجوز إطلاق «الخالق» على الله - تعالى - في الحقيقة؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والتخيُّل، وذلك على الله تعالى مُحَالٌ.
وأجيب بقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3] والتقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن، لكن الظن كان محالاً في حق الله تعالى فالْعِلْمُ ثابتٌ.
إذا عرفت هذا فقوله: {أني أَخْلُقُ} معناه: أقَدِّر وأصَوِّر.
قوله: {لَكُمْ} متعلق ب «أخلُقُ» واللام للعلة، أي: لأجلكم - بمعنى لتحصيل إيمانكم، ودَفْع تكذيبكم إياي - وإلا فالذوات لا تكون عِلَلاً، بل أحداثها. و {مِّنَ الطين} متعلق به - أيضاً - و «مِنْ» لابتداء الغاية، وقول من قال: إنها للبيان تساهل؛ إذ لم يَسْبِق مُبْهَم تبينه.
قوله: {كَهَيْئَةِ} في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها نَعْت لمفعولٍ محذوفٍ، تقديره: أني أخلق لكم هيئة مثلَ هيئة الطير. والهيئة إما أن تكونَ في الأصل مصدراً، ثم أطلِقَت على المفعول - أي: المُهَيَّأ - كالخلق بمعنى: المخلوق، وإما أن تكون اسماً لحال الشيء وليست مصدراً، والمصدر: التَّهْيِيء - والتَّهَيُّؤ - والتَّهْيِئَة.
ويقال: هاء الشيء يَهِيءُ هَيْئاً وهَيْئَةً - إذا ترتب واستقر على حال مخصوص - ويتعدى بالتضعيف، قال تعالى: {وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} [الكهف: 16] ، والطين معروف، يقال: طَانَهُ الله على كذا وطَلَمَهُ - بإبدال النون ميماً - أي: جبله عليه، والنفخ مَعْرُوفٌ.
الثاني: أن الكاف مفعول به؛ لأنها اسم كسائر الأسماء - وهذا رأي الأخْفَشِ، حيث يجعل الكاف اسماً حيث وقعت وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه - كوقوعها مجرورة بحرف جر، أو إضافة، أو وقوعها فاعلةً أو مبتدأ. وقد تقدم ذلك.
الثالث: أنها نعت لمصدر محذوف، قاله الواحديُّ نقلاً عن أبي عليٍّ بعد كلامٍ طويلٍ: «ويكون الكاف موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد، تقديره: أنِّي أخلق لكم من الطّينِ خلقاً مثل هيئة الطَّيْرِ» .(5/242)
وفيما قاله نظرٌ من حيث المعنى؛ لأن التحدِّي إنما يقع في أثر الخلق - وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات - لا في نفس الخلق، اللهم إلا أن نقول: المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم.
قال الزمخشري: أي أقدِّر لكم شيئاً مثل هيئة الطّيرِ. وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله: «أقدر» تفسير للخلق؛ لأن الخلق هنا - التقدير - كما تقدم - وليس المراد الاختراع، فإنه مختص بالباري - تعالى -.
وقرأ الزهريُّ: «كَهَيْئَةِ» - بنقل حركة الهمزة إلى الياء.
وقرأ أبو جعفر: «كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ» .
قوله: {فَأَنْفُخُ فِيهِ} في هذا الضمير ستة أوجُهٍ:
أحدها: أنه عائد على الكاف؛ لأنها اسم - عند مَنْ يرى ذلك - أي: فأنفخ في مثل هيئة الطير.
الثاني: أنه عائد على «هَيْئَةِ» ، لأنها في معنى الشيء المُهَيَّأ، فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً وإن كانت مؤنثةً - اعتباراً بمعناها دون لفظها، ونظيره قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة} [النساء: 8] ثم قال {فارزقوهم مِّنْهُ} [النساء: 8] فأعاد الضمير في {مِنْهَا} على {القِسْمَةَ} لما كانت بمعنى المقسوم.
الثالث: أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف، أي: فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير.
الرابع: أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ. وهو أني أخلق. ويكون الخلق بمنزلة المخلوق.
الخامس: أنه عائد على ما دَلَّت عليه الكاف من معنى المثل؛ لأن المعنى: أخلق من الطِّينِ مثلَ هيئة الطَّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره: أني أخلق لكم خلقاً مثل هيئة الطير. قاله الفارسي؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك.
السادس: أنه عائد على الطين، قاله أبو البقاء، وأفسده الواحديُّ، قال: «ولا يجوز أن تعود الكناية على» الطِّينِ «لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيَّئاً منه - والطين المتقدم ذكرُه عام فلا تعود إليه الكناية، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين» .
وفي هذا الرَّد نَظَر؛ إذ لقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّم عمومَ الطين المتقدم، بل المراد(5/243)
بعضه. ولذلك أدخل عليه «مِنْ» التي تقتضي التبعيض، فإذا صار المعنى: أني أخلق بعض الطين، عاد الضَّمِيرُ عليه من غير إشكال، ولكنَّ الواحدي جعل «مِنْ» في الطين لابتداء الغاية، وهو الظَّاهِرُ.
قال أبو حيّان: «وقرأ بعض القُرَّاء» فأنْفَخَهَا «. أعَاد الضمير على الهيئة المحذوفة؛ إذ يكون التقدير: هيئة كهيئة الطير، أو على الكاف - على المعنى - إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة: {فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً} [المائدة: 110] ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر، كما حذف في قوله: [البسيط]
1476 - مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلاَ قَمَتْكَ نَائِحَةٌ ... وَلاَ بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أسْلاَبِ
وقول النابغة: [البسيط]
1477 - ... ... ... ... ... ..... كَالْهِبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْما
يريد ولا قامت عليك، وينفخ في الفَحْمِ. وهي قراءة شائة، نقلها الفرَّاء» .
قال شهابُ الدين: «وعجبت منه، كيف لم يَعْزُها، وقد عزاها صاحبُ الكشَّاف إلى عبد الله، قال: وقرأ:» أعبدُ الله «فأنفخها» .
قوله: {فَيَكُونُ} في «يكون» وجهان:
أحدهما: أنها تامة، أي: فيوجد، ويكون «طيراً» - على هذا - حالاً.
والثاني: أنها ناقصة، و «طَيْراً» - على هذا - حالاً.
والثاني: أنها ناقصة، و «طيراً» خبرها. وهذا هو الذي ينبغي أن يكون؛ لأن في وقوع اسم الجنس حالاً لا حاجة إلى تأويل، وإنما يظهر ذلك على قراءة نَافعٍ «طَائِراً» ؛ لأنه - حينئذٍ - اسم مشتق.
وإذا قيل بنقصانها، فيجوز أن تكون على بابها، ويجوز أن تكون بمعنى «صار» الناقصة، كقوله: [الطويل]
1478 - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَاَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي صارت.(5/244)
وقال أبو البقاء: «فيكون - أي فيصير - فيجوز أن يكون» كان «هنا - التامة؛ لأن معناها» صار «بمعنى: انتقل، ويجوز أن تكون الناقصة، و» طَائِراً «- على الأول - حالٌ، وعلى الثاني - خَبَرٌ» .
قال شِهَابُ الدِّينِ: «ولا حاجة إلى جعله إياها - في حال تمامها - بمعنى» صار «التامة التي معناها معنى» انتقل «بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث، ووجد، وحصل، وشبهها وإذا جعلوها بمعنى» صار «فإنما يعنون» صار «الناقصة» .
وقرأ نافع ويَعْقُوبُ فيكون طائِراً - هنا وفي المائدة - والباقون «طَيْراً» في الموضعين.
فأما قراءة نافع فوجَّهَهَا بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحيد، والتقدير: فيكون ما أنفخ فيه طائراً ولا يعترض عليه بأن الرسمَ الكريمَ إنما هو «طَيْراً» - دون ألف - لأن الرسم يُجوِّز حذف مثل هذه الألف تخفيفاً ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] ولا طير - دون ألف - ولم يقرأه أحد «طائر» - بالألف - فالرسم محمل، لا مُنَافٍ.
قال بعضهم كالشارح لما تقدم -: ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاشِ، وزعم آخرون أن معنى قراءته: يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائراً، قال: كقوله تعالى: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] أي اجلدوا كل واحد منهم وهو كثير من كلامهم.
وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يُرَاد به اسم الجنس - أي: جنس الطير - ويُحْتَمل أن يُرَاد به الواحد فما فوقه، ويحتمل أن يراد به الجمع، ولا سيما عند من يرى أن طيراً صيغة جمع نحو رَكْب وصَحْب وتَجْر؛ جمع راكب وصاحب وتاجر - وهو الأخفشُ - وأما عند سيبويه فهي عنده أسماء جموع، لا جموع صريحة وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. وحسن قراءة الجماعة لموافقتها لما قبلها - في قوله: {مِّنَ الطير} - ولموافقة الرسم لفظاً ومعنى.
قوله: {بِإِذْنِ الله} يجوز أن يتعلق ب «طَيْراً» - على قراءة نَافِعٍ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به؛ لأن «طَيْراً» اسم جِنْسٍ، فيتعلق بمحذوف على أن صفة لِ «طَيْراً» أي: طيراً ملتبساً بإذن الله - بتمكينه وإقداره.
قال أبو البقاء: متعلق ب «يكون» . وهذا إنما يظهر إذا جعل «كان» تامة، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلُّق الظرف بها الخلاف المشهور.(5/245)
فصل
روي أن عيسى - عليه السلام - لما ادَّعَى النبوةَ، وأظهر المعجزات، طالبوه بخَلْق خفاش فأخذ طيناً، فصوَّره، فنفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض.
قال وَهْبٌ: كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتاً، ليتميز فعلُ الخلْق من فعل الخالق.
قيل: خلق الخُفَّاش، لأنه أكمل الطير خَلْقاً، وأبلغ في القدرة؛ لأن لها ثَدْياً وأسْنَاناً وأذناً، وهي تحيض وتطهر وتَلِد.
وقيل: إنما طالبوه بخلق خُفَّاش؛ لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم، يطير بغير ريش ويلد كما يَلِد الحيوان، ولا يبيض كما يبيض سائر الطُّيور، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يُبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس سَاعةً، وبعد طلوع الفجر سَاعةً - قبل أن يُسْفِر جِدًّا - ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة. قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش. وقال آخرون: إنه خلق أنواعاً من الطّيْرِ.
فصل
قال بعض المتكلمين: دلت الآيةُ على أن الروح جسم رقيقٌ، كأنه الريح؛ لأنه وصفها بالنفخ، ثم هاهنا بحث، وهو أنه هل يجوز أن يقال: إنه - تعالى - أودع في نفس عيسى - عليه السلام - خاصية، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حَيًّا؟
ويقال: إن الله - تعالى - كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات، وهذا الثاني هو الحق؛ لقوله تعالى: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وقال إبراهيمُ عليه السلام لمناظريه: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال. وقوله: {بِإِذْنِ الله} معناه: بتكوين الله وتخليقه؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 145] أي بأن يُوجَِ اللهُ الموتَ.
فصل
القرآن دل على أنه - عليه السلام - إنما تولد من نفخ جبريل - عليه السلام - في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض، فكانت نفخة عيسى عليه السلام سبباً للحياة والروح.(5/246)
قوله: «وأبرئ الأكمه» وأبرئ عطف على «أخْلُقُ» فهو داخل في خبر «أنِّي» . يقال: أبرأت زيد عن العاهة ومن الدِّيْن، وبَرَّأتك من الدين - بالتضعيف. وبَرَأت من المرض أبْرأ وبَرِئْتُ - أيضاً - وأما برئت من الدَّيْنِ ومن الذَّنْب، فبَرِئْتُ لا غَيْرُ.
وقال الأصمعيُّ: برئتُ من المرض لغةُ تَمِيم، وبَرَأتُ لغَةُ الحجازِ.
قال الراغبُ: «بَرَأتُ من المرض وَبَرئْتُ، وَبَرَأت من فلان» ، فالظاهرُ من هذا أنه لا يقال الوجهان - أعني فتح الراء وكسرها - إلا في البراءة من المرض ونحوه. وأما الدَّيْنُ والذَّنْبُ ونحوهما، فالفتح ليس إلا.
والبراءة: التخلص من الشيء المكروه مجاورته؛ وكذلك التَّبَري والبراء.
فصل
من وُلِدَ أعْمَى، يقال: كَمِه يَكْمَهُ فهو أكْمَه.
قال رؤبة: [الرجز]
1479 - فَارْتَدَّ عَنْهَا كَارْتِدَادِ الأكْمَهِ ... يقال: كمهتها، أي: أعميتها.
قال الزمخشريُّ والراغبُ وغيرُهما: «الأكمهُ: من وُلِدَ مطموس العينين» ، وهو قول ابنِ عباس وقتادة.
قال الزمخشري: «ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير» .
قال الراغب: «وقد يُقال لمن ذَهَبَتْ عينُه: أكمه» .
قال سُوَيد: [الرمل]
1480 - كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضّتَا..... ... ... ... ... ... ... . .
قال الحسنُ والسُّدِّيُّ: هو الأعمى.(5/247)
وقال عكرمةُ: هو الأعمش.
وقال مجاهد: هو الذي يبصر بالنهار ولا يُبْصر بالليلز
والبرص: داء معروف، وهو بياضٌ يَعْتَري الإنسانَ، ولم تكن العربُ تنْفر من شيء نُفْرَتَها منه، ويُقال: برص يبرص بَرَصاً، أي: أصابه ذلك، ويقال له: الوَضَح، وفي الحديث: «وَكَانَ بِهَا وَضَحٌ» . والوضَّاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له: الأبرص. ويقال للقمر: أبْرَص؛ لشدة بياضِه.
وقال الراغب «وللنكتة التي عليه» وليس بِظَاهِرٍ، فَإنَّ النُّكْتَةَ التي عليه سوداء، والوزغ سامٌّ أبرص، سُمِّيَ بذلك؛ تشبيهاً بالبرص، والبريص: الذي يَلْمَع لمعان البرص ويقارب البصيص.
فصل
إنما خَصَّ هذين المرضَيْن لأنهما أعْيا الأطباء، وكان الغالب في زمن عيسى - عليه السلام - الطبَّ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك.
قال وَهَبٌ: رُبَّما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى - في اليوم الواحد - خَمْسُونَ ألفاً، من أطاق منهم أن يبلغه بَلَغه، ومن لم يُطِقُ مَشَى إليه عيسى، وكان يداويهم بالدُّعاء - على شرط الإيمان - ويُحْيي الموتَى.
قال الكلبيُّ: كان عيسى يُحْيي الموتَى ب «يا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أخي عَازَرَ» وكان صديقاً له، ودعا سام من نوح من قبره فخرج حَيًّا، ومرَّ على ابن عجوز ميت، فدعا الله عيسى، فنزل عن سريره حَيًّا، ورجع إلى أهله وبقي ووُلِدَ لَهُ، وبنت العاشر أحياها، وولدت بعد ذلك. وأما العازر فإنه كان تُوُفِّي قبل ذلك بأيام فدعا الله، فقام - بإذن الله - وَودَكُه يَقْطُر، وعاش، ووُلِدَ له. وأما ابنُ العجوزِ، فإنه مر به محمولاً على سريره، فدعا الله، فقام، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه إلى أهله، وأما ابنة العاشر فكان أتى عليها ليلة، فدعا الله، فعاشت بعد ذلك، وولد لها. فلما رأوا ذلك قالوا: إنك تُحْيي من كان موتُه قريباً، ولعله لم يمت، بل أصابتهم سكتة فأَحْيِ لنا سام بن نوح، فقال: دلوني على قبره، فخرجوا وخرج معهم، حتى انتهى إلى قبره، فدعا الله، فخرج من قبره، قد شاب رأسُهُ، فقال له عيسى: كيف شاب رأسُك ولم يكن في زمانكم شَيْبٌ؟ فقال: يا رُوحَ اللهِ، إنك دعوتني، فسمعت صوتاً يقول: أجِبْ رُوحَ اللهِ، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن هَوْل(5/248)
ذلك شاب رأسي.
فساله عن النزع، فقال: يا روح الله، إن مرارة النزع لم تَذْهَب من حنجرتي - وكان قد مر على وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنةٍ - ثم قال للقوم: صَدِّقُوه؛ فإنه نبيٌّ، فآمن به بعضُهم، وكذَّبه بعضُهم، وقالوا: هذا سحرز
فصل
قَيَّد قوله: {أني أَخْلُقُ} بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم، فأتَى به؛ دفعاً لتوهُّم الإلهية، ولم يأت فيه فيما عُطِف عليه في قوله: {وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص} ثم قيَّد الخارقَ الثالث - أيضاً - بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم أيضاً - وعطف عليه قوله: {وَأُنَبِّئُكُم} من غير تقييد له ونبهه على عِظم ما قبلَه، ودَفْعاً لوهم من يتوهم فيه الإلهيّة، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين؛ اكتفاء به في الأول والأول أحسن.
قوله: {بِمَا تَأْكُلُونَ} يجوز في «ما» أن تكون موصولةً - اسميَّة أو حرفيَّة - ونكرة موصوفة. فعلى الأول والثالث تحتاج إلى عامل بخلاف الثاني - عند الجمهور - وكذلك «ما» في قوله: {وَمَا تَدَّخِرُونَ} محتملة لما ذكر. وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه.
قوله: {تَدَّخِرُونَ} قراءة العامة بدال مشدَّدةٍ مهملةٍ، وأصله: تَذتَخِرُونَ - تفتعلون - من الذخر، وهو التخبية، يقال: ذَخَر الشيء يَذْخَرُه ذَخْراً، فهو ذاخرٌ ومذخورٌ - أي: خبَّأه.
قال الشاعر: [البسيط]
1481 - لَهَا أشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ ... مِنَ الثَّعَالِبِي وَذُخْرٌ مِنْ أرَانِيها
الذخر: فُعْل بمعنى المذخور، نحو الأكل بمعنى المأكول، وبعض النحويين يصَحِّفُ هذا البيتَ فيقول: وَوخْزٌ - بالواو والزاي - وقوله: من الثَّعَالِي، وأرانيها، يريد: الثعالب، وأرانبها، فأبدل الباء الموحدة باثنتين من تحتها.
ولما كان أصله: تَذْتَخِرون، اجتمعت الذال المعجمة مع تاء الافتعال، فأبدِلَتْ تاء الافتعال دالاً مهملةً، فالتقى بذلك متقاربان - الدال والذال - فأبدل الذال - المعجمة - دالاً، وأدغمها في الذال المعجمة - فصال اللفظ: تَدَّخرون.
وقد قرأ السوسيُّ - في رواية عن أبي عمرو - تَذْدَخِرُون بقلب تاء الافتعال دالاً مهملة من غير إدغام، وهذا وإن كان جائزاً إلا أن الإدْغامَ هو الفصيح.(5/249)
وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السّمّال وأيوب السختياني «تَذْخَرُونَ» - بسكون الذَّال المعجمة، وفَتح الخاء جاءوا به مجرداً على فَعَل، يقال: ذَخَرته - أي: خبَّأته.
ومن العرب من يقلب تاء الافتعال - في هذا النحو - ذالاً معجمة، فيقول: اذَّخَر يذخِر - بذال معجمة مشددة، ومثله اذَّكَر فهو مذّكر.
وسيأتي إن شاء الله تعالى.
قال أبو البقاء: والأصل في «تَدَّخِرُونَ» تَذتَخِرون، إلاَّ أنَّ الذالَ مجهورة، والتاء مهموسة، فلم يجتمعا، فأبدلت التاء دالاً؛ لأنها من مَخْرَجِها؛ لتقرب من الذال، ثم أبدِلت الذال دالاً، وأدغمت. و «في بيوتكم» متعلق ب «تَدَّخِرُونَ» .
فصل
في الآية قولان:
أحدهما: قال السُّديُّ: كان عيسى عليه السلام في الكتّاب يُحَدِّثُ الغِلْمَانَ بما يصنع آباؤهم، ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلُك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبيُّ إلى أهله، ويبكي لهم، حتى يعطوه ذلك الشيءَ، فيقولون مَنْ أخبرَك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا صبيانَهُمْ عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيتٍ فجاء عيسى، وطلبهم، فقالوا: ليسوا هاهنا. فقال: ما في هذا البيت قالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير، ففشا ذلك في بني إسرائيل، فهمت به بنو إسرائيل، فلما خافت عليه أمُّه، حملته على حمارٍ لها، وخرجت هاربةً به إلى مصر.
قال قتادةُ: إنما كان هذا في المائدةِ، وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمَنِّ والسَّلْوَى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد، فخانوا وخبّأوا، فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادَّخروا، فمسخهم اللهُ خنازيرَ.
وقال القرطبيُّ: إنه لمَّا أحيا لهم الموتى طلبوا منه آيةً أخرى، وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا، وبما ندخر للغد، فأخبرهم، فقال: يا فلان، أكلتَ كذا وكذا، وادَّخرت كذا وكذا، وأنت يا فلان، أكلت كذا وكذا وادَّخرت كذا وكذا.
فصل
اعلم أن الإخبار عن الغيب على هذا الوجه معجزة؛ وذلك لن المنجِّمين الذين(5/250)
يدعون استخراج الجنيِّ لا يُمكنهم ذلك إلا عن تقدم سؤال يستعينون عند ذلك بآلة، ويتوصَّلون بها إلى معرفة أحوال الكواكبِ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى.
قوله: {إنَّ فِى ذَلِكَ} إشارة غلى جميع ما تقدم من الخوارق، وأشِير إليها بلفظ الإفْرادِ - وإن كانت جمعاً في المعنى - بتأويل ما ذُكِر.
وقد تقدم أن مصحفَ عبدِ الله وقراءته «لآياتٍ» - بالجمع؛ مراعاةً لما ذكرنا من معنى الجمع، وهذه الجملة يُحْتَمَل أن تكون من كلام عيسى، وأن تكون من كلام الله تعالى.
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابه محذوف، أي: إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية، وتدبَّرتموها. وقدر بعضهم صفةً محذوفةً ل «آية» أي: لآية نافعة. قال ابو حيّان: «حتى يتَّجه التعلُّق بهذا الشرط» وفيه نظر؛ إذْ يَصِحّ التعلُّق بالشرط دون تقدير هذه الصفة.
قوله: {مُصَدِّقًا} نَسَقٌ على محل بآيةٍ، لأن محل «بآيَةٍ» في محل نصبٍ على الحالِ؛ إذ التقدير وجئتكم متلبساً بآيةٍ ومصدقاً.
وقال الفراء والزَّجَّاجُ: نصب «مُصَدِّقاً» على الحال، المعنى: وجئتكم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، وجاز إضمار «جئتكم» ، لدلالة أول الكلام عليه - وهو قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} - ومثله في الكلام: جئته بما يُحِبُّ ومُكْرِماً له.
قال الفراء: «ولا يجوز أن يكون» مُصَدِّقاً «معطوفاً على» وَجِيهاً «؛ لأنه لو كان كذلك لقال: أو مصدقاً لما بين يديه، يعني: أنه لو كان معطوفاً عليه؛ لأتى معه بضمير الغيبة، لا بضمير التكلُّم» . وذكر غير الفرّاء، ومنع - أيضاً - أن يكون منسوقاً على «رَسُولاً» قال: لأنه لو كان مردوداً عليه لقال: ومصدقاً لما بين يديك؛ لأنه خاطب بذلك مريم، أو قال: بين يديه.
يعني أنه لو كان معطوفاً على «رَسُولاً» لكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير الخطاب؛ مراعاةً لمريم، أو بضمير الخطاب مراعاةً للاسم الظاهر.
قال أبو حيّان: وقد ذكرنا أنه يجوز في «رَسُولاً» أن يكون منصوباً بإضمار فعل - أي: وأرسلت رسولاً - فعلى هذا التقدير يكون «مُصَدِّقاً» معطوفاً على «رَسُولاً» .
قوله: {مِنَ التوراة} فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من «ما» الموصولة، أي: الذي بين يدي حال كونه من التوراةِ، فالعامل فيه مصدقاً لأنه عامل في صاحب الحالِ.
الثاني: أنه حال من الضمير المُسْتَتِر في الظرف الواقع صِلَةً. والعامل فيه الاستقرارُ المُضْمَرُ في الظرف أو نفس الظرف؛ لقيامه مقامَ الفعل.(5/251)
فصل
اعلم أنه يجب على كل نبيٍّ أن يكون مُصَدِّقاً لجميع الأنبياء؛ لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة، فكل مَنْ حصلت له المعجزةُ، وجب الاعترافُ بنبوته.
قوله: {وَلأُحِلَّ} فيه أوجُهٌ:
أحدها: أنه معطوف على معنى «مُصَدِّقاً» إذ المعنى: جئتكم لأصَدِّقَ ما بين يديَّ ولأحِلَّ لكم، ومثله من الكلام: جئته مُعْتَذِراً إليه ولأجْتَلِبَ رِضاهُ - أي: دئت لأعتذر ولأجتلب - كذا قال الواحديُّ، وفيه نظرٌ؛ لأن المعطوف عليه حال، وهذا تعليلٌ.
قال أبو حيّان: - بعد أن ذكر هذا الوَجْهَ -: «وهذا هو العطف على التوهُّم وليس هذا منه؛ لأن معقولية الحال مخالفة لمعقوليَّة التعليلِ، والعطف على التوهُّم لا بُدَّ أن يكون المعنى مُتَّحِداً في المعطوف والمعطوف عليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض.
وكذلك قول الشاعر: [الطويل]
1482 - تَقِيٌّ نَقِيٌّ، لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةً ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
كيف اتخذ معنى النفي في قوله: لم يُكَثِّرْ، وفي قوله: ولا بِحَقلَّدٍ، أي: ليس بمكثر ولا بحقلدٍ.
وكذلك ما جاء منه «.
قال شهابُ الدّينِ:» ويمكن أن يريد هذا القائلُ أنه معطوف على معنى «مُصَدِّقاً» أي: بسبب دلالته على علةٍ محذوفةٍ، هي موافقة له في اللفظ، فنسب العطف على معناه، باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه - أعني مدلول المادة - وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل «.
الثاني: انه معطوف على عِلَّةٍ مقدرة، أي: جئتكم بآية، ولأوسِّعَ عليكم ولأحِلَّ، أو لأخفِّفَ عنكم ولأحِلَّ، ونحو ذلك.
الثالث: أنه معمول لفعلٍ مُضْمَرٍ؛ لدلالة ما تقدم عليه، أي: وجئتكم لأحِلَّ، فحذف العامل بعد الواو.
والرابع: أنه متعلق بقوله: {وَأَطِيعُونِ} والمعنى اتبعوني لأحِلَّ لكم. وهذا بَعِيدٌ جداً أو مُمتنع.
الخامس: أن يكون {ولأُحِلَّ لَكُمْ} رداً على قوله:» بِآيةٍ «. قال الزمخشريُّ: {وَلأُحِلَّ} رَدٌّ على قوله {بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: جئتكم بآية من ربكم ولأحلَّ.(5/252)
قال أبو حيان:» ولا يستقيم أن يكون {وَلأُحِلَّ لَكُم} راَّا على «بآيَةٍ» ، لأن «بِآيَةٍ» في موضع حال و «لأحل» تعليل، ولا يَصِحُّ عطف التعليل على الحال؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوفِ عليه، فإن عطفت على مصدر، أو مفعولٍ به، أو ظرفٍ، أو حالٍ، أو تعليل وغير ذلك شارَكه في ذلك المعطوف «.
قال شهاب الدين: ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد رداً على» بآية «من حيث دلالتها على عمل مقدر.
قوله: {بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} المراد ب» بَعْض «مدلوله في الأصل.
قال أبو عبيدة: إنها - هنا - بمعنى» كل «.
مستدلاًّ بقول لَبِيد: [الكامل]
1483 - تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضَهَا ... أوْ يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يعني كلّ النفوس.
وقد يرد الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الزنا، والسرقةَ، والقَتْلَ؛ لأنها كانت محرَّمةً عليهم، فلو كان المعنى: ولأحِلَّ لكم كُلَّ الذي حُرِّم عليكم لأحلَّ لهم ذلك كلَّه.
واستدل بعضهم على أن» بَعْضاً «بمعنى» كُلّ «بقول الآخر: [الطويل]
1484 - أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
أي: أهون من كل شر.
واستدل ىخرون بقول الشَّاعِر: [البسيط]
1485 - إنَّ الأمُورَ إذَا الأحْدَاثُ دَبَّرَهَا ... دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ
أي: في كلها خللاً، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه؛ إذ مراد لبيد ب» بَعْضَ النُّفُوسِ «نفسه هو والتبعيض في البيت الآخر واضح؛ فإن الشر بعضه أهون من بعضٍ آخر لا من كُلِّه، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان خَلَلاً، بل قد يأتي تدبيره خيراً من تدبير الشيخ.(5/253)
وقرأ العامة: «حُرِّمَ» بالبناء للمفعول، والفاعل هو الله. وقرأ عكرمة «حَرَّمَ» مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى، أو الموصول في قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ؛ لأنه كتاب مُنزَّل، أو موسى؛ لأنه هو صاحب التوراة، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه.
وقرأ إبراهيم النّخْعِيُّ: «حَرُمَ» - بوزن شَرُفَ وظَرُفَ - ونُسِب الفعل إليه مجازاً للعلم بأن المُحَرِّم هو الله.
فإن قيل: هذه الآية مناقضةٌ للآية التي قبلَها؛ لأنها صريحة في أنه جاء ليُحِلَّ لهم بعض الذي كان محرماً عليهم في التوراة، وهذا يقتضي أن يكون حكمُه بخلاف حكم التوراة، وهذا يناقض قوله: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} .
فالجوابُ: أنه لا مناقضة بين الكلام؛ لأن التصديق بالتوراة، لا معنى له إلاَّ اعتقاد أن كلَّ ما فيه فهو حق وصواب، فإذا لم يكن التأبيد مذكوراً في التوراة لم يكن حكمُ عيسَى بتحليل ما كان محرَّماً فيه مناقضاً لكونه مُصَدِّقاً بالتوراة، كما يَرِدُ النسخُ في الشريعةِ الواحدةِ.
فصل
قال وَهَبٌ: كان عيسى على شريعة موسى، يقرِّر السبتَ، ويستقبل بيتَ المَقدِس، ثم فَسَّرَ قوله: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} بأمرين:
أحدهما: أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائعَ باطلةً، ونسبوها إلى موسى، فجاء عيسى ورفعها، وأبْطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى - عليهما السلام -.
الثاني: أن الله - تعالى - كان قد حَرَّم عليهم بعضَ الأشياء؛ عقوبةً لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات، كما قال: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] ثم بَقِي ذلك التحريمُ مستمراً على اليهود، فجاء عيسى، ورفع عنهم تلك التشديداتِ.
وقال آخرون: إن عيسى رَفَعَ كثيراً من أحكام التوراةِ، ولم يقدَحْ ذلك في كونه مُصَدِّقاً بالتوراة؛ لِمَأ بينا أن الناسخَ والمنسوخَ كلاهما حَقٌّ وصِدْقٌ، فرفع السَّبْتَ، وأقام الأحدَ مُقَامَه.
قوله: {وَجِئْتُكُمْ} هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيداً للأولَى؛ لتقدُّم معناها ولفظها قبل ذلك.(5/254)
قال أبو البقاء: «هذا تكرير للتوكيد؛ لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها» .
ويحتمل أن تكون للتأسيس؛ لاختلاف متعلَّقها ومتعلَّق ما قبلها.
قال أبو حَيَّانَ: قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} للتأسيس، لا للتوكيد لاختلاف متعلقها لقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وتكون هذه الآية هي {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} ، لأن هذا القولَ شاهدٌ على صحة رسالتِه؛ إذ جميعُ الرُّسُلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجعل هذا القولَ آيةَ وعلامةً؛ لأنه رسول كسائر الرُّسُلِ؛ حيث هداه للنظر في أدلَّةِ العقل والاستدلال قاله الزمخشريُّ، [وهو صحيح] .
وقال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} لأن طاعة الرسولِ من لوازم تَقْوَى اللهِ.
وقوله: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} قراءة العامة بكسر همزة «إنّ» على الإخبار المستأنف؛ وهذا ظاهر على قولنا: إن {جِئْتُكُمْ} تأكيد.
أما إذا جعلناه تأسيساً، وجُعِلَت الآية هي قوله: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} - بالمعنى المذكور أولاً - فلا يصحُ الاستئناف، بل يكون الكسر على إضمار القول، وذلك القول بدلٌ من الآية، كأن التقدير: وجئتكم بآية من ربكم قَوْلي: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} ، ف «قَوْلِي» بدلٌ من آية، و «إنّ» وما في حَيِّزها معمول «قولي» ، ويكون قوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} اعتراضاً بين البدل والمُبْدَل منه.
وقرئ بفتح الهمزة، وفيه أوجُهٌ:
أحدها: أنه بدل من «آية» ، كأن التقدير: وجئتكم بأن الله ربي وربكم، أي: جئتكم بالتوحيد.
وقوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} اعتراضٌ أيضاً.
الثاني: أن ذلك على إضمار لام العلة، ولام العلةِ متعلقة بما بعدها من قوله {فاعبدوه} ، والتقدير: فاعبدوه لأن الله ربي وربكم كقوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] إلى أن قال: {فَلْيَعْبُدُواْ} [قريش: 3] إذ التقدير فليعبدوا، لإيلاف قريش، وهذا عند سيبويه وأتباعه - ممنوع؛ لأنه متى كان المعمول أنّ وصلتها يمتنع تقديمها على عاملها لا يجيزون: أنَّ زيداً منطق عرفت - تريد عرفت أن زيداً منطلقٌ - للفتح اللفظي، إذْ تَصَدُّرُها - لفظاً يقتضي كسرها.
الثالث: أن يكون على إسقاط الْخَافِضِ - وهو على - و «على» يتعلق بآية بنفسها، والتقدير: وجئتكم بآية على أن الله، كأنه قيل: بعلامة ودلالة على توحيد الله - تعالى -(5/255)
قاله ابنُ عَطِيَّةَ، وعلى هذا فالجملتان الأمْرِيَّتان اعتراض - أيضاً - وفيه بُعْدٌ.
قوله: {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} «هذا» إشارة إلى التوحيد المدلول عليه بقوله {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} أو إلى نفس {إِنَّ الله} باعتبار هذا اللفظ هو الصراط المستقيم.(5/256)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
الإحساس: الإدراك ببعص الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمُّ واللمس والسمع والبصر - يقال: أحسَسْتُ بالشيء وبالشيء وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به، ويقال: حَسَيْت - بإبدال سينه الثانية ياءً - وأحست بحذف أول سِينيه -.
قال الشاعر: [الوافر]
1486 - سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا ... أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ
قال سيبويه: ومما شَذَّ من المضاعف - يعني في الحَذْف - فشبيه بباب أقمت، وليس وذلك قولهم أَحَسْتُ وأَحَسْنَ - يريدون: أحسست وأحسَسْنَ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة، فإذا قلت: لم أحس، لم تحذف.
وقيل: الإحساس: الوجود والرؤية، يقال: هل أحْسَسَْ صاحبَك - أي: وجدته، أو رأيته؟
قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «الحِسّ» في القرآن على أربعة أضربٍ:
الأول: بمعنى الرؤية، قال تعالى: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} [آل عمران: 52] وقوله تعالى: {أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} [الأنبياء: 12] أي رأوه. وقوله {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] أي: هل تَرَى منهم؟
الثاني: بمعنى القتل، قال تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] أي:(5/256)
تقتلونهم.
الثالث: بمعنى البحث، قال تعالى: {فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87] .
الرابع: بمعنى الصوت، قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [الأنبياء: 102] أي: صَوْتَهَا.
قوله: {مِّنْهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب «أحَسَّ» و «مِنْ» لابتداء الغاية أي: ابتداء الإحساس من جهتهم.
الثاني: أنه متعلق بمحذوف، على أنه حال من الكفر، أي: أحس الكفر حال كونه صادراً منهم.
فصل
في هذا الإحساس وجهان:
أحدهما: أنهم تكلَّمُوا كلمةَ الكُفْرِ فأحَسُّوا ذلك بإذنه.
والثاني: أن يُحْمَلَ على التأويل، وهو أنه عرف منهم إصرارَهم على الكفر وعزمهم على قتله، ولما كان ذلك العلم عِلْماً لا شُبْهَةَ فيه، مثل العلم الحاصل من الحواس - لا جرم - عبر عنه بالإحساس، واختلفوا في السبب الذي ظهر فيه كفرهم على وُجُوهٍ:
أحدها: قال السُّدِّيُّ: إنه - تعالى - لما بعثه إلى بني إسرائيل، ودعاهم إلى دينِ اللهِ تعالى فتمردوا وعصوا، فخافهم واختفى عنهم.
وقيل: نفوه وأخرجوه، فخرج هو وأمُّه يَسِيحَانِ في الأرض، فَنَزَلا في قرية على رجل، فأضافهم، وأحسن إليهم، وكان بتلك المدينة ملك جَبَّار، فجاء ذلك الرجل يوماً حَزِيناً، مُهْتضمًّا، ومريم عند امرأته، فقالت مريم ما شأن زَوْجك؟ أراه كئيباص؟ قالت: لا تسأليني. فقالت: أخبريني، لعل الله يفرِّج كرْبَتَه، قالت: إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يطعمه ويطعم جنوده، ويسقيهم الخمر، فإن لم يفعل، عاقبه، واليوم نوبتنا، وليس لذلك عندنا سَعَةٌ، قالت: فقولي له: لا يهتم؛ فإني آمُرُ ابني فيدعو له، فيُكفى ذلك. فقالت مريم لعيسى يا ولدي ادع الله أن يكفيه ذلك، فقال: يا أمَّه، إن فعلتُ ذلك كان فيه شر فقالت: قد احْسَنَ إلينا وأكرمنا، فقال عيسى: قولي له إذا قَرُب مجيء الملك فاملأ قُدُورَك وجوابيَك [ماءاً] ثم أعْلِمْني.
ففعل ذلك، فدعا الله تعالى - فتحوَّل ما في القدور طبيخاً، وما في الجوابي خَمْراً، لم يرى الناس مثلَه، فلما جاء الملك أكل، فلما شرب الخمرَ، قال: من اين هذا الخمر؟ قال: من أرض كذا، قال الملك: إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال: هذه من أرض أخرى، فلما خلط على الملك، واشتد عليه، قال: أنا أُخْبِرُك، عندي غلام لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً وكان للملك ابن يُريد أن يستخلفه، فمات قبل ذلك بأيام - وكان أحبَّ الخلق إليه - فقال: إنه رجل دعا الله حتى جعل الماء خمراً ليُستجابَنَّ له حتى يُحْييَ ابني، فدعا عيسى(5/257)
فكلمه في ذلك فقا لعيسى: لا تفعل فإنه إن عاش وقع الشر فقال: ما أبالي ما كان - إذا رأيته - قال عيسى: فإن أحيَيْتُهُ تتركني وأمي نذهب حيث شئنا؟ قال: نعم. فدعا الله تعالى - فعاش الغلامُ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلفَ علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه؟ فاقتتلوا. وذهب عيسى وأمُّه فمروا بالحواريِّين - وهم يصطادون السمكَ - فقال ما تصنعون؟ قالوا: نصطاد السمك، قال: أفلا تمشون حتى تصطادوا الناسَ؟ قالوا: مَنْ أنت؟ قال: عيسى ابن مريم، عبد الله ورسوله، {مَنْ أنصاري إِلَى الله} ؟ فآمنوا به وانطلقوا معه وصار أمر عيسى مشهوراً في الخلق، فقصد اليهودُ قتلَه، وأظهروا الطعن فيه.
وثانيها: أن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشَّر به في التوراة، وأنه ينسخ دينَهم، فكانوا هم أوَّل طاعنين فيه، طالبين قَتْلَهُ، فلما أظهر الدعوةَ، اشتد غضبهُم، وأخذوا في إيذائه وطلبوا قتله.
وثالثها: أن عيسى - عليه السلام - ظنّ من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به، وأن دعوته لا تنجع فيهم، فأحب أن يمتحنهم، ليتحقق ما ظنه بهم، فقال لهم: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} فما أجابه إلا الحواريُّونَ، فعند ذلك أحس بأن مَنْ سِوَى الحواريين كافرون، مصرون على إنكار دينه، وطلب قتله.
قوله: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} ؟ «أنْصَار» جمع نصير نحو شريف وأشراف.
وقال قوم: هو جمع نَصْر المراد به المصدر، ويحتاج إلى حذف مضاف أي مَنْ أصْحَابُ نُصْرَتي؟ و «إلى» على بابها، وتتعلق بمحذوف؛ لنها حال، تقديره: من أنصاري مضافين إلى الله، كذا قدره أبو البقاء.
وقال قوم إن «إلَى» بمعنى مع أي: مع الله، قال الفرَّاء: وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل «إلَى» في موضع «مع» إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه، كقول العرب: الذود إلى الذَّوْدِ إبل، أي: مع الذود.
بخلاف قولك: قدم فلان ومعه مال كثير، فإنه لا يصلح أن يقال: وإليه مال، وكذا قوله: قدم فلان مع أهله، ولو قلت إلى أهله لم يصح، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] .
وقد رد أبو البقاء كونَها بمعنى: «مع» فقال: [وقيل: هي بمعنى: «مع» ] وليس بشيء؛ فإن «إلَى» لا تصلح أن تكون بمعنى «مع» ولا قياس يُعَضِّدُهُ.
وقيل: إن «إلَى» بمعنى اللام من أنصاري لله؟ كقوله: {يهدي إِلَى الحق} ، كذا(5/258)
قدره الفارسي.
وقيل: ضمَّن أنصاري معنى الإضافة، أي: من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي، فيكون «إلَى الله» متعلقاً بنفس «أنصاري» .
وقيل: متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في «أنْصَارِي» أي: مَنْ أنصاري ذَاهِباً إلى الله ملتجِئاً إليه، قاله الزمخشريُّ.
وقيل: التقدير: من أنصاري إلى أن أبَيِّن أمر الله، وإلى أن أظهر دينه، ويكون «إلَى» هاهنا غاية؛ كأنه أراد: من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي، ويظهر أمرُ الله؟
وقيل: المعنى: من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه؟
وفي الحديث: أنه - عليه السلام - كان يقول - إذا ضَحَّى -: «اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ» أي تقرّبنا إليك.
وقيل: «إلى» بمعنى: «في» تقديره: من أنصاري في سبيل الله؟ قاله الحسنُ.
فصل
والحواريون، جمع حواري، وهو النّاصرُ، وهو مصروفٌ - وإن ماثل «مفاعل» ؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حَوَاليّ - وهو المحتال - وهذا بخلاف: قَمَارِيّ وَبخَاتِيّ، فإنهما ممنوعان من الصرف، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ - عارضة، بخلافها في قَمَاري وبخاتيّ فإنها موجودة - قبل جمعهما - في قولك قُمْريّ وبُخْتِيّ. والحواريّ: الناصر - كما تقدم - ويُسَمَّى كل من تبع نبياً ونصره: حوارياً؛ تسمية له باسم أولئك؛ تشبيهاً بهم، وفي الحديث عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الزبير: «ابن عمتي وحواريّ أمتي» وفيه أيضاً - «إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْر» ، وقال معمر قال قتادة: إن الحواريّين كلهم من قريش: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدةِ بن الجراح، وعثمان بن مَظْعُون وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وَقّاصِ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين. وقيل: الحواريّ: هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جِرتُ الثوب، أي: أخلصت بياضَه بالغَسْل، ومنه سُمِّي القَصَّار(5/259)
حوارياً؛ لتنظيفه الثياب، وفي التفسير: إن أتباع عيسى كانوا قصارين.
قال أبو عبيدة: سمي اصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين.
وقال الفرزدق: [البسيط]
1487 - فَقُلْتُ: إنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ ... إذَا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلاَبِيْبِ
يعني النساء؛ لبياضهن وصفاء لونهن - ولا سيما المترفِّهات - يقال لهن: الحواريات، ولذلك قال الزَّمَخْشَريُّ: وحواري الرَّجُلِ: صفوته وخالصته، ومنه قيل للحضريات: الحواريات؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن.
[وأنشد لأبي حلزة اليشكري] : [الطويل]
1488 - فَقُلْ للحَوَارِيَّاتِ: يبكين غيرَنا ... ولا تبكِنا إلا الكلابُ النوابحُ
ومنه سميت الحور العين؛ لبياضهن ونظافتهن، والاشتقاق من الحور، وهو تبيض الثياب وغيرها:
وقال الضّحّاكُ: هم الغَسَّالون وهم بلغة النبط - وهواري - بالهاء مكان الحاء -.
قال ابن الأنباري: فمن قال بهذا القول قال: هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبطِ وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون.
وقيل: «هم المجاهدون» كذا نقله ابنُ الأنباريّ.
وأنشد: [الطويل]
1489 - وَنَحْنُ أُنَاسٌ تَمْلأُ البِيْضُ هَامُنَا ... وَنَحْنُ الحَوَارِيُّونَ يَوْمَ نُزَاحِفُ
جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقَاءِ تُرُوسُنَا ... إلَى الْمَوْتِ نَمْشِي لَيْسَ فِينَا تَجَانُفُ
قال الواحديُّ: والمختار - من هذه الأقوال عند أهل اللغة - أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة.
وقال الراغبُ: حوَّرت الشيء: بيَّضت ودوَّرته، ومنه الخبز الحُوَّارَى، والحواريُّون: أنصار عيسى.(5/260)
وقيل: اشتقاقه من حار يَحُور - أي: رَجَع. قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14] . أي لن يرجع، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حَوَراً - أي: رجع - وحار يحور حَوَراً - إذا تردَّد في مكانه ومنه: حار الماء في القدر، وحار في أمره، وتحيَّر فيه، وأصله تَحَيْوَرَ، فقُلِبَت الواوُ ياءً، فوزنه تَفَيْعَل، لا تفعَّل؛ إذْ لو كان تفعّل لقيل: تحوَّر نحو تجوَّز ومنه قيل للعود الذي تُشَدُّ عليه البكرة: مِحْوَر؛ لتردُّدِهِ، ومَحَارة الأذُنِ، لظاهره المنقعر - تشبيهاً بمحارة الماء؛ لتردُّد الهواء بالصوت كتردُّد الماء في المحارة، والقوم في حوارى أي: في تَرَدُّد إلى نقصان، ومنه: «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» وفيه تفسيران: أحدهما: نعوذ بالله من التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه والثاني: نعوذ بالله من النقصان والتردُّد في الحال بعد الزيادةِ فيها.
ويقال: حَارَ بعدما كان. والمحاورة: المرادَّة في [الكلام] ، وكذلك التحاورُ، والحوار، ومنه: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 34] و {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} [المجادلة: 1] ومنه أيضاً: كلمته فما رجع إليَّ حواراً وحَوِيراً ومَحُورة وما يعيش بحَوْر - أي: بعَقْل يرجع إليه. والحور: ظهور قَلِيلِ بَيَاض في العين من السواد، وذلك نهاية الحُسْنِ في العينِ، يقال - منه -: أحورت عينه، والمذكر أحور، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور - نحو حُمر في جمع أحمر وحمراء -.
وقيل: سُمِّيت الحوراءُ حوراء لذلك.
وقيل: اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه، قاله أبو البقاء والضَّحَّاك، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام، وما يشوب الدين.
قاله ابن المبارك: سُمُّوا بذلك؛ لما عليهم من أثر العبادة ونورها.
وقال رَوْحُ بن قَاسِم: سألت قتادةَ عن الحواريِّين، فقال: هم الذين تَصْلُح لهم الخلافةُ، وعنه أنه قال: الحواريون هم الوزراء.
والياء في «حواريّ وحواليّ» ليست للنسب، بل زيادة كزيادتها في كُرْسِيٍّ، وقرأ العامة «الْحَوَارِيُّونَ» بتشديد الياء في جميع القرآن، وقرأ الثَّقَفِي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرأن، قالوا: لأن التشديد ثقيل.(5/261)
وكان قياس هذه القراءة أن يُقال فيها: الحوارون؛ وذلك أنه يستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها، فتنتقل ضمة الياءِ إلى ما قبلها، فتَسْكُن الياء، فيلتقي ساكنان، فيحذفوا الياء؛ لالتقاء الساكنين، وهذا نحو جا ءالقاضون، الأصل: القاضيون، فَفَعَلُوا به ما ذُكِر. قالوا: وإنما أقِرَّت ضمةُ الياء عليها؛ تنبيهاً على أن التشديد مُرادٌ؛ لأن التشديد يتحمل الضمة، كما ذهب الأخفشُ في «يَسْتَهْزِيُونَ» إذ أبدل الهمزةَ ياءً مضمومةً، وإنما بقيت الضمة؛ تنبيهاً على الهمزة.
فصل في المراد ب «الحواريين»
اختلفوا في الحواريين، فقال مجاهد والسُّدِّيُّ: كانوا صيادين يصطادون السمك وسُمُّوا حواريين؛ لبياض ثيابهم، وذلك أن عيسى لما خرج سائحاً مَرَّ بجماعة يصطادون السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويُوحَنَّا بني رودي وهم منه جملة الحواريين الاثني عشر، فقال لهم عيسى: أنتم تصيدون السمك، فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناسَ بحياة الأبد، قالوا: ومن أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجز، وكان شمعون قد رَمَى شبكته تلك الليلة، فما اصطاد شيئاً، فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة ما كادت تتمزق، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا سفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال الحسنُ: كانوا قصَّارين، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثيابَ، أي يبيِّضونها.
وقيل: كانوا ملاَّحين وكانوا اثني عشر رجلاً، اتَّبعوا عيسى، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روحَ الله جعلنا، فيضرب بيده الأرضَ، فيخرج لكل واحد رغيفانِ، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا، فيضرب بيده الأرضَ فيخرج الماء، فيشربون، فقالوا: من أفضل منا؛ إذا شئنا أُطعِمْنَا، وإذا شئنا استقينا، وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم مَنْ يعمل بيده، ويأكل من كَسْبه، قال: فصاروا يَغْسِلُون الثيابَ بالكراء، فسُمُّوا حَوَاريِّين.
وقيل: كانوا ملوكاً، وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً، وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلامُ على قصعة منها، فكانت القصعة لا تنقص، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك، فقال: أتعرفونه؟ قالوا: نعم فذهبوا، فجاءوا بعيسى، فقال: من أنت؟ قال عيسى ابن مريم، قال: وأنا أترك ملكي وأتبعك، فتبعه ذلك الملك مع أقاربه، فأولئك هم الحواريون.
وقيل: إن أمه سلَّمته إلى صَبَّاغ، فكان إذا أراد أن يعلِّمَه شيئاً كان هو أعلم به منه،(5/262)
فأراد الصباغ أن يغيب يوماً لبعض مُهمَّاتِه، فقال له: هاهنا ثياب مختلفة، وقد جعلت على كل واحد علامةً معينةً، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي، ثم غاب، فطبخ عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جُبًّا واحداً، وجعل الجميع فيه، وقال: كوني بإذن الله كما أريد، فرجع الصباغ، وسأله، فأخبره بما فعل، فقال: أفسدت عليَّ الثيابَ، قال: قم فانظر، فكان يخرج ثوباً أخضر، وثوباً أصفر، وثوباً أحمر، - كما كان يريد - إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به، وهم الحواريُّونَ.
قال القفَّال: ويجوز أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السَّمكِ، وبعضهم من القصَّارين، وبعضهم من الصبَّاغين، والكل سموا بالحواريين؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى - عليه السلام - وأعوانه، والمخلصين في محبته وطاعته.
قوله: {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} أي: أنصار أنبيائه؛ لأن نُصْرَةَ اللهِ - في الحقيقة - محالٌ. {آمَنَّا بالله} هذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى: أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله؛ لأجل أن آمنا به؛ فإن الإيمان بالله يوجب نُصْرَةَ دينِ الله، والذَّبَّ عن أوليائه، والمحاربة لأعدائه، ثم قالوا: {واشهد} يا عيسى {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: منقادون لما تريد منا من نُصْرَتِك.
ويحتمل أن يكون ذلك إقراراً منهم بأن دينَهم الإسلام، وأنه دين كلّ الأنبياء - عليهم السلام - ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرَّعوا غلى الله، وقالوا: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول} عيسى {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.
وقال عطاء: مع النبيين؛ لأن كل نبي شاهد أمته، وقد أجاب الله دعاءهم، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى - عليه السلام -.
قال ابن عباس: مع محمد وأمته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] .
وقيل: اجعلنا من تلك الفرقة الذين فرنتَ ذكرَهم بذكرِك في قولك: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] . قوله: {مَعَ الشاهدين} حال من مفعول {فاكتبنا} وفي الكلام حذف، أي: مع الشاهدين لك بالوحدانية. قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} من باب المقابلة، أي: لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به. هكذا قيل، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم} [الأعراف: 99] والمكر في اللغة أصله الستر، يقال: مكر اللَّيْلُ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه.(5/263)
قال القرطبي: وأصل المكر في اللغة: الاحتيال والخِداع، والمكر: خَدَالةُ الساق، والمكر: ضَرْب من النبات ويقال: بل هو المَغْرَة، حكاه ابنُ فارس، قالوا: واشتقاقه من المكر، وهو شجر ملقف، تخيلوا منه أن المكر منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه، وامرأة ممكورة الخَلْق، أي: ملتفة الجسم، وكذا ممكورة البَطْن.
ثم أطلق المكر على الخُبْث والخداع، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعيُ بالفساد، قال الزّجّاجُ هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم، وعب ربعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلةٍ، وذلك ضربان: محمود، وهو ان يتحرَّى به فِعْلَ جَميلٍ، وعلى ذلك قوله: {والله خَيْرُ الماكرين} . ومذموم، وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح، نحو: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ٍ.
فصل
أمَّا مَكْرُهُمْ بعيسى - عليه السلام - فهو أن عيسى لما خرج عن قومه - هو وأمه - عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فَهَمُّوا بقتله، فذلك مكرهم به. وأما مكرُ الله بهم ففيه وجوه:
أحدها: أن مكر الله استدرَاج العبد، وأخذه بغتةً من حيث لا يعلم، كما قال {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] .
وقال الزّجّاج: «مكر الله» مجازاتهم على مكرهم، فسَمَّى الجزاءَ باسم الابتداء؛ لأنه في مقابلته، كقوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] وقوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] . ومكر الله - تعالى - خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتلَ عيسى، وكان جبريل لا يفارقه ساعةً واحدةً، وهو معنى قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} [البقرة: 87] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه رَوْزَنَةٌ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة، وكان قد ألقي شبهه على غيره، فأخِذ، وصُلِب، فتفرَّق الحاضرون ثلاث فرقٍ:
فرقة قالوا: كان الله فينا فذهب. والأخْرَى قالت: ابن الله. والثالثة قالت: كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثاني: أن الحواريين كانوا اثني عشر، وكانوا مجتمعين في بيت، فنافق واحدٌ منهم، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه، ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافقَ الذي كان منهم وقتلوه، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، ثم قالوا: وجهه يُشْبِه وَجْه عيسى، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا عيسى، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيمٌ، حتى قتل بعضهم، فذلك هو مكرُ اللهِ بهم.
الثالث: قال محمدُ بنُ إسحاقَ: إن اليهودَ عَذبُوا الحواريين بعد أن رُفِع عيسى عليه(5/264)
السلام، ولَقُوا منهم الجهد، فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته، فقيل له: إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله، وأراهم إحياء الموتَى، وإبراء الأكْمَهِ والأبرصِ، وفَعَل وَفََل، فقال: لو علمتُ ذلك ما خَلَّيْتُ بينهم وبينه.
ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم وسالهم عن عيسى، فأخبروه وبايعوه على دينهم، وأنزل المصلوب، فغيبه، وأخذ الخشبة، فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خَلْقاً عظيماً، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس، وصار نصرانياً إلا أنه ما أظهَر ذلك، ثم جاء بعده ملك آخرُ يقال طبطيوس غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى، ولم يترك في مدينة بيت المقدسِ حجراً على حجر، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى به على تكذيب المسيح والهَمِّ بقَتْله.
الرابع: أن الله تعالى سلَّط عليهم ملك فارس، فقتلهم، وسباهم، وهو قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار} [الإسراء: 5] فهذا هو مكر الله - تعالى - بهم.
الخامس: يحتمل أن يكون المراد منهم أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه، ومكر الله بهم، حيثُ أعلى دينَهُ، وأظهر شَرِيعَتَهُ، وقهر بالذل أعداءَه - وهم اليهود.
وفي قوله: {والله خَيْرُ الماكرين} إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمر؛ إذ الأصل: ومكروا ومكر اللهُ، وَهُوَ خَيرُ بالْماكِرِينَ
قوله: {إِذْ قَالَ الله} في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: قوله: {وَمَكَرَ الله} أي: مكر الله بهم في هذا الوقت.
الثاني: {خَيْرُ الماكرين} .
الثالث: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ، فيه وجهان:
أحدهما: وهو الأظهر - أن يكون الكلام على حاله - من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه - بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلكَ الكفارُ، إلى أن تموت حتفَ أنفِك - من غير أن تُقتَل بأيدي الكفار - ورافعك إلى سمائي.
الثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والأصلُ: رافعك إليَّ ومتوفيك؛ لأنه رُفِعَ إلى السماء، ثم يتوفى بعد ذلك، واواو للجمع، فلا فرق بين التقديمِ والتأخيرِ قاله أبو البقاء.
ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى، إلا(5/265)
أن أبا البقاء حمل التوفي على الموت، وذلك إنما هو بَعْدَ رَفْعِه، ونزلوه إلى الأرض وحُكمِه بِشريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما ثبت في الحديثِ. فعلى الأول ففيه وجوهٌ:
أحدها: إني متمم عمرك، وإذا تَمَّ عمرُك فحينئذٍ أتوفَّاك كما قدمناه.
الثاني: إني مُميتُك، والمقصود منه ألا يصل أعدؤه من اليهود إلى قتله. وهو مروي عن ابن عبَّاسٍ ومحمد بن إسحاق، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: قال وَهْبٌ: تُوفِّي ثلاثَ ساعاتٍ، ثم رُفِع وأحْيِيَ.
الثاني: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه.
الثالث: قال الربيع بن أنس: إنه - تعالى - أنامه حال رفعه إلى السماء، قال تعالى {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] .
وثالثها: أن الواو لا تفيد الترتيب، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت أنه حي، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلكز
رابعها: إني متوفيك عن شهواتك، وحظوظ نفسك، فيصير حاله كحال الملائكة - في زوال [الشهوات] والغضب والأخلاق الذميمة -.
خامسها: أن التَّوفِّيَ اخذ الشيء وافياً، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو رُوحهُ، لا جَسَدُهُ، ذكر ذلك؛ ليدل على أنه - عليه السلام - رفع بتمامه إلى السماء - بروحه وجسده.
وسادسها: إني متوفيك، أي جاعلك كالمتوفى؛ لأنه إذا رفع إلى السماء، وانقطع خبره، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
وسابعها: أن التوفِّي هو القبض، يقال: فلان وفاني دراهمي، ووافاني، وتوفيتها منه، كما يقال سلم فلان درامي إلي، وتسلمتها منه. فإن قيل: فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع، فيصير قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} تكراراً، فالجواب: أن قوله {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} يدل على حُصُولِ التَّوفِّي، وهو جنس تحته أنواع، بعضها بالموتِ وبعضُها بالإصعادِ، فلما قال: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} صار تعييناً للنوع، فلم يكن تكراراً.
ثامنها: أن يقدر حذف مضاف، أي: متوفي عملك، بمعنى مستوفي عملك،(5/266)
ورافعك إليَّ، أي: ورافع عملك إليّ، كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] والمرادُ منه: أنه تعالى بشره بقبول طاعاتِهِ وأعماله، وعرَّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق - في نشر دينه، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يُضيع أجره، ولا يهدر ثوابهُ.
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حكماً عدلاً، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، فَيَفِيضُ الْمَالُ، حَتَّى لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ» .
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نزول عيسى: «وَيُهْلَكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّها إلاَّ الإسْلاَم وَيُهْلَكُ الدَّجَّال، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» .
وقيل للحُسَيْن بن الفضل: هل تجدُ نزولَ عيسى في القرآن؟ قال: نعم، قوله: {وَكَهْلاً} وهو لم يكتهل في الدنيا، وإنما معناه: {وَكَهْلاً} بعد نزوله من السماء.
فصل
قال القرطبيُّ: «والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاةْ ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس» .
وقال الضحاك: وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ، فأخذوا بباب الغرفة، فقال المسيح للحواريين: أيُّكُمْ يخرج، ويقتل، ويكون معي في الجنة؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله، فألقَى إليه مدرعة من صوف، وعمامة من صوفٍ، ونَاوَلَه عُكَّازه، وألقي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه، وصلبوه، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ، وألبسه النورَ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب، فَطَارَ مع الملائكة، ثم إن اصحابه تفرقوا ثلاث فرق:
فقالت فرقة: كان اللهُ فينا، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية.(5/267)
وقالت فرقة: كان فينا ابن الله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهم النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبدُ الله ورسوله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهؤلاء هم المسلمون.
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يَزَل الإسلامُ طامساً حتى بَعَثَ اللهُ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} [الصف: 14] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى.
قوله: {وَرَافِعُكَ إلَيَّ} تمسَّك القائلون بالاستعلاء بهذه الآية، وأجيبُوا عنها بوجوهٍ:
أحدها: أن المراد إلى محل كرامتي، كقول إبراهيم: «إنِّي ذاهبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ» وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من «العراق» إلى «الشام» ، ويُسَمَّى الحُجَّاجُ زُوَّارَ الله، والمجاورون جيران الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم، فكذا هاهنا.
وثانيها: أن معناه [رافعك إلى مكان] لا يملك الحكم عليه فيه غيرُ اللهِ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلقَ أنواعُ الحُكَّامِ، أمَّا السموات فلا حاكم هناك - في الظاهر وفي الحقيقة - إلا اللهُ.
وثالثها: أن القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك المكان سبباً لانتفاعه، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبهُ من الثواب والرَّوح والريحان والراحة، فلا بد من حمل اللفظِ على أن المراد: ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يَبْقَ في الآية دلالة على ما ذكروه.
قوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} معناه مُخْرِجك من بينهم، ومُنَجِّيك، فكما عظَّم شأنَه بلفظ الرفع، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنَه بلفظ الرفع، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنِه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.
قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} فيه قولان:
أظهرهما: أنه خطاب لعيسى عليه السلام.
الثاني: أنه خطاب لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيكون الوقف على قوله: {مِنَ الذين كَفَرُواْ} تاماً، والابتداء بما بعده، وجاز هذا؛ لدلالة الحال عليه. و {فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} ثاني مفعولي {وَجَاعِلُ} لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط.
و {إلى
يَوْمِ
القيامة} متعلق بالجَعْل، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم. ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدَّر في فَوْقَ أي: جاعلهم قاهرين لهم، إلى يَوْمِ القيامةِ،(5/268)
يعني أنهم ظاهرون على اليهود، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا، فأما يوم القيامة، فَيَحْكُمُ اللهُ بينهم، فيدخل الطائع الجَنَّةَ، والعاصي النَّارَ وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا، وانقضائها؛ لن لهم استعلاءٌ آخر غير هذا الاستعلاء.
قال أبو حيّان: «والظاهر أن» إلى «تتعلق بمحذوف وهو العامل في» فَوْقَ «وهو المفعول الثاني ل» َجَاعِل «إذْ معنى» جاعل «هنا مُصَيِّر، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة. وهذا على أن الفوقية مجاز، أما إن كانت الفوقية حقيقة - وهي الفوقية في الجنة - فلا تتعلق» إلى «بذلك المحذوف، بل بما تقدم من» مُتَوَفِّيك «أو من» رَافِعُكَ «أو من» مُطَهِّرُكَ «إذْ يصح تعلُّقه بكل واحد منها، أما تعلقه ب» رَافِعُكَ «أو ب» مُطَهِّرُكَ «فظاهر، وأما ب» مُتَوَفِّيكَ «فعلى بعض الأقوال» .
يعني ببعض الأقوال أن التوفي يُرادُ به: قابضك من الأرض من غير موت، وهو قول جماعة - كالحسن والكلبي [وابن جريج] وابن زيد وغيرهم. أو يراد به ما ذكره الزمخشريُّ: وهو مُسْتَوْفٍ أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلَكَ الكفارُ، ومؤخِّرُك إلى أجل كتبتُهُ لك، ومميتك حَتْفَ أنفكِ لا قَتْلاً بأيدي الكفار، وإن على قول مَنْ يقول: إنه تَوَفٍّ حقيقةً فلا يُتَصَوَّر تعلُّقه به؛ لأن القائلَ بذلك لم يَقُل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة، بل قائل يقول: إنه تُوُفِّي ثَلاثَ ساعاتٍ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْرٌ في اليقظة. وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثةُ عواملَ، وإذا ضَمَمْنَا إليها كَوَن الفوقية مجازاً تنازع فيها أربعة عوامل، والظاهر أنه متعلق ب «جَاعِل» . وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم «أحكم» ونحوه قبل الباء.
فصل
قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتل والكلبيُّ: الذي اتبعوه هم أهْلُ الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينَه في التوحيد من أمَّةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهم فوق الذين كفروا ظاهرين بالعزة، والمنعة، والحُجَّةِ.
قال الضحاك: يعني الحواريين.
وقيل: هم الروم.(5/269)
وقيل: النصارى، فَهُمْ فَوْقَ اليهود إلى يَوْمِ القيامةِ، فإن اليهود قد ذهب ملكُهم، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة. وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين، فإن النصارى - وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشَدَّ مخالفةٍ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجُهَّالُ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهوديًّا ولا بلدة مملوءة من اليهود، بل يكونون - أيْنَما كانوا - في الذلة والمسكنة، والنصارى بخلاف ذلك.
فصل
قال أهلُ التّاريخِ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاثَ عشْرَةَ سنةً، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنةً من غلبة الاسكندر على أهل بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنةً ورفعه من بيت المقْدِس ليلة القدر في شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنة، فكانت نبوته ثلاث سنين، وعاشت أمُّه مريم بعد رفعه ست سنين.
فصل
قال ابنُ الْخَطِيبِ: في مباحث هذه الآية موضعٌ مشكل، وهو أن نَصَّ القرآن يدل على أنه - تعالى - حين رفعه ألقى شبهه على غيره، على ما قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] والخبار واردة أيْضاً بذلك، إلا أن الرواياتِ اختلفت، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شَبَهَهُ عليه حتى يُقْتَل في مكانه، وبالجملة ففي إلقاء شَبَهِهِ على الغير إشكالات:
الأول: أنا لو جوَّزنا إلقاء شَبَه إنسان على إنسان آخر، لزم السفسطة؛ فإني إذا رأيتُ ولدي، ثم زينته ثانياً فحينذئ أجوِّزُ أن يكون هذا الذي أراه ثانياً ليس ولدي، بل هو إنسان آخر أُلْقِي شَبَهُهُ عليه وحينئذٍ يرتفع الأمانُ عن المحسوسات.
وأيضاً فالصحابة الذين رأوْا مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأمرهم، ويَنْهَاهُمْ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمدٌ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير، وذلك يُفْضِي إلى سقوط الشرائعِ.
وأيضاً فمدار الأمرِ في الأخبار المتواترةِ على أن يكون المُخْبر الأول إنما أخبر عن المحسوس، فإذا [جاز] الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى، وبالجملة، فَفَتْحُ هذا البابِ أوله السفسطةُ، وآخره إبطالُ النبوات بالْكُلِّيَّةِ.(5/270)
الإشكال الثاني: أن اللهَ - تعالى - كان قد أمر جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأن يكون معه في أكثر الأحوال، كذا قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} [المائدة: 110] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي للعالم من البشر، فكيف لم يَكْفِ في منع أولئك اليهود عنه.
وأيضاً إنه عليه السلام - لَمَّا كان قادراً على إحياء الموتَى، وإبراء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة اليهودِ الذين قصدوه بالسوء، وعلى إسْقامهم، وإلقاء الزمانة والفَلَج عليهم حتى يصيروا عاجزينَ عن التعرُّضِ له؟
الإشكال الثالث: أنه - تعالى - كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يدفعَه عنهم، ويرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء الشبه على الغير؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القَتْل من غير فائدة ألبتة؟
الإشكال الرابع: أنه إذا ألقي شبهه على الغير، ثم إنه رُفِعَ بَعدَ ذلك إلى السماء فالقومُ اعتقدوا فيه أنه عيسى عليه السلام مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.
الإشكال الخامس: أن النصارَى - على كثرتهم في مشارقِ الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح، وغلوّهم في أمره - أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً، مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك، طعَنَّا فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكل ذلك باطل.
الإشكال السادس: أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيًّا زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى - بل كان غيره - لأظهر الجزع، ولقال: إني لَسْتُ بعيسى - بل إنما أنا غيره - ولبالغ في تعريف هذا المعنى، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أنه ليس الأمر على ما ذكرتم.
والجواب ن الأول: أنه كل من أثبت القادرَ المختارَ سلَّم أنه - تعالى - قادرٌ على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زَيْدٍ - مثلاً - ثم إن هذا التجويز لا يوجب الشك المذكور، فكذا القول فيما ذكرتم.
والجواب عن الثاني: أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه، أو أقدر الله عيسى على دَفْع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، وذلك غير جائز، وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث؛ فإنه - تعلى لو رفعه إلى السماء، وما ألْقَى شَبَهَهُ على الغير لبلغت تلك المعجزةُ إلى حَدِّ الإلجاء.
والجواب عن الرابع: أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة؛ وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.(5/271)
والجواب عن الخامس: أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين، ودخول الشبهة على الجَمْع القليل جائز، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الْجَمْعِ القليلِ، لم يكن مُفِيداً للعلم.
والجواب عن السادس: أن بتقدير أن يكون الذي أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى عليه كان مُسْلِماً، وقَبِل ذلك عن عيسى عليه السلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقةِ الحالِ في تلك الواقعةِ.
وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوهِ، ولما ثبت بالمعجز القاطِع صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملةِ معارِضَةً للنص القاطع عن الله.
قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} في الآخرة {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من الدّينِ، وأمر عيسى عليه السلام؛ التفات من غيبة إلى خطابِ؛ وذلك أنه - تعالى - قدَّم ذِكْر مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه - وهم اليهود - وقدَّم - أيضاً - ذِكْرَ مَنْ آمن به - وهم الحواريون رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وقفَّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل مُتَّبِعِي عيسى فوق مخالفيه، فلو جاء النظم على هذا السياق - من غير التفات، لكان: ثم إليّ مرجعهم، فأحكم بَيْنَهُم فيما كانوا، ولكنه التفت إلى الخطاب؛ لأنه أبلغ في البشارة، وأزجر في النذارة.
وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني: إني مُتَوفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ وَجَاعِلُ - هذا الترتيب معنًى حَسَنٌ جِدًّا؛ وذلك أنه - تعالى - بشَّره - أولاً - بأنه متوفيه، ومتولّي أمره، فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ، ثم بَشَّرَه - ثانياً - بأنه رافعه إليه - أي: إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته، ومحل عبادته؛ ليسكن فيها، ويعبدَ ربَّه مع عابديه - ثم - ثالثاً - بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به، ثم رابعاً - برفعة تابعيه على من خالَفهم؛ ليتمَّ بذلك سروره، ويكمل فرحه. وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره؛ لأن - الإنسان بنفسه أهم، وبشأنه أعْنَى، كقوله: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا} [التحريم: 6] وفي الحديث: «ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنَ تَعُولُ» .
قوله: {فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} في محل هذا الموصول قولان:
أظهرهما - وهو الأظهر -: أنه مرفوع على الابتداء، والخبر الفاء وما بعدها.
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدَّر، على أن المسألة من باب الاشتغال، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره، وهذا وجه ضعيف؛ لأن «أمَّا» لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يَلِها إلا المبتدأ(5/272)
امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل، ومن جوَّز ذلك قال: بأنه يُضْمَر الفعلُ متأخِّراً عن الاسم، ولا يضمر قبله. قال: لئلا يَلِيَ «أمَّا» فعل - وهي لا يليها الأفعال ألبتة - فَتُقَدِّر - في قولك: أما زيداً فضربتُهُ - أما زيداً ضربتُ فضَرَبْتُه، وكذا هنا يُقَدَّر: فأما الذين كفروا أعَذِّبُ فأعَذِّبُهُم؛ قدر العامل بعد الصلة، ولا تقدره قبل الموصول؛ لما ذكرناه. وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكابِ وجهٍ ضعيفٍ جدًّا في أفصح الكلامِ.
وقد قرئ شاذًّا {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] بنصب «ثمود» واستضعافها الناس.
فصل
عذاب الكفار - في الدنيا - بالقتل والسبي والجزية والذلة، وفي الآخرة بالنار أيك في وقت الآخرة بالنار {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} .
فإن قيل: وصف العقاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار، وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتاً.
فالجوابُ: أن التفاوُتَ في الدنيا موجود؛ لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى - عليه السلام -، وَنَرى الذِّلَّةَ والمسكنةَ لازمةً لهم.
فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة وعلى المؤمنين قتل الكفار؛ بسبب العهد وعقد الذِّمَّة؟
فالجواب: أن المانع من القتل هو العهد، ولذلك إذا زالَ العهدُ حَلَّ قَتْلُه.
قوله: {وَأَمَّا الذين آمَنُوا} الكلام فيه كالكلام في الموصول قبله.
وقد قرأ حفص عن عاصم والحسن «فَيُوَفِّيهِمْ» - بياء الغيبة - والباقون بالنون. فقراءة حفص على الالتفاتِ من التكلُّم إلى الغيبة؛ تفنُّناً في الفصاحةِ، وقراءة الباقين جاريةٌ على ما تقدم من إتِّسَاق النظم، ولكن جاء هناك بالمتكلم وحده، وهنا بالمتكلم وحده المعظم نفسه؛ اعتناءً بالمؤمنين، ورفْعاً من شأنهم؛ لمَّا كانوا مُعَظَّمِينَ عندَه.
فصل
دَلّتْ هذه الآية على أن العملَ الصالحَ خارجٌ عن مُسَمَّى الإيمان وقد تقدم ذلك، واستدلوا بالآية على أن العملَ علةٌ للجزاء؛ لقوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} فشبههم - في عبادتهم لأجل طلب الثّوابِ بالمستأجر.(5/273)
واحتج المعتزلة بقوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} - بمنزلة قوله: لا يريد ظُلْمَ الظالمين - على أنه تعالى - لا يريد الكفر والمعاصي، قالوا: لأن مُرِيدَ الشيء لا بد وأن يكون مُحِبًّا له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال، وإنما تخالف المحبةُ الإرادة إذا علقناهما بالأشخاص، فقد يقال: أحبّ زيداً، ولا يقال: أريده. فأما إذا عُلِّقَتا بالأفعال فمعناهما واحد، إذا استُعْمِلَتَا على حقيقة اللغة، فصار قوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} بمنزلة قوله: لا يريد ظلم الظالمين كذا قرره القاضي.
وأجيب بأن المحبةَ عبارة عن إرادة إيصالِ الخيرِ إليه فهو - تعالى - وإن أراد كُفْرَ الكافرِ إلا أنه لا يريد إيصالَ الثواب إلَيْه.
قوله: { {ذلك نَتْلُوهُ} يجوز أن يكون «ذَلِكَ» مبتدأ، «نَتْلُوهُ» الخبر «مِنَ الآيَاتِ» حال أو خبر بعد خبر.
ويجوز أن يكون «ذَلِكَ» منصوباً بفعل مقدَّر يفسِّره ما بعده - فالمسألة من باب الاشتغال - و «مِنَ الآيَاتِ» حال، أو خبر مبتدأ مُضمَرٍ [أي: هو من الآيات، ولكنّ الأحسن الرفعُ بالابتداء؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار، وعندهم «زيد ضربته» أحسن من «زيداً ضربته» ، ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ مضمر] ، يعني الأمر ذلك، و «نَتْلُوهُ» على هذا حال من اسم الإشارة، و {مِنَ الآيَاتِ} حال من مفعول «نَتْلُوهُ» .
ويجوز أن يكون «ذَلِكَ» موصولاً بمعنى «الذي» و «نَتْلُوهُ» صلة وعائد، وهو مبتدأ خبره الجار بعده أي: الذي نتلوه عليك كائن من الآيات، أي: المعجزات الدالة على نبوتك. جوَّز ذلك الزَّجَّاجُ وتبعه الزمخشريُّ، وهذا مذهب الكوفيين.
أما البصريون فلا يُجيزُون أن يكون اسماً من أسماء الإشارة موصولاً إلا «ذَا» خاصةً، بشروطٍ تقدم ذكرها؛ ويجوز أن يكون «ذلك» مبتدأ، و «مِنَ الآيَاتِ» خبره، و «نَتْلُوهُ» جملة في موضع نصب على الحال، والعامل معنى اسم الإشارة.
قوله: «نَتْلُوهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه وإن كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى، أي: الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك، كقوله: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} [البقرة: 102] .
والثاني: أنه على بابه؛ لأن الكلام لم يتم، ولم يفرغ من قصة عيسى - عليه السلام - إذْ بقي منها بقية.
و «من» فيها وجهانِ:
أظهرهما: أنها تبعيضية؛ لأن المَتلُوَّ عليه - من قصة عيسى - بعض معجزاته وبعض(5/274)
القرآن وهذا أوْجَهُ وأوضحُ. والمرادُ بالآيات - على هذا - العلامات الدالة على نبوتك.
والثاني: أنها لبيان الجنسِ، وإليه ذهب ابنُ عَطِيَّةَ وبَدَأ به.
قال أبو حيّان: وَلاَ يَتأتَّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز؛ لأن تقدير «من» البيانية بالموصول ليس بظاهر؛ إذ لو قلتَ: ذلك تتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آياتٍ وذكراً [على سبيل المجاز] .
والحكيمُ: صيغة مبالغة محول من «فاعل» . ووصف الكتاب بذلك مجازاً؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزِّله والمتكلم به، فوصف بصفة من هو من سببه - وهو الباري تبارك وتعالى - أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحْكِم في نظمه. وجوزوا أن تكون بمعنى «مُفْعَل» أي: مُحْكَم، كقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] إلا أن «فعيل» بمعنى «مُفْعَل» قليل، قد جاءت منه أليْفَاظ، قالوا: عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [في سبيل الله] فهو حبيس ومُحْبَس. وفي قوله: «نَتْلُوه» التفات من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر - وهو قوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} - كذا قاله أبو حيّان، وفيه نظرٌ؛ إذ يُحْتَمل أن يكون قوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} جِيء به اعتراضاً بَيْنَ أبعاض هذه القصَّةِ.
فصل
التلاوة والقصص واحد؛ لأن معناهما يرجع إلى شيء يُذْكَر بعضُه على أثَر بعض ثم إنه تعالى أضاف القصص إلى نفسه فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] كما أضاف التلاوة إلى نفسه في قوله: {نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى} [القصص: 3] ، وذلك يدل على تشريف الملك وتعظيمه؛ لأن التالي على النبي إنما هو الملك، فَجَعلَ تِلاَوَةَ الْمَلَكِ جَارِيَةً مَجْرَى تِلاَوَتِهِ.
والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن.
وقيل: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذي مِنْهُ نُقِلَت الْكُتُبُ المنزلةُ على الأنبياء - عليهم السلام - أخبر - تعالى - أنَّهُ أنزلَ هذه القَصصَ مما كُتِبَ هنالك.(5/275)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{إِنَّ مَثَلَ عيسى} جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها تعلقاً صناعياً، بل معنويًّا. وزعم بَعْضهُمْ أنها جواب القسم، وذلك القسم هو قوله: {والذكر الحكيم} كأنه قيل:(5/275)
أقسم بالذكر الحكيم أنَّ مثل عيسى، فَيَكُونُ الْكَلاَمُ قد تم عند قوله: {مِنَ الآيَاتِ} ثم استأنف قسماً، فالواو حَرْف جَرٍّ، لا عطف وهذا بَعِيدٌ، أو مُمْتَنعٌ؛ إذ فيه تفكيكٌ لنَظْم القرآنِ، وإذْهاب لرونقه وفصاحته.
قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} في هذه الجملة وَجْهَانِ:
أظهرهما: أنها مفسِّرة لوجه الشبه بين المثلين، فلا مَحَلَّ لَهَا حينئذٍ مِنَ الإعْرَابِ.
الثاني: أنها في محل نصب على الحال من آدَمَ عليه السلام و «قد» معه مضمرة، والعامل فيها معنى التشبيه والهاء في طخَلَقَهُ «عائدة على» آدم «ولا تعود على» عِيْسَى «لِفَسَادِ المعنى.
وقال ابن عطية:» ولا يجوز أن تكون خَلَقَه [صفة] لآدم ولا حالاً منه «.
قال الزّجّاج: إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيهان بل هو كلامٌ مَقْطُوعٌ منه مَضمَّن تفسير الْمَثَلِ، كما يقال في الكَلامِ: مثلك مثل زيد، يشبه في امر من الأمور، ثم يخبر بقصة زيد، فيقول: فعل كذا وكذا.
قال أبو حيّان:» وَفيهِ نَظرٌ «ولم يُبَيِّنُ وَجْهَ النظر.
قال شهاب الدِّينِ:» والظاهر من هذا النظر أن الاعتراضَ - وهو قوله: لا يكون حالاً أنت فيها غير لازمٍ؛ إذ تقدير «قَدْ» تُقَرِّبُه من الحال. وقد يظهر الجوابُ عما قاله الزَّجَّاجُ من قول الزمخشريِّ: قدره جسداً من طين {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} أي: أنشأه بَشَراً «.
قال أبو حيّان: ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء - لا بمعنى التقدير - لم يأت بقوله:» كُنْ «؛ لأن ما خلق لا يقال له: كُنْ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن} عِبَارةً عَنْ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.
وقال الواحديُّ: قوله {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} لَيْسَ بِصِلَةٍ لآدم وَلاَ صِفَةٍ؛ لأن الصِّلَةَ للمبهمات، والصفة للنَّكِرِاتِ، ولكنه خبر مُسْتَأنَف على وجه التفسِيرِ لحال آدمَ عليه السلام.
وعلى قول الزجّاج: {مِن تُرَابٍ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلق ب» خَلَقَهُ «أي: ابتدأ خلقه من هذا الجنس.
الثاني: أنه حال من مفعول» خلقه «تقديره: خلقه كائناً من تراب، وهذا لا يساعده المعنى.
وَالْمَثَلُ هاهنا منهم من فسَّره بمعنى الحال والشأن.(5/276)
قال الزَّمَخْشَريُّ:» إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدمَ «. وعلى هذا التفسير فالكاف على بابها - من كونها حرف تشبيه - وفسَّر بعضُهم المثل بمعنى الصفة، كقوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] ، أي: صفة الجنة.
قال ابنُ عَطِيَّة: وهذا عندي خطأٌ وضَعْفٌ في فَهْمِ الكلام، وإنما المعنى: أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمُتَصَوَّر من آدمَ؛ إذ النّاس كلهم مُجْمِعُون على أن الله - تعالى - خلقه من تراب، من غير فحل، وكذلك قوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} عبارة عن المُتَصَوَّر منها. والكاف في «كَمَثَلِ» اسم على ما ذكرناه من المعنى.
قال أبو حيّان: «ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام مَنْ جعل المثل بمعنى الشأن والحَال أو بمعنى الصفةِ» .
[قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: قَد تَقَدَّمَ فَي أوَّلِ الْبَقَرةِ أنَّ الْمَثَلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَن الصِّفَةِ، وَقَدْ لا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَغَايُرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ النَّاسِ فِيهِ، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ «ريِّ الظَّمآنِ» عن الفارسيّ الْجَميعِ، وقَالَ: «المَثَلُ بِمعنَى الصِّفَةِ، لا يمكن تَصْحِيحُهُ فِي اللُّغَةِ، إنَّمَا الْمثَلُ التشبيه على هذا تدور تصاريفُ الكلمةِ، ولا معنى للوصفية في التشابه؛ ومعنى المثل] في كلامهم أنها كلمة يُرْسِلها قائلُها لحكمة تُشَبَّه بها الأمور، وتقابَل بها الأحوال وقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة.
قال بعضهم: إن الكافَ زائدة.
وقال آخرون: إنّ» مَثَلاً «زائدة فحصل في الكافِ ثَلاَثَةُ أقوالٍ:
قيل: أظهرها: أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة وقد تقدم تحقيقه.
وقال الزمخشريُّ:» فإن قلتَ: كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب ووُجِد آدم من غير أب ولا أمٍّ؟
قلت: هو مثله في أحد الطَّرَفَيْنِ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ، وهما في ذلك يظهران، ولأن الوجود من غير أب ولا أمٍّ أغرب وأخرق للعادةِ من الوجود من غي رأب، فشبَّه الغريبَ بالأغرب؛ ليكون أقطعَ للخَصْم، وأحسم لمادة شُبْهَتِه، إذا نُظِّر فيما هو أغرب مما اسْتَغْرَبَه «.
فصل
قال القرطبيُّ:» دَلَّت هذه الآية على صحةِ القياسِ. والتشبيه واقع على أن عيسى خُلِقَ من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من ترابٍ، والشيء قد يُشَبَّه بالشيء - وإن كان(5/277)
بينهما فرقٌ [كَبِيرٌ]- بعد أن يَجْتَمِعَا في وصف واحدٍ «.
وعن بعض العلماء أنه أسِر بالروم، فقال لهم: لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أبَ لَه.
قال: فآدم أوْلَى؛ لأنه لا أبوين له، قالوا: فإنه كان يُحْيي الموتَى؟ قال: فحَزقيل أوْلَى؛ لأن عيسى أحْيَى أربعةَ نفر، وحزقيل أحْيَى ثَمَانِيةَ آلاف، قالوا: فإنه كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص.
قال: فجَرْجيس أوْلَى؛ لأنه طُبخَ، وأحرق، وخَرَجَ سَالِماً.
قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} اختلفوا في المقول له: كُنْ، فالأكثرون على أنه آدم - عليه السلام - وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية؛ لأنه إنما يقول له: كن قبل أن يخلقَه لا بعده، وهاهنا يقول: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن} .
والجوابُ: أن الله - تعالى - أخبرنا - أولاً - أنه خلق آدم من غير ذَكَرٍ، ولا أنثى، ثم ابتدأ أمراً آخر - يُريد أن يُخْبرَنا به - فقالَ: إني مُخبِرُكم - أيضاً بعد خبري الأولِ - أني قلتُ له: كُن فكان، فجاء «ثُمَّ» لمعنى الخبر الذي تقدم، والخبر الذي تأخر في الذكر؛ لأنَّ الخلقَ تقدم على قوله: «كُنْ» . وهذا كما تقولُ: أخْبِرُكَ أنِّي أعطيكَ اليومَ ألفاً ثم أخبرك أني أعطيتك أمسَ ألفاً، ف «أمسِ» متقدم على «اليوم» وإنما جاء ب «ثُمَّ» ؛ لأنَّ خبرَ «اليومَ» متقدِّمٌ خبر «أمس» ؛ حيث جاء خبرُ «أمس» بعد مُضِيِّ خَبَر «اليوم» ومثله قوله: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]- وقد خَلَقَنا بعد خلق زَوْجِها، ولكن هذا على الخبر دون الخلق؛ لأنَّ التأويلَ: أخبركُمْ أني قد خلقتُكُم من نفسٍ واحدةٍ -؛ لأن حواءَ قد خُلِقَتْ من ضِلعِهِ ثم أخبركم أني خَلَقْتُ زَوْجَهَا منها.
ومثل هذا قول الشاعر: [الخفيف]
1490 - إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ بَعْدَ ذَلِكَ جَدُّهُ
ومعلوم أن الأبَ متقدِّمٌ له، والجدُّ متقدمٌ للأبِ، فالترتيب يعود إلى الخبرِ لا إلى الوجودِ، كقولهِ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} [البلد: 17] فكذا قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} أي: صيَّره خلْقاً سَويًّا، ثم إني أخبرُكم أني إنما خلقتُه بأن قُلتُ لَهُ: كُنْ. فالتراخي في الخبرِ، لا في هذا المخبرِ عن ذلك المخبر.
ويجوز أن يكون المرادُ خلقَهُ قالباً من ترابٍ، ثم قال له: كُنْ بَشَراً.(5/278)
فإن قيل: الضميرُ في قوله: {خَلَقَهُ} راجع إلى آدم، وحين كان تراباً لم يكن آدم موجوداً.
فالجواب: أن ذلك الهيكل لما كان بحيث يصير آدم عن قريب سماه آدم؛ تسمية للشيء بما يئول إليه.
قال أبُو مُسْلِم: «قد بَيَّنَّا أن لخلق هو التقدير والتسوية، ويرجع معناه إلى علم الله - تعالى - بكيفية وقوعه، وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص، وكل ذلك مُتَقدِّم في الأزل، وأما قوله: كن، فهو عبارة عن إدخاله في الوجود، فثبت أن خلق آدم متقدِّم على قوله: كن» .
وقال بعضهم: المقول له: كن هو عيسى، ولا إشكال على هذا.
قوله: {فَيَكُونُ} يجوز أن يكون على بابه من كونه مستقبلاً، والمعنى: فيكون كما يأمر الله - تعالى - فيكون حكاية للحال التي يكون عليها آدم.
قال بعضُهُمْ: معناه: اعلم يا محمد أن ما قال له ربُّك: كن فإنه يكون لا محالة.
ويجوز أن يكون {فَيَكُونُ} بمعنى: «فكان» وعلى هذا أكثر المفسِّرين، والنحويين، وبهذا فَسَّرَهُ ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
فصل
أجمع المفسّرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما لك تشتم صاحِبَنَا؟ قال: «ومَا أقُولُ» ؟ قالوا: تقول: إنه عَبْدٌ، قَالَ: «أجلْ، هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمتُهُ ألْقَاهَا إلَى الْعَذْرَاء الْبَتُولِ» ، فغَضِبُوا، وقالوا: هل رأيت إنساناً - قطُّ - من غير أب؟ فقال «إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ» كأنهم قالوا: يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله، فَقَالَ: «إنَّ آدَمَ مَا كَانَ لَهُ أبٌ وَلاَ أمٌّ وَلَمْ يَلْزَمْ أن يَكُونَ أبُوهُ هُوَ الله، وأنْ يَكَونَ ابْناً للهِ» ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى، وأيضاً إذَا جَازَ أن يَخْلُقَ اللهُ آدَمَ مِن التراب، فلم لا يجوز أن يخلُقَ عيسَى منْ دمِ مَرْيَمَ؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولُّد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولُّده من التراب اليابس.(5/279)
فصل
اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوقاً بوالد لا إلى أول، وهو مُحَالٌ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم.
لقوله: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] ثُم إنه - تعالى - ذكر في كيفية خلق آدمَ وجوهاً كثيرةً:
أحدها: أنه مخلوق من التراب - كما في هذه الآية.
الثاني: أنه مخلوق من الماء، قال تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً} [الفرقان: 54] .
الثالث: أنه مخلوق من الطين، [قال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ} ] [السجدة: 7] .
رابعها: أنه مخلوق من سلالة من طين، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] .
خامسها: أنه مخلوق من طين لازبٍ، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] .
سادسها: أنه مخلوق من صلصال من حَمَأ مسنون.
سابعها: أنه [خلق] من عَجَلٍ.
ثامنها: قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] .
قال الحكماء: إنما خُلِق آدمُ من التراب؛ لوجوهٍ:
الأول: ليكون متواضعاً.
الثاني: ليكون سَتَّاراً.
الثالث: إذا كان من الأرض ليكون أشدَّ التصاقاً بالأرض؛ لأنه إنما خلق لخلافة الأرض؛ لقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] .
الرابع: أراد الحق إظهار القدرة، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرامِ، وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام، وأعطاهم كمال الشدة والقوة، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام، ثم أعطاهم المعرفة والنور والهداية، وخلق السموات من أمواج مياه البحر، وأبقاها مُعَلَّقة في الهواء، حتى يكون خلقه هذه الأجرام بُرْهاناً باهِراً، ودليلاً ظاهراً على أنه - تعالى - هو المدبر بغير احتياج.(5/280)
الخامس: خلق الإنسان من تراب، فيكون مُطْفِئاً لنار الشهوة، والغضب، والحِرْص؛ فإن هذه النيران لا تنطفئ إلا بالتراب، وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً، تتجلَّى فيه صُوَرُ الأشياء، ثم إنه - تعالى - فرج بين الأرض والماء ليمتزجَ اللطيفُ بالكثيفِ، فيصير طيناً، وهو قولُهُ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} [ص: 71] ثم إنه في المرتبةِ الرابعة قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] والسلالةُ بمعنى المسلولةِ قال: فعالة بمعنى مفعولة؛ لأنها هي التي من ألطف أجزاء الطين، ثم إنه في المرتبة الخامسة جعله طيناً لازباً، فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] ثم إنَّه في المرتبةِ السادسةِ أثبت له ثلاثةَ أنواعٍ من الصفاتِ:
أحدها: أنَّه صلصالٌ، والصلصالُ: اليابسُ الذي إذا حُرِّك تصلصلَ، كالخزفِ الذي يُسْمَع مِنْ داخلهِ صوتٌ.
الثاني: الحمأ، وهو الذي استقر في الماء مُدَّةً، وتغيَّر لونُه إلى السَّوادِ.
الثالث: تغيُر رائحته، وهو المسنونُ، قال تعالى: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] ، أي: لم يتغيَّر.
قوله: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ مستقلةً برأسِهَا والمعنى أنَّ الحقَّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو مِنْ ربك، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربكَ قصةُ عيسى وأمُهُ، فهو حقٌّ ثابتٌ.
ويجوز أن يكونَ «الحقُّ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: ما قَصَصْنَا عليكَ من خبرِ عيسى وأمه، وحُذِفَ لكونه معلوماً. و {مِّن رَّبِّكُمْ} على هذا - فيهِ وجهانِ:
أحدهما: أنه حال فيتعلق بمحذوف.
والثاني: أنه خبر ثان - عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة.
وقال بعضهم: «الحق رفع بإضمار فعل، أي: جاءك الحق» .
وقيل: إنه مرفوع بالصفة، وفيه تقديم وتأخير، تقديره: من ربك الحق.
والامتراء: الشك. قال ابنُ الأنباريِّ: هو مأخوذٌ من قول العرب: مَرَيْتُ الناقة والشاة - إذا حلبتهما - فكأن الشاك يجتذب بشكِّه شَرًّا - كاللبن الذي يُجْتَذَب عند الحلب.
ويقال قد مارى فلان فلاناً - إذا جادله - كأنه يستخرج غضبه، قال ابنُ عبّاسٍ لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: لا أماريك أبَداً. ومنه قيل: الشكر يَمْتَرِي المزيد؛ أي: يجلبه.
فصل
هذا الخطابُ - في الظاهر - مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واختُلِفَ في تأويلِهِ:(5/281)
فقيل إن هذا الخطاب - وإن كان ظاهره مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا أنه في المعنى مع الأمة؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن شاكاً في أمر عيسى، فهو كقوله: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] .
وقيل إنه خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعناه أنه من باب الإلهاب والتهييج على الثبات على ما هو عليه من الحق أي: دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من تَرْك الامتراء.
فصل
ومعنى الآية فيه قولان:
أحدهما: قال أبو مسلم: معناه أن هذا الذي أنزلتُ عليك - من حبر عيسى - هو الحقُّ، لا ما قالت النصارى واليهود، فالنصارى قالوا: إن مريم ولدت إلَهاً، واليهود رَمَوْا مريم عليها السلام بالإفك، ونسبوها إلى يوسف بن يعقوب النجار، فالله - تعالى - بَيَّن أن هذا الذي نزل في القرآن هو الحق، ثم نهى عن الشك فيه.
الثاني: ما ذكرنا من المثل - وهو قصة آدم - فإنه لا بيان لهذه المسألة، ولا برهان أقوى من التمسُّك بهذه الواقعةِ.(5/282)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
يجوز في «مَنْ» وجهان:
أحدهما: أن تكونَ شرطية - وهو الظاهرُ - أي: إن حاجَّكَ أحدٌ فقُل له كيت وكيت.
ويجوز أن تكونَ موصولة بمعنى: «الذي» وإنما دخلت الفاءُ في الخبرِ لتضمُّنه معنى الشرطِ [والمحاجةِ مفاعلة وهي من اثنين، وكانَ الأمرُ كذلِكَ] .
«فِيهِ» متعلق ب «حَاجَّكَ» اي: جادلَكَ في شأنِهِ، والهاء فيها وجهان:
أولهما: وهو الأظهرُ - عودُها على عيسى عليه السلامُ.
الثاني: عودها على «الْحَقِّ» ؛ لأنه أقربُمذكورٍ، والأول أظْهَرُ؛ لأنَّ عيسى هو المحدَّثُ عنهُ، وهو صاحبُ القصة. قوله: {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} متعلق ب «حَاجَّكَ» - أيضاً - و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، ففاعل «جَاءََكَ» ضمير يعود عليها، أي: من بعد الذي جاءك هو. {مِنَ الْعِلْمِ} حال من فاعل «جَاءَكَ» .
ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفيَّةً، وحينئذٍ يقال: يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعلِ، أو عَوْد الضمير على الحرف؛ لأن «جَاءَكَ» لا بد له من فاعل، وليس معنا شيء يصلح عوده عليه إلا «ما» وهي حرفية.(5/282)
والجوابُ: أنه يجوز أن يكون الفاعل قوله: {مِنَ الْعِلْمِ} و «من» مزيدة - ي: من بعد ما جاءك العلم - وهذا إنما يتخرج على قول الأخفش؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً. و «مِنْ» في قوله: «مِنَ الْعِلْمِ» يحتمل أن تكون تبعيضيَّة - وهو الظاهر - وأن تكون لبيان الجنس. والمراد بالعلم هو أنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وليس المراد - هاهنا - بالعلم نفس العلم؛ لن العلمَ الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك، بل المرادُ بالعلم، ما ذكره من الدلائل العقلية، والدلائل الواصلة إليه بالوحي.
فصل
ورد لفظ «الْعِلْم» في القرآن على أربعة [أضربٍ] .
الأول: العلم القرآن، قال تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} [آل عمران: 61] .
الثاني: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال تعالى: {فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} [الجاثية: 17] أي: محمد، لما اختلف فيه أهلُ الكتاب.
الثالث: الكيمياء، قال تعالى - حكاية عن قارون -: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا} [القصص: 78] .
الرابع: الشرك، قال تعالى: {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} [غافر: 83] أي من الشرك.
فصل
قال ابن الخطيب: لما كنت بخوارزم أخبرتُ أنه جاء نصرانيٌّ يَدَّعِي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهَبْتُ إليه، وشرعنا في الحديث، فقال: ما الدليل على نُبُوَّةِ محمد؟ فقلتُ كما نقل إلينا ظهورُ الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نُقِل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن ردَدْنَا التواتُرَ، وقُلْنَا: إن المعجز لا يدل على الصدق فحينئذ بطل نبوة سائر الأنبياءِ - عليهم السلامُ - وإن اعترفنا بصحةِ التواتُرِ، واعترفنا بدلالةِ المُعْجِزِ على الصدقِ، فهُمَا حاصلان في مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجبَ الاعترافُ قطعاً بنبوةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضرورةَ أن عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول.
فقال النصرانيُّ: أنا لا أقول في عيسى - إنه كان نبياً بل أقول: إنه كان إلهاً. فقلتُ له: الكلامُ في النبوةِ لا بد وأن يكونَ مسبوقاً بمعرفة الإلهِ وهذا الذي تقولُهُ باطلٌ، ويدلُ عليهِ وجوه:
الأول: أنّ الإله عبارة عن موجودٍ واجب الوجودِ لذاتِهِ - بحيثُ لا يكون جِسماً ولا(5/283)
متحيّزاً ولا عرضاً - وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشريِّ الجسمانيِّ الذي وُجِدَ بعد أنْ كانَ معدوماً، وقُتِلَ - على قولِكُمْ - بعد أن كان حياً، وكان طفلاً - أولاً - ثم صار مُترعرعاً، ثم صار شاباً، ويشربُ ويُحْدِثُ وينامُ ويستيقظ وقد تقرَّرَ في بداهةِ العقولِ أن المحدث لا يكونُ قديماً والمحتاج لا يكون غَنِيًّا، والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً.
الثاني: أنكم تعترفون أنَّ اليهودَ قتلوه وأخذوه، وصلبوه، وتركوه حيًّا على الخشبة، وقد مزَّقوا ضِلْعه، وانه كان يحتال في الهَرَبِ منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزَعَ الشديدَ. فإن ك ان إلهاً، وكان الإله حالاًّ فيه، أو كان جُزءٌ من إله حالاًّ فيه، فلِمَ لَمْ يدفَعْهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأيُّ حاجةٍ إلى إظهار الجَزَع منهم، والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إني لأتعجَّب جداً من أن العاقلَ كيف يليق به أن يقولَ هذا القولَ، ويعتقد صحته، وبداهة العقل تكاد أن تشهد بفساده؟
الثالث: أن يقال: إن الإله إمَّا أن يكونَ هذا الشخصُ الجسمانيُّ المُشَاهَدُ، أو يقال: إن الإله بكليته فيه، أو حل بعضُ الإله فيه. والأقسام الثلاثة باطلة: أما الأول فإن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهودُ كان ذلك قولاً بأن اليهودَ قتلوا إله العالَم، فكيف بَقِيَ العالَم بعد ذلك من غير إلهٍ؟ ثم إن أشَدَّ الناس ذُلاًّ ودَنَاءَةً اليهودُ، فالإله الذي تقتله اليهودُ إلهٌ في غاية العجز. وأما الثاني: - وهو أن الإله بكليته حَلَّ في هذا الجسم - فهو أيضاً - فاسد؛ لأن الإله إن لم يكن جسماً ولا عَرَضاً امتنع حُلولُه في الجسم، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخرَ، عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرُّق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحلّ، وحينئذ يكون الإله محتاجاً إلى غيره، وكل ذلك سخفٌ.
وأما الثالثة: وهو أنهُ حَلَّ فيه بعضٌ من أبعاض الإله وجزء من أجزائه، وذلك - أيضاً - محالٌ؛ لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله، وجب أن لا يبقى الإله إلهاً. وإن كان معتبراً في تحقق الإلهية لم يكن جُزْءاً من إله فثبت فسادُ هذه الأقسام.
الوجه الرابعُ - في بطلان قول النصارى - ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله - تعالى - ولو كان إلهاً لاستحال ذلك؛ لأن الإله لا يَعْبُدُ نفسه، ثم قلت للنصراني: ما الذي دَلّكَ على كونِهِ إلهاً؟ فقال دلَّ عليه ظهورُ العجائبِ عليه من إحياء الموتى وإبْراءِ الأكمهِ والأبرصِ وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرةِ الإله - تعالى - فقلتُ لَهُ: تسلم أنَّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، أم لا؟ فإنْ لَمْ تُسَلِّمْ لزمك مِنْ نفي العالمِ في الأزلِ نفي الصانع وإن سَلَّمْتَ أنَّهُ لا يلزمُ من عدم الدليل عدم المدلول فأقول: لَمَّا جوَّزْتَ حُلُولَ الإلَهِ في بَدَنِ عيسى عليه السلام فكيف عَرَفْتَ أنَّ(5/284)
الإلهَ ما حل في بَدَنِي وفي بدنِكَ، وفي بَدَنِ كلِّ حيوانٍ، ونباتٍ وجمادٍ؟ فقال: الفرقُ ظاهرٌ؛ وذلك أني إنما حكمت بذلك الحلول؛ لأنَّه ظهرتْ تلك الأفعال العجيبةُ عليه، والأفعال العديبةُ ما ظهرتْ على يديَّ وعلى يديْكَ، فعلمنا أنَّ ذلكَ الحلولَ - هاهنا - مفقودٌ، فقلتُ له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي: إنه لا يلزمُ من عدمِ الدليلِ عدمُ المدلول، وذلك أنَّ ظهورَ تلك الخوارقِ دالة على حلول الإله في بدن عيسى، فعدم ظهور الخوارقِ مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل فإذا تبيَّنَّا أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك، بل في حقّ الكلب والسِّنَّوْر والفأر، ثم قلت: إن مذهباص يؤدي إلى تجويز القول بحلول ذات الله في بدن الكلبِ والذبابِ لفي غاية الخِسَّةِ والرَّكاكة.
الوجه الخامس: أن قَلْبَ العصا حَيَّةً أبعد في العقل من إعادة الميت حيًّا؛ لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن اليعبانِ، فإذا لم يوجب قلب العصا حيةً كوْن موسى إلهاً، ولا ابناً للإله، فبأن لا يدل إحياءُ الموتَى على الإلهية كان أولَى.
قوله: {تَعَالَوْاْ} العامة على فَتْح اللام؛ لأنه أمر من تعالَى يَتَعالَى - كترامى يترامى - وأصل ألفِهِ ياء وأصل هذه [الياء] واو؛ وذلك أنه مشتقٌّ من العُلُوّ - وهو الارتفاع كما سيأتي بيانه في الاشتقاق - والواو متى وقعت رابعةً فصاعداً قُلبت ياءً فصار «تَعَالَوا» تَعَالَي، فتحرك حرفُ العلَّة، وانفتح ما قبله، فقُلِبت ألفاً فصار «تَعَالَي» - كترامى وتعادى - فإذا أمرت منه الواحد، قلتَ: تعالَ يا زيد - بحذف الألف - وكذا إذا أمرت الجمع المذكر قلت: تعَالَوْا؛ لأنك لما حَذَفْتَ الألف لأجل الأمر أبقيتَ الفتحة مشعرة بها.
وإن شئت قلتَ: الأصل: تعالَيُوا، وأصل هذه الياء واو - كما تقدم - ثم استُثْقِلَت الضمة على الياء، فحُذِفت ضمتُها، فالتقى ساكنان، فحذف أوَّلُهما - وهو الياء - لالتقاء الساكنين ونزلت الفتحةُ على حالها.
وإن شئت قلت: لما كان الأصل تعلَيُوا تحرك حرفُ العِلَّةِ، وانفتح ما قبله - وهو الياءُ - فقلب ألفاً، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما - وهو الألف - وبقيت الفتحة دالةٌ عليه.
والفرق بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف - في الوجه الأول - حُذِفَت لأجل الأمر - وإن لم تتصل به واو ضمير، وفي هذا حُذِفَتْ لالتقائها مع واو الضمير.
وكذلك إذا أمرت الواحدة تقول لها: تعالَي، فهذه الياء، هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر، والتصريف كما تقدم، إلا أنك تقول هنا: الكسرة على الياء بدل الضمة هناك.(5/285)
وأما إذا أمرت المثنى فإن الياء تثبت فتقول: يا زيدان تعالَيَا، ويا هندان تعالَيَا - أيضاً يستوي فيه المذكران والمؤنثان - وكذلك أمر جماعة الإناث تثبت فيه الياء تقول: يا نسوة تعالَيْنَ، قال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] ؛ إذْ لا مقتضي للحذف، ولا للقلب؛ وهو ظاهرٌ بما تمهد من القواعد.
وقرأ الحسن وأبو السَّمَّال وأبو واقد: تَعَالُوا - بضم اللام - ووجهوها على أن الأصل: تعالَيُوا - كما تقدم فاستُثْقِلت الضمة على الياء، فنُقِلت إلى اللام - بعد سلب حركتها - فبقي تعالُوا - بضم اللام.
قال الزمخشريُّ في سورة النساء: وعلى هذه القراءة قال الحَمدَانِيّ: [الطويل]
1491 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... تَعَالِي أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي
بكسر اللام - وقد غاب بعضُ الناس عليه في استشهاده بشعر هذا المولَّد المتأخِّر وليس بعيْبٍ؛ فإنه ذكره استئناساً.
وهذا كما تقدم في أول البقرة - عندما أنشد لحبيب: [الطويل]
1492 - هُمَا أظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أجْلَيَا ... ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أمْرَدَ أشْيَبِ
واعتذر هو عن ذلك فكيف يعاب عليه بشيء عَرَفَهُ، ونَبَّه عليه، واعتذر عنه؟
والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسَوُا الحرفَ المحذوف، حتى كأنهم توهَّمُوا أن الكلمةَ بنيت على ذلك، وأنّ اللام هي الآخِر في الحقيقة، فلذلك عُومِلَتْ معاملةَ الآخِر حقيقةً، فضُمَّتْ قبل واو الضمير وكُسِرَت قبل يائه، ويدل على ما قلناه أنهم قالوا: - في لم أبَلْه -: إن الأصل: أبالي؛ لأنه مضارع «بالَى» فلما دَخَلَ الجازمُ حذفوا له حرفَ العلةِ - على القاعدة - ثم تناسَوْا ذلك الحرفَ، فسكنوا للجازم اللام؛ لأنها كالأخير حقيقةً، فلما سكنت اللام التقى ساكنان - هي والألف قبلها - فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين.
وهذا التعليل أوْلَى؛ لأنه يَعُمُّ هذه القراءةَ والبيت المذكور، وعلى مقتضى تعليله هو أن يقال: الأصل تعاليي، فاستُثْقلت الكسرةُ على الياء، فنُقِلت إلى اللام - بعد سَلْبِهَا حركتها - ثم حذفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَيْنِ.(5/286)
وتعالَ فعل صريح، وليس باسم فعل؛ لاتصال الضمائرِ المرفوعةِ البارزة به.
قيل: وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع؛ تفاؤلاً بذلك وإدناءً للمدعو؛ لأنه من العلو والرِّفْعَة. ثم تُوُسِّعَ فيه، فاستعمل في مجرد طلب المجيء، حتى يقال ذلك لمن تريد إهانته - كقولك للعدو: تعالَ - ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها.
وقيل: هو الدعاءُ لمكان مرتفع، ثم تُوُسِّع فيه، حتى استُعمِل في طلب الإقبال إلى كل مكان، حتى المنخفض.
و «ندع» جزم على جواب الأمرِ؛ إذ يَصحُّ أن يقال: فتعالوا ندع.
قوله: «أبْناءنا» . قيل: اراد الحسن والحسين ويؤيده قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى} [الأنعام: 85] ومعلوم أن عيسى إنما انتسب إلى إبراهيم بالأم - لا بالأب - فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً. و «نِساءَنَا» فاطمة، «وَأنْفُسَنَا» عني نفسه وعلياً، والعرب تسمي ابن العم نفسه كما قال: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] يريد إخوانكم.
وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين.
قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} قال ابنُ عبّاس: نتضرع في الدعاء.
وقال الكلبي: نجتهد ونبالغ في الداعاء وقال الكسائيُّ وأبو عبيدة: نَلتعن. والابتهال: افتعال، من البُهْلَة، وهي - بفتح الباء وضمها - اللعنة، قال الزمخشريُّ: ثم نتباهل بأن نقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم والبهلة - بالفتح والضم - اللعنة، وبَهَلَه الله: لعنه وأبعده من رحمته من قولك: أبهله إذا أهمله، وناقة باهل: لا صِرَارَ عليها، أي: مرسلة مُخَلاَّة - كالرجل الطريد المنفي - وإذا كان البهل هو الإرسال والتخلية، فمن بهله الله فقد خلاه، ووكله إلى نفسه، فهو هالك لا شك فيه - كالناقة الباهل التي لا حافظ لها، فمن شاء حلبها، لا تقدر على الدفع عن نفسها هذا أصل الابتهال، ثم استُعْمِل في كل دعاء مُجْتَهَدٍ فيه - وإن لم يكن التعاناً -[يعني أنه اشتهر في اللغة: فلان يبتهل إلى الله - تعالى - في قضاء حاجته، ويبتهل في كشف كربته] .
قال شهاب الدّين: ما أحسن ما جعل «الافتعال» - هنا - بمعنى التفاعل؛ لأن المعنى لا يجيء إلا على ذلك، وتفاعل و «افتعل» أخوان في مواضع، نحو اجتوروا وتجاوروا، واشتوروا وتشاوروا، واقتتل القوم وتقاتلوا، واصطحبوا وتصاحبوا، لذلك صحت واو اجتوروا واشتوروا.(5/287)
قال الراغبُ: وأصل البهل: كون الشيء غيرَ مراعى، والباهل: البعير المُخَلَّى عن قيده والناقة المخلَّى ضرعها عن صِرَارٍ، وأنشد لامرأة: أتيتك باهلاً غير ذات صِرار.
وأبهلت فلاناً: خليته وإرادته؛ تشبيهاً بالبعير الباهل، والبهل والابتهال في الدعاء: الاسترسال فيه والتضرع، نحو {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل} ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن.
قال الشاعر: (وهو لبيد) : [الرمل]
1493 - مِنْ قُرُومٍ سَادَةٍ في قَوْمِهِمْ ... نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ
وظاهر هذا أنَّ الابتهال عام في كل دعاء - لعناً كان أو غيره - ثم خُصَّ في هذه الآية باللعن، وظاهر عبارة الزمخشري أن أصله خصوصيته باللعن، ثم تُجُوِّز فيه، فاستُعمِل في كل اجتهاد في دعاء - لعناً كان، أو غيره - والظاهر من أقوال اللغويين ما ذكره الراغب.
قال أبو بكر بن دُرَيْد في مقصورته: [الرجز]
1494 - لَمْ أرَ كَالْمُزْنِ سَوَاماً بُهَّلا تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهْيَ سُدَى
بهلاً جمع باهلة - أي: مهملة، وفاعلة تجمع على فُعَّل، نحو ضُرَّب. والسُّدَى: المهمل - أيضاً - وأتى ب «ثُمَّ» هنا، تنبيهاً على خطئهم في مباهلته، كأنه يقول لهم: لا تعجلوا، وتَأنَّوْا؛ لعلَّه أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي.
قوله: {فَنَجْعَل} هي المتعدية لاثنين - بمعنى نصير - و {عَلَى الكاذبين} هو المفعول الثاني.
فصل
روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أورد الدلالة على نصارى نجران، ثم إنهم أصرُّوا على جهلهم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ يَأمُرُنِي - إن لَمْ تَقْبَلُوْا الْحُجَّةَ - أنْ أبَاهِلَكُمْ» ، فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع، فننظر في أمرنا، ثم نأتيك غداً، فخلا بعضهم ببعض، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم - يا معشر النصارى - أن محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيًّا - قط - فعاش كبيرُهم ولا صغيرُهم، ولأن فعلتم ذلك لنهلكن، ولكان الاستئصال، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادِعوا الرجل، وانصرِفوا إلى بلادكم،(5/288)
فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان قد خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد احتضن الحُسَيْن، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفهما، وهو يقول لهم: إذَا دَعَوْتُ فأمِّنُوا، فقال أسقفُ نجران: يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يُزيل جَبَلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا، فتهلكوا ولا يبقى نصراني على وجه الأرض إلى يوم القيامة فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نباهلَك، وأن نقرك على دينك، ونثبت على ديننا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فَإنْ أبَيْتُمُ الْمُبَاهَلَةَ فَأسْلِمُوا يَكُنْ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِيْنَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهمْ فأبَوْا، فقال: فَإنِّي أنَابِذُكُمْ»
، فقالوا ما لنا بحَرْبِ العَرَب طاقةٌ، ولكن نصالِحُكَ على أن لا تَغزُوَنا، ولا تُرُدَّنا عن ديننا، على أن نؤدِّي إليك في كل عام ألفَيْ حُلَّة - ألفاً في صَفَر وألفاً في رجب - وثلاثين درعاً عادية من حديد، فَصَالَحَهُمْ عَلَى ذلك، وَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الْعَذَابَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أهْلِ نَجْرَانَ، وَلَوْ لاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، ولاضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَاراً، وَلأسْتَأصَلَ اللهُ نَجْرَانَ وَأهْلَهُ - حَتَّى الطَّيْرَ عَلَى الشَّجَرِ - وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارى كلِّهِمْ حَى يَهْلِكُوا» .
وروي أنه - عليه السَّلامُ - لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحَسَن، فأدْخله، ثم جاء الحُسَيْن فأدخله، ثُمّ فَاطِمَةُ، ثُم عليٌّ، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] .
فصل
قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إن القول، بأن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء أوْلَى؛ لأنه يكون قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي: ثم نجتهد في الدعاء، ونجعل اللعنة على الكاذب، وعلى القول بأنه الالتعان يصير التقدير: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي: نَلْتَعِن، فنجعل لعنة الله على الكاذب، هو تكرارٌ. وهنا سؤالان:
السؤالُ الأولُ: الأولاد إذا كانوا صِغَاراً لم يَجُزْ نزولُ العذابِ بهم، وقد ورد في الخبر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أدْخَل في المباهلةِ الحسنَ والحسينَ، فما الفائدة فيه؟
والجواب: أن عادة الله جاريةٌ بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلك معهم الأولاد والنساء، فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً، وفي حق النساء جارياً مجرى(5/289)
إماتتهم، وإيصال الآلام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده، وأهله شديدة جِداً، ورُبَّما جَعَل الإنسانُ نفسَه فداءً لهم وإذا كان كذلك فهو - عليه السلامُ - أحضر صبيانه ونساءه معه، وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك، ليكون ذلك أبلغ للزجر، وأقوى في تخويف الخصم، وأدل على وثوقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن الحقَّ معه.
السؤال الثاني: أليس أن بعض الكفار استعمل المباهلة مع نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ثم إنه لم ينزل بهم عذاب ألبتة - فكذا ها هنا - وأيضاً فبتقدير نزول العذابِ يكون ذلك مناقضاً لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] .
الجوابُ: أن الخاص مقدَّم على العام، فلما أخبر - عليه السلامُ - بنزول العذاب في هذه القصة على التعيين، وجب أن تعتقد أن الأمرَ كذلك.
فصل
دلت هذه الواقعةُ على صحة نبوتِهِ - عليه السلام - من وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أنه - عليه السلام - خوفهم بنزول العذاب، ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه؛ لأن بتقدير أن يرغبوا في مباهلته، ثم لا ينزل العذاب، فحينئذ يظهر كذبه، فلما أصرَّ على ذلك علمنا أنه إنما أصرَّ عليه؛ لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم.
وثانيهما: أن القوم - لما تركوا مباهلته - لولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته.
فإن قيلَ: لم لا يجوز أن يُقال: إنهم كانوا شاكِّين، فتركوا مباهلَتَه؛ خَوْفاً من أن يكون صادقاً، فينزل بهم ما ذُكِرَ من العذاب؟
فالجوابُ: أن هذا مدفوع من وَجْهَيْنِ:
الأول: أن القوم كانوا يَبْذلون النفوسَ والأموالَ في المنازعة مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولو كانوا شاكِّين لَمَا فعلوا ذلك.
الثاني: أنه قد نُقل عن أولئك النصارَى أنهم قالوا: إنه والله هو النبي المبشَّرُ به في التوراةِ والإنجيلِ وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصالُ، فكان تصريحاً منهم بأن الامتناع من المباهلة كان لأجل علْمِهم بأنه نبي مُرْسَل من عند الله تعالى.
فصل
قال ابنُ الْخَطِيبِ: كان في الرِّيِّ رجلٌ يقال له مَحْمُود بن الحسن الحِمْضِيُّ، وكان معلم الاثني عشرية، وكان يزعم أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أفضل من جميع الأنبياء -(5/290)
سوى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: والذي يدل على ذلك قوله: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} ، وليس المراد بقوله: {وَأَنفُسَنَا} نفس محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفسِ، فالمراد: أن هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل؛ لقيام الدلائل على أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نبياً، وما كان عَلِيٌّ كذلك، ولانعقاد الاجماع على أن محمداً ك ان أفضل من علي، فيبقى فيما وراءه معمولاً به، ثم الإجماع دَلَّ على أنّ محمداً كان أفضلَ من سائر الأنبياء، فيلزم أن يكون عَلِيٌّ أفضلَ من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية، ثم قال: ويؤكد هذا الاستدلالَ الحديثُ المقبولُ - عند الموافقِ والمخالفِ - وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من أرَادَ أنْ يَرَى آدَمَ فِي عِلمِهِ، وَنُوحاً في طَاعَتِهِ، وإبْرَاهِيمَ فِي خُلَّتِه، وَمُوسَى في هَيْبَتِه، وَعِيْسَى في صَفْوَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ» .
فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرِّقاً فيهم، وذلك يدل على أن عَلِيًّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
أما سائر الشيعةِ فقد كانوا - قديماً وحديثاً - يستدلون بهذه الآية على أن عليًّا أفضلُ من سائر الصحابة؛ وذلك لأنَّ الآية لمَّا دلَّت على أن نَفْسَ عَلِيٍّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ - إلا ما خصه الدليل - وكان نفس محمد أفضل من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فوجب أن يكون نفس عليٍّ أفضل من سائر الصحابة، هذا تقريرُ كلامِ الشيعة.
فالجوابُ: أنه كما انعقد الإجماع بَيْنَ المسلمين على أن محمداً أفضلُ من عليٍّ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم - قَبْلَ ظُهُورِ هذا الإنسانِ - على أن النبيَّ أفضل ممن ليس بنبيِّ، وأجمعوا على أن عليًّا ما كان نبيًّا، فلزم القطعُ على أن ظاهرَ الآية، كما أنه مخصوص في حق محمد، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياءِ - عليهم السلام -.(5/291)