الدِّيَةِ محرَّمان عَلى أهْل التَّوْراة، وفي شَرْع النَّصَارَى العفْو فقَطْ، ولم يكُنْ لهم القصاص، فخير الله تعالى هذه الأمَّة بيْن القصاص، وبيْن العَفْو على الدِّيَة تخفيفاً منه ورحمةً.
وقيل إِنَّ قولَهُ: «ذَلِكَ» راجعٌ إلى قوله {فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} و «مِنْ رَبِّكُم» في محلِّ رفْعٍ؛ لأَنَّهُ صفةٌ لما قبله، فيتعلَّق بمحذوف.
ورَحْمَةٌ صفتُها محذوفةٌ أيضاً، أي: «رحْمَة مِنْ رَبِّكُمْ» .
قوله «فَمَن اعْتَدَى» يجوز في «مَنِ» الوجهانِ الجائزانِ في قولِهِ «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ» من كونِها شرطيَّةً وموصولَةً، وجميعُ ما ذكر ثَمَّةَ يعودُ هنا.
فصل
قال ابنُ عبَّاس: «اعْتَدَى» ، أي: داوز الحَدَّ غلى ما هو أكْثَرُ منْه، قال ابن عبَّاس، وقتادة، والحسن: هو أن يَقْتُلَ بَعْد العَفْوِ، وأخذ الدِّية، وذلك أنَّ الجاهليَّة كانوا إذا عَفَوْأ، وأَخَذُوا الدية، ثم ظَفِرُوا بالقاتل، قَتَلُوه، فنهى الله عن ذلك في قوله {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وفيه قولان:
أشهرهُما: أنه نوعٌ من العذابِ شديدٌ الألمِ في الآخِرةِ.
والثاني: روي عَنْ قتادَة، والحَسَن، وسعيد بن جبير: هو أن يقتل لا محالة، ولا يَعْفُو عَنْه، ولا يقبل منه الدِّية؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لاَ أُعَافِي أَحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ»
قال القرطبيُّ منْ قَتَلَ بَعْد أخْذ الدِّية؛ كَمَنْ قَتَلَ ابتداءً، إنْ شاء الوليُّ قَتَلَه وإِنْ شاءَ، عفا عنه، وعذابه في الآخر، وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ وجماعةٍ.
وقال قتادةُ وعكْرمةُ، والسُّدِّيُّ، وغيره: عذابُه أن يقتل الْبَتَّةَ، ولا يمكن الحاكمُ الوليَّ من العَفْو.
قال ابن الخَطِيب وهذا القَولُ ضعيفٌ؛ لأن المفهُوم من العذاب الأَليم عنْد الإطلاق هو عذابُ الآخرة، وأيْضاً: فإِنَّ القَوَدَ تارةً يكُونُ عذاباً؛ كما هو في حقِّ غير التائب، وتارةً يكُون امتحاناً؛ كما في حقِّ التائب، فلا يصحُّ إِطْلاٌقُ العذابِ علَيْه إلاَّ في وجه دُونَ وجْهٍ.(3/227)
اعلم أن كيفية النظم أنه تعالى لما أوجب القصاص في الآية المتقدمة توجه أن يقال: كيف يليق برحمته إيلام العبد الضعيف، فذكر عقيبه حكمة شرع القصاص؛ دفعا لهذا السؤال. قوله " لكم ": يجوز أن يكون الخبر، و" في القصاص " متعلق بالاستقرار الذي تضمنه " لكم " ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من حياة، لأنه كان في الأصل صفة لها، فلما قدم عليها نصب حالا، ويجوز أن يكون " في القصاص " هو الخبر، و" لكم " متعلق بالاستقرار المتضمن له، وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله {ولكم في الأرض مستقر} [البقرة: 36] وهناك أشياء لا تجيء هنا.
فصل في معنى كَوْنِ القِصاصِ حياةً(3/228)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
في معنى كَوْنِ القِصاصِ حياةً وجوه:
أحدها: أَنَّهُ ليس المرادُ أَنَّ نَفْس القصاص حياةً؛ لأَنَّ القصاصَ إِزالةٌ للحياةِ، وإزالةُ الشيءِ يمتنع أَنَّ تكُون نفْسَ ذلك الشَّيءِ، بل المراد أَنَّ شَرْع القِصَاص يُفْضِي إلى الحياة.
أَمَّا في حقِّ منَ يريدٌ القَتَلَ فإنَّهُ إذا عَلِمَ أَنَّه إذا قَتِلَ تَرَكَ القَتْل؛ فلا يقتل، فيَبْقَى حَيّاً، وأمَّا في حقِّ المقتول: فإنَّ مَنْ أراد قتلَه، إذا خاف مِنَ القِصَاصِ؛ تَرَكَ قَتلهُ فيبقَى غير مقتول، وأمَّا في حِّ غيرهما: فَلأَنَّ في شرع القِصَاص بقاءَ من هَمَّ بالقَتْل ومن يهمّ به، وفي بقائهما بَقَاءُ مَنْ يتعصَّبُ لهما؛ لأَنَّ الفِتْنَة تعظُمُ بسبَب القَتْل فتؤدِّي إلى المُحاربة الَّتي تنتهي إلى قتل عالَمٍ من النَّاس، وفي شَرْعِ القِصَاص زوالٌ لِكُلِّ ذلك، فيصير حياةً للكُلِّ.
وثانيها: أَنَّ نفسَ القصاص سببُ الحياة؛ لأنَّ سَافِك الدَّم، إِذَا أُقِيدَ منْه، ارتدع مَنْ كان يهُمَّ بالقتل، فلم يقتل، فكان القصاص نفسُه سبباً للحياة مِنْ هذا الوجه.
وثالثها: معنى الحياة سلامتُهُ مِنْ قِصَاصِ الآخِرة، فإِنَّهُ إذا اقتصَّ منه في الدُّنْيا، حيي في الآخرة، وإذا لم يقتصّ منه في الدُّنيا اقْتُصَّ منه في الخرة وها الحُكْم غير مختصٍّ بالقِصَاصِ في النَّفْسِ، بل يدخل فيه القِصاص في الجِراح والشِّجَاج.
ورابعها: قال السُّدَّيُّ: ت المرادُ من القِصَاصِ إيجابُ التَّوبَة.
وقرأ أبو الجوزاء في القَصَصِ والمراد به القُرآن.(3/228)
قال ابنُ عطيَّة ويحتمل أن يكون مَصْدراً كالقِصاصِ، أي أَنَّهُ إذا قُصَّ أثَرُ القاتلِ قَصَصاً، قُتِل.
ويحتمل أن يكون قوله: {فِي القصاص حَيَاةٌ} أي فيما أَقُصُّ عليكُمْ مِنْ حُكْم القَتْل والقِصَاصِ.
فصل في الردِّ على احتجاج المعتزلة بالآية
قالت المعتزلة: دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ القِصَاصِ سببٌ للحياة؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب} ، فدَلَّ ذلك على أَنَّهُ لو لم يُشْرع القِصَاصُ، لكان ذلك سبباً للموت قبل حلول وَقْتِهِ، وكذلك كلُّ ما نتج من الحيوان، فإنَّ هلاكه قَبْلَ أجلِهِ؛ بدليل أنَّهُ يجب على القاتِلِ الضَّمانُ والدِّية.
وأجيب بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145] وقوله: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} وح: 4] {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] فمتى قتل العبد علمنا أَنَّ ذلك أجلُهُ، ولا يصحُّ أن يقال: إِنَّه لو لم يُقْتَلُ، لعاش؛ لما ذكرنا من الآيات.
أمَّا وجوب الضمان والدِّية، فللإقدام على القَتْل وللزجر عن الفِعْل.
فصل في كون الآية في أعلى درجات البلاغة
اتفق علماءُ البَيَانِ على أَنَّ هذه الآية في الإيجازِ مع جميع المعاني باللّغةٌ بالغةٌ أعلى(3/229)
الدَّرجَات؛ فإنَّه قولَ العَرَبِ في هذا المعنى «القَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ» ، ويروى «أَنْفَى لِلْقَتْل» ، ويروَى «أَكَفُّ لِلْقَتْلِ» ، ويروى «قَتْلُ البَعْضِ أَحْيَا الجَمِيع» ، ويروى: «أَكْثِروا القَتْلَ ليقلَّ القَتْلُ» فهذا وإن كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العُلماءُ بَيْنه وبيْنَ الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغة، وُجدت في الآية الكريمة دونه:
منْها: أَنَّ في قولِهِم تكرارَ الاسم في جُمْلةٍ واحدةٍ.
ومنها: أَنَّهُ لا بدَّ مِنْ تقدير حَذْفٍ؛ لأنَّ «أَنْفَى» و «أَوقَى» و «أَكَفُّ» أفعل تفضيل فلا بدَّ من تقدير المفضَّل عليه، أي: أنفى لِلْقتلِ مِنْ تركِ القتل.
ومنها: أنَّ القِصَاص أَعَمُّ؛ إِذ يوجد في النَّفْس وفي الطَّرف، والقتلُ لا يكون إلاَّ في النَّفسِ.
ومنها: أَنَّ ظاهر قولهم كونُ وجود الشيء سَبَباً في انتفاءِ نفسه.
ومنها: أَنَّ في الآية نَوعاً من البديع يُسمَّى الطبَاقَ، وهو مقابلةُ الشيءِ بضدِّه، فهو يُشبه قوله تعالى: {أَضْحَكَ وأبكى} {النجم: 43] .
قوله: {ياأولي الألباب} منادًى مضافٌ وعلامة نصبه الياءُ، واعلم أنَّ «أُولِي» اسمُ جَمع؛ لأَنَّ واحده، وهو «ذُو» من غَير لفظه، ويجري مَجرى جمع المذكَّر السَّالم في رفعه بالواو ونصبه وجرِّه بالياء المكسور ما قبلها، وحُكمه في لُزُوم الإضافة إلى اسم جنس حكمُ مفردِهِ، وقد تقَدَّمَ في قوله تعالى: {ذَوِي القربى} [البقرة: 177] ويقابلُهُ في المؤنث «أُولاَت» وكتباً في المُصْحف بواوٍ بعد الهمزة؛ قالوا: ليفرِّقوا بين «أُولِي كَذَا» في النَّصْب والجَرِّ، وبن «إِلَى» الَّتي هي حرفُ جرٍّ، ثم حمل باقي البَابِ علَيْه، وهذا كما تقدَّمَ في الفَرق بين «أُولَئِكَ» اسْمَ إشارةٍ، و «إِلَيْكَ» جاراً ومجروراً وقد تقدَّم، وإذا سَمَّيْتَ ب «أولى» ، من «أُولِي كَذَا» قلت: «جَاءَ أُلُونَ، وَرَأَيْتَ أُلِينَ» بردِّ النُّون؛ لأَنَّها كالمقدَّرة حالة الإضافة، فهو نظيرُ «ضَارِبُوا زَيْجٍ وَضَارِبي زَيْدٍ» .
والأَلبَابُ: جمع لُبٍّ، وهو العقلُ الخالي من الهوَى؛ سمِّي بذلك لأحَدِ وَجهين:
إما لبنائِهِ مِنْ لَبَّ بالمَكَانٍ: أَقَامَ به وإِمَّا من اللُّبَابِ، وهو الخَالِص؛ يقال: لَبُيْتَّ بالمكان، ولَببْتُ بضمِّ العين، وكسرها، ومجيء المضاعف على «فَعْلٍ» بضم العَين شاذٌّ، استغنَوْا عنه ب «فَعَلَ» مفتوح العين؛ وذلك في أَلفاظ محصورةٍ؛ نحو عَزُزْتُ، وسَرُرْتُ، ولَبُبْبُ، ودَمُمْتُ، ومَلُلْتُ فهذه بالضمِّ وبالفَتْح، إلاَّ «لَبُبُبُ» فبالضمِّ والكَسْر؛ كما تقدَّم.
قوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} : قال الحسن والأصمُّ: لعلَّكمْ تَتَّقُونَ نفْس القَتْل؛ بخَوف القِصَاصِ.(3/230)
وقيل: المرادُ هو التقْوَى من كُلِّ الوُجُوه.
قال الجُبَّائِيُّ: هذا يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى أراد التَّقْوى مِنَ الكُلِّ، سواءٌ كان في المعْلُوم أنهم يَتَّقُونَ أَوْ لاَ يَتَّقُون بخلاف قول المُجْبِرَةِ، وقد سَبَق جوابُه.
فإِن قيل «لَعلَّ» للتَّرَجِّي، وهو في حقِّ اللهِ تعالى محالٌ، فجوابهُ مَا سَبَقَ في قوله تعالى: {والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] .(3/231)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قال القُرطبيُّ في الكلام تقدير واو العطف، أي: {وَكُتِبَ عَلَيْكُمْ} ، فلما طال الكلامُ، سقطَت الواو، ومثله في بعض الأَقوال: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى} [الليل: 15، 16] ، أي: والذي تَوَلَّى فحذف.
قووله: «كُتِبَ» مبنيٌّ للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وهو الله تعالى وللاختصار.
وفي القائم مقام الفاعل ثلاثةُ أوجُه:
أحدها: أن يكون الوصيَّة، أي: «كتِبَ عَلَيْكُمْ الوصِيَّة» وجاز تذكير الفعل لوجهين:
أحدها: كونُ القائمِ مقامَ الفاعل مؤنَّثاً مجازياً.
والثاني: الفصل بيْنه وبيْن مَرْفُوعه.
والثاني: أنَّهُ الإيصاءُ المدلُول عليه بقوله: {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} أي: كُتِبَ هو أي: الإيصاءُ، وكذلك ذكرُ الضَّمير في قوله: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] وأيضاً: أنَّه ذكر الفِعلْل، وفصل بيْن الفِعل والوصيَّة؛ لأَنَّ الكلام، لمَّا طال، كان الفَاصِلُ بين المؤنَّث والفعْل، كالمعوَّض من تاءِ التَّأنيث، والعَرَبُ تَقُولُ: حَضَرَ القاضِيَ امرأَةٌ فيذكرون؛ لأنَّ القَاضِي فصَل بيْن الفعل وبيْن المرأة.
والثَّالِثُ: أنه الجارُّ والمجرُور، وهذا يتَّجِه على رأي الأخفش، والكوفيين، و «عَلَيْكُم» في محلِّ رفع على هذا القول، وفي محلِّ نَصبٍ على القولَين الأَوَّلين.
قوله تعالى: «إذَا حَضَر» العامل في «إِذَا» كُتِبَ «على أَنَّها ظَرف مَحْض وليس متضمِّناً للشَّرط، كَأَنَّهُ قيل:» كُتِبَ عَلَيْكُمْ الوَصِيَّةُ وَقْتَ حُضُورِ المَوْتِ «ولا يجوز أنْ يكُون العامل فيه لفظ» الوَصيَّة «؛ لأنَّها مصدرٌ، ومعمولُ المصدر لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ، إلاَّ على مَذِهب منَ يَرَى التَّوسُّع في الظَّرف وعديله، وهو أبو الحسن؛ فإنَّه لا يَمْنعُ ذلك، فيكُون التَّقْديِرُ:» كُتِبَ عَلَيْكمْ أنْ توصوا وقت حضور الموت «.(3/231)
وقال ابنُ عطيَّة ويتَّجِه في إعراب هذه الآية الكريمة: أن يكون» كُتِبَ «هو العامِلَ في» إِذَا «، والمعنى:» تَوَجَّه علَيْكم إيجابُ اللهِ، ومقتضى كتابِهِ، إذا حَضَر «فعبّر عن توجُّه الإيجاب ب» كُتِبَ «لينتظم إلى هذا المعنى: أَنَّهُ مكتوبٌ في الأَزَلِ، و» الوَصِيَّة «مفعولٌ لم يسمَّ فاعلُه ب» كُتِبَ «وجواب الشَّرطين» إِنْ «و» إِذْا «مقدَّر يدلُّ عليه ما تَقَدَّم مِنْ قوله» كُتِبَ «.
قال أبو حيان وفي هذا تناقصٌح لأنَّهُ جعل العَامِل في» إِذَا «كُتِبَ» ، وذلك يستلزمُ أن يكُون إذا ظرفاً محضاً غيرَ متضمِّن للشَّرطِ، وهذا يناقضُ قوله: «وجواب» إذا و «إن» محذوف؛ لأنَّ إذا الشَّرشطية لا يعملُ فيها إلاّ جوابُها، أو فعلُها الشرطيُّ، و «كُتِبَ» : ليْسَ أحدهُما، فإن قيل: قومٌ يُجِيزُون تقدِيم جوابِ الشَّرط، فيكُونُ «كُتِبَ» هو الجوابَ، ولكنَّهُ تَقَدَّم، وهو عاملٌ في «إِذَا» ن فيكون ابنُ عطيَّة يقُول بهذا القَوْل.
فالجواب: أَنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنَّه صرَّح بأَنَّ جوابها محذوفٌ مدلولٌ عليه ب «كُتِبَ» ، ولم يجعل «كُتِبَ» هو الجوابَ، ويجوزُ أن يكُونَ العَامِلُ في «إِذَا» الإيصاءَ المفهوم مِنْ لفظ «الوَصِيَّة» ، وهو القائمُ مقام الفاعِل في «كُتِب» ؛ كما تقدَّم.
قال ابن عطيَّة في هذا الوجه: ويكُونُ هذا الإيصاءُ المُقدَّر الذي يَدُلُّ عليه ذكرُ الوصيَّة بعد هو العَاملَ في «إِذَا» ، وترتفع «الوَصِيَّةُ» بالابتداء، وفيه جوابُ الشَّرطيْن؛ على نحو ما أنشَدَه سيبويه: [البسيط]
919 - مَنْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ اللهُ يَحْفَظُهُ..... ... ... ... ... ... ... ... ...
ويكونُ رفْعُها بالابتداءِ، أي: فعليه الوصيَّة؛ بتقدير الفَاءِ فقط؛ كأنَّهُ قال: «فالوصِيَّةُ للوالدَيْنِ» ، وناقشه أَبو حيَّان مِنْ وجوه:
أحدها: أَنَّهُ متناقض من حيثُ إنَّهُ إذا جعل «إِذَا» معمولةً للإيصاء المُقدر، تمحَّضت للظَّرْفية، فكيف يُقَدَّر لها جوابٌ؛ كما تقدَّم تحريره.
والثاني: أنَّ هذا الإيصاءَ إما أن تقدِّر لفظه محذوفاً، أو تضمره، وعلى كلا التَّقديرين، فلا يعمل؛ لأَنَّ المصدر شرطُ إعماله ألاَّ يُحذَف، ولا يضمر عند البصريِّين، وأيضاً: فهو قائمٌ مقام الفاعل؛ فلا يحذف.
الثَّالث: قوله «جَوَابُ الشَّرْطيْنِ» والشيء الواحد لا يكُون جواباً لاثَنَين، بل جواب كلِّ واحدٍ مستقلٌّ بقدره.
الرابع: جعلهُ حذفَ الفاءِ جائزاً في القُرآن، وهذا نصُّ سيبويه على أَنَّهُ لا يجوزُ إلا ضرورةً، وأنشد: [البسيط](3/232)
920 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ سِيّانِ
وإنشاده: «من يفعل الصالحات الله يحفظه» يجوز أَنْ يكون روايةً إلاَّ أنَّ سيبَويْه لم يُنْشِدْه كذا، بل كما تقدَّم، والمُبرِّد روى عنه: أنَّه لا يجيز حذف الفاء مطلقاً، لا في ضرورةٍ، ولا غيرها، ويرويه: «مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ، فالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ» وردَّ النَّاس عليه بأنَّ هذه ليست حجّةً على رواية سيبَويْهِ.
ويجوز أنَّ تكون «إِذَا» شرطيَّةً؛ فيكون جوابُها وجوابُ «إِنْ» محذوفَيْن، وتحقيقُه أَنَّ جوابَ «إِنْ» مقدرٌ، تقديرُه: «كُتِبَ الوصيَّةُ على أحدِكُمْ إذا حضره الموتُ، إنْ ترك خَيْراً، فَلْيُوصِ» ، فقوله: «فَلْيُوصِ» جواب ل «إِنْ» ؛ حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، ويكون هذا الجوابُ المقدَّر دالاًّ على جواب «إِذَا» فيكون المحذُوف دالاًّ على محذوف مثله.
وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْل من يَقُولُ: إنَّ الشَّرط الثَّاني جواب الأَوَّل، وحُذِفَ جواب الثَّاني، وأولى أيضاً مِنْ تقدير مَنْ يقدِّره في معنى «كُتِبَ» ماضي المعنى، إلاَّ أن يؤوِّله بمعنَى: «يتوجَّه علَيْكُمْ الكَتْبُ، إن تَرَكَ خَيْراً» .
قوله «الوَصِيّة» فيه ثلاثةُ أوجُهٍ:
أحدها: أن يكُونَ مبتدأً، وخبره «لِلْوَالِدَيْنِ» .
والثاني: أنَّهُ مفعول «كُتِبَ» ، وقد تقدَّم.
والثالث: أنَّهُ مبتدأٌ، خبره محذوف، أي: «فعلَيْهِ الوصيَّةُ» ، وهذا عند مَنْ يجيزُ حذف فاء الجَوابِ، وهو الأخفشُ؛ وهو محجوجٌ بنقل سيبَوَيْهِ.
فصل في المراد من حضور الموت.
قوله {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} ليْس المرادُ منْه معاينةَ الموْتِ؛ لأَنَّ ذلك الوقْت يكُون عاجزاً عن الإيصاء، ثم ذكر في ذلك وجهَين:
أحداهم: وهو المَشهور أنَّ المرادَ حُضُور أمارةِ المَوت؛ كالمَرَض المَخُوف؛ كما يقال فيمن يخافُ علَيه المَوْت حَضَرهُ المَوْتُ ويقالُ لِمَنْ قارب البَلَد: «وَصَلَ» ؛ قال عنترة: [الوافر]
921 - وَإِنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا ما ... وَصَلْتُ بَنَانَها بِالْهِنْدُوَانِي
وقال جَرِيرُ، يهْجُو الفَرَزدَق [الوافر]
922 - أَنَّا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ ... فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءٌ(3/233)
والثاني: قال الأصمُّ: إِنَّ المُرَادَ: فَرَضْنَا عَليْكُم الوصِيَّة في حَالِ الصَّحَّة بأن تقُولُوا: «إِذا حَضَرَنا المَوْتُ، فافْعَلُوا كذا» .
فصل في المراد بالخير في الآية
المرادُ بالخَير هنا المالُ؛ كقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] {مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] قال أبو العبَّاس المُقرىءُ: وقد وَرَدَ لفظ «الخَيْر» في القرآن بإزاء ثمانية معان:
الأَوَّل: الخَيْرُ: المالُ؛ كهذه الآية.
الثاني: الإيمانُ، قال تعالى: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} [الأنفال: 23] أي: إيماناً، وقوله {} [الأنفال: 70] ، يعني: إيماناً.
الثالث: الخير الفضل؛ ومنه قوله: {خَيْرُ الرازقين} [المائدة: 14] [الحج: 58] [المؤمنون: 72] [سبأ: 39] [الجمعة: 11] {خَيْرُ الراحمين} [المؤمنون: 109، 118] {خَيْرُ الحاكمين} [الأعراف: 87] [يونس: 109] [يوسف: 80] .
الرابع: الخير: العافية؛ قال تعالى: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} [يونس: 107] ، أي: بعافية.
الخامس: الثَّواب قال تعالى: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] ، أي: ثواب وأجر.
السادس: الخير: الطَّعام؛ قال: {إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] .
السابع: الخير: الظَّفر والغنيمة؛ قال تعالى: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} [الأحزاب: 25] .
الثامن: الخير: الخيل؛ قال تعالى: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] ، يعني: الخيل.
ثم اختلفوا هان على قولين:
فقال الزهريُّ: لا فرق بين القليل، والكثير، فالوصيَّة واجبة في الكلِّ، لأن المال القليل خير؛ لقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] {إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] والخير: ما ينتفع به، والمال القليل كذلك، وأيضاً: قوله تعالى في المواريث: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} [النساء: 7] فتكون الوصية كذلك.(3/234)
الثاني: أن الخير هو المال الكثير؛ لأن من ترك درهماً لا يقال ترك خيراً، ولا يقال: فلانٌ ذو مالٍ، إلاَّ أن يكون ماله مجاوزاً حدَّ الحاجة، ولو كان الوصيَّة واجبةً في كلِّ ما يترك، سواء كان قليلاً أو كثيراً، لما كان التقييد بقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} كلاماً مفيداً؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ لا بُدَّ وأن يترك شيئاً، وأمَّا من يموت عرياناً، ولا يبقى منه كسرة خبزٍ فذلك في غاية النُّدرة، وإذا ثبت أن المراد بالخير هنا المال الكثير، فهل هو مقدَّر، أم لا؟ فيه قولان:
الأول: أنه مقدَّر، واختلفوا في مقداره؛ فروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: أنه دخل على مولى لهم في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال أَوَلاً أوصي؟ فقال: لا؛ إنَّما قال الله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} والخير: هو المال الكثير، وليس لك مالٌ.
وعن عائشة: أنَّ رجلاً قال لها: إنِّي أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلافٍ، قالت: كم عيالك؟ قال أربعٌ، قالت: قال الله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً} وإن هذا يسير، فاتركه لعائلتك، فهو أفضل.
وعن ابن عبَّاس: «إذا ترك سبعمائة درهم، فلا يوصي، فإن بلغ ثمانمائة درهمٍ، أوصى» وعن قتادة: ألف ردهمكٍ، وعن النَّعيِّ: من ألفٍ وخمسمائة درهم.
وقال قوم: إنه غير مقدَّر بمقدار معيَّن بل يختلف باختلاف حال الرجال.
فصل في تحرير معنى «الوصيَّة» .
قال القُرْطُبيُّ: و «الوصيَّة» عبارةٌ عن كلِّ شيءٍ يؤمر بفعله، ويعهد به في(3/235)
الحياة، وبعد الموت، وخصَّصها العرف بما يعهد بفعله، وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا، كالقضايا جمع قضيَّة، والوصيُّ يكون الموصي، والموصى إليه؛ وأصله من وصى مخفَّفاً وتواصى النَّبت تواصياً، إذا اتصل، وأرض واصية: متَّصلة النّبات، وأوصيت له بشيءٍ، وأوصيت إليه، إذا جعلته وصيَّك، والاسم الوِصاة، وتواصى القومُ أوصى بعضهم بعضاً، وفي الحديث «استوصوا بالنِّساء خيراً؛ فإنهنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ» ووصَّيتُ الشيء بكذا، إذا وصَّلته به.
فصل في سبب كون الوصية للوالدين والأقربين
اعلم: أن الله تعالى بيَّن أن الصوية الواجبة للوالدين والأقربين. قال الأصم: وذلك أنَّهم كانوا يوصون للأبعدين طلباً للفخر والشَّرف، ويتركون الأقارب في الفقر، والمسكنة؛ فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصيَّة لهؤلاء.
وقال ابن عبَّاس، وطاوسٌ، وقتادة، والحسن: إنَّ هذه الوصيَّة كانت واجبةٌ قبل آية المواريث للوالدين والأقربين من يرث منهم، ومن لا يرث، فلما نزلت آية المواريث، نسخت وجوبها في حِّ الوارث، وبقي وجوبها في حقِّ من لم يرث، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»
وقال طاوس: من أوصى لقومٍ، وترك ذوي قرابة محتاجين، انتزعت منهم، وردت في ذوي قرابته.
وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب صار منسوخاً في حقِّ الكافَّة، وهي مستحبَّة في حقِّ الذين لا يرثون.
روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«ما حَقُّ امرِىءِ مُسْلِمٍ(3/236)
لَهُ شَيْءٌ يريد أن يُوصِيَ فيه، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»
وقال بعضهم: إن الوصيَّة لم تكن واجبةً، وإنما كانت مندوبةً، وهي على حالها لم تنسخ، وسيأتي الكلام عليه قريبا - إن شاء الله تعالى -.
قوله: «بالمعروف» : يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بنفس الوصيَّة.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الوصيَّة، أي: حال كونها ملتبسة بالمعروف، لا بالجور.
فصل
يحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به، فيسوَّى بينهم في العطيَّة، ويحتمل ان يكون المراد من المعروف ألاَّ يعطي البعض، ويحرم البعض؛ كما إذا حرم الفقير، وأوصى للغنيِّ، لم يكن ذلك معروفاً، ولو سوَّى بين الوالدين مع عظم حقهما، وبين بني العمِّ، لم يكن معروفاً، فالله تعالى كلَّفه الوصيَّة؛ على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش، ونقل عن ابن مسعود: أنه جعل هذه الوصيَّة للأفقر فالأفقر من الأقربا.
وقال الحسن البصريُّ: هم والأغنياء سواء.
وروي عن الحسن أيضاً، وجابر بن زيدٍ، وعبد الملك بن يعلى: أنهم قالوا فيمن يوصى لغير قرابته، وله قرابةٌ لا ترثه، قالوا: نجعل ثُلثي الثُّلث لذوي قرابته، وثلث الثُّلث للموصى له، وتقدَّم النَّقل عند طاوس أنَّ الوصيَّة تنزع من الأجنبيِّ، وتعطى لذوي القرابة.
وقال بعضهم: قوله: «بالمعروف» : هو ألاَّ يزيد على الثُّلث، روي عن سعد بن مالك، قال: جاءني النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعودني، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلاَّ ابنتي، فأوصي بثلثي مالي؟ وفي روايةٍ: «أُوصِي بِمَالِي كُلِّه» قال: «لا» ، قُلْتُ: بالشَّطْر؛ قال: «لا» ، قلت فالثُّلُث، قال: «الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثير؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفَّفون الناس»(3/237)
وقال [عليٌّ: لأن أوصي بالخمس أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالثُّلثن فلم أوصي بالثُّلث، فلم يترك «] .
وقال الحسن: نوصي بالسُّدس، أو الخمس، أو الرُّبع.
وقال الفارسيُّ: إنما كانوا يوصون بالخمس والرُّبع.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثُّلث، إلاَّ أصحاب الرأي، فإنهم قالوا: إن لم يترك الوصيُّ ورثةً، جاز له أن يوصي بماله كله.
وقالوا: إنَّما جاز الاقتصارعلى الثُّلث في الوصيَّة؛ لأجل أن يدع ورثته أغنياء.
قوله» حَقّاً «في نصبه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، ذلك المصدر المحذوف: إما مصدر» كُتِبَ «، أو مصدر» أَوْصَى «، أي:» كَتْباً حَقّاً «أو» إيصاءً حَقّاً «.
الثاني: أنه حالٌ من المصدر المعرَّف المحذوف، إما مصدر» كُتِبَ «، أو» أوصى «؛ كما تقدَّم.
الثالث: ان ينتصب على أنَّه مؤكِّدٌ لمضمون الجملة؛ فيكون عاملة محذوفاً، أي: حُقَّ ذلك حَقّاً، قاله الزمَّخشرِيُّ، وابن عطيَّة، وأبو البَقَاء.
قال أبو حَيَّان: وهذا تَأْبَاهُ القَوَاعِدُ النَّحْوِيَّة؛ لأن ظاهر قوله «على المُتَّقِينَ» أن يتعلَّق ب «حَقّاً، أو يكون في موضع الصفة له، وكلا التقديرين لا يجوز.
أما الأول؛ فلأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، وأما الثاني؛ فلأنَّ الوصف يخرجه عن التَّأكيد.
قال شهاب الدِّين: وهذا لا يلزمهم؛ فإنهم، والحالة هذه، لا يقولون: إنَّ» عَلَى المُتَّقِينَ «متعلِّق به، وقد نصَّ على ذلك أو بالبَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ -؛ فإنه قال: وقيل: هو متعلِّق بنفس المصدر، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، وإنَّما يعمل المصدر المنتصب بالفعل المحذوف، إذا ناب عنه؛ كقولك» ضَرباً زيداً «، أي:» اضْرِبْ «إلاَّ أنه جعله صفة ل» حقّ «فهذا يرد عليه، وقال بعض المعربين: إنه مؤكد لما تضمَّنه معنى المتقين: كأنَّه قيل» عَلَى المُتَّقِينَ حَقّاً؛ كقوله: {أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً} [الأنفال: 74](3/238)
وهذا ضعيف؛ لتقدمه على عاملة الموصول، ولأنه لا يتبادر إلى الذِّهن.
قال أبو حيَّان: والأولى عندي: أن يكون مصدراً من معنى «كُتِبَ» ؛ لأن معنى «كُتِبَ الوَصِيَّةُ» ، أي: حقَّت ووجبت، فهو مصدر على غير الصدر، نحو: «قَعَدت جُلُوساً» .
فإن قيل: ظاهر هذا لتَّكليف يقتضي تخصيص هذا التَّكليف بالمتَّقين، دون غيرهم؟
فالجواب أن المراد بقوله تعالى: {حَقّاً عَلَى المتقين} أنَّه لاَزِمٌ لمن آثر التقوى، وتحرَّاه، وجعله طريقةٌ له ومذهباً، فيدخل الكل فيه.
وأيضاً: فإن الآية الكريمة وإن دلَّت على وجوب هذا المعنى على المتقين، فالإجماع دلَّ على أنَّ الواجبات والتَّكاليف عامَّةٌ في حقِّ المتَّقين وغيرهم، فبهذا الطَّريق يدخل الكلُّ تحت هذا التَّكليف.
فصل في اختلافهم في تغيير المدبر وصيته
قال القُرْطُبيُّ: أجمعوا على أن للإنسان أن يغيِّر وصيَّته، ويرجع فيما شاء منها إلاَّ أنهم اختلفوا في المدبر.
فقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا: أن الموصي، إذا أوصى في صحَّته، أو مرضه بوصيَّةٍ، فيها عتق رقيق، فإنه يغيِّر من ذلك ما بدا له، ويصنع من ذلك ما يشاء حتى يموت، وإن أحبَّ أن يطرح تلك الوصيَّة، ويسقطها فَعَل، إلاَّ أن يدبِّر، فإن دبَّر مملوكاً، فلا سبيل له إلى تغيير ما دبَّر.
قال أبو الفرج المالكيُّ: المدبِّر في القياس كالمعتق إلى شهر؛ لأنه أجلٌ آتٍ لا محالة، وأجمعوا على أنَّه لا يرجع في اليمين بالعتق، والعتق إلى أجلٍ؛ فكذلك المدبِّر، وبه قال أبو حنيفة، وقال الإمام الشافعيُّ وإسحاق وأحمد: هو وصيَّةٌ.
فصل
اختلفوا في الرَّجل، يقول لعبده: «أنْتَ حُرٌّ بَعْدَ موْتِي» ، وأراد الوصيَّة، فله الرُّجوع عند مالك، وإن قال: «فُلاَنٌ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي» لم يكن له الرُّجُوع فيه، فإن أراد التدبير لقوله الأول، لم يرجع أيضاً عند أكثر أصحاب مالك، وأما الشَّافِعيُّ، وأحمد، وإسحاق،(3/239)
وأبو ثور، فهذا كلُّه عندهم وصيَّةٌ؛ لأنَّه في الثُّلث، وكلُّ ما كان في الثُّلث، فهو وصيَّة، إلا أن الشافعيَّ قال: لا يكون له ارُّجوع في المدبَّر إلاّض بأن يخرجه عن ملكه ببيعٍ أو هبةٍ، وليس قوله: «فَقَدْ رَجَعْتُ» رجوعاً.
فصل
اختلفوا في رجوع المجيزين للوصيَّة للوارث في حياة الموصي، وبعد وفاته.
فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم، وليس لهم الرجوع، وهو قول عطاء بن أبي رباحٍ، وطاوسٍ، والحسن، وابن سيرين، وابن أبي لييلى، والزهريِّ، وربيعة، والأوزاعي، وقيل: لهم الرجوع، إن أحبُّوا، وهو قول ابن مسعود، وشريحٍ، ولاحكم، والثوريِّ، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد وأبي ثورٍ وابن المنذر.
وقال مالك: إن أذنوا في صحته، فلهم الرجوع، وإن أذنوا في مرضه، فذلك جائز عليهم، وهو قول إسحاق.
فصل في الحجر على المريض في ماله
وذهب الجمهور إلى أنَّه يحجر على المريض في ماله.
وقال أهل الظاهر: لا يحجر عليه، وهو كالصَّحيح.
فصل في توقُّف الوصيَّة على إجازة الورثة
إذا أوصى لبعض ورثته بمالٍ، وقال في وصيَّته: إن أجازها الورثة، فهي لك، وإن لم يجيزوها، فهو في سبيل الله، فلم يجزها الورثة، فقال مالك: مرجع ذلك إليهم.
وقال أبو حنيفة، ومعمر، والشافعي في أحد قوليه: يمضي في سبيل الله، والله أعلم.
فصل
من النَّاس من قال: إن الوصيَّة كانت واجبةً؛ واستدلَّ بقوله كتب وبقوله «عَلَيْكُمْ» وأكد الإيجاب بقوله: {عَلَى المتقين} ، وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال صارت هذه الآية منسوخة.
وقال أبو مسلم: إنها لم تنسخ من وجوه.
أحدها: أن هذه الآية الكريمة ليست مخالفة لآية المواريث، ومعناه: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ ما وَصَّى به الله؛ من تواريث الوَالِدَيْن والأقْرَبِينَ، ومِنْ قوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين؛ بتوفير ما وصَّى به الله عليهم، وألاَّ ينقص من أنصبائهم» .(3/240)
وثانيها: أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث بحكم الآيتين.
وثالثها: لو قدرنا حصول المنافاة، لكان يمكن جعل آية المواريث لإخراج القريب الواريث، ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً تحت هذه الآية؛ وذلك لأن من الوالدين من يرث، ومنهم من لا يرث بسبب اختلاف الدِّين أو الرِّقِّ، أو القتل، ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة: من لا يرث بهذه الأسباب الخارجية ومنهم: من يسقط في حال، ويثبت في حال، ومنهم: من يسقط في كل حالٍ.
فمن كان من هؤلاء وارثاً، لم يتجز الوصيَّة له، ومن كان منهم غير وارث، صحَّت الوصيَّة له، وقد أكَّد الله تعالى ذلك بقوله: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] ، وبقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى} [النحل: 90] ، والقائلون بالنسخ: اختلفوا بأي دليل صارت منسوخة، فقال بعضهم: بإعطاء الله أهل المواريث كل ذي حقٍّ حقَّه.
قال ابن الخطيب وهذا بعيد؛ لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوبُ قدر آخر بالوصيَّة، وأكثر ما يوجبه ذلك التَّخصيص، والنَّسخ.
فإن قيل: لا بدَّ وأن تكون منسوخة في حقِّ من لم يخلف إلا الوالدين من حيث يصير كلُّ المال حقّاً لهم؛ بسبب الإرث، فلا يبقى للوصيَّة شيءٌ؟!
فالجواب: أن هذا تخصيص، لا نسخ.
وقال بعضهم أيضاً: إنها نسخت بقوله - عليه السَّلام -، «لا وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ» ، وفيه إشكالٌ؛ من حيث إنَّه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، فإن قيل: بأنه، وإن كان(3/241)
خبر واحد، إلاَّ أن الأمَّة تلقَّته بالقبول، فالتحق بالمتواتر.
فالجواب: سلَّمنا أن الأمَّة تلقَّته بالقبول، لكن على وجه الظَّنِّ، أو على وجه القطع؟ فإن كان على وجه الظَّنِّ، فمسلَّم إلاَّ أن ذلك يكون إجماعاً منهم على انه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، وإن كان على وجه القطع فممنوع؛ لأنهم لو قطعوا بصحَّته، مع أنه من باب الآحاد، لكانوا قد أجمعوا على الخطأ، وإنه غير جائزٍ.
وقال آخرون: إنها نسخت بالإجماع، والإجماع يجوز أن ينسخ به القرآن؛ لأن الإجماع يدلُّ على أن الدَّليل النَّاسخ كان موجوداً إلاَّ أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدَّليل، ولقائل أن يقول: لمَّا ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ؛ فحينئذٍ: لم يثبت الإجماع.(3/242)
وقال قوم: نسخت بدليلٍ قياسٍّ، وهو أن نقول: هذه الوصية، لو كانت واجبةً، لكانت، إذا لم توجد هذه الوصيَّة، يجب ألاَّ يسقط حقُّ هؤلاء الأقربين، وقد رأيناهم سقطوا لقوله تعالى في آية المواريث {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فظاهره يقتضي أنه إذا لم يكن وصيَّةٌ أو دينٌ، فالمال أجمع للوارث.
ولقائل أن يقول: نسخ القرآن بالقياس غير جائزٍ.
قال القرطبيُّ: قوله تعالى «حَقًّا» أي: ثابتاً ثبوت نظرٍ، وتحصين، لا ثبوت فرضٍ ووجوبٍ؛ بدليل قوله: «عَلَى المتقين» وهذا يدل على كونه مندوباً؛ لأنه لوكان فرضاً، لكان على جميع المسلمين، فلما خصَّ الله تعالى المُتَّقِي، وهو من يخاف التَّقصير، دلَّ على أنه غير لازم لغيره.
فصل «في حقِّ من نسخت الآية»
قال أكثر المفسرين إنها نسخت في حقِّ من يرث ومن لا يرث.
وقال بعض المفسِّرين من الفقهاء: إنَّها نسخت في حقِّ من يرث، وثابتة في حقِّ من لا يرث، وهو مذهب ابن عبَّاس والحسن، ومسروق، وطاوسٍ، والضَّحَّاك، ومسلم بن يسارٍ، والعلاء بن زياد.
؟
قال طاوس: إن من أوصى للأجانب، وترك الأقارب، نزع منهم، وردَّ إلى الأقارب؛ لوجوب الوصيَّة عند هؤلاء، والباقي للقريب الذي ليس بوارث.
واستدلُّوا بأنَّ هذه الآية دالَّة على وجوب الوصيَّة للقريب، سواء كان وارثاً، أو غير وارث، ترك العمل به في حقِّ القري الوارث، إما بآية الماوريث، أو بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لاَ وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ» ، وهاهنا الإجماع غير موجود، لأن الخالف فيه قديم وحديث؛ فوجب أن تبقى الآية دالَّةً على وجوب الوصيَّة للقريب الذي ليس بوارث.
واستدلوا أيضاً بقوله - عليه السلام -: «مَا حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِم لَهُ مُلْكٌ يَبِيتُ لَيْلَتَيْن، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» وقد أجمعنا على أن الوصيَّة غير واجبةً لغير الأقارب؛ فوجب أن تكون هذه الوصيَّة واجبةً للأقراب، فأمَّا الجمهور، فأجود ما استدلُّوا به على أنها منسوخة في حقِّ الكلِّ قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وقد ذكرنا تقريره.(3/243)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطيَّةً وموصولةً، والفاء: إمَّا واجبةٌ، إن كانت شرطاً، وإمَّا جائزةٌ، إن كانت موصولةً، والهاء في «بَدَّلَهُ» يجوز أن تعود على الوصيَّة، وإن كان(3/243)
بلفظ المؤنَّث؛ لأنَّها في معنى المذكَّر، وهو الإيصاء؛ كقوله تعالى: {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةً} [البقرة: 275] أي وعظٌ، أو تعود على نفس الإيصاء المدلول عليه بالوصيَّة، إلاَّ أنَّ اعتبار المذكَّر في المؤنَّث قليلُ، وإن كان مجازيّاً؛ ألا ترى أنه لا فرق بين قولك: «هْنْدٌ خَرَجَتْ، والشَّمْسُ طَلَعَتْ» ، ولا يجوز: «الشّمْسُ طَلَعَ» كما لا يجوز: «هِنْدٌ خَرَجَ» إلا في ضرورة.
وقيل: تعود على الأمر، اولفرض الذي أمر الله به وفرضه.
وقيل: تعود إلى معنى الوصيَّة، وهو قولٌ، أو فعلٌ، وكذلك الضَّمير في «سَمِعَهُ» والضَّمير في «إثْمُهُ» يعود على الإيصاء المبدَّل، أو التَّبديل المفهوم من قوله: «بَدَّلَهُ» ، وقد راعى المعنى في قوله: {عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ} ؛ إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول، لقال {ُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ} ، وقيل: الضَّمير في «بَدَّلَهُ» يعود على الكتب، أو الحَقِّ، أو المعروفِ، فهذه ستَّة أقوال، و «مَا» في قوله: «بَعْدَمَا سَمِعَهُ» يجوز أن تكون مصدريَّةً، أي: بعد سماعه، وأن تكون موصولةً بمعنى «الذي» ، فالهاء في «سَمِعَهُ» على الأول تعود على ما عاد عليه الهاء في «بَدَّلَهُ» ؛ وعلى الثاني: تعود على الموصول، أي «بَعْدَ الَّذي سَمِعَهُ مِنْ أَوَامِرِ اللهِ» .
فصل في بيان المبدِّل
في المبدِّل قولان:
أحدهما: انه الوصيُّ، أو الشاهد، أو سائر النَّاس
أما الوصيُّ: فبأن يغيِّر الموصى به: إمَّا في الكتابة، أو في قسمة الحقوق، وأمَّا الشاهد: فبأن يغيِّر شهادته، أو يكتمها، وأما غير الوصي والشاهد؛ فبأن يمنعوا من وصول ذلك المال إلى مستحقِّه، فهؤلاء كلُّهم داخلون تحت قوله: «فَمَنْ بَدَّلَهُ» .
الثاني: أن المبدِّل هو الموصي، نهي عن تغيير الوصيَّة عن موضعها التي بيَّن الله تعالى الوصية إليها؛ وذلك أنا بيَّنَّا أنهم كانوا في الجاهليَّة يوصون للأجانب، ويتركون الأقارب في الجوع والضَّر، فأمرهم الله تعالى بالوصيَّة إلى الأقربين، ثم زجر بقوله: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} أي: من أعرض عن هذا التَّكليف، وقوله: {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، أي سَمِيعٌ لما أوصى به النموصي، عليمٌ بنيَّتهن لا تخفى عليه خافيةٌ من التَّغيير الواقع فيها.
فصل في تبديل الوصيَّة بما لا يجوز
قال القرطبيُّ: لا خلاف أنه إذا أوصبى بما لا يجوز؛ مثل: أن يوصي بخمرٍ، أو(3/244)
خنزير، أو شيءٍ من المعاصي، فإنه لا يجوز إمضاؤه، ويجوز تبديله.(3/245)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
يجوز في «مَنْ» الوجهان الجائزان في «مَنْ» قبلها، والفاء في «فَلاَ إِثْمَ» هي جوابُ شرطٍ، أو الدَّاخلة في الخبر.
و «مِنْ مُوصٍ» يجوز فيها ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون متعلِّقة ب «خَافَ» على أنها لابتداء الغاية.
الثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حال من «جَنَفاً» ، قدمت عليه؛ لأنها كانت في الأصل صفةً له، فلما تقدَّمت، نُصِبَتْ حالاً، ونظيره: «أَخَذْت مِنْ زَيْدٍ مَالاً» ، إنْ شئت، علَّقت «مِنْ زَيْدٍ» ب «أَخَذْتُ» ، وإن شئت، جعلته حالاً من «مالاً» ؛ لأنه صفته في الأصل.
الثالث: أن تكون لبيان جنس الجانفين، وتتعلَّق أيضاً ب «خَافَ» فعلى القولين الأولين: لا يكون الجانف من الموصين، بل غيرهم، وعلى الثالث: يكون من الموصين، وقرأ أبو بكر، وحمزة والكسائي، ويعقوب «مُوصٍّ» بتشديد الصَّاد؛ كقوله: {مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] و {وَوَصَّيْنَا الإنسان} [لقمان: 14] والباقون يتخفيفها، وهما لغتان؛ من «أَوْصَى» ، و «وَصَّى» ؛ كما قدَّمنا، إلا أن حمزة، والكسائيَّ، وأبا بكر من جملة من قرأ {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ} [البقرة: 132] ونافعاً، وابن عامرٍ يقرءان «أَوْصَى» بالهمزة، فلو لم تكن القراءة سُنَّةً متبعة لا تجوز بالرَّأي، لكان قياس قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وحفص هناك: «وَوَصَّى» بالتضعيف - أن يقرءوا هنا «مُوَصٍّ» بالتَّعيف أيضاً، وأمَّا نافع، وابن عامر، فإنهما قراءا هنا: «مُوصٍ» مخفَّفاً؛ على قياس قِراءتهما هنا:، و «أَوْصَى» على «أَفْعَلَ» وكذلك حمزة، والكسائيُّ، وأبو بكر قراءوا: «وَوَصَّى» - هناك بالتضعيف؛ على القياس.
و «الخَوْفُ» هنا بمعنى الخشية، وهو الأصل.
فإن قيل: الخوف إنما يصحُّ في أمر سيصير، والوصيَّة وقعت، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟!
والجواب من وجوهٍ:
أحدها: أن المراد منه أن المصلح، إذا شاهد الموصي، يوصي، وظهر منه أمارة(3/245)
الحيف، عن طريق الحقِّ مع ضرب من الجهالة، أو مع التأويل، أو شاهد من التَّعمُّد في الميل، فعند ظهور الأمارة تحقيق الوصيَّة، يأخذ في الإصلاح؛ لأنَّ إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده، وقبل تقرير فساده يكون أسهل؛ فلذلك علَّقه - تعالى - بالخوف دون العلم.
الثاني: الموصي له الرجوع عن الوصيَّة، وفسخها، وتغييرها بالزِّيادة والنُّقصان، ما لم يمت، وإذا كان كذلك، لم يصر الجنف والإثم معلومين؛ فلذلك علَّقه بالخوف.
الثالث: يجوز أن يصلح الورثة والموصى له بعد الموت على ترك الميل والجنف، وإذا كان ذلك منتظراً، لم يكن الجنف، والإثم مستقرّاً؛ فصحَّ تعليقه بالخوف.
وقيل: [الخَوْفُ] بمعنى العلم، وهو مجازٌ، والعلاقة بينهما هو أنَّ الإنسان لا يخاف شيئاً؛ حتى يعلم أنه ممَّا يُخاف منه، فهو من باب التعبير عن السَّبب بالمسبِّب؛ ومن مجيء الخوف بمعنى العلم قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229] ، وقول أبي محجن الثقفيَّ: [الطويل]
923 - إذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظَامِي في المَمَاتِ عُرُوقَهُا
وَلاَ تَدْفِنَنِّي في الفَلاَةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إذَا مَا مُتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا
فعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة أن الميِّت إذا أخطأ في وصيَّته، أو جنف فيها متعمِّداً، فلا حرج على من علم ذلك ان غيِّره، بعد موته، قاله ابن عباس، وقتادة، والرَّبيع، وأصل «خَافَ» «خَوَفَ» تحرَّكت الواو وانفتح ما قبلها؛ فقلبت ألفاً، وأهل الكوفة يميلون هذه الألف.
و «الجَنَفُ» فيه قولان:
أحدهما: الميل؛ قال الأعشى: [الطويل]
924 - تَجَانَفُ عَنْ حُجْرِ اليمَامَةِ نَاقِتِي ... وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسوَائِكَا
وقال آخر: [الوافر](3/246)
925 - هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا ... وَإِنَّا مِننْ لِقَائِهِمْ لَزُورُ
قال أبو عبيدة: المولى هاهنا في موضع الموالي، أي: ابن العمِّ؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67] ، وقيل: هو الجسور.
قال القائل: [الكامل]
926 - إنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةَ عَامِرٍ ... ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ
يقال: جَنِفَ بِكَسْر النُّون، يَجْنَفُ، بفتحها، فهو جَنِفٌ، وجَانِفٌ، وأَجْنَفَ: جاء بالجَنَفِ، ك «أَلأَمَ» أي: أتى بما يلام عليه.
والفرق بين الجنف والإثم: أن الجنف هو الميل مع الخطأ، والثم: هو العمد.
فصل في سوء الخاتمة بالمضارة في الوصيَّة
روي عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّ الرَّجُلَ، أو المَرْأَةَ، لَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحضُرُهُمَا المَوْتَ، فَيُضَّارَّانِ في الوَصِيَّةِ؛ فتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» ، ثم قرأ أبو هريرة: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّة» إلى قوله: {غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّة} [النساء: 12] .
فصل
والضمير في «بَيْنَهُمْ» عائدٌ على الموصي، والورثة، أو على الموصى لهم، أو على الورثة والموصى لهم، والظاهر عوده على الموصى لهم، إذ يدلُّ على ذلك لفظ «الموصي» ، وهو نظير «وأَدَاءٌ إلَيْهِ» في أنَّ الضَّمير يعود للعافي؛ لاستلزام «عُفِيَ» له؛ ومثله ما أنشد الفراء: [الوافر]
927 - وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضاً ... أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
فالضمير في «أيُّهما» يعود على الخير والشَّرِّ، وإن لم يجر ذلك الشَّرِّ، لدلالة ضده عليه، والضمير في «عَلَيْهِ» وفي «خَافَ» وفي «أَصْلَحَ» يعود على «مَنْ» .
فصل في بيان المراد من المصلح
هذا المصلح [من هو؟] الظاهر أنه الوصي، وقد يدل تحته الشاهد، وقد يكون(3/247)
المراد منه من يتولَّى ذلك بعد موته؛ من والٍ، أو وليٍّ، أو من يأمر بمعروف، فلا وجه للتخصيص، بل الوصيُّ أو الشهد أولى بالدُّخول؛ لأن تعلقهم أشدُّ، وكيفيَّة الإصلاح أن يزيل ما وقع فيه الجنف، ويردَّ كلَّ حَقٍّ إلى مستحقه.
قال القُرْطُبِيُّ: الخطاب في قوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} لجميع المسلمين، أي: إن خفتم من موص جنفاً، أي: ميلاً في الوصيَّة، وعدولاً عن الحقِّ، ووقوعاً في إثم، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته، أو لولد ابنته؛ لينصرف المال إلى ابنته [أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنِهِ، أو أوصى لبعيدٍ] ، وترك القريب؛ فبادروا إلى السَّعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصُّلح، سقط الإثم عن المصلح، والإصلاح فرض على الكفاية، إذا قام أحدهم به، سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا، أثم الكل.
فإن قيل: هذا الإصلاح طاعةٌ عظيمةٌ، ويستحقُّ الثَّواب عليه، فكيف عبَّر عنه بقوله: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ؟
فالجواب: من وجوه:
أحدها: أنه تعالى، لما ذكر إثم المبدِّل في أوَّل الآية وهذا أيضاً من التَّبديل، بيَّن مخالفته للأوَّل، وأنه لا إثم عيه؛ لأنَّه ردَّ الوصيَّة إلى العدل.
وثانيها: أنه إذا أنقص الوصايا، فذلك يصعب على الموصى لهم، ويوهم أن فيه إثماً، فأزال ذلك الوهم، فقال: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ} .
وثالثها: أن مخالفة الموصي في وصيَّته، وصرفها عمن أحبَّ إلى من كره؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيَّن تعالى أن ذلك حسنٌ؛ بقوله: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ} .
ورابعها: أن الإصلاح بين جماعةٍ يحتاج إلى إكثارٍ من القول، ويخاف أن يتخلَّله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل؛ فبيَّن تعالى أنَّه لا ثم عليه في هذا الجنس، إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً.
فإن قيل: قوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز، وهذا الإصلاح من جملة الطَّاعات، فكيف يليق به هذا الكلام؟
فالجواب من وجوه:
أحدهما: ان هذا من باب التَّنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه قال: انا الذي أغفر للذُّنوب، ثم أرحم المذنب؛ فبأن اوصل رحمتي وثوابي إليك، مع أنك تحمَّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهمِّ كان أولى.(3/248)
وثانيها: يحتمل أن يكون المراد: أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم، متى أصلحت وصيَّته؛ فإن الله غفور رحيم يغفر له، ويرحمه بفضله.
وثالثها: أن المصلح، ربما احتاج في الإصلاح إلى أفعال وأقوال، كان الأولى تركها، فإذا علم الله تعالى منه أنَّه ليس غرضه إلا الإصلاح، فإنه لا يؤاخذه بها؛ لأنه غفور رحيم.
فصل في أفضلية الصدقة حال الصحة
قال القرطبيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والصَّدقة في حال الصِّحَّة أفضل منها عند الموت؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقد سئل: أيُّ الصدقة أفضل؟ فقال: «أن تَصَّدَّقَ، وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ»
، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لأنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهِم خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمَائَةٍ» وقال - عليه السلام -: «مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ، وَيَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ مَثَلُ الَّذِي يُهْدِي بَعْدَ مَا يَشْبَعُ»
فصل
ومن لم يضر في وصيته، كانت كفارة لما ترك من زكاته؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: " من حضرته الوفاة، فأوصى، فكانت وصيته على كتاب الله؛ كانت كفارة لما ترك من زكاته ".(3/249)
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «الإِضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ» وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أو المَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا المَوْتُ، فيُضارَّان في الوَصِيَّةِ، فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» وروى عمران بن حصين، أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فغضب من ذلك، وقال: لقد هممت ألاَّ أصلي عليه [ثم دعى مملوكيه] ، فجَزَّأهم ثلاثاً، وأقرع بينهم، وأعتق اثنين، وأرقَّ أربعة.(3/250)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
«الصِّيَام» : مفعولٌ لم يسمَّ فاعله، وقدَّم عليه هذه الفضلة، وإن كان الأصل تأخيرها عنه؛ لأن البداءة بذكر المكتوب عليه آكد من ذكر المكتوب لتعلُّق الكتب بمن يؤدي، والصِّيام مصدر صام يصوم صوماً، والأصل: «صِوَاماً» ، فأبدلت الواو ياء، والصَّوم مصدر أيضاً، وهذان البناءان - أعني: فعل وفعال - كثيران في كلِّ فعل واويِّ العين صحيح اللام، وقد جاء منه شيءٌ قليلٌ على فعولٌ؛ قالوا: «غَارَ غُوُوراً» ، وإنما استكرهوه؛ لاجتماع الواوين، ولذلك همزه بعضهم، فقال: «الغُئُور» .
قال أبو العباس المقرئ: وقد ورد في القرآن «كَتَبَ» بإزاء أربعة معانٍ:
الأول: بمعنى فرض؛ قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} ، أي: فُرِضَ.
الثاني: بمعنى قضى؛ قال تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] ، ومثله: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51] .
الثالثُ: بمعنى جَعَل؛ قال تعالى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] ، أي: جعَلَ لكم، ومثله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] أي: جعل.
الرابع: بمعنى أمر؛ قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45] ، أي: أمرناهم.
والصيام لغةً: الإمساك عن الشيء مطلقاً، ومنه صامت الرَِّيح: أمسكت عن(3/250)
الهبوب، والفرس: أمسكت عن العدو؛ قال: [البسيط]
928 - وخَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وقال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن} [مريم: 26] ، أي: سكوتاً؛ لقوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} [مريم: 26] وصام النهار، اشتدَّ حرُّه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
929 - فَدَعْهَا وَسَلِّ الهَمَّ عَنْهَا بِجَسْرَةٍ ... ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا
وقال: [الرجز]
930 - حَتَّى إذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ ... وَمَالَ لِلشِّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ
كأنهم توهَّموا ذلك الوقت إمساك الشمس عن المسير، ومصام النُّجوم: إمساكها عن السَّير؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
931 - كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في مَصَامِهَا ... بَأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إلى صُمَّ جَنْدَلِ
قال الراجز: [الرجز]
932 - وَالبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ ... وفي الشَّريعة: هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات؛ حال العلم بكونه صائماً، [مع اقترانه بالنِّيَّة] .
قوله: «كَمَا كُتِبَ» فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن محلّها النصب على نعت مصدر محذوف، أي: كتب كتباً؛ مثل ما كتب.
الثاني: أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة، أي: كتب عليكم الصِّيام الكَتْبَ مشبهاً ما كتب، و «ما» على هذين الوجهين مصدريةٌ.
الثالث: أن يكون نعتاً لمصدر من لفظ الصيام، أي: صوماً مثل ما كتب، ف «ما» على هذا الوجه بمعنى «الذي» ، أي: صوماً مماثلاً للصوم المكتوب على من قبلكم، و «صوماً» هنا مصدر مؤكِّد في المعنى؛ لأن الصِّيام بمعنى: «أنْ تَصُوموا صَوْماً» قال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللهُ -، وفيه أن المصدر المؤكِّد يوصف، وقد تقدَّم منعه عند قوله تعالى:(3/251)
{بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 180] قال أبو حيَّان - بعد أن حكى هذا عن ابن عطية -: وهذا فيه بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالكتابة لا يصحُّ، [هذا إن كانت «ما» مصدريَّةً، وأمَّا إن كانت موصولةً، ففيه أيضاً بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالصَّوم لا يصحُّ] ، لا على تأويلٍ بعيدٍ.
الرابع: أن يكون في محل نصب على الحال من «الصِّيام» وتكون «ما» موصولةً، أي: مشبهاً الذي كتب، والعامل فيها «كُتِبَ» ؛ لأنَّه عاملٌ في صاحبها.
الخامس: أن يكون في محلِّ رفع؛ لأنه صفة للصيام، وهذا مردودٌ بأن الجارَّ والمجرور من قبيل النَّكرات، والصِّيام معرفةٌ؛ فكيف توصف المعرفة بالنكَّرة؟ وأجاب أبو البقاء عن ذلك؛ بأن الصَّيام غير معين؛ كأنَّه يعني أن «ألْ» فيه للجنس، والمعرَّف بأل الجنسيَّة عندهم قريبٌ من النَّكرة؛ ولذلك جاز أن يعتبر لفظه مرَّةً، ومعناه أخرى؛ قالوا «أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِرْهَمُ البِيضُ» ، ومنه:
933 - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي
{وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وقد تقدّم الكلام على مثل قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] كيف وصل الموصول بهذا؛ والجواب عنه في قوله: {خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21]
فصل في المراد بالتشبيه في الآية
في هذا التشبيه قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني: هذه العبادة كانت مكتوبةً على الأنبياء والأمم من ولد آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى عهدكم لم تخل أمَّةٌ من وجوبها عليهم.
وفائدة هذا الكلام: أنَّ الشَّيء الشاقَّ إذا عمَّ، سهل عمله.
القول الثاني: أنه عائد إلى وقت الصَّوم، وإلى قدره، وذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: قال سعيد بن جبير «كَانَ صَومُ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ العَتَمَةِ إلى اللَّيْلة القَابِلَة؛ كما كان في ابتداءِ الإسْلاَمِ» .
ثانيها: أن صوم رمضان كان واجباً على اليهود والنصارى، أما اليهود فإنها تركته(3/252)
وصامت يوماً في السَّنة، زعموا أنه يوم أن غرق فيه فرعون، وكذبوا ي ذلك أيضاً؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وأما النصارى، فإنهم صاموا رمضان زماناً طويلاً، فصادفوا فيه الحرَّ الشديد، فكان يشقُّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم، فاجتمع رأي علمائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السَّنة بين الشِّتاء والصِّيف، فجعلوه في الرَّبيع، وحوَّلوه إلى وقتٍ لا يتغيَّر، ثم قالوا عند التَّحويل: زيدوا فيه عشرة أيَّام كفَّارةً لما صنعوا؛ فصار أربعين يوماً، ثم إنَّ ملكاً منهم اشتكى، فجعل الله عليه، إن برىء من وجعه: أن يزيد في صومهم أسبوعاً، فبرىء، وهذا معنى قوله:
{اتخذوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] . قاله الحسن.
وثالثها: قال مجاهدٌ: أصابهم موتان، فقالوا: زيدوا في صيامكم، فزاداو عشراً قبل وعشراً بعد.
ورابعها: قال الشعبي: إنهم أخذوا بالوثيقة، وصاموا قبل الثلاثين يوماً، وبعدها يوماً، ثم لم يزل الأخير يستسن بالقرآن الذي قبله، حتى صاروا إلى خمسين يوماً، ولهذا كُرِّه صوم يوم الشَّكِّ.(3/253)
قال الشعبي: لو صمت السَّنة كلَّها، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه، فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان.
وخامسها: أن وجه التَّشبيه أن يحرم الطَّعام والشَّراب والجماع بعد اليوم؛ كما كان قبل ذلك حراماً على سائر الأمم؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187] . فإن هذا يفيد نسخ هذا الحكم، ولا دليل يدلُّ عليه إلاَّ هذا التَّشبيه، وهو قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} ؛ فَوَجبَ أن يكُون هذا التَّشبيه دالاًّ على ثبوت هذا المعنى.
قال أصحاب القول الأول: إن تشبيه شيء بشيء لا يدلُّ على مشابهتهما من كلِّ الوجوه، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصّاً برمضان، وأن يكون صومهم قدَّراً بثلاثين يوماً، ثم إنَّ مثل هذه الرِّواية منا ينفِّر من قبول الإسلام، إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني: بالصَّوم؛ لأنَّ الصَّوم وصلةٌ إلى التَّقوى؛ لما فيه من قهر النَّفسِ، وكسر الشَّهوات، وقيل: لعلَّكم تحذرون عن الشَّهوات من الأكل، والشُّرب، والجماع، وقيل: «لعلَّكم تتَّقون» إهمالها، وترك المحافظة عليها، بسبب عظم درجتها، وقيل: لعلَّكم تكونون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم.(3/254)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
في نصب أيَّاماً أربعة أوجه:
أظهرها: أنَّهُ مَنصُوب بعاملٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه سياقُ الكلام، تقديره صُومُوا أيَّاماً الخُرُوجَ يَوْمَ الجُمُعَةِ «، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّهُ يَلْزَمُ الفصل بيْن المصدر ومعمُوله بأجنبيٍّ، وهو قوله» كَمَا كُتبَ «؛ لأَنَّه ليس معمولاً للمصدر على أيِّ تقديره قدَّرته.
فإن قيل: يُجعلَ» كَمَا كُتِبَ «صفةً للصّيام، وذلك على رأي من يجيزُ وصف المعرَّف» بأَل «الجنسيَّة بما يجرى مجرَى النَّكرة، فلا يكُونُ أجنبيّاً.
قيل: يلزمُ مِنْ ذلك وصفُ المصدر قَبل ذكر معموله، وهو ممتنعٌ.(3/254)
الثالث: أنه منصوبٌ بالصِّيامِ على أنْ تقدَّر الكافُ نعتاً لمصدر من الصِّيام؛ كما قد قال به بعضُهُمْ، وإن كان ضعيفاً؛ فيكون التَّقدير:» الصِّيَامُ صَوْمَاً؛ كَمَا كُتِبَ «؛ فجاز أن يعمل في» أَيَّاماً «» الصِّيَامُ «؛ لأنه إذْ ذاك عاملٌ في» صوماً «الذي هو موصوفٌ ب» كمَ كُتِبَ «، فلا يقع الفصلُ بينهما بأجنبيٍّ، بل بمعمول المصدر.
الرابع: أن ينتصب ب» كُتِبَ «إِمَّا على الظَّرف، وإمَّا على المَفعُول به تَوَسُّعاً، وإليه نحا الفرَّاء، وتبعه على ذلك أبو البَقَاء.
قال أبو حيَّان: وكلا القَولين خطأٌ: أَمَّا النَّصب على الظرفيَّة، فإِنَّهُ محلٌّ للفعلِ، والكِتابة لَيْسَت واقعةً في الأيَّام، لكنَّ متعلَّقها هو الواقع في الأَيّام، وأَمَّا [النَّصب على المفعول اتساعاً، فإِنَّ ذلك مبنيٌّ على كونه ظرفاً ل» كُتِبَ «، وقد تقدَّم أَنَّهُ خطأٌ، وقيل: نصبٌ على] التَّفسير.
و» مَعْدُدَاتٍ «صفةٌ، وجمعُ صفةِ ما لا يعقل بالألف والتَّاء مطَّردٌ؛ نحو هذا، وقوله: {جِبَالٌ راسِيَاتٌ} ، و {أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] .
فصل في اختلافهم في المراد بالأيَّام
اختلفوا في هذه الأيام على قولين:
أحدهما: أنها غير رمضان، قاله معاذ، وقتادة، وعطاء، ورواه عن ابن عبَّاس، ثم اختلفَ هؤلاءِ: فقيل ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهر، وصوم يوم عاشُوراء، قاله قتادة، ثُمَّ اختلفوا أيضاً: هل كان تَطوعاً أو مَرضاً، واتفقُوا على أنَّه منسوخٌ برمضان.
واحتجُّ القائلُونَ بأنَّ المراد بهذه الأيَّام غيرُ رمضانَ بوجوه:
أحدها: قوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إِنَّ صَوْمَ رَمَضَان نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ «فدلّ هذا على أنَّ قبل رمضان كاصوماً آخر واجباً.
وثانيها: أنَّه تعالى ذكر حُكم المريض والمُسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمها أيضاً في الآيَة الَّتي بعدها الدالَّة على صوم رمضان، فلو كان هذا الصَّوم هو صومَ رمضان، لكان ذلك تكريراً محضاً مِنْ غير فائدة، وهو لا يجوز.
وثالثها: قوله تعالى هنا {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] تدلُّ على أنَّ(3/255)
هذا واجبٌ على التخيير، إن شاء صام، وَإِنْ شاء أعطى الفدية، وأَما صوم رمضان، فواجبٌ على العيين؛ فوجبَ أن يكون صَومُ هذه الأيام غير صوم رمضان.
القول الثاني وهو اختيارُ المحقِّقين، وبه قال ابنُ عبَّاس، والحسن، وأبو مُسلم أن المراد بهذه الأيَّام المعدُواتِ هو صومُ رمضان، لأَنَّهُ قال في أوَّل الآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وهذا محتملٌ ليوم ويومين، وأيَّام، ثم بينه بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فزال بعضً الاحتمال، ثم بَيَّنه بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] فعلى هذا التَّرتيب يمكنُ أَنْ نجعل الأيَّام المعدوداتٍ بعينها صومَ رمضان، وإذا أمكن ذلك، فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النَّسخ فيه؛ لأنَّ كل ذلك زيادةٌ لا يدلُّ عليها اللَّفظُ، وأَمَّا تمسُّكهم بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «صَوْمُ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ» ، فليس فيه أَنَّه نَسَخَ عنه، وعن أُمَّته كلَّ صوْمٍ، بل يجوز أَنَّه نَسَخَ كلَّ صوم وجَبَ في الشّرائع المتقدِّمة؛ فكما يصحُّ أن يكون بعض شرعه ناسخاً للبعض، فيجوز أن يكون شَرْعهُ ناسخاً لشَرع غيره.
سلَّمنا أَنَّ صومَ رمضان نسخ صوماً ثبت في شرعه، فلِمَ لا يجوز أن يكونَ نسخ صوماً وجب غَيْرَ هذه الأيام.
وأمَّا تمسُّكُهم بحكم المريضِ والمُسَافر وتكَرُّرِه فجوابُه: أَنَّ صوم رمضان كان في ابتداءِ الإسلام غير واجِبٍ، وكان التَّخيير فيه ثابتاً بين الصِّيام والفدية، لَّما رُخصَ للمسَافر الفطرُ، كان من الجائز أَنْ يصير الواجبُ عليه افدية، ويجوز أَنْ لا فديَة علَيْه، ولا قضاء؛ للمشقَّة. وإذا ان ذلك جائزاً، بيَّن تعالى أَنَّ إفطار المُسافِر والمريض في الحُكْم خلافُ [التخيير في المقيم؛ فإِنَّهُ يجبُ عليهما القَضَاء من عدَّةِ أيَّام أُخر، فلما نَسَخَ اللهُ تعالى ذلك التَّخييرَ عن] المقيم الصَّحيحِ، وأَلْزَمَهُ الصَّومَ حتماً، كان من الجائزِ أَنْ يظن أنَّ حكم الصَّوم، كمَّا انتقلَ عن التخيير إلى التَّضييق في حَقِّ المقيم الصَّحيح أن يتغيَّر حكمُ المريضِ والمسافر عن حكم الصَّحيح، كما كان قبل النَّسْخِ، فبيَّن تعالى في الآية الثَّانية: أنَّ حال المريض والمُسافر كحالها الأُولى لم يتغيَّر بالنَّسخ في حق المقيم الصَّحيح، فهذه هي الفائدةُ في الإعادة، وإنَّمَا تمسُّكُهم بأنَّ صَوْمَ هذه الأيَّام على التَّخير وصومَ رمضانَ واجِبٌ على التَّعيين، فتقدَّم جوابهُ من أَنَّ رمضان كان واجِباً مخيَّراً، ثم صَارَ مُعَّيناً، وعلى كِلا القَوْلَين، فلا بُدَّ من تَطَرُّق النسخ إلى الأيَّام أمَّا على القول الأوَّل فظاهر، وأما على الثاني: فلأَنَّ هذه الآية تقتضي أن يكون صَوم رمضان واجباً مخيَّراً، والآية الكريمة التي بعدها تدُلُّ على التَّضييق؛ فكانت ناسخة للأولى.
فإن قيل: كَيْفَ يصحُّ أنْ يكونَ قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185](3/256)
ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصحُّ.
والجواب: أنَّ الاتِّصال في التَّلاوة لا يوجب الاتِّصال في النُّزول؛ وهذا كما قيل في عدَّة المتوفَّى عنها زوجها؛ أنّ الْمقدَّم في التلاوة هو النَّاسخُ والمَنْسُخ متأَخِّر، وهذا عكسُ ما يجبُ أن يكُونَ عليه حالُ النَّاسخ والمَنْسوخ، فقالُوا: إنَّ ذلك في التِّلاوة، أمَّا في الإنزال، فكان الاعتِدادُ بالحَولِ هو المتقدِّمَ، والآية الدَّالَّةُ على أربعة أشْهرٍ وعَشْرٍ هي المُتأخِّرَة، وكذلك في القُرآن آيات كثيرةٌ مكِّيِّةٌ متأخِّرة في التَّلاوة عن الآياتِ المدنيَّة، والله أعْلَمْ.
فصل في أول ما نسخ بعد الهجرة
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - أوَّلُ ما نُسخ بعد الهجرة أَمْرُ القِبلة والصَّوْم، ويقالُ نزل صَوْمُ شهر رمضان قَبْل بَدرٍ بشهرٍ وأيام، وعن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْها - قالت: كان يَوْمُ عاشُورَاء تصومُهُ قُرَيش في الجاهلِيَّة، وكان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَصُومُهُ في الجَاهِليَّة فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المدِينَةَ، صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانَ كَانَ هُوَ الفريضة، وتُرِكَ يَوْمُ عاشُوراء، فَمنْ شَاءَ صاَمَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ.
فصل في المراد بقوله «مَعْدُودات»
في قوله تعالى: «مَعْدودَاتٍ» وجهانِ:
أحدهما: أنها مُقّدَّراتٌ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ.
والثاني: قَلائِل؛ كقوله تعالى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] .
وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
فالمرادُ أَنَّ فَرْضَ الصَّوم في الأَيَّامِ المعْدُودَاتِ، إنما يَلْزَمُ الأصِحَّاءَ المُقيمينَ، فأَمَّا مَنْ كَان مُسَافراً، أو مريضاً، فله تأخير الصَّومِ عنْ هذه الأيَّام إلى أيَّامٍ أُخَرَ.
قال القفَّالُ رَحِمَهُ اللهُ: انْظُرُوا إلى عجيب ما نبَّهَ اللهُ تعالى مِنْ سعة فضلِهِ وَرَحمتِهِ في هذا التَّكليف، وأَنَّهُ تعالى بَيَّنَ فِي أوَّلِ الآيَةِ أن لهذه الأُمَّةِ في هذا التكليف أَسْوَةً بالأُمَمِ المُتقدِّمةِ، والغَرضُ منهُ ما ذكرناهُ مِنْ أَنَّ الأمر الشَّاقَّ، إذ عَمَّ خفَّ، ثم بَيَّن ثانياً وجه الحكمة في إيجابِ الصَّوم، وهو أَنَّهُ سببٌ لحُصُول التَّقوَى، ثُمَّ بَيَّنَ ثالثاً: أنَّهُ(3/257)
مُخْتصُّ بأيَّامٍ معدوداتٍ، فلو جعلهُ أبداً، أو في أكثر الأوقات، لَحَصَلتِ المشَقَّةُ العظيمة، ثُمَّ بيَّن رابعاً: أنه خَصَّهُ من الأوقات بالشَّهر الذي أُنزل فيه القرآن؛ لكونه أَشرَف الشُّهُور؛ بسبب هذه الفَضيلةِ؛ ثم بيَّ خامِساً: إزالة المشقَّة في إلزَامه، فَأَباح تأخيره لِمَنْ به مَرَضٌ، أو سَفَرٌ غلى أن يصيرَ إلى الرَّفاهية والسُّكُون، فراعى سبحانه وتعالى في إيجاب هذا الصَّوم هذه الوجوه من الرحمة، فله الحمدُ على نعمه.
قوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} : فيه معنَى الشَّرْط والجَزاءِ، أي: مَنْ يَكُنْ مرِيضاً، أو مُسَافراً، فَأَفْطَر، فَلْيَقْضِ، إذا قَدَّرْتَ فيه الشَّرط، كَانَ المرادُ بقوله: كَانَ الاسْتِقبَالُ لاَ الماضي؛ كما تقولُ: مَنْ أَتَانِي، أَتَيْتُهُ.
قوله: {أَوْ على سَفَرٍ} في مَحَلِّ نَصبٍ؛ عطفاً على خبر كان، و «أوْ» هُنَا للتَّنويع، وعَدَل عن اسمِ الفاعِل، فَلَمْ يَقْل: أَوْ مُسَافِراً، إشعارً بالاسْتِعلاء على السَّفر، لِما فيه مِنَ الاختيار للسفر؛ بخلافِ المرض، فإنه قَهْرِيٌّ،
فصل في المرض المبيح للفطر
اختلفُوا في المَرَضِ المُبيح للفطر؛ فقال الحَسَنُ، وابنُ سيرين: أيُّ مَرَضٍ كان، وأيُّ سَفَرٍ كان؛ تنزيلاً لِلَّفظ المطلق على أقلِّ الأحوال، وروي أنَّهم دخَلُوا على ابن سيرين في رمَضَان، وهو يأْكُلُ فاعتلَّ بِوَجَعِ أُصْبعِهِ، وقال الأصمُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: هذه الرخصةُ مختصَّةٌ بالمرضِ الَّذي لو صَامَ فيه، لَوقَع في مشقَّة، ونزَّل اللَّفظ المُطلق على أكْملِ أحوالِه.
وقال أكثَرُ الفقهاءِ: المرضُ المبيحُ للفطر الَّذي يؤدِّي إلى ضررٍ في النفسِ، أو زيادةِ في العلَّة.
قالوا: وكيفَ يمكنُ أنْ يقالَ: كُلُّ مرضٍ مرخِّصٌ، مع علمنا أنَّ في الأَمْرَاض ما ينقصه الصَّوم.(3/258)
فصل في أصل السَّفر واشتقاقه
أصلُ السَّفر من الكَشف، وذلك أنه يَكشفُ عن أحوال الرِّجال وأخلاقهم،(3/259)
والمِسفرة: المِكْنَسَة؛ لأنَّها تكشِفُ التُّراب عن الأَرْض، والسَّفير: الدَّاخل بين اثْنَيْن للصلح؛ لأنَّه يكشِفُ الَّذي اتَّصل بهما، والمُسْفِر المُضِيء؛ لأنه قد انْكَشَف وظَهَر، ومنه: أَسْفَر الصُّبح، والسِّفر: الكتَابُ؛ لأنه يكشِف عن المعاني ببيانهِ. وسَفَرتِ المرأَةُ عن وجهها، إذا كشَفَت النقابِ.
قال الأزهري: وسُمِّي المسافرُ مُسِافراً؛ لكشف قناع الكنِّ عن وجهه، وبُرُوزه إلى الأرضِ الفَضَاءِ، وسُمِّي السَّفَر سَفَراً أيضاً؛ لأنَّه يسفر عن وجُوه المُسَافرين، وأخْلاَقهم، ويظهر ما كان خافياً منهُم، والله أعْلَم.
فصل في السفر المبيح للقصر والفطر
اختلفُوا في السَّفر المُبيح للقَصر والفِطْر بعد إِجماعهم على سَفَر الطَّاعة؛ كالحَجِّ والجهاد، ويتصلُ بهذين سفرُ صلةِ الرَّحِمِ، وطَلَبِ المعاشِ الضروريِّ، وأمَّا سَفَر التجاراتِ والمُبَاحات، فمختلَفٌ فيه، والأرجح الجوازُ، وأمَّا سَفَر المعاصِي؛ فمختلفٌ فيه، والمنع فيه أرجحُ.
فصل
قال القرطبيُّ: اتَّفق العلماء على أنَّ المُسَافر في رَمَضان لا يجوزُ له أنْ يُبَيِّتَ الفِطْر؛ لأنَّ المُسَافِرَ لا يكُونُ مُسَافراً بالنِّيَةِ؛ بخلاف المقيم، وإِنما يكونُ مسافراً العَمَل، والنُّهُوض، والمقيمُ لا يفتقر إِلى عَمَل؛ لأنه إذا نوى الإقامة، كان مقيماً في الحين؛ لأن الإقامة لا تفتقر إلى عَمَلٍ، فافترقا.
فصل في قدر السَّفر المبيح للرُّخص
اختلفُوا في قَدر السَّفر المُبيح للرُّخص، فقال داود: كُلُّ سفر، ولو كان فَرْسَخاً، وتخصيص عمومِ القرآن بخَبَر الواحِدِ غيرُ جائزٌ.(3/260)
وقال الأوزاعيُّ: السَّفر المبيحُ للفِطر هو مسافةٌ القصر، ومذهبُ الشافعيِّ ومالكٍ،(3/261)
وأحمد، وإسحاق؛ أنه مقدَّرٌ بستة عَشَرَ فرسخاً، وهي أربعةُ بُرُدٍ كلُّ فرسخٍ ثلاثة أَمْيالٍ(3/262)
بأَمْيَال هاشم جَدِّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو الَّذي قدَّر أميال البادية كُلُّ ميلٍ اثْنَا عَشَر ألفَ قَدَمٍ، وهي أربعة آلافٍ خطوةٍ، كلُّ خَطوَةٍ ثلاثةُ أقدَام.
وقال أبُو حَنِيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - والثوريُّ: مَسَافَةُ القَصْرِ ثلاثة أيامٍ.
قوله {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
الجمهور على رفع «عدَّةٌ» ، وفيه وجوهٌ:
أحدها: أنَّه مبتدأٌ وخبره محذوفٌ، إما قبله، تقديره: «فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ» أو بعده، أي فعدَّةٌ أَمْثَالُ به.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، اي: فالواجبُ عدَّةٌ.
الثالث: ان يرتفع بفعل محذوفٍن أي: «تُجْزِئُهُ عِدَّةٌ» .
وقرىء «فَعِدَّةٌ» ؛ نصباً محذوفاٍ، تقديره: «فَلْيَصُمْ عِدَّةً» ، وكأنَّ أبا البقاء - رَحِمَهُ اللهُ - لم يَطَّلِعْ على هذه القراءةِ؛ فإنَّه قال: لو قرىء بالنَّصب، لكان مُسْتقيماً، ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ، تقديره: «فَصَوْمَ عِدَّة» وَمِنْ حذف جملة بعد الفعلية؛ ليصحَّ(3/263)
الكلامُ، تقديره: «فَأَفْطَرَ، فَعِدَّةً» ؛ ونظيرهُ {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] وقوله {اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] ، أي: «فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ» .
و «عِدَّة» «فِعْلَةٌ» من العدد، بمعنى: مَعْدُودَة، كالطِّحْنِ والذِّبْح، ومنه يقال للجماعة المعدودة مِنَ النَّاس عِدَّة، وعِدَّة المرأة مِنْ هذا، ونَكَّر «عِدَّة» ، ولم يقل: «فعدّتها» ؛ اتّكالاً على المعنى؛ فإنَّا بيَّنَّا أنَّ العدَّة بمعنى المعدُودة، فأمر بأن يصوم أيَّاماً معدودةً والظَّاهر: أنَّه لا يأتي إلاَّ بمثل ذلك العَدَ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة.
و «مِنْ أَيَّام» : في مَحلِّ رفع، أو نصبٍ على حَسَب القراءتين صفة ل «عِدَّة» .
قوله «أُخَر» صفةٌ ل «أيَّام» ؛ فيكون في محلِّ خفضٍ، و «أُخَرَ» على ضربَيْن.
أحدهما: جمع «أُخْرَى» تأنيث «أخَرَ» الَّذي هو أفعَلُ تَفضيل.
والثاني: جمع «أُخْرَى» بمعنى «آخِرَةِ» تأنيث «آخِرٍ» المقابل لأوَّل؛ ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 39] فالضربُ الأَوَّل لا ينصرفُ للوَصف والعَدْل، واختلفُوا في كيفيَّة العَدْل: فقال الجمهورُ: إنه عَدلٌ عن الألف واللاَّم؛ وذلك أنَّ «أُخَرَ» جمعُ «أُخْرَى» ، و «أُخْرَى» تأنيث «آخَرَ» و «آخَرُ» أفعلُ تفضيلٍ لا يخْلُو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالاتٍ.
إما مع «ألْ» وإمَّا مع «مَنْ» ، وإما مع «الإضَافَةِ» ، لكن مِنْ ممتنعةٌ؛ لأن معها يلزمُ الإفرادُ والتذكير والإضافة في اللفظِ؛ فقدَّرنا عدلَهُ عن الأَلِفِ واللاَّم، وهذا كما قالُوا في «سَحَرَ» إنَّه عدلٌ عن الألِفِ واللام، إِلاَّ أنَّ هذا مع العلميَّة، ومذهَبُ سيبويه: أنه عدل من صيغة إلى صيغةٍ؛ لأنه كان حقُّ الكلام في قولك: «مَرَرْتُ بِنِسْوَةِ أَخَرَ» على وزن «فُعَلَ» أنْ يكون «بنِسْوَةٍ آخَرَ» على وزن «أَفْعَلَ» ؛ لأن المعنى على تقدي «مِنْ» فعُدِل عن المفرد إلى الجمع.
وأمَّا الضربُ الثَّاني: فهو منصرفٌ؛ لِفُقْدَانِ العلَّة المذكورة، والفرقُ بين «أُخْرَى» التي للتفضيلِ، و «أُخْرَى» التي بمعنى متأخِّرة - أنَّ معنى الَّتي للتفضيل معنى «غَيْرَ» ، ومعنى تِيكَ معنى «متأخِّرة» ؛ ولكونِ الأُولى بمعنى «غَيْر» لا يجوز أن يكونَ ما اتَّصلَ بها إلاَّ [منْ جنس ما قبلها؛ نحو: «مررتُ بِكَ، وبرَجُلٍ آخر» ولا يجوز «اشْتَرَيْتُ هَذَا الجَمَلَ وَفَرَساً آخَرَ» ؛ لأنه من] غير الجنْسِ، فأما قوله في ذلك البيت: [البسط]
934 - صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الرَّحْمنُ وَابْنَتِهَا ... لَيْلَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِها الأُخَرِ
فإنَّه جعل ابنتها جارة لها، ولولا ذلك، لَمْ يَجُزْ، ومعنَى التفضيل في «آخر» و «أَوَّل» ، وما تصرَّف منها قلِقٌ مذكورٌ في كُتُب النَّحْو، وإنَّما وصفت الأيّام ب «أُخَرَ»(3/264)
مِنْ حيثُ إنَّها جمعٌ ما لا يعقلُ، وجَمْعُ ما لا يعقلُ يجوز أنْ يُعَامَلُ معاملةً الواحدة المؤنَّثة، ومعاملةَ جمع الإنَاثِ، فمن الأول {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] وفي الثاني هذه الآية اكريمة، ونظائرها، فإنما أوثر هنا معاملتُهُ معاملةَ الجمع؛ لأنه لو جيء به مُفْرَداً، فقيل: {عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخْرَى} لأهم أنَّه وصف فيفوت المقصُود.
فصل
ذهب بعضُ العلماء - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - إلى أنَّه يجبُ على المريض والمُسَافر: أن يُفْطِرا أوْ يصُوما عدَّة أَيامٍ أَخَرَ وهو قولُ ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وابن عمر، ونقل الخَطَّابيُّ في «أَعْلاَم التَّنزيل» عن ابنِ عمر، أنَّه قال: «إنْ صَامَ في السَّفِرِ، قَضَى في الحَضَرِ» وهذا اختيار داود بنِ عليٍّ الأصفهانيِّ، وأكثر الفقهاءِ على أنَّ هذا الإفطار رخصةٌ، فإنْ شاء أفْطَر، وإن شاء صام.
حُجَّةُ الأوَّلين ما تقدَّم من القراءتين أنَّا إن قرأنا «عِدَّةً» ، فالتقديرُ: «فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» والأمر للوجوب، وأنا إن قرأنا بالرَّفع، فالتقديرُ: «فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ» وكلمة «عَلَى» للوجوب، وإذا كان ظاهرُ القُرآن الكريم يقتضي إيجابَ صَوْم أيامٍ أُخَرَ، فوجب أَنْ يكُونَ فطرُ هذه الأيامِ واجباً؛ ضرورةَ أنَّ لا قائل بالجمع.
وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ولا يقالُ: هذا الخَبَر ورد على سَبَبٍ خاصٍّ، وهو أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ، جَلسَ تحت مِظلَّةٍ، فَسَأَلَ عَنهُ، فقالُوا: هذا صائِمٌ أجْهَدَهُ العطَشُ، فَقال: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ، فإنا نقولُ: العِبرة بعُمُوم اللَّفظ لا بخُصُوص السَّبَبِ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «الصَّائِمُ في السَّفر كالمُفطِرِ في الحَضَرِ»
وحجَّة الجمهور: أنَّ في هذه الآية إضماراً؛ لأنَّ التَّقدير: «فأَفْطَرَ فعدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» والإضمارُ في كلام الله تعالى جائزٌ؛ كما في قول الله تعالى: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] ، أي: «فَضَرَبَ، فَانْفَجَرَتْ» ، وقوله
{اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [(3/265)
الشعراء: 63] ، أي: «فَضَرَبَ فَانْفَلَقَتَ» ، وقوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ} [البقرة: 196] إلى قوله: {أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] ، أي: «فَحَلَقَ» .
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] يدلُّ على وجُوُب الصَّوم.
قال ابن الخطيب: ولقِائِلٍ أنْ يقَولَ: هذا ضعيفٌ من وجهين:
الأول: أنَّا إنْ أجرينا ظاهر قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] على العُمُوم، لزمنا الإضمارُ في قوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وإن أجرينا هذه الآيَةَ على ظاهرهان لَزمنا تخصيصُ عُمُوم قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وقد ثبت في أصُولِ الفقه أنَّه متى وقع التعارُضُ بيْن التخصيص، وبيْن الإضمار، كان الحملُ على التَّخصيص أَولى.
الثَّاني: أنَّ ظاهر قَوله تعالى: «فَلْيَصُمْهُ» يقتضي الوُجوب عَيْناً، وهذا الوُجُوب منتفٍ في حقِّ المريضِ والمُسافر، فالآيةُ مخصوصةٌ في حقِّهما على كلِّ تقدير، سواءٌ أجرَينا قولَهُ تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} على ظاهره أَوْ لاَ، وإذا كان كذلك، وجب إجراء هذه الآية على ظاهِرِهَا مِنْ غير إضمارٍ.
الوجه الثاني: ذكره الواحدي في «البَسِيطِ» قال: وقَال القاضي: إنَّما يجبُ القَضَاء بالإفْطَار، لا بالمَرَض والسَّفر، فلمَا أوجب اللهُ القَضَاءَ، والقَضَاءُ مسَبوقٌ بالفطْر، دَلَّ على أنَّه لا بُدَّ مِنْ إضمارِ الإفطار.
قال ابنُ الخطيب وهذا ساقط؛ لأنه لم يَقُل: فعلَيَهِ قضاءُ ما مَضَى، بل قال: «فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» ، وإيجابُ الصَّوم عليه في أيَّامٍ أُخَرَ لا يستَدعي أن يكون مَسبُوقاً بالإفطار.
الوجه الثالث: رَوَى أبو داود عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة: أن حمزة الأسلميَّ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَال: يا رَسُولَ اللهِ، هَل أَصُوم في السَّفر؟ قال «إِنْ شِئْتَ صُمْ، وإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ»(3/266)
ولقائل أنْ يقول: هذا يقتضي نَسْخَ القُرآن بخبر الواحد؛ لأن ظاهر القُرآن يقتضي وجُوبَ الصَّوم، فرفعُ هذا الحُكم بهذا الخَبر غيرُ جائِز، وإذا ضُعِّفَتْ هذه الوجوه، فالاعتماد على قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل في هل صوم المسافر أفضل أم فطره
اختلفُوا هَل الصَّوم للمُسافرِ أفْضَلُ أمِ الفِطر؟
فقال أنسُ بنُ مالك، وعثمان بنُ أبي أوفى: الصَّوم أفضلُ، وبه قال الشافعيُّ، وأبو حنيفة، ومالكٌ، والثوريُّ، وأبو يوسُفَ، ومحمَّد.
وقال سعيدُ بنُ المُسيَّب، والشَّعبيُّ، والاوزاعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، الفطرُ أفضلُ.
وقالت طائفةٌ: أفضل الأمرين أيسرهما على المرء. حجَّة الأوَّلين: قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} .
حجَّة الفرقة الثانية: قوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إنَّ الله يحبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ؛ كما تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لَيْسَ من البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»
، وأيضاً: فالقَصر أفضلُ؛ فيجب أنْ يكُون الفطرُ أفضل.
وفرَّق بعضهم بين القَصر والفِطْر مِنْ وجهين:
الأوَّل: أنَّ الصَّلاة المقصُورة تبرأ الذمَّة بها، والفِطر تبقى الذِّمَّة فيه مشغُولةٌ.
الثاني: أنّ فضيلة الوقت تَفُوتُ بالفِطْرِ، ولا تَفُوت بالقَصر.
حجَّةُ الفرقة الثالثة: قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] .
فصل في حكم ما إذا أفطر كيف يقضي؟
مذهب عليٍّ، وابن عُمر، والشَّعبيِّ: أنَّه يقضيه متتابعاً؛ لوجهين:(3/267)
الأوَّل: قراءة أُبي «فعدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ مُتتابعاتٍ» فكذا القضاءُ.
وقال بعضهم: التَّتابع مستحبٌّ، وإن فرق، جاز؛ فيكون أمراً بصَوم أيامٍ على عدد تِلْكَ الأيَّام مطلقاً، فالتقديرُ بالتتابع مخالفٌ لهذا التَّعميم، ويُروى عن أبي عُبيدة بن الجرَّاح أنه قال: «إِنَّ الله لَمْ يُرَخِّصْ لَكُمْ في فِطرهِ، وهو يريد أنْ يشُقَّ عليكم في قَضَائِهِ؛ إنْ شئْتَ فَواتِرْ، وإنْ شِئْتَ فَفَرِّقْ» ، ورُوِي أنَّ رجلاً قال للنبيَّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ، أَفَيُجْزيني أَنْ أقضيها مُتفرقاً فقال لهُ: «لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ، فَقَضَيْتَهُ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْن، أَمَا كَانَ يُجْزِيكَ؟» فقال: نَعَمَ، قَالَ «فَاللهُ أحقُّ أَنْ يَعفُو ويصفح»
قوله «يُطِيقُونَهُ» الجمهور على «يُطِيقُونَهُ» من أطَاقَ يُطِيقُ، مثلُ أقَامَ يٌقِيمُ، وقرأ حُمَيدٌ «يُطْوِقُونَهُ» من «أَطْوَقَ» كقولِهم أَطْوَال في أطالَ، وأغْوَال في أغال، وهذا تصحيحٌ شاذٌ، ومثله في الشُّذُوذ من ضوات الواو أجودَ بمعنى أجادَ، ومن ضوات الياء أَغْيَمَتِ السَّماءُ، وأَجبَلَتْ، وأَغْيَلَت المَرْأَةُ وأَطْيَبَتْ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ، وهو القياس، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ المَرْأَةُ وَأَطْيَبَتْ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ، وهو القياس، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ وَأَطوَلَ إِلا أبو زَيدٍ. وقرأ ابن عبَّاسٍ وابن مَسعُودٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومجاهد، وعكرمةُ، وأيُّوب السَّختياني، وعطاءٌ «يُطوَّقونَهُ» مبنيّاً للمعفول من «طوَّقَ» مُضعَّفاً، على وزن «قَطَّعَ» ، وقرأ عائشةُ، وابن دينارٍ: «يَطَّوَّقُونَهُ» بتشديد الطاء والواو من «أَطْوَقَ» ، وأصله «تَطَوَّقَ» ، فلما أُرِيدَ إدغامُ التَّاء في الطاء، قُلِبت طاء واجتلبت همزةُ الوَصل؛ ليمكن الابتداءُ بالسَّاكن، وقد تقدَّم تقرير ذلك في قوله تعالى: {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] وقرأ عكرمةُ وطائفة «يَطَّيَّقُونه» بفتح الياء، وتشديد الطَّاء، والياء، وتُروى عن مجاهد أيضاً، وقرىء أيضاً هكذا لكن ببناء الفعل للمفعُول.
وقد ردَّ بعضهم هذه القراءة، وقال ابنُ عطيَّة تشديدُ الياءِ في هذه اللَّفظة ضعفٌ وإنَّما قالُوا ببُطْلان هذه؛ لأنَّها عندَهُم من ذوات الواو، وهو الطَّوق، فمِنْ أين تجيء الياء، وهذه القراءةُ لَيْسَت باطلةً، ولا ضعيفةً، ولها تخريجٌ حسنٌ، وهو أن هذه القراءة لَيستْ من «تَفَعَّلَ» ؛ حتى يلزم ما قالوه من الإشكال، وإنما هي من «تَفَيْعَل» ، والأصلُ «تَطَيْوَقَ» مِنَ «الطَّوْقِ» ك «تَدَيَّرَ» و «تَحَيَّرَ» من «الدَّوَرَانِ» و «الحَوْر» ، والأصل «تَدَيْوَرَ» ، و «تَحَيْورَ» فاجتمعت الواوُ والياءُ، وسبَقَتْ إحداهما بالسُّكُون، فقلبت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، فكان الأصلُ «يَتَطَيْوَقُونَهُ» ، ثم أُدغم بعد القلبِ، فمن قرأ «(3/268)
تَطَّيَّقُونَهُ» بفتح الياء بناه للفاعل، ومن ضمَّها بناه للمفعول، ويحتمل قراءة التشديد في الواو، أو الياء أن تكون للتكلُّف، أي: يَتَكَلَّفُونَ إطاقَتَهُ وذلك مجازٌ من الطَّوقِ الذي هو القلادةُ في أعْناقهم، وأبعد من زعم أنَّ «لاَ» محذوفةٌ قبل «ويطيقُونَهُ» ، وأنَّ التقديرَ، لاَ يُطِيقُونَهُ، ونَظَّرَهُ بقوله: [الطويل]
935 - فَخَالِفْ فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً ... من الأَرْضِ إِلاَّ أَنْتَ لِلذُلِّ عَارفُ
وقوله: [الكامل]
936 - آلَيْتُ أَمْدَحُ مُغْرماً أَبَداً ... يَبْقَى الْمَدِيحُ ويَذْهَبُ الرِّفْدُ
وقوله: [الطويل]
937 - فَقُلْتُ: يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي
المعنى: لاَ تَهْبِطُ، ولاَ أَمْدَحُ، وَلاَ أَبْرَحُ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ حذفها مُلتبسٌ، وأما الأبياتُ المذكورة؛ فلدلالة القسم على النَّفي.
والهاء في «يَطِيقُونَهُ» للصَّومِ، وقيل: للفداء؛ قاله الفراء.
و «فِدْيَة» مبتدأٌ خبره في الجَارِّ والمجرور قَبْله، والجُمْهُورُ على تَنْوين «فِدْيَةٌ» ورفع «طَعَام» وتوحيد «مسكين» وهشام كذلك إلاَّ أنه قرأ «مَسَاكينَ» جمعاً، ونافعٌ وابنُ ذكوان بإضافة «فِدْيَة» إلى «مَسَاكِين» جمعاً، فالقراءة الأولى يكون «طَعَاماً» بَدَلاً من «فِدْيَةٌ» بَيَّنَ بهذا البَدَل المراد بالفدْية، وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: «هي طعامٌ» ، وأما إضافة القدية للطَّعام، فمِن باب إضافة الشيء إلى جنْسِه، والمقصُود به البيانُ؛ كقولك: «خَاتَمُ حَدِيدٍ، وثَوبُ خَزٍّ، وبابُ ساجٍ» لأنَّ الفدية تكونُ طعاماً وغيره، وقال بعضهم: يجوز أنْ تكُون هذه الإضافة من باب إضافة الموصُوف إلى الصِّفة، قال: لأنَّ افِدْية لها ذاتٌ وصفَتُها أنَّها طعام، وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّه إمَّا أن يريد ب «طَعَام» المصدرَ بمعنى لاإطعام؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء، أو يُريدَ به المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ به وليست مُرادةً هنا، والذي بمعنى المفعولِ ليس جَارياً على فِعْلٍ، ولا ينقاسُ، لا(3/269)
تقُول: ضِرَاب بمعنى مَضْرُوبِ، ولا قِتَال بمعنى مَقْتُولٍ، ولكونها غير جاريةٍ على فِعْلِ، لم تَعَمْلْ عَمَله، ولا تَقُولُ: «مَرَرْتُ بِرَجُلٍ طَعَامٍ خُبْزُهُ» وإذا كانَ غيرَ صفةٍ، فكيفَ يقال: أُضِيفَ المَوْصُوفُ لصفَتِهِ؟
وإنِّما أُفْرِدَت «فِدْيَةٌ» ؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّها مصدرٌّ، والمصدرُ يُفْرَدُ، والتاء فيها ليست للمَرَّة، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث.
والثاني: انه لَمَّا أضافَها إلى مضافٍ إلى الجمع، أفَهْمَتِ الجَمْعَ، وهذا في قراءةِ «مَسَاكين» بالجمع، ومَنْ جمع «مَسَاكِين» ، فلمقابلةِ الجمع بالجمع، ومَنْ أَفْرَدَ، فعلى مراعاة إفراد العُمُوم، أي: وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيقُ الصَّوْم؛ لكُلِّ يوم يُفْطِرُهُ إطعامُ مسكين؛ ونظيرهُ: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
وتَبَيَّن مِنْ إفراد «المِسْكِين» أنَّ الحُكم لِكلِّ يومٍ يُفْطر فيه مِسْكِينٌ، لوا يُفْهَمُ ذلك من الجَمع، والطَّعَام: المرادُ به الإِطْعَامُ، فهو مصدرٌ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ، قال أبو البقاء: «لأنَّه أضافه إلى المِسْكِين، وليْسَ الطعامُ للمسْكِين قَبْل تمليكِه إياه، فلو حُمِلَ على ذلك، لكان مجازاً؛ لأنه يصير تقديرُه: فعلَيهِ إخراجُ طعام يَصِيرُ للمَسَاكِين، فهو من باب تسمية الشيءِ بما يؤول إليه، وهو وإنْ كان جائزاً، إلا أنِّه مجازٌ، والحقيقة أَوْلى منه» .
قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قد تقدَّم نظيرهُ عنْد قوله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] فَلْيُلْتَفتْ إليه، والضميرُ في قوله: «فَهُوَ» ضميرُ المصدرِ المدْلُول عليه بقوله: «فَمَنْ تَطَوَّعَ» ، فالتَّطُّوعُ خيرٌ له، و «لَهُ» في مَحَلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةً ل «خَيْرٌ» ؛ فيتعلٌَُّ بمحذوف، أيْ: خَيْرٌ كَائِنٌ لَهُ.
فصل في نسخ الآية.
ذهب أكثَر العُلماء إلى أنَّ الآية منسُوخةٌ، وهو قَوْل ابن عُمَر، وسلمة بن الأكوع، وغيرهما؛ وذلك أنَّهم كانُوا في ابتداءِ الإٍلام مُخيَّرين بين أن يَصُوموا، وبين أن يُفْطِروا، ويفتدوا، خَيَّرهم الله تعالى؛ لئلاَّ يشقّ عليهم؛ لأنَّهم كانُوا لم يتعودُّوا لاصَّوم، ثم نُسِخ التَّخيير، ونزلت العزيمةُ بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال قتادة هي خاصَّة بالشَّيخ الكبير الَّذي يُطيقُ الصَّوم، ولكن يشقُّ عليه، رُخِّص له أن يُفطِر ويفيد [ثُمَّ نسخ.
وقال الحسن: هذا في المريض الَّذي به ما يقع عليه اسم المرضِ، وهو يَسْتطيع،(3/270)
خُيِّر بين أنْ يَصُوم وبيْن أن يُفطْر ويفدي] ثم نُسخ بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وتثبت الرُّخصة للَّذين لا يُطِيقونه، وذهب جماعةٌ إلى أنَّ الآية الكريمة محكمةٌ غير مَنسوخةٍ، معناه: وعلى الَّذين كانوا يُطيقُونه في حال الشَّباب، فَعَجِزُوا عنه بعد الكِبَرِ، فعليهم الفدية بَدَل الصَّوم، وقراءة ابن عباس «يَطَوَّقُونَهُ» بضم الياء، وفتح الطَّاء مخففةً، وتشديد الواو، أي: يُكَلَّفُون الصوم، فتأوَّله على الشَّيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصَّوم، والمريض الذي لا يرجى برؤه، فهم يكلَّفُون الصَّوم، ولا يُطيقونه، فلم أن يُفطروا، ويُطعموا مكان كُلِّ يومٍ مِسكيناً، وهو قول سعيد بن جبير، وجعل الآية محكمةً.
فصل في المراد بالفدية ومقدارها
«الفِدْيةُ» في معنى الجزاء، وهو عبارةٌ عن البَدَل القائم عن الشيءِ وهي عن دأبي حنيفة نصفُ صاعٍ من بُرٍّ، أو صاعاً من غيره وهو مُدَّانِ، وعن الشَّافعي «مُدٌ» بمُدِّ النبي -
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو رَطْلٌ وثُلُثٌ من غالب أقوات البَلَد، وهو قول فقهاء الحجاز.
وقال بعضُ فقهاء العراق: نصف صاعٍ لكُلِّ يومٍ يُفطِر.
وقال بعض الفقهاء: ما كان المُفْطِرُ يتقوَّته يَومَه الَّذي أفْطَره.
وقال ابنُ عباسٍ: يُعطِي كلَّ مسكين عشاءَهُ وسَحُوره.
فصل في احتجاج الجبائي بالآية
احتجَّ الجُبَّائيُّ بقوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} على أن الاستطاعة قبل الفعل؛ فقال: الضميرُ في قوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} عائدٌ إلى الصَّوم، فأثبت القُدرة على الصَّوم حال عدم الصَّومِ؛ لأنَّه أوجب عليه الفِدية، وإنَّما تجب عليه الفديةُ إذا لم يَصُمْ؛ فَدَلَّ هذا على أن القدرةَ على الصَّوم حاصلةٌ قبل حُصُول الصَّوم.
فإنْ قيل: لمَ لا يجُوز أنْ يكُون الضميرُ عائداً إلى الفِدية؟
قُلنا: لا يَصحُّ لوجهين:
أحدهما: أن الفدْيَةَ متأخِّرةٌ، فلا يَعُود الضَّمير إليها.
والثاني: أنَّ الضَّمير مُذَكَّر، والفدية مؤنَّثة.
فإنْ قيل: هذه الآية مسنوخةٌ، فكَيْفَ يجوز الاستدلالُ بها؟!(3/271)
قلنا: إنَّما كانت قبل أن صارتْ منسُوخةً دالَّة على أنَّ القُدرة حاصلةً قبل الفعل، والحقائقُ لا تتغيَّر.
قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} فيه ثلاثة أوجُهٍ:
أحدها: قال مجاهد وعطاء، وطاوس: أي: زاد على مسكين واحدٍ؛ فأطعم مكان كل يومٍ مسكينين، فأكثر.
الثاني: أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
الثالث: قاله الزُّهريُّ: من صام مع الفدية، فهو خير له.
قوله: «وَأَنْ تَصُومُوا» في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء، تقديره: «صَوْمُكُمْ» ، و «خَيْرٌ» خَبَرُهُ، ونظيره: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] .
وقوله: «إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ» شرطٌ حذف جوابه، تقديره: فالصَّوم خيرٌ لكم، وحذف مفعول العلم؛ إما اقتصاراً، أي: إن كنتم من ذوي العلم والتمييز، أو اختصاراً، أي: تعلمون ما شرعيته وتبيينه، أو فضل ما علمتم.
من ذهب إلى النَّسخ، قال: معناه: الصَّوم خيرٌ له من الفدية، وقيل: هذا في الشَّيخ الكبير، لو تكلَّف الصَّوم، وإن شقَّ عليه، فهو خيرٌ له من أن يفطر ويفدي.
وقيل: هذا خطابٌ مع كل من تقدَّم ذكره، أعني: المريض، والمسافر، والذين يطيقونه.
قال ابن الخطيب: وهذا أولى؛ لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا يلزم من اتِّصاله بقوله {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أن يكون حكمه مختصّاً بهم، لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا منافاة في رجوعه إلى الكُلِّ، فوجب الحكم بذلك، واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلَّف في إفطار شهر رمضان، إلاَّ لثلاثةٍ:
أحدهم - يجب عليه القضاء والكفَّارة: هو الحامل والمرضع، إذا خافتا على ولديهما يفطران، ويقضيان، وعليهما مع القضاء الفدية، وهو قول ابن عمر، وابن عبَّاس، وبه قال مجاهد، وإليه ذهب الشافعيُّ وأحمد.
وقال قومٌ: لا فدية عليهما، وبه قال الحسن، وعطاء، والنَّخعيُّ، والزُّهريُّ، وإليه ذهب الأوزاعيُّ والثوريُّ وأصحاب الرَّأي.
الثاني - عليه القضاء دون الكفَّارة: وهو المريض والمسافر.(3/272)
الثالث - عليه الكفَّارة دون القضاء: الشَّيخ الكبير، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه.(3/273)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} : فيه قراءتان:
المشهور الرفع، وفيه أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، وفي خبره حينئذ قولان:
الأول: أنه قوله {الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملة مُنَبِّهَةً على فضله ومنزلته، يعني أن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هو الذي فرض عليكم صومه.
قال أبو عليٍّ: والأشبه أن يكون «الَّذِي» وصفاً؛ ليكون لفظ القرآن نصّاً في الأمر بصوم شهر رمضان؛ لأنَّك إن جعلته خبراً، لم يكن شهر رمضان منصوصاً على صومه بهذا اللفظ، وإنما يكون مكبراً عنه بإنزال القرآن الكريم فيه، وإذا جعلنا «الَّذِي» وصفاً، كان حقُّ النظم أن يكني عن الشَّهر لا أن يظهر؛ كقولك: «شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ مَنْ شَهِدَهُ فَلْيَصُمْهُ» .
والقول الثاني: أنه قوله {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وتكون الفاء زائدة على رأي الأخفش، وليست هذه الفاء التي تزاد في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وإن كان بعضهم زعم أنها مثل قوله: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8] وليس كذلك؛ لأن قوله: {الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} يُتَوَهَّمُ فيه عمومٌ؛ بخلاف شهر رمضان، فإن قيل: أين الرابط بين هذه الجملة وبين المبتدأ؟ قيل: تكرار المبتدأ بلفظه؛ كقوله: [الخفيف]
938 - لاَ أَرَى المضوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْء..... ... ... ... ... ... ... ... . .
وهذا الإعراب - أعني كون «شَهْرُ رَمَضَانَ» مبتدأً - على قولنا: إن الأيام المعدودات هي غير شهر رمضان، أمَّا إذا قلنا: إنها نفس رمضان، ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ.
فقدَّره الفرَّاء: ذَلِكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، وقدَّره الخفش: المكتوب شهر رمضان.(3/273)
والثاني: أن يكون بدلاً من قوله «الصِّيَامُ» ، أي: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رمَضَانَ، وهذا الوجه، وإن كان ذهب إليه الكسائيٌّ بعيدٌ جدّاً؛ لوجهين:
أحدهما: كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه.
والثاني: أنَّه لا يكون إذا ذاك إلاَّ من بدل الإشمال، وهو عكس بدل الاشتمال، لأنَّ بدل الاشتمال غالباً بالمصادر؛ كقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} [البقرة: 217] ، وقول الأعشى: [الطويل]
لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ... تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأمُ سَائِمُ
وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصْدَرِ، ويمكن أن يُوَجَّهَ قوله بأنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ، تقديره: صيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وحينئذٍ: يكون من باب بَدَلِ الشَّيء من الشَّيْءِ، وهما لعين واحدة، ويجوزُ أن يكون الرَّفع على البدلِ من قوله «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» في قراءة من رَفَعَ «أيَّامً» ، وهي قراءة عبد الله، وفيه بُعْدٌ.
والقراءة الثانية: النصْبُ، وفيه أوجهٌ:
أجودها: النصبُ بإضمار فعلٍ، أي: صُوموا شَهْر رَمَضَانَ.
الثاني - وذكره الأخفشُ والرُّمَّانِيُّ -: أن يكون بدلاً من قوله «أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ» ، وهذا يُقَوِّي كون الأيام المعدُودَاتِ هي رمضان، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ.
الثالث: نَصْبُه على الإغراء؛ ذكره أبو عُبَيْدة والحُوفِيُّ.
الرابع: أن ينتصبَ بقوله: «وأنْ تَصُومُوا» ؛ حكاه ابن عطية، وجوَّزه الزمخشريُّ، واعترض عليه؛ بأن قال: فَعَلى هذا التقدير يصير النَّظم: «ْ تَصُومُوا رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ خَيْرٌ لَكُمْ»
فهذا يقتضي وقوعَ الفَصْل بين المبتدأ والخَبَر بهذا الكَلامَ الكثير، وهو غَيْرُ جائزٍ؛ لأنَّ المبتدأ والخَبَر جاريان مَجْرَى شيءٍ واحدٍ، وإيقاع الفضْلِ بين الشَّيءِ الواحد غيرُ جائزٍ. وغلَّطَهُما أبو حيان: بأنَّه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصول وصلته بأجنبيٍّ، لأنَّ الخبر، وهو «خَيْرٌ» أَجْنَبِيٌّ من الموصول، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول، إلاَّ بعد(3/274)
تمام صلتِهِ، و «شَهْر رَمَضَانَ» على رأيهم من تمام صلة «أَنْ» ، فامتنع ما قالوه، وليس لقائل أن يقول: يتخرَّجُ ذلك على الخلاف في الظَّرف، وحرف الجَرِّ، فإنه يُغْتضفَرُ فيه ذلك عند بعضهم؛ لأنَّ الظاهر من نصبه هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ «.
الخامس: أنه منصوبٌ ب» تَعْلَمُونَ «؛ على حذف مضافٍ، تقديره: تعلمونَ شرفَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ في الإعراب.
وأدغم ابو عمرو رَاءَ» شَهْر «في راء» رَمَضَان «، ولا يُلْتَفَتُ إلى من استضعفها؛ من حيث إنَّه جمع بين ساكنين على غير حدَّيهما، وقول ابن عطيَّة:» وذلك لا تقتضيه الأصول «غير مقبولٍ منه؛ فإنَّه إذا صَحَّ النقل، لا يُعارضُ بالقِياس.
والشهر لأهْلِ اللُّغة فيه قولان:
أشهرهما: أنه اسمٌ لمُدَّة الزمان التي يكون مَبْدَأَها الهلالُ خافياً إلى أن يَسْتَسْرَّ؛ سُمِّيَ بذلك لشُهْرَتِهِ في حاجة الناس إليه من المعاملات، والصوم، والحجِّ، وقضاء الدُّيُون، وغيرها.
والشَّهر مأخذوذٌ من الشُّهْرَة، يُقَالُ: شَهَر الشَّيْءَ يَشْهَرُهُ شَهْراً: إذا أظهره، ويسمَّى الشَّهْرُ: شَهْراً، لشُهْرَة أمره، والشُّهْرَة: ظهورُ الشيءِ، وسمي الهلال شهراً؛ لشُهْرته.
والثاني - قاله الزَّجَّاج -: أنه اسمٌ للهلال نفسه؛ قال: [الكامل]
940 - ... ... ... ... ... ... . ... وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
ذلك؛ لبيانه؛ قال ذو الرُّمَّةِ: [الطويل]
941 - ... ... ... ... ... ... ... يَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهْوَ نَحِيلُ
يقولون: رأيتُ الشهْرَ، أي هِلاَلَهُ، ثم أُطلِقَ على الزمان؛ لطلوعه فيه، ويقال: أشْهَرْنَا، أي: أتى علينا شَهْرٌ، قال الفَرَّاءُ:» لَمْ أَسْمَعْ فَعْلاً إلاَّ هذا «.(3/275)
فصل
قال الثَّعلبي:» يُقَالُ: شَهَرَ الهِلاَلُ، إذَا طَلَعَ «، ويُجْمَعُ في القلَّة على أشهرٍ، وفي الكثرة على شُهُورٍ، وهما مقيسان.
ورَمَضَانُ: عَلَمٌ لهذا الشَّهر المْصُوص، وهو علم جنسٍ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ:
أحدها: أنَّه وافق مجيئه في الرَّمضاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّيَ هذا الشَّهْرَ بهذا الاسم: إما لارتماضهم فيه من حَرِّ الجوع، أو مقاساة شدَّته؛ كما سمَّوه تابعاً؛ لأنه يتبعهم فيه إلى الصَّوم، أي: يزعجهم لشدَّته عليهم، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:
«صَلاَةُ الأَوَّابِينَ، إذَا رَمِضَتِ الفِصَالُ» أخرجه مسلم، ورَمَضَ الفِصَالُ، ذا حرَّق الرَّمْضَاء أحقافها، فتبْرُكُ من شدَّة الحَرِّ.
يقال: إنَّهم لما نقلوا أسماء الشُّهُور عن اللُّغَةِ القديمةِ، سمَّوها بالأزمنة الَّتي وقعت فيها، فوافق هذا الشَّهْرُ أيَّام رَمَضِ الحَرِّ، [فسُمِّيَ به؛ كَرَبِيع؛ لموافقته الربيعَ، وجُمَادى؛ لموافقته جُمُودَ الماء، وقيل: لأنه يُرْمِضُ الذنوب، أي: يَحْرِقُها، بمعنى يَمْحُها] .
روي عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «إنَّما سُمِّيَ رَمَضَانَ، لأنَّهُ يُرْمِضُ ذُنُوبَ عِبَادِ اللَّهِ»
وقيل: لأنَّ القلوبَ تَحْتَرِقُ فيه من الموعظة، وقيل: من رَمَضْتُ النَّصْلَ أَرْمُضُهُ رمضان إذا دققته بين حجرين، ليرقَّ يقال: نَصْلٌ رَمِيضٌ ومَرْمُوضٌ.
وسُمِّيَ هذا الشَّهْرُ رَمَضَانَ؛ لأنهم كانوا يَرْمُضُون فيه أسلحتَهُمْ؛ ليقضوا منها أوطارهم؛ قاله الأزهريُّ.
قال الجوهريُّ: وَرَمَضَانُ: يُجمع على «رَمَضَانَات» و «أَرْمِضَاء» وكان اسمه في الجاهلية نَاتِقاً، أنشد المُفَضَّل: [الطويل]
942 - أ - وَفي نَاتِقٍ أَجْلَتْ لَدَى حَوْمَةِ الوَغَى ... وَوَلَّتْ عَلَى الأَدْبَارِ فُرْسَانُ خَثْعَمَا
وقال الزمخشي: «الرَّمَضَانُ مَصْدَرُ رَمِضَ، إذَا احترَقَ من الرَّمْضَاءِ» قال أبو حيَّان: «وَيَحْتَاجُ في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صِحَّةِ نَقْلٍ، فإن فَعَلاَناً ليس مصدر فَعِلَ اللازم، بل إن جاء منه شَيْءٌ كان شاذاً» ، وقيل: هو مشتقٌّ من الرَّمِض - بكسر الميم - وهو مَطَرٌ(3/276)
يأتي قبل الخريف يُطَهِّر الأرض من الغُبَار، فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذُّنُوب ويغسلها.
وقال مجاهدٌ: إنه اسم الله تعالى، ومعنى قول لقائل: «شَهْرُ رَمَضَانَ» ، أي: شَهْرُ اللَّهِ، وروي عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «لا تَقُولُوا: جَاءَ رَمَضَانُ، وذَهَبَ رَمَضَانُ، ولَكِنْ قُولُوا: جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ؛ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فإنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى»
قال القُرْطُبِيُّ: «قال أهْلُ التَّاريخِ: إنَّ أوَّلَ مَنْ صَامَ رمَضَانَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلام - لمَّا خَرَجَ من السَّفينة» ، وقد تقدَّم قوم مجاهدٍ: «كَتَبَ اللَّه رمَضَانَ عَلَى كُلِّ أمَّة» ومعلومٌ أنَّه كان قبل نوحٍ - عليه السَّلام - أُمَمٌ؛ فالله أعلم.
والقرآن في الأًل مصدر «قَرَأْتُ» ، ثم صار علماً لما بين الدَّفَّتَيْنِ؛ ويُدلُّ على كونه مصدراً في الأصل قول حسَّانٍ في عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: [البسيط]
942 - ب - ضَحَّوْا بأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ ... يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنا
وقيل: القرآن من المصادر، مثل: الرُّجْحَان، والنُّقْصَان، والخُسْرَان، والغُفْرَان، وهو من قرأ بالهمزة، أي: جمع؛ لأنه يجمع السُّور، والآيات، والحكم، والمواعظ، والجمهورُ على همزه، وقرأ ابن كثيرٍ من غير همزٍ، واختلف في تخريج قراءته على وجهين:
أظهرهما: أنه من باب النَّقل؛ كما يَنْقُل وَرْشٌ حركة الهمزة إلى السَّاكن قبلها، ثم يحذفها في نحو: {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون: 1] ، وهو وإن لم يكن أصله النَّقْلَ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرة الدَّوْرِ، وجمعاً بين اللُّغَتَيْنِ.(3/277)
والثاني: أنه مشتقٌّ عنده من قَرَنْتُ بين الشيئين، فكون وزنه على هذا «فُعَالاً»
وعلى الأول «فُعْلاَناً» وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السُّوَر، والآياتِ، والحِكَمِ، والمواعِظِ.
وقال الفَرَّاء: أَظُنَّ أنَّ القرآن سُمِّي من القرائن، وذلك أنَّ الآيات يُصَدِّقُ بعضها بعضاً على ما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] .
وأما قول من قال: إنَّه مشتقُّ من قَرَيْتُ الماء في الحوض، أي: جمعته، فغلطٌ؛ لأنَّهما مادَّتان متغايرتان.
وروى الواحدُّ في «البسيط» عن محمَّد بن عبد الله بن الحكم، أنَّ الشافعيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان يقول القُرْآنُ اسْمٌ، ولَيْسَ بمهموزٍ، ولم يُؤْخَض من «قَرَأْتُ» ، وإنما هو اسمٌ لكتاب الله؛ مثل التوراة والإنجيل، قال: ويهمز قراءة، ولا يهمزة القرآن، كما يقول: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} [الإسرء: 45] قال الواحدُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقول الشافعيِّ - رضى الله عنه - أَّنه اسمٌ لكتاب الله تعالى، يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتقٍّ، والذي قال بأنَّه مشتقٌّ من القرء، وهو الجمع، أي: جمعته، هو الزَّجَّاج وأبو عُبَيْدة، قالا: إنَّه مأخوذٌ من القُرْء وهو الجمع.
قال عَمْرُ بْنُ كُلْثُومٍ:
943 - أ - ... ... ... ... ... ... ... . ... هِجَانِ اللَّوْن لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا
أي: لم تجمع في رحمها ولداً، ومن هذا الأصل: قُرْءُ المرأة، وهو أيَّام اجتماع الدَّم في رحمها، فسُمِّي القرآن قُرْآناً، لأنه يجمع السُّور وينظمها.
وقال قُطْرُب: سُمِّيَ قرآناً؛ لأنَّ القارئ يكتبه، وعند القراءة كأنَّه يلقيه من فيه أخذاً من قول العرب: ما قرأ النَّاقة سلى قطُّ، أي: ما رَمَتْ بِوَلَدٍ، وما أسْقَطَتْ ولداً قَطُّ، وما طَرَحَتْ، وسُمَّيَ الحَيْضُ قراءاً بهذا التَّأويل، فالقرآن [يلفظه القارئ] من فيه، ويلقيه، فسُمِّيَ قُرْآناً.
و «القُرآنُ» مفعول لم يُسَمَّ فاعله؛ ثم إنَّ المقروء يُسَمَّى قرآناً؛ لأن المفعول يسمَّى بالمصدر؛ كما قالوا للمَشْرُوبِ شَرَابٌ، وللمكْتُوب كِتَابٌ. واشتهر هذا الاسمُ في العُرْف؛ حتَّى جعلوه اسماً لكتاب الله تعالى على ما قاله الشَّافِعيُّ - رض الله عنه.
ومعنى {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} ، أي: ظَرْفٌ لإنزاله.
قيل: «نَزَلَتْ صُحُف غبراهيم في أوَّل يومٍ من رمَضَانَ، وأُنزلت التوراة لستٍّ مَضَيْنَ،(3/278)
والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين.
فإن قيل: إنَّ القرآن نَزَلَ عَلَى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مُدَّة ثلاثٍ وعشرين سَنَةً مُنَجَّماً مُبَعَّضاً، فما معنى تخصيص إنزاله برَمَضَان؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ القرآن أُنزل في ليلة القدر جملةً إلى سماء الدنيا، ثُمَّ نَزَل إلى الأرض نُجُوماً.
روى مقسّم عن ابن عبَّاسٍ أنه سُئِلَ عن قوله عزَّ وجلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} وقوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] ، وقوله {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] وقد نزل في سائر الشُّهُور، وقال عزَّ وجلَّ: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] فقال: أُنْزِلَ القرآن جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزَّة في السماء الدُّنيا، ثم نزل به جبريل - عليه السَّلام - على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نجوماً في ثلاث وعشرين سنة، فذلك قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] وقال داود بن أبي هندٍ: قلت للشَّعبيِّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} أما كان ينزل في سائر السنَّة؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء، ويثبت ما يشاء، وينسيه ما يشاء.
وروي عن أبي ذرٍّ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْرَاهيمَ في ثَلاَثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرَ رَمَضَانَ» ويُروى: «في أَوّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ» وأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى في سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ إنْجِيلُ عِيسَى في ثَلاَثِ عَشَرَةَ ليلة مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ زَبُورُ دَاوُدَ في ثَمانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ الفُرْقَانُ عَلَى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأرْبَع وعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، ولستٍّ بَقِينَ بَعْدَهَا، وسنذكر الحكمة في إنزاله منجماً مفرَّقاً في سورة «الفُرْقَان» عند قوله: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] .(3/279)
والجواب الثاني: أن المراد منه: أنَّ ابتداء نزوله ليلة القدر من شَهْر رمَضَانَ، وهو قول محمّضد بن إسحاق؛ وذلك لأنَّ مبادئ الملل والدُّول هي الَّتي يؤرَّخ بها؛ لكونها أشرف الأوقات، ولأنَّها أيضاً أوقاتٌ مضبوطةٌ.
واعلم أن الجواب الأول حمل للكلام على الحقيقة، وفي الثاني: لا بُدَ من حمله على المجاز؛ لأنًّث حمل للقرآن على بعض أجزائه.
روي أن [عبد الله بن] عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - استدلَّ بهذه الآية الكريمة، وبقوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] على أن ليلة القدر لا تكون إلاَّ في رمضان، وذلك لأنَّ ليلة القدر، إذا كانت في رمضان، وكان إنزاله في ليلة القدر إنزالاً في رمضان، وهذا كمن يقول: «لَقِيتُ فُلاناً في هَذَا الشَّهْرِ» ، فيقال له: في أيِّ يوم منه؟ فيقول: في يوم كذا، فيكون ذلك تفسيراً لكلامه الأول وقال سفيان بن عُيَيْنَةَ: «أُنْزلَ فِيهِ القُرآنُ» ، معناه: أُنْزِلَ، في فضله القرآن، وهذا اختيار الحسين بن الفضل؛ قال: وهذا كما يقال: «أُنْزِلَ في الصِّدِّيق كَذَا آيةً» يُرِيدُونَ في فضله.
قال ابن الأنباريِّ: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن الكريم؛ كما يُقَالُ أنزل الله في الزَّكَاة آية كَذَا؛ يريدون في إيجابها وأنزل في الخمر، يريدون في تحريمها.
فصل
قد تقدَّم في قوله تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] أنَّ التنزيل مختصٌّ بالنُّزُول على سبيل التَّدريح، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3] ذا ثبت هذا، فنقول: لَمَّا كان المراد ها هنا من قوله «شَهْرُ رَمَضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ» إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا - لا جرم ذكره بلفظ «الإنزال» دون «التَّنزيل» ، وهذا يدلُّ على أن هذا القول راححٌ على سائر الأقوال.
قوله «هُدًى» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن، والعامل فيه «أُنزِلَ» وهُدىً مصدرٌ، فإمَّا أن يكون على حذفٍ مضافٍ، أي: ذا هدىص، أو على وقوعه موقع اسم الفاعِلِ، أي: هادِياً، أو على جعله نفس الهُدَى مبالغةً.
قوله: «لِلنَّاسِ» يحوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب «هُدىً» على قولنا بأنه وقى موقع «هَادٍ» ، أي: هادياً للناس.
والثاني: أن يتلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ للنكرة قبله، ويكون محلُّه النصَّب على والثاني: أن يتعلَّ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للنكرة قبله، ويكون محلُّ النَّصب على(3/280)
الصفة، ولا يجوز أن يكون «هُدَى» خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: «هُوَ هَدىً» ؛ لأنه عطف عليه منصوبٌ صريحٌ، وهو: «بَيَّنَاتٍ» ؛ و «بَيِّنَاتٍ» عطفٌ على الحال، فهي حالٌ أيضاً وكلا الحالين لازمةٌ؛ فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ، وهذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، لأنَّ الهدى يكون بالاشياء الخفيَّة والجليَّة، والبَيِّنَاتُ من الأشياء الجَليَّة.
فإن قيل: ما معنى قوله {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان} بعد قوله: «هُدىً» .
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه تبارك وتعالى ذكر أولاَّ أنه هُدىً، ثمَّ الهُدَى على قسمين:
تارةً: يكون هدىً للنَّاس بيِّناً جَليَّاً.
وتارةً: لا يكون كذلك.
والقسم الأول: لا شكَّ أنَّه أفضل؛ فكأنه قيل: هو هدىً؛ لأنه هو البيِّن من الهدى، والفارق بين الحقِّ والباطل، فهذا مِنْ باب ما يُذكَر الجنْسُ، ويعطف نوعه عليه؛ لكونه أشرف أنواعه، والتقدير: كأنه قيل: هذا هُدىً، وهذا بَيِّنٌ من الهدى، وهذا بيِّناتٌ من الهُدَى، وهذا غاية المبالغة.
الثاني: أن يقالك القرآن هدىً في فنسه، ومع كونه كذلك، فهو أيضاً بيِّناتٌ من الهُدَى والفرقان، والمراد: ب «الهُدَى والفُرْقَانِ» التوراة والإنجيل؛ قال تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان}
[آل عمران 3 - 4] وقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] فبيَّن تعالى أنَّ القرآن مع كونه هُدىً في نفسه، ففيه أيضاً هدىً من الكتب المتقدِّمة التي هي هدىً وفرقانٌ.
الثالث: أن يحمل الأوَّل على أصول الدِّين، والهُدى الثاني على فروع الدِّين؛ حتَّى يزول التَّكْرَار.
قوله: {مِّنَ الهدى والفرقان} هذا الجارُّ والمجرورُ صفة لقوله: «هُدىً وبَيِّناتٍ» فمحلُّه النصب، ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي: إنَّ كون القرآن هُدىً وبيَّنات هو من جملة هُدَى الله وبَيِّنَاتِهِ؛ وعَبَّر عن البيِّنات بالفُرْقان، ولم يأت «مِنْ الهَدَى وَالبَيِّنَاتِ» فيطالب قالعجزُ الصَّدْرَح لأنّ فيه مزيد معنىً لازم للبيان، وهو كونه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطل، ومتى كان الشيءُ جَلِيّاً واضحاً، حصل به الفرقُ، ولأنَّ في لفظ الفرقان تَوَاخِيَ الفواصل قبله؛ فلذلك عبَّر عن البينات بالفرقان، وقال بعضهم: «المرادُ بالهُدَى الأوَّلِ ما ذكرنا من أنَّ المراد به أصول الديانات وبالثاني فروعها» . وقال ابن عطية: «اللامُ في الهُدَى للعهد، والمرادُ الأوَّلُ، يعني أنه تقدَّم نكرةٌ، ثم أُعيد لفظها معرَّفاً ب» أَلْ «، وما كان كذلك كان الثاني فيه هو الأول؛ نحو قوله: {إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [(3/281)
المزمل: 15 - 16] ، ومن هنا قال ابن عبَّاس:» لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ «وضابطُ هذا أن يَحُلَّ محلَّ الثاني ضمير النكرة الأولى؛ ألا ترى أنه لو قيل: فعصاه، لكان كلاماً صحيحاً» ؟
قال أبو حيان: «وما قاله ابن عطية لا يتأتّضى هنا؛ لأنه ذكر هو والمعربون أن» هُدىً «منصوبٌ على الحال، والحال وصفٌ في ذي الحال، وعطف عليه» وبيّنات «، فلا يخلو قول» مِنَ الهُدَى «- المراد به الهدى الأول - من أن يكون صفةً لقوله» هُدَى «أو لقوله» وَبَيِّنَاتِ «أو لهما، أو متعلِّقاً بلفظ» بَيِّنَاتِ «، لا جايزٌ أن يكون صفةً ل» هُدىً «؛ لأنه من حيث هو وصفٌ، لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول، لزم أن يكون إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً كُلاًّ بالنسبة لماهيَّته، ولا جائزٌ أن يكون صفة لبيناتٍ فقط؛ لأنَّ» وَبَيِّنَاتٍ «معطوفٌ على» هُدىً «و» هُدىً «حال، والمعطوف على الحال حالٌ، والحالان وصفٌ في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصَّص بهما ذو الحال؛ إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت» بَيِّنَات «بقوله:» مِنَ الهُدَى «خصصناها به، فتوقَّف تخصيص القرآن على قوله:» هُدىً وبَيِّنَاتٍ «معاً، ومن حيث جعلت» مِنَ الهُدَى «صفةً ل» بَيِّنَاتٍ «، وتوقَّف تخصيص» بَيِّنَاتٍ «على هُدَى، فلزم ن ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محالٌ، ولا جائزٌ أن يكون صفةً لهما؛ لأنه يفسد من الوجهين المذكورين من كونه وصف الهُدَى فقط، أو بينات فقط.
ولا جائزٌ أن يتعلَّق بلفظ «بَيِّنَاتٍ» ؛ لأنَّ المتعلِّق قيدٌ في المتقلَّق به؛ فهو كالوصفِ؛ فيمتنع من حيث يمتنع الوصف، وأيضاً: فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً، فقلت: منه - أي: من ذلك الهُدَى - لم يصحَّ؛ فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامَّين، حتى يكون هُدى وبينات بعضهاً منهما «.
قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} نقل الواحدِيُّ في» البسيط «عن الأخفش والمازنيِّ أنما قالا: الفاء في قوله {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ} زائدةٌ قالا: وذلك لأنَّ الفاء قد تدخل للعطف، أو للجزاء، أو تكون زائدةً، وليس لكونها للعطف، ولا للجزاء هاهنا وجهٌ؛ ومن زيادة الفاء قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8] .
قال: وأقول: يمكن أن تكون» الفاء «هاهنا للجزاء؛ فإنه تعالى لما بيَّن رمضان مختصّاً بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سار الشُّهور فيها، فبيَّن أنَّ اختصاصه بتلك الفضيلة يُنَاسِب اختصاصه بهذه العبادة، ولولا ذلك، لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه، كأنه قيل: لما علم الختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة، فأنتم أيضاً خصصتموه بهذه الفضيلة أي العبادة، وأما قوله تعالى: {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8] الفاء فيه غير زائدة أيضاً، بل هذا من باب مقابلة الضِّدِّ بالضدِّ؛ كأنه قيل: لمَّا فرُّوا من(3/282)
الموت، فجزاؤهم أن يقرب الموت منهم؛ ليعلموا أنَّه لا يغني الحذر عن القدر. و» مَنْ «فيها الوجهان: أعني كونها موصولةً، أو شرطيةً، وهو الأظهر، و» مِنْكُم «في محلِّ نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في» شَهِدَ «فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائِناً منكم، وقال أبو البقاء:» مِنْكُم «حالٌ من الفاعل، وهي متعلقةٌ ب» شَهِدَ «، قال أبو حيان:» فَنَاقَضَ؛ لأنَّ جَعْلَها حالاً يوجب أن يكون عاملها محذوفاً، وجعلها متعلِّقة ب «شَهِدَ» يوجب ألاَّ تكون حالاً «ويمكن أن يجاب عن اعتراض أبي حيَّان عليه بأنَّ مراده التعلُّ المعنويُّ، فإنَّ» كائناً «الذي هو عامل في قوله» مِنْكُم «هو متلِّقٌ ب» شَهِدَ «وهو الحالُ حقيقةً.؟
وفي نَصْبِ» الشَّهْرِ «قولان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف، والمراد بشَهِدَ: حَضَر، ويكون مفعولُ» شَهِدَ «محذوفاً، تقديره: فمن شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلد في الشَّهْرِ.
والثاني: أنه منصوب على المفعول به، وهو على حذف مضافٍ، ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف: فالصحيح أنَّ تقديره:» دُخُولَ الشَّهْرِ «، وقال بعضهم:» هِلاَلَ الشَّهْرِ «قال شهاب الدين: وهذا ضعيفٌ؛ لوجهين:
أحدهما: أنك لا تقول: شَهِدْتُ الهِلاَلَ، إنما تقول: شاهَدْتُ الهِلاَلَ.
ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد من الشُّهود: الحضُور.
والثاني: أنه كان يلزم الصوم كل من شَهِدَ الهِلاَلَ، وليس كذلك، قال: ويجاب بأن يقال: نعم، الآية تدلُّ على وجوب الصوم على عموم المكلَّفين، فإن خرج بعضهم بدليل، فيبقى الباقي على العموم.
قال الزمخشريُّ: «الشَّهْرَ» منصوبٌ على الظرف، وكذلك الهاء في «فَلْيَصُمْهُ» ولا يكون مفعولاً به؛ كقولك: شَهِدْتُ الجُمُعَةَ؛ لأنَّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشَّهْرِ «وفي قوله:» الهاء منصوبةٌ على الظرف «نظرٌ لا يخفى؛ لأن الفعل لا يتعدَّى لضمير الظرف إلاَّ ب» فِي «، اللهم إلاَّ أن يتوسَّع فيه، فينصب نصب المفعول به، وهو قد نصَّ على أنَّ نصب الهاء أيضاً على الظرف.
والفاء في قوله:» فَلْيَصَمْهُ «: إمَّا جواب الشَّرط، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حسب ما تقدَّم في» مَنْ «.
واللام لام الأمر، وقرأ الجمهور بسكونها، وإن كان أصلها الكسر، وإنما(3/283)
سكَّنوها؛ تشبيهاً لها مع الواو والفاء ب» كَتِف «؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتصل. وقرأ السُّلَمِيُّ وأبو حيوة وغيرهما بالأصل، أعني كسر لام الأمر في جميع القرآن. وفتح هذه اللام لغة سليمٍ فيما حكاه الفراء، وقيَّد بعضهم هذا عن الفراء، فقال:» مِنَ العَرَبِ مَنْ يَفتحُ اللام؛ لفتحةِ الياء بعدها «، قال:» فلا يكونُ على هذا الفتحُ إن انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ: نحو: لِيُنْذِرْ، ولِتُكْرِمُ أنتَ خالداً «.
والألف واللام في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ} للعهد، إذ لو أتى بدله بضميرٍ، فقال:» فَمَنْ شَهِدَه منْكُمْ «لصَحَّ غلا أنَّه أبرزه ظاهراً؛ تنويهاً به.
فصل بي بناء القولين على مخالفة الظاهر
قال ابن الخطيب واعلم أن كلا القولين أعني: كون مفعول» شَهِدَ «محذوفاً أو هو الشَّهر لا يتم إلاَّ بمخالفة الظاهر.
أما الأوَّل: فإنَّما يتم بإضمار زائدٍ، وأمَّا الثاني: فيوجب دخول التخصيص في الآية الكريمة وذلك لأنَّ شهود الشَّهْر حاصلٌ في حقِّ الصبيِّ والمجنون والمسافر، مع أنَّ لم يجل على واحدٍ منهم الصَّوم إلاَّ أنا بيَّنا في» أُصُول الفِقْه «أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار، فالتخصيص أولى، وأيضاً، فلأنَّا على القول الأول، لما التزمنا الإضمار لا بُدَّ أيضاً من التزام التَّخْصيص؛ لأنَّ الصبيَّ والمجنون والمريض كلُّ واحدٍ منهم شهد الشَّهْرَ مع أنه لا يجبُ عليهم الصَّوم.
فالقول الأول: لا يتمشى إلاَّ مع التزام الإضمار والتَّخصيص.
والقول الثاني: يتمشى بمجرَّد التخصيص؛ فكان القول الثاني أولى، هذا ما عندي فيه، مع أن أكثر المُحَقِّقين كالواحديّ وصاحب الكشَّاف ذهبوا إلى الأوَّل.
فصل
قال ابن الخطيب قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} جملة مركِّبةٌ من شرطٍ وجزاءٍ، فالشَّرط هو {مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} ، والجوءا هو الأمر بالصَّوم وما لم يوجد الشرط بتمامه، لم يترتَّب عليه الجزاء، والشهر اسمٌ للزمان المخصوص من أوَّله إلى آخره، وشهودُ الشَّهر إنما يحصُلُ عند الجزء الأخير من الشَّهر، فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنَّ عند شهود الجزء الأخير من الشَّهر يجب عليه صوم كل الشهر، وهذا محالٌ، لأنه يقتضي إيقاع الفعل في آخر الزَّمان المنقضي؛ وهو ممتنعٌ، وبهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، وأنه لا بُدَّ من صرفها إلى التأويل، وطيرقه: أن يحمل لفظُ الشهر على جزء من أجزاء الشهر؛ فيصير تقديره: من شَهِدَ جزءاً من أجزاء(3/284)
الشَّهر، فليصم كلَّ الشهر، فعلى هذا: من شَهِدَ هِلاَل رمَضَان، فقد شهد جُزءاً من أجزاء الشَّهر، وعلى هذا التقدير، يستقيم معنى الآية، وليس فيه إلاَّ حَمُْ لفظ الكل على الجزء، وهو مجازٌ مشهور.
ولقائلٍ أن يقولك إنَّ الزجَّاج قال: إنَّ الشَّهْر اسمٌ للهلال نفسه؛ كما تقدَّم عنه، وإذا كان كذلك، فقد زال كُلُّ ما ذكره من ارتكاب المجاز وغيره.
قال القرطبيُّ: وأعيد ذكر الشَّهر؛ تعظيماً له؛ كقوله {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1 - 2] ؛ وأنشد على أنَّه اسمٌ للهلا قول الشاعر: [الكامل]
943 - ب - أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَى ثِقَةٍ ... وَالشِّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
حتَّى تكامل في اسْتِدَارَتِهِ ... في أرْبَعٍ زَادَتْ عَلَى عَشْر
فصل
روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ من دخل عليه الشهر، وهو مقيمٌ ثم سافر فالواجب عليه الصَّوم، ولا يجوز له الفطر؛ لأنه شهد الشهر.
وأما سائر الفُقَهَاء من الصَّحَابة وغيرهم، فقد ذهبوا إلى أنه إذا أنشأ السَّفَر في رمضان، جاز له الفطر، ويقولون: قوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وإن كان عامّاً يدخل فيه الحاضر والمسافر، إلاَّ أن قوله بعد ذلك: {فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً، أوْ عَلَى سَفَرٍ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخَرَ} خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ.
ذهب أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إلى أنَّ المجنون، إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى.
قال: لأنَّا دللنا على أنَّ الآية دلَّت على أنَّ من أدرك جزءاً من رمضان، لزمه صوم رمضان؛ فيكون صوم ما تقدَّم منه واجباً؛ فيجب قضاؤه
فصل في كيفية شهود الشَّهْر
شهود الشَّهر: إما بالرُّؤية أو بالسَّماع.
أما الرؤية: فنقول: إذا رأى إنسانٌ هلال رمضان وحده، فإما أن يرد الإما شهادته أولا؛ فإن ردَّت شهادته، وجب عليه الصَّوم؛ لأنَّه شهد الشَّهر، وإن قبل شهادته أو لم ينفرد بالرؤُية، فلا شك في وجوب الصَّوم.(3/285)
وأما السماع: فنقول: إذا شهد عدلا، على رسة الهلا، حكم به في الصَّوم والفطر جميعاً، وإذا شهد عدلٌ واحدٌ عللٌ واحدٌ على رؤية هلال شوَّال، لا يحكم به، وإذا شَهِدَ على رؤية هلال رمضان يحكم به؛ احتياطاً لأمر الصَّوم، والفرق بينه وبين هلال شوَّال: أنَّ هلال رمضان للدُّخول في العبادة، وهلال شوالٍ للخروج من العبادة، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا اثنان.
قال ابن الخطيب وعندي: أنه لا فرق بينهما في الحقيقة، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان؛ لكي يصوموا، ولا يفطروا؛ احتياطاً؛ فكذلك يقبل قول الواحد في هلال شوَّال؛ لكي يفطروا ولا يصوموا احتياطاً.
فصل في حدِّ الصوم
الصَّوم: هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أوَّل الفجر الصَّادق إلى غروب الشَّمس مع النِّيَّة.
فقولنا: «إمساك» هو الاحتراز عن شيئين:
أحدهما: لو طارت ذبابةٌ إلى حلقه، أو وصل غبارُ الطريق إلى باطنه، لا يبطل صومه؛ لأنَّ الاحتراز عنه شاقٌّ، وقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} .
والثاني: لو صُبَّ الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً، أو حال النوم - لا يبطل صومه، والإكراه لا ينافي الإمساك.
وقولنا «عَنِ المُفطرَاتِ» وهي ثلاثة: دخول داخلٍ، أو خروج خارجٍ، والجماعُ.
وحدُّ الدخول: كلُّ عينٍ وصل من الظَّاهر إلى الباطن من مَنفَذٍ مفتوح إلى الباطن، إما إلى الدماغُ، وإما إلى البطن وما فيها من الأمعاء والمثانة، أما الدِّماغ فيحصل الفطر بالسّعُوط، وأما البطن، فيحصل الفطر بالحقنة؛ وأما الخروج، فالقيء [بالاختيار] ، والاستمناء [يُبْطلانَ الصوم] ، وأما الجماع فمبطلٌ للصَّوم بالإجماع.
وقولنا «مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِماً» فلو أكل أو شرب ناسياً، لم يبطُل صومه عند أبي حنيفة، والشَّافعيِّ، وأحمد، وعند مالك يبطُلُ.
وقولنا: «مِنْ أَوَّولِ طُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ» ؛ لقوله تعالى: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} [البقرة: 187] وكلمة «حَتَّى» ؛ لانتهاء الغاية.(3/286)
وكان الأعمش يقول: أول وقته إذا طلعت الشمس، وكان يبيحُ الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس؛ ويحتج بأنَّ انتهاء الصَّوم [من وقت] غروب الشمس، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون بطلوعها، وهذا باطلٌ بالنضِّ الذي ذكرناه.
وحكي أن أبا حنيفة دخل على الأعمش يعوده، فقال له الأعمش: إنَّك لثقيلٌ على قلبي، وأنت في بيتك، فيكيف إذا زرتني، فسكت عنه أبو حنيفة، فلمَّا خرج من عنده، قيل له: لم سكتَّ عنه؟ قال: فماذا أقول في رجلٍ ما صام ولا صَلَّى عمره، وذلك لأنه كان يأكل بعد الجر الثَّاني قبل طلوع الشمس، فلا صوم له، وكان لا يغتسل من الإنزال، فلا صلاة له.
وقولنا: «إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ» ؛ قوله عليه السلام:
«إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ من هَا هُنَا وَأَدَبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» ومن الناس من يقول: وقت الإفطار عند غروب ضوء الشَّمس، قَاسَ الطَّرَف الثاني على الطَّرف الأوَّل من النهار؛ فإن طلوع الفجر الثاني هو طلوع ضوء الشَّمس، كذلك غروبه يكون بغروب ضوئها، وهو مغيب الشمس.
وقولنا «مَعَ النِّيِّةِ» ؛ لأنَّ الصوم عملٌ؛ لقوله عليه السَّلام: «الصَّوْمُ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، والعلم لا بُدَّ فيه من النيَّة» ، لقوله - عليه السَّلام -: «إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، ومن الناس من قال: لا حاجة لصوم رمضان إلى النيَّة؛ لأن الله تعالى امر بالصَّوم بقوله: «فَلْيَصُمْهُ» والصَّوم هو الإمساك، وقد وجد، فيخرج عن العهدة، وهذا مردودٌ بقوله - عليه السلام - «إنَّما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ» والصوم عملٌ.
وقوله {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قد تقدَّم الكلامُ عليها، وبيانُ السبب في تكريرها.
قوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} تقدَّم معنى الإرادة واشتقاقها عند قوله تعالى: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا} [البقرة: 26] . و «أَرَادَ» يتعدَّى في الغالب إلى الأجرام بالباء وإلى المصادر بنفسه، وقد ينعكس الأمر؛ قال الشاعر: [الطويل]
944 - أَرَادَتْ عَرَاراً بِالهَوَانِ وَمَنْ يُرِدُ ... عَرَاراً لعَمْرِي بِالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ(3/287)
والباء في «بِكُمْ» قال أبو البقاء: لِلإلْصَاقِ، أي: يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ، وهو من مجاز الكلام، أي: يريد الله بفِطْرِكُمْ في حال العذر اليُسْرَ، وفي قوله: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} تأكيدٌ؛ لأنَّ قبله {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} وهو كافٍ عنه. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثَّاب وابن هُرْمُز: «اليُسُر، والعُسُر» بضمّ السين، والضمُّ للإتباع؟ والظهر الأول؛ لأنه المعهود في كلامهم.
و «اليُسْرُ» في اللغة السُّهُولة، ومنه يقال للغنى والسَّعة: اليسار؛ لأنه يتسهل به الأمور واليد اليُسْرَى، قيل: تلي الفعال باليسر، وقيل إنه يتسهَّل الأمر بمعاونتها اليمنى.
فصل في دحق شبهة للمعتزلة
استدلُّوا بهذا الآية على أنَّ تكليف ما لا يطاق غير واقعٍ؛ لأنه تعالى لمَّا بيَّن أنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، فكيف يكلِّفهم ما لا يقدرون عليه.
وأُجيبوا: بأنَّ اللفظ المفرد، إذا دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم، ولو سلَّمناذلكح لكنَّه قد ينصرف إلى المعهود السَّابق في هذا الموضع.
فصل في دحض شبهة أخرى للمعتزلة
قالت المعتزلة: هذه الآية تدلُّ على أنَّه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى؛ وذلك لأنَّ المريض لو تحمَّل الصَّوم حتى أجهده، لكان يجب أن يكون قد فعل مالا يريده الله تعالى منه، إذْ كان لا يريد غيره.
وأُجيبوا بحمل اللَّفظ على أنَّه تعالى لا يريدُ أنْ يأمر بما فيه عسر، وإن كان قد يريدُ منه العُسر؛ وذلك لأن الأمر قد يثبت بدون الإرادة.
قالت المعتزلة: هذه الآيةُ دالَّة على أنه تعالى لا يريدُ بهم الكُفر فيصيرون إلى النَّار، فلو خلق فيهم ذلك الكُفر، لم يكن لائقاً به أنْ يقول {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} وجوابه: أنه معارضٌ بمسألة العلم.
قوله: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ} في هذه اللام ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنها زائدةُ في المفعول به؛ كالتي في قولك: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، و «أَنْ» مُقَدَّرةً بعدها، تقديرهُ: {وَيُرِيدُ أَنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ} ، أي: تكميل، فهو معطوفٌ على اليُسْر؛ ونحوهُ قولُ أبي صَخْرٍ: [الطويل](3/288)
945 - أُرِيدَ لاأَنسَى ذِكرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تَخَيَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ
وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء وإنَّما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المَفعولِ - وإنْ كان ذلك إنَّما يكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً، أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طال الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله، ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه، فَعُدِّيَ بزيادة اللام؛ قياساً لِضَعْفه بطولِ الفصلِ ضَعْفِه بالتقديم.
الثاني: إنَّها لامُ التعليل، وليست بزائدةٍ، واختلف القائلون بذلك على ستةِ أوجه:
أحدها: أن يكونَ بعد الواوِ فعلٌ محذوفٌ وهو المُعَلَّل، تقدير: «وَلِتُكْمِلُوا العِدّضةَ فَعَلَ هَذَا» ، وهو قولُ الفراء. الثاني - وقاله الزَّجَّاج - أن تكون معطوفةً على علَّة محذوفةٍ حُذِف معلولُها أيضاً تقديره: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ؛ ليسهّل عليكم، ولِتُكْمِلُوا.
الثالث: أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقَّراً بعد هذه العلةِ تقديرُه: «ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ رَخَّصَ لكُمْْ فِي ذَلِكَ» ونسبه ابن عطيَّة لبعض الكوفيين.
الرابع: أنَّ الواو زائدةٌ، تقديرُه: يُرِيدُ اللَّه بِكُمْ كَذَا لِتُكْمِلُوا، وهذا ضَعِيفٌ جِداً.
الخامس: أنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدَّراً بعد قوله: «وَلَعَلَّكُمْ تُشْكُرُونَ» ، تقديرُه: شَرَعَ ذلك، قاله الزمخشري، وهذا نصُّ كلامه قال: «شَرَعَ ذَلِكَ، يعني جُملة ما ذلك من أمر الشاهد بصَوم الشَّهر، وأمر المُرَخَّص لهُ بمراعاة عدَّة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطرِن فقولهُ:» وَلِتُكْمِلُوا «علَّةُ الأمر بمراعاة العدَّةن و» لِتُكَبِّرُوا «علةُ ما عُلِمَ من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةٍ الفِطْر و» لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «علةُ الترخيص ولاتيسير، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المَسْلَكِ، لا يهتدي إلى تبيُّنه إلا النُقَّابُ من علماء البَيَانِ» .
السادس: أن تكون الواوُ عاطفةً على علَّةٍ محذوفةٍ، التقديرُ: لتعملوا ما تعملو،، ولِتُكْمِلُوا، قاله الزمخشريُّ؛ وعلى هذا، فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسير
واختصارُ هذه الأوجه: أنْ تكون هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ: إمَّا قبلها، وإمَّا بعدها، أو تكونَ علةً للفعل المذكور قبلها، وهو «يُرِيدُ» . القول الثالث: أنهَّا لام الأمر وتكونُ الواوُ قد عطفت جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ؛ فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ؛ وعلى ما قبلَهك يكونُ من عطف المفردات؛ كما تقدَّم تقريرُه، وهذا قولُ ابن عطيَّة، وضَعَّفه أبو حيان بوجهين:(3/289)
أحدهما: أَنَّ أمرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِهِ لغةٌ قليلةٌ، نحو: لِتَقُمْ يَا زَيْدُ، وقد قرئ شَاذَاً:
{فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] بتاء الخطاب.
والثاني: أن القُرَّاء أجمعُوا على كسر هذه اللام، ولو كانت للأمر، لجاز فيها الوجهان: الكسرُ والإسكانُ كأخواتها.
وقرأ الجمهورُ «وَلِتُكْمِلُوا» مخفَّفاً من «أكْمَلَ» ، والهمزةُ فيه للتعدية، وقرأ أبو بكرٍ بتشديدِ الميم، والتضعيفُ للتعدية أيضاً؛ لأنَّ الهمزة والتضعيف يتعاقبان في التعدية غالباً، والألفُ واللاَمُ في «العِدَّةِ» تَحْتَملُ وجهين:
أحدهما أنها للعهدِ، فيكونُ ذلك راجعاً على قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهذا هو الظاهرُ.
والثاني: أنْ تكونَ للجنس، ويكونُ ذلك راجعاً على شهرِ رمضانَ المأمورِ بصَومهِ، ولامعنى: أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته، سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين.
قال ابن الخطيب: إنما قال: «وَلِتُكْمِلُوا العِدّةَ» ولم يقل: «ولِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ» ؛ لأنه لما قال: «وَلِتُكْمِلُوا العِدَّة» دخل تحته عدة أيَّام الشهر، وأيام القضاء، لتقدُّم ذكرهما جميعاً؛ ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المضي، ولو قال: «وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ» لدل على حكم الأداء فقط، ولم يدخل حكم القضاء.
واللامُ في «وَلِتُكَبِّرُوا» كهي في «وَلِتُكْمِلُوا» فالكلامُ فيها كالكلام فيها، إلا أن القول الرابع لا يتأتَّى هنا.
قوله: «عَلَى مَا هَدَاكُمْ» هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب «تُكَبِّرُوا» وفي «عَلَى» قولان:
أحدهما: أنها على بابها من الاستعلاءِ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبير بها؛ لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ. قال الزَّمخشري: «كأنَّه قيل: ولِتكَبِّروا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ» قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهذا منه تفسيرُ معنىً، لا إعراب؛ إذ لو كان كذلك، لكان تعلُّقُ» عَلَى: «ب» حَامِدِينَ «التي قَدَّرها، لا ب» تُكَبِّرُوا «، وتقديرُ الإعراب في هذا هو:» وَلِتَحْمدُوا الله بالتكْبِيرِ على ما هَدَاكُم «؛ كما قدَّره الناسُ في قوله: [الراجز]
946 - قَدْ قَتَلَ اللَّهُ زِيَاداً عَنِّي ...(3/290)
أي: صَرَفَه بالقتلِ عني، وفي قوله: [الطويل]
947 - وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ مِنَّا فَوَارِسٌ ... بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ
أي: متحكِّمُونَ بالبصيرةٍ في طعنِ الكُلَى» .
والثاني: أنهى بمعنى لام العلَّة والأوَّل أولى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ.
و «ما» في قوله: «عَلَى مَا هَدَاكُمْ» فيها وجهان:
أظهرهُما: أنها مصدرية، أي: على هدايته إيَّاكم.
والثاني: أنَّها بمعنى «الذي» قال أبو حيان «وَفِيهِ بَعْدٌ مِنْ وَجْهَيْن:
أحدهما: حذفُ العائد، تقديرُه، هَدَاكُمُوهُ، وقدَّره منصوباً، لا مجروراً باللام، ولا ب» إِلَى «لأنَّ حذفَ المنصوبِ أسهلُ.
والثاني: حذفُ مضافٍ يصحُّ به معنى الكلامِ على إتْباعِ الذي هَدَاكُم أو ما أشبَهَهُ «.:
وخُتِمَت هذه الآية الكريمة بترجِّي الشُّكر، لأنَّ قبلها تيسيراً وترخيصاً، فناسب خَتمَها بذلك، وخُتمت الآيتان قبلها بترجِّي التقوى، وهو قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 178] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليف، فناسب خَتْمَها بذلك، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّبَ بترجِّي الشكر غالباً، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصٍ عَقَّب بترجِّي التقوى وشبهها، وهذا من محاسن عِلْم البيان والله أعلم.
فصل في المراد بالتكبير في الآية
في المراد بهذا التكبير قولان:
أحدهما: المراد منه التَّكبير لَيلَةَ الفطر.
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - حقٌّ على المسلمين، إذا رأوا هلالَ شَوَّالِ أنْ يكبِّروا.
قال مالكٌ والشَّافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد وإسحاقُ وأبو يُوسفُ ومحمَّد: سُنَّ التكبيرُ في لَيْلَتي العيدين.
وقال أبو حنيفة: يكرَهُ في غداة الفِطر.
واحتجَّ الأوَّلُون بقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [قالوا:(3/291)
معناه] ولتكملوا عدَّة صوم رمضان، ولتكبّروا الله على ما هداكم إلى أجر الطَّاعة.
واختلفُوا في أي العيدين أوكدُ في التَّكبير؟ فقال الشَّافعيُّ في» القديم «: ليلة النَّحرِ أوكد؛ لإجماع السَّلف عليها، وقال في» الجديد «ليلةُ الفطر أوكَدُ؛ لورود النصِّ فيها، وقال مالكٌ: لا يكَبَّر في ليلة الفطرِ، ولكنه يكَبَّر في يومه، وهو مرويٌّ عن أحمد.
وقال إسحاق: إذا غدا على المُصَلَّى.
واستدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} تدلُّ على أن الأمر بهذا التَّكبير وقع معلَّلاً بحصول الهداية، وهي إنما حصلت بعد غُرُوب الشَّمس؛ فلزم التَّكبير من ذلك الوقت، واختلفُوا في انقضاء وقتِهِ، فقيل: يمتدُّ إلى تحريم الإحرام بالصَّلاة.
وقيل: إلى خروج الإمام.
وقيل: إلى انصراف الإمام، وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - إذا أتى المصلَّى ترك التَّكبير.
القول الثاني في المراد بهذا التَّكبير: هو العظيم للَّه تعالى؛ شكراً على توفيقه لهذا الطَّاعة.
قال القرطبي:» عَلَى مَا هَدَاكُمْ «قيل: لما ضَلَّ فيه النصارَى من تبديل صيامهم.
وقيل: بدلاً عمَّا كانت الجاهليَّة تفعله بالتَّفَاخُر بالآباء، والتَّظاهر بالأحساب، وتعديد المناقب.
وقيل: لتعظّموه على ما أرشدكُم إليه من الشَّرَائع.(3/292)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
في اتصال هذه الآية بما قبلَها وجوه:
أحدها: أنَّه لما قال بعد إيجاب شهر رمضان وتبيين أحكامه: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا(3/292)
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] فأمر العبد بالتَّكبير الذي هو الذِّكر وبالشكر، أعلم العبد أنه سبحانه بلُطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشُكره، فيسمع نداءه ويجيبُ دعاءه.
الثاني: أنه أمره بالتَّكبير أولاً، ثم رغبه في الدعاء ثانياً تنبيهاً على أن الدعاء لا بُدَّ وأن يكون مسبُوقاً بالثناء الجميل؛ ألا ترى أن الخليل - عليه السَّلام - لمَّا أراد الدعاء قَدَّم أولاً الثناء؛ فقال: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلى قوله: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] فلما فرغ من هذا الثناء، شرع في الدُّعاء، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} [الشعراء: 83] فكذا هاهنا.
الثالث: أنَّه لما فرض عليهم الصِّيام، كما فُرض على الذين من قبلهم؛ وكانوا إذا ناموا، حرم عليهم ما حرم على الصَّائم، فشَقَّ ذلك على بعضهم؛ حتَّى عصوا في ذلك التكليف، ثم نَدِمُوا وسألوا النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة مُخبراً لهم بقبول توبتهم، وبنسخ ذلك التَّشديد؛ بسب دعائهم وتضرُّعهم.
فصل في بيان سبب النزول
ذُكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة وجوهٌ:
أحدها: ما قدّمناه.
الثاني: قال ابن عبَّاس: إنَّ يهُود المدينة قالوا: يا محمَّد، كيف يسمع ربُّك دعاءنا، وأنت تزعم أنَّ بيننا وبينَ السَّماء مسيرة خمسمائة عامٍ، وأنَّ غِلَظَ كلِّ سماءٍ مثلُ ذلك؟ فنزلت الآية الكريمة
الثالث: قال الضَّحَّاك: إنَّ أعربيّاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: أرقيبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله تعالى الآية.
الرابع: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان في غزاة خيبر، وقد رفع أصحابُهُ أصواتهُم بالتكبير والتَّهليل والدُّعاء، فقال رسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اربعون على أنفسكم فإنَّما لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إِنَّما تدعون سمعياً قريباً وهُو معكُم.(3/293)
الخامس: قال قتادةُ وغيره: إنَّ الصحابة قالوا: كيف ندعُو ربنا، يا رَسُول الله، فنزلت الآية.
السادس: قال عطاءٌ وغيره: إن الصحابة سألوا في أي ساعة ندعوا ربنا فأنزل الله الآية.
السابع: قال الحسن: سأل أصحابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: أين رَبُّنا؟ فأنزل الله الآية.
فصل
واعلم أنَّ المراد من الآية الكريمة ليس هو القُرب بالجهة؛ لأنَّه تبارك وتعالى، لو كان في مكانٍ، لما كان قريباً من الكُلِّ، بل كان يكون قريباً من حملة العرش، وبعيداً غيرهم، ولكان إذا كان قريباً من زيدٍ الذي بالشَّرق، كان بعيداً من عمرو الذي بالمغرب، فلَمَّا دلَّت الآية الكريمة على كونه تعالى قريباً من الكُلِّ، علمنا أنَّ القرب المذكُور في الآية الكريمة ليس قرباً بجهة، فثبت أن المراد منه أنهقريبٌ بمعنى أنه يسمع دعاءهم.
والمرادُ من هذا القُرب العلمُ والحفظُ؛ على ما قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] وقال {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] وقال تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ونظيره: وهو بينكُمْ وبَيْنَ أعناق رواحلكم.
قال ابن الخطيب: وإذا عرف هذا فنقُول: لا يبعدُ أن يقال: إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتَّشبيه، فقد كان من مشركي العرب، وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته، فإذا سألوه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أين ربُّنا؟ صحَّ أن يكون الجوابُ: فإنِّي قريبٌ، فإنَّ القريبَ مِنَ المتكلَّم يسمعُ كلامَهُ، وإن سألوه كيف يدعُون؛ برفع الصَّوت أو بإخفائه؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله: «فإِنِّي قَرِيبٌ» ، وإن سألوه أنه هل يعطينا مطلوبنا بالدُّعاء؟ صحَّ هذا الجوابُ، وإن سألوه: إنا إذا أذنبنا ثم تُبنا، فهل يقبلُ الله توبتَنَا؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله «فَإِنِّي قَرِيبٌ» أي: فأنا القريبُ بالنظر إليهم، والتجاوز عنهم، وقبُول التَّوبة منهم؛ فثبت أنَّ هذا الجواب مطابقٌ للسُّؤَالِ على كُلِّ تقدير.
قوله تعالى: «أُجِيبُ» فيها وجهان:
أحدهما: أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل «قَريبٌ» .
والثاني: أنها خبرٌ ثانٍ ل «إنِّي» ؛ لأنَّ «قَرِيبٌ» خبرٌ أوَّلُ.(3/294)
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعد فاء الجزاء، تقديرُه: فَقُلْ لهم إِنِّ قريبٌ، وإنما احتَجْنَا إلى هذا التقدير؛ لأنَّ المرتِّب على الشَّرط الإخبارُ بالقُرب، وجاء قوله «أُجِيبُ» ؛ مراعاةً للضمير السابقِ على الخبر، ولم يُراعَ الخبرُ، فيقالُ: «يُجِيبُ» بالغَيْبَة؛ مراعاةً لقوله: «قَرِيبٌ» ؛ لأنَّ الأشْهَرَ من طريقتي العرب هو الأولُ؛ كقوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] وفي أخرى {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] ، وقول الشاعر: [الطويل]
948 - وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً ... إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وسَلُولُ
ولو راعى الخبر، لقال: «مَا يَرَوْنَ القَتْلَ» .
وفي قوله: «عَنِّي» و «إِنِّي» التفاتٌ من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنَّ قبله: «وِلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ» والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ، والكافُ في «سَأَلَكَ» للنبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإنْ لم يجر له ذكرٌ، إلاَّ أنَّ قوله: {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] يَدُلُّ عليه؛ لأنَّ تقديره: «أُنْزِلَ فيه القرآنُ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» وفي قوله: فَإِنِّي قَريبٌ «مجازٌ عن سرعةِ أجابته لدعوةِ داعيه، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحِسِّيِّ، لتعاليه عن المَكَان.
قال أبو حَيَّان: والعامِل في» إِذَا «قوله:» أُجِيبُ «يعني» إِذَا «الثانية، فيكون التقديرُ: أُجِيبُ دعوَتهُ وقتَ دعائِه، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمُجَرَّد الظرفية، وأَنْ تكونَ شرطيةً، وحذف جوابها؛ لدلالةِ» أُجِيبُ «عليه؛ وحينئذٍ لا يكونُ» أُجِيبُ «هذا الملفوظ به هو العامل فيها، بل ذلك المحذوفَ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجِيزُ تقديمهُ على الشَّرط، وأمَّا» إِذَا «الأولى، فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ، والهاء في» دَعْوَة «ليست الدالَّة على المَرَّة، نحو: ضَرْبَةٍ وقَتْلَةٍ، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ، نحو: رحمة ونجدة؛ فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة.
والياءان من قوله: «الدَّاع - دَعَان» من الزوائد عند القُرَّاءِ، ومعنى ذلك أنَّ الصحابة لم تُثْبِت لها صورةً في المُصحَف، فمن القُرَّاءِ مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسل وَقْفاً ووَصْلاً. ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَين، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها وَصْلاً ويحذِفُها وَقْفاً، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستُّون ياءً، فأثبَتَ أبو عمرو وقَالُونُ هاتَينِ الياءَيْنِ وَصْلاً وحَذَفَاهَا وَقْفاً.
فصل في بيان حقيقة الدُّعاء
قال أبو سليمان الخطَّابيُّ: والدُّعاء مصدر من قولك: دعَوتُ الشَّيءَ أَدعوه دُعاءً، ثم أقامُوا المَصدرَ مقام الاسم؛ تقول: سمعتُ الدعاء؛ كما تقولُ: سمعتُ الصَّوتَ، وقد(3/295)
يوضعُ المصدر موضع الاسم؛ كقولك: رَجُلٌ عدلُ، وحقيقةُ الدعاء: استدعاءُ العبدِ ربَّهُ جلَّ جلالهُ العناية، واستمدادُهُ إيَّاه المعونَةَ.
والإجابةُ في اللُّغة: الطاعةُ وإعطاءُ ما سُئِلَ، فالإجابةُ من الله العطاءُ، ومن العبدِ الطاعةُ.
وقال ابنُ الأنبياريِّ «أُجِيبَ» ههنا بمعنى «أَسْمَعُ؛ لأنَّ بين السماع والإجابةِ نَوْعَ ملازمةٍ.
فصل في الجواب على من ادَّعى أن لا فائدة في الدُّعاء
قال بعضهم: الدعاء لا فائدة فيه لوجوهٍ:
أحدها: أنَّ المطلوب بالدُّعاء، إنْ كان معلوم الوقُوع عند الله تعالى، كان وقوعهُ واجباً؛ فلا حاجة إلى الدُّعاء، وإن كان معلوم الانتفاءِ واجبَ العَدَمِ، فلا حاجة إلى الدُّعاء.
وثانيها: أنَّ وقوع الحَوَادِث في هذا العالم إنْ كان لا بُدَّ لها منْ مُؤَثِّر قديم اقتضى وجودَها اقتضاءً قديماً، كانت واجبةً الوُقُوع، وكلُّ ما لم يقتض المؤثِّرُ القديمُّ وجودَهُ اقتضاءً أزليّاً، كان ممتنعَ الوقُوع، وإذا كانت هذه المقدِّمة ثابتةً في الأَزَلِ، لم يكُن للدعاءِ ألبتَّة أثر، وربَّما عبَّروا عن هذا الكلام بأنْ قالوا: الأقدَارُ سابقةٌ، والأقضيةُ متقدِّمةٌ، فالإِلحاح في الدُّعاء لا يزيد فيها وتركُه لاَ ينقُصُ منها شيئاً، فأيُّ فائدةٍ في الدعاء، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أَرْبَعٌ قَدْ فُرِغَ منها: الخَلْقُ والخُلُقُ وَالرِّزْقُ وَالأَجَلُ «
وثالثها: أنَّه سبحانه وتعالى قال: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور} [غافر: 19] وإذا كان يعلمُ ما في الضمير، فأيُّ حاجةٍ إلى الدُّعاء.
ورابعها: أنَّ المطلوب بالدعاء، إنْ كان من مصالح العَبْد، فالجواد المطلق لا يهملُهُ، وإن لم يكُنْ من مصالحه، لم يَجُزْ طلبه.
وخامسها: أنَّه ثبت أنَّ أجلَّ مقامات الصِّدِّيقين وأعلاها الرِّضا بقضاء الله تعالى والدعاءُ ينافي ذلك؛ لأنه اشتغالٌ بالاتماس، وترجيحٌ لمراد النَّفسِ على مُرَاد الله.
وسادسها: أنَّ الدعاء يُشبهُ الأمر والنَّهي، وذلك من العبد في حقِّ المولى الكريم سُوءُ أَدَب.(3/296)
وسابعها: قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الله تعالى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي»
وقال الجمهور: الدعاء أفضَلُ مقاماتِ العبُوديَّة، واحتجُّوا بأدلَّة:
الأول: هذه الآية الكريمة.
الثاني: قوله تعالى: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] الثالث: قوله {فلولاا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] بين أنه تعالى، إِذَا لَمْ يُسْألْ يَغْضب، وقال - عليه السَّلام - «لاَ يَنْبَغِي لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» وقرأ «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» ، فقوله «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» معناه أنه مُعْظَم العبادة، وأفضل العبادة؛ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «الحَجُّ عَرَفة» ، أي: الوقوف بِعَرَفَةَ هو الرُّكْن الأَعْظَم.
الرابع: قوله: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وقال: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} [الفرقان: 77] والآياتُ في هذا الباب كثيرةٌ، فمن أبطل الدعاء، فقد أنكَرَ القرآن، وأمَّا الأحاديث فكثيرةٌ.
والجوابُ عن شبهتهم الأولى بالمناقضة؛ فنقُول: إقدامُ الإنسان على الدعاء، إن(3/297)
كان معلوم الوقوع، فلا فائدة باشتغالكم بإبطال الدُّعاء، وإن كان معلوم العدم، لم يكُنْ إلى إنكاركُم حاجة.
والجوابُ عن الثَّانية: علم الله تعالى وكيفيَّةُ قضائه وقدره غائبةٌ عن العُقُول والحكمة الإلهيَّة تقتضي أن يكُون العَبد معلَّقاً بين الرَّجاء والخَوف اللّذين بهما يتمُّ العبودية، ولهذا صَحَّحنا القَول بالتَّكاليف مع الاعرتاف بإحاطة علم الله تعالى بالكُلِّ وجريان قضائِهِ وقدره في الكُلِّ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - رسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: أرأيت أعمالنا هذه أشيء فرغَ منهُ، أم أمرٌ يستأنِفُهُ؟ فقال: «بَلْ أَمْرٌ فُرغَ مِنْهُ» فقالوا: فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ» فانظُر إلى لطائف هذا الحديث، فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - علَّقهم بين أمرين، فرهَّبهم سابقَ القَدَر المفروغ منه، ثم ألزمهم العمل لاذي هو مدرجةُ التعبُّد، فلم يبطل ظاهر العَمَل بما يفيد من القضاء والقدر، ولم يترك أحد الأمرين للآخر، وأبخر أنَّ فائدة العمل هو المقدَّر المفروغُ، فقال: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» يريد أنَّه ميسَّر في أيَّام حياته للعَمَل الذي سَبَقَ له القَدَر قَبْل وجوده وكذا القولُ في باب الكسب والرِّزق فإنه مفروغٌ منه في الأصل لا يزيده الطَّلَبُ، ولا ينقصه التَّرك.
والجوابُ عن الثالث: أنه ليس المقصودُ من الدعاءُ الإعلام بالمطلوب، بل إظهار العُبُوديَّة والذلَّة والانكِسار والرُّجُوع إلى الله تعالى بالكُلِّيَّة.
والجواب عن الرابعة: أنه يجوزُ أنْ يصير ما ليسَ بمصلحَةٍ بحسب سَبق الدعاء.
والجواب عن الخامس: إذا كان مقصُوده من الدُّعاء إظهار الذلَّة والمسكنة، ثم بعده الرضا بما قدَّره الله تعالى وقاضه، فذلك من أعظم المقامات، وهذا الجوابُ أيضاً بقيَّة الشُّبَهِ.
فإن قيل: إنَّه تعالى قال {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، وقال هنا {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} ، وقال {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ} [النمل: 62] ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدَّعَواتِ والتضرُّع، فلا يجاب.
فالجوابُ من وجوه:
أحدها: أن هذه الآيات، وإن كانت مطلقةً إلاَّ أنه وردت في آية أخرى مقيَّدة، وهو قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ} [الأنعام: 41] والمطلق يحمل على المقيَّد.
وثانيها: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «دَعْوَةُ المُسْلم لاَ تُرَدُّ إلاَّ لإحْدى ثَلاث: مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمِ، أَوْ(3/298)
قِطيعَة رَحِمٍ، أَوْ يَسْتَعْجلْ» ، قَالُوا: وَمَا الاسْتِعْجَالُ، يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعوْتُكَ يَا رَبِّن قَد دَعَوتُكَ يَا رَبِّ، قَدْ دَعَوْتُكَ يَا رَبِّن فَلاَ أَرَاكَ تستجيبُ لي، فيستَحْسِرُ عند ذلك فيدع الدُّعاء
وثالثها: أنَّ قوله {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} يقتضي أنَّ الداعي عارفٌ بربِّه، ومِنْ صفاتِ الربِّ سبحانه وتعالى أنه لا يَفْعَلُ إلاَّ ما وافَقَ قضاءه وقدره، وعلمه وحكمته، فإذا علم العبدُ أنَّ صفة ربِّه هكذا، استحَالَ منه أن يقول بقلبه أو بعقله يا ربِّ، أفعل الشَّيء الفُلانِيَّ، بل لا بدَّ وأن يقول: أفعل هذا الفعل، إن كان موافقاً لقضائك وقدرك؛ وعند هذا يصيرُ الدُّعاء المجابُ مشروطاً بهذه الشرائط، فزال السؤال.
ورابها: أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة:
فقيل: الدعاء عبارةٌ عن: التوحيد والثَّناء على الله تعالى؛ لقول العبد يا الله الذي لا إله إلا أنتَ، فدعَوتَهن ثم وحَّدتَه وأثنيت عليه فهذا يسمَّ دعاءً بهذا التأويل، فسمي قبوله إجابةً للتجانس، ولهذا قال ابن الأنباريِّ: «أُجِيبُ» ههنا بمعنى «أًسْمَعُ» ؛ لأن بيهن السماع والإجابة نوع ملازمةٍ، فلهذا السبب يقام كلُّ واحدٍ منهما مُقام الآخر، فقولنا: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ، أي: أجاب الله، فكذا هاهنا قوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} ، أي: أَسْمَعُ تلكَ الدَّعوة، فإذا حَمَلنا قوله تعالى {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} على هذا الوجه، زال الإشكال.
وقيل: المرادُ من الدعاءِ التَّوْبة مِنَ الذُّنُوب؛ وذلك لأنَّ التائب يدعُو الله تعالى بتوبته، فيقْبَلُ توبته، فإجابته قبول توبته إجابة الدُّعَاء، فعلى هذا الوجه أيضاً يزول الإشكال.
وقيل: المرادُ من الدُّعاء العبادةُ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: الدعاءُ هو العبَادةُ ويدلُّ عليه قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] فالدُّعاء هاهنا هو العبادة.
وإذا ثَبَتَ ذلك، فإجابة الله للدُّعاء عبارةٌ عن الوفاءِ بالثَّواب للمُطيع؛ كما قال
{وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} [الشورى: 26] روى شهرُ بنُ حوشبٍ عن عبادة بن الصامت، قال: سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقولُ: «أعطيت أُمَّتي ثلاثاً، لم تُعطَ إِلاَّ للأنبياء: كان الله إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ، قَالَ:» ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ «، وقال لهذه الأُمَّة:» ادعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «وكان الله إذا بعث النَّبيَّ، قال له:» مَا جَعَلَ عَلَيْكَ في(3/299)
الدِّين مِنْ حَرَجٍ وقال لهذه الأُمَّة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وكان الله تبارك وتعالى إذا بعث النَّبيِّ جعلهُ شهِيداً على قومه، وجعل هذه الأمَّة شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس «
وخامسها: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} إنْ وافقَ القضاء وأُجيب إن كانت الإجابةُ خَيْراً لهُ، أو أجيبه إن لم يسأَلْ مُحَالاً.
وسادسها: روى عُبادةُ بن الصَّامت؛ أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمِ يَدْعُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بإِثْمٍ أَوْ قَطيعَةِ رَحِمٍ «
وسابعها: إِنَّ الله يجيب دعاء المؤمِنِ في الوقت، ويؤخِّر إعطاءَ مَنْ يجيب مراده، ليدعوه فيسمع صوته، ويعجِّل إعطاء من لا يُحِبُّه؛ لأنه يبغض صوته.
فصل
قال سفيان بن عيينة: لا يمنعنَّ أحداً من الدُّعاء ما يعلمه من نفسه، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد أجاب دعاء شرِّ الخلق إبليس، لَعَنَةُ اللَّهُ؛ قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الأعراف: 14 - 15] .
وللدُّعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، كالسَّحرِ، ووقت الفطِر، وما بين الأذانِ والإقامة، وما بين الظُّهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الإضرار وحالة السَّفر والمرض، وعند نزول المطر، والصَّفّ في سبيل الله تعالى كُلُّ هذا جاءت به الآثارُ.
وروى شهرُ بن حوشب؛ أنَّ أُمَّ الدرداءِ قالت لهُ: يا شهرُ، ألا تجدُ القشعريرة؟ قلت: نعم قالت فادعُ الله فإنَّ الدُّعاء يُستجابُ عند ذلك.
قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} في الاستفعالِ هنا قولان:
أحدهما: أنَّه للطلب على بابه، والمعنى: فَلْيَطْلُبُوا إِجَابَتِي، قاله ثعلبٌ.
الطَّاعة والعَمَل، كما قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] .(3/300)
والثاني: أنه بمعنى الإفعال، فيكون استفعل وأفعل بمعنى، وقد جاءَت منه ألفاظ، نحو: أقرَّ واستقرَّ؛ وأبلَّ المريضُ واستبلَّ وأحصدَ الزَّرع واستحْصَدَ، واسْتَثَارَ الشَّيْء وَأَثَارَهُ، وَاسْتَعْجَلَهُ وأَعْجَلَهُ، ومنه اسْتَجَابَةُ وَأَدَابَهُ، وإذا كان اسْتَفْعَلَ بمعنى أَفْعَلَ، فقد جاء متعدّياً بنفسه، وبحرف الجَرِّ، إلا أنه لم يَردْ في القرآن إلاَّ مُعَدّىً بحرف الجرِّ نحو: {فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 84] {فاستجاب لَهُمْ} [آل عمران: 195] ومِنْ تَعدِّيه بنفسه قول كعب الغنوي: [الطويل]
949 - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
ولقائل أنْ يقُول: يحتملُ هذا البيت: إنْ يكون مِمَّا حُذف منه حرفُ الجرِّ.
واللامُ لامُ الأمر، وفرٌَّ الرُّمَّانيُّ بين أجاب واستَجَابَ: بأنَّ «اسْتَجَابَ» لا يكون إلا فيما فيه قَبُولٌ لما دُعي إليه؛ نحو: {فاستجبنا لَهُ} {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُم} ، وأمَّا «أَجَابَ» فأعمُّ، لأنه قد يُجيبُ بالمخالفة، فجعل بينهما عموماً وخصوصاً.
والجمهورُ على «يَرشُدُونَ» بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ، وماضيه: رَشَدَ بالفتح، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين، وقُرئ بفتحها، وماضيه رشِد بالكسر، وقرئ: «يُرْشَدُونَ» مبنيّاً للمفعول، وقرئ: «يُرْشِدُونَ» بضم الياء وكسر الشين من «أَرْشَدَ» ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه: يُرْشِدُونَ غيرهم «والرُّشْدُ» هو الاهتداء لمصالح الدِّين والدُّنيا؛ قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] وقال {أولئك هُمُ الراشدون فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7 - 8] .
قال القرطبي: و «الرُّشْدُ» خلاف الغيِّ، وقد رشد يرشُدُ رُشداً ورشِدَ - بالكَسْر - يَرْشَدُ رَشَداً لغةٌ فيه وأرشدهُ اللَّهُ والمراشِد: مقاصد الطُّرق والطريقُ الأرشَدُ نحو الأقصد وأُمُّ راشدٍ كُنية للفأرة، وبنو رشدان بطنٌ من العرب عن الجوهريِّ.
وقال الهرويُّ: الرُّشْدُ والرَّشد والرَّشَادُ: الهدى والاستقامة؛ ومنه قوله تعالى: «يَرْشُدُونَ» .
فإنْ قيل: إجابةُ العبد للَّه تعالى إنْ كانت إجابةً بالقَلْب واللِّسان، فذاك هو الإيمانُ، وعلى هذا، فيكونُ قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} تكراراً محضاً، وإن كانت إجابةُ العبد للَّه تعالى عبارةً عن الطاعات كان الإيمان مقدَّماً على الطاعات، وكان حقُ النَّظم أن يقول: «فَلْيُؤْمِنُوا بِي وَلْيَسْتَجيبُوا لِي» فلم جاء على العكس.(3/301)
فالجواب: أن الإيمان عبارةُ عن صفة القلب، وهذا يدلُّ على أنَّ العبد لا يصلُ إلى نُور الإيمان، إلاَّ بتقديم الطَّاعات والعبادات.(3/302)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
قوله تعالى: {لَيْلَةَ الصيام} منصوبٌ على الظرف، وفي الناصب له ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدها - وهو المشهورُ عند المُعْربين -: «أُحِلَّ» ، وليس بشيءٍ؛ لأنَّ الإحلال ثابتٌ قبل ذلك الوقت.
الثاني: أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ «الرَّفَث» ، تقديرُه: أُحِلَّ لكُمْ أن ترفُثُوا ليلة الصِّيام؛ كما خرَّجوا قول الشاعر: [الهزج]
950 - وَبَعْضُ الحِلْم عِنْدَ الْجَه ... لِ لِللذِّلَّةِ إِذْعَانُ
أي: إِذْعانٌ لِلذِّلَّةِ إِذْعانٌ، وإنما لم يَجُزْ أَنْ ينتصب بالرَّفث؛ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على المَوصُولِ، فلذلك احْتَجْنَا إلى إضمار عاملٍ منْ لفظ المذكُور.
الثالث: أنه متلِّق بالرَّفثِ، وذلك على رأي منْ يرى الاتساع في الظروف والمجْرُوراتِ، وقد تقدَّم تحقيقه.
وأضيفت اللِّيلةُ للصيام؛ اتِّساعاً، لأنَّ شرط صحته، وهو النيةُ، موجودةً فيها، والإضافة تحدُثُ بأدنى ملابسةٍ، وإلاَّ فمِنْ حقِّ الظَّرف المضاف إلى حدثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدث في جزءٍ من ذلك الظَّرف، والصومُ في اللَّيل غيرُ معتَبَرٍ، ولكنَّ المُسَوِّغ لذلك ما ذكرتُ لك أو تقول: الليلة: عبارةٌ عمَّا بين غروب الشَّمس إلى طلوعها، ولمَّا كان الصَّيام من طلوع الفجر، فكان بعضُهُ واقعاً في اللِّيل فساغ ذلك.
والجمهورُ على «أُحِلَّ» مبنيّاً للمفعول للعلمِ به، وهو اللَّهُ تعالى، وقرئ مبنياً للفاعل، وفيه حينئذٍ احتمالان:(3/302)
أحدهما: أن يكونّ من باب الإضمار؛ لفَهْمِ المعنى، أي أَحَلَّ اللَّهُ؛ لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّلُ والمحرِّم.
والثاني: أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} وهو المتكلِّم، ويكونُ ذلك التفاتاً، وكذلك في قوله: «لَكُمْ» التفاتٌ من ضمير الغَيْبة في: «فَلْيَسْتَجِيبُوا، وَلْيُؤْمِنُوا» ، وعُدِّي «الرَّفث» ب «إِلَى» ، وإنما يتعدَّى بالباء؛ لما ضُمِّن مِنْ معنى الإفضاء مِنْ قوله {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] كأنه قيل: أُحِلَّ لَكُمْ الإفْضَاءُ إلى نسائِكُمْ بِالرَّفَثِ. قال الواحديّ: أراد بليلة الصِّيام ليالي الصِّيام، فأوقَعَ الواحد موقع الجماعة؛ ومنه قولُ العبَّاس بن مرداسٍ: [الوافر]
951 - فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ
قال ابن الخطيب: وأقولُ: فيه وجهٌ آخرُ، وهو أنَّه ليس المراد من «لَيْلَةَ الصِّيَامِ» ليلةً واحدةً، بل المراد الإشارةُ إلى اللِّيلة المضافة إلى هذه الحقيقة.
وقرأ عبد الله «الرَّفُوثُ» قال اللَّيْث وأصل الرَّفث قول الفحش، والرَّفثُ لغةً مصدرُ: رَفَثَ يَرْفِثُ بكسر الفاء وضمها، إذا تكلم بالفُحشِ، وأرْفَثَ أَتَى بالرَّفثِ؛ قال العجاج: [الرجز]
952 - وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّم
وقال الزَّجَّاج: - ويُروى عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «إِنَّ الرَّفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجُلُ من المَرْأَةِ» ، وقيل: الرَّفث: الجِمَاعُ نفسُهُ، وأنشد: [الكامل]
953 - وَيُرَيْنَ مِنْ أَنَسِ الْحَدِيثِ زَوَانِياً ... وَلَهُنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نِفَارُ
وقول الآخر: [المتقارب]
954 - فَظِلْنَا هَنَالِكَ فِي نِعْمَةٍ ... وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرَ الرَّفَثْ
ولا دليل؛ لاحتمالِ إرادة مقدِّمات الجماع؛ كالمداعَبَةِ والقُبْلَة، وأنشد ابنُ عبَّاسٍ، وهو مُحْرِمٌ: [الرجز](3/303)
955 - وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَاهَمِيسَا ... إِنْ يَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
فقيل له: رَفَثْتَن فقال: إنَّما الرَّفَثُ عند النساء.
فثبت أنَّ الأصل في الرَّفَثِ هو قول الفحش، ثم جعل ذلك اسماً لما يتكلَّم به عند النِّسَاء من معاني الإفضاء، ثم جعل كنايةً عن الجماع، وعن توابعه.
فإن قيل: لِمَ كَنَّى هاهنا عن الجماع بلفظ «الرَّفَث» الدَّالِّ على معنى القبح بخلاف قوله {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] وقوله تعالى: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] ، وقوله عزَّ وجلَّ: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} [النساء: 43] وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] ، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [البقرة: 237] وقوله تعالى: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] {وَلاَ تَقْرَبُوهَنَّ} [البقرة: 222] .
فالجواب: أنَّ السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإجابة؛ كما سمَّاه اختياناً لأنفسهم؛ قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - إنَّ الله سبحانه وتعالى حَيِيٌّ كريمٌ يُكَنِّي، كُلُّ ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدُّخول والرَّفث، فإنما عنى به الجماع.
فصل في بيان سبب النزول
ذكروا في سبب نزول هذه الآية: أنه كان في أوَّل الشَّريعة يحلُّ الأكل والشُّرب والجِماع ليلة الصِّيامن ما لم يرقُدِ الرجل ويصلِّي العشاء الأخيرة، فإن فعل أحدهما: حرم عليه هذه الأشياء إلى اللَّيلة الآتية، فجاء رجُلٌ من الأنصار عشيَّةً، وقد أجهده الصَّوم، واختلفوا في اسمه؛ فقال معاذٌ: اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة، وقال عكرمة: أبو قيس بن صرمة، وقيل صرمة بن أنس.
فسأله النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم وبجَّل وعظَّم عن سبب ضَعْفِهِ، فقال: يا رسول الله، عملت في النَّخل نهاري أَجْمَعَ: حتَّى أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ أَهْلِي لتطعمني شَيْئاً، فَأَبْطَأتْ، فنمت فَأَيْقَظُونِي، وَقَدْ حَرُمَ الأَكْلُ؛ فَقَامَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: يا رسول الله أنِّيأعتذر إلى الله وإليك من نفس هذه الخاطية؛ إنِّي رجعت إلى أهلي بعد ما صلِّيت العشاء، فوجدت رائحةً طيِّبةً فسوَّلت لي نفس، فجامعت أهلي، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف،(3/304)
وكرَّم ومجَّد وبجَّل، وعظَّم: ما كنت جديراً بذلك يا عمر، فقام رجالٌ، فاعترفوا بمثله، فنزل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} .
فصل ذهب جمهور المفسِّرين أنَّه كان في أوَّل شرعنا، إذا أفطر الصَّائم، حلَّ له الأكل والشُّرب والجماع، ما لم ينم أو يُصَلِّ العشاء الآخرة، فإذا فعل أحدهما، حرم عليه هذه الأشياء، ثم إنَّ الله تعالى، نسخ ذلك بهذه الآية الكريمة.
وقال أبو مسلم: هذه الحرمة ما كانت ثابتةً في شرعنا ألبتَّة، بل كانت ثابتةً في شرع النصارى، فنسخ الله تعالى بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم.
واحتجَّ الجمهور بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] يقتضي تشبيه صومنا بصومهم، وقد كانت هذه الحرمة ثابتةً في صومهم؛ فوجب أن يكون التشبيه ثابتاً في صومنا، لقصد أن يكون منسوخاً بهذه الآية الكريمة.
الثانيك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} ولو كان هذا الحلُّ ثابتاً لهذه الأُمَّة من أول الأمر، لم يكن لقوله: «أُحِلَ لَكُمْ» فائدةٌ.
الثالث: قوله سبحانه: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ولو كان ذلك حلالاً لهم، لما احتاجوا إلى أن يختانوا أنفسهم.
الرابع: قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [وَلَوْلاَ أنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّماً عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَقْدَمُوا على المعصِيَةِ؛ بِسَبَبِ الإقْدام على ذلك الفعل، لما صحَّ قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ] .
الخامس: قوله تعالى: «فالآنَ بَاشِرُهُنَّ» ولو كان الحلُّ ثابتاً قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله تعالى: «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» فائدةٌ.
السادس: ما رويناه في سبب النُّزُول.(3/305)
وأجاب أبو مُسْلمٍ عن الأوَّل: بأنَّ التشبيه يكفي في صدقه المشابهة في أصل الوجوب.
وعن الثَّاني: بأنَّا لا نسلِّم أنَّ هذه الحرمة كانت ثابتةً في شرع من قبلنا، فقوله: «أُحِلَّ لَكُمْ» معناه: أُحِلَّ لَكُمْ ما كان مُحَرَّماً على غيركم.
وعن الثالث: بأنَّ تلك الحرمة كانت ثابتةً في شرع عيسى - عليه السلام - ثم إن الله تعالى أوجب الصيام علينا، ولم ينقل زوال تلك الحرمة، فكان يخطر ببالهم أنَّ تلك الحرمة باقيةُ علينا، لأنَّه لم يوجد في شرعنا ما دلَّ على زوالها، وممَّا يزيد هذا الوهم قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} وكان مما كتب على لاذين من قبلنا هذه الحرمة؛ فلهذا كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا، فشدَّدوا وأمسكوا عن هذه الأمور، فقال تبارك وتعالى: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} فيكون المراد من الآية الكريمة أنه لو لم أُبَيِّنْ لكم إحلال الأكل والشُّرب والمباشرة طوال اللِّيل، لكنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذَّاتها ومصلحتهاح بالإمساك عن ذلك بعد النَّوم؛ كسُنَّة النصارى، وأصل الخيانة: النَّقصُ.
وعن الرابع: أن التوبة من العبد: الرُّجُوع إلى الله تعالى بالعبادة، ومن الله سبحانه: الرُّجُوع إلى العبد بالرحمة والإحسان، وأما العفو فهو التجاوز، فبيَّن الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما كان ثقيلاً على من قبلنا، والعفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف؛ قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «فِي أَوَّلِ الوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ»
والمراد منه التخفيف بتأخير الصَّلاة إلى آخر الوقت؛ ويقال أتاني هذا المال عفواً، أي: سهلاً.
وعن الخامس: بأنَّهم كانوا بسبب تلك الشُّبهة ممتنعين عن المباشرة، فبيَّن الله(3/306)
تعالى ذلك، وأزال الشُّبهة بقوله: «: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» .
وعن السادس: بأنَّ في الآية الكريمة ما يدلُّ على ضعف هذه الرِّواية؛ لأن الرواية أنَّ القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك خلاف قوله تعالى: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ؛ لأنَّ ظاهره المباشرة، لأنَّه افتعالٌ من الخيانة.
وقوله: «كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ» في محلِّ رفعٍ خبرٌ ل «أَنَّ» . و «تَخْتَانُونَ» في محلِّ نصبٍ خبرٌ ل «كَانَ» .
قال أبو البقاء: و «كُنْتُمْ» هنا لفظها لفظ الماضي، ومعناها أيضاً، والمعنى: أنَّ الاخْتِيَانَ كان يقع منهم، فتاب عليهم منه، وقيل: إنَّهُ أرَاد الاختيان في الاستقبال، وذكر «كَانَ» ليحكي بها الحال؛ كما تقول: إن فعلت، كنت ظالماً «وفي هذا نظرٌ لا يخفى.
و» تَخْتَانُونَ «تَفْتَعِلُونَ من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ؛ لقولهم: خَانَ يَخُونُ، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خَانَ يَخُونُ خَوْناً، وخِيَانَةَ، وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشَّيْءَ تَنَقَّصْتُهُ؛ قال زُهَيْر في ذلك البيت: [الوافر]
956 - بِآرِزَةِ الفَقَارَةِ لَمْ يَخُنْهَا ... قِطَافٌ في الرِّكَابِ وَلاَ خِلاَءُ
وخَانَ السَّيفُ إذا نَبَا عن الضَّرْبَةِ، وخَانَهُ الدَّهْرُ، إذا تغيَّر حاله إلى الشَّرِّ، وخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ، ونَاقِضُ العَهْدِ خائِنٌ، إذا لم يف، ومنه قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] والمدين خائنٌ؛ لأنَّه لم يف بما يليقُ بدينه؛ ومنه قوله تعالى: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] وقال تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} [الأنفال: 71] فسُمِّيت المعصية بالخيانة.
وقال الزمخشريُّ:» والخْتِيَانُ: من الخيانة؛ كالاكْتِسَاب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة «؛ يعني من حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى، كما قدَمَهُ في قوله تعالى: {الرحمن الرَّحِيمِ} وقيل هنا: تختانُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي: تتعهَّدُونها بإتيان النِّسَاء، وهذا يكون بمعنى التَّخْويل، يقال: تَخَوَّنَهُ وتَخَوَّلَهُ بالنون واللامِ، بمعنى تَعَهَّدَهُ، إلا أنَّ النون بدلٌ من اللاَّم؛ لأنه باللام أِهر.
و» عَلِمَ «إن كانت المتعدية لواحدٍ، تَكُونُ بمعنى عَرَفَ، فتكونُ» أَنَّ «وما في حيِّزها سادَّةً مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ، وإن كطانت المتعدية لاثنين، كانت سادةً مَسَدَّ المفعولين على رأي سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومَسَدَّ أحدهما، والآخر محذوفٌ على مذهب الأخفش.(3/307)
وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} لا محلَّ له من الإعراب؛ لأنه بيانٌ للإحلال، فهو استئنافٌ وتفسيرٌ.
يعني إذا حصلت بينكم وبينهنَّ مثل هذه المخالطة والملابسة، قلَّ صبركم عنهنَّ، وضعف عليكم اجتنابهنَّح فلذلك رخَّص لكم في مباشرتهنَّ.
وقدَّم قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} على {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} ؛ تنبيهاً على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها؛ ولأنَّه هوالبادىءُ بطلب ذلك، وكنى باللباس عن شِدَّةِ المخالطة؛ كقوله - هو النابغة الجَعْدِيُّ -: [المتقارب]
957 - إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاساَ
وفيها أيضاً: [المتقارب]
958 - لَبِسْتُ أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ ... وَأَفْنَيْتُ بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا
قال القرطبيُّ: وشُدِّدتُ النُّون من «هُنَّ» لأنها بمنزلة الميم والواو ف المذكَّر.
وورد لفظ «اللِّبَاسِ» على أربعة أوجهٍ:
الأول: بمعنى السَّكَن؛ كهذه الآية.
الثاني: الخلط؛ قال تبارك وتعالى: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] ، أي: لم يخلطوا.
الثالثك العمل الصالح؛ قال تعالى: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى} [الأعراف: 26] ، أي: عمل التقوى.
الرابع: اللِّباس بعينه؛ قال تعالى: {يا بني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً} [الأعراف: 26] .
فصل في وجوه تشبيه الزوجين باللِّباس
في تشبه الزَّوجين باللِّباس وجوه:
أحدها: أنه لمَّا انضمَّ جسد كلِّ واحدٍ منهما إلى الآخر؛ كالثَّوب الذي لبس، سُمِّي كلُّ واحدٍ منهما لباساً.
قال الرَّبيعُ: هُنَّ فراشٌ لكم، وأَنْتُمْ لِحَافٌ لهُنَّ.(3/308)
وقال ابن زَيْدٍ: إنَّ كلَّ واحِدٍ منها يَسْتُرُ صاحبَهُ عند الجماع عن أبْصَارِ النَّاسِ.
وقال أبو عُبَيْدَةَ وغيره: يقال للمَرْأةِ: هِيَ لِبَاسُكَ وَفِرَاشُكَ وَإِزَارُكَ، وقيل: اللِّبَاسُ اسمٌ لما يُواري الشَّيء، فيجوز أن يَكُونَ كُلُّ واحد منهما سِتْراً لصاحبه عمَّا لا يَحِلُّ؛ كما ورد في الحديث: «مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ سَتَرَ ثُلُثَيْ دِينِهِ» .
الثاني: أن كلَّ واحدٍ منهما يخصُّ نفسه بالآخر؛ كما يخصُّ لباسه بنصيبه.
قال الوَاحِديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما وحَّد «اللِّباس» بعد قوله تعالى: «هُنَّ» ؛ لأنه يجري مجرى المصدر، و «فِعَالٌ» من مصادر «فَاعَلَ» ، وتأويله: وهُنَّ ملابساتٌ لكم.
فصل في معنى «تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ»
قال القرطبيُّ: معنى {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: يستأمر بعضكم بعضاً في مواقعه المحظور من الجماع والأكل بعد النَّوم في ليالي الصَّوم؛ كقوله تعالى: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] أي: يقتل بعضكم بعضاً، ويحتمل أن يريد به كلَّ واحد منهم في نفسه؛ بأنه يخونها وسمَّاه خائناً لنفسه من حث كان ضرره عائداً عليه؛ كما تقدَّم.
فصل
قال ابن الخطيب: إنَّه تعالى ذكر هاهنا أنَّهم كانوا يختانون أنفسهم، ولم يبيِّن تلك الخيانة فيماذا، فلا بُدَّ من حملها على شيءٍ له تعلُّق بما تقدَّم وما تأخَّر، والذي تقدَّم هو ذكر الجماع، والذي تأخَّر هو قوله تعالى: «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع وهاهنا قولان:
الأول: عَلَمَ اللَّه أنَّكم كنتم تستَتِرُون بالمَعْصيَة بالجَماع بَعْد العتمة، والأكْل بَعْد النَّوم، وترتكبون المحرَّم من ذلك وكلُّ من عصى الله، فقد خانَ نفسه؛ وعلى هذا القول: يجب أن يقطع بأنَّ ذلك وقع من بعضهم؛ فدلَّ على تحريم سابقٍ، لأنَّه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم للعادة والإخبار، وإذا صحَّ وقوعه من بعضهم، دلَّ على تحريم سابقٍ، ولأبي مسلم أن يقول: قد بيَّنَّا أنَّ الخيانة عبارةٌ عن عدم الوفاء بما يجب عليهم، فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بما هو أحقُّ بطاعة الله، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو حقٌّ للنفس، وهذا أولى؛ لأنَّ الله تعالى لم يقُلْ: علمك [الله] أنَّكم كنْتُمْ تختانونَهُ [أنفُسكم] ، وإنما قال: تَخْتَانثونَ أنْفُسَكُمْ، وكان حمل اللفظ على ما ذكرنا، إن لم يكن أولى، فلا أقلَّ من التساوي، وبهذا التقدير: لا يثبت النَّسخ.(3/309)
القول الثاني: أنَّ المراد {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} لو دامت تلك الحرمة، فمعناه: أنَّ الله يعلم أنَّه لو دام ذلك التكليف الشَّاقُّ، لوقعوا في الخيانة، وعلى هذا التقدير: ما وقعت الخيانة، فيمكن أن يقال: التفسير الأوَّل أولى؛ لأنَّ لا حاجة فيه إلى اضمار الشَّرط، وأن يقالك بل الثاني أولى؛ لأنَّه على الأوَّل يصير إقدامهم على المعصية سبباً لنسخ التكليف، وعلى الثاني: علم الله أنه لو دام ذلك التكليف، لحصلت الخيانة، فنسخ التكليف رحمةً من الله على عباده، حتى لا يقعوا في الخيانة.
وأمَّا قوله تعالى «فَتَابَ عَلَيْكُمْ» فمعناه على قول أبي مُسلم: فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتَّوسعة عليكم، وعلى قول مثبتي النَّسخ لا بُدَّ فيه من إضمار، تقديره: تبتم، فتاب عليكم، وقوله «وَعَفَا عَنْكُمْ» على قول أبي مسلم: أَوْسَعَ عَلَيْكُمْ بإباحة الأكل والشُّرب والمباشرة في طول اللَّيل، ولفظ «العَفْ» يستعمل في التوسعة والتخفيف؛ كما قدَّمناه، وعلى قول مثبتي النَّسخ، لا بد وأن يكون تقديره: عَفَا عَنْ ذُنُوبكُمْ، وهذا مما يقَوِّي قول أبي مسلم؛ لأن تفسيره لا يحتاج إلى إضمارٍ، وتفسيرُ مثبتي النَّسخ يحتاج إلى إضمارٍ وتفسيرٍ.
قوله: «فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» قد تقدَّم الكلام على «الآنَ» وفي وقوعه ظرفاً للأمر تأويلٌ، وذلك أنه للزمن الحاضر، والأمر مستقبلٌ أبداً، وتأويله ما قاله أبو البقاء؛ قال: «وَالآنَ: حقيقته الوقت الذي أنت فيه، وقد يقع على الماضي القريب منك، وعلى المستقبل القريب، تنزيلاً للقريب منزلة الحاضر، وهو المراد هنا، لأنَّ قوله:» فَالآنَ بَاشِرُوهِنَّ «، أي: فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكُمْ فيه الجماع من اللَّيلِ» ، وقيل: هذا كلامٌ محمولٌ على معناه، والتقدير: فالآن قد أبَحْنَا لَكُمْ مُبَاشَرَتَهُنَّ، ودَلَّ على هذا المحذوف لفظ الأمر، فالآن على حَقِيقَتِهِ. وسمِّي الوِقَاعُ مباشرةً، لتلاصق البَشَرَتَيْنِ فيه:
قال ابن العَرَبِيِّ: وهذا يدُلُّ على أنَّ سبب الآية جماعُ عمر، لا جوع قيس، لأنه لو كان السَّبب جوع قيسٍن لقال: «فَالآن كُلُوا» ابتداءً به؛ لأنه المهمُّ الذي نزلت الآية لأجله.
وقرأ ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «وَاتَّبِعُوا» من «الاتّباع» وتروى عن معاوية بن قرة والحسن البصريِّ، وفسَّروا {مَا كَتَبَ الله} بليلةِ القدر، أي اتَّبِعوا ثوابها، قال الزمخشريُّ: «وهو قريبٌ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ» .
وقرأ الأعمش «وَابْغُوا» .(3/310)
فصل
دلَّت الآية على أنَّ الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة، ومن قال بأنَّ مطلق الأمر للوجوب، قالوا: إنما تركنا الظَّاهر هنا للإجماع، وفي المباشرة قولان:
أحدهما - وهو قول الجمهور: أنَّها الجماع، سمِّي بهذا الاسم؛ لتلاصق البَشَرَتَيْنِ.
والثاني - قول الأصمِّ: أنه محمولٌ على المباشرات، ولم يقصره على الجماع، وهذا هو الأقرب إلى لفظ المباشرة، لأنها مشتقَّةٌ من تلاصق البَشَرَتَيْن، إلاَّ أنَّهم اتفقوا على أنَّ المراد بالمباشرة في هذه الآية الكريمة الجماع؛ لأنَّ السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم، وأمَّا اختلافهم في قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} فحمله بعضهم على كلِّ المباشرات؛ لأنَّ المعتكف، لمَّا مُنِعَ من الجماع، فلا بُدَّ وأن يمنع مما دونه.
فصل
في قوله تعالى: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} وجوهٌ:
أحدها: الولد، أي: لا تباشِرُوا لقضاءِ الشَّهوة وحدها؛ ولكن لابتغاء ما وضع له النِّكاح من التَّناسل.
قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلثوا؛ تَكْثُرُوا»
والثاني: أنَّه نهيٌّ عن العزل.(3/311)
الثالث: ابتغوا المحلَّ الذي كتبه الله لكم وحلَّله؛ ونظيره {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] .
الرابع: أنه للتأكيد، تقديره: الآن بَاشرُوهُنَّ وابْتغوا هذه المباشرة التي كتبها الله لكم بعد أن كانت محرَّمةً عليكم.
الخامس: قال أبو مُسْلَمٍ: فالآنَ باشرُوهُنَّ، وابتغوا هذه المباشرة التي ان كان الله كتبها لكم، وإن كنتم تظنونها محرَّمة عليكم.
السادس: أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات؛ بسبب الحيض والنِّفاس والعِدَّة والرِّدَّة؛ فقوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله} يعني: لا تباشِرُوهنَّ إلاَّ في الأوقاتِ المأذونِ لكم فيها.
السابع: «فَالآنَّ بَاشِرُوهُنَّ» إذن في المباشرة، وقوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله} [يعني: لا تبتغوا هذه المباشرة إلاَّ من الزَّوجة والمملوكة] بقوله: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] .
الثامن: قال معاذ بن جبلٍ، وابن عبَّاسٍ في رواية أبي الجوزاء: يعني اطلبوا ليلةَ القدر، وما كتب الله لكم من الثَّواب فيها إن وجدتُمُوها.
وقال ابن عبَّاس: ما كتب الله لنا هو القرآن.
قال الزَّجَّاج: أي: ابتغوا القرآ بما أبيح لكم فيه، وأمرتم به. وقيل: ابتغوا الرخصة والتوسعة.
قال قتادة: وقيل: ابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزَّوجات.
فصل في معاني «كَتَبَ»
في «كَتَبَ» وجوه:
أحدها: أنَّها هنا بمعنى جَعَل؛ كقوله
{كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] أي: جَعَل، وقوله تعالى: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [آل عمران: 53] ، وقوله سبحانه {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] .(3/312)
الثاني: معناه قضى الله لكم؛ كقوله عزَّ وجلَّ: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51] ، أي: قضاه.
الثالث: ما كتب الله في اللَّوح المحفوظ ممَّا هو كائنٌ.
الرابع: ما كتب الله في القرآن ما إباحة هذه الأفعال.
قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} الفائدةُ في ذكرهما: أنَّه لو اقتصر على قوله: «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشُّرْب، فذكرهما لتتمَّ الدلالةُ على إباحتهما وهذا جوابُ نازلةِ قيسٍ، والأول جواب نازلةِ عمر، وبدأ بجواب نازلَةِ عُمر لأنه المُهِمُّ.
قوله: «حَتَّى يَتَبَيَنَّ» «حَتَّى» هنا غايةٌ لقوله: {وَكُلُواْ واشربوا} بمعنى «إلى» ، ويقال: تَبَيَّنَ الشَّيْءُ، وَأَبَانَ، واسْتَبَانَ، وَبَانَ كُلُّه بمعنّى، وكلُّها تكون متعديةً ولازمةً، إلاَّ «بَانَ» فلازمٌ ليس إلاَّ، و «مِنَ الخَيْطِ» لابتداء الغاية، وهي ومجرورها في محلِّ نصبٍ ب «يَتَبَيَّنَ» ؛ لأنَّ المعنى: حتى يُبَايِنَ الخَيْطُ الأبيضُ الأسود.
و {مِنَ الفجر} يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون تبعيضيةً؛ فتتعلَّق أيضاً ب «يَتَبيَّنَ» ؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ هو بعضُ الفجر وأوله، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ؛ لاختلاف معناهما.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنها حال من الضمير في الأبيض، أي: الخيط الذي هو أبيض كائناً من الفجر، وعلى هذا يجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس؛ كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الَّذي هو الفجرُ.
والثالثك أن يكون تمييزاً، وهو ليس بشيء، وإنما بَيَّن قوله {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} بقوله: {مِنَ الفجر} ولم يُبَيِّنِ الخيطَ الأسود؛ فيقول: مِنَ اللَّيْلِ؛ اكتفاءً بذلك، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاكَ؛ لأنَّه هو المَنُوطُ به الأحكام المذكورة في المباشرة والأكْلِ والشُّرْبِ.
وهذا من أحسن التَّشْبيهات، حيث شبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ، حتى إنه لما ذكر عَدِيُّ بن حاتم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه فهم من الآية الكريمة حقيقة الخيط، تعجَّب منه، وقال: «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ» ويُروى: «إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا»
وقد رُوِيَ أنَّ بعض الصحابة فَعَلَ كَفِعْلِ عَدِيٍّ، ويروى أن بين قوله {الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} وبين قوله: {مِنَ الفجر} عاماً كاملاً في النزول.
روي عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ، قال: أُنْزِلَتْ {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} ولم ينزل قوله: {مِنَ الفجر} وكان رجالٌ إذا أرادوا الصَّوم، ربط أحدهم في رجليه الخَيْطَ الأبْيَض، والخَيْط الأَسْود، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى {مِنَ الفجر} ، فعلموا أنَّه إنما عني اللَّيل والنَّهار، وسُمِّي الفجر(3/313)
خَيطاً؛ لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدّاً؛ كالخيط.
قال الشَّاعر: [البسيط]
959 - أَلْخَيْطُ الأَبْيَضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ ... وَالخَيْطُ الأسْوَدُ جُنَحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ
والخَيطُ في كلامهم عبارةٌ عن اللون، قاله القرطبيُّ، وأنشد لأبي دؤاد الإياديِّ في ذلك فقال: [المتقارب]
960 - فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ سُدْفَةٌ ... وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
وقد تُسمِّيه العرب أيضاً الصَّديع، ومنه قولهم: انْصَدَعَ الفجْرُ؛ قال بِشْرُ بْنْ أبي خازمٍ، أو عَمْرُوا بن مَعْدِيكرِبَ: [الوافر]
961 - تَرَى السِّرْحَانَ مُفْتَرِشاً ... يَدَيْهِ كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ
وهذا النوع من باب التشبيه لا من الاستعارة؛ لأنَّ الاستعارة هي أن يُطْوَى فيها ذكر المشبَّه، وهنا قد ذكر وهو قوله: {مِنَ الفجر} ، ونظيره قولك: «رَأَيْتُ أَسَداً مِنْ زَيْد» ، لو لم تَذْكُر: «مِنْ زَيْدٍ» لكان استعارةٌ، ولكنَّ التشبيه هنا أبلغُ؛ لأنَّ الاستعارة لا بُدَّ فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلَ ذلك على الحقيقة مدةً، حتَّى نزل «مِنَ الفَجْرِ» فتركت الاستعارة، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا.
فإن قيل: إنَّ بياضَ الصُّبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذبُ؛ لأنَّ مستطيلٌ كشبه الخيط، وأما الصُّبْحُ الصادق، فهو بياضٌ مستديرٌ مستطيلٌ في الأفق، فلزم على مقتضى الآية كون أوَّل النهار من طلوع الصُّبحِ الكاذب، وليس كذلك بالإجماع.
فالجواب: أنَّ قوله {مِنَ الفجر} بيَّن أن المراد به الصُّبح الصادق، لا يكون منتشراً، بل يكون صغيراً دقيقاً، فالصادق أيضاً يبدو دقيقاً، ويرفع مستطيلاً. والفجر مصرد قولك فَجَرْتُ المَاءَ أَفْجُرُه فَجْراً وفجَّرْتُهُ تَفْجِيراً، قال الأزهريُّ: الفَجْرُ أصله الشَّقُّ، فعلى هذا هو انشقاقُ ظُلْمَة اللَّيل بنُورِ الصُّبح.
فصل
زعم أبو مسلم الأصفهاني: أنه لا شيء من المفطِّرات إلاَّ أحد هذه الثَّلاث، وما ذكره الفقهاء من تكلُّف القيءِ والحقنة والسَّعوط، فلا يفطر شيءٌ منها.
قال: لأنَّ كلَّ هذه الأشياء كانت مباحةً ثم دلَّت هذه الآية الكريمة على حرمة هذه الثلاثة على الصَّائم بعد الفجر، وبقي ما سواها عل الإباحة الأصليَّة، والفقهاء قالوا: خصوا هؤلاء بالذِّكْر؛ لأنَّ النَّفس تميل إليها.(3/314)
فصل في صوم الجنب
مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح؛ أنَّ الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال، لم يكن له صوم، وهذه الآية تبطل قولهم؛ لأنَّ المباشرة، إذا أبيحت إلى انفجار الصُّبح، لم يمكنه الاغتسال إلاَّ بعد الصُّبح.
ويؤيِّده ما ورد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أنه كان يدركه الفجر، وهو جنبٌ من أهله، ثم يغتسل ويصوم، والله أعلم.
فصل
زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشُّرب والجماع بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس؛ قياساً لأوَّل النهار على آخره؛ فكما أن آخره بغروب الشَّمس، وجب أن يكون أوله بطلوع الشَّمس، قال: إن المراد بالخيط الأبيض، والخيط الأسود في الآية الكريمة هو اللَّيلُ والنَّهار، قال: ووجْه التشبيه ليس إلاَّ في البياض والسَّوَاد؛ لأن ظلمة الأفق حال طلوع(3/315)
الصُّبح لا يمكن تشبيهها الأسود في الشَّكل ألبتة؛ فثبت أنَّ المراد بالخيط الأسود في الآية هو اللَّيل والنهار.
ثم لو بحثنا عن حقيقة اللَّيل في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} لوجدناها عبارةً عن زمن غيبة الشَّمس؛ بدليل أنَّ الله تعالى سمَّاها بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضَّوء فيه؛ فثبت أنه يكون الأمر في الطَّرف الأوَّل من النهار كذلك؛ فيكون قبل طلوع الشمس أيضاً ليلاً، وألا يوجد النَّهار إلاَّ عند طلوع الشمس، وإلاَّ يلزم أن يكون آخر النَّهار على زعمهم غياب الشَّفق الأحمر؛ لأنَّه آخر آثر الشمس؛ كما أن طلوع الفجر هو أوَّل طلوع آثار الشَّمس، وإذا بطل هذا، بَطَل ذاك، ومن النَّاس من قال: آخر النهار غيابُ الشَّفَق، ولا يجوز الإفطار إلاَّ عند طلوع الكواكب، وكلُّها مذاهب باطلةٌ.
قوله «إلى اللَّيلِ» في هذا الجارِّ وجهان:
أحدهما: أنه متعلِّق بالإتما، فهو غايةٌ له.
والثاني: أنه في محلِّ نصب على الحال من الصيام، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً إلى اللَّيل، و «إلَى» إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها، لم يدخل فيه، والآية من هذا القبيل.
فصل في اختلافهم في ماهيَّة اللِّيل
اختلفوا في اللِّيل ما هو؟ فمنهم: من قاس آخر النهار على أوله، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشَّمس؛ كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور النهار بظهور آثار الشَّمس.
ثم هؤلاء منهم من اكتفى بزوال الحمرة، ومنهم من اعتبر ظهور الظَّلام التَّامْ وظهور الكواكب والحديث يبطل كلَّ ذلك، وهو قوله - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام -: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» وهذا الحديث مع الآية يدلُّ على المنع من الوصال.
فصل
الحنفيَّة تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة في أنَّ صوم النَّفل يجب إتمامه بقوله تعالى(3/316)
{أَتِمُّواْ الصِّيَامَ} والأمر للوجوب فيتناول كُلَّ صيام.
وأجيبوا بأنَّ هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض؛ بدليل أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال: «الصائم المتطوِّع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر»
وعن أمِّ هانىء: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابِ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا، فَشَرِبَتْ، فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أن أرُدَّ سُؤْرَكَ، فقال: «إنْ كَانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ، فاقْضي مَكَانَهَُ، وإنْ كَانَ تَطَوُّعاً، فإن شِئْتِ فاقْضي، وإنْ شِئْتِ فَلاَ تَقْضِي»(3/317)
قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} جملةٌ حاليةٌ من فاعل «تُبَاشِرُوهُنَّ» ، والمعنى: «لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ» ، وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد، وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً.
والعُكُوفُ: الإقامة والملازمة له وهو في الشَّرع: لزوم المَسْجِد لطَاعَةِ الله تعالى فيه، يقال: عَكَفَ بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر، وقد قرئ: {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ} [الأعراف: 138] بالوجهين، وقال الفَرَزْدَقُ: [الطويل]
962 - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كَأَنَّهُمْ ... عَلَى صَنَمٍ في الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ
وقال الطِّرمَّاحُ: [الطويل]
963 - فَبَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفاً ... عُكُوفُ البَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ
ويقال: الافتعال منه في الخير، والانفعال في الشَّرِّ، وأمَّا الاعتكاف في الشرع. فهو إقامة مخصوصةٌ بشرائط، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة، وقرأ قتادة: «عَكِفُونَ» كأنه يقال: عَاكِفٌ وعَكِفٌ؛ نحو: «بَارٌّ وَبَرٌّ ورَابٌّ(3/318)
وَرَبٌّ» ، وقرأ الأعمش: «في المَسْجِدِ» بالإفراد؛ كأنه يريد الجنس.
فصل
لما بين حكم تحريم المباشرة في الصيام، كان يجوز أن يظن بأنَّ الاعتكاف حاله كحال الصَّوم في أنَّ الجماع يحرم فيه نهاراً أو ليلاً.
فصل
لو لمس المعتكف المرأة بغير شهوة، جاز؛ لحديث عائشة، وإن لمسها بشهوة، أو قبَّلها أو باشرها فيما دون الفرج، فهو حرام، وهل يبطل به اعتكافه؛ فيه خلافٌ.
فصل
اتفقوا على أنَّ شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد، ثم اختلفوا، فنقل عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه قال: لا يجوز إلاَّ في المسجد الحرام ومسجد المدينة.
قال حُذَيْفَةُ: يجوز في هذين المسجدين، وفي مسجد بيت المقدس؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ»
وقال الزُّهْرِيُّ: لا يصحُّ إلاَّ في الجامِعِ.
وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ إلاَّ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ، ومؤذِّن راتب.
وقال الشفعيُّ وأحمد: يصحُّ في جميع المساجد إلاَّ أن المسجد الجامع أفضل؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة، فإن اعتكف في مسجد غير الجامع، لاحتاج إلى الخروج إلى الجمعة، فيشهدها ويرجع مكانه، ويصحُّ اعتكافه؛ لأنه خرج إلى فرض، وهو من الشَّرائع القديمة.
فصل في الاعتكاف بدون الصوم
يجوز الاعتكاف بغير صومٍ، وبالصَّوم أفضل؛ وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا يجوز إلاَّ بالصَّوم.
واحتجَّ الأوَّلون: بأنَّ الاعتكاف لو أوجب الصَّوم، لما صحَّ في رمضان؛ لأنَّ(3/319)
الصَّوم الذي أوجبه الاعتكاف، إمَّا صومٌ آخر غير صوم رمضان، وهو باطلٌ؛ لأن رمضان لا يصحُّ فيه غيره، وأيضاً ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: يا رسول الله، إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أن أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فَقَالَ - عليه الصَّلاَة والسَّلام -: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» والصَّوم لا يجوز في اللَّيل.
فصل
روى مسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد أن يعتكف صلَّى الفجر ثم دخل معتكفه.
وقال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إذا نذر اعتكاف شهرٍ دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم.
فصل في أقل مدة الاعتكاف
لا تقدير لزمان الاعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة، انعقد، ولو نذر الاعتكاف مطلقاً، لخرج من نذره باعتكاف ساعة؛ كما لو نذر أن يتصدَّق مطلقاً، فإنه يتصدق بما شاء من قليلٍ أو كثيرٍ، والأفضل أن يعتكف يوماً للخروج من الخلاف، فإنَّ أبا حنيفة لا يجوِّز اعتكاف أقلَّ من يومٍ، بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر، ويخرج بعد غروب الشمس.
فصل
قال القرطبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: إذا أتى المعتكف كبيرةً، بطل اعتكافه؛ لأنَّ الكبيرة ضدَّ العبادة، كما أنَّ الحدث ضدَّ الطهارة والصَّلاة.
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإشارة أخبر عنه بجمع، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف، لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنته آية الصيام من أوَّلها إلى هنا، وآية الصيام قد تضمَّنت عدة أوامر، والأمر بالشَّيءِ نَهِيٌّ عن(3/320)
ضدِّه، فبهذا الاعتبار كانت عدَّة مناهٍ، ثم جاء آخرها صريح النهي، وهو: «وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ» فأطلق على الكل «حُدُوداً» ؛ تغليباً للمنطوق به، واعتباراً بتلك المناهي الَّتي تضمَّنتها الأوامر، فقيل فيها حدودٌ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ المأمور به لا يقال فيه «فَلاَ تَقْرَبُوهَا» .
وقال أبو مسلم الأصفهانيُّ: «لاَ تَقْرَبُوهَا» أي: لاَ تَتَعَرَّضُوا لها بالتغيير؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] .
قال أبو البقاء: دُخُولُ الفاء هنا عاطفةٌ على شيء محذوفٍ، تقديره: «تَنَبَّهُوا فَلاَ تَقْرَبُوهَا» ، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدةً كالتي في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] على أحد القولين؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب «حُدُودُ اللَّهِ» على الاشتغال؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهيٍ، نحو: «زَيْداً فَاضْرِبْهُ، وعَمْراً فَلاَ تُهنْهُ» فلمَّا أجمعت القرَّاء هنا على الرفع، علمنا أنَّ هذه الجملة التي هي «فَلاَ تَقْرَبُوهَا» منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.
والحُدُودُ: جمع حدٍّ، وهو المنع، ومنه قيل للبوَّابِ: حدَّاد، لأنَّه يمنع من العبور قال اللَّيثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وحَدُّ الشَيْءِ منتهاه ومنقطعه، ولهذا يقال: الحَدُّ مانعٌ جامِعٌ، أي: يمنع غير المحدودِ الدُّخُول في المَحْدُودِ.
وقال الأزهريُّ ومنه يقال للمحروم، محدودٌ؛ لأنَّه ممنوعٌ عن ارِّزق، وحدود الله ما يمنع مخالفتها، وسمِّي الحديد حديداً؛ لما فيه من المنع، وكذلك: إحداد المرأة؛ لأنَّها تمتنع من الزينة.
والنَّهيُّ عن القُرْبَانِ أَبْلَغُ من النَّهْيِ عن الالتباس بالشيء؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة.
وقال هنا: «فَلاَ تَقْرَبُوهَا» وفي مواضع أُخر: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] ومثله {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} [البقرة: 229] {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} [النساء: 14] لأنه غلَّب هنا جهة النهي؛ إذ هو المعقَّب بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} وما كان منهيّاً عن فعله، كان النهيُّ عن قُرْبِانِهِ أبلغ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ، فجاء «فَلاَ تَعْتَدُوهَا» عَقِيبَ بيان أحكام ذُكِرَتْ قبلُ؛ كالطلاق، والعدَّة، والإيلاء، والحيض، والمواريث؛ فناسب أن ينهى عن التعدِّي فيها، وهو مجاوزة الحدِّ الذي حدَّه الله تعالى فيها.
قال السُّدِّيُّ: المراد بحدود الله شروط الله وقال شَهْرُ بن حَوْشَبٍ: فرائضُ الله.(3/321)
قوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ: أي: بياناً مثل هذا البيان.
فإنَّه لما بيَّن أحكام الصَّوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً شافياً وافياً - قال بعده: {كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} أي مثل هذا البيان الوافي الواضح.
أو حالاً من المصدر المحذوف؛ كما هو مذهب سيبويه.
قال أبو مُسْلِم: أراد بالآيات الفرائض الَّتي بيَّنها؛ كما قال سبحانه {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 1] ثم فسَّر الآيات بقوله: {الزانية والزاني} [النور: 2] إلى سائر ما بيَّنه من أحكام الزِّنا، فكأنه تعالى قال: كذلك يبيِّن اللَّهُ آياتِهِ للنَّاس ما شَرَعَه لَهُمْح ليتَّقُوه، فَيَنْجُوا مِنْ عَذَاب الله.(3/322)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
قوله: {بَيْنَكُ} : في هذا الظرف وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب «تَأْكُلُوا» بمعنى: لا تَتَنَاقَلُوهَا فيما بينكم بالأكل.
والثاني: أنه متعلِّق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من «أمْوَالِكُمْ» أي: لا تأْكُلُوهَا كائنةً بينكم، وقدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم، أو دائرةً بينكم؛ وهو في المعنى كقوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] ، وفي تقدير «دَائِرَةً» - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نظرٌ، إلاَّ أن يقال: دلَّت الحال عليه.
قوله: «بالبَاطِلِ» فيه وجهان:
أحدهما: تعلُّقه بالفعل، أي: لا تأخذوها بالسبب الباطل.
الثاني: أن يكون حالاً؛ فيتعلَّق بمحذوفٍ، ولكن في صاحبها احتمالان.
وأحدهما: أه المال؛ كأنَّ المعنى: لا تَأْكُلُوهَا ملتبسَةً بالباطِل.
والثاني: أن يكون الضمير في «تَأْكُلُوا» كأنَّ المعنى: لا تَأْكُلُوها مُبْطِلِينَ، أي: مُلْتَبِسينَ بالبَاطِلِ.
فصل في سبب نزول الآية
قيل: نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي، ادعي عليه ربيعة بن عَبْدَان الحَضْرَميُّ عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرضاً، فقال: إنه غلبني عليها، فقال النَّبيُّ - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - للحضرميِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ» ؟ قال: لا؛ قال: «فَلَكَ يَمِينُهُ» فانطلق(3/322)
ليحلف، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَمَا إنْ يَحْلِفْ عَلَى مَالِهِ، ليَأْكُلَهُ ظُلْماً، ليَلْقَيَنَّ اللَّهَ، وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» فأنزل الله {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، أي: من غير الوجه الذي أباحه الله، و «البَاطِلُ» في اللغة الذَّاهِبُ الزائل، يقال: بَطَل الشَّيْءُ بُطُولاً وبُطْلاناً، فهو باطلٌ، وجمع الباطل: بَوَاطِلُ، وأَبَاطِيلُ جمع أُبْطُولَة، يقال: بَطَل الأجير يَبْطُل بطالةً، إذا تعطَّل، وتَبَطَّل: اتَّبع اللَّهو، وأبْطَلَ فلانٌ، إذا جاء بالبَاطِل، وقوله تعالى: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن} [فصلت: 42] قال قتادة: هو إبليسُ؛ لا يزيد في القرآن، ولا ينقص، وقوله عزَّ وجلَّ {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] يعني: الشِّرك، والبَطَلَةُ، والبَطَلَةُ: السَّحَرةُ.
قوله: «لاَ تَأْكُلُوا» ليس المراد منه الأكل خاصَّة؛ لأنَّ غير الأكل من التصرّفات؛ كالأكل في هذا الباب، لكنَّه لمَّا كان المقصود الأعظم من المال، إنَّما هو الأكل، وصار العرف فيمن أنفق ماله، أن يقالك أكله؛ فلهذا عبَّر عنه بالأكل.
فصل فيما يحل ويحرم من الأموال
قال الغزاليُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - في كتاب «الإحياء» : المال إنَّما يحرم إما لمعنًى في عينه، أو لخللٍ في جهة اكتسابه.
فالقسم الأول: الحرام لمعنىً في عينه.
اعلم أنَ الأموال: إمَّا أن تكون من المعادن، أو من النبات، أو من الحيوانات.
أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيءٌ منها، إلاَّ من حيث يضر بالأكل وبعضها ما يجري مجرى السَّمِّ.
وأما النباتُ: فلا يحرم منه إلاَّ ما يزيل الحياة، أو الصِّحَّة، أو العقل.
فمزيل الحياة: كالسُّموم، ومزيل الصِّحَّة: الأدوية في غير وقتها، ومزيل العقل: الخمر، والبنج، وسائر المسكرات.
وأما الحيوانات: فتقسم إلى ما يؤكل، وإلى ما لا يؤكل.
وما يؤكل: إنَّما يحلُّ، إذا ذكِّي ذكاته الشَّرعيَّة، ثم إذا ذُكِّيت، فلا تحلُّ جميع أجزائها، بل يحرمُ منها الدَّم، والفَرْثُ.
القسم الثاني: ما يحرم لخللٍ في جهة إثبات اليد عليه، فنقول:
أخذ المال: إما أن يكون باختيار المالك أو بغير اختياره؛ كالإرث، والذي باخيتاره: إما أن يكون مأخوذاً بأمر مالكه، وإمَّا أن يكون قهراً، أو بالتَّراضي.(3/323)
والمأخوذ قهراً: إما أن يكون لسقوط عصمة المالك؛ كالغنائم، أو باستحقاق الأخذ؛ كزكاة الممتنعين، والنفقات الواجبة عليهم.
والمأخوذ تراضياً: إما أن يؤخذ بعوضٍن كالبيع، والصَّداق، والأُجرة، وإما أن يؤخذ بغير عوض؛ كالهبة، والوصيَّة.
فحصل من هذا التَّقسيم أقسامٌ ستةٌ:
الأول: ما يؤخذ من غير ملكٍ؛ كنيل المعادن، وإحياء الموات، والاصطياد، والاحتطاب، والاستقاء من الأنهار، والاحتشاش؛ فهذا حلالٌ، لا يكون المأخوذ مختصَّاً بذي حرمة من الآدميِّين.
الثانيك المأخوذ قهراً ممَّن لا حرمة له، وهو الفيءُن والغنيمة وسائر أموال الكُفَّار والمحاربين، فذلك حلالٌ للمسلمين، إذا أخرجوا منه الخمس، وقسّموه بين المستحقِّين بالعدل، ولم يأخذوه ممَّن كان له حرمةٌ بأمانٍ، أو عهدٍ.
الثالث: ما يؤخذ قهراً باستحقاق عند امتناع من هو عليه فيؤخذ دون عطائه؛ وذلك حلالٌ؛ إذا تَمَّ سبب الاستحقاق، وتَمَّ وصف المستحقِّ، واقتصر على قدر المستحقِّ.
الرابع: ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة، فهو حلالٌ، إذا روعِيَ شرط العوضين، وشرط العاقدين، وشرط اللَّفظين، أعني: الإيجاب والقبول عند من يشترطهما، مع ما قيَّد الشَّرع به من اجتناب الشُّروط المفسدة.
الخامس: ما يؤخذ بالرِّضَا من غير عوضٍ؛ كما في الهبة، والوصيَّة، والصَّدقة، إذا روعيَ شرط المعفود عليه، وشرط العاقدين، ولم يؤدِّ إلى ضرر.
السادس: ما يحصل بغير اختياره؛ كالميراث، وهو حلالٌ، إذا كان المورِّث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه الحلال، ثم كان ذلك بعد قضاء الدِّين، وتنفيذ الوصايا، وتعديل القسمة من الورثة، وإخراج الزَّكاة، والحجِّ والكفَّارة الواجبة، فهذه مجامع مداخل الحلال، وكُلُّ ما كان بخلاف ذلك كان حراماً.
إذا عرفت ذلك، فنقول: المال: إما أن يكون له، أو لغيره.
فإن كان لغيره: كان حرمته لأجل الوجوه السِّتَّة المذكورة، وإن كان له، فأكله بالحرام: إما بأن يصرفه في شرب الخمر، أو الزِّنا، أو اللِّواط، أو القمار، أو الشُّرب المحرَّم؛ وكلُّ هذه الأقسام داخلةٌ تحت قوله {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا} .
قوله: وَتُدْلُوا بِهَا «في» تُدْلُوا «ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبله؛ ويؤيِّدجه قراءة أُبيٍّ:» وَلاَ تُدْلُوا «بإعادة لا الناهية.(3/324)
والثاني: أنه منصوبٌ على الصَّرف، وقد تقدَّم معنى ذلك، وأنه مذهب الكوفِيِّين، وأنه لم يثبت بدليل.
والثالث: أنه منصوبٌ بإضمار «أنْ» في جواب النهي، وهذا مذهب الأخفش، وجوَّزه ابن عطيَّة والزَّمخشريُّ، ومَكِّيٌّ، وأبو البقاء، قال أبو حيَّان: «وأمَّا إعراب الأَخْفَشِ، وتجويزُ الزمخشريِّ ذلك هنا، فتلك مسألة:» لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ، وتَشْرَب اللَّبَنَ «قال النحويُّون: إذا نصب، كان الكلام نهياً عن الجمع بينهما، وهذا المعنى: لا يصحُّ في الآية لوجهين:
أحدهما: أنَّ النهي عن الجمع لا يستلزم النَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما على انفراده، والنَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما يستلزم النَّهي عن الجمع بينهما؛ لأن الجمع بينهما حصول كلِّ واحدٍ منهما، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً؛ إلا ترى أنَّ أكل المال بالباطل حرامٌ سواءٌ أفرد أم جمع مغ غيره من المحرَّمات؟
والثاني - وهو أقوى -: أنَّ قوله» لِتَأْكُلُوا «علَّةٌ لما قبلها، فلو كان النهيُ عن الجمع، لم تيصحَّ العلّةُ له؛ لأنَّه مركَّبٌ من شيئين، لا تصحُّ العلَّة أن تترتَّب على وجودهما، بل إنما تترتَّب على وجود أحدهما: وهو الإدلالء بالأموال إلى الحكام» .
والإدلاء مأخوذٌ من إدلاء الدَّلو، وهو إرساله إلى البئر؛ للاستقاء؛ يقال: «أدْلَى دَلْوَهُ» إذا أرسلها، ودَلاَهَا: إذا أخْرَجَها، ثم جُعِلَ كُلُّ إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه يقال للمحتجِّ أدْلَى بِحُجَّتِهِ، كأنه يرسلها، ليصل إلى مراده؛ كإدلاء المستقي الدلو؛ ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلانٌ يدلي إلى الميِّت بقرابة، أو رحم؛ إذا كان منتسباً، فيطلب الميراث بتلك النِّسبة.
و «بِهَا» متعلِّقٌ ب «تُدْلُوا» وفي الباء قولان:
أحدهما: أنها للتعدية، أي لترسلوا بها إلى الحكَّام.
والثاني: أنَّها للسبب؛ بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال؛ إمَّ لعدم بيِّنةٍ عليها، أو بكونها أمانةً؛ كمال الأيتام، والضمير في «بِهَا» : الظاهر أنه للأموال: وقيل: إنه لشهادة الزُّور؛ لدلالة السِّياق عليها، وليس بشيء.
و «مِنْ أَمْوَال» في محلّ نصبٍ صفةً ل «فَرِيقاً» أي: فريقاً كائناً من أمْوَالِ النَّاس.
قوله: «بالإِثْم» تحتمل هذه الباء: أن تكون للسَّبب، فتتعلَّق بقوله: «لِتَأْكُلُوا» وأن تكون للمصاحبة، فتكون حالاً من الفاعل في «لتَأْكُلُوا وتتعلق بمحذوفٍ أي: لِتَأْكُلُوا ملتبسين بالإثم.(3/325)
فصل في سبب تسمية الرشوة بالإدلاء
في تسمية الرَّشوة بالإدلاء وجهان:(3/326)
أحدهما: أن الرَّشوة تقرِّب البعيد من الحاجة؛ كما أنَّ الدَّلو المملوء يصل من(3/327)
البعيد إلى القريب بواسطة الرِّشاء، فالمقصود البعيد يصير قريباً، بسبب الرَّشوة.
والثاني: أن الحاكم بسبب أخذ الرّشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبُّت؛ كمضيِّ الدَّلو في الرِّشاء، ثم المفسِّرون ذكروا وجوهاً؟
أحدها: قال ابن عبَّاس، والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وقتادة: المراد منه الودائعُ، وما لا يقوم عليه البيِّنة.
وثانيها: أن المراد هو مال اليتيم في يد الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم، ليبقى لهم بعضه.
وثالثها: قال الكلبيُّ: المراد بالإدلاء إلى الحكَّام: هو شهادة الزُّور
ورابعها: قال الحسن: هو أن يحلف؛ ليذهب حقَّه؛ كما تقدَّم في سبب النُّزول.
وخامسها: وهو أن يدفع إلى الحاكم رشوة، وهذا أقرب إلى الظاهر، ولا يبعد حمل اللفظ على الكُلِّ؛ لأنها بأسرها أكلٌ للمال بالباطل.(3/328)
وقوله «فَريقاً» أي: طائفةً من أموال النَّاس، والمراد «بالإثْمِ» الظلمُ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عهنما - «الإثْمُ» هنا هو اليمين الكاذبة
فصل في الفسق بأخذ ما يطلق عليه اسم مال
قال الرقطبيُّ: اتَّفق أهل السُّنَّة على أنَّ من أخذ ما وقع عليه اسم مالٍ، قلَّ أو كثر، فإنَّه يفسَّق بذلك، وأنه يحرم عليه أخذه؛ خلافاً لبشر من المعتمر، ومن تابعه من المعتزلة؛ حيث قالوا: إنَّ المكلَّف لا يفسَّق إلاَّ بأخذ مائتي درهمٍ، ولا يفسَّق بدون ذلك. وقال ابن الجُبَّائيِّ: لا يفسَّق إلاَّ بأخذ عشرة دراهم، ولا يفسَّق بما دونهم.
وقال أبو الهُذَيْلِ: يفسَّق بأخذ خمسة دراهم، فما فوقه، ولا يفسَّق بما دونها، وهذا كلّه مردودٌ بالقرآن، اولسُّنَّة، وباتفاق علماء الأمَّة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إنَّ دمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»
وقوله تعالى: «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «لِتَأْكُلُوا» وذلك على رأي من يجيز تعدُّد الحال، وأمَّا من لا يجيز ذلك، فيجعل «بالإثْمِ» غير حالٍ.
والمعنى: وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّكُمْ مُبْطِلُون، ولا شكَّ أن الإقدامَ على القبيح، مع العلم بقبحه أقبح، وصاحبه بالتَّوبيخ أحقُّ، وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: اختصَمَ رَجُلاَن إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، عالمٌ بالخُصُومة، وجاهلٌ بها، فقضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للعالم، فقال مَنْ قَضِيَ عليه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، والَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، إنِّي مُحِقٌّ بحَقٍّ فقال: إن شِئْتَ أُعَاوِدُهُ، فَعَاوَدَهُ، فَقَضَى لِلعَالِم، فقال المَقْضِيُّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلاً، ثُمَ عَاوَدَهُ ثَالِثاً، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئ مُسْلِم بخصومته، فإنَّما اقتطع قطعةً من النَّارِ» فقال العالمُ المقضِيُّ له: يا رَسُولَ الله، إنَّ الحقَّ حقُّه، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنِ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وجَدَلِهِ حَقَّ غَيْرِهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»(3/329)
وعن أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشرَّف، وكرَّم، وبجَّل، ومجَّد، وعظَّم: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْو مَا أَسْمَع مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلاَ يَأْخُذَنَّهُ؛ فإنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»(3/330)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
نقل عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالاً مِنْ أُمَّةِ محمَّدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً وأبداً - سأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعةَ عَشَرَ حَرْفاً، فَأْجِيبُوا.
قال ابن الخَطِيبِ: ثمانيةٌ منها في سورة البقرة أولُها: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] . وثانيها: هذه الآية، ثم الباقية بعد في سورة البقرة. فالمجموع ثمانية في هذه السُّورة، والتَّاسع: في المائدة، قوله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] والعاشر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال: 1] والحادي عشر: في بني إسرائيل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} [الإسراء: 85] والثاني عشر في الكهف {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} [الكهف: 83] والثالث عشر في طه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105] والرابع عشر في النَّازعات {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة} [النازعات: 42] .
ولهذه الأسئلة ترتيبٌ عجيبٌ: آيتان:
الأول: منها في شرح المبدأ، وهو قول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وهذا سؤالٌ عن الذَّاتِ.
والثاني: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} وهذا سؤالٌ عن حقيقة الخلاَّقيَّة، والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه.
والآيتان الأخيرتان في شرح المعاد، وهو قوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105] و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة} [النازعات: 42] .(3/330)
ونظير هذا أنَّه ورد في القرآن الكريم سورتان: أوّلهما «يَا أَيَهَا النَّاسُ» فالأولى: هي السُّورة الرابعة من النِّصْف الأوَّل؛ فإن الأولى هي «الفَاتِحَةُ» ثم «البَقَرَةُ» ثم «آلُ عِمْرَانَ» ثم «النِّسَاءُ» وهي مشتملةٌ على شرح المبدأ {اأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] والسُّورة الثَّانية: هي الرابعة أيضاً من النِّصف الثاني: فإن أوله «مَرْيَم» ثم «طَه» ثم «الأَنْبيَاء» ثم «الحَجُّ» وهذه مشتملةٌ على شرح الميعاد {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفيَّةٌ، وحِكَمٌ مطويَّة [لا يَعْرِفُها إلاَّ الخواصُّ مِن عَبِيدِه] .
فصل في اختلافهم في السائل عن الأهلَّة
روي عن معاذ بن جبلٍ، وثعلبة بن غنمٍ الأنصاريين قالا: يا رسول الله، ما بالُ الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيطِ، ثُمَّ يزيد؛ حتَّى يمتلىءَ ويَسْتَوِي، ثُمَّ لا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ، لاَ يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ كالشَّمْسِ، فَنَزِلَتْ هذه الآية.
وروي أنَّ معاذ بن جبلٍ قال: إنَّ اليَهُودَ سَأَلُوهُ عَنِ الأهَلَّةِ.
واعلم أنَّ قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} ليْسَ فيه بيان أنَّهم عن أيِّ شيءٍ سأَلُوا، إلاَّ أنَّ الجواب كالدَّالِّ على موضع السُّؤال؛ لأنَّه قوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} يدلُّ على أنَّ سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغيُّر حال الأهلَّة في الزيادة والنُّقصان.
قوله تعالى: {عَنِ الأهلة} : متعلِّقٌ بالسؤال قبله، يقال: «سَأَلَ بِهِ وَعَنْهُ» بمعنّى، والضمير في «يَسْأَلُونَكَ» ضمير جماعة.
فإن كانت القصَّة كما روي عن معاذٍ: أنَّ اليهودَ سألُوهُ، فلا كلام، وإن كانت القصَّة أنَّ السائل اثنان؛ كما روي أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنمٍ، سألوا، فيحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن أقلّ الجمع اثنان.
والثاني: من نسبة الشيء إلى جمعٍ، وإن لم يصدر إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين، وهو كثيرٌ في كلامهم.
فصل
قال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «هلال» يُجمع في أقلِّ العدد على «أَفْعِلَةٍ» نحو: مثالٍ(3/331)
وأَمْثِلَةٍ، وحِمَارِ وأَحْمِرَةٍ، وفي أكثر العدد يجمع على «فُعُلٍ» نحو حُمُرٍ، لأنهم كرهوا في التضعيف «فُعُلٍ» ، نحو هُلُل وخُلُل، فاتصروا على جمع أدنى العدد.
والجمهور على إظهار نون «عَنْ» قبل لام «الأَهِلَّة» وورشٌ على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وقرئ شاذَاً: «عَلَّ هِلَّةِ» ؛ وتوجيهها: أنه نقل حركة همزة «أَهِلَّة» إلى لام التَّعريف، وأدغم نون «عَنْ» في لام التعريف؛ لسقوط همزة الوصل في الدَّرج، وفي ذلك اعتدادٌ بحركة الهمزة المنقولة، وهي لغة من يقول: «لَحْمَرُ» من غير همزة وصلٍ.
وإنما جُمِعَ الهلالُ، وإن كان مفرداً؛ اعتباراً باختلاف أَزمانه؛ قالوا من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالً في آخر، والهل: هذا الكوكبُ المعروف.
واختلف اللُّغَوِيُّون: إلى متى يُسَمَّى هِلاَلاً؟
فقال الجمهور: يُقَالُ له «هِلاَلٌ» لِلَيْلَتَيْنِ، وقيل: لِثَلاَثٍ، ثم يكون «قَمَراً» وقال أبو الهيثم: يُقال له: «هِلاَلٌ» لِلَيْلَتَيْن من أوَّل الشهر، ولَيْلَتَيْنِ من آخره، وما بينهما «قَمَرٌ» . وقال الأصمعيُّ: يُقَالُ له «هِلاَلٌ» إلى أن يُحَجِّرُ، وتحجيره: أن يستدير له؛ كالخيط الرقيق «، ويقال له:» بَدْرٌ «من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة، وقيل: يُسَمَّى» هِلالاً «إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُهُ سَوادَ اللَّيْلِ، وذلك إنما يكونُ في سَبْعِ لَيَالٍ» .
واعلم أنَّ الشَّهر ينقسم عشرة أقسامٍ، كلُّ قسمٍ: ثلاثُ ليالٍ، ولكلِّ ثلاثِ ليالٍ اسمٌ، فالثلاثة الأولى: تسمَّى غرر، والثانية نقل، والثالثة تسع، والرابعة عشر، والخامسة بيض والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة مسادس والتاسعة فرادى والعاشر محاق.
والهلا: يكون اسماً لهذا الكوكب، ويكون مصدراً؛ يقال: هلَّ الشَّهر هلالاً، ويقال: أُهِلَّ الهلالُ، واسْتُهِلَّ مبنيّاً للمفعول وأهْلَلْنَاه اسْتَهْلَلْنَاهُ، وقيل: يقال: أَهَلَّ واسْتَهَلَّ للفاعل؛ وأنْشَدَ: [الوافر]
964 - وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ بَعْدَ شَهْرٍ ... وَحَوْلٌ بَعْدَةُ حَوْلٌ جَدِيدٌ
وسُمِّي هذا الكوكب هلالاً؛ لارتفاع الأصوات عن رؤيته، وقيل: لأنه من البيان، والظهور، أي: لظهوره وقت رؤيته بعد خفائه، ولذلك يقال: تهلَّل وجهه: ظهر فيه بشرٌ وسُرُورٌ، وأنْ لم يكُنْ رفع صَوْتَهُ، ومنه قول تَأَبَّطَ شَرّاً: [الكامل](3/332)
965 - وَإِذَا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ ... بَرَقَتْ كَبَرْقِ العَارِضِ المُتَهَلِّلِ
وقد تقدم أنَّ الإهْلاَلَ: الصُّرَاخُ عند قوله {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 172] . «وفِعَالٌ» المضعَّف يطَّرد في تكسيره «أَفْعِلَة» كأَهِلَّةٍ، وشذَّ فيه فِعَلٌّ؛ كقوله: عِنَنٌ، وحِجَجٌ، في عِنَان، وحِجَاج.
وقدَّر بعضهم مضافاً قبل «الأَهِلَّة» أي: عن حكم اختلاف الأهلَّة، لأنَّ السؤال عن ذاتها غير مفيدٍ؛ ولذلك أُجيبوا بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} وقيلك إنهم لمَّا سألُوا عن شيء قليل الجدوى، أُجيبوا بما فيه فائدةٌ، وعدل عن سؤالهم، إذ لا فائدة فيه، وعلى هذا، فلا يحتاج إلى تقدير مضافٍ.
و «لِلنَّاسِ» متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «مَوَاقِيتُ» أي: مواقيتُ كائنةٌ للنَّاسِ. ولا يجوزُ تعلُّقُه بنَفْس المواقيتِ؛ لما فيها من معنى النقل؛ إذ لا معنى لذلك. والمَوَاقِيتُ: جمع ميقَاتٍ؛ رَجَعَتِ الواوُ إلى أصلها؛ إذ الأصل: موقاتٌ من الوَقْتِ، وإنَّما قلبت ياءً؛ لكسر ما قبلها، فلمَّا زال موجبه في الجمع، رُدَّت واواً، ولا ينصرف؛ لأنه بزنة منتهى الجموع.
فإن قيل: لم صرفت قوارير؟ قيل لأنَّها فاصلةٌ وقعت في رأس الآية الكريمة فنوِّن، ليجري على طريقة الآيات كام تنوَّن القوافي في مثل قوله: [الوافر]
966 - أَقِلِّي اللَّوْمَ، عَاذِلَ، والعتَابَنْ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
و «المِيقَات» : منتهى الوقت؛ قال تبارك وتعالى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} [الأعراف: 142] والهلال: ميقات الشَّهر؛ أي: منتهاه، ومواضع الإحرام: مواقيت الحجِّ؛ لأنَّها مواضع ينتهى إليها، وقيل: الميقات: الوقت؛ كالميعاد بمعنى الوعد.
فصل في تخصيص المواقيت بالهلال دون الشمس
فإن قيل: لم خصَّ المواقيت بالأهلَّة وأشهرها دون الشمس وأشهرها؟(3/333)
فالجواب: أنَّ الأهلَّة وأشهرها، إنَّما جعلت مواقيت للنَّاس، دون الشمس وأشهرها؛ لأنَّ الأشهر الهلاليَّة يعرفها كُلُّ أحدٍ من الخاصِّ والعامِّ برؤية الهلال ومحاقه؛ ولذلك عُلِّقت الأحكام الشَّرعيَّة بالشُّهور العربيَّة، كصوم رمضان، وأشهر الحجِّ، وهي شوَّال، وذُو القعدة وذو الحجَّة. والأشهر المنذورة، والكفَّارات، وحول الزَّكاة وأشهر الإجارات والمداينات والسل، وأشهر الإيلاء، وأشهر العدد، ومدَّة الرَّضاع وما تتحمَّله العاقلة في ثلاث سنين، وغير ذلك؛ بخلاف الشَّمس، وأشهرها؛ فإن الشَّمس لا يتغيَّر شكلها بزيادةٍٍ، ولا نقصٍ، ولا يعرف أوَّله وآخره، ولا تختلِفُ رؤيتها، وكذلك أشهرها لا يعرف أوَّلها وآخرها، إلاَّ الخواصُّ من الحُسَّاب، وليس لها مواقيت غير الفصول الأربعة؛ وهي الصَّيف، والشِّتاء، والرَّبيع، والخريف؛ ولذلك لا يتعلَّق به حكم شرعيٌّ؛ فلذلك جعلت الأهلَّة وأشهرها مواقيت للنَّاس، دون الشَّمس.
فصل
اعلم أنَّ الله سبحانه ذكر وجه الحكمة في خلق الأهلَّة؛ فقال تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} وذكر هذا المعنى في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] واعلم أنَّ تقدير الزمان بالشُّهور فيه منافع دينيةٌ، ودنيويةٌ.
فالدينية: كالصَّوم، والحَجِّ، وعدَّة المتوفَّى عنها زوجها، والنذور المتعلِّقة بالأوقات، وقضاء الصَّوم في أيامٍ لا تُعْلَمُ إلاَّ بالأهلَّة.
والدنيويَّة: كالمداينات، والإجارات، والمواعيد، ولمدَّة الحمل والرَّضاع.
قوله: «والحَجِّ» عطفٌ على «النَّاس» قوالوا: تقديره: ومواقيتُ الحَجِّ، فحذف الثاني؛ اكتفاءً بالأوَّل.
وقيل: فيه إضمارٌ، تقديره: وللحَجَّ كقوله {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} [البقرة: 233] أي: لأولادكم.
ولمَّا كان الحجُّ من أعظم ما تُطْلَبُ مواقيته وأشهره بالأهلَّة، أُفْرِدَ بالذِّكْرِ.
قال تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] .
فإن قيل: الصَّوم أيضاً يطلب هلاله؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»(3/334)
قلنا: نعم، ولكنَّ الصوم قد يسقط فعله عن الحائض، والنُّفَسَاء، والمُسَافر، ويوقعون قضاءه في غيره من الأشهر؛ بخلاف الحجِّح فإنَّه إذا لم يصحَّ فعله في وقته، لا يقضى في غيره من الأشهر.
واحتجَّ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وأبو حنيفة بهذا الآية على أنَّ الإحرام بالحجِّ في غير أشهر يصحُّ، فإن الله تعالى جعل الأهلَّة كلها ظرفاً لذلك.
قال القَفَّال: إفراد الحجِّ بالذِّكر إنَّما كان لبيان أن الحجَّ مقصورٌ على الأشهر التي عيَّنها الله تعالى لفرضه؛ وأنه لا يجوز نقل الحجِّ من تلك الأشهر إلى شهر آخر؛ كما كانت العربُ تفعلُ ذلك في النسيء؛ فأفرد بالذِّكر، وكأنه تخصيص بعد تعميم؛ إذ قوله تعالى: مَوَاقِيتُ لِلنَّاس «ليس المعنى لذوات الناس، بل لا بُدَّ من مضافٍ، أي: مواقيتُ لمقاصد النَّاس المحتاج فيها للتأقيت، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس، بل على المضاف المحذوف الذي ناب» النَّاسِ «منابه في الإعراب.
وقرأ الجمهور» الحَج «بالفتح في جميع القرآن الكريم إلا حمزة والكسائيَّ وحفصاً عن عاصم، فقرءوا {حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] بالكسر، وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وهل هما بمعنىً واحدٍ، أو مختلفان؟ قال سيبويه:» هما مَصْدَرَانِ «؛ فالمفتوح كالرَّدِّ والشَّدِّ، والمكسورُ كالذِّكر، وقيل: بالفتح: مصدرٌ، وبالكسر: اسمٌ.
فصل في الرد على أهل الظَّاهر
قال القرطبيُّ: هذه الآية الكريمة تَرُدُّ على أهل الظَّاهر، ومن وافقهم في أنَّ المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غيرِ معلومة؛ واحتجُّوا بأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، عَامَلَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ الزَّرْعِ والنَّخْل بما بَدَا لرسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشرَّف، وكَرَّم، ومجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - من غير توقيت، وقال: وهذا لا دليل فيه؛ لأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال لليهود:» أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ «(3/335)
وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك مخصوصٌ به، وأنَّه كان في ذلك ينتظر القضاء من رِّبه، وليس كذلك غيره.
قوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ} كقوله: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ} [البقرة: 177] وقد تقدم؛ إلا أنه لم يختلف هنا في رفع» البِ {ِّ «؛ لأنَّ زيادة الباء في الثاني عيَّنت كونه خبراً، وقد تقدَّم لان أنَّها قد تزاد في الاسم.
وقرأ أبو عمرو، وحفصٌ، وورشٌ «البُيُوت» و «بَيُوت» و «الغُيُوب» و «شُيَوخاً» بضمِّ أوَّلها؛ وهو الأصل، وقرأ الباقون بالكسر؛ لأجل الياء، وكذلك في تصغيره، ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم؛ لأنَّ الضمة في الياء، والياء بمنزلة كسرتين؛ فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرةً، قاله أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
و «مِنْ» قوله: «مِنْ ظُهُورِهَا» و «مِنْ أَبْوَابِهَا» متعلقةٌ بالإتيان، ومعناها ابتداءُ الغاية، والضميرُ في «ظُهُورِهَا» و «أَبْوَابِهَا» للبُيُوت، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة؛ لأنه يجوز فيه ذلك.
وقوله: {ولكن البر مَنِ اتقى} كقوله - تبارك وتعالى -: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] يعني: تقديره: بِرُّ مَنْ آمَنَ كَمَا مَضَى؛ ولمَّا تقدَّم جملتان خبريتان، وهما: «وَلَيْسَ البِرُّ» «وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى» عطف عليهما جملتان أمريتان، الأولى للأولى، والثانية للثانية، وهما: «وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «واتَّقُوا اللَّهَ» وفي التصريح بالمفعول في قوله: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتَّقَى، أي اتَّقَى الله.
فصل في سبب نزول الآية
قال الحسن، والصمُّ: كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة، إذا همَّ بشيءٍ، فتعسَّر عليه مطلوبه، لم يدخل بيته من بابه، بل يأتيه من خلفه، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله؛ لأنَّهم كانوا يفعلونه تطيُّراً، وعلى هذا: تأويل الآية الكريمة {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} على وجه التطيُّر ولَكِنَّ البِرَّ من يتَّقِي اللَّهَ، ولَمْ يَتَّقِ غيْرَهُ، ولم يَخَفْ شَيْئاً مِمَّا كان يتطيَّر به، بل توكَّل على الله تعالى، واتَّقَاه «ثمَّ قال: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: لِتَفُوزُوا بالخَيْر في الدِّين والدُّنيا؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4] وتحقيقه: أن من رجع خائباً يقال: ما أفلح، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أنَّ الواجب عليكم أن تتَّقوا الله؛ حتَّى تصيروا مفلحين، وقد وردت(3/336)
الأخبار بالنَّهي عن التَّطَيُّر، قال:» لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ «وقال:» مَنْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرٍ تَطَيُّرٌ، فَقَدَ أَشْرَكَ «و» كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ، ويُحِبُّ الفَأْلَ الحَسَنَ «وقَدْ عَابَ الله قوماً تطيَّروا بموسى ومن معه، فقالوا: {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله} [النمل: 47] .
وقال المفسِّرون: سَبَبُ نُزُول الآية الكريمة: كان الناس في أوَّل الإسلام، إذا أحرم الرَّجُلُ منهم، فإن كان من أهل المدن، نقب نقباً في ظهر بيته يدخل منه، ويخرج، أو يتَّخِذ سُلَّماً يصعد منه إلى سطح داره، ثم ينحدر، وإن كان من أهل الوبر، خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يخرج ولا يدخل من الباب؛ حتى يحلَّ من إحرامه، ويرون ذلك برّاً إلا أن يكون من الحمس، وهم قريشٌ، وكنانة، وخزاعة، وخيثمٌ، وبنوا عامر بْنِ صَعْصَعَةَ، وبنو نَصْر بنِ معاويةَ، وهؤلاء سُمُّوا حمساً؛ لتشديدهم في دينهم، والحماسة الشِّدَّة.
قال العجَّاجُ: [الرجز]
967 - وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَافٍ حُمْسِ ... وهؤلاء متى أحرموا، لم يدخلوا بيوتهم ألأبتَّة، ولا يستظلُّون الوبر، ولا يأكلون السمن، والأقط، ثم إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، دخل، وهو محرمٌ، بيتاً لبعض الأنصار، فاتَّبَعَهُ رَجلٌ مُحْرِمٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يقال له رفاعةُ ابن تابُوتَ، فدخل على أثره من الباب، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ دائماً وابداً -: «تَنَحَّ عَنَّي» فقال: ولمَ، يا رسول الله؟ قال: «دخلت الباب، وأنت مُحْرِمٌ» ، فقال: رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ، فدَخَلْتُ على أُثَرِكَ، فقال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، شرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل،(3/337)
وعظَّم: «إنِّي أحْمَسُ» فقال الرَّجُلُ: «إن كنت أحمسياً، فإني أحمسي، رضيت بهديك، وسمتك، ودينك» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة.
قال الزُّهريُّ: كان ناسٌ من الأنصار، فإذا أهلُّوا بالعمرةِ، لم يحل بينهم وبين السَّمَاء شيءٌ، وكان الرَّجُل يخرجُ مُهِلاًّ بالعمرة، فتبدوا له الحاجة بعد ام يخرج من بيته؛ فيرجع، ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السَّماء، فيفتح الجدار من ورائه، ثُمَّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته؛ حتى بلغنا أنَّ رسول الله صلى الله علنه وسلم، وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، أهلَّ زمن الحديبية بالعمرة، فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّلأ، وعظَّم: «لِمَ فَعلْتَ ذَلِكَ؟» قال: «لأنِّي رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم:» إني أحمسي «فقال الأنصاريُّ: وأنا أحمسي، وأنا على دينك، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة.
فصل في اخلافهم في تفسير الآية
ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه:
أحدها: - وهو قول أكثر المفسرين - وهو حمل الآية الكريمة على ما قدَّمناه في سبب النُّزول، ويصعب نظم الآية الكريمة عليه؛ فإنَّ القوم سألوا عن الحكمة في تغيير لون القمر، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك، وهي قوله: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} فأيُّ تعلُّق بي بيان الحكمة في اختلاف نور القمر، وبين هذه القصَّة، فذكروا وجوهاً:
أحدها: أنَّ الله - تبارك وتعالى - لمَّا ذكر أنَّ الحكمة في اختلاف أحوال الأهلَّة جَعْلُها مواقِيتَ للنَّاسِ والحَجِّ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبرها في الحجِّ، لا جَرَمَ ذكرها الله تعالى.
وثانيها: أنه تعالى إنَّما وصل قوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} ؛ لأنَّه إنما اتَّفَقَ وقوع القصَّتين في وقت واحدٍ، فنزلت الآية الكريمة فيهما معاً في وقت واحدٍ، ووصل أحد الأمرين بالآخر.
وثالثها: كأنَّهم لمَّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلَّة، فقيل لهم: اتركوا السُّؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم، وارجعوا إلى البحث، عمَّا هو أهمُّ لكم، فإنَّكم تظنُّون أنَّ إتيان البيوت من ظُهُورها بِرٌّ؛ وليس الأمر كذلك.
الوجه الثاني من تفسير الآية: أنَّ قوله تعالى: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن(3/338)
ظُهُورِهَا} مثل ضربه الله تعالى، ولَيْسَ المرادُ ظاهره وتفسيرُ أنّ الطريقَ المستقيم هو الطريق المعلومُ، وهو أنْ يُستدلَّ بالمعلوم على المظنون، ولا ينعكس.
وإذا عرف هذا، فنقولُ: ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً، مختاراً، حكيماً، وثبت أنَّ الحكيمَ لا يفعلُ إلاَّ الصَّواب البريء عن البعث والسَّفه.
وإذا عرفنا ذلك، وعرفنا أنَّ اختلاف أحوال القَمَر في النُّور مِنْ فعله علمنا أنَّ فيه حكمةً ومصلحةً، لأنَّا علمنا أنَّ الحكيم لا يفعلُ إلاَّ الحكمة، واستدلَّلْنَا بالمَعلُوم على المجهول، فأمَّا أن يُستدلَّ بعدم علمنا بالحكمة فيه على أنَّ فاعلهُ ليس بحكيم، فهو استدلالٌ باطلٌ؛ لأنَّه استدلالٌ بِالمجهول على القدح في المعلوم، وإذا عُرف هذا، فالمرادُ من قوله تعالى: {لَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} يعني: أنَّكم لَمَّا لم تعلمُوا الحكمةَ في اختلاف نُورِ القمرِ، صِرْتُم شاكِّينَ في حِكمة الخالِقِ، وقدأَتَيْتُمُ الشيءَ مِنْ غير طريقه «إنَّما البرُّ بأنْ تأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» وتستدلُّوا بالمعلوم المتيقَّن، لا تعلمونَها، فجعل إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها كنايةً عن العُدُول عن الطَّريق الصحيح؛ وإتيانَها من أبوابِها كنايةً عن التَّمَسُّك بالطَّريق المُستقيم، وهذا طريقٌ مشهورٌ في الكناية؛ فإنَّ مَنْ أرشد غيرهُ إلى الصَّواب، يقولُ له: ينبغِي أنْ تأتي الأمر مِنْ بابه، وفي ضِدَّه قالُوا: ذهبإل لاشيءِ من غير بابه، قال تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمراان: 187] وقال عزَّ مِنْ قَائل: {واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92] وهذا تأويل المتكلِّمين.
قال ابن الخطيب: ولا يصحُّ تفسير هذه الآية؛ لأنَّ الوجه الأوَّلَ يغيِّر نسقَ الترتيب، وكلام الله تعالى منزَّهٌ عن ذلك.
الوجه الثالث: قال أبو مسلم: إن المراد مِنْ هذه الآية ما كَانُوا يعملونه من النسيء؛ فإنهم كانُوا يخرجون الحجَّ عن وقته الَّذي عينه الله تعالى لهم، فيحرِّمون الحلال، ويحلُّون الحرام، فذَكَرَ إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحجِّ وشهوره.(3/339)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ الله} متعلَّقٌ ب «قاتلوا» على أحد معنيين: إمَّا أن تقدِّر(3/339)
مضافاً، أي: في نصرةِ سبيلِ الله تعالى، والمرادُ بالسبيلِ: دينُ الله، لأنَّ السبيلَ في الأصل هو الطريقُ، فُتُجوِّزَ به عن الدِّين، لمَّا كان طريقاً إلى الله تعالى روى أبو موسى: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، ومجَّد، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - سُئِلَ عمَّن يُقاتِلُ في سبيل الله تعالى، فقال: «مَنْ قاتل؛ لتكون كلمةُ الله هي العُليا، ولا يُقاتل رياءً ولا سمعةً؛ وهو في سبيل الله»
وإمَّا أن تُضَمِّن «قَاتِلُوا» معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دِينِ اللِه تعالى، «والَّذِيِنَ يُقَاتِلُونَكُم» مفعول «قاتلوا» .
فصل في سياق الآيات
اعلم، أنَّه لمَّا أمر بالتقوى في الآية المتقدِّمة أمر في هذه الآية الكريمة بأشدِّ أقسامِ التقوى، وأشقها على النَّفس، وهو قتلُ أعداء الله تعالى.
قال الربيع بن أنس: هذه أوَّل آية نزلت في القتال، وكان رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وشرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعظَّم - يُقاتلُ مَنْ قاتلهُ، ويَكُفُّ عن قتال منْ لمْ يقاتله إلى أن نزل قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] قاتلوا، أو لم يقاتلوا فصارت الآية منسوخةً بها.
وقيل: نُسخَ بقوله: {اقتلوا المشركين} قريبٌ من سبعين آيةً، وعلى هذا، فقوله: «وَلاَ تَعْتَدُوا» أي: لا تَبْدُءوهم بالقتال، وروي عن أبي بكر الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ أوَّل آيةٍ نزلت في القتال قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} الحج: 39] والأوَّل أكثر.
وقال ابن عبَّاس وعمر بن عبد العزيز، ومجاهدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - هذه الآية محكمةٌ غير منسوخة؛ أُمِر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - بقتال المُقاتلين.(3/340)
ومعنى قوله: «وَلاَ تَعْتَدُوا» أي: لا تقتُلُوا النِّسَاء والصِّبيانَ، والشيخَ الكبير والرُّهبان، ولا من ألقى إليكم السَّلَمَ؛ قاله ابن عبَّاس ومجاهد وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبَّاس: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية؛ وذلك أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - خرج مع أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إلى العُمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة، فنزَلُوا الحُديبة، وهو موضعٌ كثيرُ الشَّجر، والماء، فصدَّهم المُشركون عن دخول البيت الحرام، فأقامَ شهراً، لا يقدرعلى ذلك، ثم صالَحُوهُ على أنْ يَرجع ذلك العام، ويرجع إليهم في العام الثَّاني، ويَتْرُكون له مكَّة ثلاثَ أيامٍ، حتَّى يَطوفَ، وَيْحَرَ الهَدْي، ويَفْعَل مَا يَشَاءُ، فرضي الرَّسُولُ - صلواتُ الله وسلامُهُ عليه دائماً أبداً - بذلك، فلمَّا كان العامُ المقبل، تجهَّز رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - وأصحابه لُعْمرة القضاء وخافوا ألاَّ تَفِي قريشٌ بما قالوا، وأن يَصُدُّوهم عن البيت، وكره أصحابُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتالَهُمْ في الشهر الحرام، وفي الحرَم، فأنزل الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} يعنى محرمين {الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} يعني قُرَيْشاً «وَلاَ تَعْتَدُوا» فتَبْدَءوا بالقتالِ في الحَرَمِ محرمين.
فصل في اختلافهم في المراد من قوله {الذين يُقَاتِلُونَكُمْ}
اختلفُوا في المراد بقوله: {الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} : إمَّا على وجه الدَّفع عن الحجِّ، أو على وجه المقاتلة ابتداءً.
وقيل: قاتلوا كُلَّ مَنْ فيه أهليةٌ للقتالِ سوى جُنحٍ للسَّلم؛ قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} [الأنفال: 61] .
فإن قيل: هب أنه لا نسخ في الآية؛ فما السَّبب في أنَّ الله تبارك وتعالى أمر أوَّلاً بقتال من يقاتل، ثُمَّ في آخر الأمر، أذن في قتالهم، سواءٌ قاتلوا، أو لم يقاتلوا؟
فالجواب: أنَّ في أوَّل الأمر كان المسلمون قليلين، وكانت المصحلة تقتضي استعمال الرِّفق، والمجاملة، فلمَّا قوي الإسلام، وكَثُر الجمع، وأقام مَنْ أقام منهم على الشِّرك بعد ظهور المعجزات، وتكرُّرها عليهم، وحصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق.
قوله تعالى: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} [البقرة: 191] «حيث» منصوبٌ بقوله: «اقْتُلُوهُم»(3/341)
و «ثِقِفْتُمُوهُم» في محلِّ خفضٍ بالظرف، و «ثَقِفْتُمُوهُمْ» أي: ظَفِرْتُمْ بهم، ومنه: «رَجُلٌ ثَقِيفٌ» : أي سريعُ الأخذ لأقرانه، قال [الوافر]
968 - فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ... فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ
وثَقِفَ الشَّيْء ثقافةً، إذا حذقهُ، ومنه الثَّقافةُ بالسَّيف، وثَقِفْتُ الشَّيْء قومَّتُه، ومنه الرماحُ المثقَّفة؛ قال القائلُ: [الطويل]
969 - ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ
ويقالُ: ثَقِف يَثْقَفُ ثَقْفاً وثَقَفاً ورجلٌ ثَقِف لَقفٌ، إذا كان محكِماً لما يتناوله من الأمور.
قال القرطبي: وفي هذا دليلٌ على قتل الأسير.
قوله: «مِنْ حَيْثُ» متعلِّقٌ بما قبله، وقد تُصُرِّفَ في «حَيْثُ» بجَرِّها ب «مِنْ» كما جُرَّت ب «اليَاءِ» و «في» وبإضافة «لَدَى» إليها، و «أَخْرَجُوكُمْ» في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه، ولم يذكر «لِلْفِتْنَة» ولا «لِلْقَتْلِ» - وهُما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً؛ إذ المرادُ إذا وُجِدَ هذان، من أيِّ شخص كان بأَيِّ شخصٍ كان، وقد تقدَّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر.
فصل فيما قيل في النسخ بهذه الآية
هذا الخطابُ للنَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - وأصحابه يعني اقتلوهم، حيثُ أبصَرْتُم مقاتِلَتَهُمْ وتمكَّنْتُم منْ قتلهم، حيث كانوا في الحلِّ، أو الحرم، وفي الشَّهر الحرام {وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} وذلك أنَّهم أخرجوا المسلمين من مكّة؛ فقال: أخروجهم مِنْ ديارهم كما أخرجوكم من دياركم، ويحتمل أنَّه أراد كما أخرجوكم مِنْ مَنَازِلكُم، ففي الآية الأولى: أمرٌ بقتالهم؛ بشرط إقادامهم على المقاتلة، وفي هذه الآية.
زاد في التكليف، وأَمَرَ بقتالهم، سواءٌ قاتَلُوا، أو لم يُقَاتِلُوا، واستثنى [عنه] المقاتلة عند المَسْجد الحَرَام، ونقل عن مقاتل أنه قال: إنَّ قولهُ {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} منسوخ بقوله {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] قال ابن الخطيب(3/342)
وهذا ضعيفٌ، فإنَّ الآية الأولى دالَّةٌ على الأمر بقتال مَنْ يقاتلنا، وهذا الحُكمُ لم ينسخ، وأمَّا أنَّها دالَّةٌ على المَنْع من قتال مَنْ لم يقاتل، فهذا غير مسلَّم، مع ما نقل عن الرَّبيع بن أنس. وأما قوله: إنَّ هذه الآية، هي قوله تبارك وتعالى {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام} منسوخة بقوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهو خطأ أيضاً؛ لأنَّه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكمُ غير منسوخ.
قوله {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} فيه وجوه:
أحدها: نقل ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنّ الفتنة هي الكُفر.
وروي أنَّ بعض الصحابة قتل رجُلاً من الكُفَّار في الشَّهر الحَرَام، فعابه المؤمِنُون على ذكل، فنزلت هذه الآية الكريمة، والمعنى: أنَّ كفرهم أشدُّ من قتلهم في الحرم والإحرام.
وثانيها: أن الفتنة أصلها عرض الذَّهب على النَّار؛ لاستخلاصه من الغِشِّ، ثُمَّ صار اسماً لكُلِّ ما كان سبَباً للامتحان؛ تشبيهاً بهذا الأصل، والمعنى: أنَّ إقْدَامَ الكُفَّار على الكُفْر، وعلى تخويف المؤمنين، وإلجائهم إلى ترك الأهلِ، والوَطن؛ هرباً من إضلال الكُفَّار، فإنَّ هذه الفتنة الَّتي جُعِلت للمؤمنين أشَدُّ من القتل الذي يقتضي التَّخليص من غموم الدُّنيا وآفاتها.
وثالثها: أنَّ الفتنة هي العذاب الدَّائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، فكأنه قيل: اقتُلُوهُم حيثُ ثَقِفْتُمُوهم، واعلَمُوا أن وراءَ ذلك مِنَ العذابِ ما هو أشدُّ منه وإطلاقُ اسم الفتنة على العذاب جائزٌ؛ وذلك من باب إطلاق اسم السَّبب على المُسَبَّب، قال تبارك وتعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] ثم قال عقبيه {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] أي عذابكم {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] أي عذّبوهم وقال {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] أي: عذابهم كعذابه.
ورابعها: أنَّ المراد: «فتنتهم إيَّاكُمْ بَصدِّكُمْ عن المسجد الحرام أشدُّ من قتلِكُمْ إيَّاهُمْ في الحرم» .
وخامسها: أن الردَّة أشدُ من يُقْتَلُوا بحقٍّ، والمعنى: أخروجهم منْ حيثُ أخرجوكُمْ، ولَو قُتِلْتُمْ، فإنَّكم إن قُتِلْتُم، وأنتم على الحقِّ، كان ذلك أسهل عليكُم من أنْ ترتدُّوا عن دِينكُمْ، أو تتكاسلوا عن طاعة ربِّكم.(3/343)
قوله: «وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ» قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة: «ولا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ، فإنْ قَاتَلُوكُمْ» بالألف من القتال، وقرأها حمزة، والكسائيُّ من غير ألف من القَتل وهو المُصحف بغير ألف، وإنما كُتِبَت كذلك؛ للإيجاز؛ كما كَتَبُوا الرَّحمن بغير ألف، وما أشبه ذلك مِنْ حروف المَدِّ واللِّين.
فأما قراءة الجمْهُور فواضحةٌ؛ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل؛ فدلالتها على النَّهي عن القَتْل بطريقِ الأَولى، وأمَّا قراءةُ الأخوين، ففيها تأويلان:
أحدهما: أن يكون المجازُ في الفعل، أي: ولا تَقْتلُوا بَعْضَهُمْ؛ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ؛ ومن {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] ثم قال «فَمَا وَهَنُوا» أي ما وَهَن مَنْ بَقِيَ منْهُمْ، وقال الشاعر: [المتقارب]
970 - فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ ... وإن تَقْصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ
أي: فإنْ تَقْتُلُوا بعضنا. يروى أن الأعمش قال لحمزة، أرأيت قراءتك، إذا صار الرجُلُ مَقْتُولاً، فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره؟!
قال حمزة: إنَّ العَرَبَ، إذا قُتِلَ منهُم رجلٌ قالوا: قتلنا، وإذا ضَرِبَ منهُم رجلٌ، قالُوا ضُرِبنا وأجمعوا على «فَاقْتُلُوهُمْ» أنَّه من القتل، وفيه بشارةٌ بأنَّهم، إذا فعلوا ذلك، فإنهم مُتَمَكِّنون منهُمْ بحيثُ إنكم أُمِرْتُم بقتلهم، لا بقتالهم؛ لنُصْرتِكُمْ عليهم، وخذْلانِهِمْ؛ وهي تؤيِّدُ قراءةَ الأخوينِ، ويؤيِّدُ قراءة الجمهور: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} .
و «عِنْدَ» منصوبٌ بالفعل قبله، و «حَتَّى» متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له، بمعنى «إلى» والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أَنْ» والضميرُ في «فِيهِ» يعودُ على «عِنْدَ» إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى غليه الفعلُ إلاَّ ب «فِي» ؛ لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها، وأصلُ الظرفِ على إضمار «في» اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعُ في الظرفِ، فيتعدَّى الفعلُ غلى ضميره مِنْ غير «في» ولا يُقالُ: «الظَّرْف غيْرُ المُتَصرِّف لا يتوسَّع فيه» ، فيتعدَّى إليه الفعلُ، فضميرُهُ بطريق الأولى؛ لأنَّ ضمير الظَّرف ليس حكمه حكمَ ظاهره؛ ألا ترى أنَّ ضميره يُجَرُّ ب «في» وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه، ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} أي: فإنْ قاتلُوكُم فيه، فاقتلوهم فيه، فَحَذَفَ لدلالةِ السِّيَاق عليه.(3/344)
فصل
وهذا بيان بشرط كيفيَّة قتالهم في هذه البقعة خاصَّة، وكان مِنْ قبلُ شرطاً في كلِّ قتالٍ وفي الأشهر الحرم؛ وقد تمسَّك به الحنفيَّةُ في قتل الملتجيئ إلى الحرم، وقالوا: لمَّا لم يجز القتل عند المسجد الحرام؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتلُ في المسجد الحرام بسبب الذَّنب الذي هو دون الكُفر أولى.
قوله: «كَذَلِكَ جَزَاءُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الكافر في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «جَزَاءُ الكَافِرِينَ» خبرُه، أي: مِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ جَزَاؤُهُمْ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكاف اسمٌ مطلقاً، وهو مذهبُ الأخفش.
والثاني: أن يكونَ «كَذَلَكَ» خبراً مقدَّماً، و «جَزَاءٌ» مبتدأً مؤخَّراً، والمعنى: جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجَزَاءِ، وهو القتلُ، و «جَزَاءُ» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي: جزاءُ اللَّهِ الكافرين، وأجاز أبو البقاء أان يكونَ «الكَافِرِينَ» مرفوع المحلِّ على أن المصدر مقدَّرٌ من فِعْل مبنيٍّ للمفعول، تقديرُه: كذلك يُجْزَى الكافِرُون، وقد تقدَّم لنا الخلافُ في ذلك.
قوله تعالى: {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لهم. ومتعلق الانتهاء محذوفٌ أي: عن القتال، و «انْتَهَى» «افْتَعَلَ» من النَّهي، وأصلُ «انْتَهَوا» «انْتَهَيُوا» فاسْتُثْقَلَت الضَّمةُ على الياء؛ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفت الياءُ؛ لالتقاء الساكنين، أو تقول: تَحَرَّكَتِ الياء، وانفتحَ ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ألفاً؛ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفَتِ الألفُ، وبقِيت الفتحة تَدُلُّ عليها.
فصل في اختلافهم في متعلِّق الانتهاء
هذا البيانُ لبقاء هذا الشَّرط في قتالهم قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فإن انتهوا عن القتال؛ لأنَّ المقصُود من الإذان في القتال منعُ الكُفّار عن المُقاتلة.
وقال الحسنُ: فإن انتهوا عن الشِّرك؛ لأنَّ الكَافِرَ لا يَنَالُ المغفرة والرِّحمة بترك القتال، بل بترك الكُفرِ.
فصل في دلالة الآية على قبول التَّوبة من كلِّ ذنب
دلَّت الآية على أنَّ التوبة مِنْ كُلِّ ذنبٍ مقبولةٌ ومَنْ قال: إنَّ التوبة عن قتل العَمْد غيرُ مقبولةٍ، فقد أخطأ؛ لأنَّ الشرك أشدُّ من القتل، فإذا قَبِلَ الله تبوة الكافِرِ، فقبُولُ توبة(3/345)
القاتل أولى، وأيضاً فقد يكُونُ الكافِرُ قاتلاً، فقد انضمَّ إلى كُفره قَتْلُ العَمْد والآيَةُ دلَّت على قبُول توبة كلِّ كافِرِ، فدلَّ على أنَّ توبتَهُ، إذا كان قاتِلاً مقبولةٌ؛ قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} يجوزُ في «حَتَّى» أن تكونَ بمعنى «كَيْ» وهو الظاهرُ، وأن تكونَ بمعنى «إِلَى» و «أَنْ» مضمرةٌ بعدَها في الحالين، و «تَكُونَ» هنا تامةٌ، و «فِتْنَةٌ» فاعلٌ بها، وأمَّا {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} فيجوزُ أن تكون تامَّةً أيضاً، وهو الظاهرُ، ويتعلَّقُ «اللَّهِ» بها، وأن تكونَ ناقصةً و «لِلَّهِ» الخبَر؛ فيتعلَّق بمحذوف أي: كائناً لله تعالى
فصل في المراد بالفتنة
قيل: المراد بالتفنة الشِّرك والكُفر؛ قالوا: كانت فتنتهُم أنَّهُم كانوا يُرهِبُون أصحاب النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - بمكة، حتى ذهبوا إلى الحبشة، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء؛ حتى ذهبوا إلى المدينة، وكان غرضَهُمُ من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهُم، ويرجِعُوا كُفَّاراً، فإنزل الله - تبارك وتعالى - هذه الآية، والمعنى:
قاتِلُوهُم حتَّى تَظهروا عليهم؛ فلا يفتِنُوكُم عن دِينِكُمْ، ولا تَقَعوا في الشِّركَ {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} أي: الطَّاعة، والعبادةُ للَّه وحده؛ لا يُعبدُ شيءٌ دونه ونظيره قوله تعالى:
{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] قال نافع: جاء رجلٌ إلى ابن عُمَرَ في فتنةِ ابن الزُّبير فقال ما يمنعُكَ أنْ تخرج؟ فقال: يَمنعُني أنَّ اللَّهَ حرَّمَ دم أخِي؛ ألاَّ تَسْمَعُ ما ذكر اللَّهُ تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] قال: يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية، ولا أقاتل أحبُّ لي من أن أعتبر بالآية الأخرى الَّتي يقُولُ الله - عزَّ وجلَّ - فيها {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} [النساء: 93] قال ألم يقُل الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ؟ قال: قَدْ فعلنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - إذْ كان الإسلامُ قليلاً، وكان الرَّجُلُ يُفْتَنُ عن دينه، إما يقتُلُونه، أو يُعَذِّبونه، حى كثُر الإسلام، فلن تكُن فتنة وكان الدِّينُ للَّه، وأنُتُم تُرِيدُون أنْ تُقَاتِلُوهم، حتَّى تكُون فتنَة، ويَكُونُ الدِّين لغيْرِ الله.
وعن سعيد بن جبير، قال: قال رجلٌ لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: هل تدري ما الفتنة؟! كان محمَّدٌ صلواتُ الله وسلامُهُ عَلْيهِ يُقاتل المُشرِكين، وكانَ الدُّخُولُ عليهم فِتْنَةً، وليس قتالكُم كقتالهم على المُلكِ.(3/346)
فصل في معاني الفتنة في القرآن
قال أبو العبَّاس المُقِري: ورد لفظ الفتنَة في القرآن بإزاء سبعة معانٍ:
الأول: الفتنة: الكُفر؛ قال تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة} [آل عمران: 7] يعني: طلب الكُفْر.
الثاني: الفتنة الصرف قال تعالى: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49] .
الثالث: الفتنة: البلاء؛ قال تعالى {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] .
الرابع: الفتنةُ: الإحْرَاقُ؛ قال تعالى {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين} [البروج: 10] ، أي: حَرَّقُوهم؛ ومثله {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] .
الخامس: الفتنة الاعتذارُ قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] .
السادس: الفتنة: القَتل، قال تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} [النساء: 101] ، أي: يَقْتُلُوكم.
السابع: الفتنَة: العذَابُ؛ قال تعالى: {جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] .
قوله «فَإِن انْتَهوا» ، أي: عن الكُفر وأسلَمُوا، «فَلاَ عُدوَانَ» أي: فلا سبيل {إِلاَّ عَلَى الظالمين} قاله ابن عبَّاس، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] ، أي: فلا سبيل عليَّ، وقال أهلُ المعاني العدوان: الظُّلم، أي: فإنْ أسْلَمُوا، فلا نهب، ولا أسر، ولا قتْل إلاَّ على الظالمين الَّذين بَقُوا على الشِّرك؛ قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وسَمَّى قتل الكُفَّار عُدواناً، وهو في نفسه حقٌّ، لأنَّه جزاءٌ عن العُدْوان؛ على طريق المجاز، والمقابلة؛ لقوله {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] ، و {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} [التوبة: 79] .
وقيل: معنى الآية الكريمة إن تَعَرَّضْتم لهُمْ بعد انتهائهم عن الشِّرك والقتال، كنتم أنْتُم ظالمينَ، فنسلِّط عليكم مَنْ يَعتِدي عليْكُم.
قوله: {إِلاَّ عَلَى الظالمين} في محلِّ رفع خبر «لا» التبرئة، ويجوزُ أن يكون خبرُها محذوفاً، تقديرُه: لا عُدْوَانَ على أحد؛ فيكونُ {إِلاَّ عَلَى الظالمين} بدلاً على إعادةِ العامل، وهذا الجملةُ، وإنْ كانَت بصورة النَّفي، فهي في معنى النَّهي؛ لئلا يلزَم الخُلْفَ في خبره تعالى والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء، أبْرَزَتْهُ في صورةٍ النفي المَحْضِ؛ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتة؛ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك، وعكسُه في الإِثبات،(3/347)
إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشَّيْء، أبرزُوهُ في صُورة الخَبَر؛ نحو: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} [البقرة: 233] على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.(3/348)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} مبتدأ، خبرُه الجارُّ بعده، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ، تقديرُه: انتهاكُ حُرْمة الشَّهْر الحرامِ بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ، والألفُ واللامُ في الشَّهْر الأوَّل والثَّاني لِلْعهَد؛ أنَّهما معلومان عند المخاطبين؛ فإنَّ الأولَ ذُو القَعْدَةِ من سنة سَبْع، والثاني من سنة سَتٍّ.
وقرئ. «والحُرْمَات» بسكون الراء، ويُعْزَى للحسن وقد تقدَّم عند قوله {فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] أنَّ جمعَ «فُعْلَةٍ» بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه: هذان الاثنانِ، وفَتْحُ العين.
فصل في بيان سبب النُّزول
في سبب نزول الآية ثلاثة أوجه:
أحدها: قال ابنُ عبَّاس ومجاهدٌ، والضَّحَّاك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أنَّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - خرج عام الحُديبية لِلْعُمرة، وذلك في ذي القعدة سنة ستٍّ مِنَ الهجرة، فصدَّه أهلُ مكة عَنْ ذلك ثُمَّ صالحُوه أنْ ينصرف، ويعودَ في العام القابل؛ ويتركُوا له «مكَّةَ» ثلاثة أيَّام؛ حتَّى يقضي عُمْرَتَهُ فانصرَفَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - عامهُ ذلك، ورجع في العام القابل في ذي القعدة سنَة سبعٍ، ودَخَل مَكَّة، واعتَمر؛ فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة يعني إنَّك دخلت مكَّة في الشهر الحرام، والقومُ كانُوا صَدُّوكَ في السنةِ الماضية في هذا الشَّهر؛ فهذا الشهر الحرامُ؛ بذلك الشهرِ الحرامِ.
وثانيها: قال الحسن: إنَّ الكُفَّار سَمِعُوا أنَّ الله تعلاى نهى الرسُولَ - عليه الصَّلاة والسَّلأم - عن المقاتلة في الأشهر الحُرُم؛ وهو قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله} [البقرة: 217] فأرادوا مقاتلته، وظنُّوا أنَّهُ لا يُقاتلهم في الأشهر الحُرُم؛ فأنزل اللَّهُ(3/348)
تعالى في هذه الآية؛ لبيان الحُكم في هذه الواقعة فقال: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} أي من استحلَّ قتالكم من المشركين من الشَّهر الحرام، فاستحلّوه أنتم فيه.
وثالثها: قال بعضُ المتكلِّمين: هو أنَّ الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله، فكيف يمنعنا عن قتالكم؟ فالشهر الحرام من جانبنا مقابل الشهر الحرام جانبكم؛ والحاصل في هذه الوجوه: أنَّ رحمة الشَّهر الحرام لما لم تمنعهُم عن الكفر، والأفعالِ القبيحة، فكيف جعلوه سبباً في منع القتالِ على الكفر والفساد؟!
قوله: «والحرمات قصاصٌ» الحرماتُ: جمع حرمة؛ كظلمات جمع ظلمة، وحجرات جمع حجرة، الحرمة ما منع من انتهاكه، وجمعها؛ لأنَّه أراد حُرمة الشَّهر الحرامِ والبلد الحرام، وحرمة الإحرام. و «القصاص» : المُساوَاةُ والمُمَاثلة.
والمعنى على الوجه الأوَّل في النُّزول لمَّا أضاعوا هذه الحُرمات في سنة ستٍّ، فقد قضيتموها على زعمكم في سنة سبع.
وأما على الثَّاني: فالمراد إن أقدمُوا على مقاتلتكم في الشَّهر الحرام، فقاتلوهم أنتم أيضاً فيه.
قال الزَّجَاج: وعلم الله بهذه الآية: أنه ليس على المسلمين: أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص والمماثلة، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية الكريمة، وهو قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] وبما بعدها؛ وهو قوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ} .
وأما على القول الثالث: فقوله «والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ» يعني: حُرمَةُ كلِّ واحدٍ من الشهرين كحرْمة الآخر، وهما مثلان، والقِصاصُ هو المثلُ، ولَمَّا لم يمنعكُم حرمةُ الشَّهر من الكُفْر، والفِتنة، والقِتال، فكيف يمنعُنا عن القتال؛ فعلى هذا، فقوله: «والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ» متَّصلٌ بما قبله.
وقيل: هو مقطوعٌ منه، وهو ابتداء أمرٍ كان في أوَّل الإسلام: أن من انتهك حُرمتك، نِلتَ منه بمثل ما اعتدى عليك، ثم نُسِخً ذلك بالقتال.
وقالت طائفةٌ: ما تناولت الآية الكريمة من التعدِّي بين أمة محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - والجنايات ونحوها - لم يُنسَخْ، وجاز لمن تُعُدِّيَ عليه من مال، أو جرح أن يتعدَّى بمثل ما تُعُدِّي به عليه.(3/349)
وقوله {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ} يجوزُ في «مَنْ» وجهان:
أحدهما: أن تكون شرطيةً، وهو الظاهرُ؛ فتكونَ الفاء جواباً.
والثاني: أن تكونَ موصولةً؛ فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر، وقد تقدَّم نظيره.
قوله: {بِمِثْلِ مَا اعتدى} في الباء قولان:
أحدهما: أن تكون غير زائدةٍ، بل تكون معلِّقةً ب «اعْتَدُوا» والمعنى: بعقوبةٍ مثْل جنايةٍ اعتدائه.
والثاني: أنها زائدةٌ، أي: مثل ما اعَْدى به؛ فتكون: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف، أي: اعتداءً مماثلاً لاعتدائه، وإمَّا حالاً من المصدر المحذوف، كما هو مذهبُ سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أي: فاعتدوا الاعتداء مُشبِهاً اعتداءُه، و «مَا» يجوزُ أن تكوَ مصدريةً، فلا تفتقر إلى عائدٍ، وأن تكون موصولةً؛ فيكون العائدُ محذوفاً، أي: بمثل ما اعتدى عليكُم به، وجاز حذفه؛ لأنَّ المُضاف إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ قد جرَّ به العائدُ، واتَّحد المتعلِّقان وقد تقدَّم معنى تسمية المجازاة بالاعتداء.
فصل في اختلافهم في تسيمة المكافأة عدواناً
قال القرطبيُّ: اختلف النَّاس في المكافأة، هل تُسمَّى عدواناً، أم لا؟ فمن قال: ليس في القرآن مجازٌ، قال: المقابلة عدوانٌ، وهو عدوانٌ مباحٌ، كما أنَّ المجاز في كلام العرب كذبٌ مباحٌ؛ لأن قوله: [الطويل]
719 - فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وقولَهُ: [الرجز]
972 - إِمْتَلأَ الحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي ... وقوله: [الرجز]
973 - شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ...(3/350)
ومعلوم أنَّ هذه الأشياء لا تنطق، وحدُ الكَذِب الإخبارُ عن الشَّيء بخلاف ما هو به.
ومن قال: في القُرآن مجازٌ: سمَّى هذا عُدواناً مجازاً على طريق المُقابلة كقوله عمرو بن كلثومٍ: [الوافر]
974 - أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
وقول الآخر: [الطويل]
975 - ولِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمٌ ... وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالجَهْلِ مُسْرَجُ
وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجي فَإِنِّي مُعَوَّجُ
يريد أُكافىءُ الجاهل والمُعوجَّ لا أنَّه امتدح بالجهل والاعوجاج.
قولُهُ «وَاتَّقُوا» قد تقدَّم معنى «التَّقْوَى» .
وقولُهُ: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} ، أي: بالمعونَةِ، والنُّصرة، والحِفظ، وهذا من أقوى الدَّلائل على أنَّه ليس بجسمٍ، ولا في مكانٍ، إذ لو كان جسماً، لكان في مكانٍ معيَّن؛ فكان إمَّا أن يكون مع أحدٍ منهم، ولم يكن مع الآخر، أو يكون مع كُلِّ واحدٍ من المُتَّقين جزءُ من أجزائهِ، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.(3/351)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
اعلم أنَّ تعلُّق هذه الآية الكريمة بما قبلها من وجهين:
الأول: أنَّه تعالى، لمَّا أمرهُ بالقتالِ وهو لا يتيسَّر إلاَّ بآلاتٍ وأدواتٍ يحتاجُ فيها إلى المال، وربَّما كان ذو المالِ عاجزاً عن القتال، وكان الشُّجاع القادرُ على القتال عديم المال فقيراً، فلهذا أمر اللَّهُ تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفُقراء الَّذين يقدرون على القتال.
والثاني: يروى أنَّه لمَّا نزَلَ قولُهُ تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات} [البقرة: 194] قال رجلٌ من الحاضرين: واللَّهِ، يا رسول الله ما لَنَا زادٌ، وليس أحدُ يُطْعمنَا؛ فأمر رسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدَّقوا وألاَّ يكفُّوا أيديهم عن الصَّدقة، ولو بشقِّ تمرةٍ تُحملُ في سبيل الله فيهلكوا، فنزلت الآية الكريمة على وفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم -.(3/351)
والعلم: أنَّ الإنفاقَ هو صرفُ المالِ إلى وجوه المصالح؛ فلذلك لا يُقالُ في المُضَيِّع: إنَّه مُنفقٌ، وإذا قُيِّد الإنفاقُ بذكر «سَبِيلِ اللَّهِ» ، فالمرادُ به في طريق الدِّين؛ لأنَّ السَّبيل هو الطريقُ، وسبيلُ الله هو دينُهُ، فكلُّ ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في دينِهِ، فهُوَ داخِلٌ في الآية الكريمة، سواءٌ كان في حجٍّ، أو عُمرةٍ، أو كان جهاداً بالنَّفس أو تجهيزاً للغير أو كان إنفاقاً في صلة الرَّحم، أو في الصَّدقات، أو على القتالِ، أو في الزَّكاةِ، أو الكَفَّارة، أو في عمارة السَّبيل، وغير ذلك، إلاَّ أنَّ الأقربَ في هذه الآية الكريمة ذكرُ الجهاد، فالمرادُ هاهنا الإنفاقُ في الجهاد؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة، إنَّما نزلت وقت ذهاب رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - لعُمرة القضاء، وكانت تلك العُمرةُ لا بُدَّ مِنْ أن تُفضي إلى القتالِ، إنْ منَعَهم المُشركُونَ، فكانَتْ عمرةً وجهاداً، فاجتمعَ فيها المعنيانِ؛ فلا جَرَم، قال تعالى {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} .
قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} .
في هذه الباء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها زائدةٌ في المفعول به؛ لأن «أَلْقَى» يتعدَّى بنفسه؛ قال تبارك وتعالى {فألقى موسى عَصَاهُ} [الشعراء: 45] ، وقال القائل: [الكامل]
976 - حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتٍ الثُّغُورِ ظَلاَمُهَا
فزيدت الباءُ في المفعول، كما زيدَت في قوله: [الطويل]
977 - وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الْفَتَى اسْتِكَانَةً ... مِنَ الْجُوعِ وَهْنَاً مَا يُمِرُّ وَمَا يَحْلُو
وهذا قولُ أبي عبيدة، وإليه ميلُ الزمخشري، قال: «والمعنى: ولا تُقْبِضُوا التهلُكَةَ أيدِيكُمْ، أي لا تَجْعَلُوها آخِذَةً بأيديكُمْ مالكةً لكُمْ» ، إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادة الباء في المفعول به لا تَنقاسُ، إنما جاءت في الضَّرورة؛ كقوله: [البسيط]
978 - ... ... ... ... ... ..... سُودُ المَحَجِرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ
الثاني: أنها متعلقةٌ بالفعل غيرُ زائدةٍ، والفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: ولا تُلْقُوا أنْفُسَكُمْ بأيديكُم، ويكُونُ معناها السَّبَبَ؛ كقولك: لا تُفْسِد حالك برأيك.
الثالث: أن يُضمَّن «أَلْقَى» معنى ما يتعدَّى بالباء؛ فيُعدَّى تعديته، فيكون المفعولُ به(3/352)
في الحقيقة هو المجرور بالباء، تقديره: ولا تُفْضُوا بأيديكُم إلى التَّهْلُكة؛ كقولك: أَفْضَيْتُ بِجَنْبِي إلى الأرض، أي: طرحتُهُ على الأرض، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] لأنَّ بها البَطشَ والحركة، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاهُ عن المُبرِّد: أن «ألْقَى» يتعدَّى بالباء أصلاً ك «مَرَرْتُ بزيدٍ» ، والأولى حملُهُ على ما ذكرناه.
والهمزة في «أَلْقَى» لِلْجعل على صفةٍ، نحو: أطْرَدْتُهُ، أي: جعلتُهُ طريداً، الهمزة فيه: ليست للتعدية؛ لأنَّ الفعل متعدٍّ قبلها، فمعنى «ألقَيْتُ الشيْءَ» : جَعَلْتُه لُقى، فهو «فُعَلٌ» بمعنى «مَفْعُول» ؛ كما أن الطريد «فَعِيلٌ» بمعنى «مَفْعُول» ؛ كأنه قيل: لا تَجْعَلُوا أنفسَكُم لُقى إلى التَّهْلُكَة. والتَّهْلُكَةُ: مصدرٌ بمعنى «الهلاكِ، يُقَالُ: هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً، وهَلاكاً، وهَلْكَاءَ، على وزن فعلاء، ومَهْلِكاً ومَهْلُكَةً، مثلَّث العين، وتَهْلُكَةً، وقال الزمخشري:» ويجوزُ أن يقال: أصلُها التَّهْلِكَةُ؛ بكسر اللام، كالتَّجْرِبة؛ على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللامِ - فَأُبْدلتِ الكسرةُ ضَمَّةً؛ كالجِوار والجُوار «، وردَّ أبو حيَّان بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذٍّ ودَعوى إبدال، لا دليلَ عليها؛ وذلك أنه انه جعلَهُ تَفعلةً بالكسر، مصدرَ» فَعَّلَ «بالتشديد، ومصدرُه، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على» تَفْعِيل «و» تَفْعِلَةٌ «فيه شاذٌّ، وأمَّا تنظيره له بالجِوَار والجُوَار، فليس بشيء، لأنَّ الضمَّ فيه شاذٌّ، فالأولى أنْ يُقال: إنَّ الضَّمَّ أصلٌ غيرُ مبدلٍ من كسرٍ، وقد حكى سيبويه ممَّا جاء من المصادر على ذلك التَّضُرَّة والتَّسُرَّة.
قال ابن عطيَّة:» وقرأ الخليلُ التَّهْلِكَةَ، بكسر اللام، وهي تَفْعِلَةٌ، من هَلَّكَ بتشديد اللام «وهذا يُقَوِّي قول الزمشخري.
وزعم ثعلبٌ والجارزنجي أنَّ» تَهْلُكَةً «لا نظير لها، وليس كثيراً من تكلُّفات هؤلاء النُّحاة في أمثال هذه المواضع، وذلك أنَّهُم وجدوا نَقلاً عن أعرابيٍّ مجهولٍ يكونُ حجتَّهُم فيه، ففرحثوا به، واتّخَذُوه حجَّةً قويَّةً، ودليلاً قاطِعاً، وقالُوا: قد نُقِلَ هذا عن العرب؛ فكيف، وقد وَرَدَ هذا في كَلاَمِ الله تعالى المشهُور له مِنْ كُلِّ واحدٍ من المُوافِق والمُخَالف(3/353)
بالفصاحة، وأعجز البُلَغَاء والفُصَحاء، وتحدَّاهم» بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ «و» بِعَشْرِ سُوَرٍ «و» بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ « [فقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}
[الإسراء: 88] وقال: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] وقال في موضع آخر: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] كيف لا يدلُّ ذلك على صحَّة هذه اللَّفظة، وفصاحتها، واستقامتها.
والمشهور: أنه لا فرق بين التَّهْلُكَة، والهلاك، وقال قومٌ: التَّهْلُكَةُ: ما أمكن التحرُّز منه، والهلاكُ: ما لا يمكن التحرُّز منه، وقيل: هي نفسُ الشَّيْءِ المُهْلِكِ، وقيل: هي ما تضضُرُّ عاقبته.
فصل في اختلافهم في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة
اختلفوا في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التَّهلكة.
فقال قومٌ: إنَّه راجعٌ إلى نفس النَّفقة.
وقال آخرون: إنَّه راجعٌ إلى غيرها، فالأوَّلون ذكروا وجوهاً:
أحدها: قال ابن عبَّاس، وحذيفة، وعطاءٌ، وعكرمةٌ، ومجاهدٌ، والجمهور، وإليه ذهب البُخَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ولم يذْكُروا غيره: ألاَّ ينفقوا في مهمَّات الجهاد أموالهم؛ فستولي العَدُوُّ عليهم، ويهلكهم؛ فكأنَّه قيل: إن كنت من رجال الدِّين فأنفق مالك في سبيل الله، وفي طلب مرضاته، وإن كانت من رجالِ الدُّنيا، فأنفق مالك في دفع الهلاكِ، والضَّرَر عن نفسِكَ.
وثانيها: أنه تبارك وتعالى لمَّا أمر بالإنفاق نهى عن نفقة جمع المال؛ لأنَّ إنفاق الجميع يفضي إلى التَّهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول، والمشروب، والملبوسِ، فيكون المراد منه ما ذكره في قوله سبحانه: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] ، وقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] .
وقيل: الإلقاءُ في التَّهْلُكَة: هو السَّفر إلى الجهاد بغَيْر زادٍ، نقله القُرْطُبيُّ عن زَيْد ابْنِ أَسْلَمَ، وقد فعل ذلك قومٌ، فانقطعوا في الطَّريق.
وأما القائلون: بأنَّ المراد منه غير النَّفقة، فذكروا وجوهاً:
أحدها: أن يخلُّوا بالجهاد، فيتعرَّضوا للهَلاَكِ الذي هو عذابُ النار.(3/354)
ثانيها: لا تقتحموا في الحَرْبِ بحَيْثُ لا تَرْجُونَ إلاَّ قَتْلَ أنْفُسِكُمْ، فإنَّ قَتْلَ الإنْسانِ نَفْسَه لا يَحِلُّ، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأمَّا إذا كان آيساً من النِّكاية، وكان الأغلب أنَّه مقتولٌ، فليس له الإقدام عليه، وهذا منقولٌ عن البَرَاءِ ابن عازب، ونقل عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه قال في هذا: هو رجُلٌ ينتقّل بين الصفينِ. وطعن بعضهم في هذا التَّأوِيل؛ وقال: هذا القتلُ غير محرمٍ، واحتجَّ بأَحَادِيثَ.
الول: روي أنَّ رجلاً من المهاجرين حمل على صَفِّ العدوِّ؛ فصاح به الناس؛ فألقى بيده إلى التَّهلكة؛ فقال أبو أيُّوبٍ الأنصاريّ: نحنُ أعلم بهذه الآية الكريمة، وإنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنصرناه وشهدنا المشاهد، فلما قويَ الإسلام؛ وكثر أهله؛ رجعنا إلى إهالينا، وأموالنا، ومصالحنا؛ فنزلت الآية، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل، والمال، وترك الجهاد. فما زال أبو أيوبٍ مجاهداً في سبيل الله؛ حتَّى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية، فتوفِّي هناك، ودُفن في أصل سور القسطنطينية، وهم يُسْتَسْقَوْنَ به.
ورُوِيَ أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك الجنَّة؛ فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله، إن قتلت صابراً محتسباً؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لك الجنة» ؛ فانغمس في العدوِّ؛ فقتلوه بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وأنَّ رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كان عليه، حين ذكر رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - الجنة.
ورُوِيَ أنَّ رجلاً من الأنصار تخلَّف عن بني معاوية، فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه؛ فقال لبعض من معه: سأتقدم إلى العدوِّح فيقتلونني، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي، ففعل ذلك؛ فذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال فيه قولاً حسناً.
وروي أنَّ قوماً حاصروا حصناً؛ فقاتل رجلٌ حتى قتل؛ فقيل: ألقى بيده إلى(3/355)
التَّهلكة، فبلغ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ذلك؛ فقال: كذبوا قال الله تعالى: {مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} [البقرة: 207] .
ولقائلٍ أن يجيب عن هذه الآية؛ فيقول: إنَّما حرمنا إلقاء النفس في صفِّ العدوِّ، إذا لم يتوقع إيقاع النكاية فيهم، فأما إذا توقع، فنحن نجوز ذلك، فلم قلتم إنَّه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع؟
الوجه الثالث من تأويل الآية: أن يكون هذا متَّصلاً بقوله سبحانه: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ} [البقرة: 194] أي: فلا تحملنَّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم، فتهلكوا بترككم القتال، فإنَّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة.
الوجه الرابع: أنَّ المعنى: أنفقوا في سبيل الله، ولا تقولوا: إنَّا نخاف الفقر، فنهلك إن أنفقنا، ولا يبقى معنا شيءٌ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق، والمراد من هذا الفعل والإلقاء الحكم بذلك؛ كما يقال جعل فلانٌ فلاناً هلاكاً، وألقاه في الهلاك؛ إذا حكم عليه بذلك.
الوجه الخامس: قال محمد بن سيرين، وعبيدة السَّلمانيُّ: هو أنَّ الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل؛ فيستهلك في المعاصي، فذلك هو إلقاء النفس إلى التهلكة؛ فحاصله أنَّ معناه النَّهيُ عن القنوط من رحمة الله تعالى؛ لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية، والإصرار على الذنب.
الوجه السادس: يحتمل أن يكون المراد {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة، والإحباط؛ وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه، إما بذكر المنَّة، أو بذكر وجوه الرياء، والسُّمعة؛ ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] .
وروي عن عكرمة: الإلقاء في التهلكة، قال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] .
وقال الطَّبَرِيُّ: هو عامٌّ في جميع ما ذُكر، لأن اللفظ يحتمله.
قوله «وَأَحْسِنُوا» اختلفوا في اشتقاق «المحْسِنِ» ، فقيل: مشتقٍّ من فعل الحسن،(3/356)
وإنما كثر استعماله في من نفع غيره بنفع حسنٍ، من حيث إنَّ الإحسان حسنٍ في نفسه، وعلى هذا [التَّقْدِير] فالضربُ، والقتلُ إذاً حَسُنَا، كان فاعلهما محسناً.
وقيلك مشتقٌّ من الإحسان؛ ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسناً؛ إلاَّ إذا كان فعله حسناً، وإحساناً معاً؛ فهذا الاشتقاق إنَّما يحصل من مجموع الأمرين.
قال الأصَمُّ: أَحْسِنُوا في فَرَائضِ اللَّهِ.
وقيل: أسحنوا في الإنفاق على من يلزمكم نفقته، والمقصود منه أن يكن، ذلك الإنفاق وسطاً من غير إسراف، ولا تقتير، وهذا أقرب لاتصاله بما قبله، ويمكن حمل الآية على الجميع.(3/357)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
الحجُّ: في اللغة عبارةُ عن القصد، وإنما يقال حجَّ فلانٌ الشيء، إذا قصده مرَّةً بعد أخرى، وأدام الاختلاف إليه، و «الحِجَّةُ» بكسر الحاء: السَّنة، وإنما قيل لها حِجَّةٌ؛ لأن الناس يحجُّون في كل سنةٍ، وفي الشرع: هو اسمٌ لأفعال مخصوصة يشتمل على أركانٍ، وواجباتٍ، وسُننٍ.
فالركن: ما لا يحصل التحلُّل إلاَّ بالإتيان به، والواجب هو الذي إذا تركه يجبر بالدم، والسُّنن: ما لا يجب بتركها شيءٌ، وكذلك أفعال العمرة.
وقرأ نافعٌ، وأبو عَمْرٍو، وابنُ كثير، وأبو بكر، عن عاصمٍ رحمة الله تعالى عليهم: «الحَجُّ» بفتحِ الحاءِ في كلِّ القرآن الكريم، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ حمزة، والكسائيُّ، وحفصٌ، عن عاصمٍ: بالكسر في كلِّ القرآن.
قال الكسائيُّ: وهما لغتان بمعنى واحدٍ؛ كرِطلٍ ورَطلٍ، وكِسر البيت، وكَسره، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم.
وقرأ علقمة، وإبراهيم النَّخعيُّ: «وأقِيمُوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» وفي مصحف ابن(3/357)
مسعودٍ: «وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ إلى البَيت» وروي عنه: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت، وفائدة التخصيص بقوله: «لِلَّهِ» - هنا - أنَّ العرب كانت تقصد الحج للاجتماع، والتظاهر، وحضور الأسواق؛ وكلُّ ذلك ليس لِلَه فيه طاعةٌ، ولا قربةٌ؛ فأمر الله تعالى بالقصد إليه لأداء فرضه، وقضاء حقِّه.
والجمهور على نصب «العُمْرَةَ» على العطف على ما قبلها، و «لِلَّهِ» متعلقٌ بأتِمُّوا، واللام لام المفعول من أجله. ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الحجِّ والعمرة، تقديره: أتمُّوها كائنين لله. وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ، وزيد بن ثابت، والشعبيّ: «والعُمْرَةُ» بالرفع عل الابتداء. و «لله» الخبر، على أنها جملة مستأنفةٌ.
قال ابن عباسٍ، وعلقمة، وإبراهيم، والنخعي: إتمام الحجِّ والعمرة: أن يتمَّهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ، وطاوس: تمام الحجِّ والعمرة: أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرية أهلك.
ويروى عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مرفوعاً.
وقال عليُّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: تمام الحجِّ والعمرة: أن تحرم بهما من دويرية أهلك. فإن فعلها في أشهر الحج، ثم أقام حتى حجَّ؛ فهي متعة، وعليه فيها الهدي إن وجده، أو الصيام إن لم يجد الهدي، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلِّها بحيث لا يلزمه دمٌ، بسبب قرنٍ، ولا متعةٍ.
وقال الضحاك: إتمامها: أن تكون النفقة حلالاً، وينتهي عما نهى الله عنه.(3/358)
وقال سفيان الثوري: إتمامها: أن تخرج من أهلك لهما؛ لا لتجارةٍ، ولا لحاجةٍ أخرى.
قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الوفد كثيرٌ، والحاجُ قليلٌ.
فصل في اختلافهم في وجوب العمرة
اتَّفقت الأُمَّة على وجوب الحج، على من استطاع إليه سبيلاً، واختلفوا في وجوب العمرة؛ فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها؛ وهو قول عمر، وعليّ، وابن عمر، ورواه عكرمة عن ابن عباسٍ، قال: والله إنَّ العمرة لقرينة الحجِّ في كتاب الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} وبه قال عطاءٌ، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وقتادة وسعيد بن جبير، وإليه ذهب الثوريُّ، وأحمد، والشافعيُّ، في أصحِّ قوليه.
وذهب قومٌ إلى أنها سُنَّةٌ، وهو قول جابرٍن وبه قال الشعبيُّ، وإليه ذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجميعن.
حجةُ القولٍ الأوَّلِ أدلةٌ منها: قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} والإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملً تاماً؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] أي: فعلهنَّ على التمام، والكمال، وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] ، أي: فافعلوا لاصيام تاماً إلى الليل.
فإن قيل يحتمل أن يكون المراد أنكم إذا شرعتم فيهما، فأتموهما؛ لأنَّها تدلُّ على أصل الوجوب؛ لأنَّا إنما استفدنا الوجوب من قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] ، لا من هذه الآية، وكذا قوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] إنَّما استفدنا وجوب الصوم من قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] لا من قوله: ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ «والحجُّ والعمرةُ يجب إتمامهما بالشروع فيهما، سواءٌ أكانا فرضاً، أو تطوُّعاً، وتقول: الصوم خرج بدليلٍ، أو تقول: وجب(3/359)
إتمامه بالشروع، فيكون الأمر بالإتمام، مشروطاً بالشروع فيهما.
فالجواب: أنَّ ما ذكرناه أولى؛ لأن على تقديركم يحتاج إلى إضمارٍ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى إضمار؛ فكان الاحتمال الذي ذكرناه أولى، ويدلُّ عليه: أنَّ أهل التفسير ذكروا أنَّ هذه الآية أول آيةٍ نزلت في الحجِّ، فحملها على إيجاب الحجِّ، أولى من حملها على وجوب الإتمام بشرط الشُّروع.
وأيضاً يؤيّده ما ذكرناه من قراءة من قرأ» وأقِيمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ «وإن كانت شاذَّةً، لكنَّها تجري مجرى خبر الواحد.
فإن قيل: قراءة عليٍّ، وابن مسعودٍ، والشَّعبي:» والعُمْرَةُ لِلَّهِ «بالرفع يدلُ على أنهم قصدوا إفراد العمرة عن حكم الحجِّ، في الوجوب؛ فالجواب من وجوه:
أحدها: أنها شاذَّةٌح فلا تعارض المتواترة.
فإن قيل: قد استدللتم أنتم بالشاذَّة أيضاً؟
قلنا: استدللنا بها حيث هي موافقةٌ؛ فتكون تقويةً للاستدلال، لا أنها نفس الدَّلِيل،(3/360)
واستدلالكم بالشاذَّة؛ نفس الدليل، وهو معارضٌ بها؛ فتساقط الاستدلالان، وسلمت المتواترة عن المعارض.
وثانيها: أن قوله:» وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ «معناها: أنَّ العمرة عبادةٌ الله، وذلك لا ينافي وجوبها.
وثالثها: أنَّ في هذه القراءة ضعفاً في العربية؛ لأنَّها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَوْمَ الحج الأكبر} [التوبة: 3] ، يدلُّ على وجود حجٌّ أصغر، وهو العمرة بالاتفاق.
وإذا ثبت أن العمرة حجٌّ، فتكون واجبةٌ؛ لقوله تعالى:
{عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] .
الدليل الثالث: ما ورد في الصَّحيح: أنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الإسلام، فقال: «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأَنَّ مُحمداً رَسُولُ اللَّهِ، وأَنْ تٌقِيمَ الصَّلاَةَ، وتُؤْتِي الزكاةَن وتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ»
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجلَّ وعظَّم - لأبي رزين، لمَّا سأله، فقال: إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ أدرك الإسلام، ولا يستطيع الحجَّ والعمرة، ولا الظَّعْنَة، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «حُجَّ عن أبِيكَ وَاعْتَمْرْ» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - «إنَّ الحجَّ والعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ، لا يَضُرُّكَ بأيهما بَدَأْت»(3/361)
وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - «عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ: الحَجُّ وَالعُمْرَةُ»
وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ليس أحد من خلق الله إلاَّ وعليه حجةٌ وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وقال الشافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: اعتمر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم قبل الحجِّ، ولو لم تكن العمرة واجبةً، لكان الأشبه أن يبادر إلى الحجِّ الواجب.
القول الثالث: في قصة الأعرابِّي حين سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أركان الإسلام، فعلَّمه الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجَّ، فقال الأعرابيُّ: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا إلاَّ أن تطَّوع» ، فقال: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقض، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أفلح إن صدق»
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وحَجِّ الْبَيْتِ»
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وزَكُّوا أَمْوَالَكُمْ، وَحُجُّا بَيْنَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّة رَبِّكُمْ»
وعن محمد المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه سئل عن العمرة، واجبةٌ هي أم لا؟ فقال: «لاَ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ»(3/362)
وعن معاوية الضَّرير، عن أبي صالحٍ الحنفي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم - قال: «الحَجُّ جِهَادٌ، وَالعُمْرَةُ تَطَوَّعٌ»
والجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: أن هذه أخبارُ آحادٍ؛ فلا تعارض القرآن.
وثانيها: أنَّ هذه الآية الكريمة نزلت في السَّنة السابعة من الهجرة، فيحتمل أنَّ هذه الأحاديث حيث وردت، لم تكن العمرة واجبةً، ثم نزل بعدها: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} ، وهذا هو الأقرب لما ذكرناه.
وثالثها: أن قصة الأعرابي، والحديثين اللذين بعده، ذكر فيهم الحجَّ، وليس فيها بيان تفصيل الحج، وقد بينَّا أن العمرة حجٌّ، فلا تنافي وجوب العمرة، وأمَّا حديث ابن المنكدر، فرواه الحجاج بن أرطاة؛ وهو ضعيفٌ.
فصل
واتفقت الأمة على أنَّه يجوز أداء الحجِّ والعمرة على ثلاثة أوجهٍ: الإفراد، والتمتع، والقران.
فالإفراد: أن يُحرم بالحجِّ منفرداً، ثم بعد الفراغ منه، يعتمر من أدنى الحلِّ.
والتمتع: أن يعتمر في أشهر الحجِّ، فإذا فرغ من العمرة، يحرم بالحجِّ من مكة المشرقة في عامه.
والقران: أن يحرم بالحج والمرة معاً، أو يحرم بالعمرة، ثم يدخل عليها الحجَّ قبل أن يفتتح الطواف؛ فيصير قارناً، ولو أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم ينعقد غحرامه بالعمرة.
واختلفوا في أيِّ هذه الثَّلاثة أفضل؟ وتفاصيل هذه الأقوال مذكورةٌ في كتب الفقه.
قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] قال أحمد بن يحيى: أصل الحصر، والإحصار: المنع والحبس.(3/363)
ومنه قيل للملك: الحصير؛ لأنه ممنوع من الناس.
قال لبيدٌ: [الكامل]
979 - ... ... ... ... ... ... ... ... جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ
وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنى، أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ. فقال الفراء، والزجاج، والشيباني؛ إنهما بمعنى، يقالان في المرض، والعدوِّ جميعاً؛ وأنشدوا على ذلك [الطويل]
980 - وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ وَلاَ أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وهو قولٌ أبي عُبَيْدَة، وابن السِّكِّيتِ، وابن قتيبة. وفرقَّ بعضهم، فقال الزمخشري، وثعلبٌ: في فصيح الكلام: يقال: أُحْصِر فلانٌ: إذا منعه أمرٌ من خوفٍ، أو مرض، أو عجز؛ قال تعالى: {الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 273] ، وحُصِر: إذا حبسه عدوٌّ، أو سجنٌّ، هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى في كل شيءٍ، مثل: صدَّه وأصدَّه، وكذلك الفراء والشيباني، ووافقه ابن عطية أيضاً؛ فإنه قال: والمشهورُ مِنَ اللُّغَةِ: أُحْصِر بالمرضِ، وحُصِر بالعَدُوِّ. وعكس أبن فارسٍ في «مُجْمَلِه» ، فقال: «حُصِر بالمرضِ، وأُحْصِر بالعَدُوّ» وقال ثعلب: «حُصِر في الحَبْسِ، أَقْوى مِنْ أُحْصِر» ، ويقال: حَصِرَ صَدْرُه، أي: ضاق؛ ورجلٌ حَصِرٌ: لاَ يُبُوحُ بسرِّه، قال جرير في ذلك المعنى [الطويل](3/364)
981 - وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ حَصُوراً
والحَصِيرُ: معروفٌ؛ لامتناعِ بعضه ببعض، وانضمامُ بعضه غلى بعضٍ، تشبيهاً باحتباس الشَّيء مع غيره، والحصر: احتباس البول، والغائط.
وقيل: إنَّ الحَصْرَ مختصٌّ بالمنع الحال من جهة العدوِّ؛ وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس، وابن عمر، وابن الزُّبير، قالوا: لا حصر إلاَّ حصر العدوِّ، وهو قول سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيِّب، وإليه ذهب إسحاق، وأحمد، والشافعيُّ - رحمهم الله تعالى؛ وأكثر أهل اللغة يردُّون هذا القول.
وفائدة هذا الخلاف في أنَّه: هل يثبت للمحصر بالمرض ويغره من الموانع حكم المحصر بالعدوِّ؟
فقال الشافعيُّ: لا يثبت، وقال غيره: يثبت، والقائلون بأنه يثبت، قال بعضهم: أنَّه ثابتٌ بالنصِّ، وقال آخرون: بالقياس الجلي.
حجَّة القائلين بالثبوت: مذهب أهل اللغة؛ لأن أهل اللغة قائلان:
أحدهما: القائلون بأن الإحصار مختصٌّ بالحبس الحاصل بسبب المرض، فتكون الآية الكريمة نصاً صريحاً فيه.
والثاني: القائلون بأن الإحصار المطلق الحبس، سواءٌ كان مرضٌ أو عدوٌّ؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرجَ، فَقَدْ حَلَّ، وعليه الحَجُّ مِنْ قَابِل»
قال عكرمة: فسألتُ ابن عباسٍ، وأبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن ذلك؛(3/365)
فقالا: صَدَق. فدلَّ ظاهر الآية، والحديث عليه أيضاً.
وعلى القول الثَّالث: فهو أنَّ الإحصار اسمٌ لمنع العدوِّ، فنقول: هذا باطلٌ باتفاق أهل اللغة، وبتقدير ثبوته، يقيس المرض على العدوِّ بجامع دفع الحرج، وهو قياسٌ جَلِيٌّ ظاهرٌ.
وأمّا بتقدير مذهب ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، فلا شكَّ أنَّ قولهم أقوى؛ لتقدمهم على هؤلاء الأدباء، في معرفة اللغة، ومعرفة تفسير القرآن. والحديث ضعيف، ويمكن تأويله بأنَّه إنّما يحل بالكسر، والعرج، إذا كان مشروطاً في عقد الإحرام.
كما روي: أنَّ ضباعة بنت الزبير كانت وجعةً؛ فقال لها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، وبجَّل، وعظَّم: «حِجّي واشْتَرِطي، وَقُولي اللَّهُمَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَني» ويؤكد هذا القول وجوهٌ:
أحدها: أنَّ الإحصار: إفعالٌ من الحصر، والإفعال تارةً يجيء بمعنى التعدية، نحو: ذهب زَيْدٌ، وأذْهَبْتُه انا، ويجيءُ بمعنى: صار ذا كذا؛ نحو: أَغَدَّ البعيرُ، أي: صار ذا غُدَّةٍ، وأجبر الرجل، إذا صار ذا إبل جربى، ويجيء بمعنى: وجدته بصفة كذا؛ نوحو: أَحْمدْتُ الرجل، أي وجدته محموداً.
والغحصار لا يمكن أن يكون للتعدية؛ فوجب إمَّا حمله على الصيرورة، أو على الوجدان، والمعنى أنَّهم صاروا محصورين ووجدوا محصورين.
واتفق أهل اللُّغة على أنَّ المحصور هو الممنوع بالعدو، لا بالمرض، فوجب أن يكون معنى الإحصار: هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدوِّ، وذلك يؤكِّد ما قاله الشافعيُّ.
وثانيها: أنَّ الحصر عبارة عن المنع، وإنما يقال للإنسان: أنَّه ممنوعٌ من فعله، ومحبوسٌ عن مراده؛ غذا كان الغي هو فاعل ذلك المنع والحبس.
فالحصر: عبارة عن الكيفية الحاصلة عند اعتدال المزاج، وسلامة الأعضاء، وذلك مفقودٌ في حقّ المريض؛ لأنَّه غير قادر على الفعل ألبتة؛ فلا يحكم عليه بأنه ممنوع، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضي.
أمَّا إذا كان ممنوعاً بالعدو، - فها هنا - القدرة حاصلة إلاَّ أنه تعذْر الفعل؛ لأجل(3/366)
مدافعة العدوِّ فصح ها هنا أن يقال: إنه ممنوعٌ من الفعل؛ فوجب أن يكون الإحصار حقيقة في العدو، لا في المرض.
وثالثها: أن قوله: «أُحْصِرْتُمْ» أي: حبستم ومنعتم، والحبس لا بدَّ له من حابسٍ، والمنع لا بدَّ له من مانعٍ؛ لأنَّ الحبس، والمنع فعلٌ، وإضافة الفعل إلى المرض محالٌ عقلاً، لأن المرض عرضٌ لا يبقى زمانين، فكيف يكون فاعلاً، وحابساً، ومانعاً.
وأمَّا وصف العدوِّ بأنه حابسٌ، ومانعٌ؛ فهو وصفٌ حقيقيٌّ، وحمل الكلام على الحقيقة، أولى من حمله على المجاز.
ورابعها: أنَّ الإحصار مشتقٌ من الحصر، ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض؛ فوجب أن يكون خالياً عن المرض قياساً على جميع الألفاظ المشتقة.
وخامسها: أنَّه تعالى قال بعده: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} فعطل عليه المرض، فلو كان المحصر، هو المرض، أو من يكون المرض داخلاً فيه، لكان عطفاً للشيء على نفسه.
فإن قيل: إنما خصَّ المريض بالذكر؛ لأنَّ له حكماً خاصاً، وهو حلق الرأس، فصار تقدير الآية الكريمة: إن منعتم بمرض، تحللتم بدمٍ، وإن تأذَّى رأسكم بمرض، حلقتم، وكفَّرتم.
قلنا: هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض، إلاَّ أنه مع ذلك يلزم منه عطف الشيء على نفسه، وحمل المحصر على غير المريض يوجب خلوَّ الكلام عن هذا الاستدلال، فكان أولى.
وسادسها: قوله تعالى: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدوِّ، لا في المرض، فإنَّه يقال في المرض: شُفِي، وعُفِيَ ولا يقال أمِنَ.
فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ لفظ الأمن لا يستعمل إلاَّ في الخوف، فإنه يقال: أمن المرض من الهلاك، وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أوَّلها.
قلنا: لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيَّد، فإنَّه لا يفيد إلاَّ الأمن من العدوِّ.
وقوله: خصوص آخر الآية الكريمة لا يقدح في عموم أوَّلها.
قلنا: بل يوجب؛ لأن قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} ليس فيه بيان أنَّه حصل الأمن عن ماذا، فلا بدَّ وأن يكون المراد حصول الأمن عن شيءٍ تقدَّم ذكره، وليس إلاَّ الإحصار، فكان التقدير: فإذا أمنتم من ذلك الإحصار.
وإذا ثبت أنَّ لفظ الأمن لا يطلق إلاَّ في العدوّ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار، منع العدوِّ.(3/367)
وسابعها: إجماع المفسرين على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة، أن الكفَّار أحصروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحديبية، واختلف العلماء في الآية النازلة في سببه؛ هل تتناول غير ذلك السبب؟ إلاّ أنهم اتفقوا على أنَّه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه، فكان الإحصار في هذه الآية الكريمة عبارة عن العدوِّ، وأمّا قياس منع المرض عليه، فلا يمكن لوجهين:
الاول: أنَّ كلمة «إِنْ» شرطٌ، وحكم الشرط انتفاء المشروط عند انتفائه ظاهراً، فيقتضي ألاَّ يثبت الحكم إلاَّ في الإحصار الذي دلَّت الآية عليه، فلو أثبتنا هذا الحكم في غيره قياساً، كان ذلك نسخاً للنصِّ بالقياس، وهو غير جائز.
الثاني: أنَّ الإحرام شرعٌ الزمٌن لا يحتمل النسخ قصداً؛ ألا ترى أنَّه لو جامع، فسد حجُّه ولم يخرج من الإحرام؛ وكذا لو فاته الحجُّ حتى لزمه القضاء، والمريض ليس كالعدوّ؛ لأن المريض لا يستفيد بتحلّله ورجوعه أمناً من مرضه، وأمَّا المحصر بالعدو، فإنّه خائفٌ من القتل إذا أقام، فإذا رجع، فقد أمن، وتخلص من خوف القتل، والله أعلم.
فصل
قال القرطبيُّ: «الحَاصِرُ لاَ يَخْلُوا مِنْ أَنْ يكونَ كَافِراً أَوْ مُسْلِمَاً، فإن كان كافراً، لم يَجُزْ قِتَالُه، ولو وثق بالظهور عليه، ويتحلل بموْضِعه؛ قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام} [البقرة: 191] ولو سأل الكافر جعلاً، لم يجز؛ لأن ذلك وهن في الإسلام، وإن كان مسلماً لم يجز قتاله بحال، ووجب التحلل، فإن طلب جعلاً ويتخلّى عن الطريق، جاز دفعه، ولم يجز القتال؛ لما فيه من إتلاف المهج، وذلك لا يلزم في أداء العبادات، فإنّ الدِّين أسمح، وأمّا بذل الجعل، فلما فيه من دفع أعظم الضَّررين بالأسهل منهما: ولأن الحجَّ ممَّا ينفق فيه المال، فيعدُّ هذا من النَّفقة» .
فصل
العدوُّ الحاصر: لا يخلو إمّا أن يتيقَّن بقاؤه، واستيطانه، لقوته وكثرته، أولا، فإن كان الأول، حلَّ المحصر مكانه من ساعته، وإن كان الثاني، فهو مما يرجى زواله، فهذا لا يكون محصوراً؛ حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنَّه إن زال العدو، لا يدرك الحج؛ فيحلّ حينئذٍ.
وقال أشهب: من حصر عن الحج بعدو، فلا يقطع التَّلبية، حتى يروح الناس إلى عرفة.(3/368)
فصل في الإحصار
الإحصار: إنما يكون عن البيت، أو عن عرفة. فأمَّا عن الواجبات التي تجبر بالدم كالرَّمي والمبيت بمزدلفة،، ونحوها، فلا إحصار فيها؛ لأن المحرم يتمكن من إتمام حجَّه بجبرها بالدَّم، وإذا إحصر عن طريق، وله طريق غيرها، يتمكَّن في الوصل إلى مكَّة، ويدرك الحجَّ من غير زيادةٍ في النفقة، أو ميرة لا تجحف بهن فليس بمحصر، إذا كانت تلك الطُّرق أمناً، [فإن لم تكن أمناً] ، أو كانت زيادة النَّفقة تجحف بماله. فهو محصر
فصل في قضاء المحصر
إذا أُحصر، فلا قضاء عليه بالإحصار؛ لأنه إن كان محرماً بحجّ الفرض، أو النَّذر، وكان ذلك في العام الذي وجب عليه الحجُّ فيه، لم يجب القضاء؛ لأن شروط وجوب الحجِّ لم تكمل؛ لوجود الإحصار، وإن كان ذلك في العام الثاني: وجب عليه الحجُّ للوجوب السَّابق، لا للإحصار؛ وإن كان الحجُّ تطوُّعا، فلا قضاء؛ لأنَّه لم يجب عليه ابتداءً.
قوله: {فَمَا استيسر} ، «مَا» موصولة، بمعنى: الذي، ويضعف جعلها نكرة موصوفة، وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها في محل نصب، أي: فليُهدِ، أو فلينحر، وهذا مذهب ثعلب.
والثاني: ويعزى للأخفش: أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر.
والثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالواجب ما استيسر، واستيسر هنا بمعنى يسر المجرّد كصعب، واستصعب، وغني واستغنى، ويجوز أن يكون بمعنى: تفعَّل نحو: تَكَبَّر واسْتَكْبَرَ، وتعظَّم واسْتَعْظَمَ، وقد تقدَّم ذلك.
قوله: «مِنَ الهَدْي» فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون «مِنْ» تبعيضية، ويكون محلها النَّصب على الحال من الضَّمير المستتر في «اسْتَيْسَر» العائد على «مَا» ، أي: حال كونه بعض الهدي.
والثاني: أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس، فتتعلق بمحذوف أيضا.
وَفي الهَدْي قولان:
أحدهما: أنه. جَمْعَ هَدْيَةَ كَجَدْي جمع جَدْيَةِ السَّرْج.(3/369)
والثاني: أن يكُون مصدراً واقعاً موقع المَفْعُول، أي: المُهْدَى، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجَمْعِ. قال أبو عَمْر بنُ العلاء: لا أعْرف لهذه اللَّفْظَةِ نَظِيراً.
وقرأ مُجاهد والزُّهريُّ: «الهَديُّ» بتشديد اليَاء، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يَكُون جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا.
قال أحمدُ بنُ يحيى: أهلُ الحِجَاز يُخَفِفُون «الهَدْي» ، وتميم يثقِّلُونَهُ؛ قال الشَّاعر: [الوافر]
982 - حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى ... وَأَعْنَاقِ الهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ
وَيُقالُ في جمع الهَدْي: «أَهْدَاءُ» .
والثاني: أنْ يكون فعيلاً بمعنى مَفْعُولٍ، نحو: قتيلٍ بمعنى: مَقْتُول.
فصل
قال القَفَّال: في الآية الكريمة إِضْمَارٌ، والتَّقدير: فَتَحَلَّلْتُم فما استيسر، وهو كقوله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 184] أي: فَأَفْطَرَ فِعِدَّة، وفيها إضمارٌ آخر، هو ما تَقَدَّم، أي: فَلْيَهْدِ أو فلينحر ما اسْتَيْسَرَ، فالواجِبُ ما استيسر، ومعنى الهَدي: ما يهدى إلى بيت الله، عزَّ وجلَّ، تقرباً إليه بمنزلة الهَديَّة.
قال عليٌّ وابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والحسنُ وقتادة: أعلاه بدنه، وأوسطه بقرةٌ، وأخسه شاةٌ، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس.
فصل
إذا عدم المُحْصَرَ الهَدْي، هل ينتقل إلى البَدَل؟ فيه خلافٌ قال أبو حنيفة: لا بَدَلَ لَهُ، ويكونُ الهَدْيُ في ذمِته أبداً؛ لأنه تعالى أوجَبَ على المحصرِ الهَدْيَ على التَّعْيين، ولم يثبت له بَدَلاً.
وقال أحمدُ: له بدلٌ؛ فعلى الأوَّل: هل له أنْ يَتَحلَّلَ في الحالِ، أو يقيم على إحرامه؟
فقال أبو حنيفة: يقيمُ على إحرامه؛ حتى يجدهُ للآية.(3/370)
وقال غيرهُ: له أَنْ يَتَحلَّل في الحال للمشقَّة، وهؤلاء قالُوا يقوِّم الهدي بالدَّرَاهِمِ، ويشتري بها طعاماً، ويُؤدِّي؛ لأنَّهُ أقربُ إلى الهَدْي، وفيه اختلافاتٌ كثيرةٌ، ثم المُحْصَرُ إِنْ كانَ إجرامه بفرضٍ، قد استقرَّ عليه، فذلك الفَرْضُ في ذِمَّتِه، وإن كان حَجّ تَطَوُّعٍ، هل عليه القَضَاءُ؟! فيه خلاف: فذهب جماعةٌ إلى أَّنَّه لا قَضَاء عليه، وهو قَوْلُ مالكٍ، والشَّافعي، وقال مجاهدٌ والشَّعبي والنَّخعيُّ، وأصحابُ الرَّأي: عليه القَضَاءُ.
قال القُرطبيُّ: قال مالكٌ وأصحابُهُ: لا يَمْنَعُ المُحرم الاشتراطُ في الحَجِّ، إذا خاف الحَصْر بمرضٍ، أو عَدُوٍّ، وهو قول الثَّورِيِّ، وأبي حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُ اللَّهُ - والاشتراط أنْ يَقُولَ في إحرامه، إنْ حَبَسَنِي حابِسٌ فمحَلِّي حيثُ حَبَسَني.
وقال أَحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور لا بأس أنْ يَشْتَرِطَ، وله شَرْطُهُ، وهو قولُ جماعةً من الصَّحَابة والتابعين، واحتجُّوا بقوله عليه السَّلام لِضُباعَة حين سألتهُ عن كيفيَّة الإحرام فقال:
«قُولِي: محلِّي حَيْث حَبَسْتَنِي»
فصل
اختلَفُوا في العُمْرة، فأكثر الفُقَهاءِ قالوا: حُكْمُهَا في الإحْصار كَحُكُم الحَجِّ، وعن ابن سيرين أَنَّهُ لا إحصار فيها؛ لأَنَّهَا غير مؤقّتة، ويرده قوله تعالى: {فإِنْ أُحْصِرْتُمْ} عَقِيبَ ذكر الحَجِّ والعُمْرَةِ، فيكونُ عَائِداً إليهما.
فصل
إذا أراد المحصر التحلّل وذبح، وجب أن يَنْوِيَ التَّحلل عند الذَّبْحِ، ولا يَتَحَلَّل أَلْبَتَّةَ قبل الذَّبْحِ.
قوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} في الآية حَذْفٌ؛ لأنَّ الرَّجُلَ لا يَتَحَلَّلُ ببلوغ الهَدْي مَحِلَّه، حتى يَنْحَر؛ فتقدير الآية الكريمة: حتَّى يَبْلُغَ الهَدْي مَحِلَّه، فينحر فإذا نَحَرض فاحلقوا و «مَحِلَّه» يجوز أَنْ يكونَ ظرفَ مَكَانٍ، أو زمانٍ، ولم يُقْرأ إلاَّ بِكَسر الحاءِ فيما علمنا إلاَّ أّنَّهُ يَجُوزُ لغةً فتحُ حائِه، إذا كانَ مكاناً. وفَرَّق الكسائيّ بينهما، فقال: «المَكْسُورُ هو الإحْلاَلُ من الإحْرَامِ، والمفتوحُ هو مَكَانُ الحُلُولِ من الإِحصار» .
فصل
قال أبو حنيفة: لا يَجُوزُ إِراقَهُ دم الإحصار إلاَّ في الحرم وقال أحمدُ والشَّافعيُّ - رحمهما اللَّهُ - حيث حبس والخلافُ مبنيٌّ على البَحْثِ في المَحَلِّ؛ فقال أبو حنيفة: هو اسمٌ للمكان. وقال غيره: هو اسمٌ للزَّمانِ الذي حصل فيه الحل. وحجّتهم وجوه.(3/371)
منها: أنَّه - عليه السَّلامُ - أحصر بالحُديبيةِ ونحر فيها، وليست من الحَرَمِ.
قال أصحابُ أبى حنيفة: إِنَّما أحصر فى طرف الحثدَيبية، الّذى أسفل مَكَّةَ، وهو من الحَرَمِ.
قال الوَاقِدِيُّ: الحديبيةُ على طرف مكَّةَ على تِسْعَةِ أَمْيِالِ من مكَّةَ.
قال القَفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الدَّليل على [أنَّ نحر ذلك الهدي ما وقع فى الحرم قوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] .
ومنها: أَّنَّ المحصَر سواء كان فى المحلّ، أو الحرم، فهو مأمورٌ بنحر الهدي بقوله: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} ، فأوجب على المُحْصَرِ، سواء كان فى الحلّ أو الحرمِ، وإذا ثَبَتَ ذلك؛ وَجَبَ أن يجوز له الذَّبحُ، حيث كَانَ قادراً على إراقة الدَّمِ.
ومنها: أنَّه تعالى إنَّما مكن المحصر من التَّحلل بالذَّبح؛ ليتمكن من تخليص نفسه فى الحال عند خَوْفِ العدوِّ، فلم يَجُزِ النَّحْرُ إلاَّ فى الحرم وَمَا لم يحصلُ النَّحر لا يحصل له التَّحلل فى الحالِ، وذلك يُنَاقِضُ المَقْصُودَ من مشروعيّة هذا الحكم؛ لأن الموصل، للنَّحر إلى الحرم، إن كان هو فالْخَوْفُ، باقٍ، وكيفَ يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخَوْفِ، وإن كَانَ غيره، فقد لا يَجِدُ ذلك الغَيْرَ، فماذا يفعل؟ حجَّةُ أبى حنيفة وجوه:
الأَوَّل: أَنَّ المحِلَّ - بكسر الحاء - عبارة عن المكان كالمسجدِ والمَجْلِس، فقوله {حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} يَدُلُّ على أَنَّهُ غير بالغٍ فى الحَالِ إلى مكان الحِلِّ، وهو عندكم بَالِغٌ مَحَلَّهُ فى الحال.
وجوابه: أنَّ المحلَّ عبارة عن الزَّمان كمحل الدّين.
الثَّاني: أن لفظ «المَحِلّ» يحتمل الزَّمانَ والمَكَانَ إلاَّ أن الله - تعالى - أَزَلَ هذا الاحتمال بقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 23] .
وجوابه بأَنَّ كُلَّ ما وجب على المحرم فى ماله من بَدنَةٍ، وجزاء هَدْي، فَلاَ يُجْزِي إلاَّ فى الحَرَمِ لمساكين أهْلِهِ إلاَّ فى مَوْضعَين:
أحدهما: مَنْ سَاقَ هَدْياً، فعطب فى طريقه ذبحه، وخلَّى بين المَسَاكِين وَبَيْنَه.
والثَّاني: دم المُحْصَرِ بالعَدُوِّ فينحر حيثُ حبس، فالأَدِلَّةُ المذكورةُ فى باقي الدّماءِ فلم قلتم إِنَّها تَتَنَاوَلُ هذه الصَّورَةَ؟
الثَّالث: قالوا إِنَّما سُمِّيَ هَدْياً؛ لأنه جارٍ مَجْرَى الهَدِيَّةِ التى يَبْعَثُهَا العَبْدُ إلى رَبِّهِ(3/372)
والهديّةُ لا تكونُ هَدِيَّةً إلاَّ إذا بَعَثَها المهَدي إلى دَارِ المهدى إليه، وهذا المعنى لا يُتَصَّورُ إلاَّ بجعلِ موضعِ الهَدْي هو الحَرَمُ.
وجوابه: هذا تَمَسُّكٌ بالاسم، ثم هُوَ مَحْمُولٌ على الأصلِ عند القُدْرَة.
الرابع: أَنَّ سَائِر دماء الحَجّ سواء كانت قربة، أو كَفَّارة، لا تَصِحُ إلاَّ فى الحرم، فكذا هذا.
وجوابُهُ أنَّ هذا الدَّم إِنَّما وَجَبَ لإزالة الخَوْفِ، وزوال الخوف إِنْما يَحْصُلُ إذا قدر عليه حَيْثُ أُحصر، فلو وَجَبَ إِرْسَالَه إلى الحرم، لم يحصل هذا المَقْصُود، وهذا المَعْنَى غير موجود فى سائِرِ الدِّمَاءِ، فَظَهَر الفَرْقُ.
والقَائِلُونَ بأَنَّ مَحلَّه الحَرَم قالوا: إن كان المُحْصَر حَاجّاً، فمحله يوم النَّحْرِ، وإِنْ كَانَ معتمراً، فمحله يَوم يبلغ هديه الحرم.
قوله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} [البقرة: 196] .
فى «مِنْكُمْ» وجهان:
أحدهُما: أن يَكُونَ فى مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من «مَرِيضاً» ؛ لأنه فى الأصل صفةٌ لهن فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً. وتَكُونَ «مِنْ» تبعيضيةٌ، أي: فَمَنْ كانَ مريضاً منكم.
والثَّاني: أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً.
قال أبو حيان: «وهو لا يَكَادُ يُعْقَلُ» . و «مَنْ» يَجُوزُ أنْ تكونَ شرطيةً، وأَنْ تكونَ موصولةً.
قوله: {أَوْ بِهِ أَذًى} يجوزُ أَنْ يكُونَ هذا مِنْ بابِ عَطْفِ المُفْرَدَاتِ، وأن يَكُونَ من باب عَطْفِ الجُمَلِ. أما الأولُ، فيكونُ الجَارُّ وَالمجرورُ فى قوله: «به» معطوفاً على «مريضاً» الّذي هو خبرُ كانَن فَيَكُونُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ. ويكونُ «أذىً» مرفوعاً به على سبيل الفَاعِلِيِّة؛ لأَنَّ إِذَا اعْتمد رَفَع الفاعل عند الكُلَ فيصيرُ التقديرُ: فَمَنْ كان كائناً به أَذىً من رَأْسِهِ. وأما الثاَّاني فَيَكُونُ «به» خبراً مقدَّماً، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ، وفى الوجهِ الأَوَّلِ كان نصباً، و «أذىً» مبتدأٌ مؤخَّر، وَتَكُونُ هذه فى مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها عَطفٌ على «مَريضاً» الواقع خبراً لكَان، فهى وإنْ كانَتْ جُمْلَةً لفظاً، فهي فى مَحَلِّ مُفْرَدٍ؛ إذ المَعْطُوفُ على المَفْرَدِ مفردٌ، لا يُقَالُ: إنه عَادَ إلى عَطْفٍ المُفْرَدَاتِ، فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفَرق.
وأجازوا أن يَكُونَ «أَذىً» مَعْطُوفاً على إِضْمارِ «كان» لدلالةِ «كانَ» الأولى عليها، وفى اسْمِ «كَانَ» المَحْذُوفَةِ حينئذٍ احْتِمَالانَ.
أحدهما: أن يَكُونَ ضميرَ «مَنْ» المتقدِّمَةِ، فيَكُونُ «به» خبراً مقدماً، و «أذى» مبتدأ مؤخراً، والجُمْلَةُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ خبراً لكان المضمرةِ.
والثَّاني: أن يكونَ «أَذىً» اسمها و «به» خبرَها، قُدِّم على اسمها.(3/373)
وأجَازَ أَبُو البَقَاءِ أن يَكُونَ «أَوْ بِهِ أَذَىً» معطوفاً على «كَانَ» ، وأَعْرَب «به» خبراً مقدّماً متعلِّقاً بالاستقرار، و «أَذىً» مبتدأ مُوَخَراً، والهاءُ فى «بِهِ» عائدةٌ على «مَنْ» . وخَطَّأَهُ أبو حيان فيه، قال: لأَنَّهُ كَانَ قد قَدَّمَ أن «مَنْ» شَرْطيةٌ، وعلى هذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ خطأن لأَنَّ المَعْطُوف على جُمْلةِ الشَّرْطِ شَرْطٌ، والجُمْلَةُ الشَّرْطيةُ لا تَكُونُ إلا فِعْلِيَّةً، وهذه كما ترى جملةٌ اسْميّةٌ على ما قَرَّرَهُ. فَكَيْفَ تَكُونُ معطوفة على جملةٍ الشَّرطِ التِي يَجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل: فإذا جَعَلْنَا «مَنْ» موصولةٌ، فهل يَصِحُّ ما قاله من كَوْنِ «بِهِ أَذىً» معطوفاً على «كَانَ» ؟ فالجَوَابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ «مَنْ» الموصولةَ إذا ضُمِّنَتْ معنى اسْم الشَّرْطِ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جُمْلَةً فِعْليةً، أو ما هي فى قُوَّتِهَا، وَالبَاءُ فى «به» يجوزُ فيها وجهَان.
أحدُهما: أن تَكُونَ للإلصاق.
والثاني: ان تكونَ ظرفيةً.
والأذى مَصدر بمعنى الإيذاءِ، وهو الأَلَمُ يُقالُ آذاه يُؤْذِيه إيذَاءً وأذى، فكان الأَذَى مصدر على حذف الزَّوائد، أو اسم مصدر كالعَطَاءِ اسم للإِعْطاءِ، والنَّبَاتِ للإِنْبَاتِ. قال ابنُ عَبَّاسِ - رضي اللَّهُ عنهما «فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رأْسِهِ» أي برأسه قروح، {أَوْ بِهِ أَذًى} ، أي: قَمْلٌ «.
قولُهُ:» مِنْ رَأْسِهِ «فى وجهان.
أحدهما: أنَّه فى مَحَلِّ رَفْع؛ لأنَّهُ صِفَةٌ لأَذَى، أي: أذى كَائنٌ من رَأْسِهِ.
واثَّاني: أَنْ يَتَعَلَّق بما يَتَعلَّقُ» بِهِ «من الاستقرارِ، وعلى كلا التَّقْدِيرَين تكُونُ» مِنْ «لابتداءِ الغَايَةِ.
قوله:» فَفِدْيَةٌ «فى رفعها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدُها: أن تكُونُ مُبْتَدَأً والخبرُ مَحْذُوفٌ، أي: فعليه فِدْيَةٌ.
والثَّاني: أن تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدأ محذوف، أي: فالواجبُ عليه فِدْيَةٌ.
والثَّالث: أن تكُونَ فاعل فعلٍ مقدَّر، أي فَتَجِبُ عليه فديةٌ. وقُرئ شَاذَاً:» فَفِدْيَةً «نصباً، وهي على إضْمَار فعل، أي: فَلْيَفْدِ فديةً. و» مِنْ صِيَام «فى مَحَلِّ رفعٍ، أو نَصْبٍ على حسب القِرَاءَتَيْن صفةً ل» فِدْيَة «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و» أو «للتَّخيير، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفَاءِ تقديرهُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَة.
وقرأ الحَسَنُ والزُّهريُّ «نُسْك» بسكون السِّينِ، وهو تخفيفُ المضموم. وفى النَّسُك قولان.(3/374)
أحدهما: أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ: نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضَّمِّ والإِسكان، كما قرأهُ الحَسَنُ.
والثَّاني: أنه جَمْعُ نَسِيكة، قال ابنُ الأَعْرَابيّ: «النَّسيكَةُ فى الأَصْلِ سَبيكة الفِضَّةِ، وتُسَمَى العبادةُ بها؛ لأَنَّ العِبَادَة مُشْبهةٌ سبيكة الفِضَّة فى صَفَائِهَا وخُلوصِها من الآثام ويُقَالُ للمتعبد» نَاسِكٌ «، لأَنَّهُ يُخلص نفسه من الآثام وصغارِها كالسَّبِيكةِ المخلَصة من الخَبَثِ وقيل للذَّبيحة» نَسيكة «لذلك لأنها أشرف العبادات التى يُتَقرَّبُ بها إلى اللَّهِ تعالى.
فصل في سبب نزول الآية
قال ابنُ عبَّاس: نزلت هذه الآية الكريمة فى كَعْب بنِ عجزة،» قال كعبٌ: مَرّبي رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زمن الحُدَيْبَةِ، وكان شعر رأسي كثير القَمْلِ والصَّئبان، وهو يتناثرُ وَأنَا أطيح، فرآني فَقَال - عليه السَّلامُ -: «أَتُؤْذِيك هَوَامٌّ رَأْسِكَ» قُلْتُ: نعم يا رَسُول اللَّهِ، قال: «احْلِقْ رَأْسَكَ» ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة.
والمقصود منها أَنَّ المحرم إِذَا تَأَذَّى بالمرض، أو بهوامّ رأسه؛ أُبيح له المُدَاوَةُ في الحَلْقِ بِشَرْطِ الفِدْيَةِ، وهو على التَّخْيير بينَ أن يذبح، أو يَصُومَ، أو يَتَصَدَّق، فَأَقَلّ النُّسُكِ شَاةٌ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ، وأعلاه بَدَنَةٌ. وأمَّا الصِّيامُ، فليس فى الآية كمِّيته، وفيه قولان:
أحدهما: أنَّه ثَلاَثَةُ أَيَّام؛ لما رَوَى أَبو دَاودَ أنَّه - عليه السَّلامُ - «لمّا مرَّ بكعب بنِ عجْرة، وَرَأَى كثرةَ هَوَامّ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: احْلِقْ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةٌ نُسُكاً، أَو صُم ثَلاَثَةَ أَيَّامِ أَوِ أَطْعِم ثَلاَثَة آصعِ مِنْ تَمْرٍ على سِتَّة مساكِينَ»
والثَّاني: قال ابنُ عبّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والحَسَنُ: الصِّيام كصيام المتمع عَشْرَة أَيَّامٍ، والإطعام مِثْلُ ذلك فى العَدَدِ؛ لأَنَّ الصِّيَامَ والإطعام لمّا كان مُجْمَلَيْنِ فى هَذَا(3/375)
المَوْضِعِ؛ وَجب حَمْلُهُ على المبيَّنِ فيما جاء بعد ذلك، وهو الَّذي يلزمُ المتمتِّعَ إذا لم يجد الهدي.
فصل
اختلفوا: هَلْ يقدّم الفدية ثمّ يترخّص، أو يُؤَخِّر الفدِية عن الترخّص، والّضي يقتضيه ظاهر الآية الكريمة؛ أنَّهُ يؤخر الفِدْيَةَ عن الترخص، لأن الإقْدَامَ على التّرخص كالعِلَّة فى وُجُوبِ الفِدْيَة، فكان مُقَدَّماً عليه، وأيضاً فقد بينَّا أنَّ تقدير الآية الكريمة: فَحَلَقَ فعليه فِدْيةٌ.
فصل
قال بَعْضُهُم هذه الآية الكريمة مختصّة بالحَصْرِ؛ وذلك إِنْ قيل أي بلوغ الهَدْي محلَّه، ربما لحقه مرض، وأذى فى رأْسِهِ، فأذن الله تعالى له فى إِزَالَة ذلك المُؤْذِي بشرط أن يَفْدِي.
وقال آخرون: بل الكَلاَمُ مستأنفٌ فى كُلِّ محرم لحقه مرض، أو أذى فى رَأْسِهِ، فاحْتَاج إلى العلاج والحلق، فبيَّن اللَّهُ تعالى أّنَّ لهُ ذلك، وبين ما يجبُ عليه من الفِدْية، وقد يَكُونُ المَرَضُ محوجاً إلى اللِّبَاسِ، من شدَّة البَرْدِ أو غيره، وقد يحتاج فى الأَمْرَاضِ إلى استِعْمَالِ الطّيب كثيراً، وبالجملة فهذا الحُكمُ عامٌّ فى جميع مَحظورات الإِحْرامِ.
فصل
فَأَمّا من حق رأسه عامِداً من غير عُذْرٍ، فقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ يجب عليه الدَّمُ.
وقال مالكٌ: حكمه حكم من فعل ذلك بعذر؛ لأَنَّ وجوبه على المَعْذُور تنبيه على وجوبه على غير المَعْذُورِ.
وقال ابنُ الخطيب: هذا ضَعيفٌ؛ لأَنَّ قوله: «فَمَنْ كَانَ منْكُمْ مَريضاً أَوْ بِهِ أَذَى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ» يدل على اشْتِراط هذا الحُكْم بهذه الأَعذارِ، والمَشْرُوط بالشيء عدم عند عدم الشَّرْط.
قوله: «» الفاءُ عَاطفةٌ على ما تَقَدَّم، و «إِذَا» مَنْصُوبَةٌ بالاستقرار المحذوفِ؛ لأنَّ التَّقْدِير: فعليه ما اسْتَيْسَرَ، أي: فاستقرَّ عليه ما اسْتَيْسَرَ «.
وقوله:» فَمَنْ تَمَتَّعَ «الفاءُ جوابُ الشَّرْطِ بإذا، والفَاءُ فى قوله: {فَمَا استيسر} جوابُ الشَّرط والثاني. ولا نَعْلَمُ خلافاً أَنَّهُ يَقَعُ الشَّرْطكُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ. وقد تَقَدَّم الكَلاَمُ على {فَمَا اسْتَيْسَرَ} .(3/376)
فصل
تقدير الكَلاَمِ، فإذا أمنتم الإحصار الخَوْفِ أو المرض، {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} واختلفوا فى هذه المُتْعَةِ: فقال عَبدُ اللَّهِ بنُ الزُّبير: معناه فمن أُحْصِرَ حَتّى فَاتَهُ الحَجُّ، ولم يَتَحَلَّل، فَقَدِمَّ مَكَّةَ، فخرج من إِحرامهِ بعَمَلِ عُمرة، أَو اسْتَمْتَعَ بإِحْلاَلِهِ ذلك بتلك العمرة إلى السَّنَةِ المقبلة، ثم حَجَّ فيَكُونُ متمتعاً بذلك الإحلال إلى إِحْرَامِهِ الثَّانِي فى العَام القَابِلِ، وقيل معناه: فإذا أمنتم، وقد حَلَلْتُم من إحرامِكُم بعد الإحصارِ، ولم تقضوا عمرتكم، وأخرتم العُمرَةَ إلى السَّنَةِ القَابِلة، فاعْتَمَرتُم فى ما اسْتَيْسَرَ من الهَدْي، وهو قول علْقَمَة، وإبراهيم النَّخعيِّ، وسعيد بن جبير.
ومعنى التَّمَتُّع: التَّلَذُّذ، يقالُ تمتَّعَ بالشَّيءِ، أي: تَلَذَّذَ به، والمتاع: كُلُّ شَيءٍ يُتمتع به، وأصلُهُ من قولهم:» حَبْلٌ ماتِعٌ «أي: طويلٌ، وكل ما طالت صحبته بالشَّيء، فهو مُتَمتِّعٌ به، والتمتع بالعمرة إلى الحَجّ هو أن يَقدُم مكَّة مُعْتمِراً فى أشهرِ الحجِّ وينزع منها، ثم يقيمُ بمكَّةَ حلالاً، حتَّى يُنشىء منها الحَجَّ من عَامِهِ ذلك، وإنَّما سُمِّي متمتعاً لأنَّهُ يكُونُ مستمتعاً بمحظورات الحج فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامِهِ بالحَجِّ، وهذا التمتع الَّذي ليس بمكروهٍ، بل هو الأفضلُ عند أحمد، وإتمامِ التَّمتُّع المكروه، وهو الَّذي خطب به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال:» مُتْعَتَانِ كَانَتَا على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأنا أنهى عنهما، وأُعاقِبُ عليهما، مُتْعَةُ النِّسَاءِ، ومتعة الحَجِّ «، والمراد بهذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين، ثُمَّ يفسخ الحجَّ إلى العمرة، ويتمتَّعُ بها إلى الحَجِّ، روي أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذن لأصحابه فى ذلك ثُمَّ نسخ.
روي عن أبي ذَرِّ أنَّه قال: ما كانت متعة الحج إلاّ لي خاصة، وكان السَّبَبُ فيه أنَّهم كانُوا لا يَرَونَ العُمرةَ فى أشهر الحَجِّ، ويعدُّونَهَا مِنْ أَفْجَرِ الفجُور، فلما أراد - عليه السَّلام - إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه، بأنْ نقلهم فى أشهرِ الحَجِّ من الحَجِّ إلى العُمرَةِ، وهذا سَبَبٌ لا يشاركهم فيه غيرهم، فلهذا المعنى كان فسخ الحَجِّ خاصّاً بهم.(3/377)
قال القُرطبيُّ: وزعَمَ مَنْ صَحَّحَ نَهي عُمر عن التَّمَتُّعِ: أنّما نهى لينتجع إلى البيت مرَّتَيْنِ أو أكثر فى العام حتى يُكْثر عمارته بكثرة الزِّيارة فى غير المَوْسِمِ، وأراد إدخال الرّفق على أهل الحَرَمِ بدخول النَّاس، تحقيقاً لِدَعوة إبراهيم - عليه السَّلامُ - {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] .
وقيل: إنَّما نهى عنهما؛ لأَنَّهُ رأى النَّاسَ مالوا إلى التَّمتُّع ليسارته، وخفِّتِهِ؛ فخشي أن يضيع الإفراد والقران، وهما مسنُونانِ.
فصل
التَّمتُّع لا يحصُلُ إلاَّ بمحظورات الإحرامِ لكِنَّهُ لما كان بسبب إتيانِهِ بالعُمْرَة سَمَّاهُ تمتعاً بالعُمرة إلى الحَجِّ.؟
فصل في شروط وجوب دم التَمتُّع
يشترط لوجوب دم التَّمَتُّع خمسة شروطٍ:
أحدها: أن يُقَدم العُمرة على الحَجِّ.
والثاني: أن يُحرم بالعُمرة في أشهر الحَجِّ، فلو أحرمَ لها قبل أشهر الحَجِّ، وأتى بشيء من الطَّوَافِ، ولو شوطاً واحِداً، ثم أكمل بقيه في أشهر الحَجِّ فى هذه السَّنة، لم يلزمه الدَّمُ؛ لأنَّهُ لم يجمع بينَ النُّسُكَيْنِ فى أشهر الحَجِّ.(3/378)
وقال أبو حنيفة: إذا أتى بأكثر الطَّوَافِ فى أشهر الحَجِّ، فهو مُتَمَتِّعٌ، وإذا أتى بالأكثر قبل أشهر الحَجِّ فلا.
الثالث: أن يَحِجُّ فى هذه السَّنَة، فإن حَجَّ فى سَنَةٍ أخرى لم يَلْزَمْهُ دَمٌ؛ لأَنَّه لم يوجد مُزَاحمة الحَجُّ والعمرة فى عامٍ واحدٍ، ولم يحصل الترفُّه بترك أحد السّفرين، إلاَّ على قول ابن الزُّبير فيما قَدَّمناه.
الرابع: ألا يكُون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} ، وهومَنْ كان أهلُهُ على أقلّ منمسافة القَصْرِ، وهل تُعْتَبَرُ هذه المَسَافَةُ من مَكَّة، أو من الحرمِ فيه وجهان.
الخامس: أن يُحْرِم بالحَجِّ من مَكَّةَ بعد الفَرَاغ من العُمرة، فلو رجع إلى الميقاتِ، وأحرمَ بالحَجِّ منه، لا يلزمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ.
فصل
قال القُرطبيُّ: التَّمَتُّع بالعمرة إلى الحَجِّ على أربعةِ أوجهٍ:
أحدها مجمع عليه، والثَّلاثةُ مختلفٌ فيها فالمجمعُ عليه هو المراد بقوله تبارك وتعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي} ، وذلك أَنْ يُحْرَمُ بالعُمْرَةِ في أشهر الحَجِّ، ويكون آفاقيّاً، ويفرغ منها، ويقيم حلالاً بمكَّة إلى أن يحرم بالحجِّ من عامِهِ قبل رجوعه إلى بلدِهِ.
ولها ثَمَانيةٌ شروطٍ:
الأول: أن يجمع بين الحجّ والعمرة.
الثاني: فى عامٍ واحدٍ.
الثالث: فى سفر واحد.
الرابع: فى أشهر الحَجِّ.
الخامس: مقدِّماً الحج.
السادس: غير مخلط لها بالحَجِّ.
السابع: وأن تكُونَ العُمرةُ والحج عن شخصٍ واحدٍ.
الثامن: ويكون آفاقيّاً.
الوجه الثَّاني من وجوه التَّمتُّع بالعُمْرَة: هو القِرَانُ، وهو أنْ يَجْمَعَ بينهما فى إحرامٍ واحدٍ، قيُهِلّ بهما جميعاً فى أشهر الحَجِّ، يتمتع القارن بترك السّفر إلى العُمْرَةِ، مرَّة، وإلى(3/379)
الحَجِّ أخرى، ولا يحرم لكلِّ واحد من ميقاتِهِ، فيدخل تحت قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} .
الوجه الثالث الَّذي نهى عنه عمر - رضي اللَّهُ عنه -: وهو أنْ يُحْرِمَ بالحَجِّ فإذا دخل مَكَّةَ فسخ حجّه إلى عمرة، ثم يحلّ إلى أن يُهِلَّ بالحج يَوْم التَّرْوية، فاختلف فى ذلك، فالجمْهُورُ على تَرْكِ العَمَل بها.
قال أبو ذرِّ كانت المتعة لنا فى الحَجِّ خاصّة.
الوجهُ الرَّابع من التمتع: متعة المُحصر، ومن صُدَّ عن البيت.
فصل
دم التمتع دم جبران، فلا يجوزُ له الأكل منه.
وقال أبو حنيفة دم نسك، ويأكُلُ منه.
حُجَّةُ الأَوَّلِ وجوهٌ:
أحدهما: أنَّ التمتع حصل فيه خَلَلٌ فيكون دم جبران.
وبيان الخَلَلِ أنَّ عُمَرَ كان ينهى عن المتعةِ، فقال له عثمانُ - رضي اللَّهُ عنهما - عَمَدْتُ إلى رُخْصَةٍ بسبب الحاجة؛ فَدلّ على حُصُولِ نقص فيها.
وأيضاً سمَّاها تَمَتُّعاً، والتمتع التَّلَذُّذ، وبمنى العبادة على المَشَقَّةِ.
وأيضاً ففي التَّمَتُّع صار السَّفَرُ للعمرة، وكان من حَقِّه أن يكُون للحج؛ لأَنَّهُ الحج الأكبر، وأيضاً حصل التَّرفه بالإحلال بينهما، وأيضاً كان من حَقّه جعل الميقات للحجِّ، فإنَّه الأَكبَرُ، وكل هذه أنواع خَلَلٍ، فوجب أن يَكُونَ الدَّم دم جبران.
وثانيها: أنَّ الدّم ليس بنسك أصلي من مناسك الحَجّ، أو العمرة، كما لو أفردها وكما في حقّ المَكِّي، والجمعُ بين العبادَتين لا يوجب الدَّم، بدليل أنَّ من جمع الصَّلاة، والصّوم، والاعتكاف لا يَلْزَمُهُ دم، وإذا ثبت ذلك فليس الدَّم دم نسك، بل دم جبران.
وثالثهما: أنَّ هدي التمتع ليس مُؤَقّتاً، والمناسِكُ كلّها مؤقتة، فيكُونُ دم جُبرانٍ.
ورابعها: أنَّه يُبَدَّلُ بالصَّوم، ودم النُّسك لا النُّسُك لا يُبَدَّلُ بالصَّوم.(3/380)
فصل
والمجزي فيها جذعة من الضأن، أو ثنية من المَعْزِ، أو شركُ ستَّةٍ فى بدنةٍ، أو بقرةٍ، ووقت وجوبه بعد الإحرام بالحجِّ؛ لأنَّ قوله: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} يدلُّ على أنَّه عقيب التَّمَتع، ويستحب ذبحه يوم النَّحرِ فلو ذبح بعد الإحرام بالحجِّ جاز؛ لأَنَّ التمتع قد تَحَقَّقَ. وعن أبى حنيفة لا يجوز إلاَّ يوم النَّحر؛ لأَنَّهُ نسك عنده.
قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} ؛ يعنى: أنَّ المتمتع إذا لم يجد الهَدْيَ، فعليه أنْ يصُومَ، وهل الهدي أفضلُ أم الصِّيَامُ؟ قال ابنُ الخطيب: الظَّاهِرُ أنَّ المبدل أفْضَلُ من البدل؛ لكنَّهُ تعالى بيَّن فى هذا البدل أنَّه فى الكمال والثَّوابِ كالهَدْي وهو كقوله «تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ» .
قوله: «فَصِيَامُ» فى رفعه الأَوجه الثَّلاَثَة المّذكُورةُ فى قولِهِ: «فَفِدْيَةٌ» وقرئ نصباً، على تقدير فَلْيَصُمْ، وأُضيف المَصْدَرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً، وهو فى اللَّفظِ مَفْعُولٌ به على السَّعَةِ. و «فِي الحَجِّ» مُتَعَلّقٌ بِصِيَامٍ وقَدَّر بعضهم مُضافاً، أي: في وقتِ الحَجِّ، ومنهم مَنْ قَدَّر مُضَافَيْن، أي: وقتَ أفعالِ الحَجِّ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرْفَ مكانٍ، أي: صَوْمُهُ، بعد إحرام العُمرة، وقبل إحرام الحَجِّ.
وقال أبو حنيفة: يصحُّ.
حجَّةُ الأَوَّل وجوه:
أحدها: أنَّه صيامٌ قبل وقته؛ فلا يجُوزُ كمن صَامَ رَمَضانَ قبلهُ، وكما لو صام السَّبعة قبل الرُّجوع، وذلك لأَنَّ الله تعالى قال: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج} ، والمراد إحرام الحج، لأنَّ سَائِرَ أفعال الحجِّ لا تصلح ظرفاً للصَّومِ، والإحرامُ يَصلُحُ، فوجب حمله عليه.
وثانيها: أنَّ ما قبل الإحرام بالحجِّ ليس بوقت لِلْهَدي الذى هو أصلٌ، ولا يكُونُ وقتاً لبدله، كسائر الأُصُول فى الأبدال.
وإذا ثبتَ ذلك، فَنَقُولُ: اتَّفَقُوا على أَنَّه يجُوز بعد الشُّرُوع فى الحَجِّ إلى يوم النَّحْرِ، وثبت أنَّهُ لا يجوز يوم النحر ولا أيّام التَّشريق لقوله عليه السَّلام: «لا تَصُوْمُوْا فى هَذِهِ الأَيَّامِ» ، والمستحبُّ أنْ يَصُومَ فى أيّام الحج حيثُ يكُونُ يوم عرفة مفطراً.(3/381)
وقال بعضهم: يصوم ثَلاَثة أيّام آخرها يومُ عرَفَةَ والثَّامِن، والتَّاسع، ولو صَامَ ثَلاَثَة أيَّامٍ آخرها يومُ التَّرْوِية، ويكُونُ قد أحرمَ بالحجِّ قبله جاز، ولا يجُوزُ يوم النحر، ولا أيام التَّشْريق. وهو قول مالكٍ والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق.
فصل
اختلفوا فيمن اعْتَمرَ فى أشهر الحَجِّ، ثُمَّ رجع إلى بَلَدِه، ثمَّ رجَعَ في عامه فقال الجمهورُ: ليس بمتمتع، ولا هدي عليه، ولا صِيَام. وقال الحسن: هو مُتَمَتِّعٌ.
وأحمعوا على أَنَّ الآفاقي إذا قدم معتمراً فى أشهر الحج عازِماً على الإقامة، ثم أنشأ الحج من عامه فحج، آنّه متمتع عليه ما على المُتَمَتِّع.
قوله: «وَسَبْعَةٍ» الجمهورُ على جَرِّ «سَبْعَةٍ» عطفاً على ثلاثة. وقرأ زيدُ بنُ عَليٍّ، وابن أبي عَبْلَة: «وَسَبْعَةً» بالنَّصب. وفيها تخريجان:
أحدهما: قاله الزَّمخشَرِيُّ، وهو: أن يكُونَ عطفاً على مَحَلِّ «ثَلاَثَة» كأنه قيل: فصيامُ ثلاثةٍ، كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] ، يعني: أنَّ المُضاف إليه المصدرُ مَنْصُوب معنى بدليل ظُهُورِ النَّصب فى «يَتيماً» .
والثاني: أنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «فَلْيَصُومُوا» ، قال أبو حيان «وهذا مُتَعَيِّنٌ؛ لأنَّ العَطْفَ على المَوضع يُشْتَرَطُ فيه وجُودُ المُحْرِزِ» يني: على مذهب سيبويه.
قوله: «إِذَا رَجَعْتُمْ» : مَنْصُوبٌ بِصيام أيضاً، وهي هُنَا لِمَحضِ الظَّرفِ، وليس فيها مَعْنَى الشَّرْط. لا يُقَالُ: يَلْزَمُ أن يَعْمَلَ عامِلٌ واحدٌ فى ظَرْفَي زَمان، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطف والبَدلِ، وهنا يكُونُ عَطَفَ شيئين على شيئين، فَعَطَفَ «سَبْعَةٍ» على «ثَلاَثَةٍ» ، وعطف «إذ رَجَعْتُم» على «فِي الحَجّ» .
وفي قوله: «رَجَعْتُمْ» شيئان:
أحدهما التفاتٌ، والآخَرُ الحَمْلُ على المعنى، أمَّا الالتفاتُ: فإنَّ قبله {فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ، فجاء بضمير الغَيْبَة عائداً على «مَنْ» ، فلو سيق هذا على نَظْمِ الأَوَّل لقيل: «إِذَا رَجَعَ» بضمير الغَيْبَةِ. وأمَّا الحَمْلُ فلأَنَّهُ أتى بضمير جمعٍ؛ اعتباراً بمعنى «منْ» ، ولو رَاعى اللَّفظ لأفردَ، فقال: «رَجَعَ» .(3/382)
فصل
اختلفوا فى المراد من الرُّجوع، فقيل: هو الرُّجوع إلى الأهلِ والوَطَنِ وقال أبو حينفة المرادُ من الرُّجوع: هو الفراغُ من أعمال الحَجّ، والأخذ فى الرُّجوع، ويتفرّعُ عليه أنَّهُ لو صام السَّبْعَةَ بعدَ الفراغ من الحَجِّ، وقبل الوصول إلى بيته، لا تُجزيه على الأوَّل. وعن أبى حنيفة: تجزيه.
حجّةُ الأَوَّل: أَنَّهُ تعالى جعل الرُّجُوعُ إلى الوَطَنِ شَرْطاً، وما لم يُوجَدِ الشَّرْطُ لم يوجد المَشْرُوط، ويُؤَكِّدُ ذلك أَنَّه لو ماتَ قَبْلَ وصُوله إلى الوَطَنِ، لم يلزمه شيءٌ. وروَى ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: «لَمّا قَدِمْنَا مَكَّةَ المشرفة قال النَّبيُّ - عليه السَّلام - اجْعَلُوا إِهْلاَلَكم بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْي. فطُفْنَا بالبَيْتِ، وبالصَّفَا، والمروة، وأَتَيْنَا النِّسَاءَ، ولبسنا الثِّيَابَ، ثُمّ أمرنا عشية التَّرْوية أنْ نُهِلّ بالحجّ فإذا فرغنا قال - عليه الصلاة والسَّلام - عَلَيْكُمْ الْهَديَ، فإِنْ لَمْ تَجِدُوا؛ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فى الحَجِّ، وسَبْعَة إِذَا رَجْعَتُم إِلَى أَمْصَارِكُمْ» ، وأيضاً فإنَّ الله - تعالى - أسقطَ صَوْمَ رَمَضَانَ عَن المُسَافِرِ، فصوم التَّمَتُّع أخفّ شأناً منه.
وقوله: «تِلْكَ عَشَرَةٌ» مبتدأ وخبرٌ، والمشار إليه هي السَّبعة والثَّلاثة، ومُمَيِّزُ السَّبعة والعشرة محذوف للعلم به. وقد أثبت تاء التأنيث فى العدد مع حذف التَّميز، وهو أحسن الاستعمالين، ويجوز إسقاط التَّاء حينئذٍ، وفي الحديث: «وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ» ، وحكى الكسائيُّ: «ثُمْنَا من الشَّهْرِ خَمْساً» .
وفي قوله: «تِلْكَ عَشَرَةٌ» - مع أنَّ المعلوم أنَّ الثَّلاثة والسَّبعة عشرة - أقوال كثيرة لأهل المعاني، منها قول ابن عرفة: «إن العَرَبَ إذا ذكرت عددين، فمذهبهم أن يُجْمِلُوهُمَا» ، وحسَّن هذا القول الزَّمخشري بأن قال: «فائدةُ الفَذْلَكَةِ فى كُلِّ حساب: أن يُعْلَمَ العَدَدُ جُمْلَةً كما يُعْلَمُ تَفْصِيلاً، لِيُحْتَاط به من جِهَتَيْنِ، فيتأكَّد العِلمُ» ، وفي أمثالهم «(3/383)
عَلَمَانِ خَيْرٌ مِنْ عَلَمِ» . قال ابن عرفة: «وإنما تَفْعَلُ العَرَبُ ذلك؛ لأنَّها قليلةُ المَعْرِفَةِ بِالحِسَابِ» ، وقد جاء: «لا نَحْسُب، وَلاَ نَكْتُب» ، وورد ذلك في أشعارهم، قال النَّابغة: [الطويل]
983 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَيَّامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
وقال الفرزدق: [الوافر]
984 - ثَلاَثٌ واثْنَتَانِ فَهُنَّ خَمْسٌ ... وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى شَمَامِ
وقال الأعشى: [الوافر]
985 - ثَلاَثٌ بِالْغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبِي ... وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي العِشَاءُ
فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فِي الْيَوْمِ رِيِّي ... وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرِّيِّ دَاءُ
وقال آخرك [الوافر]
968 - فَسِرْتُ إِلَيْهِمُ عِشْرِينَ شَهْراً ... وَأَرْبَعَةً فَذَلِكَ حِجَّتَانِ
وقال عليه السَّلام: «الشهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وهَكَذَا» ، ثمَّ أَشَارَ بِيَديه ثَلاَثاً، وأمسك إبهامه فى الثالثة، منبهاً بالإشارة الأولى على الثلاثين، وبالأخرى على تسعة وعشرين.
ومنها قال المبرد: طفتلك عشَرَةٌ: ثلاثةٌ فى الحَجّ وسبعةٌ إذا رَجَعْتُمْ فَقَدَّمَ وأخَّر «، ومنها قال ابن الباذش: جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها، لا أنَّها هي الخَبَرُ المستقلُّ بفائدةِ الإسناد كما تقول: زيدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ» يعني أن المقصود الإخبار بالصَّلاح، وجيء برجلٍ توطئةً، إذ معلومٌ أنه رجلٌ. ومنها قال الزَّجاج: «جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازٍ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثَلاَثَةً أو سبعةً» ؛ لأنَّ الواو قد تقوم مقام أو، ومنه: {مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فأزال احتمال التَّخيير، وهذا إنَّما يتمشَّى عند الكوفيِّين؛ فإنَّهم يقيمون الواو مقام أو. وقال الزمخشريُّ: «الواو قد تجيءُ للإباحة فى قولك:» جَالِسِ الحَسَنَ وابْنَ سِيرينَ «ألا ترى أنَّه لو جالسهما معاً، أو أحدهما كان ممتثلاُ فجمع نفياً لتوهُّمِ الإبَاحَة» قال أبو حيان: «وفيه نَظَرٌ، لأنَّهُ لا تُتَوَهَّمُ الإِبَاحَة؛ فإنَّ السِّيَاقَ سياقُ إيجَاب، فهو يُنَافِي الإبَاحَةَ، ولا يُنَافي(3/384)
التَّخْيِيرَ، فإنَّ التَّخيِيرَ يَكُونُ فى الوَاجِبَاتِ، وقد ذكر النَّحْوِيُّونَ الفَرْقَ بينَ التَّخْيِير، والإباحَةِ» .
وقد ذكر ابن الخطيب قول الزَّمخشري هذا المقتدّم، وذكر وجوهاً أخُر:
منها: أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدّل، فبيَّن الله تعالى أنَّ هذا البدل ليس كذلك، بل هو كامل فى كونه قائماً مقام المبدّل، فيكون الصائم ساكن النَّفس إلى حصول الأجر الكامل من عند الله، وذكر العشرة ليتوصل به إلى قوله «كَامِلَة» ؛ لأنَّه لو قال: «تِلْكَ كَامِلَةٌ» ؛ لجاز أن يراد به الثَّلاثة المفردة عن السَّبعة والسّبعة المفردة عن الثَّلاثة، فلا بدّ من ذكر العشرة.
وقوله: «كَامِلَةٌ» يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجهٍ: إمَّا أن تكون كاملة فى البدل عن الهدي قائمة مقامه لا تنقص عنه، أو أنَّ ثوابها مثل ثواب القادر على الهدي، أو أنّ حجّ المتمتع الصّائم كاملاً كحج من لم يتمتَّع.
ومنها أنّ الله تبارك وتعالى لو قال أوجب عليكم صيام عشرة أيّام، لم يبعد أن يكون دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيّام، فإنّ تخصيص العام كثير في الشَّرع، فلما قال «تِلْكَ عشرة» كانَ ذلك تنصيصاً على أنَّ المخصص لم يوجد البتَّة، فيكون أقوى دلالة، وأبعد من احتمال التَّخصيص والنَّسخ.
ومنها أنَّ التَّوكيد طريقة مشهورة فى كلام العرب كقوله {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] ، وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وفائدة التوكيد أنَّ الكلام المعبَّر عنه بالعبارات الكثيرة الشّريفة وبالصِّفات الكثيرة، أبعد عن السَّهو والنّسيان من الكلام المعبَّر عنه بعبارة واحدة، وكونه معبراً عنه بعبارات كثيرة يدلُّ على كونه مشتملاً على مصالح عظيمة، لا يجوز الإخلال بها، فإذا كان التّوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره هنا دالاًّ على رعاية هذا العدد فى هذا الصَّوم، فإنَّه من المهمّات التي لا يجوز إهمالها ألبتَّة.
ومنها أنَّ هذا الكلام يزيل الإبهام الذي في تصحيف الخطّ، فإنَّ سبعة، وتسعة متشابهان فى الخطِّ، فلمَّا قال بعده: «تِلْكَ عِشَرَةٌ كَامِلَةٌ» ؛ أزال هذا الاشتباه.
ومنها: أنَّ قوله {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} يحتمل أن يكون المراد، أن يكون الواجب بعد الرُّجوع أن يكمل صيام سبعة أيّام، على أنَّه يحسب الثَّلاثة المتقدِّمة منها، ويكمل عيلها أربعةً، فلما قال «تِلْكَ عَشَرَة» ؛ أزال هذا الاحتمال.
ومنها: أن هذا خبر، ومعناه الأمر، أي: تلك عشرة فأكملوها ولا تنقصوها.(3/385)
ومنها: أنَّه تعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيَّام فى الحجِّ وسبعة بعد الرُّجوع، فليس فيه بيان أنَّه طاعةٌ عظيمة كاملة، فلمَّا قال بعده: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} دلَّ ذلك على أنَّ هذه الطَّاعة فى غاية الكمال؛ وذلك لأنَّ الصَّوم مضافٌ إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال: «الصَّوْمُ لي» ، والحجُّ أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال «الصَّوْمُ لي» ، فَكَمَا دَلَّ النَّصُّ على مَزِيدِ اختصاص هاتين العبادتين بالله - سبحانه وتعالى -، فالفعل دلَّ أيضاً على ذلك.
أمّا فى الصَّوم فلأنَّه عبادة لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتَّة، وهو مع ذلك شاقٌّ على النَّفس جدّاً، فلا جرم لا يؤتى به إلاَّ لمحص مرضاة الله - تعالى - ثمَّ إنَّ صوم هذه تعني الانقياد له.
وكذا الحجّ عبادة لا يطَّلع العقل على وجه الحكمة في ألبتَّة، وهو مع ذلك شاقٌ جداً؛ لأنَّه يوجب مفارقة الأهل، والولد والتَّباعد عن أكثر اللَّذَّات، فلا جرم لا يؤتى به إلاّ لمحض مرضاة الله تعالى، ثمَّ إنَّ صوم هذه الأيّام العشرة بعضه واقعٌ في زمن الحج، فيكون جمعاً بين شيئين شاقَّين جدّاً، وبعضه واقعٌ بعد الفراغ من الحجِّ، وهو انتقالٌ من شاقِّ إلى شاقٍّ، ومعلوم أنَّ ذلك سبب لكثرة الثَّواب، وعلوِّ الدَّرجة، فلا جرم لمَّا أوجب الله - تعالى - صيام هذه الأيَّام العشرة، شهد سبحانه على أنَّها عبادة كاملة فى غاية الكمال والعلوّ، فقال تعالى: {تِلْكَ عَشَرةٌ كَامِلَةٌ} ، أي: وإنها كاملة.
قوله: «ذَلِكَ لِمَنْ» «ذَلِكَ» مبتدأ، والجارُّ بعده الخبر. وفي اللاَّم قولان:
أحدهما: أنَّها على بابها، أي: ذلك لازمٌ لمن.
والثاني: أنها بمعنى على، كقوله: {أولئك لَهُمُ اللعنة} [الرعد: 25] ، وقال عليه السَّلام: «اشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ» ، أي: عليهم، وقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي: فعلهيا، وذلك إشارة إلى التَّمتُّع، والقران للغريب [ولا حاجة إلى هذا. و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة. و «حَاضِرِي» خبر «يَكُن» ، وحذفت نونه للإضافة] .
فصل
قوله: «ذلك» إشارة إلى أمرٍ تقدَّم، وأقرب الأمور المذكورة، ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله.
وقال بعض العلماء: لزوم الهدي وبدله للمتمتّع مشروطٌ بألاّ يكون من حاضري المسجد الحرام، فإن كان من أهل الحرم، فلا يلزمه هدي المتمتّع، وإنَّما لزم الآفاقي،(3/386)
لأنه كان يجب عيله أن يحرم بالحجِّ من الميقات، فلمّا أحرم بالعمرة من الميقات، ثم أحرم بالحجِّ من غير الميقات، فقد حصل هناك خللٌ، فجبر بالدَّم، بدليل أنّه لو رجع، فأحرم بالحجِّ أيضاً من الميقات؛ لما يلزمه دمٌ، والمكيُّ ميقاته موضعه، فلا يقع فى حجِّه خللٌ من جهة الإحرام، فلا هدي عليه.
وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قوله «ذَلِكَ» إشارةٌ إلى الأبعد وهو ذكر التّمتع، وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، ومن تمتع أو قرن، كان عليه دم جنايةٍ لا يأكل منه.
حجَّة القول الأوَّل وجوه:
أحدها: قوله تعالى {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} عامٌّ يدخل فيه الحرمي، وغيره.
وثانيهما: أنَّ الإشارة يجب عودها إلى أقرب مذكور، وهو جوب الهدي، فإذا خصَّ وجوب الهدي بالمتمتع الآفاقي؛ لزم القطع بأن غير الآفاقي قد يكون أيضاً متمتعاً.
وثالثها: أنَّ الله تعالى شرع القران والمتعة تبييناً لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحجِّ، والنسخ ثبت فى حقّ النَّاس كافَّةً.
حجَّة أبي حنيفة: أنَّ قوله: «ذَلِكَ» كنايةٌ؛ فوجب عودها إلى كلِّ ما تقدم، لأنَّه ليس البعض أولى من البعض.
والجواب أنَّ عوده إلى الأقرب أولى، لأنَّ القرب سببٌ للرُّجحان، ومذهبكم أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختصٌّ بالجملة الأخيرة، وإنَّما تميزت تلك(3/387)
الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب، فكذا ها هنا.
فصل
اختلفوا فى حاضري المسجد الحرام، فذهب قوم إلى أنَّهم أهل مكَّة، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال ابن جريج: أهل عرفة والرجيع وضجنان.(3/388)
وقال الشَّافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كلُّ من كان وطنه من مكَّة على أقلّ من مسافة القصر، فهو من حاضري المسجد الحرام.
وقال عكرمة: من كان دون الميقات.
وقيل هم أهل الميقات فما دونه، وهو قول أصحاب الرَّأي.
وقال طاوسٌ: الحرم كلُّه، وهو قول الشَّافعيِّ، وأحمد لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] وإنما أسرى به من الحرم من بيت أمِّ هانئ لا من المسجد، وقال {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] ، والمراد الحرم؛ لأن الدماء لا تراق في البيت، والمسجد الحرام إنَّما وصف بهذا؛ لأن أصل الحرام المنع، والمحرم: ممنوعٌ من المكاسب، والمسجد الحرام ممنوعٌ أن يفعل فيه ما منع من فعله.
قال الفرَّاء: يقال حرامٌ، وحرمٌ مثل: زمانٍ وزمنٍ، وذكر حضور الأهل، والمراد حضور المحرم، لا حضور الأهل، لأنَّ الغالب على الرَّجل أنّه يسكن حيث أهله ساكنون فلو خرج المكيٌّ إلى الآفاق، وأهله بمكَّة، ثمَّ عاد متمتعاً؛ لزمه هدي التمتع، ولا أثر لحضور أهل فى المسجد الحرام.
وقيل المراد بقوله: {لمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ} ، أي يكون أهلاً لهذه العبادة.
فصل
ودم القرآن كدم التَّمتُّع، فالمكيُّ إذا قرن، أو تمتع، فلا هدي عليه.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قوله: يريد فيما فرضه عليكم، {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن تهاون بحدوده.
وقال أبو مسلمٍ: العقاب والمعاقبة سيَّان، وهو مجازاة المسيء على إساءته، وهو مشتقٌّ من العاقبة، كأنّه يراد عاقبة فعل المسيء، كقول القائل: لتذوقن ما ذوّقت، و «شَدِيدُ العِقَابِ» من باب إضافة الصِّفة المشبَّهة إلى مرفوعها، وقد تقدَّم أنَّ الإضافة لا تكون إلا من نصب، والنَّصب والإضافة أبلغ من الرَّفع؛ لأنَّ فيها إسناد الصِّفة للموصوف، ثم ذكر من هي له حقيقة، والرَّفع إنَّما فيه إسنادها، دون إسناد إلى موصوف لمن هي له حقيقة.(3/389)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
«الحَجُّ» مبتدأ، و «أشْهُرٌ» خبره، والمبتدأ والخبر لا بدّ أن يصدقا على ذاتٍ واحدٍ، و «الحَجُّ» فعلٌ من الإفعال، و «أشْهُرٌ» زمانٌ، فيهما غيران، فلا بدَّ من تأويل، وفيه ثلاثة احتمالات:
أحدها: أنَّه على حذف مضافٍ من الأوَّل، تقديره: أشهر الحج أشهر معلوماتٌ. أي: لا حجَّ إلاَّ في هذه الأشهر ولا يجوز في غيرها، كما كان يفعله أهل الجاهيلَّة في غيرها، كقوله البرد شهران، وقت البرد شهران.
الثاني: الحذف من الثاني تقديره: الحجّ حجّ أشهرٍ، فيكون حذف من كل واحدٍ ما أثبت نظيره.
الثالث: أن تجعل الحدث نفس الزَّمان مبالغةً، ووجه المجاز كونه حالاًّ فيه، فلما اتُّسع في الظَّرف جعل نفس الحدث، ونظيره: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وإذا كان ظرف الزمان نكرةً مخبراً به عن حدثٍ، جاز فيه الرفع والنَّصب مطلقاً، أي: سواءً كان الحدث مستوعباً للظَّرف، أم لا، هذا مذهب البصريين.
وأمَّا الكوفيُّون فقالوا: إن كان الحدث مستوعباً، فالرَّفع فقط نحو: «الصَّوْمُ يومٌ» وإن لم يكن مستوعباً، فهشامٌ يلتزم رفعه أيضاً نحو: «مِيَعَادُكَ يَوْمٌ» والفرَّاء يجيز نصبه مثل البصريّين، وقد نقل عنه أنَّه منع نصب «أشْهُر» ، يعني: في الآية الكريمة، لأنها نكرةٌ، فيكون له في المسألة قولان، وهذه مسألةٌ طويلةٌ.
قال ابن عطيَّ: «ومنْ قَدَّر الكَلاَم: الحج في أشهر، فيلزَمُهُ مع سقوطِ حَرْفِ الجَرّ نصبُ الأَشْهُر، ولم يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ» قال أبَو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّ الرَّفْع على جِهة الاتِّساع، وإن كان أصلُهُ الجرَّ ب «في» .
فصل
أجمع المفسِّرون على أنَّ شوَّالاً، وذا القعدة، من أشهر الحج، واختلفوا فى ذي الحَّجة فقال عروة بن الزُّبير: إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك، وداود.
وقال أبو حنيفة: العشر الأول من ذي الحجَّة من أشهر الحجِّ؛ وهو قول ابن عبَّاسٍ، وابن عمر، والنخعي، والشعبي، ومجاهد، والحسن.(3/390)
وقال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التسعة الأول، مع ليلة النَّحر من أشهر الحج.
حجَّة الأوَّل: أن الأشهر جمعٌ، وأقلُّه ثلاثةٌ، وأيضاً فإنَّ أيَّام النَّحر يفعل فيها بعض ما يتَّصل بالحج: من رمي الجمار، والذَّبح، والحلق، وطواف الزِّيارة، والبيتوتة يعني ليالي منى، وإذا حاضت المرأة، فقد تؤخِّر الطَّواف الذي لا بدَّ منه إلى انقضاء أيَّامٍ بعد العشرة. ومذهب عروة تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر.
والجواب أنَّ لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد؛ بدليل قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] . وقال - عليه السَّلام: «الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وأيضاً فإنَّه نزَّل بعض الشَّهر منزلة كلِّه، فإنّ العرب تسميِّ الوقت تامّاً بقليله، وكثيره، يقال زرتك سنة كذا، وأتيتك يوم الخميس، وإنما زاره، وأتاه في بعضه، وأيضاً فإنَّ الجمع ضمُّ شيءٍ إلى شيءٍ، فإذا جاز أن يسمَّى الاثنان جماعةً، جاز أن يسمَّى الاثنان، وبعض الثَّالث جماعةً، وأمَّا رمي الجمار، فإنما يفعله الإنسان، وقد حلّ بالحلق والطَّواف، والنَّحر، فكأنه ليس من أعمال الحجِّ، والحائضُ إذا طافت بعده، فكأنه في حكم القضاء، لا في حكم الأداء.
حجَّة الثاني: أنَّ المفسرين قالوا: أنّ يوم الحجِّ الأكبر، هو يوم النَّحر، لأنَّ معظم(3/391)
أفعال الحج يفعل فيه: من طواف الزيارة؛ الذي هو ركنٌ في الحج، والرَّمي، والذَّبح، والحلق، فدخوله في أيام الحج أولى.
حجَّة الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أنَّ الحجَّ يفوت بطلوع الفجر يوم النَّحر، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها.
فصل
قال بعض العلماء: لا يجوز أن يُهِلَّ بالحج قيل أشهر الحج، وهو قول ابن عباس، وجابر، وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، إليه ذهب الأوزاعي، والشافعيُّ، وأحمد فى رواية، وإسحاقٌ.
وقال مالكٌ، والثوريُّ وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يجوز.
حجَّة الأول: قوله: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} .
جمع الأشهر جمع تقليلٍ، على سبيل التَّنكير؛ لا يتناول الكلَّ، وأكثر الجمع إلى عشرةٍ، وأدناه إلى ثلاثةٍ، وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى، واتفق المفسِّرون على أنّ تلك الثَّلاثة، شوَّال وذو القعدة، وبعض ذي الحجَّة.
وإذا تقرَّر، وجب ألاَّ يجوز الإحرام بالحجِّ قبل الوقت؛ لأنَّ الإحرام بالعبادة قبل وقت أدائها لا يصحّ؛ كالصَّلاة، وخطبة الجمعة قبل الوقت.
حجَّة الثاني: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] ، فجعل الأهلَّة كلَّها مواقيت الحجِّ، وليس مواقيتاً للأداء، فثبت أنها مواقيت لصحَّة الإحرام، ويجوز أن يسمَّى الإحرام حجّاً؛ مجازاً، كما سمّيَ الوقت حجّاً في قوله: «الحَجُّ أَشْهُرٌ» بل هنا أولى؛ لأن الإحرام أقرب إلى الحج من الوقت. وقد اشتهر بين أكابر الصّحابة أنَّهم قالوا: إتمام الحجِّ والعمرة أن يحرم بهما من دويرة أهله، ومن يكن منزله بعيداً يجب أن يكون في المشرق أو في المغرب، فلا بدَّ وأن يحرم بالحج قبل أشهرٍ، وأيضاً فإنَّ الإحرام التزامٌ بالحجِّ، فجاز تقديمه على الوقت؛ كالنَّذر.
وأجاب الأوَّلون عن قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} بأنَّ قوله «الحجُّ أَشْهُرٌ» أخصُّ منها، وفرَّقوا بين النَّذر، والإحرام: بأنَّ الوقت معتبرٌ للأداء، ولا اتِّصال للنذر بالأداء، بدليل أنّ الأداء لا يتصور إلاَّ بعقد مبتدأ، والإحرام مع كونه التزاماً، فهو شروعٌ في الأداء، وعقدٌ عليه؛ فلا جرم افتقر إلى الوقت.
فصل
قوله: «مَعْلُومَاتٌ» أي: معلومات عندهم، مقررة لبيان الشرع، بخلاف مرادهم(3/392)
بها. أو معلوماتٌ ببيان الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام وأنها مؤقتةٌ في أوقات معينة، لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها، كما فعلوه في النَّسيء.
قوله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} .
يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطيةً، وأن تكون موصولةً، كما تقدَّم في نظايرها، و «فِيهنَّ» متعلِّقٌ ب «فَرَضَ» . والضَّمير في «فِيهِنَّ» يعود على «أَشْهُر» وجيء به كضمير الإناث، لما تقدم من أنَّ جمع غير العاقل في القلَّة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح؛ فلذلك جاء «فِيهِنَّ» دون «فِيهَا» ، وهذا بخلاف قوله: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] لأنه هناك جمع كثرة.
وفرض في اللُّغة: ألزم وأوجب، يقال فرضت عليك كذا، أي: أوجبته، وأصل الفرض في اللغة: التَأثير والحزُّ والقطع.
قال ابن الأعرابي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: الفرض الحزُّ في القدح، [وفي الوتد، وفي غيره] ، وفرضة القوس: الحزُّ الذي فيه الوتر، وفرضه الوتد الحزُّ الذي فيه، ومنه فرض الصلاة؛ لأنها لازمةٌ للعبد كلزوم الحزّ لقدح، ففرض ها هنا - بمعنى: أوجب، وقد جاء في القرآن «فَرَضَ» بمعنى أبان؛ قال تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] بالتخفيف، وقوله: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . راجع إلى معنى القطع؛ لأنَّ من قطع شيئاً، فقد أبانه من غيره، والله تعالى إذا فرض شيئاً، أبانه عن غيره، ففرض بمعنى: أوجب: وفرض: بمعنى أبان؛ كلاهما راجعٌ إلى أصل واحدٍ؛ ومن ها هنا فرَّق بعضهم بين الفرض والواجب، فقالوا:(3/393)
الفرضُ ما ثبت بدليل قطعيّ؛ لأن أصله القطع، وسمَّاه بالركن.(3/394)
والواجب ما ثبت بدليل ظنِّي، وجعل الفرض لا يسامح به، عمداً ولا سهواً، وليس له جابر، والواجب ما يجبر ويسامح فيه العباد لسهوة، قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ «فَرَضَ» في القرآن خمسة معان: الأول: فرض بمعنى أوجب، كهذه الآية الكريمة، ومثله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي أوجبتم.
الثاني: فرض بمعنى بيَّن، قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ومثله {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] .
الثالث: فرض: بمعنى أنزل؛ قال تعالى: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ} [القصص: 85] أي: أنزل.
امس: الفرض: الفريضة في قسمة المواريث؛ كما قال تبارك وتعالى: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} [النساء: 11] .
فصل
قوله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} يدلُّ على أنّه لا بدَّ للمحرم من فعل يفعله؛ يصير به محرماً وحاجاً، واختلفوا في ذلك الفعل.
فقال الشَّافعيُّ، وأحمد: ينعقد الإحرام بمجرد النِّية، من غير حاجةٍ إلى التَّلبية.
وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ الشُّروع في الإحرام بمجرد النية؛ حتى يضمَّ إليه التَّلبية أو سوق الهدي.
وقال القفَّال في تفسيره: ويروى عن جماعةٍ من العلماء؛ أنّ من أشعر هديه أو قلَّده، فقد أحرم، وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال: إذا قلَّد أو أشعر، فقد أحرم، وعن ابن عباسٍ: إذا قلَّد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحجَّ، فقد أحرم.
قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} إمَّا جواب الشَّرط، وإمَّا زائدةٌ في(3/395)
الخبر على حسب القولين المتقدِّمين. وقرأ أبو عمرٍ وابن كثير: بتنوين «رَفَثَ» و «فُسُوقَ» ، ورفعهما، وفتح «جِدَالَ» .
والباقون: بفتح الثَّلاثة.
وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين.
فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان:
أظهرهما: أنَّ «لا» ملغاةٌ، وما بعدها رفع بالابتداء، وسوَّغ الابتداء بالنكرة؛ تقدُّم النفي عليها، و «في الحج» خبر الأول، وحُذِفَ خبرُ الثاني، والثالث؛ لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما، ويجوزُ أنْ يكونَ «في الحج» خبرَ الثلاثة، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ «في الحجِّ» خبرَ الثاني، وحُذِفَ خبرُ الأولِ، والثالث؛ لقبح مثل هذا التركيب، ولتأديته إلى الفصل.
والثاني: أن تكون «لاَ» عاملةً عمل ليس، ولعملها عمل ليس شروطٌ: تنكير الاسم، وألاَّ يتقدَّم الخبر، ولا ينتقض النفيُّ؛ فيكونُ «رَفَثَ» اسمَها، وما بعده عطْفٌ عليه، و «في الحجِّ» الخبرُ على حسب ما تقدَّم من التقادير فيما قبله.
وخرَّجه ابن عطية بهذا الوجه، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ إعمال «لا» عمل ليس لم يقم عليه دليل صريحٌ، وإنما أنشدوا أشياء محتملةً، أنشد سيبويه: [مجزوء الكامل]
987 - مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا ... فَأَنَّا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَرَاحُ(3/396)
وأنشد غيره: [الطويل]
988 - تَعَزَّ فَلاَ عَلَى الأَرْضِ باقيَا ... وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
وقول الآخر: [البسيط]
989 - أَنْكَرْتُها بَعْدَ أَعْوَامِ مَضيْنَ لَهَا ... لاَ الدَّارُ دَاراً وَلاَ الجِيرَانُ جَيرَانَا
وأنشد ابن الشَّجري: [الطويل]
990 - وحَلَّتْ سَوادَ القَلْبِ لاَ أَنَا بِاغِياً ... سِوَاهَا وَلاَ فِي حُبِّها مُتَرَاخِيَا
وللكلام على الأبيات موضعٌ غير هذا.(3/397)
وأمَّا من نصب الثلاثة منونةً فتخريجها على أن تكون منصوبةً على المصدر بأفعال مقدرةٍ من لفظها، تقديره: فلا يَرْفُثُ رَفَثاً، ولا يَفُسُقُ فُسُوقاً ولا يُجَادِلُ جِدَالاً، وحينئذٍ فلا عمل ل «لا» فيما بعدها، وإنَّما هي نافيةٌ للجمل المقدرة، و «في الحجِّ» متعِّلقٌ بأيِّ المصادر الثَّلاثة شئت، على أنَّ المسألة من التنازع، ويكون هذا دليلاً على تنازع أكثر من عاملين، وقد يمكن أن يقال: إنَّ «لا» هذه هي التي للتَّبرئة على مذهب من يرى أنَّ اسمها معربٌ منصوب، وإنما حذف تنوينه؛ تخفيفاً، فرجع الأصل في هذه القراءة الشاذة كما رجع في قوله: [الوافر]
991 - أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وقد تقدَّم تحريره.
وأمَّا قراءة الفتح فى الثَّلاثة فهي «لا» التي للتَّبرئة. وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناءٍ؟ فيه قولان، الجمهور على أنَّها فتحة بناءٍ، وإذا بني معها، فهل المجموع منها، ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء، وإن كانت عاملة فى الاسم النصب على الموضع وما بعدها، ولا خبر لها؟ أو ليس المجموع فى موضع مبتدأ، بل «لاَ» عاملةٌ في الاسم النَّصب على الموضع، وما بعدها خبرٌ ل «لاَ» ؛ لأنَّها اجريت مجرى «أنَّ» فى نصب الاسم، ورفع الخبر؛ قولان:
الأول: قول سيبويه.
والثاني: قول الأخفش. وعلى هذين المذهبين، يترتَّب الخلاف فى قوله: «فِي الحَجِّ» ، فعلى مذهب سيبويه: يكون فى موضع خبر المبتدأ، وعلى رأي الأخفش: يكون فى موضع خبر «لا» ، وقد تقدَّم شيء من هذا أول الكتاب.
وأمَّا من رفع الأولين، وفتح الثالث: فالرفع على ما تقدَّم، وكذلك الفتح، إلا أنه ينبغي أن ينبَّه على شيءٍ: وهو أنَّا قلنا بمذهب سيبويه من كون «لا» وما بني معها في موضع المبتدأ، على مذهب الأخفش، فلا يجوز أن يكون «في الحجِّ» إلا خبراً للمبتدأين، أو خبراً ل «لاَ» . لا يجوز أن يكون خبراً للكلِّ؛ لاختلاف الطالب؛ لأنَّ المبتدأ يطلبه خبراً له، ولا يطلبه خبراً لها.
وإنَّما قرئ كذلك، قال الزمخشري: «لأنَّهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النَّهي، كأنه قيلَ: فلا يكوننَّ رَفَثٌ ولا فُسُوقٌ، والثالثُ على معنى الإخبارِ بانتفاء الجِدالِ، كأنه قِيلَ: ولا شكَّ ولا خلاف فى الحجِّ» ، واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو(3/398)
الرفث والفسوق دون الجدال، بقوله عليه السلام: «مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ ... » وأنه لم يذكر الجدال. وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ سبقه إليه صاحب هذه القراءة؛ إلاَّ أنه أفصح عن مراده، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها -: الرفع بمعنى فَلاَ يَكُونُ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ، أي شيء يخرج من الحجِّ، ثم ابتدأ النفي فقال: «ولا جدال» ، فأبوا عمرو لم يجعل النفيين الأوَّلين نهياً، بل تركهما على النَّفي الحقيقي.
فمن ثم، كان فى قوله هذا نظيرٌ؛ فإنَّ جملة النفي بلا التبرئة، قد يراد بها النهي أيضاً، وقيل ذلك فى قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] . والذي يظهر فى الجواب عن ذلك، ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال: «وقيل: الحُجَّةُ لِمَنْ رَفَعَهُمَا أنَّ النفيَ فيهما ليس بعامٍّ؛ إذ قد يقعُ الرفَثُ، والفُسُوقُ فى الحَجِّ من بعض الناسِ، بخِلاَفِ نفي الجِدَالِ في أَمْرِ الحجِّ؛ فإنه عامٌّ؛ لاسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِهِ» . قال شهاب الدِّين. وهذا يتمشَّى على عُرف النَّحويين، فإنهم يقولون: «لا» العاملة عمل «لَيْسَ» لنفي الوحدة، والعاملة عمل «إنَّ» لنفي الجنس، قالوا: ولذلك يقال: لا رجل فيها، بل رجلان، أو رجالٌ؛ إذا رفعت، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها.
وتوسَّط بعضهم فقال: التي للتبرئة نصٌّ في العموم، وتلك ليس نصَّاً.
والظاهر أنَّ النكرة في سياق النفي مطلقاً للعموم، وقد تقدَّم معنى الرَّفث فى قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187] قال ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر: هو الجماع، وهو قول الحسن، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وقتادة، وعكرمة، والنخعي، والربيع.
وروي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: الرَّفث: غشيان النساء، والتَّقبيل، والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام.
وقال طاوسٌ: هو التَّعريض للنساء الجماع، وذكره بين أيديهنَّ.
وقال عطاءٌ: الرَّفث: هو قول الرجل للمرأة فى حال الإحرام: إذا حللت، أَصَبْتُكِ.(3/399)
وقيل الرَّفث: الفحش، والفسق وقد تقدم فى قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] . وقرأ عبد الله «الرَّفُوث» وهو مصدر بمعنى الرَّفث.
وقوله: «فَلاَ رَفَثَ» وما في حيِّزه فى محلِّ جزمٍ، إن كانت «مَنْ» شرطيةً، ورفع، إن كانت موصولةً، وعلى كلا التقديرين، فلا بدَّ من رابطٍ يرجع إلى «مَنْ» ؛ لأنها إن كانت شرطيةً، فقد تقدَّم أنه لا بدَّ من ضمير يعود على اسم الشرط، وإن كانت موصولة، فهي مبتدأ والجملة خبرها، ولا رابط فى اللَّفظ، فلا بدَّ من تقديره، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن تقديره: ولا جدال منه، ويكون «منه» صفَّة ل «جِدَال» ، فيتعلَّق بمحذوف، فيصير نظيره قولهم: «السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ» تقديره: منوان منه.
والثانيك أن يقدَّر بعد «الحج» تقديره: ولا جدال في الحجِّ منه، أو: له. ويكون هذا الجارُّ في محلِّ نصب على الحال من «الحج» .
وللكوفيِّين في هذا تأويل آخر: وهو أنَّ الألف واللام نابت مناب الضمير، والأصل: في حجِّه، كقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40] ثم قال: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] أي: مأواه.
وكرَّر الحجَّ؛ وضعاً للظاهر موضع المضمر تفخيماً، كقوله: [الخفيف]
992 - لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ..... ... ... ... ... ... ... ... ...
وكأنَّ نظم الكلام يقتضي: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحجَّ فَلاَ رَفَث فيه» ، وحسَّن ذلك في الآية الكريمة الفصل بخلاف البيت.
والجدال مصدر «جَادَل» . والجدال: أشدُّ الخصام، مشتقٌّ من الجدالة، وهي الأرض؛ كأن كلَّ واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة.
قال القائل: [الراجز]
993 - قَدْ أَرْكَبُ الآلَةَ بَعْدَ الآلهْ ... واتْرُكُ العَاجِزَ بالْجَدَالَهْ
ومنه «الأَجْدَالُ» للصَّقر؛ لشدَّته.
وقال القائل: [الكامل]
994 - ... ... ... ... ... ... ... .....(3/400)
يَهْوِي مُحَارِبُهَا هُوِيَّ الأجْدَلِ
والجدل: فَتْلُ الحبل، ومنه زمامٌ مجدولٌ، أي: محكم الفتل.
فصل
قد تقدَّم أنّ الفسق: هو الخروج عن الطَّاعة، واختلف المفسرون فيه، فحمله أكثر المحقِّقين على كلِّ المعاصي، وهذا قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -، وطاوس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والزهري، والربيع، والقرظي، قالوا: لأنَّ اللفظ صالحٌ للكلِّ، والنَّهي عن الشَّيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه؛ ويؤكده قوله تعالى
{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] ، وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7] .
وذهب بعضهم إلى أنَّ المراد منه بعض أنواعه، ثم ذكروا وجوهاً.
أحدها: قال الضحّاك: المراد التنابز بالألقاب؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} [الحجرات: 11] . والثاني: قال عطاء، ومجاهد، وإبراهيم النخعي: المراد السّباب، لقوله - عليه السلام - «سِبَابُ المؤْمِن فُسُوقٌ، وقِتَالُه كُفْرٌ»
الثالث: أنَّ المراد منه الإيذاء، والإفحاش؛ قال تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] .
الرابع: قال ابن زيد: هو الذَّبح للأصنام؛ فإنّهم كانوا فى حجِّهم يذبحون لأجل الأصنام قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، وقوله: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145] .(3/401)
الخامس: قال ابن عمر: هو قتل الصَّيد، وسائر محظورات الإحرام.
وأمّا الجدال: فهو «فِعَالٌ» من المجادلة، الذي هو الفَتْلُ، يقال: زمامٌ مجدولٌ وجديلٌ، أي: مفتولٌ، والجديل: اسم للزِّمان؛ لأنه لا يكون إلاَّ مفتولاً، وسميت المخاصمة مجادلة لأنّ كلَّ واحدٍ من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه. وذكر المفسرون فيه وجوهاً:
أحدها: قال ابن مسعود، وابنُ عباس، والحسنُ: هو الجدالُ الذي يخافُ معه الخروجُ إلى السِّباب، والتكذيب، والتجهيل. وهو قولُ عمرو بن دينار، وسعيد بن جُبَيرٍ، وعِكْرمة، والزهريِّ، وعطاءٍ، وقتادة.
الثاني: قال محمد بن كعب القُرظيُّ: إِنَّ قُريشاً كانوا إذا اجتمعوا بِمنَى قال بعضهُم: حجُّنا أَتَمُّ. وقال آخرون: بل حَجُّنَا أَتَم، فَنَهَاهُمَّ اللَّهُ عن ذلك.
الثالثك قال القاسِمُ بن محمد: هو أنْ يقولَ بعضهُم: الحَجُّ اليَوْمَ، ويقول بعضُهم: الحج غداً، وذلك بأنهم أُمِرُوا بأن يَجْعَلُوا حِسَابَ الشهور على الأهِلَّةِ، فكان بعضُهم يجعلُ الشهورَ على الأَهِلّةِ، وآخرون يجعلونها بالعدد فلهذا السبب؛ كانوا يختلفون.
الرابع: قال مقاتِلٌ، والقفّال: هو ما جادلُوا فيه النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين أمرهُم بنسخ الحج إلى العُمْرَة، إلاَّ مَنْ قَلّدَ الهَدْيَ، قالُوا: كيف نجعلُها عُمْرَةً، وقد سمينا الحج؟! فهذا جِدَالُهم.
الخامس: قال مَالِكٌ في «الموطأ» : الجدالُ في الحج أنَّ قريشاً كانوا يقفون عن المشعَرِ الحَرَامِ في المُزْدَلِفة بقزح وغيرها يقفُ بعرفاتٍ، وكُلٌّ منهم يزعَمُ أنّ موقفهُ(3/402)
موقف إبراهيم، ويقولُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نحن أصْوَبُ؛ فقال الله تعالى: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر وادع إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج: 67 - 68] قال مالكٌ: هذا هو الجِدالُ فيما يُروى والله أعلم.
السَّادس: قال ابنُ زيْدٍ: كانوا يَقِفُون مَواقِف مختلقة، فبعضهم يقفُ بعرفة، وبعضهم بالزدلفة، وبعضُهم حجَّ في ذي القَعْدة، وبعضُهم في ذي الحَجَّةِ، وكُلٌّ يقول: ما فعلتُه هو الصَّوَابُ؛ فقال تعالى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} ، أَي: اسْتَقَرَّ أَمرُ الحج على ما فعلهُ الرسولُ - عليه السلام - فلا اختلاف فيه مِنْ بعدِ ذلك، وذلك معنى قول النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
«أَلاَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوات والأَرْضَ» .
قال مجاهدٌ: معناه: لا شَكَّ في الحجِّ أنّه في ذي الحجةِ، فأَبْطَلَ اللَّهُ النَّسِيءَ.
قال أهلُ المعاني: ظَاهِرُ الآية الكريمة نفيٌ ومعناه نَهْيٌ، أي لا ترفُثُوا، ولا تَفسقوا ولا تُجَادِلُوا؛ كقوله تعالى {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 3] أي: لا ترتابُوا.
قال القاضي: قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} يحتملُ أن يكونَ خبراً، وأنْ يكونَ نَهْياً، كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ، أي: لا تَرْتَابُوا فيه، وظاهرُ اللفظِ للخبر، فإذا حَمَلناهُ على الخبر كان معناه: أنّ الحجة لا تثبتُ مع واحدةٍ من هذه الخِلالِ، بل تَفْسُدُ؛ كالضدِّ لها وهي مانعةٌ من صحَّته، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى؛ إلاَّ أَنْ يُراد بالرفَثِ، الجماعُ [المفسِدُ للحج، ويُحْملُ الفسوقُ على الزِّنا؛ لأنه يُفسِدُ الحجَّ، ويُحملُ الجِدالُ على الشَّكِّ في وجوب الحجِّ] ؛ لأن ذلك يكون كُفْراً، فلا يَصِحَّ معه الحج، وإنَّما حَمَلْنَا هذه الألفاظ على هذه المعاني؛ حتَّى يصحَّ خبرُ اللَّهِ بأنَّ هذه الأشياء لا تُوجَدُ مع الحج.
فصل
قال ابنُ العَرَبيِّ: المرادُ بقوله: «فَلاَ رَفَثَ» نَفْيُهُ مَشْرُوعاً لا مَوجُوداً، فإِنَّا نَجِدُ(3/403)
الرفثَ فيه حِسَاً، وخبرُ اللَّهِ تعالى لا يجُوزُ أَنْ يَقَعَ بخلاف مخبره، وإنما يرجعُ النفيُ إلى وجوده مَشْرُوعاً لا إلى وجوده مَحْسُوساً؛ كقوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] أي: مشروعاً لا حسّاً، فإنَّ نجدُ المطلقاتِ لا يتربصْنَ؛ فعاد النَّفْيُ إلى الحكم الشَّرعيِّ لا إلى الوجود الحِسّيّ؛ وهو كقوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] إذا قلنا: إنّه واردٌ فى الآدَمِيِّينٍ؛ وهو الصَّحيحُ، فإنَّ معناه لا يَمَسُّه أَحَدٌ منهم شَرْعاً، فإن وجد المَسُّ، فعلى خلاف حُكْم الشرع، وهذه الدَّقِيقةً فاتت العُلماء فقالوا: إِنّ الخبرَ يكونُ بمعنى النَّهْي، وما وجِدَ ذَلك قَطُّ، ولا يصح أَنْ يُوجَدَ؛ فإنهما مُخْتَلِفَان حقيقةً، ومُتَضَادان وَصْفاً.
فصل
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحجُّ فَاسِداً ويجبُ على صاحبه المضيّ فيه، وإذا كان الحجُّ باقِياً معها، لم يصدق الخبرُ لأَنَّ هذه الأشياء لا توجدُ مع الحجة؟
قلنا المرادُ من الآية الكريمة حصولُ المضادةِ بين هذه الأشياء، وبَيْن الحجة المأمُورِ بها ابتداءً، وتلك الحجةُ الصحيحةُ لا تَبْقَى مع هذه الأشياء؛ بدليل أنّه يجبُ قضاؤُهَا، والحجةُ الفاسِدَةُ التي يجبُ عليه المضِيُّ فيها شيءٌ آخر سوى تلك الحجةِ المأمُورِ بها ابتداءً، وأَمَّا الجِدَالُ الحَاصِلُ بسبب الشَّكِّ في وجوب الحج، فظاهره أنَّه لا يبْقَى معه عملُ الحج؛ لأنَّ ذلك كُفْرٌ وعملُ الحج مشروطٌ بالإسلام، فثبت أَنَّا إِذَا حملنا اللفظ على الخبر، وجب حَمْلُ الرَّفث والفُسُوق والجِدَالِ على ما ذكرنا، وأمَّا إِذَا حملناه على النَّهي، وهو في الحقيقة عُدُولٌ عن الظَّاهِر، فقد يَصِحُّ أنْ يرادَ بالرفثِ الجماعُ ومقدماتُه، وقولُ الفُحْشِ، وأَنْ يرُادَ بالفِسْقِ جميعُ أنْواعه، وبالجدالِ جميعُ أَنواعه؛، لأَنَّ اللفْظَ مُطْلَقٌ ومتناولٌ لكل هذه الأقسامِ، فيكون النهي عنها نَهْياً عن جميع أقسامها.
فإن قيل: ما الحكمةُ في أنّ الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة: وهي الرَّفث، والفُسُوق، والجدَال في الحج، مِنْ غير زِيَادَةٍ ولا نَقْصٍ؟
فالجواب: لأنه ثَبَتَ في العلوم العقلية أنّ للإنسان أربَعَ قُوىً: قوّة شَهْوَانيةٌ بهيميَّةٌ، وقُوَّةٌ غَضَبيَّةٌ سبعيَّةٌ، وقُوَّةٌ وهمِيَّةٌ شيطانيَّةٌ، وقُوة عقليةٌ مَلكيَّةٌ، والمقصود من جميع العبادات قَهْرُ القُوَى الثلاث، أعْنِي: الشهوانية والغضبية والوهْمية.
فقوله: «فَلاَ رَفَثَ» إشارةٌ إلى قَهْرِ الشهوانية.
وقوله: «ولا فُسُوقَ» إشارةٌ إلى قَهْرِ القُوةِ الغضبيةِ التي توجِبُ المعصية والتمردَ.(3/404)
وقوله: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} إشارةٌ إلى قَهْرِ القوةِ الوهْمية، التي تحملُ الإنسانَ على الجدال في ذاتِ الله، وصفاتِهِ، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائِهِ، وهي البَاعِثَةُ على مُنَازعِةِ الناسِ، ومُمَاراتِهِم، والمخاصَمَةِ مَعَهُم في كل شَيْءٍ، فلمّا كان سَبَبُ الشَّرِّ مَحْصُوراً في هذه الأمور الثلاثة؛ لا جرم لا يَذْكُرْ معَها غيرَها.
فصل
من الناس مَنْ عاب الاستدلالَ، والبَحْثَ، والنَّظر، والجِدال؛ واحْتَجَّ بقوله تعالى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} ، وهذا يَقْتَضِي نَفْيَ جميع أنواعِ الجدال، ولو كان الجِدَالُ في الدين طَاعَةٌ، لما نُهِيَ عَنْهُ في الحج، بل على ذلك التقدير، يكونُ الاشتغالُ بالجِدَالِ ضَمَّ طاعَةٍ إلى طَاعَةٍ، فيكون أَوْلَى بالترغيب فيه. وأيضاً قال تبارك وتعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] ، عابهم بكونِهم مِنْ أَهْل الجَدَلِ، فدلّ على الجدل مَذْمُومٌ، وقال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] فنهى عن المنازعة.
وأمّا جمهور المتكلِّمين فقالوا: الجدَالُ في الدين طاعةٌ عظيمةٌ؛ لقوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وحكى قول الكفَّار لنوح - عليه السلام - {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك الجِدال، إنما كان لتقريرِ أُصُولِ الدين، فيُحملُ الجدالُ المذمومُ على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المالِ، والجَاهِ، والجدالُ الممدوحُ على الجَدَلِ في تقرير الحقِّ، ودعوةِ الخَلْقِ إلى سبيل اللِّهِ، والذَّبِّ عن دين الله.
قولُه: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} تقدَّمَ الكلامُ على نَظِيرتِهَا، وهي: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] فَكُلُّ ما قيلَ ثَمَّ، يُقالُ هُنَا. قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ «وَنَزِيدُ هنا وَجْهاً آخرَ: وهو أَنْ يَكُونَ» مِنْ خَيْر «في مَحلِّ نصبٍ نَعْتاً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ، تقديرُه: وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً كَائِناً مِنْ خَيْرٍ» .
و «يَعْلَمْه» جَزْمٌ على جوابِ الشَّرط، ولاَ بُدَّ مِنْ مَجَازٍ فِي الكَلامَ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَّر بالعِلْم عن المُجازاة على فعل الخَيْر، كأنّهُ قِيل: يُجازِيكم، وإِمَّا أَنْ تُقَدَّر المُجازاة بعد العِلم، أي: فيثيبُه عَلَيْه.
وفي قوله: «وَمَا تَفْعَلُوا» التفَاتٌ؛ إذْ هو خُرُوج مِنْ غَيْبَةٍ في قوله: فَمَنْ فَرَضَ «وحُمِلَ على َمَعْنَى» مَنْ «إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرده. وقد خَبَطَ بعضُ المُعْربين، فقال:» مِنْ خَيْر «مُتعَلِّق بتَفْعلوا، وهو في مَوضع(3/405)
نصب؛ لمصدّر محذوفٍ، تقديرُه:» وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً مِنْ خَيْر «والهاءُ في» يَعْلَمْه «تَعُودُ إلى خير. قال شهابُ الدِّين: وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ؛ لأَنَّه مِنْ حَيْثُ عَلَّقه بالفعلِ قبله كيف يَجْعَلُه نَعْتَ مصدرٍ مَحذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعودُ إلى» خَيْر «يلزمُ منه خلوُّ جملة الجواب مِنْ ضمير يَعُودُ اسم الشَّرْطِ، وذلك لا يجوزُ، أَمَّا لَوْ كانَتْ أَداةُ الشَّرْطِ حَرْفاً، فلا يُشْترطُ فيه ذلك، فالصَوابُ ما تقدَّم. وإنما ذكرت لك هذا لِئَّلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه. والهاءُ عائِدةٌ على» ما «الَّتي هي اسمُ الشَّرْطِ.
فصل
اعلم أنَّ اللَّهَ تعالى يعلمُ كُلَّ شَيْءٍ وإذا خَصَّ هُنا الخير بأنه يعلمُه لفوائِد.
أحدها: إذا علمتُ منك الخير، ذكرتُه وشَهَرْتُه، وإذا علمتُ مِنْك الشرَّ، سترتُه وأخفَيْتُه؛ لِتَعلم أنّه إذا كانت رَحْمَتي بك في الدنيا هكذا فكيف في العُقْبَى؟
وثانيها: قال بعضُ المفسرين في قوله: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] معناه: لَو أمكَنَنِي أن أُخْفيها عن نفسي، لَفَعلتُ، فكذا - هاهنا - كأنَّه قيل لِلْعَبْدِ: ما تَفْعَلْه مِن الشَّرِّ، فَلَوْ أَمْكنِني أَنْ أُخْفيهُ عن نَفْسي لَفَعلتُ ذلك.
وثالثها: أنّ السُّلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع: كُلّ ما تتحمله من المشقَّة والخِدْمة في حَقِّي، فأنا عالِمٌ به، ومُطَّلِعٌ عليه، كان هذا وَعْداً له بالثَّواب العظيم، ولَو قال ذلك لعبده المذنِبِ، كان تَوَعُّداً له بالعِقابِ الشَّديد، ولَمَّا كان سبحانه أكرمَ الأَكرَمِينَ؛ لا جرمَ ذَكرَ ما يَدُلُّ على الثَّوابِ، ولم يذكرْ ما يدلُّ على العِقَابِ.
ورابعها: أَنَّ جبريل - عليه السلام - لمَّا قال:» ما الإحسان «؟ فقال:» الإحْسَانُ: أَنْ تَعْبُد اللَّهُ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ «، فهاهنا بيَّن للعبدِ أنَّه يَرَاهُ، ويعلمُ ما يفعلهُ من الخيراتِ لتكون طاعةُ العَبْدِ للربِّ من الإحسانِ، الذي هُو أَعْلَى دَرَجاتِ العِبَادِةِ، فإن الخادِمَ مَتَى علم أَنَّ مخدومه مُطَّلِعٌ عليه، ليس بغافلٍ عن أَحوالِهِ - كان أَحْرصَ على العَمَلِ.
فصل
قال القُرطبيُّ: هذا شرط وجوابه، والمعنى أنَّ اللَّهَ يُجَازيكُم على أعمالكُم؛ لأنَّ المجازاة إنما تقعُ من العَالِمِ بالشَّيءِ.
وقيل: هو تحريضٌ وحَثٌّ على حُسنِ الكَلاَمِ مَكَانَ الفُحشِ، وعلى البِرِّ والتَّقْوَى في الأخلاقِ مكان الفُسُوقِ والجِدَالِ.(3/406)
وقيل: جعل الخير عبارةً عن ضبط أَنفُسِهم؛ حتى لا يوجد ما نهُوا عنه.
قوله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} فيه قولان:
أحدهما: أن المراد تزوّدوا من التَّقْوَى؛ لقولهِ {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} فتحقيقٌ [الكلام فيه: أَنَّ] الإنسان له سَفَرانِ، سفرٌ فى الدنيا، وسَفَرٌ مِنَ الدُّنيا.
فالسَّفَرُ في الدنيا، لا بُدَّ له مِنْ زَادٍ، وهو الطَّعامُ، والشَّرَابُ، والمركبُ، والمالُ والإعراضُ عمّا سِوَاهُ، وهذا الزادُ خيرٌ مِنَ الزَّادِ الأوَّلِ لوجوه:
أحدها: أنّ زادَ الدُّنيا [يخلصُكَ مِنْ عَذَابِ مُنْقَطِعٍ، وزادَ الآخرة يُخَلِّصُك مِنْ عذاب دائمٍ، وزادُ الدُّنيا] يوصلك إلى لذَّةٍ مَمزُوجةٍ بالآلامِ، والبلايَا، وزادَ الآخرةِ يُوصِلكّ إلى لذَّاتِ باقيةٍ خالصةٍ عن شوائب المضَرَّةِ، وزادُ الدنيَا يُوصِلُك إلى دُنيا مُنقضيةٍ، وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى الآخرة، وهي كل ساعةٍ من الإِقبالِ، والقُرْبِ، والوُصُول غير منقضية وزادُ الدنيا يُوصِلُكُ إلى منصة الشَّهوة والنَّفْس وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى حضرة الجلالِ والقُدُس؛ فلهذا قال: {خَيْرَ الزاد التقوى} فَاشْتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني: إِن كُنتُم من أُولي الألباب الَّذين يعلمون حقائق الأمور فاشتغلوا بتحصيل هذا الزادِ؛ لما فيه من كثرةِ المَنافع؛ وفي هذا المعنى قال الأعشى: [الطويل]
995 - إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزادٍ مِنَ التُّقَى ... وَلاَقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدْمِتَ عَلَى أَلاَّ تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصْدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا
والقولُ الثَّانِي: أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في أُناسٍ مِنْ أهل اليمن، كانوا يحجُّونَ بغير زادٍ، ويقُولُونَ إِنّا مُتَوكِّلُونَ وكانوا يَسْأَلُونَ وربما ظَلَمُوا الناس وغصبُوهُم، فأمرهم اللَّهُ تعالى أَنْ يَتَزوَّدُوا ما يَبْلُغُون به، فإنّ خير الزادِ ما تكفون به وجوهكم عن السُّؤال، وأنْفُسَكُم عن الظلم.
وعن ابن زيدٍ، أنّ بعض قبائِلِ العربِ كانوا يحرّمُون الزادَ على الحج، والعمرة؛ فنزلت الآية.(3/407)
قال ابنُ الجَوزيّ: قد لَبَسَ إِبْلِيسُ على قومٍ يَدعُون التوكُّل؛ فخرجوا بِلاَ زادٍ، وظنُّوا أن هذا هو التوكُّلُ وهُم على غاية الخطأَ، قال رَجلٌ لأحمد بن حَنْبلٍ: أُرِيد أَنْ أَخْرُجَ إلى مكَّةَ المشرفة على التوكُّلِ بِغَير زادٍ، فقال له أَحْمَدُ: اخرج في غير القَافِلَةِ. فقال: لا إِلاَّ معهُم، فقال: على جُرُب النَّاسِ تَوكلت.
وروى محمد بنُ جرير الطبري عن ابن عمر قال: كانوا إذا أَحْرَموا، ومعهم أزودةٌ رَمَوْا به؛ فنهوا عن ذلك بهذه الآية الكريمة.
قال القاضي: فإن أرادنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان:
الأوَّل: أنّ القادر على أنْ يستصحِبَ المالَ في السفر إذا لم يستصحبه، عَصَى اللَّهُ تعالى في ذلك، فبهذا الطَّرِيق يصحُ دُخُولُه تحتَ الآية الكريمة.
والثاني: أَنْ يكونَ في الكلام حَذْفٌ، والمرادُ تَزَوَّدوا لعاجل سفركم، ولآجِلِ، فإِنَّ خير الزادِ التقوَى. وقيل: المعنى فإنّ خَيْرَ الزادِ ما اتقى به المسافر من الهَلَكة، والحاجة إلى السؤال، والتكفُّفِ، وأَلِفُ «الزَّادِ» مُنقلبَةٌ عَنْ «واوٍ» لقولهم تَزَوَّدَ.
قولهُ: «واتَقُونِي» أَثبتَ أبو عمر «الياءَ» في قوله: «وَاتَّقُونِي» على الأصل، وحذف الآخرون؛ للتخفيف، ودلالة الكسرةِ عليه، وفيه تَنْبيهٌ على كمالِ عظمةِ اللَّهِ وجلالِهِ؛ وهو كقول الشَّاعر: [الرجز]
996 - أَنَا أَبُوا النَّجْمِ وَشْعْرِي شِعْرِي ... قولُه {واتقون ياأولي الألباب} اعلم أَنَّ لُبَّ الشيءٍ ولُبَابَهُ هو الخَالِصُ منه.(3/408)
قال النَّحاسُ: سمعت أبا إسحاق يقول: قال لي أحمدُ بن يحيى ثعلبٌ: أتعرف في كَلام العرب شيْئاً من المُضاعَفِ جاء على فَعُلَ؟ قلت: نعم، حكى سيبويه عن يونس: لَيُبْتَ تَلُبّ؛ فاسْتَحْسَنُه، وقال: ما أَعْرفُ له نظيراً.
واختلفوا فيه فقال بعضهم: إنّه للعقلِ؛ لأنه أشرفُ ما في الإنسان، وبه تميز عن البهائِمِ، وقَرُبَ مِنْ درجةِ الملائكة.
وقال آخرون: إنّه في الأَصْلِ اسمٌ للقَلْبِ الذي هو محل للعقلِ، والقَلْبُ قد يُجعل كنايةً عن العَقلِ، فقوله: {ياأولي الألباب} أي: يا أُولِي العُقُولِ، وإطلاق اسم المحلِّ على الحال مجازٌ مشهُورٌ.
فإن قيل: إذا كان لا يصِحُّ إِلاَّ خِطَابٌ العقل؛ فما فائدة قوله: {ياأولي الألباب} ؟!
فالجواب: معناهُ أنّكم لمّا كنتُم مِنْ أُولِي الألباب، تمكنتُم مِنْ معرفة هذه الأشياء، والعَمَلِ بها، فَكَانَ وجوبها عليكم أَثبت، وإعراضُكم عنها أقبحَ؛ ولهذا قال الشاعر: [الوافر]
997 - وَلَمْ أَرَ في عُيُوب النَّاسِ شَيْئاً ... كَنَقْص الْقَادِرِيْن عَلَى التَّمَامِ
وقال تبَاركَ وتعالى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] يعني: أَنَّ الأنعامَ مَعْذُورةٌ بسبب العَجزِ، وأَمَّا هؤلاء فقادِرُون فكان إعراضهم أفحش، فلا جرم كانُوا أَضَلَّ.(3/409)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
قوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} «أَنْ» في محلِّ نَصْبٍ في مَوْضعين عند سيبويه والفراء، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأَخْفِشِ؛ لأنَّها على إضمارِ حَرْفِ الجَرِّ، أي: في أَنْ، وهذا الجارُّ متعلِّقٌ: إمَّا بجُناح؛ لما فيه مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ وهو الميلُ والإِثمُ، وما كانَ في معناهُمَا، وإمَّا بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل «جُناح» فيكونُ مرفوعَ المحلِّ، أي: جناحٌ كائنٌ في كذا.
ونقل أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى عن بعضهم، أنه متعلقٌ ب «ليس» ، واسْتضْغَفُه. قال شهاب الدِّين: بل يُحْكَمُ بتخطئته ألبتة.
قوله: «مِنْ رَبِّكُمْ» يجوزُ أَنْ يتعلَّق بتبتغوا فيكون مفعولاً له، وأَنْ يكون صِفَةٌ(3/409)
ل «فضلاً» ، فيكون منصوب المَحَلِّن مُتَعَلِّقاً، بمحذوفٍ. و «منْ» في الوجهين لابْتِدَاء الغاية، لكن فى الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ أي: كَائناً مِنْ فُضولِ ربكم.
فصل
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ} يدلُّ على أنّ شُبْهَةً قَامَتْ عندهم في تحريم التجارة من وجوهٍ:
أحدها: أنَّه تبارك وتعالى منع الجِدَال في الحجِّ، والتِّجَارةُ كثيرةُ الإفضاءِ إلى المُنازعَةِ في قلَّة القِيمَةِ وكثرتِهَا؛ فوجَبَ أَنْ تكونَ التجارة مُحَرَّمةً.
ثانيها: أنّ التجارة كانت مُحرمةً في وقت الحج في الجاهليةِ، وذلك شيءٌ، حسَنٌ؛ لأن المشتغل بالحج مشتغلٌ بخدمةِ الله تعالى، فوجب ألاَّ يَشُوبَ هذا العملَ بالأطماعِ الدُّنيويَّةِ.
وثالثها: أنّ المسلمين عَلِمُوا أنّ كثيراً من المباحاتِ صارت مُحرمةً عليهم في الحج: كاللّبسِ، والاصْطِيَادِ، والطِّيبِ، والمباشرة، فغلب على ظنِّهم أنَّ الحجَّ لمَّا صار سبباً لحرمةِ اللبسِ مع الحاجَةِ إليه، فأَوْلَى منه تحريمُ التجارةِ؛ لقلة الاحتياج إليها.
ورابعها: عند الاشتغال بالصلاةِ يَحْرُمُ الاشتغالُ بالتجارةِ؛ قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9] فلهذا السبب، بيّن اللَّهُ تعالى - هاهنا - أنَّ التجارةَ جائزةٌ غير مُحَرَّمةٍ.
فإذا عُرِفَ هذا، فذكر المفَسِّرُونَ في قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} وجهين:
الأوَّل: أَنَّ المراد هو التجارة؛ نظيره قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} [المزمل: 2] وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [القصص: 73] ويدُلُّ عليه ما رَوَى عَطاءٌ عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وابن الزُّبير أنّهم قرأوا: «أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَواسِمِ الحَجِّ» .
وقال ابن عباسٍ: كان ناسٌ من العرب يَحْتَرِزُونَ مِنَ التجارةِ في أيَّامِ الحَجِّ، وإذا دَخَلَ العَشْرُ، بالغوا في تَرْك البيع والشِّراء بالكية، وكانوا يُسَمّون التاجر في الحج الدَّاجَّ، ويقُولون: هؤلاء الدَّاجُّ، وليسوا بالحاجِّ. ومعنى الدَّاجّ: المُكتسب الملْتَقِط، وهو مشتقٌّ من الدَّجاجة وبلغُوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتَنَعُوا من إِغاثةِ الملهُوفِ والضعيفِ وإِطعام الجائع؛ فأزال اللَّهُ هذا الوَهْمُ وبيّن أنّه لا جُناح في التجارة، ولما كان ما قَبْل هذه الآية في أحكامِ الحج، وما بعدها في الحج، وهو قوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ}(3/410)
دَلّ ذلك على أَنَّ هذا الحكمَ واقِعٌ في زمان الحجِّ؛ فلهذا السبب استغني عن ذكره.
وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنّ رجلاً قال له: إنَّا قَوْمٌ نكري، وإنَّ قَوماً يَزْعُمونَ أنّه لا حَجَّ لنا، فقال: أَلَسْتُم تُحْرِمُونَ كما يُحْرِمون، وتَطُوفُونَ كما يَطُوفُونَ، وتَرْمُونَ كما يَرْمُونَ؟ قلتُ: بَلَى، قال: أنْتُم حُجَّاجٌ؛ وجاء رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسأله عمَّا سَأَلتني، فلم يَرُدُّ عليه؛ حَتَّى نزل قوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} فَدَعَاهُ، وقال: أَنْتُم حُجَّاجٌ.
وبالجملة فهذه الآية الكريمة نزلت رَدّاً على مَنْ يقول: لا حجَّ لِلتَّاجِرِ، والأَجِيرِ، والجَمَّالِ.
ورَوَى عمرو بن دِينارٍ، عن ابن عباسٍ: أنَّ عُكَاظَ ومِجَنَّةَ، وذا المجاز كانت أسواقاً في الجاهليِّة، يتَّجرون فيها في أيَّام الموسِم، وكانت مَعَايشُهم مِنْهَا، فلمّا جاء الإسلامُ، كرهوا أنْ يَتّجروا في الحج بغير إذنٍ، فسألَوا رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنزلت الآيةُ.
وقال مجاهدٌ: إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بِعَرفة، ولا مِنَى، فنزلت هذه الآيةُ، فلهذا حمل أكثرُ المفسرين الآية على التجارةِ في أيام الحجِّ، وحَمَلَ أبُو مُسْلم الآية على ما بعد الحج، قال: والتقديرُ: واتقوني في كل أفعالِ الحج، وبعد ذلك {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} ونظيره قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] .
قال ابن الخطيب: وهذا القولُ ضعيفٌ من وجوه، لأَنَّ قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِن عَرَفَاتٍ} يدلُّ على أنّ هذه الإفاضة حَصَلَتْ بعد ابتغاء الفَضْلِ؛ لأن الفاءَ للتَّعْقيب، وذلك يَدُلُّ على وُقُوع التجارة فيى زَمَانِ الحج.
وأيضاً فَحَملُ الآية على موضع الشُبْهَة، أَوْلَى مِنْ حَمْلِها على مَوْضع لا شُبْهَةَ فيه، ومَحلُّ الشبهةِ، هو التجارةُ في زمان الحجِّ، وأَمَّا بعدَ فراغ الحجِّ، فكُلُّ أَحَدٍ يعلمُ حلَّ التجارة.
فإن قيل: وكذلك أيضاً كل أَحَدٍ يعلمُ أَنَّ الصلاةَ إذا قُضِيت، يُبَاحُ البيعُ والشِّرَاء؛(3/411)
فلماذا قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} .
قلنا لأنه أمَر قبله بالسَّعي، ونهى عن البيع، فقال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} فَنَهى عن البيع بعد النِّدَاءِ، فلمَّا قال بعده: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} ، كأنّه قال: إِنَّ المانعَ الذي مَنَعَكُمْ من البَيْعِ قد زال؛ فانْتَشِرُوا في الأرض، وابتغُوا من فضل الله.
وأمَّا قِياسُ الحجِّ على الصلاةِ، فالفرقُ بينهما: أنّ الصلاة أعمالُها مُتَّصِلَةٌ، فلا يَحِلُّ في أثنائِهَا التشاغلُ بغيرها، وأَمّا أعمال الحج، فهي مُتَفرِّقَةٌ بعضها عن بعضٍ، ففي خلالها لا يبقى المرءُ على الحكم الأول، فتصيرُ الصلاةُ عملاً واحداً من أعمالِ الحج، لا مَجْمُوعَ الأَعْمَالِ، وأيضاً فقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} تَصريحٌ بأَنّ الابتغاء بعد انقضاء الحج.
فإن قيل: حُكمْ باقٍ في كل تلك الأَوقاتِ؛ بدليل حُرْمَةِ التطيب واللَّبسِ.
فالجوابُ: هذا قياسٌ في مقابلة النص.
القولُ الثاني: قال أبو جعفرٍ محمد بن علي الباقر: المرادُ بقوله تعالى: {أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} هو أَنْ يبتغي الإنسانُ حال كونه حاجّاً أعمالاً أخَرَ، تكونُ مُوجِبةً لاستحقاقِ فضْلِ الله ورحمته مِثْلَ إِعانَةِ الضَّعيف، وإغَاثَةِ الملهوف، وإطعام الجَائِعِ، واعترضَ عليه القاضي: بأَنّ هذا واجبٌ، أو مَنْدُوبٌ، ولا يُقالُ في مِثله: لا جَنَاحَ عَليكُم فيه، إِنَّما يُذكر هذا اللفظ في المُبَاحَاتِ.
والجوابُ: لا نُسَلِّمُ أَنَّ هذا اللفظَ لا يُذكرُ إلاّ في المُبَاحَاتِ لقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} [النساء: 101] والقصْرُ مندوبٌ وكما قال تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] والطوافُ ركنٌ في الحج، وإنّما أهلُ الجاهلية كانوا يعتقدون أنّ ضَمَّ سَائِرِ الطاعَاتِ إلى الحجِّ، يُوقِعُ خَلَلاً في الحج، ونَقْصاً؛ فبيَّن اللَّهُ تعالى بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَنَاحٌ} أنّ الأمر ليس كذلك.
فصل
اتفقُوا على أنّ التجارة إنْ أوْقعت نَقْصاً في الطاعة، لم تَكُنْ مباحةً، وإِنْ لم تُوقِعْ نقصاً في الطاعةِ، كانت مُبَاحةً، وتركها أَوْلَى؛ بقوله تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] ، والإخلاصُ هو ألاَّ يكونَ له حَامِلٌ على الفِعْل سِوى كونهِ عبادةً، والحاصِلُ أنّ الإِذْنَ في هذه التجارة جَار مَجْرَى الرُّخَصِ.(3/412)
قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} العامُ فيها جَوَابُها، وهو «فَاذْكُرُوا» قال أبُوا البقاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ «ولا تمنَعُ الفاءُ مِنْ عَمَل ما بعدَها، فيما قَبْلَها؛ لأنه شَرْطٌ» .
ومَنَعَ أبُو حَيَّان مِنْ ذلك بما معناه: أنَّ مكانَ إنشاءِ الإِفَاضَةِ غيرُ مكانِ الذكْرِ؛ لأنَّ ذلك عَرَفَاتٌ، وهذا المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاقِعاً عند إِنْشاء الإِفَاضَة.
قوله: «مِنْ عَرَفَاتٍ» مُتَعلِّقٌ ب «أَفَضْتُم» والإِفَاضَةُ في الأَصْلِ: الصبُّ، يُقالُ، فَاضَ الإِناءُ، إذا امْتَلأَ حَتَّى ينصبَّ عن نواحيه. ورجلٌ فيَّاضٌ، أي: مندفقٌ بالعطاءِ؛ قال زُهيرٌ: [الطويل]
998 - وَأَبْيَضَ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ ... عَلَى مُعْتَفِيهِ مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ
وحديثٌ مستقيضٌ، أي شائِعٌ.
ويقالُ: فاضَ الماءُ وأَفَضْتُه، ثم يُستعملُ في الإِحْرامِ مَجَازاً. والهَمْزَةُ في «أَفَضْتُم» فيها وجهان:
أحدُهما: أنها للتعدية، فيكون مفعولُه مَحْذُوفاً، تقديره: أَفَضْتُم أنفسكم، وهذا مَذْهب الزجاج، وتبعَهُ الزَّمَخْشَريُّ، وقَدَّره الزجاجُ فقال: معناه: دَفَعَ بعضُكم بَعْضاً والإِفَاضَةُ: الاندفاعُ في السَّيْرِ بكثيرةٍ، ومنه يُقالُ: أَفَاضَ البَعِيرُ بجرِته، إذا وقع بها فألقاها منبثة، وكذلك أَفَاضَ القِداحَ في المَيْسِر، ومعناه: جمعها، ثم أَلقاها مُتَفَرِّقَةً، وإِفَاضَة الماءِ من هذا؛ لأنه إذا صُبَّ، تَفَرَّق، والإِفَاضَةُ في الحديث، إِنَّما هو الاندفاعُ فيه بإكثارٍ، وتصرُّفٍ في وُجُوهِهِ؛ قال تعالى:
{إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] ، قال بعضُهم: ولَيْسَ كذلك؛ لما يأتي، ومنه يُقال للناس: فَوْض، ومثلهم فَوْضَى، ويُقال: أَفَاضَت العينُ دَمْعَها، فأصلُ هذه الكلمة: الدفعُ للشيءِ حتى يتفرقَ، فقوله تعالى: «أَفَضْتُم» ، أي: دَفَعْتُم بكثرة، وأصلُه: أَفَضْتُم أَنْفُسَكُم، فتُرِك ذِكْرُ المفعول كما تُركَ في قولهم: دَفَعُوا مِنْ مَوضِعِ كَذَا، وَصَبُّوا.
والوجه الثاني: أَنّ أَفْعَل هنا، بمعنى «فَعَلَ» المجردِ فلا مفعول له. قال أبو حيَّان: لأنه لا يحفّظُ: أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه آنفاً وأَصلُ أَفَضْتُم: أفْيَضْتُم فأُعلَِّ؛ كنظائره، بأَنْ نُقِلَتْ حَركَةُ حَرفِ العِلَّةِ على السَّاكِن قبلهُ فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصل، وانْفَتَحَ ما قبله؛ فَقُلِب ألفاً، وهو مِنْ ذواتِ الياءِ من الفَيْض، كما تقدَّمَ، وليس مِنْ ذواتِ الواوِ من قولهم: فَوْضَى الناسِ، وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائِسٍِ.(3/413)
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مَخْصُوصٍ، وهل هو مشقٌّ أو مُرْتَجَلٌ؟ قولان:
أحدهما: أنه مرتجلٌ، وإليه ذهب الزمخشريُّ، قال: «لأنَّ العَرَفَةَ لا تُعْرَفُ في أسماءِ الأجناس؛ إلا أنْ تكونَ جمعَ عارفٍ» .
والثَّاني: أنه مُشتقٌّ، واختُلِف في اشتقاقه، فقيل: مِنَ المَعْرِفة؛ لأنَّ إبراهيم - عليه السلام - لَمَّا عرَّفه جبريلُ هذه البقعة بالنَّعْتِ، والصِّفَةِ؛ فَسُمِّيَتْ «عَرَفَاتٍ» قاله عليٌ، وابنُ عبَّاسٍ وعطاءٌ والسُّدّيُّ.
قال السُّدِّيُّ: لمّا أَذَّنَ إبراهيم في الناس بالحجِّ، فأجابوه: بالتَّلبية، وأتاهُ مَنْ أَتَاهُ - أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَخْرُجَ إلى عَرَفاتٍ، ونعتها له، فخرج، فلمَّا بَلَغَ الشجرة عند العقبةِ، استقبلَهُ الشيطانُ؛ يَرُدُّهُ؛ فرماه بسبع حَصَيَاتٍ، يُكَبّرُ مع كُلِّ حَصَاة، فَطَار، فَوقَعَ على الجمرة الثَّانية؛ فرمَاهُ وكبِّر [فطار، فَوقع على الجَمْرة الثالثة؛ فرماه وكبّر] ، فلمّا رأى الشَّيطانُ أنَّه لا يُطيعُهُ؛ ذهب، فانطلق إبراهيم حتَّى أتى ذا المجازِ، فلمّا نظر إليه، لم يَعْرِفه، فجاز فسُمِّي ذا المجاز، ثمَّ انطلق حتَّى وقَفَ بعرفاتٍ فعرفها بالنَّعْت؛ فسُمِّي الموقف «عَرَفَة» والموضعُ «عَرَفَاتٍ» ، حتى إذا أَمْسَى ازْدَلَف أي قَرُبَ إلى جَمع فسُمِّي المُزْدَلَفَة.
وقال عطاء: إنّ جبريل - عليه السلام - علّم إبراهيم - عليه السّلام - المَنَاسِك، وأوْصَلَه إلى عَرَفاتٍ، وقال له: أعَرَفْتَ كيف تَطُوفُ، وفي أي مَوْضعٍ تَقِف؟ قال: نعم.
وقيل: إن إبراهيم - عليه السلام - وضَعَ ابنهُ إسماعيل وأمَّه هاجر بمكَّة، ورجع إلى الشَّام ولم يَلْتَقِيا سِنين، ثم الْتَقَيَا يوم عَرَفَة بِعَرَفَات.
وقال الضَّحَّاكِ: إنّ آدم وحَوَّاء - عليهما السلام - التَقَيَا بعرَفة، فعرَفَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما صاحِبُه؛ فسُمِّي اليوم عَرَفَة والمَوْضِع بعَرَفَاتٍ؛ وذلك أنَّهما لمّا أُهْبِطا من الجَنَّة، وقع آدم بسَرَنْدِيب، وحوّاء بجَدَّة، وإبليس ببيسان والحية ب «أصْفهان» فلمّا أَمَر الله - تعالى - آدم - عليه السّلام - بالحجِّ، لقي حواء بعَرَفَاتٍ فتعارفا، قاله ابن عبَّاس.(3/414)
وقيل: إنّ آدم - عليه السّلام - علّمهُ جبريل مَنَاسِك الحَجِّ، فلمّا وقَفَ بعَرَفَاتٍ قال له: أَعَرفتَ؟ قال: نعم، فسُمِّي عَرَفَاتٍ.
وقيل: إن الحجاج يتعارَفُون بعَرَفَاتٍ إذا وَقَفُوا.
وقيل: إنّه - تبارك وتعالى - يتعرّف فيه إلى الحُجَّاجِ بالمَغْفِرة والرَّحْمة.
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ؛ أنّ إبراهيم - عليه السّلام - رأى ليلة التَّروية في منامه، أنَّه يؤمر بذبح ولده، فلما أصبح روَّى يومه أجمع، أي: فكّر أمنَ الله هذه الرُّؤيا أم من الشَّيطان؟ فسمِّي اليوم يوم التَّروية. ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانياً، فلمّا أصبح عرف أنّ ذلك من الله، فسمي اليوم عرفة.
[وقيل: مشتقَّة من العرف، وهو الرائحة الطيبة] .
قال تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6] أي طيَّبها لهم، فيكون المعنى: أن المذنبين لمّا تابوا في عرفات، فقد تخلَّصوا من نجاسات الذُّنوب، واكتسبوا عند الله رائحةً طيِّبة.
وقيل: أصله من الصَّبر: يقال: رجل عارفٌ؛ إذا كان صابراً خاشعاً؛ قال ذو الرُّمَّة في ذلك: [الطويل]
999 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... عَرُوفٌ لَمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ عَلَيْهِ المَقَادِرُ
أي: صبورٌ على قضاء الله - تعالى - فسمِّي بهذا الاسم؛ لخضوع الحاجِّ وتذللِّهم وصبرهم على الدُّعاء، واحتمال الشَّدائد لإقامة هذه العبادة.
وقيل: مشتقَّة من الاعتراف؛ لأن الحاجَّ إذا وقف اعترف للحقِّ بالربوبيَّة والجلال والاستغناء، ولنفسه بالفقر والذِّلَّة والمسْكَنَة والحاجة.
وقيل: إنّ آدم وحوّاء - عليهما السّلام - لمّا وقفا بعرفاتٍ، قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] قال الله - سبحانه وتعالى -: «الآن عَرَفْتُمَا أَنْفُسَكُما»
وقيل: من العرف، وهو الارتفاع، ومنه عرف الدّيك، وعرفات جمع عرفة في الأصل.(3/415)
ثم سمّي به بقعة واحدة كقولهم: ثوبٌ أخلاقٌ، وبرمةٌ أعشار، وأرضٌ سباسب، والتَّقدير، كان كلُّ قطعة من تلك الأرض عرفة، فسمِّي مجموع تلك القطع بعرفاتٍ.
والمشهورُ: أنَّ عرفات وعرفة واحدٌ، وقيل: عرفة اسم اليوم، وعرفات اسم مكان، وعرفة هي نعمان الأراك؛ قال الشَّاعر: [الطويل]
1000 - تَزَوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودِ أَرَاكَةٍ ... لِهِنْدٍ وَلَكِنْ مَنْ يُبْلِّغُهُ هِنْدَا
والتنوين في عرفاتٍ وبابه فيه ثلاثة أقوال:
أظهرها: أنه تنوين مقابلةٍ، يعنون بهذا أنَّ تنوين هذا الجمع مقابلٌ لنون جمع الذكور، فتنوين مسلماتٍ مقابلٌ لنون مسلمين، ثم جعل كلُّ تنوين في جمع الإناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - طرداً للباب.
والثاني: أنه تنوين صرف، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ؛ فإنه قال: «فإن قلتَ: فَهَلاَّ مُنِعَتِ الصَّرْفَ، وفيها السببان: التعريف والتأنيث؛ قلت: لا يخلو التأنيث: إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدَّرة؛ كما هي في» سُعاد «، فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنَّث، ولا يصحُّ تقدير التاء فيها؛ لأنَّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعةٌ من تقديرها، كما لا تقدَّر تاء التأنيث في» بِنْتٍ «؛ لأنَّ التاء التي هي بدلٌ من الواو؛ سبباً فيها، فصار التنوين عنده للصَّرف.
وأجاب غيره من عدم امتناع صرفها: فأنَّ هذه اللَّفظة في الأصل اسمٌ لقطع كثيرة من الأرض، كلُّ واحدة منها تسمى بعرفة، وعلى هذا التَّقدير لم يكن علماً، ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.
والثالثك أنَّ جمع المؤنث، إن كان مذكرٌ؛ كمسلمات ومسلمين، فلتنوين للمقابلة، وإلاَّ فللصَّرف؛ كعرفاتٍ.
والمشهور - حال التسمية به - إن يُنوَّن ويعرب بالحركتين: الضمة والكسرة؛ كما لو كان جمعاً، وفيه لغةٌ ثانيةٌ: وهو حذف التنوين تخفيفاً، وإعرابه بالكسرة نصباً، والثالثة: أعرابه غير منصرف بالفتحة جرّاً، وحكاها الكوفيُّون والأخفش، وأنشد قول امرئ القيس: [الطويل](3/416)
1001 - تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرَعَاتَ وَأَهْلَهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي
بالفتح.
فصل
اعلم أنَّ اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة يسمَّى يوم التَّروية، والتَّاسع: يوم عرفة، وقد تقدَّم تعليل يوم عرفة، وأمَّا التَّريوة ففيه قولان:
أحدهما: ما تقدَّم من تروِّي إبراهيم - عليه السَّلام - في منامه، من روَّى يروِّي تروية؛ إذا تفكَّر وأعمل فكره ورؤيَّته.
وقيل: إن آدم - عليه السلام - أمر ببناء البيت، فلمَّا بناه تفكَّر فقال: رب، إنَّ لكلِّ عاملٍ أجراً، فما أجري على هذا العلم؟ قال: إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك. قال: رب زدني، قال: لأغفرنّ لأولادك إذا طافوا به، قال: رب زدني، قال: أغفر لكلِّ من استغفر له الطَّائفون من موحدي أولادك. قال: حسبي يا ربِّ حسبي.
وقيل: إنَّ أهل مَّة يخرجون يوم التَّروية إلى منى فيروُّون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في الغد بعرفات.
الثاني: من رواه بالماء يرويه؛ إذا سقاه من عطشٍ، فقيل: إن أهل مكَّة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق، وكان الحاجُّ يستريحون في هذا اليوم من مشاقِّ السَّفر، ويتسعون في الماء، ويروون بهائمهم بعد قلَّة الماء في الطَّريق.(3/417)
وقيل: إنهم يتزوَّدون الماء إلى عرفة.
وقيل: إنَّ المذنبين كالعطاش الَّذين وردوا بحار رحمة الله - تعالى -، فشربوا منها حتى رووا.
فصل في فضل هذين اليومين
دلّ عليه قوله تعالى: {والشفع والوتر} [الفجر: 3] ، قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «الشَّفْعُ» ؛ يوم التَّروية وعرفة، والوتر يوم النَّحر.
وعن عبادة؛ أنه - عليه السّلام - قال: «صِيَامُ عَشْر الأضْحَى كُلُّ يومٍ مِنْها كالشَّهْرِ، ولِمَن يَصُوم يَوْم التَّروية سَنَة، وبصَوْم يوم عَرَفَة سَنَتَانِ»
وروى أنس عنه - عليه السلام -؛ قال: «مَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرويَةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَثْلَ ثَوَابِ عِيسَى ابْنِ مَريمَ»
، وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء خمسة منها مختصَّة به، وخمسة يشترك فيها مع غيره، فالخمسة الأول:
أحدها: عرفة وتقدَّم اشتقاقه.
الثاني: يوم إياس الكفَّار من دين الإسلام؛ قال - تبارك وتعالى -: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} [المائدة: 3] .
قال عمر، وابن عبَّاس: نزلت هذه الآية الكريمة عشيَّة عرفة، والنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واقف بعرفة في موقف إبراهيم - عليه السلام -:، وذلك في حجَّة الوداع وقد اضمحلَّ الكفر وهدم شأن الجاهليَّة، فقال النبيُّ - عليه السلام -: «لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما لَهُم في هذه الآية، لقَّرَّت أَعْيُنُهُم» فقال يهوديُّ لعمر: لو أنَّ هذه الآية نَزَلَت عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْم عِيداً، فقال عُمَر: أمَّا نَحْنُ فَجَعَلْنَاهُ عيدين «؛ كان يوم عَرَفَة ويَوم الجُمَعَة، ومعنى إياس المشركين بأنَّهم يئسوا من قوم محمَّد - عليه السَّلام - أن يرتَدّوا [راجعين] إلى دينهم.
الثالث: يوم إكمال الدِّين؛ نزل فيه قول تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فلم يأمرهم بعد ذلك بشيءٍ من الشَّرائع.(3/418)
الرابع: يوم إتمام النِّعمة؛ لقوله فيه: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] وأعظم النِّعم نعمة الدِّين.
الخامس: يوم الرِّضوان؛ لقوله تعالى في ذلك اليوم: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} [المائدة: 3] .
أما الخمسة الأُخر.
فأحدها: يوم الحجِّ الأكبر؛ قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] وهذا الاسم مشترك بينه وبين يوم النَّحر، واختلف فيه الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - والتابعون.
فمنهم من قالك إنَّه عرفة؛ لأنَّ فيه الوقوف بعرفة» والحَجُّ عَرَفَة «فإنَّه لو أدركه وفاته سائر مناسك الحجِّ، أجزاء عنها الدَّم، فلهذا سمِّي بالحَجِّ الأكبر.
وقال الحَسَن: سمِّي به؛ لأنه اجتمع فيه الكفَّار والمسلمون، ونودي فيه على ألاَّ يحجَّ بعده مشرك.
وقال ابن سيرين: إنما سمِّي به؛ لأنَّه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلِّها؛ من اليهود والنَّصارى وحجِّ المسلمين، ولم يجتمع قبله ولا بعده.
ومنهم من قالك إِنَّه يوم النَّحر؛ لأن فيه أكثر مناسك الحجِّ، فأمَّا الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزئ باللَّيل.
وثانيها: الشَّفع.
وثالثهما: الوتر.
ورابعها: الشَّاهد.
وخامسها: المشهود في قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] .
فصل» في ترتيب أعمال الحج «
من دخل مكَّة محرماً في ذي الحجَّة أو قبله، فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم، وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات وإن كان متمتِّعاً طاف وسعي وحلق، وتحلَّل من عمرته، وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفاتٍ، وحينئذٍ يحرم من مكَّة بالحجِّ ويخرج، وكذلك من أراد الحجَّ من أهل مكَّة، والسُّنَّة أن يخطب الإمام بمكَّة يوم السَّابع من ذي الحجَّة، بعد أن يصلِّي الظُّهر خطبة واحدة، يأمرهم فيها بالذِّهاب غداً بعد صلاة الصُّبح إلى منى، ويعلمهم تلك الأعمال، ثم يذهبون يوم التَّروية وهو اليوم الثَّامن من ذي(3/419)
الحجَّة إلى منى، بحيث يوافون الظُّهر بها، ويصلُّون بها الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والصُّبح من يوم عرفة، فإذا طلعت الشَّمس على ثبيرٍ يتوجَّهون إلى عرفات، فإذا دنوا منها فالسُّنَّة ألاَّ يدخلوها، بل يضرب فيه الإمام بنمرة، وهي قريبة من عرفة، فينزلون هناك حتَّى نزول الشَّمس، فيخطب الإمام خطبتين، يبيِّن لهم مناسك الحجِّ، ويُحرِّضهم على كثرة الدُّعاء والتَّهليل بالموقف، فإذا فرغ من الخطبة الاولى، جلس ثم قال، وافتتح الخطبة الثَّانية والمؤذِّنون يأخذون في الأذان معه، ويخفِّف بحيث يكون فراغه من الخطبة، مع فراغ المؤذِّنين من الأذان، ثم ينزل فيقيم المؤذِّنون فيصلِّي بهم الظُّهر، ثم يقيمون في الحال ويصلِّي بهم العصر، وهذا الجمع متفقٌ عليه، فإذا فرغوا في الصَّلاة توجَّهوا إلى عرفاتٍ، فيقفون عند الصَّخرات موقف النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويستقبلون القبلة ويذكرون الله - تعالى - ويدعونه إلى غروب الشَّمس.
وهنا الوقوف ركنٌ لا يدرك الحجُّ إلاّ به، فمن فاته في وقته وموضعه، فقد فاته الحجُّ، ووقت الوقوف يدخل بزوال الشَّمس من يوم عرفة، ويمتدُّ إلى طلوع الفجر من ليوم النَّحر، وذلك نصف يوم وليلة كاملة، فإذا حضر الحاجُّ هناك في هذا الموقف لحظة واحدة من ليل أو نهار، كفاه.
قال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أجمع أهل العلم على أنَّ من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزَّوال، ثم أفاض منها قبل الزَّوال أنّه لا يعتدّ بوقوفه ذلك، وأجمعوا على تمام حجِّ من وقف بعرفة بعد الزَّوال، وأفاض نهاراً قبل اللِّيل إلاَّ مالك؛ فإنَّه قال: لا بدَّ أن(3/420)
يأخذ من اللَّيل شيئاً، وأمَّا من وقف بعرفة باللَّيل، فإنّه لا خلاف بين الأئمَّة في تمام حجِّه، [فإذا غربت الشَّمس، دفع الإمام من عرفات وأخّر صلاة المغرب] وعند أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر.
فصل
قال القرطبيّ: لا خلاف بين العلماء أنَّ الوقوف بعرفة راكباً لمن قدر عليه أفضل؛ لفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، وعرفة كلها موقف إلاّ بطن عُرنَة.
قال: ولا بأس بالتَّعريف في المساجد يوم عرفة؛ تشبيهاً بأهل عرفة.
فصل
فإذا غربت الشَّمس دفع الإمام من عرفات، وأخَّر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة.
وفي تسميتها بالمزدلفة أقوال:
أحدها: أنّهم يقربون فيها من منى، والأزدلاف: القرب.
والثاني: أنّ النَّاس يجتمعون فيها، والاجتماع الازدلاف.
والثالث: يزدلفون إلى الله - تعالى -، أي: يتقربَّبون بالوقوف، ويقال للمزدلفة: جمع؛ لأنَّه يجمع فيها بين المغرب والعشاء؛ قاله قتادة.
وقيل: إنّ آدم - عليه السلام - اجتمع فيها مع حوَّاء، وازدلف إليها، أي: دنى(3/421)
منها، فإذا أتى الإمام المزدلفة، جمع المغرب والعشاء بإقامتين، ثم يبيتون بها، فإن لم يبت بها فعليه دم [شاة] ، فإذا طلع الفجر، صلُّوا الصُّبح بغلس، والتَّغليس هنا أشدُّ استحباباً منه في غيره بالاتَّفاق، فإذا صلُّوا الصبح، أخذوا منها حصى الرَّمي، كُلُّ إنسانِ سبعين حصاة، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام، وهو جبل يقال له: «قزح» ، وسُمِّي مشعراًً؛ لأنَّه من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنه معلم الحجِّ، والصَّلاة والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحجِّ، وسمِّي بالحرام لحرمته وهو أقصى المزدلفة مما يلي منى، فيرقى عليه إن أمكنه، أو يقف قريباً منه إن لم يمكنه، وبحمده الله - تعالى - ويهلِّله ويكبّره إلى أن يسفر جداً، ثم يدفع قبل طلوع الشَّمس، ويكفي المرور كام في عرفة، ثم يذهبون منه إلى وادي محسر، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكباً، حَرَّك دابته، ومن كان ماشياً، أسرع قدر رمية بحجر، فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة في بطن الوادي بسبع حصيات، يقطع التَّلبية مع ابتداء الرَّمي، فإذا ذبح حلق رأسه، أو قصَّر شعره بأن يقطع طرفه، ثم يأتي إلى مكَّة بعد الحلق، فيطوف بالبيت طواف الإفاضة، ويسمّى طواف الزِّيارة، ويصلي ركعتي الطَّواف، ويسعى بين الصَّفا والمروة، ثم يعود إلى منى في بقيَّة يوم النَّحر، وعليه المبيت بمنى ليالي التَّشريق لأجل الرَّمي، وسمِّيت «منى» لأنه يمنى فيه الدَّم، أي: يراق، فذا حصل الرَّمي والحلق والطَّواف، فقد حلّ.
فصل
اعلم أنّ أهل الجاهليَّة كانوا قد غيَّروا مناسك الحجِّ عن سنَّة إبراهيم - عليه السلام - وذلك أنّ قريشاً وقوماً آخرين سمُّوا أنفسهم بالحمس، وهم أهل الشَّدَّة في دينهم، والحماسة الشِّدَّة، يقال: رجل أحمس وقوم حمسٌ، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفاتٍ، ويقولون: لا نخرج من الحرم، ولا نتركه وقت الطَّاعة، وكان غيرهم يقفون بعرفاتٍ والَّذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل غروب الشِّمس، والذين يقفون بالزدلفة يفيضون إذا طلعت الشَّمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير، ومعناه: أشرق يا ثبير بالشَّمس، كيما نندفع من مزدلفة، فيدخلون في غور من الأرض، فأمر الله - تعالى - محمَّداً - عيله السَّلام - بمخالفة القوم في الدُّفعتين، فأمره بأن يفيض من عرفة بعد المغرب، وبأن يفيض من مزدلفة قبل طلوع الشَّمس، فالسُّنَّة بيَّنت المراد من الآية الكريمة.(3/422)
فصل
الآية دلَّت على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام، عند الإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفة مشروطة بالحصول في عرفة، ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلَّف، فهو واجبٌ، فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الحصول في عرفاتٍ واجبٌ في الحجِّ، فإذا لم يأت به لم يكن آتياً بالحجِّ المأمور؛ فوجب ألاَّ يخرج عن العهدة، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً.
أقصى ما في الباب: أنّ الحجَّ يحصل عند ترك بعض المأمورات بدليل منفصل، إلاّ أنّ الأصل ما ذكرنا، وذهب كثير من العلماء إلى أنّ الآية لا دلالة فيها على أنّ الوقوف شرطٌ، ونقل عن الحسن أن الوقوف بعرفة واجبٌ، إلاَّ أنه إن فاته ذلك، قام الوقوف بجميع الحرم مقامه، واتَّفق الفقهاء على أنّ الحجَّ لا يحصل إلاّ بالوقوف بعرفة.
قوله: {عِندَ المشعر الحرام} فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب «اذْكُرُوا» .
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل «اذْكُرُوا» أي: اذكروه كائنين عند المشعر.
والمشعر: المعلم من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنّه من معالم الحجِّ، وأصله قولك: شعرت بالشَّيء إذا علمته، وليت شعري ما فعل فلانٌ، أي: ليت بلغه وأحاط به، وشعار الشَّيء علامته، واختلفوا:
فقال بعضهم: هو المزدلفة، لأن الصَّلاة والمقام والمبيت بها، والدُّعاء عنده، قال الواحدي في البسيط.
وقال الزَّمخشري: الأصحُّ أنه قزح وهو آخر المزدلفة.
وقال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: والأول أقرب؛ لأنَّ الفاء في قوله: {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} تدلُّ على أنّ الذِّكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلاّ البيتوتة بالمزدلفة.
فصل
قوله: {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} يدلُّ على أن الحصول عند المشعر الحرام واجبٌ، ويكفي فيه المرور به، كما في عرفة، فأمَّا الوقوف هناك فمسنون.
وروي عن علقمة والنَّخعي؛ أنّهما قالا: الوقوف بالمزدلفة ركنٌ بمنزلة الوقوف(3/423)
بعرفة، لقوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} ، فإذا قلنا: بأن الوقوف بعرفة ركن وليس ذكره صريحاً في الكتاب، وإنَّما وجب بإشارة الآية الكريمة أو بالسُّنَّة - فالمشعر الحرام فيه أمر جزمٌ.
وقال جمهور الفقهاء: ليس برِكن؛ لقوله - عليه السلام -: «الحَجُّ عَرَفَةُ، فمن وقف بعرفة، فقد تم حجُّه» وقوله «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَة فَقَدْ أَدْرَك الحَجَّ، ومن فاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ» ، وأيضاً فقوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} أمر بالذِّكر لا بالوقوف فالوقوف بالمشعر الحرام يقع للذِّكر، وليس بأصلٍ، وأمّا الوقوفَ بعرفة فهو أصلٌ؛ لأنه قال: {فإِذَآ أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ} ولم يقل عند الذكر بعرفاتٍ.
فصل
اختلفوا في الذِّكر المأمور به عند المشعر الحرام.
فقال بعضهم: هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء، والصَّلاة تسمَّى ذكراً؛ قال تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة لذكريا} [طه: 14] ، وأيضاً فإنه أمر بالذِّكر هناك، والأمر للوجوب، ولا ذكر هناك يجب إلاَّ هذا.
وقال الجمهور: هو ذكر الله بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كان النّاس إذا أدركوا هذه اللَّيلة لا ينامون.
قوله: «كَمَا هَدَاكُمْ» فيه خمسة أقوال:
أحدها: أن تكون «الكَافُ» في محلّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوفٍ.
والثاني: أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المقدَّر، وهو مذهب سيبويه.
والثالثك أن يكون في محلِّ نصب على الحال من فاعل «اذْكُرثوا» تقديره: مشبهين لكم حين هداكم، قال أبو البقاء: «ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجُثَّة لا تشبه الحدث» .
ومثله: «كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ» الكاف نعت لمصدر محذوف.(3/424)
قال القرطبيّ: والمعنى: «اذْكُرُوه ذكْراً حسناً كما هَدَاكُمْ هَدَاية حَسنَة» .
الثالث: أن يكون حالاً، تقديره: فاذكروا الله مبالغين.
والرابع: للتعليل بمعنى اللام، أي: اذكروه لأجل هدايته إيَّاكم، حكى سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ: «كَمَا أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ، فتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» . وممَّن قال بكونها للعلِّيَّة الأخفش وجماعةٌ.
و «مَا» في «كَمَا» يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون مصدريةً، فتكون مع ما بعدها في محلِّ جر بالكاف، أي: كهدايته.
والثاني - وبه قال الزمخشريُّ وابن عطية - أن تكون كافَّةً للكاف عن العمل، فلا يكون للجملة التي بعدها محلٌّ من الإعراب، بل إن وقع بعدها اسم، رفع على الابتداء كقول القائل: [الطويل]
1002 - وَنَنْصًرُ مَوْلاَنَا ونَعْلَمُ أَنَّهُ ... كَمَا النَّاسُ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ
وقال آخر: [الوافر]
1003 - لَعَمْرُكَش إنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ ... كَمَا النَّشْوَانُ والرَّجُلُ الْحَلِيمُ
أُرِيدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي ... وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ
وقد منع صاحب «المُسْتَوْفى» كون «مَا» كافةً للكاف، وهو محجوجٌ بما تقدّم.
والخامس: أن تكون الكاف بمعنى «عَلَى» ؛ كقوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] .
فإن قيل: قوله تعالى: {واذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} ثم قال: «وَاذْكُرُوهُ» فما فائدة هذا التَّكرار؟
فالجواب من وجوهٍ:
أحدها: أنّ أسماء الله - تعالى - توقيفيَّة؛ فقوله أولاً: {واذكروا الله} أمر بالذِّكر،(3/425)
وقوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُم} أمر بأن نذكره بالأسماء والصِّفات التي بيَّنها لنا وهدانا إليها، لا بأسماء تذكر بحسب الرَّأي والقياس.
وقيل: أمر بالذِّكر أولاً، ثم قال: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} ، أي: وافعلوا ما أمركم به من الذِّكر كما هداكم لدين الإسلام، كأنّه قال: إنَّما أمرتكم بهذا الذِّكر؛ لتكونوا شاكرين لتلك النِّعمة، ونظيره ما أمرهم به من التكبير عند فراغ رمضان، فقال: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ، وقال في الأضاحي: {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] .
وقيل: أمر أولاً بالذِّكر باللِّسان، وثانياً بالذِّكر بالقلب، فإن الذكر في كلام العرب ضربان:
أحدهما: الذِّكر ضد النِّسيان.
والثاني: الذِّكر بالقول.
فالأول: كقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] .
والثاني: كقوله: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} [البقرة: 200] ،
و {واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] فالأول محمول على الذِّكر باللِّسان، والثاني على الذكر بالقلب.
وقال ابن الأنباري: معنى قوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} أي: اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته.
وقيل: المراد مواصلة الذكر بالذِّكر؛ كأنه قيل لهم: اذكروا الله واذكروه، أي: اذكروه ذكراً بعد ذكر؛ كما هداكم هداية بعد هداية، نظيره قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41] .
وقيل: المراد بالذكر الأول: ذكر الله بأسمائه وصفاته الحسنى، والمراد بالثاني: الاشتغال بشكر نعمائه والشُّكر مشتمل أيضاً على الذِّكر.
فصل
قال بعضهم: إن هذه الهداية خاصَّة، والمراد: كما هداكم في مناسك حجِّكم إلى سنَّة إبراهيم - عليه السلام -.
وقال بعضهم: بل هي عامَّة متناولة لكل أنواع الهدايات.
قوله: {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين} : «إنْ» هذه هي المخفَّفة من الثقيلة، واللام(3/426)
بعدها للفرق بينهما وبين النافية، وجاز دخول «إنْ» على الفعل؛ لأنه ناسخٌ، وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب «إنَّ» ، أو لامٌ أخرى غيرها؛ اجتلبت للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريِّين.
وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف: فزعم الفرّاء أنها بمعنى «إنْ» النافية، واللام بمعنى «لاَّ» ، أي: ما كنتم من قبله إلاَّ من الضالِّين، ومذهب الكسائيِّ التفصيل: بين أن تدخل على جملةٍ فعليَّة، فتكون «إنْ» بمعنى «قَدْ» ، واللاَّم زائدةً للتوكيد؛ كقوله: {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} [الشعراء: 186] ، وبين أن تدخل على جملةٍ، كقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] ؛ فتكون كقول الفرَّاء.
و «مِنْ قَبْلِهِ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ يدلُّ عليه «لَمِنَ الضَّالِّينَ» ، تقديره: كنتم من قبله ضالِّين لمن الضَّالِّين، ولا يتعلَّق بالضالِّينَ بعده؛ لأنَّ ما بعد «أَلِ» الموصولةِ، لا يعمل فيما قبلها، إلا على رأي من يتوسَّع في الظرف، والهاء في «قَبْلِهِ» عائدةٌ على «الهُدَى» المفهوم من قوله «كَمَا هَدَاكُمْ» .
وقيل: تعود إلى القرآن، والتقدير: واذكروه كما هداكم، بكتابه الذي بيَّن لكم معالم دينه، وإن كنتم من قبل إنزاله عليكم من الضَّالِّين.
وقيل: إلى الرَّسول.(3/427)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
استشكل الناس مجي «ثُمَّ» هنا؛ من حيث إنَّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تقف بمزدلفة، وسائر الناس بعرفة، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس، فكيف يجاء ب «ثُمَّ» التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ والجواب من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ الترتيب في الذِّكر، لا في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسَّن ذلك؛ أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها، إنما المأمور به ذكر الله، إذا فعلت الإفاضة.
ثانيها: أن تكون هذه الجملة معطوفةً على قوله: {واتقون ياأولي الألباب} ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو بعيدٌ.
ثالثها: أن تكون «ثُمَّ» بمعنى الواو، قال بعض النُّحَاةِ: فهي لعطف كلامٍ منقطع من الأول.
قال بعضهم: وهي نظير قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 12، 13] إلى قوله: {ثُّمَّ كّانَ} [البلد: 17] ، أي: كان مع هذا من المؤمنين، وفائدة «ثُمَّ» ههنا: تأخُّر أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخّر المخبر عنه [عن ذلك المخبر عنه] .
رابعها: أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى، والمخاطبون بها جميع الناس،(3/427)
قاله الضَّحَّاك، ورجَّحه الطبريُّ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن، فتكون «ثُمَّ» على بابها، قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: كيف موقعُ» ثُمَّ «؟ قلتُ: نحو موقِعها في قولك: أَحْسِنْ إلَى النَّاسِ، ثُمَّ لاَ تُحْسِنْ إلَى غَيْرِ كَريمٍ» تأتي ب «ثُمَّ» ؛ لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، وبُعد ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات، قال: {ثُمَّ أَفِيضُواْ} لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأنَّ إحداهما صواب والثانية خطأ «قال أبو حيَّان:» وليستِ الآية نظيرَ المثال الذي مَثَّلَهُ، وخاصل ما ذكر أن «ثُمَّ» تسلب الترتيب، وأنَّ لها معنى غيره سمَّاه بالتفاوت، والبعد لما بعدها عمَّا قبلها، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتَّى تجيء «ثُمَّ» لتفاوت ما بينهما، ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى ل «ثُمَّ» قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وهذا الذي ناقش الزمخشريَّ به تحاملٌ عليه، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين، وسيأتي له نظائر، وبمثل هذه الأشياء لا يردُّ بها على مثل هذا الرجل.
و «مِنْ حَيْثُ» متعلِّقٌ ب «أَفِيضُوا» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية، و «حَيْثُ» هنا على بابها من كونها ظرف مكانٍ، وقال القفَّال: «هي هنا لزمان الإفاضة» وقد تقدَّم أن هذا قول الأخفش، وتقدَّم دليله، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين؛ ليقع الجواب عن مجيء «ثُم» هنا، ولا يفيد ذلك؛ لأن الزَّمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه.
و {أَفَاضَ الناس} في محلِّ جرِّ بإضافة «حَيْثُ» إليها، والجمهور على رفع السِّين من «النَّاسُ» . وقرأ سعيد بن جبيرٍ: «النَّاسِي» وفيها تأويلان:
أحدهما: أنه يراد به آدم - عليه السَّلام - بقوله: «فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» .
والثاني: أنيراد به التارك للوقوف بمزدلفة، وهم جمع النَّاس، فيكون المراد ب «النَّاسِي» جنس الناسين، قال ابن عطيَّة: «ويجوز عند بعضهم حذف الياء، فيقول:» النَّاسِ «بكسر السِّين، فاكتفى بالكسرة عن الياء، وبها قرأ الزُّهريُّ؛ كالقاص والهاد؛ قال: أمّا جوازه في العربية، فذكره سيبويه وأمّا جوازه قراءةً، فلا أحفظه. قال أَبو حيان: لم يجز سيبويه ذلك إلا في الشِّعر، وأجازه الفرَّاء في اكلام، وأمَّا قوله:» لَمْ أَحْفَظْهُ «، فقد حفظه غيره، حكاها المهدويُّ قراءةً عن سعيد بن جبير أيضاً.
فصل في المراد بالإفاضة
في الآية الكريمة قولان:(3/428)
الأول: أنّ المراد بهذه الإفاضة من عرفات.
قال المفسِّرون: كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة، ويقولون: نحن أهل الله وقطَّان حرمه، فلا نخرج من الحرم، ويستعظمون أن يقفوا مع النَّاس بعرفاتٍ، وسائر العرب كانوا يقفون بعرفاتٍ، فإذا أفاض النَّاس من عرفات، أفاض الحمس من المزدلفة، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية الكريمة، وأمرهم أن يقفوا بعرفات وأن يفيضوا منها كما يفعله سائر النَّاس، والمراد بالنَّاس: العرب كلُّهم غير الحمس.
وقال الكلبي: هم أهل اليمن وربيعة، وروي أنَّه - عليه السلام - لمّا جعل أبا بكرٍ أميراً في الحجِّ، أمره بإخراج النَّاس إلى عرفتٍ، فلمّا ذهب مرّ على الحمس وتركهم، فقالوا له: إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر رسول الله إلى عرافتٍ، ووقف بها وأمر سائر النَّاس بالوقوف بها، وقال بعضهم:» أفِيضُوا «أمر عامٌّ لكلِّ النَّاس.
وقوله: {حَيْثُ أَفَاضَ الناس} المراد: إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - كان يقف في الجاهليَّة بعرفة كسائر النَّاس ويخالف الحمس.
وقال الضَّحَّاك: النَّاس ههنا إبراهيم وحده، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدى به، وهو كقوله - تبارك وتعالى -: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني به: نعيم ابن مسعود، {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] يعني أبا سفيان، وهو مجاز مشهور؛ ومنه قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] .
وقال القفَّال: قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} [عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفاتٍ، وأنَّه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث؛ كما يقال: هذا ممَّا فعله النَّاس قديماً.
وقال الزَّهريّ: إنّ المراد من النَّاس في هذه الآية: آدم - عليه السلام -؛ واحتج بقراءة سعيد بن جبير المتقدِّمة.
القول الثاني - وهو اختيار الضحَّاك ورجَّحه الطَّبري -: أنّ المراد بهذه الإفاضة، هي الإفاضة من مزدلفة إلى منى يوم النَّحر، قبل طلوع الشمس للرَّمي والنَّحر.(3/429)
وقوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} ] المراد: إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما.
قوله: {واستغفروا الله} اسْتَغْفَرَ «يتعدَّى لاثنين، ولهما بنفسه، والثاني ب» مِنْ «؛ نحو: استغفرت الله من ذنبي، وقد يحذف حرف الجر؛ كقول القائل: [البسيط]
1004 - أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ
هذا مذهب سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور النَّاس.
وقال ابن الطَّراوة: إنه يتعدَّى إليهما بنفسه أصالة، وإنما يتعدَّى ب» مِنْ «؛ لتضمنه معنى ما يتعدَّى بها، فعنده» اسْتَغْفَرْتُ اللَّهُ مِنْ كَذَا «بمعنى تبت إليه من كذا، ولم يجىء:» اسْتَغْفَرَ «في القرآن الكريم متعدِّياً إلاَّ للأول فقط، فأمَّا قوله تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ} [غافر: 55] {واستغفر لِذَنبِكَ} [يوسف: 29] {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] فالظاهر أنَّ هذه اللام لام العلَّة، لا لام التعدية، ومجرورها مفعول من أجله، لا مفعول به. وأمَّا» غَفَر «فذكر مفعوله في القرآن تارةً: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} [آل عمران: 135] ، وحذف أخرى: {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} [المائدة: 40] . والسين في» اسْتَغْفَرَ «للطلب على بابها، والمفعول الثاني هنا محذوف للعلم به، أي: من ذنوبكم التي فرطت منكم.
فإن قيل: أمرٌ بالاستْغفارِ مطلقاً، وربما كان فيهم من لم يُذِنبْ، فحينذٍ لا يحتاجُ إلى الاسْتِغْفار.
فالجواب: أنّه غن كان مُذْنِباً، فالاستِغْفار واجِب، وإم لم يُذْنِب، فيجوز من نفْسِه صدور التَّقْصِير في أداء الواجِبات، والحتِراز عن المَحْظُوراتِ؛ فيجب عليه الاسْتِغْفار تَدَارُكاً لذلك لخَلَلِ المُجَوَّز، وهذا كالمُمْتَنِنِع في حَقِّ البَشَر.
فصل
واختلف العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم - في هذه المَغْفرة الموعُودة.
فقال بعضهم: إنّها عند الدَّفع من عَرَفَاتِ إلى جمع.
وقال آخرون: إنها عند الدَّفْع من جَمْع إلى مِنىً، وهذا مَبْنِيٌّ على الخِلاَف المُتَقَدِّم في قوله:» ثُمَّ أَفِيضُوا «على أيّ الأَمْرَين يحمل.(3/430)
قال القفّال - رحمه اللَّهُ - ويتأكَّد الثَّانِي بما رَوَى نَافِعٌ عن ابن عُمَر؛ قال:» خَطَبنا رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عشِيَّة عَرَفَة؛ فقال: «يا أيُّها النَّاسُ إن يَطَّلعُ الله عَلَيْكُم في مَقَامِكُم هذا، فَقَبِل من مُحْسِنِكُم، ووهب مُسِيئَكُم لمُحْسِنِكُم، والتَّبِعَاتُ عوَّضهَا من عنده، أفيضُوا على اسْم الله تعالى» قال أصحابُه: يا رسُول الله، أَفَضْتَ بنا بالأَمْسِ كَئِيباً حزِيناً، وأَفضتَ بنا اليَوْمَ فَرِحاً مَسْرُوراً، فقال عليه السَّلام - «إنّي سَأَلْت ربِّي - عزَّ وجل - بالأمْس شَيئاً لم يَجُدْ لي به: سأَلْتُه التَّبِعَات فَأَبَى عَلَيَّ، فلمّا كَانَ اليَوْم أَتَى جِبْرِيلُ - عليه السّلام - فقال: إنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلام ويقول: التبِعَات ضَمِنْتُ عِوَضَهَا من عِنْدِي» والله أعلم.(3/431)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
اعلم أن «قَضَى» إذا عُلِّق بفعل النَّفْس، فالمرادُ منه الإِتْمَام والفَرَاغ؛ كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} [الجمعة: 10] ، وقوله - عليه السلام -: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» ، ويقال للحَاكِم عند فصل الخُصُومَةِ، قَضَى بينهما. وإذا عُلِّق على فِعْل الغَيْر، فالمراد به الإِلْزَام، كقوله: {وقضى رَبُّكَ} [الإسراء: 23] وإذا اسْتُعْمِل في الإعلامِ، فالمراد أيضاً كذلك؛ كقوله: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] ، أي: أعْلَمْنَاهُم، وهذه الآية الكريمة من القِسم الأوَّل.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المُرَادُ: اذكُرُوا الله عِنْد المَنَاسِك، ويكون المُرَادُ من هذا الذَّكرِ: ما أُمروا به من الدُّعَاءِ بعَرَفاتٍ والمشعر الحَرَام والطَّواف والسَّعي؛ كقول القائل: إذا حَجَجْتَ فَطُف وقف بعرَفَة، ولا يُريد الفراغ من الحَجِّ، بل الدُّخُول فيه، وحَمَلهُم التَّأْويل صيغة الأَمر.(3/431)
والمَنَاسِكُ، جمعُ «مَنْسِكٍ» بفتح السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُها، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً، والقُرَّاء على إظهار هذا، ورُوِي عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه حركة الإِعرابِ بحركةٍ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً «مَنَاسِككمْ» ولم يُدْغِمْ ما يُشْبِهُهُ من نحو: {جِبَاهُهُمْ} [التوبة: 35] و {وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] .
قال بعض المُفسِّرين: إن جعلها جمع «مَنْسَك» الذي هو المَصْدَر بمنزلة النُّسُك، فالمراد: إذا قضيتم عبادتكُم الَّتِي أُمِرْتُمْ بها في الحَجِّ، وإن جَعَلْتَها جمع «مَنْسَك» الذي هو مَوْضع العِبادة، فالتَّقدير: فإذا قَضَيْتُم أعمال مناسِكِكُم، فيكون من باب حَذْفِ المُضَاف.
إذا عُرِفَ هذا؛ فنقول: قال بعضهم: المراد بالمَنَاسِكِ ما أَمَر الله - تعالى - به في الحَجِّ من العِبَادَاتِ، وقال مُجاهد: قضاء المَنَاسِكِ: إراقَةُ الدِّمَاء، يقال: أنسَك الرجل يَنْسُك نُسْكاً، إذا ذبح نسِيكته بعد رَمْي جمرة العقبة والاستقرار بمِنىً، والفَاءُ في قوله: {اذكروا الله} تدلُّ على أنَّ الذَّكْر يجب عقيب الفراغ من المَنَاسِك؛ فلذلك اخْتَلَفُوا.
فمنهم من حمله على التكبير بعد الصَّلاَة يَوْم النَّحْر وأَيَّام التَّشْريق - على حسبِ اختِلاَفهم في وقته - أن بعد الفراغ من الحَجَّ لا ذِكْر مَخْصُوص إلاَّ التكبِير.
ومنهم من قال: بل المُراد تحويلُ القَوْم عمّا اعتَادُوهُ بعد الحَجِّ من التَّفَاخُر بالآباء؛ لأنه تعالى لم يم يَنءه عنه بهذه الآية الكريمة، لم يَعْدلُوا عن هذه الطَّرِيقة.
ومنهم من قال: بل المُراد منه أنّ الفَراغَ من الحَجِّ يوجِبُ الإِقبَال على الدَّعاء والاستغفار؛ كما أن الإِنْسَان بعد الفَراغ من الصَّلاة يُسَنُّ أن يشتغل بالذِّكر والدُّعاء.
قوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} الكافُ كالكاف في قوله {كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] إلاَّ في كونها بمعنى «عَلَى» أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفتْ إليه، والجمهورُ على نصب «آبَاءَكُمْ» مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل، وقرأ محمدُ بنُ كعبٍ: «آبَاؤكُمْ» رفعاً، على أنَّ المصدرّ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه، ورُوِيَ عنه أيضاً: «أَبَاكُمْ» بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراةَ الجماعة في كونِ(3/432)
المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُدُ أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنء يُجْرِي «أَبَاكَ» ونحوَهُ مُجْرَى المقْصورِ.
فصل
قال جمهور المُفسِّرين: إن القوم كانوا بعد الفراغ من الحَجِّ يبالِغُوا في الثَّنَاءِ على آبَائِهِم وفي ذكر مَناقِبهم، فقال تعالى: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} ، أي: فاجهَدُوا في الثَّنَاء على الله وشرح الآية، كما بذلتم جَهْدَكم في الثَّناء على آبَائِكم.
وقال الضَّحَّاك والرَّبيع: اذكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم وأمَّهَاتكم، واكتفى بذكر الآباءِ، كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] قالوا: وهو قول الصَّبيِّ أول ما يُفصح للكلام أَبَه أَبَه أُمَّه أُمَّه، أي: كونوا مُوَاظِبين على ذِكْرِ الله؛ كمواظَبَة الصَّغير على ذِكْر أ [يه وأمِّه.
وقال أبو ملسم: أجرى ذِكر الآباء مثلاً لدوام الذكْرِ، أي: كما أنّ الرَّجُل لا يَنْسَى ذكر أبيه، فكذلك يَجِبُ ألاّ يَغْفَل عن ذِكْر الله - تعالى -.
وقال ابن الأَنْباري: كانت العرب في الجَاهِليَّة تكثِر من القَسَم بالآباءِ والأَجْدَادِ؛ فقال تعالى: عَظِّمُوا الله كَتَعْظِيم آبَائكُم.
وقيل: كما أنّ الطِّفْل يرجع إلى أبِيه في طَلَبِ جميع مُهِمَّاتِه، ويكون ذَاكِراً له بالتَّعظِيم فكُونُوا أنتم في ذِكْر الله كذلك.
وقيل: يُحْتَمل أنّهم كَانُوا يّذْكُرون آباءَهُم؛ ليتَوسَّلُوا بذكرهم إلى إجابة الدُّعَاء، فعرَّفَهُم الله - تعالى - أنّ آباءَهُمْ لَيْسَوا في هذه الدَّرَجَة؛ إذ أَفْعَالُهم الحَسَنة مُحْبَطة بشِرْكِهِم.
وسُئِل ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن قوله تعالى: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} ، فقيل: يأتي على الرَّجُل اليَوْم لا يذكُر فيه أَبَاهُ.
قال ابن عبَّاس: ليس كذلك؛ ولكن هو أن تَغْضَب لله إذا عُصِيَ، أَشَدَّ من غَضَبِك لوَالِدَيْك إذا ذُكِرا بِسوءٍ.
قوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} يجوزُ في «أَشَدَّ» أن يكونَ مجروراً، وأَنْ يكونَ منصوباً: فأمّا جَرُّه، فذكروا فيه وجهين:(3/433)
أحدهما: أن يكونَ مجروراً عطفاً على «ذِكْركم» المجرورِ بكافِ التشبيه، تقديرُهُ: أو كَذِكْر أَشَدَّ ذِكْراً، فتجعلُ للذكر ذِكْراً مجازاً، وإليه ذهب الزَّجَّاج، وتبعه أبو البقاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابن عَطيَّة.
والثَّاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخْفُوض بإضافة المَصْدر إليه، وهو ضميرُ المخاطبين، قال الزمخشريُّ: أَوْ أَشَدَّ ذكِراً في موضِع جرٍّ عَطْفاً على ما أُضيفَ إليه الذكْرُ في قوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} ؛ كما تقول: «كَذِكْرِ قُرَيْش آباءَهُمْ أو قَوْم أَشَدَّ منْهُمْ ذِكْراً» وهو حَسَنٌ، وليس فيه تَجَوُّزٌ بأَنْ يُجْعَلَ لِلذكرِ ذِكْرٌ؛ لأنه جَعَلَ «أَشَدٌّ» من صفات الذَّاكرِينَ، إلا أن فيه العَطْفَ على الضَّميرِ المجْرُورِ من غير إعادة الجارِّ، وهو ممنوعٌ عند البَصْريين، ومَحَلُّ ضرورة.
وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ:
أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على «آباءَكُمْ» قال الزمخشريُّ، فإنه قال: «بمعنى أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مِنْ آبَائِكُم» ؛ إلى أنَّ «ذِكْراً» من فِعْلِ المذكور هو كلامٌ يَحْتاجُ إلى تفسير، فقولُه: «هو معطُوفً على آبَاءَكُمْ» : معناه أنك إذا عَطَفْتَ «أَشَدَّ» على «آبَاءَكُمْ» ، كان التقديرُ: أو قوماً أشدَّ ذِكْراً من آبائِكُمْ، فكان القومُ مذكورِينَ، والذكرُ الذي هو تمييزٌ بعد «أَشَدَّ» هو من فِعْلهم، أي: من فعلِ القوم المذكُرِين؛ لأنه جاء بعد «أَفْعَلَ» الذي هو صفةٌ للقوم، ومعنى «مِنْ آبَائِكُمْ» أي من ذكرِكم لآبائِكُمْ، وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذِّكْرُ ذَاكِراً.
الثاني: أن يكونَ مَعْطُوفاً على محلِّ الكاف في «كَذِكْرِكُم» ؛ لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: «ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ» وجَعَلُوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم: شِعْرٌ شَاعِرٌ، وهذا تخريج أبي عَلِيٍّ وابن جنِّي.
الثالث: قاله مَكّيٌّ: أن يكونَ منصوباً بإضمار فِعْلٍ، قال: تقديرُه: «فاذْكرُوهُ ذِكْراً أَشَدَّ من ذِكرِكُمْ لآبائكم» ؛ فيكونَ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ، أي: اذكُرُوهُ بَالِغِينَ في الذِكْرِ.
الرابع: أن يكونَ مَنْصُوباً بإضمار فعْلِ الكَوْن، قال أبو البقاء: «وعِنْدِي أنَّ الكلاَمَ محمولٌ على المَعْنى، والتقدير: أو كُونُوا أَشَدَّ لِلَّهِ ذِكْراً منكم لآبائِكُمْ، ودلَّ على هذا المعنى قولُه: {فاذكروا الله} أي: كونوا ذَاكِريهِ، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المَجَاز» يعنى المجازَ الذي تقدَّم ذِكْرُهُ عن الفارسيِّ وتلميذه.(3/434)
الخامس: أن يكون «أَشَدَّ» نَصْباً على الحال مِنْ «ذِكْراً» ؛ لأنه لو تأخَّرَ عنه، لكان صفةٌ له؛ كقوله: [مجزوء الوافر]
1005 - لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ ... يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ
«مُوحِشاً» حالٌ من «طَلَل» ؛ لأنَّه في الأصل صفةٌ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً، فَجُعِلَ حالاً، قاله أبو حيَّانّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -، فإنه قال بعد ذكْره ثلاثةَ أوجه لنصبه، ووجهين لجَرِّه: «فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفةٌ، والذي يتبادر إلى الذِّهْنِ في الآية أنهم أُمِرُوا بأَنْ يَذْكُروا الله ذِكْراً يُمَاثِلُ ذِكْرَ آبائِهِم، أَوْ أَشَدَّ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية الكريمة لعيه بوجهٍ ذُهِلُوا عنه» ، فَذَكَر ما تقدَّم، ثم جَوَّز في «ذِكْراً» - والحالةُ هذه - وجْهَين:
أحدهما: أن يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ الكاف في «كِذِكْرِكُمْ» ، ثم اعترضَ على نفسِه في هذا الوجه؛ بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف، وهو «أَوْ» وبين المعطوف وهو «ذِكْراً» بالحال، وهو «أَشَدَّ» ، وقد نصَّ النحويون على أن الفصْلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطَيْن:
أحدهما: أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد.
والثاني: أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً، أو ظَرْفاً أو جَارّاً، وأحدُ الشرطَيْنِ موجودٌ، وهو الزيادةٌ على حرِفٍ، والآخرُ مفقودٌ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدِّمة، ثم أجابَ بأن الحالَ مقدَّرةٌ بحرفِ الحر وشَبَّهه بالظرفِ، فَأُجْرِيَت مُجْرَاهُمَا.
والثاني: من الوجْهَيْن في «ذِكْراً» أن يكونَ مصدراً لقوله: «فَاذْكُرُوا» ، ويكون قوله: «كَذِكْرِكُمْ» في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «ذِكْراً» ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمتْ، كانَتْ في محلِّ حالٍ، ويكون «أَشَدَّ» عطفاً على هذه الحال، وتقديرُ الكلامَ «» فاذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ، أي: مُشْبِهاً ذِكْرَكُمْ أَو أَشَدَّ «؛ فيصيرُ نظيرَ:» اضْرِبْ مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَد «الأصل: اضْرِبْ ضَرْباً مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَدَّ.
و» ذِكْراً «تمييزٌ عند غير الشَّيح كما تقدَّم، واستشْكَلُوا كونَه تمييزاً منصوباً؛ وذلك أن أفعلَ التفضيل يجب أن تُضَاف إلى ما بعدها، إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها؛ نحو:» وَجْهُ زَيْدٍ أَحْسَنُ وَجْهٍ «،» وعِلْمُهُ أَكْثَرُ عِلْم «وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها، وجَبَ نصبُه؛ نحو:» زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهاً، وخَالِدٌ أَكْثَرُ عِلْماً «، إذا تقرَّر ذلك، فقوله:» ذِكْراً «هو من جنس ما قبلها، فعلَى ما قُرِّر، كان يقتضي جَرَّه، فإنه نظيرُ:» اضْرِبْ بَكْراً كَضَرْبِ عَمْرٍو زَيْداً أَوْ أَشَدَّ ضَرْبٍ «بالجرِّ فقط. والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأَخوذٌ من الأوجه المتقدِّمة في النصب والجر المذكورَيْن في» أَشَدَّ «؛ من حيث أن يُجْعَلَ الذِّكْرُ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم:»(3/435)
شِعْرٌ شَاعِرٌ «؛ كما قال به الفارسيُّ وصاحبُه، أو يُجْعَلَ» أَشَدَّ «من صفاتِ الأعيان، لا من صفاتِ الإِذكار؛ كما قال به الزمخشريُّ، أو يُجْعَلَ» أَشَدَّ «حالاً من» ذكْراً «أو ننصبّه بفعْلٍ و» أو «هنا قيل للإِباحةِ، وقيل للتخيير، وقيل: بمعنى بَلْ، وهو قول أكثر المفسِّرين.
قوله: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا} » مَنْ «مبتدأٌ، وخبرُه في الجارِّ قبله، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، وفي هذا الكلام التفاتٌ؛ إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ، لقيل:» فَمِنْكُمْ «، وحَمِل على معنى» مَنْ «؛ إذ جاء جَمْعاً في قوله:» رَبِّنَا آتِنَا «، ولو حُمِل على لفظِها، لقال» رَبِّ آتِني «.
وفي المفعول الثاني ل» آتِنَا «- لأنه يتعدَّى لاثْنَيْنِ ثانيهما غيرُ الأَوَّل - ثلاثةُ أقوال:
أظهرها: أنه محذوفٌ؛ اختصاراً أو اقتصاراً؛ لأنه من باب» أَعْطَى «، أي: آتِنا ما نُريدُ، أو مطلوبَنَا.
والثاني: أن «فِي» بمعنى «مِنْ» أي: من الدنيا.
والثالث: أنها زائدٌ، أي: آتِنا الدنيا، ولَيْسَا بشيء.
فصل
واعلم أنَّه بيَّن أولاً منَاسِكَ الحَجِّ، ثم أمر بَعْدَها بالذِّكْرِ، ثم بيّن بعد الذِّكْرِ كيفيَّة الدَّعَاء، وهذا من أحسن التَّرْتيب؛ فإنّ تقديم العِبَادة يكسر النَّفْسَ، وبعد العِبَادة لا بُدَّ من الاشْتِغال بذكْرِ الله، فإن به يَكْمُل الدُّعَاء؛ كما حُكِيَ عن إبراهيم - عليه السَّلام -؛ أنّه قدَّم الذِّكْر على الدُّعاء، فقال: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] ثم قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [الشعراء: 83] ثم بيَّن - تبارك وتعالى - أنّ الَّذِين يَدْعُون فَريقان: أحدهما يطلب الدُّنْيَا، والثَّاني يطلب الدُّنْيَا والآخِرة، وقد بقي قِسْمٌ ثالثٌ وهو طلب الآخِرَةِ؛ واخْتَلَفُوا في هذا القِسْم: هل هو مَشْرُوعٌ أم لا؟ والأكثرونَ على أنّه غير مشورع؛ لأن الإنسان ضعيف لا طاقة له بآلام الدُّنيا؛ فالأولى أن يستعيذ بربِّه من كل شرِّ في الدُّنيَا والآخِرة.
روى القفَّال في «تَفْسيرِه» عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ على رَجُلٍ يعُودُ، قد أنهَكُه المَرَضُ حتَّى صَارَ كالفَرْخ، فقال: ما كُنتُ تدعُوا الله به قَبْلَ هذا؟ قال: كُنْتُ أقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنتَ تُعاقِبني به في الآخِرة فَعَجِّل بِهِ في الدُّنْيا، فقال النبيُّ - عليه السلام -: سبحان الله!! إنّك لا تُطِيقُ ذلك؛ هلا قُلْتَ:» ربنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة وفي الآخِرَةِ حَسَنَة وقِنَا عَذَابَ النَّارَ «قال: فدَعَا له رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَشُوفِي»(3/436)
فصل
اختلفوا في الَّذِين يَقتَصِرُون في الدُّعاء على طلب الدُّنْيَا على قَوْلَيْن.
فقال قوم: هم الكُفَّار؛ رُوِي عن ابن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ أنّ المُشْركين كانوا إذا وقَفُوا للدُّعاء، يقولون: اللَّهُمَّ أعطِنا غنماً وإبلاً وبقراً، وعبيداً، وإماءً، وكان الرَّجُل يقوم ويقُول: اللَّهُم إنّ أبي كان عظيم القُبَّة، كبير الجَفْنَة، كثير المال؛ فأعطني مثلما أعطيْتَه، ولم يَطْلُبُوا التَّوْبة والمغفِرة؛ لأنهم كانوا مُنْكِرين البعثَ والمَعَاد.
وعن أنسٍ؛ كانوا يقولون: اسْقِنا المطر، وأَعْطِنا على عَدُوِّنا الظَّفَر، فأخبر الله - تعالى - أنَّ من كان هكذا، فلا خلاق لهُ في الآخِرَة، أي: لا نَصِيبَ لهُ.
قال القرطبي: فنهُوا عن ذلك الدُّعاء المَخْصُوص بأمرِ الدُّنْيَا، وجاء النَّهْي بصيغة الخَبَر عَنْهُم.
وقال آخرون: قد يكُونُوا مؤمِنِين، ويسألون الله - تعالى - لِدُنياهُم لا لآخِرَتِهِم، ويكون سُؤَالُهم هذا ذَنباً؛ لأنهم سأَلُوا الله في أعظم المواقف حُطام الدُّنْيَا الفَانِي، وأعْرَضُوا عن سُؤَال نعيم الآخِرة، ويقال لِمَن فَعَل ذَلِك: أنّه لا خَلاَقَ لَهُ في الآخِرةِ، وإن كان مُسْلِماً؛ كما رُوِي في قوله - تعالى -
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} [آل عمران: 77] أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمينٍ فاجرةٍ.
ورُوِي عن النَّبيّ - عليه السَّلام -: إنّ الله يُؤَيِّد هذا الدِّين بأقْوَامٍ لا خَلاَق لَهُم، ومعنى ذلك على وجوهٍ.(3/437)
أحدها: أنّه لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَتُوب.
الثاني: لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَعْفُوا الله عنهُ.
والثالث: لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأَلَ الله - تعالى - لآخرته، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمِينٍ فاجرةٍ، كَخلاق من تورَّع عن ذلك؛ ونظير هذه الآيةِ قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] .
قوله تعالى: {فِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] يجوز في الجارِّ وجهان.
أحدهما: أن يتعلَّق ب «آتنا» كالذي قبله.
والثاني: أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من «حَسَنَةٌ» ؛ لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلما قُدِّم عليها، انتصَبَ حالاً.
قوله: {وَفِي الآخرة حَسَنَةً} هذه الواوُ عاطفةٌ شيئَيْن على شيئَيْن متقدِّمَيْن ف «في الآخِرةِ» عطفٌ على «في الدُّنْيَا» بإعادةِ العاملِ، و «حَسَنَةٌ» عطفٌ على «حَسَنَةً» ، والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ، على شيئين فأكثرَ؛ تقول: «أَعْلَمَ اللَّهُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً، وَبَكْراً خَالِداً صَالِحاً» ، اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين، ففيها خلافٌ وتفصيلٌ يأتي في موضعِه - إنْ شاء الله -، وليس هذا كما زعم بعضُهُم: أنه من بابِ الفصْلِ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرور، وجعله دليلاً على أبي عليٍّ الفارسيِّ؛ حيثُ منع ذلك إلا في ضَرَورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين؛ كما ذكرتُ لك، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو: «أَكْرَمْتُ زَيْداً وَعِنْدَك عَمْراً» ، وإنما يُرَدُّ على أبي عَليٍّ بقولِه: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} [النساء: 58] وقوله تعالى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] .
فصل
ذكر المفسِّرُون في الحُسْنَيين وجوهاً:
قال عليٌّ بن أبي طالب: في الدُّنيا امرأة صالحة، وفي الآخِرَة الجنَّة؛ رُوِي عن رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ أنه قال: الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ.(3/438)
وقال الحسن: في الدُّنيا حَسَنَة العلم والعِبَادةً، وفي الآخِرَة: الجَنَّة والنظر.
روى الضحّاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ «أنّ رجلاً دَعَا ربَّه فقال:» رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَاَ النَّارِ «فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» ما أَعْلَمُ أنّ هذا الرَّجُل سأَلَ الله شَيْئاً من أمر الدُّنْيَا «، فقال بَعْضُ الصحابة: بَلَى يا رسُول الله إنّه قال:» ربَّنّا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة «، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إنّه يَقُول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا عملاً صَالِحاً «
وقال السُّدِّيُّ وابن حيان: في الدُّنْيَا رِزْقاً حَلاَلاً وعَمَلاً صَالِحاً، وفي الآخرة المَغْفِرة والثَّوَاب.
وقال عوف: من آتاهُ الله الإِسْلام والقُرْآن وأَهْلاً ومالاً، فقد أُوتِي في الدُّنْيا حَسَنَة وفي الآخِرة حسَنَة.
وقيل: الحَسَنة في الدُّنْيا الصِّحَة والأَمن، والكفاية، والولد الصَّالِح، والزَّوجَة الصَّالحة، والنُّصْرة على الأَعْداء؛ لأن اللَّهَ تعالى سمَّى الخَصْب والسَّعَة في الرِّزق حسَنة؛ فقال: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة: 50] .
وقيل في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52] أنهما الظَّفَر والنُّصْرة، وأمّا الحَسَنةُ في الآخِرة فهي الفوز بالثَّواب والخلاص من العِقاب.
وقال قتادة: هو طَلَبُ العافية في الدَّارَيْن.
وبالجُمْلة فهذا الدُّعاء جامِعٌ لجميع مطالب الدُّنْيَا والآخرة؛ روى ثابتٌ؛ أنَّهم قالوا لأَنس: ادع لنا، فقال: «اللَّهُ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخِرَة حَسَنَة وقِنا عَذَاب النَّار» قالوا: زدنا، فأعادها، قالوا: دزنا، قال: ما تُرِيدون؛ قد سأَلتُ لك خير الدُّنيا والآخرة.
وعن أنس؛ قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُكْثِر أن يَقُول: «رَبَّنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخرة حَسَنةً وقِنا عذاب النَّارِ»(3/439)
وعن عبد الله بن السَّائِب؛ أنّه سمع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقُول فيما بين رُكْن بني جمح والرُّكن الأَسود «رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»
فصل
قال ابن الخطيب: اعلم أن مَنْشأ البَحث في الآية الكريمة أنّه لو قِيلَ: آتِنا في الدنيا الحَسَنَة وفي الآخِرة الحَسَنة، لكان ذلك مُتَنَاوِلاً لكل الحَسَناتِ، ولكنه قال: «آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَة حَسَنَةً» ، وهذا نَكِرَة في محلِّ الإثبَاتِ، فلا يتنَاول إلاّ حَسَنةً واحِدَة؛ فلذلك اخْتَلف المُفَسِّرون، فكل واحد منهم حَمَل اللَّفظ على ما رآه أَحْسَن أَنْوَاع الحَسَنة، وهذا بناء منه على أنّ الفَرْد المُعَرَّف بالأَلف واللاَّم يَعمُّ، وقد اختار في «المَحْصُول» خلافه.(3/440)
ثم قال: فإن قيل: أليس أنّه لو قيل: آتِنَا الحَسَنة في الدُّنيا والحَسَنة في الآخِرَة، لكان مُتَنَاوِلا لكلِّ الأقْسَام، فلم تَرَك ذلك وذكره مُنكِّراً؟
وأجاب بأن قال: إنّ بَيَّنَّا أنّه ليس للدَّاعِي أن يَقُول: اللهم أَعْطِني كَذَا وكَذَا، بل يجب أن يقول: اللَّهُم إن كان كّذَا مَصْلَحَةً لي، وموافِقاً لقَضَائِك وقَدَرِك، فأَعْطِني(3/441)
ذَلِك، فلو قال: اللهم أَعْطِني الحَسَنَة في الدُّنْيَا، لكان ذلك جَزْماً، وقد بَيَّنَّا أنّه غير جَائِز، فلمّا ذكَرَه على سبيل التَّنْكِير، كان المراد منه حَسَنَة واحدة، وهي التي تُوَافِقُ قَضَاءَه وقدَرضه، وكان ذلك أحسن وأقْرَب إلى رعايته الأَدَب.
وقوله: «فِنَا» : ممَّا حُذِفَ منه فأؤُه ولامُه من وَقَى يقي وِقَايةً، أمَّا حذفُ فائه، فبالحَمْلِ على المضارع؛ لوقوع الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ كما حُذِفَت يقي ويَشي مثل بعد، هذا قول البصريِّين، وقال الكُوفِيُّون: حُذِفت فرقاً اللازم والمُتَعدِّي.
قال محمَّد بن زيد: وهذا خطأ؛ لأن العرب تقول: وَرِمَ يَرِمُ، فيحذفون الواو وأمَّا حذفُ لامِهِ؛ فلأنَّ الأمر جارٍ مَجْرَى المضارع المجزوم، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ؛ فكذلك الأمرُ منه، فوزن «قِنَا» حينئذ: عِنَا، والأصل: اوْقِنَا، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغُنِي عن همزةِ الوصل، فَحُذِفَتْ، و «عَذَابَ» مفعولٌ ثانٍ.
قوله تعالى: «أُولَئِكَ» مبتدأ و «لَهُمْ» خبرٌ مقدم، و «نَصِيب» مبتدأ، وهذه الجملةُ خَبرُ الأولِ، ويجوز أن يكونَ «لَهُمْ» خبرَ «أولئك» ، و «نَصِيب» فاعلٌ به؛ لما تضمنَّه من معنى الفعلِ لاعتمادِه، والمشارُ إليه ب «أُولئكَ» فيه قولان:
أظهرهُما: أنهما الفريقان: طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة، وقيل: بَلْ لِطَالب الدنيا والآخرة؛ لأنه - تعالى - ذكر حكم الفريق الأَوَّل؛ حيث قال: {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} .
قوله: {مِّمَّا كَسَبُواْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل «نَصِيب» ، فهو في محلِّ رفعٍ، وفي «مِنْ» ثلاثةُ أقوال:
أحدُها: أنها للتبعيض، أي: نصيب من جِنْس ما كسبوا.
والثاني: أنها للسببيةِ، أي: مِنْ أَجْلِ ما كَسَبُوا.
والثالث: أنها للبيان.
فصل
قال ابن عَبَّاس في قوله: {أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} : هو الرَّجُل يأخُذُ مالاً يَحُجُّ به مِنْ غيره؛ فيكون له ثَوَابٌ.
و «ما» يجوزُ فيها وجهان: أن تكونَ مصدريةً، أي: مِنْ كَسْبِهِمْ؛ فلا تحتاجُ إلى عائدٍ.
والثاني: أنها بمعنى «الَّذِي» ، فالعائدُ محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط، أي: مِنض الذي كَسَبُوه.
و «الكَسْبُ» : يُطلق على ما يَنَالهُ العَبْد بعمله، بشرط أن يكُونَ لجرِّ مَنْفَعةٍ، أو دفع مضرَّة.(3/442)
قوله: {واللهُ سَرِيعُ الحساب} السَّريع فاعل من السُّرْعة قال ابن السِّكِّيت: سَرُعَ يَسْرُع سَرْعاً وسُرْعَة، فهو سَرِيعٌ؛ مثل عَظُم يَعْظُم.
و «الحِسَاب» مصدر كالمُحَاسَبَة، ومَعْنى الحساب في اللُّغةِ: العدُّ؛ قال حَسَب يَحْسُبُ حِساباً وحسبَة وحَسْباً إذا عَدّ ذكره الليث وابن السِّكِّيت، والحَسْب ما عُدَّ؛ ومنه حَسَبُ الرَّجُل: وهو ما يُعَدُّ من مآثِرِه ومَفَاخِرِه، والمعنى أنّ الله سريع الحساب، لا يَحْتَاج إلى عَدٍّ ولا إلى عَقدٍ كما يَفْعَلُه الحسَّابُ، والاحْتِسَاب: الاعتِدَاد بالشَّيْء.
وقال الزّجَّاج: الحِسَاب في اللُّغة مأخوذٌ من قَوْلهم: «حَسْبُك كذا» ، أي: كَفَاك، فسُمِّي الحِسَابُ في المُعَامَلات حِسَاباً؛ لأنّه يُعلم به ما فيه كِفَايَة، وليس فيه زِيَادة على المِقْدَار ولا نُقْصَان.
وقيل: {والله سَرِيعُ الحساب} قال الحَسَن: أسْرَع مِنْ لَمْحِ البَصَر.
وقيل: إتْيَان القِيَامة قريبٌ؛ لأن ما هو أتٍ لا مَحَالَة قَرِيب؛ قال - تعالى - {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] .
وقيل: سريع الحساب، أي: سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم؛ لأنّه - تعالى - في الوقت الواحد يسأله السَّائلون، كلُّ واحدٍ منهم أشياء مختلفة من أمور الدُّنيا والآخرة، فيعطي كلَّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك.
فصل في أن الله هو المحاسب
اختلف الناس في معنى كونه - تعالى - محاسباً للخلق على وجوه:
أحدها: أنّ معنى الحساب: أنّه - تعالى - يعلِّمهم ما لهم و [ما] عليهم، بمعنى أنّه يخلق علوماً ضروريّة في قلوبهم، بمقادير أعمالهم وكمِّيَّاتها وكيفيَّاتها، ومقادير ما لهم من الثَّواب والعقاب.
قالوا: ووجه المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بمال له و [ما] عليه، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السَّبب على المسبِّب، وهو مجاز مشهورٌ.
ونقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنّه قال: لا حساب على الخلق، بل يقفون بين يدي الله - تعالى -، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم، فيقال لهم: هذه سيِّئاتكم قد تجاوزت عنها، ثم يعطون حسناتهم، ويقال لهم: هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم.(3/443)
الثاني: لأنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة؛ قال - تبارك وتعالى - {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} [الطلاق: 8] ، ووجه المجاز: أنَّ الحساب سبب للأخذ والعطاء، وإطلاق اسم السَّبب على المسبّب جائزٌ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة.
الثالث: أنّه تتعالى يكلِّم العباد في أحوال أعمالهم، وكيفيَّة ما لها من الثّضواب والعقاب، فمن قال: إن كلامه ليس بحرف ولا صوتٍ، قال: إنّه تعالى يخلق في أذن المكلَّف سمعاً يسمع به كلامه القديم؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة، ومن قال: إنه صوت، قال: إنّه - تعالى - يخلق كلاماً يسمعه كلُّ مكلَّف، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلِّ واحدٍ منهم، أو في جسم يقرب من أذنه، بحيث لا تبلغ قوَّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلِّف به، والله أعلم.(3/444)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
قوله: {مَعْدُودَاتٍ «: صفة لأيام، وقد تقدَّم أن صفة ما لا يعقل يطَّرد جمعها بالألف والتاء، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالاً؛ فقال: إن قيل» الأيَّام «واحدها» يَوْم «و» المَعْدُودَات «واحدتها» مَعْدُودَةٌ «، واليوم لا يوصف بمعدودة، لأنَّ الصفة هنا مؤنثة، والموصوف مذكَّر، وإنما الوجه أن يقال:» أَيَامٌ مَعْدُودَةٌ «فتصف الجمع بالمؤنث، فالجواب أنه أجرى» مَعْدُودَاتٍ «، على لفظ» أَيَّام «، وقابل الجمع بالجمع مجازاص، والأصل» مَعْدُودَة «؛ كما قال: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] ، ولو قيل: إن الإيام تشتمل على السَّاعات، والساعة مؤنَّثة، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيَّام، وفيه تنبيه على الأمر بالذِّكر في كلِّ ساعات هذه الأيام، أو في معظمها، لكان جواباً سديداً، ونظير ذلك الشهر والصَّيف والشتاء؛ فإنها يجاب بها عن» كَمْ «، و» كَمْ «إنما يجاب عنها بالعدد، وألفاظ هذه الأشياء ليست عدداً، وإنما هي أسماء المعدودات، فكانت جواباً من هذا الوجه. قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدةٍ، وقوله» مفرد معدوداتٍ معودةٌ بالتأنيث «ممنوعٌ، بل مفردها» مَعْدُود «بالتذكير، ولا يضرُّ جمعه بالألف والتاء، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد؛ ألا ترى إلى قولهم: حمَّمات وسجلاَّات وسرادقات.(3/444)
قال الكوفيُّون: الألف والتَّاء في» مَعْدُودَاتٍ «لأقلِّ العدد.
وقال البصريُّون: هما للقليل والكثير؛ بدليل قوله تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] والغرفات كثيرة.
فصل
اعلم أنّ الله - تعالى - لمّا ذكر المشعر الحرام، لم يذكر الرَّمي لوجهين:
أحدهما: أنّ ذلك كان أمراً مشهوراً عندهم، وكانوا منكرين لذلك إلاّ أنّه - تعالى - ذكر ما فيه من ذكر الله - تعالى -؛ لأنهم كانوا لا يفعلونه.
الثاني: لعلَّه إنما لم يذكر الرَّمي؛ لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيَّام دليلاً عليه؛ إذ كان من سنَّته التكبير على كلِّ حصاةٍ.
فصل
قال هنا: ي أيَّام معدوداتٍ، وفي سورة الحجِّ: {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] ، فقال أكثر أهل العلم، الأيَّام المعلومات: عشر ذي الحجَّة، آخرهن يوم النَّحر.
والمعدودات: هي أيَّام التَّشريق؛ وهي أيَّام منى، ورمي الجمار، وسمِّيت معدودات لقلَّتهن؛ كقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] ولقوله تعالى بعده: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ، وأجمعت الأمَّة على أنّ هذا الحكم إنّما يثبت في أيَّام منى؛ وهي أيَّام التَّشريق.
قال الواحديّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أيَّام التَّشريق ثلاثة أيَّام بعد يوم النَّحر:
أولها: يوم النَّفر؛ وهو الحادي عشر من ذي الحجَّة، يستقرُّ النَّاس فيه بمنًى.
والثاني: يوم النَّفر الأول؛ لأن بعض النَّاس ينفرون في هذا اليوم من منًى.
والثَّالث: يوم النَّفر الثَّاني: وهي الأيّام الثّلاثة مع يوم النَّحر كلُّها أيَّام النَّحر، وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عند آخر وقت النَّحر إلى يومين من أيَّام التَّشريق، وأيّام التَّشريق مع يوم النَّحر أيام رمي الجمار؛ وأيّام التكبير أدبار الصَّلوات.
واستدلَّ القفَّال على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق بما روى عبد الرَّحمن بن يعمر الدئلي؛ أنّ رسول الله صلى الله عيله وسلم أمر منادياً فنادى، «الحَجُّ عَرَفَةُ، من جَاء لَيْلَة جمْعٍ قبل(3/445)
طُلُوعِ الفَجْرِ، فقد أدرك الحجَّ، وأيّام منىً ثلاثَة أيّام، فمن تَعَجَّل في يَوْمَيْن فلا إثْمَ عَلَيْه، ومن تَأَخَّر فلا إثْمَ عَلَيْه، وهذا يدلُّ على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق.
وروي عن ابن عبَّاس:» المَعْلُومَات «يوم النَّحر ويومان بعده، و» المَعْدُودَات «أيام التَّشريق.
وعن عليه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال:» المَعْلُومَات يوم النَّحْرِ وثَلاَثَةَ بَعْدَه «.
وروى عطاء عن ابن عباس:» المَعْلُمات يوم عَرَفَة والنَّحْر وأيّام التَّشْرِيق «.
وقال محمد بن كعب: هما شيء واحد، وهي أيَّام التَّشريق، وروي عن نبيشة الهذلي؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أيَّام التَّشْرِيق أيّام أَكْلِ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللَّهِ، ومن الذِّكْر في أيَّام التَّشْرِيقِ التكْبِير «
فصل
اعلم أنّ المراد بالذكر في هذه الأيَّام: التكبير عند رمي الجمرات، وأدبار الصلوات.
وروي عن عمر، وعبد الله بن عمر؛ أنّهما كانا يكبِّران بمنًى تلك الأيّام خلف(3/446)
الصَّلوات، وفي المجلس، وعلى الفراش والفسطاط، وفي الطَّريق، ويكبِّر النَّاس بتكبيرهما، ويتلوان هذه الآية.
وذهب الجمهور إلى أنّ التكبير عقيب الصَّلوات مختصٌّ بعيد الأضحى، [في حق الحاجِّ وغيره.
وذهب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنّه يستحبُّ التكبير ليلة العيدين] . واختلفوا في ابتدائه وانتهائه.
فقال مالك الشَّافعي: يكبِّر المحرم وغيره عقيب الصَّلوات، من صلاة الظُّهر من يوم النَّحر، إلى بعد صلاة الصُّبح من آخر أيَّام التَّشريق، وهو قول ابن عبَّاس، وابن عمر؛ لأن التكبير إنَّما ورد في حقِّ الحاجِّ والنَّاس تبعٌ لهم، وذكر الحاجِّ قبل هذا الوقت هو التَّلبية، وهي تنقطع مع ابتداء الرَّمي.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكبّر المحرم من صلاة الظُّهر يوم النَّحر إلى آخر أيَّام التَّشريق، روي ذلك عن علي وبه قال مكحول وأبو يوسفٌ، وروي هذا القول عن بعضهم في حقّ المحرم أيضاً، روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عبَّاس.
وقال أبو حنيفة: يكبر المحرم وغيره من صلاة الصُّبح يوم عرفة، إلى بعد العصر يوم النَّحر، روى ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والأسود والنَّخعي.
وللشافعي قول آخر: أنّه يبتدئ من صلاة المغرب ليلة النَّحر، إلى صلاة الصُّبح من آخر أيام التَّشريق، وله قول ثالث: أنّه يبتدئ من صلاة الصُّبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النَّحر؛ وهو كقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
فإن قيل: التكبير مضاف إلى الأيَّام المعدودات وهي أيّام التَّشريق، فينبغي ألاَّ تكون مشروعةً يوم عرفة.
فالجواب: أنّ هذا يقتضي ألاَّ يكون يوم النَّحر داخلاً فيها وهو خلاف الإجماع.
وصفة التكبير عند أهل العراق شفعاً: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، روي ذلك عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وهو قول أحمد.
وقال أهل المدينة: صفة التكبير: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً نسقاً، وهو قول سعيد بن جبير والحسن، وبه قال مالك والشَّافعي وأبو حنيفة، ويقول بعده: لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} «مَنْ» يجوز فيها وجهان:(3/447)
أحدهما: أن تكون شرطيةٌ، ف «تَعَجَّلَ» في محلِّ جزمٍ، والفاء في قوله: «فَلاَ» جواب الشرط والفاء وما في حَيِّزها في محلِّ جزم أيضاً على الجواب.
والثاني: أنها موصولة ب «تَعَجَّلَ» فلا محلَّ ل «تَعَجَّلَ» ؛ لوقوعه صلةً، ولفظه ماضٍ، ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبال؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً، فهذا حكمه؛ والفاء في «فَلاَ» زائدة في الخبر، وهي وما بعدها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ.
قال القرطبي: «مَنْ» في قوله: «فَمَنْ تَعَجَّلَ» رفع بالابتداء، والخبر «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» ، ويجوز في غير القرآن، فلا إثْمَ عَلَيْهِم؛ لأن معنى «مَنْ» جماعة؛ كقوله - تبارك وتعالى -: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] ، وكذلك «مَنْ تأَخَّرَ» .
و «في يَوْمَيْنٍ» متعلِّق ب «تَعَجَّلَ» ولا بدَّ من ارتكاب مجازٍ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعاً في كلٍّ من معدوداته، تقول: «سِرْتُ يَوْمَيْنِ» لا بد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني وبعض الثاني، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ، ووجه المجاز: إمَّا من حيث إنَّه نسب الواقع في أحدهما واقعاً فيها؛ كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] و {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، والنَّاسي أحدهما: وكذلك المخرج من أحدهما، وإمَّا من حيث حذف مضاف، أي: في تمام يومين أو كمالهما.
و «تَعَجَّلَ» يجوز أن يكون بمعنى «اسْتَعْجَلَ» ك «تَكَبَّرَ، واسْتَكْبَرَ» ، أو مطاوعاً ل «عَجَّل» نحو «كَسَّرْتُه فَتَكَسَّرَ» ، أو بمعنى المجرَّد، وهو «عِجِلَ» ، قال الزمخشريُّ: «والمطاوعة أوفَقُ» ؛ لقوله: «ومَنْ تَأَخَّرَ» ؛ كما هي في قوله: [البسيط]
1006 - قَدْ يُدْرِكُ الْمَتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
لأجل قوله «المُتَأَنِّي» . و «تَعَجَّلَ واسْتَعْجَلَ» يكونان لازمين ومتعدِّييثن، ومتعلِّق التعجيل محذوف، فيجوز أن تقدِّره مفعولاً صريحاً، أي: من تعجَّل النَّفر، وأن تقدِّره مجروراً أي: بالنَّفر، حسب استعماله لازماً ومتعدِّياً.
وفي هذه الآيات من علم البديع: الطباق، وهو ذكر الشيء وضده في «تَعَجَّل وتَأَخَّرَ» ، فهو كقوله: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44] ، وهذا طباقٌ غريب، من حيث جعل ضدَّ «تَعَجَّلَ» : «تَأَخَّرَ» ، وإنما ضدُّ «تَعَجَّلَ» : «تَأَنَّى» ، وضدُّ «تَأَخَّرَ» : «تقدَّم» ، ولكنه في «تَعَجَّلَ» عبرَّ بالملزوم عن اللازم، وفي «تَأَخَّرَ» باللازم عن الملزوم، وفيها من علم البيان: المقابلة اللفظيَّة، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفرات آتٍ بزيادة في العبادة، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل، فقال في حقه أيضاً: «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» ؛ ليقابل(3/448)
قوله أولاً: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ، فهو كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] .
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً؛ فقال: قوله: «وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» فيه إشكالٌ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلَّ ما يلزمه في تمام الحجِّ، فما معنى قوله: «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» فهذا اللَّفظ إنما يقال في حقِّ المقصِّر، وأجاب بوجوه:
أحدها: ما تقدَّم من المقابلة، ونقله عن الواحدي.
وثانيها: أنّه - تعالى - لما أذن في التَّعجيل على سبيل الرُّخصة، احتمل أن يخطر بالبال أنَّ من لم يترخَّص فإنه يأثم. كما قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: القصر عزيمة والإتمام غير واجب، ومذهب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القصر والفطر في السَّفر أفضل، فأزال الله - تعالى - هذه الشُّبهة، وبيَّن أنه لا إثم عليه في الأمرين، فإن شاء تعجَّل وإن شاء تأخَّر.
وثالثها: قال بعض المفسِّرين: إن منهم من كان يتعجَّل، ومنهم من كان يتأخَّر، وكل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله، ويقول: هو مخالفٌ لسنَّة الحجِّ، فبيَّن الله - تعالى - أنّه لا عيب على كلِّ واحد من الفريقين.
ورابعها: أنّ المعنى في إزالة الإثم عند المتأخِّر؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثَّلاث؛ فكأنّه قيل: أيَّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث، فمن نقَّص منها وتعجَّل في يومين، فلا إثم عليه، ومن زاد عليها فتأخَّر عن الثَّالث إلى الرَّابع؛ فلم ينفر مع النَّاس، فلا شيء عليه.(3/449)
وخامسها: أنّه ذكر هذا الكلام؛ مبالغة في أن الحجَّ يكفِّر الذُّوب والآثام؛ كما إذا تناول الإنسان التّرياق فيقول له الطَّبيب: إن تناولت السُّمَّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا ضرر، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضارِّن لا بيان أن تناول السُّمِّ وعدم تناوله يجريان مجرَى واحداً؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحجِّ مكفرِّراً لكلِّ الذُّنوب؛ لأن التَّعجيل وتركه سيَّان؛ ومما يدلُّ على أن الحجَّ سبب قويٌّ في تكفير الذُّنوب قوله - عليه السّلام -
«مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَومِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ» ، وهنا قول عليٍّ وابن مسعود.
فصل
وقرأ الجمهور «فَلاَ إِثْمَ» بقطع الهمزة على الأصل، وقرأ سالم بن عبد الله: «فَلاَ اثْمَ» بوصلها وحذلف ألف لا، ووجهه أنه خفَّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن، فحذفها؛ تشبيهاً بالألف، فالتقى ساكنان: ألف «لاَ» وثاء «إِثْم» ، فحذفت ألف «لاَ» ، لالتقاء الساكنين، وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسْمَ ب» لاَ «حَذَفَ الهمزة؛ تشبيهاً بالألف» يعني أنه لمَّا ركِّبت «لاَ» ن مع اسمها، صارا كالشيء الواحد، والهمزة شبيهة الألف، فكأنه اجتمع ألفان، فحذفت الثانية لذلك، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الثَّاء.
فصل
قال القرطبي: روى الثِّقات؛ أن النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر أمَّ سلمة أن تصبح بمكَّة يوم النَّحر، وكان يؤمُّها، وهذا يدلُّ على أنّها رمت الجمرة بمنًى قبل الفجر؛ لأن هذا لا يكون إلاّ وقد رمت الجمرة بمنى ليلاً قبل الفجر.
وروى أبو داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؛ أنّها قالت: «أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمِّ سلمة ليلة يوم النَّحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندها» . فإذا ثبت ذلك فالرَّمي باللَّيل جائز لمن فعله، والاختيار من طلوع الشَّمس إلى زوالها، وأجمعوا على أن من رماها قبل غروب الشَّمس من يوم النَّحر، فقد أجزأ ولا شيء عليه، إلا مالكاً؛ فإنه قال: يستحب له أن يهرقَ دماً.(3/450)
واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشَّمس، ورماها من اللَّيل أو من الغد، هل يلزمه دم أم لا؟
فصل
المبيت بمنى ليلالي منى واجبٌ؛ لرمي الجمار في كلِّ يوم بعد الزَّوال إحدى وعشرين حصاةً، عند كل جمرة سبع حصيات، ويرخَّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجِّ، ثم من رمى اليوم الثاني من أيام التَّشريق، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللَّيلة الثَّالية، ورمى يومها، فله ذلك؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس، فإن غربت الشمس وهو بمنى، لزمه المبيت بها والرَّمي من غد، هذا مذهب الشَّافعي وأحمدن وهو قول أكثر التَّابعين.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر؛ لن وقت الرَّمي لم يدخل.
فصل
إذا ترك الرَّمي، فذكره بعدما صدر وهو بمكَّة، بعدما خرج منها، فعليه الهدي، وسواء ترك الجمار كلَّها، أو جمرة منها، أو حصاةً من جمرة، حتى خرجت أيَّام منى فعليه دمٌ، وإن ترك جمرة واحدة، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاعٍ، إلى أن يبلغ دماً، إلاَّ جمرة العقبة فعليه دمٌ.(3/451)
وقال الأوزاعي: يتصدّق إن ترك حصاةً، وقال الثَّوري: يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث، فإن ترك أربعاً فعليه دمٌ، وقال اللَّيث: في الحصاة الواحدة دم، نقله القرطبي.
فصل
قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: من بقي في يده حصاة لا يدري من أيِّ الجمار هي، جعلها في الأولى ورمى بعدها الوسطى والآخرة، فإن طال، استأنف جميعاً.
قوله: «لِمَن اتَّقَى» هذا الجارُّ خبر مبتدأ محذوفٍ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلُّق هذا الجار من جهة المعنى، لا الصناعة، فقيل: يتعلَّق من جهة المعنى بقوله: «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» فتقدِّر له ما يليق به، أي: انتفاء الإثم لمن اتَّقى، وقيل: متعلِّقٌ بقوله: «وَاذْكُرُوا» أي: الذكر لمن اتقى، وقيل: متعلِّقٌ بقوله: «غَفُورٌ رَحِيمٌ» ، أي المغفرة لمن اتَّقى، وقيل: التقدير: السلامة لمن اتَّقى، وقيل: التقدير: ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخِّر؛ لأجل الحاجِّ المتَّقي؛ لئلاّ يتخالج في قلبه شيءٌ منها، فيحسب أنَّ أحدهما يرهق صاحبه إثماً في الإقدام عليه؛ لأنَّ ذا التقوى حذر متحرزٌ من كل ما يربيه، قيل: التقدير: ذلك الذي مرَّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى؛ لأنه هو المنتفع به دون غيره، كقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} [الروم: 38] ، قال هذين التقديرين الزمخشريُّ، وقال أبو البقاء: «تقديره: جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى» ، وكلُّها متقاربةٌ، ويجوز أن يكون «لِمَن اتَّقَى» في محلِّ نصب على أن اللام لام التعليل، ويتعلَّق بقوله «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» أي: انتفى الإثم؛ لأجل المتَّقي، ومفعول: «اتَّقى» محذوف، أي: اتَّقى الله، وقد جاء مصرَّحاً به في مصحف عبد الله، وقيل: اتَّقى الصَّيد.
فصل
في هذه التَّقوى وجوه:
أحدهما: قال أبو العالية: ذهب أئمةٌ أن «اتَّقى» فيما بقي من عمره، ولا يتَّكل على ما سلف من أعمال الحجِّ.
وثانيها: أنّ هذه المغفرة لا تحصل إلاّ لمن كان متَّقياً قبل حجِّح؛ كقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] ؛ لأن المصرَّ على الذَّنب لا ينفعه حجُّه، وإن كان قد أدَّى الفرض في الظَّاهر.
وثالثها: أنّه المتَّقي عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجِّ؛ لقوله عليه السّلام:
«مَنْ حَجَّ فَلَم يَرْفثْ وَلَمْ يَفْسُقْ ... »(3/452)
ورابعها: روى الكلبي عن ابن عباس: «لِمَن اتَّقَى الصَّيْد ما يلزَمُهُ اجتِنَابُه من محْظُورَاتِ الإِحْرَامِ» .
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ من وجهين:
أحدهما: أنَّه تقييد للَّفظ المطلق بغير دليل.
والثاني: أنّ هذا لا يصحُّ إلاّ إذا حمل على ما قبل هذه الأيَّام؛ لأنه في يوم النَّحر إذا رمى وطاف وحلق، فقد تحلَّل قبل الجمار، فلا يلزمه اتِّقاء الصَّيد في هذه الأيَّام.
قوله: «واتَّقُوا الله» فهو أمر في المستقبل، وهو مخالف لقوله: «لِمَنْ اتَّقَى» الذي أ {يد به الماضين فلا يكون تكراراً، وقد تقدم أن التَّقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات.
وقوله: {واعلموآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
فهو توكيد للأمر بالتَّقوى؛ لأن مَنْ تصور الحشر والمحاسبة والمساءلة، وأنّ بعد الموت لا دار إلاّ الجنَّة أو النَّار، صار ذلك من أقوى الدَّواعي إلى التَّقوى، وأمَّا الحشر: فهو اسمٌ يقع على ابتداء أوَّل خروجهم من الأجْداث، يوم لا مالك سواه ولا ملجأ إلاّ إيَّاه.
قوله: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} .
لمّا ذكر الذين قصرت همَّتهم على الدُّنيا في قوله: «ومِنَ النَّاسِ من يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة» ، والمؤمنين الذين سألوا خير الدَّارين، ذكر المنافقين؛ لأنَّهم أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر.
قوله تعالى: «مَنْ يُعْجِبُكَ» : يجوز في «مَنْ» أن تكون موصولة، وأن تكون نكرةً موصوفةً، وقد تقدَّم نظيرها، والإعجاب: استحسان الشيء، والميل إليه، والتعظيم له، والهمزة فيه للتعدِّي.
وقال الراغب: «العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرَضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشَّيء، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةً، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السَّبب ومن لا يعرفه، وحقيقة: أعجبني كذا: ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه» ، ويقال: عجبت من كذا، قال القائل: [الرجز](3/453)
1007 - عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ ... مِنْ عَنَزِيَّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ
قال بعض المفسِّرين: يقال في الاستحسان: أعجبني كذا، وفي الإنكار والكراهة: عجبت من كذا.
قوله: «في الحَيَاةِ» فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب «قَوْلُهُ» ، أي: يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا، أنَّ ادِّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظّاً من الدنيا.
والثاني: أن يتعلَّق ب «يُعْجِبُكَ» ، أي: قوله حلوٌ فصيحٌ في الدُّنيا، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللُّكنة، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام، قال أبو حيان: «والذي يظهر أنه متعلِّق ب» يُعْجِبُكَ «، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدَّة حياته؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجبٌ رائقٌ لطيفٌن فمقالته في الظاهر معجبة دائماً، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالةٍ منافيةٍط.
قوله: «وَيُشْهِدُ اللَّهَ» في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها عطف على «يُعْجِبُكَ» ، فهي صلة لا محلَّ لها من الإعراب، أو صفةٌ، فتكون في محلِّ رفع على حسب القولين في «مَنْ» .
والثاني: أن تكون حاليةً، وفي صاحبها حينئذً وجهان:
أحدهما: أنه الضمير المرفوع المستكن في «يُعْجِبُكَ» .
والثاني: أنه الضمير المجرور في «قَوْلُهُ» ، تقديره: يعجبك أن يقول في أمر الدنيا، مقسماً على ذلك.
وفي جعلها حالاً نظر وجهين:
أحدهما: من جهة المعنى، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحالٍ، والظاهر خلافه.
والثاني: من جهة الصِّناعة وهو أنَّه مثبتٌ، فلا يقع حالاً إلا في شذوذٍ؛ نحو: «قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ» أو ضرورةً؛ نحو: [المتقارب]
1008 - ... ... ... ... ... ... ... ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا
وتقديره مبتدأً قبله على خلاف الأصل، أي: وهو يشهد.(3/454)
والجمهور على ضمِّ حرف المضارعة وكسر الهاء، مأخوذاً من «أَشْهَدَ» ونصب الجلالة مفعولاً به، وقرأ أبو حيوة وابن محيصنٍ بفتحهما ورفع الجلالة فاعلاً.
قال القرطبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - ويؤيِّده قراءة ابن عباسٍ «واللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا في قَلْبِهِ» .
وقرأ أُبَيٌّ: «يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ» .
فأمَّا قراءة الجمهور وتفسيرهم، فإن المعنى: يحلف بالله ويشهده أنّه صادقٌ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللِّعان، وقيل: فيكون اسم الله منتصباً على حذف حرف الجر، أي: يقسم بالله، قال شهاب الدين: وهذا سهوٌ من قائله؛ لأنَّ المستعمل بمعنى القسم «شَهِدَ» الثلاثيٌّ، لا «أَشْهَدَ» الرباعيُّ، لا تقول: أُشْهِدُ بالله، بل: أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءة الجمهور: يطَّلع الله على ما في قلبه، ولا يعلم به أحدٌ، لشدة تكتُّمه.
وأمَّا تفسير الجمهور: فيحتاج إلى حذف ما يصحُّ به المعنى، تقديره: ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر، وهو لا يحلف عليه، إنما يحلف على ضدِّه، وهو الذي يعجب سامعه، ويقوِّي هذا التأويل قراءة أبي حيوة؛ إذ معناها: ويطَّلع الله على ما قلبه من الكفر. وأمَّا قراءة أُبيًّ: فيحتمل «استَفْعَلَ» وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى «أَفْعَلَ» ؛ فيوافق قراءة الجمهور.
والثاني: أنه بمعنى المجرَّد وهو «شَهِدَ» ، وتكون الجلالة منصوبةً على إسقاط الخافض.
قوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها، وهنا وجهٌ آخر، وهو أن تكون حالاً من الضمير في «يُشْهِدُ» ، والألد: الشديد؛ من اللَّدد، وهو شدة الخصوة؛ قال: [الخفيف]
1009 - إنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْماً وحَزْماً ... وَخَصِيماً أَلَدَّ ذَا مِغْلاَقِ
ويقال: لَدِدت بكسر العين ألَدُّ بفتحها، ولدَدته بفتح العين ألُدُّه بضمها أي: غلبته في ذلك، فيكون متعدياً، قال الشاعر: [الرجز]
1010 - تَلُدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدِّ ...(3/455)
تلدُّ أقران الرِّجال، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه.
ورجل ألدُّ وألنددٌ ويلنددٌ، وامرأةٌ لدَّاء، والجمع «لُدٌّ» ك «حُمْرٍ» .
وفي اشتقاقه أقوالٌ: قال الزجَّاج: من لُديدَي العنق، وهما صفحتاه.
وقيل: من لديدي الوادي، وهما جانباه، سمِّيا بذلك؛ لاعوجاجهما.
وقيل: هو من لدَّه إذا حبسه، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته.
و «الخِصَامِ» فيه قولان:
أحدهما: قال الزجَّاج: وهو جمع خصمٍ بالفتح؛ نحو: كعبٍ وكعابٍ، وكلبٍ وكلابٍ، وبحرٍ وبحارٍ، وعلى هذا فلا تحتاج غلى تأويل.
والثاني: قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر، يقال: خاصمَ خصاماً، نحو قاتلَ قتالاً، وعلى هذا فلا بد من مصحِّح لوقوعه خبراً عن الجثَّة، فقيل: في الكلام حذف من الأول، أي وخصامه أشدُّ الخصام، وجعل أبو البقاء «هو» ضمير المصدر الذي هو «قوله» فإنه قال: ويجوز أن يكون «هُوَ» ضمير المصدر الذي هو «قَوْلُهُ» وهو خصام، والتقدير: خصامه ألدُّ الخصام.
وقيل: من الثاني: أي: وهو أشدُّ ذوي الخصام، وقيل: أريد بالمصدر اسم الفاعل؛ كما يوصف به في قولهم: رجل عدلٌ وخصمٌ، وقيل: «أَفْعَلُ» هنا ليست للتفضيل، بل هي بمعني لديد الخصام، فهو من باب ضافة الصفة المشبهة، وقال الزمخشريُّ: والخِصَامُ المُخَاصَمَةُ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى «في» ؛ كقولهم: «ثَبْتُ الغَدْرِ» يعني أن «أَفْعَلَ» ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه، بل هي ضافة على معنى «في» ؛ قال أبو حيان: وهذا مخالفٌ لما يَزْعُمُهُ النحاة من أنَّ «أَفْعَلَ» لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه، وفيه إثبات الإضافة بمعنى «في» ، وهو قولٌ مرجوحٌ، وقيل: «هُوَ» ليس ضمير «مَنْ» بل ضمير الخصومة يفسِّره سياق الكلام، أي: وخصامه أشدُّ الخصام.
فصل في بيان عموم هذه الآية
قال بعض المفسِّ {ين: هذه الآية الكريمة مختصَّة بأقوام معيَّنين، وقال بعضهم: إنّها عامة في كلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة، والأولون اختلفوا على وجوهٍ:
أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، واسمه: أُبي، وسمِّي الأخنس؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ،(3/456)
وكان رجلاً حلو المنظر، حلو الكلام، وكان يأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيجالسه ويظهر الإسلام، ويقول: إنيّ أحبُّك، ويحلف بالله على ذلك، وكان منافقاً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدنيه في مجلسه، وكان حسن العلانية خبيث الباطن، فخرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزَّرعن وقيل: المواشي، وقيل: بيَّت قوماً من ثقيف فلبسهم، وأهلك مواشيهم، وأحرق زرعهم.
وقال مُقاتِلٌ: خرج إلى الطَّائف مُقْتَضِياً مالاً لَهُ على غرِيم فَأَحْرَقَ له كدساً، وعَقَرَ لَهُ أَتاناً، والنّسلُ: نَسْل كُلّ حيوان من ناطقٍ، وغيره؛ فنزلت الآية الكريمة.
الثَّاني: أنَّ الأَخْنَس أَشَار على بني زهرة بالرُّجُوع يوم بدرٍ وقال لهُم: إِنَّ مُحَمَّد ابن أخيكم، فإِنْ يَكُ كَاذِباً كفاكموه سائر النَّاس، وإن يَكُ صَادِقاً كنتم أَسعَدَ النَّاسِ به، قالُوا نِعْمَ الرَّأيُ ما رَأَيَتَ قال: فإذا نودي في النَّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم، فاتَّبِعُوني، ثمَّ انخنَسَ بثلاثِمائة من بني زُهْرَة عن قِتَال رسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وسُمِّيَ بهذا السَّبب الأَخنس، فبلغ ذلك رسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأعجبه.
قال ابنُ الخطيب: وعندي أَنَّ هذا القول ضعيفٌ، لأَنَّهُ لا يَسْتَوجِبُ الذَّمَّ بهذا العمل، والآية مذكورة في معرض الذَّمِّ، فلا يمكن حَمْلُها عليه.
الثالث: روي عن ابن عبَّاس والضحَّاك أنَّ كُفَّار قريش بعثوا إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «أَنَّا قد أَسلمنا، فابعثْ إِلَيْنَا نفراً مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابك، فبعثَ إليهم جماعَة، فنزلوا ببطن الرجي، ووصل الخَبَرُ إلى الكُفَّارِ، فَرَكِبَ منهم سبعون راكباً، وأَحَاطُوا بهم، وَقَتَلُوهم، وصَلَبُوهُم، فَنَزَلَتْ هذه الآية الكريمة، ولذلك عقَّبَهُ بقول» مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ «فَنَبَّه بذلك على حال هؤُلآءِ الشَّهداء.
القولُ الثَّاني: وهو اختيارُ أكثر المحقِّقين من المُفسِّرين، أنَّها عامَّة في كُلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفَةِ المَذْكُورة، نقل عن محمَّد بن كعب القُرظِي أنَّه جرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ غيره كلام في الآية فقال: إِنَّها وإن نزلت فيمن ذكرتهم، فلا يَمْتنعُ أن تنزل الآية الكريمة في(3/457)
الرَّجُلِ، ثم تَكُونُ عامَّة في كُلِّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات.
وَرَوَتْ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: -» إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ «
قال ابن الخطيب: نُزُول الآية الكريمة على سبب لا يمنعُ من العُمُومِ، بل في الآية الكريمة ما يَدُلُّ على العُمومِ مِنْ وجوه:
الأول: أَنَّ ترتيب الحُكم على الوصف المُنَاسِبِ مشعراً بالعلِّيَّة.
الثاني: أَنَّ الحَمْلَ على العُموم أكثر فائدة، لأَنَّهُ زجرٌ لكلِّ مكلَّف عن تِلك الطَّريقةِ المَذْمُومَةِ.
الثالث: أَنَّهُ أَقربٌ إلى الاحتياطِ.
قال قتادةُ ومُجاهدٌ وجماعة من العلماء: نزلت في كُلِّ مُبْطنٍ كُفراً، أو نِفاقاً، أو كذباً أو إضراراً، وهو يظهر بلسانِهِ خلاف ذلك، فهي عامة.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: وهي تشبه ما ورد في التِّرمذيّ أَنّ في بعض الكُتُب أَنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي قوماً ألسِنَتُهُمْ أَحْلَى من العسَلِ، وقلوبهم أَمَرّ مِنَ الصَّبْرِ، يَلْبسون للنَّاس جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّين، يشترُون الدُّنيا بالَّدين، يقُولُ الله - تبارك وتعالى - إِنَّهُم لمُغترُّون، وعلى اللَّهِ يجترئُونَ فبي حلفت لأُسَلِّطَنَّ عليهم فِتنَةً تدَعُ الحليم منهم حيران. ومعنى:» وَيُشْهِدُ الله «، أي: يقول: اللَّهُ يعلم أَنَّي أقُولُ حَقّاً.
فصل
اختلفُوا في المَوْصُوف بالصِّفاتِ المذكورة في الآية، هل هو مُنَافقٌ أمْ لا؟
قال ابنُ الخطيب: إنَّها لا تدلُّ على ذلك، فإِنَّ قوله: {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة(3/458)
الدنيا} لا دلالة فيه على صِفةٍ مَذْمُومةٍ، إِلاَّ من جهة الإِيماء الحاصل بقوله {فِي الحياة الدنيا} ، فإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فُلاَن حُلْوُ الكَلاَمِ فيما يَتَعَلَّقَ بالدُّنيا أَوْهَم نوعاً من المَذمَّةِ.
وقوله: {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ} لا دلالة فيه على حالَةٍ مُنْكرةٍ، وإِن أَضمرنا فيه أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ على ما في قلبه، مع أنَّ قلبه بخلاف ذلك لأَنَّهُ ليس في الآية أَنَّ القَوْلَ الَّذي أَظْهرهُ هو الإِسلامُ والتَّوحِيدُ حتى يكُون خلافه نِفَاقاً، بل يَحْتَمِلُ أن يُضْمِر الفساد، ويظهر ضِدَّهُ، فَيَكُونُ مُرائِياً
وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} أيضاً لا يُوجِبُ النِّفَاقَ.
وقوله: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا} فالمفسد قد يكون مُسْلِماً.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} أيضاً لا يَقْتَضِي النِّفَاق، إِلاَّ أنَّ المُنَافِقَ داخل في هذه الصِّفَاتِ الخَمْس، والمرائي أيضاً.
فصل في ما أثر عن السلف في بيان» ألد الخصام «
قال مُجاهدٌ: أَلَدُّ الخِصَام: معناهُ: ظَالِمٌ لا يستقيمُ وقال السُّدُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أعوجُ الخِصَامِ.
وقال قتادةُ: شديدُ القَسْوة في المعَصية، جدلٌ بالباطل، عالم اللِّسان، جاهل العمل، يتقلد بالحكمة، ويعملُ بالخطيئة.
فصل في بيان أمر الاحتياط في الدِّين
قال القُرطبيُّ: قال عُلماؤُنَا: في الآية الكريمة دليلٌ على أَنَّ الاحتياط فيما يتعلق بأُمُور الدِّين والدُّنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأَنَّ الحاكم لا يعملُ على ظاهر(3/459)
أَحوالِ النَّاسِ وما يبدو من إيمانهم، وصلاحهم؛ حتى يَبْحث عن باطنهم؛ لأَنَّ الله تعالى بَيَّنَ أَحوال النَّاسِ، وأَنَّ منهم من يظهرُ قولاً جميلاً، وهو يَنْوي قَبِيحاً.
فإِنْ قِيلَ: هذا يَعارضُ قوله عليه السَّلام:» أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِله إِلاَّ اللَّهُ «وقوله:» فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحو ما أَسْمَعُ «
فالجوابُ: هذا كان في صدر الِسلامِ، حيثُ كان إِسْلاَمُهُم سلامتهم، وأمَّا الآن، وقد عَمَّ الفسادُ، فلا، قاله ابنُ العَرَبيّ.
والصَّحيحُ: أَنَّ الظَّاهِرَ يَعملُ عليه، حَتّى يبين خلافه.
قوله تعالى: {وَإِذَا تولى سعى} » سَعَى «جوابُ إذا الشَّرطيَّة، وهذه الجُملةُ الشَّرطيةُ تحتملُ وجْهَيْنِ.
أحدهما: أن تكُونَ عطفاً على ما قبلها، وهو «يُعْجِبُكَ» ، فتكون: إمَّا صلةً، أو صفةً حسب ما تقدَّم في «مَنْ» .
والثاني: أن تكُون مُستأَنفةً لمُجرَّدِ الإخبارِ بحالِهِن وقد تَمَّ الكلامُ عند قوله: «ألدُّ الخصام» .
والتّولِّي والسَّعْيُ يحْتَمِلان الحقيقة، أي: تولَّى ببدنِهِ عنك وسعَى بِقَدَمَيْهِ، والمُجازَ بأن يريدُ بالتولِّي الرُّجُوع عن القَوْلِ الأَوَّل، وبالسَّعي العمَل والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ؛ ومنه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] ، وقال امرؤُ القَيسِ: [الطويل]
1011 - لَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي - وَلَمْ أَطْلُبْ - قليلٌ مِنَ المَالِ
وَلكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
وقال آخرُ: [السريع]
1012 - أَسْعَى عَلَى حَيِّ بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِىءٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي
والسَّاعيةُ بالقولِ ما يقْتَضِي التَّفْرِيق بينَ الأَخِلاَّءِ؛ قال القائل: [السريع](3/460)
1013 - مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا ... سَعْيَ عَدْوٍّ بَيْنَنَا يَرْجُفُ
وقال الضَّحَّاكُ: وإذا تَوَلَّى، أي: مَلَكَ الأَمْرَ، وصارَ والياً سَعَى في الأَرض.
وقال مُجاهدٌ: إيضا وُلِّي، وعمل بالعُدوان، والظُّلم، أَمْسَكَ اللَّهُ المطر، وأهلك الحرث والنَّسل.
قوله: «فِي الأَرْضِ» مُتَعَلِّقٌ ب «سَعَى» ، فإنْ قيل: مَعْلُومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكُونُ إلاَّ فِي الأَرْضِ قيل: لأنَّهُ يُفيدُ العُمُومَ، كأنه قيل: أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرض أفسدَ فيه، فَيَدُلَّ لفظُ الأَرْضِ على كَثرةٍ فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المَظْرُوفِ، و «ليُفْسِدَ» مُتَعَلّقٌ ب «سَعَى» علَّةً له.
قوله: «وَيُهْلِكَ الحَرْثَ» الجُمْهُورُ على: «يُهْلِكَ» بضمِّ اليَاءِ، وكسر اللام ونصب الكافِ. «الحَرْثَ» مفعول به، وهي قراءةٌ واضِحَةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنَّصبُ عطَفٌ على الفعل قبلُهُ، وهذا شبيهٌ بقوله تعالى: {وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] فإنَّ قوله: «ليفْسِدَ» يَشْتَمِلُ على أَنَّهُ يُهْلَكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ، فخصَّهُما بالذّكر لذلك. وقرأ أُبيّ: «وليُهْلِكَ» بإظهارِ لام العِلَّةِ، وهي معنى قراءة الجَمهور، وقرأ أبو حَيوة - ورُويت عن ابن كثيرٍ وابن عمرو - «وَيَهْلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ» بفتح الياءِ، وكسر اللام من هلك الثَّلاثي، و «الحَرْث» فاعلٌ، و «النَّسلُ» عطفٌ عليه. وقرأ قومٌ: «ويُهْلِكُ الحَرْثَ» من أَهْلَكَ، و «الحَرْث» مفعولٌ به إلا أَنَّهُم رفعُوا الكاف. وخُرِّجت على أربعةِ أوجهٍ: أن تكُونَ عَطْفاً على «يُعْجِبُك» أو على «سَعَى» ؛ لأَنَّهُ في معنى المُستقبل، أو على خبر مُبْتَدأ للمفعول، «الْحَرْثُ» رفعاً، وَقَرَأَ أيضاً: «ويَهَلكُ» بفتح الياءِ واللام ورفعِِ الكَافِ، «الحَرْثُ» رفعا على الفاعلية، وفتحُ عين المُضارع هنا شاذٌّ لفَتْحٍ عين ماضِيهِ، وَليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حَلْق، فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتح فيهما.
و «الحرث» في اللُّغة: الشَّقُّ، ومنه المِحراثُ لام يُشقّ به الأرض، والحرث: كسب المالِ وجمعه، والحَرْثُ: الزَّرعُ، والحرَّاث الزرَّاع، وقد حرث، واحترثَ مثل: زَرَعَ وازْدَرَعَ.(3/461)
ويقالُ: احرثِ القرآن؛ أي: ادرسه، وحَرَثتُ النَّاقة وأحرثْتُها، أي: سِرْتُ عليها حتَّى هزلت، وحرثت النَّارَ حرّكتها والمِحراث ما يحرك به نار التَّنور نقله الجوهري. وقد تَقَدَّمَ.
والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل، أي: خرج بِسُرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البَعِير، ونَسَلَ ريشُ الطَّائر، أي: خَرَجَ وتطايَرَ وقال القُرطبيُّ: النَّسْلُ ما خرج من كُلِّ أنثى من ولدٍ وأصله الخروج، والسُّقُوط.
وقيل: النَّسلُ الخروج مُتتابعاً، ومنه: «نُسَالُ الطَّائِر» ما تتابع سقُوطه من ريشه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
1014 - وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّ خَلِيقَةٌ ... فَسلِّي ثِيَابي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
وقوله: {مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء: 96] يحتملُ المعنيين. و «الحَرْثَ وَالنَّسْلَ» وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقَعَ المفعولِ به.
فصل في المراد ب «التولي»
ذكرُوا في هذا التوَلِّي قولين:
أحدهما: معناه: إذا انْصَرَفَ من عندك سَعَى بالفسَادِ، وهذا الفَسَادُ يَحتمِلُ وجهَينِ:
أحدهما: إِتْلافُ الأموالِ بالتَّخريب، والتَّحريق، والنَّهب كما تقدَّم.
والوجه الثاني: أَنَّهُ كان بعد الانصرافِ من حَضْرَةِ النَّبِيِّ - عليه السَّلام - يلقي الشّبه في قلوب المؤمنين ويستخرج الحيل في تقوية الكُفْرِ، قال تعالى حكاية عن فرعون {إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد} [غافر: 26] وسمي هذا المعنى فساداً، لأَنَّهُ يوقع اختلافاً بين النَّاس، ويفرّق كلمتهم، ويتبَّرأُ بعضهم من بعض، فتنقطعُ الأَرْحام وتُسفَكُ الدماءُ.
القول الثَّاني في التَّوَلِّي والسَّعي؛ أي: رجع عن قوله واجتهد في إيقاع الفساد، وأصل السَّعي المشي بسرعةٍ، ولكنَّهُ يستعارُ لإِيقاع الفِتنة بيْنَ النَّاسِ، ومنه يُقالُ: فلان يَسْعَى بالنَّميمة، والمراد ب «الحَرْث» الزَّرْعُ وب «النَّسل» : تلك الحمر على التَّفْسِير الأَوَّل، وهو يَقَعُ على ما يُحْرَثُ ويُزْرَعُ.
وقيل: إِنَّ الحَرثَ هو شَقُّ الأرض، ويقالُ لما يُشقّ به: محرث.(3/462)
والنَّسلُ في اللُّغة الوَلَدُ، ومن قال: إِنَّ الأَخنس بيَّت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً، فالمراد بالحرث: الرجال والنساء.
أمَّا النساء فلقوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223] .
وأَمَّا الرجال: فهم الذين يشقون أرض التوليد، وأَمَّا النسلُ فالمراد منه الصبيان.
قوله: {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} .
قال العباس بن الفضل: الفسادُ هو الخرابُ.
وقال سعيد بن المسيب: قطع الدراهم من الفساد في الأرض.
وقال عطاء: كان رجل يقال له عطاء بن منبه أحرم في جُبَّةٍ، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن ينزعها.
قال قتادة: قلت لعطاء: إِنَّا كنا نسمع أن يشقها، فقال عطاء: إِنَّ اللَّهَ لا يحب الفساد.
قال القطربي: والآية تَعُمُّ كُلَّ فساد كان في الأرض، أو مالٍ أو دين، وهو الصحيح.
وقيل: معناه لا يجب الفساد من أهل الصلاح، أو لا يحبه ديناً، أو المعنى لا يأمر به.
فصل في بيان فساد قول المعتزلة في معنى المحبة
استدلت المعتزلة به على أَنَّهُ تبارك وتعالى لا يريد القبائح، قالوا: المحبة عبارة عن الإرادة لقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ} [النور: 19] والمرادُ أنهم يُرِيدونَ.
وأيضاً: نُقِل عن النبيِّ - عليه السلامُ - أَنَّهُ قال: «إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلاَثاً، وكره لكُم ثلاثاً: أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلاَ تُشْرِكُوا به شَيْئاً، وأَنْ تتَنَاصحُوا منْ وَلاّهُ أَمْرَكُم، ويَكْرَهُ لَكُمْ القيل والقَالَ، وإضاعَة المال، وكثرةَ السُّؤالِ» فجعل الكراهةَ ضِدَّ المحبةِ، وإذا ثبتَ أَنَّ الإرادة نفسُ المحبةِ، فقوله: {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} ، كقوله: لا يُريدُ الفساد، وكقوله {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ} [غافر: 31] ، وإذا كان لا يريدُ الفساد، لا يكون خالقاً له؛ لأنَّ الخلقَ لا يمكن إلاَّ مع الإرادة، وأُجيبُوا بوجهين:(3/463)
أحدهما: أَنَّ المحبة غيرُ الإِرادة، بل المحبَّةُ عبارةٌ عن مَدح الشيء.
والثاني: سَلَّمنا أَنَّ المحبةَ نفسُ الارادة، لكن قوله تعالى {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205] لا يُفيد العُموم؛ لأنَّ الألف واللاَّم الداخلتين في اللفظ لا يُفيدان العمومَ، ثم يهدم كلامهم وجهان:
الأول: أَنَّ قُدرة العبد صالحةٌ للإصلاح، والفساد؛ فترجُّحُ الفساد على الصلاح إِنْ وقع لا لمُرجح، لزم نفيُ الصانعِ، وإنْ وقع لمرجح، فذلك المرجّح لا بُدَّ وأنْ يكونَ من اللَّهِ؛ وإِلاَّ لَزِمَ التسلسلُ، فثبت أَنَّ اللَّهَ سُبحانه هو المرجح لجانب الفساد، فكيف يعقِلُ أَنْ يُقالِ إِنَّهُ لا يريده؟
والثاني: أَنَّهُ عالِمٌ بوقوع الفسادِ، فإن أراد أَلاَّ يقع الفسادُ، لزم أَنْ يُقال: إِنَّه أَراد أَنْ يقلب علم نفسه جهلاً، وذلك مُحَالٌ.
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} : هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمين في نظيرتها، أَعْني: كونها مستأنفةً، أو معطوفة على «يُعجِبُك» ، وقد تقدَّم الخلافُ في الذي قام مقام الفاعل عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} [البقرة: 11] .
قوله: «أخذَتْهُ العزَّةُ» ، أي حملتُه العِزَّةُ وحَمِيَّةُ الجاهلية على الفعل.
قوله: «بالإثم» أي: بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنْ تكونَ للتعديةِ، وهو قول الزمخشري فإنه قال: «أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه، وأَلْزَمْتهُ إياه، أي: حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه» قال أبو حيان: «وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ، نحو: {ذَهَبَ الله} [البقرة: 17] ، {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] ، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو:» صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ «أي: جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ» .
الثاني: أَنْ تكونَ للسببيةِ، بمعنى أنَّ إثمّه كان سبباً لأخذِ العِزَّة له؛ كما في قوله: [الرمل]
1015 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
فتكونُ الباءُ بمعنى اللام، فتقول: فعلت هذا بسببك، ولسببك، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ، وبجنايَتهِ.
الثالث: أن تكونَ للمصاحبة؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِن وفيها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أَنْ تكون حالاً مِنَ «العِزَّة» أي: مُلْتبسةً بالإِثمِ.(3/464)
والثاني: أن تكونَ حالاً من المفعولِ، أي: أَخَذَتْهُ مُلْتبساً بالإِثمِ.
قال القُرطبيُّ: وقيل: «الباءُ» بمعنى «مَعَ» أي: أخذته العِزَّةُ مع الإثم.
وفي قوله: «العِزَّةُ بالإِثْم» من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً.
فَمِنْ مَجِيئها محمودةً: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة؛ فقيل: «بالإِثْمِ» تَتْمِيماً للمرادِ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها.
فصل
اعلم أَنَّ اللَّهَ سُبحانه وتعالى حكى عن هذا المنافق أفعالاً مَذْمُومةً وهي اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدُّنيا، واستشهادة باللَّهِ كذباً ولجاجةً في أبطالِ الحقِّ وإثبات الباطلِ، وسعيُه في الأَرْض بالفَسَادِ، وإهلاكُ الحربِ والنَّسْلِ، وكُلُّها أفعالٌ قَبِيحةٌ، فالظاهِرُ مِنْ قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} أَنْ يُصْرفَ إلى الكلّ؛ لأنَّ صَرْفَهُ إلى البعض ليس أولى من البعض، فكأَنَّهُ قيل له: اتَّقِ اللَّهِ في إِهْلاك الحرثِ والنَّسْل، وفي السَّعي بالفَسَادِ، وفي الَّجاجِ في إِبطَالِ الحقِّ ونُصْرة الباطلِ، وفي الاستشهاد باللَّهِ كذباً، وفي الحرص على طَلَبِ الدُّنْيا.
وقيل: قوله: {أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} راجِعٌ إلى أنه قيل له: اتَّقِ اللَّهَ فقط؛ على ما سيأتي، فيكُون معنى الآية الكريمة أنَّ الموصوف بهذه الصِّفات هو الَّذي إِذَا قيل له: اتَّقِ الله، أَخَذَتْهُ العِزةُ بالإثم؛ فحَسْبُهُ جَهَنَّم.
و «العِزَّةُ» القوَّةُ والغلبةُ مِنْ: عَزَّهُ يَعُزُّه، إِذا غلبهُ، ومنه {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23] .
وقيل: العزَّةُ هُنا: الحمِيَّة؛ قال الشَّاعرُ: [الرَّمل]
1016 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
وقيل: العِزَّةُ هنا: المَنَعةُ وشِدَّةُ النَّفسِ، أي: اعتَزَّ في نفسه، فأَوقعَتْهُ تِلْك العزَّةُ في الإِثمِ، وألزمتْهُ إيَّاه.
قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} ، «حَسْبُهُ» مبتدأٌ، و «جهنَّمُ» خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل: «جَهَنَّمُ» فاعلٌ ب «حَسْبَ» ، ثُمَّ اختلف القائِلُ بذلك في «حَسْب» فَقِيل: هو بمعنى اسم الفاعلِ، أي: الكافي، وهو في الأَصْلِ مصدرٌ أُريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ -(3/465)
سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَويَ «حَسْبُ» لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه مَعْنَى كلام أبي البقاء.
وقيل: بل «حَسْبُ» اسمُ فِعْلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ؛ فقيل: اسمُ [فِعْلٍ] ماضٍ، أي: كَفَاهُمْ وقِيل: فعلُ أمرٍ، أي: لِيَكفِيهم، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حُرُوفِ الجَرِّ عليه يَمْنع كونه اسم فعل.
وقد تلخَّصَ أَنَّ «حَسْبِ» هل هو بمعنى اسم الفاعل وأَصْلُه مصدرٌ، أو اسمُ فعلٍ مَاضٍ، أو فِعْلُ أَمْر؟ وهو مِنَ الأَسماءِ اللازمةِ للإِضَافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافته إلى معرفةٍ؛ تقولُ: مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأً؛ فيُجَرُّ بباءٍ زائدةٍ، وخبراً؛ فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثّنَّى ولا يُجْمَعُ، ولا يؤَنَّثُ، وإنْ وَقَعَ صفةً لهذه الأشياءِ.
و «جهنَّمُ» اخَتَلَفَ الناسُ فيها فقال يونس وأكثر النُّحاة: هي اسمٌ للنَّار التي يعذَّب بها في الآخِرةِ وهي أعجميةٌ وعُرِّبَتْ، وأَصْلُها كِهِنَّام، فمنعُها من الصرَّف لِلعلمية والعُجمةِ.
وقيل: بل هي عربيةُ الأَصْلِ، والقائلون، بذلك اختلَفوا في نُونِها: هل هي زائدةٌ، أمْ أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ، ووزنُها «فَعَنَّلُ» مُشتقةٌ من «رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ» ، أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم، وهو الكراهةُ، وقيل: بل نُونُها أصليَّةٌ، ووزنُها فَعَلَّل؛ ك «عَدَبَّسٍ» ؛ قال: لأن «فَعَنَّلاً» مفقودٌ في كلامِهِم، وجعل «زَوَنَّكاً» فَعَلَّلاً أيضاً؛ لأنَّ الواوَ أصلٌ في بنات الأربعةِ؛ ك «وَرَنْتَلٍ» ، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظٌ، قالوا: «ضَغَنَّطٌ» من الضَّغاطةِ، وهي الضَّخامةُ، و «سَفَنَّجٌ» و «هَجَنَّفٌ» لِلظّلِيم، والزَّوَنَّكُ: القصيرُ سُمِّيَ بذلك؛ لأنه يزوكُ في مِشْيَتِهِ، أي: يَتَبَخْتَرُ؛ قال حَسَّان: [الكامل]
1017 - أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى ... فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ
وهذا كلُّه يدُلُّ على أنَّ النُونَ زائدةٌ في «زَوَنَّكٍ» وعلى هذا فامتِناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ.
قوله: {وَلَبِئْسَ المهاد} المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ «المِهَادِ» وقعَ فاصِلةً. وتقدَّمَ الكلامُ على «بِئْسَ» وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ، أو مُبتَدأٌ محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ(3/466)
مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها؛ إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ، وليست مُعْترضةً، ولا مفسِّرةً، ولا صلةً. والمِهَادُ فيه قولان:
أحدهما: أَنَّهُ جَمْعُ «مَهْدٍ» ، وهو ما يُوطَّأُ للنوم قال تعالى: {فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون} [الذاريات: 48] .
والثاني: أنه اسمٌ مُفْردٌ، سُمِّيَ به الفِرَاشُ المُوَطَّأُ للنَّوم وقِيل: «المُسْتَقِر» كقوله تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} [إبراهيم: 29] وهذا مِنْ باب التَّهَكم والاستهزاءِ، أي: جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشُونَهُ؛ وهو كقوله: [الوافر]
1018 - وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
أي: القائمُ لهم مقامَ التحيةِ، الضربُ الوَجِيع.(3/467)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
لمَّا وصفَ في الآية المتقدِّمة حال مَنْ يبذلُ دِينَهُ لطلب الدُّنْيَا ذكر في هذه الآيةِ حالَ من يبذلُ دِينَه ونفسَهُ لطلب الدين، وفي سبب النزول رِوايات.
إحداها: عن ابن عبَّاسٍ، والضَّحَّاكِ: أَنَّها نزلَتْ فِي سريَّة الرَّجيع، وذلك أَنَّ كُفّار قريشٍ بعصوا إلى رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو بالمدينةِ، أَنَّا قد أَسلمنَا، فابعَثْ إلينا نَفَراً من علماءِ أَصْحابك؛ يُعَلِّمُوننَا دِينك، وكان ذلك مَكْراً مِنْهم فبعث إليهم خُبَبْبِ بن عديٍّ الأَنْصَارِيُّ وَمَرثد بن أبي مَرْثدٍ الغَنَويَّ، وخالد بن بُكَيرٍ، وعبد اللَّهِ بن طارِق بن شهابٍ البَلويَّ، وزيدَ بنَ الدَّثِنَّةِ، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِت بن أبي الأَقلَحِ الأَنْصَارِيّ.
قال أبو هريرة: بعثَ رسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عشرةٌ عَيْناً، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِتِ بنِ أَبي الأَقْلح الأَنصَاريَّ فسَرُوا، فَنَزلُوا بَطْنَ «الرَّجِيعِ» بين مَكَّةَ والمَدِينةِ، ومعهم تَمْرُ عَجْوَةٍ، فأكلوا فمرَّتْ عجوزٌ، فأبصرت النَّوَى، فرجعت إلى قومها بمكة، وقالت: قد سَلَكَ هذا الطريقَ أهلُ يثرِبَ مِنْ أَصْحابِ مُحمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فركِبَ سبعُونَ رَجُلاً منهم معهم الرِّماحُ، حتى أَحَاطُوا بهم.
وقال أبو هريرة: ذكروا الحيَّ من هُذَيل يقالُ لهم بنو لحيان، فنَفَرُوا لهم بقريب مِنْ مائة راجلٍ رامٍ، فَاقتَفوا آثارَهُم، حتَّى وجدوا مآكلهم التمر في منزلٍ نزلُوه؛ فقالوا: تَمْرُ يَثْرِبَ، فاتَّبعُوا آثارَهم، فلمَّا أَحَسَّ بهم عاصِمٌ وأصحابُه لجأوا إلى فَدْفَد، فأحاط بهم(3/467)
القومُ، فقتلوا مَرْثَداً وخَالِداً وعبد اللَّهِ بن طارقٍ، ونثر عاصِمُ بنُ ثابتٍ كنانَتَهُ، وفيها سبعة أَسهُمٍ، فقتل بكُلِّ سَهْمٍ رَجُلاً مِنْ عُظَماءِ المُشْرِكينَ، ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ، إِنِّي قد حميتُ دِينك صدْرَ النهارِ فاحْمِ لَحْمِي آخر النهارِ، ثُمَّ أَحاطَ به المشركُونَ فقتلُوه، فَلَمَّا قتلوه أَرَادُوا جَزَّ رَأْسِهِ؛ ليبيعُوه من سُلاَفة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نَذَرتْ حين أصاب ابنها يومَ أُحُد لَئِنْ قدرتْ على رأسِ عاصم لتشربنَّ في قِحْفه الخمرَ، فأرسل الله رجلاً من الدَّبْرِ، وهي الزَّنابِيرُ، فحمتْ عاصِماً، فلم يقدِرُوا عليه، فسُمِّي حميَّ الدَّبْرِ، فقالوا: دعوه حتى نُمْسِيَ، فتذهب عنه، فنأْخُذَه، فجاءت سَحَابَةٌ سوداُ، وأمطرتْ مطراً كالغزالِ فبعث اللَّهُ الوادي غديراً فاحتمَل عاصِماً به فذهب به إلى الجَنَّة، وحَمَل خَمسِين من المشركينَ إلى النار.
وكان عاصِمٌ قد أَعْطى اللَّهَ عَهْداً ألاَّ يمسَّهُ مُشْركٌ ولا يَمَسَّ مُشْركاً أبداً، فمنعه اللَّهُ، وكان عُمَر بنُ الخطَّاب يقولُ حين بلغه أَنَّ الدَّبْرَ منعتهُ: عجباً لحِفظ اللَّهِ العَبْدَ المؤمِنَ، كان عاصِمٌ نَذَرَ ألاَّ يَمَسَّهُ مشركٌ، ولا يسَّ مُشرِكاً أبداً، فمنعه اللَّهُ بعد وفاتِه، كما امتنع عاصم في حياته، وأسر المشركون خُبَيْب بن عديٍّ، وزيد بنَ الدَّثِنَّةٍ، فذهبوا بهما إلى مكةَ، فأمَّا خُبَيْتبٌ فابتاعه بنو الحارث بن عامرٍ بن نَوفل بن عبدَ مُنافٍ؛ ليقتلُوه بأبيهم، وكان خُبيب هو الذي قتل الحارِثَ يومَ بدرسن فلبث خُبَيبٌ عندهم أسيراً، حتَّى أجمعوا على قتلِه، فاستعار مِنْ بعض بنات الحارثِ مُوسى ليستحِدَّ بِهَا، فأعارتهُ، فدرج بُنيٌّ لها، وهي غافِلةٌ، فما راعَ المرأةَ إلاَّ خبيبٌ قد أَجْلَسَ الصَّبِيَّ على فَخذِهِن والمُوسى بيده، فصاحت المرأةُ، فقال خبيبٌ: أَتَخْشِينَ أن أَقْتُلَهُ؟ ما كنت لأفعل ذلك، إنّ الغدر ليس مِنْ شَأنِنا، فقالت المرأةُ: واللَّهِ ما رأيْتُ أسيراً خيراً من خُبَيْبٍ؛ واللَّهِ لقد وجدتُه يوماً يأكُلُ قطفاً من عِنَبٍ في يَدِهِ، وإنه لموثقٌ بالحديدِ، وما بمكة من ثَمرةٍ، إن كان إلاَّ رِزْقاً رزقه اللَّهُ خُبَيْباًن ثم إِنَّهم خرجوا به من الحرم ليقتُلُوه في الحِلِّ، وأَرَادثوا أَنْ يصلبُوهُ، فقال لهم خبَيبٌ: دعوني أُصَلِّي ركعتَينِ؛ فتركوه، فكان خُبَيْبٌ هو الذي سَنَّ لكل مُسْلم قُتِلَ صَبْراً الصلاةَ، فركع ركعتين، ثُمَّ قال خَبَيْبٌ: لولا أَنْ يَحْسَبُوا أنَّ ما بي من جزعٍ لزّدتُ، اللهمَّ أَحْصِهم عَدَداً؛ وَاقْتُلهم بَدَداً، ولا تُبْقِ منهم أَحَداً وأنشأ يقولُ: [الطويل]
1019 - وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذلِكَ فِي ذَاتِ الإلهِ وإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّع
فصَلبُوه حَيَّاً؛ اللَّهُمَّ إشنَّك تعلمُ أَنَّهُ ليس أَحَدٌ حَوْلِي يبلّغ سَلامِي رسولَك فأبلغهُ سَلامِين ثم قام أبُو سَروعةَ عُتبَةُ بنُ الحارِثِ فَقَتَله، ويُقَال: كان رجلاً من المشركين يُقالُ له سَلاَمانَ أَبُوا مَيْسَرة، معه رُمْح فوضعه بي ثَدْيي خُبيبٍ، فقال له خُبَيْبٌ:(3/468)
اتَّقِ اللَّهَ، فما زاده ذلك إِلاَّ عُتُوّاً، فطعنه فأَنفذه، وذلك قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} [البقرة: 206] يعني سَلاَمَانَ.
وأَمَّا زيدُ بنُ الدثنة، فابتاعه صفوانُ بنُ أُميَّة؛ ليقلته بأبيه، أُمية بن خلفٍ، فبعثه مع مَوْلى له يُسَمَّى نسطاس إلى التنعيم، ليقتُلهُ، واجتمع رهطٌ مِنْ قُريشٍ فيهم أبو سُفيان بن حربٍ، فقال له أبو سفيان حين قُدِّمَ ليُقْتَل: أَنْشدك اللَّهَ يا زيدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ محمداً عندنا الآن بمكانك، وتُضْرُب عنقُه وإِنَّك في أَهلك؟ فقال: واللَّهِ ما أحبُّ أَنَّ محمداً الآنَ في مكانِه الذي هو فيه تُصيبُه شوكَةٌ تُؤذيه، وأَنا جالِسٌ في أَهْلِي، فقال أَبُو سُفيانَ: ما رأيتُ أحداً من الناس يُحِبُّ أحداً كَحُبِّ أصحاب مُحَمَّدٍ، ثم قتله نِسْطَاسُ.
فلمَّا بلغ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا الخبرُ، قال لأَصحابهِ: «أَيُّكُمْ ينزل خُبَيْباً عن خَشَبته وله الجنةُ» فقال الزُّبَيْرُ أنا يا رَسُول اللَّهِ، وَصَاحِبي المقدادُ بنُ الأَسُودِ، فخرجا يمشيان في الليلِ، ويكمُنانِ بالنهار، حتَّى أََتَيَا التنعيم ليلاً، وإذا حولَ الخَشَبةِ أربعون رجُلاً من المشركين نائمون نشاوى، فَأَنْزَلاَهُ، فإذا هو رَطْبٌ يَنْثَنِي، لم يتغيّرْ بعد أربعين يوماً، ويده على جراحتِه، وهي تَبصُّ دَماً اللونُ لَوْنُ الدّمِ، والريحُ ريحُ المسْكِ، فحمله الزبيرُ على فرسِه، وساروا؛ فانتبه الكفارُ وقد فقدوا خُبَيْباً، فأخبروا قُرَيْشاً، فركب منهم سبعُون رجلاً، فلمَّا لحقوهما قذَفَ الزبيرُ خُبَيْباً؛ فابتلعته الأرضُ فَسُمِّيَ بليعَ الأَرضِ، وقال الزبيرُ: ما جَرَّأكُمْ علينا يا مَعشَر قريشٍ؛ ثم رفع العمامةً عن رأْسِه، وقال: أَنَا الزُّبير بنُ العَوَّام، وأُمِّي صفِيَّةُ بنتُ عبد المطلبِ، وصاحبي المِقدادُ بنُ الأَسُوَدِ، أَسَدَانِ رَابضانِ يَدْفعانِ عن شِبْلهما، فإن شئْتم نازلْتُكم، وإن شِئْتُم انصَرفْتُم. فانصرفا إلى مَكَّة، وقدِما على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وجبريلُ عِنْده، فقال: يا محمدُ، إِنَّ الملائكة لَتُبَاهِي بهذين من أصحابك «
، فنزل في الزُّبَيْر والمِقْداد {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله} [البقرة: 207] حين شرِيا أنفسَهُمَا لإِنْزَالِ خُبَيْبٍ عن خَشَبَته.
وقال أكثرُ المفسِّرين: نزلت في صُهَيب بن سِنان، مَوْلى عبد اللَّهِ بنِ جُدْعانَ الرُّومِيِّ، وفي عمَّارِ بن ياسِرٍ، وفي سُمَيَّة أُمَّه، وفي ياسِرٍ أَبيه، وفي بلالٍ مَوْلَى أبي بَكرٍ، وفي خَبَّاب بن الأَرَتّ وفي عابس مَوْلَى حُوَيْطِب؛ أخذَهُم المشرِكُون فَعَذَّبوهم؛ فقال لهم صُهَيبٌ: إِنِّي شيخٌ كَبيرٌ لا يَضُرُّكُمْ أَمِنْكُمْ كُنْتُ أم مِن عَدوِّكم فهل لكم أَنْ تَأْخُذُوا مَالِي، وتذَرُوني؟ ففعلوا، وكان شرط عليهم راحلةً ونَفَقَةً، فأقام بمكةَ ما شاء اللَّهُ، ثم خرج إلى المدينَةِ، فتَلَقَّاهُ أَبُو بكرٍ وعُمرُ في رجال فقال له أَبُو بَكْرٍ: رَبَحَ بَيْعُكَ يا أَبَا يَحيى؛ فقال: وبيعُكَ فلا تخسر ما ذاك؟ فقال: أنزل اللَّهُ فيك كذا وقرأ عليه الآية.(3/469)
وأمَّا خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ وأَبُو ذَرٍّ ففرَّا إلى المدينة، وأَمَّا سُمَيَّةُ فَرُبطَتْ بين بعيرين ثم قُتلت، وقُتل ياسِرٌ.
وَأَمَّا البَاقُونَ: فأَعْطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركُون، فتُرِكُوا، وفيهم نزل قوله تعالى: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} [النحل: 41] بتعذيب أهل مكة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً} [النحل: 41] بالنَّصر والغنيمة، {وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ} ، وفيهم أُنْزِلَ {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً} [النحل: 106] .
وقال سعيدُ بن المُسَيِّب، وعَطَاء: أقبل صُهَيبٌ مهاجراً نحو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاتَّبعُه نفرٌ من مُشركِي قريش، فنزل عن راحِلَته، ونَثَلَ ما في كِنانته، ثُمَّ قال: يا معشَرَ قريشٍ، لقد علمتُمْ أَنِّي لَمِنْ أَرْماكُم رَجُلاً، واللَّهِ لا أضع سَهْماً من كِنَانتي إِلاَّ في قَلْبِ رجلٍ منكم وَأَيْمُ اللَّهِ، لا تَصِلُون إِليَّ حتى أَرْمِي بكل سَهْمٍ في كِنَانتي، ثم أَضْربُ بسيفي ما بَقِيَ في يَدِي، ثم افعلُوا ما شِئْتم، وإن شئتم دَلَلْتُكُمْ على مالِي بمكة وخلَّيْتُم سَبِيلي.
قالُوا: نَعَمْ، ففعل ذلك، فنزلت الآيةُ وقال الحسنُ: أَتَدْرُونَ فِيمن نزلت هذه الآية؟ نزلَت في المُسْلِم يلْقَى الكافِر فيقولُ له: قُلْ لا إِله إلاَّ اللَّهُ، فيَأْبَى أَنْ يقولَهَا، فيقولُ المسلِم: واللَّهِ لأشترينَّ من نفسي لِلَّهِ، فيتقدَّم فيقاتِلُ حَتَّى يقتل.
ورُوِيَ عن عُمر، وعَلِيٍّ، وابنِ عبَّاسِ: أَنَّها نزلت في الأَمر بالمعرُوفِ، والنَّهي عن المُنْكَرِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: أرى مَنْ يَشْري نفسهُ ابتغاءَ مرضاة الله يقومُ فيأْمُر هذا بتقوى اللَّهِ، فإذا لم يقبْل، وأخذته العزَّةُ بالإِثْم، قال هذا: وأنا أَشْرِي نَفْسي فيقاتله، وكان إذا قرأ هذه الآيةَ يقولُ: اقتتلا وربِّ الكَعْبةِ، وسَمِعَ عمرُ بنُ الخطَّابِ إِنساناً يقرأ هذه الآية؛ فقال عُمَرُ: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إليه راجعون، قام رجلٌ يأمرُ بالمعرُوفِ وينهى عن المُنْكَرِ فَقُتِلَ.(3/470)
وقيل: نزلت في عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي اللَّهُ عنه - باتَ على فِراشِ رسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلةً خُروجهِ لى الغار.
قوله تعالى: «مَنْ يَشْرِي» : في «مَنْ» الوجهانِ المتقدِّمان في «مَن» الأُولَى، ومعنى يَشْرى: يَبيعُ؛ قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] ، إِنْ أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخِرة، وقال [مجزوء الكامل]
1020 - وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ
قال القُرْطبيُّ: بُرْدٌ هنا اسم غلامٍ. فالمعنى: يَبُذُل نفسَه في اللَّهِ، وقيل: بل هو على أصلِهِ من الشِّراء.
قوله: «ابتغاءَ» منصوبٌ على أنه مفعولٌ مِنْ أجله، والشروطُ المقتضيةُ للنصب موجودةٌ، والصَّحِيحُ أنَّ إضافَة المفعولِ له مَحْضَةٌ، خلافاً للجرْمِي، والمُبْرِّد، والرِّيَاشي، وجماعةٍ مِنَ المتأخِّرينَ.
و «مَرْضَاةً» مصدرٌ منيٌّ على تَاءِ التأنيثِ كَمَدْعَاة، والقياسُ تجريدُهُ عنها؛ نحو: مَغْزى، ومَرْمى. قال القُرطبِيُّ: والمَرْضَاةُ، الرِّضَا، تقولُ: رَضِيَ يَرْضى رِضاً وَمَرْضَاة ووقَفَ حمزةُ عليها بالتاءِ، وذلك لِوَجْهَين:
أحدهما: أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ قال القائل في ذلك: [الرجز]
1021 - دَارٌ لسَلْمَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ ... بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الجَحَفتْ
وقد حكى هذه اللُّغة عن سيبويه.
والثاني: أَنْ يكونَ وَقَفَ على نِيَّة الإِضَافة، كأَنَّه نوى لفظَ المضافِ إليه؛ لشدةِ اتِّصال المُتَضَايفيْنِ، فأَقَرَّ التاءَ على حالِها؛ مَنْبَهَةً على ذلك، وهذا كما أَشمُّوا الحرفَ(3/471)
المضْمُوم؛ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها، وقَدْ أَمالَ الكِسَائيُّ ووَرْشٌ «مَرْضَات» .
وفي قوله: «بِالْعِبَادِ» خُرُوجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إِلَى الاسْم الظَّاهِرِ؛ إذ كان الأَصْلُ «رَؤوفٌ بِهِ» أَوْ «بِهِمْ» وفائدةُ هذا الخُروجِ أنَّ لفظَ «العِبَادِ» يُؤْذِنُ بالتشرِيف، أو لأنه فاصلةٌ فاختير لذلك.
فصل
إِذَا قُلأنا بأنَّ المراد من هذا الشراءِ البيعُ، فتحقيقُه أَنَّ المكلَّفَ باعَ نَفسَه بثوابِ الآخرَةِ، وهذا البيعُ هو أنَّهُ بَذلَها في طاعةِ اللَّهِ تعالى من الصلاةِ، والصيام، والحج والجهاد، ثم يتوصل بذلك إلى وجدان ثَوَابِ الله تعالى فكان ما يبذلُه مِنْ نفْسِه كالسِّلْعةِ، فكأَنَّهُ كالبائِع، واللَّهُ كالمشتري؛ كما قال: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] وقد سَمَّى اللَّهُ تعالى ذلك تِجَارةً، فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}
[الصف: 10، 11} وإِنْ أَجْرَينا الآيةَ على ظاهِرهَا، وقُلنا: إِنَّ المرادَ هو الشراءُن فإن مَنْ أَقْدَم على الكُفْرِ، والتوسُّعِ في مَلاذِّ الدنيا، والإِعْراض عن الآخرة، وقَعَ في العذاب الدَّائِمِ، فصار كَأَنَّ نَفْسَهُ كانت له، فبسبب الكُفْرِ والفِسْقِ خَرجَتْ عن مِلْكه، وصارت حَقّاً للنار، فإذا ترك الكفر والفِسْق، وأقبل على الإِيمان والطاعةِ صار كأنه اشْترى نَفْسَهُ من النار والعذاب.
فإن قيلَ: إن الله تعالى جعل نَفْسَهُ مُشْترياً بقوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} وهذا يمنع كَونَ المؤمنِ مُشْتَرِياً.
فالجوابُ: أنه لا مُنَافَاةَ بين الأَمْرين؛ فهو كمن اشترى ثوْباً بعبدٍ، فكل واحد منهما بائع ومُشْتَرٍ فكذا هَا هُنَا.
فصل
يدخُلُ تحتَ هذا كُلُّ مَشَقَّةٍ يتحملها الإنسانُ في طلَبِ الدِّين؛ كالجهادِ والصابر على القَتْلِ، كَقَتْلِ والد عَمَّار وأُمِّه، والآبق مِنَ الكُفَّارِ إلى المسلمين، والمُشْترِي نفسَهُ من الكفار بِمَالِه، كفعل صُهَيبٍ، وَمَنْ يُظْهِرُ الدين والحقَّ عِنْدَ السلطان الجائِر.
رُوِيَ أَنَّ عُمَر - رضي اللَّهُ عنه - بعثَ جَيْشاً، فحاصَرُوا قَصْراً، فتقدَّم منهم وَاحِدٌ(3/472)
فقاتل حتى قُتِلَ، فقال بعضُ القَوْمِ: أَلْقَى بيده إلى التَّهْلكةِ فقال عمرُ: كَذَبْتُم، يرحمُ اللَّهُ أَبَا فُلانٍ. وقرأ {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} واعلَمْ أَنَّ المشقَّةَ التي يتحملَّلُها الإنسان لا بُدَّ وأَنْ تكونَ على وَفْقِ الشَّرع حتى يدخل بسببه تحت الآية، أَمَّا لو كانَ على خِلاَفِ الشرع فلا يَدْخُلُ فيها، بل يَعَدُّ ذلك مِنْ إِلْقَاء النَّفْس إلى التَّهْلَكَة؛ كما لو خاف التَّلَفَ عند الاغتسال مِنَ الجنَابة ففعل.
قوله: {والله رَؤُوفٌ بالعباد} فمن رَأْفَتِهِ أنه جعل النَّعِيمَ الدَّائِمَ جزاءً على العَمَلِ القَلِيلِ المُنْقَطِع، ومن رَأْفته جَوَّز لهم كلمة الكفرِ إبْقَاء على النفس، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ لا يكلف نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها، ومِنْ رأْفَتِه ورحمته أن المُصِرَّ على الكُفْرِ مائة سَنَةٍ، إذا تاب - وَلَوْ في لَحْظةٍ - أسقط عنه عِقَابَ تِلْك السنين، وأعطاه الثوابَ الدائم.
وَمِنْ أْفتِه أَنَّ النفسَ لَهُ والمَال، ثم إِنَّهُ يَشْتَرِي ملكه بمكلِه؛ فَضْلاً منه ورحمة وإحْسَاناً وامْتِنَاناً.(3/473)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
قوله: «السِّلْم» قرأ هنا «السَّلْم» بالفتح نافعٌ، والكِسائيُّ، وابنُ كثيرٍ، والبَاقُونَ بالكَسْر، وأمَّا التي في الأَنْفال [آية 61] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ أَبُو بكرٍ وحدَه، عَنْ عاصِمٍ، والتي في القِتال [آية: 35] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ حمزةُ وأَبُو بكرٍ أيضاً، وسيأتي. فقِيل: هَما بمعنىً، وهو الصلحُ مثل رَطْل ورِطْل وجَسْر وجِسْر وهو يُذَكَّر ويُؤَنَّث، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} ، وحَكَوْا: «بَنُوا فُلانٍ سِلْمٌ، وسَلْمٌ» ، وأصلُه من الاسْتِسْلاَمِ، وهو الانقيادُ، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] الإسلامُ: إسلامٌ الهدي، والسِّلْم على الصُّلْح، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى؛ لأَنَّ كُلَّ واحدٍ كَصَاحِبهِ، ويُطْلَقُ على الإِسلاَم قاله الكِسَائي وجماعةٌ؛ وأنشدوا: [الوافر](3/473)
1022 - دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا ... رَأيْتُهُمُ تَوَلَّوا مُدْبِرينَا
يُنْشَدُ بالكَسْرِ، وقال آخرُ في المفتُوحِ: [البسيط]
1023 - شَرَائِعُ السَّلْمِ قَدْ بَانَتْ مَعَلِمُهَا ... فَما يَرَى الكُفْرَ إِلاَّ مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتَيْنِ بمعنى الإِسْلاَم، إلاَّ أنَّ الفَتْحَ فيما هو بمعنى الإِسلام قليل، وقرأ الأَعْمشُ بفتح السِّين واللامِ «السَّلَم» .
وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكَسْرِ الإِسلامُ، وبالفتحِ الصلحُ.
قال أبُو عُبَيدة: وفيه ثلاثُ لُغَاتٍ: السَّلْم والسِّلْم والسُّلْم بالفَتْح والكَسْر والضمِّ.
«كافةً» مَنْصُوبٌ على الحالِ، وفي صَاحِبهَا ثلاثةُ أقوالٍ.
أظهرها: أنه الفاعلُ في «ادْخُلُوا» ، والمعنَى: ادخُلُوا السِّلْم جميعاً، وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ، فإنَّ قولَكَ: «قام القومُ كافةً» بمنزلةِ: قَامُوا كلُّهم.
والثاني: أنه «السِّلْمُ» قالهُ الزَّمخشريُّ، وأَبُوا البقاءِ، قال الزمخشريُّ: ويَجُوزُ أن تكونَ «كافةً» حالاً من «السِّلْمِ» ؛ لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحَرْبُ؛ قال الشاعر: [البسيط]
1024 - السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... والحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِها جُرَعُ
على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أَنْ يدْخُلُوا في الطاعاتِ كُلِّها، ولا يَدْخُلوا في طَاعةٍ دونَ طاعةٍ، قال أَبُوا حيَّان تَعْلِيلُه كونُ «كافةً» حالاً مِنَ «السِّلْم» بقولِه: «لأَنَّها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب» ليس بشيءٍ؛ لأنَّ التاءَ في «كَافَّة» ليست للتأنيثِ، وإن كان أَصْلُها أَنْ تَدُلَّ عليه، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إِلى مَعْنَى جميعٍ وكُلٍّ، كما صار قاطبةً وعامَّة، إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً.
فإذا قلت: «قامَ الناسُ كَافةً، وقَاطِبةً» لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأْنِيثِ، كما لا يَدُلُّ عليه «كُلّ» و «جميع» .
والثالث: أَنْ يكونَ صاحبُ الحالِ هما جَمِيعاً: أضعْنِي فاعلَ «ادْخُلُوا» و «السِّلْم» فتكونُ حالاً مِنْ شَيْئَين.
وهذا ما أجازه ابنُ عطيةَ فإنه قال: وتَسْتَغْرقُ «كافة» حنيئذٍ المؤمِنين، وجميعَ أجزاءِ(3/474)
الشَّرْع، فتكونُ الحالُ مِنْ شَيْئَيْن وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ:
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 37] . ثم قال بعد كلامٍ: وكافةً معناه جميعاً، فالمراد بالكافّةِ الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها.
وقوله: «نحو قوله فَأَتَّتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُه» يعني أنَّ «تَحْمِلُهُ» حالٌ مِنْ فاعِل «أَتَتْ» ومِنَ الهاء في «بِهِ» قال أبو حيَّان: «هذا المِثَالُ ليس مُطَابِقاً لِلْحَالِ من شَيئينِ لأنَّ لفظَ» تَحْمِلُهُ «لا يحتمل شيئَيْن، ولا تقع الحالُ مِنْ شيئينِ إِلاَّ إِذَا كان اللفظُ يحتملهما، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذَوِي الحالِ مُبْتدأَيْنِ، وجعل تلك الحالَ خبراً عنهما، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ؛ نحو قوله [الطويل]
1025 - وَعُلِّقُتُ سَلْمَى وَهْيَ ذَاتُ مُوَصَّدٍ ... وَلَمْ يَبْدُ للأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ تَرْعَى البَهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا ... إِلَى اليَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ ولَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ
فصغيرَين حالٌ من فاعل» عُلِّقْتُ «ومِنْ» سَلْمَى «لأنك لو قُلْت: أنا وسَلْمى صَغِيرانِ لَصَحَّ ومثلُه قولُ امرِئ القَيس: [الطويل]
1026 - خَرَجْتُ بِهَا نَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا ... عَلَى أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
فنْمشِي حالُ من فاعل» خَرَجْتُ «، ومِنْ» هَا «في» بِهَا «؛ لأنَّك لو قلتَ:» أنا وهي نمشي «لصَحَّ، ولذلك أَعْرَب المُعْرِبُونَ» نَمْشِي «حَالاً مِنْهُما، كما تَقَدَّم، و» تَجُرُّ «حالاً مِنْ» هَا «في» بِهَا «، فقط؛ لأنه لا يصلُحُ أن تجعل» تَجُرُّ «خبراً عنهما، لو قلتَ:» أنا وهي تَجرُّ «لم يَصِحَّ؛ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو» جارَّة «وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثْنين، لم يَصِحَّ؛ فكذلك» تَحْمِلُهُ «لا يَصْلُح أَنْ يكون خَبَراً عن اثنين، فلا يَصِحُّ أَنْ يكونَ حالاً منهما، وأمَّا» كَافّة «فإنها بمعنى» جَمِيع «، و» جمِيع «يَصِحُّ فيها ذلك، لا يُقالُ:» كَافَّة «لا يَصحُّ وقوعُها خَبَراً، لو قلتَ:» الزَّيْدُونَ وَالْعَمْرُونَ كَافَّةً «لم يجزْ، فلذلك لا تقعُ حالاً؛ لا مِنْ مانع معنوي، بدليلِ أنَّ مرادِفَها وهو» جَمِيع «و» كُلّ «يُخْبَرُ به، فالعارِضُ المانِعُ ل» كافَّة «من التصرُّفِ لا يَضُرُّ، وقولُه:» الجماعةُ الَّتِي تَكُفُّ مخالِيفها «يعني: أَنَّها في الأصْلِ كذلك، ثم صار اسْتِعْمالُها بمعنى جَمِيع وكُلّ» .
واعْلَمْ أنَّ أَصْلَ «كافة» اسمُ فاعلٍ مِنْ كَفَّ يَكُفُّ، أي: مَنَع، ومنه «كَفُّ الإِنسان» ؛(3/475)
لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه، و «كِفّة المِيزَانِ» لجمعها الموزون، ويقالُ: كَفَفْتُ فُلاَناً عن السُّوء، أي: منعتُه، ورجل مَكْفُوفٌ، أي: كُفَّ بَصَرُهُ مِنْ أَنْيبصر، وَالكُفَّةُ - بالضَّمِّ - لكل مستطيلٍ، وبالكَسْرِ، لكلِّ مُسْتدِير.
وقيل: «كافة» مصدرٌ كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة مِمَّا لَزم نصبُها على الحالِ، فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ.
فصل
لمَّا بيَّن الله - تعالى - أقسامَ النَّاسِن وأنهم يَنْقَسِمون إلى مُؤْمنٍ، وكافِرٍ، ومُنَافِق قال هاهنا: كُونَوا على مِلَّة واحدة، على الإسلام، واثْبتُوا عليه.
قال ابنُ الخطيب: حمل أكثرُ المفسرِين السِّلْمَ على الإسلامِ، وفيه إِشكالٌ؛ لأنه يَصِيرُ التقدِيرُ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنثوا ادخُلُوا في الإِسْلام، والإِيمانُ هو الإسلامُ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك لا يَجوزُ، فلهذا ذكر المفسرون وُجُوهاً.
أحدها: أَنَّ المرادَ بالآيةِ المنافقُونَ، والتقديرُ: يا أَيُّهَا الذي آمنوا بأَلْسنتِهم ادخلُوا بكُلِّيتِكُمْ في الإسلام، ولا تَتَّبعُوا خطواتِ الشيطانِ، أي آثار تَزيينه، وغروره في الإِقامةِ على النِّفاقِ، واحتجوا على هذه بالآيةِ، فهذا التأويلُ على أَنَّ هذه الآيةَ إِنَّما وردت عَقِيبُ مَا مَضَى من ذكر المنافقين وهو قولُه: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} [البقرة: 204] «الآية» فلمَّا وصفهم بما ذكر، دعاهم في هذه الآيةِ إلى الإيمان بالقلب، وترك النفاق.
وثانيها: رُوِيَ أَنَّ هذه الآية نزلتُ في طائفةٍ من مُسْلِمي أهل الكتاب: «عَبْد اللَّهِ ابن سَلامٍ» وأصحابِهِ، وذلك لأنهم كانوا يُعظِّمون السَّبْتَ، ويكرهون لُحْمَان الإِبِل، بعدما أَسْلَموا وقالوا: يَا رسُولَ اللَّهِ: إِنَّ التوراةَ كتابُ اللَّهِ، فدعْنَا فلنقم بها في صَلاتِنا باللَّيْلِ، فأمرهم اللَّهُ بهذه الآيةِ أَنْ يدخُلُوا في السِّلْم كافَّةً [أي: في شَرَائِعِ الإِسَلام كافة] ولا يتمسَّكُوا بشَيْءٍ من أَحْكامِ التوراة، اعتقاداً له وعملاً به، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطانِ في التمسُّكِ بأْحْكامِ التوراة بَعْدَ أَنْ عرفْتُم أنها صارت مَنْسُوخةً، وقائِلُ هذا القولِ جعل «كَافَّةً» من وصف «السِّلْم» ، كأنه قِيلَ: ادخُلُوا في جميع شَعائِر الإسلام اعتقاداً وعملاً.
وثالثها: أَنَّ هذا الخطابَ لأَهْلِ الكتابِ الَّذِينَ لم يؤمنوا بالنبي - عليه السلام - يَعْنِي: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا} . أي: بالكتاب المتقدم {ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} ، أي: آمنوا بجميع أنبيائه وكُتُبهم، وبمحمَّد، وكتابهِ على التمامِ، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطان في(3/476)
تحسينه الاقتصارَ على التوراةِ بسبب أَنَّهُ دِينٌ اتفق الكُلُّ على أنه حَقٌّ، بسبب أَنَّهُ جاء في التوارةِ: وتمسَّكُوا بالسبت ما دامتِ السمَواتُ والأَرْضُ، فيكون المرادُ من خُطُواتِ الشيطانِ الشبهات التي يتمسَّكُونَ بها في بَقَاءِ تلك الشريعة.
قال ابنُ عبَّاسٍ: نزلت الآيةُ في أهل الكتابِ، والمعنى: {ياأيها الذين آمَنُواْ} بِمُوسَى وعِيسَى «ادْخُلُوا» فِي الإِسْلاَمِ بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَافَّةً «.
وَروى» مُسْلِمٌ «عن أبي هريرة، عَنْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» والَّذِي نفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ، لا يَسْمَعُ بي أَحَدٌ مِنْ هذه الأمَّةِ يَهُوديٌّ ولا نَصْرَانيٌّ، ثُمَّ لَمْ يؤمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به إلاَّ كان مِنْ أَصحابِ النَّارِ «
ورابعها: أَنَّ المرادَ بهذا الخطابِ المسلِمُونَ، والمعنى: {ياأيها الذين آمَنُواْ} دُومُوا على الإسلام فيما بَقِيَ من العُمُرِ ولا تَخْرُجوا عنه {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} أي: ولا تلتفتوا إلى الشُّبُهاتِ التي يُلْقيها إليكم أصحابُ الضلالةِ والغوايةِ.
قال حُذَيفةُ بنُ اليمانِ في هذه الآيةِ: الإِسْلاَمُ ثمانيةُ أَسْهم: الصلاةُ سهمٌ، والزكاة سَهْمٌ، والصدقةُ سَهْمٌ، والحجُّ سَهْمٌ، والعمرةُ سَهْمٌ، والجهادُ سَهْم، والأمرُ بالمعروفِ سهمٌ، والنَّهْيُ عن المُنْكر سَهْمٌ، وقد خاب مَنْ لا سهم له.
فإنْ قيل: المؤمنُ الموصوفُ بالشيء يقُالُ له: دُمْ عَلَيْه، ولا يقالُ لهُ: ادخُلْ فيه، والمذكُور في الآيةِ هو قوله: «ادخلُوا» .
فالجوابُ: الكائن في الدار إذا علم أَنَّ له في المستقبل خروجاً عنها، فلا يمتنع أن يُؤْمَرَ بدخولها في المستقبل، وإن كان في الحال كائناً فيها؛ لأن حالَ كونهِ فيها غيرُ الحالةِ التي أُمِر أن يدخل فيها، فإذا كان في الوقْتِ الثاني قد يخرج عنها، صَحَّ أن يؤمر بدخُلولِها.
وقال آخرُونَ: المراد ب «السِّلْم» في الآية الصُّلح، وتركُ المحاربةِ والمُنَازَعةِ، والتقديرُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا ادْخُلُوا في السِّلْم كَافَّةً» أي: كُونُوا مُجْتَمِعينَ في نُصْرة الدين واحتمال البَلوَى فيه {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} بأَنْ يحملَكُم على طلب الدُّنْيَا، والمنازعةِ مع الناس، فهو كقوله: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ، وقوله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران] .(3/477)
قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} أي: لاَ تُطِعُوهُ فيما يدعُوكُمْ إليه، وتقدَّم الكلامُ على خطواته.
وقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} .
قال أبو مسلمٍ: مُبِين مِنْ صفاتِ البليغ الذي يُعرِبُ عن ضميره.
قال ابنُ الخطِيب: ويدلُّ على صحةِ هذا المعنى قوله {حموالكتاب المبين} [الدخان: 1 - 2] ولا يعنى بقوله «مُبين» إلاَّ ذلك. فإن قيلَ: كيف وصفُ الشيطانِ بأَنَّهُ مُبِينٌ مع أَنَّا لا نَرى ذاتَهُ، ولا نسمعُ كَلامَهُ؟
فالجوابُ أنه تعالى لَمَّا بَيَّنَ عداوتَهُ لآدمَ ونسلِه، فلذلك الأمرِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بأَنَّهُ عدوٌّ مبين، وإِنْ لم يشاهد؛ مثالُه: مَنْ يُظْهر عداوتهُ لرجلٍ في بلد بعيدٍ فقد يصح أن يُقال: إِنَّ فلاناً عدوٌّ مبينٌ لك وإن لم يشاهده في الحال.
قال ابنُ الخطيبِ: وعندي فيه وجهٌ آخرُ، وهو: أن الأصلَ في الإِبانَةِ القطع، والبيانُ إِنَّما سُمِّيَ بياناً لهذا المعنى فَإِنَّه يقطع بعضَ الاحتمالاتِ عن بعض، فوصْفُ الشيطانِ بأنه مبينٌ بيانُه: أنه يقطع الملكف بوسْوسَتِه عن طاعة الله وثوابِه.
فإن قيلَ: كون الشيطان عَدُوّاً لنا، إِمَّا أَنْ يكونَ بسببِ أنه يقصد إيصالَ الآلمِ والمكارِه إلَيْنَا في الحالِ، أو بسببِ أَنَّه بوسوستِه يمنعنا عن الدين والثواب، والأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لو كان كذلك لوقعنا في الأَمْراض والآلمِ وليس كذلك.
والثَّانِي - أيضاً - باطِلٌ؛ لأَنَّ مَنء قَبلِ منه تلك الوسْوَسَةَ فإنه أتي من قبل نفسه؛ لقولهِ:
{وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ} [إبراهيم: 11] وإذا كان الحالُ على ما ذكرناهُ، فكيف يُقالُ إنه عدوٌّ لَنَا؟
فالجوابُ: أَنَّهُ عَدُوٌّ من الوجهَينِ معاً أَمَّا من حيثُ أَنَّهُ يحاولُ إيصالَ البلاءِ إلينا، فهو كذلك إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ تعالى منعَهُ عن ذلك، ولا يلْزَمُ مِنْ كونه مُريداً لإيصال الضرِرِ إلينا أَنْ يكونَ قادِراً عليه، وأَمَّا من حيثُ إنه يقدم على الوسْوسَةِ، فمعلومٌ أَنَّ تزيينَ المعاصي وإلقاءَ الشبهاتِ، كُلُّ ذلك لوقوعِ الإنسانِ في الباطل وبه يصيرُ محروماً عن الثَّوابِ.
قوله تعالى: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ» الجمهور على «زَلَلْتُمْ» : بفتح العين، وأبو السَّمَّال قرأها(3/478)
بالكسر، فهما لغتان؛ كضلَلت، وضلِلت. و «ما» في «مِنْ بعدِما» مصدريَّةٌ، «مِنْ» بالبتداء الغاية، وهي متعلِّقةٌ ب «زَلَلْتُمْ» .
معنى «زَلَلْتُمْ» أي: ضللتم، وقيل: ملتم، يقال: زلَّت قدمه تزلُّ زلاًّ وزللاً، إذا دحضت، وأصل الزلل في القدم، واستعماله في الاعتقادات.
فصل
يروى عن ابن عباس: فإن زللتم في تحريم السَّبت، ولحم الإبل، {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} يعني محمَّداً وشرائعه، {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في كلِّ أفعاله، فعند هذا قالوا: لئن شئت يا رسول الله، لنتركنَّ كلَّ كتابٍ غير كتابك، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] ومن قال: إن الآية الأولى في المنافقين قال في هذه الآية كذلك.
فإن قيل: إنَّ الحكم المشروط إنما يحسن في حقِّ من لا يكون عالماً بعواقب الأمور، وأجاب قتادة عن ذلك فقال: قد علم أنَّهم سيزلون، ولكنه تعالى قدَّم ذلك، وأوعد فيه؛ ليكون له الحجَّة عليهم.
فصل
قوله: {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} يتناول جمع الدلائل العقليَّة والسمعيَّة.
أمَّا العقليَّة، فالعلم بحدوث العالم، وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بكلِّ المعلومات، قادراً على كل الممكنات، غنيّاً عن كل الحاجات.
وأمَّا السمعيَّة: فهي البيان الحاصل بالقرآن والسُّنَّة.
فصل
قال القرطبي: دلت الآية على أنَّ عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشَّرائع.
فصل
قال القاضي: دلَّت الآية على أنَّ المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاَّ بعد البيان، وإزاحة العلَّة، ودلت الية على أنَّ المتبر حصول البيِّنات، لا حوصل اليقين من المكلف.(3/479)
وقوله: «عَزِيزٌ» يدلُّ على الزَّجر، والتهديد، والوعيد؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع عن مراده، وذلك إنام يحصل بكمال القدرة، وهو تعالى قادر على كل الممكنات، فكأنَّه تعالى قال: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتُكُمْ البيّنات» فاعموا أنَّ الله قادرٌ عليكم، لا يمنعه عنكم مانع، وهذا نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب؛ كقول السيِّد لعبده: إن عصيتني فأنت عارف بي، وتعلم قدرتي عليك، والآية كما أنها تدلُّ على نهاية الوعد بقوله: «حَكِيمٌ» فإنَّ اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن، بل هذا أليق بالحكمة، وأقرب للرحمة، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه لا وجوب لشيءٍ قبل الشَّرع؛ لأنه تعالى أثبت التهديد بشرط مجيء البينات، وقبل الشرع لم تحصل كلُّ البيِّنات.
فصل
قال الجبَّائيُّ: المجبرة تقول: إن الله تعالى يريد الكفر من الكفَّار، والسَّفاهة من السُّفهاء، والله تعالى وصف نفسه بأنه حكيم، ومن فعل السَّفه وأراده لا يكون حكيماً، وأجيب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمول، فمعنى كونه تعالى حكيماً أنَّه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء، ومريداً لها.
فصل
يحكى أنَّ قارئاً قرأ «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فسمعه أعرابيٌّ، فأنكره؛ وقال: إنَّ هذا كلام الله تعالى فلا يقول كذا؛ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزَّلل؛ [أنه إغراءٌ عليه] .(3/480)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
«هَلْ» لفظه استفهامٌ والمراد به النفي؛ كقوله: [الطويل]
1027 - وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ، وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
أي: ما ينظرون، وما أنا، ولذلك وقع بعدها «إلاَّ» كما تقع بعد «ما» . و «هَلْ» تأتي على أربعة أوجهٍ:(3/480)
الأأول: بمعنى «مَا» كهذه الآية، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] .
الثاني: بمعنى «قَدْ» كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] أي: قد أتى، وقوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم} [ص: 21] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} [الغاشية: 1] ، أي: قد أتاك.
والثالث: بمعنى «أَلاَ» قال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} [طه: 40] أي: أَلاَ أدلكم، ومثله {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} [الشعراء: 22] أي: ألا أنبئكم.
الرابع: بمعنى الاستفهام، قال تعالى: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ} [الروم: 40] .
و «يَنْظُرون» هنا بمعنى ينتظرون، وهو معدًّى بنفسه، قال امرؤ القيس: [الطويل]
1028 - فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ
وليس المراد هنا بالنظر تردد العين؛ لأنَّ المعنى ليس عليه؛ واستدلَّ بعضهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى ب «لى» ، ويضاف إلى الوجه، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسه، وليس مضافاً إلى الوجه، ويعني بإضافته إلى الوجه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] فيكون بمعنى الانتظار، وهذا ليس بشيء، أما قوله: إن الذي بمعنى البصر يتعدَّى ب «إلى» فمسلم، وقوله: «وهو هنا متعدٍّ بنفسه» ممنوعٌ، إذ يحتمل أن يكون حرف الجر وهو «إلَى» محذوفاً؛ لأنه يطَّرد حذفه مع «أَنْ» و «أَنَّ» ، إذا لم يكن لبسٌ، وأمَّا قوله: «يُضَافُ إلى الوَجْهِ» ، فممنوعٌ أيضاً، إذ قد جاء مضافاً للذات؛ قال تعالى: {أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل} [الغاشية: 17] . والضمير في «يَنْظُرُونَ» عائدٌ على المخاطبين بقوله: «زَلَلْتُمْ» فهو التفاتٌ.
قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ} هذا مفعول «يَنْظُرُونَ» وهو استثناءٌ مفرَّغٌ، أي: ما ينظرون إلا إتيان الله.
والمعنى ما ينظرون، يعني التاركون الدخُّول في السِّلم.
قوله تعالى: «في ظُلَلٍ» فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق بيأتيهم، والمعنى: يأتيهم أمره أو قدرته أو عقابه أو نحو ذلك، أو يكون كنايةً عن الانتقام، إذ الإتيان يمتنع إسناده إلى الله تعالى حقيقةً.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: هو مفعول يتيهم، أي: في حال كونهم مستقرين في ظلل، وهذا حقيقة.(3/481)
والثاني: أنه الله تعالى بالمجاز المتقدِّم، أي: أمر الله في حال كونه مستقراً في ظلل.
الثالث: أن تكون «في» بمعنى الباء، وهو متعلقٌ بالإتيان، أي: إلاَّ أن يأتيهم بظلل؛ ومن مجيء «في» بمعنى الباء قوله: [الطويل]
1029 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... خَبِيرُونَ في طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ
لأنَّ «خَبِيرِينَ» إنَّما يتعدَّى بالباء؛ كقوله: [الطويل]
1030 - ... ... ... ... ... . . فَإنَّني ... خَبِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
الرابع: أن يكون حالاً من «المَلاَئِكَةِ» مقدَّماً عليها ويحكى عن أبيّ، والأصل: إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظللٍ، ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك، وبهذا - أيضاً - يقلُّ المجاز، فإنه - والحالة هذه - لم يسند إلى الله تعالى إلاَّ الإتيان فقط بالمجاز المتقدم.
وقرأ أُبيّ وقتادة والضَّحاك: في ظلالٍ، وفيها وجهان:
أحدهما: أنها جمع ظلّ؛ نحو: صلّ وصلال.
والثاني: أنها جمع ظلَّة؛ كقلَّة وقلال، وخلَّة وخلال، إلاَّ أنَّ فعالاً لا ينقاس في فُعلة.
قوله تعالى: «مِنَ الغَمَامِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «ظُلَل» التقدير: ظُلَلٍ كائنةٍ من الغمام. و «مِنْ على هذا للتعبيض.
والثاني: أنه متعلق ب» يَأْتِيهم «، وهي على هذا لابتداء الغاية، أي: من ناحية الغمام.
والجمهور على رفع» المَلاَئِكَةُ «؛ عطفاً على اسم» الله «.
وقرأ الحسن وأبو جعفر: بجرِّ» الملائكةِ «وفيه وجهان:
أحدهما: العطف على» ظُلِلٍ «، أي: إلاَّ أن يأتيهم في ظللٍ، وفي الملائكة.(3/482)
والثاني: العطف على» الغمامِ «أي: من الغمام ومن الملائكة، فتوصِف الملائكة بكونها ظللاً على التشبيه، وعلى الحقيقة، فيكون المعنى يأتيهم أمر الله وآياته، والملائكة يأتون ليقومون بما أمروا به من الآيات والتعذيب، أو غيرهما من أحكام يوم القيامة.
قوله:» وقُضِيَ الأمرُ «الجمهور على» قُضِيَ «فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على» يَأْتيهم «وهو داخل في حيِّز الانتظار، ويكون ذلك من وضع الماضي موضع المستقبل، والأصل: ويقضى الأمر وإنما جيء به كذلك؛ لأنه محققٌّ كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] وقوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} [المائدة: 116] والسبب في اختيار هذا المجاز، إمَّا التنبيه على قرب الآخرة، وكأنها قد أتت، أو المبالغة في تأكيد وقوعها، كأنها قد وقعت.
والثاني: أن يكون جملة مستأنفة برأسها، أخبر الله تعالى بأنه قد فرغ من أمرهم، فهو من عطف الجمل، وليس داخلاً في حيّز الانتظار.
وقرأ معاذ بن جبل:» وَقَضَاء الأَمْرِ «قال الزمخشريُّ:» عَلَى المصْدَرِ المرفوع؛ عطفاً على الملائكة «. وقال غيره: بالمدِّ والخفض؛ عطفاً على» الملائكة «.
قيل: وتكون على هذا» فِي «بمعنى» البَاءِ «أي: بظُللٍ، وبالملائكة، وبقضاء الأمر، فيكون عن معاذ قراءتان ي الملائكة، الرفع والخفض، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله:» وقُضِيَ الأمر «.
ومعنى قضي الأمر؛ هو فصل القضاء ببين الخلق يوم القيامة، وإنزال كلِّ واحد منزلته من جنَّةٍ، أو نارٍ؛ قال تعالى: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} [إبراهيم: 22] .
قوله: {وإلى الله تُرْجَعُ الأمور} هذا الجار متعلق بما بعده، وإنما قدِّم للاختصاص، أي: لا ترجع إلاَّ إليه دون غيره. وقرأ الجمهور: «تُرْجَعُ» بالتأنيث لجريان جمع التكسير مجرى المؤنث، إلاَّ أنَّ حمزِة والكسائي ونافعاً قرؤوا ببنائه للفاعل، والباقون ببنائه للمفعول، و «رَجَعَ» يستعمل متعدياً تارةً، ولازماً أخرى، وقال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} [التوبة: 83] فجاءت القراءتان على ذلك، وقد سمع في المتعدي «أرجع» رباعياً، وهي(3/483)
لغة ضعيفة، ولذلك أبت العلماء أن تجعل قراءة من بناه للمفعول مأخوذةً منها. وقرأ خارجة عن نافع: «يُرْجَعُ» بالتذكير، وببنائه للمفعول؛ لأن تأنيثه مجازي، والفاعل المحذوف في قراءة من بناه للمفعول: إمَّا الله تعالى، أي: يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار، وإمَّا ذوو الأمور؛ لأنه لمَّا كانت ذواتهم وأحوالهم شاهدةً عليهم بأنهم مربوبون مجزيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورهم إلى خالقها.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قوله «تُرْجَعُ الأُمُورُ» بضم التاء ثلاثة معانٍ.
أحدها: ما ذكرناه، وهو أنه جلَّ جلاله يرجعها إلى نفسه.
والثاني: أنه على مذهب العرب، من قولهم «فلانٌ يُعْجَبُ بنفسه» ويقول الرجلُ لغيره: «إلى أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ» ، وإن لم يكن أَحَدٌ يَذْهَبُ به.
والثالث: أن ذوات الخلق لما كانت شاهدةً عليهم، بأنهم مخلوقون محاسبون، كانوا رادّين أمرهم إلى خالقهم، فقوله «تُرْجَعُ الأُمُورُ» أي: يردّها العباد إليه، وإلى حكمه بشهادة أنفسهم، وهو كقوله {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الجمعة: 1] فإن هذا التسبيح بحسب الحال، لا بحسب النطق، وقوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} [الرعد: 15] قيل: المعنى يسجد له المؤمنون طوعاً، ويسجد له الكفَّار كرهاً بشهادة أنفسهم بأنَّهم عبيد الله.
فصل في تفسير «الظلل»
«الظُّلَلُ» جمع ظُلَّةٍ، وهو ما أظَلَّكَ الله به «والغَمَامُ» هو السَّحاب الأبيض الرَّقيق، سمِّي غماماً؛ لأنه يغمُّ، أي: يستر.
وقال مجاهدٌ: هو غير السحاب، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم.
وقال مقاتلٌ: كهيئة الضَّبابة أبيض.
قال الحسن: في سترةٍ من الغمام. والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى الله تعالى؛ على ذلك مضت أئمة السَّلف، وعلماء السُّنَّة.(3/484)
قال ابن عباس، في رواية أبي صالح، والكلبي: هذا من المكتوم الذي لا يفسَّر، وكان مكحولٌ، والزُّهريُّ، والأوزاعيُّ، ومالكٌ، وابن المبارك، وسفيان الثَّوريُّ، واللَّيث بن سعد، وأحمد، وإسحاق يقولون فيه وفي أمثاله: أَمِرَّها كما جاءت بلا كيف.
قال سفيان بن عيينة: كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه، فتفسيره: قراءته، والسكوت عنه؛ ليس لأحدٍ أن يفسِّره إلاَّ الله ورسوله.
وروي عن ابن عبَّاسِ أنه قال: نزل القرآن على أربعة أوجهٍ:
وجه لا يعرفه أحد لجهالته، ووجه يعرفه العلماء، ووجه نعرفه من قبل العربيَّة فقط، ووجه لا يعلمه إلاَّ الله.
وقال جمهور المتكلِّمين: لا بدَّ من التَّأويل، وفيه وجوهٌ:
أحدها: أنَّ المراد {يَأْتِيَهُمُ الله} آياتُ الله. فجعل مجيء الآيات مجيئاً له؛ على التفخيم لشأن الآيات؛ لأنه قال قبله: «فَإشنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ البَيِّنَاتُ» ثم ذكر هذه الآية في معرض التهديد، ومعلومٌ أنه بتقدير أن يصح المجيء على الله تعالى لم يكن مجرد حضوره سبباً للتهديد والزَّجر، وإذا ثبت أنَّ المقصود من الآية إنَّما هو الوعيد والتهديد والزجر، وجب أن يضمن في الآية مجيء الآيات والقهر والتَّهديد، ومتى أضمرنا ذلك، زالت الشُّبهة بالكلية.
الثاني: أن يأتيهم أمر الله، كقوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله} [المائدة: 33] والمراد: يحاربون أولياءه. وقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] والمراد: أهل القرية، فكذا قوله: «يَأتِيهِم اللَّهُ» المراد: يأتيهم أمر الله، كقوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] ، وليس فيه إلاَّ حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو مجازٌ مشهورٌ كثيرٌ في كلامهم، تقول: «ضرب الأمير فلاناً، وصلبه، وأعطاه» وهو إنَّما أمر بذلك، لأنه تولَّى ذلك بنفسه، ويؤكد هذا قوله في سورة النحل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33] فصارت هذه الآية مفسرة لتلك الآية، لأنَّ هذه الآيات لمَّا وردت في واقعةٍ واحدةٍ، لم يبعد حمل بعضها على البعض، ويؤيِّده - أيضاً - قوله بعده: «وَقُضِيَ الأَمْرُ» والألف واللام للمعهود السَّابق، وهو الأمر الذي أمضرمناه.
فإن قيل: أمر الله صفة قديمة، فالإتيان عيلها محالٌ.
وعند المعتزلة: أنه أصواتٌ، فتكون أعراضاً، فالإتيان عليها - أيضاً - محال.(3/485)
والجواب: أن الأمر في اللغة له معنيان:
أحدهما: الفعل والشَّأْن والطَّريق؛ قال تعالى: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} [القمر: 50] ، {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] ، وفي المثل: «لأَمْرِ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ» ، و «لأَمْرِ مَا يُسَوَّدُ مَنْ يُسَوَّدُ» ، فيجعل الأمر عبارة عن الفعل، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال، وهذا هو التَّأويل الأول، وإن حملنا الأمر على ضدِّ النهي، ففيه وجهان:
أحدهما: أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا أن الله يأمركم بكذا، وكذا، فذاك هو إتيان الأمر.
وقوله: «في ظُلَلٍ» ، أي: مع ظللٍ، والتقدير: أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد.
الثاني: أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل حصول أصوات مقطَّعة مخصوصة في تلك الغمامات، تدلُّ على حكم الله تعالى على كلِّ ما يليق به؛ من السَّعادة، والشقاوة، وتكون فائدة الظُّلل من الغمام أنه تعالى جعله مارة لما يريد إنزاله بالقوم، فعنده يعلمون أنَّ الأمر قد حضر وقرب.
الوجه الثالث: أن يأتيهم الله بما وعد من الحساب، والعذاب، فحذف ما يأتي به، تهويلاً عليهم؛ إذ لو ذكر كان أسهل عليهم في باب الوعيد، وإذا لم يذكر كان أبلغ؛ لانقسام خواطرهم، وذهاب فكرهم في كل وجهٍ، كقوله تعالى: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} [النحل: 26] وقوله: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} [الحشر: 2] أو قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] وآتاهم العذاب، كالتفسير لقوله: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] .
الوجه الرابع: أن تكون «فِي» بمعنى «البَاءِ» ، وتقديره: هل ينظرون إلاَّ أن يأتيهم الله بظللٍ من الغمام، وحروف الجرِّ يقام بعضها مقام بعضٍ.
الوجه الخامس: قال ابن الخطيب: وهو أوضح عندي من كلِّ ما سلف، وهو أنَّا ذكرنا أنَّ قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} نزلت في اليهود، فعلى هذا قوله: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يكون(3/486)
خطاباً مع اليهود، [وحينئذٍ يكون قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة} حكاية عن اليهود] ، والمعنى: أنهم لا يقبلون دينك حتى يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وذلك لأنهم فعلوا مع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مثل ذلك، فقالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] .
وإذا كان هذا كايةً عن اليهود، لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها؛ لأن اليهود كانوا مشبِّهةً، وكانوا يجوِّزون على الله تعالى المجيء والذَّهاب، وكانوا يقولون: إنَّه تعالى تجلَّى لموسى - عليه السلام - على الطُّور في ظلل من الغمام، وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد - عليه السلام - وعلى هذا فيكون الكلام حكايةً عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه، فلا يحتاج حينئذٍ إلى تأويلٍ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز.
وبالجملة فالآية الكريمة تدلُّ على أنَّ قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله، وليس في الآية دلالةٌ على أنهم محقُّون في ذلك الانتظار، أو مبطلون؛ فزال ذلك الإشكال.
فإن قيل: فعلى هذا التَّأويلن كيف يتعلق قوله تعالى: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} ؟
قلنا: الوجه فيه أنَّه تعالى لمَّا حكى عنادهم، وتوقفهم في قبول الدِّين على هذا الشرط الفاسد، ذكر بعده ما يجري مجرى التهديد، فقال: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} .
قال ابن تيميَّة: وهذا من أعظم الافتراء على الله، وعلى كتابه؛ حيث جعل خطاب الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود وهو قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم} أنَّ الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود، مع أنَّ الله تعالى دائماً يفصل في كتابه بين الخطابين، فيقول للمؤمنين: {ياأيها الذين آمَنُواْ} ، ويقول لأولئك: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} ، و {ياأهل الكتاب} ، فكيف يجعل خطاب المؤمنين الصريح خطاباً لليهود فقط؟ وهذا من أعظم تدبديل للقرآن.
وأيضاً فقوله بعد ذلك: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} لا يقال: إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال.
وأما قوله في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} أنه من اعتقاد اليهود الفاسد، لا من كلام الله تعالى الذي توعَّد به عباده، فهذا افتراءٌ على الله، وكذب على اليهود، وأيضاً فإنه لم ينقل أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد - عليه السلام - أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام.
وقد ذكر المفسرون وأهل السِّير والمغازي في مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز، وكثرة ما نزل بسببهم من القرآن، وكذلك ما نقل عنهم أنَّهم كانوا يقولون: إنَّ الله تجلَّى ل «مُوسى» على الطُّور في ظللٍ من الغمام وهو أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه، فإن كان هذا حقّاً عنهم، وكانوا(3/487)
ينتظرون مثل ذلك، فيكونون قد جوَّزوا أن يكون الله تجلَّى لرسول الله كما تجلَّى لموسى، ومعلوم أنَّ اليهود لم يقولوا ذلك، وما ذكره الله تعالى عنهم من طلبهم رؤية الله جهرةً، فهذا حقٌّ، ولكن أخبر أنَّهم طلبوا الرؤية ولم يخبر أنَّهم انتظروها، والمطلب للشيء معتقدٌ؛ لأنه يكون لا طالب من غير أن يكون، وهذا كقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ} [البقرة: 108] .(3/488)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
قرأ الجمهور: «سَلْ» وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون من لغة: سال يسال، مثل: خَافَ يَخَافُ، وهل هذه الألف مبدلة من همزة، أو واو، أو ياء؟ خلاف تقدَّم في قوله: {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] فحينئذٍ يكون الأمر منها: «سَلْ» مثل «خَفْ» لمَّا سكنت اللام حملاً للأمر على المجزوم، التقى ساكنان فحذفت العين لذلك، فوزنه على هذا فَلْ، وبهذا التقدير قرأ نافعٌ، وابن عامر «سَالَ سَائِلٌ» على وزن «قال» ، «وكان» .
والثاني: أن تكون من سأل بالهمز.
قال قطربٌ: سأَلَ يَسْأَلُ مثل زَأر الأسد يَزْأَرُ، والأصل: اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السِّين، تخفيفاً، واعتددنا بحركة النقل، فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها، ووزنه أيضاً فَلْ بحذف العين، وإن اختلف المأخذ.
وروى عباس عن أبي عمرو: «اسْأَلْ» على الأصل من غير نقلٍ. وقرأ قوم: «اسَلْ» بالنقل وهمزة الوصل، كأنَّهم لم يعتدُّوا بالحركة المنقولة كقولهم: «الَحْمر» بالهمز.
وقرأ بعضهم «سَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ» بغير همزٍ، وقرأوا {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} [يوسف: 82] {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب} [يونس: 94] {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] بالهمزة، وقرأ الكسائيُّ الكلَّ بغير همزٍ اتِّباعاً للمصحف، فإنَّ الألف ساقطةٌ فيها أجمع، و «بني» مفعولٌ أول عند الجمهور.
وقوله: «كم آتيناهم» في «كَمْ» وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب. واختلف في ذلك فقيل: نصبها على أنها مفعولٌ ثانٍ ل «آتياناهم» على مذهب الجمهور، وأول على مذهب السُّهيلي، كما تقدَّم.(3/488)
وقيل: يجوز أن ينتصب بفعل مقدَّر يفسِّره الفعل بعدها تقديره: كم آتينا آتيناهم، وإنما قدرنا ناصبها بعدها؛ لأنَّ الاستفهام له صدر الكلام، ولا يعمل فيه ما قبله، قاله ابن عطيَّة، يعني أنه عنده من باب الاشتغال، قال أبو حيَّان: وهذا غير جائزٍ إنْ كان «مِنْ آيةٍ» تمييزاً؛ لأن الفعل المفسِّر لم يعمل في ضمير «كَمْ» ولا في سبيها، وإذا لم يكن كذلك، امتنع أن يكون من ابا سببيِّه.
ونظير ما أجازه أن تقول: «زَيْداً ضربْتُ» ويكون من باب الاشتغال، وهذا ما لم يجيزه أحد.
فإن قلنا أنَّ تمييزها محذوف، وأطلقت «كَمْ» على القوم، جاز ذلك؛ لأنَّ في جملة الاشتغال ضمير الأول؛ لأنَّ التقدير: «كَمْ مِنْ قَوْم آتيناهُمْ» قال شهاب الدِّين: وهذا الذي قاله الشيخ من كونه لا يتمشَّى على كون «مِنْ آية» تمييزاً قد صرَّح به ابن عطيَّة فإنه قال «وقوله:» مِنْ آيةٍ «هو على التقدير الأول، مفعول ثان لآتيناهم، وعلى الثاني في موضع التمييز» يعني بالأول نصبها على الاشتغال، وبالثاني نصبها بما بعدها.
الوجه الثاني: أن تكون «كَمْ» في محلِّ رفع بالابتداء، والجملة بعدها في محلِّ رفع خبراً لها، والعائد محذوفٌ تقديره: كم آتيناهموها، أو آتيناهم إيَّاها، أجازه ابن عطيَّة وأبو البقاء، واستضعفه أبو حيَّان من حيث إن حذف عائد المبتدأ المنصوب لا يجوز إلاَّ في ضرورةٍ، كقوله: [السريع]
1031 - وَخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا ... بِالْحَقُ لاَ يُحْمَدُ بالْبَاطِلِ
أي: وخالدٌ يحمده. وهذا نقل بعضهم، ونقل ابن مالكٍ، أنَّ المبتدأ إذا كان لفظ «كُلٍّ» ، أو ما أشبهها في الافتقار والعموم جاز حذف عائده المنصوب اتفاقاً من البصريِّين والكوفيِّين، ومنه: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] في قراءة نافعٍ، وإذا كان المبتدأ غير ذلك، فالكوفيُّون يمنعون ذلك لا في السِّعة، والبصريُّون يجيزونه بضعفٍ، ومنه: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] برفع «حُكْم» . فقد حصل أنَّ الذي أجازه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين، ضعيف عند البصريين.
وهل «كَمْ» هذه استفهامية، أو خبرية؟ الظاهر الأول، وأجاز الزمخشريُّ فيها الوجهين، ومنعه أبو حيَّان من حيث إن «كَمْ» الخبرية مستقلة بنفسها، غير متعلقةٍ بالسؤال، فتكون مفلتةً ممّا قبلها، والمعنى يؤدي إلى انصباب السؤال عليها، وأيضاً فيحتاج إلى حذف المفعول الثاني للسؤال، تقديره: سل بني إسرائيل عن الآيات التي(3/489)
آتيناهم، ثم قال: كثيراً من الآيات التي آتيناهم، والاستفهامية لا تحتاج إلى ذلك.
و «مِنْ آيةٍ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها مفعول ثان على القول بأنَّ «كَمْ» منصوبةٌ على الاشتغال؛ كما تقدَّم، ويكون ممِّيز «كَمْ» محذوفاً، و «مِن» زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غير موجب، إذ هو استفهامٌ، وهذا إذا قلنا إنَّ «كَمْ» استفهامية لا خبريةٌ؛ إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ، و «مِنْ» لا تزاد في الواجب إلاَّ على رأي الأخفش، والكوفيِّين، بخلاف ما إذا كانت استفهامية. قال أبو حيَّان: فيمكن أن يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما بعده وفيه بعدٌ، لأنَّ متعلَّق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني، فلو قلت: «كَمْ مِنْ دِرْهمٍ أعطيته مِنْ رَجلٍ» على زيادة «مِنْ» في «رَجُلٍ» لكان فيه نظرٌ «انتهى.
والثاني: أنها تمييز، ويجوز دخول» مِنْ «على مميِّز» كَمْ «استفهامية كانت أو خبرية مطلقاً، أي: سواء وليها ممِّزها، أم فصل بينهما بجملةٍ، أو ظرفٍ أو جارٍّ ومجرورٍ، على ما قرَّره النحاة، و» كَمْ «وما في حيِّزها في محلِّ نصب أو خفض، لأنها في محل المفعول الثاني للسؤال فإنَّه يتعدَّى لاثنين: إلى الأوَّل بنفسه وإلى الثَّاني بحرف جرٍّ: إمَا عن، وإمَّا الباء؛ نحو: سألته عن كذا وبكذا؛ قال تعالى:
{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] ، وقد جمع بينهما في قوله: [الطويل]
1032 - ... فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ
... ... ... ... ... ... ... ... ..... وقد يحذف حرف الجرِّ، فمن ثمَّ جاز في محلِّ «كَمْ» النصب، والخفض بحسب التقديرين، و «كَمْ» هنامعلقة للسؤال، والسؤال لا يعلَّق إلا بالاستفهام؛ كهذه الآية، وقوله تعالى: {} [القلم: 40] ، وقوله: [الطويل]
1033 - يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
وقال آخر: [السبيط]
1034 - ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/490)
وَاسْأَلْ بِمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ مَا فَعَلا
وإنما علَّق السؤال، وإن لم يكن من أفعال القلوب؛ قالوا: لأنه سببٌ للعلم، والعلم يعلَّق، فكذلك سببه، وإذا كانوا قد أجروا نقيضه في التعليق مجراه في قوله: [الطويل]
1034 - وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أَنْتُمُ ... وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ
فإجراؤهم سببه مجراه أولى.
واختلف النحاة في «كَمْ» : هل بسيطةٌ، أو مركبة من كاف التَّشبيه وما الاستفهامية، حذفت ألفها؛ لانجرارها، ثم سكنت ميمها، كما سكّنت ميم «لِمْ» من «لِمْ فَعَلْتَ كَذَا» في بعض اللغات، فركِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيح الأول. وأكثر ما تجيء في القرآن خبريَّةً مراداً بها التكثير، ولم يأت ممِّزها في القرآن إلا مجروراً بمن.
قال أبو مسلمٍ: في الآية حذفٌ، والتَّقدير: كم آتيناهم من آية بيِّنةٍ، وكفروا بها، ويدلُّ على هذا الإضمار قوله: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} .
فصل
اعلم أنَّه ليس المقصود اسأل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات لتعلمها؛ لأنه - عليه السلام - كان علاماً بها بإعلام الله له، وإنما المقصود المبالغة في الزَّجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى، فهو سؤالٌ على جهة التَّقريع والتَّوبيخِ؛ لأنه أمر بالإسلام، ونهى عن الكفر بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} [البقرة: 208] ثم قال: {فَإِن زَلَلْتُمْ} [البقرة: 209] أي: أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد، بقوله: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] ، ثم هدَّدهم بقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة} [البقرة: 210] ، ثم ثلَّث التهديد بقوله: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} يعني هؤلاء الحاضرين كم آتينا أسلافهم آيات بيناتٍ فأنكروها، فلا جرم استوجبوا العقاب، وهذا تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلُّوا عن آيات الله، لوقعوا في العذاب.
وفي المراد ب «الآية البيِّنة» قولان:(3/491)
أحدهما: معجزات موسى - عليه السلام - كما تقدَّم نحو: فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ونتق الجبل، وتكليم الله تعالى موسى - عليه السلام - والعصا، واليد البيضاء، وإنزال التوراة، وبيّن لهم الهدى من الكفر.
وقيل: المراد بالآية الحجَّة، والدلالة التي آتاهم، التوراة، والإنجيل على نبوة محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصدقه، وصحَّة شريعته.
قوله: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} «مَنْ» شرطية في محلِّ رفع بالابتداء، وقد تقدَّم الخلاف في خبر اسم الشرط ما هو؟ ولا بدَّ للتبديل من مفعولين: مبدَّل وبدل، ولم يذكر هنا إلاَّ أحدهما وهو المبدِّل، وحذف البدل، وهو المفعول الثاني؛ لفهم المعنى، وقد صرَّح به في قوله: {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} [إبراهيم: 28] فكفراً هو المحذوف هنا. وقد تقدَّم عند قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 59] أن «بَدَّل» يتعدَّى لاثنين: أحدهما بنفسه، وهو البدل، وهو الذي يكون موجوداً، وغلى الآخر بحرف الجر، وهو المبدَّل، وهو الذي يكون متروكا، وقد يحذف حرف الجرِّ لفهم المعنى، فالتقدير هنا: «وَمَنْ يُبَدِّلْ بنعمتِهِ كُفْراً» ، فحذف حرف الجر والبدل لفهم المعنى. ولا جائز أن تقدِّر حرف الجر داخلاً على «كُفْراً» فيكون التقدير: «وَمَنْ يُبَدِّلْ بِالكُفْرِ نِعْمَةَ اللَّهِ» ؛ لأنه لا يترتَّب عليه الوعيد في قوله: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} . وكذلك قوله تعالى: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] تقديره: بسيئاتهم حسناتٍ، ولا يجوز تقديره: «سَيِّئاتِهِم بحسناتٍ» ؛ لأنه لا يترتَّب على قوله: «إلا مَنْ تَابَ» .
وقرئ: «يُبْدِلُ» مخففاً، و «مِنْ» لابتداء الغاية و «مَا» مصدرية، والعائد من جملة الجزاء على اسم الشرط محذوف؛ لفهم المعنى، أي: شديد العقاب له، أو لأنَّ «أَلْ» نابت منابه عند الكوفيين.
قال القرطبيُّ: وهذا اللفظ عامٌّ لجميع المكلَّفين، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل لكونهم بدَّلوا ما في كتبهم، وجحدوا أمر محمد - عليه السلام -، فاللَّفظ مستحب على كلِّ مبدِّل نعمة الله تعالى.
فصل
فالنِّعمة هاهنا إيتاء الآيات والدلائل؛ لأنها أعظم نعم الله، لإإنها أسباب الهدى والنَّجاة من الضَّلالة، وعلى هذا ففي تبديلهم إيَّاها وجهان:
فمن قال: المراد بالآيات ما في التوراة والإنجيل من دلائل معجزات موسى - عَلَيْهِ(3/492)
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: تبديلها أنَّ الله تعالى لمَّا أظهرها لتكون أسباباً لضلالهم، فجعلوها أسباباً لضلالهم، كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] .
ومن قال: المراد بالآيات ما في التَّوراة والإنجيل من دلائل نبوَّة محمَّد - عليه السلام - قال: تبديلها تحريفها، وإدخالها الشُّبهة فيها.
والقول الثاني: أنَّ النعمة هي ما أتاهم الله من الصِّحَّة، والأمن، والكفاية، فتركوا القيام بما وجب عليهم من العلم بتلك الآيات.
وقوله: {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} ، أي: من بعد التمكُّن من معرفتها، أو من بعدما عرفها؛ كقوله: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] إن فسرنا النعمة بالقول الأول، وإن فرسنا النعمة بالصحة والأمن، فلا شك أن عند حصولها يجب الشكر، ويقبح الكفر، فلهذا قال: {} .
وقال الطَّبريُّ: النعمة هنا الإسلام.
وقال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه إضمارٌ والمعنى شديد العقاب له.
قالعبد القاهر النَّحويُّ في كتاب «دَلاَئِل الإعْجَازِ» : إنّ ترك هذا الإضمار أولى؛ لأنَّ المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب لهذا أو لذاك، ثم قال الواحديُّ: والعقاب عذابٌ يعقب الجرم.
قال القرطبيُّ: مأخوذٌ من العقب، كأنَّ المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب [وعُقْبَة القِدْر] .(3/493)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
قوله تعالى: «زُيِّنَ» : إنَّما لم تلحق الفعل علامة تأنيثٍ لوجوهٍ:
أحدها: قال الفرَّاء: لأنَّ الحياة والإحياء واحدٌ، فإن أُنِّثَ، فعلى اللَّفظ، وبها قرأ ابن أبي عبلة، وإن ذُكِّر، فعلى المعنى؛ كقوله: {مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} [البقرة: 275] {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} هود: 67] .(3/493)
وثانيها: قال الزَّجَّاج: إنَّ تأنيث الحياة ليس بحقيقي؛ لأنَّ معنى الحياة والعيشِ والبقاء واحدٌ، فكأنه قال: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا البَقَاءُ» .
وثالثها: قال ابن الأنباري: إنما لم يقل زيِّنت؛ لأنه فصل بين «زُيِّنَ» وبين الحياة الدنيا بقوله: «للذين كَفَرُوا» ، وإذا فصل بين فعل المؤنث، وبين الاسم بفاصلٍ حَسُنَ تذكير الفعل؛ لأنَّ الفاصل يغني عن تاء التأنيث، وقرأ مجاهد وأبو حيوة: «زَيَّنَ» مبنياً للفاعل، و «الحياةَ» مفعول، والفاعل هو الله تعالى عند الأكثرين، وعند الزجاج والمعتزلة يقولون: إنه الشيطان.
وقوله: «يَسْخَرُون» يحتمل أن يكون من باب عطف الجلمة الفعلية على الجملة الفعلية، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر، فيكون من عطف المفردات؛ لعدم اتِّحاد الزمان.
ويحتمل أن يكون «يَسْخَرُون» خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يسخرون، فيكون مستأنفاً، وهو من عطف الجملة الاسمية على الفعلية. وجيء بقوله: «زُيِّن» ماضياً؛ دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع، وفرغ منه، وبقوله: «وَيَسْخَرُونَ» مضارعاً؛ دلالة على التَّجَدُّد، والحدوث.
قوله: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ} مبتدأ وخبر، و «فَوْقَ» هنا تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون ظرف مكانٍ على حقيقتها؛ لأنَّ المتقين في أعلى علِّيِّين، والكافرين في أسفل السَّافلين.
والثاني: أن تكون الفوقية مجازاً: إمَّا بالسنبة إلى نعيم المؤمنين في الآخرة، ونعيم الكافرين في الدنيا. وإمّا أنّ حجة المؤمنين في القيامة فوق حجَّة الكافرين، وإمَّا أن سخرية الؤمنين لهم في الآخرة، فوق سخرية الكفار لهم في الدنيا.
و «يوم» منصوبٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به «فَوْفَهُمْ» وقوله: {مِنَ الذين آمَنُواْ} ثم قال: {والذين اتقوا} لتبيين أنَّ السعادة الكبرى لا تحصل إلاَّ للمؤمن التَّقيّ.
فصل
قال ابن عبَّاسِ: نزلت في كفَّار قريشٍ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعودٍ، وعمَّارٍ، وخبَّابٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، وعامر بن فهيرة، وأبي عبيدة بن الجرَّاح، وصهيبٍ، وبلالٍ، بسب ما كانوا فيه من الفقر، والصَّبر على أنواع البلاء، مع ما كان الكُفَّار فيه من النَّعيم، والرَّاحة، وبسط الرِّزق.(3/494)
وقال عطاءٌ: نزلت في رؤساء اليهود، وعلمائهم، من بني قريظة، والنَّضير، وبني قينقاع؛ سخروا من فقر المسلمين المهاجرين حيث أُخرجوا من ديارهم، وأموالهم، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنَّضير بغير قتالٍ.
وقال مقاتلٌ: نزلت في المنافقين كعبد الله بن أُبيٍّ، وأصحابه؛ كانوا يتنعّمون في الدّنيا، ويسخرون من ضعفاء المسلمين، وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.
قال ابن الخطيب: ولا مانع من نزلها في جميعهم.
روى أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا المَسَاكِينَ، وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، وَإنَّ أَهْلَ الجَدِّ مَحْبُوسُونُ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ»
وروى سهل بن سعدٍ السَّاعديّ، قال: «مرَّ رجلٌ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لرجل عنده جالسٍ:» مَا رَأَيُكَ في هَذَا «فقال هذا رجل من أشراف النَّاس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفَّع، قال: فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم مرَّ رجُلٌ، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا رَأْيُكَ في هَذَا «؟ فقال: يَا رسولَ الله، هذا من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ إن خطب ألاّ ينكح وإن شفع ألا يشفَّع، وإن قال لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْل هَذَا «
وروي عن عليٍّ؛ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مَنِ اسْتَدَلَّ مَؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً، أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَات يَدِهِ، شَهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُم فَضَحَهُ، وَمَنْ بَهَت مُؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً، أَوْ قَالَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَقَامَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَلٍّ مِنْ نَارٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ فِيه ... «
فصل
قال الجُبَّائيُّك المزيِّن هم غواة الجن، والإنس؛ زينوا للكفار الحرص على الدُّنيا، وقبَّحوا أمر الآخرة.(3/495)
قال: وأمَّا قول المجبّرة: إنَّ الله تعالى زيَّن ذلك فهو باطلٌ، لأنَّ المزيِّن للشيء كالمخبر على حسنه، فإن كان صادقاً، فيكون ما زينه حسناً، ويكون فاعله مصيباً، وذلك يوجب أنَّ الكافر مصيبٌ في كفره، وهذا القول كفرٌ، وإن كان كاذباً في ذلك التزيين، فيدي إلى أن لا يوثق بخبره، وهذا - أيضاً - كفرٌ، فثبت أنَّ المزيِّن هو الشيطان.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ، لأنَّ قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} يتناول جميع الكُفَّار، وهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مُزَيِّن، فلا بدَّ وأن يكون ذلك المزيِّن مغايراً لهم؛ لأنَّ غواة الجنِّ والإنس داخلون في الكفار أيضاً، إلاَّ أن يقال: إن كلَّ واحدٍ يزيِّن للآخرة فيصير دوراً، فثبت ضعف هذا التأويل.
وأمَّا قوله:» المُزَيِّنُ للشَّيْءِ كالمخبر عن حُسْنِه «فهذا ممنوع، بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة، ثم لئن سلَّمنا أنَّ المزين للشيء هو المبخر عن حسنه بمعنى أنه أخبر عمَّا فيها من اللَّذَّات والراحات، وذلك الإخبار ليس بكذبٍ، وتصديقه ليس بكفرٍ.
وقال أبو مسلمٍ: يحتمل أنهم زيَّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم: أين يذهب بك؟ لا يريدون أنَّ ذابهاً ذهب به، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة: {أنى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75] ، {أنى يُصْرَفُونَ} [غافر: 69] إلى غير ذلك، وأكّده بقوله: {لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} [المنافقون: 9] وأضاف ذلك إليهما؛ لمَّا كان كالسبب ولمَّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيَّن لنفسه.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله: «زُيِّنَ للنَّاس» يقتضي أنَّ مزيِّناً زينه، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.
التأويل الثالث: أنَّ المزيِّن هو الله تعالى، ويدلُّ عليه وجهان:
أحدهما: قراءة من قرأ «زَيَّنَ» مبنيّاً للفاعل.
والثاني: قوله تعالى: {جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] والقائلون بهذا ذكروا وجوهاً:
الأول: أنَّ هذا التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزَّهرة والنضارة، والطِّيب، واللَّذَّة؛ ابتلاءً لعباده؛ كقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} [آل عمران: 14] إلى قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} [آل عمران: 15] .
وقال: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} [الكهف: 46] ثم قال: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] فهذه الآيات متوافقة، والمعنى: أنَّ(3/496)
الله تعالى جعل الدُّنيا دار بلاءٍ وامتحانٍ، وركَّب في الطِّباع الميل إلى اللذات، وحبّ الشهوات، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردِّها عنه؛ ليتمَّ بذلك الامتحان، وليجاهد المؤمن هواه، فيقبض نفسه عن المباح، ويكفّها عن الحرام.
الثاني: أنَّ المراد ب «التَّزَيِينِ» أنه أمهلهم في الدنيا، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها، والحرص في طلبها، فهذا الإمهال هو المسمى ب «التزيين» .
الثالث: أنَّه زيَّن لهم المباحات دون المحظورات، وعلى هذا سقط الإشكال، إلاّ أنَّ هذا ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى خصَّ الكفَّار، وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا تمتع بالمباحات، وكثرة ماله، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه مكدَّرٌ منغَّصٌ وأكبر غرضه أجر الآخرة، إنما يعدُّ الدنيا كالوسيلة إليها، ولا كذلك الكافر، فإنَّه وإن قلَّت ذات يده، فسروه، بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود دون غيرها.
وأيضاً، فإنَّه تعالى أتبع الآية بقوله: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ} وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللَّذات المحظورة، وتحملهم المشاقَّ الواجبة، فدلَّ ذلك على أنَّ التزيين لم يكن في المباحات.
قال ابن الخطيب: ويتوجَّه على المعتزلة سؤال، وهو أنَّ حصول هذه الزينة في قلوب الكفَّار لا بدَّ له من محدث، وإلا فقد وقع المحدث، لا عن مؤثر فهذا محال، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمَّا أن يكون قد رجَّح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة، فقد زال الاختيار، لأنَّ حال الاستواء لمَّا امتنع حصول الرُّجحان، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً أولى بامتناع الوقوع، وإذا صار المرجوح ممتنع الوقوع، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنَّه لا خروج عن النقيضين، فهذا توجيه السؤال، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة، فأمّا أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنَّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء، بل خلق تلك الأفعال، والأقوال.
قوله تعالى: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} مفعول «يَشَاءُ» محذوف، أي: من يشاء أن يزرقه، و «بِغيرِ حِسَابٍ» هذا الجارُّ فيه وجهان:
أحدهما: أنه زائدٌ.
والثاني: أنه غير زائدٍ، فعلى الأول لا تعلُّق له بشيءٍ، وعلى الثاني هو متعلِّق بمحذوفٍ، فأما وجه الزيادة: فهو أنه تقدَّمه ثلاثة أشياء في قوله: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} الفعل والفاعل والمفعول، وهو صالحٌ لأن يتعلَّق من جهة المعنى بكلِّ واحدٍ منها، فإذا(3/497)
تعلَّق بالفعل كان من صفات الأفعال، تقديره: والله يرزق رزقاً غير حساب، أي: غير ذي حساب، أي: أنه لا يحسب ولا يحصى لكثرته، فيكون في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والباء زائدةٌ.
وإذا تعلَّق بالفاعل، كان من صفات الفاعلين، والتقدير: والله يرزق غير محاسب بل متفضلاً، أو غير حاسبٍ، أي: عادٍّ. ف «حساب» واقعٌ موقع اسم فاعل من حاسب، أو من حَسَبَن ويجوز أن يكون المصدر [واقعاً موقع اسم مفعولٍ من حاسب، أي: الله يرزق غير محاسبٍ] أي: لا يحاسبه أحدٌ على ما يعطي، فيكون المصدر في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل، والباء فيه مزيدةً.
وإذا تعلَّق بالمفعول، كان من صفاته أيضاً، والتقدير: والله يرزق من يشاء غير محاسب، أو غير محسوب عليه، أي: لا يعدُّ. فيكون المصدر أيضاً واقعاً موقع اسم مفعول من حاسب أو حسب، أو يكون على حذف مضاف، أي: غير ذي حساب، أي: محاسبة، فالمصدر واقع موقع الحال والباء - أيضاً - زائدة فيه، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى أنه يرزق من حيث لا يحتسب، أي: من حيث لا يظنُّ أن يأتيه الرزق، والتقدير: يرزقه غير محتسب ذلك، أي: غير ظانٍّ له، فهو حال أيضاً، ومثله في المعنى {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] . وكون الباء تزاد في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةٌ، كقوله: [الوافر]
1036 - فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رَكَابٌ ... حَكِيمٌ بْنُ المُسَيِّبِ مُنْتَهَاهَا
وهذه الحال - كما رأيت - غير منفيةٍ، فالمنع من الزيادة فيها أولى.
وأمَّا وجه عدم الزيادة، فهو أن تجعل الباء للحال والمصاحبة، وصلاحية وصف الأشياء الثلاثة - إني الفعل، والفاعل، والمفعول - بقوله: «بغير حساب» باقية أيضاً، كما تقدَّم في القول بزيادتها.
والمراد بالمصدر المحاسبة، أو العدُّ والإحصاء، أي: يرزق من يشاء، ولا حساب على لارزق، أو ولا حساب للرازق، أو ولا حساب على المرزوق، وهذا أولى؛ لما فيه من عدم الزيادة، التي الأصل عدمها، ولما فيه من تبعيةَّة المصدر على حاله، غير واقعٍ موقع اسم فاعل، أو اسم مفعولٍ، ولما فيه من عدم تقدير مضافٍ بعد «غير» أي: غير ذي حساب. فإذاً هذا الجارُّ، والمجرور متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لوقوعه حالاً من أيِّ الثلاثة المتقدِّمة شئت؛ كَما تقدَّم تقريره، أي: ملتبساً بغير حساب.(3/498)
فصل
يحتمل أن يكون المراد منه: ما يعطي في الدنيا لعبيده المؤمنين والكافرين، ويحتمل أن يكون المراد منه: رزق الآخرة، فإن حملناه على رزق الآخرة، كان مختصاً بالمؤمنين، وهو من وجوه:
أحدها: أنَّ الله يرزقهم بغير حسابٍ، أي: رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له؛ لأنَّ كلَّ ما دخل تحت الحساب، فهو متناهٍ.
وثانيها: أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب، وبعضها تفضل؛ كام قال: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} [النساء: 173] فالفضل منه بلا حساب.
وثالثها: أنه لا يخاف نفادها عنده؛ فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه؛ لأن المعطي إنَّما يحاسب، ليعلم مقدار ما يعطى وما يبقى كي لا يتجاوز في عطاياه إلى ما لا يجحف به، والله عالم غني، لا نهاية لمقدوراته.
ورابعها: «بِغَيْرِ حِسَاب» ، أي: بغير استحقاقٍ؛ يقال: لفلان على فلانٍ حسابٌ؛ إذا كان له عليه حق، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يستحق أحدٌ عليه شيئاً، وليس لأحدٍ معه حساب، بل كلُّ ما أعطاه، فهو مجرّد فضل وإحسانٍ، لا بسبب استحقاق.
وخامسها: «بِغَيرِ حِسَابٍ» ، أي: يعطي زائداً على الكفاية؛ يقال: فلان ينفق بغير حساب، أي: يعطي كثيراً؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل.
وهذه الوجوه كلُّها محتملة، وعطايها الله بها منتظمة، فيجوز أن يكون الكلُّ مراداً والله أعلم.
فإن قيل: قد قال الله - تعالى - في صفة المتقين، وما يصل إليهم: {عَطَآءً حِسَاباً} [النبأ: 36] على المستحقِّ بحسب الوعد؛ كما هو قولنا، وبحسب الاستحقاق، كما هو قول المعتزلة، فالسؤال: وهذا كالمناقض لهذه الآية.
فالجواب: من حمل قوله: «بِغَيْرِ حِسَابٍ» على التفضُّل، وحمل قوله: «عَطَاءً حِسَاباً» على المستحق بحسب الوعد، كماهو قولنا، وبحسب الاستحقاق، كما هو قول المعتمزلة، فالسؤال زائل، وَمَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: «بغير حساب» على سائرِ الوجوه، فله أنْ يقول: إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقاتِ، فَصَحَّ من هذا الوجه أَنْ يُوصَف بكونه: «عَطَاءً حِسَاباً» فلا تناقض، وإن حملناه على أرزاق الدنيا، ففيه وجوه:
أحدها، وهو أَلْيَقُ بِنَظم الآية، أنَّ الكفارَ كان يَسْخرونَ من فقراء المسلمين؛ لأنهم كانوا يستدلُّون بحصولِ السعاداتِ الدنيوية، على أنهم على الحقِّ، وبحرمان فقراء المسلمين على أنهم على الباطل؛ فأَبطل تعالى استدلالهُم بقوله: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني: يُعْطِي في الدنيا مَنْ يشاءُ من غير أَنْ يكونَ ذلك مُنْبئاً عن كون(3/499)
المُعْطى مُحِقّاً أَوْ مُبْطِلاً، بل بِمَحْضِ المَشِيئَةِ؛ كَمَا وَسَّعَ على قَارون وضيَّق على أَيُّوب - عليه السلام - فقد يُوسِّع على الكافر، ويضيقُ على لامؤمن؛ ابتلاءً وامتحاناً؛ كما قال
{وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] .
وثانيها: أَنَّ اللَّهَ يرزقُ مَنْ يشاءُ في الدنيا: مِنْ كافرٍ، ومُؤْمنٍ بغير حسابٍ يكون لأحدٍ عليه ولا مُطَالبة، ولا تبعةٍ، ولا سؤال سائل.
والمقصود منه: أَلاَّ يقولَ الكافِر: إِنَّ المؤمن على الحق فَلِمَ لَمْ يُوَسَّع عليه في الدنيا؟ وألاَّ يقولَ المؤمُن: لو كانَ الكافرُ مُبطلاً، فلِمَ يُوَسَّعُ عليه في الدنيا؟ بل الاعْتِراضُ ساقطٌ؛ و {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] .
وثالثها: بغير حساب أي: مِنْ حيثُ لا يحتسِب؛ كما يقولُ مَنْ جاءه مَا لَمْ يكنْ في قلبه: لَمْ يَكُن هذا حسابي.
قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ فعل ذلك بهم، فَأَغْنَاهُم بما أَفَاءَ عليهم مِنْ أَمْوالِ صَنَادِيدِ قُرَيش ورُؤَساءِ اليهود، وبما فتح على رسوله، بعد وفاته على أَيْدِي أصحابه، حتى ملكوا كُنوز كِسرَى، وقَيصر.(3/500)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
وجه النظْمِ أنه لما بيَّن أن سبب إصرار الكُفَّار على كُفرهم، هو حُبُّ الدنيا بين في هذه الآية أَن هذا المعنى غير مُختص بهذا الزمان، بل كان حاصلاً في الأَزْمِنة المُتَقادِمة، فَإِنَّهم كانوا أُمةً واحدة على الحق، ثم اختلفُوا، وما كان اختلافُهم إِلاَّ بسبب البغي، والتحاسُد، والتَّنَازُع في طلب الدنيا.
قال القفَّال: «الأُمَّةُ» هم المجتمعون على الشَّيء الواحد، يَقتدي بعضُهم ببعض؛ مأخوذٌ من الائتمام.
ودَلَّتِ الآيةُ على أَنَّ الناس كانت أُمَّةً واحدةً، ولم تدلَّ على أَنَّهُم كانوا أُمَّةً وَاحدةً: في الحقِّ، أم في الباطل.(3/500)
فصل في معاني كلمة «أمة»
قد جاءت الأمة على خمسة أَوْجُهٍ:
الأوَّل: «الأُمَّةُ» المِلَّة، كهذه الآية، أي: مِلَّة واحدة، ومثله: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] أي: مِلتكُم.
الثاني: الأُمَّةُ الجماعة؛ قال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق} [الأعراف: 181] أي: جماعةٌ.:
الثالث: الأُمَّةُ السنين؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] ، أي: إلى سنين معدودةٍ، ومثله «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» أي: بعد سنين.
الرابع: بمعنى إمامٍ يُعلِّمُ الخير؛ قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل: 120] .
الخامس: الأُمَّةُ: إحدى الأُمم؛ قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، وباقي الكلام على ذلك يأتي في آخرِ «النحل» عند قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] .
فصل في المراد بالأمة، وهل كانوا على الحق؟ ومتى اختلفوا؟
واختلف المفسِّرثون على خمسة أقوالٍ:
القول الأول: أنهم كانوا على الحقِّ، وهو قول أكثر المحققين؛ قال القفَّالُ: لأَنَّهُ تعالى قال بعده: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ} ف «الفاء» في قوله: «فَبَعَثَ اللَّهُ» تَقْتَضِي أنْ يكونَ بعثهم بعد الاختلافِ، فلو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر لكانت بعثة الرسل قبل الاختلاف أولى؛ لأَنَّهُم لما بعثوا، وبعضُ الأُمَّة محقٌّ وبعضهم مُبطلٌ فلأَنْ يبعثوا عند كون الجميعِ على الكفر أولى.
وأيضاً فإن آدم - عليه السَّلام - لما بُعِث إلى أولاده، كانوا مُسلمين مطيعين، ولم يحدث بينهم اختلافٌ في الدِّين، إلى أَنْ قتلَ قَابيلُ هابيل؛ بسبب الحسدِ والبَغِي، وهذا ثابتٌ بالتواتر، فإِنَّ الناس - وهم: آدَمَ وَحَوَّاء، وأولادهما - كانوا أُمَّةً واحدةٌ على الحق، ثُم اختلفُوا؛ بسبب البغي، والحسد، كما حكى الله تعالى عن ابني آدم بالحق {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} [المائدة: 27] وأيضاً قوله - عليه السلام -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يولَدُ على الفِطْرة؛ فأَبواهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو يُنصرانه أو يُمَجِّسانه» فدلَّ ذلك على أَنَّ(3/501)
المولود لو تُرِك مع فِطْرته الأَصلية، لما كان على شَيْءٍ من الأَدْيان الباطلة، وأَنَّه إِنَّما يُقدمُ على الدين الباطل، لأسبابٍ خارجية.
وقال الكلبيُّ: هُم أهلُ سفينةِ نُوح، لما غرقت الأرض بالطوفانِ، لم يَبْقَ إلاَّ أَهْلُ السفينة على الحق، والدِّين الصَّحيحن ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ وهذا مما ثَبَتَ بالتَّواتر.
وقال مُجاهدٌ: أراد آدَمَ وحده، وكان أُمَّةً واحدة، وسَمَّى الواحد بلفظ الجمع؛ لأَنَّهُ أَصلُ النّسل، وأبُو البشر، وخلق اللَّهُ منه حَوَّاءَ، ونشر منها الناس.
قال قتادةُ وعكرمةُ: كان الناسُ مِنْ وقت آدمَ إلى مبعث نُوح، وكان بينهما عشرةُ قرون كُلُّهم على شريعةٍ واحدةٍ من الحق، والهُدَى، ثم اختلفُوا في زمن نوح - عليه السلام - فبعث اللَّهُ إليهم نُوحاً، وكان أَوَّل بني بُعثَ.
وحَكَى القرطبيُّ: قال ابنُ أبي خيثمة: منذ خلق اللَّهُ آدم - عليه السلام - إلى أن بعث اللَّه محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خمسةُ آلافِ سنة وثمانمائة سنة، وقيل: أكثر من ذلك، وكان بينه وبين نُوحٍ ألفُ سنة ومائتا سنة، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة، وكان الناس في زمانه أمةً واحدة، على مِلَّةٍ واحدة متمسكين بالدِّين، تُصافحُهم الملائكة، ودَامُوا على ذلك إلى أَن رُفِعَ إدريس - عليه السلام - فاختلفُوا.
قال: وهذا فيه نظر؛ لأَنَّ إدريس بعد نُوحٍ على الصحيح.
وقيل: كان العربُ على دين إبراهيم إلى أَنْ غيّره عمرو بن لُحَيٍّ.
وروى أبو العالية، عن أُبِيٍّ بن كعبٍ قال: «كان النَّاسُ حين عُرِضُوا وأُخرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وأَقرُّوا أُمَّةً واحدة مُسْلِمين كلهم، ولم يكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطّ غيرَ ذلك اليومِ، ثم اختَلَفُوا آدَمَ.
القول الثاني: أَنَّهُم كانُوا أُمَّةً واحدة في الكُفر، وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ، وعطاء، والحسن.
وقال الحسن وعطاء: كان الناس من وَقْتِ وَفَاةِ آدمَ إلى مبعثِ نُوحٍ أُمَّةً واحدة على مِلَّةِ الكُفرِ؛ أَمثَال البَهَائِم، فَبَعثَ اللَّه إبراهيم - عليه السَّلام - وغيرُ من النبيين، واستدلُّوا بقوله: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وهو لاَ يَليقُ إلا بذلك.(3/502)
وجوابه ما بينا: أَنَّ هذا لا يليقُ بضده، ثم اختلف القائلُون بهذا القول: مَتَى كانوا مُتّفقين على الكُفر على ما قَدَّمنا ثُمَّ سأَلُوا أَنفسهم سُؤالاً وقالوا: أليس فيهم مَنْ كان مُسْلماً كهابيل، وشيث، وإدريس.
وأجابوا: بِأنَّ الغالب كان هو الكُفْر، والحُكْمُ للغالب، ولا يعتدُّ بالقليل في الكثير كما لا يعتدُّ بالشعير القليل في البر الكثير، فقد يقال: دار الإسلام، وإِنْ كان فيها غيرُ المسلمين، ودارُ الحرب وإن كان فيها مُسلمون.
الثالث: قال أبو مُسلمٍ: كانوا أُمَّةً واحدة في التمسُّك بالشرائع العقلية، وهي الاعترافُ بوجود الصانع، وصِفاتِهِ، والاشتغالُ بخدمته، وشُكْرِ نعمه، والاجتناب عن القبائح العقليَّة كالظُّلم، والكذب، والجهل، والعبث، وأمثالها.
واحتجَّ القاضي على صِحَّةِ قوله: بِأَنَّ لفظ النَّبيين يفيدُ العُمُومَ والاستغراقَ، وحرف» الفاء «يُفيدُ التَّراخي، فقوله {فَبَعَثَ الله النبيين} يفيد أنَّ بعثةَ الأنبياء كانت مُتأخرة عن كون الناس أُمَّةً واحدة، فتلك الواحدةُ المتقدمةُ على بعثة جميع الشرائع، لا بُدَّ وأَنْ تكون واحدة في شرعة غير مُسْتفَادٍ من الأَنبياء فواجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بَيَّنَّاهُ، وأيضاً فالعلم بحسن شُكر المُنْعِم، وطاعة الخالق، والإحسان إلى الخَلْقِ، العَدلُ؛ مُشْتَركٌ فيه بين الكُلّ، والعِلْمُ يُقبح الكذب، والظِّلم، والجهْل، والعبث، وأمثالها مشترك فيه بين الكل، فالأظهر أَنَّ الناس كانُوا في أَوَّل الأمر على ذلك، ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ لأَسباب منفصلة، ثم قال: فإنْ قيل: أليس أوَّل الإسلام آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مع أولاده كانوا مُجتمعين على التَّمسك بالشرائع العقلية أَوَّلاً، ثم إِنَّ اللَّهَ تعالى بعثهُ بعد ذلك إلى أولاده، ويُحْتَملُ أَنْ صار شرعُهُ مندرِساً، بعد ذلك، ثم رجع الناسُ إلى الشرائعِ العقلية؟
قال ابنُ الخطيب: وهذا القولُ لا يصحُّ إلاَّ بعد تحسين العقل، وتقبيحه، والكلام فيه مشهور.
القول الرابع: أنَّ الآية دلَّت على أَنَّ الناس كانوا أُمَّةً واحدة، وليس فيها أَنَّهم كانوا على الإيمان، أو على الكُفر، فهو موقوفٌ على الدَّليل.
القول الخامس: أَنَّ المراد ب «النَّاسِ» هنا أهْلُ الكتاب مِمَّن آمَنَ بِمُوسَى - عليه السلام - وذلك لأَنَّا بينا أَنَّ هذه الآية متعلقةٌ بما تقدم من قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} [البقرة: 208] وذكرنا أَنَّ كثيراً من المفسرين زعمُوا أَنْ تلك(3/503)
الآية نزلت في اليهودِ؛ فقوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: كان الذين آمنوا بموسى أُمَّةً واحدة على دين واحدٍ، ثم اختلفُوا بسبب البغي، والحسد؛ فبعثَ الله النبيِّين، وهم الذين جاءُوا بعد موسى - عليه السلام - وأنزل معهم الكتاب كما بُعِث الزبور إلى دواد، والإنجيل إلى عيسى، والفرقانُ إلى محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لتكون تلك الكتب حاكمةً عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها، وهذا القولُ مطابقٌ لنظم الآية، وموافقٌ لما قبلها وما بعدها، وليس فيه إشكالٌ إلاَّ أَنَّ تخصيص لفظ الناس بقومٍ معينين خلاف الظَّاهر، ويُعتذَرُ عنه بأن األفَ واللاَّمَ كما تكون للاستغراق، فقد تكونُ أيضاً لِلْعَهد.
فصل في بيان لفظة «كان»
قال القرطبيُّ: لفظة «كَانَ» على هذه الأقوال على بابها من المُضِيّ المنقضي، وكل من قدّر الناسَ في الآية مُؤمنين قدّر في الكلام: فاختلفُوا، فبعث اللَّه، ويدُلُّ على هذا الحذف قوله: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} وكل مَنْ قَدَّرهم كُفَّاراً كانت بعثهُ النبيين إليهم، ويحتملُ أن تكونَ «كان» لِلثّبُوت، والمرادُ الإخبارُ عن الناس الذين هم الجِنْس كله: أنهم أمةٌ واحدةٌ من خُلُوِّهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق لولا أَنَّ اللَّهَ تعالى مَنَّ عليهم بالرسُل؛ تفضلاً منه؛ فعلَى هذا لا تختصُّ «كان» بالمُضِيِّ فقط، بل يكونُ مَعناها كقوله تعالى:
{وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] وقوله: {فَبَعَثَ الله النبيين} قال بعضُ المفسرين: وجملتهم مائةٌ وأربعةُ وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلاثمائةٍ وثلاثة عشر، والمَذكُور في القرآنِ بأسمائِهم: ثمانيةَ عشر نَبِيّاً.
قوله تعالى: «مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ» حالان من «النَّبِيِّنَ» . قيل: وهي حالٌ مُقارنةٌ؛ لأنَّ بعثَهُم كان وقت البشارةِ والنِّذار وفيه نظرٌ؛ لأنَّ البِشَارةَ والنِّذَارةَ [بعدَ البعث. والظاهرُ أنها حالٌ مُقَدِّرَةٌ، وقد تقدَّمَ معنى البشارة والنذارةِ] في قوله: {أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا} [يونس: 2] .
وقوله: «وَأَنْزَلَ مَعهُمُ» هذا الظرفُ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتعلِّقٌ بأنزل. وهذا لا بُدَّ فيه مِنْ تأويل؛ وذلك أَنَّه يلزمُ مِنْ تعلُّقِه بأنزل أَنْ يكون النبيون مصاحبين للكتاب في الإِنزال، وهم لا يُوصَفُون بذلك؛ لعدمه فيهم.
وتأويلُهُ: أنَّ المراد بالإِنزال الإِرسالُ، لأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عنه، كأنَّهُ قيل: وأرسل معهم الكتاب فتصحُّ مشاركتهم له في الإِنزالِ بهذا التَّأويل.
والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الكتاب، وتكونُ حالاً مُقدرةً، أي:(3/504)
وأنزل مقدِّراً مصاحبته غياهم، وقدَّره أبو البقاء بقوله: «شَاهِداً لَهُمْ وَمُؤيِّداً» ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ.
والألِفٌ واللامُ في «الكِتَابِ» يَجُوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ، بمعنى أَنَّه كتابٌ معينٌ؛ كالتوراة مثلاً، فإنها أنزلِت على مُوسى، وعلى النَّبيِّين بعده؛ بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها، واستدامُوا على ذلك، وأَنْ تكونَ للجنس، أي: أنزل مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنس.
قال القاضي: ظاهرُ الآيةِ يدلُّ على أَنَّه لا نَبيَّ إِلاَّ ومعه كتابٌ، أنزل فيه بيانُ الحق: طال ذلك الكتابُ، أم قصُرَ، ودُوِّنَ، أَو لَمْ يُدَوَّن، وكان ذلك الكتابُ مُعجزاً، أَمْ لم يكن.
وقيل: هو مفردٌ وُضِعَ موضع الجمع: أي وأَنزلَ معهم الكُتُبَ، وهو ضعيفٌ.
وهذا الجُملة معطوفةٌ على قوله: «فَبَعَثَ» ولا يُقالُ: البشارةُ والنِّذارةُ ناشئةٌ عن الإِنزال فكيف قُدِّما عليه؟ لأَنَّا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يَكُونان بإنزال كتابٍ، بل قد يكونان بوحي من اللَّهِ تعالى غير مَتلُوٍّ ولا مكتُوبٍ. ولئن سَلَّمنا ذلك، فإنَّما قُدِّما، لأنهما حالان من «النَّبيِّينَ» فالأَوْلَى اتِّصالهم بهم.
قوله: «بالحقِّ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب - أيضاً - عند مَنْ يُجَوِّزُ تعدُّدَ الحال، وهو الصحيحُ.
والثاني: أَنْ يتعلَّق بنفس الكتاب؛ لما فيه من معنى الفعلِ، إذ المرادُ به المكتوبُ.
والثالث: أَنْ يتعلَّقَ بأنزلَ، وهذا أول؛ لأنَّ جعله حالاً لا يَسْتَقِيم إِلاَّ أَنْ يكونَ حالاً مُؤكدةً، إِذْ كُتُبُ اللَّهِ تعالى لا تكون ملتبسةً بالحقِّ، الأصلُ فيها أَنْ تكونَ مْستقلَّةً ولا ضرورة بنا إلى الخروج عن الأصل، ولأنَّ الكتاب جارٍ مَجرى الجوامد.
قوله: «لِيَحْكُمَ» هذا القول متعلقٌ بقوله: «أَنْزَلَ» : واللامُ لِلْعله، وفي الفاعل المضمر في «لِيَحْكُمْ» ثلاثةُ أقوال:
أحدها: وهو أظهرها، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى: لتقدُّمه في قوله: «فَبَعَثَ اللَّهُ» ولأنَّ نسبة الحُكْم إليه حقيقةٌ، ويؤيِّده قراءةُ الجحدري فيما نقله عنه مكّي «لِنَحْكُمَ» بنون العظمة، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى التكلُّم. وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غلط في نقل(3/505)
هذه القراءة عنه، وقال: إنَّ الناسَ رَوَوْا عن الجَحْدَري: «لِيُحْكَمَ» على بناءِ الفعل للمفعول وفي «النُّورِ» موضعين هنا، وفي «آل عمران» ولا ينبغي أن يُغَلِّطه؛ لاحتمال أَنْ يكون عنه قراءتان.
والثاني: أنه يعودُ على «الكِتاب» أي: ليحْكُم الكتابُ، ونسبةُ الحُكْم إليه مجازٌ؛ كنسبةِ النُّطق إليه في قوله تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] .
وقوله: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين} [الإسراء: 9] .
ونسبةُ القضاءِ إليه في قوله: [الكامل]
1037 - ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ المُنْزَلُ
ووجهُ المجاز: أنَّ الحُكم فيه؛ فنُسب إليه، وقيل: إنه يعود على النَّبيِّ، واستضعفه أبو حيَّان من حيثُ إفرادُ الضمير، إذ كان ينبغي على هذا أن يجمع؛ ليطابق «النَّبيِّنَ» . ثُمَّ قال: وَمَا قاله جائِزٌ عَلَى أن يَعُودَ الضميرُ على إفراد الجمع، على معنى: لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بكتابه.
و «بَيْنَ» مُتَعلِّقٌ ب «يَحْكُمْ» . والظَّرفيةُ هنا مجازٌ. وكذلك «فِيما اخْتَلَفُوا» مُتعلقٌ به أيضاً. و «مَا» موصولةٌ، والمرادُ بها الدِّينُ، أي: ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين، بعد أَنْ كانُوا مُتفقين عيه. ويضعُفُ أَنْ يْرَادَ ب «ما» النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأنها لغير العقلاء غالباً. و «فِيهِ» متعلِّقٌ ب «اخْتَلَفُوا» ، والضميرُ عائدٌ على «ما» الموصولة.
قوله: {وَمَا اختلف فِيهِ} الضميرُ في «فِيهِ» أوجهٌ.
أظهرها: أنه عائدٌ على «ما» الموصولةِ أيضاً، وكذلك الضميرُ في «أُوتُوهُ» وقيل: يعودان على الكتاب، أي: وما اختلف في الكتابِ إِلاَّ الَّذين أُوتُوا الكتاب. وقيل: يعودان على النبيِّ، قال الزَّجَّاجُ: أي: وما اختلف في النبيّ إِلاَّ الذين أُوتُوا عِلْمَ نبوَّته. وقيل: يعودُ على عيسى؛ للدلالة عليه.
وقيل: الهاءُ في «فِيهِ» تعود على «الحقِّ» وفي «أوتُوه» تعود على «الكتاب» أي: وما اختلف في الحقِّ إِلاَّ الذين أُوتُوا الكتاب.
فصل
والمراد باختلافهم يحتملُ معنيين:
أحدهما: تكفير بعضهم بعضاً؛ كقول اليهود: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113] أو قولهم {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}
[النساء: 150] والآخر: تحريفهم وتبديلهم، وهذا يدُلُّ على أَنَّ الاختلاف في الحقِّ لم يُوجد إِلاَّ بعد بعثة الأنبياء.(3/506)
وإنزالِ الكتابِ، وذلك يُوجِبُ أَنَّ قبل البعثة لم يكن الاختلاف في الحقِّ حاصلاً، بل كان الاتفاق في الحق حاصلاً وهو يدل على أَنَّ قوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} معناه أمه واجدة في دِينِ الحَقِّ.
وقوله: «مِنْ بعدِ» فيه وجهان:
أحدهما وهو الصحيحُ: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره: اختلفوا فيه من بعد.
والثاني: أن يتعلّق ب «اخْتَلَفَ» الملفوظ به، وقال أبو البقاء: ولا تمنعُ «إلاَّ» من ذلك، كما تقول: «ما قام إلاَّ زيدٌ يومَ الجُمُعَةِ» . وهذا الذي أَجازه أبُوا البقاء، فيه كَلاَمٌ كثيرٌ للنُّحاة، وملخَّصُه: أَنَّ «إِلاَّ» لا يُستَثْنَى بها شيئان دُونَ عطفٍ أَوْ بدليةٍ؛ وذلك أنَّ «إلاَّ» معدِّيةٌ للفعل، ولذلك جاز تعلُّقُ ما بعدها بما قبلها، فهي كواو مَعَ وهمزة التعدية، البدليةِ كذلك «إِلاَّ» وهذا هو الصَّحِيحُ، وإنْ كان بعضهم خالف. فإن وَرَدَ من لسانهم ما يوهم جواز ذلك يُؤَوَّل، فمنه قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109] .
ثم قال «بِالْبَيِّناتِ» فظاهر هذا أَنَّ «بالبيناتِ» مُتَعلِّقٌ بأرسلنا، فقد استُثْنِي ب «إلاَّ» شيئان، أحدهما «رِجَالا» والآخرُ «بالبينات» .
وتأويلهُ أنَّ «بالبَيِّناتَ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لئلا يلزم منه ذلك المحذورُ. وقد منع أبو الحسن، وأبو عليّ: «مَا أخَذَ أَحَدٌ إِلاَّ زيدٌ دِرْهماً» و «ما ضربَ القومُ إلا بعضُهم بَعْضاً» واختلفا في تصحيحها، فقال أبو الحسن: طريقُ تَصْحيحِها بأَنْ تُقَدِّم المرفوع الذي بعد «إِلاَّ» عليها، فيقال: ما أخذَ أحدٌ زيدٌ إلا دِرْهَماً، فيكونُ «زيدٌ» بدلاً من «أَحَدٌ» و «دِرْهَماً» مستثنى مفرغٌ من ذلك المحذوف، تقديره: «ما أخذ أَحَدٌ زيدٌ شيئاً إلا دِرْهماً» .
وقال أبو عليٍّ: طريقُ ذلك زيادةُ منصوبةٍ في اللَّفظ فيظهرُ ذلك المقدَّرُ المستثنى منه، فيقال: «ما أَخَذَ أحدٌ شيئاً إلا زيدٌ درهماً» فيكونُ المرفوع بدلاً من المرفوع، والمنصوبُ بدلاً من المنصُوب، وكذلك: ما ضَرَبَ القومُ أحداً إِلاَّ بعضُهم بعضاً.
وقال أبو بكر بن السَّرَّاج: تقولُ «أَعْطَيْتُ الناسَ دِرْهماً إلا عَمْراً» [جائِزٌ. ولو قُلْتَ: «أعطيتُ الناسَ دِرْهَماً إلا عَمْراً] الدنانير لم يَجُزْ، لأنَّ الحرف لا يُسْتثنى به إِلاَّ واحِدٌ. فإنْ قُلْتَ:» ما أَعْطَيْتَ الناسَ دِرْهَماً إِلاَّ عَمْراً دَانِقاً « [على الاستثناء لم يَجُزْ، أَوْ على البدلِ جاز فَتُبدل» عمراً «من النَّاسِ، و» دانِقاً «من» دِرْهماً «. كأنك قُلتَ:» ما أعطيتُ إلاَّ عَمْراً دانقاً] يعني أنَّ الحصرَ واقعٌ في المفعولين.
قال بعض المُحقِّقين: «وما أجازه ابن السراج من البدل في هذه المسألة، ضعيفٌ؛(3/507)
وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ مِنْ مُقارنتِهِ ب» إلاَّ «، فَأَشْبَهَ العطف، فكما أَنَّهُ لا يقعُ بعد حرف العطف معطوفانِ، لا يقعُ بعد إلاَّ بَدَلاَنِ» .
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ، وما قال الناسُ فيه، كان إعرابُ أَبِي البقاء في هذه الآيةِ الكريمة، مِنْ هذا الباب؛ وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد وقع بعدَ «إلاَّ» الفاعلُ، وهو «الَّذِينَ» ، والجارُّ والمَجرُور، وهو «مِنْ بعد» ، والمفعولُ مِنْ أَجلِهِ، وهو «بَغياً» فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً. والمعنى: وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلاَّ منْ بعد ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بَغياً. وإذا كان التقديرُ كذلك، فقد استُثْنِي ب «إلاَّ» شيئان دُونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ مِنْ غير عطف ولا بدليةٍ وهي مسألةٌ يكثر دورها؟
قوله: «بَغْياً» في نصبه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعولٌ من أجله، لاستكمال الشُّرُوط، وهو علةٌ باعثةٌ، والعامِلُ فيه مُضمرٌ على ما اخترناه، وهو الذي تُعلِّقُ به «فِيهِ» ، و «اخْتَلَفَ» الملفوظُ به عند من يرى أنَّ «إلاَّ» يُستثنى بها شيئان.
والثاني: أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ، أي: باغين، والعامِلُ فيها ما تقدَّمَ. و «بينهم» متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل «بَغْياً» أي: بَغْياً كائناً بينهم.
فصل
قوله: {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} يقتضي أَن يكون إيتاءُ اللَّهِ تعالى إيَّاهم الكتاب كان بعد مجيء الآيات البَيِّنات، فتكونُ هذه البينات مُغايرةً - لا محالة - لإِيتاءِ الكتاب؛ وهذه البيناتُ لا يمكن حملها على شيءٍ سوى الدلائل العقليَّة التي نصبها اللَّهُ - تعالى - على إثبات الأُصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلاَّ بعد ثُبوتها؛ وذلك لأَنَّ المتكلِّمين يقولون: كلُّ ما لا يصحُّ إثباتُ النبة إلاَّ بثبوته، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السَّمعيَّة، وإلاَّ وقع الدور.
وقال بعض المفسرين: المراد «بالبيناتِ» صفة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في كتبهم.
قول فهدى اللَّهُ الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق «لِما» متعلِّقٌ ب «هَدَى» و «ما» موصولةً ومعنى هذا أي: أرشد إلى ما اختلفوا فيه؛ كقوله تعالى: {يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} [المجادلة: 3] ، أي: إلى ما قالوا. ويقال: هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق والضمير في «اخْتلفُوا» عائدٌ على «الذين أُوتُوه» وفي «فِيهِ» عائدٌ على «ما» ، وهو متعلِّقٌ ب «اخْتَلَفَ» .
و «مِن الحَقِّ» مُتَعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه في موضعِ الحالِ من «ما» في «لمِا»(3/508)
و «مِنْ» يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيض، وأَنْ تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك، تقديره: الذي هو الحقّ.
وأجاز أبو البقاء أَنْ يكونَ «مِنَ الحقِّ» حالاً من الضمير في «فيه» ، والعامِلُ فيها «اختلفوا» فإن قيل لم قال هداهم فيما اختلفُوا فيه، وعساهُ أن يكون غير حقٍّ في نفسه قال: «والقَلْبُ في كتابِ اللَّهِ دُونَ ضرُورةٍ تدفعُ إليه عَجْزٌ وسُوءُ فَهْمٍ» انتهى.
قال شهاب الدِّين: وهذا الاحتمالُ الذي جعله ابنُ عطية حاملاً للفرَّاءِ على ادِّعاء القلب، لا يُتوهَّمُ أصلاً.
قوله «بإذنِهِ» فيه وجهان:
أحدهما: أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ من «الَّذِينَ آمَنُوا» ، أي: مأذوناً لهم.
والثاني: أَنْ يكون متعلِّقاً بهدى مفعولاً به، أي: هداهم بأمره.
قال الزَّجَّاج: المراد من الإذن - هنا - العلم، أي: بعلمه، وإرادته فيهم، وقيل بأمره، أي: حصلت الهداية بسبب الأمر؛ كما يقال: قطعت بالسِّكِّين.
وقيل: لا بُدَّ فيه مِنْ إضمار، تقديره: هداهم فاهتدوا بإذنه.
فصل فيما اختلف فيه أهل الكتاب وهدانا الله إليه
قال ابن زيدٍ: هذه الآية في أهل الكتاب، اختلفوا في القبلة فصلّت اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق؛ فهدانا اللَّهُ للكعبة، واختلفوا في الصيام؛ فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في الأَيام، فأخذت اليهودُ السَّبت، والنَّصارى الأحد؛ فهدانا اللَّهُ للجمعة، واختلفوا في إبراهيم، فقال اليهود: كان يهوديّاً، وقالت النصارى: كان نصرانيّاً. فقلنا: إِنَّه كان حنيفاً مسلماً، واختلفوا في عيسى: فاليهود فرَّطُوا، والنَّصارى أفرطوا؛ فهدانا اللَّهُ للحقِّ فيه.
فصل في احتاج بعضهم بالآية على أن الإيمان مخلوق والرد عليه.
تمسَّك بعضهم بهذه الآية على أَنَّ الإيمان مخلوقٌ لله تعالى، وهو ضعيفٌ؛ لأن الهداية غير الاهتداء كما أَنَّ الهداية إلى الإيمان غير الإيمان، وأيضاً فإنه قال في آخر الآية: «بِإِذْنِهِ» ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله: «فَهَدَى اللَّهُ» إذ لا جائز أن يأذن لنفسه، فلا بُدَّ من إضمار لصرف الإذن إليه، والتقدير: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا(3/509)
لمَا اخْتَلَفُوا فيه مِنَ الحَقِّ - فاهتدوا - بِإِذْنِهِ» وإذا كان كذلك، كانت الهداية مغايرةً للإِهتداء.
فصل
اجحتج الفقهاء بهذه الآية على أَنَّ الله - تعالى - قد يخصُّ المؤمن بهداياتٍ لا يفعلها في حقِّ الكافر.
وأجاب عنه المعتزلة بوجوه:
أحدها: أنهم اختصُّوا بالاهتداء، فهو كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ثم قال {هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185] .
وثانيها: أن المراد الهداية إلى الثواب وطريق الجنَّة.
وثالثها: هداهم إلى الحقِّ بالأَلطافِ.
قوله: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} والكلام فيها مع المعتزلة كالتي في قبلها.(3/510)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
«أَمْ» هذه فيها أربعة أقوالٍ:
الأول: أنْ تكون منقطعةً فتتقدَّر ب «بل» والهمزة. ف «بل» لإضراب انتقالٍ من إِخْبَارٍ إلى إِخْبَارٍٍ، والهمزةُ للتقري. والتقدير بل حسبتم.
والثاني: أنها لمجرد الإضراب مِنْ غير تقدير همزة بعدها، وهو قول الزَّجَّاج وأنشد: [الطويل]
1038 - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشِّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُوَرتِهَا أَمْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
أي: بل أنت.
والثالث: وهو قول الفرَّاء وبعض الكُوفيِّين، أنها بمعنى الهمزة. فعلى هذا يُبتدأُ بها في أوَّل الكلام، ولا تحتاجُ إلى الجملة قبلها يضرب عنها.
الرابع: أنها مُتَّصلةٌ، ولا يستقيم ذلك إلا بتقدير جملةٍ محذوفةٍ قبلها.
قال القفَّال: «أمْ» هنا استفهامٌ متوسطٌ؛ كما أَنَّ «هَلْ» استفهامٌ سابقٌ، فيجوز أَنْ(3/510)
يقال: هل عندك رجلٌ، أَمْ عندك امرأَةٌ؟ ولا يجوز أَنْ يقال ابتداءً أَمْ عندك رجل، فأَمَّا إذا كان متوسطاً، جاز سواءٌ كان مسبُوقاً باستفهامٍ آخر، أو لا يكون، أَمَّا إذا كان مسبوقاً باستفهام آخر فهو كقولك: أنت رجلٌ لا تنصف، أفعن جهل تفعلُ هذا، أم لك سلطانٌ؟ وأَمَّا الذي لا يكون مسبوقاً بالاستفهام؛ فكقوله: {الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين أَمْ يَقُولُونَ افتراه} [السجدة: 1 - 3] فكذا تقدير هذا الآية: فهدى اللَّهُ الذين آمنوا فصبروا على استهزَاءِ قومهم، أفتسلكُون سبيلهم أم تحسبون أَنْ تدخُلُوا الجنَّةَ مِنْ غيرِ سلوكِ سبيلهم.
«حَسب» هنا من أَخواتِ «ظنَّ» ، تنصبُ مفعولين عند سيبويه، ومسدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش، كما تقدَّم، ومضارعها فيه الوجهان:
الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ. ولها نظائرُ من الأفعالِ تأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في آخرِ السورةِ، ومعنها الظَّنُّ، وقد تستعملُ في اليقين؛ قال: [الطويل]
1039 - حَسِبْتُ التُّقَى وَالجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحاً إِذَا مَا المَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلاَ
ومصدرُها: الحُسْبان. وتكون غير متعديةٍ، إذا كان معناها الشقرة، تقول: زيدٌ، أي: اشْقَرَّ، فهو أَحْسَبُ، أي: أَشْقَرُ.
قوله: «وَلَمَّا يَأْتِكمْ» الواو للحال، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، أي: غير آتيكم مثلهم. و «لمَّا» حرف جزمٍ، معناه النفي؛ ك «لم» ، وهو أبلغ من النفي ب «لم» ؛ لأنَّها لا تنفي إلاَّ الزمان المتصل بزمان الحال. والفرق بينها وبين «لم» من وجوهٍ:
أحدها: أنه قد يحذف الفعل بعدها في فصيح الكلام، إذ دلَّ عليه دليلٌ.
وهو أحسن ما تخرَّج عليه قراءة «وإِنْ كُلاًّ لَمَّا» كقوله: [الوافر]
1040 - فَجئْتُ قُبُرَهُمْ بَدْءاً وَلَمَّا ... فَنَادَيْتُ الْقُبُورَ فَلَمْ تَجِبْنَهْ
أي: ولمَّا أكن بدءاً، أي: مبتدئاً؛ بخلاف «لَمْ» فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا ضرورة؛ كقوله: [الكامل](3/511)
1041 - وَاحْفَظْ وَدِيعَتَكَ الَّتِي أُودِعْتَهَا ... يَوْمَ الأَعَازِب إِنْ وَصَلْتَ وَإِنْ لَمِ
ومنها: أنَّها لنفي الماضي المتصل بزمان الحال، و «لم» لنفيه مطلقاً أو منقطعاً على ما مرَّ.
ومنها: أنَّ «لَمَّا» لا تدخل على فعل شرطٍ، ولا جزاءٍ بخلاف «لم» .
ومنها أنّ «لَمْ» قد تلغى بخلاف «لَمَّا، فإنها لم يأتِ فيها ذلك، وباقي الكلام على ما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة» الحُجُرَاتِ «عند قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان} [الحجرات: 14] .
واختلف في» لَمَّا «فقيل: مركبة من لم و» ما «زيدت عليها.
وقال سيبويه: بسيطة وليست» ما «زائدة؛ لأنَّ» لما «تقع في مواضع لا تقع فيها» لم «؛ يقول الرجل لصاحبه: أقدِّم فلاناً، فيقول» لَمَّا «، ولا يقال:» لَمْ «مفردةً.
قال المبرّد: إذا قال القائل: لم يأتني زيدٌ، فهو نفيٌ لقولك أتاك زيدٌ، وإذا قال لَمَّا يأتني، فمعناه: أنَّه لم يأتني بعد، وأنا أتوقَّعه؛ قال النابغة: [الكامل]
1042 - أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أنَّ رَكَابَنَا ... لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
وفي قوله» مَثَلُ الَّذِينَ «حذف مضافٍ، وحذفُ موصوفٍ، تقديره: ولمَّا يأتكم مثل محنة المؤمنين الذين خلوا.
و» مِنْ قَبْلِكُمْ «متعلِّقٌ ب» خَلَوا «وهو كالتأكيد، فإنَّ الصلة مفهومةٌ من قوله:» خَلَوْا «.
فصل في سبب نزول» أم حسبتم «الآية.
قال ابن عبَّاس، وعطاء: لمَّا دخل أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة اشتدَّ عليهم الضرر؛ لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ، وتركوا ديارهم، وأموالهم بيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأسرَّ قوم النفاق، فأنزل الله تعالى؛ تطيباً لطيوبهم:» أَمْ حَسِبْتُمْ «.
وقال قتادة والسُّديُّ: نزلت في» غَزْوَةِ الخنْدَقِ «أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد، والحزن، وشدَّة الخوف، والبرد، وضيق العيش، وأنواع الأذى؛ كما قال تعالى:(3/512)
{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] وقيل: نزلت في» غَزْوَةِ أُحُد «لما قال عبد الله بن أُبيٍّ لأصحاب النبي عليه السلام إلى متى تقتلون أنفسكم، وترجون الباطل، ولو كان محمد نبياً، لمَّا سلَّط الله عليكم الأسر والقتل، فأنزل الله تعالى هذه الآية» أَمْ حَسِبْتُمْ «، أي: المؤمنون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بمجرد الإيمان بي، وتصديق رسولي، دون أن تعدبوا الله بكل ما تعبَّدكم به، وابتلاكم بالصبر عليه، وأن ينالكم من أذى الكفار، ومن احتمال الفقر ومكابدة الضر والبؤس، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدوِّ؛ كما كان ذلك غريبةٍ، أو قصَّة عجيبةٍ لها شأنٌ؛ ومنه قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] أي: الصفة التي لها شأن عظيم.
قوله: «مَسَّتْهم البأْسَاءُ» في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أن تكون لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنها تفسيريةٌ، أي: فسَّرَتِ المثل وشرحته، كأنه قيل: ما كان مثلهم؟ فقيل: مسَّتهم البأساء.
والثاني: ان تكون حالاً على إضمار «قَدْ» جوَّز ذلك أبو البقاء، وهي حالٌ من فاعلٍ «خَلَوا» . وفي جعلها حالاً بَعْدٌ.
و «البَأْسَاءُ» : اسمٌ من البؤْسِ بمعنى الشِّدِّة، وهو البلاء والفقر.
و «الضَّرَّاءُ» : الأمراض، والآلام، وضروب الخوف.
قال أبو العبَّاس المقريُّ: ورد لفظ «الضُّرِّ» في القرآن على أربعة أوجهٍ:
الأول: الضُّرُّ: الفقر؛ كهذه الآية، ومثله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ} [يونس: 12] ، وقوله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر} [النحل: 53] أي: الفقر.
الثاني: الضّرّ: القحط؛ قال تعالى: {إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء} [الأعراف: 94] أي: قحطوا.
أو قوله تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} [يونس: 21] أي: قحط.
الثالث: الضُّرُّ: المرض؛ قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} [يونس: 207] أي: بمرض.(3/513)
الرابع: الضر: الأهوال؛ قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر} [الإسراء: 67] .
قوله: «وَزُلْزِلُوا» أي: حرِّكوا بأنواع البلايا والرَّزايا.
قال الزَّجَّاج: أصل الزَّلزلة في اللغة من زلَّ الشيء عن مكانه، فإذا قلت: زلزلته فتأويله: أنَّك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه؛ لأن ما فيه تكريرٌ يكرّرُ فيه الفعل نحو: صَرَّ وصَرْصَرَ، وصَلَّ وصَلْصَلَ؛ وَكَفَّ وَكَفْكَفَ، وفسر بعضهم «زُلْزِلُوا» أي: خُوِّفُوا؛ وذلك لأنَّ الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه.
قول تعالى: «حَتَّى يَقُولَ» قرأ الجمهور: «يقولَ» نصباً، وله وجهان:
أحدهما: أنَّ «حَتَّى» بمعنى «إِلَى» ، أي: إلى أن يقول، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزال، و «حَتَّى» إنما ينصب بعدها المضارع المستقبل، وهذا قد وقع ومضى. فالجواب: أنه على حكاية الحال، [حكى تلك الحال] .
والثاني: أنَّ «حَتَّى» بمعنى «كَيْ» ، فتفيد العلَّة كقوله: أطعتُ الله حَتَّى أدْخَلنِي الجنةَ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قول الرسول والمؤمنين ليس علَّة للمسِّ والزلزال، وإن كان ظاهر كلام أبي البقاء على ذلك، فإنه قال: «بالرفعِ على أَنْ يكونَ التقديرُ: زُلْزِلُوا فقالوا، فالزَّلْزَلَةُ سَبَبُ القولِط، و» أَنْ «بعد» حَتَّى «مُضْمَرةٌ على كِلا التقديرين.
وقرأ نافع برفعه على أنَّه حالٌ، والحال لا ينصب بعد» حَتَّى «ولا غيرها؛ لأنَّ الناصب يخلِّص للاستقبال؛ فتنافيا.
واعلم أنَّ» حَتَّى «إذا وقع بعدها فعلٌ: فإمَّا أن يكون حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، إن كان حالً، رفع؛ نحو:» مَرِضَ حَتَّى لاَ يَرْجُونَهُ «أي: في الحال.
وإن كان مُسْتَقْبلاً نصب، تقول: سِرْتُ حتَّى أدخل البلد، وأنت لم تدخل بعد. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثُمَّ حكايتك له: إمَّا أن تكون بحسب كونه مستقبلاً، فتنصبه على حكاية هذه الحال، وإمَّا أن يكون بحسب كونه حالاً، فترفعه على حكاية هذه الحال، فيصدق أن تقول في قراءة الجماعة: حكاية حالٍ، وفي قراءة نافعٍ أيضاً: حكاية حال.
قال شهاب الدِّين: إنَّما نبَّهتُ على ذلك؛ لأنَّ عبارة بعضهم تخُصُّ حكاية الحال بقراءة الجمهور، وعبارةآخرين تخصُّها بقراءة نافع.
قال أبو البقاء في قراءة الجمهور: «والفعلُ هنا مستقبلٌ، حُكِيت به حَالُهُمْ، والمعنى على المُضِيِّ» وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفع بأنَّ «حتى» للتعليل.
قوله: «معه» هذا الظرف يجوز أن يكون منصوباً بيقول، أي: إنهم صاحبوه في هذا(3/514)
القول وجامعوه فيه، وأن يكون منصوباً بآمنوا، أي: صاحبوه في الإيمان.
قوله: {متى نَصْرُ الله} «مَتَى» منصوبٌ على الظرف، فموضعه رفعٌ؛ خبراً مقدَّماً، و «نصرٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ.
وقال أبو البقاء: «وعلى قولِ الأَخْفَشِ: موضعه نصب على الظرف، و» نصرُ «مرفوعٌ به» . و «مَتَى» ظرفُ زمانٍ لا يتصرَّف إلا بجرِّه بحرفٍ. وهو مبنيٌّ؛ لتضمُّنه: إما لمعنىهمزة الاستفهام، وإمَّا معنى «مَنْ» الشرطية، فإنه يكون اسم استفهام، ويكون اسم شرطٍ فيجزم فعلين شرطاً وجزاءً.
قال القرطبي: «نَصْرُ اللَّهِ» رفع بالابتداء على قول سيبويه، وعلى قول أبي العباس؛ رفع بفعلٍ، أي: متى يقع نصر الله.
و «قَرِيبٌ» خبر «إنَّ» قال النَّحَّاس: ويجوز في غير القرآن «قَرِيباً» أي: مكاناً قريباً و «قَرِيبٌ» لا تثيِّيه العرب، ولا تجمعه، ولا تؤنّثه في هذا المعنى؛ قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ} [الأعراف: 56] ؛ وقال الشَّاعر: [الطويل]
1043 - لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلاَ أُمُّ هَاشِمٍ ... قَرِيبٌ وَلاَ بَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
فإن قلت: فلانٌ قريبٌ لي ثنيت وجمعت فقلت: قَرِيبُونَ، وأقْرِباءُ، وقُرَبَاءُ.
فصل
والظاهر أنَّ جملة {متى نَصْرُ الله} من قول المؤمنين، وجملة {ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} من قول الرسول، فنسب القول إلى الجميع؛ إجمالاً، ودلالة الحال مبيِّنة للتفضيل المذكور. وهذا أولى من قول من زعم أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير: حتَّى يقول الذين آمنوا: «مَتَى نَصْرُ اللَّهِ» ؟ فيقول الرسول «أَلاَ إِنَّ» فقدِّم الرسول؛ لماكنته، وقدِّم المؤمنون؛ لتقدُّمهم في الزمان. قالوا: لأنه أخبر عن الرسول، والذين آمنوا بكلامين:
أحدهما: أنهم قالوا: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟
والثاني: «ألاَّ إنَّ نصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» فوجب إسناد كلِّ واحدٍ من هذين الكلامين إلى ما يليق به من ذينك المذكورين، قال: الذين آمناو قالوا: «مَتَى نَصْرُ اللَّهِ» والرسلُ قالوا: {ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} قالوا: ولهذا نظيرٌ في القرآن والشِّعر:
أمَّا القرآن: فقوله:
{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [(3/515)
القصص: 73] ، والمعنى؛ لتسكنوا في اللَّيل، ولتبتغوا من فضله في النهار.
وأمَّا الشعر: فقول امرئ القيس: [الطويل]
1044 - كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً ... لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ وَالْحَشَفُ البَالِي
فشبه العنَّاب بالرطب، والحشف بالبالي باليابس.
قال ابن عطيَّة: «هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلٌ لِلْكلامِ على غَيْرِ وَجْهِهِ» .
وقيل: الجملتان من قول الرسول والمؤمنين معاً، يعني أن الرسول قالهما معاً، وكذلك أتباعه. فإن قيل: كيف يليق بالرسول القاطع بصحَّةِ وعد الله ووعيده أن يقول مستبعداً: مَتَى نصر الله؟
والجواب من وجوه:
أحدها: التأويل المتقدِّم.
والثاني: أن قول الرسول {متى نَصْرُ الله} ليس على سبيل الشِّكِّ بل على سبيل الدعاء باستعجال النصر.
الثالث: أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذَّى من كيد الأعداء؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] وقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] وقال تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110] ، وعلى هذا فإذا ضاق قلبه، وقلَّت حيلته، وكان قد تقدم وعبد الله بنصره، إلاَّ أنه لم يعيِّن له الوقت؛ قال عند ضيق قبله: {متى نَصْرُ الله} حَتَّى إنَّه إذا علم قرب الوقت، زال غمه وطاب قبله؛ ويؤيد ذلك قوله في الجواب {إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} فلما كان الجواب بذكر القرب؛ دلَّ على أنَّ السؤال كان واقعاً عن القرب، ولو كان السؤال وقع عن أنَّه هل يوجد النصر، أم لا؛ لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال، هذا على قول من قال إن قوله: {ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} مِن كلام الله تعالى جواباً للرسول، ومن قال إنه من كلام المؤمنين. قال: إنَّهم لما علموا أنَّ الله تعالى لا يُعلي عدوه عليهم، قالوا: {ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} ، فنحن على ثقة بوعدك.
وقيل: إنَّ الجملة الأولى من كلام [الرسول وأتباعه، والجملة ألخيرة من كلام] الله تعالى، على ما تقدم. فالحاصل أنَّ الجملتين في محلِّ نصب بالقول.(3/516)
فإن قيل: قوله: {إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} يوجب في حق كل من لحقه شدَّةٌ أن يعلم أنه سيظفر بزوالها، وذلك غير ثابتٍ.
فالجواب: لا يمتنع أن يكون هذا من خواصِّ الأنبياء - عليهم السّلام - وأيضاً فإن كان عامّاً في حق الكل إذ كلُّ من كان في بلاءٍ، فلا بدَّ له من أحد أمرين:
إمَّ أن يتخلص منه أو يموت، فإن مات، فقد وصل إلى من لا يهمل أمره، ولا يضيع حقه، وذلك من أعظم النصر، وإنما جعله قريباً؛ لأن الموت آتٍ؛ وكلَّ آتٍ قريبٌ.(3/517)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قد تقدَّم أنَّ «ماذا» له استعمالات ستَّةٌ عند قوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} [البقرة: 26] . وهنا يجوز أن تكون «ماذا» بمنزلة اسمٍ واحدٍ، بمعنى الاستفهام؛ فتكون مفعولاً مقدَّماً ل «يُنْفِقُونَ» ؛ لأنَّ العرب يقولون: «عماذا تَسْأَلُ» بإثبات الألف، وحذفوها من قولهم: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} [النبأ: 1] وقوله {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] فلما لم يحذفون الألف من آخر «مَا» ، علمت أنه مع «ذا» بمنزلة اسم واحدٍ، ولم يحذفون الألف منه، لمَّا لم يكن آخر الاسم، والحذف يلحقها إذا كان آخراً، إلاَّ أن يكون في شعر؛ كقوله: [الوافر]
1045 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتَمُنِي لَئِيمٌ ... كَخنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رمَادِ
قال القرطبي: إن خفَّفت الهمزة، قلت: يسلونك، ومنه: ما «يُنْفِقُون» ويجوز أن تكون «ما» مبتدأ و «ذا» خبره، وهو موصولٌ. و «ينفقون» صلته، والعائد محذوفٌ، و «ماذا» معلِّق للسؤال، فهو في موضع المفعول الثاني، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم} [البقرة: 211] .
قال القرطبي: متى كانت اسماً مركابً، فهي في موضع نصب إلاَّ ما جاء في قول الشاعر: [الطويل]
1046 - وَمَاذَا عَسَى الوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا ... سِوَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ(3/517)
فإِنَّ «عَسَى» لا تعمل فيه، ف «ماذا» في موضع رفعٍ، وهو مركَّبٌ؛ إذ لا صلة ل «ذا» .
وجاء «ينفقون» بلفظ الغيبة؛ لأنَّ فاعل الفعل قبله ضمير غيبةٍ في «يَسْألونَكَ» ، ويجوز في الكلام «ماذا نُنْفِقُ» كما يجوز: أقسم زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ، وسيأتي لهذا مزيد ببيانٍ في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] في المائدة إن شاء الله تعالى.
قوله: {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} يجوز في «ما» وجهان:
أظهرهما: أن تكون شرطيّةً؛ لتوافق ما بعدها، ف «ما» في محلِّ نصبٍ، مفعولٌ مقدَّمٌ، واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدر الكلام. و «أَنْفَقْتُمْ» في محلّش جزمٍ بالشرط، و «مِنْ خَيْرٍ» تقدَّم إعرابه في قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] .
وقوله: فللوالدين «جواب الشرط، وهذا الجارُّ خبر لمبتدأ محذوف، أي: فمصرفه للوالدين، فيتعلَّق بمحذوفٍ، إمَّا مفردٌ، وإمَّا جملةٌ على حسب ما ذكر من الخلاف فيما مضى. وتكون الجملة في محلِّ جزمٍ بجواب الشرط.
والثاني: أن تكون» مَا «موصولة، و» أَنْفَقْتُمْ «صلتها، والعائد محذوف، لاستكمال الشروط، أي: الذي أنفقتموه. والفاء زائدة في الخبر الذي هو الجارُّ والمجرور.
قال أبو البقاءِ في هذا الوجه:» ومِنْ خيرٍ يكون حالاً من العائد المحذوفٍ «.
فصل ف سبب النزول
اعلم نَّه تعالى لمَّا بيَّن الوجوب على كل مكلّفٍ، بأن يكون معرضاً عن طلب العاجل مشتغلاً بطلب الآجل، شرع في بيان الأحكام من هذه الآية إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243] .
قال عطاء، عن ابن عباسٍ: نزلت الآية في رجل أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «إِن لي دِيناراً، فقال: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ، قال: إنّ لِي آخَرَ، قال: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ، فَقَالَ: إنَّ لِي آخَر، قال: أَنْفِقْهُ على خَادمِكَ، قال: إنّ لي آخر، قال: أَنْفِقْهُ عَلَى وَالِدَيْكَ قال: إنَّ لِي آخَرَ، قال: أَنْفِقْهُ عَلَى قرابتكِ، قال: إنَّ لي آخَرَ قال: أَنْفِقْهُ في سَبِيل الله، وهو أَحْسَنُها»
وروى الكلبيُّ، عن ابن عباسٍ أنَّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح، وهو الذي قتل(3/518)
يوم أُحُدٍ، وكان شيخاً كبيراً هرماً، وعنده مالٌ عظيمٌ، فقال ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت الآيةُ.
فإن قيل إنَّ القوم سألوا عما ينفقون كيف أُجيبوا ببيان المصرف؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ في الآية حذفاً، تقديره: ماذا ينفقون ولمن يعطونه، كما ذكرنا في رواية الكليِّ في سبب النزول، فجاء الجواب عنهما، فأجاب عن المنفق بقوله: «مِنْ خَيْرٍ» وعن المنفق عليه بقوله: فَلِلْوَالِدَيْنِ «وما بعده.
ثانيها: أن يكون» ماذا «سؤالاً عن المصرف على حذف مضافٍ، تقديره: مصرف ماذا ينفقون؟
ثالثها: أن يكون حذف من الأوَّل ذكر المصرف، ومن الثاني ذكر المنفق، وكلاهما مرادٌ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ} [البقرة: 171] .
رابعها: قال الزمخشريُّ: قد تضمَّن قوله: {مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} بيان ما ينفقونه، وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلام على ما هو أهمُّ وهو بيان المصرف؛ لأنَّ النفقة لا يعتدُّ بها إلاَّ أن تقع موقعها. قال: [الكامل]
1047 - إنَّ الصَّنِيعَةَ لاَ تَكُونُ صَنِيعَةً ... حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ
خامسها: قال القفَّال: إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ» ما نُنْفِقُ: إلاَّ أن المقصود السؤال عن الكيفية؛ لأنهم كانوا علامين بأن الإنفاق يكون على وجه القربة، وإذا كان هذا معلوماً عندهم، لم ينصرف الوهم إلى ذلك، فتعيَّن أنَّ المراد بالسؤال إنَّما هو طريق المصرف، وعلى هذا يكون الجواب مطابقاً للسؤال، ونظيره قوله تعالى: {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} [البقرة: 70، 71] وإنَّما كان هذا الجواب موافقاً للسؤال، لأنه كان من المعلوم أنها البقرة التي شأنها وصفتها كذا، فقوله: «مَا هِيَ» لا يمكن حمله على طلب الماهيَّة؛ فتعين أن يكون المراد منه طلب الصِّفة التي بها تتميز هذه البقرة عن غيرها، فكذا ها هنا.
وسادسها: يحتمل أنَّهم لما سألوا عن هذا السؤال، فقيل لهم: هذا سؤالٌ فاسدٌ، أي: أنفقوا ما أردتم بشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل، فقال الطبيب: كل في اليومين مرَّتين، ومعناه، كل ما شئت، ولكن بهذا الشرط.(3/519)
فصل
اعلم أنَّه تعالى رتَّب الإِنفاق، فقدَّم الوالدين، لأنَّهما كالمخرج للمكلَّف من(3/520)
العدم إلى الوجود، وذلك لأنَّ الله - تعالى - هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود؛ قال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] فأشار إلى أنه ليس بعد رعاية حقِّ الله - تعالى - من شيءٍ أوجب من رعاية حقِّ الوالدين؛ فلذلك قدمهما، ثم الأقربين؛ لأنَّ الإنسان أعلم بحال الفقير القريب من غيره؛ ولأنَّه إذا لم يراع قريبه الفقير لاحتاج الفقير إلى الرجوع إلى غيره، وذلك عار في حقِّ قريبه الغنيّ.(3/521)
فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر «الْوَالِدَيْنِ» ثمَّ عطف عليه «الأَقْرَبِينَ» والعاطف يقتضي المغايرة، وذلك يدلُّ على أن الوالدين لا يدخلون في مسمَّى الأقربين، فهو خلاف الإجماع؛ لأنَّه لو وقف على «الأَقْربين» حمل فيه الوالدين بغير خلافٍ.
فالجواب: أنَّ هذا من عطف العامِّ على الخاصِّ؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] فعطف القرآن على السبع المثاني، وهي من القرآن، وقال - عليه السّلام - «أفضل ما قتل أنا والنبيُّون من قبلي ... » فعطف «النَّبِيِّين» على قوله: «أَنَا» وهو من النبيين، وذلك شائعٌ في لسان العرب، ثمَّ ذكر بعدهم اليتامى؛ لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب، وليس لهم أحدٌ يكتسب لهم، فالطفل اليتيم: قد عدم الكسب، والمكاسب، وأشرف على الضياع، ثم ذكر بعدهم المساكين؛ لأنَّ حاجتهم أقلُّ من حاجة اليتامى؛ لأنَّ قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى، ثم ذكر ابن السبيل بعدهم؛ لأنه بسبب انقطاعه عن بلده، قد يحتاج، ويفتقر، فهذا أصحُّ تركيبٍ، وأحسن ترتيبٍ في كيفيَّة الإنفاق، ثم لمَّا فصَّل هذا التَّفصيل الحسن الكامل، أردفه بالاجمال، فقال: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} والعليم مبالغةٌ في كونه عالماً لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّةٍ في الأرض، ولا في السَّماء.
و «ما» هذه شرطيةٌ فقطح لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى. وقرأ عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «وما يفعلوا» بالياء على الغيبة، فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب، وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه، أي: وما يفعل الناس و" ما " هذه شرطيةٌ فقطح لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: " وما يفعلوا " بالياء على الغيبة , فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب , وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه , أي: وما يفعل الناس..
فصل في المراد بالخير
قال أكثر العلماء: المراد ب «الخَيْر» هو المال؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] ، وقال: {إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية}
[البقرة: 18] .
وقيل: المراد بالخير هذا الإنفاق، وسائر وجوه البرِّ، والطاعة.
فصل هل الآية منسوخة أم لا؟
قال بعضهم: هذه الآية منسوخة بآية المواريث.
وقال أهل التفسير: إنها منسوخة بالزكاة.(3/522)
قال بعضهم: وكلاهما ضعيفٌ؛ لأنَّه يمكن حمل الآية على وجوهٍ لا يتطرق النَّسخ إليها.
أحدها: قال أبو مسلم الأصفهاني: الغنفاق على الوالدين، واجبٌ عند قصورهما عن الكسب والملك، والمراد ب «الأَقْرَبِينَ» الولد، وولد الولد، وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك، وعلى هذا فلا وجه للقول بالنَّسخ؛ لأنَّ هذه النفقة تلزم في حال الحياة، والميارث يصل بعد الموت، وما وصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقةٌ.
وثانيها: أن يكون المراد من أحبَّ التقرب إلى الله تعالى بالنفقة، فالولى أن ينفقه في هذه الجهات، فيكون المراد التطوع.
ثالثها: أن يكون المراد االوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية، وفيما يتصل بالتيامى والمساكين مما يكون زكاةً.
ورابعهما: يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرَّحم، وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة، فظاهر الآية محتملٌ لكل هذه الوجوه من غير نسخ.(3/523)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
قرئ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال} : ببناء «كَتَب» للفاعل؛ وهو ضمير الله تعالى، ونصبِ «القِتَالِ» .
قال القرطبي: وقرأ قومٌ: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقَتْلُ» ؛ قال الشاعر: [الخفيف]
048 - أ - كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقَتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذُيُولِ
قوله تعالى: «وَهُوَ كُرْهٌ» هذه واو الحال، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، والظاهر أنَّ «هو» عائدٌ على القتال. وقيل: يعود على [المصدر] المفهوم من كتب، أي: وكتبه وفرضه. وقرأ الجمهور «كُرْهٌ» بضمِّ الكاف، وهو الكراهية بدليل قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} ثم فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ وضع المصدر موضع الوصف سائغٌ كقول الخنساء: [البسيط]
1048 - ب - ... ... ... ... ... ... ... ... فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَادْبَارُ(3/523)
والثاني: أن يكون فعلاً بمعنى مفعولٍ، كالخبر بمعنى الخبور وهو مكروهٌ لكم.
وقرأ السُّلميُّ بفتحها. فقيل: هما بمعنًى واحدٍ، أي: مصدران كالضَّعف والضُّعف، قاله الزَّجاج وتبعه الزمخشري.
وقيل: المضمومُ اسمُ مفعولٍ، والمفتوح المصدر.
وقيل: المفتوح بمعنى الإكراه، قاله الزممخشري في توجيه قراءة السُّلميِّ، إلاَّ أنَّ هذا من باب مجيء المصدر على حذف الزوائد، وهو لا ينقاس.
وقيل: المفتوح ما أُكره عليه المرء، والمضموم ما كرهه هو.
فإن كان «الكَرْهُ» ، و «الكُرْهُ» مصدراً، فلا بدَّ من تأويل يجوز معه الإخبار به عن «هو» ، وذلك التأويل: إمَّا على حذف مضافٍ، أي: والقتال ذو كرهٍ، أو على المبالغة، أو على وقوعه موقع اسم المفعول. وإن قلنا: إنَّ «كُرْهاً» بالضَّمِّ اسم مفعولٍ، فلا يحتاج إلى شيء من ذلك. و «لَكُمْ» في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفة لكره، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي: كرهٌ كائنٌ.
فصل في بيان الإذن في القتال
اعلم أنه - عليه الصّلاة والسّلام - كان غير مأذونٍ له في القتال مدة إقامته بمكة،(3/524)
فلمَّا هاجر أُذن له في قتال من يقاتله من المشركين، ثمَّ أُذن له في قتال المشركين عامَّةً، ثم فرض الله الجهاد.
واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال عطاء: الجهاد تطوعٌ والمراد بهذه الآية أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك الوقت دون غيرهم، وإليه ذهب الثَّوْرِيُّ، واحتجوا بقوله تعالى: {فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] ولو كان القاعد تاركاً للفرض، لم يكن يعده الحسنى.
قالوا: وقوله: «كُتِبَ» يقتضي الإيجاب، ويكفي في العمل به مرَّةً واحداةً.
وقوله: «عَلَيْكُمْ» يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت، وإنما قلنا إنَّ قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} [البقرة: 178] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك؛ بدليلٍ منفصلٍ، وهو الإجماع، وذلك غير معقولٍ ها هنا؛ فوجب أن يبقى على الأصل، ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122] والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه، والإجماع اليوم منعقدٌ على أنه من فروض الكفايات، إلاَّ أن يدخل المشركون ديار المسلمين؛ فيتعيّن الجهاد حينئذٍ على الكلِّ.
وقال آخرون: هو فرض عينٍ؛ واحتجُّوا بقوله: «كُتِبَ» وهو يقتضي الوجوب، وقوله «عَلَيْكُمْ» يقتضيه أيضاً، والخطاب بالكاف في قوله «عَلَيْكُمْ» لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد؛ كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] .
وقال الجمهور: هو فرضٌ على الكفاية.
فإن قيل هذا الخطاب للمؤمنين، فكيف قال: {وَهُوَ كُرهٌ لَكُم} ، وهذا يشعر بكون(3/525)
المؤمنين كارهين لحكم الله، وتكليفه، وذلك غير جائزٍ؛ لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله وتكليفه، بل يرضى بذلك، ويحبُّه، ويعلم أنه صلاحه، وتركه فساده؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن المراد من «الكُرْهِ» كونه شَاقّاً على النفس، لأن التكليف عبارةٌ عن إلزام ما فيه كلفةٌ، ومشقةٌ، ومن المعلوم: أن الحياة من أعظم ما يميل الطبع إليها، فلذلك كان القتال من أشقِّ الأشياء على النفس، لأنَّ فيه إخراج المال، والجراحات، وقطع الأطراف، وذهاب الأنفس، وذلك أمرٌ يشق على الأنفس.
والثاني: أن يكون المراد منه كراهتهم للقتال قبل أن يفرض؛ لما فيه من الخوف، ولكثرة الأعداء فبيَّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خيرٌ لكم من تركه، لئلاَّ تكرهونه بعد أن فرض عليكم.
قال عكرمة: نسخها قوله تعالى: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النساء: 46] يعني أنهم كرهوه ثم أحبوه.
قوله {وعسى أَن تَكْرَهُوا} ، «عَسَى» فعلٌ ماضٍ، نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإشفاق، وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبر، ولا يكون خبرُها إلا فِعلاً مضارعاً مقروناً ب «أَنْ» ، وقد يجيءُ اسماً صريحاً؛ كقوله [الرجز]
1049 - أَكْثَرْتَ فِي العَذْلِ مُلِحّاً دَائِمَا ... لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا
وقالت الزَّبَّاءُ: «عَسَى الغُوَيْرُ أَبُؤُسَا» وقد يَتَجَرَّد خبرها مِنْ «أَنْ» ؛ كقوله: [الطويل]
1050 - عَسَى فَرَجٌ يأْتِي بهِ اللَّهُ إِنَّهُ ... لَهُ كُلَّ يَوْمٍ في خَلِيقَتِهِ أَمْرُ(3/526)
وقال آخر: [الوافر]
1051 - عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَه فَرَجٌ قَرِيبٌ
وقال آخر: [الوافر]
1052 - فَأَمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولَكِن ... عَسَى يغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ
وتكونُ تامّة، إذا أُسندَتْ إلى «أَنْ» أَوْ «أنَّ» ؛ لأنهما يَسدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها، والأصحُّ أنها فِعْلٌ، لا حرفٌ، لاتصالِ الضمائر البارزةٍ المرفوعةِ بها.
قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] ويرتفع الاسم بعده فقوله: «عَسَى زَيْدٌ» معناه: قرب ووزنُها «فَعَل» بفتح العين، ويجوز كسر عينها، إذا أسندت لضمير متكلم، أو مخاطبٍ أو نون إناثٍ وهي قراءةُ نافعٍ، وستأتي إن شاء الله تعالى ولا تتصرَّفُ بل تلزمُ المضيَّ.
والفرقُ بين الإشفاق والترجِّي بها في المعنى:
أنَّ الترجِّي في المحبوبات، والإشفاقَ في المَكروهات.
و «عَسَى» من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإشفاق محالانِ في حقَّه. وقيل: كلُّ «عَسَى» في القرآن للتحقيق، يعنُون الوقوعَ، إِلاَّ قوله تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] وهي في هذه الآية ليسَت ناقصة؛ فتحتاج إلى خبرٍ، بل تامةٌ، لأنها أُسْندت إلى «أَنْ» ، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مَسدَّ الخبرين بعدها. وزعم الحُوفيُّ أَنَّ: «أَنْ تَكْرَهُوا» في محلِّ نصبٍ، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد.
قوله: {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وإنْ كانَتْ من النكرة بغيرِ شرطٍ من الشروط المعروفة قليلةً.
والثاني: أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ ل «شَيْئاً» وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة؛ لأنَّ صورتها صورة الحالِ، فكما تدخل الواو عليها حاليةً، تدخلُ عليها صفةً، قاله أبو البقاء ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشريّ في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] فجعل «وَلَهَا كِتَابٌ» صفةً لقريةٍ، وقل: وكانَ القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذا الواو بينهما؛ كقوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] وإنما توسَّطَت؛ لتأكيد لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ، كما يُقالُ في الحالِ: «جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ، وعليه ثوبٌ» . وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا،(3/527)
والزمخشريُّ هناك، هو رأيُ ابن جِنّي، وسائرُ النحاة يُخالفونه.
فصل في بيان الخيرية في الغزو
قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنّ في الغزو إحدى الحسنيين: إمَّا الظفرُ والغنيمةُ، وإِمَّا الشهادة والجنةُ {وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً} يعني القُعُود عن الغزو، وهو شرٌّ لكم؛ لما فيه من فواتِ الغنيمة، والأَجرِ، ومخالفةِ أَمر اللَّهِ تعالى.
قال القُرطبي: قِيْلَ «عَسَى» بمعنى «قَدْ» وقال الأَصمُّ: و «عَسَى» مِنَ اللَّهِ واجبةٌ في جميع القرآن إِلاَّ قولُه تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً} [التحريم: 5]
وقال أبو عبيدة: عَسَى من اللَّهِ إيجابٌ، والمعنى: عسى أنْ تكرهُوا ما في الجهادِ من المشقَّةِ؛ وهو خيرٌ لكم، من أَنَّكُمْ تغلبون، وتظفرون وتغنمون، وتُؤجرون، ومَنْ مات، مات شهيداً. و «الشَّرُّ» هو السُّوء أصله: من شَرَرْتُ الشيء إذا بسطتهُ يقال: شَرَرْتُ اللحم، والثوب: إذا بسطته، ليجف؛ ومنه قوله: [الوافر]
1053 - وَحَتَّى أُشُرَّتْ بِالأَكُفِّ المَصَاحِفُ ... والشَّررُ: هو اللَّهب لانبساطه. فعلى هذا «الشَّرُّ» انبساطُ الاشياء الضارةِ، وقوله {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فالمقصود الترغيبُ العظيمُ في الجهادِ، وكأنه تعالى قال يا أيها العبد، اعلمْ أَنَّ علمي أكملُ من علمك، فكُنْ مشتغلاً بطاعتي، ولا تلتفتْ إلى مُقتضى طبعك، فهي كقوله في جواب الملائكة: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] .(3/528)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
قرأ الجمهور: «قِتَالٍ» بالجّرِّ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه خفضٌ على البدلش من «الشَّهْرِ» بدلِ الاشتمالِ؛ إذ القتالُ واقعٌ ف يه، فهو مشتملٌ عليه.
والثاني: أنه خفضٌ على التَّكرير، قال أبو البقاء: «يريدُ أنَّ التقديرَ: عَنْ قِتَالٍ فيه» . وهو معنى قول الفراء إِلاَّ أَنَّهُ قال: هُوَ مَخْفُوضٌ ب «عَنْ» مُضْمرَةً. وهذا ضعيفٌ جدّاً؛ لأنَّ حرف الجرَّ لا يبقى عملهُ بعد حذفه في الاختيار. وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين، والكسائي، والفراءِ؛ لأنَّ البدل عند جمهور البصريين على نيَّة تكرار العامل، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي.
وقوله: لأنَّ حرف الجرِّ لا يبقى عمله بعد حذفه إِنْ أراد في غير البدل، فمُسَلَّمٌ، وإن أراد في البدلِ، فممنوعٌ، وهذا هو الذي عناه الكسائي.
الثالث: قال أبو عبيدة: «إِنه خفضٌ على الجِوَارِ» .
قال أبو البقاء: «وهو أَبْعَدُ مِنْ قولهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأنَّ الجوار من(4/3)
مواضع الضَّرورة أو الشذوذِ، فلا يُحْمَلُ عليه ما وجدت عنه مَندُوحةٌ» وقال ابن عطية: «هُوَ خَطَأٌ» . قال أبو حيَّان إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجوار المصطلح عليه فهو خَطَأٌ. وجهةث الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أَنْ يكون الشيءُ تابعاً لمرفوع، أو منصوب، من حيثُ اللفظُ والمعنى، فيُعدل به عن تَبَعيَّته لمتبوعه لفظاً، ويُخْفَضَ لمجاورته لمخفوض؛ كقولهم: «هذا حُجْرُ ضَبِّ خَرِبٍ» ، وكان مِنْ حقِّه الرفع؛ لأنه مِنْ صفاتِ الجُحْر، لا من صفاتِ الضبِّ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضعه إِنْ شاءس اللهُ تعالى، و «قِتَالٍ» هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ، أو منصوبٍ، وجاوز مَخفوضاً فخُفِض.
وإن كان عنى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فخفضُه بكونه جاور مخفوضاً، أي: فصار تابعاً له، لم يكنْ خطأً، إِلاَّ أنه أغمضَ في عبارته؛ فالتبس بالمصطلح عليه.
وقرأ ابن عباس والأَعمش: «عَنْ قِتَالٍ» بإظهارِ «عَنْ» وهي في مُصْحَف عبد الله كذلك. وقرأ عكرمة: «قتْلٍ فِيهِ، قُلْ قَتْلٌ فِيهِ» بغير ألف.
وقُرئ شاذّاً: «قِتَالٌ فيه» بالرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأٌ، والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ، وسَوَّغ الابتداءُ به وهو نكرةٌ؛ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهام، تقديره: أَقِتَالٌ فيه.
والثاني: أنه مرفوعٌ باسم فاعلٍ تقديرُه: أجائزٌ قتالٌ فيه، فهو فاعلٌ به. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه بأن يكونَ خبرَ محذوفٍ، فجاءَ رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ: إِمَّا مبتدأٌ، وإِمَّا فاعلٌ، وإمَّا خبرُ مبتدأ. قالوا: ويظهرُ هذا مِنْ حَيثُ إِنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا، وإنَّما كان سؤالهم: هل يجوزُ القتالُ فيه أم لا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين، فهذه الجملةُ المُستفهمُ عنها في محلِّ جرٍّ؛ بدلاً من الشهرِ الحرامِ، لأنَّ «سَأَلَ» قد أخذ مفعوليه فلا تكونُ هي المفعول، وإن كانت محَطَّ السؤال.
وقوله: «فِيهِ» على قراءةِ خفضِ «قِتَالٍ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه في محلِّ خفضٍ؛ لأنه صفةٌ ل «قِتَالٍ» .(4/4)
والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ؛ لتعلُّقه بقتال، لكونه مصدراً.
وقال أبو البقاء: كما يتعلَّقُ ب «قِتَالٍ» ولا حاجة إلى هذا التشبيهِ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعل.
فصل
والضميرُ في «يَسْأَلُونك» قيل للمؤمنين لما يأتي في سبب النزول، ولأن أكثر الحاضرين عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانُوا مسلمين، فما قبل هذه الآية {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} [البقرة: 214] {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] حكاية عن المؤمنين، وما بعدها كذلك وهو قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة: 219] ، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة: 220] فوجب أن تكون هذه كذلك.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما سألوه إلاَّ عن ثلاث عشرة مسألةً حتى قُبض، كلهن في القُرآنِ، ومنه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ولكن الصدّ عن سبيل اللهِ، وعن المسجدِ الحرام، والكُفرِ به، أكبرُ من هذا القتالِ. {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} فبيَّن تعالى أَنَّ غرضهم من هذا السؤال، أَنْ يقاتِلُوا المسلمين، ثم أنزل الله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فصرَّح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائزٌ والألف واللامُ في «الشَّهْرِ الحرام» قيل: للعهد، وهو رجبٌ، وقيل: للجنسِ، فيعمُّ جميع الأشهرِ الُحُرُمِ.
قوله: «قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، محلُّها النصبُ بقُلْ والمعنى: القتال في الشهر الحرام وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ:
إمَّا الوصفُ، إذا جعلنا قوله: «فيه» صفةً له.
وإمَّ التخصيصُ بالعمل، إذا جعلناه متعلقاً بقتال، كما تقدَّم في نظيره.
فإِنْ قيل: قد تقدَّم لفظُ نكرة، وأُعيدت من غير دخول ألفٍ ولام عليها، وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15 - 16](4/5)
لإِنَّه لو لم يكن كذلك، كان المذكور الثاني غير الأول، وهذا غيرث واضحٍ؛ لإِنَّ الألف كقوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 5 - 6] .
فقال أبو البقاء: «ليسَ المرادُ تعظيم القتالِ المذكور المسؤولِ عنه، حتى يُعادَ بالألف واللامِ، بل المراد تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان، فعلى هذا» قِتَالٌ «الثاني غيرُ الأولِ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ السَّابق المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً، بل إنما تفيدُ العهدَ في الاسمِ السابقِ.
وأَحسنُ منه قولُ بعضهم: إنَّ الثَّاني غير الأولِ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبد الله جحش، وكان لنُصرة الإِسلامِ وخُذلان الكفرِ؛ فليس من الكبائرِ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غير هذا، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ، ونصرةُ الكُفْرِ، فاختير التنكير في هذين اللفظين؛ لهذه الدقيقة، ولو جِيءَ بهما معرفتين، أو بأحدهما مُعرَّفاً، لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ.
فصل
روى أكثرُ المفسرين عن ابن عباسٍ: سبب نزولِ هذه الآية أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث عبد الله بن جحش الأَسديّ، وهو ابن عمَّته قبل قتال بدرٍ بشهرين على رأس سبعة شهراً من الهجرة وبعث معه ثمانية رهطٍ، من المهاجرين؛ سعد بن أبي وقَّاص الزهري وعُكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان السَّلَمي، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسهيل ابن بيضاء، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله الحنظليّ، وخالد بن بُكَير، وكتب معهم لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وعهداً، ودفعه إليه، وقال: سِر على اسم الله، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلتَ، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثُمَّ امْضِ إلى ما أمرتُك، ولا تستكرِهنَّ أَحَداً مِنْ أصحابك على السَّير معك، فسار عبد الله يومين، ثم نزل وفتح الكتاب، وإذا فيه «بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم» أمَّا بعد: فسر على بركة اللهِ بمنْ معك مِنْ أصحابك؛ حتَّى تنزل بطن نخلة، فترصُد بها عير قريش؛ لعلك تأتينا منهم بخبرٍ، فلمَّا نظر في الكتاب، قال سَمْعاً وطاعة، ثم قال لأَصحابه ذلك، وقال: إنَّهُ نَهَاني أَن أَستكره أحداً منكم؛ فمن كان يريد الشهادة، فلينطلق معي، ومنْ كرِه، فليَرْجِع، ثم مَضَى، ومَضَى معه أصحابه، لم يتخلّف عنه منهم أحدٌ، حتى كان بمعدن فوق الفُرع يقال له نجران، أضلَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يعتقبانه؛ فتخلفا عليه في طلبه ومضى ببقيةِ أصحابِه، حتى نزل «ببطنِ نَخْلَةَ» بين «مَكَّةَ» و «الطائف» فبينما هم(4/6)
كذلك، مرت عيرُ لقريشٍ تحملُ زبيباً، وأدماً، وتجارة مِنْ تجارات الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونوفلُ بن عبد الله المخزوميَّان، فلما رأوْا أصحاب رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هابوهم، فقال عبد الله بن جحش إنَّ القومَ قد ذُعِروا منكم، فاحلققُوا رأس رجُلٍ منكم؛ وليتعرض لهم، فحلقُوا رأس عُكَاشة، ثم أَشرفوا عليهم؛ فقالوا: قومٌ عمَّارٌ، لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة. فكانوا يرون أنَّه من جمادى، وهو مِنْ رجبٍ فتشاور القومُ، وقالوا: لئن تركتموهم الليلة؛ ليدخُلنَّ الحرمَ، فليمنعُنّ به منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقفة القومِ، فَرَمَى وقادُ بن عبد الله السَّهمي عمرو بن الحضرميّ بسهمٍ، فقتله، فكان أوَّلَ قتيلٍ من المشركين، واستأْسَرَ الحكم وعثمان، فكانا أَوَّلَ أَسيرين في الإسلام، وأفلت نوفلٌ فأعجزهم، واستاقَ المؤمنين العير والأَسيرين، حتَّى قَدِمُوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المدينةِ، فقالت قريشٌ: لقد استَحَلَّ محمدٌ الشهرَ الحرامَ؛ فسفك فيه الدِّماءَ، وأخذ الأموال فما شَهْر يأْمَنُ فيه الخَائِنُ، وغير ذلك، فقال أهلُ «مكَّةَ» مَنْ كان بها من المسلمين وقالوا: يا معشرَ الصَّبَأة، استحللتُم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه، فقال عبد الله بن جحش: يا رسول اللهِ: إنَّا قتلنا ابن الحضرمين، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري: أفي رجبٍ أصبناه، أم في جمادى.
فوقَّف رسول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العير، والأسَارى؛ وأبى أن يأخُذ شيئاً من ذلك، فعظم ذلك على أصحاب السريَّة، وظنُّوا أن قد هلكُوا، وسُقِط في أيديهم، وأكثر الناس في ذلك، فأنزل اللهُ هذه الآية، فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العير، فعزل منه الخمس، فكان أولَ خُمُسٍ في الإسلام، وقسَّمَ الباقي بين أصحاب السَّريَّةِ، وكان أول غنيمةٍ في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيرهما فقال: بل نبقيهما حتَّى يقدم سعدٌ وعتبة، وإنْ لم يَقْدُمَا، قتلناهُما بهما، فلمَّا قدما؛ فاداهما، فأمَّا الحكم بن كيسان، فأسلَمَ، وأقام مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالمدينةِ، فقُتِل يوم بئر معونة شهيداً، وأَمَّا عثمان بن عبد الله، فرجع إلى مكة؛ فمات بها كافِراً، وأَمَّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزابِ؛ ليدخل(4/7)
الخندقَ، فوقع في الخندقِ مع فرسه فتحطّما جميعاً فقتله اللهُ، فطلب المشركون جيفتهُ بالثمن؛ فقال رسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خذوه فإِنَّهُ خبيثُ الجيفةِ، خبيثُ الدِّيَةِ.
فصل
اتفق الجمهورُ: على أَنَّ هذه الآية تدلُّ على حُرمَةِ القتال في الشهر الحرام، ثُمَّ اختلفُوا: هل ذلك الحكمُ باقٍ أو نُسِخ؟
فقال ابن جريج: حلف لي عَطَاءٌ باللهِ أَنَّهُ لا يحلُّ للناس الغزو في الحرم، ولا في الشَّهرِ الحرامِ، إِلاَّ على سبيل الدَّفع وروى جابر قال: لم يكن رسول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يغزو في الشهر الحرام إِلاَّ أن يُغْزَى.
وسُئِلَ سعيد بن المسيب: هل يجوزُ للمسلمين أن يقاتلوا الكُفَّار في الشهر الحرام؟ قال: نعم.
قال أبو عبيد: والناس بالثغُور اليومَ جميعاً يرون الغزو على هذا القول مُبَاحاً في الشهور كُلِّها ولم أر أحداً من علماء «الشام» ، و «العراق» ينكرُه عليهم، وكذلك أحسب قول أهْلِ الحجاز.(4/8)
وحجته قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهذا ناسخةٌ لتحريم القتال في الشهور الحرام.
قال ابن الخطيب: والذي عندي أن قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} نكرة في سياق الإِثبات، فيتناول فرداً واحداً، ولا يتناول كُلَّ الأَفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مُطلقاً في الشهر الحرام، ولا حاجة إلى النسخ فيه.
قوله: «وَصَدٌّ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ وما بعده عطفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرُ عن الجميع، قاله الزَّجَّاج، ويكون المعنى أَنَّ القتال الذي سألتُم عنه، وإن كان كبيراً، إلاَّ أن هذه الأشياء أكبرُ منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنَّ عذره ظاهرٌ؛ لأَنَّهُ كان يجوزُ أَنْ يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة، ونظيره في المعنى قوله تعالى لبني إسرائيل {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] .
وجاز الابتداءُ ب «صَدّ» لأحد ثلاثة أوجهٍ:
إِمَّا لتخصيصه بالوصفِ بقوله: «عَنْ سَبِيلِ الله» .
وإِمَّا لتعلُّقِه به.
وإمَّا لكونه معطوفاً والعطفُ من المسوِّغات.
والثاني: أنه عطفٌ على «كبيرٌ» أي: قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ، قاله الفراء.
قال ابن عطية: وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله: «وكفرٌ به» عطفٌ أيضاً على «كبيرٌ» ويجيءُ من ذلك أنَّ إخراج أهل المسجد منه أكبرُ من الكفرِ، وهو بَيِّنٌ فسادُه.
وهذا الذي رَدَّ به قول الفراء، غير لازم له؛ إذ له أَنْ يقولَ: إِنَّ قولَه «وكفرٌ به» مُبْتَدَأٌ، وما بعده عَطْفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرٌ عنهما، أي: مجموعُ الأَمرين أكبرُ من القتال والصدِّ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ في الشهرِ الحرامِ.(4/9)
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعوله؛ إذ التقدير: وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ.
و «كفرٌ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطفٌ [على «صَدّ» على قولنا بأن «صَدًّا» مُبتدأ لا على] قولنا: بأنه خبرٌ ثانٍ عن «قِتالٍ» ، لأنه يلزَمُ منه أن يكون القتالُ في الشهرِ الحرامِ كُفْراً، وليس كذلك، إِلاَّ أَنْ يرادَ بقتال الثاني ما فيه هَدمُ الإِسلامِ، وتقويةث الكفرِ؛ كما تقَدَّم ذلك عن بعضهم، فيكونُ كفراً، فيصِحُّ عطفه عليه مُطلقاً، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط، أي: وكُفْرُكم.
والثاني: أن يكون مبتدأٌ، كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه. والضميرُ في «به» فيه وجهان:
أحدهما: أنه يعودُ على «سبيل» لأنه المحدَّثُ عنه.
والثاني: أنه يعودُ على اللهِ، والأولُ أظهرُ. و «به» فيه وجهان، أعني كونه صفةً لكفر، أو متعلقاً به، كما تقدَّم في «فيه» .
قوله: «والمسجدِ» مجروراً، وقرئ شاذاً مرفوعاً. فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ.
أحدها: وهو قولُ المبرد وتبعه الزمخشري - وقال ابن عطية «وهو الصحيح» - أنه عطفٌ على «سبيلِ الله» أَي: وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجدِ.
وَرُدَّ هذا بأنَّه يؤدِّي إلى الفصل بين أبعاض الصِّلةِ بأجنبيّ تقريرُه أنَّ «صَدّاً» مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ، والفعل، و «أَنْ» موصولة، وقد جَعَلْتُم «وَالْمَسْجِدِ» عطفاً على «سَبِيلِ» ، فهو من تمام صلته، وفُصِل بينهما بأجنبيّ، وهو «وَكُفْرٌ بِهِ» . ومعنى كونه أجنبياً أنَّهُ لا تعلُّق له بالصِّلةِ. فإنْ قيل: يُتَوَسَّعُ في الظَّرفِ وحرفِ الجّرّ ما لم يتوسع في غيرهما.
قيل: إنَّمَا قيل بذلك في التَّقديم، لا في الفَصْل.
الثاني: أَنَّه عطفٌ على الهاءِ في «بِهِ» ، أي: وكفرٌ به، وبالمسجد، وهذا يتخرَّجُ على قولِ الكُوفيّين. وأمَّا البصريُّون؛ فيشترطُون في العطفِ على الضَّمير المجرور إعادة الخافض إِلاَّ في ضرورة، فهذا التَّخريجُ عندهم فاسِدٌ ولا بدَّ من التّعرُّض لهذه المسألة، وما هو الصَّحيحُ فيها؟ فنقول وبالله التوفيق: اختلف النُّحاةُ في العطفِ على الضَّمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهب:(4/10)
أحدها - وهو مذهبُ البصريِّين -: وجوبُ إعادة الجارِّ إِلاَّ في ضرورةٍ.
الثاني: أَنَّهُ يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مُطْلِقاً، وهو مذهبُ الكُوفيين، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشَّلوبين.
والثالث: التَّفصيلُ، وهو إِنْ أُكِّد الضَّميرُ؛ جاز العطفُ من غير إعادةِ الخافض نحو: «مَرَرْتُ بِكَ نفسِك، وزيدٍ» ، وَإِلاّ فلا يجوز إلا ضرورةً، وهو قول الجَرميّ، والَّذي ينبغي جوازه مُطلقاً لكثرةِ السَّماع الوارد به، وضعفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس.
أَمَّا السَّماعُ: ففي النَّثْرِ كقولهم: «مَا فِيهَا غَيْرُه، وفرسِهِ» بجرِّ «فَرَسِهِ» عطفاً على الهاءِ في «غَيْره» . وقوله: {تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] في قراءة جماعةٍ كثيرة، منهم حمزةُ كما سيأتي إن شاءَ اللهُ، ولولا أَنَّ هؤلاء القرَّاء، رووا هذه اللغة، لكان مقبولاً بالاتِّفاق، فإذا قرءُوا بها في كتاب اللهِ تعالى كان أَولَى بالقبُول.
ومنه: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] ف «مَنْ» عطف على «لَكْم» في قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الحجر: 20] . وقوله: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] عطف على: «فيهنّ» ، وفيما يُتلى عَلَيْكُم. أما النَّظم فكثيرٌ جدّاً، فمنه قولُ العبَّاس بن مرداس: [الوافر]
1054 - أَكُرُّ عَلَى الكَتِيبَةِ لاَ أُبَالِي ... أَفِيهَا كَانَ حَتْفي أَمْ سِوَاهَا
فَ «سِوَاهَا» عطفٌ على «فِيهَا» ؛ وقولُ الآخر: [الطويل]
1055 - تُعَلَّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... ومَا بَيْنَهَا وَالأَرْضِ غَوْطٌ نَفَانِفُ
وقول الآخر: [الكامل]
1056 - هَلاَّ سَأَلْتَ بِذِي الجَمَاجِمِ عَنْهُمُ ... وَأَبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّوَاءِ الْمُحْرِقِ
وقول الآخر: [الطويل]
1057 - بِنَا أَبَداً لاَ غَيْرِنَا تُدْرَكُ المُنَى ... وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخُطُوبِ الفَوَادِحِ(4/11)
وقول الآخر: [البسيط]
1058 - لَوْ كَانَ لِي وَزُهَيْرٍ ثَالِثٌ وَرَدَتْ ... مِنَ الحِمَامِ عِدَانَا شَرَّ مَوْرودِ
وقال الآخر: [الطويل]
1059 - إِذَا أَوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ ... فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلَى بِهَا وَسَعِيرِهَا
وقول الآخر: [البسيط]
1060 - إِذَا بِنَا بَلْ أُنَيْسَانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ ... ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةٌ مِمَّنْ يُعَادِيهَا
وقول الآخر: [الرجز]
1061 - آبَكَ أَيِّهْ بِيَ أَوْ مُصَدَّرِ ... مِنْ حُمُرِ الْجِلَّةِ جَأْبٍ حَشْوَرِ
وأنشد سيبويه: [البسيط]
1062 - فَاليَوْم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتشْتِمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
فكثرةُ ورودِ هذا، وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ، فجاءوا تارةً بالواو، وأخرى ب «لا» ، وأخرى ب «أَمْ» ، وأخرى ب «بَلْ» دليلٌ على جوازِه، وأمَّا ضعفُ الدَّليل: فهو أَنَّهم منعُوا ذلك؛ لأنَّ الضَّمير كالتَّنوين، فكما لا يُعطف على التَّنوين لا يعطفُ عليه إلاَّ بإعادة الجارّ.
ووجه ضعفه أَنَّهُ كان بمقتضى هذه العِلَّةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضَّمير مطلقاً، أعْنِي سواءٌ كان مرفوع الموضعِ، أو منصوبه، أو مجروره، وسواءً أُعيدَ معه الخافِضُ، أم لا كالتَّنوين.
وأَمَّا القياسُ، فلأنه تابعٌ من التَّوابع الخمسة، فكما يُؤكَّدُ الضَّميرُ المجرورث، ويُبْدَلُ منه، فكذلك يُعطفُ عليه.(4/12)
الثالث: أَنْ يكون معطوفاً على {الشهر الحرام} ثم بعد هذا طريقان:(4/13)
أحدهما: أنّ قوله: {قِتَالٌ فِيهِ} مبتدأ، وقوله {كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ}(4/14)
خبر بعد خبر، والتَّقدير: إن قتالاً فيه محكُوم عليه بأنه كبيرٌ، وبأنه صدٌّ عن سبيل اللهِ، وبأنَّهُ كُفرٌ بالله.
والطريق الثانِي: أَنْ يكون قوله: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملة مبتدأ وخبر وقوله: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} ، فهو مرفوع بالابتداء. وكذا قوله {وكُفْرٌ بِهِ} والخبر محذوفٌ لدلالة ما(4/15)
تقدَّم عليه، والتَّقدير: قل: قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ كبير وكُفرٌ به كبير ونظيره: زَيْدٌ منطلِقٌ وعمرو، وتقديره: وعمرو منطلق. وطعن البصريُّون في هذا فقالوا: أَمَّا قولكم تقدير الآية: يسألونك عن قتالٍ في الشَّهر الحرام وفي المسجد الحرام؛ فهو ضعيف؛ لأَنَّ السُّؤال كان واقعاً عن القتال في الشَّهر الحرام، لا عن القِتَال في المسجدِ الحرامِ، وطعنوا في الوجه الأوَّل بأنَّه يقتضي أَنْ يكون القتال في الشَّهر الحرام كفراً بالله، وهو خطأ بالإجماع.
الثاني: بأنَّه قال بعد ذلك {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} أي: أكبر مِنْ كُلّ ما تقدَّم، فيلزم أَنْ يكون إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر عند اللهِ من الكُفر، وهو خطأٌ بالإجماع.
قال ابن الخطيب: وللفرَّاءِ أن يجيب عن الأَوَّل بأنَّهُ: من الذي أخبركم بأَنَّه ما وقع السُّؤالُ عن القتال في المسجد الحرام، بل الظَّاهر أَنَّهُ وقع؛ لأَنَّ القوم كانُوا مستعظمين للقتال في الشَّهر الحرام في البلد الحرام، وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم، فالظَّاهر أَنَّهم جمعوهما في السُّؤال، وقولهم: على الوجه الأوَّل يلزم أَنْ يكون قتال في الشَّهر الحرام وكُفر، فنحن نقول به لأَنَّ النَّكرة في سياق الإِثبات لا تفيد العموم.
وعندنا أَنَّ قتالاً واحداً في الشهر الحرام كُفرٌ.
وقولهم على الثَّاني: يلزم أَن يكون إخراجُ أهلِ المسجدِ منه أكبر من الكفر.
قلنا: المُراد أهل المسجد: وهم الرَّسُولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابه، وإخراج الرَّسُول من المسجد على سبيل الإذلال لا شكّ أنه كُفرٌ، وهو مع كونه كُفراً فهو ظُلْمٌ لأَنَّهُ إيذاء للإنسان مِنْ غير جرمِ سابقٍ، ولا شكّ أن الشيء الَّذشي يكون ظُلماً وكُفراً أكبر، وأقبح عند اللهِ ممَّا يكون كفراً، وحده، ولما ذكر أبو البقاء هذا القول - وهو أن يكون معطوفاً على الشَّهر الحرام - أي يسألُونك عن الشَّهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام.
قال أبو البقاء: وضعف هذا بأنَّ القومَ لم يسألوا عن المسجد الحرام إذ لم يشُكُّوا في تعظيمه، وإنَّما سألوا عن القتال في الشَّهر الحرام.
والثاني: القتال في المسجد الحرام؛ لأَنَّهُم لم يَسْأَلوا عن ذات الشَّهر ولا عن ذات المسجد، إِنما سألوا عن القتالِ فيهما؛ فأُجيبوا بأنَّ القتال في الشَّهر الحرامِ كبيرٌ، وصَدٌّ عن سبيلِ الله تعالى، فيكون [قتال] أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله، وأُجيبوا بأنَّ القتال في المسجد الحرامِ وإِخراجَ أهله أكبرُ من القتالِ فيه. وفي الجملةِ، فعطفُه على الشَّهر الحَرام متكلَّفٌ جدّاً يبعُدُ عنه نظمُ القُرآنِ، والتركِيبُ الفصيحُ.
الرابع: أَنْ يتعلَّق بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديره: ويصُدُّون عن المسجد، كما قال تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] قاله أبو(4/16)
البقاء، وجعله جيّداً، وهذا غيرُ جيّد؛ لأنه يلزمُ منه حذفُ حرفِ الجَرّ وإبقاءُ عملهِ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها، على خلافٍ في بعضها، ونصَّ النَّحويُّون على أنَّه ضرورةٌ؛ كقوله: [الطويل:]
1063 - إِذَا قِيلَ: أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ ... أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ
أي: إلى كُليبٍ فهذه أربعةُ أَوجه، أجودها الثاني.
ونقل بعضهم أَنَّ الواو في المسجد هي واو القسم فيكون مجروراً.
وأمَّا رفعه فوجهُه أَنَّهُ عطفٌ على «وَكُفْرٌ» على حذف مُضافٍ تقديره «وَكُفْرٌ بالمَسْجِدِ» فحُذِفَت الباءُ، وأُضِيفَ «كُفْرٌ» إلى المسجد، ثمَّ حُذِفَ المضافُ وأُقيم المُضَافُ إليه مُقَامَهُ، ولا يَخْفَى ما فيه من التَّكَلُّفِ.
فصل
وفي الصَّدِّ عن سبيل اللهِ وجوهٌ:
أحدها: أَنَّهُ صدٌّ عن الإِيمان باللهِ ورسوله.
وثانيها: صدُّ المسلمين عن الهجرة للرَّسُول عليه السَّلام.
وثالثها: صدُّ المسلمين عام الحُدَيبية عن العُمرَة.
ولقائل أن يقول: دلّت الرَّوايات على أَنَّ هذه الآية، نزلت قبل غزوة بدرٍ باعثاً للرَّسُول مستحقّاً للعبادة قادراً على البعث، وأما «المَسْجِد الحَرَامِ» فإِنْ عطفناه على الضَّمير في «بِهِ» ؛ كان المعنى: وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منعُ النَّاسِ عن الصَّلاَةِ، والطَّواف به، فقد كفروا بما هو السَّبَبُ في فضيلته الَّتي بها يتميَّزُ سائر البقاع.
وإن عطفناه على «سَبِيلِ اللهِ» كان المعنى: وصدّ عن المسجد الحرام، وذلك لأَنَّهم صَدُّوا الطَّائفين، والعاكِفِين، والرُّكَّعِ السُّجُود عن المَسْجِدِ الحَرَامِ.
قوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} عطفٌ على «كُفرٌ» ، أو «صَدٌّ» على حسب الخلافِ المتقدِّم، وهو مصدرٌ حُذِف فاعله، وأُضيفَ إلى مفعوله، تقديرُه: «وَإِخْرَاجُكم أَهْلَهُ» .
والضَّميرُ في «أَهله» و «مِنْهُ» عائدٌ على المَسْجِد وقيل: الضَّمير في «مِنْهُ» عائِدٌ على سبيل الله، والأَوَّل أظهرُ و «منه» متعلِّقٌ بالمصدر.
قوله: «أَكْبَرُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبرٌ عن الثلاثة، أعني: صَدّاً وكفراً، وإخراجاً كما تقدَّم، وفيه حينئذٍ احتمالان:(4/17)
أحدهما: أن يكون خبراً عن المجموع، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونض خبراً عنها باعتبار كلِّ واحدٍ، كما تقول: «زيدٌ وبكرٌ وعمرو أفضلُ من خالدٍ» ، أي: كلُّ واحِدٍ منهم على انفراده أفضلُ من خالدٍ. وهذا هو الظَّاهِرُ. وإِنّما أُفْرِدَ الخبر؛ لأنه أفضلُ من تقديرِه: أكبر من القتال في الشَّهر الحرامِ. وإنَّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى.
الثاني من الوجهين في «أَكْبر» : أن يكونَ خبراً عن الأَخير، ويكونُ خبر «وَصَدّ» و «كُفْر» محذوفاً لدلالة خبر الثَّالث عليه تقديره: وصدّ وكُفر أكبر. قال أبو البقاء في هذا الوجه: ويجب أَنْ يكون المحذوفُ على هذا أَكْبَر لا «كبير» كما قدَّره بعضهم؛ لأَنَّ ذلك يوجب أن يكُون إخراج أهل المسجد منه أكبرَ من الكُفر، وليس كذلك. وفيما قاله أبو البقاء نظر؛ لأَنَّ هذا القائل يقولُ: حُذِف خبر «وَصَدّ» و «كُفْر» لدلالة خبر «قِتَالٍ» عليه، أي: القتالُ في الشَّهرِ الحرام كبيرٌ، والصَّدّ والكفر كبيران أيضاً، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشَّهْرِ الحرام. ولا يلزمُ من ذلك أَن يكون أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتّى يلزمَ ما قاله من المحذور.
و «عِنْدَ اللهِ» متعلِّق ب «أَكْبر» ، والعِنْديةُ هنا مَجَازٌ لِما عُرف.
فصل في المراد بهذا الإخراج
والمرد بهذا الإخراج أنَّهم أخرجوا المسلمين من المسجد، بل من مكة وإنما جعلهم أهلاً له؛ لأنَّهم القائمون بحقوق البيت كقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون} [الأنفال: 34] فأخبر تعالى: أنَّ المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء، وحكم عليها بأنها أكبر، أي: كلُّ واحد منها أكبر من قتال في الشَّهر الحرام، وهذا تفريعٌ على قول الزَّجَّاج؛ لأن كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتالٍ في الشهر الحرام، فالكفر أعظم من القتل، أو نقول: كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشَّهر الحرام، وهو القتال الَّذي صدر عن عبد الله بن جحش؛ لأنه ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشَّهر الحرام، وهؤلاء الكفَّار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشَّهر الحرام؛ فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر حجماً.
قوله: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} ذكروا في الفتنة قولين:
أحدهما - وعليه أكثر المفسِّرين -: أنَّها الكفر، أي: الشّرك الَّذي أنتم عليه أكبر من قتل ابن الحضرميّ في الشَّهر الحرام.(4/18)
قال ابن الخطيب: وهذا يستقيم على قول الفرَّاء، وضعيف على قول الزَّجَّاج؛ لأنَّهُ قد تقدَّم ذكر ذلك، فإنَّه تعالى قال: «وَكُفْر بِهِ أَكْبَرُ» فحمل الفتنة على الكفر يكون تكراراً.
والقول الثاني: أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشُّبهات في قلوبهم، وتارةً بالتَّعذيب كفعلهم ببلال، وعمَّار، وصهيب.
قال: محمَّد بن إسحاق: لأن الفتنة عبارة عن الامتحان، يقال: فتنت الذَّهب بالنَّار: إذا أدخلته فيها لتزيل غشَّه قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، أي: امتحان؛ لأنَّهُ إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله، تفكّر في ولده؛ فصار ذلك مانعاً عن الإنفاق وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2] ، أي: لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء، وقال: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه: 40] وقال: {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] وقال: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] والمراد أنهم آذوهم، وعذبوهم لبقائهم على دينهم. وقال: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} [النساء: 101] ، وقال: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] وقال: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة} [آل عمران: 7] أي: ابتغاء المحبَّة في الدِّين. وقال: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49] وقال: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} [يونس: 85] والمعنى: أن يفتنوا بها عن دينهم، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر؛ وقال: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون} [القلم: 5 - 6] قيل: المفتون المجنون؛ لأنَّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنةٌ وعدولٌ عن سبيل العقلاء، وإذا ثبت أنَّ الفتنة هي المحنة، فالفتنة أكبر من القتل؛ لأنَّ الفتنة عن الدِّين تفضي إلى القتل الكبير في الدُّنيا وإلى استحقاق العذاب الدَّائم في الآخرة، فصحَّ أنَّ الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الَّذي وقع السُّؤال عنه، وهو قتل ابن الحضرميّ.
روي أنَّه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكَّة: إذا عيَّركم المشركون بالقتال في الشَّهر الحرام؛ فعيروهم بالكفر، وإخراج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقتال من مكَّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام.
وصرح هنا بالمفضول في قوله: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف.
قوله: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} هذا فعل لا مصدر له، قال الواحديّ: ما زال يفصل ولا يقال منه: فاعل، ولا مفعول، ومثاله في الأفعال كثير نحو «عَسَى» ليس له مصدرٌ،(4/19)
ولا مضارع، وكذلك ذو، وما فتِىءَ، وهلمّ، وهاكَ وهات وتعال وتعالوا.
ومعنى {وَلاَ يَزَالُونَ} : نفي: فإذا دخلت عليه «مَا» كان ذلك نفياً للنَّفي، فيكون دليلاً على الثُّبوت الدَّائم.
قوله تعالى: {حتى يَرُدُّوكُمْ} حتى حرف جرِّ، ومعناها يحتمل وجهين:
أحدهما: الغاية.
والثاني: التَّعليل بمعنى كي، والتَّعليل أحسن؛ لأن فيه ذكر الحامل لهم على الفعل، والغاية ليس فيها ذلك ولذلك لم يذكر الزَّمخشريُّ غير كونها للتَّعليل قال: «وَحَتّى» معناها التَّعليل كقولك: «فُلاَنٌ يُعْبُدُ اللهَ، حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة» ، أي يُقَاتِلُونَكُم كي يردُّوكم «. ولم يذكر ابن عطيَّة غير كونها غاية قال:» وَ «يَرُدُّوكُم» نصب ب «حَتّى» ؛ لأنَّها غاية محرّدة. وظاهر قوله: «مَنْصُوبٌ بِحَتّى» أنه لا يضمر «أنْ» لكنَّه لا يريد ذلك، وإن كان بعضهم يقول بذلك. والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وجوباً.
و «يَزَالُونَ» مضارع زال النَّاقصة التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرط أن يتقدَّمها نفيٌ، أو نهي، أو دعاء، وقد يحذف النَّافي باطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جواب قسم، وإلاَّ فسماعاً، وأحكامها في كتب النَّحو، ووزنها فعل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائيُّ في مضارعها: يزيل، وإن كان الأكثر يزال، فأمَّا زال التَّامَّة، فوزنها فعل بالفتح، وهي من ذوات الواو لقولهم في مضارعها يزول، ومعناها التَّحوُّل. و «عَنْ دِينكُمْ» متعلق ب «يردُّوكُم» وقوله: «إِن اسْتَطَاعُوا» شرط جوابه محذوف للدلالة عليه، أي: إن استطاعوا ذلك، فلا يزالوا يقاتلونكم، ومن رأى جواز تقديم الجواب، جعل «لاَ يَزَالُونَ» جواباً مقدّماً، وقد تقدَّم الرَّدُّ عليه بأنَّه كان ينبغي أن تجب الفاء في قولهم: «أَنْ ظَالِمٌ إِن فَعَلْتَ» .
قوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ} «مَنْ» شرطيّة في محلِّ رفع بالابتداء، ولم يقرأ أحدٌ هنا بالإدغام، وفي المائدة [آية54] اختلفوا فيه، فنؤخِّر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى.
ويرْتَدِدث يَفْتَعِلُ من الرَّدِّ وهو الرُّجوع كقوله: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] . قال أبو حيَّان: «وقد عَدَّها بعضُهم فيما يَتَعَدَّى إلى اثْنَيْنِ إذْ كانت عنده بمعنى صَيَّر، وجَعَلَ من ذلك قوله: {فارتد بَصِيراً} [يوسف: 96] أي: رجَع» وهذا منه سهوٌ؛ لأنَّ الخلاف إنَّما هو بالنِّسبة إلى كونها بمعنى صار، أم لا، ولذلك مثلوا بقوله: «فَارْتدَّ بَصِيراً» فمنهم من جعلها بمعنى: «صَارَ» ، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالاً، وإلاّ فأين المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى: «صَيَّر» ، فهو ردَّ لا ارْتَدَّ، فاشتبه عليه ردَّ ب «ارْتَدَّ» وصيَّر ب «صَارَ» .(4/20)
وقال الواحديُّ: وأظهر التَّضعيف مع الجزم، ولسكون الحرف الثاني، وهو أكثر في اللُّغة من الإدغام.
و «منكم» متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المستكن في «يَرْتَدِدْ» و «من» للتَّبعيض، تقديره: ومن يَرْتَدِدْ في حال كونه كائناً منكم، أي: بعضكم. و «عَنْ دِينِهِ» متعلِّقٌ ب «يَرْتَدد» ، و «فَيَمُتْ» عطفٌ على الشَّرط، والفاء مؤذنةٌ بالتَّعقيق.
{وَهُوَ كَافِرٌ} جملةٌ حاليةٌ من ضمير: «يَمُتْ» ، وكأنَّها حالٌ مؤكِّدَةٌ؛ لأنَّها لو حذفت لفهم معناها، لأنَّ ما قبلها يشعر بالتَّعقيب للارتداد، وجيءَ بالحال هنا جملةً، مبالغة في التأكيد من حيث تكرُّر الضَّمير بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً.
وقوله: {فأولاائك} جواب الشَّرط.
قال أبو البقاء: و «مَنْ» في موضع مبتدأ، والخبر هو الجملة التي هي قوله: {فأولاائك حَبِطَتْ} ، وكان قد سلف له عند قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] أن خبر اسم الشَّرط هو فعل الشَّرط لا جوابه، وردَّ على من يدَّعي ذلك بما حكيته عنه ثمَّة، ويبعد منه توهُّمُ كونها موصولةً لظهور الجزم في الفعل بعدها، ومثله لا يقع في ذلك.
و «حَبِطَ» فيه لغتان: كسر العين وهي المشهورة وفتحها، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميع القرآن، ورويت عن الحسن أيضاً. والحبوط: أصله الفساد.
قال أهل اللُّغة: أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرّها، فتعظم بطونها، فتهلك. وفي الحديث: «وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً» ، وذلك أنَّ الإبل تأكل من المرعى إلى أن تنتفخ بطنها؛ فتمون البطن.
ومنه: «حَبِطَ بَطْنُه» ، أي: انتفخ، ومنه «رَجلٌ حَبَنْطَى» ، أي: منتفخ البطن.
وحمل أوّلاً على لفظ «مَنْ» فأفرد في قوله: «يَرٍْتَدِدْ، فيمت، وهو كَافِرٌ» وعلى معناها ثانياً في قوله: «فَأُولَئِكَ» إلى آخره، فجمع، وقد تقدَّم أنَّ مثل هذا التَّركيب أحسن الاستعمالين: أعني الحمل أوّلاً على اللَّفظ، ثمَّ على المعنى. وقوله «في الدُّنْيَا» متعلِّقٌ ب «حَبِطَتْ» .
وقوله: {وأولاائك أَصْحَابُ النار} إلى آخره تقدَّم إعراب نظيرتها. واختلفوا في هذه(4/21)
الجملة: هل هي استئنافيّةٌ، أي: لمجرَّد الإخبار بأنَّهم أصحاب النَّار، فلا تكون داخلةً في جزاء الشَّرط، بل تكون معطوفةً على جملة الشَّرط، أو هي معطوفة على الجواب؛ فيكون محلُّها الجزم؟ قولان، رجِّح الأوَّل بالاستقلال وعدم التّقييد، والثَّاني بأنَّ عطفها على الجزاء أقرب من عطفها على جملة الشَّرط، والقرب مرجِّحٌ.
فصل فيمن خرج من كفر إلى كفر
قال القرطبيُّ: اختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر؛ فقال جمهور الفقهاء: لا يتعرَّض له؛ لأنَّه انتقل ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه وعن الشَّافعيّ: أنَّه يقتل؛ بقوله عليه السَّلام:
«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وقال مالكٌ: معناه: من خرج من الإسلام إلى الكفر، فأمَّا من خرج من كفر إلى كفر، فلم يعنه الحديث.
فصل في اقتضاء الآية شرط الوفاة
ظاهر الآية يقتضي أنَّ الوفاة شرطٌ لثبوت الأحكام المذكورة. ويتفرَّع عليه بحثان: بحثٌ أصولي، وبحثٌ فروعي. فالأصوليُّ: أنَّ جماعةً من المتكلِّمين قالوا: شرط صحَّة الإيمان والكفر حصول الوفاة، فلا يكون الإيمان إيماناً، إلاَّ إذا مات المؤمن، ولا يكون الكفر كفراً، إلاَّ إذا مات الكافر عليه.
وأما البحث الفروعيُّ: فهو أنَّ المسلم إذا صلَّى، ثم ارتدّ، ثمَّ أسلم في الوقت؛ قال الشافعيُّ: لا إعادة عليه.(4/22)
وقال أبو حنيفة: يلزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج، حجة الشَّافعي قوله تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولاائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} شرطٌ في إحباط العمل أن يموت وهو كافرٌ، وهذا الشَّخص لم يوجد في حقِّه هذا الشَّرط؛ فوجب ألاَّ يصير عمله محبطاً.
فإن قيل: هذا معارض بقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ} [المائدة: 5] .
ولا يقال: حمل المطلق على المقيَّد واجبٌ؛ لأنَّا نقول: ليس هذا من باب المطلق والمقيَّد؛ فإنَّهم أجمعوا على أنَّ من علَّق حكماً بشرطين، وعلقه بشرط، أنَّ الحكم ينزل عند أيِّهما وجد كمن قال لعبده: أنت حرٌّ؛ إذا جاء يوم الخميس، ولم يكن في ملكه، ثم اشتراه، ثم جاء يوم الخميس؛ عتق ولو كان باعه، فجاء يوم الخميس وهو في ملكه عتق بالتعليق الأوَّل.
فصل في محل إحباط العمل
ليس المراد من إحباط العمل نفس العمل؛ لأنَّ العمل شيء كما وجد، فَنِيَ وزَال، وإعدم المعدوم محال. ثمَّ اختلف المتكلِّمون فيه؛ فقال المثبتون للإحباط والتَّكفير: المراد منه أنَّ عقاب الرِّدَّةِ الحادثة يزيل ثواب الإيمان السَّابق، إمَّا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة، أو لا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي.
وقال المنكرون للإِحباط: هذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله، هو أنَّ المرتدَّ إذا أتى بالرِّدَّة فتلك الرِّدة عمل محبط؛ لأنَّ الآتي بالرِّدَّة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً، فإذا لم يأت بذلك العمل الجيِّد، وأى بدله بهذا العمل الرَّدِيءِ، لا يستفيد منه نفعاً، بل يستفيد منه أعظم المضارّ، يقال: إنَّه حبط عمله، أي: بعملٍ باطلٍ، ليس فيه فائدة، بل فيه مضرَّةٌ.(4/23)
فصل في الإحباط في الدنيا
أمَّا إحباط الأعمال في الدُّنيا، فهو أنَّه يقتل عند الظَّفر به، ويقاتل إلى أن يظفر به، ولا يستحقُّ من المؤمنين موالاةً ولا نصراً، ولا ثناءً حسناً، وتبين زوجته منه، ولا يستحقُّ الميراث من المسلمين.
ويجوز أن يكون المعنى في إحباط أعمالهم في الدُّنيا، هو أنَّ ما يريدونه بعد الرِّدَّة من الإضرار بالمسلمين، ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره؛ فتكون الأعمال على هذا التَّأويل ما يعملونه بعد الرِّدَّة، وأمَّا إحباط أعمالهم في الآخرة، فعند القائلين بالإحباط معناه: إنَّ هذه الرَّدَّة تبطل استحقاقهم للثَّواب الذي استحقُّوه بأعمالهم السَّالفة. وعند المنكرين لذلك معناه: أنَّهم لا يستفيدون من تلك الرِّدَّة ثواباً، ونفعاً في الآخرة، بل يستفيدون منه أعظم المضارِّ، ثمَّ بين كيفيَّة تلك المضرَّة فقال: {وأولاائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
فصل
قال القرطبيُّ: قالت طائفةٌ: يستتاب المرتدُّ؛ فإن تاب وإلاَّ قتل.
وقال بعضهم: يُسْتَتَابث ساعةً واحدةً.
وقال آخرون: يُسْتَتَابُ شهراً.
وقال آخرون: يُسْتَتَابُ ثلاثاً، على ما روي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم.
وقال الحسن: يُسْتَتَابث مائة مرَّةٍ، وروي عنه أنَّه يقتل دون استتابةٍ، وهو أحد قولي الشَّافعيّ.
واحتجّ من قال بأنّه يقتلُ ولا يستتاب، بحديث معاذٍ، وأبي موسى: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل، فلمَّا قدم عليه قال: انزل، وألقى له وسَادَةٌ، وإذا رجُلٌ عنده موثقٌ، قال: مَا هَذَا؟ قال: كَانَ يُهُودِياً، فأسلم، ثم راجع دينه، فتهوَّد، قال: لا أجلس حتّى يُقتل، قضاء الله ورسوله ثلاث مرَّات، وأمر به فقتل. أخرجه «مُسْلِمٌ» وغيره.
وقال مالك: يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ، ولا يُسْتَتَابُ.(4/24)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} .
إنَّ واسمها و «أُولَئِكَ» مبتدأ، و «يَرْجُونَ» خبره، والجملة خبر «إِنَّ» ، وهو أحسنُ من كون «أُولَئشكَ» بدلاً من «الّذِين» ، و «يَرْجُون» خبر «إنَّ» . وجيء بهذ الأوصاف الثَّلاثة مترتِّبةٌ على حسب الواقع، إذ الإيمان أولُ، ثم المهاجرة، ثم الجهاد.
وأفرد الإيمان بموصولٍ وحده؛ لأنَّه أصل الهجرة والجهاد، وجمع الهجرة، والجهاد في موصولٍ واحدٍ، لأنَّهما فرعان عنه، وأتى بخر «إنَّ» اسم إشارة؛ لأنَّه متضمِّنٌ للأوصاف السَّابقة. وتكرير الموصول بالنِّسبة إلى الصِّفات، لا الذَّوات، فإنَّ الذَّوات متَّحدةٌ موصوفةٌ بالأوصاف الثَّلاثة، فهو من باب عطف بعض الصِّفات على بعض، والموصوف واحد. ولا نقول: إنَّ تكرير الموصوف يدلُّ على تغير الذَّوات الموصوفة؛ لأنَّ الواقع كان كذلك. وأتى ب «يَرءجُونَ» ؛ ليدَّ على التَّجدُّد وأنهم في كلِّ وقتٍ يحدثون رجاءً.
والمهاجرة: مفاعلةٌ من الهجر، وهي الانتقال من أرض إلى أرضٍ، وأصل الهجر التّرك. والمجاهدة مفاعلةٌ من الجهد، وهو استخراج الوسع وبذل المجهود، والإجهاد: بذلُ المجهود في طلب المقصود، والرَّجاء: الطمع.
وقال الرّاغب: هو ظنٌّ يقتضي حصول ما فيه مسرَّةٌ، وقد يطلقُ على الخوف؛ وأنشد: [الطويل] :
1064 - إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
أي: لم يَخَفْ، وقال تعالى: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 7] أي: لا يخافون، وهل إطلاقه عليه بطريق الحقيقة، أو المجاز؟ فزعم قومٌ أنه حقيقةٌ، ويكون من الاشتراك اللَّفظي، وزعم قومٌ أنه من الأضداد، فهو اشتراكٌ لفظيّ أيضاً. قال ابن عطيَّة: «ولَيْسَ هَذَا بِجيّدٍ» ، يعني: أنَّ الرَّجاء والخوف ليسا بضدَّين إذ يمكن اجتماعهما، ولذلك قال الرَّاغِبُ بعد إنشاده البيت المتقدّم «ووجْهُ [ذلك] : أنَّ الرَّجَاءَ والخوفَ يَتَلاَزَمَانِ» ، وقال ابن عطيَّة: «والرَّجَاءُ أبداً معه خوفٌ، كما أنَّ الخوف معه رَجَاءٌ» . وزعم قومٌ أنه مجازٌ للتلازم الّذي ذكرناه عن الرَّاغب وابن عطيَّة.
وأجاب الجاحظ عن البيت بأنَّ معناه لم يرج برء لسعها وزواله فالرَّجاء على بابه.(4/25)
وأمَّا قوله: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 7] أي لا يرجون ثواب لقائنا، فالرَّجاء أيضاً على بابه، قاله ابن عطيَّة.
وقال الأصمعيُّ: «إذا اقترن الرَّجَاء بحرفِ النَّفي، كان بمعنى الخَوْفِ» كهذا البيت والآية.
وفيه نظرٌ إذ النَّفي لا يغيِّر مدلولات الألفاظ.
والرَّجاء مقصود ناحية البئر، وحافَّاته من كل ناحيةٍ، وجاؤوا بقوام من النَّاس يخطُّون في قولهم بأعظم الرَّجَاء، فيقصرون، ولا يمدُّون، وكتبت «رَحْمَة» هنا بالتَّاء: إمَّا جرياً على لغة مَنْ يَقِفُ على تَاءِ التَّأْنِيث بالتَّاء، وإما اعتباراً بحالها في الوصل، وهي في القرآن في سبعة مواضع، كتبتُ في الجميع تاءً، هنا وفي الأعراف:
{إِنَّ رَحْمَةَ الله} [آية: 56] ، وفي هود: {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ} [آية: 73] ، وفي مريم: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [آية: 2] ، وفي الرُّوم: {فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله} [آية: 50] ، وفي الزخرف: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [آية: 32] .
فصل
في تعلّق هذه الآية بما قبلها، وجهان:
الأول: أنَّ عبد الله بن جحش قال: يَا رَسُولَ الله، هَبْ أنَّهُ لاَ عِقَابَ عَلَيْنَا فِيمَا فَعَلْنَا، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهَ أُجْراً، وَثَوَاباً، فَنَطمع أن يكون سفرُنا هذا غزواً؛ فأنزل الله هذه الآية؛ لأنَّ عبد الله كان مؤمناً، ومهاجراً، وسبب هذه المقاتلة، كان مجاهداً.
الثاني: أنَّه تعالى أوجب الجهاد من قبل بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] وبين أن تركه سبب الوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} ولا يكاد يوجد وعيدٌ إلاَّ ويعقبه وعد.
فصل في المراد بالرجاء
وفي هذا الرجاء قولان:
الأوَّل: عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها وأراد تعالى هنا: أنَّهم يظنُّونَ في ثَوَابِ اللهِ؛ لأن عبد الله بن جحشٍ ما كان قاطعاً بالفوز والثَّواب في عمله، بل كان يتوقَّعه، ويرجوه.
فإن قيل: لم جعل الوعد مطلقاً بالرَّجاء، ولم يقطع به، كما في سائر الآيات؟
فالجواب من وجوهٍ.(4/26)
أحدها: أنَّ الثَّوابَ على الإيمان، والعمل غير واجبٍ عقلاً، بل بحكم الوعد فلذلك علَّقه بالرَّجاء.
وثانيها: هب أنَّه واجبٌ عقلاً، ولكنَّه تعلّق بأنه لا يكفر، وهذا الشَّرط مشكوكٌ لا متيقِّن، فلا جرم الرَّجاء، لا القطع.
وثالثها: أنَّ المذكور ها هنا هو الإيمان، والهجرة، والجهاد، ولا بدَّ للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها، كما وفَّقه لهذه الثَّلاثة، فلا جرم علقه على الرَّجاء.
ورابعها: ليس المراد من الآية أنَّ الله تعالى شكَّك العبد في هذه المغفرة، بل المراد وصفهم بأنَّهم يفارقون الدُّنيا مع الهجرة والجهاد، ومستقصرين أنفسهم في حقّ الله تعالى يرون أنّهم يعبدونه حقّ عبادته، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه، فيقدمون على الله مع الخوف والرَّجاء، كما قال: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] .
وأجاب القرطبيُّ عن هذا السُّؤال بوجهين آخرين:
الأول: أنَّ الإنسان لو بلغ في طاعة الله كلَّ مبلغٍ، لا يدري بماذا يختم له.
الثاني: لئلاّ يتّكل على عمله.
القول الثاني: أنَّ المراد من الرَّجاء القطع في أصل الثَّواب، والظَّن إنَّما دخل في كميّته وفي وقته، وفيه وجوه تقدَّمت في قوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] .
وقوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، أي: إنَّ الله تعالى يحقِّق لهم رجاءهم، إذا ماتوا على الإيمان، والعمل الصَّالح.(4/27)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
قوله: {عَنِ الخمر والميسر} لا بدّ فيه من حذف مضاف إذ السُّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مرادٍ، والتَّقدير: عن حكم الخمر والميسر.
الخمر: هو المعتصر من العِنَبِ إذا غلى، وقذف بالزَّبد، ويطلق على ما غلى، وقذف بالزَّبد من غير ماء العنب مجازاً.(4/27)
وفي تسميتها «خَمْراً» أربعة أقوال:
أشهرها: أنَّها سمِّيت بذلك؛ لأنها تخمر العقل، أي: تستره، ومنه: خمار المرأة لستره وجهها، والخمر: ما واراك من شجر، وغيره من وهدةٍ، وأكمة، والخامر هو الذي يكتم شهادته؛ [و: خَامِري حضَاجِرُ، أتاك ما تُحَاذِرُ «يُضْرَبُ للأحمق، وحَضَاجِرُ: علمٌ للضبع، أي: استتر عن النَّاس، ودخل في خمار النَّاس، وغمارهم] .
قال: [الوافر]
1065 - أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ
أي: ما يستركما من شجرٍ وغيره، وقال العجَّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان:
[الرجز]
1066 - في لاَمِعِ العِقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمَرْ ... والثاني: لأنَّها تغطَّى حتّى تدرك وتشتدَّ، فهو من التَّغطية ومنه» خَمَّروا آنيتكم «.
والثالث: - قال ابن الأنباري من المخالطة - لأنَّها تخامر العقل، أي: تخالطه، يقال: خامره الدَّاء، أي: خالطه.
وأنشد لكثير: [الطويل]
1067 - هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
ويقال: خَامَرَ السّقام كبده. فهذه الاشتقاقات دالَّة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل، كما سمِّيت مسكراً؛ لأنَّها تسكر العقل أي: تحجزه.
والرابع: لأنَّها تترك حتى تدرك، ومنه:» اخْتَمَرَ العَجِينُ «أي: بلغ إدراكه، وخمر الرَّأي، أي: تركه، حتَّى ظهر له فيه وجه الصَّواب، وهي أقوال متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدراً مرارداً به اسم الفاعل واسم المفعول.(4/28)
فصل
قال أبو حنيفة: الخمرُ: هو ما كان من عصير العنب وغيره.
حجّة أبي حنيفة: قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] فمنَّ الله تعالى علينا باتخاذ السَّكر، والرِّزق الحسن؛ فوجب أن يكون مباحاً؛ لأنَّ المنَّة لا تكون إلاَّ بالمباح.
وروى ابن عبَّاس أنَّه - عليه السَّلام - أتى السِّقاية عام حجَّة الوداع، فاستند إليها وقال: اسقوني، فقال العبَّاس: لنسقينَّك ممَّا ننبذُهُ في بيوتنا؟ فقال:» مِمّا يُسْقَى النَّاسُ «فجاءه بقدح من نبيذ؛ فشمَّه فقطب وجهه وردَّه، فقال العبَّاس: يا رسول الله أفسدت على أهل مكَّة شرابهم. فقال:» رَدُّوا عَلَيَّ القَدَحَ «فردُّوه عليه؛ فدعا بماء زمزم؛ فصبّ عليه وشَرِبَ وقال:» إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الأَشْرِبَة فَاقْطَعُوا نتنها بالمَاءِ «.
وجه الاستدلال به: أن التقطيب لا يكون إلاَّ من الشَّديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدَّة بالنَّصِّ، ولأنَّ اغتلام الشَّراب شدَّته، كاغتلام البعير سكره.
وأيضاً وردت عند الصَّحابة فيه آثارٌ؛ روي أنَّ عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كتب إلى بعض عماله أن أرزاق المسلمين من الطِّلاء ما ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه، ورأى أبو عبيدة، ومعاذٌ: شرب الطِّلاء على الثُّلث.
وحجَّة القائلين بأنَّ الخمر من عصير العنب وغيره ما روى أبو داود عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «نَزَلَ تحريمُ الخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وهي من خمسة من العِنَبِ، والتَّمْرِ، والحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والذُّرَةِ» .
والخمر ما خامر العقل.
وفي «الصَّحيحين» عن عمر أنَّه قال على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألا إنّ الخرم قد حرِّمت، وهي من خمسة: من العنب، والتَّمر، والعسل، والحنطة، والشعير والخمر ما(4/29)
خامر العقل. وروى أبو داود عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وفي «الصَّحِيحَيْنِ» أنه عليه السَّلام سُئِلَ عن البِتع، فقال: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، فَهُوَ حَرَامٌ» والبِتع شراب يتخذ من العسل.
قال الخطابيُّ: والدَّلالة من وجهين:
أحدهما: أنَّ الآية لما دلَّت على تحريم الخمر، وكان مسمَّى الخمر مجهولاً من القوم، حسن من الشَّارع أن يقال: مراد الله تعالى من هذه اللَّفظة هذا، ويكون على سبيل إحداث لغةٍ، كما في الصَّلاة والصَّومِ وغيرهما.
والوجه الآخر: أن يكون معناه: أنَّه كالخمر في الحرمة؛ لأن قوله هذا خمر، فإن كان حقيقةً؛ فحصل المدّعي، وإن كان مجازاً؛ فيكون حكمه كحكمه؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ الشَّارع ليس مقصوده تعليم اللُّغات على تعليم الأحكام، وحديث البتع يبطل كلَّ تأويلٍ ذكره أصحاب تحليل الأنبذة، وإفساد قول من قال: إنَّ القليل من المسكر من الأنبذة مباحٌ؛ لأنَّه - عليه السَّلام - سُئِلَ عن نوع واحدٍ من الأنبذة، وأجاب بتحريم الجنس، فدخل فيه القليل والكثير، ولو كان ثمَّ تفصيلٌ في شيءٍ من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، وقال: «مَا(4/30)
أَسْكَرَ الفرق منه فتمسك الكف منه حرام» .
قال الخطابي: «الفَرقُ» : مِكْيَالٌ يَسَعُ ستَّة عشَرَ رطلاً وروى أبو داود عن أُمِّ سلمة قالت: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن كلِّ مسكرٍ ومفترٍ.
قال الخطَّابيُّ: «المفترُ» كلّ شرابٍ يورث الفتور، والخدر في الأعضاء.
واستدلُّوا أيضاً بالاشتقاق المتقدّم وأيضاً بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} [المائدة: 91] .
وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة؛ لأنَّها مظنّته.
وأيضاً فإنّ عمر، ومعاذ قالا: يا رسول الله، إنَّ الخمر مسلبةٌ للعقل مذهبة للمال؛ وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة.
والجواب عن دلائل أبي حنيفة: أنَّ قوله {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً} [النحل: 67] نكرة في سياق الإثبات، فلم قلتم إنّ ذلك السُّكر هو هذا النَّبيذ.
ثمَّ أجمع المفسِّرون على أنَّ هذه الآية قبل الآيات الدَّالَّة على تحريم الخمر، فتكون ناسخةً، أو مخصّصة.(4/31)
وأمَّا حديث النَّبيذ فلعلَّه كان ماءًا نبذت فيه تمراتٌ؛ لتذهب ملوحته فتغيَّر طعم الماء قليلاً إلى الحموضة، وطبعه - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان في غاية اللَّطافة، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطَّعم؛ فلذلك قطَّب وجهه، وإنما صبَّ الماء فيه؛ إزالة لتلك الحموضة، أو الرائحة. وأمَّا آثارُ الصَّحابة، فمتدافعة متعارضة.
فصل في عدد الآيات التي نزلت بمكة في تحريم الخمر
قالوا: نزل في الخمر آربع آيات بمكَّة:
قوله: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] وكان المسلمون يشربونها، وهي لهم حلالٌ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصَّحابة قالوا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر، فإنَّها مذهبةٌ للعقل مسلبةٌ للمال، فنزل قول تعالى: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ تَقَدَّمَ في الخَمْر» فتركها قومٌ لقوله (إثْمٌ كبيرٌ) وشربها قوم لقوله (ومنافع للناس) . إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماًن فدعا ناساً من أصحاب النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتاهم بخمرٍ، فشربوا، وسكروا، وحضرت صلاة المغرب؛ فتقدَّم بعضهم ليصلِّي بهم فقرأ: «قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ» هكذا إلى آخر السورة بحذف «لا» ، فأنزل الله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] فحرَّم السُّكر في أوقات الصلاة، فلما نزلت هذه الآية، تركها قومٌ، وقالوا: لا خير في شيءٍ يحول بيننا وبين الصَّلاة وتركها قوم في أوقات الصَّلاة، وشربوها في غير وقت الصَّلاة، حتَّى كان الرَّجل يشرب بعد صلاة العِشاء، فيصبح، وقد زال عنه السُّكر، ويشرب بعد صلاة الصُّبح، فيصحو إذا جاء وقت الظُّهر، واتخذ عُتبان بن مالك صِبْغاً ودعا رجالاً من المسلمين، فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعيرٍ، فأكلوا منه، وشربوا الخمر، حتى أخذت منهم، ثمَّ إنّهم افتخروا عند ذلك، وانتسبوا، وتناشدوا، فأنشد سعد قصيدةً فيها هجاءٌ للأنصار، وفخر لقومه، فأخذ رجلٌ من الأنصار لحي بعيرٍ، فضرب به رأس سعدٍ؛ فشجَّه موضّحةٌ(4/32)
فانطلق سعد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشكى إليه الأنصاريَّ، فقال عمر: اللَّهُمَّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] وذلك بعد غزوة الأحزاب بأَيَّام، فقال عمر: انتهينا يا ربّ.
قال ابن الخطيب: والحكمة في وقوع التَّحريم على هذا التَّرتيب أنَّ الله تعالى علم أنَّ القوم كانوا قد أَلِفُوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً، فعلم أنَّه لو منعهم دفعةً واحدةً لشقّ ذلك عليهم، فلا جرم درَّجهم في التَّحريم رفقاً بهم، ومن الناس من قال: إن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية، ثم نزل قوله:
{لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] فاقتضى ذلك تحريم شربها؛ لأنَّ شارب الخمر لا يمكنه أن يصلِّي مع السُّكر، فكان المنع من ذلك منعاً من الشّرب ضمناً، ثم نزلت آية المائدة، فكانت في غاية القوَّة في التَّحريم. وعن الرَّبيع بن أنس أنَّ هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر.
فصل
قال أنسٌ: حُرمت عليهم الخمر، ولم يكن يومئذ للعرب عيشٌ أعجب منها، وما حرِّم عليهم شيءٌ أشدّ من الخمر.
وقال أنس بن مالك: ما كان لنا خمر غير فضيخكم فإنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً، وفلاناً، إذ جاء رجلٌ فقال: حرمت الخمر. قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس؛ قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرَّجل.
واختلف الفقهاء في الخمر على ما تقدَّم؛ فقال قومٌ: هو عصير العنب والرُّطب الَّذي اشتدّ وغلا من غير عمل النَّار فيه، واتَّفقت الأُمَّة على أنَّ هذا الخمر نجس يحدُّ شاربها، ويُفَسَّقُ، ويكفر مستحلها، وذهب سفيان الثَّوريُّ، وأبو حنيفة، وجماعة إلى أنَّ التَّحريم لا يتعدّى هذا ولا يحرم ما يتّخذ من غيرها، كالحنطة، والشَّعير، والذُّرة، والعسل، والفانيذِ إلاَّ أن يسكر منه فيحرم، وقال: إذا طبخ عَصِيرُ العِنَبِ والرُّطب، حتّى(4/33)
ذهب نصفه، فهو حلالٌ، ولكنه يكره، وإن طبخ، حتَّى يذهب ثلثاه قالوا: هو حلالٌ مباحٌ شربه إلاَّ أنَّ السُّكر منه حرامٌ.
وقال قومٌ: إذا طُبخَ صار العَصِيرُ أدْنَى طبخ، صار حَلاَلاً، وهو قول إسماعيل بن عليه، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ كل شراب أسكر كثيره، فهو خمر قليله حرام يحدّ شاربه، وقد تقدَّم ما أجابوا به.
والمَيْسِرُ: القِمَارُ، مفعل من اليُسْرِ، يقال: يَسَرَ يَيْسِرُ؛ قال علقمة: [البسيط]
1068 - لَو يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا ... وَكُلُّ مَا يَسَرَ الأَقْوَامُ مَغْرُومُ
وقال آخر: [الطويل]
1069 - أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْئَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِس زَهْدَمِ
وفي اشتقاقه أربعة أقوال:
أحدها: من اليُسْر وهو السُّهولة؛ لأنَّ أخذه سهل من غير كدر ولا تعب قاله مقاتل.
والثاني: من اليَسَار، وهو الغنى؛ لأنَّه يسلبه يساره.
قال ابن عباسٌ: كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة يخاطرُ الرَّجُلَ على أهله وماله فأيهما قَمَر صاحبه؛ ذهب بأهله، وماله، فنزلت الآية.
الثالث: قال الواحديُّ: إنه من قولهم: يَسُرَ لي هذا الشَّيء يَيْسِرُ يُسْراً وميسراً، إذا وجب، واليَاسِرُ الوَاجِبُ بسبب القِدَاحِ. وحكاه الطبريُّ عن مجاهدس، ورد ابن عطيَّة عليه.
الرابع: من يسر إذا جزر، واليَاسِرُ الجَازِرُ، وهو الذي يجزّئ الجَزُور أجزاءً. قال ابن عطيَّة: وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً؛ لأنَّها موضع اليُسْرِ، ثمَّ سُمِّيت السِّهَامُ مَيْسراً للمُجَاوَرَةِ «واليَسَرُ: الذي يدخل في الضَّرْبِ بالقِدَاح، ويجمع على أيسار، وقيل: بل» يُسَّر «مع يَاسِر كَحَارِس وحُرَّسٍ وأَحْرَاسٍ.
وللميسر كيفيَّةٌ، وتُسمّى سِهَامُهُ القِدَاحَ والأزلامَ والأقلامَ. وقيل: هي عَشَرَةُ أقْدَاح، وقيل: أَحَدَ عَشَرَ، لسبعةٍ منها حُظُوظٌ، وعلى كُلِّ منها خُطُوطٌ، فالخطُّ يقدِّر الحَظَّ، وتلك القِدَاحُ هي: الفَذُّ وله سهمٌ واحدٌ، والتَّوءَمُ وله اثنان، والرَّقيبُ وله ثلاثةٌ، والحِلْسُ(4/34)
وله أربعةٌ، والنَّافسُ وله خمسةٌ، والمُسْبلُ وله ستّةٌ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خُطُوطَ عليها، وهي المنيحُ، والسَّفيحُ، والوغْدُ.
وأنشد فيها بعضهم: [الرمل]
1070 - لِيَ في الدُّنْيَا سِهَامٌ ... لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ
وَأَسَامِيهِنَّ وَغْدٌ ... وَسَفِيحٌ وَمَنِيحُ
ومن زاد رابعاً سمَّاه المضعَّف، وإنَّما كثروا بهذه الأغفال ليختلط على الحرضة، وهو الضَّارب، فلا يميل مع أحد، وهو رجلٌ عدلٌ عندهم، فيجثو، ويلتحف بثوبٍ، ويخرج رأسه، فيجعل تلك القداح في خريطة وتسمى الرِّبابة بكسر الرَّاء مشبَّهة بالكتابة فيها سهامُ المَيْسِرِ، وربَّما يسمُّون جميع السِّهام ربابة، ثمَّ يخلخلها ويدخل يده فيها، ويخرج باسم رجُلٍ رجلٍ قِدحاً فمن خرج على اسمه قدحٌ: فإن كان من ذوات السِّهام؛ فاز بذلك النَّصيب، وأخذه، وإن كان من الأغفال غرِّم من الجزور؛ ولا يأخذ شيئاً.
وقال بعضهم: لا يأخذ شيئاً، ولا يغرم، ويكون ذلك القدح لغزاً.
وكانوا يفعلون هذا في الشَّتوة، وضيق العيش، ويقسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، ويفتخرون بذلك، ويسمُّون من لم يدخل معهم فيه: البَرم ويذمونه، والجَزورُ تقسم عند الجمهور على عدد القداح، فتقسم على عشرة أجزاء، وعند الأصمعي على عدد خطوط القداح، فتقسّم على ثمانية وعشرين جزءاً. وخطَّأ ابن عطية الأصمعيَّ في ذلك، وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّه يحتمل أنَّ العرب كانت تقسِّمها مرَّةً على عشرةٍ، ومرَّةً على ثمانية وعشرينَ.
فهذا أصل القمار التي كانت تفعله العرب.
واختلفوا في الميسر؛ هل هو اسم لذلك القمار المعيَّن أو اسم الجميع أنواع القمار، فقال بعض العلماء: المراد من الآية جميع أنواع القمار قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إيَّاكُم وَهَاتَيْنِ الكَعْبَتَيْنِ المُوسومتين فَإِنَّها مِنَ مَيْسِرِ العَجَمِ» .
وعن ابن سِيرِينَ: ومجاهد، وعطاءٍ، وطاوسٍ، كلُّ شيءٍ فيه قمارٌ فهو الميسر، حتَّى لعب الصِّبيان بالجوز، والكعاب.(4/35)
وروي عن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في النرد، والشِّطرنج: أنَّه من المَيْسر. وقال الشَّافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إذا خلا الشِّطرنجُ عن الرهان واللِّسان عن الطُّغيان، والصَّلاة عن النِّسيان؛ لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر؛ لأنَّ الميسر ما يوجب دفع مال، أو أخذ مالٍ، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قماراً ولا ميسراً.
وأمّا السَّبقُ في الخفِّ، والحافر، والنُّشابِ، فخصّ بدليلٍ.
قوله: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} الجَارُّ خبر مقدّم، و «إثْمٌ» مبتدأ مؤخَّرٌ، وتقديم الخبر هنا ليس بواجبٍ، وإن كان المبتدأ نكرةً، لأنَّ هنا مسوغاً آخر، وهو الوصف، أو العطف، ولا بدّ من حذف مضافٍ أيضاً، أي: في تعاطيهما إثمٌ؛ لأنَّ الإثم ليس في ذاتها.
وقرأ حمزة والكسائيُّ: «كثيرٌ» بالثَّاء المثَّلثة، والباقون بالباء ثانية الحروف. ووجه قراءة الجمهور واضحٌ، وهو أنَّ الإثم يوصف بالكبر مبالغة في تعظيم الذَّنب، ومنه آية {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] . وسمِّيت الموبقات: «الكبَائِر» ، ومنه قوله تعالى: {والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} [الشورى: 37] ، و {كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وشرب الخمر، والقمار من الكبائر، فناسب وصف إثمهما بالكبر، وقد أجمعت السَّبعة على قوله: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} بالباء الموَّحدة، وهذه توافقها لفظاً.
وأمَّا وجه قراءة الأخوين: فإمَّا باعتبار الآثمين من الشَّاربين، والمقامرين، فلكلِّ واحد إثمٌ، وإمّا باعتبار ما يترتّب [على تعاطيهما من توالي العقاب، وتضعيفه، وإمّا(4/36)
باعتبار ما يترتَّب] على شربهما ممَّا يصدر من شربها من الأقوال السَّيئة والأفعال القبيحة.
وإمّا باعتبار ما يترتَّب على تعاطيهما من توالي العقاب، وتضعيفه.
وإمَّا باعتبار من يزاولها من لدن كانت عنباً إلى أن شربت، فقد لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخمر، ولعن معها عشرةً: بائعها، ومبتاعها وغيرهما، فناسب ذلك أن يوصف إثمها بالكثرة. وأيضاً فإن قوله: «إثْم» ، مقابلٌ ل «مَنَافِع» ، و «منافع» جمعٌ، فناسب أن توصف مقابلةً بمعنى الجمعيَّة، وهو الكثرة. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان في القرآن، وهو أن يذكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيف القراءة الأخرى كما فعل بعضهم، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءتي: «مَلِك» ، و {مالك} [الفاتحة: 3] .
وقال أبو البقاء: الأَحْسَنُ القِرَاءَةُ بالبَاء، لأنه يقال: إثمٌ كبيرٌ وصغيرٌ، ويقال في الفواحش العظام: «الكَبَائِرُ» ، وفيما دون ذلك «الصَّغَائِرُ» وقد قرئ بالثَّاء وهو جيدٌ في المعنى؛ لأنَّ الكثرة كبرٌ، والكثير كبيرٌ، كما أنَّ الصَّغير حقيرٌ ويسيرٌ.
وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفه -: «وإثمهما أَكْثَرُ» بالمثلَّثة، وكذلك الأولى في قراءته، ومصحفه.
فصل
دلَّ قوله تعالى: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} على تحريم الخمر كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] والإثم يستحق به؛ فدلَّ مجموع الآيتين على التَّحريم، وأيضاً فإنَّ الإثم قد يراد به العقاب وقد يراد به: ما يستحق به العقاب من الذُّنوب، وأيُّهما كان، فلا يصحُّ أن يوصف به إلاَّ المحرّم.
وأيضاً قد قال تعالى: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} فَصَرَّحَ بِرُجْحَانِ الإِثْمِ، وذلك يوجب التَّحْرِيمَ.
فإن قيل: لا تدلُّ الآية على أنَّ شرب الخمر حرامٌ، بل تدلُّ على أنَّ فيه إثماً، فهَبْ أنَّ ذلك الإثم حرامٌ، فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم؛ وجب أن يكون حراماً؟
فالجواب أنَّ السُّؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر، فلمَّا بين تعالى أنَّ فيه إثماً، كان المراد أنَّ ذلك الإثم لازمٌ له على جميع التَّقديرات، فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرَّمة، ومستلزم المحرَّم محرَّمٌ؛ فوجب أن يكون الشُّرب محرّماً.(4/37)
فإن قيل هذه الآية لا تدلُّ على حرمة الخمر لوجوهٍ:
أحدها: أنَّه تعالى أثبت فيها منافع للنَّاس والمحرّم لا يكون فيه منفعةٌ.
الثاني: لو دلَّت الآية على حرمتها، فلم لم يقنعوا بها حتّى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصّلاة؟
الثالث: أنَّه أخبر أنَّ فيها إثمٌ كبيرٌ، فمقتضاه أنَّ ذلك الكبير ملازماً لها ما دامت موجودة، ولو كان ذلك سبباً لحرمتها؛ لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشَّرائع.
فالجواب عن الأوَّل: أنَّ حصول النَّفع فيها ليس مانعاً من حرمتها؛ لأن صدق الخاصّ يوجب صدق العامّ.
وعلى الثاني: أنّا روينا عن ابن عباس أنَّها نزلت في تحريم الخمر والتّوقف الذي ذكروه، غير مرويٍّ عنهم، وقد يجوز بطلب الكبار من الصَّحابة نزول ما هو أكبر من هذه الآية في التَّحريم كما التَمَسَ إبراهيم - صلوات الله عليه - مشاهدة إحياء الموتى، ليزداد سكوناً، وطمأنينة.
وعن الثالث: أنَّ قوله {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} إخبار عن الحال لا عن الماضي فعلم تعالى أنَّ شُرْبَ الخَمْرِ مفسدةٌ لهم، وليس مَفْسَدَةٌ للَّذِينَ من قبلهم.
فصل في بيان الإثم الكبير في الآية
الإثم الكبير في الخمر أمورٌ:
أحدها: أنَّه مزيلٌ للعقل الذي هو أشرف صفات الإنسان، وإذا كان الخمر عَدُوّاً، لا شرفاً؛ فيلزم أن يكون أخسَّ الأمور؛ وذلك لأن العقل إنَّما سمِّي عقلاً أخذاً من عقال النَّاقة، فإنَّ الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعاً من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي طبعه الدَّاعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل له عن فعل القبيح.
ذكر ابن أبي الدنيا: أنَّه مرَّ على سكران، وهو يبول في يده، ويمسح به وجهه كهيئة المتوضِّئ، ويقول: الحمد لله، الذي جعل الإسلام نوراً، والماء طهوراً.
وعن العبَّاس بن مرداس أنَّه قيل له في الجاهليَّة: لم لا تشرب الخمر؛ فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي، فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيِّد قوم، وأمسي سفيههم.
وثانيها: ما ذكره الله - تعالى - من إيقاع العداوة، والبغضاء، والصَّدّ عن ذكر الله، وعن الصَّلاة.(4/38)
وثالثها: أنَّ هذه المعصية من خواصّها أنَّ الإنسان إذا اشتغل بها وواظب عليها، كان ميله ونفسه عليها أقوى، بخلاف سائر المعاصي، فإنَّ الزَّاني مثلاً إذ فعل مرَّةً واحدةً فترت رغبته، وكلمَّا زاد فعله؛ كان فتوره أكثر؛ بخلاف الشّرب فإنَّه كلَّما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليها ورغبته فيه أكثر، فإذا واظب عليه؛ صار غارقاً في اللَّذَّات البدنيَّة معرضاً عن تذكر الآخرة، حتّى يدخل في الّذشين نسوا الله، فأنساهم أنفسهم.
وبالجملة إذا زال العقل؛ حصلت القبائح بأسرها، وكذلك قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:
«اجْتَنِبُوا الخَمْرَ فَإِنَّها أُمُّ الخَبَائِثِ» . ويصدر عن الشَّارب المخاصمة، والمشاتمة وقول الفحش والزُّور.
وأما الإثم الكبير في الميسر، فإنَّه يفضي إلى العداوة أيضاً لما يجري بينهم من الشَّتم، والمنازعة؛ لأنَّه أكل مال بالباطل، وذلك يورث العداوة؛ لأنَّ صاحبه إذا أخذ ماله مجَّاناً؛ أبغضه جدّاً، وهو يشغل عن ذكر الله، وعن الصَّلاة أيضاً.
وأمَّا المنافع المذكورة فيهما، فمنافع الخمر أنَّهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النَّواحي، وكان المشتري، إذا ترك المماكسة في الثَّمن؛ كانوا يعدُّون ذلك فضيلةً، ومكرمةً، وكانت تكثر أرباحهم بذلك السَّبب، ومنها أنَّها تقوِّي الضَّعيف، وتهضم الطَّعام، وتعين على الباءة وتسلي المحزون، وتشجِّع الجبان، وتُسخي البخيل، وتصفي اللَّون وتُنعش الحرارة الغريزيَّة، وتزيد من الهمَّة، والاستعلاء. ومن منافع الميسر: التَّوسعة على ذوي الحاجات؛ لأنَّ من قمر لم يأكل من الجزور شيئاً وإنما يفرّقه في المحتاجين؛ وذكر الواقديُّ أنَّ الواحد كان ربَّما يحصل له في المجلس الواحد مائة بعيرٍ، فيحصل له مالٌ من غير كدٍّ، ولا تعبٍ، ثم يصرفه إلى المحتاجين، فيكتسب فيه الثَّناء، والمدح، وكانوا يشترون الجزور، ويضربون سهامهم، فمن خرج سهمه؛ أخذ نصيبه من اللَّحم، ولا يكون عليه شيء من الثَّمن، ومن بقي سهمه آخراً، كان عليه ثمن الجزور كلِّه، ولا يكون له من اللَّحم شيءٌ.(4/39)
قوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} قرأ أُبَيّ: «أقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمَا» .
وإثمهما ونفعهما مصدران مضافان إلى الفاعل، لأنَّ الخمر والميسر سببان فيهما، فهما فاعلان، ويجوز أن تكون الإضافة باعتبار أنهما محلُّهما. وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] قد تقدَّم الكلام عليه. وقرأ أبو عمرو: «قُلِ العَفْوُ» رفعاً والباقون نصباً. فالرَّفع على أنَّ «مَا» استفهاميةٌ، و «ذَا» موصولةٌ، فوقع جوابها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوفٍ، مناسبةً بين الجواب والسُّؤال والتَّقدير: إنفاقكم العفو. والنَّصيب على أنَّهما بمنزلةٍ واحدةٍ، فيكون مفعولاً مقدّماً، تقديره: أيَّ شيءٍ ينفقون؟ فوقع جوابها منصوباً بفعل مقدَّرٍ للمناسبة أيضاً، والتَّقدير: أنفقوا العفو. وهذا هو الأحسن، أعني أن يعتقد في حال الرَّفع كون «ذا» موصولةً، وفي حال النَّصب كونها ملغاةٌ. وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاةً مع رفع جوابها، وموصولةً مع نصبه. وقد تقدم الكلام على مستوفى وإنما اختصرت القول هنا؛ لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} [البقرة: 26] .
فصل
اعلم أنَّ هذا السُّؤال، قد تقدَّم، وأجيب بذكر المصرف، وهنا أجيب بذكر الكميَّة.
قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: أصل العفو في اللُّغة الزِّيادة، قال الله تعالى: {خُذِ العفو} [الأعراف: 199] ، أي: الزِّيادة وقال: {حتى عَفَوْاْ} [الأعراف: 95] .
وقال القفَّال: العفو ما سهل وتيسّر ممَّا فضل عن الكفاية، وهو قول قتادة، وعطاء، والسُّدِّي، وكانت الصَّحابة يكتسبون المال، ويمسكون قدر النَّفقة، ويتصدَّقون بالفضل.
قال القرطبيُّ: فالجواب خرج على وفق السُّؤال، فإنَّ السُّؤال الثَّاني في هذه الآية على قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح فإنَّه لما نزل: {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215] قال: كم أنفق؛ فنزل «قُل العَفْوَ» .
والعَفْوُ: ما سهل، وتيسَّر وفضل، ولم يشقَّ على القلب إخراجه؛ قال الشَّاعر: [الطويل](4/40)
1071 - خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلاَ تَنْطقِي في سَوْرَتي حِينَ أَغْضَبُ
وقال طاوس: ما يَسُر، والعفو اليسر من كل شيءٍ، ومنه قول تعالى: {خُذِ العفو} [الأعراف: 199] أي الميسور من أخلاق النَّاس.
قال ابن الخطيب: ويشبه أن يكون العفو عن الذَّنب راجع إلى التَّيسير، والتَّسهيل، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ، والرَّقِيقِ، فَهَاتوا عشْرَ أَمْوَالِكُمْ» معناه: التَّخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرَّقيق، ويُقال: أعفى فلانٌ فلاناً بحقِّه: إذا أوصله إليه من غير إلحالح في المطالبة، ويقال: أعطاه كذا عفواً صفواً: إذا لم يكدِّره عليه بالأذى، ويقال: خذ من النَّاس ما عُفِيَ لك، أي: ما تيسَّر، ومنه قوله تعالى: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف} [الأعراف: 199] وجملة التأويل: أنَّ الله - تعالى - أدَّب النَّاس في الإنفاق، فقال: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} [الإسراء: 26، 27] وقال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] وقال: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَن غِنى، وَلا تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ» .
وعن جابر بن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذ جاءه رجلٌ بمثل البيضة من ذهب فقال: يا رسول الله؛ خذها صدقةً، فوالله ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أتاه من بين يديه، فقال: هاتها مغضباً؛ فأخذها منه، ثمَّ حذفه بها، لو أصابته لأوجعته ثم قال: «يَأْتِينِي أَحَدُكُم بِمالِهِ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عن ظَهْرِ غِنَى، خُذْهَا، فَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِيها» . وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يحبس لأهله قُوتَ سَنَةٍ.
وقال الحكماء الفضيلةُ بين طرفي الإفراط والتَّفريط.(4/41)
وقال عمرو بن دينار: الوسط من غير إسراف ولا إقتار.
فصل في ورد العفو في القرآن
قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «العَفْوِ» في القرآن بإزاء ثلاثة معانٍ:
الأول: العفو: الفضل من الأموال قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} يعني الفضل من المال.
الثاني: «العفو» الترك؛ قال تعالى: {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237] أي يتركوا، ومثله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى: 40] ، أي: ترك مظلمته.
الثالث: العفو بعينه، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] .
فصل
واختلفوا في هذا الإنفاق؛ هل المراد به الواجب، أو التطوُّع على قولين:
الأول: قال أبو مسلم: يجوز أن يكون العفو هو الزَّكوات وذكرها ها هنا على سبيل الإجمال في السَّنة الأولى؛ لأنَّ هذه الآية قبل نزول آية الصَّدقات، وأنزل تفاصيلها في السَّنة الثَّانية فالنَّاس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم، ما يكفيهم في عامهم، ثمَّ ينفقون الباقي، ثمَّ صار هذا منسوخاً بآية الزَّكاة.
القول الثاني: أنَّ المراد به صدقة التَّطوُّع.
قالوا: لأنَّه لو كان مفروضاً لبين الله مقداره، فلمَّا لم يبيِّنه، وفوَّضه إلى رأي المخاطب؛ علمنا أنَّه ليس بفرضٍ.
وأجيب، بأنه لا يبعد أن يوجب الله - تعالى - شيئاً على سبيل الإجمال، ثمَّ يذكر تفصيله وبيانه.
قوله تعالى: {كذلك يُبيِّنُ} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: تبييناً مثل ذلك التَّبيين يبيِّن لكم، وإمَّا حالاً من المصدر المعرفة، أي: يبيِّن التبيين مماثلاً ذلك التَّبيين. والمشار إليه يبيِّن حال المنفق، أو يبيِّن حكم الخمر، والميسر، والمنفق المذكور بعدهما. وأبعد من خصَّ اسم الإشارة ببيان حكم الخمر، والميسر، وأبعد منه من جعله إشارةً إلى جميع ما سبق في السُّورة من الأحكام.
و «لَكُمْ» متعلِّق ب «يُبَيِّن» . وفي اللاَّم وجهان، أظهرهما أنَّها للتبليغ كالتي في: قلت لك.(4/42)
والثاني: أنها للتَّعليل وهو بعيدٌ. والكاف في «كَذَلِكَ» تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو للسامع، فتكون على أصلها من مخاطبة المفرد.
والثاني: أن تكون خطاباً للجماعة، فيكون ذلك ممَّا خوطب به الجمع بخطاب المفرد، ويؤيِّده قوله «لَكُمْ، و» لَعَلَّكُمْ «، وهي لغةٌ للعرب، يخاطبون في اسم الإشارة بالكفا مطلقاً، وبعضهم يستغني عن الميم بضمَّةِ الكاف؛ قال: [الرجز]
1072 - وَإِنَّمَا الهَالِكُ ثُمَّ التَّالِكُ ... ذُو حَيْرَةٍ ضَاقَتْ بِهِ المَسَالِكُ
كَيْفَ يَكُونُ النَّوْكُ إِلاَّ ذَلِكُ ... فصل
قوله تعالى: {فِي الدنيا} : فيه خسمة أوجهٍ:
أظهرها: أن يتعلَّق بيتفكّرون على معنى: يتفكَّرون في أمرهما، فيأخذون ما هو الأصلح، ويؤثرون ما هو أبقى نفعاً.
والثاني: أن يتعلَّق ب» يبيِّن «، ويروى معناه عن الحسن، وحينئذٍ يحتمل أن يقدَّر مضاف، أي: في أمر الدُّنيا والآخرة، ويحتمل ألاَّ يقدَّر، لأنَّ بيان الآيات، وهي العلامات يظهر فيها. وجعل بعضهم قول الحسن من التَّقديم، والتأخير، أي: ليس لذلك يبيِّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا وزوالها وفنائها، فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة، ووقوعها، فترغبون فيها. ثم قال: ولا حَاجَةَ لِذَلِكَ، لحَمْلِ الكَلاَمِ على ظاهره، يعني من تعلُّق في الدُّنيا ب» تَتَفَكَّرُونَ «. وهذا ليس من التَّقديم والتَّأخير في شيء؛ لأنَّ جملة التَّرجِّي جاريةٌ مجرى العلَّة فهي متعلِّقةٌ بالفعل معنى، وتقديم أحد المعمولات على الآخر، لا يقال فيه تقديم وتأخير ويحتمل أن تكون اعتراضيةً، فلا تقديم، ولا تأخير.
والثالث: أن تتعلَّق بنفس «الآيَاتِ» لما فيها من معنى الفعل، وهو ظاهر قول مكي فيما فهمه عنه ابن عطيَّة. قال مكِّيٌّ: «معنى الآية أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدُّنيا، والآخرة يدلُّ عليها، وعلى منزلتها لعلَّهم يتفكَّرون في تلك الآياتِ» قال ابن عطيَّة: «فقوله: في الدنيا: يتعلَّق على هذا التَّأويل بالآيات» وما قاله عنه ليس بظاهر؛ لأنَّ شرحه الآية لا يقتضي تعلُّق الجار بالآيات. ثمَّ إنْ عَنَى ابن عطية بالتعلّق التعلُّق الاصطلاحي، فقال أبو حيان «فو فَاسِدٌ، لأنَّ» الآيَاتِ «لا تَعْمَلُ شيئاً ألْبَتَّةَ، ولا يَتَعَلَّقُ بها ظَرْفٌ، ولا مَجْرُورٌ» وقال شِهَابُ الدِّين: وهذا من الشَّيخ فيه نظرٌ، فإنَّ الظُّروف تتعلَّق بروائح الأفعال، ولا شكّ أنَّ معنى الآيات العلامات الظَّاهرة، فيتعلَّق بها الظَّرف على هذا. وإن(4/43)
عنى التَّعلُّق المعنويَّ، وهو كون الجارِّ من تمام معنى: «الآيَاتِ» ، فذلك لا يكون إلاّ إذا جعلنا الجارَّ حالاً من «الآيَات» ، ولذلك قدَّرها مكِّيٌّ نكرة فقال: «يبيِّن لهم آياتٍ في الدُّنْيَا» ليعلم أنَّها واقعةٌ موقع الصِّفة لآيات، ولا فرق في المعنى بين الصِّفة والحال، فيما نحن بصدده، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ لوقوعها صفةٌ.
الرابع: أن تكون حالاً من «الآيَاتِ» كما تقدَّم تقريره الآن.
الخامس: أن تكون صلةً للآيات، فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً، وذلك مذهب الكوفيين، فإنَّهم يجعلون من الموصولات الاسم المعرَّف بأل؛ وأنشدوا: [الطويل]
1073 - لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ
ف «البيت» عندهم موصولٌ.
وجوابهم مذكور في غير هذا الكتاب.
والتَّفكُّر: تفعل من الفكر، والفكر: الذِّهن، فمعنى تفكَّر في كذا: أجال ذهنه فيه وردَّده.
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} .
قال ابن عبَّاس: إنَّ أهل الجاهليَّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى، وربَّما تزوَّجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلاَّ يخرج مالها عن يده، فلمَّا نزل قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152 والإسراء: 34] ، وقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ والمستضعفين مِنَ الولدان وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} [النساء: 127] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى، تحرُّجاً شديداً، وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم، حتَّى كان يصنع لليتيم طعاماً، فيفضل منه شيءٌ، فيتركونه، ولا يأكلونه حتَّى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً، وطعاماً، وشراباً، فعظم ذلك على ضعفة المسلمين، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله ما كلُّنا يجد منازل يسكنها الأيتام، ولا كلُّنا يجد طعاماً، وشراباً، يفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية.(4/44)
قوله: {إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} ، «إصْلاَحٌ» مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به أحد شيئين: إمَّا وصفه بقوله: «لَهُم» ، وإمَّا تخصيصه بعمله فيه، و «خيرٌ» خبره. و «إصْلاَحٌ» مصدرٌ حذف فاعله، تقديره: إصلاحكم لهم، فالخبريَّة للجانبين أعني جانب المصلح، والمصلح له، وهذا أولى من تخصيص أحد الجانبين بالإصلاح كما فعل بعضهم.
قال أبو البقاء: «فَيَجُوزُ أن يَكُونَ التَّقْدِيرُ: خيرٌ لكم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: خَيْرٌ لَهُم» ، أي: إصلاحهم نافع لكم.
قال بعض العلماء: هذه الكلمة تجمع النَّظر في إصلاح اليتيم بالتَّقويم والتَّأديب وغيرهما لكي ينشأ على علمٍ وأدبٍ وفضلٍ، والنَّظر في إصلاح حاله، وتجمع أيضاً النَّظر في حال الولي، أي: هذا العمل خير له من أن يكون مقصّراً في حقّ اليتيم.
وقال بعضهم: الخير عائد إلى الولي، يعني إصلاح مالهم من غير عوض، ولا أجرة، خير للولي، وأعظم أجراً.
وقال آخرون: الخير عائدٌ إلى اليتيم، والمعنى: أنَّ مخالطتهم بالإصلاح خيرٌ لهم من التَّفرُّد عنهم، والإعراض عن مخالطتهم.
فصل في هل يتصرف في مال اليتيم
قال القرطبيُّ لما أذن الله عزَّ وجلَّ في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنَّظر إليهم وفيهم، كان ذلك دليلاً على جواز التَّصرف في مال اليتيم تصرف الوصيّ في البيع، والقسمة، وغير ذلك على الإطلاق لهذه الآية، فإذا كفل الرَّجل اليتيم، وحازه، وكان في نظره، جاز عليه فعله وإن لم يقدّمه والٍ عليه؛ لأنَّ الآية مطلقة والكفالة ولاية عامَّة، ولم يؤثر عن أحدٍ من الخلفاء أنَّه قدّم أحداً على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنَّما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم.
قوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} المخالطة: الممازجة، وقيل: جمع يتعذر فيه التّمييز ومنه يقال للجماع: الخلاط، ويقال: خولط الرجل إذا جُنَّ، والخلاط: الجنون؛ لاختلاط الأمر على صاحبه بزوال عقله.
قوله: «فَإِخْوَانُكُمْ» الفاء جواب الشّرط، و «إِخْوَانُكم» خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم إخوانكم. والجملة في محلِّ جزم جواب الشَّرط، والجمهور على الرَّفع، وقرأ أبو مجلز: «فَإِخْوَانُكُمْ» نصباً بفعل مقدَّر، أي: فقد خالطتهم إخوانكم، والجملة الفعليَّة أيضاً في محلِّ جزمٍ، وكأن هذه القراءة لم يطَّلع عليها الفراء وأبو البقاء فإن الفراء [قال] ولو(4/45)
نصب كان صواباً، وقال أبو البقاء: «وَيَجُوزُ النَّصْبُ في الكَلاَم، أي: فقد خالطتُهم إخوانَكم» .
فصل في بيان وجوه المخالطة
في هذه المخالطة وجوه:
أحدها: المراد بالمخالطة في الطَّعام، والشَّراب، والسُّكنى، والخدم؛ لأن القوم ميَّزوا طعامهم، وشرابهم، ومسكنهم عن طعام اليتيم، وشرابه، وسكنه فأمرهم الله تعالى بخلط الطَّعامين والشَّرابين، والاجتماع في السَّكن الواحد كما يفعله المرء بمال ولده، فإنَّ هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة.
الثاني: المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجرة المثل في ذلك العمل. والقائلون بهذا القول، منهم من جوَّز ذلك سواء كان القيم غنيّاً، أو فقيراً، ومنهم من قال إن كان القيم غنياً لم يأكل من ماله؛ لأن ذلك فرض عليك وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز، واحتجوا بقوله: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} [النساء: 6] وإن كان القيِّم فقيراً قالوا: يأكل بقدر الحاجة، ويرده إذا أيسر فإن لم يوسر تحلله من اليتيم.
وروي عن عمر أنَّه قال: أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة وليّ اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثمَّ قضيت.
وعن مجاهد: إذا كان فقيراً، وأكل بالمعروف، فلا قضاء عليه.
الثالث: أنَّ المراد بهذه «المُخَالَطَةِ» المصاهرة بالنِّكاح، وهو اختيار أبي مسلم قال: لقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] وقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء} [النساء: 127] وهذا القول راجحٌ على غيره من وجوه:
أحدها: أنَّ هذا خلط لليتيم نفسه، والشّركة خلط لماله.
وثانيها: أنَّ الشَّركة داخلةٌ في قوله: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} ، والخلط من جهة النّكاح، وتزويج البَنَات منهم لم يدخل في ذلك فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب.(4/46)
وثالثها: أن قوله تعالى «فَإِخْوَانُكُم» يدلُّ على أنَّ المراد هو هذا النَّوع؛ لأنَّ اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى إصلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً؛ فوجب أن تكون الإشارة بقوله: «فَإِخْوَانُكُم» إلى نوع آخر من المخالطة.
ورابعها: أنَّ المخالطة المندوب إيها هي في اليتامى الذين هم إخوان لكم بالإسلام، فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم، ليتأكد الاختلاط فإن كان اليتيم من المشركين، فلا تفعلوا ذلك.
قال القرطبيُّ: ما ينفقه الوصيُّ والكفيل له حالتان:
حالة لا يمكنه الإشهاد عليها، فقوله مقبولٌ بغير بيِّنة.
وحالة يمكنه الإشهاد عليها، فمهما اشترى من العقار، وما جرت العادة بالتَّوثق فيه، لم يقبل قوله بغير بيّنة.
وفرّق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصيّ، وينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته، وكسوته، لأنَّه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله، ويلبسه في كلِّ وقت، ولكن إذا قال: انفقت نفقةً لسنةٍ، قبل منه، وبين أن يكون عند أُمّه، أو حاضنته فيدعي الوصي أنَّه كان ينفق عليه، أو كان يعطي الأمَّ أو الحاضنة فلا يقبل منه إلاَّ بيِّنَةٍ أنَّها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة.
فصل
قال أبو عبيد: هذه الآية عندي أصل لما يفعله الرُّفقاء في الأسفار، فإنَّهم يتقاسمون النَّفقات بينهم بالسَّويَّة، وقد يتفاوتون في قلَّة المطعم، وكثرته، وليس كلّ من قلَّ مطعمه تطيب نفسه بالتَّفضُّل على رفيقه، فلمَّا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً؛ كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيَّق فيه الأمر على النَّاس.
قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} ؛ أي: المفسد لأموالهم من المصلح لها، يعني: الذي يقصد بالمخالطة الخيانة، وإفساد مال اليتيم، وأكله بغير حقّ من الذي يقصد الإصلاح.
وقيل: «يَعْلَمُ» ضمير من أراد الإفساد، والطَّمع في مالهم بالنِّكاح من المصلح، يعني: إنَّكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح، فإذا لم تريدوا ذلك بقلوبكم، بل كان المراد منه عرضاً آخر [فالله مطَّلع] على ضمائركم عالمٌ بما في قلوبكم، وهذا تهديدٌ عظيمٌ؛ وذلك لأنّض اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه، وليس له أحدٌ يراعيها، فكأنَّه تعالى قال: لما لم يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَفَّلُ بمصالحه، فَأَنَا مُتَكَفِّلٌ به، وأنا المُطَالِبُ لوليّه بذلك.(4/47)
تقدم الكلام في قوله: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} في قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ} [البقرة: 143] ، والمفسد والمصلح جنسان هنا، وليس الألف واللام لتعريف المعهود، وهذا هو الظَّاهر. وقد يجوز أن تكون للعهد أيضاً.
وفي قوله: {تُخَالِطُوهُمْ} التفاتٌ من ضمير الغيبة في قوله: «وَيَسْأَلُونَكَ» إلى الخطاب لينبِّه السَّامع إلى ما يلقى إليه. ووقع جواب السُّؤال بجملتين.
إحداهما من مبتدأ، وخبر، وأبرزت ثبوتية منكِّرة المبتدإ لتدلَّ على تناوله كلَّ إصلاح على طريق البدليَّة، ولو أُضيفت لعمَّ، أو لكان معهوداً في إصلاح خاص، وكلاهما غير مرادٍ، أمَّا العموم، فلا يمكن، وأمَّا المعهود فلا يتناول غيره؛ فلذلك أُوثر التَّنكير الدَّالُّ على عموم البدل، وأُخبر عنه ب «خَيْر» الدَّالِّ على تحصيل الثَّواب، ليتبادر المسلم إليه. والآخر من شرطٍ، وجزاءٍ، دالّ على جواز الوقوع لا على طلبه وندبيَّته.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله} مفعول «شَاءَ» محذوف، أي: إعناتكم. وجواب لو: «لأعنَتَكم» .
[والمشهور قطع همزة «لأَعْنَتَكُم» ] ؛ لأنَّها همزة قطعٍ. وقرأ البزيُّ عن ابن كثير في المشهور بتخفيفها بين بين، وليس من أصله ذلك، وروي سقوطها ألبتَّة، وهي كقراءة: {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] شذوذاً وتوجيهاً. ونسب بعضهم هذه القراءة إلى وهم الرَّاوي، باعتبار أنه اعتقد في سماعه التَّخفيف إسقاطاً، لكنَّ الصَّحيح ثبوتها شاذةً.
و «العنت» : المشَقَّة و «الإعْنَات» الحمل على مشقَّةٍ لا تطاق، يقال: أعْنَتَ فلانٌ فلاناً، إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه، وتعنُّته تعنُّتاً: إذا لبَّس عليه في سؤاله، وعنت العظم المجبور: إذا انكسر بعد الجبر، وأكمةٌ عنوتٌ: إذا كانت شاقَّةً كدوداً، وعنت الدَّابَّة تَعَنَّت عَنَتاً: إذا حدث في قوائمها كسرٌ بعد جبرٍ، لا يمكنها معه الجري. قال ابن الأنباريّ: أصل العنت الشِّدَّةُ؛ تقول العرب: فلان يتعنت فلاناً، ويعنته إذا شدّد عليه، وألزمه ما يصعب عليه أداؤه.
وقال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] ، أي: شديدٌ عليه ما شقّ عليكم.
ويقال: أعنتني في السُّؤال، أي: شدّد علي وطلب عنتي وهو الإضرارُ.
قال ابن عباس: لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً لكم.(4/48)
وقال عطاءٌ: ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقَّة كما أدخلتم على أنفسكم، ولضيَّق الأمر عليكم في مخالطتهم.
وقال الزَّجَّاج: ولو شاء الله لكلفكم ما شقَّ عليكم.
والعزيز الذي يأمر بعزة سهل على العبد، أو شقَّ.
والحكيم الذي يتصرّف في ملكه بما يريده لا حجَّة عليه، أو يضيع الأشياء في مواضعها.
فضل في بيان التكليف بما لا يطاق
احتجَّ الجبَّائيُّ بهذه الآية على أنَّه تعالى لم يكلِّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لأنَّ قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} يدلُّ على أنَّه لم يفعل الإعنات، ولا ضيق في التَّكليف، ولو كلَّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لكان قد تجاوز حدّ الإعنات، والتَّضييق؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد امتناع الشَّيء لامتناع غيره.
فإن قيل: الآية وردت في حقّ اليتيم.
قلنا: الاعتبار بعموم اللَّفظ، لا بخصوص السَّبب.
واحتجَّ الكعبي بهذه الآية على أنَّه تعالى قادرٌ على خلاف العدل؛ لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات، لم يجز أن يقول: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} ، وللنِّظَّام أن يجيب بأنَّ هذا معلَّق على مشيئة الإعناتِ، فلم قلتم بأنَّ هذه المشيئة ممكنةٌ الثُّبوت في حقِّه تعالى.(4/49)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
الجمهور على فتح تاء المضارعة، وقرأ الأعمش بضمِّها من: أنكح الرباعي،(4/49)
فالهمزة فيه للتَّعدية، وعلى هذا فأحد المفعولين محذوفٌ، وهو المفعول الأوَّل؛ لأنه فاعلٌ معنّى تقديره: ولا تنكحوا أنفسكم المشركات.
والنِّكاح في الأصل عند العرب: لزوم الشَّيء، والإكباب عليه؛ ومنه: «نَكَحَ المَطَرُ الأَرْضَ» ، حكاه ثعلبٌ عن أبي زيد، وابن الأعرابي.
قال الزَّجَّاجيُّ: «النّكاح في الكلام بمعنى الوطء، والعقد جميعاً، موضوع (ن. ك. ح) على هذا التَّرتيب في كلامهم للفرد والشَّيء راكباً عليه هذا كلام العرب الصَّحيح» .
أصله المداخلة؛ ومنه: تناكحت الشَّجر: أي: تداخلت أغصانها؛ ويطلق النِّكاح على العقد؛ كقول الأعشى: [الطويل]
1074 - وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
أي: فاعْقِدْ، أو توحَّش، وتجنَّب النِّساء، ويطلق أيضاً على الوطء؛ كقوله: [البسيط]
1075 - البَارِكِينَ عَلَى ظُهُورِ نِسْوَتِهِمْ ... والنَّاكِحِينَ بِشَطِّ دَجْلَةَ الْبَقَرَا
وحكى الفرَّاء «نُكُح المَرْأَةِ» بضمِّ النُّون على بناء «القُبُل» ، و «الدُّبُر» ، وهو بضعها، فمعنى قولهم: «نَكَحَها» أي أصاب ذلك الموضع، نحو: كَبَدَهُ، أي أصاب كبده، وقلَّما يقال: ناكحها، كما يقال باضعها.
وقال أبو علي: فَرَّقَتِ العَرَبُ بين العَقْدِ والوَطْءِ بِفَرْقِ لَطِيفٍ، فإذا قالوا: «نَكَحَ فُلاَنٌ فُلاَنَةٌ، أو ابنةَ فلانٍ» ، أرادوا عقد عليها، وإذا قالوا: نَكَحَ امرأته، أو زوجته، فلا يريدون غير المجامعة، وهل إطلاقه عليهما بطريق الحقيقة فيكون من باب الاشتراك، أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظَّاهر: الثاني: فإنَّ المجاز خيرٌ من الاشتراك، وإذا قيل بالحقيقة، والمجاز فأيهما حقيقة؟ ذهب قوم إلى أنَّه حقيقةٌ في العقد واحتجوا بوجوهٍ:
منها: قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ» ، وقَّف النِّكاح(4/50)
على الوليّ، والشُّهود، والمراد به العقد، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَولَدْ مِنْ سِفَاحٍ» فجعل النّكاح، كالمقابل للسِّفاح.
ومعلومٌ أنَّ السِّفاح مشتملٌ على الوطء، فلو كان النِّكاح اسماً للوطء، لا متنع كون النِّكاح مقابلاً للسِّفاح، وقال تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور: 32] ولا يمكن حمله إلاَّ على العقد.
وأيضاً قول الأعشى في البيت المتقدِّم لا يحتمل إلاَّ الأمر بالعقد؛ لأنه قال: «ولاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةً» يعني مقاربتها على الطَّريق الَّذي يحرُمُ فاعقدْ وتزوَّج، وإلاَّ فتأيَّم، وتجنَّبِ النِّساء.
وقال الرَّاغب: أصْلُ النِّكَاحِ للعقدِ، ثم اسْتُعِيرَ للجِمَاعِ، ومُحَالٌ أن يَكُونَ في الأَصْلِ للجِمَاعِ، ثم استُعِير لِلْعَقْدِ، لأنَّ أَسْمَاءَ الجِمَاعِ كلَّها كِنَايَاتٌ لاستقباحِهم ذِكْرَه؛ كاستقباحهم تَعاطِيَهُ، ومُحالٌ أن يستعيرَ مَنْ لا يَقْصِدُ فُحْشاً اسمَ مَا لاَ يَسْتَفْظِعُونَهُ لِمَا يَسْتَحْسِنُونَهُ؛ قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء}
[النساء: 3] .
وقال آخرون: هو حقيقةٌ في الوطء، واحتجوا بوجوه:
منها قوله تعالى: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] نفي الحل ممتدٌّ إلى غاية النِّكاح، وليس هو العقد؛ ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ؛ فوجب أن يكون هو الوطء.(4/51)
وأجيب بأن امرأة رفاعة، لم تفهم عند الإطلاق إلاَّ مجرَّد العقد؛ حتى قال لها عليه الصَّلاة والسَّلام: «لاَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» .
ومنه: قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «نَاكِحُ اليَدِ مَلْعُونٌ، وَنَاكِحُ البَهِيمَةِ مَلْعُونٌ» أثبت النِّكاح [مع عدم العقدِ.
والنِّكاحُ] في اللُّغة عبارة عن الضمّ، والمداخلة كما تقدَّم في المطر، والأرض، وتناكح الشَّجر، ونكح النُّعاس عينه، وفي المثل:
«نَكَحْنَا الفَرى فَسَتَرَى» والبيت المتقدم، وقوله: [البسيط]
1076 - أنكحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلةٍ ... تَغَشْمَرَتْ بي إِلَيْكَ السَّهْلَ والجَبَلاَ
والضَّمُّ والوطء في المباشرة أتَمُّ منه في العقد.
وأجيب بأنَّ هذه قرائن صارفةٌ له عن حقيقته.
فصل في هل يتناول المشرك أهل الكتاب؟
لفظ «المُشْرِك» ؛ هل يتناول أهل الكتاب؟
فالأكثرون على أنَّ الكتابة تشمل لفظ المشرك، ويدلُّ عليه وجوه:
أحدها: قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] ، ثم قال بعد ذلك: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] وهذا تصريحٌ بأن اليهوديَّ، والنَّصرانيّ مشركٌ.
وثانيها: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ، فدلت هذه الآية على أنَّ ما سوى الشّرك فقد يغفره الله تعالى في الجملة، فلو كان كفر اليهوديِّ والنَّصرانيّ ليس بشرك، لوجب أن يغفره الله تعالى في الجملة، وذلك باطلٌ، فعلمنا أنَّ كفرهما شركٌ.
وثالثها: قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73](4/52)
فهذا التَّثليث إمَّا أن يكون لاعتقادهم وجود صفاتٍ ثلاثة أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة.
والأول باطلٌ؛ لأن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه قادراً، ومن كونه حيّاً، وإذا كانت هذه المفهومات الثَّلاثة لا بدّ من الاعتراف بها كان القول بإثبات صفاتٍ ثلاثة من ضرورات دين الإسلام، فكيف يمكن تكفير النَّصارى بسبب ذلك؛ ولمَّا بطل ذلك علمنا أنَّه تعالى إنَّما كفَّرهم؛ لأنَّهم أثبتوا ذواتاً ثلاثةً قديمةً مستقلَّةً؛ وذلك لأنهم جوَّزوا في أُقنُوم الكلمة أن يحلّ في عيسى، والأُقْنُومُ عندهم عبارةٌ عن حقيقة الشَّيءِ، وجوَّزوا في أُقْنُومِ الحَيَاةِ أن يحلّ في مريم، ولولا أنَّ هذه الأشياء المسمَّاة عندهم بالأقانيم ذوات قامة بأنفسَها؛ لمّا جوَّزوا عليه الانتقال من ذوات إلى ذاتٍ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنَّفْس قديمة أزليَّة، وهذا شركٌ. وإذا ثبت دخولهم تحت اسم الشِّرك، فاليهود كذلك إذ لا قائل بالفرق.
ورابعها: أنّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أمَّر أميراً، وقال: «إذا لقيت عدوّاً مِنَ المُشْرِكِينَ؛ فَادْعُهُم إلى الإِسْلاَمِ، فإنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم، وَإِنْ أَبوا، فادْعُهُم إِلى الجِزْيَةِ، وَعَقْدِ الذِّمَّةِ» .
وخامسها: قال أبو بكر الأصمُّ: كلُّ من جحد الرِّسالة، والمعجزة، فهو مشركٌ؛ لأن تلك المعجزات إنَّما ظهرت عن الله تعالى، وكانوا يضيفونها إلى الجنِّ والشَّياطين، ويقولون: إنَّها سحرٌ، فقد أثبتوا لله شريكاً في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر.
وقال أبو الحسن بن فارس: هم المشركون؛ لأنَّهم يقولون: القرآن كلام غير الله، فقد أشركوا مع الله غير الله.
فإن قيل: إنَّه تعالى فصل بين القسمين، وعطف أحدهما على الآخر في قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين} [البقرة: 62] وقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17] وقال: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} [البقرة: 105] وذلك يوجب التَّغاير.
والجواب أنَّ هذا كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] وكقوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فإن قالوا: إنَّما خصَّ بالذِّكر تنبيهاً على كمال الدَّرجة في ذلك الوصف.(4/53)
قلنا: وها هنا أيضاً كذلك إنَّما خصَّ عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيهاً على كمال درجتهم في الكفر.
فصل في سبب النزول
سبب نزول هذه الآية: أنَّ أبا مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى «مَكَّة» ، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً فلما قدمها سمعت به امرأة مشركةٌ يقال لها: «عنَاق» ؛ وكانت خليلته في الجاهليَّة فأتته وقالت: يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها: ويحك يا عَنَاق إنَّ الإسلام قد حال بَيْنَنَا وبَيْنَ ذلك. قالت: هل لك أن تتزوَّج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأستأمره. فقالت: أبي تتبرم؟ ثم استغاثت؛ فضربوه ضرباً شديداً، ثمَّ خلَّوا سبيله، فلمَّا قضى حاجته بمكَّة، وانصرف إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلمه الذي كان من أمره، وأمر عناق، وقال: يا رسول الله؛ أيحلُّ لي أن أتزوَّجها؛ فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} [البقرة: 221] .
فصل في الآية هل هي ابتداء حكم أو تقرير سابق
واختلف المفسِّرون في هذه الآية: هل هي ابتداء حكم وشرع، أو هو متعلّقٌ بما تقدَّم؛ فالأكثرون على أنَّه ابتداء شرعٍ في بيان ما يحلُّ، ويحرم.
وقال أبو مسلم: بل هو متعلِّق بقصَّة اليتامى، فإنَّ الله تعالى لما قال: {وإنْ تُخَالِطُوهم فَإِخْوَانُكُمْ} وأراد مخالطة النِّكاح عطف عليه بما يبعث على الرَّغبة في اليتامى، وأنَّ ذلك أولى ممَّا كانوا يتعاطونه من الرَّغبة في المشركات، وبيَّن أنَّ أمةً مؤمنةً خيرٌ من مشركة، فإنها بلغت النِّهاية فيما يُفْضي إلى الرَّغبة فيها ليدلَّ بذلك على ما يبعث على التَّزوُّج بالتيامى، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعيةً لما أمر به من النَّظر في صلاحهم وصلاح أموالهم.
وعلى الوجهين، فحكم الآية لا يختلف.
فصل في بيان جواز نكاح الكتابيَّة
الأكثرون من الأُمَّة قالوا: يجوز للرَّجل أن يتزوَّج بالكتابيَّة. وقال ابن عمر، ومحمَّد بن الحنفيَّة، والهادي - وهو أحد أئمَّة الزَّيديَّة - إنَّ ذلك حرامٌ، واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى في سورة المائدة: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء أصلاً.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من آمن منهنّ بعد الكفر، ومن كان على الإيمان من أول الأمر؟(4/54)
قلنا: قوله: {مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [آل عمران: 186 والمائدة: 5 والمائدة: 57] يفيد حصلو هذا الوصف في حال الإباحة، ويدلُّ على ذلك فعلُ الصحابة، فإنهم كانوا يتزَّجون الكتابيَّات، ولم يظهر من أحد منهم إنكار ذلك وكان إِجماعاً على الجواز، كما نقل أنَّ حذيفة تزوَّج يهوديَّةٌ، أو نصرانية، فكتب إليه: أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فقال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهنَّ.
وتزوج عثمان نائلة بنت فرافصة، وكانت نصرانيَّة؛ فأسلمت تحته، وتزوَّج طلحة بن عبيد الله يهوديَّة.
وعن جابر بن عبد الله أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الكِتَابِ، وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا» .
وروى عبد الرَّحمن بن عوفٍ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال في المجوس: «سِنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائهم، وَلاَ آكلي ذَبَائِحِهِمْ» ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً، لكان هذا الاستثناء عبثاً.
وقال قتادة وسعيد بن جبير: أراد ب «المُشْرِكَاتِ» في الآية الوَثَنِيَّاتِ.
واحتجَّ القائلون بعدم الجواز بوجوه:
أحدها: أنَّ لفظ «المُشْرِك» يتناول الكتابيَّة على ما بيَّنَّاه، والتَّخصيص والنَّسخ خلافُ الظَّاهر.
قالوا: ويؤيِّد ذلك قوله في آخر الآية: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار} والوصف المناسب إذا ذكر عقيب الحكم أشعر بالعِلِّيَّة، وكأنه تعالى قال: حَرَّمْتُ عليكم نِكَاح المُشْرِكَاتِ؛ لأنَّهم يدعُونَ إِلَى النَّارِ وهذه العِلَّةُ قَائِمَةٌ في الكِتَابِيَّةِ، فوجب القطع بتحريمها.
وثانيها: أنَّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة تلا آية التَّحريم وآية التَّحليل، ووجه(4/55)
الاستدلال: أنَّ الأصل في الأبضاع الحرمة فلما تعارض دليلُ الحلِّ، ودليل الحرمة تساقطا؛ فوجب بقاء حكم الأصل، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين قال: أحلَّتهما آيةٌ، وحرَّمتهما آية، فحكم عند ذلك بالتَّحريم للسَّبب الذي ذكرناه، فكذا ها هنا.
وثالثها: حكى ابن جرير الطَّبريُّ في «تَفْسِيرِهِ» عن ابن عبَّاسٍ تحريم أصناف النِّساء إلاَّ المؤمنات، واحتجَّ بقوله: {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] ، وإذا كان كذلك فالكتابيَّة كالمرتدَّة في أنه لا يجوز العقد عليها.
ورابعها: أنَّ طلحة نكح يهوديَّة، وحذيفة نصرانيَّة، فغضب عمر عليهما غضباً شديداً، فقالا: نطلق يا أمير المؤمنين، فلا تغضب.
فقال: إنَّ من أحلَّ طلاقهنَّ، فقد أحلَّ نكاحهنَّ، ولكن أنتزعهنَّ منكما.
وأجيب عن الأوَّل بأنَّ من قال: الكتابيُّ لا يدخل تحت اسم المشرك، فالإشكال عنه ساقطٌ، ومن سلَّم ذلك، قال إنَّ قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] أخص من هذه الآية، فإذا كانت هذه الحرمة ثاتبةً، ثم زالت كان قوله: «والمُحْصَنَاتُ» ناسخاً، وإن لم تثبت الحرمة كانت مخصَّصة، وإن كان النَّسخ والتَّخصيص خلاف الأصل إلاَّ أنَّه إنما لما كان لا سبيل إلى التَّوفيق بين الآيتين إلاَّ بهذا الطَّريق؛ وجب المصير إليه.
وقولهم: إنَّ نكاح الوثنيَّة إنَّما حرِّم؛ لأنَّها تدعو إلى النَّار، وهذا المعنى موجودٌ في الكتابيَّة.
قلنا: الفرق بينهما أنَّ المشركة متظاهرةٌ بالمخالفة، فلعلَّ الزَّوجَ يحبُّها، ثم إنَّها تحمله على مقاتلة المسلمين، وهذا المعنى غير موجود في الذِّمِّيَّة؛ لأنها مقهورةٌ راضيةٌ بالذِّلَّة، والمسكنة، فلا يتضمن نكاحها المقاتلة.
وقولهم: تعارضت آية التَّحريم، وآية التَّحليل. قلنا: آية التَّحليل خاصَّة، ومتأخِّرةٌ بالإجماع؛ فوجب تقديمها على آية التَّحريم، بخلاف الآيتين، بالجمع بين الأختين في ملك اليمين، لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما أخصُّ من الأُخرى من وجهٍ، وأعمُّ من وجهٍ آخر، فلم يحصل فيه سبب التَّرجيح.(4/56)
وأمَّا التَّمسُّكُ بقوله: «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه» فجوابه: أنَّا لما فرَّقنا بين الكتابيَّة وبين المرتدَّة في أحكامٍ كثيرةٍ، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم؟
أمَّا تمسُّكهم بأثر عمر، فقد نقلنا عنه أنَّه قال: ليس بحرامٍ، وإذا حصل التَّعارض بينهما؛ سقط الاستدلال بهما، وسلم باقي الأدلَّة.
فصل في نكاح الكتابيَّات
قال القرطبيُّ: وأمَّا نكاحُ أهل الكتاب إذا كانوا حرباً، فلا يحلُّ.
وسئل ابن عباس عن ذلك، فقال: لا تحلُّ، وتلا قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] قال الرَّاوي: تحدَّث بذلك إبراهيم النَّخعيُّ، فأعجبه.
فصل
نقل عن الحسن أنَّه قال: هذه الآية ناسخةٌ لما كانوا عليه من تزويج المشركات.
قال بعض العلماء: إن كان إقدامهم على نكاح المشركات من قبل العادة، لا من قبل الشَّرع؛ امتنع كون هذه الآية ناسخةً؛ لأنَّه ثبت في الأصول أنَّ النَّاسخَ والمنسوخَ يجب أن يكونا حكمين شرعيين، وإن كان جواز نكاح المشركات ثابتاً من جهة الشَّرع، كانت هذه الآية ناسخةٌ.
قوله: {حتى يُؤْمِنَّ} «حَتَّى» بمعنى: «إلى» فقط، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أَنْ» ، أي: إلى أن يؤمنَّ، وهو مبنيٌّ على المشهور لاتصاله بنون الإناث، والأصل: يؤمنن، فأدغمت لام الفعل في نون الإناث.
فصل في بيان قوله تعالى {حتى يُؤْمِنَّ}
اتَّفق الكلُّ على المراد من قوله {حتى يُؤْمِنَّ} الإقرار بالشَّهادة والتزام أحكام(4/57)
الإسلام، وإذا كان كذلك احتجّت الكرَّاميَّة بهذه الآية على أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار؛ لأنَّه غيّاً التحريم إلى الإيمان، وهو هنا الإقرار؛ فثبت أنَّ الإيمان في عرف الشَّرع عبارة عن الإقرار، وأُجيبوا بوجوهً:
منها: قوله تعالى:
{وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] .
ومنها: قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ؛ ولو كان الإيمان عبارة عن مجرَّد الإقرار، لكان قوله «قُلْ لم تُؤْمِنُوا» كذباً. وأُجيبوا عن التَّمسُّك بهذه الآية بأنَّ التَّصديق الذي في القلب لا يمكن الاطِّلاع عليه، فأقيم الإقرار باللِّسان مقام التَّصديق بالقلب.
قوله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ} . قال أبو مسلمٍ: اللام في قوله: «وَلأَمَةٌ» تشبه لام القسم في إفادة التَّوكيد.
سوَّغ الابتداء ب «أَمَة» شيئان: لام الابتداء والوصف. وَأصْل «أمة» : أمَوٌ، فحذفت لامها على غير قياسٍ، وعوَّض منها تاء التَّأنيث ك «قُلَة» ، و «ثُبَة» يدلُّ على أنَّ لامها واوٌ رجوعها في الجمع؛ قال الكلابيُّ: [البسيط]
1077 - أمَّا الإِمَاءُ فَلاَ يَدْعُونَنِي وَلَداً ... إِذَا تَدَاعَى بَنُو الإِمْوَانِ بالعَارِ
ولظُهُورها في المصدرِ أيضاً، قالوا: أَمَةٌ بيّنة الأُمُوَّة وأَقَرَّت له بالأُمُوَّة. وهل وزنها «فَعَلة» بتحريكِ العين، أو «فَعْلة» بسكونها؟ قولان، أظهرهما الأَوَّلُ، وكان قياسُها على هذا أن تُقلَبَ لامُها ألفاً لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلَها كفتاة وقَناة، ولكن حُذِفت على غير قياس.
والثاني: قال به أبو الهيثم، فإنَّهُ زعم أنَّ جمع الأمة أَمْوٌ، وأنَّ وزنها فعلة بسكون العين، فيكون مثل نخلٍ، ونخلةٍ، فأصلها أَمْوَة، فحذفوا لامها إذْ كانت حرف لين، فلمَّا جمعوها على مثل: نخلةٍ ونَخْلٍ لزمهم أن يقولوا: أَمَة، وأَم، فكرهوا أن يجعلُوها حرفين، وكَرِهُوا أن يَرُدُّوا الواو المحذوفة لمَّا كانت آخر الاسم، فقدَّموا الواو وجعلُوه ألفاً بين الهمزة والميم، فقالوا: أام. وما زعمه ليس بشيء إذ كان يلزمُ أن يكون الإعرابُ على الميم، كما كان على لامِ «نَخْلٍ» ، وراء «تَمْر» ، ولكنه على التَّاءِ المحذوفةِ مقدَّرٌ كما سيأتي بيانُهُ. وجُمِعت على «إِمْوان» كما تقدَّم، وعلى إماء، والأصلُ: إمَاؤٌ، نحو رقبةٍ، ورِقاب، فقُلِبَت الواو همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ككساء. وفي الحديث: «لاَ(4/58)
تَمْتَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وعلى آمٍ، قال الشَّاعر: [مجزوء الكامل]
1078 - تَمْشِي بِهَا رُبْدُ النَّعَا ... مِ تَمَاشِيَ الآمِ الزَّوَافِرْ
والأَصْلُ «أَأْمُوٌ» بهمزتين، الأُولى مفتوحةٌ زائدةٌ، والثَّانيةُ ساكِنَةٌ هي فاءُ الكلمة نحو: أكمة، وأَأْكُم، فوقعت الواو طرفاً مضموماً ما قبلها في اسمٍ مُعربٍ ولا نظيرَ لهُ، فقُلبت الواو ياءً والضَّمَّة كَسْرةً لتصِحَّ الياءُ، فصار الاسمُ من قبيلِ المنقوصِ نحو: غازٍ وقاضٍ، ثمَّ قُلِبَت الهمزةُ الثَّانيةُ ألِفاً، لسكونها بعد أُخرى مفتوحةٍ، فتقولُ: جاءَ آمٌ، ومررت بآمٍ، ورأيت آمياً، تقدِّرُ الضَّمَّة والكسرة وتُظْهِرُ الفتحة، ونظيرُهُ في هذا القلبِ مجموعاً: «أَدْلٍ» و «أَجْرٍ» جمعُ «دَلْوٍ» و «جَرْوٍ» وهذا التَّصريف الذي ذكرناهُ يرُدُّ على أبي الهيثم قوله المتقدّم، أعني كونه زعمَ أن آمياً جمع أَمْوَة بسكونِ العينِ، وأَنَّهُ قلب، إِذ لو كان كذلك لكانَ ينبغي أَنْ يُقالَ جاء آمٌ، ومررت بآمٍ، ورأيت آماً، وجاء الآم ومررتُ بالآم، فتُعْربَ بالحركات الظاهرة.
والتَّفضيلُ في قوله: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} : إمَّا على سبيل الاعتقاد، لا على سبيل الوجود، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافع أُخرويَّة، ونكاحَ المشركةِ الحُرَّة يشتملُ على منافِعَ دنْيَويّةٍ، هذا إذا التزَمنا بِأَنَّ «أَفْعَلَ» لا بدّ أن يدُلَّ على زيادةٍ ما، وإلاَّ فلا حاجة إلى هذا التأويل، كما هو مذهبُ الفرَّاءِ وجماعةٌ.
وقوله: {مِّن مُّشْرِكَةٍ} يحتمِلُ أن يكُونَ «مُشْرِكَةٍ» صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه بمقابِلِهِ، أي: مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، أو مدلولٌ عليه بلفظِهِن أي: مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ، على حسب الخلاف في قوله: «وَلأَمَةٌ» هل المُراد المَمْلُوكةُ للآدميين، أو مطلقُ النِّسَاء، لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؛ كما قال - عليه السَّلام - «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاء اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذلك الخلافُ في قوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} .
وقال بعضهم وَلأَمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ ولا حاجة إلى هذا التقدير، لأن اللَّفظ مطلق. وأيضاً فقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} يدُلُّ على صفة الحُرِّيَّة؛ لأَنَّ التَّقدير: ولو أعجبتكم بحسنها، أو مالها، أو حرّيتها، أو نسبها، فكُلُّ ذلك داخِلٌ تحت قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} .(4/59)
فصل في سبب النُّزُول
نزلت هذه الآية في خنساء، وهي وليدةٌ سوداءُ، كانت لحذيفة بن اليمان، قال حذيفة: يا خنساء قد ذكرت في المَلأ الأَعلى على سوادك ودمامتك؛ فأعتقها وتزوجها.
وقال السُّدِّيُّ: نزلت في عبد اللهِ بن رواحة كانت له أَمَةٌ سَوداءُ، فغضب عليها، ولطمها، ثم أتى النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأخبره بذلك، فقال له - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «وَمَا هي» ؟ فقال: تشهدُ ألاَّ إله إلا الله، وأنَّك رسُولُ اللهِ، وتُحسن الوضُوء وتُصَلّي فقال: «إنّ هذه مؤمنة» قال عبد اللهِ: فوالَّذي بعثك بالحق نبيّاً، لأعتقها ولأتزوجها، ففعل، فطعن عليه ناسٌ من المُسلمين، وقالوا: تنكح أمة؟! وعرضُوا عليه حُرَّةٌ مشركة. فأَنزلَ اللهُ هذه الآية.
فصل في بيان الخيريَّة في الآية
والخير ها هنا النفع الحسن، والمعنى: أَنَّ المشركة - وإِنْ كانت ثابتة في المال، والجمال، والنَّسَب - فالأَمَةُ المُؤْمِنة خيرٌ منها إِلاَّ أن الإيمان يتعلَّق بالدِّين، والمال، والجمال، والنَّسب متعلّق بالدِّين والدُّنيا، ولا شكَّ أَنَّ الدِّين خيرٌ مِنَ الدنيا؛ لأنه أشرف الأشياء عند كل أحد، فإذا اتفق الدين كملت المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد، وعند اختلاف الدين لا يحصل شيء من ذلك.
فصل في تقرير مذهب أبي حنيفة في القادر على التزوّج بأمة مع وجود الحرة
قال الجبائي: دلت الآية على أن القادرعلى طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة كمذهب أبي حنيفة؛ لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون - لا محالة - واجداً لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت في قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح فيلزم - قطعاً - أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأَمَةِ، وهو استدلالٌ لطيف.
قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ، وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نصب على الحالِ، وقد تقدَّم أنَّ «لَوْ» هذه في مثل هذا التَّركيب شرطيّةٌ بمعنى: «إِنْ» نحو: «رُدُّوا السَّائل، ولو بظَلْفٍ مُحْرَقٍ» ، وأنَّ الواوَ لِلْعَطفِ على حالٍ محذوفةٍ، التَّقديرُ: خيرٌ من(4/60)
مشركةٍ على كُلِّ حالٍ، ولو في هذه الحال، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأَحوالِ، وأنَّ ما بعد «لَوْ» هذه إِنَّمَا يأتِي وهو مُنافٍ لِمَا قبلَه بوجهٍ ما، فالإِعجابُ مُنافٍ لحُكْم الخَيْريَّة، ومُقْتَضٍ جوازِ النِّكَاحِ لرغبةِ النَّاكِح فيها. وقال أبو البقاء: «لَوْ» هنا بمعنى «إِنْ» وكذا كُلُّ موضع وقع بعد «لَوْ» الفعلُ الماضِي، وكان جوابُها مُتقدِّماً عليها، وكونها بمعنى «إِنْ» لا يشترط فيه تقدُّمُ جوابها؛ ألا تَرَى أنَّهم قالوا في قوله تعالى: {لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] إنَّها بمعنى: «إنْ» مع أَنَّ جوابها وهو: «خَافُوا» مُتأخِّرٌ عنها، وَقَدْ نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النِّسَاءِ قال في خافُوا: وهو جوابُ «لَوْ» ومعناها «إنْ» .
فصل في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة
قال القُرطبيُّ: اختلفوا في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة؛ فقال مالِكٌ: مَنْ أسلم وتحته أَمَةٌ كتابيَّةٌ أَنَّه لا يُفرَّق بينهما.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوزُ نكاحُ إِماءِ أَهلِ الكِتَابِ. قال ابن العربيّ: احتجّ أصحابُ أبي حنيفة على جواز نكاح الأَمَةِ بقوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} ووجهُ الدلالة: أَنَّهُ تعالى خاير بين نكاح الأَمَة المؤْمِنة والمُشركة، فلولا أَنَّ نكاح الأَمة المشركة جائِزٌ لما خاير بينهما؛ لأَنَّ المخايرة إِنَّما هي بينَ الجائزين، لا بين جائِزٍ وممتنع، ولا بينَ متضادين.
والجوابُ: أَنَّ المخايرة بين الضدَّين تجوزث لغةً وقُرْآناً، قال تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 42] .
وقال عمر في رسالته لأبي موسى الأشعري: الرّجوع إلى الحقّ خيرٌ مِنَ التَّمَادِي في الباطل.(4/61)
وجوابٌ آخرُ: أنَّ قوله: «وَلأَمَةٌ» لم يُرد به الرّقَّ المَمْلُوك وإِنَّما أراد به الآدمِيَّات والآدَميين كقوله عليه الصّلاة والسَّلام:
«لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذا قوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} وقوله: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} هذا بالإِجماع المراد منه الكُلّ، وأَنَّ المُؤْمِنة لا يحلُّ تزويجها بكافرٍ البَتَّة على اختلاف أنواع الكُفر، والكلام في قوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} على نحو ما تقدَّمَ.
فصل في نكاح المجوسيَّة
قال القرطبيُّ: اختلفوا في نكاح المجوسية؛ فمنع منه مالكٌ والشَّافعيُّ، وأبو حنيفة، والأوزاعيُّ وإسحاقُ.
وقال أحمد: لا يعجبني.
وروي أَنَّ حُذيفة بن اليمان تزوَّجَ مجوسية، وأَنَّ عمر بن الخطَّاب قال له: طلِّقها.
قال ابن القصَّار: من قال كان لهم كتاب جَوَّزَ نكاحهنَّ.
قوله: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار} وهي نظير قوله تعالى: {مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار} [غافر: 41] ، وفي تأويلها وجوهٌ:
الأوَّل: أَنَّهم يدعون إلى ما يُؤَدِّي إلى النَّارِ.
فإن قيل: كيف يدعون إلى النَّارِ، ورُبَّما لم يُؤمِنُوا بالنَّارِ أصلاً، فكيف يدعون إليها؟!
والجواب: أنَّهم يدعون إلى ما يؤدِّي إلى النَّارِ، فإنَّ الظَّاهر أن الزَّوجيّة مظنة الأُلفة والمحبة والمَودَّة، وكُلُّ ذلك يُؤَدِّي إلى انتقال المسلم عن الإِسلام بسبب موافقة حبيبه.
فإن قيل: احتمالُ المحبَّة حاصِلٌ من الجانين، فكما يحتملُ أَنْ يصير المسلمُ كافراً بسبب الأُلفةِ والمحَبَّةِ يحتمل أيضاً أنْ يصير الكافِرُ مُسْلِماً بسبب الأُلفةِ والمَحبَّة، وإذا تعارض الاحتمالان، تساقطا، وبقي أصل الجوازِ.
فالجواب: أَنَّ العمل إذا دار بين أن يلحقه نفع، أو بين أن يلحقه ضررٌ؛ وجب(4/62)
الاحترازُ عن الضَّرَرِ، فلهذا السَّبب رجَّح اللهُ جانب المنعِ.
التَّأويل الثَّاني: أنَّهُم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال، وفي تركهما وجوب استحقاق النَّار والعقاب، والغَرَضُ منه أَنْ يجعل هذا فرقاً بين الذِّمِّيَّة، وغيرها، فإنَّ الذِّمِّيَّة لا تحمل زوجها على المقاتلة.
التَّأويل الثالث: أَنَّ الولد الَّذِي يحدث، ربَّما دعاهُ الكافِرُ إلى الكُفْرِ، فيصير الكافر والولد من أهلِ النَّارِ، فهذا هو الدَّعوة إلى النَّارِ، {والله يدعوا إِلَى الجنة} حيثُ أمر بالتَّزْويج بالمسلمة، حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجَنَّة.
قوله: {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ} فيه قولان:
الأول: أَنَّ المعنى: وأولياء اللهِ يدعون إلى الجَنَّة، والمغفرة، فلا جرم أنه ينبغي للعاقل ألاَّ يقرب من مشركة، فإِنَّها من أعداء اللهِ، وأن ينكح المُؤْمنة؛ لأَنَّها تدعُو إلى الجَنَّةِ والمغفرة.
الثاني: أنَّهُ سبحانه وتعالى لمَّا بيَّنَ هذه الأَحكام، وأباح بعضها، وحرَّم بعضها قال {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة} ؛ لأنَّ من تمسَّكَ بهما اسْتَحَقّ الجنَّةَ.
و {والمغفرة} الجمهورث على جَرِّ {والمغفرة} عطفاً على «الجَنَّةِ» و «بِإِذْنِهِ» مُتعلِّقٌ ب «يَدْعُو» أي: بتسهيلهِ، وتيسيره، وتوفيقه، وقيل بقضائه وإرادته.
وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَت «المَغْفِرَة» على الجنة: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد: 21] و {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] ، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ المغفرة سببٌ في دُخُولِ الجَنَّةِ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلة، فإنَّ قبلَها «يَدْعُو إِلى النَّارِ» ، فقدَّم الجَنَّةَ ليقابِلَ بها النَّارَ لفظاً، ولتشوُّقِ النُّفوس إليها حين ذكر دعاءَ اللهِ إليها، فأتى بالأَشْرَفِ.
وقرأ الحسن {والمغفرة بِإِذْنِهِ} على الابتداءِ والخبرِ، أي: حاصِلةٌ بإذنِهِ.
ويبين آياته للناس لعلَّهم يتذكَّرُون، أي: أوامره، ونواهيه.(4/63)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
{المحيض} فعل من الحيضِ، ويُرادُ به المصدرُ، والزمانُ، والمكانُ، تقولُ: حاضِت المرأَةُ تحيضُ، حَيضاً ومَحِيضاً، ومَحاضاً، فَبَنَوْه على مَفْعلٍ ومَفْعَل بالكَسرِ والفتحِ.
واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ ثلاثة مذاهب:(4/63)
أحدها: أَنَّهُ كالصَّحيح، فتُفْتَحُ عينهُ مراداً به المصدرُ، وتُكسَرُ مراداً به الزَّمانُ والمكانُ.
والثَّاني: أَنْ يُتَخَيَّر بين الفتح والكسر في المصدرِ خاصَّةً، كما جاء هنا: المَحيضُ والمحَاضُ، ووجهُ هذا القول: أنَّهُ كثُر هذان الوجهان: أعني، الكسر، والفتح فاقْتَاسا.
والثالث: أَنْ يُقْتَصَرَ على السَّماعِ، فيما سُمِع فيه الكَسرُ، أو الفتحُ، لا يَتَعَدَّى. فالمحيضُ المُرادُ به المَصْدَرُ ليس بمقيسِ على المذهبين الأول والثالث، مقيسٌ على الثاني. ويقال: امرأَةٌ حائِضٌ ولا يقال: «حائِضَةٌ» إلا قليلاً، أنشد الفرَّاء: [الطويل]
1079 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْر طَاهِرِ
وَالمَعْرُوفُ أَنَّ النَّحويين فَرَّقوا بين حائضٍ، وحائضةٍ: فالمُجرَّدُ من تاء التَّأنيث بمعنى النَّسَب، أي: ذاتُ حيضٍ، وإِنْ لم يكن عليها حَيْضٌ، والملتبسُ بالتَّاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعر ذلك، وهكذا كُلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمُؤَنّثِ نحو: طَامِث ومُرْضِ وشبههما.
قال القرطبيُّ: ويقال: نساءٌ حيض، وحوائض، والحَيضةُ: المرأَةُ الواحدة. والحِيضةُ بالكَسْر، الاسم والجمع الحيض، والحيضة أيضاً: الخرقةُ التي تَسْتَثْفِرُ بها المَرْأَةُ، قالت عَائِشَةُ: لَيْتَنِي كُنُتُ حِيْضَةٌ مُلْقَاةٌ «وكذلك المَحِيضَةُ، والجمع: المَحائص.
وأصلُ الحَيض السَّيَلانُ، والانفجِارُ، يُقالُ: حَاضَ السَّيلُ وَفَاضَ، قال الفَرَّاءُ:» حَاضَتِ الشَّجَرَةُ، أي: سال صَمْغُها «، قال الأَزهرِيُّ:» وَمِنْ هَذَا قيل لِلْحَوضِ: حَيْضٌ؛ لأَنَّ المَاءَ يسيلُ إليه «والعربُ تُدْخِلُ الواو على اليَاءِ، وَالياءَ على الواوِ؛ لأَنَّهُما من حَيِّز واحدٍ، وهو الهواءُ.
ويقالُ: حاضت المرأةُ وتحيَّضَتْ، ودَرَسَتْ، وعَرَكت، وطَمِثت فهي حائضٌ، ودارِسٌ، وعارِكٌ، وَطَامِثٌ، وطَامِسٌ، وكَابِرٌ، وَضَاحِكٌ. قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] أي: حضن، وقال تعالى: {فَضَحِكَتْ} [هود: 71] .
قال مجاهد: أي: حاضَتْ ونافس أيضاً، والظَّاهر أن المحيض مصدرٌ كالحيضِ،(4/64)
ومثله:» المَقِيلُ «مِنْ قال يقِيلُ؛ قال الرَّاعِي: [الكامل]
1080 - بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ ... لاَ يَسْتَطِيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلاَ
وكذلك قال الطَّبريُّ:» إِنَّ المَحِيضَ اسْم كالمَعِيشِ: اسمُ العَيْشِ «؛ وأنشد لرؤبة: [الرجز]
1081 - إِلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ ... وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي
وقيل: المَحيضُ في الآية المُرادُ به: اسمُ موضعِ الدَّم، وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً، ويؤيِّد الأَوَّل قوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} . وقد يُجَابُ عنه بأنَّ ثَمَّ حذف مضافٍ، أي: هو ذُو أَذى، ويؤيِّدُ الثَّاني قوله: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} . ومن حَمَلَه على المَصْدَرِ قَدَّر هنا حَذْفَ مُضَافٍ، أي: فاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ في زَمَانِ الحَيْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَحِيضُ الأَوَّلُ مَصْدَراً والثَّاني مكاناً.
حكى الواحديُّ في» البَسيط «عن ابن السَّكِّيت: إذا كان الفعلُ من ذوات الثلاثة نحو: كَالَ يكيلُ، وحاضَ يحيض وأشباهه، فإِنَّ الاسم منه مكسور والمصدر مفتوح، مِنْ ذلك مالَ ممالاً، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم، وبالفتح إلى المصدر، ولو فتحهما جميعاً، أو كسرهما جميعاً في المصدرِ والاسمِ لجازَ، تقول: المَعَاشُ، والمَعِيشُ، والمَغَابُ، والمَغِيبُ، والمَسَارُ والمَسِيرُ فثبت أَنَّ لفظ المحيض حقيقةٌ في موضع الحيض، وأيضاً هو اسمٌ لنفس الحيضِ.
قال ابن الخطيب: وعندي أَنَّهُ ليس كذلك؛ إذ لو كان المُرادُ بالمحيض هنا الحيض، لكان قوله تعالى {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} معناه: فاعتزلوا النِّساء في الحيض، ويكونُ المُرادُ: فاعتزلوا النساء في زمن الحيض، يكون ظاهره مانعاً من الاستمتاع بهنَّ فيما فوق السُّرَّة، ودون الرّكبة، ولما كان هذا المنعُ غير ثابت لزم القول بتطرُّق النَّسخ، والتَّخصيص إلى الآية، وهو خلاف الأصل، أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض؛ كان معنى الآية: فاعتزلوا النِّسَاءَ في موضع الحيض من النِّسَاء، وعلى هذا التَّقدير لا يتطرَّقُ إلى الآية نسخٌ، ولا تخصِيصٌ.
ومن المعلوم أَنَّ اللَّفْظ إذا كان مشتركاً بين معنيين وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً، وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور، فإِنَّ حمل اللَّفظ على المعنى الَّذِي لا(4/65)
يُوجِبُ المحذورَ، أولى إذا سلَّمنا أَنَّ لفظ المحيض مشتركٌ بين الموضع، وبين المصَدرِ.
فإن قيل: الدَّليلُ على أَنَّ المُراد من المحيض الحيضُ قوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} ، ولو كانَ المُرَادُ الموضع لما صَحَّ هذا الوَصْفُ.
قلنا: بتقدير أَنْ يكون المحيض عبارة عن الحَيض، فالحيض نفسُهُ ليس بِأَذى لأن «الحَيْضَ» عبارةٌ عن الدَّمِ المخصوص، و «الأَذَى» كيفيَّةٌ مخصوصَةٌ وهو عرض، والجسم لا يكُونُ نفس العرض فَلا بُدَّ أَنْ يقُولُوا: المرادُ منه أَنَّ الحيض موصوف بكونه أذى، وإذا جاز ذلك فيجُوزُ لنا أيضاً أن نقول: إِنَّ المراد منه أنَّ ذلك المَوْضع ذو أذًى، وأيضاً لم لا يجوزُ أَنْ يكون المراد بالمحيض الأَوَّل الحيض، وبالمحيض الثَّاني موضع الحيضِ كَمَا تقدَّمَ وعلى هذا فيزولُ الإِشكالُ.
فصل في بيان مغالاة اليهود وغيرهم في أمر الحيض
عن أنس بن مالك أَنَّ اليهُود، والمَجُوس كانُوا يبالغون في التَّباعد عن المرأَةِ حال حيضها، والنَّصارَى كانوا يجامعوهنّ ولا يبالون بالحيض، وأَنَّ أَهْلَ الجاهِليَّةِ كانُوا يقولُونَ مثل قولِ اليَهُودِ، والمَجُوسِ، وكانوا إذا حَاضَتِ المرأَةُ؛ لم يُؤَاكِلُوها، ولم يُشارِبُوها، ولم يُجَالِسُوها على فراشٍ، ولم يساكنوها في بيتٍ كفعل اليهود والمجوس، فسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فأخذ المُسْلِمُون بظاهر الآية، فأخرجوهنّ من بيوتهن، فقال ناسٌ من الأَعْراب: يا رسُول اللهِ البردُ شديدٌ، والثِّيابُ قَلِيلةٌ، فإِنْ آثرناهن بالثِّيابِ، هلك سائِرُ أهل البيت، وإن اسْتَأْثَرْنَاهَا هلكت الحيض، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «إِنَّمَا أَمَرْتُكُم أَنْ تَعْتَزِلُوا مُجَامَعَتهنَّ إِذَا حِضْن ولَمْ آمُرُكُم بإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ كَفِعْلِ الأَعاجِمِ»
فلمَّا سمع اليهُودُ ذلك قالوا: هذا الرَّجُلُ يُرِيدُ أَلاَّ يدع شيئاً من أمرنا، إلاَّ خالفنا فيه. فَجاء أُسيِّد بن حُضيرٍ وعباد بن بشر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالا: يا رسُول اللهِ إِنَّ اليهُود تقول كذا وكذا، أفلا ننكحهنّ في المحيض، فتغير وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتَّى ظننا أَنَّه غضب عليهما، فخرجا؛ فَجَاءَتْهُ هديَّةٌ مِنْ لَبَنِ، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما.(4/66)
فصل في مجيء «يسألونك» بحرف الواو
وجاء: {وَيَسْأَلُونَكَ} ثلاثَ مرَّاتٍ بحرفِ العطفِ بعد قوله: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر» وهي: «وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ» ، «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى» «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض» وجاء «وَيَسْأَلُونَكَ» أربع مراتٍ من غيرِ عطفٍ: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة» «يَسْأَلُونَكَ مَذاَا يُنْفِقُونَ» «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ» «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ» . فما الفرقُ؟
والجوابُ: أَنَّ السُّؤالات الأَواخر وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ، فجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ، وهو الواوُ، أَمَّا السّؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ، وجيء بها وحدها.
وقوله: {هُوَ أَذًى} فيه وجهان:
أحدهما: قاله أبو البقاء: «أَنْ يكُونَ ضمير الوطءِ الممنوع» وكأنه يقول: إِنَّ السِّياق يدلُّ عليه، وإِنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ.
الثَّاني: أَنْ يعود على المحيض، قال أبو البقاء: «ويكون التَّقدير: هو سببُ أَذًى» وفيه نظرٌ؛ فإنَّهم فَسَّروا الأَذَى هنا بالشَّيء القَذِر، فإذا أَرَدْنا بالمَحِيضِ نَفْسَ الدَّمِ، كان شيئاً مُسْتَقْذَراً، فلا حاجة إلى تقديرِ حَذْفِ مضافٍ.
فصل في المراد من «الأذى»
قال عطاءٌ، وقتادةٌ، والسُّدِّيُّ: هو أَذًى، أي: قذر واعلم أَنَّ الأَذَى في اللُّغة ما يكره مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ويحتمل أن يَكُونَ قوله: {هُوَ أَذًى} ، أي: سببُ الأَذَى قالوا: لأَنَّ من جَامَعَ في الحَيْض، قد يحصُلُ له في ذكره وأنثييه تفتيح وقروح.
وقوله: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} .
الاعتزالُ: التَّنَحِّي عن الشَّيْءِ، وأَرَاد به ها هنا: تَرْكَ الوَطءِ، وقدَّم ذكر العِلَّة، وهي الأذى، ثم رَتَّبَ الحُكْم، وهو وجوب الاعتزال. فإن قيل: المرادُ ب «الأذى» هو الدَّمُ، وهو حاصِلٌ في وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة وقت الاستحاضة، غير واجب، فانتقضت هذه العِلَّةُ.
والجواب: أَنَّ دم الحيض دَمٌ فاسِدٌ يتولّد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من عمق الرَّحم، ولو احْتَبَسَتْ تلك الفضلةُ لمرضت المرأةُ، فذلك الدَّمُ جارٍ مجرى البَوْلِ، والغائط، فكان أَذًى وقذراً، وأَمَّا دمُ الاستحاضة، فليس كذلك، بل هو دَمٌ صالحٌ يسير من عروق تنفجر من عمق الرَّحِمِ، فلا يكونُ أذى، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما سئل(4/67)
عن الاستحاضة فقال:
«إِنَّ ذَلكَ دَمُ عِرْق، ولَيْسَ بِالحَيْضَةِ» .
قال ابن الخطيب: وهذا جوابٌ طبّيٌّ مُخَلِّصٌ ظاهر القرآن مِنَ الطَّعن.
فصل في بيان صفات دم الحيض
اعلم أَنَّ الحيضِ موصوفٌ بصفاتٍ حقيقيةٍ، ويتفرَّعُ عليه أحكام شرعيّة فالصِّفاتُ نوعان:
الأول: المنبعُ؛ فدم الحيض يخرجُ من الرَّحم، قال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قيل في تفسيره إنَّ المراد منه الحيض والحمل، وأَمَّا دم الاستحاضة، فإِنَّهُ لا يخرجُ من الرَّحم، لكن من عروق تنقطع من فم الرَّحم، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في صفة دم الاستحاضة: «إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» ، وهذا يؤيّدُ ما تقدَّمَ في الجواب.
النوع الثاني: من صفات دم الحيضِ التي وصفه بها رسول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي سِتّ:
أحدها: إنه أسود.
الثاني: أنه ثخين.
الثالث: محتدم وهو المحترقُ من شدَّةِ حرارته.
الرَّابع: أنه يخرُجُ برفق لا يسيلُ سيلاناً.
الخامس: أنَّ له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء؛ وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة.
والسادس: أنه بحراني وهو الشَّدِيدُ الحمرة، وقيل ما تحصُلُ فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر.
فهذه صفاته الحقيقيّة، ثم مِنَ النَّاسِ من قال: إِنَّ دَمَ الحَيْضِ يتميَّزُ عن دمِ الاستحاضة، فكلُّ دم موصوف بهذه الصِّفَات، فهو دَمْ حَيْضِ وما لا فلا، وما اشتبه الأمرُ فيه فالأَصْلُ بقاء التَّكليف، ولا يزول إلا بعارض الحيض، فإذا لم يُعلمْ وجوده؛ بقيت التَّكَاليفُ على ما كانت وقال آخرون: هذه الصِّفَاتُ قد تشتَبِهُ على المُكَلّف، فإيجاب التأمل من تلك الدِّمَاء يقتضي عسراً ومشقة فقدر الشاعر وقتاً مضبوطاً، متى حصلت فيه الدِّمَاءُ كان حُكمُها حُكم الحَيْضَ(4/68)
كيفما كانت صفةُ تلك الدِّماء قَصْداً إلى إسقاط العُسْرِ والمَشَقَّةِ.
فصل
اختلف العُلَماءُ في مُدَّةِ الحيضِ، فقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الهُ عنه -: أقلُّه يوم ولَيْلَة، وأكثرُهُ خمسة عشر يوماً، وهو قولُ عطاء بن أَبي رباحٍ، والأوزاعيِّ، والشَّافِعِيّ، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة، والثَّورِيّ: أقلّه ثلاثة أيَّام ولياليهن، فإِنْ نقص عنه، فهو دمٌ فاسد؛ وأكثره عشرةُ أيَّامِ.
قال أبو بكر الرَّازِيُّ في «أحكام القُرْآن» : وقد كان أبُو حنيفة يقولُ بقول عطاءِ، ثم تركه.
وقال مَالِكٌ: لا تقديرَ له في القِلَّةِ، والكثرة، فإن وُجِدَ ساعةً، فهو حيض، وإن وجد أيّاماً، فكذلك.
واحتجَّ أبُو بكر الرازيُّ في «أَحْكَامِ القُرْآنِ» على فساد قول مالكٍ بأنه: لو كان التَّقْدير ساقطاً في القليل، والكثِير، لوجب أَنْ يكُونَ الحيض هو الدّم الموجود من المرا’ فيلزم ألاَّ يوجد في الدنيا مستحاضة لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على المذهب، وذلك باطِلٌ بالإجماع ولأنه روي أَنّ فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ» وروي أَنّ منه ما هو حيضٌ، ومنه ما هو استحاضةٌ، فبطل هذا القول ويمكن الجواب عنه بأن نقُولَ: إِنَّما يتميَّزُ دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصِّفات التي قدّمناها لدم الحيضِ، فإذا عدمت؛ حكمنا بدم الحيض، وإِنْ تَرَدَّدْنا فيهما، كان طريانُ الحيض مجهولاً، وبقاء التّكليف الَّذِي هو الأَصلُ معلوم، والمشكوك لا يارض المعلوم، فلا جَرَمَ قلنا ببقاء التَّكاليف، فبهذا الطّريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زماناً معيّناً.
واحتجَّ مالكٌ - رضي اللهُ عنه - بوجهين:
الأول: أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيَّنَ علامة دم الحيض، وصفته كما قدمنا في قوله: «دَمُ الحَيْضِ هُوَ الأَسْوَدُ المُحْتَدمُ» وإذا كان الدَّمُ موصوفاً بهذه الصِّفَةِ، كان الحيضُ حاصِلاً، فيدخلُ تحت قوله: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} .(4/69)
الثاني: قوله في دم الحيض «هُو أَذى» ، ذكر كونهُ أَذًى في معرض العِلَّة، لوجوب الاعتزال، وإِنَّما كان «أَذًى» للرَّائِحَة المنكرة التي فيه، واللون الفاسد وللحدةِ القوية الَّتي فيه، وإذا كان وجُوبُ الاعتزال معللاً بهذه المعاني، وجب الاحتراز عملاً بالعِلَّةِ المذكورة في كِتابِ الله.
واحتجّ الشَّافعيُّ على أبي حنيفة بوجهين:
الأول: أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته، وفي الزَّائد عن العشرة لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم، فإذا وجد ذلك، فقد حصل الحيض فيدخل تحت قوله: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} تركنا العمل بهذا الدّليل في الأقلّ من يوم وليلة وفي الأكثر من خمسة عشر يوماً باتِّفاق بيني وبينك يا أبا حنيفة؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في هذه المدَّة.
الثاني: أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بيّن نقصان دينها: بأنها تمكث شطر عمرها لا تصلّي، وهذا يدلُّ على أنَّ الحيضة قد تكون خمسة عشر يوماً؛ لأن على هذا التقدير يكون الطهر خمسة عشر يوماً؛ فيكون الحيض نصف عمرها، ولو كان أقلّ من ذلك لم تكن تاركة للصَّلاة نصف عمرها.
أجاب أبو بكر الرَّازيُّ عنه بوجهين:
الأوَّل: أن الشَّطر ليس هو النِّصف، بل هو البعض.(4/70)
والثاني: أنه لا يوجد في الدُّنيا امرأة تكون حائضاً نصف عمرها، لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها.
والجواب عن الأول: أنَّ الشَّطر هو النِّصف، يقال: شطرت الشَّيء أي جعلته نصفين، ويقال في المثل: «احْلُبْ حَلْباً لَكَ شَطْرُهُ» أي نصفه.
وعن الثاني: أن قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لاَ تُصَلِّي» إنّما يتناول زماناً هي تصلّي فيه، وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ.
واحتجَّ أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بوجوه:
الأول: ما روى أبو أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال:
«أَقَلّ الحَيْضِ ثَلاثَة أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّام» فإن صحَّ هذا الحديث، فلا معدل عنه لأحد.
الثاني: روي عن أنس بن مالك، وعثمان بن أبي العاص الثَّقفيّ أنهما قالا: «الحيضُ ثلاثةُ أيَّامٍ، وأربعة أيَّامٍ إلى عَشَرَةِ أيَّام، وما زاد فهو اسْتِحَاضَة» وهذا قول صحابي لم يخالفه أحدٌ، فكان إجماعاً، ولأنَّه إذا ورد قول عن صحابي فيما لا سبيل للعقل إليه، فالظَّاهر أنَّه سمع من النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثالث: قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - لحمنه بنت جحش: «تحيضي في علم الله ستّاً، أو سَبْعاً، كما تَحِيضُ النِّسَاء في كُلِّ شَهْرٍ» فقوله: «كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ في كُلِّ شَهْرٍ» مقتضاه أن يكون حيض النِّسَاء في كلِّ شهر هذا القدر، خالفنا هذا الظَّاهر في الثَّلاثة إلى العشرة، فيبقى ما عداه على الأصل.
الرابع: قول عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ(4/71)
ذَوِي الأَلْبَابِ مِنْهُنَّ» فقيل: ما نقصان دينهن؟ قال: «تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ الأَيَّامَ واللَّيَالِي لاَ تُصَلِّي» .
فهذا يدلُّ على أنَّ مدَّة الحيض ما يقع عليه اسم الأيّام، واللَّيالي، وأقلّها ثلاثة أيَّام وأكثرها عشرة؛ لأنَّه لا يقال في الواحد، والاثنين لفظ الأيَّام، ولا يقال في الزَّائد على العشرة أيَّام؛ بل يقال أحد عشر يوماً، أما الثَّلاثة إلى العشرة، فيقال فيها أيَّامٌ.
وأيضاً قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - لفاطمة بنت أبي حبيش: «دَعِي الصَّلاةَ أيَّامَ أَقْرَائِك» فلفظ الأيَّام مختصّ بالثَّلاثة إلى العشرة.
وفي حديث أُمِّ سلمة في المرأة التي سألته أنَّها تهرق الدَّم فقال: «لِتَنْظُر عَدَدَ الأَيَّامِ، واللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ لِتَغْتَسِل ولتصلِّ» .
فإن قيل: لعلَّ حيض تلك المرأة كان مقدّراً بذلك المقدار قلنا: إنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما سألها عن قدر حيضها، بل حكم عليه بذلك الحكم مطلقاً، فدلّ هذا على أنَّ الحيض مطلقاً مقدّر بما ينطلق عليه لفظ الأيَّام.
وأيضاً قال في حديث عديِّ بن ثابتٍ: «المُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا» وذلك عامٌّ في جميع النِّساء.
الخامس: قال الجبَّائي في «تَفْسِيرِهِ» إنّ فرض الصِّيام والصَّلاة لازم لعموم الأدلَّة، فعلى الوجوب ترك العمل بها في الثَّلاثَةَ إلى العشرة بالإجماع، وما دون الثَّلاثة وفوق العشرة حصل فيه اختلاف العلماء، فأورث شبهة، فلم نجعله حيضاً، فوجب بقاء التَّكليف على أصله.(4/72)
فصل في حرمة جماع الحائض
اتَّفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض، واختلفوا في وجوب الكفَّارة على من جامع فيه، فذهب أكثرهم إلى أنَّه لا كفَّارة عليه فليستغفر الله ويتوب، وذهب قومٌ إلى وجوب الكفَّارة عليه؛ منهم: قتادة والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، لما روى ابن عبَّاس أن النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في رجلٍ جامع امرأته وهي حائضٌ
«إنْ كَانَ الدَّمُ عَبِيطاً؛ فَلْيَتَصَدّق بِدينَار، وإِنْ كَانَ صُفْرَةٌ، فَنِصْفُ دِينَارٍ» وروي موقوفاً على ابن عبَّاس. واتَّفقوا على أنَّ جلّ الاستمتاع فيما فوق السُّرَّة، ودون الرُّكبة [واختلفوا بأنّه هل يجوز الاستمتاع بها فيما دون السُّرة، وفوق الرُّكبة؟] قال ابن الخطيب: إن فسَّرنا المحيض بموضع الحيض، كانت الآية دالّة على تحريم الجماع فقط، فلا يكون فيها دلالة على تحريم غيره، بل نقول: إنّ تخصيص الشَّيءِ بالذّكر يدلُّ على أنَّ الحُكْمَ فيما عداه بخلافه، وإن فسَّرنا المحيض بالمحيض، كان تقدير الآية فاعتزلوا النِّساء في زمان المحيض، وترك العمل بها فيما فوق السُّرَّة ودون الرُّكبة؛ فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة.
قوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} ، أي: لا تجامعوهنّ.
قال ابن العربيّ: سمعت الشّاشيَّ يقول: إذا قيل «لا تَقْرَب» - بفتح الرَّاء - كان معناه: لا تَتَلَبَّسْ بالفعل، وإذا كان بضمّ الرَّاء كان معناه: لا تَدْنُ منه، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} فهذا نهيٌ عن المباشرة في موضع الدَّم، وقوله: «(4/73)
وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ» نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع.
«حتّى» هنا بمعنى «إلى» والفعل بعدها منصوب بإضمار أنْ، وهو مبنيٌّ لاتصاله بنون الإناث.
وقرأ حمزة والكسائيُّ، وأبو بكرٍ بتشديد الطَّاء والهاء، والأصل:
يتطهَّرن، فأُدغم.
والباقون: «يَطْهُرْنَ» مضارع طَهُرَ، قالوا: وقراءة التَّشديد معناها يغتسلن، وقراءة التَّخفيف معناها ينقطع دمهنَّ. ورجَّح الطَّبري قراءة التَّشديد وقال: «هي بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ لإجماع الجميع على تَحْرِيم قُرْبَان الرَّجُل امرأته بعد انقطاع الدَّم حتَّى تطهر، وإ، ما الخلاف في الطهر ما هو؟ هل هو الغسل أو الوضوء، أو غسل الفرج فقط؟» .
قال ابن عطيَّة: «وكلُّ واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدَّم وزوال أذاه» .
قال: «وَمَا ذَهَبَ إليه الطَّبريُّ مِنْ أنَّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيد مُضَمَّنُها الاغتسال، وقراءة التَّخفيف مُضَمَّنُها انْقِطَاعُ الدَّمِ أمرٌ غيرُ لاَزِم، وكذلك ادِّعَاؤهُ الإجماع» وفي رد ابن عطيَّة عليه نظرٌ؛ إذ لو حملنا القراءتين على معنى واحدٍ لزم التِّكرار. ورجَّح الفارسيُّ قراءة التَّخفيف؛ لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمث وهو ثلاثي.
فصل في ورود لفظ الطهور في القرآن
قال أبو العبَّاس المقري: ورد لفظ «الطُّهُورِ» في القرآن بإزاء تسعة معانٍ:
الأول: انقطاع الدَّم، قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ، أي: حتى ينقطع الدَّم.
الثاني: الاستنجاء بالماء؛ قال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} [التوبة: 108] ، أي: يستنجون بالماء.
الثالث: الاغتسال، قال تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] أي: اغْتَسَلْنَ.
الرابع: التَّنظيف من الأدناس، قال تعالى:
{وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] .
الخامس: التَّطهُّر من الذُّنوب؛ قال تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] ، ومثله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] .(4/74)
السادس: التَّطهير من الشّرك، قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} [الحج: 26] ، أي: طهره من الشرك.
السابع: الطهور الطيب، قال تعالى: {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] أي أطيب.
الثامن: الطهور الحلّ، قال تعالى: {هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] ، أي: أحل.
التاسع: التطهر من الرّجس، قال تعالى: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] ، أي: من الآثام والرِّجس.
فصل في بيان النَّهي عن الإتيان هل بعد انقطاع الدم أو الاغتسال.
استدلّ أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} بأنه نهيٌ عن قربانهن إلى غاية، وهي أن يطهرن، أي ينقطع حيضهنّ، وإذا كان انقطاع الحيض غايةً للنَّهي؛ وجب أن يزول النَّهي عند انقطاع الحيض.
وأجيب بأنَّه لو اقتصر على قوله «حتى يَطْهُرْنَ» ، لكان ما ذكرتم لازماً أما إذا انضم إليه قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} صار المجموع هو الغاية، وذلك بمنزلة أن يقول الرَّجل: لا تكلِّم زيداً حتى يدخل الدَّار، فإذا طابت نفسه بعد الدُّخول، فكلّمه، فإنّه يجب أن يتعلّق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً.
فإن قيل: يحمل قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» على غسل الموضع، فإنَّه يجب غسله بإجماع، فالجواب أنَّ ظاهر قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» حكم عائد إلى ذات المرأة، فوجب أن يكون هذا التَّطهير في كلّ بدنها لا في بعض بدنها، وأيضاً فنحمله على التَّطهير الثَّابت في المستحاضة لثبوته في الحيض، والمراد به الاغتسال، إذا أمكن وجود الماء.
فصل في هل تجبر الكتابيَّة على الاغتسال من الحيض
اختلفوا في الكتابيَّة؛ هل تجبر على الغسل؟
فقيل تجبر لقوله تعالى: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» يعني بالماء، ولم يخص مسلمة من غيرها.
وقيل: لا تجبر؛ لأنها لا تعتقد ذلك، وقال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 228] وهو الحيض والحمل، وهذا خطاب للمؤمنات. وقال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] .
قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» يعني اغتسلن، «فَأْتُوهُنَّ» أي: فجامعوهنّ.
قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} في «مِنْ» قولان:
أحدهما: أنَّها لابتداء الغاية، أي: من الجهة الَّتي تنتهي إلى موضع الحيض.(4/75)
والثاني: أن تكون بمعنى «في» ، أي: في المكان الذي نهيتم عنه في الحيض.
قال ابن عبَّاس، ومجاهد وإبراهيم، وقتادة وعكرمة: فأتوهنّ في المأْتى؛ فإنَّه هو الذي أمر الله به ولا تأتوهنّ في غير المأْتى؛ لقوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} أي: في حيث أمركم الله؛ كقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} [الجمعة: 9] ، أي: في يوم الجمعة، وقوله: {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40] ، أي: في الأرض. ورجَّح هذا بعضهم، وفي الكلام حذفٌ، تقديره: «أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيَان منه» يعني: أنَّ المفعول الثَّاني حذف للدلالة عليه.
قال الأصمُّ والزَّجَّاج: فأتوهنَّ بحيث يحلُّ لكم غشيانهنَّ، وذلك بأن لا يكنَّ صائماتٍ، ولا معتكفاتٍ، ولا محرماتٍ.
وقال محمَّد بن الحنفيَّة: فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفُجُور. والأقرب: قول ابن عباس، ومن تابعة؛ لأن لفظة «حَيْثُ» حقيقة في الكلِّ، مجاز في غيرها.
فصل
قال أبو العبَّاس المقري: ترد «مِنْ» بمعنى «في» كهذه الآية، وتكون زائدة؛ كقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4] ، وقوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين} [الشورى: 13] أي: الدِّين، وقوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك} [يوسف: 101] ، أي الملك. وبمعنى «البَاءِ» ؛ قال تعالى: {يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15] أي: بأمره، وقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] ، أي: بأمر الله، وقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} [النبأ: 14] ، أي: بالمعصرات، وبمعنى «عَلَى» ؛ قال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] ، أي: على القوم.
قال القرطبيُّ: عبَّر عن الوطء هنا بالإتيان.
قوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين} التَّوَّاب: هو المكثر من فعل ما يسمَّى توبةً، وقد يقال: هذا في حقِّ الله تعالى -؛ من حيث إنه يكثر من قبول التَّوبة.
فإن قيل: ظاهر الآية يدلُّ على أنَّه يحبُّ تكثير التَّوبة مطلقاً، والعقل يدلُّ على أن التَّوبة لا تليق إلاَّ بالمذنب، فمن لم يكن مذنباً، لا تجب منه التَّوبة.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المكلَّف لا يأمن البتَّة من التَّقصير.(4/76)
والثاني: قال أبو مسلمٍ: التَّوبة في اللُّغة عبارة عن الرُّجوع، ورجوع العبد إلى الله في كلِّ الأحوال محمودٌ.
واعترضه القاضي: بأن التَّوبة - وإن كانت في أصل اللغة الرُّجوع - إلا أنها في عرف الشَّرع عبارةٌ عن النَّدَم على الفعل الماضي، والتَّرك في الحاضر، والعزم على ألاَّ يفعل مثله في المستقبل؛ فوجب حمله على المعنى الشَّرعيِّ دون اللُّغويّ.
ولأبي مسلم أن يجيب: بأنّ مرادي من هذا الجواب، أنّه إن أمكن حمل اللَّفظ على التَّوبة الشَّرعيَّة، فقد صحَّ اللَّفظ، وإن تعذَّر ذلك، حملناه على التَّوبة بحسب اللُّغة الأصليَّة.
قوله: {وَيُحِبُّ المتطهرين} فيه وجوه:
أحدها: المراد منه التَّنزُّه عن الذُّنوب والمعاصي، قاله مجاهد.
فإن قيل: كيف قدَّم ذكر المذنب على من لم يُذنب؟
فالجواب: قدَّمه لئلا يقنط التَّائب من الرَّحمة، ولا يعجب المتطهِّر بنفسه؛ كقوله في آيةٍ أخرى: {ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} [فاطر: 32] ، قاله القرطبي.
الثاني: قال عطاء ومقاتل بن سليمان والكلبيّ: «يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الذُّنُوبِ، والمتَطَهِّرِين بالمَاءِ من الأَحْدَاثِ والنَّجَاسَاتِ» .
الثالث: قال مقاتل بن حيَّان: يحب التَّوَّابين من الذُّنُوب، والمتطهِّرين من الشِّرك.
الرابع: قال سعيد بن جبير: التَّوَّابين من الشِّرك، والمتطهِّرين من الذُّنوب.
الخامس: أن المراد ألا يأتيها في زمان الحيض، وألاَّ يأتيها في غير المأتى على ما قال: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} .
قال بعضهم: وهذا أولى؛ لأنه أليق بنظم الآية، ولأنَّه - تعالى - قال حكاية عن قوم(4/77)
لوطٍ: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] ، فكان قوله: {وَيُحِبُّ المتطهرين} ترك الإتيان في الأدبار.
السادس: أنَّه - تعالى - لمَّا أمرهنّ بالتَّطهير في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ، فلا حرم مدح التَّطهير، فقال: {وَيُحِبُّ المتطهرين} والمراد منه التَّطهير بالماء؛ قال - تعالى -: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} [التوبة: 108] ، قيل في التَّفسير: إنهم كانوا يستنجون بالماء، وكرَّر قوله «يُحِبُّ» ؛ دلالةً على اختلاف المقتضي للمحبَّة، فتختلف المحبَّة.(4/78)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} : مبتدأٌ وخبرٌ، ولا بدَّ من تأويلٍ، ليصحَّ الإخبار عن الجثة بالمصدر، فقيل: على المبالغة، جُعلوا نفس الفعل، وقيل: أراد بالمصدر، اسم المفعول، وقيل: على حذف مضافٍ من الأوَّل، أي: وطء نسائكم حرثٌ، أي: كحَرْثٍ، وقيل: من الثاني، أي: نساؤُكُم ذواتُ حَرْثٍ، و «لَكُمْ» في موضع رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل «حَرْث» ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وإنما أفرد الخبر، والمبتدأ جمعٌ؛ لأنه مصدرٌ والأفصح فيه الإفراد.
قوله: {أنى شِئْتُمْ} ، ظرف مكانٍ، ويستعمل شرطاً واستفهاماً بمعنى «مَتَى» ، فيكون ظرف زمانٍ، ويكون بمعنى «كَيْفَ» ، وبمعنى «مِنْ أَيْنَ» ، وقد فسِّرت الآية الكريمة بكلِّ من هذه الوجوهِ، وقال النحويون: «أَنَّى» لتعميم الأحوال، وقال بعضهم: إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمْرٍ له جهاتٌ، فَهِيَ على هذا أعمُّ مِنْ «كَيْفَ» ، ومِنْ «أَيْنَ» ، ومِنْ «مَتَى» ، وقالوا: إذا كانت شرطيةً، فهي ظرف مكانٍ فقط، واعمل أنها مبنيةٌ؛ لتضمُّنها: إمَّا معنى حرف الشرط، والاستفهام، وهي لازمة النصبِ على الظرفية، والعامل فيها هنا قالوا: الفعل قبلها وهو: «فَأْتُوا» قال أبو حيان: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّها إمَّا شرطية أو استفهاميةٌ، لا جائزٌ أن تكون شرطيةً؛ لوجهين:
أحدهما: من جهة المعنى، وهو أنَّها إذا كانت شرطاً، كانت ظرف مكانٍ، كما تقدَّم؛ وحينئذٍ: يقتضي الكلام الإباحة في غير القبل، وقد ثبت تحريم ذلك.
والثاني: من جهة الصناعة، وهو أنَّ اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، بل يعمل فيه فعل الشرط؛ كما أنه عاملٌ في فعل الشرط الجزم، ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، ولأنَّ «أَنَّى» إذا كانت استفهاميةً، اكتفت بما بعدها من فعلٍ واسم، نحو: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101] {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 27] وهذه في هذه الآية مفتقرة لما قبلها كما ترى، وهذا موضع مشكل يحتاج إلى تأملٍ ونظر.(4/78)
ثم الذي يظهر: أنها هنا شرطيةٌ، ويكون قد حذف جوابها؛ لدلالة ما قبله عليه، تقديره: أنَّى شئتم، فأتوه، ويكون قد جعلت الأحوال فيها جَعْلَ الظروف، وأُجريت مجراها، تشبيهاً للحال بظرف المكان؛ ولذلك تقدَّر ب «في» ، كما أُجريت «كَيْفَ» الاستفهامية مجرى الشرط في قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} [المائدة: 64] وقالوا: كيف تصنع أصنع، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً؛ فيكون ثمَّ حذفٌ في قوله: «يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ» ، أي: كيف يشاء يُنْفِق، وهكذا كل موضعٍ يشبهه، وسيأتي له مزيد بيانٍ، فإن قلت: قد أخرجت «أنَّى» عن الظرفية الحقيقية، وجعلتها لتعميم الأحوال مثل «كَيْفَ» وقلت: إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرط، فهل الفعل بعدها في محلِّ جزم، اعتباراً بكونها شرطيةً، أو في محلِّ رفع، كما تكون كذلك بعد «كَيْفَ» التي تسعمل شرطية؟ قلت: تحتمل الأمرين، والأرجح الأول؛ لثبوت عمل الجزم؛ لأنَّ غاية ما في الباب تشبيه الأحوال بالظروف، للعلاقة المذكورة، وهو تقدير «في» في كلٍّ منهما.
ولم يجزم ب «كَيْفَ» إلا بعضهم قياساً لا سماعاً، ومعفول «شِئْتُمْ» محذوفٌ، أي: شِئْتُمْ إتيانه بعد أن يكون في المحلِّ المباح.
فصل في بيان سبب النزول
روى ابن عبَّاسٍ في سبب النزول؛ قال: جاء عمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: «وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟» قال: حَوَّلْتُ رَحْلِي البَارِحَةَ، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، فَأُوحي إليه: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} ، يقول: أقبل، وأدبر، واتَّقِ الحَيْضَة والدُّبُرَ.
وروى جابر بن عبد الله؛ قال: كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها: إن الولد يكون أحولاً، فنزلت هذه الآية.
وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ؛ قال: كان من شأن أهل الكتاب ألاَّ يأتوا النِّساء إلاَّ على حرفٍ، وذلك أستر ما تكون المرأة، وكان هذا الحيُّ من الأنصار قد أخذوا(4/79)
بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيُّ من قريشٍ يتلذَّذُون منهنَّ مقبلات، ومدبراتٍ، ومستلقياتٍ، فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوَّج رَجُلٌ منهم امرأَةً من الأنصار، وذهب يصنعُ لها ذلك فَأَنْكَرَت ذلك عليه، وقالت: إنما كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ، فَإن شِئْتَ فَاصْنَع ذَلِك وإلا فاجْتَنِبْنِي، حتى سَرَى أَمْرهَا إلى رَسُولِ الله صلى الله عيه وسلم، فَأنزلَ الله - عزَّ وجلَّ -: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} يعني: موضع الولد، {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} مُقْبِلاتٍ، ومُدْبِرَاتٍ ومُستلقياتٍ.
فصل
قال عكرمة والحسن: «أنى شِئْتُمْ» إنما هو الفَرْجُ.
وقوله: «حَرْثٌ لَكُم» أي: مَزْرَعٌ لكم، ومنبتٌ للولد بمنزلة الأرض، وهذا دليلٌ على تحريم الأدبار؛ لأن محلَّ الحرث والزَّرع هو القبل لا الدُّبر،؛ وأنشد ثعلبٌ: [الرمل]
1082 - إِنَّمَا الأَرْحَامَ أَرْضُو ... نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ
فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا ... وَعَلَى اللهِ النَّبَاتُ
وقال سعيد بن المسيَّب: هذا في العزل، يعني: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا، سئل ابن عبَّاس عن العزل؛ فقال: حرثُكَ، فإن شئتَ فعطِّش، وإن شئت فَارْوِ.
ورُوي عنه؛ أنَّه قال: تُسْتَأْمَر الحرَّة في العزل، ولا تُسْتَأْمَرُ الجارية، وكره جماعة العزل، وقالوا: هو الوَأْدُ الخفيّ.
وروى مالك عن نافع؛ قال: كُنْتُ أَمْسِكُ على ابن عمر المُصْحَفَ، فقرأْتُ هذه الآية: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} فقال: تدْري فيما نزلت؛ في رجلٍ أتى امْرَأَتَهُ في دبرها،(4/80)
فشقَّ ذلك عليه، فنزلت هذه الآية.
ويُحكَى عن مالكٍ إباحة ذلك، وأنكر ذلك أصحابه.
وروي عن عبد الله بن الحسن؛ أنه لقي سالم بن عبد الله، فقال له: يا أبا عمر؛ ما حُدِّثتُ بحديث نافع عن عبد الله؛ أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النِّساء في أدبارهنَّ، قال: كذب العبدُ وأخْطَأَ، إنما قال عبد الله: يُؤْتُونَ في فُرُوجِهِنَّ من أَدْبَارِهِنَّ، والدَّليل على تحريمِ الأدبارِ: ما روى خُزيمة بن ثابتٍ؛ أن رجلاً سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن إِتيان النِّساء في أَدْبَارِهِنَّ، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «حَلاَلٌ» فلما ولَّى الرَّجل دعاه، فقال: «كَيْفَ قُلْتَ في أَيِّ الخَرْبتين أَوْ فِي الخَرزَتَين أوْ فِي أيِّ الخَصْفَتَين، أَمِنْ قُبُلِهَا في قُبُلِهَا؟(4/81)
فَنَعَمْ، أمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا؛ فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرِها فِي دُبُرِهَا، فَلاَ، فإنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحيِي مِنَ الحَقِّ، لاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ في أَدْبَارِهِنَّ» .
وأراد بخربتها مسلكها، وأصل الخربة: عروة المزادة. شبِّه بالثّقب بها، والخرزة هي: الثقبة التي يثقبها الخرَّاز وكنَّى به عن المأْتى، وكذلك الخصفة من قولهم: خصفت الجلد إذا خرزته.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا» وقال - تعالى - في آيةِ المحيض: {قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} [البقرة: 222] جعل الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى، ولا معنى للأذى إلاَّ ما يتأذَّى الإنسان مه بنتن ريحِ الدَّم، وهذه العلَّة هنا أظهر؛ فوجب القول بتحريمه.
وروي عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ قال: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْه يَوْمَ القِيَامَةِ» .
وروى أبو داود الطَّيالسي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «تِلْكَ اللوطِيَّةُ الصُّغْرَى بإِتْيَانِ المَرْأَةِ في دُبُرِهَا» .
وعن طاوس؛ قال: إنه كَانَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانُ النِّسَاء في أَدْبَارِها. واحتج من جوَّزَهُ بوجوه:
الأول: التَّمسُّك بهذه الآية من وجهين:
أحدهما: أنه جعل الحرث اسماً للمرأة لا للموضع المعيَّن، فلمَّا قال بعده: {فَأْتُواْ(4/82)
حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} كان المراد: فأتوا نساءكم أنى شئتم، فيكون إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه.
وثانيهما: كلمة «أَنَّى» معناها: أين؛ قال - تعالى - {أنى لَكِ هذا} [أل عمران: 37] ، معناه: من أين لك هذا، فصار تقدير الآية: فأْتُوا حَرْثَكُم أَيْنَ شِئْتُم، وكلمة «أَيْنَ» تدلُّ على تعدُّد الأمكنة؛ تقول: اجلِس أيْن شِئْتَ، فيكون تخييراً بين الأمكنة.
وإذا ثبت هذا، فلا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها، أو من دبرها في قُبُلِها؛ لأنه على هذا التَّقدير، يكون المكان واحداً، والتَّعدُّد إنَّما وقع في طريقِ الإتيان، فاللاَّئق به أن نقول: اذهبوا إليه كيف شئتم، فلمَّا لم يذكر كيف، بل ذكر لفظة «أَنَّى» وهي مشعرةٌ بالتَّخيير بين الأمكنة كما بيَّنَّا، ثبت أنَّ المراد ما ذكرنا.
الحجة الثانية: تمسَّكوا بعموم قوله - تعالى -: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ، ترك العمل به في حقِّ الذُّكور بالإجماع، فيبقى فيما عداه على العموم.
الحجة الثالثة: لو قال للمرأة: دُبُرِكِ عليَّ حَرَامٌ، ونوى الطَّلاق، أنه يكون طلاقاً فيقتضي كون دبرها حلالاً له.
والجواب عن الأوَّل: أن «الحَرْثَ» اسمٌ لموضع الحراثة، والمرأة بجميع أجزائها ليست محلاً للحراثة، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة كما تقدَّم، فلما أطلق لفظ «الحَرْثِ» على ذات المرأَة، حملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية الشَّيء باسم جزئِه، وهذه الضَّرورة مفقودةٌ في قوله: «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ» فوجب حَمْلُ الحرث ههنا على موضع الحراثة على التَّعيين؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها إلاَّ على إتيان النِّساء في محلِّ الحرث، وقد قدَّمنا أن «الحَرْثَ» إنَّما يراد للزَّرع وهو الولد، وذلك لا يكون إلاَّ في المأتى.
وعن الثَّاني: أنه لما ثبت أن المراد ب «الحَرْثِ» ذلك الموضع المعيَّن لم يمكن حمل «أَنَّى شِئْتُمْ» على التَّخْيير في الأمكنة.
وأما قوله: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فإنه عامٌّ، ودلائلنا خاصَّةٌ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام.
وقولهم: دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إنما صلح أن يكون كنايةٌ عن الطَّلاق، وإنَّه لَمَحَلُّ الملامسة والمضاجعة، وهو جزؤها، فصار ذلك كقوله: يدك طالقٌ.
هذا الجواب من حيث التَّفصيل أمّا من حيث الجملة: فقد بينَّا أنَّ قوله: «قُلْ هُوَ أَذًى» يدلُّ على التَّحريم؛ لوجود العلَّة المقتضية له، فلو جوَّزنا ذلك، لكان جمعاً بين دليل التَّحريم، ودليل التَّحليل في موضع واحدٍ، والأصل أنَّه لا يجوز، وأيضاً فالرِّوايات(4/83)
المشهورة في كون سبب النُّزول، هو اختلافهم في أنَّهُ: هل يجوز إتيانهنّ من دُبُرِهِنّ في قبولِهِن؛ وسبب النُّزول لا يكون خارجاً عن الآية، ومتى حملنا الآية على هذه الصُّورة لم تكن الآية نزلت على ذلك السَّبب.
ويمكن الجواب عن هذا: بأن الاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، فإن السُّؤال قد يكون خاصّاً والجواب عامّاً، وهو كثير.
قوله: {وَقَدِّمُواْ} مفعوله محذوفٌ، أي: نيَّةَ الولدِ، أو نيةَ الإعفاف، وذِكْرَ اللهِ أو الخير؛ كقوله: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} [البقرة: 110] .
وقال عطاء عن ابن عبَّاس: هي التَّسمية عند الجماع.
قال ابن الخطيب: وهذا في غاية البُعدِ: والَّذِي عندي فيه: أن قوله: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} جار مجرى التَّنبيه على إباحة الوطءِ؛ كأنه قيل: هؤلاء النِّسوان إِنَّمَا حكم الشَّرع بإباحة وطئهنَّ لكم؛ لأجل أنَّهُن حرث لكم، أي بسبب أن يتولَّد الولدُ منهن، ثم قال بعده: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} دليلاً على الإِذن في ذلك الموضع، والمنْع من غير ذلك المَوضع، فلمَّا اشْتَمَلت الآيةُ على الإِذن في أحدِ الموضعين، والمنع من الموضع الآخِر، لا جرم قال: {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي: لا تكُونُوا في قيد قضاء الشَّهوةِ، بل كونوا في قيد تقديم الطَّاعةِ، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ ذلك بقوله: {واتقوا الله} ، ثم أكَّدَهُ ثالثاً بقوله: {واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ} ، وهذه التَّهديدات الثَّلاثة المُتَوالية، لا يليقُ ذكرها إلاَّ إذا كانت مسبوقة بالنَّهْي عن شيءٍ لذيذ مُشْتَهى، فثبت أن ما قَبْل هذه الآية دالٌّ على تحريم هذا العملِ، وما بعدها أيضاً دالٌّ على تحريمه؛ فثبتَ أَنَّ الصَّحِيح في تفسير هذه الآيةِ، ما ذهب إليه الجمهور.
قوله: «لأَنْفُسِكُمْ» مُتعلِّقٌ ب «قَدِّمُوا» ، واللامُ تحتملُ التعليل والتعديّ، والهاءُ في «مُلاَقُوهُ» يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى، ولا بُد مِنْ حذفِ مضافٍ، أي: ملاقو جزائِهِ، وأَنْ تعودَ على مفعولِ «قَدِّمُوا» المحذوف. وتَقَدَّم الكلام في التَّقوَى، وتَقَدَّم أيضاً تفسير لقاء الله في قوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] .
والضميرُ في «وَبَشِّرِ» للرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لتقدُّم ذِكرِه في قوله: «يَسْأَلُونَكَ» قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلُّم لا يحتاج أَنْ يُقالَ فيهما: تَقدَّمَ ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما، ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة.(4/84)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
اللامُ في قوله {لأَيْمَانِكُمْ} تحتملُ وجهين:
أحدهما: أن تكونَ مقويةً لتعديةِ «عُرْضَةً» ، تقديره: ولا تجعلوا اللهَ معدَّى ومَرْصَداً لحَلْفِكُمْ.
والثاني: أن تكونَ للتعيلِ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ، أي: لا تَجْعَلُوهُ عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمَانِكُمْ.
قوله: {أَن تَبَرُّواْ} فيه ستةُ أوجهٍ:
أحدها: - وهو قول الزجاج، والتُبريزي، وغيرهما -: أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُه: أَنْ تَبَرُّوا وتتقُوا وتُصْلِحُوا خَيْرٌ لكُمْ مِنْ أَن تجعلُوه عُرْضَةً لأَيْمانكم، أو بِرُّكُمْ أولى وأمثَلُ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاعِ هذه الجملةِ عمَّا قبلها، والظاهرُ تعلُّقُها به.
الثاني: أنَّها في محلِّ نصب على أنها مفعولٌ من أجله، وهذا قولُ الجمهورِ، ثم اختلفوا في تقديرِه: فقيل: إرادةَ أنْ تَبَرُّوا وقيلَ: كراهةَ أن تَبَرُّوا، قاله المهدويُّ، وقيل: لِتَرْكِ أَنْ تَبَرُّوا، قاله المبرِّدُ، وقيل: لئَلاَّ تَبَرُّوا، قاله أبو عبيدة والطَّبريُّ؛ وأنشدا: [الطويل]
1083 - ... فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً..... ... ... ... ... ... ... ... .
أي: لا تَهْبِطُ، فحذف «لاَ» ومثلُه: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] ، أي: لئلا تضِلُّوا، وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ، وذلك أن التقاديرَ التي ذكرناها بعد تقدير الإِرادة لا يظهرُ معناها؛ لمَا فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِرِّ، بل وقوع الحَلْفِ مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه، «إِنْ حَلَفْتَ بالله، بَرَرْتَ» لم يصحَّ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة؛ فإنه يُعَلَّل امتناع الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ تقول: إِنْ حَلَفْتَ، لم تَبَرَّ، وإنْ لم تَحْلِفْ، بَرَرْتَ.
الثالث: أنَّها على إسقاط حرف الجرِّ، أي: في أَنْ تَبَرُّوا؛ وحينئذٍ: يَجِيء فيها القولان: قولُ سيبويه والفراء فتكون في محلِّ نصبٍ، وقولُ الخليل والكسائيَ، فتكونُ(4/85)
في محلِّ جرٍّ، وقال الزمخشري: ويتعلَّقُ «أَنْ تَبَرُّوا» بالفعل أو بالعُرْضَةِ، أي: «ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأَجْلِ أَيْمَانِكُمْ عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا» . قال أبو حيان: وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصل بين العامل ومعمولهِ بأجنبيٍّ، وذلك أنَّ «لأَيْمَانِكُمْ» عنده متعلقٌ ب «تَجْعَلُوا» ، فوقع فاصلاً بين «عُرْضَةً» التي هي العاملُ وبين «أَنْ تَبَرُّوا» الذي هو معموله وهو أجنبيٌّ منهما، ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ: «امْرُرْ وَاضْرِبْ بِزَيْدَ هِنْداً» ، وهو غيرُ جائزٍ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ: «جَاءَني رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ رَاكِبٌ أَبْلَقَ» أي رجلٌ ذُو فَرَسٍ أَبْلَقَ راكِبٌ لِما فيه من الفصلِ بالأجنبيِّ.
الرابع: أنها في محلِّ جَرٍّ؛ عطفَ بيانٍ ل «أَيْمَانِكُمْ» ، أي: للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوَى والإِصلاح كما في الحديث. قال أبو حيان: «وهو ضعيفٌ لما فيه من جَعْلِ الأيمانِ بمعنى المَحْلُوفِ عليه» ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِرَ من كَوْنها بمعنى المَحْلُوفِ عليه؛ إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ، وهذا بخلافِ الحديثِ، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
«إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا» فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة.
الخامسُ: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ على البدلِ من «لأَيْمَانِكُمْ» ؛ بالتأويل الذي ذكره الزمخشريُّ، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ؛ فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام.
السادس - وهو الظاهرُ -: أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر، لا على ذلك الوجه المتقدِّم، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ، والمتعلِّقُ غيرُ المتعلِّقِ، والتقديرُ: «لإِقْسَامِكُمْ عَلَى أَنْ تَبَرُّوا» ف «عَلَى» متعلقٌ بإِقْسَامِكُمْ، والمعنى: وَلاَ تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتَبَدَّلاً لإِقْسَامكُمْ على البِرِّ والتقْوَى والإِصْلاَح الَّتي هي أوصافٌ جميلةٌ؛ خَوْفاً من الحِنْثِ، فكيف بالإِقسامِ علَى ما ليس فيه بِرٌّ ولا تَقْوَى!!!
والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنها «فُعْلَة» بمعنى «مَفْعُول» ؛ من العَرضِ؛ كالقُطْبَةِ والغُرْفَة، ومعنى الآية على هذا: لاَ تَجْعَلُوهُ مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم: فُلاَنٌ عُرْضَةٌ لكَذَا، أي: مُعَرَّضٌ، قال كعبٌ: [البسيط](4/86)
1084 - مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلاَمِ مَجْهُولُ
وقال حبيبٌ: [الطويل]
1085 - مَتَى كَانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ ... وَكِيْفَ صَفَتْ لِلْعَاذِلِينَ عَزَائِمِي
وقال حسَّانُ: [الوافر]
1086 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... هُمُ الأَنصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
وقال أوسٌ: [الطويل]
1087 - وأَدْمَاءَ مِثْلَ الفَحْلِ يَوْماً عَرَضْتُهَا ... لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ
فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا.
والثاني: أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ، فيكونُ من: عَرَضَ العُودَ على الإِناءِ، فيعترضُ دونَه، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً، ومعنى الآية علَى هذا النَّهيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ علَى أنَّهم لا يَبَرُّونَ ولاَ يَتَّقُونَ، ويقُولُون: لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأَجْلِ حَلْفِنَا.
والثالث: أنَّها من العُرْضَة، وهي القوة، يقال: «جَمَلٌ عُرْضَةٌ للسَّفَرِ» ، أي: قويٌّ عليه؛ وقال ابن الزَّبير: [الطويل]
1088 - فَهَذِي لأَيَّامِ الحُرُوبِ وَهَذِهِ ... لِلَهْوِي وَهَذِي عُرْضَةٌ لارْتحَالِنَا
أي قوةٌ وعُدَّةٌ. ثم قيل لكُلِّ ما صَلُح لِشَيء فهو عُرْضَة له، حتى قالوا للمرأَةِ: هي عُرْضَةٌ للنِّكاح إذا صَلُحَتْ له ومعنى الآية على هذا: لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البرِّ.(4/87)
والأَيْمَانُ: جمعُ يَمِينٍ: وأصلُها العُضْوُ، واستُعْمِلَتْ في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِينَ بتصافُح أَيْمانهم، واشتقاقُها من اليُمْن، واليمينُ أيضاً: اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العُضْو، فينتصبُ على الظرف، وكذلك اليسارُ، تقول: زَيْدٌ يَمِينُ عَمْروٍ، وبَكرٌ يَسَارهُ، وتُجْمَعُ اليمينُ على «أَيْمُنٍ وأَيْمَانٍ» وهل المرادُ بالأَيْمان في الآية القَسَمُ نفسُه، أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان، الأولُ أَوْلَى.
وقد تقدَّمَ تجويزُ الزمخشريِّ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عنه.
فصل
ذكر المُفسِّرون في هذه الآية أقوالاً كثيرة، وأجودها وجهان:
أحدهما: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أنَّ قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} نهي عن الجُرأَة على اللهِ بكثَرةِ الحَلْفِ به؛ وذلك لأنه من أَكْثَرَ ذِكْر شيءٍ في معنًى من المعاني، فقد جعلهُ عُرْضَة له، فيقُول الرَّجُل: قد جَعَلْتَنِي عُرْضَة للَوْمك؛ قال الشَّاعر: [الطويل]
1089 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَلاَ تَجْعَلُوني عُرْضَةَ للَّوَائِمِ
وقد ذَمَّ الله تعالى مِنْ أكثر من الحَلْفِ بقوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] ، وقال تعالى: {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] والعرب كانوا يَمْدَحُون الإنسان بالإقلال من الحلف؛ كما قال كثير: [الطويل]
1090 - قَلِيلُ الأَلاَيَا حافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
والحِكْمَة في الأَمْرِ بتقليل الأَيمانِ؛ أن من حَلَف في كُلِّ قَلِيلٍ وكثِيرٍ باللهِ، انْطَلق لِسَانهُ بذلك، ولا يبقَى لليمِين في قَلْبِهِ وقْعٌ، فلا يُؤْمَنُ إقْدَامه على الأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ، فيخْتَلُّ ما هو الغَرَضُ من اليمين، وأيضاً كُلَّمَا كان الإنسان أَكْثَرَ تعظِيماً لله - تعالى -، كان أكمل في العُبُوديَّة، ومن كمال التَّعظيم أن يكُون ذِكْر الله - تعالى - أَجَلَّ وأَعْلَى عِنْدَه، من أَنْ يَسْتشْهِد به في غرضٍ من الأَغراض الدُّنْيَويَّة.
فإن قيل: كيف يَلْزَم من تَرْك الحَلْفِ حُصُول البِرِّ والتٌّقْوى، والإصْلاَح بين النَّاسِ؟
فالجواب: أَنَّ من تَرَك الحَلْف؛ لاعْتِقَادِه أَنّ الله أَعْظَم وأَجَلَّ من أَنْ يُسْتَشْهَد باسمِه المُعَظَّم في طَلَب الدُّنْيَا، وخَسَائِس مطالب الحَلْفِ، ولا شك أن هذا من أَعْظَمِ أَبْوَابِ البِرّ.(4/88)
فصل في سبب النزول
نزلت هذه الآيةُ في عبد الله بن رواحة؛ كان بينه وبَيْنَ خَتَنِهِ على أَخِيه بشير بن النُّعْمان شيء، فحلف عبد الله ألاّ يَدْخُلَ عليه، ولا يُكَلِّمَهُ، ولا يُصْلِح بَيْنَه وبين خصمهِ، وإذا قيل لهُ فيه، قال: قد حَلَفْتُ بالله ألاَّ أفْعَل، فلا يَحِلُّ لي إلاَّ أنْ تَبَرَّ يميني فأنْزَل الله هذه الآية.
وقال ابن جريج: نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق، حين حلف ألاَّ ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفْك، ومعنى الآية: لا تجعلوا الحلف باللهِ شيئاً مانعاً لكم من البرِّ والتَّقوَى، يُدعى أَحدكم إلى صلة الرَّحمن أو بِرِّ، فيقول: حلفتُ بالله ألاّ أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البِرّ.
قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} خَتَم بهاتَيْن الصفتَيْن؛ لتقدُّم مناسبتهما؛ فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسَّمْع، وإرادة البِرِّ من فِعْلِ القلْبِ متعلقةٌ بالعِلْم، وقَدَّم السميع؛ لتقدُّم متعلِّقِه، وهو الحَلْفُ.
قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} .
واللَّغْوُ: مصدرُ لَغَا يَلْغُو، يقال: لَغَا يَلْغُو لَغْواً، مثل غَزَا يَغْزُو غَزْواً، ولغِيَ يَلْغَى لَغًى مثل لَقِيَ يَلْقَى لقًى إذا أتى بما لا يُحْتاجُ إليه من الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بِما يلغى إثمه؛ كقوله - عليه الصّلاة والسّلام -
«إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمعَةِ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ» .
ومن الثاني قوله تعالى: {والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] .
قال الفرَّاء: اللَّغا مصدر للغَيت.
قال أبو العبَّاس المقري: ورد لفظ «اللَّغو» في القرآن على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى اليمين بغير عقديَّةٍ كهذه الآية.(4/89)
الثاني: بمعنى الشَّتيمة؛ قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] ، أي: لم يجيبوهم؛ ومثله: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] .
الثالث: بمعنى الحلف عند شُرْب الخمر؛ قال تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} [الطور: 23] ، أي: لا يحلف بعضهم على بعض.
فصل
والباء في «بِاللَّغْوِ» متعلِّق ب «يؤاخذكم» والباء معناها السَّببيّة، كقوله: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40] ، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} [النحل: 61] .
واختلف في اللَّغْوِ: فقيل: ما سبق به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفرَّاء، ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
1091 - وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ ... إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ
ويُحْكَى أن الحسن سُئِلَ عن اللَّغو وعن المَسبيَّة ذات زوجٍ، فنهض الفرزدق، وقال: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ، وأَنْشَد البيت: [الطويل]
وَلَسْتَ بمَأْخُوذٍ ... ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... ...
وقوله: [الطويل]
1092 - وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلِّقِ
فقال الحسن: «ما أَذْكَاكَ لَوْلاَ حِنْثُك» ، وقد يُطْلَقُ على كلِّ كلامٍ قبيحٍ «لَغْوٌ» .
قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] ، {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [مريم: 62] ؛ وقال العجاج: [الرجز]
1093 - وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عِنِ اللَّغَا وَرَفَثَ التَّكَلُّمِ
وقيل: ما يُطرحُ من الكلام؛ استغناءً عنه، مأخوذٌ من قولهم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولاد الإِبل في الدِّيَة «لَغْوٌ» ؛ قال جريرٌ: [الوافر]
1094 - وَيَهْلكُ وَسْطَهَا المَرْئيُّ لَغْواً ... كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الحُوَرَا
وقيل: «اللَّغو» السَّاقط الذي لا يُعتدُّ به سواء كان كلاماً أو غيره، فأَمَّا وروده في(4/90)
الكلام؛ فكقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] وقوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [الواقعة: 25] ، وقوله: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [فصلت: 26، {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] وقال عليه الصّلاة والسّلام: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمعَةِ والإِمَامُ يَخْطُبُ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ»
وأما قوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] فيحتمل أن يكون المُرادُ وإذا مَرُّوا بالكلام الَّذي يكون لغواً، وأن يكون المُرادُ: وإذا مَرُّوا بالفعل الَّذِي يكون لغواً، وأَمَّا ورود هذه اللَّفظة في غير الكلام، فكما ورد فيما لا يعتدُّ به من الدِّية في أولاد الإِبل.
وقيل: هو ما لا يُفهم، من قولهم: «لَغَا الطَّائِرُ» ، أي: صوَّتَ، واللَّغو، ما لَهجَ به الإنسانُ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا.
وقال الراغب: ولَغِيَ بكذا: أي لَهِجَ به لَهَجَ العُصْفُورِ بِلَغَاهُ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فرقةٌ «لُغَة» ؛ لجعلها مشتقةً من لَغِيَ بكذا، أي: أُولِعَ به، قوال ابن عيسى - وقد ذكر أن اللَّغوَ ما لا يفيدُ -: «ومنه اللغةُ؛ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ» ، وقد غَلَّطوه في ذلك.
قوله
: {في
أَيْمَانِكُمْ
} فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق بالفعلِ قبله.
الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبله؛ كقولك: «لَغَا فِي يمينه» .
الثالث: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال من اللَّغْوِ، وتعرفه من حيث المعنى؛ أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ، ووصفْتَ به اللغو، لصحَّ المعنى، أي: اللغو الذي في أَيْمَانِكُمْ. وسُمِّي الحَلفُ يَميناً؛ لأن العرب كانوا إذا تَحَالَفُوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر.
وقيل: لأَنَّه يحفظ الشَّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشَّيء.
فصل في تفسير اللغو
ذكر المفسِّرون في «اللَّغو» وجوهاً:
أحدها: قال الشَّافعيُّ وغيره: هو قول الرَّجل في عرض حديثه: «لاَ واللهِ» و «بَلَى واللهِ» من غير قصدٍ إليهما، وهو قول عائشة، وإليه ذهب الشَّعبي وعكرمة، لِمَا رَوَت عائشة؛ قالت: سَبَبُ نُزُولِ هَذِه الآية: قول الرَّجُل فِي عُرْضِ حديثه: (لاَ واللهِ) و (بَلَى(4/91)
واللهِ) أخرجه البُخاري، ويروى عن عائشة: أيمان اللَّغو ما كان في الهزل والمراء والخُصُومة، والحديث الَّذي لا ينعقِدُ عليه القلبُ.
وقال آخرون: هو أن يحلف على شيءٍ يرى أنَّه صادِقٌ، ثم تَبَيَّن أنه خلاف ذلك، وهو قول ابن عبَّاس والحسن، ومجاهد، وسليمان بن يسار، والزُّهري، والسُّدِّيّ، وإبراهيم النَّخعي، وقتادة: ومكحول، وبه قال أبو حنيفة.
وفائدة الخلاف: أَنَّ الشَّافعيُّ لا يوجب الكفَّارة في قول الرجل: «لاَ واللهِ» و «بَلَى واللهِ» ، ويوجبها، فيما إذا حلف على شيءٍ يعتقد أَنَّهُ كان، ثم بان أَنَّه لم يكن، وأَبو حنيفة يحكم بالضِّدِّ من ذلك.
وقال سعيد بن جبير: هو اليمين في المعصية، لا يؤاخذه الله بالحَنْثِ فيها، بل يحنث ويُكَفِّر.
وقال مسروق: ليس عليه كفَّارة، أنُكفِّرُ خطوات الشَّيطان؟ وقال الشَّعبيُّ: الرَّجل يحلف على المعصية كفَّارته أن يتوب منها، وكُلُّ يمين لا يحلُّ لك أن تَفِي بها، فليس فيها كفَّارة، ولو أَمرته بالكفَّارة، لأمرته أَنْ يُتمَّ على قوله.
هذا هو اللَّغو؛ لأن اللَّغو هو المعصية؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] .
وقال عليٌّ: هو اليمين في الغضب، وبه قال طاوس.
وقال الضَّحَّاك: اللَّغو هو اليمين المُكفِّرة، سُمِّيت لغواً، لأن الكَفَّارة أسقطتِ الإثم؛ كأنه قيل: لا يُؤاخذكُم اللهُ بِاللَّغْوِ في أيمانِكُم، إِذْ كَفَّرْتُم.
وقال زيد بن أسلم: هو دُعاء الرَّجُل على نفسه؛ كقوله: «أَعْمَى الله بَصَرِي إن لَمْ أَفْعَلْ كَذَا، أَخْرَجَنِي اللهُ من مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غداً» أو يقول: هُوَ كَافِرٌ إن فَعَلَ كَذَا، فهذا كُلُّه لَغْوٌ لا يُؤَاخذُه الله به، ولو آخَذَ اللهُ به، لعَجَّلَ لهم العُقُوبة؛ قال تعالى: {وَيَدْعُ(4/92)
الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} [الإسراء: 11] ، {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} [يونس: 11] .
وقال القاضي: هو كُلُّ ما يقع سهواً من غير قصدٍ؛ لقوله تعالى بعد ذلك: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، أي: يؤاخذكم إذا تعمَّدتم، ومعلوم أنَّ المقابل للعمد هو السَّهو، حُجَّة الشَّافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -؛ أَنَّ النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:
«لَغْوُ اليَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي قَلْبِهِ: كَلاَّ واللهِ، بَلَى واللهِ، لاَ وَاللهِ» .
وروي أنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرَّ بقوم ينتضلون، ومعه رجلٌ من أصحابه، فرمى رجلٌ من القوم، فقال: أصبت واللهِ، ثم أخطأ فقال الَّذي مع النَّبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: حَنَثَ الرَّجُل يا رَسُولَ اللهِ، فقال النَّبيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «كُلُّ أَيْمَان الرُّمَاةِ لَغْوٌ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا، وَلاَ عُقُوبَةَ» .
وأيضاً فقوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} هو الَّذي يقصد الإنسانُ على سبيل الجِدِّ، ويربط قلبه به، وإذا كان كذلك، وجب أَنْ يكُونَ اللَّغْو كالمقابل له، ويكُون معناه: ما لا يقصدُ الإنسان بالجِدِّ، ولا يربط قلبه به، وذلك هو قول القائل في عرض حديثه: لا والله، وبلى والله مِنْ غير قصدٍ على سبيل العادة.
وأيضاً: فَإِنَّه قال قبل هذه الآية: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} وتقدَّم أنَّ معناه: النَّهي عن كثرة الحلفِ، والَّذِين يقولُون على سبيل العادة لاَ والله، وبلى والله، لا شك أنَّهم يكثرون الحَلْفَ واليمين، فلمَّا ذكرهم اللهُ - عقيب قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} ، وبين أنَّه لا مؤاخذة عليهم، ولا كفارة، فإيجاب مؤاخذتهم يقتضي إِمَّا أَنْ يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم فِي كُلِّ لحظَةٍ كفَّارة، وكلاهُما حرجٌ في الدِّين.
واحتجَّ أبو حنيفة بوجوه:
الأول: قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ» ، فأوجب الكفَّارة على الحانِثِ مُطْلقاً، ولم يفصل بين الجَدِّ والهزل.
الثاني: أَنَّ اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطَّلاق والعتاق، وهاتان الحُجَّتان توجبان الكَفَّارة في قول النَّاس لا واللهِ، وبَلَى والله، إذا حصل الحَنثُ.(4/93)
ويؤيِّد ما قلناه: أَنَّ اليمين في اللغة عبارةٌ عن القُوَّة؛ قال الشَّاعر: [الوافر]
1095 - إِذَا مَا رَيَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
أي: بالقوَّة، والمقصود من اليمين: تقوية جانب البِرِّ على جانب الحنث بسب اليمين، وإنَّما يفعل هذا في الموضع الَّذي يكون قابلاً للتَّقوية، وهذا إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأمَّا إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التَّقوية ألبتَّة فعلى هذا فاليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة فأمَّا اليمين على المستقبل، فإنه قابلٌ للتَّقوية.
قوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم} وقعت هنا «َلَكِنْ» بين نقيضين؛ باعتبار وجود اليمين؛ لأنَّها لا تَخْلُو: إمَّا ألاَّ يقصدها القلبُ: بل جرتْ على اللسانِ، وهي اللَّغْوُ، وإمَّا أن يقصِدَها، وهي المنعقدةُ.
قوله تعالى: {بِمَا كَسَبَتْ} متعلِّقٌ بالفعلِ قبله، والباءُ للسببية كما تقدَّم، و «مَا» يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه:
أظهرها: أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر، وهو اللَّغو، أي: لا يؤاخذكم باللغوِ، ولكن بالكسب.
والثاني: أنها بمعنى «الذي» ، ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ، أي: كَسَبَتْهُ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى «الَّذِي» أكثرُ منها مصدريةً.
والثالثُ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً، والعائدُ أيضاً محذوفٌ، وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ، تقديره: ولكنْ يُؤاخِذكُمْ في أَيْمَانِكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ؛ فحذف لدلالةِ ما قبله عليه.
فصل
قوله: {يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، أي: عزمتُم وقصدتُم إلى اليمين، وكَسبُ القَلْب: العقدُ والنِّيَّة.
وقال زيد بن أسلم في قوله: «وَلكِم يُؤَاخِذُكم بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» هو في الرَّجل يقول: هو مشركٌ إن فعل أي: هذا اللَّغو إلاَّ أن يعقد الشِّرك بقلبه ويكسبه.
واعلم أنَّ اليمين لا تنعقد إلاَّ باللهِ تعالى أو اسم من أسمائِهِ، أو صفةٍ من صفاته، فاليمين باللهِ أَنْ يقول: والَّذي أعبده، والَّذِي أصلِّي له؛ والَّذِي نفسي بيده، ونحو ذلك.
واليمين بأسمائه؛ كقوله: واللهِ؛ والرَّحْمنِ ونحوه.(4/94)
واليمين بصفاته؛ كقوله: وعزَّة اللهِ؛ وعظمةِ اللهِ؛ وجلال اللهِ؛ وقدرة اللهِ، ونحوها.
فإذا حلف بشيءٍ منها على أمرٍ في المستقبل فحنث، وجبت عليه الكفَّارة، وإذا حلف على أمرٍ ماضٍ أَنه كان ولم يكُن وقد كان، إِنْ كان عالِماً به حال اليمين، فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر، وتجبُ فيه الكفَّارة عند الشَّافعيِّ، عالماً كان أو جاهلاً.
وقال أصحاب الرَّأي: إِنْ كان عالِماً، فهو كبيرةٌ، ولا كفَّارة لها كسائر الكبائر، وإِنْ كان جاهلاً، فهو يمين اللَّغو عندهم.
واحتجَّ الشَّافعيُّ بهذه الآية على وجوب الكفَّارة في اليمين الغموس؛ قال: «لأَنَّه - تعالى - ذكر ههنا المؤاخذة بكسب القلب، وقال في آيةِ المائدة: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} [المائدة: 89] ، وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد به العقد الَّذي مضادُّه الحِلّ، فلما ذكر ههنا قوله: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب، وأيضاً ذكر المُؤاخذة، ولم يبيِّن تلك المُؤاخذة ما هِيَ، وَبيَّنَها في آية المائِدَة بقوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] ، فتبيَّن أن المُؤَاخَذَة هي الكَفَّارَة، فكل مُؤَاخَذَةٍ من هاتين الآيتين مجملةٌ من وجهٍ، مبيَّنَةٌ من وجهٍ آخر، فصارت كل واحدةٍ منهما مُفسَّرة للأُخرى من وجهٍ، وحصل من كُلِّ واحدةٍ منهما أَنَّ كُلَّ يمينٍ ذكر على سبيل الجِدِّ وربط القلب به، فالكفَّارة واجبةٌ فيها، ويمين الغموس كذلك، فكانت الكفَّارة واجبةٌ فيها.(4/95)
فصل في كراهية الحلف بغير الله
ومن حلف بغير اللهِ مثل أن قال: والكعبة، وبيت اللهِ، ونبيِّ الله؛ أو حلف بأبيه ونحو ذلك، فلا يكون يميناً، ولا تجب فيه الكفَّارة إذا حنث، وهو يمين مكروهٌ؛ قال الشَّافعيُّ: وأخشى أن تكون معصية.
روى مالكٌ عن نافعٍ، عن ابن عمر؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أدرك عمر بن الخطَّاب، وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه؛ فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُم أَنْ تَحْلفُوا بآبَائِكُم، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» .
قوله تعالى: {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} قد تقدَّم أن «الغَفُور» مبالغةٌ في ستر الذُّنوب، وفي إسقاط عقوبتها.
وأمَّا «الحليم» فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة، والسُّكون مع القُدرة والقُوَّة، ويقال ضع الهودج على أحلم الجمال، أي: على أشدِّها قوَّةً في السَّير، ومنه الحِلْم، لأَنَّه يرى في حال السُّكُون، وحلمة الثَّدي؛ والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُمُ إذا عَفَا مع قُدْرَة، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر يَحْلَمُ بالفتح، فسد وتثقَّب؛ وقال [الوافر]
1096 - فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ ... كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ
وأمَّا «حَلَمَ» ، أي: رأى في نومِه، فبالفتح، ومصدرُ الأولِ «الحِلْم» بالكسر؛ قال الجعديُّ: [الطويل]
1097 - وَلاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُن لَهُ ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا
ومصدرُ الثاني «الحَلِّمُ» بفتح اللام ومصدرُ الثالث: «الحُلُم» و «الحُلْم» بضم الحاءِ مع ضمِّ اللام وسكونها.(4/96)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ} : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وعلى رأي الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ؛ لأنه لا يشترطُ الاعتماد، و «مِن نِّسَآئِهِمْ» في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ:
أحدها: أنْ يتعَلَّقَ ب «يُؤْلُونَ» .
قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: كيف عُدِّي ب» مِنْ «وهو مُعَدى ب» عَلَى «؟ قلتُ: قد ضُمِّنَ في هذا القَسَم المخصوصِ معنى البُعْد، فكأنه قيل: يُبْعُدُونَ من نسائِهم مُؤْلِينَ، أو مُقْسِمِين» .
الثاني: أنَّ «آلَى» يتَعَدَّى ب «عَلَى» وب «مِنْ» ؛ قاله أبو البقاء نقلاً عن غيره؛ أنه يقال: آلَى من امرأته، وعلى امرأته.
الثالث: أنَّ «مِنْ» قائمةٌ مقامَ «عَلَى» على رأي الكوفيِّين.
والرابع: أنها قائمةٌ مقامَ «فِي» ، ويكونُ ثم مضافٌ محذوفٌ، أي: على تَرْكِ وَطْءِ نسائهم، أو في ترك وطء نسائهم.
والخامس: أنَّ «مِنْ» زائدةٌ، والتقدير: يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزلوا نِسَاءَهُم.
والسادس: أَنْ تتعلَّقَ بمحذوف، والتقديرُ: والذين يُؤُلون لهم من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهرٍ؛ فتتعلَّق بما يتعلق به «لَهُم» المحذوفُ، هكذا قَدَّره أبو حيَّان وعزاه للزمخشريِّ قال شهاب الدين وفيه نظرٌ؛ فإنَّ الزمخشريَّ قال: ويجوزُ أن يُرَادَ: لهم من نسائهم تَرَبُّصُ؛ كقولك: «لِي مِنْكَ كَذَا» فقوله «لَهُمْ» لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً، وهو لفظُ «لَهُمْ» ، إنما أرادَ أَنْ يعلِّق «مِنْ» بالاستقرار الذي تعلَّق به «لِلَّذِينَ» ، غايةُ ما فيه: أنه أتى بضمير «الَّذِينَ» تبييناً للمعنى، وإِلَى هذا المنحَى نحا أبو البقاء؛ فإنه قال: وقيل: الأصلُ «عَلَى» ، ولا يَجُوزُ أن تقومَ «مِنْ» مقامَ «عَلَى» فَعَلَى ذلك تتعلَّقُ «مِنْ» بمعنى الاستقرار، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قوله «لِلَّذِينَ» ، وعلى تقدير تسليم أنَّ لفظة «لَهُمْ» مقدرةٌ، وهي مُرادةٌ، فحينئذٍ: إنما تكونُ بدلاً من «لِلَّذِينَ» بإِعادةِ العاملِ، وإلاَّ يبقى قوله «لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ» مُفْلَتاً، وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ، وأمَّا تقديرُ الشيخ: «والذين يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ» ، فليس كذلك؛ لأنَّ «الَّذِينَ» لو جاء كذلك غيرَ مجرور باللام، سَهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام، سهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام، ثم قال أبو حيَّان: وهذا كلُّه ضعيفٌ يُنَزَّه(4/97)
القرآن عنه، وإنما يتعلَّق ب «يُؤْلُونَ» على أحد وجهين: إمَّا أنْ تكونَ «مِنْ» للسَّبَبِ، أي يَحْلِفُون بسبب نسائِهم، وإمَّا أَنْ يُضَمَّن معنى الامتناع، فيتعدَّى ب «مِنْ» فكأنه قيل «لِلَّذِينَ يمتنعُونَ من نسائِهِم بالإِيلاَءِ» فهذان وَجْهان مع السنة المتقدِّمة؛ فتكونُ ثمانةٌ، وإن اعتبرت مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةٌ.
والإِيلاءُ: الحَلفُ. مصدرُ آلَى يُؤْلي، نحو: أَكْرَمَ يُكْرِم إِكْرَاماً، والأصل: «إئْلاءٌ» فأُبدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها؛ نحو: «إِيمَان» .
ويقال: تَأَلَّى وايتَلَى على افتَعَلَ، والأصلُ: ائْتَلَى، فقُلِبَت الثانيةُ ياءً؛ لِما تقدَّم.
والحَلْفَةُ: يقال لها: الأَلِيَّةُ والألُوَّةُ والأَلْوَةُ والإِلْوَةُ، وتُجْمَعُ الأَليَّةُ على «أَلايَا» ؛ كعَشيَّة وعَشَايَا، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على «أَلاَيَا» ؛ كرَكُوبَة ورَكَائِب؛ قال كُثَيِّر عزَّة: [الطويل]
1098 - قَلِيلُ الألاَيَا حَافِظٌ ليَمِينِهِ ... إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيَّة وَأَلاَيَا عند قوله: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] جمع خطيئة والإيلاء من عرف الشَّرع: هو اليمين على ترك الوطء؛ كقوله: لا أُجامعك، أولا أُباضعك، أو لا أُقاربك.
ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره: للَّذين يؤلون من نسائهم ألاَّ يطئوهم، إلاَّ أنَّه حذف لدلالة الباقي عليه.
قال ابن الخطيب: هذا إذا حملنا لفظ «الإِيلاَءِ» على المفهوم اللُّغَوِيّ، أَمَّا إذا(4/98)
حملناه على المفهوم الشَّرعي، لم يحتج إلى هذا الإضمار.
وقرأ أُبيٌّ وابن عباس: «للَّذِينَ يُقْسِمُونَ» ، نقله القرطبي.
وقرأ عبد الله: «آلَوْا مِنْ نِسَائِهِم» .
والتَّربصُ: الانتظارُ، وهو مقلوبُ التَّصبُّرِ؛ قال: [الطويل]
1099 - تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا
وإضافةُ التربُّص إلى الأشهرِ فيها قولان:
أحدهما: أنَّه من باب إضافة المصدر لمفعوله؛ على الاتساع في الظرف؛ حتَّى صارَ مفعولاً به، فأُضيفَ إليه، والحالةُ هذه كقوله: «بَيْنَهُمَا مَسِيرة يَوْمٍ» أي: مَسِيرة في يَوْم.
والثاني: أنه أُضِيف الحَدَثُ إلى الظرف من غير اتِّساع، فتكونُ الإِضافةُ بمعنى «فِي» وهو مذهبٌ كوفيٌّ، والفاعلُ محذوفٌ، تقديره: تربُّصُهُمْ أربعةُ أشهرٍ.
فصل
قال قتادة: كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية وقال سعيد بن المُسيَّب: كان ذلك من ضرار أهل الجاهليَّة، وكان الرَّجُلُ لا يُحِبُّ امرأته، ولا يريد أن يتزوَّجها غيره، فيحلف ألاَّ يقربها أبداً، فيتركها لا أَيماً ولا ذات بعلٍ، وكانوا في ابتداء الإِسلام يفعلون ذلك أيضاً؛ فأزال الله تعالى ذلك، وضرب للزَّوْج مُدَّة يَتَرَوَّى فيها ويتأمَّل، فإِنْ رأى المصلحة في تركِ هذه المضارَّة، فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة، فارقها.
وقال القُرطبيّ: وقد آلَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وطَلَّق، وسببُ إيلائه: سُؤال نسائه إِيَّاه من النَّفقةِ ما ليس عندهُ؛ كذا في «صَحِيح مُسْلِم» ، وقيل: لأن زينب ردَّت عليه(4/99)
هديَّتهُ، فغضب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فآلَى منهُنَّ، ذكره ابن ماجه.
فصل
فذهب أكثرهم إلى أَنَّهُ إِن حلف لا يَقْرَبُ زوجته أبداً، أَو سَمَّى مُدَّة أكثر من أربعة أشهر يكون مؤْلياً، فلا يتعرَّض لها قبل مضي أربعة أشهرن وبعد مُضيِّها يُوقفُ ويُؤمرُ بالفيئة أو الطَّلاقِ بعد مُطالبةِ المرأة، والفَيْئَة: هي الرُّجُوع عمَّا قال بالوطء إن قَدَر عليه، وإن لم يَقْدِر فبالقَوْل، فإن لم يَفِ ولم يُطَلِّق، طَلَّق عليه الحاكم واحدة.
وذهب إلى الوَقْفِ بعد مُضِيِّ المُدَّةِ: عمرن وعثمان، وعليٌّ، وأبو الدرداء، وابن عمر.
قال سُليمان بن يسار: أدْرَكْتُ بضعة عشر من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُلُّهم يقول بوقف المُؤْلي، وإليه ذهب سعيد بن جُبير، وسُلَيْمان بن يسار، ومجاهد، وبه قال مالك والشَّافعي وأحمد وإِسحاق.
وقال بعض أهل العلم: إذا مضتْ عليها أربعةُ أشهر، يقع عليها طَلْقَةً بائنة، وهو قول ابن عبَّاس وابن مسعود، وبه قال سُفيانُ الثَّورِيُّ وأصحاب الرَّأي.
وقال سعيد بن المُسيَّب والزُّهري: تقع طلقة رجعيَّةً، ولو حلف ألاَّ يطأَها أَقَلَّ من أربعة أشهر، لا يكون مُؤْلياً، بل هو حانثٌ إذا وطئها قبل مُضِيِّ تلك المُدَّة، وتجب عليه كفَّارة يمين على الصَّحيح، ولو حلف ألاَّ يطَأَهَا أربعة أشهرٍ، لا يكون مُؤلياً عند من يقول بالوقف بعد مُضِيِّ المُدَّة، لأن بقاء المُدَّة شرط للوقف، وثبوت المُطَالبة بالفيئة أو الطَّلاق، وقد مضتِ المُدَّة، وعند من لا يقول بالوقف لا يكون مؤلياً ويقعُ الطَّلاَق بمُضِيِّ المُدَّة.
وقال ابن عبَّاس لا يكون مُؤْلياً حتى يحلف لا يَطأَها أبداً.
وقال الحسن البصريِّ وإسحاق: أي مُدَّة حَلَف عَلَيها، كان مُؤلياً وإن كان يَوْماً.(4/100)
فصل
قال القرطبيُّ: إذا حلف أَلاَّ يطأ امرأتهُ أكثر من أربعة أشهرٍ؛ فانقضت الأربعة أشهرٍ ولم تُطالبه، ولم ترفعهُ إلى الحاكم، لم يلزمه شيء عند مالكٍ وأكثر أهل المدينة.
وقال بعض أصحابنا: يلزمه بانقضاء الأَربعَة أَشهر طلقة رجعيَّة، وقال بعضهم: طلقة بائِنَة.
والصَّحِيح: ما ذهب إليه مالِكٌ، وأكثر أَهْلِ المدينة وأصحابه.
فصل هل ينعقد الإيلاء في الغضب؟!
قال ابن عبَّاس: لا يكون إيلاءً إلاَّ في حالِ الغَضَبِ، وهو المشهور عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وهو قول اللَّيث، والشَّعبي، والحسن، وعطاء قالوا: لا يكون الإيلاءُ إلاَّ على وجه مغاضبةٍ ومشادَّة.
وقال ابن سيرين: يكون في غضبٍ، وغير غضبٍ، وهو قول ابن مسعود، والثوري ومالك وأهل العراق والشَّافعيِّ وأحمد.
فصل
والمدخول بها وغير المدخول بها سواءٌ في صِحَّة الإيلاء منها.
قال القرطبي: والذِّمِّيُّ لا يصحُّ إيلاؤه كما لا يصحُّ طلاقهُ، ولا ظِهَارُهُ؛ لأن نكاح أهل الشِّرْكِ عندنا ليس بنكاحٍ صحيحٍ.
فصل
ومُدَّة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحُرِّ والعبدِ لأنَّها ضُرِبت لمعنى يرجع إلى الطَّبع، وهو قِلَّةُ صبر المرأَة عن الزَّوج، فيستوي فيه الحُرُّ والعبدُ؛ كمُدَّة الفَيْئَةِ ومُدَّة الرِّضاع.
وعند مالكٍ وأبي حنيفة: ينتصف بالرِّقِّ، إلاَّ عند أبي حنيفة: ينتصف بِرِقِّ المرأة، وعند مالكٍ: برِقِّ الرَّجُل؛ كقولهما في الطَّلاَق.
ولنا: ظاهر قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} فتناول الكُلَّ من غير(4/101)
تخصيصٍ، والتَّخصيص خلاف الظَّاهر، والمعنى المُتَقَدِّم يمنع التَّخْصِيص.
قال القرطبيُّ: وأَجَلُ المُؤلي من يوم حلف، لا مِنْ يوم المرافعة إلى الحاكم.
فصل فيمن يصح منه الإيلاء ومن لا يصح
كُلُّ زَوْج يتصوَّر منه الوَقَاع، وكان تصرُّفه مُعْتبراً في الشَّرْع، صَحَّ منه الإيلاءُ.
وقال مالكٌ: لا يَصِحُّ الإيلاءُ إلاَّ في حال الغضب، وقال غيره: يصحُّ الإيلاءُ في حال الرِّضَى والغضب، ويصحُّ الإيلاءُ من الرَّجعيَّة؛ لأنها زوجة؛ بدليل أَنَّه لو قال: نسائي طوالِقٌ، وقع عليها الطَّلاَقُ.
وإيلاء الخَصِيِّ صحيحٌ، لأنه يُجَامع كالفحلِ، وإنما فُقِد في حَقِّهِ الإِنْزَالُ، والمجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يُجَامع به، صَحَّ إِيلاؤه، وإن لم يَبْقَ، فيه خلافٌ.
قال أبو حنيفة: لا يَصِحُّ إيلاؤه.
وقال غيره: يَصِحُّ لعموم الآية، ولا يصحُّ الإيلاء [من أَجْنَبيَّة] ، فلو آلَى منها ثم تَزَوَّجها، لم يكن مُؤْلِياً.
فصل
فإن امتنع من وطئها بغير يمين إضراراً بها، أُمر بوطئها، فإن امتنع إضراراً بها، فرَّق الحاكم بينه وبينها، من غير ضرب مُدَّة.
وقيل: يُضربُ له أجلُ الإيلاءِ، فإذا حلف لا يطؤها حتى يفطم ولدها؛ لئلا يُمْغَلَ بولدها، ولم يرد إضراراً بها حتى يَنْقَضِي أَمَدُ الرِّضاع، لم يكُن لها مُطَالبته.
فصل
المُوْلِي لا يخلُو إمّا أن يحلف تَرْك الوَطْءِ بالله - تعالى - أو بغيره، فإِن حَلَف بالله تعالى كان مُؤلياً، ثم إن جامعها في مُدَّة الإيلاءِ، خَرَجَ عن الإيلاءِ، وهل تجب عليه كَفَّارة؟ فيه قَوْلاَن:
أصحّهما: أن عليه الكَفَّارة كما قَدَّمناه؛ لعموم الدَّلائِل الموجبةِ للكَفَّارةِ عند الحِنْثِ باليمين بالله - تعالى - لأنه لا فَرْقَ بين قوله: «والله لا أَقْرَبُكِ» ثم يَقْرَبُهَا، وبين قَوله: «والله لا أُكَلِّمُكِ» ثم يُكَلِّمُهَا.
والقول الثاني: لا كَفَّارة عليه؛ لقول تعالى: {فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
ولو كانت الكَفَّارة واجبةٌ لذكرها، والحاجة مناسبةٌ إلى معرفتها، ولا يجوزُ تأخِير(4/102)
البيان عن وقتِ الحاجة، والغُفران يوجبُ ترك المُؤَاخَذةِ.
وللأَوَّلِين أن يجيبوا: بأنه إنما ترك الكَفَّارة ههُنا لأنه - تعالى - بيَّنها على لسان رسوله - عليه الصَّلاة والسلام - في سَائِر المواضع، وتَرْكُ المُؤَاخذة بقوله: «غَفُورٌ رَّحِيمٌ» يدل على عدم العقاب، وهو لا يُنافي وجُوب الفِعْل، كما أن التَّائِب عن الزِّنا والقَتْلِ لا عِقاب عليه، ومع ذلك يجِبُ عليه الحَدُّ والقِصَاصُ.
وأما إن كان الحالف في الإيلاء بغير اللهِ؛ كما إذا قال: إن وَطَأْتُكِ فعبدي حُرٌّ، أَوْ أَنْت طالِقٌ، أو ضرتك طَالِق، أو التزم أمراً في الذِّمَّة، فقال: إن وَطَأْتُكِ فَلِلَّه عليَّ عِتْق رَقبة، أو صدقة، أو صَوْم، أو حَجّ، أو صلاة، فقال الشَّافعي في «القدِيمِ» ، وَأَحمدُ في ظاهر الرِّواية عنه: لا يكون مُؤْلِياً؛ لأن الإِيلاَء المعهُود هو الحلفُ باللهِ؛ ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ» .
وقال الشَّافعيّ في «الجَدِيدِ» - وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة - إنه يكُون مُؤْلِياً؛ لأن لفظ الإيلاءِ يَتَناوَلُ الكُلَّ، وعلى القولين فيمينُهُ منعقدة، فإن كان قد عَلَّق به طلاقاً أو عِتْقاً، وقع بِوَطْئِه ذلك المُعَلَّق، وإن كان المُعَلَّق التزام قُرْبة في الذِّمَّة، فعليه ما في نذرِ اللَّجاج، إِمَّا كَفَّارة يمين، وإِمَّا الوَفَاء بما سَمَّى.
وفائدة هذين القولين: أنا إن قلنا: يكون مُؤْلياً، فبعد أَرْبَعَة أشهر يضيق الأَمْر عليه، حَتَّى يَفيء أو يُعَلِّق، وَإِنْ قلنا: لا يكون مُؤْلياً، لا يضيقُ عليه الأَمر.
قال القرطبي: فإن حلف بالنَّبِيّ أو الملائِكَة، أو الكَعبة ألا يَطَأَها أو قال: هو يَهُوديٌّ، أو نصرانيٌّ، أو زانٍ إن وطِئَها، فليس بِمُؤْلٍ، قال: وإن حلف ألا يَطَأَها، واستثنى فقال: إن شاء الله، فإنَّه يكون مُؤلياً، فإن وَطِئَهَا، فلا كَفَّارة عليه.
وقال ابن الماجشون في «المَبْسُوطِ» : ليس بِمؤلٍ، وهو الصَّحيحُ.
قوله: {فَإِنْ فَآءُوا} ألفُ «فَاءَ» منقلبةٌ عن ياء؛ لقولهم: فَاءَ يَفِيءُ فَيْئَةً: رَجَعَ والفَيْءُ: الظلُّ؛ لرجوعه من بعد الزوال، وقال عَلْقَمَةُ: [الطويل]
1100 - فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي فَمَا تَستَفِزُّنِي ... ذَوَاتُ العُيُون وَالبَنَانِ المُخَضَّبِ(4/103)
وفرّقوا بين الفَيْءِ والظِّل: فقالوا: الفَيء ما كان بالعَشِيِّ؛ لأنه الذي نسختهُ الشَّمسُ، والظَّلُّ ما كان بالغداة؛ لأنه لم تنسخه الشَّمس، وفي الجنة ظِلٌّ وليس فيها فَيْءٌ؛ لأنه لا شَمْسَ فيها؛ قال تعالى: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] ؛ وأنشد: [الطويل]
1101 - فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَ الفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ
وقيل: فُلاَن سريعُ الفيئة، أي: سريعُ الرُّجوع عن الغَضَبِ إلى الحَالَةِ المتقدِّمة، حكاه الفَرَّاء عن العرب.
وقيل لما رَدَّه الله على المُسلمين من مال المُشْرِكين: فَيْء؛ كأنه كان لهم فرجع إِلَيهم، فقوله: «فَاءُوا» معناه: رَجَعُوا عَمَّا حَلَفُوا عليه من تَرْك الجِمَاع، فإنه غَفُورٌ رَحِيمٌ.
فصل في وجوب الكفَّارة
قال القُرطبيّ: جمهور العُلماء أَوْجَبُوا الكَفَّارة على المُؤْلي إذا فاء بجماع امرأته.
وقال الحسن: لا كَفَّارة عليه.
قال القرطبي: إِذَا كَفَّر عن يمينه، سقط عنه الإيلاءَ.
قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} في نصب «الطَلاَقَ» وجهان:
أحدهما: أنه على إسقاط الخافضِ؛ لأنَّ «عَزَمَ» يتعدَّى ب «عَلَى» ، قال: [الوافر]
1102 - عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ ... لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
والثاني: أن تُضَمَّن «عَزَمَ» معنى «نَوَى» ؛ فينتصب مفعولاً به.
والعَزْمُ: عَقْدُ القلبِ وتصميمُه: عَزَم يَعْزِمُ عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة، وعَزِيمَةً وعِزَاماً بالكَسْر، ويستعمل بمعنى القَسَم: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ؛ والعزمُ والعَزِيمةُ: توطينُ النَّفْسِ على المُرادِ المَطْلُوب، والأَمر المَقْصُود. والطلاقُ: انحلالُ العقدِ، وأصلُه الانطلاق.
وقال القرطبي: والطَّلاق: التَّخليةُ، يقال: نعجةٌ طالِقٌ، وناقةٌ طالِق أي: مهملة؛ قد تُرِكت في المرعى، لا قيدَ عليها ولا رَاعِيَ وبعير طُلُق: بضم الطَّاء واللام، والجمع(4/104)
أَطلاقٌ ويقال: طَلَقَتْ بفتح اللام تَطْلُقٌ فهي طالِقٌ وطَالِقَةٌ؛ قال الأعشى: [الطويل]
1103 - أَيَا جَارَتَا بَينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ..... ... ... ... ... ... ...
وحكى ثعلب: «طَلُقَتْ» بالضم، وأنكره الأخفش. والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً، أو اسمَ مصدرٍ، وهو التطليقُ.
قوله: {فَإِنَّ الله} ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، وقال أبو حيان: ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي: فَلْيُوقِعُوهُ، وقرأ عبد اللهِ: «فَإِنْ فَاءُوا فيهنَّ» وقرأ أُبيُّ «فِيهَا» والضميرُ للأَشْهُرِ.
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطَّلاق إنما تكونُ بعد مُضِيِّ الأربعة الأشهر، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يرَى بمذهبِ أبي حنيفة: وهو أنَّ الفَيْئَة في مُدَّة الأربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المتقدِّمَةُ، احتاجَ إلى تأويل الآيةِ بما نصُّه: «فإِنْ قلتَ: كيف موقعُ الفاءِ، إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّصِ؟ قلت: موقعٌ صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» فَإِنْ فَاءَوُا. وَإِنْ عَزَمُوا «تفصيلٌ لقوله: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} ، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّلَ، كما تقول: أنَّا نزيلُكُمْ هذا الشَّهْرَ، فإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ، أَقَمْتُ عندَكُمْ إلى آخره، وإلاَّ لم أقُم إلاَّ رَيْثما أَتَحَوَّلُ» ، قال أبو حيان: «وليس بصحيحٍ؛ لأ، َّ ما مثل به ليس نظيرَ الآيةِ؛ ألا ترَى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حاله، وهو قوله:» أَنَا نَزِيلُكُمْ هذا الشَّهْر «، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجواب الدالِّ على اختلاف متعلَّقِ فعل الجزاء، والآيةُ ليسَتْ كذلك؛ لأنَّ الذين يُؤلُونَ ليس مُخْبَراً عنهم، ولا مُسْنَداً إليهم حُكْمٌ، وإنما المحكُومُ عليه تربُّصُهُمْ، والمعنى: تربُّصُ المُؤلين أربعةَ أَشْهُرٍ مشروعٌ لهم بعد إيلائهم، ثم قال:» فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا «فالظاهرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأَسْرِهَا، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها؛ لأنَّ التقييد المغاير لا يَدُلُّ عليه اللفظُ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقول:» للضَّيْفِ إكرامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فإنْ أقامَ، فنحنُ كرماءُ مُؤثِرُونَ، وإنْ عَزَمَ على الرحيلِ، فله أن يَرْحَلَ «، فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطين مُقَدَّرَانِ بعد إكرامهِ» .
قلوه: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال أبو حنيفة: سَمِيعٌ لإِيلائِه، عليم بعزمِه.
قال القرطبي: دلَّت هذه الآية على أَنَّ الأَمة الموطوءة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاءٌ، إذ لا يقع عليها طلاقٌ.(4/105)
فصل
قال أبو حنيفة والثَّوري: إنه لا يكون مُؤْلِياً حتى يحلف ألاَّ يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد.
وقال الشَّافعيّ وأحمد ومالك: لا يكون مُؤلياً حتَّى تزيد المُدَّة على أربعة أشهر.
وفائدة الخلاف: أنه إذا آلَى منها أكثر من أربعة أهشرٍ أجل أربعة أشهرن وهذا المُدَّة تكون حَقّاً للزَّوج، فإذا مضت تطالب المرأة الزَّوج بالفيئة أو بالطَّلاق فإن امتنع الزَّوجُ منهما، طلَّقها الحاكمُ عليه، وعند أبي حنيفة: إذا مضت أربعةُ أشهر، يقعُ الطَّلاق. حجة الشَّافعي وجوهٌ.
الأول: أنَّ «الفاء» في قوله {فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقتضي كون هذين الحُكمين مشروعين متراخياً على انقضاء الأَرْبَعة أشهُر.
قال ابن الخطيب لما ذكر قول الزَّمخشريِّ المتقدِّم على سبيل الإيراد: وهذا ضعيفٌ، لأن قوله: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} إشارةٌ إلى حُكمين:
أحدهما: صدور الإيلاء عنهم.
والثاني: وجوب تَرَبُّص هذه المُدَّة على النِّسَاء.
والفاء في قوله: «فَإِن فَآءُوا» ورد عقيب ذكرهما معاً، فلا بُدَّ وأن يكون هذا الحُكمُ مشروعاً عقيب الأَمرين: عقيب الإيلاءِ، وعقيب حُصُولِ التَّرَبُّص في هذه المُدَّة، بخلاف المثال الَّذِي ذكرهُ، وهو قوله: «أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُم؛ فإن أكرمتموني بقيتُ وإلا تَرَحَّلتُ» ؛ لأن هناك «الفاء» صارت مذكُورة عقيب شيء واحدٍ، وهو النُّزول، وهي هُنا مذكورة عقيب ذكر الإيلاء، وذكر التَّربُّص، فلا بُدَّ وأن يكُون ما دخلت «الفَاءُ» عليه واقعاً بين هذين الأمرين.
الحجة الثَّانية: قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} صريحٌ في أنّ وقوع الطَّلاَق، إنَّما يكون بإيقاع الزَّوج.
وعند أبي حنيفة: يقع الطَّلاَق بِمُضِيِّ المُدَّة، لا بإيقاع الزَّوج.
فإن قيل: الإيلاءُ طلاقٌ في نفسه؛ فالمراد من قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} الإيلاء المتقدِّم.
فالجواب: هذا بعيد؛ لأن قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} لا بُدَّ وأن يكون معناه: «وإن عَزَمُوا الَّذِين يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهُمُ الطَّلاق» فجعل المُؤلي عازماً، وهذا يقتضي أن يكون(4/106)
الإيلاءُ والعزم قد اجتمعا، وأما الطَّلاق فهو مُتعلَّقُ العزم، ومُتعلِّق العزم مُتأخرٌ عن لعزم؛ فإذن الطَّلاَق مُتأَخِّر عن العَزْمِ لا محالة، والإِيلاءُ إمَّا أن يَكُون مقارناً للعزم أو متقدِّماً عليه، وهذا يُفيد أن الطَّلاق مُغَاير لذلك الإِيلاءِ.
الحجة الثَّالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقتضي أن يصدرَ من الزَّوج شيءٌ يكون مسموعاً وما ذاك إلاَّ أن نقول تقديره: «وإِن عَزَمُوا الطَّلاَق وطلّقوا فاللهُ سمِيعٌ لكَلاَمِهِم، عَلِيمٌ بما في قُلُوبِهِم» .
فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أن يَكُون المُرادُ إن الله سَمِبعٌ لِذَلِك الإيلاءِ.
فالجواب: أنّ هذا التهديد لم يحصُل على نفس الإيلاء، بل إنَّمَا حصل عن شيءٍ حصل بعد الإيلاء، فلا بُدَّ وأن يَصْدُر عن الزَّوج بعد ذلك الإيلاء، وهو كلام غيره؛ حتى يكون قوله: {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تهديداً عليه.
الحجة الرَّابعة: قوله: «فَإِنْ فَاءُوا» ، «وَإِنْ عَزَمُوا» ظاهره التَّخيير بين الأَمرين؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحداً، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك.
الحجة الخامسة: أَنَّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاقٍ، بل هو حلفٌ على الامتناع عن الجماع مُدَّة مخصوصة، إلاَّ أنّ الشَّرعَ ضرب لذلك مقداراً معلوماً من الزَّمان؛ وذكل لأَنَّ الرَّجُل قد يترُك جماع المرأة مُدَّة من الزَّمان لا بسبب المضارّة، وهذا إنّما يكُون إذا كان الزَّمَانُ قصيراً، فَأَمَّا ترك الجماعِ زماناً طويلاً، فلا يَكُون إلاَّ عند قصد المضَارَّة، ولما كان الطُّول والقِصرُ في هذا الباب أَمراً غير مضبوطٍ، قَدَّر له الشَّارع حدّاً فاصِلاً بين القَصِير والطَّويل، وذلك لا يُوجبُ وقُوعَ الطَّلاق، بل اللائِقُ بحكم الشَّرع عند ظهور قصد المضارَّة، أن يَأْمُر بتركِ المَضَارَّة، أو بتخليصها من قَيْد الإيلاءِ، وهذا المعنى مُعْتَبرٌ في الشَّرع؛ كضرب الأَجل في مُدَّة العنينِ وغيره.
حجة أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قراءة عبد الله بن مسعود: «فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ» .
والجواب: أنّ القراءة الشَّاذَّة مردودة؛ لأن القرآن لا يَثْبُتُ كونه قُرآناً إلاَّ بالتَّواتُر؛(4/107)
فحيث فلم يثبُت بالتَّواتر، قطعنا بأنَّه ليس بقُرآن وأَوْلى النَّاس بهذا أبو حنيفة؛ فإنّه تَمَسَّك بهذا الحرف في أَنَّ التَّسمية ليست من القُرْآن.(4/108)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
لما ذكر - عزَّ وجلَّ - الإيلاء، وأن الطّلاق قد يقعُ بيَّن تعالى حُكم المرأة بعد التَّطْلِيق.
قوله: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} : مبتدأٌ وخبرٌ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمر، أي: لِيتَرَبَّصْنَ، أو عَلَى بابها؟ قولان، وقال الكوفيون: إنَّ لفظها أمرٌ؛ على تقدير لام الأمرِ، ومَنْ جعلها على بابها، قدَّر: وحُكْمُ المطلَّقَاتِ أَنْ يتربَّصْنَ، فحذف «حُكْمُ» مِن الأول، و «أن» المصدرية من الثاني، وهو بعيدٌ جدّاً.
و «تَرَبَّصَ» يتعدَّى بنفسَه؛ لأنه بمعنى انْتَظَرَن وهذه الآيةُ تحتمِلُ وجهين:
أحدهما: أن يكون مفعول التربُّص محذوفاً، وهو الظاهرُ، تقديرُه: يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ، ويكونُ «ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ» على هذا منصوباً على الظرف؛ لأنَّ اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ.
والثاني: أن يكون المفعولُ هو نفسَ «ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ» أي: ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قُرُوءٍ.
وأمَّا قوله: {بِأَنْفُسِهِنَّ} [فيحتمل وجهين، أحدهما، وهو الظاهرُ: أَنْ يتعلَّق المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤتَى بالضميرِ المتصل، لو قيل في نظيرِه: «الهِنْدَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِهِنَّ» لم يجُز؛ لئلاَّ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمر المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك.
والثاني: أن يكونَ «بَأَنْفُسِهِنَّ» تأكيداً للمضمرِ المرفوع المتصلِ، وهو النونُ، والباءُ زائدة في التوكيد؛ لأَنَّه يجوزُ زيادتها في النفسِ والعينِ مُؤكَّداً بهما؛ تقولُ: «جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ وِبِنَفْسِهِ وَعَيْنُهُ وَبِعَيْنِهِ» ؛ وعلى هذا: فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتها، لا يقالُ: لا جائزٌ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجبُ أن تُؤَكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ؛ لأنه لا يُؤكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنَّفسِ والعَيْنِ، إلاَّ بعد تأكيده بالضميرِ المرفوع المنفصلِ؛ فيقال: زَيْدٌ جَاءَ هُوَ نَفْسُهُ عَيْنُهُ «؛ لأنَّ هذا المؤكَّد خرجَ عن الأصلِ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلاَتِ، فخرج بذكل عن حكم التوابع، فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التزِمَ في غيره، ويُؤيِّد ذلك قولهم:» أَحْسِنْ بِزَيْدٍ، وَأَجْمِلْ «، أي: به، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريِّين، والفاعلُ عندهم لا يُحْذَفُ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرَى الفَضَلاتِ؛ بسبب جَرِّه بالحرفِ، أو خَرَجَ عن(4/108)
أصل باب الفاعل؛ فلذلك جازَ حَذْفُه، وعن الأَخْفَش ذَكَر في» المَسَائِلِ «أنهم قالوا:» قَامُوا أَنْفُسُهُمْ «من غير تأكيدٍ، وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرن التربُّصَ هُنَّ، لا أنَّ عيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَّربُّصَ؛ ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ.
فإن قيل: القُرُوءُ: جمع كثرةٍ، ومن ثلاثةٍ إلى عشرة يُمَيَّزُ بجموع القلة ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك، إلا عند عدم استعمالِ جمع قلَّةٍ غالباً، وههنا فلفظُ جمع القلَّةِ موجودٌ، وهو» أَقْرَاء «، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمع الكثرةِ مع وجودِ جمعِ القلَّةِ؟ .
فيه أربعةُ أوجهٍ:
أوّلها: أنه لّمَّا جمع المطلَّقات جمع القُرُوء، لأنَّ كلَّ مطلقةٍ تترَّبصُ ثلاثة أقراءٍ؛ فصارَتْ كثيرةً بهذا الاعتبار.
والثاني: أنه من باب الاتساعِ، ووضعِ أحدِ الجمعين موضعَ الآخر.
والثالث: أنَّ «قروءاً» جمعُ «قَرْءٍ» بفتح القافِ، فلو جاء على «أَقْرَاء» لجاء على غير القياس؛ لأنَّ أفعالاً لا يطَّردُ في فَعْلٍ بفتح الفَاء.
والرابع - وهو مذهب المُبَرِّد -: أنَّ التقدير «ثَلاثَةً مِنْ قُرُوءٍ» ، فحذف «مِنْ» ، وأجاز: ثَلاثَة حَمِيرٍ وثَلاثَةَ كِلاَبٍ، أي: مِنْ حِمِيرٍ، ومِنْ كِلاَبٍ، وقال أبو البقاء: وقيل: التقديرُ «ثَلاثَةَ أقْرَاءٍ مِنْ قُرُوءٍ» وهذا هو مذهبُ المبرِّد بعينِه، وإنما فسَّر معناه وأَوضحه.
فصل
اعلم أن المُطلَّقة هي المرأةُ الَّتي وقع عليها الطَّلاق، وهي إمَّا أن تكون أجنبيةً أو منكوحةً.
فإن كان أجنبيةً، فإذا وقع الطّلاق عليها فهي مطلَّقةٌ بحسب اللُّغة، لكنَّها غير مطلَّقةٍ بحسب عُرْف الشَّرع، والعِدَّةُ غير واجبةٍ عليها بالإجماع.
وأما المَنْكُوحة: فإن لم يكن مدخولاً بها، لم تجب عليها العِدَّة؛ لقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، وإن كانت مدخولاً بها: فإن كانت حاملاً، فعدَّتها بوضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، وإن كانت حائلاً؛ فإن امتنع الحيض في حقِّها لصغر مفرط أو كبر مُفرطٍ، فعِدَّتها بالأشهرِ؛ لقوله تعالى: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] .
وإن لم يمتنع الحيض في حقِّها؛ فإذا كانت رقيقة، فَعِدَّتها قَرْءان، وإن كان حُرَّة، فعدَّتها ثلاثة قُرُوءٍ.(4/109)
فظهر من هذا أن العامَّ إِنَّما يحسن تخصيصه، إذا كان الباقي بعد التَّخصيص أكثر؛ لأن العادة جاريةٌ بإطلاق لفظ الكُلِّ على الغالب؛ لأنَّه يُقَالُ في الثَّوبِ: إنه أَسود إذا كان الغَالِبُ فيه السَّوَاد وإن حصل فيه بياضٌ قليل، فأمَّا إذا كان الغالبُ عليه البياض وكان السَّوادُ قليلاً، كان إطلاق لفظ السَّواد عليه كذباً؛ فثبت شرط تخصيص العامِّ؛ أن يكون الباقي بعد التَّخصيص أكثر، وهذه الآية ليست كذلك، فإنه خرج(4/110)
من عمومها خمسة أقسامٍ، فأطلق لفظ «المُطَلَّقَات» على قسم واحدٍ.
والجواب: أما الأجنبيَّة فخارجةٌ عن اللَّفظ، فإنَّ الأَجنبيَّة لا يقال فيها: إنَّها مطلَّقة، وأما غيرُ المدخولِ بها فالقرينة تخرجها؛ لأن أصل العِدَّة شُرِعت لبراءة الرَّحم، والحاجةُ إلى البراءة لا تحصلُ إلاَّ عند سبق الشُّغل، وأمَّا الحامل والآيسةِ فهما خارجتان عن اللَّفظ؛ لأن إيجاب الاعتداد بالأقراء، يكون لم يجبُ الأقراء في حَقِّه.
وأمَّا الرقيق فتزويجهن كالنَّادِر، فثبت أن الأَعمَّ الأَغلب باقٍ تحت العُمُومِ.
فإن قيل: «يَتَرَبَّصْنَ» خبر والمراد منه الأمر، فما الفائدةُ في التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر؟(4/111)
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - لو ذكره بلفظ الأَمر، لكان ذلك يُوهم أَنَّه لا يحصل المقصود، إلاَّ إذا شرعت فيها بالقَصْد والاختيار، وعلى هذا التَّقدير: فلو مات الزَّوج، ولم تَعْلَم المرأَةُ حتى انقضت العِدَّةُ، وجب ألاَّ يكون ذلك كافياً في المقصود؛ لأنَّها إذا أُمِرَت بذلك لَمْ تخرج عن العُهْدَة إلا إذا قصدت أداء التَّكليف، فلما ذكره بلفظ الخبر، زال ذلك الوهم، وعُرِف أَنَّه متى انقضت هذه القُرُوءُ، حصل المقصُود سَوَاء علمت بذلك أو لَمْ تعلم، وسواءٌ شرعت في العِدَّة بالرِّضا أو بالغضب.
الثاني: قال الزَّمخشري: التَّعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر، والإشعار بأنَّه ممَّا يجب أن يتعلٌَّ بالمُسارعة إلى امتثاله، فكأنَّهُنَّ امتثلن الأمر بالتَّربُّص، فهو يُخْبِرُ عنه موجوداً؛ ونظيره قولهم في الدُّعاء رحمك اللهُ؛ أُخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة، كأنَّها وجدت الرَّحمة فهو يُخْبر عنها.
فإن قيل: لو قال: «يَتَرَبَّصُ المُطلَّقات» لكان ذلك جملة من فعلٍ وفاعلٍ، فما الحكمة من ترك ذلك، وعدولِهِ عن الجملة الفعليَّة إلى الجملة الاسميَّة، وجعل المُطلَّقات مبتدأ، ثم قوله: «يتربّصن» إسنادٌ للفِعل إلى ضمير المُطَلَّقات، ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المُبتدأ.
قال الشَّيخ عبد القاهر الجرجانيُّ في كتاب «دَلاَئِل الإِعْجَازِ» : إنَّك إذا قَدَّمت الاسم، فقلت: زيدٌ فعل، فهذا يفيد من التَّأكيد والقُوَّة ما لا يُفيد قولك: «فَعَلَ زَيْدٌ» ؛ وذلك لأنَّ قولك: «زَيْدٌ فَعَل» قد يُستعمل في أمرين:
أحدهما: أن يكون لتخصيص ذلك الفعل بذلك الفاعل؛ كقولك: أنا أكتب في المُهِمِّ الفُلانيّ إلى السُّلطان، والمراد دعوى الإنسان الانفراد.
والثاني: ألاَّ يكون المقصود الحصر، بل إنَّ تقديم ذكر المُحَدّث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل له؛ كقولهم: «هُوَ يُعْطِي الجَزِيلَ» ولا يريد الحصر، بل أن يُحَقِّق عند السَّامع أَنَّ إِعطَاء الجزيل دأبه؛ وذلك مثل قوله تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] ، وليس المراد تخصيص المخلوقيَّة بهم، وقوله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} [المائدة: 61] ؛ وقول الشَّاعر: [الطويل]
1104 - هُمَا يَلْبِسَانِ المَجْدَ أَحْسَنَ لِبْسَةٍ ... شَجِيعَانِ مَا اسْطَاعَا عَلَيْهِ كَلاَهُمَا
والسَّببُ في حُصُولِ هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ: أنَّكَ إذا قلت: «عَبْدُ اللهِ» فقد أشعرت بأَنَّك تريد الإِخبار عنه، فيحصل في النَّفسِ شوق إلى معرفةِ ذلك، فإذا(4/112)
ذكرت ذلك الخبر، قبله العقل بتشوُّق، فيكون ذلك أبلغ في التَّحقيق، ونفي الشُّبهة.
فإن قيل: هلا قيل: يَتَرَبَّصْن ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ، وما الفائدة في ذكر الأنفُسِ؟
فالجواب: إن في ذكر الأنفس بعث على التَّربُّص وتهييجُ عليه؛ لأن فيه ما يستنكفن منه، فيحملهنَّ على أن يتربَّصن، وذلك لأنذَ أنفس النِّساء طوامحٌ إلى الرِّجال، فأراد أن يقعن على أنفسهن، ويغلبنها على الطُّموح، ويحرِّضنها على التَّربُّص.
فإن قيل: لم لم يقل: ثلاث قروء؛ كما يقال: ثَلاَث حِيَضٍ؟
والجواب: أنه أتبع تذكير اللَّفظ، ولفظ «قَرْء» مذكَّر.
والقرء في اللغة: أصله الوقت المعتاد تردده، ومنه: قرء النَّجم لوقت طلوعه وأفوله، يقال: «أَقْرَأَ النَّجْمُ» ، أي: طلع أو أفل، ومنه قيل لوقت هبوب الرِّ] ح: قرؤها وقارئها؛ قال الشاعر: [الوافر]
1105 - شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ ... إِذَا هَبَّتْ لِقَارِيهَا الرِّيَاحُ
أي: لوقتها، وقيل: أصله الخروج من طهر إلى حيضٍ، أو عكسه، وقيل: هو من قولهم: قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ؛ أي: جمعته، ومنه: قرأ القرآن. وقولهم: ما قرأت هذه الناقة في بطنها سَلاً قطٌّ، أي لم تجمع فيه جنيناً؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم: [الوافر]
1106 - ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بَكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جِنِينَا
فعلى هذا: إذا أريد به الحيض، فلاجتماع الدَّم في الرَّحم، وإن أريد به الطهر، فلاجتماع الدَّم في البدن، وهذا قول الأصمعي، والفرَّاء، والكسائيّ.
قال شهاب الدِّين: وهو غلطٌ؛ لأنَّ هذا من ذوات الياء، والقرء مهموزٌ.
وإذا تقرَّر ذلك فاختلف العلماء في إطلاقه على الحيض والطهر: هل هو من باب الاشتراك اللفظيِّ، ويكون ذلك من الأضداد أو من الاشتراك المعنويِّ، فيكون من المتواطئ؛ كما إذا أخذنا القدر المشترك: إمَّا الاجتماع، وإمَّا الوقت، وإمَّا الخروج، ونحو ذلك. وقرء المرأة لوقت حيضها وطهرها، ويقال فيهما: أَقْرَأَتِ المَرْأَةُ، أي: حاضت أو طهرت، وقال الأخفش: أَقْرَأَتْ أي: صارت ذات حيضٍ، وقرأت بغير ألفٍ أي: حاضت، وقيل: القرء، الحيض، مع الطهر، وقيل: ما بين الحيضتين. والقائل(4/113)
بالاشتراك اللفظيِّ وجعلهما من الأضداد هم جمهور أهل اللِّسان؛ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة.
ومن مجيء القرء والمراد به الطهر قول الأعشى: [الطويل]
1170 - أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمٌ غَزْوَةٍ تَشُدُّ لأَقْصَاهَا عَظِيمَ عَزَائِكَا مُوَرِّثَةً عِزًّا وَفِي الحَيِّ رِفْعَةً لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا ... أراد: أنَّه كان يخرج من الغزو ولم يغش نساءه، فيضيع أقراءهنّ، وإنما كان يضيع بالسَّفر زمانَ الطُّهر لا زمان الحيض. ومن مجيئه للحيض قوله: [الرجز]
1108 - يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ ... أي: طعنته فسال دمه كدم الحائض، ويقال «قُرْء» بالضمِّ نقله الأصمعيُّ، و «قَرْء» بالفتح نقله أبو زيدٍ، وهما بمعنى واحد. وقرأ الحسن: «ثَلاَثَةَ قَرْوٍ» بفتح القاف وسكون الراء وتخفيف الواو من غير همزٍ؛ ووجهها: أنه أضاف العدد لاسم الجنس، والقرو لغةٌ في القرء، وقرأ الزُّهريُّ - ويروى عن نافع -: «قُرُوِّ» بتشديد الواو، وهي كقراءة الجمهور، إلا أنه خفَّف، فأبدل الهمزة واواً، وأدغم فيها الواو قبلها. فصل مذهب الشَّافعيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنها الأظهار؛ وهو مرويٌّ عن ابن عمرو، وزيد، وعائشة، والفقهاء السَّبعة، ومالك وربيعة، وأحمد في رواية.
وقال عليٌّ، وعمر، وابن مسعود: هي الحيض؛ وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإسحاق، وأحمد في رواية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -. وفائدة الخلاف: أن مدَّة العدَّة عند الشَّافعيّ أقصر، وعندهم أطول حتَّى لو طلَّقها في حال الطُّهر، يحسب بقيَّة الطُّهر قرءاً، وإن حاضت عقيبه في الحال، فإذا شرعت في الحيضة الثَّالثة، انقضت عدَّتها، وإن طلَّقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرَّابعة، انقضت عدَّتها.(4/114)
وعند أبي حنيفة: ما لم تطهر من الحيضة الثَّالثة، إن كان الطَّلاق في حال الطُّهر ومن الحيضة الرَّابعة إن كان الطلاق في حال الحيض، لا يحكم بانقضاء عدَّتها، ثم قال: إذا طهرت لأكثر الحيض، تنقضي عدَّتها قبل الغسل، وإن طهرت لأقلِّ الحيض، لم تنقض عدَّتها. وحجَّة الشَّافعي من وجوه: أولها: قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في وقت عدَّتهن؛ كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47] ، أي: في يوم القيامة، والطَّلاق في زمن الحيض منهيٌّ عنه؛ فوجب أن يكون زمان العدَّة غير زمان الحيض.
أجاب صاحب «الكَشَّاف» بأن معنى الآية: مستقبلات لعدَّتهن كما يقال: لثلاث بقين من الشَّهر، يريد: مستقبلاً لثلاث.
قال ابن الخطيب: وهذا يقوِّي استدلال الشَّافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لأن قوله: «لِثَلاَثٍ بَقِين من الشَّهْرِ» معناه: لزمانٍ يقع الشُّروع في الثَّلاثِ عقيبه، وإذا كان الإذن حاصلاً بالتَّطليق في جَميع زَمَانِ الطُّهر، وجَبَ أن يكُون الطُّهْرُ الحاصِل عَقِيب زمان التَّطليق من العدَّة، وهو المطلوب.
وثانيها: روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -؛ أنها قالت: «هل تَدْرُونَ ما الأَقْرَاءُ؟ الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ» .
قال الشَّافعي: والنساء بهذا أعلم؛ لأن هذا إنما يبتلى به النِّساء.
وثالثها: وهو ما تقدَّم من أن «القرْءَ» عبارةٌ عن الجمع، واجتماع الدَّم إنَّما هو زمان الطُّهر؛ لأن الدَّم يجتمع في ذلك الزَّمان في البدن.
فإن قيل: بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم؛ لأنَّ الدَّم يجتمع في هذا الزَّمان في الرَّحم.
قلنا: لا يجتمع أَلْبَتَّةَ في زمان الحيض في الرَّحم، بل ينفصل قطرةً قطرةً، وأمَّا وقت الطُّهر، فالكلُّ مجتمعٌ في البدن لم ينفصل منه شيءٌ، وكان معنى الاجتماع وقت الطُّهر أتم؛ لأن الدَّم من أوَّل الطُّهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره، فكان آخر الطُّهر هو القرء في الحقيقة.(4/115)
ورابعها: أن الأصل ألاّ يكون لأحدٍ على أحدٍ من المكلَّفين حقّ الحبس والمنع من التّصرُّفات، وإنما تركنا العمل بهذا عند قيام الدَّليل عليه، وهو أقلُّ ما يسمَّى بالأقراء الثَّلاثة وهي الأطهار؛ لأن الاعتداد بالأطهار أقلّ زماناً من الاعتداد بالحيض، وإذا كان كذلك، أثبتنا الأقلّ ضرورة العمل بهذه الآية، واطرحنا الأكثر؛ للدَّلائل الدَّالَّة على أنَّ الأصل ألاَّ يكون لأحدٍ على غيره حقّ الحبس والمنع.
حجة أبي حنيفة وجوه:
أحدها: أنَّ الأقراء في اللُّغة، وإن كانت مشتركةً بين الأطهار والحيض؛ إلا أن الشَّرع غلَّب استعمالها في الحيض؛ لما روي أن النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» والمراد أيَّام الحَيْضِ.
وثانيها: ما تقدَّم من وروده بمعنى الحيض.
وثالثها: أنا إذا قلنا: بأن الأقراء هي الحيض، أمكن معه استيفاء ثلاثة أقراءٍ بكمالها؛ لأنّا نقول إنّ المطلَّقة يلزمها تربُّص ثلاث حيضٍ، وإنَّما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثَّالثة، ومن قال: إنَّه الطُّهر يجعلها خارجة من العهدة بقَرْءين وبعض الثَّالث؛ لأن عنده إذا طلَّقها في آخر الطُّهر تعتدُّ بذلك قرءاً، فإذا كان في أحد القولين تكمل حقيقة اللَّفظ بالثَّلاثة.
أجاب الشَّافعي بأنق ال: قال الله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] والأشهر جمع، وأقلُّه ثلاثة، وقد حملناه على شهرين وبعض الثَّالث، وذلك شوَّال، وذو القعدة، وبعض ذي الحجَّة، هكذا ههنا يجوز أن نحمل هذه الثَّلاثة على طهرين وبعض الثَّالث.
أجاب الجبَّائي عن هذا بوجهين.
الأول: أنَّا تركنا الظَّاهر في هذه الآية بدليل، ولا يلزمنا أن نترك الظَّاهر هنا من غير دليلٍ.
والثاني: أن في العدَّة تربُّصاً متَّصلاً، فلا بدَّ من استعمال الثَّلاثة، ولا كذلك أشهر الحجِّ؛ لأنه ليس فيها فعل متصلٌ، فكأنَّه قيل: هذه الأشهر وقت الحجِّ لا على سبيل الاستغراق، ثم إن الثَّلاثة نصٌّ في إفرادها لا تحتمل التَّنقيص، ولا كذلك قوله: «أَشْهُر» ؛ لأنَّه ليس بنصٍّ في الثلاثة؛ لأن العلماء اختلفوا في أقلِّ الجمع، ولا(4/116)
يقاس ما فيه نصٌّ على ما لا نصَّ فيه بل العكس.
وأجيب الجبَّائي بوجهين:(4/117)
الأول: كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب الزّيادة؛ لأنه إذا طلَّقها في أثناء الطُّهر، لم يحسب ما بقي من ذلك الطُّهر في العدَّة فتحصل الزِّيادة.
واعتذروا عنه: بأن الزِّيادة لا بدَّ من تحمُّلها لأجل الضَّرورة، لأنه لو جاز الطَّلاق في الحيض، لأمرناه بالطَّلاق في آخر الحيض حتى يُعْتَدَّ بأطهارٍ كاملةٍ، وإذا اختص الطَّلاق بالطُّهر، صارت تلك الزِّيادة محتملة للضَّرورة.
ونحن نقول: لمَّا صارت الأقراء مفسَّرة بالأطهار، والله تعالى أمرنا بالطَّلاق في الطُّهر صار تقدير الآية: يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة أطهارٍ؛ طهر الطَّلاق وطهران آخران، ثم لزم من كون الطُّهر الأوَّل طهر الطَّلاق، أن يكون ذلك الطَّهر ناقصاً، ليعتدّ بوقوع الطَّلاق فيه.
الوجه الثاني في الجواب: أنّا بيَّنَّا أن القَرْء اسمٌ للاجتماع وكمال الاجتماع إنَّما يحصل في آخر الطُّهر، فكان في الحقيقة الجزء الأخير من الطُّهر قرءاً تاماً، وعلى هذا التَّقدير؛ لم يلزم دخول النُّقصان في شيءٍ من الأقراء.
ورابعها: أنه - تعالى - نقل إلى الشُّهور عند عدم الحيض؛ قال: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار.
وأيضاً: لما شرعت الأشهر بدلاً عن الأقراء، والبدل يعتبر بتمامها؛ لأن الأشهر لا بدَّ من إتمامها، فوجب أيضاً أن يكون الكمال معتبراً في المبدل، فوجب أن تكون الأقراء كاملة وهي الحيض، وأما الأطهار فيجب فيها قرءان وبعض قرءٍ.
وخامسها: قوله - عليه الصَّلاة والسلام -: «طَلاَق الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وأجمعوا على أنَّ عدَّة الأمة نصف عدَّة الحرَّة، فوجب أن تكون عدَّة الحرَّة هي الحيض.
وسادسها: أجمعنا على وجوب الاستبراء في الجواري بالحيض، فكذا العدَّة؛ لأن المقصود من الاستبراء والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض لا بالطُّهر؛ فوجب أن يكون هو المعتبر.
وسابعها: إن القول بأن القرء هو الحيض احتياطٌ، وتغليبٌ لجانب الحرمة؛ لأن المطلَّقة إذا مرَّ عليها بقية الطَّهر، وطعنت في الحيضة الثَّالثة، فإن جعلنا القرء هو(4/118)
الحيض، فحينئذ يحرم للغير التَّزويج بها، وإن جعلنا القرء هو الطُّهر، فحينئذٍ يجوز تزويجها، وجانب التَّحريم أولى بالرِّعاية؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «ما اجْتَمَعَ الحَلاَلُ والحَرَامُ إلاَّ غَلَبَ الحَرَامُ الحلالَ» ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة، وهذا أقرب إلى الاحتياط، فكان أولى؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «دَعْ مَا يرِيبُك إلَى مَا لاَ يرِيبُكَ» .
قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ} الجارُّ متعلَّقٌ ب «يَحِلُّ» واللام للتبليغ، كهي في «قُلْتث لَكَ» .
قوله: {مَا خَلَقَ الله} في «مَا» وجهان:
أظهرهما: أنَّها موصولة بمعنى «الَّذِي» .
والثاني: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، وعلى كلا التقديرين، فالعائد محذوفٌ لاستكمال الشروط، والتقدير: ما خلقه، و «مَا» يجوز أن يراد بها الجنين، وهو في حكم غير العاقل، فلذلك أوقعت عليه «مَا» وأن يراد بها دم الحيض.
قوله: {في أَرْحَامِهِنَّ} فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب «خَلَقَ» .
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنه حالٌ من عائد «مَا» المحذوف، التقدير: ما خلقه الله كائناً في أرحامهنَّ، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرةٌ؛ قال أبو البقاء: «لأَنَّ وقتَ خَلْقِه لَيْسَ بشيءٍ، حتَّى يَتِمَّ خَلْقُهُ» ، وقرأ مُبَشِّر بن عبيدٍ: «في أَرْحَامِهُنَّ» و «بِرَدِّهُنَّ» بضمِّ هاء الكناية، وقد تقدَّم أنه الأصل، وأنه لغة الحجاز، وأنَّ الكسر لأجل تجانس الياء والكسرة.
قوله: {إِن كُنَّ} هذا شرطٌ، وفي جوابه المذهبان المشهوران: إمَّا محذوفٌ، وتقديره من لفظ ما تقدَّم؛ لتقوى الدلالة عليه، أي: إنْ كُنَّ يؤمنَّ بالله واليَوم الآخر، فلا(4/119)
يحلُّ أن يكتمن، وإمَّا أنه متقدِّمٌ؛ كما هو مذهب الكوفيين وأبي زيدٍ، وقيل: «إنْ» بمعنى «إِذْ» ، وهو ضعيفٌ.
فصل في بيان تصديق قول المرأة في انقضاء عدتها
اعلم أن انقضاء العدَّة لما كان مبنياً على انقضاء الأقراء في حقِّ ذوات الأقراء، وكان علم ذلك متعذِّرٌ على الرِّجال، جعلت المرأة أمينة على العدَّة، وجعل القول قولها إذا ادَّعت انقضاء أقرائها في مدَّة يمكن ذلك فيها، وهو على مذهب الشَّافعيّ اثنان وثلاثون يوماً وساعة؛ لأن أمرها يحمل على أنَّها طلِّقت طاهرة، فحاضت بعد ساعةٍ يوماً وليلة، وهو أقلُّ الحيض، ثم طهرت خَمْسَةنَ عَشَر يوماً، وهو أقَلُّ الطُّهْر، ثم حاضَت يوماً وليلةً، ثم طَهُرَت خَمْسَة عَشَر يَوْماً، ثم رَأَتِ الدَّمَ، فقد انْقَضَت عِدَّتُها؛ لحصول ثلاثة أطهارٍ فمتى ادَّعت هذا أو أكثر منه، قبل قولها، وكذلك إن كانت حاملاً فادَّعت أنها أسقطت فالقول قولها؛ لأنها أمينة عليه.
فصل في المراد بالكتمان
قال القرطبي: ومعنى النَّهي عن الكتمان: النَّهي عن الإضرار بالزَّوجِ وإذهاب حقِّه، فإذا قالت المطلَّقة: حضتُ وهي لم تحِض، ذهبت بحقِّه في الارتجاع، وإذا قالت: لم أَحِضْ وهي قد حَاضَتْ، ألْزَمَتْهُ من النَّفَقَةِ ما لم يَلْزَمه، فأضرَّت به، أو تقصد بكذبها في نفس الحيض ألاَّ ترجع حتى تنقضي العدَّة ويقطع الشَّرع حقَّه، وكذلك الحاملُ تكتم الحمل؛ لتقطع حقَّه في الارتجاع.
قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهليَّة أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزَّوج الجديد؛ ففي ذلك نزلت الآية.
فصل
اختلف المفسِّرون في قوله: {مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} :
فقيل: هو الحَبَلُ والحَيْضُ معاً، وذلك لأنَّ المَرْأة لَهَا أغْرَاض كَثِيرة في كتمانها؛ أمّا الحبل؛ فإنه يكون غرضها فيه أنَّ انقضاء عدَّتها بالقروء؛ لأنه يكون أقلَّ زماناً من انقضاء عدَّتها يوضع الحمل، فإذا كتمت الحمل، قصرت مدّة عدَّتها فتتزوَّج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزَّوج، وربما أحبَّت التَّزويج بزوج آخر، أو أحبَّت أن تلحق ولدها بالزَّوج الثَّاني، فلهذه الأغراض تكتم الحمل، وأما كتمان الحيض، فقد يكون غرضها إذا كانت(4/120)
من ذوات الأقراء أن تطول عدَّتها لكي يراجعها الزَّوج، وقد تحبُّ تقصير عدَّتها لتبطل رجعته ولا يتمُّ لها ذلك إلاَّ بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات، فوجب حمل النَّهي على مجموع الأمرين.
وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة: هو الحيض فقط؛ لقوله تعالى: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} [آل عمران: 6] ، ولأن الحيض خارجٌ عن الرَّحم لا مخلوقٌ فيه، وحمل قوله - تعالى -: {مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} على الولد الذي هو شريف، أولى من حمله على شيءٍ قَذِرٍ خسيسٍ.
وأجيب بأن المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال الَّتي لا اطِّلاع لغيرها عليها، وبسببها يختلف الحلُّ والحرمة في النِّكاح، فوجب حمل اللَّفظ على الكلِّ، وقيل: هو الحيض؛ لأن هذا الكلام إنَّما ورد عقيب ذكر «الأَقْرَاءِ» ، ولم يتقدَّم ذكر الحمل.
وأجيب: بأنَّ هذا كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مستَقِلٌّ بِنَفْسِه، من غير أن يُرَدَّ إلى ما تقدَّم، فوجب حمله على كلِّ ما يخلق في الرَّحم.
وقوله: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} ليس المراد: أن ذلك النَّهي مشروطاً بكونها مؤمنة، بل هذا كقول المظلوم للظَّالم: «إن كُنْتَ مُؤْمِناً فَيَنْبَغِي أن يَمْنَعَكَ إيمَانُك عن ظُلْمِي» ، وهذا تهديدٌ شديد في حقِّ النّساء؛ فهو كقوله في الشَّهادة: {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} [البقرة: 283] .
قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ} الجمهور على رفع تاء «بُعُولَتُهُنَّ» وسكَّنها مسلمة بن محاربٍ، وذلك لتوالي الحركات، فخُفِّف، ونظيره قراءة: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] بسكون اللام حكاها أبو زيد، وحكى أبو عمرو: أنَّ لغة تميم تسكين المرفوع من «يُعَلِّمُهُمُ» ونحوه، وقيل: أجرى ذلك مجرى «عَضُدٍ، وعَجُزٍ» ؛ تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وقد تقدَّم ذلك.
و {أَحَقُّ} خبرٌ عن «بُعُولَتُهُنَّ» وهو بمعنى حقيقون؛ إذ لا معنى للتفضيل هنا؛ فإنَّ غير الأزواج لا حقَّ لهم فيهنَّ البتَّة، ولا حقَّ أيضاً للنِّساء في ذلك، حتى لو أبت هي الرَّجعة، لم يعتدَّ بذلك.
وقال بعضهم: هي على بابها؛ لأنه تعالى قال: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ(4/121)
الله في أَرْحَامِهِنَّ} فكان تقدير الآية: فإنَّهن إن كتمن لأجل أن يتزوَّج بهنَّ زوجٌ آخر، فإنَّ الزَّوج الأوَّل أحقُّ بردِّها؛ لأنه ثبت للزَّوج الثَّاني حقٌّ في الظَّاهر؛ لادِّعائها انقضاء عدَّتها.
وأيضاً: فإنَّها إذا كانت معتدَّة، فلها في انقضاء العدَّة حقُّ انقطاع النِّكاح، فلما كان لهنَّ هذا الحقُّ الذي يتضمَّن إبطال حقِّ الزَّوج، جاز أن يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرَّجعة ما هنَّ عليه من العدَّة.
و «البُعُولة» فيها قولان:
أحدهما: إنه جمع «بَعْل» كالفحولة والذُّكورة والجدودة والعمومة، والهاء زائدة مؤكِّدة لتأنيث الجماعة ولا ينقاس، بل إنَّما يجوز إدخالها في جمع رواة أهل اللُّغة عن العرب، فلا يقال في كعب: كُعُوبة، ولا في كَلْب: كلابة.
والبعل زوجُ المَرْأةِ؛ قالوا: وسُمِّي بذلك على المستعلي، فلما علا من الأرض فَشَرِبَ بعروقه. ويقال: بَعَلَ الرَّجُلُ يبعلُ؛ كمنع يمنعُ. ويشترك فيه الزَّوجان؛ فيقال للمرأة: بعلة؛ كما يقال لها: زَوْجَةٌ في كَثِير من اللُّغَاتِ، وزَوْجٌ في أَفْصَح الكَلاَم، فهما بَعْلاَن كما أنَّهما زوجان، وأصل البعل: السَّيِّد المالِك فيما نقل، يقال: من بعلُ هذه النَّاقة؟ كما يقال من ربِّها؟ وبعل: اسم صنم، كانوا يتَّخونه ربّاً؛ قال - تعالى -: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} [الصافات: 125] ، وقد كان النِّساء يدعون أزواجهن بالسودد.
الثاني: أنّ البعولة مصدر، يقال: بعل الرَّجُل يَبْعَل بُعُولَةً وبِعَالاً، إذا صَارَ بَعْلاً، وبَاعَل الرَّجُل امْرَأَتَهُ: إذا جَامَعَهَا؛ ومنه الحديث: أن النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال في أيَّام التَّشريق: «إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» ، وامرأة حَسَنَةُ التَّبَعّل إذا كَانَت تُحْسِن عِشْرَةَ زَوْجِها، ومنه الحديث: «إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تبعُّلَ أزواجكن» .
قوله: {بِرَدِّهِنَّ} متعلِّقٌ ب «أَحَقّ» . وقوله «فِي ذَلِكَ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّقٌ أيضاً ب «أَحَقّ» ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا وقت العدَّة، أي تستحقّ رجعتها ما دامت في العدَّة، وليس المعنى: أنه أحقُ أن يردَّها في العدَّة، وإنما يردُّها في النكاح، أو إلى النكاح.
والثاني: أن يتعلَّق بالردِّ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا النِّكاح، قاله أبو البقاء.
والضمير في «بُعُولَتِهِنَّ» عائدٌ على بعض المطلَّقات، وهنَّ الرَّجعيَّات خاصَّةً، وقال أبو حيَّان: «والاولَى عندي: أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكم، أي: وبُعُولَةُ رَجْعِيَّاتِهِنَّ» .(4/122)
ومعنى الردّ هنا: الرُّجوع؛ قال - تعالى -: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي} [الكهف: 36] ، وقال في موضع آخر: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ} [فصلت: 50] .
فإن قيل: ما معنى الرَّدّ في الرَّجعيَّة وهي زوجة، ما دامت في العِدَّة؟
فالجواب: أنّ الردّ والرَّجعة يتضمَّن إبطال التَّربُّص والتَّحرِّي في العدَّة، فإنَّها ما دامت في العدَّة، كأنَّها جارية إلى إبْطال حقِّ الزَّوج، وبالرَّجعة بطل ذلك فسمِّيت الرَّجعة ردّاً، لا سيَّما ومذهب الشَّافعيِّ أنه يحرم الاستمتاع بها إلاّ بعد الرَّجعة، فالردُّ على مذهبه فيه معنيان:
أحدهما: ردّها من التَّربُّص إلى خلافه.
والثاني: ردُّها من الحرمة إلى الحلِّ.
قوله: {إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً} فالمعنى: أن الأزواج أحقُّ بالمراجعة، إن أرادوا الإصلاح ولم يريدا المضارَّة؛ ونظيره قوله - تعالى -: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] .
والسَّبب في ذلك: أنَّ الرَّجل كان في الجاهليَّة يطلِّق امرأته، فإذا قرب انقضاء عدَّتها، راجعها ثم تركها مدَّة ثمَّ طلَّقها، فإذا قرب انقضاء عدَّتها، راجعها ثمَّ طلَّقها ثم بَعْدَ مدَّة طلقها يقصد بذلك تطويل عدَّتها، فنهوا عن ذلك، وجعل إرادة الإصلاح شرطاً في المراجعة.
فإن قيل: الشَّرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح ألاّ تصحّ الرَّجعة؟
فالجواب: أنّ الإرادة صفةٌ باطنةٌ لا اطِّلاع لنا عليها، والشَّرع لم يوقف صحَّة المراجعة عليها؛ بل جوازها فيما بينه وبين الله - تعالى - موقوف على هذه الإرادة، فإن راجعها لقصد المضارَّة، استحقَّ الإثم.
فصل
نقل القرطبي عن مالك، قال: إذا وطئ المعتدَّة الرَّجعيَّة في عدَّتها، وهو يريد الرَّجعة وجهل أن يُشهد، فهي رجعةٌ، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -:
«إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى» فإن وطئَ(4/123)
في العدَّة، لا ينوي به الرَّجعة؛ فقال مالكٌ: يراحع في العدَّة، ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد.
قال سعيد بن المسيَّب، والحسن البصري، وابن سيرين، والزُّهري، وعطاء، والثَّوري: إذا جامعها فقد راجعها.
فصل
من قبّل أو باشر ولم ينو بذلك الرَّجعة، كان آثماً وليس بمراجعٍ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن وطئها، أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ، فهي رجعة، وينبغي أن يُشهد وهو قول الثَّوريّ.
فصل
قال أحمد: ولها التَّزيُّن لزوجها، والتَّشرُّف، وله الخلوة والسَّفر بها.
وقال مالك: لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلاَّ بالإذن، ولا ينظر إليها إلاَّ وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها.
وقال ابن القاسم: رجع مالك عن ذلك.
قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ} خبرٌ مقدَّمٌ، فهو متعلِّق بمحذوف، وعلى مذهب الأخفشِ من باب الفعل والفاعل، وهذا من بديع الكلام، وذلك أنه قد حذف من أوَّله شيءٌ ثم أثبت في آخره نظيره، وحذف من آخره شيءٌ أثبت نظيره في الأول، وأصل التركيب: «وَلَهُنَّ على أزواجِهِنَّ مِثْلَ الذي لأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ» ، فحذف «عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ» لإثباتِ نظيره، وهو «عَلَيْهِنَّ» ، وحذفت «لأَزْوَاجِهِنَّ» لإثبات نظيره، وهو «لَهُنَّ» .
قوله: {بالمعروف} فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بما تعلَّق به «لَهُنَّ» من الاستقرار، أي: استقرَّ لهُنَّ بالمعروف.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «مِثْل» ؛ لأنَّ «مِثْل» لا يتعرَّفُ بالإضافة؛ فعلى الأوَّل: هو في محلِّ نصبٍ؛ وعلى الثاني: هو في محلِّ رفعٍ.
قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّ «لِلرِّجَالِ» خبرٌ مقدَّمٌ، و «دَرَجَةٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، و «عَلَيهِنَّ» فيه وجهان على هذا التقدير: مَّا التعلُّقُ بما تعلَّق به «لِلرِّجَالِ» ، وإمَّا التعلقُ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «دَرَجَةٌ» مقدَّماً عليها؛ لأنه كان صفةً في الأصل، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً.
والثاني: أن يكون «عَلَيْهِنَّ» هو الخبر، و «للرجال» حال من «دَرَجَةٌ» ؛ لأنه يجوز(4/124)
أن يكون صفةٌ لها في الأصل، ولكنَّ هذا ضعيفٌ؛ من حيث إنه يلزم تقديم الحال على عاملها المعنويِّ؛ لأ، َّ «عَلَيْهِنَّ» حينئذٍ هو العالم فيها؛ لوقوعه خبراً. على أنَّ بعضهم قال: متى كانت الحال نفسها ظرفاً أو جارّاً ومجروراً، قوي تقديمها على عاملها المعنويِّ، وهذا من ذاك، هذا معنى قول أبي البقاء. وردَّه أبو حيان بأنَّ هذه الحال قد تقدَّمت على جزأي الجملة، فهي نظير: «قَائِماً في الدَّارِ زَيْدٌ» ، قال: وهذا ممنوعٌ، لا ضَعِيفٌ؛ كما زعم بعضهم، وجعل محلَّ الخلاف فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العامل فيها المعنى - على جزأي الجملة، بل تتوسَّط؛ نحو: «زَيْدٌ قَائِماً في الدَّارِ» ، قال: «فأبو الحسن يُجيزُهَا، وغيره يمنعها» .
و «الرَّجُلُ» مأخوذ من الرُّجلة، أي: القوَّة، وهو أرجل الرَّجلين، أي: أقواهما وفرس رَجِيلٌ: قويٌّ على المَشي، والرَّجل معروفٌ لقوَّته على المشي، وارتجل الكلام، أي: قوي عليه من غير حاجةٍ فيه إلى فكرةٍ ورويَّة، وترجَّل النَّهار: قوي ضياؤه.
و «الدَّرَجَة» هي المنزلة، وأصلها: من درجتُ الشَّيء أدْرُجُه دَرْجاً، وأدْرَجْتُه إدْرَاجاً إذا طويته، ودَرَجَ القومُ قَرْناً بعد قرن، أي: فنوا، ومعناه: أنَّهم طووا عمرهم شيئاً فشيئاً، والمدْرَجة: قَارِعَةُ الطَّريق؛ لأنَّها تطوي منزلاً بعد منزل، والدَّرجة: المنزلة من منازل الجنَّة، ومنه الدَّرجة التي يرتقي فيها، والدَّرجُ: ما يرتقي عليها، والدَّرك ما يهوى فيها.
فصل
لما بيَّن أن المقصود من المراجعة إصلاح حالها، لا إيصال الضَّرر إليها، بيَّن أن لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين حقّاً على الآخر.
روي عن ابن عبَّاس، قال: إني لأَتَزَيَّن لامْرَأَتِي كما تَتَزَيَّن لي؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} .
وقال بعضهم: يجب أن يقوم بحقِّها ومصالحها، ويجب عليها الانقياد والطَّاعة له.
وقيل: لهنَّ على الزَّوج إرادةُ الإصلاح عند المراجعة، وعليهنّ ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن، وهذا أوفق لصدر الآية.
وأما درجة الرجل على المرأة فيحتمل وجهين:
الأول: أن الرَّجل أزيدُ في الفضيلة من النِّساء لأمور: في كمال العقل، وفي الدِّية،(4/125)
وفي الميراث، وفي القيمة، وفي صلاحية الإمامة، والقضاء، والشَّهادة، وللزَّوج أن(4/126)
يتزوَّج عليها ويتسرَّى، وليس لها ذلك مع الزَّوج، والزوج قادر على طلاقها وعلى رجعتها شاءت أو أبت، وليس لها ذلك.
الوجه الثاني: أن الزَّوج اختصَّ بأنواعٍ من الحقوق وهي التزام المهر والنَّفقة والذَّبُّ عنها، والقيام بمصالحها، ومنعها من مواقع الآفات، فكان قيام المرأة بخمة الرَّجل آكد وجوباً لهذه الحقوق الزَّائدة؛ كما قال - تعالى -: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لَوْ أَمَرْتُ أَحْداً بالسُّجُودِ لِغَيْرِ الله، لأَمَرْتُ المَرْأَةَ بالسُّجُودِ لِزَوْجِهَا» وإذا كان كذلك، فالمرأة كالأسير العاجز في يد الرَّجُلِ، ولهذا قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُم عَوَانٌ» ، وفي خبرٍ آخر: «اتَّقُوا الله في الضَّعِيفَيْن: اليتيمِ والمَرْأَةِ» .
ثم قال: {والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} أي: غالبٌ لا يمنع، مصيبٌ في أحكامه.(4/127)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} : مبتدأٌ وخبرٌ، و «الطلاق» يجوز أن يكون مصدر «طَلَقَتِ المَرْأَةُ طَلاَقاً» ، وأن يكون اسم مصدر، وهو التطليقُ؛ كالسَّلام بمعنى التَّسليم، ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ؛ ليكون المبتدأُ عين الخبر، والتقدير: عددُ الطَّلاق المشروع فيه الرَّجعة مرَّتان.
والتثنية في «مَرَّتَانِ» حقيقةٌ يراد بها شفعُ الواحد، وقال الزمخشريُّ: «إنها من باب التثنية الَّتي يراد بها التكرير» وجعلَهَا مثْلَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَهَذَا ذَيْكَ. وردَّ عليه أبو حيَّان بأنَّ ذلك مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً، وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر، أمَّا المناقضة، فإنه قال: الطَّلاق مَرَّتَان، أي: الطلاقُ الشرعيُّ تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دون الإرسال دفعةً واحدةً، فقوله هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقيّة، وأمَّا المخالفة، فلأنه لا يراد أن الطلاق المشروع بقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر، بل مرتين فقط؛ ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك: {فَإِمْسَاكٌ} ، أي: بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَةِ الثانية، {أَوْ تَسْرِيحٌ} أي: بالطلقة الثالثة؛ ولذلك جاء بعده «فَإِنْ طَلَّقَهَا» . انتهى ما ردَّ به عليه، قال شهاب الدين: والزَّمخشريُّ إنما قال ذلك لأجل معنًى ذكره، فينظر كلامه في «الكَشَّاف» ؛ فإنه صحيحٌ.
والألف واللام في «الطَّلاَق» قيل: هي للعهد المدلول عليه بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وقيل: هي للاستغراق، وهذا على قولنا: إن هذه الجملة متقطعةٌ ممَّا قبلها، ولا تعلُّق لها بها.
قوله: {فَإِمْسَاكٌ} في الفاء وجهان:
أحدهما: أنها للتعقيب، أي: بعد أن عرَّف حكم الطلاق الشرعيِّ؛ أنه مرَّتان، فيترتَّب عليه أحد هذين الشيئين.
والثاني: أن تكون جواب شرطٍ مقدَّرٍ، تقديره: فإن أوقع الطَّلقتين، وردَّ الزَّوجة فإمساكٌ.
وارتفاعُ «إِمْسَاكٌ» على أحد ثلاثة أوجهٍ: إمَّا مبتدأ وخبره محذوفٌ متقدِّماً، تقديره عند بعضهم: فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ، وقَدَّرهُ ابن عطية متأخِّراً، تقديره: فإِمْسَاكٌ أَمْثَلُ أَوْ أَحْسَنُ.
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فالواجب إمساكٌ.(4/128)
والثالث: أن يكون فاعل فعلٍ محذوفٍ، أي: فليكن إمساك بمعروفٍ
قوله: «بِمَعْرُوفٍ» و «بِإِحْسَانٍ» في هذه الباء قولان:
أحدهما: أنها متعلِّقة بنفس المصدر الذي يليه، ويكون معناها الإلصاق.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفة لما قبلها، فتكون في محلِّ رفعٍ، أي: فإسماك كائنٌ بمعروفٍ، أو تسريح كائنٌ بإحسان.
قالوا: ويجوز في العربيَّة نصب «فَإِمْسَاكٌ» ، و «تَسْرِيحٌ» على المصدر، أي: فأمسكوهنَّ إمساكاً بمعروف، أو سرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان، إلاَّ أنَّه لم يقرأ به أحدٌ.
والتَّسريح: الإرسال والإطلاق، ومنه قيل للماشية: سَرْحٌ، وناقَةٌ سُرُحٌ، أي: سهلة السَّير؛ لاسترسالها فيه.
وتسريح الشَّعر: تخليص بعضه من بعض، والإمساك خلاف الإطلاق، والمساك والمسكة اسمان منه؛ يقال: إِنَّه لذو مُسكةٍ ومساكة إذا كان بخيلاً.
قال الفرَّاء: يقال: إنه ليس بمساك غلمانه، وفيه مساكة من جبر، أي: قُوَّة.
قال القرطبي: وصريح الطَّلاق ثلاثة ألفاظٍ ورد القرآن بها: وهي الطَّلاق والسَّراح والفِراق، وهو قول الشَّافعي.(4/129)
فصل
روى عُروة بن الزُّبير، قال: كان النَّاسُ في الابتداء يُطلِّقون من غير حصرٍ ولا عددٍ، وكان الرَّجُل يُطلق امرأَته، فإذا قاربت انقضاء عدَّتها، راجعها ثم طلَّقها كذلك، ثم راجعها يقصد مضارَّتها، فنزلت هذه الآية: {الطلاق مَرَّتَانِ} .
ورُوِي: أن الرَّجُل كان في الجاهليَّة يُطَلِّق امرأَتهُ، ثم يُراجعها قبل أن تنقضي عِدَّتها، ولو طَلَّقها ألف مَرَّة، كانت القُدرة على المُراجعة ثابتةٌ، فجاءت امرأةٌ إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -، فشكت أَنَّ زَوْجهها يُطَلِّقُها ويُراجِعها، يُضارّها بذلك، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنزل قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} يعني: الطلاق الَّذِي يملك الرَّجعة عقيبهُ مرتان، فإذا طَلَّق ثَلاَثاً، فلا تحلُّ له إلاَّ بعد نكاح زوجٍ آخر.
فصل
اختلف المُفَسِّرون في هذه الآية:
فقال بعضهم: هذا حُكم مُبتدأ، ومعناه: أن التَّطليق الشَّرعيّ يجب ن يكون تطليقةً بعد أُخرى، على التَّفريق دون الجمع والإِرسال دفعةً واحدة، وهذا قول من قال: الجمع بين الثَّلاث حرامٌ.
قال أبو زيد الدَّبوسيّ: هذا قول عمر وعثمان وعبد الله بن عبَّاس، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين، وأبي موسى الأشعري وأَبي الدَّرداء، وحذيفة.
وقال آخرون: ليس بابتداء كلام، وإنَّما هو متعلِّق بما قبله والمعنى: أن الطَّلاقَ الرَّجعيَّ مَرَّتان، ولا رجعة بعد الثَّلاث، وهو وقل من جوَّز الجمع بين الثَّلاث، وهو مذهب الشَّافعي.
حُجَّة القول الأَوَّل: أن الأَلف واللام في «الطَّلاَقِ» إذا لم يكونا للمعهود، أفادا(4/130)
الاستغراق، فصار تقدير الآية: كُلُّ الطَّلاق مرَّتان ومَرَّة ثالثة، ولو قال هكذا، لأفاد أن الطَّلاق المشروع مُتَفَرِّق؛ لأن المرَّات لا تكُون إلاَّ بعد تفريق الاجتماع.
فإن قيل: هذه الآية وردت لبيان الطَّلاق المَسْنُون.
فالجواب: ليس في الآية بيان صفة السُّنَّة، بل مُفسَّرة لأَصل الطَّلاق، وهذا الكلام - وإن كان لفظه الخبر - إلاَّ أن معناهُ الأمر، أي: طَلِّقُوا مَرَّتَين، يعني: دَفْعتين، وإنما عدل عن لفظ الخبر؛ لما تَقَدَّم من أن التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر يُفيد تأكيد معنى الأَمر، فثبت أن هذه الآية دالَّة على الأَمر بتفريق الطَّلقاتِ، وعلى التَّشديد في ذلك الأَمر والمُبالغة فيه. واختلف القائِلُون بهذا على قولين:
الأول - وهو اختيار كثيرٍ من علماء أهل البيت -: أنَّه لو طَلَّقها اثنتين أو ثلاثاً، لا يقع إلاَّ واحدة.
قال ابن الخطيب: وهذا القولُ هو الأَقيس، لأن النَّهْيَ يدلُّ على اشتمالِ المنهيِّ عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعيٌ في غدخال تلك المفسدة في الوجود، وهو غير جائزٍ، فوجب أن يكون الحُكم بعدم الوقوع.
والثاني: قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن الجمع - وإن كان مُحرَّماً - إلا أَنَّه يقعُ، وهذا منه بناءً على أَنَّ النَّهيَ لا يَدُلُّ على الفَسَادِ.
حجَّة القول الثَّاني: هو أنَّ الآية مُتعلِّقَة بما قبلها؛ لأنه - تعالى - بيَّن في الآية الأُولى أن حقَّ المُراجعة ثابتٌ للزَّوج، ولم يُبيِّن أنَّ ذلك الحَقَّ ثابِتٌ دائماً، أو إلى غاية(4/131)
مُعيَّنة، فكان كالمجمل المُفتقر إلى المُبيِّن، أو العامِّ المفتقرِ إلى المُخصص، فبيَّن في هذه الآيةِ أن ذلك الطَّلاق الَّذِي ثبت فيه للزَّوج حَقّ الرَّجْعَة، هو أن يُوجد طلقتانِ، فأمّا بعد الطَّلْقَتين، فلا يثبِتُ أَلْبَتَّةَ حق الرَّجعة فالألف واللام في «الطَّلاقِ» المعهُود السَّابق، فهذا تفسيرٌ مطابِقٌ لنظم الآية، فيكُون أولى لوجوهٍ:
الأول: أن قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] إن كان عَامّاً في كُلِّ الأَحوال؛ فهو مُفْتَقِرٌ إلى المُخَصّص، وإن لم يكُن عامّاً فهو مُجملٌ؛ لأنه ليس فيه بيان الشَّرط الَّذِي عنده يثبت حقُّ الرَّجعة، فافتقر إلى البيان، فإذا جعلنا الآية مُتَعَلِّقة بما قبلها، كان المُخَصص حاصلاً مع العامِّ المخصوص، أو كان البيانُ حاصِلاً مع المُجْمَلِ، وذلك أَولى من ألاَّ يكون كذلك؛ لأن تأخير البيان عن وقت الخِطابِ - وإذا كان جَائِزاً -، إلا أن الأَرجح ألاَّ يَتَأَخَّر.
الثاني: أنَّا إذا جعلنا هذا الكلام مُبتدأ، كان قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} يقتضي ذكر الطَّلقة الثَّانية، وهي قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فصار تقدير الآية: الطَّلاق مَرَّتان ومَرَّة؛ لأنا نقول: إن قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} متعلِّق بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} لا بقوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} ، ولأن لفظ التَّسريح بالإِحسانِ لا إِشعار فيه بالطَّلاق، ولأنَّا لو جعلنا التَّسريح هو الطَّلقة الثَّالثة، لكان قوله: «فَإِنْ طَلَّقَهَا» طلقة رابعة، وهو غير جائِزٍ.
الثالث: ما روينا في سبب النُّزول: من شكوى المرأة إلى عائشة كثرة تطليقها ومراجعتها قصداً للمضارَّة، وقد أَجْمَعُوا على أَنَّ سبب النُّزول لا يجوز أن يكون خارجاً عن عُمُوم الآيةِ، فكان تنزيل الآيةِ على هذا المعنى، أولى من تنزيلها على حُكْمٍ أَجنبيٍّ عنها.
فصل
اعلم أن معنى الآية: أن الطَّلاق التي يَثْبُت فيه الرَّجعة هو أَنْ يوجد مرَّتان، ثم(4/132)
الواجب بعد ذلك: إمَّا إمساكٌ بمعروفٍ، وهو أن يُراجعها لا على قصد المضارَّة، بل على قصدِ الإصلاح، وإما تسريحٌ بإِحسانٍ، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يُوقِعَ عليها الطَّلقة الثَّالثة، روي أَنَّه لمَّا نَزلَ قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} ، قيل له - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: فأَين الثَّالثة؟ قال عليه الصَّلاة والسَّلام -: «هُو قَوْلُه تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ» .(4/133)
الثاني: أن التَّسريح بالإحسان: أن يَتْرُكَ مُراجَعَتها حتى تَبين بانقضاءِ العِدَّة، وهو مَروِيٌّ عن الضَّحَّاك والسُّدِّيّ.
قال ابن الخطيب: وهو أَقْرَبُ لوجوه:
أحدها: أن «الفَاء» في قوله: «فَإِنْ طَلَّقَها» تَقْتَضِي وقوع هذه الطَّلقة مُتَأَخِّرة عن ذلك التَّسريح، فلو كان المُرادُ بالتَّسريح هو الطَّلقَة الثَّالثة، لكان قوله: فإن طَلَّقها طَلْقَةً رَابِعَة؛ وهو لا يجُوزُ.
وثانيها: أنَّا إذا حَمَلْنَا التَّسريح على تَرْكِ المُراجعة، كانت الآيةُ مُتَنَاولة لجميع الأَحوالِ؛ لأَنَّه بعد الطَّلْقَة الثَّانية إمَّا أن يُراجعها وهو المراد بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أو لا يُراجعها، بل يتركها حتى تنقضي عِدَّتُها وتبين، وهو المرادُ بقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أو يُطَلِّقها وهو المراد بقوله «فَإِنْ طَلَّقَها» ، فكانت الآيَةُ مُشْتَمِلَةً على بَيَانِ كُلِّ الأقسام، وإذا جعلنا التَّسريح بالإِحسان طَلاَقاً آخر لزم تركُ أحد الأقسامِ الثَّلاثة، ولزِم التكرير في ذكر الطَّلاقِ، وهو غيرُ جَائِزٍ.
وثالثها: أنَّ ظاهر التَّسرِيح هو الإرسالُ والإِهمالُ، فحمله على تركِ المُراجعة أَوْلَى من حملِهِ على التَّطليق.
ورابعها: أنَّه قال بعد ذلك التَّسريح: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} والمُراد به الخُلع، ومعلومٌ أنه لا يصحُّ الخلعُ بعد التَّطليقة الثَّالثة، فهذه الوجوه ظاهرة، لو لم يثبت الخبر الَّذِي رويناه، فإن صحَّ ذلك الخبر، فلا مزيد عليه.
فصل في الحكمة في الرَّجعة
والحِكْمة في إثبات حقِّ الرَّجعة: أن الإِنسان إذا كان مع صاحبه، لا يدري هل تَشُقُّ عليه مُفارقتُه أَمْ لا؟ فإذا فارقهُ بعد ذلك يظهر، فلو جَعَلَ الله الطَّلقة الواحدة مانِعةٌ من الرُّجوع، لعظمت المَشَقَّة على الإِنسان بتقدير أَنْ تظهر المَحَبَّة بعد المُفارقة مَرَّتين، وعند ذلك تحصل التَّجربة، فإن كان الأَصلحُ الإِمْسَاكَ، راجعها وأَمسكها بالمعروفِ، وإن كان الأَصلح التَّسريح، سرَّحها بإِحسان.
فصل
واختلف العُلَمَاءُ إذا كان أَحد الزَّوْجَينِ رقيقاً:(4/134)
فذهب أكثرهم إلى أَنَّه يُعتبر عدد الطَّلاق بالزَّوج؛ فالحُرُّ يملك على زوجته الأَمة ثلاث تطليقاتٍ، والعبد لا يملك على زوجته الحُرَّة ِلاَّ طَلْقَتَيْن.
قال عبد الله بن مسعود: الطَّلاق بالرِّجال والعِدَّة بالنِّساءِ، يعني: يُعْتَبر في الطَّلاق حالُ الرَّجالِ، وفي قدر العِدَّة حالُ المرأة، وهو قول عُثمان، وزيد بن ثابت، وابن عبَّاس، وبه قال عطاء وسعيد بن المُسَيَّب، وإليه ذهب مالِكٌ، والشَّافِعِي، وأَحمد، وإسحاق.
وذهب قَوْمٌ إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطَّلاق، فيملُكِ العَبْدُ على زوجته الحُرَّة ثلاث طلقاتٍ، ولا يَمْلِكُ الحُرَّ على زوجته الأَمة إلاَّ طلْقَتَين، وهو قول سُفْيان الثَّوريّ وأصحاب الرَّأي.
فصل
إذا طلَّقها ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ، لزِمه الطَّلاَق بالإِجماع.
وقال عليّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعود: يلزمه طلقةٌ واحِدةٌ.
وقال ابن عبَّاس: وقوله: ثلاثاً لا معنى له؛ لأَنَّه لم يُطلِّق ثلاث مرَّات وإنَّما يجوز قوله: في ثَلاَث إذا كان مُخبراً عمّا مضى، فيقول: طلَّقت ثلاثاً، فيكون مُخبراً عن ثلاثة أفعالٍ كانت منهُ في ثلاثة أوقاتٍ؛ فهو كقول الرَّجُل: قرأت سُورَة كذا ثلاث؛ فإن كان قرأها ثلاث مرَّاتٍ، كان صادِقاً، وإن كان قرأها مرَّة واحِدَةً، كان كاذِباً، وكذا لو قال: أحْلِفُ بالله ثَلاَثاً يردد الحَلْف كانت ثَلاَثة أيمانٍ، ولو قال: أَحْلِف بالله ثلاَثاً، لم يَكُن حلف إلا يميناً واحدة والطَّلاق مِثْله.
وقاله الزُّبير بن العوَّام، وعبد الرَّحمن بن عوف، قاله القرطبي. قوله: «أَنْ تَأْخُذُوا» : «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعل «يَحِلُّ» ، أي: ولا يَحِلُّ لكُم أَخْذُ شَيءٍ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ. و «مِمَّا» فيه وجهان «. أحدهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ» تَأْخُذُوا «، و» مِنْ «على هذا لابتداءِ الغاية. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» شَيْئاً «قُدِّمت عليه؛ لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً، و» مِنْ «على هذا للتبعيض، و» مَا «موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، تقديره: مِنَ الذي آتيتموهنَّ إِيَّاهُ، وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حذفِ العائدِ المنصوب المنفصلِ عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] وهذا مثلُه، فَلْيُلْتَفَتْ إليه. و» آتَى «يتعدَّى لاثنين، أولهُما» هُنَّ «والثاني هو العائدُ المحذوفُ، و» شَيْئاً «(4/135)
مفعولٌ به ناصبُه» تَأْخُذُوا «. ويجوزُ أن يكونَ مصدراً، أي: شيئاً مِنَ الأَخْذِ. والوجهانِ منقولانِ في قوله: {لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [يس: 54] . قوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ، وفي» أَنْ يَخَافَا «وجهان: أحدهما: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِهِ، فيكونُ مستثنىً من ذلك العامِّ المحذوفِ، والتقديرُ: وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أن تَأْخُذُوا بِسَبَب من الأسباب، إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حُدُودِ الله، وحُذِفَ حرفُ العلةِ؛ لاستكمالِ شروط النصب، لا سيما مع» أَنْ «ولا يجيءُ هنا خلافُ الخليلِ وسيبويه: أهيَ في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حَذْفِ اللامِ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّحَ به، لنُصِبَ، وهذا قد نصَّ عليه النحويُّون، أعنِي كونَ» أَنْ «وما بعدها في محلِّ نصبٍ، بلا خلافٍ، إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ، فيكونُ مستثنى من العامِ أيضاً، تقديره: ولاَ يَحِلُّ لكُمْ في كلِّ حالٍ من الأحوالِ إلاَّ في حالِ خوفِ أَلاَّ يقيما حدودَ اللهِ، قال أبو البقاء: والتقديرُ: إلاَّ خائفينَ، وفيه حَذْفُ مضافٍ، تقديره: وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أَنْ تأخُذُوا على كلِّ حال، أو في كلِّ حال إلا في حالِ الخوفِ، والوجهُ الأولُ أحسنُ، وذلك أَنَّ» أَنْ «وما في حَيِّزها مُؤَوَّلةٌ بمصدرٍ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعلِ المنصُوبِ على الحَال، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً، فكيف بما هو في تأْويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ» أَنِ «المصدرية لا تقَعُ موقعَ الحالِ.
والألفُ في قوله «يَخَافَا» و «يُقِيمَا» عائدةٌ على صنفَي الزوجين، وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلام، لقيل: «إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ تُقِيمُوا» بِتَاءِ الخِطَابِ لِلْجَمَاعَةِ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله، ورُوِي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبَة، وهو التفاتٌ أيضاً. والقراءةُ في «يَخَافَا» بفتحِ الياءِ واضحةٌ، وقرأها حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضمِّها على البناء للمفعول، وقَد استشكلها جماعةٌ، وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب، وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً، أحسنُها أَنْ يكونَ «أَنْ يُقِيمَا» بدلاً من الضمير في «يَخَافَا» ؛ لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، تقديره: إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَدَمُ إقامَتِهما حُدُودَ اللهِ،(4/136)
وهذا من بدل الاشتمال؛ كقولك: «الزَّيْدَانِ أَعْجَبَانِي عِلْمُهُمَا» ، وكان الأصلُ: «إِلا أن يخافَ الوُلاَةُ الزوجَيْنِ أَلاَّ يقيمَا حُدُودَ اللهِ» ، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو «الوُلاَةُ» ؛ للدلالة عليه، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وبقيتْ «أَنْ» وما بعدها في محلِّ رفعٍ بَدَلاً؛ كما تقدَّم تقديرُه. وقد خرَّجه ابن عطيَّة على أنَّ «خَافَ» يتعدَّى إلى مفعولين ك «اسْتَغْفَرَ» ، يعنيك إلى أحدِهما بنفسِه، وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، و «أَنْ» وما في حَيِّزها هي الثاني، وجَعَل «أَنْ» في محلِّ جرٍّ عند سيبويه والكِسائيِّ، وقد رَدَّ عليه أبو حيان هذا التخريجَ؛ بأنَّ «خَافَ» لا يتعدَّى لاثنين، ولم يَعُدَّهُ النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعَدَّى لاثنين؛ ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك: «خِفْتُ زَيْداً ضَرْبَهُ» ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به، فليس هو كالثاني في «اسْتَغْفَرْتُ اللهَ ذَنْباً» ، وبأن نسبة كَوْنِ «أَنْ» في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيحٍ، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصبٍ، وتبعه الفراء، ومذهبُ الخليل: أنها في محلِّ جَرٍّ، وتبعه الكسائيُّ، وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ. وقال غيره كقوله؛ إلاَّ أنَّه قدَّر حرفَ الجرِّ «عَلَى» ، والتقدير: إلاَّ أنْ يَخَافَ الوُلاَةُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى أَلاَّ يُقِيمَا، فَبُنِيَ للمفعولِ، فقام ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ «أَنْ» فجاء فيه الخلافُ المتقدِّمُ بين سيبويه والخليل. وهذا الذي قاله ابنُ عطيةَ سَبَقَه إليه أبو عليٍّ، إلاَّ أنه لم يُنَظِّرْهُ ب «اسْتَغْفَرَ» . وقد استشكل هذه القراءةَ قومٌ وطعَنَ عليها آخَرُونَ، لا عِلمَ لهم بذلك، فقال النحَّاسُ: لا أعْلَمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحَرْفِ؛ لأنه لا يُوجِبُهُ الإِعرابُ، ولا اللفظُ، ولا المعنى. أمَّا الإِعرابُ: فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ «إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ يُقِيمُوا» ، فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه، كان ينبغي أَنْ يُقال: «إِلاَّ أَنْ يُخَافَ» .
وأمَّا اللفظُ: فإِنْ كان على لفظِ «يُخَافَا» ، وَجَبَ أن يقال: فَإِن خِيفَ، وإن كان على لفظ «خِفْتُمْ» ، وَجَب أن يقال: إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا. وأمَّا المعنى: فَأَسْتَبْعِدُ أن يُقَالَ: «وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافَ غَيْرُكُمْ» ، ولم يَقُلْ تعالى: «ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ منْهَا فدْيَةً» ، فيكون الخُلْعُ إلى السلطان، والفَرْضُ أَنَّ الخُلْعَ لا يحتاجُ إلى السلطانِ. وقد رَدَّ الناسُ على النحَّاس:(4/137)
أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ: فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله. وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ، فإنه من باب الالتفاتِ؛ كما قَدَّمْتُه أولاً، ويَلْزَمُ النَّحَّاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يقرأَ: «فَإِنْ خَافَا» ، وإِنَّما هو في القراءتَين من الالتفاتِ المستحْسَنِ في العربيةِ. وأمَّا من حيثُ المعنى: فلأنَّ الولاةَ والحكامَ هُمُ الأصلُ في رَفْعِ التظالُمِ بين الناسوهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء. ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ، بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله «إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا» . وخَطَّأَهُ الفارسيُّ وقال: «لَمْ يُصِبْ؛ لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على» أَنْ «، وفي قراءة حمزة واقعٌ على الرجُلِ والمَرْأَةِ» . وهذا الذي خَطَّأَ به الفراء ليس بشيءٍ؛ لأنَّ معنى قراءةِ عبد الله: إِلاَّ أَنْ تَخَافُوهُمَا، أي: الأولياءُ، الزوجين ألاَّ يُقيمَا، فالخوفُ واقعٌ على «أَنْ» وكذلك هي في قراءةِ حمزة الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمينِ: إمَّا على كونها بدلاً من ضميرِ الزوجين؛ كما تقدَّم تقريره، وإمَّا على حذف حرف الجرّ، وهو «على» . والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ، فتكونُ «أَنْ» في قراءةِ «غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ، أو نصبٍ؛ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ؛ إذ الأصلُ: مِنْ أَلاَّ يُقِيمَا، أو في محلِّ نصبٍ فقط؛ على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ؛ كأنه قيل: إِلاَّ أَنْ يَحْذَرَ عَدَمَ إِقَامَةِ حُذُودِ اللهِ.
والثاني: أنه بمعنى العِلْم، وهو قَوْلُ أبي عُبَيْدَة. وأنشد [الطويل]
1109 - فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ
ومنه أيضاً: [الطويل]
1110 - وَلاَ تَدْفِنَنِّي فِي الفَلاَةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا
ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعد» أَنْ «، وهذا لا يصحُّ في الآيةِ، لظهورِ النَّصْب، وأما البيتُ، فالمشهورُ في روايتِهِ» فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بأَلْفَيْ «.
والثالث: الظَّنّ، قاله الفراء؛ ويؤيِّدُهُ قراءةٌ أُبَيٍّ:» إِلاَّ أَنْ يَظُنَّا «؛ وأنشد: [الطويل](4/138)
1111 - أَتَانِي كَلاَمٌ مِنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ ... وَمَا خِفْتُ يَا سَلاَّمُ أَنَّكَ عَائِبِي
وعلى هذين الوجهين، فتكونُ «أَنْ» وما في حَيِّزها سَادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن عند سيبويه ومَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش؛ كما تقدَّم مراراً والأولُ هو الصحيحُ وذلك أَنَّ «خَافَ» مِنْ أفعالِ التوقُّع، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَين، ولذلك قال الراغب: «الخَوْفُ يُقال لِمَا فيه رجاءٌ مَّا؛ ولذلك لا يُقال: خِفْتُ أَلاَّ أَقْدِرَ على طلوعِ السماءِ، أو نَسْفِ الجبالِ» .
وأصلُ «يُقيمَا» : يُقْوِمَا، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكن قبلَها، ثم قُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لسكونها؛ بعد كسرةٍ، وقد تقدَّم تقريرُه في قوله: {الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5] .
وزعم بعضهم أنَّ قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ} معترضٌ بين قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} ، وبين قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} [البقرة: 230] ، وفيه بَعْدٌ.
قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} «لاَ» واسمُها وخبرُها، وقوله: {فِيمَا افتدت بِهِ} متعلِّقٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنَهُ الخبرُ، وهو «عَلَيْهِمَا» ، ولا جائزٌ أن يكونَ «عَلَيْهِمَا» متعلِّقاً ب «جُنَاحَ» و «فِيمَا افتدت» الخبرَ؛ لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً، والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ.
والضميرُ في «عَلَيْهِمَا» عائدٌ على الزوجَيْن، أي: لا جُنَاحَ على الزوجِ فِيمَا أَخَذَ، ولا على المَرْأَةِ فيما أَعْطَتْ، وقال الفراء: إنَّما يَعُودُ على الزوجِ فقط، وإنما أعادَهُ مُثَنى، والمرادُ واحِدٌ؛ كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] ؛ وقوله: [الطويل]
1112 - فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وإنما يخرجُ من المِلْحِ، والنَّاسي «يُوشَعُ» وحدَهُ، والمنادَى واحدٌ في قوله: «يَا بْنَ عَفَّانَ» . و «مَا» بمعنى «الذي» ، أو نكرةٌ موصوفة، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً؛ لعَوْدِ الضميرِ مِنْ «بِهِ» عليها، إلا على رَأْي مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً؛ كالأخفش وابنِ السَّرَّاج ومَنْ تابَعَهُما.
فصل
اعلم أنه - تعالى - لمَّا أَمر بأن يكون التَّسريح بإحسانٍ بين هنا أنَّ من جُملة(4/139)
الإحسان أَنَّه إذا طلَّقها لا يأخُذُ منها شيئاً، ويدخُل في هذا النَّهي ألا يُضَيِّقَ عليها ليلجئها إلى الافتداءِ؛ كما قال في سورة النساء: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] وقوله هنا: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} هو كقوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] وقال أيضاً: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 20 - 21] .
فإن قيل: قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} هذا الخِطاب كان للأَزواج، فكيف يطابقه قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وإن كان للأَئِمَّة والحُكَّام فهؤلاء لاَ يأخذون منهنّ شيئاً؟
قلنا: الأمران جائزان:
فيجُوز أن يكون أوَّلُ الآيةِ خِطَاباً للأَزْوَاجِ، وآخِرُها خِطاباً للأَئِمَّة والحُكَّامِ، وليس ذلك بغريبٍ من القُرْآن.
ويجوزُ أن يكون الخِطَابُ كُلُّه للأَئِمَّة والحُكَّام؛ لأنهم هُمُ الَّذِين يَأْمُرُون بالأَخْذِ والإِيتَاءِ عند التَّرافُع إليهم فَكَأَنَّهم هم الآخِذُون والمُؤتون، ويَدُلُّ له قراءةُ حمزة المتقدِّمة: «يُخَافَا» بضم الياءِ، أي: يعلم ذلك منهما، يعني: يعلَم القاضي والوالي ذلك من الزَّوجين، ويطابقه قوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ» فجعل الخوف لغير الزَّوجين، ولم يقل: «فإن خافا» . واعلم أنَّه لما منع الرجُل أن يأخذ من امرأَتِه شيئاً عند الطَّلاَق، استثنى هذه الصُّورة، وهي مسألة الخُلع، واختلفُوا في هذا الاستثناء؛ هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنقطع؟
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة فقهيَّة؛ وهي أن أكْثَر المجتهدين جوَّز الخُلْع في غيرِ حالة الخوفِ والغَضَبِ.
وقال الزُّهري والنَّخعي وداود: لا يباح الخُلعُ إلاَّ عند الغضب والخوف من ألاَّ يُقِيما حدود الله، فإن وقع الخُلْعُ في غيرِ هذه الحالةِ، الخُلْعُ فاسِدٌ، واحْتَجُّوا بهذه الآيةِ؛ فإنها صريحةٌ في تحريم الأخذ من الزَّوجةِ عند طلاقها، واستثني هذه الصُّورة.
وأما جمهور المجتهدين فقالوا: الخُلعُ جائزٌ في حالة الخوف وغيره؛ لقوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] وإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصِّل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت، كان الخُلع الَّذِي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى، ويكون الاستثناء منقطعاً؛ كقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} [(4/140)
النساء: 92] ، أي: لكن إن كان خطأً {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} [النساء: 92] .
فصل
ظاهر الآية يدل على اشتراط حصول الخوف للرَّجل والمرأة، فنقول: الأقسام الممكنة فيه أربعة:
إمَّا أن يكون الخوفُ من قبل المرأة فقط، أو من قبل الزوج فقط، أو لا يحصل الخوفُ من قبل واحدٍ منهما، أو يكون الخوف من قبلهما معاً، فإن حصل الخوفُ من قبل المرأةَ؛ بأن تَكُون المرأَةُ ناشزاً مُبْغِضةً للرَّجُلِ، ففهنا يَحلُّ للزَّوج أخذُ المال منها؛ ويدُلُّ عليه ما رُوي في سبب نُزُول الآية: أن جميلة بنت عبد الله بن أبي أَوفَى تَزَوَّجها ثابت بن قيسٍ بن شماس، وكانت تبعضُهُ أشدَّ البُغض، وهو يحُبُّها أشدَّ الحُبِّ، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وقالت: فَرِّق بيني وبينه فإِنِّي أبغضه، ولقد رفعت طرف الخباء فرأَيْتُه يجيءُ في أقوامٍ، فكان أقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً وأشدَّهم سواداً، وأنا أكره الكُفْر بعد الإِسلام. فقال ثابت: يا رسُول الله، فلترُدَّ عليَّ الحديقة الَّتي أعطيتها؛ فقال لها: «مَا تَقُولِين؟» قالت: نعم وأزيده فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا، حديقته فقط» ثم قال لثابتٍ: «خذ مِنْها ما أَعْطَيْتَها وخلِّ سَبِيلَهَا» ففعل، فكان أَوَّل خُلْعٍ في الإِسلام. وفي «سُنَنِ أَبِي دَاوُد» : أنّ المرأة كانت حفصة بنت سهلٍ الأنصاري.
فإن قيل: قد شرط في هذه الآيةِ خوفهُما معاً، فكيف قُلْتُم: إنَّه يكفِي حُصُولُ الخوف منها فقط.
فالجواب: أنّ هذا الخوف - وإن كان أوّله من جهة المرأة - فقد يترَتَّب عليه الخوفُ الحاصلُ من جهة الزَّوج، فإنها إذا كانت مبغض للزَّوج إذا لم تعطه، فربَّما ضربها وشتمها، وربَّمَا زاد على قدر الواجب، فحصل الخَوْف لهما جميعاً؛ أمّا من جهتها فخوفها على نفسها من عصيان اللهِ، وأمَّا من جهته، فقد يزيد على قدرِ الواجب.
فأما أن يحصل الخوف من قبل الزَّوج فقط؛ بأن يضربها أو يُؤذِيها حتى تلتزم الفِدية، فهذا المال حرامٌ؛ للآية المتقدِّمة.
وأما القِسْم الثالث: ألا يحصل الخوف من أحدٍ منهما، فقد ذكرنا أنَّ أكثر المجتهدين قال بجواز الخلع، والمالُ المأخوذ حلالٌ، وقال قوم إنه حرامٌ.
وأما إن كان الخوفُ حاصلاً منهما، فالمال حرامٌ أيضاً؛ لأن الآياتِ المتقدِّمة تدُلُّ(4/141)
على حُرمة أخذِ ذلك المَالِ، إذا كان السَّبَبُ حاصِلاً من قِبَل الزَّوج، وليس فيه تقييدٌ بأن يكون من جانب المرأة سبب أم لا؛ لأن الله - تعالى - أفرد بهذا القِسْم آية أخرى؛ وهي قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} [النساء: 35] ، ولم يذكر فيه أخذ المال، وهذا التقسيم إنما هو فيما بين المكلَّفين وبين الله - تعالى - فأمَّا في الظَّاهر، فهو جائزٌ.
فصل في قدر ما يجوز الخلع به
اختلفوا في قدر ما يجوز الخلع به:
فقال الشَّعبي والزُّهري والحسن البصري وعطاء وطاوس: لا يجوز أن يأخذ فوق ما أعطاها؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لامرأة ثاتبٍ حين قالت له: نعم، وأزيده، قال: «لا، حديقَتَهُ فَقَط» ، وهو قول عليٍّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
قال سعيد بن المُسيَّب: بل دون ما أَعطاها حتّى يكون الفضل.
وأما سائر الفقهاء فإنَّهُم جوَّزوا المخالغة بالأَزيد والأَقَلِّ والمُساوي.
فصل
قال قومٌ: الخُلع تطليقةٌ، وهو قول علي، وعثمان، وابن مسعود، والحسن والشَّعبي، والنَّخعي، وعطاء، وابن السَّائب، وشُريح، ومجاهد، ومكحول، والزُّهري وهو قول أبي حنيفة وسُفيان وأحد قولي الشَّافعي وأحد الرِّوايتين عن أحمد.
والقول الثاني للشَّافعي، وبه قال محمَّد وإسحاق وأبو ثور.
حجَّة القول الأَوَّل: أنه لو كان فسخاً، لما صَحَّ الزِّيادة على المهر المُسَمَّى كالإِقالة في البيع، ولأَنَّه لو كان فَسْخاً فإذا خالعها ولم يذكُر المهر، وجب أن يجب عليها المهر؛ كالإقالةِ في البيع، فإن الثَّمَن يجب رَدُّه وََإِنْ لم يَذْكُرْه. ولما لم يكن كذلك، ثبت أن الخُلْعَ ليس بفسخٍ، وإذا بطل ذلك، ثبت أَنَّهُ طلاقٌ.
حجة القول الثَّاني: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ولو كان الخُلْعُ طلاقاً، لكان الطَّلاَق أربعاً، وهذا الاستدلال نقله الخطَّابي في «مَعَالم السُّنَن» عن ابن عبَّاسٍ، وأيضاً أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن لثابت بن قيس في مُخالعة امرأته، ولم يستكشف هل هي حائِضٌ أو في طُهْر جامعها فيه، مع أنَّ الطَّلاق في هاتين الحالتين حرامٌ منهيٌّ عنه،(4/142)
يجب أن يستكشف عنه، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً، دلَّ على أن الخُلْع ليس بطلاقٍ.
وأيضاً روى أبو داود في «سُنَنِ» عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ: أن امرأة ثابت بن قيس لما اخْتَلَعَت، جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِدَّتها حيضَة.
قال الخطَّابي: وهذا أدلُّ شيء على أن الخُلع فسخٌ وليس بطلاقٍ؛ لأن الله - تعالى - قال: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] فلو كانت هذه طلقة، لم يقتصر على قرءٍ واحدٍ.
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} [البقرة: 221] إلى هنا.
وقوله: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} أصلُه: تَعْتَدِيُوهَا، فاسْتُثْقِلَت الضمَّةُ على الياءِ؛ فحُذِفت، فسكنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةً، فحُذِفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَينِ، وضُمَّ ما قبلَ الواو؛ لتصِحَّ، ووزنُ الكَلِمَة تَفْتَعُوها.
قال أبو العبَّاس المُقْرِي: ورد لفظ: «الاعْتِدَاء» في القُرآن بإزاء ثلاثة معانٍ:
الأول: الاعتِداء: تعدِّي المأمُورات والمنهيَّات؛ قال - تعالى -: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] .
والثاني: «الاعتِدَاء» القتل؛ قال تعالى: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] أي: من قتل بعد قبُول التَّوْبة.
الثالث: «الاعْتِداء» الجزاء؛ قال - تعالى -: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أي: جاوزهُ.
فصل
قال القرطبي: إذا اختلعت منه بِرِضاع ابنها منه حولين جاز، وفي الخُلْعِ بنفقتها على الابن بعد الحَوْلَيْن مُدَّة مَعْلُومة قولان:
أحدهما: يجوزُ؛ قاله سحنون.
والثاني: لا يجوزُ؛ رواه ابن القاسم عن مالك.
ولو اشترط على امرأته في الخُلْع نفقة حملِها، وهي لا شيء لها، فعليه النفقة إذا لم يَكُن لها مالٌ تنفق منه، فإن أيسَرت بعد ذلك رجع عَلَيْها.(4/143)
قال مالك: ومن الحقِّ أن يكلِّف الرَّجل نفقة ولده وإن اشترط على أمِّه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه.
قوله: {وَمَن يَتَعَدَّ} «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وفي خبرها الخلاف المتقدِّم.
وقوله: {فأولئك} جوابها، ولا جائزٌ أن تكون موصولةٌ، والفاء زائدة في الخبر لظهور عملها الجزم فيما بعدها، و «هُمُ» من قوله: {فأولئك هُمُ} يحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون فصلاً.
والثاني: أن يكون بدلاً.
و {الظالمون} على هذين خبر «أُولَئِكَ» والإخبار بمفردٍ.
والثالث: أن يكون مبتدأً ثانياً، و «الظالمون» خبره، والجملة خبر «أُولَئِكَ» ، والإخبار على هذا بجملةٍ.
ولا يخفى ما في هذه الجملة من التأكيد؛ من حيث الإتيان باسم الإشارة للبعيد، وتوسُّط الفصل والتعريف بالألف واللام في «الظالمون» أي: المبالغون في الظلم. وحمل أولاً على لفظ «مَنْ» ، فأفرد في قوله «يَتَعَدَّ» ، وعلى معناها ثانياً، فجمع في قوله: {فأولئك هُمُ الظالمون} .
فصل
و {حُدُودُ الله} : أوامره ونواهيه، وهي: ما منع الشرع من المجاوزة عنه، وفي المراد من «الظُّلْمِ» هنا ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: اللَّعن لقوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] .
وثانيها: أنَّ إطلاق الظلم] هنا تنبيهٌ على أن الإنسان ظلم نفسه؛ حيث أقدم على المعصية، وظلم المرأة: بتقدير ألا تتمَّ عدَّة الرجل، أو كتمت شيئاً، ممَّا خلق الله في رحمها، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف، والتَّسريح بالإحسان، أو أخذ شيئاً مما أتاها بغيرِ سببٍ من نشوزٍ، فكل هذه المواضع تكون ظُلماً للغيرِ.(4/144)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
أي: من بعد الطلاق الثالث، فلمَّا قطعت «بعدُ» عن الإضافة بنيت على الضَّمِّ؛ لما تقدَّم تقريره. و «له» و «مِنْ بعد» ، و «حتى» ثلاثتها متعلقةٌ ب «يَحِلُّ» . ومعنى «مِنْ» :(4/144)
ابتداء الغاية، واللام للتَّبليغ، وحتَّى للتعليل، كذا قال أبو حيَّان، قال شهاب الدِّين: والظَّاهر أنها للغاية؛ لأنَّ المعنى على ذلك، أي: يمتدُّ عدم التحليل له إلى أن تنكح زوجاً غيره، فإذا طلَّقها وانقضت عدَّتها منه حلَّت للأول المطلِّق ثلاثاً، ويدلُّ على هذا الحذف فحوى الكلام.
و «غيرَه» صفةٌ ل «زوجاً» ، وإن كان نكرةً، لأنَّ «غَيْرَ» وأخواتِها لا تتعرَّف بالإضافة؛ لكونها في قوَّة اسم الفاعل العامل.
و «زَوْجاً» هل هو للتقييد أو للتوطئة؟ وينبني على ذلك فائدةٌ، وهي أنه إن كان للتقييد: فلو كانت المرأة أمةً، وطلَّقها زوجها، ووطئها سيِّدها، لم تحلَّ للأول؛ لأنه ليس بزوجٍ، وإن كانت للتوطئة حلَّت؛ لأنَّ ذكر الزوج كالملغى، كأنه قيل: حتى تنكح غيره، وإنَّما أتى بلفظ «زَوْج» ؛ لأنه الغالبُ.
فإن قيل: ما الحكمة في إسناد النِّكاح إلى المرأة دون الرجل فقال {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً} ؟
فالجواب: فيه فائدتان:
إحداهما: ليفيد أنَّ المقصود من هذا النكاح الوطء، لا مجرَّد العقد؛ لأن المرأة لا تعقد عقد النكاح، بخلاف الرجل؛ فإنه يطلِّق عند العقد.
الثانية: لأنَّه أفصح، لكونه أوجز.
فإن قيل: فقد أُسند النِّكاح إلى المرأة في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» وإنما أراد العقد.
فالجواب: أن هذا يدلُّ لنا؛ لأنَّ جَعْلَ إسناد النكاح إلى المرأة، والمراد به العقد، يكون باطلاً، وكلامنا في إسناد النِّكاح الصَّحيح.
قال أهل اللُّغة: النكاح في اللغة: هو الضَّمُّ والجمع، يقال: تَنَاكَحَتِ الأشْجَارُ، إذا انضم بعضها إلى بعضٍ.
فصل
الذين قالوا: بأن التسريح بالإحسان هو الطَّلقة الثالثة، قالوا: إنَّ قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} تفسيرٌ للتسريح بالإحسان.(4/145)
واعلم أن للزَّوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية ثلاثة أحوالٍ:
إمَّا أن يراجعها، وهو المراد بقوله: «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ» .
أو يتركها؛ حتى تنقضي عدَّتها وتبين، وهو المراد بقوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ» .
والثالث: أنه إذا راجعها، وطلَّقها ثالثةً؛ وهو المراد بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} .
فهذه الأقسام الثلاثة؛ يجب تنزيل الألفاظ الثلاثة عليها؛ ليطابق كلُّ لفظٍ معناه، فأمَّا إن جعلنا التَّسريح بالإحسان، عبارةٌ عن الطَّلقة الثَّالثة، كنَّا قد صرفنا لفظتين إلى معنى واحدٍ؛ على سبيل التِّكرار، وأهملنا القسم الثالث، ومعلومٌ أنَّ الأوَّل أولى، ووقوع الخلع بين هاتين الآيتين، كالأجنبي، ونظم الآية: «الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، فإن طلَّقها فلا تحل له من بعد حتَّى تنكح زوجاً غيره» .
فإن قيل: إذا كان النَّظم الصَّحيح هو هذا، فما السبب في إيقاع الخلع فيما بين هاتين الآيتين؟
فالجواب: أنَّ الرجعة والخلع لا يصحَّان؛ إلاَّ قبل الطَّلقة الثالثة، وأمَّا بعدها، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك، فلهذا السَّبب ذكر الله حكم الرجعة، ثم أتبعه بذكر الخلع، ثم ذكر بعد الكلِّ حكم الطَّلقة الثالثة؛ لأنها كالخاتمة.
فصل في شروط حل المطلقة ثلاثاً لزوجها
مذهب الجمهور: أنَّ المطلقة ثلاثاً لا تحلُّ لزوجها؛ إلاَّ بشرُوطٍ وهي:
أن تعتدَّ منه، وتتزوَّج بغيره، ويطأها ثم يطلِّقها، وتعتدَّ من الآخر.
وقال سعيد بن جبيرٍ، وسعيد بن المسيِّب: تحلُّ بمجرد العقد.
واختلف العلماء في ثبوت اشتراط الوطء؛ هل ثبت بالكتاب، أو بالسنة؟ قال أبو مسلمٍ الأصفهانيُّ: الأمران معلومان بالكتاب.
قال ابن جنّي: سألت أبا عليٍّ عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرَّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح امرأته، أو زوجته، أراد المجامعة، وعلى هذا فالزَّوجية مقدَّمةٌ على النكاح، الذي هو الوطء، وإذا كان كذلك فقوله: {تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ، أي: تتزوَّج بزوجٍ، وينكحها، أي: يجامعها.
وروي في سبب النزول أنَّ الآية نزلت في تميمة، وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري كانت تحت ابن عمِّها، رفاعة بن وهب بن عتيك القرظيّ، فطلقها ثلاثاً، قالت عائشة: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: إني كنت عند رفاعة،(4/146)
فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنَّما معه مثل هدبة الثوب، وإنه طلَّقني قبل أن يمسَّني؛ أفأرجع إلى ابن عمِّي؟ فتبسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟ لاَ؛ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» والمراد ب «العُسَيْلَة» : الجماع، فروي أنها لبثت ما شاء الله، ثم رجعت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: إن زَوْجِي قد مَسَّنِي، فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «كَذَبْتِ فِي قَوْلِكِ الأَوَّلِ، فَلَنْ أُصَدِّقَكِ في الآخرِ» ، فلبثت حتى قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتت أبا بكرٍ، فقالت: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرجع إلى زوجيَ الأول؛ فإن زوجي الآخر قد مسني؟ فقال لها أبو بكر: قد شهدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أتيته، وقال لك ما قال؛ فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكرٍ، أتت عمر، وقالت له مثل ذلك، فقال: «لئن رجعت إليه لأَرْجُمنَّكِ» .
ولأن المقصود من توقيف الحل على اشتراط الوطء هو زجر الزوج، وإنَّما يحصل بتوقيف الحل على اشتراط الوطء، فأما مجرد العقد، فليس فيه نفرةٌ، فلا يصلح جعله زاجراً.
فصل
قال بعض العلماء: إذا طلق زوجته، واحدةً أو اثنتين ثم نكحت زوجاً آخر، فأصابها، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد، عادت على ما بقي من طلاقها.
وقال أبو حنيفة: بل يملك عليها ثلاثاً، كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث.
فصل هل يلحق المختلعة الطلاق
قال القرطبيُّ: استدلَّ بعض الحنفية بهذه الآية، على أنَّ المختلعة يحلقها الطلاق؛ لأنَّ الله شرع صريح الطلاق بعد المفاداة، لأن «الفَاءَ» حرف تعقيبٍ، فيبعد أن يرجع إلى قوله: «الطَّلاقُ مرَّتَانِ» ؛ لأنَّ الأقرب عوده إلى ما يليه، كالاستثناء.
فصل
لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ.(4/147)
قال القرطبيُّ: ومدار التحليل على الزوج سواء شرط التحليل، أو نواه، فمتى كان ذلك فسد نكاحه.
فصل
قال القرطبيُّ: وطءُ السيِّد لأمته التي طلقها زوجها، لا يحلّها؛ إذ ليس بزوجٍ وكذلك النكاح الفاسد.
فصل
قال القرطبيُّ: سئل سعيد بن المسيَّب، وسليمان بن يسار، عن رجل زوَّج عبداً له، جاريةً له، فطلَّقها العبد البتَّة، ثم وهبها سيِّدها له، هل تحل له بملك اليمين؟
فقالا: لا تَحِلُّ له، حتى تَنْكِحَ زوجاً غيره.
فصل
سئل ابن شهاب، عن رجلٍ كانت تحته أَمةٌ مملوكةٌ فاشتراها، وقد كان طلقها واحدةً؛ فقال: تحل له بملك يمينه، ما لم يبت طلاقها، فإن بتَّ طلاقها، فقال: لا تحلُّ له، حتى تنكح زوجاً غيره.
فإن قيل: إذا طلَّق المسلم الذمية ثلاثاً؛ فتزوجت بعده ذمياً، ودخل بها، حلت للأول؛ لأن الذِّمي زوجٌ.
قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الضمير المرفوع عائدٌ على «زوجاً» النكرة، أي: فإن طلَّقها ذلك الزوج الثاني، وأتى بلفظ «إِنْ» الشرطية دون «إذا» ؛ تنبيهاً على أنَّ طلاقه يجب أن يكون باختياره، من غير أن يشترط عليه ذلك؛ لأنَّ «إذا» للمحقق وقوعه و «إِنْ» للمبهم وقوعه، أو المتحقِّق وقوعه المبهم زمان وقوعه؛ نحو قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] .
قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} الضمير في «عليهما» يجوز أن يعود على المرأة، والزوج(4/148)
الأول المطلَّق ثلاثاً، أي: فإن طلَّقها الثاني، وانقضت عدَّتها منه، فلا جناح على الزوج المطلِّق ثلاثاً، ولا عليها؛ أن يتراجعا.
وهذا يؤيد قول من قال: إن الرجل إذا طلق زوجته طلقةً أو طلقتين، فتزوجت غيره، وأصابها، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديدٍ، أنَّها تعود على ما بقي من طلاقها؛ لأنه سمَّى هذا العود بعد الطلاق الثلاث رجعةً، فبعد طلقةٍ وطلقتين أولى بهذا الاسم، وإذا ثبت هذا الاسم، كان رجعةً، والرجعية تعود على ما بقي من طلاقها. ويجوز أن يعود عليها، وعلى الزوج الثاني، أي: فلا جناح على المرأة ولا على الزوج الثاني، أن يتراجعا ما دامت عدَّتها باقيةً، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف تلك الجملة المقدَّرة، وهي «وانْقَضَتْ عِدَّتُها» ، وتكون الآية قد أفادت حكمين، أحدهما: أنها لا تحلُّ للأول؛ إلاَّ بعد أن تتزوج بغيره، والثاني: أنه يجوز أن يراجعها الثاني، ما دامت عدَّتها منه باقيةً، ويكون ذلك دفعاً لوهم من يتوهَّمُ أنها إذا نكحت غير الأول حلَّت للأول فقط، ولم يكن للثاني عيها رجعةٌ.
وهو الذي عوَّل عليه سعيد بن المسيَّب في أنَّ التحليل يحصل بمجرد العقد؛ لأن الوطء لو كان معتبراً، لكانت العدة واجبةً، وهذه الآية تدل على سقوط العدَّة؛ لأن «الفَاءَ» في قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} يدلُّ على أنَّ حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني، إلاَّ أنه يجاب بأنَّ هذا المخصوص بقوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] .
قوله: {أَن يَتَرَاجَعَآ} ، أي: «في أَنْ» ، ففي محلِّها القولان المشهوران: قال الفراء: موضعهما نصبٌ بنزع الخافض، وقال الكسائي، والخليل: موضعهما خفضٌ بإضمار، و «عليهما» خبر «لا» ، و «في أن» متعلِّقٌ بالاستقرار، وقد تقدَّم أنه لا يجوز أن يكون «عليهما» متعلقاً ب «جُناح» ، والجارُّ الخبر، لما يلزم من تنوين اسم «لا» ؛ لأنه حينئذٍ يكون مطوَّلاً.
قوله: {إِن ظَنَّآ} شرطٌ جوابه محذوفٌ عند سيبويه لدلالة ما قبله عليه، ومتقدِّم عند الكوفيين وأبي زيد. والظَّنُّ هنا على بابه من ترجيح أحد الجانبين، وهو مقوِّ أن الخوف المتقدِّم بمعنى الظَّنِّ. وزعم أبو عبيدة وغيره أنه بمعنى اليقين، وضعَّف هذا القول الزمخشري لوجهين، أحدهما من جهة اللفظ وهو أنَّ «أَنْ» الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففة منها، لا تقول: علمت أنَّ يقوم زيدٌ، إنما تقول: علمت أنْ يقوم زيدٌ. والثاني من جهة المعنى: فإنَّ الإنسان لا يتيقَّن ما في الغد وإنما يظنُّه ظناً.(4/149)
قال أبو حيان: أمَّا ما ذكره من أنه لا يقال: «علمت أنَّ يقومَ زيد» فقد ذكره غيره مثل الفارسي وغيره، إلاَّ أن سيبويه أجاز: «ما علْتُ إلا أن يقومَ زيدٌ» فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي. قال بعضهم الجمع بينهما أنَّ «عَلِمَ» قد يراد بها الظَّنُّ القويُّ كقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] ، وقوله: [الوافر]
1113 - وَأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرَ ظَنِّ ... وتَقْوَى اللهِ مِنْ خَيْرِ العَتَادِ
فقوله: «علمَ حق» يفهم منه أنه قد يكون علم غير حق، وكذا قوله «غيرِ ظَنٍّ» يفهم منه أنه قد يكون علمٌ بمعنى الظن. وممَّا يدلُّ على أنَّ «عَلِمَ» التي بمعنى «ظَنَّ» تعمل في «أَنْ» الناصبة، فليس بوهم من طريق اللفظ كما ذكره الزمخشري.
وأمَّا قوله: «لأنَّ الإنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ» فليسَ كما ذكر، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرةً واقعةً في الغد ويجزم بها «قال شهاب الدين: وهذا الردُّ من الشيخ عجيبٌ جداً، كيف يقال في الآية: إنَّ الظن بمعنى اليقين، ثم يجعل اليقين بمعنى الظن المسوغ لعلمه في» أَنْ «الناصبة. وقوله:» لأنَّ الإنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد «مُسَلَّمٌ، لكن ليس هذا منها.
وقوله: {أَن يُقِيمَا} إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولين، أو الأول والثاني محذوفٌ، على حسب المذهبين المتقدمين.
فصل
كلمة» إن «في اللغة للشرط، والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فظاهر الآية يقتضي: أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة وليس الأمر كذلك؛ فإنَّ جواز المراجعة ثابتٌ، سواءٌ حصل هذا الظنُّ، أو لم يحصل، إلاَّ أنا نقول: ليس المراد أنَّ هذا شرطٌ لصحة المراجعة؛ بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنِّكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى، وقصد الإقامة لحدود الله.
قال طاوسٌ: إن ظنَّ كلٌّ واحدٍ منهما، أنه يحسن عشرة صاحبه.
وقيل: حدود الله: فرائضه، أي إذا علما أنه يكون منهما الصلاح بالنكاح الثاني.(4/150)
فمتى علم الزوج أنه يعجز بنفقة زوجته، أو صداقها، أو شيءٍ من حقوقها الواجبة عليه؛ فلا يحلُّ له أن يتزوجها؛ حتى يبيِّن لها. وكذلك لو كانت تعلم أنها تمنعه من الاستمتاع، كان عليها أن تبين.
وكذلك لا يجوز له أن يغرَّها بنسبٍ يدعيه، ولا مال له، ولا صناعة يذكرها، وهو كاذبٌ، وكذلك لو كان بها علةٌ، تمنع من الاستمتاع من جنونٍ، أو جذامٍ، أو بَرَصٍ، أو داءٍ في الفرج؛ لم يجز لها أن تغرَّه، وعليها أن تبيِّن له ما بها، كما يجب على بائع السِّلعة. وكان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - تزوج امرأة، فوجد بكشحها برصاً؛ فردَّها، وقال:» دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ «.
فصل هل على الزوجة خدمة الزوج؟
نقل القرطبيُّ عن ابن خويزمنداد قال: اختلف أصحابنا: هل على الزوجة خدمة الزوج؟
فقال بعضهم: ليس عليها خدمته؛ لأن العقد إنما يتناول الاستمتاع، لا الخدمة؛ قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] .
وقال بعضهم: عليها خدمة مثلها؛ فإن كانت شريفة المحلِّ، فعليها التدبير للمنزل، وإن كانت متوسطة الحال، فعليها أن تفرش الفراش، ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك، فعليها أن تَقُمَّ البيت، وتطبخ، وتغسل، وإن كانت من نساء الكرد، والدّيلم والجبل في بلدهن كلِّفت ما تكلف نساؤهم المسلمين من ذلك؛ قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} [البقرة: 228] .
قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} » تلكَ «إشارةٌ إلى ما بينهما من التَّكاليف.
«يُبَيِّنُهَا» في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في محلِّ رفعٍ، خبراً بعد خبرٍ، عند من يرى ذلك.
والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال، وصاحبها «حدود الله» والعامل فيها اسم الإشارة.
وقرئ: «نبيِّنها» بالنون، ويروى عن عاصمٍ، على الالتفات من الغيبة إلى التكلم؛ للتعظيم.(4/151)
فإن قيل: «تلك» إشارةٌ إلى ما بيَّنه من التكاليف؛ وقوله: «نُبَيِّنُهَا» إشارة إلى الاستقبال، والجمع بينهما متناقضَ!
فالجواب: أنَّ هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامةٌ، لا يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرة، وأكثر تلك المخصِّصات إنَّما عرفت بالسُّنَّة، فكأنه قال: إن هذه الأحكام التي تقدمت، هي حدود الله، وسيبينها الله تعالى كمال البنيان، على لسان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو كقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
وقيل: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} يعني: ما تقدَّم ذكره من الأحكام يبيِّنها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب، وبعث الرسل؛ ليعلموا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه.
و «لقوم» متعلِّقٌ ب «يُبَيِّنُهَا» ، و «يعلمون» في محل خَفْض صفةً ل «قوم» ، وخص العلماء بالذكر؛ لأنَّهم هم المنتفعون بالبيان دون غيرهم، وقيل: خصَّهم بالذّكر لقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] وقيل: عنى به العرب؛ لعلمهم باللسان.
وقيل: أراد من له علمٌ، وعقلٌ؛ كقوله: {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43] والمقصود أنه لا يكلف إلاَّ عاقلاً، عالماً بما يكلِّف.(4/152)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} : شرطٌ، جوابه {فَأَمْسِكُوهُنَّ} ، وقوله: {فَبَلَغْنَ} عطفٌ على فعل الشرط، والبلوغ: الوصول إلى الشيء: بلغه يبلغه بلوغاً؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
1115 - وَمَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ ... دِيَارَ العَدُوِّ ذِي زُهَاءٍ وَأَرْكَانِ
ومنه: البلغة، والبلاغ: اسم لما يتبلَّغ به.
قوله تعالى: «بمعروفٍ» في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبها: إمَّا الفاعل أي: مصاحبين للمعروف، أو المفعول، أي: مصاحباتٍ للمعروف.
قوله: {ضِرَاراً} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل الضِّرار.(4/152)
والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، أي: حال كونكم مضارِّين لهنَّ.
قوله: {لِّتَعْتَدُواْ} هذه لام العلّة، أي: لا تضارُّوهنَّ على قصد الاعتداء عليهن، فحينئذٍ تصيرون عصاةً لله تعالى، وتكونوا معتدين؛ لقصدكم تلك المعصية.
وأجاز أبو البقاء: أن تكون لام العاقبة، أي: الصيرورة، كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] ، وفي متعلقها وجهان:
أحدهما: أنه {لاَ تُمْسِكُوهُنَّ} .
والثاني: أنه المصدرُ، إنْ قلنا: إنه حالٌ، وإنْ قُلْنَا: إنه مفعولٌ من أجله، تعلَّقت به فقط؛ وتكون علةً للعلة؛ كما تقول: «ضربتُ ابني؛ تأديباً؛ لينتفع» ، فالتأديب علةٌ للضرب، والانتفاع علةٌ للتأديب، ولا يجوز أن تتعلَّق - والحالة هذه - ب «لا تُمْسِكُوهُنَّ» .
و «تَعْتَدُوا» منصوبٌ بإضمار «أنْ» وهي وما بعدها في محلِّ جر بهذه اللام، كما تقدَّم تقريره، وأصل «تَعْتَدُوا» : تَعْتَدِيُوا، فأُعِلَّ كنظائره.
قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} أدغم أبو الحارث، عن الكسائي، اللام في الذال، إذا كان الفعل مجزوماً كهذه الآية، وهي في سبعة مواضع في القرآن: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 331] في موضعين، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً} [النساء: 30] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله} [النساء: 114] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} [المنافقون: 9] . وجاز لتقارب مخرجيهما، واشتراكهما في: الانفتاح، والاستفال، والجهر.
وتحرَّز من غير المجزوم نحو: يفعل ذلك. وقد طعن قومٌ على هذه الرواية، فقالوا: لا تصحُّ عن الكسائي؛ لأنها تخالف أصوله، وهذا غير صواب.
فصل في سبب النزول
هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار يدعى: ثابت بن يسارٍ، طلّق امرأته، حتى إذا قارب انقضاء عدّتها، راجعها، ثمَّ طلَّقها؛ يقصد مضارَّتها.
فإن قيل: ذكر هذه الآية بعد قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] تكريرٌ لكلامٍ واحدٍ، في موضوعٍ واحدٍ، من غير زيادة فائدةٍ، وهو لا يجوز؟!(4/153)
فالجواب: أمَّا على قول أصحاب أبي حنيفة، فالسؤال ساقطٌ عنهم؛ لأنهم حملوا قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] على أن الجمع بين الطلقات غير مشروعٍ، وإنَّما المشروع هو التفريق، فإن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق، وهذه في بيان كيفية المراجعة.
وأمَّا على قول أصحاب الشافعي، الذين حملوا تلك الآية على كيفية المراجعة، فلهم أن يقولوا: إنَّ من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهمَّ، أن يعيد بعد ذلك الحكم العامِّ تلك الصورة الخاصَّة مرَّةً أخرى؛ ليدلَّ ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام، ما ليس في غيرها، وها هنا كذلك؛ لأن قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فيه بيان أنه لا بدَّ في مدّضة العدَّة من أحد هذين الأمرين، ومن المعلوم أنَّ رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة، أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبله؛ لأن أعظم أنواع الإيذاء، أن يطلقها، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل؛ حتى تبقى في العدة تسعة أشهرٍ، فلمَّا كان هذا أعظم أنواع المضارة، حسن إعادة حكم هذه الصورة، تنبيهاً على أنّض هذه الصورة أعظم اشتمالاً على المضارة، وأولى بأن يحترز المكلف عنها.
فصل في معنى الإمساك بالمعروف
قال القرطبيُّ: الإمساك بالمعروف، هو القيام بما يجب لها من حقٍّ على زوجها؛ وكذلك قال جماعةٌ من العلماء: إنَّ من الإمساك بالمعروف أنَّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة، أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حدِّ المعروف، فيطلِّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاَّحق بها؛ لأن في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، ضرراً، والجوع لا يصبر أحدٌ عليه، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة، وأبو ثور، وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول عمر، وعلي، وأبي هريرة.
وقال سعيد بن المسيَّب: إنَّ ذلك سنةٌ، ورواه أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقالت طائفةٌ: لا يفرٌَّ بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلّق النفقة بذمَّته، بحكم الحاكم؛ لقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
وحجّة الأوَّلين الآية، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «تقول المرأة إمَّا أَنْ تُطْعِمني وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي» رواه البخاري في «صحيحه» .(4/154)
فصل
قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} إشارةٌ إلى المراجعة، واختلف العلماء في كيفيتها؛ فقال الشَّافعيُّ: لما لم يكن النكاح والطلاق إلاَّ بكلامٍ، لم تكن الرجعة - أيضاً - إلاَّ بكلامٍ.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد: تصحُّ بالوطء.
حجة الشافعي: أنَّ ابن عمر طلَّق زوجته، وهي حائض؛ فسأل عمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك، فقال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» فأمره - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالمراجعة في تلك الحال. والوطء في زمن الحيض لا يجوز. وقد يجاب عن هذا؛ بأنَّنا لم نخصَّ الرجعة في الوطء، بل قد يكون في صورةٍ بالوطءِ، وفي صورة بالقول.
وحجَّة أبي حنيفة، قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أمرٌ بمجرد الإمساك، والوطء إمساكٌ، فوجب أن يكون كافياً.
فإن قيل: إنه تعالى أثبت حقَّ المراجعة عند بلوغ الأجل، وبلوغ الأجل وهو عبارةٌ عن انقضاء العدَّة، لا يثبت حقَّ المراجعة.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ المراد مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ؛ كقول الرجل إذا قارب البلد: «قد بلغنا» ، وقول الرجل لصاحبه: «إذا بلغتَ مكَّةَ، فاغْتَسلْ بِذِي طُوى» يريد مشارفة البلوغ، لا نفس البلوغ، وهو من باب مجاز إطلاق اسم الكلِّ على الأَكْثر.
الثاني: الأَجَل اسمٌ للزمان، فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمانٍ يمكن إيقاع الرجعة فيه، بحيث إذا مات، لا يبقى بعده إمكان الرجعة على هذا، فلا حاجة إلى المجاز
فإن قيل: لا فرق بين قوله: «أَمسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» ، وبين قوله: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} ؛ لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه، فما فائدة التكرار؟(4/155)
فالجواب: الأمر لا يفيد إلاَّ مرةً واحدةً؛ فلا يتناول كلَّ الأوقات؛ أمَّا النهيُ فإنه يتناول(4/156)
كلَّ الأوقات، فلعلَّه يمسكها بالمعروف في الحال، ولكن في قلبه أن يضارَّها في الزمان المستقبل، فلما قال: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} انْدَفَعَتْ الشبهات، وزالت الاحتمالات.
فصل في بيان معنى الضرار
و «الضرار» : هو المضارَّةُ؛ قال تعالى: {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً} [التوبة: 107] ، ومعناه راجعٌ إلى إثارة العداوة، وإزالة الألفة، وإيقاع الوحشة؛ وذكر المفسرون فيه وجوهاً:
أحدها: ما تقدَّم في سَببِ نُزولِ الآيةِ من تطويلِ العِدَّةِ تسعة أشْهُرٍ، فأكثر.
ثانيها: «الضرارُ» سوء العشرة.
وثالثها: تضييق النفقة، وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال؛ لكي تختلع المرأة عنه بمالها.(4/157)
قوله تعالى: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فيه وجوه:
أحدها: ظلم نفسه؛ بتعريضها للعذاب.
وثانيها: ظلم نفسه؛ بأن فوَّت عليها منافع الدنيا والدِّين:
أمَّا منافع الدنيا: فإنَّه إذا اشتهر بين الناس بهذه المعاملة القبيحة فلا يرغب أحدٌ في تزويجه، ولا معاملته.
وأما منافع الدِّين فتضييعه للثواب الحاصل على حسن عشرة الأهل، والثواب على الانقياد لأحكام الله تعالى.
قوله: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً} فيه وجوه:
أحدها: أنَّ من أمر بشيء، فلم يفعله بعد أن نصَّب نفسه منصب الطائعين، يقال: إنه استهزأ بذلك الأمر ولعب به؛ فعلى هذا يكون المراد أنَّ من وصلت إليه هذه التكاليف المتقدمة من العدَّة، والرَّجعة، والخلع، وترك المضارَّة، ويسأم لأدائها يكون كالمستهزئ بها، وهذا تهديدٌ عظيمٌ للعصاة من أهل الصلاة، وغيرهم.
وثانيها: ولا تتسامحوا في تكاليف الله تعالى، ولا تتهاونوا بها.
وثالثها: قال أبو الدَّرداء: كان الرجل يطلِّق في الجاهلية، ويقول: «طَلَّقْتُ، وَأَنَا لاَعِبٌ» ويعتق، وينكح، ويقول مثل ذلك؛ فنزلت هذه الآية، فقرأها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: «مَنْ طَلَّقَ، أَوْ حَرَّرَ، أَوْ نَكَحَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لاَعِبٌ فَهو جدٌّ» .
وروى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «ثَلاَثٌ جَدُّهُنَّ جدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جدٌّ؛ الطَّلاَقُ وَالنِّكَاحُ وَالعتَاقُ» .
ورابعها: قال عطاءٌ: معناه أنَّ المستغفِر من الذنبِ إذا كان مُصرّاً عليه، أو على غيره، كان مُسْتهزئاً بآيات الله تعالى.
وقال مالكٌ في «الموطأ» : بلغنا أَنَّ رجُلاً قال لابن عبَّاسٍ: إني طلقتُ امرأَتي مائةَ مَرَّةٍ، فماذا ترى؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: طُلِّقَتْ منك بثلاثٍ؛ وسَبْعٌ وتسعون اخذت آياتِ الله هُزُواً.(4/158)
والأَقربُ هو الأَوَّلُ؛ لأنه تهديد بعد ذكرِ تكاليفَ، فيكون تهدِيداً عليها، لا على غيرها. ولمَّا رَغَّبهم في أداءِ التكاليف بالتهديد، رغبهم - أيضاً - بذكر نعمِهِ عليهم في الدنيا والدين، فقال: «واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم» أي: بالإسلام، وبيان الأَحكام. ويجوز في «عليكم» وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بنفسِ «المنعة» ، إن أريدَ بها الإِنعامُ؛ لأنها اسمُ مصدرٍ؛ كنباتٍ من أَنْبَتَ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ؛ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله: [الطويل]
1116 - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ
فأعملَ «رهبةٌ» في «عِقَابَكَ» ، وإنما المحذُورُ أن يعمل المصدرُ الذي لاَ يُبنَى عليها، نحو: ضربٌ وضَرْبَةٌ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله: [الطويل]
1117 - يُحايي بِهِ الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ ... بِضَربَةِ كَفَّيْهِ الْمَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ
بأنَّ المَلاَ، وهو السرابُ، منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ لا بضربةٍ.
والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من «نِعْمَة» إنْ أريد بها المُنْعَمُ به، فعلى الأول تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً؛ إذ هي فاعلةٌ به، وعلى الثاني في محلِّ جرٍّ لفظاً وتقديراً.
قوله: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} يجوزُ في «ما» وجهان:
أحدهما: أن تكونَ في محلِّ نصب؛ عطفاً على «نعمة» ، أي: اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم، فعلى هذا يكون في قوله: «يَعِظُكُم» حالاً، وفي صاحبها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه الفاعلُ: في «أنزل» وهو اسمُ الله تعالى، أي: أنزله واعظاً به لكم.
والثاني: أنه «ما» الموصولةُ، والعاملُ في الحالِ: اذكروا.
والثالث: أنه العائد على «ما» المحذوفُ، أي: وما أنزلهُ موعوظاً به، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ «أَنْزَلَ» .
والثاني: من وَجْهي «ما» : أَنْ تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء، ويكونَ «يَعِظُكُم» على هذا في محل رفعٍ؛ خبراً لهذا المبتدإِ، أي: والمُنَزَّلُ عليكم موعوظٌ به. وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ.(4/159)
قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلِّقٌ ب «أَنْزَلَ» و «من الكتابِ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ، وفي صاحبِهِ وجهان:
أحدهما: أنه «ما» الموصولةُ.
والثاني: أنه عائدُها المحذوفُ، إذ التقديرُ: أنزله في حالِ كونِهِ من الكتابِ.
و «مِنْ» يجوز أن تكونَ تَبْعِيضِيةٌ، وأَنْ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك.
والضمير في «به» يعودُ على «ما» الموصولةِ «.
والمرادُ من» الكِتابِ «: القرآنُ، ومن» الحِكْمَةِ «:» السُّنَّةُ «. يَعظُكُمْ بِهِ أي: يخوفكم به، ثم قال: {واتقوا الله} أي: في أَوَامرِه، ولا تُخالِفُوه في نواهيه، {واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .(4/160)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
الكلامُ في صدرِ هذه الآية كالتي قبلها، إلاَّ أنَّ الخِطابَ في: «طَلَّقتم» للأزواجِ، وفي: «فَلاَ تعضُلُوهُنَّ» للأولياء؛ لأنه يروَى في سبب نُزُولِ هذه الآيةِ وجهان:
الأول: أَنَّ معقل بن يسار زوَّج أخته جميل بن عبد الله بن عاصمٍ، وقيل: كانت تحت أبي الدَّحْدَاحِ عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها، ثم تركها حتى انقضَتْ عدَّتها، ثم ندم؛ فجاء يخطبُها، فقال: زوجتُك، وفرشتُك، وأكرمتُك؛ فطلقتها ثم جئت تخطِبُها؟! لا والله، لا تعود إليك أبداً، وكانت المرأةُ تُرِيدُ أَنْ ترجع إليه، فقال لها معقل: إنه طلَّقكِ ثُمَّ تريدين مراجعته؟ وجهي مِنْ وَجْهِك حرامٌ، إنْ راجعته؛ فأنزل اللهُ هذه الآيةَ، فدعا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معقل بن يسار، وتلا عليه الآيةَ، فقال: رغم أنْفِي لأَمْرِ(4/160)
رِبِّي، اللَّهُمّ رضيتُ، وسلّمْتُ لأَمْرك، وأَنكح أُخْتَه زوْجَها.
الثاني: روَى مجاهد، والسدي: أَنَّ جابر بن عبد الله، كانت له ابنةُ عَمٍّ فطلقها زَوْجُها، وأراد رجعتها بعد العِدّة؛ فأَبَى جابر؛ فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآيةَ، وكان جابرٌ يقولَ: فِيَّ نزلت هذه الآيةُ.
وقيل: الخطابُ فيهما للأزواج، ونُسِبَ العَضْلُ إليهم؛ لأنهم كذلك كانوا يفعلون، يُطَلِّقُونَ، ويأْبَونَ أن تتزوج المرأَةُ بعدَهم؛ ظلماً وقهراً.
قوله: {أَزْوَاجَهُنَّ} مجازٌ؛ لأنه إذا أُريد به المطلَّقون، فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يؤولون إليه. قال ابن الخطيب: وهذا هو المختارُ؛ لأن قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} شرطٌ، والجزاءُ قوله: «فلا تَعْضُلُوهُنَّ» والشرطُ خطابٌ مع الأزواجِ، فيكون الجزاءُ خِطَاباً معهم أيضاً؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لصار تقديرُ الآيةِ: إذا طلقتم النساء أَيُّها الأزواج، فلا تعضُلُوهُنَّ أيها الأولياءُ، وحينئذٍ لا يكونُ بين الشرطِ والجزاءِ مناسبةٌ أصلاً، وذلك يُوجِبُ تفكيك نظم الآيةِ، وتنزيه كلام اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عن مثل هذا، واجبٌ. ثم يتأكدُ بوجهين آخرين:
الأول: أَنَّه من أَوَّل آية الطَّلاق إلى هذا الموضع، خطابٌ مع الأزواجِ، ولم يجرِ للأولياءِ ذِكْرٌ أَلْبَتَّة، وصرفُ الخِطَابِ إلى الأَولياءِ خِلاَفُ النَّظْمِ.
الثاني: أَنَّ ما قبل هذه الآيةِ خطابٌ مع الأَزواجِ في كيفيةِ مُعاملتهم مع النساءِ بعد انقضاءِ العِدَّة، فكان صَرْفُ الخِطابِ إلى الأزواجِ، أولى؛ لأنه تَرتيبٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ.
واستدلَّ الأولُونَ بما تقدَّمَ مِنْ سَبب النزولِ.
ويمكِنُ الجوابُ عنه من وجهين:
الأول: أَنَّ المحافظة على نظمِ كَلاَمِ الله - تعالى -، أَوْلى من المحافظة على خبر الواحِدِ.(4/161)
الثاني: أَنَّ الرَّوايتين في سبب النزولِ تَعَارَضَتَا؛ فَرُوِيَ أَنَّ معقل كان يقولُ: فِيّ نزلت هذه الآية، وجابرٌ كان يقولُ فيّ نزلت، وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا فبقي ما ذكرناه من التَّمَسك بنظم كَلاَمِ الله - تعالى - سليماً عن المعارِضِ، وفي هذه الاستدلالِ نظرٌ، ولا تعارُضَ بين الخبرين؛ لأن مدلولَهُمَا واحدٌ.
واحتجوا أيضاً بأن هذه الآيةَ لو كانت خطاباً مع الأزواج، فلا تخْلُوا إِمَّا أَنْ تكونَ خِطَاباً معهم قبل انقضاءِ العِدَّةِ، أو بعد انقضائِها.
والأولُ باطل؛ لأنَّ ذلك مستفادٌ من الآيةِ الأُولَى، فلما حملنا هذه الآيةَ على هذا المعنى، كان تكراراً من غير فائدةٍن وأيضاً فقد قال تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف} فنهى عن العضل حال حُصُولِ التراضي، ولا يحصلُ التراضِي بالنكاح، إلاَّ بعد التصريح بالخطبة ولا يجوزُ التصريح بالخطبة إلاَّ بعد انقضاء العِدَّة، وقال تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} [البقرة: 235] .
والثاني - أيضاً - باطلٌ؛ لأنَّ بعد انقضاءِ العدَّةِ، ليس للزوج قدرةٌ على عضلِ المرأة، فكيف يُصْرفُ هذا النهي إليه؟!
ويمكنُ أن يُجابَ: بأن الرجل يمكن أَنْ يَكُونَ بحيثُ يشتد نَدَمُه على مفارقَةِ المرأة، بعد انقضاءِ عدَّتها، وتلحقُه الغيرة، إذا رأى مَنْ يخطبُها، وحينئذٍ يعضلها عن من يَنْكِحها، إِمَّا بأن يجحد الطلاق، أو يَدَّعي أنه كان راجعها في العدَّة، أو يدس إلى مَنْ يخطبها بالتهديد والوعيد، أو يسيء القول فيها: بأنْ ينسبها إلى أمورٍ تُنَفِّر الرجال عنها، فَنَهَى اللهُ تعالى الأزواج عن هذه الأَفعالِ، وعرَّفَهم أن تركها أزكَى، وأطهر، من دنسِ الآثام.
واحتجوا - أيضاً - بقوله تعالى: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} قالوا: معناه: ولا يَمْنَعُوهن أَنْ يَنْكِحْنَ الذين كانوا أزواجاً لهُنَّ قبل ذلك، وهذا الكلامُ لا ينتظِمُ إلاَّ إذا جعلنا الآيةَ خطاباً للأولياءِ.
ويمكن الجوابُ: بأنَّ معنى قوله: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} أن يَنكحنَ مَنْ يُرِدْنَ أن يتزوَّجنَه، فيكونون أزواجاً لهن والعربُ تسمي الشَّيْءَ بما يَؤُول إليه.
[وقيل: الخِطَابُ فيهما للأَولياء، وفيهِ بُعْدٌ؛ من حيثُ إنَّ الطلاقٌ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيدٍ، وهو أنْ جَعَلَ تَسَبُّبَهُمْ في الطَّلاقِ طَلاَقاً] والفاءُ في {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} جوابث «إذا» .
والعَضْلُ: قيل: المَنْعُ، ومنه: «عَضَلَ أَمَتَهُ» ، مَنَعَها من التزوُّجِ، يَعْضلُها بكسر العينِ وضَمِّها؛ قال ابن هرمزٍ: [الوافر](4/162)
1118 - وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي ... كَرَائِمُ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ
وقال: [الطويل]
1119 - وَنَحْنُ عَضَلْنَا بِالرِّمَاحِ نِسَاءَنَا ... وَمَا فِيكُمُ عَنْ حُرْمَةِ اللهِ عَاضِلُ
ومنه: «دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ» ، أي: احتبسَ بَيْضُها، وقيل: أَصلهُ الضِّيقُ؛ قال أوس: [الطويل]
1120 - تَرَى الأَرْضَ مِنَّا بِالْقَضَاءِ مَرِيضَةٌ ... مُعَضَّلَةٌ مِنَّا بِجَيْشٍ عَرَمْرَمِ
أي: ضَيِّقة بِهم، وعَضَلَتِ المَرْأَة، أي: نَشَبَ وَلَدُها في بَطْنِهَا، وكذلك عضلت الشَّاةُ، وأَعْضَلَ الدَّاءُ الأَطِبَّاء: إِذَا أَعياهُمْ، ويُقَالُ: دَاءٌ عُضَالٌ، أي: ضَيِّقُ العِلاج؛ وقالت ليلى الأخيلية: [الطويل]
1121 - شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ العُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاهَا
والمُعْضِلاتُ: المُشْكِلاَتُ؛ لضِيق فَهْمِها؛ قال الشافعيُّ: [المتقارب]
1122 - إِذَا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي ... كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ
قوله تعالى: {أَن يَنكِحْنَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في «تَعْضُلُوهُنَّ» بدلُ اشْتِمالٍ، فيكون في محلِّ نصب، أي: فلا تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ.
والثاني: أَنْ يَكُونَ على إسقاط الخافِضِ، وهو إمَّا «مِنْ» ، أو «عَنْ» فيكونُ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهُورانِ: أعني مذهب سيبويه، ومذهب الخليل. و «يَنْكِحْنَ» مضارعُ «نَكَحَ» الثّلاثيّ، وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه؛ لأنَّ لامَه حرف حَلقٍ.
قوله: {إِذَا تَرَاضَوْاْ} في ناصبِ هذا الظَّرْفِ وجهان:
أحدهما: «ينكِحْنَ» أي: أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التَّراضِي.
والثاني: أَنْ يكونَ «تَعْضُلُوهنَّ» أي: لا تعضُلوهنَّ وقتَ التَّراضِي، والأولُ أظهرُ. و «إذا» هنا مُتَمحِّضَة للظرفيةِ. والضميرُ في «تراضَوا» يجوزُ أَنْ يَعُودَ إلى الأوْلياءِ وللأزواج، وأَنْ يَعُودَ على الأَزْوَاجِ والزوجاتِ، ويكونُ مِنْ تَغْلِيبِ المذكرِ على المؤنثِ.
قوله: {بَيْنَهُمْ} ظرفُ مكانِ مجازيّ، وناصبُه «تراضَوا» .(4/163)
قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلقٌ بتراضَوا، أي: تَرَاضَوا بما يَحْسُن مِنَ الدِّينِ والمروءَةِ.
والثاني: أن يتعلَّق ب «يَنْكِحْنَ» فيكون «ينكِحْنَ» ناصباً للظرفِ، وهو «إِذا» ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً.
والثالث: أَن يتعلَّق بمحذوفٍ على أَنَّه حالٌ من فاعل تَرَاضَوا.
والرابع: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، دلَّ عليه الفعلُ، أي: تراضياً كائناً بالمعروف.
فصل
تمسّكَ بهذه الآيةِ مَنْ يشترط الوَلِيَّ في النكَاحِ؛ بناءَ على أَنَّ الخطاب في هذه الآية للأولياء، قال: لأَنَّ المرأة لو كانت تُزوِّج نفسها، أَوْ تُوكِّلُ مَنْ يُزوِّجها، ما كان الوليُّ قادراً على عضلها من النِّكاح، ولو لم يكن قادراً على العضلِ لما نهاهُ اللهُ عن العضل وقد تقدم ما فيه من البحث، وإِنْ سلم، فلم لا يجوزُ أَنْ يكون المرادُ بالنَّهي عنِ العضلِ أَنْ يخليها ورأيها في ذلك؛ لأَنَّ الغالب في الأَيَامَى أَن يرجعن إلى رأي الأَولياء، في بَابِ النكاحِ، وإِنْ كان الاستئذان الشرعي حاصِلاً لهن، وأَنْ يكُنَّ تحت رأيهم، وتدبيرهم، وحينئذٍ يكُونون مُتمكِّنين مِنْ منعهنَّ؛ لتمكنهم مِنْ تخليتهن، فيكون النَّهي محمولاً على هذا الوجه، وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، في تفسير هذه الآيةِ. وأيضاً فثبوتُ العضلِ في حَقِّ الولي مُمْتَنِعٌ؛ لأنه متى عضل القريبُ فلا يبقى لعضله أثرٌ.
وتمسَّك أبو حنيفة بقوله تعالى: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} على أَنَّ النكاح بغير وَليٍّ جائزٌ، قال: لأنه أَضَافَ النكاح إليها إضافة الفعْل إلى فاعله، ونهى الوليَّ عَنْ منعها منه، قال: ويتأكَّدُ هذا بقوله تعالى: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وبقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} [البقرة: 234] ، وتزويجها نفسها مِنَ الكُفءِ، فعلٌ بالمعروفِ؛ فوجب أَنْ يَصِحَّ.
وقوله تعالى: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] دليلٌ واضِحٌ مع أَنَّهُ لم يحضر هناك ولي البتَّةَ.
وأجاب الأولون: بأن الفِعْل كما يُضافُ إلى المباشر، قد يُضافُ إلى المتسبّب، يقال: بنى الأمِيرُ داراً، وضرب ديناراً، وإنْ كان مجازاً، إلاَّ أنَّهُ يجب المصيرُ إليه؛ لدلالةِ الأَحاديث على بُطْلان هذا النِّكَاح.(4/164)
فصل في اختلاف البلوغين
قال الشَّافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ ُ - دلَّ سياقُ الكلامينِ - أي في الآيتين - على افتراق البُلُوغين، ومعناه أَنَّه تعالى قال في الآية الأولى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] ولو كانت عِدَّتها قد انقضت، لما قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} لأن إمساكها بعد العدّة لا يجوزُ وتكون مُسَرَّحَةٌ، فلا حاجة إلى تسريحها، وأما هذه الآية، فإنه نهى عن عضلهن عن التَّزويج، وهذا النَّهْي إِنَّما يحسن في الوقت الذي يمكنها أَنْ تتزوَّج فيه، وذلك إِنَّما يكونُ بعد انقضاءِ العِدَّة، فهذا هو المرادُ مِنْ قول الشافعي «دَلَّ سياقُ الكَلاَمينِ على افْتِراق البلوغين» .
فصل في معنى التراضي بالمعروف
في التَّراضي بالمعرُوف، وجهان:
أحدهما: ما وافَقَ الشَّرعَ مِنْ عقدٍ حلالٍ، ومهرٍ جائِزٍ، وشُهُودٍ عُدُول.
الثاني: هو ما يُضادُّ قوله: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ} [البقرة: 231] فيكون معناه: أَنْ يرضى كُلُّ واحدٍ منهما بما لزمه بحق هذا العقد لصاحبه؛ حتى تحصل الصُّحبةُ الجميلةُ، وتدوم الأُلفَةُ.
قال بعضهم: التراضِي بالمعرُوف، هو مهرُ المِثْلِ، وفَرَّعُوا عليه مسأَلةً فقهيةً، وهي أنَّها إِذا زوَّجت نفسها بأَنْقص مِنْ مَهْرِ مِثْلِها، نقصاناً فاحشاً، فالنكاحُ صحيحٌ عند أَبِي حنيفة، وللوَلِي أَنْ يَعْتَرِض عليها بسبب ذلك النُّقْصَانِ.
وقال أَبُو يوسُف ومحمَّد ليس للوَلِيِّ ذلك.
قوله: {ذلك} مبتدأٌ و {يُوعَظُ} وما بعده خبرهُ. والمُخَاطبُ قيل: إمَّا الرسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أو كلُّ سامع، ولذلك جيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحد، وقيل: للجماعةِ، وهو الظَّاهِرُ، فيكونُ «ذلك» بمعنى: «ذلكم» ، ولذلك قال بعده: {مِنكُمْ} وهو جائِزٌ في اللُّغة، والتَّثْنِية والجمع أيضاً جائِزٌ، قال تعالى: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} [يوسف: 37] وقال: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] وقال: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} [الطلاق: 2] وقال: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} [الأعراف: 22] وإِنَّما وحَّدَ الخطاب وهو للأَولياء؛ لأن الأَصل في مخاطبة الجمع «لَكُمْ» ثم كثر حتَّى توهَّموا أن «الكَافَ» مِنْ نفسِ الحرفِ، وليست بكافِ خِطابٍ؛ فقالوا ذلك، فإِذَا قالوا هذا، كانتِ الكافُ مُوَحَّدَةً منصوبةً في الاثنين، والجمع، والمؤَنَّثِ، و «مَنْ كان» في محلِّ رفعٍ؛ لقيامه مقامَ الفاعل. وفي «كان» اسمُها، يعودُ على «مَنْ» و «يؤمِنُ» في محلِّ نصبٍ، خبراً ل «كان» و «مِنْكُمْ» : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعمَلُ في الظَّرفِ وشبهِهِ، وإمَّا بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يُؤمِنُ. فإن قيل: لِمَ أتى باسمِ الإشارة(4/165)
البعيدِ والمشارُ إليه قريب وهو الحكم المذكورُ في العَضْل؟
والجواب: أَنَّ ذلك دليلٌ على تعظيم المُشارِ إليه.
وخَصَّصَ هذا الوعظِ بالمؤمنينَ دون غيرهم؛ لأنَّهُم المنتفِعُون به فلذلك حسنَ تخصيصهم؛ كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وهو هدى لِلْكُلِّ، كما قال: {هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185] ، وقال: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [يس: 11] ، مع أَنَّهُ كان منذراً لِلْكُلِّ؛ كما قال: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] .
فصل في خطاب الكفار بفروع الشريعة
احتجُّوا بهذه الآيةِ على أَنَّ الكفار ليسُوا بمخاطبين بفروع الإِسلام؛ لأن تَخْصِيصهُ(4/166)
المؤمنين بالأَحكام المُشَار إليها، دليلٌ على أَنَّ التكليف مختصٌّ بِمَنْ يؤمنُ باللهِ واليوم الآخر.
وأُجيبوا بأَنَّ التكليف قد ورد عامّاً؛ قال تعالى {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وبيانُ الأَحكام وإن كان عامّاً في حق كل المكلَّفين، إلاَّ أَنَّه قد يكونُ ذلك البيانُ وعظاً للمؤمنين؛ لأن هذه التكاليف إِنَّما تتوجه على الكُفَّار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز، وأَمَّا المؤمنُ المقرُّ فإِنَّما تدكرُ له وتُشْرَحُ على سبيل العظةِ، والتحذير.
قوله تعالى: {أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [البقرة: 232] زكا الزرعُ إذا نما وأَلِفُ أزكى منتقلةٌ عن واو، وقوله: «أزكى» إشارةٌ إلى استحقاقِ الثَّوابِ، وقوله: {وَأَطْهَرُ} إشارة إلى إزالة الذنُوبِ.
قال المفَسِّرون: أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرِّيبةِ. و «لكم» متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل «أزكى» فهو في محلِّ رفع وقوله: «وَأَطْهَرُ» أي: لَكُمْ، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٍ؛ لِلْعِلْم به، أي: مِنَ العَضْل.
قوله: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} معناه: أَنَّ المكلَّف وَإِنْ كان يعلمُ وجه الصَّلاح في هذه التكاليف على الجملة، إلاَّ أَنَّ التفصيل غير معلومٍ، واللهُ تعالى عالِمٌ في كل ما أَمَر ونهى، بالكمية والكَيْفية بحسب الواقِع وبِحسب التقدير؛ لأنَّه تعالى عالِمٌ بما لا نهايةَ له من المعلُوماتِ.
قال بعض المفسِّرين: معناه أَنَّ لكُل واحدٍ من الزوجين، قَدْ يكونُ في نفسه من(4/167)
الآخر علاقةُ حُبٍّ لم يُؤمن أَنْ يتجاوزَ ذلك إلى غير ما أَحَلَّ اللهُ لهما، ولم يُؤمن من الأَولياء أنْ يسبق إلى قُلُوبهم منهما ما لعلهما أَنْ يكُونا بريئين من ذلك، فَيَأثمون واللهُ يعلم من حُبِّ كُلّش واحدٍ منهما لصاحبه، ما لا تعلمون أَنْتم.(4/168)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ} كقوله {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] فليُلْتفتْ إليه.
قال القرطبي: لما ذكر اللهُ تعالى النِّكاح والطَّلاق ذكر الولد؛ لأن الزَّوجين قد يفترِقانِ وثمَّ وَلَدٌ فالآية إِذن في المطلَّقاتِ اللاتي لهُنَّ أولادٌ من أزواجهنَّ، قاله السُّدِّيُّ، وغيره.
قال: {والوالدات} ولم يقل والزَّوجاتُ، لأن أُمَّ الطِّفل قد تكُونُ مَطَلَّقَةً والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ، جاريتانِ مَجْرى الجوامد؛ ولذلك لم يُذْكر موصوفهما.
وقوله: {حَوْلَيْنِ} منصُوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفهما بكاملين دفعاً للتجوُّز، إِذْ قَد يُطْلَقُ «الحَوْلاَنِ» على الناقصين شهراً وشهرين، من قولهم أَقَامَ فلانٌ بمكان كذا حَوْلَين أو شهرين وإِنَّما أقامَ حَوْلاً وبعض الآخر، ومثله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] ومعلومٌ أنه يتعجَّل في يومٍ، وبعض اليوم الثَّاني، والحَولُ مِنْ حال الشَّيءُ يحولُ إذا انقلب، فالحَوْلُ مُنقلب من الوقْتِ الأَول إلى الثاني. وسُمِّيت السنةُ حولاً؛ لتحوُّلها، والحَوْلُ أيضاً: الحَيْلُ، ويُقالُ: لا حول ولا قوةَ، ولا حَيْلَ وَلاَ قُوَّةَ.
فصل في تفسير «الوالدات»
في «الوَالِدَات» ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أَنَّ المراد منهُ جميعُ الوَالِدَاتِ سواءٌ كُنَّ مطلقاتٍ، أو متزوِّجاتٍ لعُمُومِ اللَّفظِ.
الثاني: المرادُ مِنْهُ المطلقاتُ؛ لأَنَّه ذكر هذه الآية عقيب آية الطَّلاقِ، ومناسبتهُ من وجهين:
الأول: أنه إذا طُلِّقَت المرأةُ، فيحصلُ التباغض، فقد تُؤذِي المرأةُ الطفلَ لأَمرين:(4/168)
إِمَّا لأنَّ إيذاءَهُ يتضمَّنُ إيذاءَ الأَبِ، وإِمَّا لرغبتها في زوجٍ آخر فيفضي إلى إِهْمالِ أَمْرِ الطِّفْلِ.
الثاني: قال السُّدِّيُّ: ومما يدلُّ على أَنَّ المراد منه المطلقاتُ، قوله بعد ذلك: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} . ولو كانت زوجةً، لوجب على الزَّوج ذلك مِنْ غير إرضاعٍ.
ويمكن الجوابُ عن الأَوَّل: أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على حُكم مستقلٍّ بنفسه، فلم يجب تعلُّقُها بما قبلها، وعن قول السديّ: أَنَّه لا يبعُدُ أَنْ تستحِقَّ المرأةُ قدراص مِنَ المالِ، لمكانِ الزوجيَّة، وقَدْراً آخر للإرضاع، ولا مُنافاة بين الأَمرينِ.
القول الثالث: قال الواحديُّ في «البَسيط» الأَولى أَنْ يحمل على الزوجاتِ في حالِ بقاء النكاحِ؛ لأن المُطلَّقة لا تستحقُّ إلاَّ الأجرة.
فإِنْ قيل: إذا كانت الزوجيةُ باقيةً، فهي مستحقةٌ للنفقة، والكُسْوةِ؛ بسبب النكاحِ سَوَاءٌ أَرْضَعت الولد، أَوْ لَمْ تُرضِعهُ، فما وجهُ تعليق هذا الاستِحقاق بالإِرضاع؟
قلنا: النفقةُ والكسوةُ يجبانِ في مُقابلةِ التمكين، فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع ولم تتفرغْ لِخدمة الزوج، رُبَّما توهَّمَ مُتوهِّمٌ أَنَّ نفقتها وكسوتها تسقطُ بالخلل الواقع في خدمة الزوجِ؛ فقطعَ اللهُ ذلك الوَهْمَ بإيجاب الرِّزقِ إذا اشتغلت المرأَةُ بالرضاعِ.
فصل
هذا الكلامُ، وإِنْ كان خبراً فمعناه الأَمْرُ؛ وتقديره: يرضِعْنَ أَوْلادهنّ في حُكْمِ الله الذي أَوجبه؛ إِلاَّ أنه حذف ذلك للتصرف في الكَلامِ مع زوالٍ الإِيهامِن وهو أَمرُ استحباب، لا إيجابٍ؛ لأنها لو وجب عليها الرضاعُ لما استحقتِ الأُجرة، وقد قال:
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} [الطلاق: 6] وإذا ثبت الاستحبابُ، فهو من حيث إِنَّ تربيةَ الطفلِ بلبنِ الأُمِّ أَصْلَحُ له من سائِرِ الأَلبان، ومن حيثُ إِنَّ شفقةَ الأُم أَتَمُّ مِنْ شفقةِ غيرها.
فصل
قال القُرطبي: اختلف الناسُ في الرضاع: هَلْ هو حَقٌّ عليها أو هو حق عليه؟ واللفظُ محتملٌ؛ لأنه لو أراد التَّصريح بوجوبه لقال: وعلى الوَالِدَاتِ رضاعُ أَولادهُنَّ؛ كما قال: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ولكن هو حقٌّ عليها في حَقّ الزَّوجيَّة؛ لأنه يلزمُ في العُرْفِ إذْ قد صار كالشَّرط، إلاَّ أنْ تكونَ شريفةً ذات ترفُّهٍ، فعُرفها ألاَّ تُرْضِعَ وذلك كالشرط؛ ويجب عليها إن لم يقبل غيرها، وهو عليها إذا كان الأبُ مُعدماً؛(4/169)
لاختصاصها به، فإِن ماتَ الأَبُ ولا مال لِلصَّبِيِّ، فذهب مالكٌ في «المُدَوَّنَةِ» غلى أَنَّ الرضاعَ لازمٌ للأُمِّ بخلاف النَّفقةِ، وفي كتاب «ابن الجلاب» : رضاعه في بيتِ المالِ، فأَمَّا المطلَّقةِ طلاقاً بائِناً، فلا رضاع عليها، والرَّضَاعُ على الزَّوج إلاَّ أَنْ تشاء الأُمُّ، فهي أَحَقُّ بأجرةِ المثل، إذا كان الزوجُ مُوسِراً، فإِن كان معدماً، لم يلزمها الرضاعُ إلاَّ أَنْ يكون المولود لا يقبلُ غيرها فتجبر على الرَّضاع وكل من لزمها الإرضاعُ، فأَصابها عُذْرٌ يمنعها منه، عاد الإِرضاع على الأَبِ، وعن مالكٍ: أَنَّ الأَبَ إذا كان مُعدماً، ولا مال للصبي أَنَّ الرضاعَ على الأم لَمْ يكن لها لبنٌ؛ ولها مالٌ، فَإِنَّ الإِرضاع عليها في مالها. وقال الشَّافعيُّ: لا يلزم الرضاعُ إلاَّ والداً أو جَدّاً وإن عَلاَ.
فصل في تحديد الحولين
اختلف العلماءُ في تحديد الحولينِ فقال بعضهم: هو حَدٌّ لبعضِ المولُودين.
روى عكرمة عن ابن عبَّاس: أَنَّها إذا وضعت لستَّةِ أشهرٍ، فإِنَّها تُرْضِعه حولين كاملين، وإن وضعتْ لسبعةِ أشهُر، ترضعُه ثلاثةً وعشرينَ شهراً، وإنْ وضعت لتسعةِ أشهر، تُرضِعه إحدى وعشرين شهراً؛ كل ذلك تمامُ ثلاثين شهراً؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] .
وقال آخرون: هو حَدٌّ لكُلِّ مولُودٍ، لا يُنقصُ رضاعُهُ عن حولين، إلاَّ باتِّفاق الأَبوين فأَيُّهما أراد الفِطَامَ قبل تمام الحولينِ، ليس له ذلك إلاَّ أَنْ يجتمعا عليه؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} وهذا قولُ ابن جريجٍ، والثوري، ورواية الوالبي، عن ابن عباس.
وقيل: المرادُ من الآية: بيانُ الرضاع الذي يثبتُ به الحرمةُ، أن يكون في الحولينِ، ولا يحرم ما يكون بعدَ الحولين.
قال قتادة: فرض اللهُ على الوالداتِ إِرضاعُ حولينِ كاملين ثم أنزل التخفيف؛ فقال {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} ، أي: هذا منتهى الرضاع، ليس فيما دُونَ ذلك حَدٌّ محدودٌ، إِنَّمَا هو على قَدْرِ صلاحِ الصَّبي، وما يعيشُ به، وهذا قولُ عليّ، وابن مسعود، وابن عباسٍ، وابن عمر، وعلقَمة، والشَّعبيِّ، والزهريّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
وقال أبو حنيفة: مدةُ الرَّضاعِ ثلاثُون شهراً، واحتج الأَولون بقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ(4/170)
فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] وقال - عليه السلام والصلاة - «لا رضاع بعد فصال»
وروى ابن عباس قال: قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «لاَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الحَوْلَيْنِ» .
فصل
رُوِيَ أَنَّ رجلاً جاء إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: تزوجتُ جاريةً بكراً، وما رأيتُ بها ريبةٌ، ثم وَلَدت لستَّةِ أشهرٍ، فقال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وقال تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فالحملُ ستَّةُ أشهرٍ؛ الولدُ ولدكَ.
وعن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه جِيء بامرأةٍ، وضعت لستةِ أشهر، فشاور في رجمِها، فقال ابنُ عباسٍ: إِنْ خاصَمْتكُم بكتابِ اللهِ - تعالى - خَصَمْتُكُمْ، ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أَنَّ أَقَلَّ الحملِ ستةُ أشهرٍ، قال: فكأنما أَيْقَظَهُمْ.
قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ، وتكونُ اللامُ للتعليل، و «مَنْ» وَاقِعَةٌ على الآباء، أي: الوالداتُ يُرْضِعْنَ لأجْلِ مَنْ أَرَادَ إِتْمام الرَّضاعةِ مِنَ الآباءِ، وهذا نظيرُ قولك: «أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه» .
والثانيك أنها للتَّبيين؛ فتتعلَّق بمحذوفٍ، وتكونُ هذه اللامُ كاللامِ في قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] ، وفي قولهم: «سُقْياً لك» . فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّت به، وذلك أَنَّه لمّا ذكر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولين كاملين، بيَّنَ أنَّ ذلك الحُكم إنما هو لمَنْ أرادَ أن يتُمَّ الرَّضاعة؛ و «مَنْ» تحتمِلُ حينئذٍ أَنْ يُرادَ بها الوَالِدَاتُ فقط، أَوْ هُنَّ والوالدون معاً، كلُّ ذلك محتملٌ.
والثالث: أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ، فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتقديرُ: ذلك الحُكمُ لِمَن أرادَ. و «مَنْ» على هذا تكون للوالداتِ والوالدَيْنِ معاً.
قوله: {أَن يُتِمَّ الرضاعة} «أَنْ» وما في حَيَِّزها في محلِّ نصبٍ؛ مفعولاً بأراد، أي:(4/171)
لِمَنْ أَرادَ إِتْمَامَها. والجمهورُ على «يُتمَّ الرَّضَاعَةَ» بالياء المضمومة من «أَتَمَّ» وإِعْمَالُ أنْ الناصبَة، ونصبِ «الرَّضَاعةَ» مفعولاً به، وفتح رائها.
وقرأ مجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ محيصن، وأَبُو رجاء: «تَتِمَّ» بفتح التاءِ من تَمَّ، و «الرضَاعَةُ» بالرفعِ فاعلاً، وقرأ أبو حيوة، وابنُ أَبِي عبلة كذلك، إلا أنهما كَسَرا راءَ «الرَّضَاعَة» ، وهي لغةٌ كالحَضارةِ، والحِضارة، والبَصْرِيُّونَ يقولون: فتحُ الرَّاءِ مع هاءِ التأنيث، وكسرُها مع عدمِ الهاء، والكُوفيُّون يزعمُونَ العكسَ. وقرأ مجاهدٌ - ويُرْوى عن ابن عبَّاسٍ -: «أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» برفعِ «يُتِمُّ» وفيها قولان:
أحدهما: قولُ البصريِّين: أنها «أَنْ» الناصبةُ، أُهْمِلت؛ حَمْلاً عَلَى «مَا» أُخْتِها؛ لاشتراكِهمَا في المَصْدرية، وأَنشدوا على ذلك قوله: [مجزوء الكامل]
1123 - إِنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ ... قَةُ إِنْ أَمِنْتِ مِنَ الرَّزَاحِ
أَنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قَوْ ... مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاَحِ
وقول الآخر: [البسيط]
1124 - يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نُفُوسَكُمَا ... وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لَقِّيتُمَا رَشَدَا
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلاَمَ وَأَلاَّ تُشْعِرَا أَحَدَا
فَأَهْمَلَها، ولذلك ثَبَتَ نونُ الرفع، وأَبَوْا أَنْ يَجعلُوها المخفَّفة مِنَ الثقيلةِ لوجهين:
أحدهما: أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملة الفعلية بعدها.
والثاني: أَنَّ ما قبلها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ.
القول الثاني: وهو قول الكوفيِّين أنها المخفَّفة من الثَّقيلة، وشذَّ وقوعها موقع الناصبة، كما شذَّ وقوع «أنْ» الناصبة موقعها في قوله: [البسيط]
1125 - ... ... ... ... ... . قَدْ عَلِمُوا ... أَلاَّ يَدَانِيَنَا فِي خَلْقِهِ أَحَدٌ(4/172)
وقرأ مجاهدٌ: «الرَّضْعَة» بوزن القصعة.
وعن ابن عباس أنّه قرأ أن يكمل الرضاعة.
فصل
قال القرطبيُّ: قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} يدل على أنَّ إرضاع الحولين ليس حتماً؛ لأنه يجوز الفطام قبل الحولين ولكنه تحديد لقطع التَّنازع بين الزَّوجين في مدَّة الرضاع، ولا يجب على الأب إعطاء الأجرة، لأكثر من حولين، وإن أراد الأب الفطام قبل هذه المدة، ولم ترض الأمُّ، لم يكن له ذلك.
والرَّضْعُ: مصُّ الثدي، ويقال للَّئيم: راضعٌ، وذلك أنه يخاف أن يحلب الشاة؛ فيسمع منه الحلب؛ فيطلب منه اللبن، فيرتضع ثدي الشاة بفمه.
قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأ قوله: «رِزْقُهُنَّ» ، و «أَلْ» في المولود موصولةٌ، و «لَهُ» قَائِمٌ مقام الفاعل للمولود، وهو عائد الموصول، تقديره: وعلى الذي ولد له رزقهنَّ، فحذف الفاعل، وهو الوالدات، والمفعول، وهو الأولاد، وأقيم هذا الجارُّ والمجرور مقام الفاعل.
وذكر بعض النَّاس أنه لا خلاف في إقامة الجارِّ والمجرور مقام الفاعل، إلاَّ السُّهيليَّ، فإنَّه منع من ذلك؛ وليس كما ذكر هذا القائل، فإنَّ البصريِّين أجازوا هذه المسألة مطلقاً، والكوفيُّون قالوا: إن كان حرف الجرِّ زائداً جاز نحو: ما ضربَ من أحدٍ، وإن كان غير زائدٍ، لم يجز، ولا يجوز عندهم أن يكون الاسم المجرور في موضع رفعٍ باتفاقٍ بينهم. ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاق في القائم مقام الفاعل.
فذهب الفرَّاء: إلى أنَّ حرف الجرِّ وحده في موضع رفعٍ، كما أنَّ «يَقُومُ» من «زَيْدٌ يَقُومُ» في موضع رفع.
وذهب الكسائيُّ، وهشام: إلى أنَّ مفعول الفعل ضميرٌ مستترٌ فيه، وهو ضميرٌ مبهمٌ من حيث أن يراد به ما يدلُّ عليه الفعل من مصدرٍ، وزمانٍ، ومكانٍ، ولم يدلَّ دليلٌ على أحدها.
وذهب بعضهم إلى أنَّ القائم مقام الفاعل ضمير المصدر، فإذا قلت: «سِيرَ بزيدٍ» فالتقدير: سِير هو، أي: السَّيْرُ؛ لأنَّ دلالة الفعل على مصدره قويةٌ، ووافقهم في هذا بعض البصريين.
قوله
: {بالمعروف
} يجوز أن يتعلَّق بكلِّ من قوله: «رزقُهنَّ» و «كِسْوَتُهنَّ» على أنَّ(4/173)
المسألة من باب الإعمالن وهو على إعمال الثاني، إذ لو أعمل الأول، لأُضمر في الثاني، فكان يقال: وكسوتهنَّ به بالمعروف. هذا إن أُريد بالرزق والكسوة، المصدران، وقد تقدَّم أنَّ الرزق يكون مصدراً، وإن كان ابن الطَّراوة قد رَّد على الفارسيّ ذلك؛ في قوله: {مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً} [النحل: 73] كما سيأتي تحقيقه في النَّحل، إن شاء الله تعالى. وإن أُريد بهما اسم المرزوق، والمكسوِّ كالطِّحن، والرِّعي، فلا بدَّ من حذف مضافٍ، تقديره: اتِّصال، أو دفع، أو ما أشبه ذلك، ممَّا يصحُّ به المعنى، ويكون «بالمعروف» متعلِّقاً بمحذوفٍ، على أنه حالٌ منهما. وجعل أبو البقاء العامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه «على» .
والجمهور على «كِسْوَتهنَّ» بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمِّها، وهما لغتان في المصدر، واسم المكسوِّ وفعلها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولي «أَعْطَى» في جواز حذفهما، أو حذف أحدهما؛ اختصاراً أو اقتصاراً، قيل: وقد يتعدَّى إلى واحدٍ؛ وأنشدوا: [المتقارب]
1126 - وَأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةٌ ... كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ
ضمَّنه معنى غطَّى، وفيه نظرٌ؛ لاحتمال أنَّه حذف أحد المفعولين؛ للدلالة عليه، أي: كَسَا وجهها غبار أو نحوه.
فصل
و {المولود لَهُ} هو الوالد، وإنَّما عبَّر عنه بهذا الاسم لوجوه:
أحدها: قال الزَّمخشريُّ: والسَّبب فيه أن يعلم أنَّ الوالدات إنما ولدت الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمَّهات؛ وأنشدوا للمأمون: [البسيط]
1127 - وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أَبْنَاءُ
وثانيها: أنّه تنبيهٌ على أَنَّ الولد إنما يلتحق بالوالد؛ لكونه مولوداً على فراشه، على ما قاله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فكأنّه قال: إذا ولدت المرأة الولد(4/174)
لأجل الرَّجل وعلى فراشه، وجب عليه رعاية مصالحه، [فنبه على أنَّ سبب النَّسب، والالتحاق محدودٌ بهذا القدر.
وثالثها: ذكر الوالد بلفظ «المَوْلُودِ [لَهُ] » تنبيهاً على أنَّ نفقته عائدةٌ إليه، فيلزمه رعاية مصالحه] كما قيل: كلُّه لك، وكلُّه عليك.
فإن قيل: فما الحكمة في قول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأخيه: {قَالَ ياابنأم} [طه: 94] ولم يذكر أباه.
فالجواب: أنّه أراد بذكر الأم [أنْ] يذكر الشفقة فإنَّ شفقة الأمِّ أعظم من شفقة الأب.
فصل
اعلم أنَّ الله تعالى كما وصَّى الأمَّ برعاية جانب الطِّفل، في قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} - وصَّى برعاية جانب الأمِّ، حتَّى تقوى على رعاية مصلحة الطفل، فأمره برزقها، وكسوتها بالمعروف، وهذا المعروف قد يكون محدوداً بشرطٍ وعقدٍ، وقد يكون غير محدودٍ إلاَّ من جهة العرف لأنّه إذا قام بما يكفيها من طعام وكسوتها، فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن لم يقم بما يكفيها من ذلكن تضرَّرت وضررها يتعدى إلى الود، ولمّا وصَّى الأمَّ برعاية الطفل أوّلاً ثم وصَّى الأب برعايته ثانياً، دلَّ على أنَّ احتياج الطفل إلى رعاية الأمِّ أشدُّ من احتياجه إلى رعاية الأب؛ لأنَّه ليس بين الطفل وبين رعاية الأمّ واسطةٌ أَلْبَتَّةَ؛ ورعاية الأب إنَّما تصل إلى الطفل بواسطة، فإنّه يستأجر المرأة على رضاعته، وحضانته بالنفقة، والكسوة، وذلك يدلُّ على أنَّ حقَّ الأمِّ أكثر من حقِّ الأب، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرةٌ مشهورةٌ.
قوله: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} الجمهور على «تُكَلَّفُ» مبنياً للمفعول، «نفسٌ» قائم مقام الفاعل، وهو الله تعالى، {وُسْعَهَا} مفعول ثانٍ، وهو استثناءٌ مفرغٌ؛ لأنَّ «كَلَّفَ» يتعدَّى لاثنين. قال أبو البقاء: «ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا، لم يَجُزْ؛ لأنه ليس ببدَلٍ» .
وقرأ أبو جراء: «لاَ تَكَلَّفُ نَفْسٌ» بفتح التَّاء، والأصل: «تَتَكَلَّفُ» فحذفت إحدى التاءين؛ تخفيفاً: إمَّا الأولى، أو الثانية على خلافٍ في ذلك تقدَّم، فتكون «نَفْسٌ» فاعلاً، و «وُسْعَها» مفعولٌ به، استثناء مفرَّغاً أيضاً. وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً: «لا يُكَلِّفُ نَفْساً» بإسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى، فتكون «نَفْساً» و «وُسْعَها» مفعولين.(4/175)
والتكليفُ: الإلزام، وأصله من الكلف، وهو الأثر من السَّواد في الوجه؛ قال: [البسيط]
1128 - يَهْدِي بِهَا أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبَرٌ ... مِنَ الْجِمَالِ كَثِيرُ اللَّحْمِ عَيْثُومُ
فمعنى «تَكَلَّفَ الأَمْرَ» ، أي: اجتهد في إظهار أثره.
وفلانٌ كَلِفٌ بكذا: أي مُغْرًى به.
و «الوُسْعُ» هنا ما يسع الإنسان فيطيق أخذه من سعة الملك أي الغرض، ولو ضاق لعجز عنه، فالسَّعة بمنزلة القدرة، ولهذا قيل: الوسع فوق الطَّاقة، والمراد منه: أنَّ أبا الصّبي لا يتكلّف الإنفاق عليه، وعلى أُمِّه، إلاَّ ما تتسع له قدرته، لأنَّ الوسع ما تتَّسع له القدرة، ولا يبلغ استغراق القدرة؛ وهو نظير قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا} [الطلاق: 7] .
فصل في احتجاج المعتزلة بالآية
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّ الله - تعالى - لا يكلّف العبد ما لا يقدر عليه.
وقوله: {لاَ تُضَآرَّ} ابن كثير، وأبو عمرو: «لا تُضَارُّ» برفع الراء مشددةً، وتوجيهها واضح، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يدخل عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فرفع، وهذه القراءة مناسبةٌ لما قبلها، من حيث إنه عطف جملة خبريّةٌ على خبرية مثلها من حيث اللفظ وإلاَّ فالأولى خبريةٌ لفظاً ومعنًى، وهذه خبريةٌ لفظاً نهييَّةٌ معنًى ويدل عليه قراءة الباقين كما سيأتي.
قال الكسائيُّ والفراء: هو نسقٌ على قوله: «لاَ يُكَلِّفُ» .
قال عليبن عيسى: هذا غلطٌ؛ لأنَّ النَّسق ب «لا» إنَّما هو إخراج على إخراج الثَّاني مما دخل فيه الأوَّل نحو: «ضربتُ زيداً لا عمراً» فأمّا أن يقال: يقوم زيدٌ لا يقعد عمرو، فهو غير جائزٍ على النِّسق، بل الصواب أنَّه مرفوعٌ على الاستئناف في النَّهي كما يقال: لا تضرب زيداً لا تقتل عمراً.
وقرأ باقي السَّبعة: بفتح الراء مشدّدةً، وتوجيهها أنَّ «لا» ناهيةٌ، فهي جازمةٌ،(4/176)
فسكنت الراء الأخيرة للجزم، وقبلها راء ساكنةٌ مدغمةٌ فيها، فالتقى ساكنان؛ فحرَّكنا الثانية لا الأولى، وإن كان الأصل الإدغام، وكانت الحركة فتحةًن وإن كان أصل التقاء الساكنين الكسر؛ لأجل الألف؛ إذ هي أُخت الفتحة، ولذلك لمَّا رخَّمت العرب «إِسْحَارّ» وهو اسم نباتٍ، قالوا: «إِسحارَ» بفتح الراء خفيفةً، لأنهم لمَّا حذفوا الراء الأخيرة، بقيت الراء الأولى ساكنةً، والألف قبلها ساكنةٌ؛ فالتقى ساكنان، والألف لا تقبل الحركة؛ فحرَّكوا الثاني وهو الراء، وكانت الحركة فتحةً؛ لأجل الألف قبلها ساكنة، ولم يكسروا وإن كان الأصل، لما ذكرنا من مراعاة الألف.
وقرأ الحسن بكسرها مشدَّدةً، على أصل التقاء السَّاكنين، ولم يراع الألف.
وقرأ أبو جعفرٍ بسكونها مشدَّدةً، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فسكَّن، وروي عنه وعن ابن هرمز: بسكونها مخففة، وتحتمل هذه وجهين:
أحدهما: أن يكون من «ضارَ» «يَضِيرُ» ، ويكون السكون لإجراء الوصل مجرى الوقف.
والثاني: أن يكون من ضارَّ يُضَارُّ بتشديد الراء، وإنما استثقل تكرير حرف هو مكرر في نفسه؛ فحذف الثاني منهما، وجمع بين الساكنين - أعني الألف والراء - إمَّا إجراءً للوصل مجرى الوقف، وإمَّا لأنَّ الألف قائمةٌ مقام الحركة، لكونها حرف مدٍّ.
وزعم الزمخشريُّ «أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ إنما اخْتَلَسَ الضَّمة، فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ، وليس كذلك» انتهى. وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] ونحوه.
ثم قراءة تسكين الرَّاء: تحتمل أن تكون من رفعٍ، فتكون كقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويحتمل أن تكون من فتح، فتكون كقراءة الباقين، والأول أولى؛ إذ التسكين من الضمة أكثر من التسكين من الفتحة؛ لخفَّتها.
وقرأ ابن عبَّاس: بكسر الراء الأولى، والفكِّ، وروي عن عمر بن الخطاب: «لا تُضَارَرْ» بفتح الرَّاء الأولى، والفكِّ؛ وهذه لغة الحجاز، أعني: [فكَّ] المثلين فيما سكن ثانيهما للجزم أو للوقف، نحو: لم نمرر، وامرُرْ، وبنو تميم يدغمون، والتنزيل جاء باللغتين نحو: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} [المائدة: 54] في المائدة، قرئ في السَّبع بالوجهين، وسيأتي بيانه واضحاً.
ثمَّ قراءة من شدَّد الراء: مضمومةً أو مفتوحةً، أو مكسورةً، أو مسكَّنةً، أو خفَّفها تحتمل أن تكون الراء الأولى مفتوحة، فيكون الفعل مبنياً للمفعول، وتكون «وَالِدَة» مفعولاً لم يسمَّ فاعله، وحذف الفاعل؛ للعلم به، ويؤيده قراءة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.(4/177)
ويكون معنى الآية {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} أي: لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها؛ تُضَارُّهُ بذلك.
وقيل: معناه لا تضارُّ والدةٌ؛ فتكره على إرضاعه، إذا كرهت إرضاعه، وقبل الصّبيُّ من غيرها؛ لأنَّ ذلك ليس بواجبٍ عليها، ولا مولودٌ له بولده فيحتمل أن يعطي الأمَّ أكثر مما يجب لها، إذا لم يرتضع الولد من غيرها.
وأن تكون مكسورةٌ، فيكون الفعل مبنياً للفاعل، وتكون «والدة» حينئذٍ فاعلاً به، ويؤيده قراءة ابن عباسٍ.
وفي المفعول على هذا الاحتمال ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو الظاهر - أنه محذوف تقديره: لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها، بسبب ولدها بما لا يَقْدِرُ عليه مِنْ رِزْقٍ وكُسْوةٍ ونحو ذلك، ولا يُضَارِرْ مَوْلُود له زوجته بسبب ولده بما وجب لها من رزق وكسوةٍ، فالباء للسببية.
والثاني: - قاله الزمخشريُّ - أن يكون «تُضارَّ» بمعنى تضرُّ، وأن تكون الباء من صلته أي: لا تضرُّ والدةٌ بولدها، فلا تسيءُ غداءه، وتعهُّده، ولا يضرُّ الوالد به بأن ينزعه منها بدما ألفها انتهى. ويعني بقوله «الباءُ مِنْ صِلتِه» ، أي: تكون متعلقةً به، ومعدِّيةً له إلى المفعول، كهي في «ذَهَبْتُ بزيدٍ» ويكون ضارَّ بمعنى أضرَّ، فاعل بمعنى أفعل، ومثله: ضاعفتُ الحسابَ وأضعفته، وباعدته وأبعدته، فعلى هذا، نفس المجرور بهذه الباء، هو المفعول به في المعنى، والباء على هذا للتَّعدية، كما نظَّرنا بِ «ذَهَبْتُ بزيدٍ» ، فإنه بمعنى أذهبته.
والثالث: أنَّ الباء مزيدةٌ، وأنَّ «ضَارَّ» بمعنى ضرَّ، فيكون «فَاعَلَ» بمعنى «فَعَل» المجرّد، والتقدير: لا تضرُّ والدةٌ ولدها بسوء غذائه وعدم تعهُّده، ولا يضرُّ والدٌ ولده بانتزاعه من أمه بعدما ألفها، ونحو ذلك. وقد جاء «فاعل» بمعنى فعل المجرَّد نحو: واعدته، ووعدته، وجاوزته وجزته، إلاَّ أنَّ الكثير في فاعل الدَّلالة على المشاركة بين مرفوعه ومنصوبه، ولذلك كان مرفوعه منصوباً في التَّقدير، ومنصوبه مرفوعاً في التقدير، فمن ثمَّ كان التوجيه الأول أرجح من توجيه الزمخشريُّ، وما بعده، وتوجيه الزمخشريِّ أوجه ممَّا بعده.
فإن قيل: لم قال «تُضَارّ» والفعل واحد؟
قلنا: معناه لا يضار الأمُّ والأب بألاَّ ترضع الأم، أو يمنعها الأب وينزعه منها، أو يكون معناه أنّ كلَّ واحدٍ يقصد بإضرار الولد إضرار الآخر؛ فيكون في الحقيقة مضارَّة.(4/178)
فصل في أحكام الحضانة
قال القرطبي: في هذه الآية دليلٌ لمالك على أنَّ الحضانة للأم، وهي في الغلام إلى البلوغ، وفي الجارية إلى النِّكاح، وذلك حقٌّ لها.
وقال الشَّافعيُّ: إذ بلغ الولد ثماني سنين، وهو سنُّ التَّمييز، خيَّر بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرّك همّته لتعلُّم القرآن، والأدب، والعبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية.
وروى أبو هريرة: «أنَّ امرأَةً جاءت إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت له: إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يذْهَبَ بابني، وقد سَقَانِي من بئرِ أبي عنبة وقد نفعني، فقال النَّبيُّ لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اسْتَهِما عليه «فقال زوجها: من يحاقُّني في ولدي؟ فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذا أبُوكَ، وهذه أُمُّكَ، فَخُذْ بِيد أيِّهمَا شِئْتَ «فأخذ بيد أُمه فانطلقت به» .
ودليلنا ما روى أبو داود، عن عبد الله بن عمرو: أَنَّ امرأةً قَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابني هذا كَانَتْ بَطْنِي له وِعَاء، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاء، وحِجْرِي لَهُ حِوَاء، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقني، وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنْتِ أَحَقُّ به ما لم تُنْكَحِي» .
فصل من أحق بالحضانة إذا تزوجت الأم؟
قال ابن المنذر: أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ألاَّ حقَّ للأمّ في الولد إذا تزوَّجت.
وقال مالك، والشَّافعيُّ، والنُّعمان، وأبو ثور: إنَّ الجدَّة أُمَّ الأُمِّ أحقُّ بحضانة الولد، واختلفوا إذا لم يكن له أُمٌّ، وكانت له جدَّةٌ أمُّ أبٍ، فقال مالكٌ: أمُّ الأب أحقُّ إذا لم يكن للصَّبي خالةٌ. وقال الشَّافعيُّ: أمُّ الأب أحقُّ من الخالة.
فصل الحضانة للقادر على حقوق الولد
ولا حضانة لفاجرةٍ، ولا لضعيفة عاجزةٍ عن القيام بحقِّ الولد.(4/179)
وروي عن مالك: أنَّ الحضانة للأُمّ، ثم الجدَة للأمّ، ثم الخالة، ثمّ الجدة للأب، ثم أخت الصَّبيِّ، ثم عمَّته.
فصل
قال القرطبيُّ: إذا تزوّجت الأمُّ لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها في المشهور عندنا.
وقال ابن المنذر: إذا خرجت الأمُّ عن بلد ولدها، ثمَّ رجعت إليه، فهي أحقُّ بولدها: في قول الشَّافعيِّ، وأبي ثور، وأصحاب الرّأي وكذلك لو تزوَّجت ثمَّ طلِّقت، أو توفِّي عنها زوجها، رجعت إلى حقّها في الولد، فإن تركت حقَّها من الحضانة، ولم ترد أخذه، وهي فارغةٌ غير مشغولةٍ، بزوجٍ، ثم أرادت بعد ذلك أخذه كان لها ذلك.
وقال القرطبيُّ: إن كان تركها له من عذر، كان لها ذلك، وإن تركته رفضاً له، ومقتاً، لم يكن لها بعد ذلك أخذه.
فصل
فإن طلَّقها الزَّوج، وكانت الزَّوجة ذِمّيةٌ، فلا حضانة لها.
وقال أبو ثورٍ، وأصحاب الرَّأي، وابن القاسم: لا فرق بين الذِّميَّة والمسلمة. وكذلك اختلفوا في الزَّوجين؛ يفترقان أحدهما [حرٌّ] والآخر مملوكٌ.
قوله: «له» في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل.
قوله: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} فيه دلالةٌ على ما يقوله النَّحويُّون، وهو أنَّه إذا اجتمع مذكَّرٌ ومؤنَّثٌ، معطوفاً أحدهما على الآخر، كان حكم الفعل السابق عليهما للسابق منهما، تقول: قام زيدٌ وهندٌ، فلا تلحق علامة تأنيثٍ، وقامت هندٌ وزيدٌ، فتُلحق العلامة، والآية الكريمة من هذا القبيل، ولا يستثنى من ذلك إلاَّ أن يكون المؤنث مجازيّاً، فيحسن ألاَّ يراعى المؤنَّث، وإن تقدَّم؛ كقوله تعالى:
{وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9] .
وفي هذه الجمل من علم البيان: الفصل، والوصل.
أما الفصل: وهو عدم العطف بين قوله: «لا تُكَلَّفُ نفسٌ» على ما قبلها؛ لأنها مع ما بعدها تفسيرٌ لقوله «بالمعروف» .(4/180)
وأمَّا الوصل: وهو العطف بين قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ} ، وبين قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} ؛ فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى. ومنه أيضاً إبراز الجملة الأولى مبتدأً وخبراً، وجعل الخبر فعلاً؛ لأنَّ الإرضاع مما يتجدَّدُ دائماً. وأُضيفت الوالداتُ للأولاد؛ تنبيهاً على شفقتهنَّ، وحثاً لهنَّ على الإرضاع.
وجيء بالوالدات بلفظ العموم، وإن كان جمع قلَّة؛ لأنَّ جمع القلَّة متى حلِّي بأل، عمَّ، وكذلك «أَوْلاَدَهُنَّ» عامٌّ؛ لإضافته إلى ضمير العامِّ، وإن كان - أيضاً - جمع قلَّةٍ.
وفيها أيضاً إبراز الجملة الثانية مبتدأً وخبراً، والخبر جارٌّ ومجرورٌ بحرف «على» الدالِّ على الاستعلاء المجازيّ في الوجوب، وقدِّم الخبر؛ اعتناءً به. وقدِّم الرزقُ على الكسوة؛ لأنه الأهمُّ في بقاء الحياة، ولتكرره كل يومٍ.
وأبرزت الثالثة فعلاً، ومرفوعه، وجعل مرفوعه نكرةً في سياق النفي؛ ليعمَّ، ويتناول ما سبق لأجله من حكم الوالدات في الإرضاع، والمولود له في الرزق، والكسوة الواجبتين عليه للوالدة.
وأبرزت الرابعة كذلك؛ لأنَّها كالإيضاح لما قبلها؛ والتفصيل بعد الإجمال؛ ولذلك لم يعطف عليها كما ذكرته لك. ولمَّا كان تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارَّةُ أحد الزوجين للآخر ممَّا يتكرَّر ويتجدَّد، أتى بهاتين الجملتين فعليتين، وأدخل عليهما حرف النَّفي وهو «لا» ؛ لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً.
وأمَّا في قراءة من جزم، فإنَّها ناهيةٌ، للاستقبال فقط، وأضاف الولد إلى الوالدة والمولود له؛ تنبيهاً على الشفقة والاستعطاف، وقدَّم ذكر عدم مضارَّة الوالدة على ذكر عدم مضارة الوالد؛ مراعاةً لما تقدَّم من الجملتين، إذ قد بدأ بحكم الوالدات وثنَّى بحكم الوالد.
قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر، قدَّم الخبر؛ اهتماماً، ولا يخفى ما فيها، وهي معطوفة على قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتَّفسير لقوله: «بِالْمَعْرُوفِ» كما تقدَّم التنبيه عليه.
والألف واللاَّم في «الوَارِثِ» بدلٌ من الضَّمير عند من يرى ذلك، ثم اختلفوا في ذلك الضَّمير هل يعود على المولود له، وهو الأب، فكأنه قيل: وعلى وارثه، أي: وارث المولود له، أو يعود على الولد نفسه، أي: وارث الولد؟ وهذا على حسب اختلافهم في الوارث.
وقرأ يحيى بن يعمر: «الوَرَثَةِ» بلفظ الجمع، والمشار إليه بقوله: «مثلُ ذلك» إلى(4/181)
الواجب من الرزق والكسوة، وهذا أحسن من قول من يقول: أشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحد للاثنين؛ كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وإنما كان أحسن؛ لأنه لا يحوج إلى تأويلٍ، وقيل: المشار إليه هو عدم المضارَّة، قاله الشعبيُّ، والزهري، والضحاك، وقيل: منهما وهو قول الجمهور.
وقيل: أجرة المثل.
فصل في المراد ب «الوارث»
في المراد ب «الوارث» أربعة أقوالٍ:
أحدها: قال ابن عباس: المراد وارث الأب؛ لأنَّ قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} معطوفٌ على قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} وما بينهما اعتراضٌ لبيان المعروف، والمعنى أنَّ المولود له إن مات، فعلى وارثه مثل ما وجب عليه، أي: يقوم وارثه مقامه في رزقها وكسوتها بالمعروف وتجنُّب الإضرار.
قال أبو مسلم الأصبهانيُّ: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ الولد أيضاً يرثه فيؤدِّي ذلك إلى وجوب نفقته على غيره حال ما له مال ينفق منه، وهذا غير جائزٍ.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب بأنَّ الصبيَّ إذا ورث من أبيه مالاً، فإنَّه يحتاج إلى من يقوم بتعهُّده والنَّفقة عليه بالمعروف، ويدفع الضَّرر عنه، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب.
القول الثاني: أنَّ المراد وارث الصبيِّ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب، هذا قول الحسن، وقتادة، وأبي مسلم، والقاضي، ثم اختلفوا في أنه أيُّ وارثٍ هو؟ فقيل: العصبات من الرِّجال، وهو قول عمر بن الخطَّاب، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسفيان، وإبراهيم.
وقيل: هو وارث الصبيِّ من الرِّجال والنساء على قدر مواريثهم منه، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى، ومذهب أحمد وإسحاق.
وقيل: المراد من كان ذا رحمٍ محرمٍ دون غيرهم؛ كابن العمِّ والمولى، وهو قول أبي حنيفة.
وظاهر الآية يقتضي أَلاَّ فرق بين وارثٍ ووارثٍ، ولولا أن الأمَّ خرجت من حيث إنَّه أوجب الحقَّ لها، لصحَّ دخولها تحت الكلام؛ لأنَّها قد تكون وارثةً للصبيِّ كغيرها.(4/182)
القول الثالث: المراد من الوارث الباقي من الأبوين، كا جاء في الدعاء: «واجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا» أي: الباقي، وهو قول سفيان وجماعة.
القول الرابع: المراد الصبيُّ نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفَّى، فإن كان له مالٌ، وجب أجرة رضاعه في ماله، وإن لم يكن له مال، فعلى الأمِّ، ولا يجبر على نفقة الصبيِّ إلاَّ الوالدان، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ.
قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} .
في الفصال قولان:
أحدهما: أنَّه الفطام؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وإنَّما سمي الفطام بالفصال؛ لأنَّ الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمِّه إلى غيره من الأقوات.
والثاني: قال أبو مسلم: ويحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأمِّ، إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك، ولم يرجع بسبب ذلك ضررٌ إلى الولد.
قال المبرِّد: والفصال، يقال: فصل الولد عن الأمِّ فصلاً وفصالاً، والفصال أحسن؛ لأنَّه إذا انفصل عن أمِّه، فقد انفصلت منه، فبينهما فصالٌ، نحو القتال والضِّراب، وسمِّي الفصيل فصيلاً؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمِّه؛ ويقال: فصل من البلد، إذا خرج عنها وفارقها؛ قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} [البقرة: 249] ، وحمل الفصال على الفطام هو قول أكثر المفسرين.
اعلم أنَّه لمَّا بيَّن تمام مدَّة الرضاع بقوله: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وجب حمل هذه الآية على غير ذلك، حتى لا يلزم التَّكرار، واختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: إنَّها تدلُّ على جواز الفطام قبل الحولين وبعدهما، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس.
قوله تعالى: {عَن تَرَاضٍ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ إذ هو صفةٌ ل «فِصَالاً» فهو في محلِّ نصبٍ، أي: فصالاً كائناً عن تَرَاضٍ، وقدَّره الزمخشريُّ: صادراً عن تَرَاضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونه كوناً مقيَّداً.(4/183)
والثاني: أنه متعلقٌ ب «أَرَادَا» ، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلاَّ بتكلّف. والفصال، والفصل: الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريقٌ بين الصبيِّ والثَّدي، ومنه سمِّي الفصيل؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمه.
و «عَنْ» للمجاوزة مجازاً؛ لأنَّ التَّراضي معنًى، لا عينٌ.
و «تَرَاضٍ» مصدر تفاعل، فعينه مضمومةٌ، وأصله: تفاعلٌ تراضوٌ، ففعل فيه ما فعل ب «أدْلٍ» جمع دلوٍ، من قلب الوالو ياءً، والضمة قلبها كسرةً، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واوٌ قبلها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفاً.
قوله تعالى: {مِّنْهُمَا} في محلِّ جرٍّ صفةً ل «تَرَاضٍ» ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: تَرَاضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما، و «مِنْ» لابتداء الغاية.
وقوله: {وَتَشَاوُرٍ} [حذفت «مِنْهُمَا» لدلالة ما قبلها عليها، والتقدير: وتشاور منهما] ، ويحتمل أن يكون التَّشاور من أحدهما، مع غير الآخر؛ لتتفق الآراء منهما، ومن غيرهما على المصلحة.
قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} الفاء جواب الشَّرط، وقد تقدَّم نظير هذه الجملة، ولا بُدَّ قبل هذا الجواب من جملةٍ قد حذفت؛ ليصحَّ المعنى بذلك، تقديره: ففصلاه أو فعلا ما تراضيا عليه، فلا جناح عليهما في الفصال، أو في الفصل.
فصل في التشاور
التشاور في اللُّغة: استخراج الرَّأْي، وكذلك المشورة كالمعونة، وشرت العسل، إذا استخرجته.
وقال أبو زيدٍ: شُرت الدَّابَّةَ، وشَوَّرْتُهَا، أجريتها لاستخراج جريها في الموضع الذي تعرض فيه الدوابُّ، يقال له: الشّوار، والشَّوار بالفتح متاع البيت؛ لأنَّه يظهر للنَّاظر، ويقال: شوَّرته فتشوَّر، أي: خجلته، والشَّارة: هيئة الرَّجل؛ لأنَّه ما يظهر من زينته ويبدو منها، والإشارة: إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنُّطق وغيره.
فصل في مدة الفطام
دلَّت الآية على أن الفطام في أقلَّ من حولين لا يجوز إلاَّ عند رضا الوالدين، وعند المشاورة مع أرباب التَّجارب، وذلك لأنَّ الأمَّ قد تملُّ من الرَّضاع فتحاول الفطام؛ والأب أيضاً قد يملُّ من عطاء الأجرة على الإِرْضَاع، فيحاول الفِطَام؛ دَفْعاً لذلك، لكنهما قلَّما يتوافقان على الإضرار بالولد؛ لغرض النَّفس، ثم بتقدير توافقهما: اعتبر(4/184)
المشاورة مع غيرهما، وعند ذلك يبعد حصول موافقة الكلِّ على ما يكون فيه ضرر الولد، فعند اتِّفاق الكلِّ على أنَّ الفطام قبل الحولين لا يضرُّ الولد ألبتَّة يجوز الفطام.
فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير، كم شرط في جواز فطامه من الشروط؛ دفعاً للمضارِّ عنه، ثم عند اجتماع هذه الشَّرائط لم يصرِّح بالإذن، بل قال: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} .
قوله: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} .
«أن» وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ، مفعولاً ب «أَرَاد» وفي «اسْتَرْضَعَ» قولان للنَّحويين:
أحدهما: أنه يتعدَّى لاثنين، ثانيهما بحرف الجرِّ، والتقدير: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم، فحذف المفعول الأوَّل وحرف الجر من الثاني، فهو نظير «أَمَرْتُ الخَيْرَ» ، ذكرت المأمور به، ولم تذكر المأمور؛ لأنَّ الثاني منهما غير الأوَّل، وكلُّ مفعولين كانا كذلك، فأنت فيهما بالخيار بين ذكرهما وحذفهما، وذكر الأوَّل، دون الثاني والعكس.
قال الواحديُّ: «أن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ» ، أي: لأَوْلاَدِكُمْ وحذف اللام، اجتزاءً بدلالة الاسترضاع؛ لأنَّه لا يكون إلاَّ للأولاد، ولا يجوز: «دَعَوْتُ زَيْداً» وأنت تريد لزيد؛ لأنَّه لا يلتبس ها هنا خلاف ما قلنا في الاسترضاع، ونظير حذف «اللاَّم» قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] أي: كالو لهم، أو وزنوا لهم.
والثاني: أنه متعدٍّ إليهما بنفسه، ولكنه حذف المفعول الأول، وهذا رأي الزمخشريِّ، ونظَّر الآية الكريمة بقولك: «أَنَجَحَ الحَاجَةَ» «وَاسْتَنْجَحَتْهُ الحَاجَةُ» وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ؛ لأنَّ الأصل «رَضِعَ الوَلَدُ» ، ثم تقول: «أَرْضَعَت المَرْأَةُ الوَلَدَ» ، ثم تقول: «اسْتَرْضَعْتُهَا الوَلَدَ» ؛ هكذا قال أبو حيَّان.
قال شهاب الدين: وفيه نظر؛ لأنَّ قوله «رضِعَ الوَلَدُ» يشعر أنَّ هذا لازمٌ، ثم عدَّيته بهمزة النقل، ثم عدَّيته ثانياً بسين الاستفعال، وليس كذلك، لأنَّ «رَضِعَ الوَلَدُ» متعدٍّ، غاية ما فيه أنَّ مفعوله غير مذكورٍ، وتقديره: رَضِعَ الوَلَدُ أُمَّهُ؛ لأنَّ المادَّة تقتضي مفعولاً به؛ كضرب، وأيضاً فالتعدية بالسين قول مرغوبٌ عنه، والسين للطلب على بابها؛ نحو: اسْتَسْقَيْتُ زَيْداً مَاءً، واسْتَطْعَمْتُهُ خُبْزاً؛ فكما أنَّ ماءً وخبزاً منصوبان، لا على إسقاط الخافض كذلك «أَوْلاَدَكُمْ» ، وقد جاء [استفعل] للطَّلب، وهو معدًّى إلى الثاني بحرف جرٍّ، وإن كان «أَفْعَلَ» الذي هو أصله متعدِّياً لاثنين، نحو: «أَفْهَمَنِي زَيْد المَسْأَلَةَ» واستفهمته عنها، ويجوز حذف «عَنْ» ، فلم يجيء مجيءَ «اسْتَسْقَيْتُ» و «اسْتَطْعَمْتُ» من كون ثانيهما منصوباً، لا على إسقاط الخافض.(4/185)
وفي هذا الكلام التفاتٌ وتلوينٌ، أمَّا الالتفات: فإنه خروجٌ من ضمير الغيبة في قوله: «فَإِنْ أَرَادُوا» إلى الخطاب في قوله: «وَإِنْ أَرَدتُّمْ» ؛ إذ المخاطب الآباء والأمهات، وأمَّا التلوين في الضمائر، فإنَّ الأول ضمير تثنيةٍ، وهذا ضمير جمعٍ، والمراد بهما الآباء والأمهات أيضاً؛ وكأنه رجع بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولُودِ له، ولكنه غَلَّبَ المُذَكَّرَ، وهو المولودُ له، وإنْ كان مفرداً لفظاً، و «فَلاَ جُنَاحَ» جوابُ الشرطِ.
قوله: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} «إِذَا» شرطٌ حذف جوابه؛ لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، قال أبو البقاء: وذلك المعنى هو العاملُ في «إذا» وهو متعلِّق بما تعلَّق به «عَلَيْكُم» ، وهذا خطأٌ في الظاهر؛ لأنه جعل العامل فيها أولاً ذلك المعنى المدلول عليه بالشَّرط الأوَّل وجوابه، فقوله ثانياً «وهو متعلِّق بما تعلَّق به عَلَيْكُم» تناقضٌ، اللهم إلا أن يقال: قد يكون سقطت من الكاتب ألفٌ، وكان الأصل «أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ» فيصحُّ، إلاَّ أنه إذا كان كذلك، تمحَّضت «إِذَا» للظرفية، ولم تكن للشرط، وكلام هذا القائل يشعر بأنها شرطيةٌ في الوجهين على تقدير الاعتذار عنه.
وليس التَّسليم شرطاً للجواز والصحَّة، وإنَّما هو ندب إلى الأولى، والمقصود منه أن يسلِّم الأجرة إلى المرضعة يداً بيدٍ، حتى تطيب نفسها، ويصير ذلك سبباً لصلاح حال الطِّفل، والاحتياط في مصالحه.
وقرأ الجمهور: «آتَيْتُمْ» بالمدِّ هنا وفي الرُّوم: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً} [الروم: 39] وقصرهما ابن كثير. وروى شيبان عن عاصم «أُوتِيتُمْ» مبنيّاً للمفعول، أي: ما أقدركم الله عليه، فأمَّا قراءة الجمهور، فواضحةٌ؛ لأنَّ «آتَى» بمعنى «أَعْطَى» ، فهي تتعدَّى لاثنين، أحدهما ضمير يعود على «مَا» الموصولة، والآخر ضميرٌ يعود على المراضع، والتقدير: ما آتيتموهنَّ إيَّاه، ف «هُنَّ» هو المفعول الأوَّل؛ لأنه الفاعل في المعنى، والعائد هو الثاني؛ لأنه هو المفعول في المعنى، والكلام على حذف هذا الضمير، وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإشكال، والجواب عند قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] .
وأمَّا قراءة القصر، فمعناها جئتم وفعلتم يقال: أَتَيْتُ جميلاً، إذا فعلته؛ قال زهيرٌ: [الطويل]
1129 - وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ(4/186)
أي: فعلوه، والمعنى: إذا سلَّمتم ما جئتم وفعلتم.
فعلى هذه القراءة يكون التَّسليم بمعنى الطَّاعة، والانقياد، لا بمعنى تسليم الأجرة، يعني: إذا سلَّمتم لأمره وانقدتم لحكمه.
وقال أبو عليٍّ: ما أتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو عائد الموصول، فصار: آتيتموه، أي: جئتموه.
وأما قراءة عاصم، فمعناها: ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، وهو في معنى قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] .
ثم حذف عائد الموصول، وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير: ما جئتم به، فحذف، يعني: حذف على التَّدريج بأن حذف حرف الجرِّ أولاً؛ فاتَّصل الضمير منصوباً بفعلٍ، فحذف.
و «ما» فيها وجهان:
أظهرهما: أنها بمعنى «الَّذِي» وأجاز أبو عليٍّ فيها أن تكون موصولةً حرفيَّةً، ولكن ذكر ذلك مع قراءة القصر خاصَّةً، والتقدير: إذا سلَّمتم الإتيان، وحينئذٍ يستغنى عن ذلك الضَّمير المحذوف، ولا يختصّ ذلك بقراءة القصر، بل يجوز أن تكون مصدريَّةً مع المدِّ أيضاً؛ على أن المصدر واقعٌ موقع المفعول، تقديره: إذا سلَّمتم الإعطاء، أي: المعطى.
والظاهر في «مَا» أن يكون المراد بها الأُجرة التي تتعاطاها المرضع، والخطاب على هذا في قوله: «سَلَّمْتُمْ» و «آتَيْتُمْ» لآباء خاصَّة، وأجازوا أن يكون المراد بها الأولاد، قاله قتادة والزهري، وفيه نظرٌ؛ من حيث وقوعها على العقلاء؛ وعلى هذا فالخطاب في «سَلَّمْتُمْ» للآباء والأمَّهات.
قوله تعالى: {بالمعروف} فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق ب «سَلَّمْتُمْ» أي: بالقول الجميل.
والثاني: أن يتعلَّق ب «آتَيْتُمْ» .
والثالث: أن يكون حالاً من فاعل «سَلَّمْتُمْ» ، أو «آتَيتُمْ» ، فالعامل فيه حينئذٍ محذوفٌ، أي: مُلْتَبِسِينَ بالمعروف.
فصل
قد تقدَّم أنَّ الأمَّ أحقُّ بالرَّضاع، فإن حصل ثمَّ مانعٌ عن ذلك، جاز العدول عنها إلى غيرها، مثل أن تتزوَّج بزوجٍ آخر، فإنَّ قيامها بحقِّ ذلك الزوج يمنعها من الرَّضاع.
ومنها: إذا طلَّقها الزوج الأوَّل، فقد تكره الرَّضاع؛ حتى يتزوَّج بها زوجٌ آخر.
ومنها: أن تأبى المرأة إرضاع الولد؛ إيذاءً للزَّوج المطلِّق وإيحاشاً له.(4/187)
ومنها: أن تمرض، أو ينقطع لبنها.
فعند أحد هذه الوجوه، إذا وجدنا مرضعةً أخرى، وقبل الطفل لبنها، جاز العدول عن الأمِّ إلى غيرها.
فأمَّا إذا لم نجد مرضعةً أخرى أو وجدناها، لكنَّ الطفل لا يقبل لبنها، فهاهنا الإرضاع واجبٌ على الأمِّ.
ثم إنَّه تعالى ختم الآية بالتَّحذير، فقال: {واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .(4/188)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
في «الَّذِينَ» أوجهٌ:
أحدها: أنَّها مبتدأٌ لا خبر له، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهنَّ به؛ لأنَّ الحديث معهنَّ في الاعتداد، فجاء الخبر عن المقصود، إذ المعنى: من مات عنها زوجها، تربَّصت، وإليه ذهب الكسائيُّ والفراء؛ وأنشد الفراء: [الطويل]
1130 - لَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً ... عَلَى ابْنِ أَبِي ذِبَّانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا
فقال: لَعَلِّيَ «ثم قال:» أَنْ يَتَنَدَّمَ «فأخبر عن ابن أبي ذِبَّانَ، فترك المتكلم؛ إذ التقدير: لعلَّ ابن أبي ذبَّان أن يتندَّم إن مالت بي الرِّيح ميلةً. وقال آخر: [الطويل]
1131 - بَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ قَيْسٍ وَقَتْلَهُ ... بِغَيْرِ دَمٍ دَارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ
فأخبر عن قتله بأنه دار مذلَّةٍ، وترك الإخبار عن ابن قيسٍ.
وتحرير مذهب الكسائيِّ والفرَّاء: أنه إذا ذكر اسمٌ، وذكر اسم مضافٌ إليه فيه معنى الإخبار ترك عن الأول، وأخبر عن الثاني؛ نحو:» إنَّ زَيْداً وَأُخْتهُ مُنْطَلِقَةٌ «، المعنى: إن أخت زيدٍ منطلقةٌ، لكنَّ الآية الكريمة والبيت الأول ليسا من هذا الضَّرب، وإنما الذي أورده شبيهاً بهذا الضرب. قوله: [الوافر]
1132 - فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فَإِنِّي ... وَجِرْوَةَ لاَ تَرُودُ وَلاَ تُعَارُ(4/188)
وأنكر المبرد والزجاج ذلك؛ قالا: لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال، وليس هذا موضع البحث في هذا المذهب ودلائله.
الثاني: أنَّ له خبراً اختلفوا فيه على وجوه:
أحدها: أنه» يَتَرَبَّصْنَ «، ولا بدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوع هذه الجملة خبراً عن الأول؛ لخلوِّها من الرابط، والتقدير: وأزواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يَتَرَبَّصْنَ؛ ويدلُّ على هذا المحذوف قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة عليه. والتقدير: يتربَّصن بعدهم، أو بعد موتهم، قاله الأخفش.
وثالثها: أنَّ» يَتَرَبَّصْنَ «خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقدير: أزواجهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملة خبرٌ عن الأوَّل، قاله المبرِّد.
ورابعها: أنَّ الخبر محذوفٌ بجملته قبل المبتدأ، تقديره: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفَّون، ويكون قوله» يَتَرَبَّصْنَ «جملةً مبيِّنَةً للحكم، ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإعراب، ويعزى هذا لسيبويه.
قال ابن عطيَّة: وَحَكَى المَهْدَوِيُّ عن سيبويه أنَّ المعنى:» وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم الذين يُتَوَفَّونَ «، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه؛ لأنَّ ذلك إنما يتَّجه إذا كان في الكلام لفظ أمرٍ بعد المبتدأ، نحو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا} [المائدة: 38] {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] وهذه الآية فيها معنى الأمر، لا لفظه، فتحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر.
وخامسها: أن بعض الجملة قام مقام شيء مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقدير:» وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجُهُمْ «فحذف» أَزْوَاجُهُمْ «بجملته، وقامت النون التي هي ضمير الأزواج مقامهنَّ بقيد إضافتهنَّ إلى ضمير المبتدأ.
وقال القرطبيُّ: المعنى: والرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ «» وَيَذَرُونَ «- أي: يتركون -» أَزْوَاجاً «- أي: ولهم زوجاتٌ - فالزَّوجات» يَتَرَبَّصْنَ «قال معناه الزَّجَّاج واختاره النَّحاس، وحذف المبتدأ في القرآن كثيرٌ؛ قال تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار} [الحج: 72] أي هو النَّار.
وقرأ الجمهور» يُتَوَفَّوْنَ «مبنيّاً لما لم يسمَّ فاعله، ومعناه: يموتون ويقبضون؛ قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] ، وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً، فمن مات، فقد وجد عمره وافياً كاملاً.(4/189)
وقرأ علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ورواها المفضَّل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعلن ومعناه: يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ، قاله الزمخشريُّ.
ويُحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازةٍ، فقال له رجلٌ: من المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: الله، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - على أن أمره بوضع كتابٍ في النَّحو.
وقد تقدَّم البحث في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] وهل» بِأَنْفُسِهِنَّ «تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ» قُرُوء «على الظرف، أو المفعوليَّة؟ وهو جارٍ ها هنا.
قوله: {مِنكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال من مرفوع» يتَوَفَّوْنَ «والعامل فيه محذوفٌ، تقديره: حال كونهم منكم، و» مِنْ «تحتمل التبعيض وبيان الجنس والأزواج ها هنا.
فصل في معنى» التربص «
و» التَّرَبُّصُ «: التأنِّي والتصبُّر عن النِّكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح بألاَّ تفارقه ليلاً، ولم يذكر الله تعالى السُّكنى للمتوفَّى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلَّقة بقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وليس في لفظ العدَّة في القرآن ما يدلُّ على الإحداد وإنما قال:» يَتَرَبَّصْنَ «فبينت السُّنَّة جميع ذلك.(4/190)
قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} إنما قال» عَشْراً «من غير تاء تأنيثٍ في العدد والمراد عشرة أيام؛ لوجوه:
الأول: أنَّ المراد» عَشْرَ لَيَالٍ «مع أيامها، وإنما أوثرت الليالي على الأَيام في التاريخ لسبقها؛ قال الزمخشريُّ:» وقيل «عَشْراً» ذهاباً إلى الليالي، والأيام داخلةٌ فيها، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكير ذاهبين فيه إلى الأيام، تقولك «صُمْتُ عَشْراً» ، ولو ذكَّرْت خرجت من كلامهم، ومن البيِّن قوله تعالى: {إِلاَّ عَشْراً} [طه: 103] ، {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} [طه: 104] .
الثاني: قال المبرِّد: إنَّ حذف التاء؛ لأجل أنَّ التقدير عشر مددٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ، تقول العرب: «سِرْنَا خَمْساً» أي: بين يوم وليلة؛ قال: [الطويل]
1133 - فَطَافَتْ ثَلاَثاً بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ وَتَجْأَرَا
والثالث: أنَّ المعدود مذكَّرٌ وهو الأيام، وإنما حذفت التاء؛ لأنَّ المعدود المذكر، إذا ذكر وجب لحاق التاء في عدده؛ قالوا «صُمْنَا خَمْسَةَ أَيَّام» ، وإذا حذف لفظاً، جاز في العدد الوجهان: ذكر التاء وعدمها، حكى الكسائيُّ: «صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْساً» ، ومنه الحديث:
«وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ» ، وقال الشاعر: [الطويل]
1134 - وَإِلاَّ فَسِيرِي مِثْلَ مَا سَارَ رَاكِبٌ ... تَيَمَّمَ خَمْساً لَيْسَ فِي سَيْرِهِ أَمَمْ
نصَّ النحويون على ذلك.
قال أبو حيَّان: «فَلا يُحْتَاجُ إلى تأويلها بالليالي ولا بالمدد؛ كما قدَّره الزَّمخشريُّ والمُبَرِّد على هذا» ، قال: «وإذا تقرر هذا، فجاء قوله:» وَعَشْراً «على أحد الجازئين، وإنما حسن حذف التاء هنا؛ لأنه مقطع كلام، فهو شبيهُ بالفواصل؛ كما حسَّن قوله: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} [طه: 103] كونه فاصلةً، فقوله:» ولو ذَكَّرْتَ لَخَرجْتَ من كَلاَمِهِمْ «ليس كما ذكر، بل هو الأفصح، وفائدة ذكره» إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً «بعد قوله» إِلاَّ عَشْراً «أنه على زعمه أراد الليالي، والأيام داخلةٌ معها، فقوله:» إِلاَّ يَوْماً «دليلٌ على إرادةِ الأيَّام» . قال أبو حيان: «وهذا عندنا يدلُّ على أنَّ المراد بالعشر الأيَّام؛ لأنهم اختلفوا في مدَّة اللَّبث، فقال بعضهم:» عَشْراً «وقال بعضهم:» يَوْماً «فدلَّ على أنَّ المقابل باليوم إنما هو أيام؛ إذ لا يحسن في المقابلة أن يقول بعضهم: عَشْرُ لَيَالٍ، فيقول البعضُ: يَوْمٌ» .
الرابع: أنَّ هذه الأيَّام [أيَّام حزن ومكروه، ومثل هذه الأيَّام] تسمَّى بالليالي على(4/191)
سبيل الاستعارة؛ كقولهم: «خَرَجْنَا لَيَالِيَ الفِتْنَةِ، وجئنا لياليَ إِمَارَة الحَجَّاج» .
الخامس: أنَّ المراد بها الليالي، وإليه ذهب الأوزاعيُّ وأبو بكر الأصمُّ، وبعض الفقهاء قالوا: إذا انقضى لها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ، حلَّت للأزواج.
فصل
لما ذكر الله تعالى عدَّة الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الرَّضاع، ذكر عدَّة الوفاة أيضاً؛ لئلاَّ يتوهَّم أن عدة الوفاة مثل عدَّة الطلاق.
فصل فيمن تستثنى من هذه العدَّة
هذه العدَّة واجبةٌ على كلِّ امرأةٍ مات عنها زوجها، إلاَّ في صورتين:
الأولى: أن تكون أمَةً، فإنَّها تعتدُّ عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرَّة.
وقال أبو بكر الأصمُّ: عدتها عدَّة الحرَّة؛ لظاهر هذه الآية، ولأن الله تعالى جعل وضع الحمل في حقِّ الحامل بدلاً عن هذه المُدَّة؛ فوجب أن يشتركا فيه.
وأجاب الفقهاء بأنَّ التنصيف في هذه المدة ممكنٌ، وفي وضع الحمل غير ممكن، فظهر الفرق.
الصُّورة الثانية: أن تكون حاملاً، فعدَّتها بوضع الحمل، ولو كان بعد وفاة الزَّوج بلحظة.
وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أن تتربّصن بأبعد الأجلين.
واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] .
فإن قيل: هذه الآية إنما وردت عقيب ذر المطلَّقات؛ [فيكون للمطلَّقات] لا للمتوفَّى عنها زوجها.
فالجواب: أنَّ دلالة الاقتران ضعيفةٌ، والاعتبار إنَّما هو بعموم اللفظ.
وأيضاً: قال عبد الله بن مسعود: «أُنْزِلَتْ سورةُ النِّساء القُصْرَى بعد الطُّولى» أراد بالقصرى «سُورَة الطَّلاَقِ» ، وبالطُّولى «سُورَة البَقَرَةِ» ، وأراد به قوله تعالى في سورة الطلاق: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} نزلت بعد قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} فحمله على الفسخ، وعامَّة الفقهاء خصُّوا الآية بحديث سبيعة، وهو ما(4/192)
روي في «الصَّحِيحَينِ» : أنَّ سُبَيْعَة الأسلميَّة كانت تحت سعد بن خولة، فتوفِّي عنها في حجَّة الوداع، وهي حاملٌ، فولدت بعد وفات زوجها بنصف شهرٍ، فلمَّا طهرت من دمها تجمَّلت للخطَّاب، فدخل عليها أبو السَّنابل بن بعكك، رجلٌ من بني عبد الدَّار، فقال لها: ما لي أراك متجمِّلةً، لعلَّك تريدين النِّكاح، والله ما أنت بناكح حتَّى تمرَّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ، قالت سبيعة: فسألت النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك، قالت: فأفتاني بأنِّي قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتَّزويج، إن بدا لي.
ولا فرق في عدَّة الوفاة بين الصَّغيرة والكبيرة، وقال ابن عبَّاس: لا عدَّة عليها قبل الدُّخول.
فصل في عدة أم الولد المتوفى عنها سيدها
اختلفوا في عدَّة أمِّ الولد، إذا توفِّي عنها سيِّدها، فقال سعيد بن المسيَّب، والزُّهريُّ، والحسن البصريُّ، وجماعةٌ: عدَّتها أربعة أشهرٍ وعشرٌ، وبه قال الأوزاعيُّ، وإسحاق.
وروي عن عليٍّ، وابن مسعود: أن عدَّتها ثلاث حيضٍ، وهو قول عطاء وإبراهيم النَّخعيِّ وسفيان الثوريِّ وأصحاب الرَّأي.
قال مالكٌ: لا تنقضي عدَّتها في هذه المدَّة حتى ترى عادتها من الحيض في تلك المدَّة، مثل إن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ شهر فعليها حيضتان، وإن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ أربعة أشهر مرَّة، فهاهنا يكفيها الشُّهور، وهذا خلاف ظاهر الآية، فإن ارتابت، استبرأت نفسها من الرِّيبة؛ كما أنَّ ذات الأقراء، لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط.
فصل
إذا مات الزوج، وقد بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيَّامٍ، فالشَّهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلَّة، سواءٌ خرجت ناقصةً أو كاملةً، ثم تكمل الشهر الأوَّل من الخامس ثلاثين يوماً، ثم تضمُّ إليها عشرة أيَّامٍ.
وإن مات، وقد بقي من الشَّهر أقلُّ من عشرة أيامٍ، اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلَّة، وكمل العشرين من الشَّهر السادس.(4/193)
فصل في كون الآية ناسخة
أجمع الفقهاء على أنَّ هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول، وإن كانت متقدِّمة في التِّلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني، فإنّه أبى نسخها، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى. والتقدُّم في التلاوة لاّ يمنع التأخُّر في النزول.
فصل في ابتداء هذه المدَّة، فقال بعضهم: ابتداؤها من حين العلم بالوفاة؛ لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} والتربص بأنفسهن لا يحصل إلاَّ بقصد التربُّص، والقصد لا يكون إلا مع العلم.
وقال الأكثرون: ابتداؤها من حيث الموت؛ لأنَّه سببها، فلو انقضت المدَّة أو أكثرها، ثم بلغها خبر الوفاة، اعتدَّت بما انقضى من المدَّة، ويدلُّ على ذلك أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا علم لها يكفي في انقضاء عدَّتها مضيُّ هذه المدة.
فصل في وجوب نفقة الحامل
قال القرطبيُّ: أجمع العلماء على أنَّ نفقة المطلَّقة إذا كانت حاملاً واجبة؛ لقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفّى عنها زوجها، فقال ابن عبّاس، وسعيد بن المسيَّب، وعطاء، والحسن، وعكرمة، ويحيى الأنصاريُّ، وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق: ليس لها نفقةٌ، وحكاه أبو عبيد عن أصحاب الرأي.
وروي عن عليّ، وعبد الله: أنَّ لها النفقة من جميع المال، وبه قال ابن عمر، وشريحٌ، وابن سيرين، والشَّعبيُّ، وأبو العالية، والنَّخعيُّ، وحماد بن أبي سلمان، وأيُّوب السَّختيانيُّ وسفيان الثوريُّ، وأبو عبيدٍ.
فصل
روي عن أبي العالية وسعيد بن المسيَّب؛ أن الله تعالى حدَّ العدة بهذا القدر؛ لأنَّ الولد ينفخ فيه الرُّوح في العشر بعد الأربعة، وهو منقولٌ عن الحسن البصريِّ.
فصل
احتجَّ من قال إنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام؛ بقوله تعالى: {والذين(4/194)
يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} قالوا: هذا خطابٌ مع المؤمنين، فاختصَّ بهم، وجوابه أنَّ المؤمنين، لمَّا كانوا هم العالمين بذلك، خصَّهم بالذِّكر؛ كقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] مع أنَّه كان منذراً للكلِّ؛ لقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] .
قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: مِن اختيار الأَزواج دون العقد، فإن العقد إلى الوَلِيِّ.
وقيل: فيما فَعَلْنَ من التَّزَيُّن للرجالِ زينةً لا يشكرها الشَّرْع.
فصل في وجوب الإحداد في عدَّة الوفاةِ
يجب عليها الإحدادُ في عدَّة الوفاة، وهو الامتناع من الزِّينة والطّ] ب، فلا يجُوز لها تدهينُ رأسها بأيِّ دُهْن كان، سواء كان فيه طِيبٌ أو [لم يكن] ، [ولها تدهِينُ جسدها بدُهن لا طيب فيه، فإن كان فيه طيبٌ، فلا يجوز] ، ولا يجُوزُ لها أن تكتحل بكُحلٍ فيه طيبٌ وفيه زينةٌ، كالكُحْل الأسود، ولا بأس بالكُحل الفارسيِّ الذي لا زينة فيه، فإن اضطرت إلى كُحل فيه زينةٌ فرخص فيه كثيرٌ من أهْل العلم منهم سالم بنُ عبد الله، وسليمان بنُ يسارٍ، وعطاءٌ والنخعيُّ، وبه قال مالكٌ وأصحاب الراي.
وقال الشَّافعيُّ: تكتحلُ به ليلاً وتمسحهُ نهاراً.
قالت أمُّ سلمة: دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين تُوُفِّي أبو سلمة، وقد جعلت عليَّ صبراً، فقال: إنَّه يَشُبُّ الوجه، فلا تجعليه إلاَّ باللَّيل وتنزعيه بالنَّهار.
ولا يجوز لها الخضابُ، ولا لُبسُ الوشي والدِّيباج والحُليِّ، ويجوزُ لها لُبْس البيض من الثِّياب، ولُبْسُ الصوف والوبر، ولا تلبسُ الثَّوب المصبوغ؛ كالأَحمر، والأصفر، والأَخضر النَّاضر، ويجوزُ ما صُبغ لغير زينةٍ؛ كالسَّواد والكُحْليِّ.
وقال سفيان: لا تلْبَسُ المصبُوغ بحالٍ.
فصل في العدة في بيت الزوج
قال القرطبيُّ: إذا كان الزوج يملكُ رقبة المَسكن، فإنَّ للزوجة العدَّة فيه، وعليه(4/195)
أكثرُ الفقهاءِ، وإِن كان للزَّوج السكنى دون الرَّقبة، فلها السكنى في مدَّة العدَّة؛ خلافاً لأبي حنيفة والشَّافعيِّ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - للفُريعة - وقد علم أن زوجها يملك رقبة المسكن -: «أمْكُثي في بيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ» .
وهذا إذا كان قد أدَّى الكراء، فإِن كان لم يُؤَدِ الكراء، فالذي في «المُدَوَّنَة» أنَّه لا سكْنَى لها في مالِ المَيِّت، وإن كان مُوسِراً؛ لأنَّ حقَّها إنما يتعلق بما يمكله مِنَ السُّكْنَى ملكاً تامّاً، وما لَمْ ينقد عوضه لم يملكه مِلكاً تامّاً، وإنَّما ملك العوضَ الذي بيده، ولا حقَّ في ذلك للزَّوجة إلاَّ بالميراثِ، دون السُّكْنَى؛ لأنَّ ذلك مالٌ، وليس بسكْنَى. ورُوي عن مالكٍ: أن الكِراء لازمٌ للميِّت في ماله.
فصل
ولها أن تخْرج في حوائجها نهاراً إلى بعد العتمة، ولا تبينُ إِلاَّ في منزلها، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لا يحلُّ لامْرَأَةٍ تؤمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِر» يدلُّ على أنَّ الكتابيَّة لا إحداد عليها، وبه قال أبو حنيفة، ورُوِيَ عن مالك أَنَّ عليها الإحداد؛ كالمسلمة، وبه قال الشافعيُّ.
فصل
والإحدادُ واجبٌ على جميع الزَّوجات الحرائِر والإِماء والصغار والكبار، وذهب أبو حنيفة أنَّه لا إحدادَ على أمة، ولا على صغيرة، وقال الحسن: الإحْدَادُ ليس بواحبٍ.
قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكونَ حالاً من فاعل «فَعَلْنَ» ، أي: فَعَلْنَ مُلْتَبسَاتٍ بالمعروف ومُصَاحِباتٍ له.
والثاني: أنه مفعولٌ به، أي: تكونُ الباءُ باءَ التعدية.
الثالث: أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ، أي: فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف، أي: كائناً، ويجيءُ فيه مذهب سيبويه: أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ، أي: فَعَلْنَهُ - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروف، وهو الوجهُ الرابعُ.
قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} متعلق ب «خَبِيرٌ» ، وَقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ، و «مَا» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى «الذي» أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ، وعلى هذين القولين، فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأَوَّل لا يُحتاجُ إليه، إلا على رأي ضعيفٍ.(4/196)
فصل
تَمَسَّكَ أصحابُ أبي حنيفة في جواز النِّكاح بغير وليِّ بقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} قالوا: وإضافةُ الفعل إلى الفاعل محمولٌ على المباشرة؛ لأنَّ هذا هو الحقيقة في اللفظ.
والجوابُ أنَّ هذا الخطابَ مع الأَولياء، أو الحُكَّام؛ كما تقدَّم، وتقدير الآية: لا جُنَاحَ على النِّسَاء وعلَيْكُم، ثم قال: {فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} أي: ما يحسُنُ عقلاً وشرعاً؛ لأَنَّ المعروف ضدُّ المنْكَر الذي لا يحْسُن، وذلك هو الحلالُ من التزويج إذا كان مستجمعاً لِشرائط الصِّحَّة، والله أعلم.(4/197)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
قال القرطبيُّ: لا جناح، أي: لا إِثْمَ والجناحُ: الإثمُ، وهو أصح في الشَّرع.
وقيل: بل هو الأَمر الشاقُّ، وهو أصحُّ في اللغة؛ قال الشَّمَّاخ: [الوافر]
1135 - إِذَا تَعْلُو بِرَاكِبِهَا خَلِيجاً ... تَذَكَّرُ مَا لَدَيْهِ مِنَ الجُنَاحِ
و «التَّعْريضُ» في اللغة: ضدُّ التصريح، ومعناه: أن يضمِّن كلامَهُ ما يصلحُ للدَّلالة على مقصُوده، ويصلُحُ للدَّلالة على غير مقصُوده، إلا أن إشعَاره بجانب المقصُود أتَمُّ وأرجحُ.
وأصلُهُ مِنْ عُرض الشيء، وهو جانبُهُ؛ كأنَّه يحوم حولَهُ؛ ولا يظهر، ونظيره أن يقول المُحتاج للمحتاج إليه: جئتُكَ لأُسلمَ عَلَيك، ولأنْظر إلى وجهك الكريم؛ ولذلك قال: [الطويل]
1136 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَحَسْبُكَ بِالتَّسْلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا
والتعريض قد يُسمَّى تلويحاً؛ لأنَّه يَلُوحُ منه ما يريدُه، والفرقُ بين الكناية والتعريض: أنَّ الكناية ذكرُ الشَّيء بذكر لوازمه؛ كقولك فلانٌ طويلُ النجادِ، كثيرُ الرماد؛ لأنَّ النجاد عبارةٌ عن حَمِيلَةِ السَّيفِ، إذا كانت حميلةُ سيفهِ طويلةً، لزم منه أن يكونَ الرَّجُل طويلاً، وكذلك إذا كان كثير الرمَادِ، لزم منه أن يكون كثير الطَّبخ للأَضياف،(4/197)
وغيرهم، والتعريضُ أنْ يذكر كلاماً يحتمل المقصُود وغيره، إلاَّ أنَّ قرينة الحال تؤكِّد حمله على المقصُود.
وقال الفراء: الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب، وهي مثل قولك: إِنَّه لَحَسَنُ القِعْدةِ والجِلْسَةِ تريد: القُعُود والجُلُوس والخطبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْبِ، والخَطْب: الحاجة، ثم خُصَّت بالتماس النكاح؛ لأنه بعضُ الحاجات، يقال: ما خَطْبُكَ؟ أي: ما حاجتُك. وفي اشتقاقه وجهان:
الأول: الأمر والشأن يقال ما خطبُكَ؟ أي: ما شأنُكَ؟ فقولهم: خَطَبَ فلانٌ فُلانَةً، أي: سَأَلَهَا أَمراً وشأناً في نفسِها.
والثاني: أصلُ الخِطْبة من الخطابة الَّذي هو الكلامُ، يقال: خَطَبَ المرأة، أي: خاطبها في أمر النِّكاح، والخطب: الأمر العظيم؛ لأ، َّه يحتاجُ لخطاب كثيرٍ. والخطبة بالضَّم، الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزَّجرِ، وكلاهما من الخَطْبِ الذي هو الكلامُ، وكانت سَجاح يُقال لها خِطْبٌ فتقول: نِكْحٌ.
قوله تعالى: {مِنْ خِطْبَةِ النسآء} في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: الهاءُ المجرورةُ في «بِهِ» .
والثاني: «مَا» المجرورة ب «فِي» ، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ، وقال أبو البقاء: حالٌ من الهاءِ المجرورةِ، فيكونُ العاملُ فيه «عَرَّضْتُمْ» ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من «مَا» فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ. قال شهاب الدين: وهذا على ظاهره ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ؛ على ما تقرَّر، إلا أَنْ يريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ، فقد يجوزُ له ذلك.
والخِطبة بكسر الخاء - فعلُ الخاطِب -: من كلام وقصدٍ، واستلطافٍ، بفعل أَو قولٍ. يقال: خطبها يخطبها خطباً، أو خطبةً، ورجل خَطّاب كثيرُ التصرفِ في الخطبةِ، والخطيبُ: الخاطِبُ، والخِطِّيبَى: الخِطْبة، والخطبة فعلهُ: كجلسةٍ، وقعدةٍ، وخُطبة - بضمِّ الخاءِ - هي الكلامُ الذي يقال في النكاح، وغيره.
قال النحاس: «والخُطبة» ما كان لها أَوَّل وآخر، وكذلك ما كان على فعله، نحو الأَكلة، والضَّغطَة.
فصل في جواز التعريض بالخطبة في عدة الوفاة
التعريضُ بالخطبة مباحٌ في عدَّة الوفاة، وهو أَنْ يقول: رُبَّ راغبٍ فيك، ومَنْ يجدُ(4/198)
مثلك، إنَّك لجميلة إنَّك لصالِحَةٌ، إنّك عليّ كريمةٌ، إنِّي فيك لراغِبٌ، وإن مِنْ غرضي أَنْ أَتزوَّج، وإِنْ جمع اللهُ بيني وبينك بالحلالِ أعجبتني، وإِنْ تزوَّجتُك لأُحسن إليك، ونو ذلك من الكلامِ، من غير أَنْ يقول: أَنْحكيني.
والمرأةُ تجيبه بمثله، إِنْ رغبتْ فيه.
وقال إبراهيم: لا بأس أَنْ يُهدي لها ويقوم بشغلها في العدة، إذا كانت غير شابةٍ.
روي أَنَّ سُكَيْنةَ بنت حنظلة؛ بانت من زوجها، فدخل عليها أَبُو جعفرٍ محمَّد بن علي الباقر في عِدّتها، وقال: يا ابنة حنظلة، أنا مَنْ قد عَلِمْت قرابتي مِنْ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحقَّ جَدِّي عليِّ، وقدَمي في الإسلام، فقالت له سُكينة: أَتخطبني وأنا في العدَّة، وأَنْتَ يؤخذُ عنك؟ فقال أو قد فعلت؟ إِنَّما أخبرتُك بقرابتي مِنْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وقد دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أُمِّ سلمة، وهي في عِدَّةٍ من زوجها، أبي سلمة، فذكر لها منزلتهُ مِنَ الله - عَزَّ وَجَلَّ َّ - وهو متحامِلٌ على يده؛ حتَّى أثَّر الحصيرُ في يده من شدَّة تحامله على يده.
فصل
والنٍّساء في حكم الخِطبة على ثلاثة أقسامٍ:
الأول: التي يجوز خِطْبتُها تعريضاً، وتصريحاً، وهي الخاليةُ عن الأَزْوَاجِ والعدد إلاَّ أَنْ يكونَ خطبها غيره؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا يَخْطِبَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيْهِ» ، وهذا الحديثُ وإِنْ كان مطلقاً ففيه ثلاثةُ أجوالٍ:
الحالة الأولى: أَنْ يخطب الرجلُ، فيجاب صريحاً؛ فهاهنا لا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها.
الحالة الثانية: أَنْ يُجابَ بالردِّ صريحاً؛ فها هنا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها.
الحالة الثالثة: ألاَّ يوجد صريحُ الإجابة، ولا صريحُ الرَّدِّ؛ فهاهنا فيه خلافٌ.
فقال بعضهم تجوزُ خطبتها؛ لأَن السكوتَ لَمْ يدُلَّ على الرِّضا وهو الجديدُ عن الشَّافعيَّ.
وقال مالكٌ: لا يجوزث، وهو القديمُ؛ لأنَّ السكوت وإِنْ لم يدُلَّ على الرضا، لكنه لا يدلُّ أيضاً على الكراهة، فربَّمَا حصلت الرغبةُ مِنْ بعضِ الوجوه؛ فتصيرُ هذه الخِطبةُ الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة.(4/199)
القسم الثاني: التي لا تجوز خِطْبتُها؛ لا تصريحاً، ولا تعريضاً، وهي زوجة الغير؛ لأَنَّ خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأَمر على زوجها، مِنْ حيثُ إنها إذا علمت رغبة الخاطب، فربما حملها ذلك على الامتناع مِنْ تأدية حُقُوق الزوج، والتسبب إلى هذا حرامٌ، والرجعية كذلك؛ لأنها في حكم الزوجة؛ لصحة طلاقها، وظهارها، ولعانها، وعِدَّتُها منه عِدَّة الوفاة إذا مات عنها ويتوارثان.
القسم الثالث: أَنْ يفصل في حقِّها بين التعريض، والتَّصريح، وهي المعتدة غير الرجعيَّة، وهي ثلاثة أقسامٍ:
الأول: المعتدة عِدَّة الوفاةِ، يجوز خطبتها تعريضاً؛ لقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} فظاهره أنها المتوفَّى عنها زوجها؛ لأنها مذكورةٌ عقب تلك الآية، ولمّا خُصِّصَ التعريضُ بعدم الجناح، دلّ على أنّ التصريحَ بخلافشهِ، والمعنى يُؤكِّدُه؛ لأن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فربما حملها الحِرص على النكاح، على الإِخبار بانقضاء العِدَّة قبل أَوانها بخلافِ التعريضِ، فإنَّه يحتمل غير ذلك، فلا يدعوها إلى الكذب.
الثاني: المعتدةُ عن الطلاق الثلاث، والبائن باللِّعان والرَّضاع ففي جواز التعريض بخطبتها خلافٌ.
فقيل: يجوز التعريض بخطبتها، لأنّها ليست في نكاحٍ، فأشبهت المتوفى عنها.
وقيل: لا يجوزُ لأنّ عدتها بالأَقراءِ، فلا يُؤمن عليها الكَذِب في الإخبارِ بانقضاء عدَّتها؛ لرغبتها في الخُطَّاب.
الثالث: البائِنُ لطلاقٍ أَوْ فسخٍ، وهي التي يجوزُ لزوجها نكاحُها في عدَّتها كالمختلعة، والتي انفسخ نكاحُها بعيبٍ أو عُنَّةٍ، أَو إعسار نفقةٍ، فهذه يجوزُ لزوجها التصريحُ، والتعريضُ؛ وأَمَّا غيرُ الزوج، فلا يحلُّ له التصريحُ، وفي التعريض خلافٌ، والصحيحُ: أنّه لا يحِلُّ لأنها مُعتدةٌ، تحلُّ للزوجِ أَنْ يستنكحها في عِدَّتها، فلم يحلَّ التعريض لها كالرجعية.
وقيل: هي كالمتوفَّى عنها زوجها، والمطلقة ثلاثاً.
قوله تعالى: {وْ أَكْنَنتُمْ} «أَوْ» هنا للإباحةِ، أو التخيير، أو التفصيلِ، أو الإِبهامِ على المخاطبِ، «وأَكَنَّ» في نفسِهِ شيئاً، أي: أَخْفَاهُ، وكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوه: أي سَتَرَهُ به، فالهمزةُ في «أَكَنَّ» للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ ك «أَشْرَقَتْ، وشَرَقَتْ» .
وقال الفراءُ: للعرب في «أَكْنَنْتُ الشَيْءَ» أي: سترتهُ، لغتان: كنَنْتُه، وأَكْنَنْتُه في(4/200)
الكِنِّ، وفي النَّفْس؛ بمعنى، ومنه {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [القصص: 69] ، و {بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 49] وفرَّق قومٌ بينهما، فقالوا: كننتُ الشيء، إذا صُنته حتَّى لا تُصيبه آفةٌ، وإن لم يكن مستُوراً يقال: دُرٌّ مكنونٌ وجاريةٌ مكنونةٌ، وبيضٌ مكنونٌ مصونٌ عن التدحرج؛ وأمَّا «أَكْنَنْتُ» فمعناه: أضمرت ويستعمل ذلك في الشيء الذي يُخفيه الإنسانُ، ويستره عن غيره، وهو ضِدُّ أَعْلنتُ وأظهرت، ومفعول «أكنَّ» محذوفٌ يعودُ على «ما» الموصولة في قوله: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ} أي: أو أكْنَنْتُمُوهُ، ف {في أَنْفُسِكُمْ} متعلِّقٌ ب {أَكْنَنتُمْ} ، ويضعُفُ جعلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ.
فصل في عدوم وجوب الحد بالتعريض
استدلَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّه لا يجب الحدُّ بالتعريض بالقذف [لأن الله تعالى لمَّا دفع الجَرَج في التعريض بالنِّكاح، دلَّ على أنَّ التعريض بالقذف] لا يوجب الحد.
وأُجيب بأنّ الله - تعالى - لم يحلَّ التصريح بالخطبة في النكاح للمعتدَّة، وأَذِن في التعريض الذي يُفهم منه النكاحُ، فهذه يدلُّ على أَنَّ التعريض يُفهم منه القذف والأعراضِ يجب صيانتها، وذلك يوجب الحدَّ على المعرِّض؛ لئلا يتعرض الفسقةُ إلى أخذ الأَعراضِ بالتعريض الذي يُفهم منه ما يُفهم بالتصريح.
فصل في المقصود من الآية
والمقصودُ من الآية أَنّه لا حرج في التعريض للمرأة في عِدَّة الوفاة، ولا فيما يُضمره الرجلُ من الرغبة فيها.
فإن قيل: إنَّ التعريضَ بالخطبة أعظم حالاً مِنْ أَنْ يميل بقلبه إليها، ولا يذكر باللِّسان شيئاً، فلمّا قدّم جواز التعريض بالخطبة، كان قوله بعد ذلك {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} جارٍ مجرى إيضاح الواضحات.
فالجواب: ليس المرادُ ما ذكرتم، بل المرادُ أنّه أباح التعريض، وحرّم التصريح في الحالِ، ثم قال: {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} والمرادُ: أَنْ يعقد قلبه على أنه سيصرحُ بذلك في المستقبلِ، ففي أوَّل الآيةِ أباح التعريض في الحالِ، وحرَّم التصريح في الحالِ، وها هنا أباح له أن يعقد عليه على أنَّه سيصرِّحُ بذلك بعد انقضاء العدّة، ثم إنّه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك، فقال: «عَلِمَ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ» لأنَّ شهوةَ النفس إذا حصلت للنكاح، لا يكاد يخلُو ذلك المشتهي من العزم، والتَّمَنِّي، فلمّا كان دفع هذا(4/201)
الخَاطر، كالشيء الشَّاقِّ أَسقط عنه هذا الحرج، وأباحَ له ذلك، ثُمَّ قال: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} وهذا الاستدراك فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه استدراكٌ من الجملةِ قبله، وهي قوله: {سَتَذْكُرُونَهُنَّ} ؛ فإنَّ الذِّكر يقع على أنحاء كثيرةٍ، ووجوهٍ متعددةٍ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهُ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصُوص، ولو لم يُسْتَدْرَكْ، لكانَ من الجائز؛ لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ، وهو نظيرٌ: «زَيْدٌ سَيَلْقَى خَالِداً، ولَكِنْ [لاَ] يواجهُهُ بِشَرٍّ» ، لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً، من جملتها مواجته بالشَّرِّ، استُدْرِكَتْ هذه الحالةُ من بينها.
والثاني: - قاله أبو البقاء -: أنه مستدرَكٌ من قوله: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ} وليس بواضحٍ.
والثالث: - قاله الزمخشريٌّ - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل «لَكِنْ» تقديرُهُ: «فَاذْكُرُوهُنَّ، وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً» وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدرَاكِ من الجملةِ قبلَه، فلا حاجة إلى حذف؛ وإنما الذي يحتاجُهُ ما بعدَ «لَكِنْ» وقوعُ ما قبلها من حيث المعنى، لا من حيثُ اللفظُ؛ لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشَّرّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ.
قوله: {سِرّاً} فيه خمسةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكونَ مفعولاً ثانياً.
والثاني: أنه حالٌ من فاعلِ «تُوَاعِدُوهُنَّ» ، أي: لا تُوَاعِدُوهُنَّ مُسْتَخِفين بذلك.
والثالث: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ، أي: مواعدةً سِرّاً.
والرابع: أنه حالٌ من ذلك المصدر المُعَرَّف، أي: المواعدةَ مستخفيةً.
والخامس: أَنْ ينتصِبَ على الظرف مجازاً، أي: في سِرٍّ.
وعلى الأقوالِ الأربعةِ: فلا بُدَّ من حذفِ مفعولٍ، تقديرهُ: لا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحاً.
والسِّرُّ: ضدُّ الجهرِ: وقيل: يُطْلَقُ على الوَطْءِ، وعلى الزِّننا بخُصُوصيَّةٍ؛ وأنشدوا للحُطَيْئة: [الوافر]
1137 - وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ القِصَاعِ
وقول الآخر - هو الأعشى -: [الطويل]
1138 - وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةَ إِنَّ سِرَّهَا ... حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
وقال الفرزدق: [الطويل](4/202)
1139 - مَوَانِعُ لِلأَسْرَارِ إِلاَّ مِنَ أهْلِهَا ... وَيُخْلِفْنَ مَا ظَنَّ الغَيُورُ الْمُشَفْشِفُ
أي: الذي شَغفه بهن، يعني: أنهنَّ عفائفُ يمنعن الجماعَ إلاَّ من أَزواجِهِنَّ؛ وقال امرؤ القيس: [الطويل]
1140 - أَلاَ زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليَوْمَ أَنَّني ... كَبِرتُ وَأَلاَّ يُحْسِنُ السَّرَّ أَمْثَالِي
فصل في بيان السر في الآية
اختلفوا في السِّرِّ هنا، فقال قومٌ: هو الزِّنا، كان الرجلُ يدخل على المرأةِ مِنْ أجلِ الزِّنْيَة وهو يُعرِّضُ بالنِّكاح، ويقول لها: دعيني أُجامِعْكِ، فإذا وَفَيْتِ عشدَّتك، أظهرتُ نكاحك قاله الحسن، وقتادة، وإبراهيم، وعطاءٌ، ورواه عطيةٌ عن ابن عباس.
وقال زيد بن أسلم: أي: لا يُنْكِحها سرّاً فيمسكها فإذا حلّت، أظهرت ذلك.
وقال مجاهدٌ: هو قول الرجل لا تفوِّتيني بنفسك، فإنِّي ناكِحُك. وقال الشعبيُّ، والسدِّيُّ: لا يؤخَذُ ميثاقها، ألاَّ ينكح غيرها. وقال عكرمة: لا يخطبها في العِدَّة.
وقال الكلبيُّ ورُوِيَ عن ابن عباس: أي تصفُوا أنفُسكم لهُنَّ بكثرةِ الجماع، فيقول آتيتك الأَربعة والخَمْسة، وأشباه ذلك، وإنما قيل للزِّنا والجماع سِرّاً؛ لأنه يكون في خفاءٍ بين الرجل والمرأةِ.
فصل في كراهة المواعدة في العدّة
حكى القرطبيُّ، عن ابن عطيَّة، قال: أجمعتِ الأُمَّةُ على كراهة المواعدة في(4/203)
العدة للمرأة في نفسها، وللأَبِ في ابنته البِكْر، والسيّد في أمتِه. قال ابن المواز: وأمّا الوليّ الذي لا يملكُ الجبر، فأكرهُهُ.
وقال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ ُ - فيمَنْ يواعد في العدَّة، ثم يتزوج بعدها: فراقها أَحَبُّ إليّ، دخل بها، أو لم يدخل، وتكون تطليقةً واحدةً هذه رواية ابن وهبٍ، وروى أشهب عن مالكٍ، أنّه يفرِّق بينهما إيجاباً، وقاله ابنُ القاسِمِ، وحكى ابن الحارِث مثلهُ عن ابن الماجشون، ورأى ما يقتضي أَنَّ التحريم يتأبدُّ، وقال الشافعيُّ إِنْ صرَّح بالخطبة، وصرَّحت له بالإجابة، ولم ينعقد النكاح [حتى] تنقضي العِدَّة، فالنكاح ثابت [والتصريح لهما مكروهٌ]
قوله: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ} في هذا الاستثناءِ قولان:
أحدهما: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنه لا يندرج تحت «سِرّ» على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه به، كأنه قال لكنْ قولُوا قولاً معروفاً.
والثاني: أنه متصلٌ، وفيه تأويلان ذكرهما الزمخشري فإنه قال: فَإِنْ قلتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناء؟ [قلتُ] : ب {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ} ، أي: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قطٌّ إلا مواعدةً معروفةً غيرَ مُنْكَرَةٍ، أو لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلا بأَنْ تقولوا، أي: لا تواعِدُوهُنَّ إلاَّ بالتعريضِ، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من «سِرّاً» ؛ لأدائِهِ إلى قولك: «لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلاَّ التعرِيضَ» انتهى، فجعلَهُ استثناءً متصلاً مُفَرَّغاً على أحدِ تأويلين:
الأول: أنه مستثنىً من المصدرِ؛ ولذلك قدَّره: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً إلاَّ مواعدةً معروفةً.
والثاني: أنه من مجرور محذوفٍ؛ ولذلك قَدَّره ب «إِلاَّ بَأَنْ تَقُولُوا» ؛ [لأنَّ التقدير عنده: لا تُوَاعِدُوهُنَّ بشيءٍ، إلا بَأَنْ تقولُوا، ثم أَوْضَحَ قوله بأنْ تَقُولُوا] بالتعريض، فلمَّا حُذِفَت الباءُ من «أَنْ» ، وهي باءُ السببيةِ بقي في «أَن» الخلافُ المشهورُ بعد حذفِ حرفِ الجرِّ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جَرٍّ؟ وقوله: «لأدائِهِ إلى قولك ... إلى آخره» يعني أنه لا يصِحُّ تسلُّط العامِل عليه، فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ، وأنت لو قلْتَ: «لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إِلاَّ التَّعْرِيض ليس مواعداً.
وردَّ عليه أبو حيان: بأنَّ الاستثناء المنقطع ليس مِنْ شرطِهِ صحَّةُ تسلُّطِ العامِل عليه، بل هو على قسمين: قسم يَصِحُّ فيه ذلك، وفيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً، نحو:» مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلاَّ حِمَاراً «ولغةُ تميم إجراؤه مجرى المتصل، فيجرونَ فيه النصبَ والبدلية بشرطه. وقِسْم لا يصحُّ فيه ذلك، نحو:» مَا زَادَ إِلاَّ مَا نَقَصَ «، و» مَا نَفَعَ إِلاَّ مَا ضَرَّ «، وحكمُ هذا النّصبُ عند العرب قاطبةً، فالقسمان يشتركان في التقديرِ ب» لَكِنْ «عند البصريين، إلاَّ أنَّ أحدهما يصحُّ تسلُّط العامِل عليه في قولك:» مَا جَاءَ أَحَدٌ(4/204)
إِلاَّ حِمَار «لو قلت:» مَا جَاءَ إِلاَّ حِمَارٌ «، صَحَّ؛ بخلافِ القسمِ الثاني؛ فإنَّه لا يتوجَّه عليه العامل وقد تقدم البحثُ في مثل هذا كثيراً.
فصل في القول المعروف ما هو؟
قال بعضُ المفسرين: هو التعريض بالخطبة.
وقال آخرون: لمّا أُذِن في أوّل الآيةِ بالتعريض، ثم نهي عن المسارَّة معها؛ دفعاً للريبةِ، استثني منه المسارَّة بالقولِ بالمعروفِ، وهو أَنْ يعدها في السرِّ بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفُّل بمصالحها؛ حتى يصير ذِكرُ هذه الأَشياء الجميلة، مُؤكَّداً لذلك التعريض.
قوله: {وَلاَ تعزموا} في لفظ» العَزْمِ «وجوه:
الأول: أنّه عبارةٌ عن عقدِ القلب على فعلٍ من الأَفعالِ، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [آل عمران: 159] فلا بُدَّ في الآيةِ من إضمار فعلٍ، وهذا اللفظ إنما يُعَدَّى للفعل بحرفِ» عَلَى «فيقال: فلان عزم على كذا، فيكونُ تقدير الآيةِ:» ولا تَعْزمُوا على عُقدة النكاح حتى يبلُغَ الكِتَابث أَجَلَهُ «والمقصودُ منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العِدَّة، فإنّ العزم متقدمٌ على المعزوم عليه، فإذا ورد النهي عن الإِقدام على المعزوم عليه كان أولى.
الثاني: أنَّ العزم عبارةٌ عن الإِيجاب، يقال: عزمتُ عليكم، أي: أَوجبتُ، ويقال هذا من باب العزائم، لا من باب الرُّخَصِ؛ وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» عَزْمَةٌ مِنْ عَزَائِمِ رَبِّنَا «وقال:» إِنَّ اللهَ تَعالى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصُهُ كَمَا تُؤْتَى عَزَائِمُهُ «
، فالعزمُ بهذا المعنى جائزٌ على الله تعالى، وبالوجه الأول لا يجوز.
وإذا ثبتَ هذا فنقولُ: الإيجابُ سببُ الوجود ظاهراً، فلا يبعد أَنْ يُستفاد لفظ العزمِ من الوجودِ، وعلى هذا فقوله: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} ، أي: لا تحقِّقُوا، ولا تُنْشئَوا، ولا تُفرِّعوا منه فعلاً؛ حتى يبلغ الكتابُ أَجَلَهُ وهذا اختيارُ أَكْثَر المحققين.
الثالث: قال القفَّال: إنما لم يقُلْ: ولا تعزِمُوا على عقدةِ النكاح؛ لأن معناهُ: ولا تعقدوا عُقْدة.
قال القرطبيُّ: عزم الشيء عليه قال تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} [البقرة: 227](4/205)
وقال هنا: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} . وحكى سيبويه: ضُرِبَ فلانٌ الظهر والبطنَ أي: «عَلَى» .
قال سيبويه: والحذفُ في هذه الأَشياء لا يقاسُ عليه.
وقال النحاسُ: ويجوز أَنْ يكون ولا تعقِدُوا عُقدة النكاح؛ لأَنَّ معنى «تَعْزِمُوا» و «تَعْقِدُوا» واحدٌ.
ويقال: تعزُمُوا، بضم الزاي.
فصل
اعلم أنَّ الإِنسان إذا فعل فعلاً فلا بُدَّ أَنْ يتقدَم ذلك الفعلَ ستُّ مُقَدِّماتٍ.
الأولى: أن يسنح له ذلك الفعل، ومعنى «يَسْنَحْ له» : أن يَجْنح إلى فعله، ويعرضُ له فعله.
وثانيها: أَنْ يفكِّر في فعله، بمعنى أن يفعله، أم لا. وثالثها: أن يخطِرَ بباله فعله، بمعنى أنه يترجَّحُ فعله على تركه. ورابعها: أن يريدُ فِعْلَهُ.
وخامسها: أَنْ يَهمّ بفعله، وهو عزمٌ غيرَ جازِمٍ.
وسادسها: أَنْ يعزِم عَزْماً جازِماً فيفعله.
فصل في أصل العقد
وأَصل العقد: الشدُّ، والمعهود، والأنكحةُ تُسمَّى عُقُوداً لأنها تعقد كعقود الحبل في التوثيق.
قوله: «عُقْدَةَ» في نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعولٌ به على أنه ضمَّن «عَزَمَ» معنى ما يتعدَّى بنفسه، وهو: تَنْوُوا أو تُبَاشِرُوا، ونحو ذلك.
والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر، وهو «عَلَى» ؛ فإنَّ «عَزَمَ» يتعدَّى بها، قال: [الوافر]
1141 - عَزَمْتُ عَلَى إقَامةِ ذِي صَبَاحٍ ... لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وحذفها جائز، كقول عنترة، [الكامل]
1142 - وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأظَلُّهُ ... حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَطْعِمِ(4/206)
أي: وَأَظَلُّ عليه.
والثالث: أنه منصوبٌ على المصدر؛ فإنَّ المعنى: ولا تعقدوا عقدة؛ فكأنه مصدرٌ على غير الصَّدر؛ نحو: قعدت جلوساً، والعقدة مصدرٌ مضاف للمفعول، والفاعل محذوفٌ، أى: عُقْدتكم النِّكاح.
قوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} فى «الكتاب» وجهان:
أحدهما: أن المراد به المكتوب، والمعنى: حتى تبلغ العدَّة المفروضة آخرها.
الثانى: أن يكون المراد «الكتابَ» نفسه، لأنه فى معنى الفرض؛ كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] فيكون المعنى: حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته، وقال تعالى: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] أى: مفروضة.
قال القرطبى: وقيل: فى الكلام حذف، أى: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، فالكتاب على هذا المعنى بمعنى القرآن.
ثم قال تعالى: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ} وهذا تنبيه على أنّه تعالى لمّا كان عالماً بالسرّ، والعلانية؛ وجب الحذر منه فى السرِّ، والعلانية، فالهاء فى «فاحذروه» تعود على الله تعالى، ولا بدَّ من حذف مضاف، أى: فاحذروا عقابه. ويحتمل أن تعود على «مَا» فى قوله «مَا فِى أَنْفُسِكُمْ» بمعنى ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز، قاله الزمخشريُّ.
ثم قال: {واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي: لا يعجِّل بالعقوبة.(4/207)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
قوله: «مَا لَمْ» فى «مَا» ثلاثة أقوالٍ:
أظهرها: أن تكون مصدريةً ظرفيةً، تقديره: مدَّة عدم المسيس، كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 107] وقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] .
وقول الآخر: [الكامل]
1143 - إِنِّي بِحَبْلِكَ وَاصِلٌ حَبْلِي ... وَبِرِيشِ نَبْلِكَ رَائِشٌ نَبْلِي
مَا لَمْ أَجِدْكَ عَلَى هُدَى أَثَرٍ ... يَقْرُو مَقَصَّكَ قَائِفٌ قَبْلِي(4/207)
والثاني: أن تكون شرطيةً، بمعنى «إِنْ» نقله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ؛ لأنه يكون حينئذٍ من باب اعتراض الشرط على الشرط، فيكون الثانى قيداً فى الأول؛ نحو: «إِنْ تَأْتِ إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ أُكْرِمْكَ» أي: إن أتيت محسناً، وكذا فى الآية الكريمة: إن طلَّقتموهنَّ غير ماسِّين لهنَّ، بل الظاهر: أنَّ هذا القائل إنما أراد تفسير المعنى؛ لأنَّ «مَا» الظرفية مشبَّهة بالشرطيَّة، ولذلك تقتضي التعميم.
والثالث: أن تكون موصولة بمعنى «الَّذِي» ، وتكون للنساء؛ كأنه قيل: إن طلَّقتم النِّساء اللاَّئى لم تمسُّوهنَّ، وهو ضعيفٌ، لأنَّ «مَا» الموصولة لا يوصف بها، وإن كان يوصف ب «الَّذِي» ، و «الَّتي» ، وفروعهما.
وقرأ الجمهور: «تَمَسُّوهُنَّ» ثلاثيّاً وهى واضحةٌ؛ لأن الغشيان من فعل الرجل؛ قال تعالى حكاية عن مريم {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] . وقرأ حمزة والكسائيُّ فى الأحزاب «تُمَاسُّوهُنَّ» من المفاعلة، فيحتمل أن يكون «فَاعَلَ» بمعنى «فَعَلَ» ك «سَافَرَ» ، فتوافق الأولى، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ كما قال تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] ، وأيضاً: فإنَّ الفعل من الرجل والتمكين من المرأة، ولذلك قيل لها زانيةٌ، ورجَّح الفارسيّ قراءة الجمهور؛ بأنَّ أفعال هذا الباب كلَّها ثلاثيّةٌ؛ نحو: نَكَحَ، فَرَعَ، سَفَدَ، وضَرَبَ الفَحْلُ.
قال تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 74] ، وقال: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] ، وأمّا قوله فى الظّهار: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] فالمراد به المماسَّة التى هي غير الجماع، وهي حرام فى الظهار.
قوله: {أَوْ تَفْرِضُواْ} فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه مجزوم عطفاً على «تَمَسُّوهُنَّ» ، و «أَوْ» على بابها من كونها لأحد الشيئين، قاله ابن عطيَّة.
والثاني: أنه منصوب بإضمار «أَنْ» عطفاً على مصدر متوهِّم، و «أَوْ» بمعنى «إِلاَّ» ، التقدير: ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أن تفرضوا؛ كقولهم: «لأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَني حَقِّي» قاله الزمخشريُّ.
والثالث: أنه معطوف على جملةٍ محذوفةٍ، تقديره: «فَرَضْتُمْ أَوْ لَم تَفْرِضُوا» ، فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله، وهو ضعيفٌ جدًّا، وكأنَّ الذي حسَّن هذا كون لفظ «لَمْ» موجوداً قبل ذلك.(4/208)
والرابع: أن تكون «أَوْ» بمعنى الواو.
قال تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] أي: وهم قائلون {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] أي: ويزيدون، وقوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى} [النساء: 43] معناه وجاء أحدٌ منكم من الغائط، وأنتم مرضى أو مسافرون.
قال ابن الخطيب: فإذا تأمَّلت هذا القول، علمت أنّه متكلفٌ، بل خطأٌ قطعاً، والفرض في اللغة: التقدير، أي: تقدِّروا لهن شيئاً.
قوله: «فَرِيضَةً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعولٌ به، وهو بمعنى مفعولة، أي: إلاَّ أن تفرضوا لهنَّ شيئاً مفروضاً.
والثاني: أن تكون منصوبةٌ على المصدر بمعنى فرضاً، واستجود أبو البقاء الوجه الأول؛ قال: «وأَنْ يكونَ مفعولاً به، وهو الجَيِّدُ» والموصوف محذوفٌ، تقديره: متعةً مفروضةً.
فصل في سبب النزول
هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوج امرأة من بنى حنيفة ولم يسمِّ لها مهراً، ثم طلَّقها قبل أن يمسَّها؛ فنزلت هذه الآية؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِك» .
قوله: «وَمَتِّعُوهُنَّ» : قال أبو البقاء: «وَمَتِّعُوهِنَّ» معطوف على فعل محذوفٍ، تقديره: «فَطلِّقوهنَّ ومتِّعوهنَّ» ، وهذا لا حاجة إليه؛ فإنَّ الضمير المنصوب في «مَتِّعُوهُنَّ» عائدٌ على المطلَّقات قبل المسيس، وقبل الفرض، المذكورين في قوله: {إِن طَلَّقْتُمُ النسآء ... } إلى آخرها.
فإن قيل: ظاهر الآية مشعرٌ بأن نفي الجناح عن المطلق مشروطٌ بعدم المسيس، وليس كذلك، فإنّه لا جناح عليه - أيضاً - بعد المسيس.
فالجواب من وجوه:
الأول: أنّ الآية دالةٌ على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً في زمان الحيض،(4/209)
وغيره؛ فكان عدم المسيس شرطاً في إباحة الطلاق مطلقاً.
الثاني: ما قدمناه من أنَّ «مَا» بمعنى «الذي» ، والتقدير: إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسُّوهنَّ؛ إلاَّ أنَّ «ما» اسمٌ جامدٌ لا ينصرف، ولا يبين فيه الإعراب، وعلى هذا فلا تكون «مَا» شرطاً فزال السؤال.
الثالث: قال القفال: إن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر، وتقديره: لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسُّوهنَّ أو تفرضوا لهنَّ فريضة، يعني: لا يجب المهر إلاّ بأحد هذين الأمرين، فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر.
قال ابن الخطيب: وهذا ظاهر، وبيان أنّه قوله: «لاَ جُنَاحَ» معناه: لاَ مَهْرَ؛ لأنَّ إطلاق لفظ «الجنَاحِ» على المهر محتملٌ؛ لأن أصل الجناح في اللغة: الثقل، يقال: جَنَحتِ السفينة، إذا مالت بثقلها، والذنب يسمَّى جناحاً؛ لما فيه من الثِّقل، قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] ، وإذا ثبت أن الجناح هو الثقل، ولزوم أداء المال ثقل، فكان جُنَاحاً، ويدلُّ على أنَّ هذا هو المراد وجهان:
الأول: أنه تعالى قال: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} نفى الجناح محدوداً إلى غاية، وهي إمَّا المسيس، أو الفرض والتقدير، فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين، ثم إنَّ الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين، هو لزوم المهر.
الوجه الثاني: أنَّ تطليق النساء قبل المسيس، وبعد تقدير المهر، وهو المذكور في الآية التي بعدها، هو تقدير المهر، وقد أوجب فيه نصف المهر وهذا كالمقابل له، فوجب أن يكون الجناح المنفي عنه هناك، هو المثبت ها هنا، فلما كان المثبت في الآية التي بعدها، هو لزوم المهر، وجب أن يقال: الجناح المنفي في هذه الآية هو لزوم المهر.
قوله: {لَى الموسع قَدَرُهُ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، وفيها قولان:
أحدهما: أنها لا محلَّ لها من الإعراب، بل هي استئنافيةٌ بيَّنت حال المطلِّق بالنسبة إلى إيساره وإقتاره.
والثاني: أنها في موضع نصب على الحال، وذو الحال فاعل «مَتِّعُوهُنَّ» .
قال أبو البقاء: «تقديره: بقَدر الوُسْعِ» ، وهذا تفسير معنًى، وعلى جعلها حاليةً: فلا بدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها، وهو محذوفٌ، تقديره: على المُوسِع مِنْكُمْ، ويجوز على مذهب الكوفيين ومن تابعهم: أن تكون الألف واللام قامت مقام الضمير المضاف إليه، تقديره: «عَلَى مُوسِعِكُمْ قَدَرُهُ» .(4/210)
وقرأ الجمهور: «المُوسِعِ» بسكون الواو وكسر السين، اسم فاعل من أوسَعَ يُوسِعُ، وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين، اسم مفعولٍ من «وَسَّعَ» . وقرأ حمزة والكسائيُّ وابن ذكوان وحفصً: «قَدَرهُ» بفتح الدال في الموضعين، والباقون بسكونها.
واختلفوا: هل هما بمعنًى واحدٍ، أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش، وأكثر أئمة العربية إلى أنهما بمعنًى واحدٍ، حكى أبو زيدٍ: «خُذْ قَدَرَ [كَذَا] وقَدْرَ كَذَا» ، بمعنًى واحدٍ، قال: «ويُقْرَأُ في كتاب الله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، و» قَدْرِهَا «، وقال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] ولو حركت الدال، لكان جائزاً. وذهب جماعةٌ إلى أنهما مختلفان، فالساكن مصدرٌ والمتحرك اسمٌ؛ كالعدِّ والعدد، والمدِّ والمدد، وكأنَّ القدر بالتسكين الوسع، يقال:» هُوَ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِهِ «أي وسعه، وقيل: بالتَّسكين الطاقة، وبالتحريك المقدار، قال أبو جعفر:» وَأَكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحْرِيكِ، إذا كان مساوياً للشيء، يقال: هَذَا عَلَى قَدَرِ هَذَا «.
وقرأ بعضهم بفتح الراء، وفي نصبه وجهان:
أحدهما: أن يكون منصوباً على المعنى.
قال أبو البقاء: وهو مفعولٌ على المعنى؛ لأنَّ معنى» مَتِّعُوهُنَّ « [لِيُؤَدِّ كُلٍّ مِنْكُمْ قَدَرَ وُسْعِهِ» وشرح ما قاله: أن يكون من باب التضمين، ضمَّن «مَتِّعُوهُنَّ» ] معنى «أَدُّوا» .
والثاني: أن يكون منصوباً بإضمار فعلٍ، تقديره: فأوجبوا على الموسع قدره، وجعله أبو البقاء أجود من الأول، وفي السَّجاونديِّ: «وقال ابن أبي عبلة: قَدَرَهُ، أي: قَدَرَهُ اللهُ» انتهى.
وظاهر هذا: أنه قرأ بفتح الدال والراء، فيكون «قَدَرَهُ» فعلاً ماضياً، وجعل فيه ضميراً فاعلاً يعود على الله تعالى، والضمير المنصوب يعود على المصدر المفهوم من «مَتِّعُوهُنَّ» ، والمعنى: أنَّ الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر.
قوله: «مَتَاعاً» في نصبه وجهان:(4/211)
أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وتحريره أنه اسم مصدرٍ؛ لأنَّ المصدر الجاري على صدره إنَّما هو التمتيع، فهو من باب: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . وقال أبو حيَّان: قالوا: انتصَبَ على المصدرِ؛ وتحريرُهُ: أن المتاع هو ما يمتع به، فهو اسمٌ له، ثم أطلق على المصدر؛ على سبيل المجاز، والعامل فيه: «وَمَتِّعُوهُنَّ» قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعهود أن يطلق المصدر على أسماء الأعيان؛ كضربٍ بمعنى مضروبٍ، وأمَّا إطلاق الأعيان على المصدر، فلا يجوز، وإن كان بعضهم جوَّزه على قلَّةٍ؛ نحو قولهم: «تِرْباً وَجَنْدَلاً» و «أَقَائِماً، وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ» ، والصحيح أن «تِرْباً» ونحوه مفعولٌ به، و «قائماً نصبٌ على الحال.
[والثاني من وجهي» مَتَاعاً «أن ينتصب على الحال] ، والعامل فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرور من معنى الفعل، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكنُّ في ذلك العامل، والتقدير: قدر الموسع يستقرُّ عليه في حال كونه متاعاً.
قوله:» بالمعروف «فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب» مَتِّعُوهُنَّ «، فتكون الباء للتعدية.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل» مَتَاعاً «؛ فيكون في محلِّ نصبٍ، والباء للمصاحبة، أي: متاعاً ملتبساً بالمعروف.
قوله:» حَقّاً «في نصبه أربعة أوجه:
أحدها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملة قبله؛ كقولك:» هَذَا ابْنِي حَقّاً «وهذا المصدر يجب إضمار عامله، تقديره: حَقَّ ذلك حقّاً، ولا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة قبله.
والثاني: أن يكون صفةً ل» مَتَاعاً «، أي: متاعاً واجباً على المحسنين.
والثالث: أنه حالٌ ممَّا كان حالاً منه» مَتَاعاً «وهذا على رأي من يجيز تعدُّد الحال.
والرابع: أن يكون حالاً من» المَعْرُوفِ «، أي: بالذي عرف في حال وجوبه على المحسنين، و» عَلَى المُحْسِنِينَ «يجوز أن يتعلَّق ب» حَقًّا «؛ الواجب، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له.
فصل
اعلم أن المطلقات أربعة أقسام:
القسم الأول: وهو ألاَّ يؤخذ منهم على الفراق شيءٌ ظلماً، وأخبر أن لهن كمال المهر، وعليهن العدَّة.
القسم الثاني: المطلقة قبل الدُّخول، وقد فرض لها - وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه - وبيَّن أنَّ لها نصف المفروض لها، وبيّن في سورة الأحزاب أنَّ لا عدَّة على(4/212)
غير المدخول بها؛ فقال:
{إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] .
القسم الرابع: المطلقة بعد الدُّخول، ولم يكن فرض لها، وحكم هذا القسم، مذكورٌ في قوله تعالى: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] .
والقياس أيضاً يدلّ عليه، فإنّ الأمَّة مجمعةً على أن الموطوءة بشبهةٍ لها مهر المثل، والموطوءة بنكاحٍ صحيحٍ، أولى بهذا الحكم.
فصل
تمسك بعضهم بهذه الآية على أنَّ جمع الثلاثة ليس بحرامٍ، قالوا: لأن قوله: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء} يتناول جيميع أنواع التطليق بدليل أنّه يصحُّ استثناء الثلاث منها، فيقال: لا جناح عليكم إن طلَّقتم النساء إلاّ إذا طلَّقتموهنَّ بثلاث تطليقاتٍ فإنّ عليكم الجناح، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، وعلى هذا فتتناول هذه الآية جميع أنواع التطليق مفرداً أو مجموعاً.
قال ابن الخطيب: وهذا الاستدلال ضعيفا؛ لأن الآية دالَّةٌ على تحصيل هذه الماهيَّة في الوجود، ويكفي في العمل بها إدخاله في الوجود مرَّةً واحدةً، ولهذا قلنا: إنَّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار، كما إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالقٌ، فإن اليمين انعقدت على المرّة الواحدة فقط، فثبت أنَّ هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع، وأمَّا الاستثناء فإنَّه يشكل بالأمر، لأنّه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحقّقين، مع أنَّه يصحُّ أن يقال: صلِّ إلاَّ في الوقت الفلانيّ.
فصل في جواز عقد النكاح بغير مهر
قال بعض العلماء: دلَّت هذه الآية على أنَّ عقد النكاح بغير المهر جائزٌ.
وقال القاضي: لا تدلُّ على الجواز، لكنها تدلُّ على الصِّحة، فإنّه لو لم يكن صحيحاً، لم يكن الطلاق مشروعاً، ولم تلزم المتعة، ولا يلزم من الصِّحة الجواز، بدليل أنّ الطلاق في زمن الحيض حرامٌ وإذا أوقعه صحَّ.
فصل
بيَّن في هذه الآية أن المطلقة قبل الدخول والفرض، لها المتعة، وقد تقدّم تفسير «(4/213)
المُتْعَةِ» في قوله: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة} [البقرة: 196] .
واعلم أنَّ المطلَّقة قبل الدخول، إن كان قد فرض لها، فلا متعة لها في قول الأكثرين؛ لأن الله تعالى أوجب في حقِّها نصف المهر، ولم يذكر المتعة، ولو كانت واجبةً، لذكرها. وإن لم يكن فرض لها فلها المتعة؛ لهذه الآية.
قال القرطبي: من جهل المتعة حتَّى مضت أعوامٌ، فليدفع ذلك إليها، وإن تزوَّجت، وإلى ورثتها إن ماتت، رواه ابن المواز، عن ابن القاسم.
وقال أصبغ: لا شيء عليه، إن ماتت؛ لأنها تسليةٌ للزوجة عن الطَّلاق، وقد فات ذلك.
ووجه الأول: أنه حقٌّ ثبت عليه، فينتقل إلى ورثتها، كسائر الحقوق.
واختلفوا في المطلَّقة بعد الدُّخول، فذهب جماعةٌ: إلى أنه لا متعة لها؛ لأنها تستحق المهر، وهو قول أصحاب الرأي.
وذهب جماعةٌ: إلى أنَّ لها المتعة؛ لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} [البقرة: 241] ، وهو قول عبد الله بن عمر، وبه قال عطاء، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وإليه ذهب الشافعيُّ قال: لأنها تستحقُّ المهر بمقابلة إتلاف منفعة البضع، ولها المتعة على وحشة الفراق.
وقال الزُّهريُّ: متعتان يقضي بإحداهما السلطان، وهي المطلقة قبل الفرض، والمسيس، وهي قوله: {حَقّاً عَلَى المحسنين} ومتعةٌ تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى لا يقضي بها السلطان وهي المطلقة بعد الفرض والمسيس وهي قوله: «حَقّاً عَلَى المتَّقين» .
وذهب الحسن، وسعيد بن جبير: إلى أنَّ لكل مطلقةٍ متعةٌ، سواء كان قبل الفرض، والمسيس، أو بعده؛ كقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} [البقرة: 241] ؛ ولقوله في سورة الأحزاب: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وقال الآخر: المتعة غير واجبةٍ، والأمر بها أو ندبٍ، واستحباب.
روي أنَّ رجلاً طلّق امرأته، وقد دخل بها؛ فخاصمته إلى شريح في المتعة؛ فقال شريحٌ: لا تأب أن تكون من المحسنين، ولا تأب أن تكون من المتَّقين، ولم يجبره على ذلك.
فصل في بيان مقدار المتعة
اختلفوا في قدر المتعة، فروي عن ابن عباس: أعلاها خادمٌ، وأوسطها ثلاثة(4/214)
أثواب: درع، وخمار، وإزار، ودون ذلك وقاية، أو شيء من الورق.
وبه قال الشَّعبيُّ، والزُّهريُّ، وهو مذهب الشافعي، وأحمد. قال الشافعي: أعلاها على الموسع: خادم، وأوسطها: ثوبٌ، وأقلُّها: أقل ماله ثمن حسنٌ ثلاثون درهماً، «وَعَلَى المقتر» مقنعة.
وروي عن ابن عباس أنّه قال: أكثر المتعة خادمٌ، وأقلها مقنعة، وأيُّ قدر أدَّى، جاز في جانبي الكثرة، والقلة.
وطلَّق عبد الرحمن بن عوف امرأته وجمعها جاريةً سوداء، أي: متَّعها.
ومتَّع الحسن بن عليٍّ امراته بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق.
وقال أبو حنيفة: المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل، قال: لأن حال المرأة التي يسمَّى لها المهر، أحسن من حال التي لم يسمَّ لها، فإذا لم يجب لها زيادةٌ على نصف المسمَّى، إذا طلَّقت قبل الدُّخول، فلأن لا يجب زيادةٌ على نصف مهر المثل أولى.
فصل في دلالة الآية على حال الزوج من الغنى والفقر.
دلَّت الآية على أنَّه يعتبر حال الزوج: في الغنى، والفقر؛ لقوله: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} .
وقال بعض العلماء: يعتبر حالهما وهو قول القاضي.
وقال أبو بكرٍ الرَّازي: يعتبر في المتعة حال الرجل؛ للآية، وفي مهر المثل حالها، وكذلك في النفقة، واحتج القاضي بقوله: «بالمعروف» فإنّ ذلك يدلُّ على حالهما؛ لأنه ليس من المعروف أن يسوِّي بين الشريفة، الوضيعة.
فصل
إذا مات أحدهما قبل الدُّخول، والفرض؛ اختلف أهل العلم في أنها هل تستحقُّ المهر، أم لا؟ فذهب عليٌّ، وزيد بن ثابتٍ، وعبد الله بن عمرن وعبد الله بن عباسٍ: إلى أنَّه لا مهر لها، كما لو طلَّقها قبل الفرض، والدخول.(4/215)
وذهب قومٌ إلى أنَّ لها المهر، لأن الموت كالدخول في تقدير المسمَّى، فكذلك في إيجاب مهر المثل، إذا لم يكن في العقد مسمى، وهو قول الثَّوريَّ، وأحمد، وأصحاب الرَّأي.
واحتجَّوا بما روى علقمة، عن ابن مسعود: أنَّه سئل عن رجل تزوَّج امرأةً، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات.
قال ابن مسعود: لها صداق نسائها؛ لا وكس، ولا شطط؛ وعليها العدَّة، ولها الميراث؛ فقام معقل بن يسار الأشجعيِّ، فقال: «قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بَروعَ بنت واشقٍ - امْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ» ، ففرح بها ابن مسعود.
وقال الشَّافعيُّ: فإن ثبت حديث بروع بنت واشق، فلا حجَّة في قول أحد دون النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وإن لم يثبت، فلا مهر لها؛ ولها الميراث. وكان عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول في حديث بروع: لا تقبل قول أعربيٌّ من أشجع، على كتاب الله، وسنَّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فصل في اختلافهم في الخلوة
إنَّما خصَّ المحسنين؛ لأنهم المنتفعون بهذا البيان، كقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] .
وقال أبو مسلم: من أراد أن يكون من المحسنين، فهذا شأنه، وطريقه، والمحسن: هو المؤمن؛ فيكون المعنى: أنَّ العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين، وقيل: «حَقّاً عَلَى المحسنين» إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.(4/216)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
هذه الآية في المطلَّقة قبل المسيس المفروض لها؛ فبيَّن أنَّ لها نصف ما فرض لها.
واختلف أهل العلم في الخلوة، فقال الشَّافعيُّ: إنها تقرر نصف المهر.
وقال أبو حنيفة: الخلوة الصَّحيحة: أن يخلو بها، وليس هناك مانعٌ حسي، ولا شرعيٍّ، فالحسِّي: كالرَّتق، والقرن والمرض أو معهما ثالثٌ.
والشرعي: كالحيض، والنُّفاس، وصوم الفرض، وصلاة الفرض، والإحرام المطلق؛ فرضاً كان، أو نفلاً.(4/216)
واحتجَّ الشَّافعيُّ: بأن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر؛ لأن قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ليس كلاماً تاماً، بل لا بدَّ من إضمار، [شيءٍ، ليتم] الكلام، فإمَّا أن يضمر: «فنصفُ مَا فَرضْتُمْ سَاقِطٌ» ، أو يضمر: «فنصفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ» ، والإضمار الأوّل هو المقصود؛ لوجوه:
أحدها: أنّ المعلّق على الشَّيء بكلمة «إِنْ» عدمٌ عند عدم ذلك الشيء ظاهراً؛ فلو حملناه على الوجوب، تركنا العلم بمقتضى التعليق، لأنّه غير منفي قبله، وإذا حملناه على السقوط، عملنا بمقتضى التَّعليق؛ لأنه منفيٌّ قبله.
وثانيها: أنَّ قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يقتضي وجوب كلِّ المهر عليه، لأنه لمّا التزم كلَّ المهر، لزمه الكلُّ بقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] فلا حاجة إلى بيان ثبوت النصف، وإنَّما المحتاج إليه بيان سقوط النصف؛ لأن المقتضي لوجوب الكل قائمٌ، فكان سقوط البعض ها هنا، هو المحتاج إلى البيان، فكان حمل الآية على بيان السقوط، أولى من حملها على بيان الوجوب.
وثالثها: أن الآية الدَّالة على وجوب إيتاء المهر، قد تقدمت في قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229] فحمل الآية على سقوط النِّصف أولى.
ورابعها: أن المذكور في هذه الآية، هو الطلاق قبل المسيس، وهو يناسب سقوط نصف المهر، ولا يناسب وجوب شيءٍ، فلمّا كان إضمار السقوط أولى، لا جرم استقصينا هذه الوجوه؛ لأن منهم من قال: معنى الآية: فنصف ما فرضتم واجبٌ، وتخصيص النصف بالوجوب، لا يدلُّ على سقوط الآخر، إلاّ من حيث دليل الخطاب، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجَّة. وقد ذكرنا هذه الوجوه؛ دفعاً لهذا السؤال.
واستدلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] إلى قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] فنهى تعالى عن أخذ المهر، ولم يفرّق بين الطلاق، وعدم الطَّلاق، إلاَّ إن توافقنا على تخصيص الطلاق قبل الخلوة فمن ادّعى التخصيص - ها هنا - فعليه البيان، وأيضاً فإنّه تعالى نهى عن أخذ المهر، وعلَّل بعلَّة الإفضاء، وهي الخلوة، لأنَّ الإفضاء: مشتقٌّ من الفضاء، وهو المكان الخالي فعلمنا أنَّ الخلوة تقرَّر المهر.
والجواب عن ذلك: بأن دليلهم عامٌّ، ودليلنا خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ.
قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ} : هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وذو الحال يجوز أن يكون ضمير الفاعل، وأن يكون ضمير المفعول؛ لأنَّ الرباط موجودٌ فيهما،(4/217)
والتقدير: وإن طلقتموهن فارضين لهن، أو مفروضاً لهنَّ، و «فَرِيضَة» فيها الوجهان المتقدمان.
والفاء في «فَنِصْفُ» جواب الشرط، فالجملة في محلِّ جزمٍ؛ جواباً للشرط، وارتفاع «نِصْفُ» على أحد وجهين: إمَّا الابتداء، والخبر حينئذٍ محذوفٌ، وإن شئت قدَّرته قبله، أي: فعليكم أو فلهنَّ نصف، وإن شئت بعده، أي: فنصف ما فرضتم عليكم - أو لهنَّ - وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب نصف.
وقرأت فرقةٌ: فَنِصْفَ «بالنصب على تقدير:» فَادْفَعُوا، أَوْ أَدُّوا «، وقال أبو البقاء:» ولو قُرِئَ بالنصبِ، لكان وجهه فَأَدَّوا [نِصْفَ] «فكأنه لم يطَّلع عليها قراءة مرويَّةً.
والجمهور على كسر نون» نِصْف «، وقرأ زيدٌ وعليٌّ، ورواها الأصمعيُّ قراءة عن أبي عمرو:» فَنُصْف «بضمِّ النون هنا، وفي جميع القرآن، وهما لغتان، وفيه لغةٌ ثالثة:» نَصِيف «بزيادة ياءٍ، ومنه الحديث:» مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ «.
والنَّصيف - أيضاً -: القناع، قاله القرطبي، والنِّصف: الجزء من اثنين، يقال: نصف الماء القدح، أي: بَلَغَ نِصْفَهُ، ونَصَفَ الإزار السّاق، وكلُّ شيءٍ بلغ نصف غيره، فقد نصفه.
و» مَا «في» مَا فَرَضْتُمْ «بمعنى» الَّذِي «، والعائدُ محذوف لاستكمالِ الشروطِ، ويضعفُ جعلُها نكرةً موصوفةً.
قوله تعالى: {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} في هذا الاستثناء وجهان:
أحدهما: أن يكونَ استثناءً منقطعاً، قال ابن عطيَّة وغيره: لأنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ» .
والثاني: أنه متصلٌ، لكنه من الأحوال؛ لأَنَّ قوله: «فنصفُ ما فَرَضْتُمْ» معناه: فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُمْ في كلِّ حال، إلا في حال عَفْوِهِنَّ، فإنه لا يجب، وإليه نَحَا أبو البقاء، وهذا ظاهرٌ، ونظيرُه: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] وقال(4/218)
أبو حيان «إِلاَّ أَنَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقعَ» أَنْ «وصلتُها حالاً، كسيبويه؛ فإنه يمنعُ ذلك، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً» .
وقرأ الحسن «يَعْفُونَهُ» بهاء مضمومةٍ وفيها وجهان:
أحدهما: أنها ضميرٌ يعودُ على النِّصف، والأصلُ: إِلاّض أَنْ يَعْفُونَ عَنْهُ، فحُذِف حرفُ الجَرِّ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ.
والثاني: أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ، وإنما ضَمَّها؛ تشبيهاً بهاءِ الضميرِ، كقول الآخر [الطويل]
1144 - هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ..... ... ... ... ... ... ... ... ...
على أحدِ التأويلين في البَيت أيضاً.
وقرأ ابن أبي إسحاق: «تَعْفُونَ» بتاءِ الخطابِ، ووجهها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيبة إلى الخطابِ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهنَّ، وأنه مندوبٌ.
و «يَعْفُونَ» منصوبٌ ب «أَنْ» تقديراً؛ فإنَّه مبنيٌّ؛ لاتصاله بنونِ الإِناثِ، هذا رأيُ الجمهور، وأمَّا ابن درستويه، والسُّهَيْليُّ: فإنه عندهما معربٌ، وقد فَرَّق الزمخشريُّ وأبو البقاء بين قولك: «الرِّجَالُ يَعْفُونَ» و «النِّسَاءُ يَعْفُونَ» وإنْ كان [هذا] من الواضحاتِ بأنَّ قولك «الرِّجَالُ يَعْفُونَ» الواو فيه ضميرُ جماعة الذكور، وحُذف قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل: «يَعْفُوونَ» ، فاسْتُقْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى، فحُذِفت، فبقيت ساكنةً، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةٌ، فحُذِفت الواو الأولى؛ لئلاَّ يلتقي ساكنان، فوزنهُ «يَعْفُونَ» ، والنونُ علامة الرفع؛ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ - وأَنَّ قولك: «النِّسَاءُ يَعْفُونَ» ، الواوُ لامُ الفعل، والنون ضميرُ جماعةِ الإِناثِ، والفعل معها مبنيٌّ، لا يظهرُ للعامِل فيه أَثَرٌ قال شهاب الدين: وقد ناقش الشيخ الزمخشريُّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلم تُعْرَفُ، وبأنه لم يبيِّنْ حذف الواو من قولك: «الرِّجَالُ يَعْفُونَ» ، وأنه لم يذكُرْ خلافاً في بناء المضارع المتَّصلِ بنون الإناث، وكُلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُناقَشَ بمثله.
وقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي} «أَوْ» هنا فيها وجهان:
أحدهما: هي للتنويع.
والثاني: أنها للتخيير، والمشهورُ فتحُ الواو؛ عطفاً على المنصوبِ قبله، وقرأ(4/219)
الحسن بسكونها واستثقل الفتحة على الواو، فقدَّرها كما يقدِّرها في الألف، وسائرُ العرب على استخفافها، ولا يجوز تقديرها إلا في ضرورةٍ؛ كقوله - هو عامر بن الطُّفَيل -[الطويل]
1145 - فَمَا سَوَّدَتْني عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ ... أَبَى اللهُ أَنْ أَسْمُوْ بَأُمِّ وَلاَ أَبِ
ولمَّا سكَّن الواوَ، حُذِفَت للساكن بعدها، وهو اللامُ من «الَّذِي» ، وقال ابنُ عطية «والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرِّفةٍ قبلها متحرِّكٌ؛ لقلِّةِ مجيئها في كلامهم» وقال الخليل: «لم يجئ في الكلام واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلها فتحةٌ إلا قولهم» عَفْوَة «جمع عَفْو» ، وهو ولدُ الحِمَارِ، وكذلك الحركة - ما كانت - قبل الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ «انتهى. قال أبو حيَّان: فقوله:» لقلَّةِ مجيئها «، يعني مفتوحةً، مفتوحاً ما قبلَها، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ، وذلك أنَّ الحركةَ قبلها: إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً، أو كسرةً، أو فتحةً، فإنْ كانَتْ ضمَّةً: فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ، فإنْ كان في فعلٍ، فهو كثيرٌ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارع الداخلِ عليها حرف نصبٍ؛ نحو:» لَنْ يَغْزُوَ «، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها؛ نحو» هلَ يَغْزُوَنَّ «، وكذلك الأمر؛ نحو:» اغْزُوَنَّ «، وكذا الماضي على» فَعُلَ «في التعجب؛ نحو: سَرُوَ الرَّجُل؛ حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجُّب، فيقولون:» لَقَضُوَ الرَّجُلُ «، على ما قُرِّرَ في بابِ التصريف، وإنْ كان ذلك في اسم: فإمَّا أن يكونَ مبنيّاً على هاءِ التأنيث، فيكثر أيضاً؛ نحو: عَرْقُوة وتَرْقُوة وقمحدوة، وإنْ كان قبلها فتحة، فهو قليل؛ كما ذكر الخليل، وإن كان قبلها كسرةٌ، قُلِبت الواوُ ياءً؛ نحو: الغازي والغازية، وشَذَّ من ذلك» أَفْرِوَة «جمع» فَرِوَة «، وهي مَيْلَغَةُ الكَلْب، و» سَوَاسِوَة «وهم: المستوون في الشَّرِّ، و» مَقَاتِوَة «جمع مُقْتَو، وهو السائسُ الخادِمُ، وتَلَخَّصَ من هذا أنَّ المراد بالقليل واوٌ مفتوحةٌ متطرِّفة مفْتُوحٌ ما قبلها [في] اسمٍ غير ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ، فليس قولُ ابن عطية» والَّذي عندي إلَى آخره «بظاهر.
والمرادُ بقوله: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} قيل: الزوجُ، وقيلَ: الولِيُّ و «أل» في النكاح للعهدِ، وقيل بدلٌ من الإِضافةِ، أي: نكاحُه؛ كقوله: [الطويل]
1146 - لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللهُ غَيْرَهُمْ ... مِنَ الجُودِ، وَالأَحْلاُمُ غَيْرُ عَوَازِبِ
أي: أحلامُهم، وهذا رأيُ الكوفيِّين. وقال بعضهم: في الكلامِ حذفٌ، تقديره:(4/220)
بيده حِلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ؛ كما قيل ذلك في قوله: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} [البقرة: 235] ، أي عَقْدَ عُقْدَةِ النكاح، وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزَّوْجُ.
فصل فيمن بيده عقدة النكاح
المراد بقوله: «يَعفُونَ» أي: المطلقاتُ يعفُون عن أزواجهنَّ، فلا يطالبنهم بنصفِ المهرِ.
واختلفوا في {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} فقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وسعيدُ بن جُبير، والشعبي، وشُرَيحٌ، ومجاهدٌ، وقتادة: هو الزَّوج، وبه قال أبو حنيفة.
وقال علقمةُ، وعطاءُ، والحسنُ، والزهريُّ، وربيعةُ: هو الولي، وبه قال أصحابُ الشَّافعيِّ.
واحتج الأَوَّلون بوجوهٍ:
الأول: أنَّه ليس للولِيّ أَنْ يهب مهرَ وليَّته، صغيرةً كانت، أو كبيرةً.
الثاني: أنَّ الَّذي بيد الولِيّ هو عقدُ النكاحِ، فإذا عقد، فقد حصل النكاحُ، والعقدةُ الحاصلةُ بعد العقدِ في يدِ الزَّوج، لا في يدِ الولي.
الثالث: روي عن جُبير بن مطعم: أَنَّهُ تزوج امرأةً وطلَّقها قبل أن يدخل بها، فأكمل الصداق، وقال: أنا أحَقُّ بالعفوِ، وهذا يدل على أنّ الصحابةَ فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج.
واحتج القائِلون بأنّه الوَلِيُّ بوجوهٍ.
أحدها: أن عفو الزوج هو أن يعطيها المهرَ كُلَّهُ، وذلك يكون هبةً، والهبةُ لا تُسمَّى عفواً.
وأُجيبوا بأنه كان الغالب عندهم، أَنْ يسوق المهرَ كُلَّه إليها، عند التزوج، فإذا طلّق، فقد استحقَّ المُطَالبة بنصفِ ما ساقَهُ إليها، فإذا ترك المطالبة، فقد عفا عنها.(4/221)
وأيضاً، فالعفو قد يُراد به التسهيلُ، يقال: فلانٌ وجد المالَ عفواً صَفْواً، وقد تقدَّم وجهه في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] فعلى هذا عفو الرجل: أَنْ يبعث إليها كُلَّ الصداقِ على وجهِ السهُولةِ.
الثاني: أَنَّ ذكر الزَّوج، قد تقدَّم في قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} فلو كان المرادُ ب {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} هو الزوج، لقال: أَوْ تَعْفُو على سبيل المخاطبةِ فلمَّا عبّر عنه بلفظ الغائب، علِمْنا الغائب، علِمْنا أَنَّ المرادَ منه غيرُ الأَزواج.
وأجيبوا بأَنَّ سبب العُدُولِ عن الخطاب إلى الغيبة؛ التنبيه على المعنى الذي لأجله رغب الزوج في العقد، والمعنى: أَوْ يَعْفُو الزوج الذي حبسها مالك عقد نكاحها عن الأزواج، ولم يكن منها سبب في الفراق وَإِنَّما فارقها الزوج، فلا جرم كان حقيقاً بأَلاَّ ينقصها من مهرِها شيئاً.
الثالث: أَنَّ الزوج ليس بيده عَقْدُ عُقْدة النكاح أَلْبَةَّةَ؛ لأنه قبل النكاح كان أَجْنبيّاً عن المرأة، ولا قُدْرة له على التصرف فيها بوجهٍ من الوجوهِ، وأمَّا بعد النكاح، فقد حصل النكاحُ، ولا قُدْرة له على إيجاد الموجودِ، بل له قدرةٌ على إِزالة النكاح، والله - تعالى - أثبت العفو لمن في يدِه، وفي قُدرته عقد النكاح.
قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ} : «أَنْ تَعْفُوا» في محلِّ رفع بالابتداء؛ لأنه في تأويل «عَفْوُكُمْ» ، و «أَقْرَبُ» خبره، وقرأ الجمهور «تَعْفُوا» بالخطاب، والمرادُ الرجالُ والنساءُ، فغلَّبَ المذكَّر لأنه الأصلُ، والتأنيث، قلتَ: «قَائِمَة» فاللفظ الدالُّ على المذكر هو الأَصل، والدالُّ على المؤنَّثِ فرعٌ عليه، وأمَّا المعنى: فلأَنَّ الكمال للذُّكور، والنُّقصانَ للإِناثِ؛ فلهذا متى اجتمع المذكرُ، والمؤنثُ - غُلِّب التذْكير، والظاهِرُ أنه للأزواج خاصَّةً؛ لأنهم المخاطبون في صدر الآيةِ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ، وهو قوله: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} - على قولنا إنَّ المرادَ به الزوجُ -[وهو المختارُ]- إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآية، وقرأ الشَّعبيُّ وأبو نهيك «يَعْفُوا» بياء من تحت، قال أبو حيَّان جعله غائباً، وجُمِع على معنى: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} ؛ لأنه للجنس لا يُراد به واحدق يعني أنَّ قوله: «وَأْنْ يَعْفُوا» أصله «يَعْفُوُونَ» ، فلمَّا دخل الناصبُ، حُذِفت نونُ الرفعِ، ثم حُذِفَت الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ، وهذه الباقية هي ضميرُ الجماعةِ، جُمِعَ على معنى الموصُول؛ لأنه وإِنْ كان مفرداً لفظاً، فهو مجموعٌ في المعنى؛ لأنه جنسٌ، ويظهر فيه(4/222)
وجهٌ آخرُ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ، وفي هذا الفعل ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عُقدةُ النِّكَاح، إلا أنه قَدَّر الفتحةَ في الواوِ استثقالاً؛ كما تقدَّم في قراءةِ الحسن، تقديره: وأَنْ يَعْفُو الذي بيده عقدةُ النِّكاح.
قوله: {للتقوى} متعلِّقٌ ب «أَقْرَبُ» وهي هنا للتعديةِ، وقيلَ: بل هي للتعليل، و «أَقْرَبُ» تتعدَّى تارةً باللام، كهذه الآيةِ، وتارةً ب «إِلَى» ؛ كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] ، وليست «إِلَى» بمعنى «اللام» ، وقيل: بل هي بمعناها، وهذا مذهبُ الكوفيين، أعنى التجوُّزَ في الحروفِ، ومعنى اللامِ و «إِلَى» في هذا الموضع يتقارَبُ.
وقال أبو البقاء: يجوزُ في غير القرآن: «أَقْرَبُ مِنَ التقوَى، وإِلَى التقْوَى» ، إلاَّ أَنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على [معنًى] غير معنى «إِلَى» ، وغير معنى «مِنْ» ، فمعنى اللامِ: العفو أَقربُ مِنْ أَجْلِ التقوى، واللام تدلُّ على علَّة قُرب العفو، وإذا قلتَ: أقربُ إلى التقوى، كان المعنى: يقاربُ التقوى؛ كما تقول: «أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَيَّ» ، و «أَقْرَبُ مِنَ التَّقْوَى» يقتضي أن يكون العفو والتقوَى قريبَيْن، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوَى، وليس معنى الآية على هذا. انتهى. فجعل اللام للعلة، لا للتعدية، و «إِلَى» للتعدية.
واعلم أَنَّ فِعْلَ التعجُّب، وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلهما قبل أن يكونَ تعجُّباً وتفضيلاً؛ نحو: «مَا أَزْهَدَنِي فِيهِ وَهُوَ أَزْهَدُ فِيهِ» ، وإِنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ: فإِنْ كان الفعلُ يُفهم علماً أو جَهْلاً، تعدَّيا بالباءِ؛ نحو: «هُوَ أَعْلَمُ بالفِقْهِ» ، وإِنْ كان لا يفهم ذلك، تعدَّيا باللامِ، نحو: «مَا أَضْرَبَكَ لِزَيْدٍ» و «أَنْتَ أَضْرَبُ لِعَمرو» إِلاَّ في باب الحُبِّ والبُغْضِ، فإنهما يتعَدَّيان إلى المفعول ب «في» ، نحو: «مَا أَحَبَّ زَيْداً فِي عَمرو، وَأَبْغَضَهُ فِي خَالِدٍ، وهو أَحَبُّ في بكرٍ، وأَبْغَضُ في خَالِدٍ» وإلى الفاعل المعنويِّ ب «إِلَى» ، نحو «زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عمرو من خالِدٍ، ومَا أَحَبَّ زَيْداً إِلَى عَمْرو» ، أي: إِنَّ عَمْراً يُحِبُّ زَيْداً، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ.
والمفضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ، تقديرُه: أقربُ للتقوَى من تَرْكِ العَفْوِ، والياءُ في التقوَى بدلٌ من واو، وواوها بدلٌ من ياءٍ؛ لأنها من وَقَيْتُ أَقِي وِقَايَةً، وقد تقدَّم ذلك أوَّلَ السورة.
فصل
وإنَّما كان العفو أقرب إلى حُصُول التقوى؛ لأن مَنْ سمح بترك حَقِّه، فهو محسنٌ، ومَنْ كان مُحْسِناً، استحقَّ الثواب، وإذا استحق الثواب، فقد اتقى بذلك الثواب ما هو دونه مِنَ العقاب، وأيضاً فإن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظُّلم، وترك الظلم تقوى في(4/223)
الحقيقة؛ لأن مَنْ سمح بحقِّه تقرُّباً إلى ربه، كان أبعد مِنْ أَنْ يظلم غيره.
قوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} قرأ الجمهور بضمِّ الواو مِنْ «تَنْسَوا» ؛ لأنها واوٌ ضمير، وقرأ ابن يعمر بكسرها تشبيهاً بواو «لَوْ» كما ضَمّوا الواو من «لَو» ؛ تشبيهاً بواو الضمير، وقال أبو البقاء في واوِ «تَنْسَوا» من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] ، وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ، فظاهرُ كلامه عودُها كلِّها إلى هنا، إلاَّ أنه لم يُنْقَل هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما.
وقرأ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «وَلاَ تَنَاسَوا» قال ابن عطيَّة: «وهي قراءة متمكِّنةٌ في المعنى؛ لأنه موضعُ تَنَاسٍ، لا نِسْيَانٍ، إلاَّ على التشبيه» ، وقال أبو البقاء: «على باب المفاعلةِ، وهي بمعنى المتاركةِ، لا بمعنى السهو، وهو قريبٌ من قولِ ابن عطيَّة.
قوله تعالى:» بَيْنَكُمْ «فيه وجهان.
أحدهما: أنه منصوبٌ ب» تَنْسَوا «.
والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضل، أي كائناً بينَكثمْ، والأولُ أَوْلَى؛ لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغ من فعلٍ لا يكونُ بينَهُم والمرادُ بالفضلِ، أي: إفضال بعضكم لى بعض بإعطاء الرجل تمامَ الصداقِ، أو تركِ المرأَةِ نصيبها، حثَّهما جميعاً على الإحسان، ثم ختم الآية بما يجري مجرى التهديد، فقال: {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
قال القرطبي: هذا خبرٌ في ضمنه الوعد للمحسنين، والحِرمانُ لغير المحسنين، أي: لا يخفى عليه عفوكم، واستقضاؤكم.(4/224)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
قوله تعالى: {حَافِظُواْ} : في «فَاعَلَ» هنا قولان:
أحدهما: أنه بمعنى «فَعِلَ» ، كطارَقْتُ النَّعْلَ، وعاقَبْتُ اللصَّ، ولمَّا ضمَّن المحافظة معنى المواظبةِ، عدَّاها ب «عَلَى» .(4/224)
الثاني: أنَّ «فَاعَلَ» على بابها من كونها بين اثنين، فقيلَ: بين العبدِ وربِّه، كأنه قيل: احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ، وقيل: بين العبدِ والصلاةِ، أي: احفَظْها تَحْفَظْك. وحفظُ الصَّلاة للمُصلِّي على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنها تحفظه مِنَ المعاصي؛ كقوله: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] .
الثاني: تحفظه من البَلايا، والمِحَن؛ لقوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] ، وقال الله: {إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة} [المائدة: 12] أي: معكم بالصَّبر، والحفظ.
الثالث: تحفظُه: بمعنى تشفعُ له؛ لأن الصلاة فيها القرآنُ؛ والقرآن يشفع لقارئه، وهو شافِعٌ مُشَفَّعٌ.
وقال أبو البقاء: ويكون وجوبُ تكرير الحِفْظ جارياً مجرى الفاعلين؛ إذْ كان الوجوبُ حاثّاً على الفعلِ، وكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ؛ كما قالوا في {وَاعَدْنَا موسى} [البقرة: 51] فالوعدُ من اللهِ، والقَبُولُ من موسى بمنزلةِ الوعد؛ وفي «حَافِظُوا» معنى لا يُوجَدُ في «احْفَظُوا» وهو تكريرُ الحفْظِ وفيه نظرٌ؛ إذ المفاعلةُ لا تدُلُّ على تكريرِ الفعلِ ألبتةَ.
قوله تعالى: {والصلاة الوسطى} ذكر الخاصَّ بعد العامِّ، وقد تقدَّم فائدته عند قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ} [البقرة: 98] والوُسطى: فعلى معناها التفضيلُ، فإنها مؤنثةٌ للأوسطِ؛ كقوله - يمدح الرسول عليه والصلاة والسلام -: [البسيط]
1147 - يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرّاً فِي مَفَاخِرِهِمْ ... وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وهي [من] الوسط الذي هو الخيارُ، وليست من الوسطِ الذي معناه: متوسِّطٌ بين شيئين؛ لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل، إلا ما يَقْبَلُ الزيادةَ والنقصَ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسِّطِ بين الشيئين؛ فإنه لا يَقْبَلُهما، فلا ينبني منه أفعلُ التفضيل.
وقرأ علي: «وَعَلَى الصَّلاَةِ» بإعادة حرفِ الجرِّ توكيداً، وقرأَتْ عائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «وَالصَّلاَةَ» بالنصبِ، وفيها وجهان:
أحدهما: على الاختصاصِ، ذكرَه الزمخشريُّ.(4/225)
والثاني: على موضع المجرورِ قَبْلَهُ؛ نحو: مَرَرْتُ بزيدٍ وَعَمْراً، وسيأتي بيانُه في المائدة - إن شاء الله تعالى -.
قال القرطبي: وقرأ أبو جعفر الواسطي «والصَّلاَةَ الوُسْطَى» بالنصب على الإِغراء أي: والْزَمُوا الصَّلاة الوُسْطَى وكذلك قرأ الحلواني، وقرأ قالُونُ، عن نافع «الوُصْطَى» بالصَّادِ؛ لمجاورَة الطاءِ؛ لأنهما مِنْ واحدٍ، وهما لغتان؛ كالصراط ونحوه.
فصل
لمّا ذكر الأحكام المتعلّقة بمصالح الدُّنيا مِنْ بيان: النكاح، والطلاقِ، والعُقُودِ، أتبعه بذكر الأَحكامِ المتعلِّقة بمصالح الآخرة.
وأَجمع المسلمون على وجوب الصلوات الخمس، وهذه الآيةُ تدلُّ على كونها خَمْساً؛ لأن قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} تدل على الثَّلاثة مِنْ حيثُ إِنَّ أَقلَّ الجمع ثلاثةٌ، ثم قال: {والصلاة الوسطى} يدلُّ على شيءٍ زائدٍ عن الثلاثة؛ وإلاَّ لزم التكرارُ، والأصلُ عدمهُ، ثم إنَّ الزَّائد يمتنع أَنْ يكون أربعةً، لأنها لا يبقى لها وسطى فلا بُدَّ وأَنْ ينضمَّ إلى تلك الثلاثة عددٌ آخرٌ؛ حتى يحصلَ به للجموع واسطةٌ، وأقلُّ ذلك خمسةٌ، فدلَّت هذه الآيةُ على أن الصلوات المفروضات خمسٌ بهذا الطَّريق، وهذا الاستبدال إنما يتم، إذا قُلنا: إنَّ المراد من الوُسْطَى ما يكونُ وسطاً في العدد، لا ما يكون وسطاً بسبب الفضيلة.
فصل
هذه الآيةُ وإِنْ دلّت على وجوب الصلوات الخمس لكنَّها لا تدلُّ على أوقاتها.
قالوا: والآياتُ الدالةُ على تفصيل الأَوقاتِ أَربعٌ:
أحدها: قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] .
فقوله: «سُبْحَانَ اللهِ» أي: فسبِّحوا اللهَ، معناه: صلُّوا للهِ حين تمسون، أراد به صلاة المغربِ، والعِشَاءِ، «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» أراد صلاة الصُّبح، و «عَشيّاً» أراد به [صلاة] العصر، و «حِينَ تُظْهِرُونَ» ، صلاة الظهر.
الثانية: قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل} [الإسراء: 78] أراد ب «الدلوك» زوالها، فدخل في الآية: صلاةُ الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم قال: {وَقُرْآنَ الفجر} [الإسراء: 78] أراد صلاة الصُّبح.
الثالثة: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130] قالوا: لأَنَّ الزمان إِمَّا أَنْ يكون قبل طُلُوعِ الشَّمسِ، أو قبل غروبها، فالليل والنهارُ داخلان في هاتين اللفظتين.(4/226)
الرابعة: قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل} [هود: 114] فالمراد ب «طَرَفَي النَّهَارِ» الصُّبحُ والعَصْر، وبقوله «وزُلْفاً من الليل» المغرب، والعشاء.
فصل في الصلاة الوسطى
اختلفوا في الوسطى على سبعة مذاهب:
الأول: أنَّ الله - تعالى - لمّا لم يبينها بل خصَّها بمزيد التوكيد، جاز في كُلِّ صلاةٍ أَنْ تكون هي الوسطَى، فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل بصفةِ الكمالِ، والتمام؛ كما أنّه أخفى ليلة القَدْرِ في رمضان، وأخفى ساعةَ الإجابةَ في يوم الجُمُعةِ، وأَخْفَى اسمه الأَعظم في جميع الأَسماءِ، وأخفى وقتَ الموتِ في الأوقات؛ ليكون المكلَّف خائِفاً من الموتِ في كل الأوقات، وهذا قولُ جماعةٍ من العُلَماءِ.
قال محمَّد بن سيرين: سأل رجلٌ زيد بن ثابتٍ، عن الصلاة الوسطى، فقال: حافِظ على الصلوات كُلِّها تصبها.
وعن الربيع بن خيثم أنّه سأله واحدٌ عنها، فقال: قال ابن عمر: الوُسطى واحدة منهن، فحافِظ على الكُلِّ تكُنْ محافظاً على الوسطى، ثم قال الربيع: فإنْ حافظتَ عليهن، فقد حافظت على الوسْطى.
الثاني: أَنَّ الوسطى هي مجموعُ الصلوات الخَمْس؛ لأَن هذه الصلوات الخمس: هي الوسطى من الطاعات، وتقريره: أنَّ الإِيمان بضعٌ وسبعون درجة: أعلاها شهادةث أَنْ لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى، فهي واسطة بين الطرفين.
وقيل: الوسطى صلاةُ الجمعة؛ لأن وقتها وسطُ النهارِ، ولها شروط ليست لبقيَّة الفرائض: من أشتراط الخُطبة، والأَربعين، ولا تصلي في المِصْر أكثر مِنْ جمعةٍ واحدةٍ، إِلاَّ أَنْ تدعُو الحاجة إلى أكثر منها؛ وتفوتُ بفواتِ وقتها ولا تقضى؛ لأن العطف يقتضي المغايرة.
الثالث: أنها صلاةُ الصبح، وهو قول علي وعمر وابن عباس، وابن عمرو وجابر بن عبد الله، ومعاذ وأبي أمامة الباهِليّ، وهو قول عطاء، وطاوسٍ، وعكرمة ومجاهد، وإليه ذهب مالكٌ، والشافعي. واستدلُّوا بوجوه:(4/227)
أحدها: أنَّ هذه الصلاة تُؤدَّى بعد طُلُوع الفجر، وقبل طلوع الشمس، وهذا الزمان ليس فيه ظُلمة باقية، ولا ضوء تام فكأنّه ليس بليلٍ ولا نهارٍ، فكان مُتوسِّطاً بينهما.
وثانيها: أَنََّ النهار حصل فيه صلاتان: الظهر، والعصر؛ وفي الليل صلاتان: المغرب، والعشاء؛ وصلاةُ الصبح كالمتوسطة بين صلاتي الليل، وصلاتي النهار.
فإنْ قيل: هذه المعاني حاصِلةٌ في صلاة المغرب.
فالجوابُ: أنَّا نرجِّح صلاة الصُّبح على صلاة المغرب؛ بكثرة الفضائلِ، على ما سيأتي إِنْ شاء الله تعالى.
وثالثها: أَنَّ الظهر، والعصر صلاتا جمعٍ، وكذلك: المغربُ والعِشاءُ، وصلاة الصبح منفردةٌ بوقتِ واحدٍ؛ فكانت وسطاً بينهما.
ورابعها: قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] وقد ثبت أَنَّ المراد منه صلاةُ الفجر، يعنى تشهدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار، فلا تجتمعُ ملائِكةُ الليل وملائكةُ النهار في وقتٍ واحد، إِلاّ في صلاةِ الفجر؛ فثبت أَنَّ صلاةَ الفجرِ قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه؛ فكانت كالشيءِ المتوسِّط.
وخامسها: قوله تعالى: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} وصلاة الصبح مخصوصةٌ بطول القيام، والقنوت، وهذا ضعيف، لأنه يقال لا نُسلِّمُ أَنَّ المراد بالقنوت طولُ القيام، كما سيأتي في تفسير هذه الكلمة، ولا نُسَلّم أَنَّ القنوت مخصوص بالفجر؛ بل يقنت في سائر الصَّلوات إِذَا نزل بالمسلمين، إِلاَّ فلا قنوت في شيءٍ من الفرائض.
وسادسها: أَنَّهُ تعالى إنَّما أفردها بالذكر؛ لأَجل التأكيد؛ لأنها أحوجُ الصلوات إلى التَّأكيد، إِذْ ليس في الصلواتِ أشقّ منها؛ لأنها تجب على الناس في ألذ أوقاتِ النَّوم؛ فيترك النومَ اللذيذ إلى استعمال الماء البارِدِ، والخُروج إلى المسجد والتَّأهب للصلاة، ولا شَكَّ أن هذا شاق صعبٌ على النفس.
وسابعها: أنها أفضلٌ الصلواتِ، فوجب أَنْ تكونَ هي الوسطى، ويدل على فضيلتها وجوه:
الأول: قوله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] فختم طاعاتهم بكونهم(4/228)
مُسْتغفرين بالأَسحارِ، وأَعظمُ أَنواع الاستغفار الفرائضُ؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حاكياً عن رَبّه: «لن يتقرّب المتقرّبون إليّ بمِثْل أَدَاءِ ما افترضتُ عَلَيْهِمْ» .
الثاني: رُوِيَ أَنَّ التكبيرة الأُولى فيها في الجماعة خيرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فيها.
الثالث: أنه ثبتَ أَنَّ صلاة الصبح مخصوصة بالأَذانِ مرَّتين: مرَّة قبل طُلُوع الفجر، ومرةً بعده.
فالأول: لإيقاظِ الناس من نومِهم، وتأهبهم.
والثاني: الإِعلامُ بدخول الوقت.
الرابع: أَنَّ الله سمّاها بأسماء، فقال في بني إسرائيل {وَقُرْآنَ الفجر} وقال في النور
{مِّن
قَبْلِ
صلاة
الفجر} [النور: 58] وقال في الروم {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن المراد من قوله {وَإِدْبَارَ النجوم} [الطور: 49] صلاة الفجر.
الخامس: أن الله تعالى أقسَمَ بها، فقال: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2] .
فإن قيل: قد أقسم الله تعالى - أيضاً - بالعصر فقال: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2] قلنا: سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر، لكن في صلاة الفجرمزيدُ تأكيدٍ وهو قوله: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 14] فكما أنّ أحدَ الطرفين، وهو الصبحُ، وهو واقعٌ قبل الطلُوع والطرف الآخرُ هو المغرب؛ لأنه واقعٌ قبل الغُرُوب، فقد اجتمع في الفجر القسمُ به، مع التأكيد بقوله: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 14] هذا التأكيدُ لم يوجد في العصر.
السادس: أن التثويب في أذان الصُّبح معتبرٌ، وهو قولُ المؤذن: الصلاةُ خيرٌ من النَّومِ، وهذا غيرُ حاصل في سائر الصلواتِ.
السابع: أَنَّ الإنسان إذا قام مِنْ نومِه فكأنه كان معدُوماً، ثم صار موجوداً أو كان مَيْتاً، ثم صار حياً، فإذا شاهد العَبْدُ هذا الأمر العظيم، فلا شكَّ أنَّ هذا الوقت أليقُ الأَوقاتِ، بأَن يظهر العبدُ الخضوع، والذلة والمسكنة في هذه العبادة.
وثامنها: رُوي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه سُئِل عن الصلاةِ الوسطى، فقال: كنا نرى أنَّها الفجرُ.(4/229)
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه صلى الصبح، ثم قال: هذه هي الصلاةُ الوسْطى.
القول الرابع: أَنَّهُ صلاةُ الظهرِ، وهو قول عمر، وزيدٍ بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، وأُسامة بن زيدٍ، وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه، واحتجُّوا بوجوه:
الأول: أن الظهرَ كان شاقّاً عليهم؛ لوقوعه في وقتِ القَيْلُولة، وشدَّةِ الحرِّ، فصرفُ المبالغة فيه أولى.
الثاني: روى زيد بن ثابت أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي بالهاجرة، وكان أثقلَ الصلواتِ على أصحابه، وربما لم يكُن وراءه إلاّ الصَّفُّ، والصَّفَّاِ، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُحْرِّقَ عَلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَة في بُيُوتهم» فنزلت هذه الآيةُ.
الثالث: أن صلاة الظُّهر تقع في وسط النهار، وليس في المكتوباتِ صلاة تقع في وسطِ النهارِ، وهي أَوسطُ صلاةِ النَّهارِ في الطول.
الرابع: قال أبو العالية: صليتُ مع أصحابِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظهرَ، فلمّا فرغُوا سأَلتُهم عن الصلاةِ الوسطى فقالوا: التي صلَّيتَها.
الخامس: روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنها كانت تقرأ «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَة الوُسْطَى وَصَلاَةَ العَصْرِ» ، وكانت تقولُ سمعتُ ذلك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(4/230)
وجهُ الاستدلالِ أنها عطفت صلاةَ العَصْرِ على الصلاةِ الوُسْطى، والمعطوفُ عليه قبل المعطُوفِ، والذي قبل العصر هي صلاةُ الظهر.
السادس: رُوي أنَّ قوماً كانوا عند زيد بن ثابتٍ، فأرسلوا إلى أُسامة بن زيدٍ، وسأَلُوه عن الصَّلاةِ الوُسطى، فقال: هي صلاةُ الظهرِ كانت تقامُ في الهَاجِرة.
السابع: روي في الحديث أن أوَل إِمامة جبريل - عليه السلام - كانت في صلاةِ الظهر، فَدَلَّ على أنّها أشرف، فكان صرفُ التَّأكيد إليها أولى.
الثامن: أَنَّ صلاةَ الجمعة هي أشرفُ الصَّلواتِ، وهي صلاةُ الظهرِ فصرف المبالغة إليها أولى روى الإمامُ أحمدُ، وصحَّحَه: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِل عن الصلاة الوسطى [فقال] العصرُ. ورَوى أحمدُ، والترمذيُّ، وصحَّحه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِل عن صلاةِ الوسطى فقال: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ والصَّلاةِ والوُسْطَى وَصَلاةَ العَصْرِ» ثم نُسِخَت هذه الكلمةُ، وبقي قولُه: «وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ» .
فإن قيل قد روي أنَّ عائشة أمرت أن يكتب لها مصحف، وقالت للكاتب: إذا بلغت قوله تعالى: {والصلاة الوسطى} فآذِنِّي، فلما وصل الكاتب إلى قوله تعالى: {والصلاة الوسطى} آذنها فأمرته أن يكتب: «وَصَلاَةَ العَصْرِ» وقالت: هكذا سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(4/231)
فالجواب أن هذا لم يروه غير واحدٍ تفرَّد به. وقد روى جماعةٌ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنها صلاة العصر، كما سيأتي، وكثرة الأدلة، والرُّواة يرجّح بها.
القول الخامس: أنها صلاة العصر، وهو مرويٌّ عن عليّ، وابن مسعودٍ، وابن عبَّاسٍ، وأبي هريرة، وأبي أيُّوب، وعائشة، وبه قال إبراهيم النخعي، وقتادة، والحسن، والضحاك، ويروى عن أبي حنيفة.
واحتجوا بوجوه:
الأول: روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال يوم الخندق: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً» وروى زرُّ بن حبيش، قال: قلنا لعبيدة: سل علياً عن الصلاة الوسطى، فسأله فقال: كنَّا نرى أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول يوم الخندق: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً» وعن عبد الله بن مسعودٍ، قال: حَبَسَ المشركون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن صَلاة العصر، حتَّى احمرَّت الشمس، أو اصفرَّت؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً، أو حَشَا اللهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً» .
الثاني: أنَّ العصر أولى بالتأكيد من غيرها؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ فَقَدْ وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» ، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ أو مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ» وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ حَافَظَ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ آتَاهُ اللهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ» ولأن المحافظة على سائر الصلوات، أخفُّ وأسهل من المحافظة على وقت العصر أخفى الأوقات.(4/232)
وذلك لأن الصُّبح يدخل وقتها بطلوع الفجر المستطير ضوؤه، ودخول الظهر بزوال الشَّمس، والمغرب بغروب القرص، ودخول العشاء بمغيب الشَّفق الأحمر، لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر.
الثالث: أنَّ الناس عند العصر يكونون مشغولين بمهماتهم، فكان الإقبال عليها أشقُّ.
الرابع: أنَّها متوسطةٌ بين صلاةٍ نهاريَّة، وهي الظهر، وصلاةٍ ليليَّةٍ، وهي المغرب، وأيضاً، فهي متوسِّطة بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار.
فإن قيل: قد ثبت عن عائشة أنها قرأت: «وَصَلاَةَ العَصْرِ» .
فالجواب أن يقال: إن هذه قراءة شاذَّة، ولأنه ثبت عن خلق كثير في أحاديث صحيحةٍ أنها العصر ورووها بغير واوٍ؛ فدل على أنّ الواو زائدةٌ، ولأنَّ الراوي لا يجوز له أن يسقط من الحديث حرفاً واحداً يتعلق به حكمٌ شرعي.
أو يقال: هذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، أو من عطف الصفات؛ لقولك: زيدٌ الكريم والعالم.
والقول السادس: أنها صلاة المغرب، وهو قول عبيدة السلماني وقبيصة بن ذؤيب، واحتجُّوا بوجهين:
أحدهما: أنه بين بياض النَّهار، وسواد اللَّيل، وهذا المعنى وإن كان حاصلاً في الصُّبح، إلاّ أن الغرب ترجَّح بوجوهٍ أُخر: وهي أنها أزيدُ من الرَّكعتين؛ كما في الصبح، وأقلُّ من الأربع؛ كما في الظهر، والعصر، والعشاء، فهي وسطٌ في الطُّول، والقصر.
الوجه الثاني: أنَّ صلاة الظهر تسمَّى بالصلاة الأولى، ولذلك ابتدأ جبريل بالإمامة فيها، وإذا كان الظهر أوَّل الصلوات، كانت المغرب، هي الوسطى، لا محالة، ولأنَّ قبلها صلاة سرٍّ، وبعدها صلاة جهرٍ.
القول السابع: أنها العشاء، قالوا: لأنها متوسِّطة بين صلاتين لا تقصران: المغرب، والصبح.
وعن عثمان بن عفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنّه قال: «مَنْ صَلَّى صَلاَةَ العِشَاءِ الآخِرَةِ في جَمَاعَةٍ، كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَة» .
قال القرطبي: وقال أبو بكر الأبهري: إن الوسطى صلاة الصُّبح، وصلاة العصر(4/233)
تبعاً؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إن اسْتَطَعْتُمْ أَلاََّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» يعنى: العصر، والفجر، ثم قرأ جرير: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] . وروى عمَّار بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا» يعني الفجر والعصر، وقيل: العشاء والصبح؛ لأن أبا الدَّرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال في مرضه الذي مات فيه: اسمعوا، وبلِّغوا من خلفكم: حافظوا على هاتين الصَّلاتين، يعني في جماعة - العشاء والصُّبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على مرافقكم.
قوله: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} قال ابن عباس: القنوت: الدعاء، والذكر، بدليل قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً}
[الزمر: 9] . ومنه الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قنت يدعو على رعل، وذكوان، وعصيّة، وأحياء من سليم. وقيل: مُصلِّين؛ لقوله: «أَمْ هُوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ» .
وقال الشعبيُّ، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وطاوسٌ، وقتادة، والضحاك، ومقاتلٌ: القنوت: الطاعة، ويدلُّ عليه وجهان:
الأول: ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنّه قال: «كُلُّ قُنُوتٍ في القُرْآنِ فَهُوَ طَاعَةٌ» .(4/234)
والثاني: قوله تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] وقال: {فالصالحات قَانِتَاتٌ} [النساء: 34] فالقنوت عبارةٌ عن كمال الطَّاعة، وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها. قال الكلبيُّ، ومقاتلٌ: لكلِّ أهل دينٍ صلاةٌ يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين.
وقيل: القنوت: السكوت، وهو قول ابن مسعود، وزيد بن أرقم، قال زيد بن أرقم: كنَّا نتكلّم في الصلاة، فيسلِّم الرجل؛ فيردون عليه ويسألهم كيف صليتم؟ كفعل أهل الكتاب. فنزل قوله تعالى: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.
وقال مجاهد: القنوت: عبارةٌ عن الخشوع، وخفض الجناح، وسكون الأطراف، وترك الالتفات من هيبة الله، وكان العلماء إذا قام أحدهم يصلي، يهاب الرحمن، فلا يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث، أو يحدّث نفسه بشيءٍ من أمر الدنيا ناسياً حتى ينصرف.
وقيل: القنوت: عبارة عن طول القيام.
قال جابر: سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيُّ الصَّلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، يريد طول القيام.
قال ابن الخطيب: وهذا القول ضعيفٌ؛ وإلاَّ صار تقدير الآية: وقوموا لله قائمين؛ اللَّهم إلاَّ أن يقال: وقوموا لله مديمين لذلك القيام؛ فيصير القنوت مفسَّراً بالإدامة، لا بالقيام.
وقيل: القنوت في اللغة: عبارةٌ عن الدوام على الشيء، والصَّبر عليه والملازمة له.
وفي الشريعة مختصٌّ بالمداومة على طاعة الله تعالى؛ وهو اختيار عليٍّ بن عيسى، وعلى هذا يدخل فيه جميع ما قاله المفسِّرون.(4/235)
قوله: «قَانِتِينَ» حالٌ من فاعل «قُومُوا» و «لِلَّهِ» يجوز أن تتعلَّق اللام ب «قُومُوا» ، ويجوز أن تتعلَّق ب «قَانِتِينَ» ، ويدلُّ للثاني قوله تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] . ومعنى اللام التعليل.
فصل
قال أبو عمرو: أجمع المسلمون على أنّ الكلام، عامداً في الصلاة، إذا كان المسلم يعلم أنّه في صلاةٍ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنّه يفسد الصلاة، إلاّ ما روي عن الأوزاعي أنّه قال إن تكلم في الصَّلاة لإحياء نفسٍ، ونحوه من الأمور الجسام، لم يفسد ذلك صلاته.
واختلفوا في كلام السَّاهي، فقيل: لا يفسد الصلاة.
وقيل: يفسدها.
وقال مالكٌ: إذا تكلم عامداً لمصلحة الصَّلاة، لم تفسد، وهو مذهب أحمد.
قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ} .
قال الواحديُّ: معنى الآية: فإن خفتم عدوّاً، فحذف المفعول لإحاطة العلم به.
وقال الزمخشريُّ: «فإن كان لكم خوفٌ من عَدُوٍّ، أو غيرِه» فهو أصحُّ؛ لأن هذا الحكم ثابتٌ عند حصول الخوف، سواءٌ كان الخوف من عدوٍّ، أو غيره.
وقيل: المعنى: فإن خفتم فوات الوقت، إذا أَخَّرْتُمُ الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم، فصلُّوا رِجالاً، أو ركْبَاناً، وعلى هذا التقدير الآية تدلُّ على تأكيد فرض الوقت؛ حتى يترخَّص لأجل المحافظة عليه في ترك القيام، والركوع، والسجود.
قوله تعالى: {فَرِجَالاً} : منصوبٌ على الحال، والعامل فيه محذوفٌ، تقديره: «فَصَلُّوا رِجَالاً، أو فحَافِظُوا عَلَيْهَا رِجَالاً» وهذا أولى؛ لأنه من لفظ الأول.
و «رِجَال» جمع راجلٍ؛ مثل قيامٍ وقائم، وتجارٍ وتاجرٍ، وصِحَابٍ وصاحب، يقال منه: رَجِلَ يَرْجَلُ رَجْلاً، فهو رَاجِلٌ، ورَجُل بوزن عضدٍ، وهي لغة الحجاز. يقولون: رَجِلَ فُلاَنٌ، فهو رَجُلٌ، ويقال: رَجْلاَن ورَجِيلٌ؛ قال الشاعر: [الطويل]
1148 - عَلَيَّ إِذَا لاَقَيْتُ لَيْلَى بِخُفْيَةٍ ... أَنَ ازْدَارَ بَيْتَ اللهِ رَجْلاَنَ حَافِيَا(4/236)
كلُّ هذا بمعنى مشى على قدميه؛ لعدم المركوب.
وقيل: الراجل الكائن على رجله، ماشياً كان أو واقفاً، ولهذا اللفظ جموعٌ كثيرة: رجالٌ؛ كما تقدَّم؛ وقال تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وقال [الكامل]
1149 - وَبَنُو غُدَانَةَ شَاخِصٌ أَبْصَارُهُمْ ... يَمْشُونَ تَحْتَ بُطُونِهِنَّ رِجَالاً
ورَجِيلٌ، ورُجَالَى، وتروى قراءةً عن عكرمة، ورَجَالَى، ورَجَّالَة، ورُجَّال، وبها قرأ عكرمة وابن مخلدٍ، ورُجَّالَى، ورُجْلاَن، ورِجْلَة، ورَجْلَة بسكون الجيم وفتحها، وأرجِلَة، وأرَاجِلٍ، وأرَاجِيل، ورجَّلاً بضم الراء وتشديد الجيم من غير ألفٍ، وبها قرئ شاذّاً.
وقال القفَّال: يجوز أن يكون «رِجَالٌ» جمع الجمع؛ لأن رجلاً يجمع على «رَاجِلٍ» ، ثمَّ يجمع راجلٌ على رِجالٍ.
والرُّكبان جمع راكب مثل فُرْسَان وفَارس، قال القفَّال: قيل: ولا يقال إلاَّ لمن ركب جملاً، فأمَّا راكب الفرس، ففارسٌ، وراكب [الحمار] والبغل حمَّار وبغَّال، والأجود صاحب حمار وبغلٍ، و «أو» هنا للتقسيم، وقيل: للإباحة، وقيل: للتخيير.
فصل
قال القرطبيُّ: لمّا أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة، بحال القنوت، وهو الوقار، والسكينة، وهدوء الجوارح، وهذه هي الحالة الغالبة من الأمن، والطُّمأنينة، ذكر حالة الخوف الطارئة أحياناً، وبيَّن أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حالٍ، ورخَّص لعبيده في الصلاة رجالاً على الأقدام، أو ركباناً على الخيل والإبل، ونحوه إيماءً، وإشارةً بالرأس حيث ما توجهوا.
فصل في صلاة الخوف
صلاة الخوف قسمان:
أحدهما: حال القتال مع العدو، وهي أقسام:
أحدها: حال التحام الحرب، وهو المذكور في هذه الآية، وباقيها مذكورٌ في سورة النِّساء [102] والقتال إمَّا واجبٌ، أو مباحٌ، أو محظورٌ.(4/237)
فالواجب: كالقتال مع الكفار، وهو الأصل في صلاة الخوف، وفيه نزلت الآية، ويلحق به قتال أهل البغي، بقوله تعالى: {فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفيء إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] .
والمباح: كدفع الصائل بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه؛ فإنه يجب الدفع، وفي الدفع عن كل حيوانٍ محترم، فإنَّه يجوز فيه صلاة الخوف.
وأمَّا المحظور فلا يجوز فيه صلاة الخوف؛ لأن هذا رخصةٌ، والرخصة إعانة؛ والعاصي لا يستحقّ الإعانة.
القسم الثاني: في الخوف الحاصل في غير القتال، كالهارب من الحرق، أو الغرب، أو السَّبع، أو المطالبة بدينٍ، وهو معسر خائفٌ من الحبس عاجزٌ عن بيِّنة الإعسار فلهم أن يصلُّوا صلاة الخوف؛ لأن قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ} مطلقٌ يتناول الكلَّ، فإن قيل: المراد منه الخوف من العدوِّ حال المقاتلة.
قلنا: سلمنا ذلك، ولكن علمنا أنّه إنّما ثبت هناك، لدفع الضَّرر، وهذا المعنى قائمٌ هنا، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً هنا.
فصل في عدد ركعات صلاة الحضر والسفر والخوف
ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم.
وروى مجاهد، عن ابن عباسٍ قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السَّفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.
وقال سعيد بن جبير: إذا كنت في القتال، وضرب الناس بعضهم بعضاً، فقل سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، واذكر الله فتلك صلاتك.
فصل
قال القرطبي: والمقصود من هذه الآية، أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحالٍ، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن باقي العبادات؛ لأنها تسقط بالأعذار.
قال ابن العربيّ: ولهذا قال علماؤنا: إن تارك الصلاة يقتل لأنها أشبهت الإيمان(4/238)
الذي لا يسقط بحالٍ، ولا تحوز النيابة فيها ببدنٍ، ولا مالٍ، فيقتل تاركها كالشهادتين.
قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} يعني بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة {فاذكروا الله} أي: فصلُّوا الصلوات الخمس. والصلاة قد تسمَّى ذكراً، قال تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9] . وقيل: {فاذكروا الله} أي: فاشكروه؛ لأجل إنعامه عليكم بالأمن.
وطعن القاضي في هذا القول؛ بأن الشُّكر يلزم مع الخوف، كما يلزم مع الأمن؛ لأن نعم الله تعالى متصلة في الحالين.
وقيل: إنَّ قوله تعالى: {فاذكروا الله} يدخل تحته الصلاة، والشكر جميعاً.
قوله: {كَمَا عَلَّمَكُم} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدر محذوفٍ، أو حالاً من ضمير المصدر المحذوف، وهو الظاهر، ويجوز فيها أن تكون للتعليل، أي: فاذكروه لأجل تعليمه إيَّاكُمْ، و «مَا» يجوز أن تكون مصدريةً، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون بمعنى «الَّّذِي» ، والمعنى: فصلُّوا الصَّلاة كالصَّلاة التي عَلَّمَكُمْ، وعبَّر بالذكر عن الصلاة، ويكون التشبيه بين هيئتي الصلاتين الواقعة قبل الخوف وبعده في حالة الأمن. قال ابن عطيَّة: «وعَلَى هذا التأويلِ يكون قوله:» مَا لَمْ تَكُونُوا «بدلاً من» مَا «في» كَمَا «وإلاَّ لم يتَّسق لفظ الآية» قال أبو حيان: «وهو تخريجٌ مُمْكِنٌ، وأحسن منه أن يكون» مَا لَمْ تَكُونُوا «بدلاً من الضمير المحذوف في» عَلَّمَكُم «العائد إلى الموصول؛ إذ التقدير: عَلَّمَكُمُوهُ، ونصَّ النحويون على أنه يجوز: ضَرَبْتُ الذي رَأَيْتُ أَخَاكَ» [أي: رَأَيْتُهُ أَخَاكَ] ، ف «أَخَاكَ» بدلٌ من العائد المحذوف «.(4/239)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي، وأبو بكرٍ، عن عاصم: «وَصِيَّةٌ» بالرفع والباقون: بالنصب. وفي رفع {الذين يُتَوَفَّوْنَ} ثمانية أوجهٍ، خمسةٌ منها على قراءة من رفع «وَصِيَّةً» ، وثلاثةٌ على قراءة من نصب «وصيةٌ» ؛ فأوّل الخمسة، أنه مبتدأ، و «وَصِيَّةٌ» مبتدأ ثانٍ، وسوَّغ الابتداء بها كونها موصوفة تقديراً؛ إذ التقدير: «وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ» أو «مِنْهُمْ» ؛ على حسب الخلاف فيها: أهي واجبةٌ من الله تعالى، أو مندوبةٌ للأزواج؟ و «لأَزْوَاجِهِمْ» خبر المبتدأ الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول، وفي هذه الجملة ضمير الأول، وهذه نظير قولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ» تقديره: «مَنَوَانِ مِنْهُ» ، وجعل ابن عطية(4/239)
المسوِّغ للابتداء بها كونها في موضع تخصيص؛ قال: «كما حَسُنَ أَنْ يرتفع:» سَلاَمٌ عَلَيْكَ «و» خَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ «؛ لأنها موضع دعاءٍ» قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ.
الثاني: أن تكون «وَصِيَّةٌ» مبتدأ، و «لأَزْوَاجِهِمْ» صفتها، والخبر محذوفٌ، تقديره: فعليهم وصيةٌ لأزواجهم، والجملة خبر الأوَّل.
الثالث: أنها مرفوعة بفعل محذوفٍ، تقديره: كتب عليهم وصيَّةٌ و «لأَزْوَاجِهِمْ» صفةٌ، والجملة خبر الأول أيضاً؛ ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله: «كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ» وهذا من تفسير المعنى، لا الإعراب؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل.
الرابع: أن «الَّذِينَ» مبتدأٌ، على حذف مضافٍ من الأول، تقديره: ووصيَّةُ الذين.
الخامس: أنه كذلك إلا أنه على حذف مضافٍ من الثاني، تقديره: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصيَّةٍ» ذكر هذين الوجهين الزمخشريُّ، قال أبو حيان: «ولا ضرورة تدعونا إلى ذلك» .
فهذه الخمسة الأولى التي على رفع «وَصِيَّةٌ» . وأمَّا الثلاثة التي على قراءة النصب في «وَصِيَّةٌ» :
فأحدها: أنه فاعل فعل محذوفٍ، تقديره: وليوص الذين، ويكون نصب «وَصِيَّةٌ» على المصدر.
الثاني: أنه مرفوع بفعل مبني للمفعول يتعدَّى لاثنين، تقديره: «وأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ» ويكون نصب «وَصِيَّةً» على أنها مفعولٌ ثانٍ ل «أُلْزِمَ» ، ذكره الزمخشريُّ، وهو والذي قبله ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل.
الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبره محذوف، وهو الناصب لوصية، تقديره: والذين يتوفون يوصون وصيَّة، وقدره ابن عطية: «لِيُوصُوا» و «وَصِيَّةً» منصوبةٌ على المصدر أيضاً، وفي حرف عبد الله: «الوَصِيَّةُ» رفعاً بالابتداء، والخبر الجارُّ بعدها، أو مضمرٌ أي: فعليهم الوصية، والجارُّ بعدها حالٌ، أو خبرٌ ثانٍ، أو بيانٌ.
قوله تعالى: {مَّتَاعاً} في نصبه سبعة أوجهٍ:
أحدها: أنَّه منصوبٌ بلفظ «وَصِيَّة» لأنها مصدرٌ منونٌ، ولا يضرُّ تأنيثها بالتاء؛ لبنائها عليها؛ فهي كقوله: [الطويل]
1150 - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّضْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ
والأصل: وصية بمتاع، ثم حذف حرف الجرِّ، اتساعاً، فنصب ما بعده، وهذا إذا لم تجعل «الوصيَّة» منصوبةٌ على المصدر؛ لأن المصدر المؤكَّد لا يعمل، وإنما يجيء(4/240)
ذلك حال رفعها، أو نصبها على المفعول؛ كما تقدَّم تفصيله.
والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ، إمَّا من لفظه، أي: متِّعوهنَّ متاعاً، أي: تمتيعاً، أو من غير لفظه، أي: جعل الله لهنَّ متاعاً.
الثالث: أنه صفةٌ لوصية.
الرابع: أنه بدل منها.
الخامس: أنه منصوبٌ بما نصبها، أي: يوصون متاعاً، فهو مصدر أيضاً على غير الصدر؛ ك «قَعَدْتُ جُلُوساًَ» ، هذا فيمن نصب «وَصِيَّةٌ» .
السادس: أنه حالٌ من الموصين: أي ممتَّعين أو ذوي متاعٍ.
السابع: أنه حالٌ من أزواجهم، [أي] : ممتَّعاتٍ أو ذوات متاعٍ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانت الوصية من الأزواج.
وقرأ أُبيٌّ: «مَتَاعٌ لأَزْوَاجِهِمْ» بدل «وَصِيَّةٌ» ، وروي عنه «فَمَتَاعٌ» ، ودخول الفاء في خبر الموصول؛ لشبهه بالشرط، وينتصب «مَتَاعاً» في هاتين الروايتين على المصدر بهذا المصدر، فإنه بمعنى التمتيع؛ نحو: «يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ لَكَ ضَرْباً شَدِيداً» ، ونظيره: {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] ، و «إِلَى الحَوْلِ» متعلِّقٌ ب «مَتَاع» أو بمحذوفٍ؛ على أنه صفة له.
قوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في نصبه ستة أوجهٍ:
أحدها: أنه نعتٌ ل «مَتَاعاً» .
الثاني: أنه بدلٌ منه.
الثالث: أنه حالٌ من الزوجات، أي: غير مخرجات.
الرابع: أنه حالٌ من الموصين، أي: غير مخرجين.
الخامس: أنه منصوب على المصدر، تقديره: لا إخراجاً، قاله الأخش.
السادس: أنه على حذف حرف الجرِّ، تقديره: من غير إخراجٍ، قاله أبو البقاء، قال شهاب الدين: وفيه نظر.
فصل في المراد بقوله «غير إخراج»
معنى قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي: ليس لأولياء الميِّت ووارثي المنزل؛ إخراجها، «فَإِنْ خَرَجْنَ» أي: باختيارهن قبل الحول «فلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم» ، أي: لا حرج على وليِّ أحدٍ وُلِّيَ، أو حاكم، أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولاً.
وقيل: لا جناح في قطع النّفقة عنهن، أو لا جناح عليهنَّ في التشرُّف إلى الأزواج،(4/241)
إذ قد انقطعت عنهنَّ مراقبتكم أيُّها الورثة، ثم عليها أنها لا تتزوج قبل انقضاء العدَّة بالحول أو لا جناح في تزويجهنَّ بعد انقضاء العدّة، لأنه قال: «بالمَعْرُوفِ» ، وهو ما يوافق الشرع.
و {والله عَزِيزٌ} صفةٌ تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحدَّ في هذه النازلة، في إخراج المرأة، وهي لا تريد الخروج {حَكِيمٌ} ، أي مُحْكِمٌ لما يريد من أمور عباده والله أعلم.
قوله: {فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبر «لا» وه «عَلَيْكُمْ» من الاستقرار، والتقدير: لا جناح مستقرٌّ عليكم فيما فعلن في أنفسهنَّ، و «مَا» موصولةٌ اسميةٌ، والعائد محذوف، تقديره: فعلنه، و «مِنْ مَعْرُوفٍ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من ذلك العائد المحذوف، وتقديره: فيما فعلنه كائناً من معروفٍ.
وجاء في هذه الآية {مِن مَّعْرُوفٍ} نكرةً مجرورةً ب «مِنْ» ، وفي الآية قبلها «بِالمَعْرُوفِ» معرَّفاً مجروراً بالباء؛ لأنَّ هذه لام العهد؛ كقولك: «رَأَيْتُ رَجُلاً فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ» إلاَّ أنَّ هذه، وإن كانت متأخِّرةً في اللفظ، فهي متقدِّمة في التنزيل، ولذلك جعلها العلماء منسوخةً بها، إلا عند شذوذٍ، وتقدَّم نظائر هذه الجمل، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها.
فصل في سبب النزول
في هذه الآية ثلاثة أقوالٍ:
الأول: وهو اختيار جمهور المفسرين أنها منسوخةٌ، قالوا: نزلت الآية في رجل من أهل الطائف، يقال له: حكيم بن الحرث، هاجر إلى المدينة، وله أولاد، ومعه أبواه وامرأته، فمات، فأنزل الله هذه الآية؛ فأعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والديه، وأولاده ميراثه، ولم يعط امرأته شيئاً، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً كاملاً، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، كاملاً، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكان نفقتها وسكناها واجبةً في مال زوجها تلك السَّنة، ما لم يخرج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها، سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالرُّبع، والثُّمن، ونسخ عدَّة الحول ب «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» .
قال ابن الخطيب: دلَّت هذه الآية على وجوب أمرين:
أحدهما: وجوب النفقة، والسُّكنى من مال الزَّوج، سواءٌ قراءة «وَصِيَّةٌ ووصِيَّةً» بالرفع، أو بالنصب.(4/242)
والثاني: وجوب الاعتداد، ثم نسخ الله تعالى هذين الحكمين، أمّا الوصية بالنفقة، والسكنى، فلثبوت ميراثها بالقرآن، والسنة، دلَّت على أنَّه لا وصيَّة لوارثٍ، فصار مجموع القرآن والسنَّة ناسخاً لوجوب الوصيَّة لها بالنفقة والسكنى في الحول.
أمَّا وجوب العدة في الحول، فنسخ بقوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] .
القول الثاني: وهو قول مجاهد: أنَّ الله تعالى أنزل في عدَّة المتوفى عنها زوجها آيتين:
إحداهما: قوله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [آية: 234] ، والأخرى هذه الآية؛ فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين، فنقول: إنَّها إن لم تختر السُّكنى في دار زوجها، والأخذ من ماله، وتركته؛ فعدَّتها هي الحول، قال ابن الخطيب: وتنزيل الآيتين على هذين التَّقديرين أولى؛ حتى يكون كل منهما معمولاً به، والجمع بين الدَّليلين، والعمل بهما أولى من اطراح أحدهما، والعمل بالآخر.
القول الثالث: قال أبو مسلم الأصفهاني: معنى الآية: أنَّ من يتوفَّى منكم، ويذرون أزواجاً، وقد وصّوا وصيَّة لأزواجهم، بنفقة الحول، وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك، وخالفن وصيَّة أزواجهنَّ، بعد أن يقمن أربعة أشهرٍ وعشراً؛ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروفٍ، أي: نكاحٌ صحيحٌ؛ لأن إقامتهنَّ بهذه الوصيَّة غير لازمة.
قال: والسَّبب: أنَّهم كانوا في الجاهليَّة يوصون بالنَّفقة، والسُّكنى حولاً كاملاً، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنَّ ذلك غير واجبٍ، وعلى هذا التَّقدير، فالنَّسخ زائلٌ، واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ:
أحدها: أنَّ النَّسخ خلاف الأصل؛ فوجب المصير إلى عدمه، بقدر الإمكان.
الثاني: أنَّ النَّاسخ يكون متأخِّراً عن المنسوخ في النُّزول، وإذا كان متأخِّراً عنه في النُّزول، يجب أن يكون متأخِّراً عنه في التِّلاوة، وهو إن كان جائزاً في الجملة إلاَّ أنَّ قولنا يعدّ من سوء التَّرتيب، وتنزيه كلام الله واجبٌ بقدر الإمكان، ولمَّا كانت هذه الآية متأخِّرةً عن تلك في التِّلاوة؛ كان الأولى ألاّ يحكم بكوها منسوخةً بتلك.
الثالث: أنَّه ثبت عند الأصوليِّين متى وقع التَّعارض بين التَّخصيص، والنَّسخ، كان النَّسخ أولى، وها هنا إن خصَّصنا هاتين الآيتين بحالتين على ما هو قول مجاهد؛ اندفع النَّسخ، فكان قول مجاهد أولى من التزام النَّسخ من غير دليلٍ، وأمَّا على قول أبي مسلم، فيكون أظهر؛ لأنكم تقولون: تقدير الآية: فعليهم وصيَّةٌ لأزواجهم، أو تقديرها:(4/243)
فليوصوا وصيَّةً، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول: بل تقدير الآية: والذين يتوفون منكم، ولهم وصيَّةٌ لأزواجهم، أو تقديرها: وقد أوصوا وصيَّةً لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزَّوج، وإذا كان لا بدَّ من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضمارنا ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكره أبو مسلمٍ؛ لم يلزم تطرُّق النَّسخ إلى الآية، فيكون أولى.
وإذا ثبت هذا فنقول: الآية من أولها إلى آخرها، تكون جملةً واحدةً شرطيَّةً، فالشَّرط هو قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فهذا كلُّه شرطٌ والجزاء هو قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} فهذا تقرير قول أبي مسلمٍ.
قال ابن الخطيب: وهو ف ي غاية الصِّحَّة، وعلى تقدير باقي المفسِّرين، فالمعنى: والذين يتوفَّون منك أيُّها الرِّجال، ويذرون زوجاتٍ فليوصوا وصيَّةٌ، وكتب عليكم الوصيَّة بأن تمتِّعوهنَّ متاعاً، أي: نفقة سنةٍ لطعامها، وكسوتها، وسكناها، غير مخرجين لهن، فإن خرجن من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة، فلا جناح عليكم يا أولياء الميِّت، فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف، يعني: التَّزين للنِّكاح، ولرفع الجناح عن الرِّجال، وجهان:
أحدهما: لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج؛ لأنَّ مقامها في بيت زوجها حولاً، غير واجبٍ عليها، فخيَّرها الله تعالى بين: أن تقيم حولاً، ولها النَّفقة والسُّكنى، وبين أن تخرج إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشراً.
فإن قيل: إن الله تعالى ذكر الوفاة، ثم أمرنا بالوصيَّة، فكيف يوصي المتوفى؟!
فالجواب أنَّ معناه: والذين يقارون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا، فجعل المقاربة للوفاة عبارة عنها.
وقيل: إنّ هذه الوصيّة يجوز أن تكون مضافةً إلى الله تعالى، بمعنى: «أمره، وتكليفه» ، كأنَّه قيل: وصيّة من الله لأزواجهم، كقوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] .
فصل
المعتدَّة من فرقة الوفاة، لا نفقة لها، ولا كسوة حاملاً كانت، أو حائلاً.
وروي عن عليٍّ، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ لها النَّفقة إذا كانت حاملاً،(4/244)
وعن جابر، وابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنهما قالا: لا نفقة لها، حسبها الميراث، وهل تستحقُّ السُّكنى؟ قال عليٌّ، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: لا تستحقُّ السُّكنى، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزنيّ.
وقال عمر، وابن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأمُّ سلمة: إنها تستحقُّ السُّكنى، وبه قال مالك، والثَّوريُّ، وأحمد.
واحتجَّ كلٌّ من الطائفتين بخبر فريعة بنت مالك، أخت أبي سعيدٍ الخدريِّ، قتل زوجها؛ فسألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: إنّي أرجع إلى أهلي، فإنَّ زوجي ما تركني في منزل يملكه؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «نَعَمْ» ، فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد، أو في الحجرة دعاني فقال: «امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ» ، فاختلفوا في تنزيل هذا الحديث.
فقيل: لم يوجب في الابتداء، ثمَّ أوجب؛ فصار الأوَّل منسوخاً.
وقيل: أمرها بالمكث في بيتها أجراً على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الوجوب.
واحتجَّ المزنيُّ على أنَّه لا سكنى لها فقال: أجمعنا على أنَّه لا نفقة لها؛ لأنَّ الملك انقطع بالموت، فكذلك السُّكنى بدليل: أنهم أجمعوا على أنَّ من وجب له نفقةً، وسكنى عن ولد ووالد على رجلٍ؛ فمات؛ انقطعت نفقتهم، وسكناهم؛ لأنّ ماله صار ملكاً للوارث، فكذا ها هنا.
وأجيب بأنَّه لا يمكن قياس السُّكنى على النفقة؛ لأنَّ المطلقة ثلاثاً تستحقُّ السُّكنى بكلِّ حالٍ، ولا تستحقُّ النَّفقة لنفسها عند المزنيّ. ولأن النَّفقة وجبت في مقابلة التَّمكين من الاستمتاع، ولا يمكن ها هنا، وأمَّا السُّكنى وجبت لتحصين النساء، وهو موجودٌ ها هنا فافترقا.(4/245)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
إنَّما أعاد ذكر المتعة ها هنا؛ لزيادة معنًى؛ وذلك أنَّ في غيرها بيان حكم غير الممسوسة، وفي هذه الآية: بيان حكم جميع المطلّقات في المتعة.
وقيل: لأنَّه لما نزل قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ، إلى قوله: {حَقّاً(4/245)
عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] قال رجلٌ من المسلمين: إن أردت؛ فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل فقال الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} جعل المتعة لهن بلام الملك، وقال: {حَقّاً عَلَى المتقين} يعنى المؤمنين المتَّقين الشِّرك.
وقيل: المراد بهذه المتعة: النَّفقة، والنَّفقة قد تسمَّى متاعاً، فاندفع التَّكرار.
واعلم أنَّ القائل بوجوب المتعة لكلِّ المطلقات: هو سعيد بن جبير، وأبو العالية والزُّهريّ.
وقال الشَّافعيُّ: لكلّ مطلقة إلاّ المطلقة التي فرض لها المهر، ولم يوجد في حقّها المسيس.
قال أبو حنيفة: لا تجب المتعة إلاَّ للمطلَّقة التي لم يفرض لها، ولم يوجد المسيس.
وقول الله تعالى في زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] محمولٌ على أنَّه تطوُّع من النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا على سبيل الوجوب.
وقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] محمولٌ على غير المفروض لها أيضاً.
قال القرطبيُّ: وأوجب الشَّافعيُّ المتعة للمختلعة، والمبارئة، وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطى، فكيف تأخذ متاعاً، لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة، أو مفتدية، أو مبارئة، أو مصالحة، أو ملاعنة، أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقاً أم لا؛ وقد تقدَّم ذلك، ثم قال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .(4/246)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
اعلم أنَّ عادته تعالى: أن يذكر القصص بعد بيان الأحكام ليفيد الاعتبار للسَّامع.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين} : هذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النَّفي، فصيَّرت النَّفي تقريراً، وكذا كلُّ استفهام دخل على نفي نحو: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فيمكن أن يكون المخاطب علم هذه القصّة قبل نزول هذه الآية، فيكون التَّقرير ظاهراً، أي: قد رأيت حال هؤلاء، كقول(4/246)
الرَّجل لغيره يريد تعريفه ابتداء: «ألم تر إلى ما جرى على فلان؟» .
قال القرطبيُّ: والمعنى عند سيبويه: تنبُّه إلى أمر الذين، ولا تحتاج هذه الرواية إلى مفعولين والمخاطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو كل سامع، إلاَّ أنَّه قد وقع الخطاب معه ابتداءً كقوله: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] ويجوز أن يكون المراد بهذا الاستفهام: التعجب من حال هؤلاء، وأكثر ما يرد كذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً} [المجادلة: 14] {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45] ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
1151 - أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقاً ... وَجَدْتُ بِهَا طِيباً وإنْ لَمْ تَطَيَّبِ
والرُّؤية هنا علميَّة، فكان من حقِّها أن تتعدَّى لاثنين، ولكنَّها ضمِّنت معنى ما يتعدَّى بإلى.
والمعنى: ألم ينته علمك إلى كذا. وقال الرَّاغب: «رأيت: يتعدَّى بنفسه دون الجارِّ، لكن لما استعير قولهم:» ألم تَرَ «بمعنى ألم تنظر؛ عدِّي تعديته، وقلَّما يستعمل ذلك في غير التقدير، لا يقال: رأيت إلى كذا» .
وقرأ السُّلمي: «تَرْ» بسكون الرَّاء، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه توهَّم أنَّ الراء لام الكلمة، فسكَّنها للجزم؛ كقوله: [الرجز]
1152 - قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِماً لَبِيقَا
وقيل: هي لغة قومٍ، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلَّة.
والثاني: أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وهذا أولى، فإنَّه كثيرٌ في القرآن؛ نحو: «الظُّنُونَا» ، و «الرَّسُولاَ» ، و «السَّبِيلاَ» ، و «لَمْ يَتَسَنَّهُ» ، و «بِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» وقوله: «وَنُصْلِهِ» ، و «نُؤْتِهِ» ، و «يُؤَدِّه» ، وسيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى.
قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} مبتدأٌ وخبرٌ، وهذه الجملة في [موضع] نصب على الحال، وهذا أحسن مجيئها، إذ قد جمع فيها بين الواو والضمير، و «أُلوفٌ» فيه قولان:
أظهرهما: أنه جمع «ألْف» لهذا العدد الخاصِّ، وهو جمع الكثرة، وجمع القلّة: آلاف كحمول، وأحمال.(4/247)
والثاني: أنه جمع «آلِف» على فاعل كشاهدٍ وشهود، وقاعدٍ وقُعودٍ، أي: خرجوا وهم مؤتلفون، قال الزَّمخشريُّ: «وهذا من بِدَع التَّفاسير» .
قوله تعالى: {حَذَرَ الموت} أي من خوف الموت وهو مفعولٌ من أجله، وفيه شروط النَّصب، أعني المصدرية، واتحاد الفاعل، والزمان.
قوله: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوفٌ على معنى: فقال لهم الله: موتوا، لأنَّه أمرٌ في معنى الخبر تقديره: فأماتهم الله ثم أحياهم.
والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، تقديره: فماتوا ثم أحياهم بعد موتهم، و «ثم» تقتضي تراخي الإحياء عن الإماتة. وألف «أَحْيَا» عن ياء؛ لأنَّه من «حَيِيَ» ، وقد تقدَّم تصريف هذه المادّة عند قوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} [البقرة: 26] .
فصل
قال السُّدِّيُّ وأكثر المفسرين: «كانت قرية يقال لها:» دَاوْردَان «قيل واسط، وقع بها الطَّاعون، فخرج عامَّة أهلها، وبقيت طائفةٌ، فهلك أكثر الباقين وبقي منهم بقيَّةٌ في المرض والبلاء، فلما ارتفع الطَّاعون؛ رجع الَّذين هربوا سالمين فقال من بَقِيَ من المرضى: هؤلاء أحزم منّا، لو صنعنا كما صنعوا لنجونا، ولئن وقع الطَّاعون ثانيةً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء فيها، فوقع الطاعون من قابِلٍ؛ فهرب عامَّة أهلها، وهم بضعةٌ وثلاثون ألفاً؛ حتى نزلوا وادياً أفيح فلمّا نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النَّجاة، ناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه:» أنْ مُوتُوا «فماتوا جميعاً وبليت أجسامهم، فمرَّ بهم نبيٌّ يقال له:» حِزْقِيل بن يوذي «: ثالث خلفاء بني إسرائيل، بعد موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يُوشَعُ بْنُ نُون ثم كالب بن يوفنا، ثم حزقيل، وكان يقال له: ابن العجوز؛ لأنَّه أمَّه كانت عجوزاً، فسألت الله الولد بعدما كبرت، وعقمت، فوهبه الله لها» .
قال الحسن، ومقاتل: هو ذو الكفل، وسمِّي: ذا الكفل؛ لأنَّه تكفَّل بسبعين نبيّاً، وأنجاهم من القتل، فلمَّا مرَّ حزقيل على أولئك الموتى، وقف متفكّراً فيهم متعجِّباً، فأوحى الله إليه أتريد أن أُريك آيةً؟ قال: نعم، فقيل له: نادِ! يَا أَيُّهَا العِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أن تَجْتَمِعِي، فجعلتِ العِظَامُ يَطِيرُ بعضها إلى بعض، حتى تمّت العِظَامُ، ثم أوحى اللهُ(4/248)
إليه ثانياً أن ينادي: يا أيَّتُها العِظَامُ؛ إنَّ اللهَ يأمرك أنَّ تَكْتَسِي لحماً ودماً، ثم نادي: إنَّ اللهَ يأمرك أن تَقُومي؛ فقامت، فلمَّا صاروا أحياءً قاموا، وكانوا يقولون: «سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» ثم رجعوا إلى قريتهم، بعد حياتهم، وكانت أمارات موتهم ظاهرةً في وجوههم، ثمَّ بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم.
روى عبد الله بن عامر بن ربيعة أنَّ عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خرج إلى الشَّام، فلمَّا جاء «سَرْغَ» بلغه أنَّ الوباء قد وقع بالشَّام؛ فأخبره عبد الرحمن بن عوف: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ، وإذا وَقَعَ بِأَرْضٍ وأَنْتُمْ بِهَا؛ فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً» ؛ فرجع عمر من «سرغ» .
وقال ابن عبَّاس، والكلبيُّ ومقاتل والضَّحَّاك: إنَّ ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال؛ فخافوا القتال، وجبنوا، وكرهوا الموت، فاعتلُّوا، وقالوا لملكهم: إنَّ الأرض التي تذهب إليها بها الوباء، فلا نأتيها حتى يزول ذلك الوباء منها؛ فأرسل الله عليهم الموت؛ فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت، فلما رأى الملك ذلك قال: اللَّهمّ ربّ يعقوب، وإله موسى، وهارون قد ترى معصية عبادك، فأرهم آيةً في أنفسهم، حتى يعلموا أنَّهم لا يستطيعون الفرار منك، فلمَّا خرجوا قال لهم الله «مُوتُوا» ، فماتوا جميعاً، وماتت دوابهم كموت رجل واحدٍ، وبقوا ثمانية أيَّام، حتَّى انتفخوا وأروحت أجسادهم، وبلغ بني إسرائيل موتهم، فخرجوا لدفنهم؛ فعجزوا لكثرتهم، فحظروا عليهم حظائر دون السِّباع، فأحياهم الله بعد الثمانية أيَّام، وبقي فيهم شيءٌ من ذلك النتن، وفي أولادهم إلى هذا اليوم.
واحتجُّوا على هذه الرِّواية بقوله عقيب ذلك: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244] وقال مقاتل والكلبي كانوا قوم حزقيل، أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيَّام، وذلك أنه لمَّا أصابهم ذلك، خرج حزقيل في طلبهم، فوجدهم موتى؛ فبكى وقال: «يا ربِّ؛ كُنْتُ من قومٍ يحمدونَكَ ويسبِّحُونَكَ ويقدِّسُونَكَ، ويكبِّرُونَكَ، ويهللونَكَ؛ فبقيت واحداً لا قوم(4/249)
لي» ؛ فأوحى الله إليه: إنِّي جعلت حياتهم إليك، فقال حزقيل: احيوا بإذن الله تعالى؛ فعاشوا.
قال مجاهدٌ: إنهم قالوا حين أُحيوا: سبحانك ربنا، وبحمدك لا إله إلاّ أنت، فرجعوا إلى قومهم، وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوباً إلاَّ عاد دنساً مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتب لهم.
قال ابن عباس: إنَّها لتوجد اليوم في ذلك السِّبط من اليهود تلك الرِّيح.
قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عُقُوبَةً لهم، ثم بعثهم إلى بقيَّة آجالهم.
قال ابن العربيّ: أماتهم الله عقوبة لهم، ثم أحياهم، وميتة العقوبة بعدها حياةٌ، وميتة الأجل لا حياة بعدها.
قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} .
قال ابن الخطيب: قيل: هو من قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] والمراد سرعة وقوع المراد، ولا قول هناك.
وقيل: أمر الرَّسول أن يقول لهم: «مُوتُوا» أو الملك، والأوَّل أقرب.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} يقتضي أنهم أُحيوا بعد موتهم، وذلك ممكنٌ، وقد أخبر الصَّادق به؛ فوجب القطع.
وقالت المعتزلة: إحياء الميِّت فعلٌ خارق للعَادَةِ، ولا يجوز إظهاره إلا معجزة للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن الخطيب: وأصحابنا يجوّزون خرق العادة كرامةً للأولياء، ولغير ذلك.
قالت المعتزلة: وهذا الإحياء، وقع في زمن حزقيل ببركة دعائه. وها هنا بحثٌ وهو أنَّه قد ثبت بالدَّليل أن المعارف تصير ضروريّة عند القرب من الموت ومعاينة الأهوال والشدائد، فهؤلاء إن كانوا عاينوا تلك الأهوال الموجبة للعلم الضَّروريِّ؛ وجب(4/250)
إذا عاشوا أن يبقوا ذاكرين لذلك؛ لأن الأشياء العظيمة لا تنسى مع كمال العقل؛ لتبقى لهم تلك العلوم، ومع بقائها يمتنع التَّكليف كما في الآخرة، ولا مانع يمنع من بقائهم غير مكلَّفين وإن كان جاءهم الموت بغتةً، كالنَّوم ولم يعاينوا شدَّةَ، ولا هولاً، فذلك أيضاً ممكن.
وقال قتادة: إنَّما أحيوا ليستوفوا بقيَّة آجالهم.
فصل
واختلفوا في عدّتهم.
قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يكنوا دون ثلاثة آلاف، ولا فوق سبعين ألفاً.
والوجه من حيث اللَّفظ: أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف؛ لأنَّ الألوف جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف، وقيل: إنَّ الألوف جمع ألفٍ، كقعودٍ وقاعدٍ، وجلوسٍ، وجالسٍ، والمعنى: أنَّهم كانوا مؤتلفي القلوب.
قال القاضي: والوجه الأوَّل أولى؛ لأنَّ ورود الموت عليهم دفعةً واحدةً، وهم كثرةٌ عظيمةٌ، تفيد مزيد اعتبار بحالهم؛ لأنَّ موت الجمع العظيم دفعةً واحدةً لا يتَّفق وقوعه، وأمَّا ورود الموت على قوم تآلفوا حب الحياة، وبينهم ائتلافٌ ومحبةٌ كوروده وبينهم اختلاف، فوجه الاعتبار لا يتغيَّر.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد كون كلّ واحد منهم آلفاً لحياته، محباً لهذه الدُّنيا، فرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96] ، ثم إنهم مع غاية حبِّهم للحياة وألُفهم بها أماتهم الله تعالى، وأهلكهم ليعلم أنّ حرص الإنسان على الحياة، لا يعصمه من الموت، فهذا القول ليس ببعيدٍ.
فصل
قال القرطبيُّ: الطَّاعون وزنه فاعول من الطَّعن، غير أنَّه لما عدل به عن أصله؛ وضع دالاً على الموت العام بالوباء. قاله الجوهريُّ. وردت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ» قالت: الطَّعن قد عرفناه فما الطَّاعون، قال: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ تَخْرُجُ في المراقِّ والآبَاطِ» قال(4/251)
العلماء: وهذا الوباء يرسله الله نقمة، وعقوبة على من يشاء من عصاة عبيده، وكفرتهم، وقد يرسله الله شهادة، ورحمة للصَّالحين، كقول معاذٍ في طاعون عمواس: إنَّه شهادةٌ ورحمةٌ لكم، ودعوة نبيكم، وهي قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذاً وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُم مِنْ رَحْمَتِكَ» ، فَطُعِنَ في كَفِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
فصل
وروى البخاريُّ: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال حين ذكره الوباء: «إنَّه رجزٌ، أو عذابٌ عذِّب به بعض الأمم، ثمَّ بقي منه بقيَّةٌ، فيذهب المرَّة، ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرضٍ، فلا يقدمنَّ عليه، ومن كان بأرضٍ وقع بها، فلا يخرج فراراً منه» وعمل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بمقتضى هذا الحديث لمَّا رجعوا من «سَرْغ» حين أخبرهم ابن عوف بهذا الحديث.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «الفَارُّ مِنَ الوَبَاءِ كالفَارِّ مَنَ الزَّحْفِ» .
قال الطَّبريُّ: يجب على المرء توقّي المكاره قيل نزولها، وتجنُّب الأشياء المخيفة قبل هجومها، وكذلك كلّ متَّقًى من غوائل الأمور، سبيله إلى ذلك سبيل الطَّاعون، ونظيره قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لاَ تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» ، ولما خرج عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مع أبي عبيدة إلى الشَّام فسمع عمر أنَّ الوباء بها فرجع، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله، فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، والمعنى لا محيص للإنسان عمَّا قدَّره الله عليه، لكن أمرنا الله من التَّتحرُّز من المخاوف، والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التَّوقِّي من المكروهات، ثمَّ قال له: أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبةٌ والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة، رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة.
قوله: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} .(4/252)
أَتَى بهذه الجملة مؤكَّدة ب «إِنْ» واللام، وأتى بخبرٍ «إِنَّ» : «ذو» الدَّالة على الشَّرفِ بخلافِ «صاحبِ» ، و «عَلَى النَّاسِ» متعلقٌ بفَضْل تقول: تَفَضَّل فلان عليَّ، أو بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له فَهُوَ في محلّ جرٍّ، أي: فضلٍ كائنٍ على النَّاسِ. وأل في النَّاسِ لِلْعمُوم. والمعنى أَنَّ هذه القِصَّة تشجع الإِنسان على الإِقدام على طاعة الله تعالى، وتزيل على قَلبه الخَوفَ، فكان ذِكْرُ هذه القِصَّة سبباً لبعد العبد عن المعصية، وقربه من الطَّاعةِ، فكان ذِكرُ هذه القصَّةِ فضلاً وإحساناً من اللهِ على عبدهِ وقيل للعهدِ والمُرادُ بهم: الَّذشين أَمَاتَهُم لأنهم خرجُوا من الدُّنيا على المعصيةِ، ثم أعادهُم إلى الدُّنيا؛ حتى تَابُوا.
وقيل: المُرادُ بالعَهدِ أَنَّ العرب الذين كانُوا منكرين للمعاد؛ كانوا مُتمسكين بقول اليهُود في كثير من الأُمور إذا سمِعُوا بهذه الواقعة، فالظَّاهِرُ أَنَّهُم يرجعون من الدين الباطل الَّذِي هو الإِنكارُ إلى الدِّين الحَقّ، وهو الإِقرار بالبعث، فيتخلَّصُون مِنَ العقاب، وكان ذكر هذه القصَّة؛ فضلاً من الله في حقّ هؤلاء.
قوله: {ولكن أَكْثَرَ الناس} هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قوله {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} ؛ لأنَّ تقديره: فيجب عليهم أَنْ يَشْكُروه لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ، والرَّزْق، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ. وهو كقوله: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} [الإسراء: 89] .(4/253)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا} هذه الجملة فيها أقوالٌ:
أحدها: أنه عطفٌ على قوله: «مُوتُوا» وهو أمرٌ لِمَنْ أَحياهُم اللهُ بعد الإِماتةِ بالجهاد، [أي] فقال لهم: مُوتوا وقاتِلوا، رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ، والضَّحاك. قال الطَّبريِّ: «ولا وجهَ لهذا القَوْلِ» .
والثاني: [أنها معطوفةٌ على قوله: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ» وما بينهما اعتراضٌ.
والثالث] : أَنَّها معطوفةٌ على محذوفٍ تقديره: «فَأَطِيعُوا وَقَاتلوا، أو فلا تَحْذَروا الموتَ كما حَذِرَهُ الذين مِنْ قَبْلكُم، فلم يَنْفَعهم الحذرُ، قاله أبو البقاء.
والظَّاهر أنَّ هذا أمرٌ لهذه الأمةِ بالجهاد، بعد ذكره قوماً لم ينفعهم الحذرُ من المَوتِ، فهو تشجيعٌ لهم، فيكونُ من عطفِ الجملِ؛ فلا يُشْتَرَطُ التوافقُ في أمرٍ ولا غيره.
قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فالسَّبيلُ: هو الطَّريق، وسمِّيتُ العباداتُ سبيلاً إلى اللهِ مِن حيثُ إِنَّ الإنسان بسلوكها يتوصَّلُ إلى ثوابِ اللهِ.
قال القرطبي: وهذا قول الجمهور: وهو الَّذِي ينوى به أن تكون كلمة الله هي(4/253)
العُليا، وسُبُلُ الله كثيرةٌ، فهي عامَّةٌ فِي كُلِّ سبيل. قال تعالى: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] قال مالكٌ: سبل الله كثيرة، وما مِنْ سبيلٍ إِلاَّ يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دينُ الإسلامِ، فلا جرم كان المُجاهِدُ مُقاتِلاً في سبيلِ اللهِ. ثُمَّ قال: {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَي: يسمعُ كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد، أو في ترعيب الغيرِ عنه، و» عليمٌ «بما في ضمائركُم من البواعثِ، والأَعراضِ: أَنَّ ذلك الجهاد لغرض الدِّينِ، أو لغرض الدُّنيَا.(4/254)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
«مَّن» للاستفهام ومحلُّها الرَّفع على الابتداءِ، و «ذا» اسمُ إشارةٍ خبرُهُ، و «الذي» وصلتُهُ نعتٌ لاسم الإِشارةِ، أو بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكونَ «مَنْ ذا» كلُّه بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولك: «مَاذَا صَنَعْتَ» كما تقدَّمَ في قوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله} [البقرة: 26] . ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفرَّق بينه وبين قولِكَ: «ماذا» حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ «ما» أشدُّ إيهاماً مِنْ «مَنْ» ؛ لأنَّ «مَنْ» لمَنْ يعقِلُ. ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ «مَنْ ذا» حكمُ «ماذا» .
ويجوز أن يكونَ «ذا» بمعنى الّذي، وفيه حينئذٍ تأويلان:
أحدهما: أنَّ «الَّذِي» الثاني تأكيدٌ له؛ لأنَّه بمعناه، كأَنَّهُ قيل: مَنِ الَّذِي يُقرِضُ الله قرضاً.
والثاني: أَنْ يكونَ «الذي» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، والجملةُ صلةُ ذا، تقديرُه: «مَنْ الذي [هو الّذي] يُقْرِضُ، وذا وصلتهُ خبرُ» مَنِ «الاستفهاميّة. أجاز هذين الوجهين ابن مالك، قال شهاب الدين وهما ضعيفان، والوجهُ ما قدَّمتُهُ.
وانتصَبَ» قَرْضاً «على المصدر على حذفِ الزَّوائِد، إِذ المعنى: إقراضاً كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ:» يُقْرِضُ اللهَ مالاً وصدقةً «، ولا بدَّ من حذفِ مُضَافٍ تقديرهُ: يقرضُ عِبادَ اللهِ المحاويجَ، لتعاليه عن ذلك، أو يكونُ على سبيل التَّجُّوزِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى المفعول نحو: الخَلْق بمعنى المخلُوق، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ ل» يُقْرِض «.
قال الواحديُّ: والقَرْضُ في هذه الآيةِ اسمٌ لا مصدر، ولو كان مصدراً؛ لكان إقراضاً. و» حَسَناً «يجوزث أَن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين، ويجوزُ أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، إذا جعلنا» قَرْضاً «بمعنى مفعول أي: إقراضاً حسناً.(4/254)
قوله:» فَيُضَاعِفَهُ «قرأ عاصمٌ وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر وعاصماً ويعقوب يشدِّدون العينَ من غير ألفٍ وبابه التشديد وقرأ أبو عمرو في الأحزاب والباقون برفعِها، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ؛ فحصَلَ فيها أربعُ قراءتٍ.
أحدها: قرأ أبو عمرو ونافع، وحمزة، والكسائيُّ فيضاعفُهُ بالألف ورفع الفاء.
والثانية: قراءة عاصم» فيضاعفه «بالألف ونصب الفاء.
والثالثة: قرأ ابن كثير:» فَيُضَعِّفُهُ «بالتَّشديد، ورفع الفاءِ.
والرابعة: قرأ ابن عامرٍ فيضعِّفَه بالتَّشْديد، ونصب الفاء. فالرَّفْعُ من وجهين:
أحدهما: أنَّهُ عطفٌ على» يقرض «الصِّلةِ.
والثاني: أَنَّهُ رفعٌ على الاستئناف أي: فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ.
والنصبُ من وجهين:
أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ بإضمارٍ «أَنْ» عطفاً على المصدر المفهوم من «يقرضُ» في المعنى، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ: مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ مِنَ اللهِ تعالى كقوله: [الوافر]
1153 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
والثاني: أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهام في المعنى؛ لأَنَّ الاستفهام وإِنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً، فهو عن الإِقراضِ معنى كأنه قال: أيقرضُ اللهَ أَحَدٌ فيضاعفَه.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهام على اللفظ؛ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللَّفْظِ المُقرِضُ أي الفاعلُ للقَرْضِ، لا عن القَرْضِ، أي: الذي هو الفِعْلُ» وقد مَنَع بعضُ النَّحويّين النَّصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقع عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحُكم، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرها، كقوله: «مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي؛ فأغفرَ له، مَنْ يَدْعُونِي؛ فأَسْتَجِيبَ له» بالنصبِ فيهما.
قال أبو البقاء: فإنْ قيلَ: لِمَ لاَ يُعْطَفُ [الفعل على] المصدرِ الذي هو «قرضاً» كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار «أَنْ» كقولِ الشاعر [الوافر](4/255)
1154 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
قيل: هذا لا يصحُّ لوجهين:
أحدهما: أنَّ «قرضاً» هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ، والمصدرُ المُؤكِّدِ لا يُقَدَّرُ ب «أَنْ» والفعلِ.
والثاني: أنَّ عطفَهُ عليه يُوجبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ، ولا يصِحُّ هذا في المعنى؛ لأَنَّ المضاعفةَ ليستُ مُقْرِضَةً، وإِنَّما هي فعلُ اللهِ تعالى، وتعليله في الوجهِ الأولِ يُؤذِنُ بأنه يُشترط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرس يتقدَّر ب «أَنْ» والفعلِ، وهذا ليس بشرطٍ؛ بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ؛ كقوله: [الطويل]
1155 - وَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أَعِزَّةٍ ... وآلُ سُبَيْعٍ أَوْ أَسُوءَكَ عَلْقَمَا
ف «أَسُوءَكَ» منصوبٌ ب «أَنْ» ؛ عطفاً على «رِجَالٌ» ، فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال: لو عُطفَ على «قرضاً» ؛ لشاركه في عامِلِه، وهو «يُقْرض» فيصيرُ التَّقْدِيرُ: مَنْ ذا الذي يَقْرِضُ مضاعفةً، وهذا ليسَ صحيحاً معنى.
وقد تقدَّم أَنَّه قرئ «يُضاعِفُ» ، و «يُضَعِّفُ» فقيل: هما بمعنى، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد، نحو عاقَبْت، وقيل: بل هما مختلفان، فقيل: إنَّ المضعَّفَ للتكثير.
وقيل: إنَّ «يُضَعِّف» لِما جُعِلَ مثلين، و «ضاعَفَه» لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك.
والقَرْضُ: القَطْعُ، ومنه: «المِقْرَاضُ» لِمَا يُقْطَع به وانقطع القوم هلكوا وانقطع أثرهم وقيل للقَرْض «قرض» ؛ لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ، وهذا أصلُ الاشتقاقِ، ثم اختلف أهل العِلْمِ في «القَرْض» فقيل: هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ حَسَناً كان أو سيئاً «، تقول العرب: لك عندي قرضٌ حسنٌ وسيّئ، والمرادُ منه الفعل الذي يجازى عليه.
قال أَميَّة بن الصَّلت: [البسيط]
1156 - كُلُّ امْرِىءٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَناً ... أَوْ سَيِّئاً وَمَدِيناً مِثْلٌ ما دَانَا
واختلفوا في أَنَّ إِطلاق لفظ القَرْضِ على هذا، هل هو حقيقة أو مجازٌ.(4/256)
قال الزَّجَّاج: هو حقيقةٌ، واستدلَّ بما ذكرناه، وقيل: مجازٌ، لأَنَّ القَرْضَ: هو أَنْ يعطي الإنسان ليرجع إليه مثله وهنا إِنَّما ينفق ليرجع إِلَيه بدله، و «القِرض» بالكَسْرِ - لغةٌ فيه حكاها الكِسَائِيُّ، نقله القرطبي.
قوله: «أَضْعَافاً» فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أَنَّهُ حالٌ من الهاءِ في «فيضاعِفُ» ، وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة، الظَّاهِرُ أنها مُبَيِّنَةٌ؛ لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ، إلاَّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخَر، ففُهِم منها ما لم يُفْهَمُ من عامِلها، وهذا شأنُ المبيِّنة.
والثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين «يضاعفُ» معنى يُصَيِّر، [أي: يُصَيِّره] بالمضاعَفَةِ أضْعافاً.
الثالث: أنه منصوبٌ على المصدر.
قال أبو حيان: [قيل] ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضَاعفُ، أو المضعِّفُ - بمعنى المضاعفة، أو التضعيف، كما أُطلِقَ العطاء، وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء. وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاص، واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجَزَاءِ. وسبقه إلى هذا أبُو البقاءِ، وهذه عبارتُهُ، وأنشد: [الوافر]
1157 - أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المِائَةَ الرِّتَاعَا
والأَضْافُ جمعُ «ضِعْف» ، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ مُتَسَاوييْن. وقيل: مثلُ الشَّيء في المِقْدَارِ. ويقالُ: ضِعْفُ الشَّيء: مثلُهُ ثلاثَ مرات، إلاَّ أنه إذا قيل «ضعفان» ، فقد يُطْلَقُ على الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيثُ إِنَّ كلَّ واحدٍ يُضعِّفُ الآخرَ، كما يُقالُ زَوْجان، من حيث إنَّ كلاً منهما زوجٌ للآخر.
فصل
لما أمر اللهُ تعالى بالجهادِ، والقتال على الحَقّ؛ إذ ليس شيءٌ من الشَّريعة، إِلاَّ ويجوز القِتَالُ عليه وعنه، وأعظمها دينُ الإِسلام، حرَّض تعالى على الإِنفاقِ في ذلك؛ فَدَخل في ذلك: المُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ، فإِنَّهُ يَقْرضُ رجاء الثَّوابِ، كما فعلَ عثمانُ - رضي اللهُ عنه - في جيشِ العُسْرَةِ.
فصل
اختلف المُفَسِّرُون في هذه الآية على قولين:(4/257)
أحدهما: أنَّ هذه الآية متعلِّقةٌ بما قبلها، والمرادُ منها القرض في الجهادِ خاصَّةً، فندب العاجز عن الجهاد أَنْ ينفق على الفقير القادر عليه، وأمر القادر على الجهاد: أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد، ثمَّ أكد ذلك بقوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} .
القول الثاني: أَنَّ هذا الكلام مبتدأٌ لا تعلُّق له بما قبله، ثم اختلفوا هؤلاء، فمنهم من قال: المراد من القرض إنفاق المال، ومنهم من قال: إِنَّه غيره والقائلون بأَنَّه إنفاق المال، اختلفوا على ثلاثة أقوال:
الأول: أَنَّه الصَّدقةُ غير الواجبة، وهو قول الأَصم، واحتجَّ بوجهين:
أحدهما: أَنَّهُ تعالى سمَّاه قرضاً والقَرْضُ لا يكون إِلاَّ تبرعاً.
الوجه الثاني: قال ابن عبَّاسٍ: إِنَّ هذه الآية «نزلت في أبي الدَّحداح، قال: يا رسول اللهِ! إِنَّ لي حديقتين، فإِنْ تصدّقت بأحدهما، فهل لي مثلها في الجنَّة.
قال:» نَعَمْ «، قال: وأمّ الدَّحداح معي؟ قال:» نعم «. فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تُسَمَّى» الحنيبة «قال: فرجع أبُو الدَّحداح إلى أهله، وكانوا في الحديقة التي تصدّق بها، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدَّحداح: بارك اللهُ لك فيما اشتريتَ، ثمَّ خرجوا منه وسلموها؛ فكان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: كم مِنْ نخلةٍ رداحٍ تُدلي عروقها في الجنَّة لأَبي الدَّحداح
.» القول الثاني: أَنَّ المراد من هذا القرض: الإنفاقُ الواجب في سبيل اللهِ. قالوا: لأَنَّه تعالى ذكر في آخر الآية قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وذلك كالزَّجر وهو إِنَّما يليقُ بالواجب.
القول الثالث: أَنَّه يشتمل قسمين كقوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] وأمَّا من قال: إِنَّ المُراد: إِنفاقُ شيء سوء المال. قالوا: رُوِيَ عن بعضِ أصحاب ابن مسعودٍ أنه قول الرَّجل سبحان اللهِ، والحمد للهِ، ولا إله إلاَّ الله، واللهُ أكْبَرُ. قال ابنُ الخطيب [قال القاضي] وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ لفظ الإِقراض لا يقعُ في عرف اللُّغة عليه، ولا يمكن حمل هذا القولِ على الصِّحَّة إِلاَّ أَنْ نقول: إذا كان(4/258)
الفقيرُ لا يملك شيئاً، وكان في قلبه أنه لو قدر على الإِنفاق لأنفق، وأعطى، فحينئذٍ تكون نيته قائمةً مقام الإِنفاق، فقد روي أَنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال: «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ فَلْيَلْعَنِ اليهُود، فإنَّه لهُ صَدَقَة» .
فصل
قال القرطبي: وذكر القَرْضِ ها هنا إِنَّما هو تأنيسٌ، وتقريبٌ للنَّاسِ بما يفهمونه، واللهُ هو الغنيُّ الحميدُ، لكنَّهُ تعالى شبَّه عطاء المؤمنين في الدُّنيا، بما يرجون به ثوابه في الآخرةِ بالقرض كما شبَّه إِعطاء النُّفوسِ، والأموال في أَخذِ الجنَّةِ، بالبيع والشراء.
قوله تعالى: «حَسَناً» قال الواقديُّ: محتسب طيبة به نفسه.
وقال عمرو بن عثمان الصَّدفيُّ: «لا يتبعه مَنّاً، ولا أَذى» .
وقال سهلُ بن عبد اللهِ: لا يعتقِدث في قرضه عوضاً.
واعلم: أَنَّ هذا الإِقراض إِذَا قلنا: المرادُ به الإِنفاقُ في سبيل الله، فهو يخالف القرضَ من وجوهٍ:
الأول: أَنَّ القرض إِنَّما يأخذه من يحتاج ُ إليه لفقره، وذلك في حقّ اللهِ تعالى مُحالٌ.
الثاني: أَنَّ البدل في القرضِ المعتاد لا يكون إِلاّ المثل، وفي هذا الإنفاق هو الضِّعفُ.
الثالث: أَنَّ المالَ الذي يأخُذُه المستقرضُ، لا يكون ملكاً له، وها هنا المالُ المأخُوذ ملك له، ومع هذه الفُروق سمَّاه الله تعالى قرضاً، والحكمةُ فيه التَّنبيهُ على أَنَّ ذلك لا يضيعُ عند اللهِ كما أَنَّ القرض يجبُ أداؤه، ولا يجوزُ الإخلالُ به، فكذا الثَّوَابُ الواجبُ على هذا الإنفاقِ واصلٌ إلى المكلف لا محالة.
فصل
قال القرطبيُّ: القرضُ: قد يكون بالمالِ، وقد بَيَّنَّا حُكْمَهُ، كما قال عليه الصّلاة(4/259)
والسَّلام «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كأَبِي ضَمْضَم، كان إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قال: اللَّهُمَّ إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ» .
وقال ابن عمر: «أَقْرِضْ من عِرْضِكَ ليوم فَقْرِكَ» يعني مَنْ سبَّك فلا تأخذ منه حقّاً، ولا تقم عليه حَدّاً، حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز التَّصَدُّق بالعرض؛ لأَنَّه حقُّ اللهِ تعالى وهو مروي عن مالكٍ.
قال ابن العربيّ: وهذا فاسِدٌ لقوله عليه الصَّلاة والسّلام: «إِنَّ دِمَاءَكم وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» هذا يقتضي أَنْ تكون هذه المحرمات الثَّلاث تجري مجرًى واحداً، في كونها باحترامها حقاً للآدمي
فصل
وكون القرض حسناً يحتملُ وجوهاً:
أحدها: أنه أراد به أن يكون حلالاً خالصاً من الحرام.
الثاني: ألاَّ يتبع ذلك منّاً ولا أذى.
الثالث: أن يفعله بنية التَّقرُّب إلى اللهِ تعالى.
والمراد من التَّضعيف، والإضعاف، والمضاعفة واحد، وهو: الزِّيَادَةُ على أصل الشَّيء حتَّى يصير مثليه، أو أكثر، وفي الآية حذفٌ والتقدير: فيضاعف ثوابه.
فصل
والمراد بالأضعاف الكثيرة:
قال السُّدِّيُّ: هذا التَّضعيفُ لا يعلمه إلاَّ الله - عزَّ وجلَّ - وإِنَّما أبهم ذلك؛ لأَنَّ ذكر المبهم في باب التَّرغيب، أقوى من المحدود وقال غيره: هو المذكورُ في قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] ، فيحمل المجمل على المُفسَّرِ؛ لأَنَّ كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق.
قوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قرأ أبو عمر، وحمزة، وحفص، وقنبلٌ «(4/260)
وَيَبْسُطُ» ها هنا وفي الأعراف بالسِّين على الأصل، والباقُون بالصَّادِ لأجل الطاء. وقد تقدَّم تحقيقه في {الصراط} [الفاتحة: 6] .
فصل
قوله: «يقبض» بإمساك الرّزق والنفس، والتقتير، و «يَبْسُطُ» بالتَّوسيع، وقيل: يقبضُ بقبول التوبة الصَّادقة، ويبسط بالخلف، والثَّواب. وقيل: هو الإِحياءُ والإماتة، فمن أَمَاتهُ فقد قبضه ومن مَدَّ له في عمره فقد بسط له.
وقيل: يقبضُ بعض القلوب، حتَّى لا تقدم على هذه الطَّاعة. والمعنى: أَنَّهُ كما أمرهم بالصَّدقةِ أخبر أَنَّهُ لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، وإعانته، وقيل: ذكر ذلك ليعلمَ الإِنسان أَنَّ القبض والبسط بيد اللهِ، فإذا علم ذلك؛ انقطع نظره عن مال الدُّنيا، وبقي اعتمادُهُ على اللهِ، فحينئذٍ يَسْهُلُ عليه الإنفاق ثمَّ قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجزيكم بأعمالكم، حيث لا حاكم ولا مُدَبِّرَ سواه.
وقال قتادة: الهاء في «إليه» راجعة إلى التّراب كنايةً عن غير مذكور، أي من التُّراب خلقتم، وإليه تُرْجعون، وتعودون.(4/261)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
الملأُ من القَوْمِ وجوههم، وأشرافهم، وهو اسم للجماعة من النَّاس لا واحد لهُ من لفظه كالرَّهْطِ والقومِ، والجيشِ، والمَلأُ: الأَشرافُ سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يملئون العيونَ هيبةً، أو المجالسَ إذا حضروا؛ أو لأنهم مليئون بما يُحْتاج إليهم فيه، وقال الفرَّاءُ: «المَلأُ» الرجالُ في كلِّ القرآن، وكذلك القومُ والرَّهطُ والنَّفَرُ، ويُجْمع على أَمْلاء؛ قال: [الطويل]
1158 - وَقَالَ لَهَا الأَمْلاَءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ ... وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا
قال القرطبي: والملأ أيضاً حسن الخلق، ومنه الحديث: «أَحْسنُوا الملأَ فكلُّكُمْ سيروى» أخرجه مسلم.(4/261)
قوله تعالى: {مِن بنيا} فيه وجهان:
أحدهما: أَنَّهُ صلةٌ للملأ على مذهب الكُوفيين؛ لأنهم يجعلون المُعَرَّفَ بأل موصولاً؛ ويُنْشِدُون: [الطويل]
1159 - لَعَمْرِي لأَنْتَ الَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ
و {مِن بَعْدِ موسى} متعلِّقٌ بما تعلَّقَ [به] الجارُّ الأولُ، وهو الاستقرار، ولا يضُرُّ اتحادُ الحرفين لفظاً لاختلافِهما معنًى، فإِنَّ الأولى للتبعيض والثانية لابتداءِ الغاية. وقال أبو البقاء: «مِنْ بعدِ» متعلِّقٌ بالجار الأول، أو بما تعلَّق به الأول يعني بالأولِ: «من بني» ، وجعله عاملاً في «مِنْ بعد» لِما تضمنَّه من الاستقرار، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه، وهذا على رأي بعضِهم، يَنْسِبُ العمل للظرف والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً، فتقول في نحو: «زيدٌ في الدار أبوه» أبوه: فاعلٌ بالجارِّ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ، وهو الوجهُ الثاني. وقدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً. تقديرُه: من بعدِ موسى، ليصِحَّ المعنى بذلك.
قوله: {إِذْ قَالُواْ} العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين:
أحدهما: أنه العاملُ في «مِنْ بعد» لأنَّه بدلٌ منه، إذ هما زمانان، قاله أبو البقاء: والثاني: أنه «ألم تر» قال شهاب الدين وكلاهما غيرُ صحيحٍ.
أمَّا الأول فلوجهين:
أحدهما من جهة اللفظِ والآخرُ من جهة المعنى. فأمّا الذي من جهة اللفظِ فإنه على تقدير إعادة «مِنْ» و «إذ» لا تُجَرُّ ب «مِنْ» . الثاني: أنه ولو كانَتْ «إذ» من الظروف التي تُجَرُّ ب «مِنْ» كوقت وحين لم يصِحَّ [ذلك أيضا لأنَّ العاملَ في «مِنْ بعد» محذوفٌ فإنه حالٌ تقديره: كائنين من بعد، ولو قلت: كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يصِحَّ] هذا المعنى.
وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى «ألم تر» تقريرٌ للنفي، والمعنى: ألم ينته علمُك، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولهم ذلك، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ، تقديره: ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديث الملأ ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها، فصار المعنى: ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ، ولا يصحُّ المعنى إلا به لِما تقدَّم.(4/262)
قوله تعالى: {لِنَبِيٍّ} متعلِّقٌ ب «قالوا» واللامُ فيه للتبليغ، و «لهم» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي، ومحلُّه الجرُّ، و «ابعَثْ» وما في حيَّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ. و «لنا» الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ، واللامُ للتعليلِ أي: لأجلِنا.
قوله: {نُّقَاتِلْ} الجمهورُ بالنونِ والجزم على جواب الأمر. وقرئ بالياء والجزم على ما تقدَّم، وابن أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللام على الصفةِ لملكاً، فمحلُّها النصبٌ أيضاً. [وقرئ بالنونِ ورفع اللام على أنها حالٌ من «لنا» فمحلُّها النصبُ أيضاً] أي: ابعَثْه لنا مقدِّرين القتال، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم: ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ.
قوله: {هَلْ عَسَيْتُمْ} عسى واسمها، وخبرها «أَنْ لا تقاتِلوا» والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابهُ محذوفٌ للدلالة عليه، وهذا كما توسَّط في قوله: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] ، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ «عسى» داخلةً على المبتدأ والخبر، ويقولُ إنَّ «أَنْ» زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين. وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعل متعدٍّ فيقول: «عَسَيْتم» فعلٌ وفاعلٌ، و «أَنْ» وما بعدها مفعولٌ به تقديره: هل قارَبْتُم عدم القتالِ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ، والأولُ هو المشهورُ.
وقرأ نافع «عَسِيْتُم» هنا وفي القتال: بكسر السينِ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً ومع ن [ومع] نونِ الإناثِ نحو: عَسِينا وعَسِين، وهي لغةُ الحجاز، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال: «عسى تُكْسَرُ مع المضمر» وأَطْلَقَ، بل كان ينبغي له أن يُقَيِّدَ الضمير بما ذكرنا، إذ لا يقال: الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة.
وقال الفارسي: «ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ:» هو عَس بكذا «مثل: حَرٍ وشَج، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو: نَقَم ونَقِم، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ، فإِنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال:» عَسِيَ زيدٌ «مثل:» رَضِي زيدٌ «.
فإن قيل: فهو القياسُ، وإِنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره» فظاهرُ هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهِر بطريق القياسِ على المضمرِ، وغيرهُ من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً، وظاهرُ قوله «قولُ العرب: عَسٍ» أنه مسموعٌ منهم(4/263)
اسمُ فاعلها، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي، وقد نَصَّ النحاة على أن «عسى» لا تتصرَّف «.
واعلم أنَّ مدلولَ «عسى» إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق، فعلى هذا: فكيف دَخَلت عليها «هل» التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى، قال الزمخشري: «والمعنى: هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا، يعني: هل الأمرُ كما أتوقّعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقول: عَسَيْتُم ألا تقاتلوا، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ، فأدخلَ» هل «مستفهِماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ، وثَبَتَ أنَّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه؛ كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] معناه التقريرُ» وهذا من أَحسنِ الكلامِ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ؛ مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها؛ وبوقوعها خبراً ل «إنَّ» في قوله: [الرجز]
1160 - لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا ... وهذا لا دليلَ فيه؛ لأنه على إضمار القول؛ كقوله: [البسيط]
1161 - إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ ... لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
ولذلك لا توصلُ بها الموصولات؛ خلافاً لهشامٍ.
قوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله. و «ما» في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، ومعناها الاستفهامُ، وهو استفهامُ إنكارٍ. و «لنا» في محلِّ رفع خبر ل «ما» .
و «أَلاَّ نُقَاتِلَ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ.
أظهرها: أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ وهو قول الكسائي والتقديرُ: وما لنا في ألاَّ نقاتل، أي: في تركِ القتالِ، ثم حُذِفَتْ «في» مع «أَنْ» فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه: أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو «لنا» أو بما يتعلَّق هو به على حسبِ ما تقدَّم في «مِنْ بعد موسى» .
قال البغوي: فإن قيل: فما وجه دخول «أن» في هذا الموضع، والعرب لا(4/264)
تقول ما لك ألاَّ تفعل، وإنما يقال: ما لك لا تفعل؟ قيل: دخول «أن» وحذفها لغتان صحيحتان، فالإثبات كقوله تعالى: {مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 32] ، والحذف كقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} [الحديد: 8] وقال الفراء: الكلام ها هنا محمول على المعنى؛ لأن قولك: ما لك لا تقاتل؟ معناه: ما يمنعك أن تقاتل، فلما كان معناه المنع حسن إدخال «أن» فيه كقوله {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75] وقوله: {أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 32] ورجح الفارسي قول الكسائي على قول الفراء.
قال: لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر تقديره ما يمنعنا من أن نقاتل فإذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين، فعلى قول الكسائي يبقى الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى، فكان قول الكسائي أولى.
الثاني: مذهب الأخفش أنَّ «أَنْ» زائدةٌ، ولا يضرُّ عملها مع زيادتها، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجر الزائدة، وعلى هذا فالجملة المنفيَّة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنه قيل: ما لنا غير مقاتلين، كقوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} [المائدة: 84] وقول العرب: «ما لك قائماً» ، وقول الله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وهذا المذهب ضعيفٌ لأنَّ الأصل عدم الزيادة، فلا يصار إليها دون ضرورةٍ.
الثالث: - وهو أضعفها - وهو مذهب الطبري أنَّ ثمَّ واواً محذوفةً قبل قوله: «أن لا نقاتلَ» . قال: «تقديره: وما لنا ولأن لا نقاتل، كقولك: إياك أن تتكلَّم، أي: إياك وأن تتكلم، فحذفت الواو» وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً. وأمَّا قوله: إنَّ قولهم إياك أن تتكلم على حذف الواو؛ فليس كما زعم، بل «إياك» ضمِّنت معنى الفعل المراد به التحذير، و «أَنْ تتكلمَ» في محلِّ نصبٍ به تقديره: احذر التكلم.
قوله: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا} هذه الجملة في محلِّ نصبٍ على الحال، والعامل فيها: «نقاتلْ» ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحال. وهذه قراءة الجمهور، أعني بناء الفعل للمفعول.
وقرأ عمرو بن عبيد: «أَخْرَجَنا» على النباء للفاعل. وفيه وجهان:
أحدهما: أنه ضمير الله تعالى، أي: وقد أخرجنا الله بذنوبنا.
والثاني: أنه ضمير العدوّ.
{وَأَبْنَآئِنَا} عطفٌ على «ديارنا» أي: ومن أبنائنا، فلا بدَّ من حذف مضافٍ تقديره: «(4/265)
ومن بين أبنائنا» كذا قدره أبو البقاء. وقيل: إنَّ هذا على القلب، والأصل: وقد أُخرج أبناؤنا منا، ولا حاجة إلى هذا.
قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ} ، فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره: فسألوا الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} نصبٌ على الاستثناء المتصل من فاعل «تَوَلَّوا» فإن قيل المستثنى لا يكون مبهماً، لو قلت: «قام القومُ لا رجالاً» لم يصحَّ، فالجواب إنما صحَّ هذا لأنَّ «قليلاً» في الحقيقة صفةٌ لمحذوفٍ، ولأنه قد تخصَّص بوصفه بقوله: «منهم» ، فقرب من الاختصاص بذلك.
وقرأ أُبي: «إلاَّ أن يكون قليلٌ منهم» وهو استثناءٌ منقطعٌ، لأنَّ الكون معنًى من المعاني والمستثنى منه جثثٌ. ولا بدّ من بيان هذه المسألة لكثرة فائدتها. وذلك أنّ العرب تقول: «قام القوم إلا أنْ يكونَ زيدٌ وزيداً» بالرفع والنصب، فالرفع على جعل «كان» تامةً، و «زيدٌ» فاعلٌ، والنصب على جعلها ناقصةً، و «زيداً» خبرها، واسمها ضميرٌ عائدق على البعض المفهوم من قوة الكلام، والتقدير: قام القوم إلا أن يكون هو - أي بعضهم - زيداً، والمعنى: قام القوم إلا كون زيدٍ في القائمين، وإذا انتفى كونه قائماً انتفى قيامه، فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين، أعني «قام القوم إلا زيداً» و «قاموا إلا أن يكون زيداً» ، إلا أن الأول استثناءٌ متصلٌ، والثاني منقطعٌ لما قررناه.
فصل
وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها أنَّه تعالى لما فرض القتال بقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244] ، ثمَّ أمر بالإنفاق فيه بقوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} [البقرة: 245] ذكر بعد ذلك هذه القصة تحريضاً على عدم تركهم مخالفة الأمر بالقتال، فإنَّهم لما أُمروا تولَّوا، وخالفوا؛ فذمهم الله تعالى ونسبهم إلى الظُّلم بقوله: {والله عَلِيمٌ بالظالمين} والمراد التَّرغيب في الجهاد.
فصل فيمن هو النبي الذي نادى بالبعث في الآية
اختلفوا في ذلك النبيِّ الذي قالوا له {ابعث لَنَا مَلِكاً} من هو فقال قتادة: هو يوشع ابن نون بن أفرائيم بن يوسف لقوله تعالى: {مِن بَعْدِ موسى} وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله {مِن بَعْدِ موسى} كما لا يحتمل الاتصال بالتَّعاقب يحتمل البعديَّة بغير تعاقب، وإن كان(4/266)
بينهما غير يوشع؛ لأنَّ البعديّة حاصلة، وذكر ابن عطيَّة في تضعيف هذا القول أنَّ مدَّة داود بعد موسى بقرون من النَّاس، ويوشع هو فتى موسى عليهما الصَّلاة والسَّلام.
وقال السُّدِّيُّ: اسمه شمعون سمَّته أُمُّه بذلك؛ لأنَّها دعت الله أن يرزقها غلاماً، فاستجاب الله دعاءها، فسمته سمعون، أي: سمع الله دعائي، والسِّين تصير شيناً بالعبرانية وهو شمعون ابن صفيَّة بنت علقمة، من ولد لاوي بن يعقوب.
وقال سائر المفسِّرين: هو اشمويل بن هلقايا.
فصل
كان سبب مسألتهم إيّاه ذلك؛ لأنَّه لمَّا مات موسى خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التَّوراة، وأمر الله، حتى قبضه الله، ثمَّ خلف فيهم «كالِب بْنَ يُوفَنَا» ؛ حتى قبضه الله، ثمَّ حزقيل حتى قبضه الله، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله؛ حتى عبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم «إِلْياسَ» نبياً، فدعاهم إلى الله، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التَّوراة، ثم خلف بعد «إِلْيَاسَ» «اَلْيَسَع» ، وكان فيهم ما شاء الله؛ حتَّى قبضه الله، وخلف فيهم الخلوف، وعظمت الخطايا وظهر لهم عدوٌّ يقال له البلثاثا، وهم قوم «جَالُوتَ» ، كانوا يسكنون ساحل بحر الرُّوم، بين مصر، وفلسطين، وهم العمالقة، فظهروا على بني إسرائيل، وغلبوا على كثير من أرضهم، وسبوا كثيراً من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلام، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً شديداً، ولم يكن لهم نبيٌّ يدبِّر أمرهم، وكان سبط النُّبوَّة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلاَّ امرأة حبلى؛ فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جاريةً، فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً؛ فولدت غلاماً فسمته شمويل تقول: سمع الله دعائي، فكبر الغلام فأسلموه ليتعلم التَّوراة في بيت المقدس، وكفله شيخٌ من علمائهم وتبنَّاه، فلمَّا بلغ الغلام أتاه جبريل، وهو نائم إلى جنب الشَّيخ، وكان لا يأتمن عليه أحداً، فدعاه جبريل بلحن الشيخ: يا أُشمويل، فقام الغلام فزعاً إلى الشَّيخ قوال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشَّيخ أن يقول: لا فيفزع الغلام، فقال: يا بنيّ ارجع فنم، فرجع الغلام، فَنَامَ، ثمَّ دعاه الثَّانية، فقال الغلام: يا أَبَتِ دَعَوْتَنِي!؟ فقال: ارجع فنم فإنْ دعوتُكَ الثَّالثة؛ فلا تجبني، فلمَّا كانت الثَّالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك؛ فبلغهم رسالة ربِّك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيّاً، فلمَّا أتاهم كذَّبوه، وقالوا له: استعجلت بالنُّبوَّة، ول تَنَلْكَ، وقالوا: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آيةً من نبوَّتك، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على(4/267)
الملوك، وطاعة الملوك لأنبيائهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنَّبيُّ يقوم له بأمره، ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من عند ربِّه.
قال وهبٌ: بعث الله أُشمويل نبيّاً، فلبثوا أربعين سنةً بأحسن حال، ثمَّ كان من أمر جالوت، والعمالقة ما كان فقالوا لأُشمويل: «ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِل» ، فقال: «هَلْ عَسَيْتُم» ؟! استفهام شكٍّ، أي: لعلكم «إِنْ كُتِبَ» أي: فرض «عَلَيْكُمُ القِتَالُ» مع ذلك الملك ألا تفوا بما تقولون، ولا تقاتلوا معه «قَالُوا: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا» ، فجعلوا ذلك علَّةً قويَّة توجب التَّشديد في أمر الجهاد؛ لأنَّ من بلغ منه العدوُّ هذا المبلغ، فالظَّاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوِّه ومقاتلته، وظاهر الكلام العموم، والمراد الخصوص؛ لأنَّ الذين قالوا لنبيِّهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنَّما أخرج من أسر منهم، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيِّهم: إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا، لا يظهر علينا عدوٌّ، فأمَّا إذْ بلغ ذلك منَّا، فنطيع ربَّنا في الجهاد، ونمنع نساءنا، وأولادنا، {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ} : أعرضوا عن الجهاد، وضيَّعوا أمر الله {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} - وهم الذين عبروا النَّهر مع طالوت، واقتصروا على الغرفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قيل: كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدرٍ.(4/268)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
قوله تعالى: {طَالُوتَ مَلِكاً} : «مَلِكاً» حال من «طالوت» فالعامل في الحال «بَعَثَ» . و «طالوتُ» فيه قولان:
أظهرهما: أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصرف للعلتين، أعني: العلمية والعجمة الشَّخصية.
والثاني: أنه مشتقٌّ من الطول، ووزنه فعلوت كرهبوت ورحموت، وأصله طولوت، فقلبت الواو ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وكأن الحامل لهذا القائل بهذا القول ما روي في القصَّة أنه كان أطول رجلٍ في زمانه وبقوله «وزاده بسطة في العلم والجسم» إلا أنَّ هذا القول مردودٌ بأن لو كان مشتقاً من الطُّول، لكان ينبغي أن ينصرف، إذ ليس فيه إلاَّ العلمية. وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً لكنَّه شبيه بالأعجمي، من حيث إنَّه(4/268)
ليس في أبينة العرب ما هو على هذه الصِّيغة، وهذا كما قالوا في حمدون، وسراويل، ويعقوب، وإسحاق عند من جعلهما من سحق وعقب وقد تقدم.
وأجاب آخرون: بأنه اسمٌ عبراني وافق عربيّاً مثل حطة وحنطة، وعلى هذا يكون أحد سببيه العجمة؛ لكونه عبرانياً.
قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} في «أَنَّى» وجهان:
أحدهما: أنَّها بمعنى كيف، وهذا هو الصَّحيح.
والثاني: أنها بمعنى من أين، اختاره أبو البقاء، وليس المعنى عليه. ومحلُّها النّصب على الحال، وسيأتي الكلام في عاملها ما هو. و «يَكُونُ» فيها وجهان:
أحدهما: أنها تامَّةٌ، و «المُلْكُ» فاعلٌ بها و «له» متعلّقٌ [بها، و «عَلَيْنَا» متعلقٌ] بالملك، تقول: «فلان مَلَك على بني فلان أمرهم» ، فتتعدى هذه المادة ب «على» ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلْك» ، و «يَكُونُ» هي العاملة في «أنَّى» ، ولا يجوز أن يعمل فيها أحد الظَّرفين، أعني «له» ، و «علينا» ؛ لأنه عاملٌ معنوي والعامل المعنويُّ لا تتقدَّم عليه الحال على المشهور.
والثاني: أنها ناقصةٌ، و «له» الخبر، و «علينا» متعلِّقٌ: إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبر، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلك» كما تقدَّم، والعامل في هذه الحال «يكون» عند من يجيز في «كَانَ» الناقصة أن تعمل في الظرف وشبهه، وإمَّا بنفس الملك كما تقدَّم تقريره، والعامل في «أنَّى» ما تعلَّق به الخبر أيضاً، ويجوز أن يكون «عَلَيْنَا» هو الخبر، و «لَهُ» نصبٌ على الحال، والعامل فيه الاستقرار المتعلِّق به الخبر، كما تقدَّم تقريره، أو «يَكُونُ» عند من يجيز ذلك في الناقصة، ولم أر من جوَّز أن تكون «أنى» في محلِّ نصب خبراً ل «يَكُونُ» بمعنى «كَيْفَ يَكُونُ المُلْكُ عَلَيْنَا لَهُ» ولو قيل به لم يمتنع معنًى ولا صناعةً.
قوله: {وَنَحْنُ أَحَقُّ} : جملةٌ حاليَّةٌ، و «بالمُلْكُ» و «مِنْهُ» كلاهما متعلّقٌ ب «أَحَقُّ» . «ولم يُؤْتَ سَعَةً» هذه الجملة الفعلية عطفٌ على الاسميَّة قبلها، فهي في محلِّ نصب على الحال، ودخلت الواو على المضارع؛ لكونه منفياً و «سعةً» مفعول ثانٍ ليؤت، والأول قام مقام الفاعل.
و «سَعَةً» وزنها «عَلَة» بحذف الفاء، وأصلها «وُسْعَة» ، وإنما حذفت الفاء في المصدر حملاً له على المضارع، وإنما حذفت في المضارع لوقوعها بين ياء - وهي حرف المضارعة - وكسرة مقدَّرة، وذلك أنَّ «وَسِع» مثل «وَثِق» فحقٌّ مضارع أن يجيء على(4/269)
يفعل بكسر العين، وإنما منع ذلك في «يَسَع» كون لامه حرف حلقٍ، ففتح عين مضارعه لذلك، وإن كان أصلها الكسر، فمن ثم قلنا: بين ياء وكسرة [مقدرةٍ، والدَّليل على ذلك أنَّهم قالوا: وَجِلَ يَوْجَل فلم يحذفوها لمَّا كانت الفتحة أصلية غير عارضةً، بخلاف فتحة «يَسَع» و «يَهَب» وبابهما.
فإن قيل: قد رأيناهم يحذفون هذه الواو، وإن لم تقع بين ياءٍ وكسرةٍ] ، وذلك إذا كان حرف المضارعة همزة نحو: «أَعِدُ» ، أو تاءً نحو: «تَعِد» أو نوناً نحو: «نَعِد» ، وكذلك في الأمر والمصدر نحو:: عِدْ عِدَةَ حَسَنَةً «.
فالجواب أنَّ ذلك بالحمل على المضارع مع الياء طراً للباب، كما تقدَّم لنا في حذف همزة أفعل، إذا صار مضارعاً لأجل همزة المتكلِّم، ثم حمل باقي الباب عليه. وفتحت سين» السَّعة «لمَّا فتحت في المضارع لأجل حرف الحلق، كما كسرت عين» عِدة «لمَّا كسرت في» يَعِد «إلا أنَّه يشكل على هذا: وَهَبَ يَهَبُ هِبة، فإنهم كسروا الهاء في المصدر، وإن كانت مفتوحة في المضارع لأجل أنَّ العين حرف حلقٍ، فلا فرق بين» يَهَبُ «، و» يَسَع «في كون الفتحة عارضةً والكسرة مقدرةً، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في» هِبة «، وكان من حقِّها الفتح لفتحها في المضارع ك» سَعَة «.
و» من المال «فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ بيؤت.
والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسعة، أي: سَعَةً كائنةً من المال.
فصل
اعلم أنَّه تعالى لما بيَّن في الآية أنَّه لمَّا أجابهم إلى سؤالهم تولَّوا، بيَّن في هذه الآية أنَّ أوّل تولِّيهم إنكارهم إِمْرَة طالوت، وذلك أنَّهم لمَّا طلبوا من نبيِّهم أن يطلب من الله أن يعيِّن لهم ملكاً؛ فأجابهم بأنَّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، أظهروا التَّولي عن طاعة الله، وأعرضوا عن حكمه، وقالوا:» أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا «، واستبعدوا ذلك.
قال المفسِّرون: وسبب هذا الاستبعاد: أنَّ النبوَّة كانت مخصوصةً بسبط معيَّن من أسباط بني إسرائيل، وهم سبط لاوي بن يعقوب، ومنه «مُوسَى وهارون» وسبط المملكة سبط «يَهُوذا» ، ومنه «دَاوُدُ، وسُلَيْمَانُ» و «طَالُوت» لم يكن من أحد هذين السِّبطين، بل كان من ولد «بِنْيَامِين» فلذها السَّبب؛ أنكروا كونه ملكاً عليهم، وزعموا أنَّهم أحقُّ بالملك منه، ثمَّ أكدوا هذه الشُّبهة بشبهة أخرى وهي قولهم: «وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ» ، أي: فقير.(4/270)
قال وهبٌ: كان دبَّاغاً.
وقال السدِّيُّ: مكارياً.
وقال آخرون: كان سقَّاء، واسمه بالعبرانية ساول بن قيس، وكان من سبط بنيامين ابن يعقوب، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً، كانوا ينكحون النِّساء على ظهر الطَّريق نهاراً، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمون سبط الإثم، ثمَّ إنَّ الله تعالى أجابهم عن شُبْهتهم بقوله: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} .
والاصطفاء: أخذ الملك من غيره صافياً، واصطفاه واستصفاه، بمعنى: الاستخلاص، وهو أخذ الشَّيء خالصاً.
وقال الزَّجَّاج: مأخوذٌ من الصَّفوة، فأصله اصتفى بالتاء، فأبدل التَّاء بالطَّاء ليسهل النُّطق بها بعد الصَّاد.
فصل
اعلم أنَّهم لمَّا طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين:
أحدهما: كونه ليس من بيت المملكة.
والثاني: القدرة، وهذان الوصفان أشدُّ مناسبة لاستحقاق الملك من الوصفين الأوَّلن لوجوه:
أحدها: أنَّ العلم، والقدرة من باب الكمالات الحقيقيَّة، والمال والجاه ليسا كذلك.
الثاني: أنَّ العلم، والقدرة يمكن التَّوصُّل بهما إلى المال والجاه، ولا ينعكس.
الثالث: أنَّ المال والجاه، يمكن سلبهما عن الإنسان، والعلم والقدرة، لا يمكن سلبهما عنه.
الرابع: أنَّ العالم بأمر الحرب، والقويّ الشَّديد على المحاربة، ينتفع به في حفظ مصلحة الملك، ودفع شرِّ الأعداء، أكثر من الانتفاع بالرجل النَّسيب الغنيِّ الذي لا قدرة له على دفع الأعداء، ولا يحفظ مصلحة الملك.(4/271)
فصل
دلَّت هذه الآية على بطلان قول من يقول: إنَّ الإمامة موروثةٌ، وذلك؛ لأنَّ بني إسرائيل لمَّا أنكروا أن يكون الملك من غير بيت المملكة؛ أسقط الله هذا الشَّرْط، وبيَّن أنَّ المستحقَّ للملك من خصَّه الله به فقال: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} ، وهذه الآية نظير قوله: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} [آل عمران: 26] .
فصل
والمراد بالبسطة في الجسم: الجمال، وقيل: المراد: طول القامة. قيل: كان أطول من كل أحدٍ برأسه، وبمنكبه. وقيل: المراد القوَّة.
قال ابن الخطيب: وهذا القول عندي أصحُّ؛ لأنَّ المنتفع به في دفع الأعداء هو القوَّة، والشِّدة، لا الطُّول، والجمال.
قوله: {فِي العلم} فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «بَسْطَة» كقولك: «بَسَطْتُ لَهُ في كَذَا» .
والثاني: أنه متعلّقٌ بمحذوفً؛ لأنه صفةٌ ل «بَسْطَة» ، أي: بَسْطَة مستقرةً أو كائنة.
قوله: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} .
قال بعض المفسِّرين: هذا من كلام الله تعالى لمحمّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -، والمشهور: أنَّه من قول أشمويل، قال لهم ذلك، لمَّا علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد أن يتمِّم كلامه بالقطعي، الذي لا اعتراض عليه فقال: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} ، وأضاف ملك الدُّنيا إلى الله إضافة مملوكٍ إلى ملكٍ.
قوله: {والله وَاسِعٌ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على النسب، أي: ذو سعة رحمة، كقولهم: لابنٌ، وتامرٌ، أي: صاحب تمرٍ ولبنٍ.
والثاني: أنَّه جاء على حذف الزوائد من أوسع، وأصله مُوسِعٌ. وهذه العبارة إنَّما يتداولها النَّحويون في المصادر فيقولون: مصدرٌ على حذف الزوائد.
والثالث: أنه اسمُ فاعلٍ من «وَسِع» ثلاثياً؛ قال أبو البقاء: «فالتَّقدير على هذا: واسع الحِلم؛ لأنَّك تقول وسع حلمه» .
فصل في تفسير قوله {وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
في قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ثلاثة أقوال:(4/272)
أحدها: أنَّه واسع الفضل، والرَّزق، والرَّحمة، وسعت رحمته كلَّ شيءٍ، والتَّقدير: أنتم طعنتم في طالوت، لكونه فقيراً، فالله تعالى واسع الفضل، يفتح عليه أبواب الرِّزق، والسَّعة، كما في المال؛ لأنه فوّض إليه الملك، والملك لا يتمشَّى إلاَّ بالمال.
والثاني، والثالث: ما تقدَّم في الإعراب آنفاً من كونه بمعنى: «مُوسِعٌ» وذو سعة، والعليم العالم وقيل: العالم بما كان، والعليم بما يكون.(4/273)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
اعلم أنَّه لما أخبرهم نبيهم: بأنَّ الله تعالى، بعث لهم طالوت ملكاً، وأبطل حجَّتهم قالوا: «فَمَا آيَةُ مُلْكِهِ؟ قال: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} .
قوله تعالى: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} :» أَنْ «، وما في حيِّزها في محلِّ رفع خبرٍ ل» إِنَّ «تقديره: إنَّ علامة ملكه إيتاؤكم التَّابوت.
وفي» التَّابوتِ «، قولان:
أحدهما: أنه فاعولٌ، ولا يعرف له اشتقاقٌ، ومنع قائل هذا أن يكون وزنه فعلوتاً مشتقاً من تاب يتوب كملكوت من الملك ورهبوت من الرُّهب، قال: لأنَّ المعنى لا يساعد على ذلك.
الثاني: أن وزنه فعلوت كملكوت، وجعله مشتقاً من التَّوب وهو الرُّجوع، وجعل معناه صحيحاً فيه، لأنَّ التَّابوت هو الصُّندوق الذي توضع فيه الأشياء، فيرجع إليه صاحبه عند احتياجه إليه، فقد جعلنا فيه معنى الرجوع.
والمشهور أن يوقف على تائه بتاءٍ من غير إبدالها هاءً؛ لأنَّها إمَّا أصلٌ إن كان وزنه فاعولاً، وإمَّا زائدةٌ لغير التَّأنيث كملكوت، ومنهم من يقلبها هاءً، وقد قرئ بها شاذّاً، قرأها أُبيّ، وزيد بن ثابت، وهي لغة الأنصار، ويحكى أنهم لمَّا كتبوا المصاحف زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - احتلفوا فيه فقال زيد:» بالهَاءِ «، وقال: [أُبَيّ:] » بالتَّاءِ «، فجاءوا عثمان فقال:» اكْتبوه على لغة قريش «يعني بالتَّاءِ.(4/273)
وهذه الهاء هل هي أصل بنفسها، فيكون فيه لغتان، ووزنه على هذا فاعول ليس إلاَّ، أو بدلٌ من التَّاء؛ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهمس، أو إجراءٌ لها مجرى تاء التَّأنيث؟ قال الزَّمخشريُّ:» فإنْ قلت: ما وزنُ التابوت؟ قلت: لا يَخْلو أن يَكُونَ فَعَلوتاً، أو فاعُولاً، فلا يَكُونُ فاعُولاً لقلته نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ «يعني: في الأوزان العربيَّة، ولا يجوز ترك المعروف [إليه] فهو إذاً فعلوت من التَّوب وهو الرُّجوع؛ لأنَّه ظرفٌ تودع فيه الأشياء، فيرجع إليه كلَّ وقتٍ.
وأمَّا من قرأ بالهاء فهو فاعول عنده، إلاَّ من يجعل هاءه بدلاً من التَّاء لاجتماعهما في الهمس، ولأنَّهما من حروف الزِّيادة، ولذلك أُبدلت من تاء التَّأنيث.
قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ} يجوز أن يكون» فيه «وحده حالاً من التَّابوت، فيتعلَّق بمحذوفٍ، ويرتفع» سَكِينَة «بالفاعليَّة، والعامل فيه الاستقرار، والحال هنا من قبيل المفردات، ويجوز أن يكون» فيه «خبراً مقدّماً، و» سكينةٌ «مبتدأ مؤخراً، والجملة في محلِّ نصب على الحال، والحال هنا من قبيل الجمل، و» سكينةٌ «فعيلة من السكون، وهو الوقار. أي هو سبب سكون قلوبكم، فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت، ونظيره {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] قيل: كان التَّابوت سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه، ولم يفرّوا عن التَّابوت، إذا كان معهم في الحرب.
وقرأ أبو السَّمَّال بتشديد الكاف، قال الزَّمخشريُّ: «وَهُوَ غريبٌ» .
قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} يجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ ل «سَكِينَة» ، ومحلُّه الرَّفع. ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به «فيه» من الاستقرار. و «مِنْ» يجوز أن تكون لابتداء الغاية، وأن تكون للتبعيض. وثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: من سكينات ربكم.
فصل
اعلم أنَّ مجيء التَّابوت لا بدَّ وأن يكون على وجهٍ خارقٍ للعادة؛ حتى يصح كونه آية من عند الله دالَّة على صدق تلك الدَّعوة، وذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المعجز نفس التَّابوت.
قال أصحاب الأخبار: إنَّ الله تعالى، أنزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده، وكان من عود من الشمشار نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين، فكان عند آدم إلى أن مات فتوارثه أولاده إلى أن وصل إلى يعقوب، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -، فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه، وكان عنده إلى أن مات، ثمَّ تداولته أنبياء بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلَّم، وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدَّموه بين أيديهم، ليستفتحوا على عدوِّهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر، ثمَّ يقاتلون العدوَّ، فإذا سمعوا من(4/274)
التَّابوت صيحةً؛ استيقنوا النَّصر، فلمَّا عصوا، وفسدوا سلَّط الله عليهم العمالقة، فغلبوهم على التَّابوت وسلبوه، فلمَّا سألوا نبيَّهم على ملك طالوت؛ قال لهم النَّبيُّ: «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ» أنكم تجدون التَّابوت في داره، ثمَّ إنَّ الكفَّار حين سلبوا التَّابوت؛ جعلوه في موضع البول والغائط، فدعا نبيُّ ذلك الوقت عليهم، فسلَّط الله عليهم البلاء حتى كل من بال، أو تغوّط ابتلاه الله بالبواسير، فعلم الكفَّار أن ذلك سبب استخفافهم بالتَّابوت، فأخرجوه ووضعوه على ثورين، فأقبل الثَّوران يسيران، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، حتى أتوا منزل طالوت، ثمَّ إنَّ قوم ذلك النَّبيّ رأوا التَّابوت عند طالوت، فعلموا أنَّ ذلك دليل على كونه ملكاً لهم.
وقيل: إنَّ التَّابوت صندوقٌ كان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - يضع التوراة فيه، وكان من خشب يعرفونه، ثم إنَّ الله - تعالى - رفعه لمّا قبض موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لسخطه على بني إسرائيل، ثمَّ قال نبيُّ أولئك القوم: إنّ آية ملك طالوت أن يأتيكم التَّابوت من السَّماء، والملائكة يحفظونه، والقوم كانوا ينظرون إليه؛ حتَّى نزل عند طالوت، وهذا قول ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين، لأنَّ من حفظ شيئاً في «الطَّريق؛ جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء، وإن لم يحمله، كقول القائل: حملت الأمتعة إلى زيدٍ، إذا حفظها في الطَّريق، وإن كان الحامل غيره.
الثاني: ألا يكون التَّابوت معجزاً، بل يكون المعجز فيه بأن يشاهدوا التَّابوت خالياً، ثمَّ إنَّ ذلك النَّبيّ يضعه بمحضرٍ من القوم في بيتٍ، ويغلقون البيت عليه، ثمَّ يدعي ذلك النَّبي أنَّ الله تعالى يخلق فيه ما يدلُّ على ما وصفنا، فإن فتحوا باب البيت، ونظروا في التَّابوت؛ رأوا فيه كتاباً يدلُّ على أنَّ ملكهم هو طالوت، وأنَّ الله ينصرهم على عدوِّهم، فهذا يكون معجزاً قاطعاً دالاً على أنَّه من عند الله، ولفظ القرآن محتملٌ للوجهين.
فصل في المراد بالسكينة
اختلفوا في السَّكينة: قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هي ريحٌ تخرج، أي: شديدة هفَّافةٌ لها رأسان، ووجه كوجه الإنسان.
وقال ابن عبَّاسٍ، ومجاهدٌ: هي صورةٌ من زبرجدٍ وياقوت لها رأسٌ كرأس الهِرّ وذنبٌ كذنبه، ولها جناحان، وقيل: لها عينان لهما شعاعٌ، وكانوا إذا سمعوا صوتها تيقنوا بالنَّصر، وكانوا إذا خرجوا، وضعوا التَّابوت قدَّامهم، فإذا سار ساروا، وإذا وقف وقفوا.(4/275)
وعن ابن عبَّاس: هي طستٌ من ذهب من الجنَّة؛ كان يغسل فيها قلوب الأنبياء.
وقال أبو مسلم: كان في التَّابوت بشارات من كتب الله المنزَّلة على موسى وهارون - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ومن بعدهما من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام بأن الله تعالى ينصر طالوت، وجنوده، ويزيد خوف العدوّ عنهم.
وعن وهب بن منبّه قال: هي روحٌ من الله تتكلَّم إذا اختلفوا إلى شيءٍ من أمورهم تخبرهم ببيان ما يريدون. وقال أبو بكر الأصمٌّ: معنى السَّكينة؛ أي: تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك، وتزول نفرتكم عنه؛ لأنه متى جاءهم التَّابوت من السَّماء، وشاهدوا تلك الحالة، فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم.
وقال قتادة، والكلبيُّ: السَّكينة فعيلة من السّكون، أي: طمأنينة من ربكم، ففي أي مكان كان التَّابوت اطمأنوا إليه وسكنوا.
قوله: {وَبَقِيَّةٌ} وزنها فعيلة والأصل: بَقِيْبَة بياءين، الأولى زائدة، والثانية لام الكلمة، ثم أُدغم، ولا يستدلُّ على أنَّ لام «بَقِيَّة» ياء بقولهم: «بَقِيَ» في الماضي، لأنَّ الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء، ألا ترى أنَّ «رَضِي» و «شَقِيَ» أصلهما من الواو: الشِّقْوَة والرِّضوان.
و «مِمَّا تَرَكَ» في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل «بَقِيَّة» فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: بقيةٌ كائنةٌ. و «مِنْ» للتَّبعيض، أي: من بقيَّات ربِّكم، و «مَا» موصولةٌ اسميَّةٌ، ولا تكون نكرةً ولا مصدريةً.
و «آل» تقدم الكلام فيه، وقي: هو هنا زائدٌ؛ كقوله: [الطويل]
1162 - بُثَيْنَةُ مِنْ آلِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا ... يَكُنَّ لِوَصْلٍ لاَ وِصَالَ لِغَائِبِ
يريد «بُثَيْنَةُ» من النساء.
قال الزَّمخشريُّ: وَيَجُوزُ أن يريد: ممَّا تَرَكَ موسى وهارون، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنهما، أي زائدٌ للتعظيم، واستشكل أبو حيان كيفيَّة إفادة التَّفخيم بزيادة الآل. و «هَارُون» أعجميٌّ. قيل: لم يرد في شيءٍ من لغة العرب، قاله الراغب، أي: لم ترد مادته في لغتهم.
فصل في المقصود بالبقية
اختلفوا في البقية، فقيل: {مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} من الدِّين، والشَّريعة،(4/276)
والمعنى: أنَّ بسبب هذا التَّابُوت ينتظمُ ما بَقِيَ من دينهما، وشريعتهما.
وقيل: كان فيه لوحان من التَّوراة، ورضاض الألواح الَّتي تكسَّرت، وعصا موسى ونعلاهُ، وثيابه، وعمامة هارون وعصاه، وقفيزٌ من المنّ الذي كان ينزلُ على بني إسرائيل، واختلفوا في الآلِ على قولين:
أحدهما: المراد موسى، وهارون نفسهما كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأبي موسى الأَشعريّ: «لَقَدْ أُوتِيَ هذا مِزْماراً مِنْ مَزَامِير آل داوُدَ» وأراد به داود نفسه؛ لأنه لم يكُن لأحد من آلِ داوُدَ من الصَّوتِ الحسن مثل ما كان لداود.
الثاني: قال القفَّال: إنَّما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون؛ لأَنَّ ذلك التَّابوت تداولته القُرُونُ بعدهما إلى وقتِ طالُوت، وما في التَّابُوت توارثه العلماء عن أتباع موسى وهارون، فيكون الآل: هم الأتباع قال تعالى: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] .
قوله: {تَحْمِلُهُ الملاائكة} هذه الجملةُ تحتمِلُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التَّابُوت أي: محمولاً للملائكةِ وألاَّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ، إِذْ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل: كيف يأتي؟ فقيل: تحمِلُهُ الملائكةُ.
وقرأ مجاهد «يَحْمِلُه» بالياءِ من أسفلِ؛ لأنَّ الفِعْل مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ، فيجوزُ في فعله الوجهان. و «ذلك» مشارٌ به قيل: إلى التَّابوت. وقيل: إلى إتيانه، وهو الأَحسنُ ليناسِبَ آخرُ الآيةِ أولها [و «إِنْ» ] الأظْهَرُ فيها [أنها] على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ. وقيل: هي بمعنى «إذ» فإنّ هذه الآية معجزة باهِرَة للمؤمنين.
قال ابن عبَّاسٍ: إِنَّا التَّابُوت، وعصا موسى في بحيرة طبرية وإنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
مِنَ النَّاسِ من قال: إن طالُوتَ كان نبيّاً؛ لأن اللهَ تعالى أظهر المعجزة على يديه، ومن كان كذلك كان نبيّاً.
فإن قيل: هذه من باب الكرامات، قلنا: الفَرْقٌ بين الكرامةِ والمُعجزة: أنَّ الكرامة لا تكون على سبب التَّحَدِّي؛ فتكون معجزةً، وقد يُجابُ بأن ذلك معجزةٌ لنبيّ ذلك الزّمان وأنه آية قاطِعَةٌ في ثبوت ملك طَالُوتَ.(4/277)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
[قوله تعالى: «فَصَلَ» : أي: انْفَصَلَ، فلذلك كان قاصِراً. وقيل إِنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكن حُذِفَ، والتقديرُ: فَصَلَ نفسه ثم إن هذا المفعول حذف حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ.
و {بالجنود} متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من «طَالُوت» أي مصاحباً لهم] . وبين جملةِ قوله: «فلمَّا فَصَلَ» وبين ما قبلَها من الجملِ جُمل محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه، تقديرُهُ: فلما أتاهم بالتَّابُوت أذعنوا له وأجابوا فَمَلَّكُوا طالوتَ، وتأهَّبوا للخروجِ، وهي كقوله: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} [يوسف: 45، 46] . ومعنى الفصل: القَطْعُ.
يقال: فصلت اللَّحْمَ عن العَظم فَصْلاً، وفاصل الرَّجُل شريكهُ وامرأته فصالاً. ويُقالُ للفطام فِصالٌ؛ لأَنَّه يقطعُ عن الرَّضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه، قال تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} [يوسف: 94] والجنود جمع جُنْدٍ، وكل صنف من الخلق جُنْدٌ على حدةٍ، يقال للجراد الكثيرة: إنَّها جنود اللهِ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «الأَرْوَاح جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» .
فصل
روي أنَّ طَالُوت خرج من بيت المقدس بالجنود، وهم يومئذٍ سبعون ألفاً، وقيل: ثمانُون ألف مُقاتل، وذلك أَنَّهُم لمَّا رأَوا التَّابُوت لم يشكوا في النَّصْر، فساروا إلى الجهاد، فقال طالُوتُ: لا حاجة لي في كُلِّ ما أَرى، لا يخرجُ معي رجُلٌ بنى بيتاً لم يفرغ منه، ولا تاجِرٌ مشتغلٌ بالتِّجارة، ولا مَنْ تزوّج امرأة لم يبنِ بها، ولا يتبعني إلا الشاب النّشيط الفارغ، فاجتمع إليه مما اختار ثَمَانُون ألفاً، وكان في حَرٍّ شديد، فشكوا قلَّة الماءِ بينهم، وبين عدوِّهم وقالوا: إِنَّ المياه قليلة لا تحملنا، فادعُ اللهَ أن يجري لنا نهراً فقال: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} ، واختلفوا في هذا القائل، فقال الأكثرون هو طالوت؛ لأنَّهُ المذكور السَّابِقُ، وعلى هذا، فإِنَّه لم يقلهُ عن نفسه، فلا بُدَّ وأن يكُون عن وحي أَتَاهُ عن رَبِّهِ وذلك يقتضي أَنَّه كان مع الملك نبيٌّ، وقيل: القائِلُ هو النَّبِيُّ المذكور في أول(4/278)
القِصَّةِ، وهو أشمويل عليه الصَّلاة والسَّلام، وعلى هذا التَّقدير إن قلنا: هذا الكلامُ من طالُوت، فيكون تحمَّلَهُ عن ذلك النَّبي، وحينئذٍ لا يكون طالُوت نبيّاً، وإن قلنا: الكلام من النَّبيّ فتقديره: فَلَمَّا فصل طالُوت بالجنود قال لهم نبيهم: إن اللهَ مبتليكم بنهرٍ، وفي هذا الابتلاء وجهان:
الأول: قال القاضي: كان المشهورُ من أمر بني إسرائيل مخالفة الأنبياء، والملوك مع ظهور الآيات، والمعجزات، فأراد اللهُ تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدوّ يتميز بها الصَّابِرُ على الحرب من غيره.
الثاني: أَنَّهُ تعالى ابتلاهم ليتعوَّدُوا الصَّبر على الشَّدائد والابتلاء الامتحان وفيه لغتان من «بَلاَ يَبْلُو» و «ابْتَلَى يَبْتَلِي» ؛ قال: [الكامل]
1163 - وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي ... وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ
فجاء باللُّغتين، وأصلُ الياءِ في مبتليكم واوٌ لأَنَّهُ من بلا يبلُو؛ وابتلى يَبْتَلِي، أي: اختبر، وإِنَّما قلبت لانكِسَارِ ما قبلها.
قوله {بِنَهَرٍ} الجمهورُ على قراءتَه بفتح الهاء وهي اللَّغة الفصيحةُ، وفيه لغةٌ أخرى: تسكينُ الهاءِ، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآن وكلُّ ثلاثي حشوه حرف حلق، فإِنّهُ يجيء على هذين الوجهين؛ كقوله: صَخَرَ وَصَخْر وشَعَر وشَعْر وَبَحَر وَبَحْر؛ قال: [البسيط]
1164 - كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِن حَجَرٍ ... فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنِّى عَمَلُ
يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وفي بَحَرٍ ... مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ
وتقدم اشتقاقُ هذه اللَّفظة عند قوله تعالى: {مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] .
قوله: {فَلَيْسَ مِنِّي} ، أي: من أَشياعي وأصحابي، و «مِنْ» للتَّبعيض؛ كأنه يجعلُ أصحابَه بعضه؛ ومثله قول النَّابغة: [الوافر]
1165 - إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُوراً ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي(4/279)
ومعنى يَطْعَمْهُ: يَذُقْهُ؛ تقولُ العربُ: «طَمِعْتُ الشَّيْءَ» أي: ذُقْتُ طَعْمَهُ؛ قال: [الطويل]
1166 - فَإِنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
والنقاخ: الماءُ العذبُ المروِي، والبردُ: هو النَّومُ.
فصل
قال أهلُ اللُّغة: وإِنَّما اختير هذا اللَّفظُ لوجهين:
أحدهما: أَنَّ الإِنسانَ إذا عطش جدّاً، ثم شربَ الماء، وأراد وصف ذلك الماء، فإِنَّهُ يصفُهُ بالطُّعُومِ اللَّذِيذة، فقوله: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} ، أي: وَإِنْ بلغ به العطشُ إلى حيث يكون الماءُ في فَمِهِ موصوفاً بالطُّعوم الطَّيِّبة؛ فإنه يجب عليه الاحتراز عنه، وألا يشرب.
الثاني: أَنَّ مَنْ جعل الماءَ في فمه، وتمضمض به، ثم أخرجه فإنّه يصدق عليه أَنَّهُ ذاقه وطعمه، ولا يصدُق عليه أَنَّه شربه، فلو قال: ومن لم يشربه فإِنَّهُ مني، كان المنعُ مقصوراً على الشّرب. فلما قال: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} حصل المنعُ في الشُّربِ، والمضمضة، ومعلومٌ أَنَّ هذا التَّكليف أَشَقُّ، فإِنَّ الممنُوع من الشُّربِ، إِذَا تَمَضْمضَ بالماءِ وجد نوع خِفَّةٍ وراحةٍ.
فإن قيل: هَلاَّ قيل: «وَمَنْ لَمْ يَطْْعَمْ مِنْهُ» ليكون آخر الآية مُطابقاً لأَوَّلها؟
فالجواب: إِنَّما اختير ذلك لفائدة وهي أَنَّ الفُقهاء اختلفوا في أَنَّ مَنْ حَلَفَ ألاَّ يشرب مِنَ هذا النَّهرِ. قال أبو حنيفة: لا يحنثُ إلا إِذَا كرع منهُ؛ حتى لو اغترف بكوزٍ من النَّهرِ، وشرب لا يحنث؛ لأَنَّ الشُّرب من الشَّيء هو: أَنْ يكُونَ ابتداء شُربِهِ مُتَّصلاً بذلك الشَّيء، وهذا لا يحصل إِلاَّ بالشُّرب مِنَ النَّهر.
وقال الباقون: يحنثُ بالشُّرب مِنَ الكُوزِ، إذا اغترف به مِنَ النَّهر؛ لأَنَّ هذا وَإِنْ كان مجازاً، فهو مجازٌ معروفٌ، وإذا تقرَّر هذا فقوله: {مَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ظاهره: أَنَّ النَّهْيَ مقصورٌ على الشُّرب من النَّهْرِ، حتّى لو اغترف بكُوزٍ، وشرب، لا يكُونُ داخلاً تحت النَّهي فلما كان هذا الاحتمالُ قائِماً في اللَّفظ الأَوَّل ذكر في اللَّفظ الثَّاني ما يزيلُ هذا الاحتمال، فقال: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} أضاف الطَّعم والشّرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الاحتمال.
فصل
قال ابنُ عبَّاس، والسُّدِّيُّ: إِنَّه نهر فلسطين، وقال قتادة والرَّبيع: هو نهرٌ بين(4/280)
الأُردن وفلسطين قال القاضي: والتوفيقُ بين القولين: أَنَّ النَّهر المُمتد من بلدٍ إلى بلدٍ قد يُضافُ إلى أحد البلدين. وروى الزَّمخشريُّ أَنَّ الوقت كان قيظاً، فسلكوا مفازةً فسألوا أَنْ يجري اللهُ لهم نهراً، فقال: إِنَّ اللهَ مبتليكم بما اقترحتُمُوهُ مِنَ النَّهرِ.
قوله: {إِلاَّ مَنِ اغترف} منصوبٌ على الاستثناء، وفي المُستَثنى منه وجهان:
الصَّحيح أَنَّهُ الجملةُ الأولى، وهي: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ، والجملةُ الثانيةُ معترِضةٌ بين المُستَثنى والمُستَثنى مِنْهُ وأصلُها التَّأخيرِ، وإِنَّما قُدِّمَتْ، لأنها تَدلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهوم، فإنَّه لمَّا قال تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ، فُهِمَ منه أَنَّ من لم يشرب فإنَّه منه، فَلَمَّا كانت مدلولاً عليها بالمفهوم، صارَ الفصلُ بها كلا فصلٍ.
وقال الزمخشريُّ: والجُمْلَةُ الثَّانيةُ في حُكم المُتَأَخِّرة، إلاَّ أَنَّها قُدِّمَتْ للعناية، كما قُدِّمَتْ للعناية، كما قُدِّمَ «والصَّابِئُونَ» في قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون} [المائدة: 69] .
والثاني: أَنَّهُ مستثنى من الجملة الثَّانية، وإليه ذهب أبو البقاء. قال شهاب الدين: وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أَنَّ المعنى: ومَنْ لم يطعمْه فإِنَّهُ مِنِّي، إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرفة بيده؛ فإنه ليس مني، لأَنَّ الاسْتثناء من النَّفْي إثباتٌ، ومن الإِثبات نفيٌ، كما هو الصَّحيحُ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى؛ لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غرفةً واحدةً.
والاستثناءُ إذا تعقَّبَ الجُمَلَ، وصلح عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة، أم لا؟
خلافٌ مشهورٌ، فإنْ دلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجُمَلِ عمِلَ به، والآيةُ من هذا القبيل، فإنَّ المعنى يعودُ إلى عودِهِ إلى الجُملة الأولى، لا الثَّانية لِمَا قَرَّرْنَاهُ.
وقرأ الحرمِيَّان وأبو عمرو: «غَرْفَة» بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلفٌ. والباقون بضمها. فقيل: هما بمعنى المصدر، إلاَّ أنهما جاءا على غير الصَّدر كنبات من أَنْبَتَ، وَلَوْ جاءَ على الصَّدر لقيل: اغترافاً. وقيل: هما بمعنى المُغْتَرف كالأَكل بمعنى المأكولِ. وقيل: المَفْتُوح مصدرٌ قُصِدَ به الدَّلالة على الوحدةِ، فإنَّ «فَعْلَة» يدُلُّ على المَرَّة الواحدة، ومثله الأكلة يقال فلان يأكل بالنهار أكلة واحدة والمضمُومُ بمعنى المفعول، فحيثُ جعلتهما مَصْدراً فالمفعولُ [محذوفٌ، تقديره: إلاَّ مَن اغترف ماءً، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول] كانا مفعولاً به، فَلا يُحتاج إلى تقديرِ مَفْعُولٍ.
ويدل على الشَّيء الَّذي يحصُلُ بالكَفِّ كاللُّقمة والحُسْوة والخُطوةِ بالضم،(4/281)
والحُزَّة القطعة اليسيرة من اللحم. قال القرطبيُّ: وقال بعضهم: الغرقة بالكَفّ الواحد، والغُرفة بالكفين.
وقال المبرِّدُ «غَرْفَةً» بالفتح مصدر يقعُ على قليل ما في يده وكثيره وبالضَّمِّ اسم ملء الكف، أو ما اغترف به، فحيثُ جعلتهما مصدراً، فالمفعولُ محذوفٌ تقديره: إِلاَّ من اغترف ماءً، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول كان مفعولاً به، فلا يحتاجُ إلى تقديره مفعولٍ ونُقِلَ عن أبي علي أَنَّهُ كان يُرَجِّح قراءة الضَّمِّ؛ لأَنَّه في قراءةِ الفتح يجعلها مصدراً، والمصدرُ لا يوافق الفعل في بنائِهِ، إِنَّما جاءَ على حذفِ الزوائد وجعلُها بمعنى المفعول لا يحوج إلى ذلك فكان أرجح.
قوله: {بِيَدِهِ} يجوزُ أن يتعلَّق ب «اغْتَرَفَ» وهو الظَّاهر. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل «غُرْفَة» ، وهذا على قولنا: بأن «غُرْفَة» ، بمعنى المفعول أَظْهر منه على قولنا: بأنها مَصْدَرٌ، فإنَّ الظَّاهِرَ من الباء على هذا أن تكون ظرفيَّةٌ، أي: غُرفةً كائِنَةً في يده.
فصل
قال ابن عباس: كانت الغرْفَةَ تَشْرَبُ منها هو، ودوابُّهُ، وخدمه، ويحمل منها. قال ابن الخطيب: وهذا يحتملُ وجهين:
أحدهما: أَنَّهُ كان مَأْذوناً له أَنْ يأخذ من الماء ما شاء مرَّةً واحِدَةً بغرفةٍ واحدةٍ بحيثُ كان المأْخُوذُ من المرَّةِ الواحدة يكفيه، ودوابُّهُ، وخدمه، ويحمل باقيه.
والثاني: أَنَّهُ كان يأخذُ القليل فيجعل اللهُ فيه البركة حتَّى يكفِي كُلَّ هؤلاء؛ فتكون معجزة لنبيّ ذلك الزَّمان كما أَنَّهُ تعالى كان يَروِي الخلق العظيم من الماءِ القليل في زمن محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
فصل
قال القرطبي: قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} يدلُّ على أَنَّ الماء طعامٌ، فإذا كان طعاماً، كان قُوتاً للأَبدان به، فوجب أن يجري فيه الرِّبا.
قال ابن العربيّ وهو الصَّحيح من المذهب، ورَوَى أبو عمر عن مالكٍ قال: لا بأس ببيع الماء بالماءِ متفاضلاً، وإلى أجلٍ، وهو قول أَبي حنيفة، وأبي يوسف وقال محمَّد بن الحسن: هو مِمَّا يُكال ويوزن فعلى هذا لا يجُوزُ عندهُ التفاضل.(4/282)