قال قطرب: «يقال لجمع البقرة: بَقَر وبَاقِر وبَاقُور وبَيْقُور» .
وقال الأَصْمَعِيّ: «الباقر» جمع باقرة، قال: ويجمع بقر على بَاقُورة، حكاه النّحاس.
قال القرطبي: والباقر والبقر والبيقور والبقير لُغَات بمعنى واحد والعرب تذكره وتؤنثه، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في «تشابه» .
و «تشابه» جملة فعلية في محلّ رفع خبر ل «إن» ، وقرىء: «تَشَّابَهُ» مشدَّداً ومخفَّفاً، وهو مضارع الأصل: «تَتَشَابَهُ» بتاءين، فَأُدْغِمَ تارةً، وحذف منه أخرَى، وكلا الوجهين مقيس.
وقرىء أيضاً: «يَشَّابَهُ» بالياء من تحت، [وأصله: يَتَشَابَهُ فأدغم أيضاً، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزات؛ لأن فاعله اسم جنس] وفيه لغتان: التذكيرُ والتأنيثُ، قال تعالى:
{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] فَأَنَّث، و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] فذكر، وقيل: ذكر الفعل لتذكير لفظ «البقرة» ؛ كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} .
وقال المبرِّد: سئل سِيبَوَيْهِ عن هذه الآية، فقال: «كل جمع حروفه أقل من حروف وَاحِده، فإن العرب تذكره» ؛ واحتج بقول الأعشى: [البسيط]
585 - وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلْ ... [وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أيُّهَا الرَّجُلُ]
ولم يقل: «مرتحلون» .
وفي «تشابه» قراءاتك «تَشَابَهَ» بتخفيف الشين وفتح الباء والهاء، وهي قراءة العامة. و «تَتَشَابَه» بتاءين على الأصل.
و «تَشَّبَّه» بتشديد الشين والباء من غير ألف، والأصل: تَتَشَبَّهُ.(2/165)
و «تَشَابَهَتْ» على وزن «تَفَاعلت» وهو في مصحف أُبَيّ كذلك أَنّثه لتأنيث البقرة.
و «مُتَشَابِهَة» و «مُتَشَبِّهة» على اسم الفاعل من تشابه وتشبّه. وقرىء: «تَشَبَّهَ» ماضياً.
وقرأ ابن أبي إسحاق: «تَشَّابَهَتْ» بتشديد الشين، قال أبو حاتم: هذا غلط، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلاّ في المضارع. . وهو معذور في ذلك.
وقرىء: «تَشَّابَهَ» كذلك، إلاّ أنه بطرح تاء التأنيث، ووجهها على إشكالها أن يكون الأصل: إن القرة تشابهت، فالتاء الأولى من البقرة و [التاء] الثانية من الفعل، فلما اجتمع مثلان أدغم نحو: الشجرة تمايلت، إلاّ أنه يُشكِل أيضاً في تَشَّابَه من غير تاء؛ لأنه كان يجب ثبوت علامة التأنيث.
وجوابه: أنه مثل: [المتقارب]
586 - ... ... ... ... ... ... . ... وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
مع أن ابن كيسان لا يلتزم ذلك في السّعَةِ.
وقرأ الحسنك «تَشَابَهُ» بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد: تتشابه.
وقرأ الأعرج: «تَشَّابَهُ» بفتح التاء وتشديد الشين وضمّ الهاء على معنى: تتشابه.
وقرأ مجاهد: «تَشَّبَّه» كقراءة الأعرج، إلا أنه بغير ألف. ومعنى الآية: [التلبيس] والتشبه.
قيل: إنما قالوا: «إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا» أي: اشتبه أمره علينا، فلا نهتدي إليه؛ لأن وجوه البقر [تتشابه] يريد: أنها يشبه بعضها بعضاً، ووجوه البقر تتشابه.
قوله: {إِن شَآءَ الله} هذا شرط جوابه محذوف لدلالة «إنْ» ، ما في حيّزها عليه، والتقدير: إن شاء الله هِدَايتنا للبقرة، اهتدينا، ولكنهم أخرجوه في جملة اسمية مؤكدة بحرفي تأكيد مبالغة في طلب الهِدَاية، واعترضوا بالشرط تيمُّناً بمشيئة الله تعالى. «المهتدون» اللام: لام الابتداء داخلة على خبر «إن» .
وقال أبو البقاء: جواب الشرط «إن» وما عملت فيه عند سيبويه.(2/166)
وجاز ذلك لما كان الشرط متوسطاً، وخبر «إنَّ» هو جواب الشرط في المعنى، وقد وقع بعده، فصار التقدير: إن شاء الله هدايتنا اهتدينا.
وهذا الذي قاله لا يجوز، فإنه متى وقع جواب الشرط ما لا يصلح أن يكون شرطاً وجب اقترانه بالفَاءِ، وهذه الجملة لا تصلح أن تقع شرطاً، فلو كانت جواباً لزمتها الفاء، ولا تحذف إلا ضرورة، ولا جائز أن يريد أبو البقاء أنه دالّ على الجواب، وسماه جواباً مجازاً؛ لأنه جعل ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه فقال: وقال المبرد: والجواب محذوف دلت عليه الجملة؛ لأن الشرط معترض، فالنية به التأخير، فيصير كقولك: أنت ظالم إن فعلت.
وهذا الذي نقله عن المبرد هو المنقول عن سيبويه، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نقل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوز تقديم جواب الشَّرْط عليه، وقد ردّ عليهم البصريون بقول العرب: «أنت ظالم إن فعلت» .
إذ لو كان جواباً لوجب اقترانه بالفاء لما ذكرت ذلك.
وأصل «مُهْتَدُون» : «مُهْتَدِيُون» ، فأعلّ بالحذف، وهو واضح.
فصل في الاستثناء بالمشيئة
قال الحسن رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَالَّذِي نَفْسَ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا: إنْ شَاءَ اللهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَداً» .
واعلم أن التلّفظ بهذه الكلمة مندوب إليه في كلّ عمل يراد تحصيله، قاله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً 0 إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23، 24] .
وفيه استعانة بالله وتفويض الأمور إليه، والاعتراض بقدرته.
فصل في الإرادة الكونية
احتج أهل السُّنة بهذه الآية على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى.
وعند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك، فقد أراد اهتداءهم لا مَحَالَة، وحينئذ لا يبقى لقولهم: «إنْ شاء الله» فائدة.
قال ابن الخطيب: أما على قول أصحابنا، فإن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولهم: «إن شاء الله» فائدة.(2/167)
فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة
احتج المعتزلة بهذه الآية على أن مشيئة الله تعالى محدثة من وجهين:
الأول: أن دخول حرف «إن» يقتضي الحدوث.
الثاني: أنه تعالى علّق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء، فلم لم يكن حصول الاهتداء أزليًّا وجب ألاّ تكون مشيئة الاهتداء أزلية.
فصل في تقدير المشيئة
ذكر القفال في تقدير هذه المشيئة وجوهاً:
أحدها: وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيل أوصافها المميزة لها عن غيرها.
وثانيها: وإنا إن شاء الله تعريفها إيَّانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها.
وثالثها: وإنا إن شاء الله على هدى، أي: في استقصائنا في السّؤال عن أوصاف البقر، أي إنّا لسنا على ضلالة فيما نفعل من هذا البحث.
ورابعها: إنا بمشيئة الله نَهْتَدِي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما تمتاز به عن غيرها.
قال القرطبي: وفي هذا الاستثناء إنابةٌ وانقياد، ودليل نَدَم على عدم موافقة الأمر. وتقدير الكلام: وإنما لمهتدون إن شاء الله.
فقدم على ذكر الاهتداء اهتماماً به.
قوله: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} المشهور «ذَلُولٌ» بالرفع على أنها صفة ل «بقرة» ، وتوسطت «لا» للنفي كما تقدم في «لاَ فَارِض» ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: لا هي ذلول، والجملة من هذا المبتدأ أو الخبر في [محل] رفع صفة ل «بقرة» .
وقرىء: «لاَ ذَلُولَ» بفتح اللام على أنها «لا» التي للتَّبرئة والخبر محذوف تقديره: لا ذلولَ ثَمَّ أو ما أشبهه، وليس المعنى على هذه القراءة، ولذلك قال الأخفس: «لا ذلول نعت، ولا يجوز نصبه» .
و «الذَّلول» : التي ذُلِّلَت بالعمل، يقال: بقرة ذَلُوث بَيِّنَةٌ الذِّل بكسر الذال، ورجل ذَليل: بين الذُّل بضمّها، وقدم عند قوله: {الذلة} [البقرة: 61] .(2/168)
[قوله] : {تُثِيرُ الأرض} في هذه الجملة أقوال كثيرة: أظهرها: أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكن في «ذلول» تقديره: لا تُذَلُّ حال إثارتها.
وقال ابن عطية: وهي عند قوم جملة في موضع الصفة ل «بقرة» أي: لا ذلولٌ مثيرة.
وقال أيضاً: «ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، لأنها نكرة» .
أما قوله: في موضع الصفة فإنه يلزم منه أن البقرة كانت مثيرة للأرض، وهذا الم يقل به الجمهور، بل قال به بعضهم، وسيأتي إن شاء الله.
وأما قوله: لا يجوز أن تكون حالاً يعني من «بقرة» ؛ لأنها نكرة.
فالجواب: أنَّا لا نسلم أنها حال من «بقرة» ، بل من الضمير في «ذلول» كما تقدم، أو تقول: بل هي حال من النكرة؛ لأن النكرة قد وصفت وتخصصت بقوله: «لا ذَلُول» ، وإذا وصفت النكرة ساغ إتيان الحال منها اتفاقاً.
وقيل: إنها مستأنفة، [واستئنافها على وجهين:
أحدهما: أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي تثير.
والثاني: أنها مستأنفة] بنفسها من غير تقدير مبتدأ، بل تكون جملة فعلية ابْتُدِىءَ بها لمجرد الإخبار بذلك. وقد منع من القول باستئنافها جماعة منه الأخْفَشُ عليّ بن سليمان، وعلل ذلك بوجهينك
أحدهماك أن بعده: «وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ» فلو كان مستأنفاً لما صحّ دخول «لا» بينه وبين «الواو» .
والثّانيك إنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها، والله تعالى نفى عنها ذلك بقوله: «لا ذَلُول» وهذا المعنى هو الذي منع أن يكون «تُثِير» صفة ب «بقرة» ؛ لأن اللازم مشترك، ولذلك قال أبو البقاء: ويجوز على قول مَنْ أثبت هذا الوجه [يعني: كونه تثير الأرض ولا تسقي أن تكون «تثير» في موضع رفع صفة ل «بقرة» .
وقد أجاب بعضهم عن الوجه الثاني] ، فإن إثارة الأرض عبارة عن مَرَحِهَا ونَشَاطِهَا؛ كما قال امرؤ القيس: [الطويل]
587 - يُهِيلُ ويُذْرِي تُرْبَهُ وَيُثِيرُهُ ... إِثَارَةَ نَبَّاثِ الهَوَاجِرِ مُخْمِسِ
أي: تثير الأرض مرحاً ونشاطاً لا حَرثاً وعملاً.(2/169)
وقال أبو البقاء: وقيل: هو مستأنف، ثم قال: وهو بعيد عن الصّحة لوجهين:
أحدهما: أنه عطف عليه قوله: «وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ» ، فنفى المعطوف، فيجب أن يكون المعطوف عليه كذلك؛ لأنه في المعنى واحد، ألا ترى أنك لا تقول: مررت برجل قائم ولا قاعد، بل تقول: لا قاعد بغير واو، كذلك يجب أن يكون هذا.
وذكر الوجه الثاني لما تقدم، وأجاز أيضاً أن يكون «تثير» في محلّ رفع صفة ل «ذلول» ، وقد تقدم خلاف هل يوصف الوصف أم لا؟
فهذه ستة أوجه تلخيصها: أنها حال من الضمير في «ذَلُول» ، أو من «بقرة» ، أو صفة ل «بقرة» ، أو ل «ذلول» ، أو مستأنفة بإضمار مبتدأ، أو دونه.
قوله: {وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا} الكلام فيه هذه كالكلام فيما قبلها من كونها صفة ل «بقرة» ، أو خبر لمبتدأ محذوف.
وقال الزمخشري: و «لا» الأولى للنفي يعني الدَّاخلة على «ذلول» .
والثانية مزيدة لتأكيد الأولى؛ لأن المعنى: لا ذلول تثير [الأرض] وتسقي، على أن الفعلين صفتان ل «ذَلُول» ، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية.
وقرىء: «تُسْقى» بضم التاء من «أَسْقى» .
وإثارة الأرض: تحريكها وبَحْثُهَا، ومنه: {وَأَثَارُواْ الأرض} [الروم: 9] أي: بالحَرْث والزراعة، وفي الحديث: «أَثِيرُوا القُرْآنَ فَإِنَّهُ عِلْمُ الأَوَّلِينَ وَالأَخِرِينَ» .
وفي رواية: «مَنْ أَرَادَ العِلْمَ فَلْيُثوِّرِ القُرْآن» .
وجملة القول أن القرة لا يكون بها نَقْص، فإن الذلول بالعمل لكونها تثير الأرض، وتسقي الحرث لابد وأن يظهر بها النقص.
قال القرطبي: قال الحسن: وكانت تلك البقرة وَحْشٍية، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض، ولا تسقي الحرث.
وقال: الوقف هاهنا حسن.
و «مُسَلَّمة» قيل: من العيوب مطلقاً.(2/170)
وقيل: من آثار العمل المذكور.
وقيل: مسلمة من الشّبه التي هي خلاف لونها، أي: خلصت صُفْرتها عن اختلاط سائر الألوان بها، وهذا ضعيف؛ لأن قوله: «لاَ شِيَةَ فِيهَا» يصير تكراراً.
و «شِيَة» : مصدر وَشَيْتُ الثوب أَشِيه وَشْياً وَشِيَةً، حذفت فاؤها؛ لوقوعها بين ياء وكيرة في المضارع، ثم حمل باقي الباب عليه، ووزنها «عِلَةٌ» ومثلها:
«صِلَةٌ وعِدَةٌ وَزِنَة» .
وهي عبارة عن اللُّمْعَة المخالفة للون، ومنه: ثوب مَوْشِيٌّ: أي: منسوج بلونين فأكثر، وثور مَوْشِيٌّ القَوَائِم، أي: أَبْلَقُهَا؛ قال: [البسيط]
588 - مِنْ وَحْشِ وَجْرَةً مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ
ومنه: الواشي للنَّمَّام؛ لأنه يَشِي حديثه، أي يزينه ويخلطه بالكذب.
وقال بعضهم: ولا يقال له وَاشٍ حتى يغير كلامه ويزينه.
ويقال: ثور أَشْيَهُ، وفرس أَبْلَقُ، وكمَبْش أخْرَجُ، وتَيْس أَبْرَق، وغُراب أَبْقَع، كل ذلك بمعنى البلقة.
و «شية» اسم «لا» ، و «فيها» خبرها.
فصل في ضبط الحيوان بالصفة
دلت هذه الآيات على ضَبْطِ الحيوان بالصفة، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السَّلَمُ فيه، وكذلك كل ما ضبط بالصفة.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:
«لاَتَصِفُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا» فجعل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الصّفة تقدم مقام الرؤية.
قوله: {الآن جِئْتَ} الآن منصوب ب «جئت» ، وهي ظَرْف للزّمان يقتضي الحال، ويخلص المضارع له عند جمهور النّحاة.(2/171)
وقال بعضهم: هذا هو الغالب، وقد جاء حيث لا يمكن أن يكون للحال، كقوله: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن} [الجن: 2] {فالآن بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] فلو كان يقتضي لحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نصّ في الاستقبال، وعبر عنه هذا القائل بعبارة تُوافق مذهبه وهي: «الآن» لوقت حصر جميعه أو بعضه يريد بقوله: «أو بعضه» نحو: «فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ» ، وهو مبني.
واختلف في علّة بنائه: فقال الزَّجَّاج: لأنه تضمن معنى الإشارة؛ لأن معنى أفعل الآن، أي: هذا الوقت.
وقيل: لأنه أشبه الحرف في لزوم لَفْظ واحد، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ولا يصغّر.
وقيل: لأنه تضمّن معنى حرف التعريف، وهو الألف واللام ك «أمس» ، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه، ولم يُعْهَد مُعرفٌ ب «أل» إلا معرباً، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في «الذي والّتي» وبابهما، ويعزى هذا للفارسي، وهو مردود بأن التضمين اختصار، فكيف يختصر الشيء، ثم يؤتى بمثل لفظه.
وهو لازم للنظر فيه، ولا يتصرف غالباً، وقد وقع مبتدأ في قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَهُوَ يَهْوِي في قَعْرِهَا الآنَ حِينَ انْتَهَى» .
ف «الآن» مبتدأ، وبني على الفتح لما تقدم، و «حين» خبره، بُنِيَ لإضافته إلى غير متمكّن، ومجروراً في قوله:
589 - أَإِلَى الآنِ لاَ يَبِينُ ارْعِوَاءُ..... ... ... ... ... ... ... .
وادعى بعضهم إعرابه مستدلاً بقوله: [الطويل]
590 - كَأَنَّهُمَا مِلآنِ لَمْ يَتَغَيَّرا ... وَقَدْ مَرَّ لِلدَّارَيْنِ مِنَ بَعْدِنَا عَصْرُ
يريد: «مِنَ الآنِ» فجره بالكسرة، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر، وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماضي، وأن أصله «آنَ» بمعنى: «حان» فدخلت عليه «أل» زائدة،(2/172)
واسْتُصْحِب بناؤه على الفَتْح، وجعله مثل قولهم «ما رأيته من شب إلى دُبَّ» .
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «وأنْهَاكُمْ عَنْ قِيلٍ وَقَال» .
ورد عليه بأن «أل» لا تدخل على المنقول من فعل ماض، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره.
وعنه قول آخر أن أصله «أوان» فحذفت الألف، ثم قلبت الواو ألفاً، فعلى هذا ألفعه عن واو.
وأدخله الرَّاغب في باب «أين» ، فتكون ألفه عن «ياء» . والصواب الأول.
وقرىء: قالوا: ألآن بتحقيق الهمزة من غير نَقْل، وهي قراءة الجمهور.
و «قَالُ: لأنَ» بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها، وحذف الهمزة، وهو قياس مطّرد، وبه قرأ نافع وحمزة باختلاف عنه.
و «قَالُوا: لآنَ» بثبوت «الواو» من «قالوا» ؛ لأنها إنما حذفت لالتقاء السكانين، وقد تحركت «اللام» لنقل حركة «الهمزة» إليها، واعتدوا بذلك كما قالوا في الأحمر «مَحْمَر» .
وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى في {عَاداً الأولى} [النجم: 50] ويحكى وجه رابع «قَالُوا: آلآنَ» بقطع همزة الوصل، وهو بعيد، و «بِالحَق» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون باء التَّعدية كالهمزة كأنه قيل: «أَجَأْتَ الحق» ، أي: ذكرته.
الثاني: أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل «جئت» أي: جئت ملتبساً بالحق، أو «ومعك الحق» .
فصل في تحقيق أنهم لم يكفروا
قال القاضي: قولهم: «الآن جِئْتَ بِالْحَقِّ» كفر من قِبَلِهم لا محالة؛ لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقّة.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفراً.
قوله: «فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ» أي: فذبحوا البقرة. و «كَادُوا» كاد واسمها وخبرها، والكثير في خبرها تجرده من «أن» .
وشذ قوله: [الرجز](2/173)
591 - قَدْ كَادَ مِنْ طُولٍ الْبِلَى أَنْ يَمْصَحَا ... وهي عكس «عسى» وذكروا ل «كاد» تفسيرين:
أحدهما: قالوا: نفيها إثبات وإثباتها نفي، فقوله: كاد يفعل كذا، معناه: قرب من أن يفعل، لكنه ما فعله.
والثاني: قال عبد القاهر النحوي: إن «كاد» لمقاربة الفعل، فقوله: «كاد يفعل» [معناه] قرب من فعله.
وقوله: «ما كاد يفعل» معناه: ما قرب منه.
وللأولين أن يحتجوا بهذه الآية؛ لأن قوله: «ومَا كَادُوا» معناه ما قاربوا الفعل، ونفى المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل، فلو كانت «كاد» للمقاربة لزم وقوع التناقض في الآية، وقد تقدم الكلام معلى كاد عند قوله: {يَكَادُ البرق} [البقرة: 20] .
فصل في النسخ بالأشقّ
روي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما أنه قال: لو ذبحوا آيّة بقرة أرادوا لأجزأت عنهم؛ لكنه شددوا على أنفسهم، فشدد الله تعالى عليهم، فعلى هذا نقول: التكاليف متغيرة فكلفوا في الأول أية بقرة كانت، فلما لم يفعلوا كلفوا بأن تكون لا فارضاً ولا بكراً، قيل: عَوَان، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون صفراء، فلما لم يفعلوا كُلِّفوا أن تكون مع ذلك لا ذَلُول تثير الأرض ولا تسقي الحرث؛ لأنه قد ثبت أنه لا يجوز تأخير البيان، فلا بد من كونه تكليفاً بعد تكليف وذلك يدلّ على نسخ الأسهل بالأشقّ(2/174)
على جواز النسخ قبل الفعل، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعلى أن الزيادة على النصح نسخ، وعلى حسن التكليف ثانياً لمن عصى ولم(2/175)
على جواز النسخ قبل الفعل، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعلى أن الزيادة على النصح نسخ، وعلى حسن التكليف ثانياً لمن عصى ولم(2/176)
يفعل ما كلف أولاً، وعلى أن الأمر للوجوب والفور؛ لأنه تعالى ذمَّ التثاقل فيه، والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه، ولم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر.
قال القاضي: إنما وجب؛ لأن فيه إزالة شرّ وفتنة، فأمر تعالى بذبح البقرة، لكي يظهر القاتل، فيزول الشَّر والفتنة، فلما كانت المصلحة في هذا الفعل صار واجباً.
وقال بعضهم: إما أمروا بذبح بقرة معيّنة في نفسها، فلذلك حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به إذا كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام، وعلى القول الأول لا بُدّ من بيان ما الذي حملهم على [هذا] الاستفسار؟
فقيل: إن موسى عليه الصلة والسلام لما أمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا القتيل ببعضها فيصير حيًّا تعجبوا من ذلك، وظنوا أنّ تلك البقرة التي لها هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عنها كَعَصا موسى المخصوصة من بين سائر العصِيّ بتلك الخواص، إلاّ أن القوم أخطئوا في ذلك؛ لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصة للبقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: لعلّ القوم أردوا أَيَّ بقرة معينة لا مطلق البقرة، فلما وقعت المنازعة رجعوا عند ذلك إلى موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قال القُشيريّ في تفسيره: قيل: إن أوّل من راجع موسى عليه الصَّلاة والسلام في البحث عن البقرة القاتل خوف أن يفتضح، وقد وجدت تلك البقرة عند الشّاب.
وقيل: إن الخطاب الأول للعموم، إلاَّ أن القوم أرادوا الاحتياط فيه، فسألوا طلباً لمزيد البيان، وإزالة سائر الاحتمالات إلاّ أن المصلحة تغيرت، واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة.
وقيل: كان سؤالهم تقديراً من الله عَزَّ وَجَلَّ ّ وحكمة، ومصلحة لصاحب البقرة، فإنه يروى أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان له ولد بارّ، وكان له عجلة فأتى بها غَيْضَة وقال: اللهم إن استودعتكها لابْنِي حتى يكبر، ثم مات الأب فشبّت، وكانت من أحسن البقر [وأتمّها] وهي البقرة التي وصفها الله لهم فساوموها اليتيم وأمه حتى(2/177)
اشتروها بملء مَسْكِها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير.
ذكر مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء، ولم تكن من بقر الأرض قاله القرطبي. وزاد المارودي: ثم فرق ثمنها على بني إسرائيل، فأصاب كل فقير دينارين، وروي أنهم طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة.
فصل في سبب تثاقلهم
اختلفوا في السبب الذي كان لأجله «ما كادوا يفعلون» ، فقيل: لأجل غلاء ثمنها، وقيل: لخوف الشهوة والفضيحة، وعلى كلا القولين فالإحْجَام عن المأمور به غير جائز.
أما الأول فلأن ذبح البقرة ما كان يتمّ إلا بالثمن الكثير فوجب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إلاّ أن يدل دليل على خلافه.
وأما خوف الفضيحة فلا يدفع التكليف، فإن القَوَدَ إذا وجب عليه لزمه تسليم النفس من وليّ الدم إذا طالب، وربما لزمه التعويض ليزول الشر والفتنة، وإنما لزمه ذلك لتزول التّهمة عن القوم الذين طرحوا القتيل بالقرب منهم، لأنه الذي عرضهم إليه، فيلزمهم أزالتها، فكيف يجوز جعله سبباً للتَّثَاقُلِ في هذا الفعل.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا} .
أعلم أن وقوع ذلك القتل كان متقدماً على الأمر بالذبح، فأما الإخبار عن وقع ذلك القتل، وعن ضرب القتيل ببعض البقرة، فلا يجب أن يكون متقدماً في التلاوة في الأول؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود، فأما التقدم في الذكر فغير واجب؛ لأنه تارة يتقدّم ذكر السبب على الحكم، وتارة على العكس، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال: وإذا قتلتم نفساً من قبل، واختلفتم وتنازعتم، فإني أظهر لكم القاتل الذي [سترتموه] بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة.
وذلك مستقيم والواو لا تقتضي الترتيب.
قال القرطبي: {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] إلى قوله «إِلاَ قَلِيْلٌ» فذكر أهلاك من هلك منهم، ثم عطف عليه بقول: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] فذكر الركوب متأخراً، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك، ومثله في القرآن كثير، قال تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا 0 قَيِّماً}
[الكهف: 1، 2] أي: أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً ولم يجعل له عوجاً فإن قيل [هب أنه] لا خلل في هذا النظم [ولكن النظم] الآخر(2/178)
كان مستحسناً، فما فائدة في ترجيح هذا النظم؟
قلنا: إنما قدمت قصة الأمر بالذبح على ذلك القتل؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من تثنية التفريع.
فصيل في نسبة القتل إلى جميعهم
«فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا» فعل وفاعل، والفاء للسببية؛ لأن التَّدَارُؤَ كان مسبباً عن القتل، ونَسَبض القتل إلى الجميع، وإن لم يصدر إلا من واحد أو اثنين كما قيل؛ لأنه وُجِد فيهم وهو مجاز شائع.
وأصل «ادّارأتم» : تدارأتم تَفَاعلتم من الدَّرْء هو الدّفع، فاجتمعت «التاء» مع «الدال» وهي مُقارِبتها، فأريد الإدغام فقلبت التاء دالاً، وسكنت لأجل الإدغام، ولا يمكن الابتداء بساكن، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي «ادارأتم» ، والأصل ادْدَارأتم فأدغم، وهذا مطرد في كل فعل على «تفاعل» أو «تفعّل» فاؤه دال نحو: «تَدَايَنَ وادَّايَنَ، وتَدَيَّنَ وأدِّيَنَ» أو طاء، أو ظاء، أو صاداً، أو ضاداً نحو: «تطاير واطَّايَر» وتطير واطّير [وتظاهر واظَّاهر، وتطهر واطَّهَّر، والمصدر على التفاعل أو التفعّل نحو: تَدَارُؤ وتَطَهُّر] نظراً إلى الأصل.
وهذا أصل نافع في جميع الأبواب.
معنى: «ادرأتم» : اختلفتم واختصمتم في شأنها.
وقيل: [تدافعتم] أي كل واحد ينفي القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره.
والكناية في قوله: «فيها» للنفس.
وقال القفال: ويحتمل إلى القتلة؛ لأن قوله: «قتلتم» يدل على المصدر.
قوله: «والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» الله رفع بالابتداء و «مخرج» خبره، و «ما» موصولة منصوبة المحل باسم الفاعل.
فإن قيل: اسم الفاعل لا يعمل بمعنى الماضي إلا محلّى بالألف واللام،
فالجواب: أن هذه حكاية حال ماضية، واسم الفاعل فيها غير ماض وهذا كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] .
والكسائي يُعْمِله مطلقاً، ويستدل بهذا ونحوه. و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، فلا بد من عائد، تقديره: مخرج الذي كنتم تكتمونه، ويجوز أن تكون مصدرية، والمصدر واقع موضع المفعول به، أي: مخرج مكتومكم وهذه الجملة لا محلّ لها من الاعراب؛ لأنها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما: «فَادَّارَأْتُمْ» وقوله: «فَقُلْنَا: اضْرِبُوهُ» قاله الزمخشري.(2/179)
والضمير في: فاضربوه «يعود على» النفس «لتأويلها بمعنى الشخص والإنسان، أو على القتيل المدلول عليه بقوله:» والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «والجملة من» اضربوه «في محلّ نصب بالقول.
وفي الكلام محذوف والتقدير: قلنا: اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي، إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله:» يُحْيِي الله الموتى «عليه، فهو كقوله:
{اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] أي فضرب فانفجرت [وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 184] أي: فأفطر فعدّة] وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] أي: فحلق ففدية.
فصل في بيان المضروب به
اختلفوا في البعض الذي ضربوا القتيل به.
فقيل: اللِّسَان، لأنه آلة الكلام قال الضحاك والحسين بن الفَضْل.
وقال سعيد بن جُبَير: يعجب ذنبها قاله يمان بن رئاب وهو أولى؛ لأنه أساس البدن الذي ركب عليه الخلق، وهو أول ما يخلف وآخر ما يبلى.
وقال مجاهد: بذنبها.
وقال عكرمة والكَلْبي: بخذها الأيمن.
وقال السَدّي: بالبَضْعة التي بين كتفيها.
وقيل: بأذنها.
وقال ابن عباس: بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو أصل الأذن [وهو المقتل] .
والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة؛ لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به، فإنهم ممتثلين الأمر، والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العُهْدة.
وليس في القرآن ما يدل على تعيين ذلك البعض، فإن ورد فيه خبر صحيح قُبِلَ، وإلا وجب السكوت عنه.
فإن يل: ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء؟(2/180)
فالجواب: أن الفائدة فيه لتكون الحُجّة أوكد، وعن الحيلة أبعد، فقد يجوز في العقل للملحد أن يوهمهم أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنما أحياه بضرب من السِّحر أو من الحيلة، فلما حيي بالضرب بقطعة من البقرة المذبوحة فانتفت الشبّهة.
فإن قيل: هلا أمر بذبح غير البقرة؟
فالجواب: أن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيها.
ثم ذكروا فيها فوائد:
أحدهما: التقريب بِالقَرَابِيْن التي كانت العادة بها جارية، ولأن هذا القُرْبَان كان عندهم أعظم القرابين، ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكُلْفة في تحصيل هذه البقرة.
قيل: على غلاء ثمنها، ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة.
قوله: «كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى» «كذلك» في محلّ نصب؛ لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره: يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء، فيتعلّق بمحذوف، أي: إحياء كائناً كذلك الإحياء، أو لأنه حال من المصدر المعروف، أي: ويريكم الإراءة حال كمونها مُشَبِهَةً ذلك الإحياء، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه.
و «الموتى» جمع مَيِّت، وفي هذه الإشارة وجهان:
أحدهما: أنها إشارة إلى نفس ذلك الميت.
والثاني: أنها احتجاج على صحّة الإعادة. قال الأصم: إنه على المشركين؛ لأنه إن ظهر لهم بالتَّوَاتر [أن هذا الإحياء قد كان على هذه الوجه علموا صحّة الإعادة، وإنن لم يظهر ذلك بالتواتر] ، فإنه داعية إلى التفكُّر.
وقال القَفّال: ظاهره يدلّ على أن الله تعالى قال هذا لبني إسرائيل أي: إحياء الله الموتى يكون مثل هذا الذي شاهدتم؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلاَّ أنهم لم يؤمنوا به إلاَّ من طريق الاستدلال، ولم يشاهدوا شيئاً منه، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم، وانتفت عنهم الشّبهة، فأحيا الله القتيلَ عياناً، ثم قال لهمك كذلك يحيي الله المَوْتَى، أي: كما أحياها في الدُّنيا يحييها في الآخرة من غير احتياج إلى مادّة ومثال وآلة التي لا يخلو منها المستدل.
قوله: «وَيُريكُمْ آيَاتِهِ» الرؤيا هنا بَصَرية، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولاً ثانياً وهو «آياته» ، والمعنى: يجعلكم مُبْصرين آياته.
و «كم» هو المفعول الأول، وأصل «يريكم» : يُأَرْإيكم، فحذفت همزة «أفعل» في المضارعة لما تقدم في {يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3] وبابه، [فبقي يُرْئيكم] ، فنقلبت حركة الهمزة على «الراء» ، وحذفت «الهمزة» تخفيفاً، وهو نقل لازم في مادة «رأى» وبابه دون(2/181)
غيره مما عينه همزة نحو: «نأى ينأى» ولا يجوز عدم النقل في «رأي» وبابه إلا ضرورة كقوله: [الوافر]
592 - أُرِي عَيْنَيَّ مَالَمْ تَرْأَيَاهُ ... كِلاَنا عَلِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ
فصل في نظم الآية
[القائل أن يقول] : إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات؟
فالجواب: أنها تدلّ على وجود الصانع القادر على المقدورات العالم بكلّ المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ت وعلى براءة من لم يقتل، وعلى تعيين القاتل، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لَمَّا دلت على [هذه] المدلولات الكبيرة لا جرم جرت مجرى الآيات.
قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تقدم تفسير العَقْل.
قال الواقديك كل ما في القرآن من قوله: «لَعَلَّكُمْ» فهو بمعنى «لكن» إلاّ التي في الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] فإنه بمعنى لعلكم تخلدون فلا تموتون.
فإن قيل: القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآية عليهم، وإذا كانوا عقلاء امتنع أن يقال: إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلاً [فالجواب أنه] لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها، بل لا بد من التأويل، وهو أن يكون المراد: لعلكم تعلمون لعدم الاختصاص حتى لاينكروا المبعث
فصل في توريث القاتل
ذكر كثير من المتقدمين أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا؟(2/182)
قالوا: لا، لأنه روي عن عَبِيْدَةَ السَّلْمَاني أن الرجل القاتل في هذه [الواقعة] حرم الميراث لكونه قاتلاً.
قال القاضي: «لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية؛ لأنه ليس في ظاهر الآية أن القاتل هل كان وارثاً لقتيله أم لا» وبتقدير أن يكون وارثاً فهل حرم الميراث أم لا؟ وليس يجب إذ روي عن عبيدة أن القاتل حرم الميراث لكونه قاتلاً، أي: بعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدلّ عليه لا مجملاً ولا مفصلاً، وإذا كان كذلك لم يثبت أن شرعهم كشرعنا، وأنه [لا] يلزم الاقتداء لهم.
واستدل مالك بهذه الآية على صحّة القول بالقَسَامَةِ بقول المقتول: حقّي عند فلان، أو فلان قتلني.
ومنعه الشافعي وغيره؛ لأن قول القتيل: دمي عند فلان، أو فلان قتلني خبر يحتمل الصدق والكذب، ودم المدعى عليه معصوم غير مباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاحتمال، وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة فأخبر تعالى أنه يحييه، وذكره يتضمن الإخبار بقاتله خبر ما لا يدخله الاحتمال.
قال ابن العربي: المعجزة إنما كانت في إحيائه، فلما صار حيًّا صار كلامه كسائر كلام الناس.(2/183)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قال القفال: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أي: اشتدت قلوبكم وقَسَت وضلّت من بعد البَيّنات التي جاءت أوائلكم، والعقاب الذي نزل بمن أَصَرَّ على المعصية منهم، والآيات التي جاءهم بها أنبياءهم، فأخبر بذلك عن طُغْيَانهم، وجَفَائهم على ماعندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب.
قال: لأنه خطاب مُشَافهة فَحَمْله على الحاضرين أولى، ويحتمل أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمان موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خصوصاً. وروي أن ذلك القتيل لما عين القاتل كذبه، وما ترك الإنكار وساعده عليه جمع، فتكون الإشارة لقوله بعد ذلك إلى ما أظهره الله تعالى من إحياء القتيل بِضَرْبِهِ ببعض البقرة المذبوحة. ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما عدده الله تعالى من النعم العظيمة،(2/183)
والآيات الباهرة التي آظهرها الله تعالى على يد موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإنّ أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتها لها ما خلوا من العِنَاد والاعتراض على موسى عليه الصَّلاة والسَّلام.
فإن قيل: لم أتى ب «ثم» التي تقتضى الترتيب والمُهْلة، فقال: «ثم قست» ، وقال: «مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ» والبَعْدية لا تقتضي التعقيب، وقلوبهم لم تزل قاسيةً مع رؤية مالآية وبعدها؟
فالجواب: أنه أتى ب «من» التي لابتداء الغاية فقال: من بعد ذلك فجعل ابتداء المقصود عقيب رؤية الآيات، فنزلت المهلة.
وقال أبو عبيدة: «معنى قَسَتْ: جفت» .
وقال الواقدي: خفت من الشّدة فلم تكن.
وقال المؤرخ: «غلظت» .
وقيل: اسودت.
وقال االزجاج: «القَسْوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع» .
قوله: «أَوْ أشَدُّ قَسْوَةً» «أو» هذه ك «أو» التي في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] فكل ما قبل ثمة يمكن القول به هنا، ولما قال أبو الأسود: [الوافر]
593 - أُحِبُّ مُحَمَّداً حُبًّا شَديداً ... وَعَبَّاساً وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا
اعترضوا عليه في قوله: «أو» التي تقتضي الشك، وقالوا له: أشككت؟ فقال: كلا، واستدل بقوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ} [سبأ: 24] فقال: أو كان شاكًّا من أخبر بهذا؟ وإنما قصد رَحِمَهُ اللهُ الإبهام على المخاطب.
قال ابن الخطيب: كلمة «أو» للتردد، وهي لا تليق بعلاَّم الغيوب، فلا بد من التأويل وهو من وجوه: أحدهما: أنها بمعنى «الواو» كقوله: {إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وقوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ} [النور: 31] وقوله: {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ}
[النور: 61] ومن نظائره قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] .
وثانيها: أن المراد: فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة.
[وثالثها: أي: في نظركم واعتقادكم إذا طلعتم على أحوال قلوبهم قلتم: إنها كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة] .(2/184)
ورابعها: أن «أو» بمعنى «بل» ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
594 - فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَقَوَّلَتْ ... أَمِ النَّوْمُ أَو كُلُّ إِلَيَّ حَبِيبُ
وخامسها: أنه على حد قولك: «ما أكل إلا حلواً أو حامضاً» أي: طعامه لا يخرج عن هذين، وليس الغرض إيقاع التردّد بل نفي غيرهما.
وسادسها: أن «أو» حرف إباحة، أي: بأي هذين شبّهت قلوبهم كان صدقاً كقولهم: «جالس الحَسَنَ أو ابن سيرين» أي أيهما جالست كنت مصيباً أيضاً. و «أشَدّ» مرفوع لعطفه على محل «كَالحِجَارةِ» أي: فهي مِثْلُ الحجارة أو أشد. والكاف يجوز أن تكون حرفاً فتتعلّق بمحذوف، وأن كون اسماً فلا تتعلّق بشيء، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً أي: أو هي أشد.
و «قسوة» منصوب على التمييز؛ لأن الإبْهَامَ حصل في نسبة التفضيل إليهما، والمفضل عليه محذوف للدلالة عليه، أي: أشدّ قسوة من الحِجَارَةِ.
وقرىء: «أَشَدْ» بالفتح وَوَجْهُهَا: أنه عطفها على «الحجارة» أي: فهي كالحجارة أو [كأشد] منها.
قال الزمخشري موجهاً للرفع: و «أشد» معطوف على الكاف، إما على معنى: أو مثل أشد، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفاً على «الحجارة» ويجوز على ما قاله أن يكون مجروراً بالمضاف المحذوف ترك على حاله، كقراءة: {والله يُرِيدُ الآخرة} [الأنفال: 67] بجر «الآخرة» أي: ثواب الآخرة، فيحصل من هذا أن فتحه الدال يُحتمل أن تكون للنصب، وأن تكون للجر.
وقال الزمخشري أيضاً: فإن قلت: لم قيل: أشدُّ قسوة مما يَخْرُج منه «أفعل» التفضيل وفعل التعجب؟ يعني: أنه [مستكمل] للشروط من كونه ثلاثياً تاماً غير لون ولا عاهة متصرفاً غير ملازم للنفي.
ثم قال: قلت: لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة، ووجهٌ آخر وهو الاّ يقصد معنى الأقسى، ولكنه [قصد] وصف القسوة بالشدة، كأنه «اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشد قسوة» .(2/185)
وهذا الكلام حسن، إلا أن كون «القسوة» جوز بناء التعجّب منها فيه نظر من حيث إنها من الأمور الخِلْقِية أو من العيوب، وكلاهما ممنوع منه بناء البابين.
وقرىء: «قاسوة» .
فصل في أوجه شدة القسوة من الحجارة
إنما وصفها بأنها أشد قسوةً من الحجارة لوجوه:
أحدها: أن الحجارة لو كانت عاقلة، ورأت هذه الآية لقبلتها كما قال: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله}
[الحشر: 21] .
وثانيها: أن الحجارة ليس فيها امتناع لما يحدث فيها من أمر الله فقال: وإن كانت قاسيةً، بل منصرفة على مراد الله تعالى غير ممتنعة، وهؤلاء مع ما وصفنا في اتّصَال الآيات عندهم، وتتابع نِعَمِ الله عليهم يمتنعون من الطاعة، ولا تلين قلوبهم بمعرفة حق الله.
وثالثها: أن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه، أما قلوب هؤلاء فلا نفع منها ألبتة.
فصل في الرد على المعتزلة
قال القاضي: إن كان الدَّوام على الكفر مخلوف فيهم، فكيف يحسن ذمهم؟ فلو قال: إن الذي خلق الصَّلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القَسْوة، والخالق في الأحجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكُفر بخلق الإيمان فينا، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجّتهم على موسى أَوْكد من حجّته عليهم، وهذا النمط قد تكرر مراراً.
قوله: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار} .
واعلم أنه سبحانه وتعالى فَضَّل الحجارة على قلوبهم بأنه قد يحصل في الحجارة أنواع من المنافع، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع.
فأولها: قوله: «وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار» واللاّم في «لَمَا» لام الابتداء دخلت على اسم «إن» لتقدم الخبر، وهو «من الحجارة» ، وهي «ما» التي بمعنى «الذي» في محلّ النصب، ولو لم يتقدم الخبر لم يَجُزْ دخول اللام على الاسم؛ لئلاَّ يتوالى حَرْفاً تأكيد، وإن كان الأصل يقتضي ذلك، والضمير في «منه» يعود على «ما» حملاً على اللفظ.
قال أبو البقاء: ولو كان في غير القرآن لجاز «منها» على المعنى.(2/186)
وهذا الذي قاله قد قرأ به أُبّي بن كعب والضحاك.
وقرأ مالك بن دينار «يَنْفَجِر» من الانفجار.
وقرأ قتادة: «وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ» بتخفيف «إنْ» من الثقيلة، وأتى باللام فارقة بينها وبين «إن» النافية، وكذلك: «وَإِنْ منْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ» و «إنْ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط» ، وهذه القرءاة تحتمل أن تكون «ما» فيها في محل رفع وهو المشهور، وأن تكون في محلّ نصب؛ لأن «إنْ» المخففة سمع فيها الإعمال والإهمال، قال تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] في قراءة من قرأه.
وقال في موضع آخر: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا} [يس: 32] إلا أن المشهور الإهمال.
والتفجير: الفتح بالسّعة والكثرة؛ يقال: انفجرت قرحة فلان أي: انشقت بالمدّة، ومنه: الفَجْر والفُجُور.
فصل في تولد الأنهار
قالت الحكماء: الأنهار إنما تتولّد عن أَبْخِرَةٍ تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رَخْواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجريّاً اجتمعت تلك الأَبْخِرَةُ، ولا يزال يتصل بعضها ببعض حتى تكثر كثرة عظيمة، فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مَدِّها أن تنشقّ الأرض، وتسيل تلك المياه أوديةً وأنهاراً.
قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء} أي: وإنَّ من الحجارة لما يتصدّع، فينبع الماء منه فيكون عَيْناً لا نهراً جارياً.
و «يَشَّقَّقُ» أصله: يَتَشَقّق، فأدغم وبالأصل قرأ الأعمش، وقرأ طلحة بن(2/187)
مصرف: «لَمَّا بتشديد» الميم «في الموضعين قال ابن عطية:» وهي قراءة غير متّجهة «.
وقرأ أيضا:» ينشقّ «بالنون وفاعله ضمير» ما «.
وقال ابو البقاء: ويجوز أن يكون فاعله ضمير» الماء «لأن» يَشَّقَّقُ «يجوز أن يُجْعل ل» الماء «على المعنى، فيكون معك فِعْلان، فيعمل الثاني منهما في الماء، وفاعل الأول مضمر على شريطة التفسير.
وعند الكوفيين يعمل الأول، فيكون في الثاني ضمير، يعني: أنه من باب التنازع، ولا بد من حذف عائد من» يشقق «على» ما «الموصولة دلَّ عليه قوله:» منه «، والتقدير: وإن من الحجارة لما يشقق الماء منه، فيخرج الماء منه.
وقال أيضاً: ولو قرىء:» تتفجّر «بالتاء جاز. قال أبو حاتم: يجوز» لما تتفجر «بالتاء؛ لأنه أنثه بتأنيث الأنهار، وهذا لا يكون في» تشقق «يعني التأنيث.
قال النَّحَّاس: يجوز ما أنكره على المعنى، لأن المعنى: وإن منها الحجارة تتشقق يعني فيراعى به معنى» لما «، فإنها واقعة على الحجارة.
قوله:» وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله «.
قال أبو مُسْلم:» الضمير في قوله: «وَإِنَّ مِنْها» راجع إلى «القلوب» ، فإنه يجوز عليهما الخَشْيَة، والحجارة لا يجوز عليها الخَشْيَة. وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة، وأقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلاّ أنّ هذا الوصف ألْيَقُ بالقلوب من الحجارة، فوجب رجوع الضمير إلى «القلوب» دون «الحجارة» ، وفيه بعد لتنافر الضّمائر.
وقال الجمهور المفسرين: الضمير عائد إلى «الحجارة» .
وقالوا: يجوز أن يكون حقيقة على معنى أن الله خلق فيها قَابِليَّةً لذلك، وأن المراد من ذلك جَبَلُ موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين تقطع وتجلّى له ربه، وذلك لأن الله(2/188)
تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدْرَاك، وهذا غير مستعبد في قدرة الله تعالى.
ونظيره قوله تعالى: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] .
فكما جعل الجِلْد ينطق ويسمع ويعقل، فكذلك الجَبَل وصفه بالخشية.
وقال أيضاً: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله} [الحشر: 21] .
وروي أنه حنّ الجِذْع لصعود رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المنبر، ولما أتى الوحي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول المبعث، وانصرف رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى منزله سلمت عليه الحِجَارَةُ فكلها كانت تقول: السَّلام عليك يا رسول الله.
قال مجاهد: ما تَرَدَّى حَجَرٌ من رأس جبل، ولا تَفَجَّرَ نَهْرٌ من حَجَر، ولا خرج منه ماء إلاَّ من خشية الله، نزل بذلك القرآنُ، مثله عن ابن جُرَيْجِ وثبت عنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «إنَّ حَجَراً كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فِي الجَاهِلِيَّةِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْري فَيُعَذّبني اللهُ فَنَادَاهُ حِرَاءٌ:» إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ «وقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة} [الأحزاب: 72] الآية.
وأنكرت المعتزلة ذلك، ولا يلتفت إليهم؛ لأنه لا دليل لهم إلا مجرد الاستبعاد.
لو قال بعض المفسِّرين: الضمير عائدٌ إلى» الحجارة «و» الحجارة «لا تعقلُ، ولا تَفْهَم، فلا بدَّ من التأويل، فقال بعضُهُمْ: إسناد الهبوط استعارة؛ كقوله: [الكامل]
595 - لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وقوله:» مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «أي: ذلك الهبوط لو وجد من العاقل لكان به خاشياً لله، وهو كقوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} [الكهف: 77] أي جداراً قد ظهر فيه المَيَلاَن(2/189)
ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حيّ مختارٍ، لكان مريداً للانقضاض، ونحو هذا قوله: [الطويل]
596 - بَخِيْلٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ ... تَرَى الأُكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ
فجعل ما ظهر في الأكم من أثر الحَوَافر من عدم امتناعها مِنْ دفع ذلك عن نفسها كالسُّجود منها للحوافر.
الوجه الثاني: من التأويل: قوله:» مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «: من الحجارة ما ينزل، وما يشقق، ويتزايل بعض عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خَشْية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة.
وتحقيقه أنه كان المقصود الأصلي من أهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل الخشية في القلوب.
الوجه الثالث: قال الجُبَّائي:» الحجارة «البَرَدُ الذي يهبط من السحاب تخويفاً من الله تعالى لعباده لِيَزْجُرَهُمْ به.
قال: وقوله:» مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «أي: خشية الله، أي: ينزل بالتخويف للعباد، أو بما يوجب الخشية لله، كما تقول: نزل القرآن بتحريم كذا، وتحليل كذا، أي: بإيجاب ذلك على الناس.
قال القاضي: هذا التأويل ترك للظَّاهر من غير ضرورة؛ لأن البَرَد لا يوصف بالحجارة؛ لأنه ماء في الحقيقة.
قوله:» مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «منصوب المحلّ متعلق ب» يهبط «، و» من «للتعليل.
وقال أبو البقاء:» من «في موضع نصب ب» يهبط «، كما تقول: يهبط بخشية الله، فجعلها بمعنى» الباء « [المعدية] وهذا فيه نظر لا يخفى.
و «خشية» مصدر مضاف للمفعول تقديره: من أن يخشى الله، وإسناد الهبوط إليها استعارة؛ كقوله: [الكامل]
597 - لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
ويجوز أن يكون حقيقة على معنى: أن الله خلق فيها قابليّةً لذلك.
وقيل: الضمير في «منها» يعود على «القلوب» ، وفيه بُعْد لتنافر الضمائر.(2/190)
قوله: «وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ» قد تقدم في قوله: «وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» .
قال القرطبي: «بغافل» في موضع نصب على لغة «الحِجَاز» ، وعلى لغة «تميم» في موضع رفع.
قوله: «عَمَّا تَعْمَلُونَ» متعلّق ب «غافل» ، و «ما» موصولة اسمية، والعائد الضمير، أي: تعملونه، أو مصدرية فلا يحتاج إليه أي: عن عملكم، ويجوز أن يكون واقعاً موقع المفعول به، ويجوز ألاّ يكون.
وقرىء: يَعْمَلُونَ «بالياء والتاء.
فصل في المقصود بالآية
والمعنى: أن الله بِالْمِرصَاد لهؤلاء القاسية قلوبهم، وحافظ لأعمالهم مُحْصٍ لهان فهو مجازيهم بها وهو كقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] وهذا وعيد وتخويف كبير.
فإن قيل: هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل؟
قال القاضي: لا يصح؛ لأنه يوهم جواز الغَفْلة عليه، وليس الأمر كذلك؛ لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحّتها عليه، بدليل قوله {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] .(2/191)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قال القرطبي: هذا استفهما فيه معنى الإنكار، كأنه أَيْأَسَهُمْ من إيمان هذه الفرقة من اليهود.
ويقال: طَمِع فيه طَمَعاً وطَماعيةً مخفف فهو طَمِعٌ على وزن «فَعِل» وأطمعه فيه غيره.
ويقال في التعجب: طَمُعَ الرُّجل بضم الميم أي: صار كثير الطّمع.
والطمع: رزق الجُنْد، يقال: أمر لهم الأمير بأَطْمَاعهم، أي: بأرزاقهم.
وامرأة مِطْمَاع: تُطْمِعُ وَلاّ تُمَكِّن.
فصل في قبائح اليهود
لما ذكر قَبَائح أفعال أَسْلاف اليهود شرع قَبَائح أفعال اليَهود الذين كانوا في زمن محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.(2/191)
قال القَفّال رَحِمَهُ اللهُ: إن فيما ذكره الله تعالى في [سورة البقرة] من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقاصد.
أحدها: الدلالة بها على صحّة نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر عنها غير تعلّم، وذلك لا يكون إلا بالوَحْي، ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب.
أما أهل الكتاب فكانوا يعلمونها، فلما سمعوها من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من غير تفاوت، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوَحْي.
وأما العرب فلما [شاهدوا] من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار، فلم يكونوا يسمعون هذه الأخبار إلاّ من علماء أهل الكتاب، فيكون ميلهم إلى الطّاعة أقرب.
وثانيها: تعديد النِّعَم على بني إسرائيل، وما مَنَّ الله به على أَسْلاَفهم من أنواع النعم، كالإنْجَاءِ من آل فرعون بعد اسْتِبْعَادهم، وتَصْيِيْرِ أبنائهم أنبياء وملوكاً، وتمكينهم في الأرض، وفَرْق البحر لهم، وأهلاك عَدُوّهم، وإنزال التوراة والصَّفْح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العَجْل، ونَقْض المَوَاثيق، ومسألة النَّظّر إلى الله جَهَرةً، ثم ما أخرجه لهم في التِّيْهِ من الماء من الحَجَر، وإنزال المَنّ والسَّلْوَى وتَظْلِيل الغَمَام من حَرّ الشمس، فذكّرهم بهذه النعم كلها.
وثالثها: إخبار النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقديم كُفْرهم وخلافهم، وتعنّتهم على الأنبياء، وعِنَادهم، وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم، وذلك لأنهم بعد مُشَاهدتهم الآيات الباهرة عَبَدوا العِجْل بعد مفارقة موسى بمدّة يسيرة، ولما أمروا بدخول الباب سُجّداً وأن يقولوا حطّة، ووعدهم أن يغفر لهم خَطَاياهم، ويزيد في ثواب محسنهم، فبدلوا القول وفَسَقوا، وسألوا الفُومَ البَصَلَ بَدَلَ المَنّ والسَّلوى، وامتنعوا من قَبُول التوراة بعد إيمانهم بموسى عليه الصّلاة والسلام وأخذ منهم المَوَاثيق أن يؤمنوا به حين رفع فوقهم الجَبَل، ثم استحلّوا الصيد في السّبت واعتدوا، ثم أمروا بذبح البقرة، فشافهوا موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقولهم: «أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً» .
ثم لما شاهدوا إحْيَاء الموتى ازدادوا قَسْوى، فكأن الله تعالى يقول: إذا كانت هذه أفعالهم مع نبيهم الذي أعزّهم الله به، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فَلْيَهُنْ عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم، وإعراضهم عن الحق.
ورابعها: تحذير أَهْل الكِتَاب الموجودين في زمن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من نزول العذاب علهيم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة.(2/192)
وخامسها: الاحتجاج على من أنكر الإعادة من مشركي العرب مع إقراره بالابتداء كما في قوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى} [البقرة: 73] .
فصل في تسلية النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
اعلم أن المراد تسلية رسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فيما يظهر من أَهْل الكتاب في زمانه من قلّة القبول فقال: «أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ» .
قال الحسن: هو خطاب مع الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والمؤمنين.
قال القاضي: وهذا الأليق بالظاهر، وإن كان الأصل في الدّعاء، فقد كان من الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان، ويظهر لهم الدلائل. قال ابن عَبَّاس: إنه خطاب مع النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خاصّة؛ لأنه هو الدّاعي، وهو المقصود بالاستجابة. واللفظة وإن كانت للعموم لكن حملناها على هذا الخصوص لهذن [القرينة] .
روي أنه حين دخل «المدينة» ودعا اليهود إلى كتاب الله، وكذبوه، فأنزل الله تعالى وسبب هذه الاستعباد ما ذكرناه أي: أتطمعون أن يؤمنوا مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه الصَّلاة والسَّلام الذي كان هو السبب في خَلاَصهم من الذّل، وفضلهم على الكل بظهور المُعْجزات المتوالية على يَدِهِ، مع ظهور أنواع العذاب على المتمردين، فأي استبعاد في عدم إيمان هؤلاء.
فصل في إعراب الآية
قوله: «أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ» ناصب ومنصوب، وعلامة النصب حذف النون والأصل في «أن» وموضعها نصب أو جر على ما عرف، وعدي «يؤمنوا» باللاّم لتضمّنه معنى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم قاله الزمخشري.
فإن قيل: ما معنى الإضافة في قوله: «يُؤْمِنُواْ لَكُمْ» والإيمان إنما هو لله؟
فالجواب: أن الإيمان وإن كان الله فهم الدّاعون إليه كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] لما آمن بنبوّته وتصديقه، ويجوز أن يراد أن يؤمنوا لأجلكم، ولأجل تشدّدكم في دعائهم. قوله: «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ» «الواو» : للحال.
قال بعضهم: وعلامتها أن يصلح موضها «إذ» ، والتقدير: أفتطمعون في إيمانهم، والحال أنهم كاذبون محرفون لكلام الله تعالى.
و «قد» مقربة للماضي من الحال سوّغت وقوعه حالاً.
و «يَسْمَعُون» خبر «كان» .(2/193)
و «منهم» في محلّ رفع صفة ل «فريق» ، أي: فريق كائن منهم.
قال سيبويه: واعلم أن ناساً من ربيعة يقولون: «مِنْهِم» بكسر الهاء إتباعاً لكسرة الميم.
لم يكن المسكن حاجزاً حصيناً عندهم.
و «الفريق» اسم جمع لا واحد له من لفظه ك «رَهْط وَقَوْم» ، وجمعه في أدنى العدد «أَفْرقه» ، وفي الكثير «أفْرِقَاء» .
و «يَسْمَعُون» نعت ل «فريق» ، وفيه بعد، و «كان» وما في حَيّزها في محلّ نصب على ما تقدم.
وقرىء: «كَلِمَ اللهِ» وهو اسم جنس واحدة كلمة، وفرّق النحاة بين الكلام والكلم، بأن الكلام شرطه الإفادة، والكلم شرطه التركيب من ثلاث فصاعداً؛ لأنه جمع في المعنى، وأقلّ الجمع ثلاثة، فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه، وهل «الكلام» مصدر أو اسم مصدر؟ خلاف.
والمادة تدل على التأثير، ومنه الكَلْم وهو الجُرْح، والكَلاَم يؤثر في المخاطب.
قال الشاعر: [المتقارب]
598 - ... ... ... ... ... . ... وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ
ويطلق الكلام لغة على الخَطِّ والإشارة؛ كقوله: [الطويل]
599 - إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالعُيُونِ الفَوَاتِرِ ... رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوادِرِ
وعلى النفساني؛ قال الأخطل: [الكامل]
600 - إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنِّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاً
وقيل: لم يوجد هذا البيت في ديون الأخطل.(2/194)
وأما عند النحويين [فيطلق] على اللّفظ المركب المفيد بالوضع.
و «ثم» للتراخي إما في الزمان أو الرتبة.
و «التحريف» : الإمالة والتحويل، وأصله من الانحراف عن الشيء، ويقال: قلم محرّف إذا كان مائلاً.
قوله: «منْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ» متعلق ب «يحرفونه» ، و «ما» يجوز أن تكن موصولة اسمية، أي: ثم يحرفون الكلام من بعد المعنى الذي فهموه وعرفوه، ويجوز أن تكون مصدرية.
والضمير في «عقلوه» يعود حينئذ على الكلام أي: من بعد تعقلهم إياه.
قوله: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» جملة حالية، وفي العامل قولان:
أحدهما: «عقلوه» ، ولكن يلزم منه أن تكون حالاً مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من قوله: «عقلوه» .
والثاني وهو الظاهر: أنه «يحرفونه» ، أي: يحرفونه حال علمهم بذلك.
فصل في تعيين الفريق
قال بعضهم: الفريق مَنْ كان في زمن موسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنه وصفهم بأنهم سمعوا كلام الله، والذين سمعوا كلام الله هم أهل المِيْقَاتِ.
قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السَبعين المختارين الذين ذهبوا مع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى المِيْقَات، سمعوا كلام الله، وأمره ونهيه، فلما رجعوا إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم، وأما الصادقون منهم فأدّوا كما سمعوا.
قالت طائفة منهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم ألاَّ تفعلوا فلا بأس.
قال القرطبي: ومن قال: إنّ السبعين سمعوا كما سمع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى، واختصاصه بالتكليم.
وقال السُّدِّي وغيرهك لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلمَّا فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان موسى عليه الصلاة والسَّلام، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} [التوبة: 6] .
ومنهم من قال: المراد بالفريق مَنْ كان في زمن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما غيّروا آية(2/195)
الرجم، وصفة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم يعلمون أنهم كاذبون، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسدي وهذا أقرب؛ لأن الضمير في قوله: «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ» راجع إلى ما تقدم من قوله: «أَفتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» والذي تعلّق الطبع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقولهم: الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا المِيْقَات ممنوع؛ لأن من سمع التوراة والقرآن يجوز أن يقال: إنه سمع كلام الله.
فإن قيل: كيف يلزم من إقدام البعض على التَّحْريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟
أجاب القَفّال فقال: يحتمل أن يكون المعنى يؤمن هؤلاء، وهم إنما يأخذون دينهم، ويتعلمونه من علمائهم وهم قوم يتعمدون التحريف عناداً، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وعرفوه.
فصل في كلام القدرية والجبرية
قوله: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» استفهام على سبيل الإنكار، فكان ذلك جَزماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة، وإيمانُ من أخبر الله تعالى عنهم بأنه لا يؤمن ممتنع، فحينئذ تعود الوجوه المذكورة للقدرية والجبرية.
قال القاضي: قوله: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لكمْ» يدل على أن إيمانهم من قلبهم؛ لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغّير حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدّم ذكرهم، ولما صحّ كون ذلك تسليةً للرسول وللمؤمنين؛ لأن الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك، وزواله موقف على ألا يخلقه فيهم.
وأيضاً إعظامه تعالى لكذبهم في التحريف من حيث فعلوه، وهم يعلمون صحته.
وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم يدلّ على ذلك، واعلم أن الكلام عليه قد تقدم جوابه مراراً.
فصل في ذم العالم المعاند
قال أبو بكر الرازي: الآية تدلّ على أن العالم المعاند أبعد من الرّشد، وأقرب إلى اليأس من الجاهل؛ لأن تعمّده التحريف مع العلم بما فيه من العذاب يكون أشد قسوة، وأعظم جناية.
فصل في بيان أنهم إنما فعلوا ذلك لأغراض
فإن قيل: إنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض كما قال تعالى:
{واشتروا بِهِ ثَمَناً(2/196)
قَلِيلاً} [آل عمران: 187] وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] .
قال ابن الخطيب: ويجب أن يكونوا قليلين؛ لأن الجَمْع العظيم لا يجوز عليم كِتْمَان ما يعتقدون؛ لأنا إنْ جوزنا ذلك لم نعلم المحق من المبطل، إن كثر العدد.
فإن قيل: قوله: «عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» تكْرار.
أجاب القَفّال رضى الله عنه بوجهين:
أحدهما: «مَنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوا مراد الله تعالى منه» ، فأوّلوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى.
والثاني: أنهم عقلوا مراد الله تَعَالى، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم العذاب والعقوبة من الله تعالى.
واعلم أن المقصود من ذلك تسلية الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى.(2/197)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
روي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى عليه وسلم قالوا لهم: آمنا بالذي آمنتم به، نشهد أنَّ صاحبكم صادق، وأنَّ قوله حقّ، ونجده بِنَعْتِهِ وصفته في كتابنا، ثم إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض قال الرؤساء كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ووهب بن يهودا وغيرهم أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نَعْتِهِ وصفته ليحاجوكم به.
قال القَفَّال رَحِمَهُ اللهُ تعالى في قوله تعالى: {فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} : مأخوذ من قولهم: فتح الله على فلان في علم كذا أي [رزقه الله ذلك] وسهل له طلبه.
قال الكَلْبي: بما قضى الله عليكم من كتابكم أن محمداً حق، وقوله صِدْق، ومنه قبل للقاضي: الفَتَّاح بلغة «اليَمَن» .
وقال الكِسَائي: ما بَيّنه الله عليكم.
وقال الواقدي: بما أنزل الله عليكم نظيره {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] أي: أنزلنا.(2/197)
وقال أبو عبيدة والأخفش: بما مَنَّ الله عليكم به، وأعطاكم من نصركم على عدوكم.
وقيل: بما فتح الله عليكم أي: أنزل من العذاب ليعيركم به، ويقولون فمن أكرم على الله منكم.
وقال مجاهد والقاسم بن أبي بزّة: هذا قول يهود «قُرَيظة» بعضهم لبعض حين سبهم النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: «يَا إخْوَانَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ» فَقَالُوا: من أخبر محمداً بهذا؟ ما خرج هذا إلاَّ منكم.
وقيل: الإعلام والتبيين بمعنى: أنه بيّن لكم صفة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
فصل في إعراب الآية
قد تقدّم على نظير قوله: «وإذ لَقُوا» في أول السورة وهذه الجملة الشرطية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون مستأنفة كاشفة عن أحوال اليهود والمنافقين.
والثاني: أن تكون في محلّ نصب على الحال معطوفة على الجملة الحالية قبلها وهي: «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ» والتقدير: كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت وكيت؟
وقرأ ابن السّميفع: «لاَقوا» وهو بمعنى «لقوا» فَاعَل بمعنى فَعِل نحو: «سافر» وطارقت النعل:
وأصل «خلا» : «خَلَو» قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وتقدم معنى «خلا» و «إلى» في أول السورة.
قوله: {بِمَا فَتَحَ الله} متعلق ب «التحديث» قبله، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» والعائد محذوف، أي: فتحه.
وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون نكرة موصوفة أو مصدرية، أي: شيء فتحه، فالعائد محذوف أيضاً، أو بِفَتْحِ الله عليكم.
وفي جعلها مصدرية إشكال من حيث إنَّ الضمير في قوله بعد ذلك: «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ» عائد على «ما» و «ما» المصدرية حرف لا يعود عليها ضمير على المشهورن خلافاً للأخفش، وأبي بكر بن السراج، إلاّ أن يُتَكَلّف فيقال: الضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» أو من قوله: «فتح» ، أي: ليحاجُّوكم بالتحديث الذي حدّثتموهم، أو بالفتح الذي فتحه الله عليكم.(2/198)
والجملة في قوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» في محلّ نصب بالقول، قال القُرْطبي: ومعنى فتح: حكم.
والفتح عند العرب: القضاء والحكم، ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89] أي: الحاكمين. والفتاح: القاضي بلغة «اليمن» ، يقال: بيني وبينك الفَتّاح، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم.
والفتح: النصر، ومنه قوله: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 89] وقوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] .
قوله: «لِيُحَاجُّوكُمْ» أي: ليخاصموكم، ويحتجوا بقولكم عليكم، وهذه اللام تسمى لام «كي» بمعنى أنها للتعليل، كما أن «كي» كذلك لا بمعنى أنها تنصب ما بعدها بإضمار ب «كي» كما سيأتي، وهي حرف جر، وإنما دخلت على الفعل؛ لأنه منصوب ب «أن» المصدرية مقدّرة بعدها، فهو معرب بتأويل المصدر أي: للمُحَاجَّة، فلم تدخل إلاّ على اسم، لكنه غير صريح.
والنصب ب «أن» المضمرة كما تقدم لا ب «كي» خلافاً لابن كَيْسَان والسّيرافي، وإن ظهرت بعدها نحو قوله تعالى: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} [الحديد: 23] لأن «أن» هي أم الباب، فادعاء إضمارها أولى من غيرها.
وقال الكوفيون: النَّصْب ب «اللام» نفسها، وأن ما يظهر بعدها من «كي» ، ومن «أَنْ» إنما هو على سبيل التأكيد، وللاحتجاج موضعٌ غير هذا.
ويجوز إظهار «أن» وإضمارها بعد هذه «اللام» إلاَّ في صورة واحدة، وهي إذا وقع بعدها «لا» نحو قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} [البقرة: 150] وذلك لما يلزم من توالي لاَمَيْنِ، فَيثْقُل اللفظ.
والمشهور في لغة العرب كسر هذه اللام؛ لأنها حرف جر، وفيها لغة شاذة وهي الفتح.
قال الأخفش: «لأن الفتح الأصل» .
قال خلف الأحمر: هي لغة بني العَنْبَر. وهذه اللام متعلّقة بقوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» .
وذهب بعضهم إلى أنها متعلّقة ب «فتح» وليس بظاهر؛ لأن المُحَاجَّة ليست علّة للفتح، وإنما هي نشأت عن التحديث، اللهم إلا أن يقال: تتعلّق به على أنها لام العاقبة، وهو قول قيل به، فصار المعنى أن عاقبة الفتح ومآله صار إلى أن يحاجُّوكم.
أو تقول: إن اللاَّم لام العلة على بابها، وإنما تعلّقت ب «فتح» ؛ لأنه سبب للتحديث، والسبب والمسبب في هذا واحد.
والحُجّة: الكلام المستقيم على الإطلاق، ومن ذلك محجّة الطريق، وحاججت(2/199)
فلاناً [فحججته] أي: غالبته، ومنه الحديث: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» ، وذلك لأن الحجّة نفي الطَّريق المسلوك الموصّلة للمراد.
والضمير في «به» يعود على «ما» من قوله تعالى: {بِمَا فَتَحَ الله} وقد تقدم أنه يضعف القول بكونها مصدرية، وأنه يجوز أن يعود على أحد المصدرين المفهومين من «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» و «فتح» .
قوله: «عِنْدَ رَبِّكُمْ» ظرف معمول لقوله: «لِيُحَاجُّوكُمْ» بمعنى: ليحاجُوكم يوم القيامة، فيكون ذلك زائداً في ظهور فضيحتكم على رؤوس الخَلاَئق في الموقف، فكنى عنه بقوله: «عِنْدَ رَبِّكُمْ» قاله الأصم وغيره.
وقال الحسن: «عند» بمعنى «في» أي: ليحاجُّوكم في ربكم أي: فيكونون أحقّ به منكم.
وقيل: ثم مضاف محذوف أي: عند ذكر ربكم. وقال القَفّال رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يقال: فلان عندي عالم أي: في اعتقادي وحُكْمي، وهذا عند الشَّافعي حَلاَل، وعند أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ تعالى حرام أي: في حكمهما وقوله: «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ» أي: لتصيروا محجوجين [عند ربكم] بتلك الدلائل في حكم الله.
ونظيره تأويل بعض العلماء قوله: {يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} [النور: 13] اي: في حكم الله وقضائه أن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقاً.
وقيل: هو معمول لقوله: «بِمَا فَتَحَ اللهُ» أي: بما فتح الله من عند ربّكم ليحاجّوكم، وهو نَعْته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأخذ ميثاقهم بتصديقه.
ورجّحه بعضهم وقال: هو الصحيح؛ لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدّنيا.
وفي هذا نظر من جهة الصناعة، وذلك أن «ليُحَاجُّوكُمْ» متعلق بقوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ»(2/200)
على الأظهر كما تقدم، فيلزم الفَصْل به بين العامل وهو «فتح» وبين معمول وهو عند ربك وذلك لا يجوز؛ لأنه أجنبي منهما.
قوله: «أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» في هذه الجملة قولان:
أحدهما: أنها مندرجة في حَيِّز القول، أي: إذا خَلاَ بعضهم ببعض قالوا لهم: أتحدثونهم بما يرجع وَبَاله عليكم وصِرْتُم محجوجين به، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق، وهذا أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم، فَعَلَى هذا محلها النصب.
والثاني: أنها من خطاب الله تعالى للمؤمنين، وكأنه قدح في إيمانهم، لقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} [البقرة: 75] قاله الحسن.
فعلى هذا لا محلّ له، ومفعول «تعقلون» يجوز أن يكون مراداً، ويجوز ألاّ يكون.
قوله: «أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ» تقدم أن مذهب الجمهور أن النّية بالواو والتقديم على الهمزة؛ لأنها عاطفة، وإنما أخزت عنها، لقوة همزة الاستفهام، وأن مذهب الزمخشري تقدير فعل بعد الهمزة و «لا» للنفي.
و «أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ» في محلّ نصب وفيها حينئذ تقديران:
أحدهما: أنها سادّة مسدّ مفرد إن جعلنا «علم» بمعنى «عرف» .
والثاني: أنها سادّة مسدّ مفعولين إن جعلناها متعدية لاثنين ك «ظننت» ، وقد تقدم أن هذا مذهب سيبويه والجمهور، وأن الأخفش يدعي أنها سدّت مسدّ الأول، والثاني محذوف. و «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي» ، وعائدها محذوف، اي: ما يسرونه ويعلنونه، وأن تكون مصدرية، أي يعلم سرهم وعلانيتهم. [والسر] والعلانية يتقابلان.
وقرأ ابن محيصن «تسرون» و «تعلنون» بالتاء على الخطاب.
فصل في أن المراد بالسؤال هو التخويف والزجر
في الآية قولان:
الأول: وهو قول الأكثرين أن اليهود كانوا يعرفون أن الله يعلم السّر والعلانية، فخوّفهم به.
والثاني: أنهم ما علموا بذلك، فرغبهم بهذا القول في أن يتفكّروا، فيعرفوا أن(2/201)
ربهم يعلم سرهم وعلانيتهم، وأنهم لا يأمنون حلول العِقَابِ بسببِ نِفَاقِهِمْ، وعلى كلا القولين فهذا الكلام زَجْر لهم عن النفاق، وعن وصية بعضهم بعضاً بكتمان دلائل نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك؛ لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر: أو لا يعلم كيف وكيت، إلاّ وهو عالم بذلك الشيء، ويكون ذلك زاجراً له عن ذلك الفعل.
فصل في الاستدلال بالآية على أمور
قال القاضي: الآية تدلّ على أمور منها:
أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد، فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال، ومنها أنها تدلّ على صحّة الحجاج والنظر وأن ذلك قد كان على طريقة الصّحابة والمؤمنين.
ومنها أنها تدلّ على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرماً.(2/202)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
واعلم أنه تعالى لما وصف اليهود العِنَادِ، وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم، فالفرقة الأولى هي الضَّالة والمضلّة، وهم الذين يحرّفون لكلم عن مواضعه.
والفرقة الثانية: المنافقون.
والفرقة الثالثة: الذين يُجَادلون المنافقين.
والفرقة الرابعة: هم المذكورون هنا، وهم العامة الأمّيون الذين لا يعرفون القراءة، ولا الكتابة، وطريقتهم التقليد وقَبُول ما يقال لهم، فبين الله تعالى أن المُمْتَنِعِينَ عن الإيمان ليس سبب ذلك واحداً، بل لكل قسم سبب.
وقال بعضهم: هم بعض اليهود والمنافقين.
وقال عكرمة والضَّحاك: «هم نصارى العرب» .
وقيل: «هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها، فصاروا آمنين» . وعن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه هم المجوس.
قولهك «مِنْهُمْ» خبر مقدم، فتعلّق بمحذوف. و «أمّيون» مبتدأ مؤخر، ويجوز على رأي الأخفش أن يكون فاعلاً بالظرف قبله، وإن لم يعتمد.
وقد بنيت على ماذا يعتمد فيما تقدم.(2/202)
و «أُمِّيُّونَ» جمع «أمّي» وهو من لا يَكْتب ولا يَقْرأ.
واختلف في نسبته فقيل: إلى «الأمّ» وفيه معنيان:
أحدهما: أنه بحال أُمّه التي ولدته من عدم معرفة الكتابة، وليس مثل أبيه؛ لأن النساء ليس من شُغْلهن الكتابة.
والثاني: أنه بحاله التي ولدته أمه عليها لم يتغير عنها، ولم ينتقل.
وقيل: نسب إلى «الأُمَّة» وهي القَامَة والخِلْقَة، بمعنى أنه ليس له من النَّاس إلا ذلك.
وقيل: نسب إلى «الأُمَّة» على سَذَاجتها قبل أن يَعْرِف الأشياء، كقولهم: عامي أي: على عادة العامة.
وعن ابن عَبَّاس: «قيل لهم: أميون؛ لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب» .
وقال أبو عبيدة: «قيل لهم: أُميون، لإنْزَال الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا لأم الكتاب» .
وقرأ ابن أبي عَبْلة: «أُمِّيُون» بتخفيف الياء كأنه استثقل توالي تضعيفين.
وقيل: الأمي: من لا يُقِرّ بكتاب ولا رسول.
قوله: «لاَ يَعْلَمُونَ» جملة فعلية في محلّ رفع صفة ب «أميون» ، كأنه قيل: أميون غير عالمين.
قوله: «إلاَّ أَمَانِيَّ» هذا استثناء منقطع؛ لأن «الأماني» ليست من جنس «الكتاب» ، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهذا هو المُنْقطع، ولكن شرطه أن يتوهّم دخوله بوجه ما، كقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} [النساء: 157] وقوله النَّابغة: [الطويل]
601 - حَلَفْتُ يَمِيناً غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةِ ... وَلاَ عِلْمَ إِلاَّ حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ
لأن بذكر العلم اسْتُحضِر الظن، ولهذا لا يجوز: صَهَلَتِ الخيل إلاَّ حماراً.
واعلم أن المنقطع على ضربيين: ضرب يصحّ توجه العامل عليه، نحو: جاء القوم إلاّ حماراً.
وضرب لا يتوجه نحو ما مثل به النحاة: «ما زاد إلا ما نقص» ، و «ما نفع إلا ما ضر» فالأول فيه لُغتَان: لغة «الحجاز» وجوب نصبه، ولغة «تميم» أنه كالمتّصل، فيجوز فيه بعد النفي وشبهه النصب والإتباع.(2/203)
والآية الكريمة من الضرب الأولن فيحتمل في نصبها وَجْهَان:
أحدهما: على الاستثناء المنقطع.
والثاني: أنه بدل من «الكتاب» .
و «إلاّ» في المنقطع تقدر عند البصريين ب «لَكِنَّ» ، وعند الكونفيين ب «بل» ، وظاهر كلام أبي البقاء أن نصبه على المصدر بفعل مَحْذُوف، فإنه قال: «إلا أماني» اسثناء منقطع؛ لأن الأماني ليس من جنس العلم، وتقدير «إلاّ» في مثل هذا ب «لكن» أي: لكن يتمنونه أماني، فيكون عنده من باب الاستثناء المفرّغ المنقطع، فيصير نظير: «ماعلمت إلا ظنّاً» . [وفيه نظر] .
الأَمَاني مع «أُمْنِيَّة» بتشديد الياء فيها.
وقال ابو البَقَاءِ: «يجوز تخفيفها فيها» .
وقرأ أبو جعفر بتخفيفها، حَذَفَ إحدى الياءين تخفيفاً.
قال الأخفشك «هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفتاح ومفاتيح» .
قال النَّحَّاس: «الحذف في المعتلّ اكثر» ؛ وأنشد قول النابغة: [الطويل]
602 - وَهَلْ يُرْجِعُ التَّسْلِيمَ أو يَكْشِفُ العَمَى ... ثَلاثُ الأَثافِي والرُّسُومُ البَلاَقِعُ
وقال أبو حَاتِمٍ: «كلّ ما جاء واحده مشدداً من هذا النوع فلك في الجمع الوجهان» . وأصله يرجع إلى ما قال الأخفش.
ووزن «أمنية» : «أُفْعُولَة» من تَمَنَّى يَتَمَنَّى: إذا تلا وقرأ؛ قال: [الطويل]
603 - تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ آخِرَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وقال كعب بن مالك: [الطويل]
604 - تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وآخِرَهُ لاَقى حِمَامَ المقَادِرِ(2/204)
وقال تعالى: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي: قرأ وتلا. والأصل على هذا: «أُمْنُويَة» فأعلت إعلال «ميت» و «سيد» وقد تقدم.
وقيل: الأمنية: الكذب والاختلاق.
قال أعرابي لابن دَأْب في شيء يحدث به: أهذا الشيء رويته أم تمنيته أي: اختلقته.
وقيل: ما يتمّناه الإنسان ويشتهيه.
وقيل:: ما يقدره ويحزره من مَتَّى: إذا كذب، أو تمنى، أو قدر؛ كقوله: [البسيط]
605 - لاَ تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ في حَرَمٍ ... حَتَّى تُلاَقِيَ مَا يَمْنِي لَكَ المَانِي
أي: يقدر لك المقدر.
قال الراغب: والمني: التقدير، ومنه «المَنَا» الذي يُوزَن به، ومنه «المنية» وهو الأجل المقدر للحيوان، «والتَّمَنِّي» : تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن ظنّ وتخمين، وقد يكون بناء على رَوِيَّةٍ وأصل، لكن لما كان أكثره عن تخمين كان الكذب أملك له، فأكثر التمني تصوّر ما لاحقيقة له [والأمنية: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء] .
ولما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ الدَّال صار التمني كالمبدأ للكذب فعبر عنه.
ومنه قوله عثمان: «ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت» .
وقال الزمخشري: والاشتقاق من منَّى: إذا قدَّر؛ لأن المتمني يُقَدِّرُ في نفسه، ويَحْزر ما يتمناه، وكذلك المختلق، والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا، فجعل بين هذه المعاني قدراً مشتركاً وهو واضح.(2/205)
وقال أبو مسلم: حَمْله على تمني القلب أولى بقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111] .
وقال الأكثرون: حمله على القراءة أليق؛ لأنا إذا حَمَلْنَاه على ذلك كان له به تعلّق، فكأنه قال: لا يعلمون الكتاب إلاَّ بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه، ثم إنَّهُمْ لا يتمكّنون من التدبُّر والتأمل، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً.
قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} «إن» نافية بمعنى «ما» وإذا كانت نافية المشهور أنها لا تعمل عمل «ما» الحِجَازية.
وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه، وأنشد: [المنسرح]
606 - إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ ... إلاَّ عَلَى أَضْعَفِ المَجَانِينِ
«هو» اسمها، و «مستولياً» خبرها.
فقوله: «هم» في محل رفع الابتداء لا سام «إن» لأنها لم تعمل على المشهور، و «إلا» للأستثناء المفرغ، ويظنون في محلّ الرفع خبراً لقوله «هم» .
وحذف مفعولي الظَّن للعمل بهما واقتصاراً، وهي مسألة خلاف.
فصل في بطلان التقليد في الأصول
الآية تدلّ على بطلان التقليد.
قال ابن الخطيب: وهو مشكل؛ لأن التقليد في الفروع جائز عندنا.
قوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب} «ويل» مبتدأ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة، لأنه دعاء عليهم، والدعاء من المسوغات، سواء كان دعاء له نحو: «سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ» أو دعاء عليه كهذه الآية، والجار بعده الخبر، فيتعلّق بمحذوف.
وقال أبو البقاء: ولو نصب لكان له وجه على تقدير: ألزمهم الله ويلاً، واللام(2/206)
للتبيين؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني: أن اللام بعد المنصوب للبيان، فيتعلّق بمحذوف. وقوله: لأن الاسم لم يذكر قبل، يعني أنه لو ذكر قبل «ويل» فقلت: «ألزم الله زيداً ويلاً» لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر. وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب، فإنه قال: ويجوز النصب على إضمار فعل أي: ألزمهم الله ويلاً.
واعلم أن «وَيْلاً» وأخواته وهي: «وَيْح» و «وَيْس» و «وَيْب» و «وَيْه» و «ويك» و «عَوْل» من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها، وتلك الأَفْعَال واجبة الإضمار، لا يجوز إظهارها ألبتة؛ لأنها جعلت بدلاً من اللفظ بالفعل، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحوك «ويل له» وإن أضيف نصب على ما تقدم، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قَطْعه عن الإضافة، فإنه قال: فإذا أدخلت اللاّم رفعت فقلت: «ويل له» و «ويح له» كأنه يريد على الأكثر، ولم يستعمل العرب منه فعلاً؛ لاعتلال عنيه وفائه.
وقد حكى ابن عرفة: «تَوَيَّلَ الرجل» إذا دعا بالوَيْلِ. وهذا لا يرد؛ لأنه مثل قولهم: سَوَّفْتَ ولَوْلَيت إذا قلت له: سَوْفَ وَلَوْ.
ومعنى الويل: شدة الشر، قاله الخليل.
وقال الأَصْمَعِيّ: الويل: التفجُّع، والويح: الترحم.
وقال سيبويه: وَيْلٌ لمن وقع في الهَلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلاك.
وقيل: الويل: الحزن.
وهل «ويل وويح وويس وويب» بمعنى واحد أو بينها فرق؟ خلاف فيه، وقد تقدم ما فرقه به سيبويه في بعضها.
وقال قوم: «ويل» في الدعاء عليه، و «ويح» وما بعده ترحم عليه.
وزعم الفراء أنّ أَصْل «ويل» : وَيْ، أي: حزن، كما تقول: وي لفلان أي حُزْنٌ له، فوصلته العرب باللاّم، وقدرت أنها منه فأعربوها، وهذا غريب جدَّا.
ويقال: وَيْلٌ وَوَيْلَة.
وقال امرؤ القيس [الطويل](2/207)
607 - لَهُ الوَيْلُ إنْ اَمْسَى وَلاَ أُمُّ عَامِرٍ ... لَدَيْه وَلاَ البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
وقال أيضاً: [الطويل]
608 - وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فَقَالَتْ: لَكَ الوَيْلاَتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي
ف «وَيْلات» جمع «وَيْلة» لا جمع «وَيْل» كما زعم ابن عطية؛ لأن جمع المذكر بالألف والتاء لا ينقاس.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: «الويل العذاب الأليم» ، وعن سفيان الثورى أنه قال: «صديد أهل جهنم» . [وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «الوَيْلُ وَادٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ»
] . وقال سعيد بن المسيب: «وَادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حره» .
وقال ابن يزيد: «جبل من قَبح ودم» .
وقيل: صهريج في جهنم.
وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جَهَنَّم.
وعن ابن عباس: الويل المشقّة من العذاب.
وقيل: ما تقدم في اللغة.
قوله: «بِأَيْدِيْهِمْ» متعلّق ب «يكتبون» ، ويبعد جعله حالاً من «الكتاب» ، والكتاب هنا بعض المكتوب، فنصبه على المفعول به، ويبعد جعله مصدراً على بابه، وهذا من باب التأكيد، فإن [الكتابة] لا [تكون] بغير اليد، [ونظيره] :
{وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ(2/208)
بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] .
وقيل: فائدة ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم، ولم يأمروا به غيرهم، فإنّ قولهم: فعل كذا يحتمل أنه أمر بفعله ولم يباشره، نحو: «بنى الأمير المدينة» فأتى بذلك رفعاً لهذا المجاز.
وقيل: فائدة [ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم، ولم يأمروا به غيرهم. ففائدته] بيان جرأتهم ومجاهرتهم، فإن المُبَاشر للفعل أشدّ مواقعة ممن لم يباشره.
وهذان القولان قريبان من التأكيد، فإنَّ أصل التأكيد رفع توهّم المجاز.
وقال ابن السراج: ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلْقَائهِمْ، ومن عند أنفسهم، وهذا الذي قاله لا يلزم.
والأيدي: جمع «يد» ، والأصل: أَيْدُيٌ بضم الدال ك «فلس وأفلس» في القِلّة، فاستثقلت الضمة قبل الياء، فقلبت كسرة للتجانُس، نحو: «بيض» جمع «أبيض» ، والأصل «بُيْض» بضم الباء ك «حمر» جمع «أحمر» ، وهذا رأي سيبويه، أعني أنه يقر الحرف ويغير الحركة، ومذهب الأخفش عكسه، وسيأتي تحقيق مذهبهما عند ذكر «معيشة» إن شاء الله تعالى.
وأصل «يد» : يَدْيٌ بسكون العين.
وقيل: يَدَيٌ بتحريكها فَتحرَّكَ حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً، فصار: يَداً ك «رَحًى» وعليه التثنية: يَدَيَانِ [وعليه أيضاً قوله: [الزجز]
609 - يَارُبَّ سَارٍ بَاتَ ما تَوَسَّدَا ... إلاَّ ذِرَاعَ العَنْزِ أَوْ كَفَّ اليَدَا]
[والمشهور في تثنيتها عدم ردِّ لامها، قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] وقد شذّ الردُّ في قوله: يَدَيَانِ؛ قال: [الكامل]
610 - يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ عِنْدَ مُحَلَّمٍ ... قَدْ يَمْنَعَانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرَا
و «أياد» جمع الجمع، نحو: كلب وأكلب وأكالب، ولا بد في قوله: «يَكْتُبُونَ الكِتَابَ» من حذف يصح معه المعنى، فقدره الزمخشري: «يكتبون لكتاب المحرف» ، وقدره غيره حالاً من الكتاب تقديره: ويكتبون الكتاب محرفاً، وإنما [أحوج] إلى هذا(2/209)
الإضمار؛ لأن الإنكار لا يتوجّه على من كتب اللكتاب بيده إلا إذا حرفه غيره.
قوله: «لِيَشْتَرُوا» اللام: لام كي، وقد تقدمت، والضمير في «به» يعود على ما أشاروا إليه بقوله «هذا من عند الله» .
و «ثَمَناً» مفعوله.
وقد تقدّم تحقيق دخول الباء على غير الثمن عند قوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] فليلتفت إليه، واللاّم متعلقة ب «يقولون» أي: يقولون ذلك لأجل الاشتراء.
وأبعد من جعلها متعلّقة بالاستقرار الذي تضمنه قوله: «مِنْ عِنْد اللهِ» .
قوله: «مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ» متعلّق ب «ويل» أو بالاستقرار في الخبر.
و «من» للتعليل و «ما» موصولة اسمية، والعائد محذوف، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة.
والأول أقوى، والعائد أيضاً محذوف أي: كتبته، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: من كَتْبِهِمْ.
و «وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» مثل ما تقدم قبله، وإنما كرر الوَيْل؛ ليفيد أن الهَلَكَة متعلقة بكل واحد من الفعلين على حِدَته لا بمجموع الأمرين، وإنا قدم قوله: «كَتَبَتْ» على «يَكْسِبُون» ؛ لأن الكتابة مقدمة، فنتيجتها كَسْب المال، فالكَتْب سبب والكَسْب مسبب، فجاء النظم على هذا.
فصل في سبب هذا الوعيد
هذا الوعيد مرتّب على أمرين: على الكتابة الباطلة لقصد الإضلال، وعلى أن المكتوب من عند الله، فالجمع بينهما منكر عظيم.
وقوله: «لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً» تنبيه على أمرين:
الأول: أنه يدلّ على نهاية شقاوتهم؛ لأن العاقل لا يرضى بثمن قليل في الدنيا يحرمه الأجر العظيم الأبدي في الآخرة.
والثاني: إنما فعلوا ذلك طلباً للمال والجَاهِ، وهذا يدلّ على أن أخْذَ المال بالباطل وإن كان بالتّراضي فهو مُحَرّم؛ لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان عن محبة ورضا.
وقوله: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} دليل علىأخذهم المال عليه، فلذلك كرر [ذكر] الويل.
واختلفوا في قوله: «يَكْسِبُونَ» هل المراد سائر معاصيهم، أو ما كانوا يأخذون على الكتابة والتحريف؟(2/210)
والأقرب في نظم الكلام أنه راجعٌ إلى الكَسْب المأخوذ على وجه الكتابة والتحريف، وإن كان من حيث العموم أنه يشمل الكل.
فصل في الرد على المعتزلة
قال القاضي: دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم: «هو من عند الله» حقيقة؛ لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فَهَبْ أن العبد يكتسب إلا أن نسبة ذلك الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب، فكان إسناد تلك الكتابة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العَبْدِ، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها: إنها من عند الله، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتابة ليست مخلوقة لله تعالى.
والجواب: أنَّ الداعية الموجبة لها من خَلْق الله كما تقدم في مسألة الداعي.
فصل
يروى أن أَحْبار اليهود خافوا ذهاب كَلِمتهم ومآكلهم وزوال رِيَاستهم حين قدم رسول الله صلى لله عليه وسلم «المدينة» فاحْتَالوا في تَعْويق اليهود عن الإيمان، فعمدوا إلى صفة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة فغيّروها، وكان صفته فيها حَسَن الوجه، حَسَن الشعر، أَكْحَل العينين رَبْعة القامة فغيّروها وكتبوا مكانها طويلاً أَزْرق سَبْطَ الشعر، فإذا سألهم سَفَلتهم عن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرءوا ما كتبوه عليهم، فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه.
وقال أبو مَالِكٍ: نزلت هذه الآية في الكاتب الذي كان يكتب لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيغير ما يملي عليه.
روى الثعلبي بإسناده عن أنس أن رجلاً كان يكتب للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان قد قرأ «البقرة» و «آل عمران» وكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا «غفوراً رحيماً» فكتب «عليماً حكيماً» فيقول له النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اكْتُبُ كَيْفَ شِئْتَ» قال: فارتد ذلك الرجل عن الإسلام، ولحق بالمشركين فقال: أنا أعلمكم بمحمد إنِّي كنت أكتب ما شئت، فمات ذلك الرجل فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الأَرْضَ لاَ تَقْبَلُهُ» قلا: فأخبرني أبو طَلْحَة: أنه أتى الأرض التي مات فيها، فوجده منبوذاً.(2/211)
قال أبو طلحة: ما شأن هذا الميت؟ قالوا دفناه مراراً فلم تقبله الأرض.(2/212)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
فقوله: «إلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً» استثناء مفرّغ، و «أيَّاماً» منصوب على الظرف بالفعل قبله، والتدقير: لن تَمّسنا النار أبداً إلاّ أياماً قلائل يَحْصُورُها العَدُّ؛ لأن العد يحصر القليل، وأصل: «أيّام» : أَيْوَام؛ لأنه جمع يوم، نحو: «قوم وأقوام» ، فاجتمع الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فوجب قلب الواو ياء، وإدغام الياء في الياء مثل: «هَيّت وميّت» ؟
فصل
ذكروا في الأيام المعدودة وجهين:
الأول: أن لفظه الأيام [لا تضاف إلا إلى العشرة فما دونها، ولا تضاف إلى ما فوقها، فيقال: أيام خمسة، وأيام عشرة، ولا يقال: أيام أحد عشر. إلاَّ أن هذا] يشكل بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] إلى أن قال: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] وهي أيام الشهر كله، وهي أزيد من العشرة.
قال القاضي: إذا ثبت أن الأيام محمولة على العَشْرة فما دونها، فالأشبه أن يقال: إنه الأقل أو الأكثر؛ لأن من يقول ثلاثة يقول: أحمله على أقل الحقيقة فله وجه، ومن يقول: عشرة يقول: أحمله على الأكثر وله وجه.
فأما حمله على أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له؛ لأنه ليس عَدَدٌ أولى من عَدَدٍ، اللهم إلا إنْ جاءت في تقديرها رواية صحيحة، فحينئذ يجب القول بها.
روي عن ابن عباس ومجاهد: أن اليهود كانت تقول: «الدنيا سبعة آلاف سنة، فالله يعذب على كلّ ألف سنة يوماً واحداً» .
وحكى الأصم عن بعض اليهود: أنهم عبدوا العِجْل سبعة أيام.
وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: أنه قدر هذه الأيام بالأربعين، وهو عدد الأيام التي عبد آباؤهم العجل فيها، وهي مدّة غيبة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عنهم.(2/212)
وقال الحسن وأبو العالية: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا، فأقسم ليعذّبنا أربعين يوماً، فلن تمسّنا النار إلاّ أربعين يوماً تحلّة القسم، فكذبهم الله تعالى بقوله تعالى: «قُلْ: أتخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً» .
وقالت طائفة: إن اليهود قالت في التوراة: إنَّ جهنم مسيرة أربعين سنة، وأنهم يقطعون في كلّ يوم سنة حتى يكملوها، وتذهب جهنّم. رواه الضَّحاك عن ابن عباس.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه زعم اليهود أنه وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنّم أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزَّقوم، فتذهب جهنم وتهلك.
فإن قيل: «وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً» وقال في مكان آخر: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] والمصروف في المكانين واحد وهو «أيام» .
فالجواب: أن الاسم إن كان مذكراً، فالأصل في صفة جمعه التاء، يقال: كُوز وكِيزان مكسورة، وثياب مَقْطوعة، وإن كان مؤنثاً كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال: جرّة وجِرَار مكسورات، وخَابِية وخَوَابي مكسورات، إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكّر في بعض الصور، وعلى هذا ورد قوله:
{في
أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ، و {في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] .
فصل في مدة الحيض
ذهب الحنفيّة إلى أنّ أقل الحَيْض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، واحتجوا بقوله عَلَيْهِ(2/213)
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «دَعِي الصَّلاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» فمدّة الحيض تسمى أياماً، وأقلّ عدد يسمى أياماً ثلاثة، وأكثره عشرة على ما بَيّنا، وعليه الإشكال المتقدم.
قوله: «أَتَّخَذْتُمْ» الهمزة للاستفهام، ومعناها الإنكار والتَّقْريع، وبها استغني عن همزة الوصل الدّاخلة على «أتخذتم» كقوله: {أفترى عَلَى الله} [سبأ: 8] {أَصْطَفَى} [الصافات: 153] وبابه. وقد تقدم القول في تصريف «أتَّخَذْتُمْ» وخلاف أبي علي فيها.
ويحتمل أن تكون هنا لواحد.
وقال أبو البقاء: وهو بمعنى «جَعَلتم» المتعدية لواحد.
ولا حاجة إلى جعلها بمعنى «جعل» لتعديها لواحد، بل المعنى: هلأ أخذتم من الله عهداً؟ ويُحتمل أن يتعدّى لاثنين، الأول «عهد» ، والثاني «عند الله» مقدماً عليه، فعلى الأول يتعلّق «عند الله» ب «اتَّخَذْتُمْ» .
وعلى الثاني يتعلّق بمحذوف.
ويجوز نقل حركة همزة الاستفهام إلى لام «قل» قبلها، فتفتح وتحذف الهمزة. وهي لغة مطّردة قرأ بها نافع في رواية وَرْش عنه.
قوله: «فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ» هذا جواب الاستفهام المقتدم في قوله: «أتَّخَذْتُمْ» .
وهل هذا بطريق تضمين الاستفهام معنى الشرط، أو بطريق إضمار الشَّرط بعد الاستفهام وأخواته؟
قولان [تقدم تحقيقها] واختار الزمخشري القول الثاني، فإنه قال: «فَلَنْ يُخْلِفَ» متعلّق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده.
وقال ابن عطيةك «فلن يخلف الله عَهْده: اعتراض بين أثناء الكلام» كأنه يعني بذلك أن قوله: «أم تقولون» مُعَادل لقوله: «أتخذتم» فوقعت هذه الجملة بين المتعادلين مُعْترضة، والتقدير أيّ هذين واقع اتخاذكم العهد أم قولكم بغير علم؟ فعلى هذا لا محلّ لها من الإعراب، وعلى الأول محلها الجزم.(2/214)
قوله: «أَمْ تَقُولُونَ» «أم» هذه يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون متّصلة، فتكون للمعادلة بين الشيئين، أي: أيّ هذين واقع، وأخرجه مُخْرج المتردّد فيه، وإن كان قد علم وقوع أحدهما، وهو قولهم على الله مالا يعلمون للتقرير، ونظيره: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] علم أيهما على هدى، وأيهما في ضلال، وقد عرف شروط المتصلة أول السورة.
ويجوز أن تكون منقطعة، فتكون غير عاطفة، وتقدر ب «بل» والهمزة، والتقدير: بل أتقولون، ويكون الاستفهام للإنكار؛ لأنه قد وقع القول منهم بذلك، هذا هو المشهور في «أم» المنقطعة، وزعم جماعهة أنها تقدر ب «بل» وحدها دون همزة استفهام، فيعطف ما بعدها [على ما قبلها] في الإعراب؛ واستدّل عليه بقولهم: «إن لنا إبلاً أَمْ شَاءً» بنصب «شَاءً» وقول الآخر: [الطويل]
611 - فَلَيْتَ سُلَيْمَى في الْمَمَاتِ ضَجِيعَتي ... هُنَالِكَ أَمْ فِي جَنَّةٍ أَمْ جَهَنَّمِ
التقدير: بل في جهنَّم، ولو كانت همزة الاستفهام مقدَّرةً بعدها لوجب الرفع في «شاء» ، و «جهنم» على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وليس لقائل أن يقول: هي في هذين الموضعين مُتَّصلة لما عرف أن من شرطها أن تتقدّمها الهمزة لفظاً أو تقديراً، ولا يصلح ذلك هنا.
قوله: «مَا لاَ تَعْلَمُونَ» ما منصوبة ب «تقولون» ، وهي موصولة بمعنى «الذي» أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي: ما لا تعلمونه، فالجملة لا محلّ لها على القول الأول، ومحلّها النصب على الثاني.
فصل في الاستدلال بالآية على أمور
الآية تدلّ على أمور:
أحدها: أن القول بغير دليل باطل.
الثاني: ما جاز وجوده وعدمه عقلاً لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلاَّ بدليل سمعي.
الثالث: تمسّك منكرو القياس وخبر الواحد بهذه الآية، قالوا: لأن القياس وخبر الواحد لا يفيدان العلم، فهو قول على الله بما لا يعلم.(2/215)
والجواب: أنه دلت الدلائل على وجوب العمل عند حصول الظّن المستفاد من القياس، منه خبر الواحد، فكان وجوب العمل عنده معلوماً، فكان القول به قولاً بالمعلوم.(2/216)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
«بلى» حرف جواب ك «نعم وجير وأَجَلوإي» ، إلا أن «بلى» جواب لنفي متقدم، سواءً دخله استفهام أم لا فيكون إيجاباً له نحو قول زيد، فتقول: بلى، أي: قد قام، وتقول: أليس زيد قائماً فتقول: بلى أيى هو قائم قال تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] ويروى عن ابن عَبّاس أنهم لو قالوا نعم لكفروا.
وقال بعضهم: إن «بلى» قد تقع جواباً لنفي متقدّم وقد تقع جواباً لاستفهام إثبات كما قال عليه الصّلاة والسلام للذي سأله عن عطية أولاده: أَتُحِبُّ أَنْ تُسَاوِيَ بَيْنَ أَوْلاَدِكَ في البِرِّ «قال:» بَلَى «.
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لرجل: أَلَسْتَ أَنْتَ الَّذِي لَقِيتُهُ ب» مكة «؟ قال:» بلى «فأما قوله: [الوافر]
612 - أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو ... وَإِيَّانَا، فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي
نَعَمْ وَتَرى الْهِلاَلَ كَمَا أَرَاهُ ... وَيعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلاَنِي
فقيل: ضرورة. وقيل: نظر إلى المعنى؛ لأن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره وبهذا يقال: فيكف نقل عن ابن عباس أنهم لو قالوا لكفروا مع أنّ النفي صار إيجاباً. وقيل: قوله:» نعم «ليس جواباً ب» أليس «إنما هو جواب لقوله:» فَذَاكَ بَنَا تَدانِي «فقوله تعالى:» بَلَى «رد لقولهم:» لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ «أي: بلى تمسّكم أبداً، في مقابلة قولهم:» إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ «وهو تقدير حسن.
والبصريون يقولون: إن» بلى «حرف بَسِيْط، وزعم الكوفيون أن أصلها» بلى «التي للإضراب زيدت عليها» الباء «ليحسن الوَقْف عليها، وضمنت الياء معنى الإيجاب قيل: تدّل على رد النفي، والياء تدلّ على الإيجاب يعنون بالياء الألف. وإنما سموها ياء؛ لأنها حرف عال وتكتب بالياء.(2/216)
و» مَنْ «يجوز فيها وَجْهَان.
أحدهما: أن تكون موصولة بمعنى» الذي «والخبر قوله:» فأولئك «، وجاز دخول الفاء في الخبر لاستكمال الشروط، ويؤيد كونها موصولة، وذكر قسيمها موصولاً وهو قوله:» وَالَّذِينَ كَفَرُوا «، ويجوز أن تكون شرطية، والجواب قولهك» فَأُوْلَئِكَ «، وعلى كلا القولين فحملّها الرفع بالابتداء، ولكن إذا قلنا: إنها موصولة كان الخبر:» فأولئك «وما بعدها بلا خلاف، ولا يكون لقوله:» كَسَبَ سَيِّئَةً «وما عطف عليه محلّ من الإعراب؛ لوقوعة صلة.
وإذا قلنا: إنها شرطية جاء في خبرها الخلاف المشهور، إما الشرط أو الجزاء، أو هما حسب ما تقدم، ويكون قوله:» كَسَبَ «وما عطف عليه في محلّ جزم بالشرط.
«سَيّئة» مفعول به، وأصلها: «سَيْوِئَة» ؛ لأنها من ساء يسوءُ فوزنها «فَيْعِلَة» فاجتمع الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأعلت إعلال «سَيِّد ومَيِّت» كما تقدم.
وراعى لفظ «مَن» فأفرد في قوله: «كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» والمعنى مرة أخرى مجمع في قوله: «فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ» .
وقرأ نافع وأهل «المدينة» «خَطِيئَاتِه» بجمع السلامة والجمور: «خَطِيْئة» بالإفراد، ووجه القراءتين ينبني على معرفة السّيئة والخطيئة.
وفيهما أقوال:
أحدها: أنهما عبارتان عن الكُفْر بلفظين مُخْتلفين.
الثاني: أنهما عبارتان عن الكُفْر بلفظين مخْتلفين.
الثالث: [عكس الثاني] .
فوجه قراءة الجماعة على الأول والثالث أن المراد بالخطيئة الكفر، وهو مفرد، وعلى الوجه الثَّاني أن المراد به جنس الكبيرة، ووجه قراءة نافع على الوَجْه الأول والثالث أن المراد بالخَطِيئات أنواع الكُفْر المتجددة في كلّ وقت، وعلى الوجه الثاني أن المراد به الكبائر وهي جماعة.
وقيل المراد بالخطيئة نفس السّيئة المتقدمة، فسماها بهذين الاسمين تقبيحاً لها كأنه قال: وأحاطت به خطيئهُ تلك أي السيئة، ويكون المراد بالسّيئة الكُفْر، أو يراد بهم(2/217)
العُصَاة، ويكون أراد بالخلود المُكث الطويل، ثم بعد ذلك يخرجون.
وقوله: «فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ» إلى آخره تقدم نظيره.
وقرى «خطاياه» تكسيراًن وهذه مخالفة لسواد المصحف؛ فإنه رسم «خطيئتهُ» بلفظ التوحيد، وتقدم القول في تعريف خَطَايا.
فصل في لظفة «بلى»
قال صاحب «الكشاف» : بلى إثبات لما بعد حرف النفي، وهو قوله: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ» أي: بلى تمسكم أبداً بدليل قوله: «هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» .
أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي، قال تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] «مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ» ولما كان من الجائز أن يظن أن كلّ سيئة صغرات أو كبرت، فحالها سواء في أنّ فاعلها يخلد في النَّار لا جرم بَيَّنَ تعالى أن الذي يستحقّ به الخلود أن يكون سيئة مُحِيْطة به، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السُّور بالبلد والكُوز بالماء، وذلك هاهنا ممتنع، فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين:
أحدهما: أن المحيط يستر المحاط به، والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالسَّاترة لتلك الطاعات، فكانت المُشَابهة حاصلةً من هذه الجهة.
والثانيك أن الكبير إذا أَحْبَطَتْ ثواب الطَّاعات، فكأنها استولت على تلك الطاعات، وأحاطت بها كما يحيط العَسْكر بالإنسان بحيث لا يتمكن من التخلص منه فكأنه تعالى قال: بلى من كَسَبَ كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
فإن قيل: هذه الآية: وردت في حق اليهود؟
[فالجواب] : العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب، هذا وجه استدلال المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر.
وقد اختلف أهل القبلة [فيه] فمنهم من قطع بوعيدهم وهم فريقان؛ منهم من أثبت الوعيد المؤبّد، وهم جمهور المعتزلة والخوارج.
ومنهم من أثبت وعيداً منقطعاً، وهو قول بشر المريسي.
ومنهم من قطع بأنه لا وعيد لهم، وهو قول شاذّ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر.(2/218)
والقول الثالث: أنّا نقطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العُصَاة ولكنا نتوقف في حقّ كل أحد على التعيين، ونقطع بأنه إذا عَذَّبَ أحداً منهم، فإنه لا يعذبه أبداً، بل يقطع عذابه، وهذا قول أكثر الأَصْحَاب والتابعين، وأهل السنة والجماعة، وأكثر الإمامية، فيشتمل هذا البحث على مسألتين.
إحداهما: القطع بالوعيد.
والأخرى: إذا ثبت الوعيد، فهل يكون ذلك على صفة الدوام أم لا؟ أما المعتزلة فإنهم استدلوا بالعمومات الواردة وهي على قسمين:
أحدهما: صيغة «من» في معرض الشرط.
والثاني: صيغة الجمع. فأما صيغة «من» في الشرط فإنها تفيد العُمُوم على ما ثبت في أصول الفقه، فكلّ آية وردت في القرآن بصيغة «من» في الوعيد، فقد استدلّت المعتزلة بها.
قالوا: لأنها تفيد العموم من وجوه:
أحدها: أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص، أو مشتركة بينهما، والقسمان باطلان، فوجب كونها موضوعة للعموم.
أما بطلان كونها موضوعة للخُصُوص، فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلّم أن يعطي الجزاء لكلّ من أتى بالشرط؛ لأنّ على هذا التقدير لا يكون ذلك الجزاء مرتباً على ذلك الشّرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال: من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كلّ من دخل داره، فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص.
وأما بطلان كونها موضعة للاشتراك فلأمرين:
الأول: أنَّ الاشتراك خلاف الأصل.
والثاني: أنه لو كان ذلك لما عرف كيفية ترتّب الجزاء على الشرط إلاَّ بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال: مَنْ دخل داري أكرمته، فيقال له: أردت الرجال أو النساء؟ فإذا قال: أردت الرجال يقال له: أردت العرب أم العجم؟ فإذا قال: أردت العرب يقال له: أردت ربيعة أم مضر؟ وهلم جرّاً إلى إن يأتي على جميع التقسيمات المُمْكنة، لما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قُبْحَ ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل.
الوجه الثاني: صحة الاستثناء منهما، فإن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل.(2/219)
الوجه الثالث: أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال ابن الزبعرى: لأخصمن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى ابن مريم، فتمسك بعموم اللفظ والنبي عليه الصلاة لم ينكر عليه ذلك، فدل ذلك على أن هذه الصيغة تفيد العموم.
النوع الثاني من دلائل المعتزلة: التمسّك في الوعيد بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام، قال تعالى: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] فإنها تفيد العموم، ويدل عليه وجوه:
أحدها: قول أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْه: «الائمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» والأنصار سلموا له صحة تلك الحجة. ولما هَمّ بقتال مانعي الزكاة قال له عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه: أليس قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» فاحتج عليه بهذا اللفظ(2/220)
بعمومه، ولم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة: إن اللفظ لا يفيده، بل عدل إلى الاستثناء، فقال إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «إِلاَّ بحَقِّهَا» .
الثاني: أن هذا الجمع يؤكّد بما يقتضي الاستغراق، فوجب أن يفيد الاستغراق لقوله تعالى: {فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وما كان كذلك فوجب أن يؤكد المؤكد في أصله الاستغراق؛ لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد أجماعاً، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتاً في الأصل.
الثالث: صحّة الاستثناء منه.
الرابع: أن المعرف يقتضي الكثرة فوق المنكر؛ لأنه يصح انتزع المنكر من المعرف ولا ينعكس، ومعلوم أن المنتزع [منه أكثر من المنتزع] .
النوع الثاني: صيغ الجموع المقرونة بحرف «الذي كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى} [النساء: 10] {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة} [النحل: 28] {والذين كَسَبُواْ السيئات} [يونس: 27] {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} [التوبة: 34] {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} [النساء: 18] فلو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد لم يكن له في التوبة حاجة.
النوع الثالث: لفظة» ما «كقوله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 180] .
النوع الرابع: لفظة» كل «كقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} [يونس: 54] .
النوع الخامس: ما يدلّ على أنه سبحانه لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله: {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد 0 مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} [ق: 28، 29] صريح في أنه تعالى لا بد وأن يفعل ما دلّ اللفظ عليه، وكذا الكلام في الصّيغ الواردة في الحديث.
والجواب من وجوه:
أحدها: لا نسلم أن صيغة» من «في [معرض] الشرط للعموم، ولانسلّم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة بالألف واللام كانت للعوم، والذي يدلّ عليه أمور:
الأول: أنه يصحّ إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللَّفظتين، فيقال: كل من(2/221)
دخل داري أكرمته، وبعض مَنْ دخل داري أكرمته، ويقال أيضاً: كل الناس كذا، وبعض الناس كذا، ولو كانت لفظة» من «في معرض الشرط تفيد العموم لكان إدخال لفظة» كل «عليها تكريراً، وإدخال لفظة» بعض «عليها نقضاً، وكذلك في [فلظ الجمع] المعرف.
الثاني أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله تارةً للاستغراق، وأخرى للبعض، فإن أكثر العمومات مخصوصة، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص، وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد.
الثالث: أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها؛ لأن تحصيل الحاصل مُحَال، فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا مَحَالة، سلمنا أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية، والأول ممنوع وباطل قطعاً؛ لأن من المعلوم بالضرورة أنَّ الناس كثيراً ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل، والجمع على سبيل المبالغة كقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية، سلّمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية، ولكن لا بد من اشتراط أَلاَّ يوجد شيء من المخصصات، فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام، فلم قلتم: إنه لم يوجد شيء من المخصصات؟ أقصى ما في الباب أن يقال: بحثنا فلم نجد شيئاً من المخصصات، لكن عدم الوِجْدَان لا يدلّ على عدم الوجود.
وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات، وهذا الشرط غير معلوم [كانت الدلالة متوقفة على شرط غير معلوم] فوجب ألاَّ تحصل الدلالة، ومما يؤكد هذا قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون، ثم إنا شاهدنا قوماً منهم قد آمنوا، فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين:
إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول، أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى، إلاَّ أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يعلمون من أجلها أ، مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص، وأما ما كان هناك فَلِمَ يجوز مثله هاهنا؟ سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها، والرجحان معنا؛ لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام، والخاصّ مقدم على العام لا محالة، سلّمنا أنه لا يوجد المخصّص، ولكن عمومات الوعيد مُعَارضة بعمومات الوعد، ولا بدّ من الترجيح، وهو معنى من وجوه:(2/222)
أحدها: أنَّ الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد.
الثاني: أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى.
الثالث: أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى، سلّمنا أنه لم يوجد المعارض، ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكُفَّار، فلا تكون قاطعة في العمومات.
فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب.
قلنا: هَبْ أنه كذلك، ولكن لما رأينا كثيراً من الألفاظ العامة وردت في الأسباب الخاصة، والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أنّ إفادتها للعموم لا تكون قوية. والله أعلم.
فهذا أصل البَحْث في دلائل الفريقين، وأما دلائل الفريقين من الكتاب والسُّنة فكثيرة، فمنها على هذه الأصل حجّة من قال بالعفو في حق العبد، [وبعض] الآيات الدالة على أنه تعالى غفور رحيم غافر غفار، وهذا لا يحسن إلاّ في حق من يستحق العذاب.
[فإن قيل] : لم لا يجوز حمله على تأخير العِقَابِ كقوله في قصة اليهود: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ} [البقرة: 52] والمراد تأخير العقاب إلى الآخرة، وكذا قوله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وكذا قوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 34] .
فالجواب: العفو أصله الإزالة من عَفَا أمره كما قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم، بل الإسقاط المطلق، فإن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال: إنه عفى فيه، ولو أسقطه يقال: إنه عفى عنه.
الثانية: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] وهذا يتناول صاحب [الصغيرة وصاحب الكبيرة] قبل التوبة؛ لأن الغفران للتائبين وأصحاب الصغائر واجب غير معلّق على المشيئة.
فإن قيل: لا نسلم أن تلك المغفرة تدلّ على أنه تعالى لا يعذب العُصَاة في الآخرة؛ لأن المغفرة إسقاط العقاب، وهو أعم من إسقاطه دائماً أو لا دائماً واللفظ الموضوع بإزار القَدْرِ المشترك لا إشعار له بكل واحد، فيجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء، ويؤخر عقاب ما دون ذلك في الدنيا لمن يشاء. فحصل بذلك تخويف كل الفريقين.(2/223)
سلمنا أنَّ الغفران عبارة عن الإسقاط على الدوام، فلم لا يمكن حمله على مغفرة التائب، ومغفرة صاحب الصغيرة؟
وأيضاً لا نسلم أن قوله: «مَا دُونَ ذَلِكَ» يفيد العموم لصحة إدخال لفظ «كل» و «بعض» على البدل، [مثل أن] يقال: ويغفر كل ما دون ذلك، وهو يمنع العموم.
سلمنا أنه للعموم، ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة.
فالجواب: أما إذا حملنا المغفرة على التأخير، وجب أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر [من عقاب المؤمنين] ، وإلاَّ لم يكن في التفضيل فائدة، وليس كذلك لقوله تعالى: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ} [الزخرف: 33] .
قوله: لم قلتم: إن قوله: «مَا دُونَ ذَلِكَ» يفيد العموم؟
قلنا: لأن قوله «ما» تفيد الإشَارَة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهيّة ما هية واحدة، وقد حكم قطعاً بأنه يغفرها، ففي كل صغيرة متحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران.
الثالثة: قال يحيى بن معاذ: إلهي إذا كان توحيد ساعة يَهْدم كفر خسمين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العَدْل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي لعمومات الوعد وهي كثيرة ثم نقول: لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه:
أحدها: أن عمومات الوعد أكثر، والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع.
وثانيها: قوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] [يدلّ على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة، فوجب أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة] ترك العمل به في حسنات الكُفَّار، [فإنها لا تذهب سيئاتهم] فيبقى معمولاً به في الباقي.
وثالثها: تضعف الحسنة، كما قال تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] ثم زاد فقال: «وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ» وفي جانب السَّيئة قال: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] .
ورابعها: قال في آية الوعد: {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} [النساء: 122] .
ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقّاً.(2/224)
وخامسها: أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافراً غفوراً رحيماً كريماً عفوّاً رحماناً.
والأخبار في هذا قد بلغت حدّ التواتر، وكل ذلك يوجب رُجْحَان الوعد، وليس في القرآن ما يدل على أنه تعالى بعيد عن الرحمة والكرم والعفو، وكل ذلك يوجب رُجْحَان جانب الوعد.
سادسها: أن الإنسان [هذا أتى] بأفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بأقبح القبائح وهو الكفر [بل أتى بالبشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد إذا أتى عبده من الطاعات، وأتى بمعصية متوسطة، فلو تولى بتلك المعصية على الطاعة لعد لئيماً مؤذياً] .
فصل في الاستدلال بالآية
قد شُرِطَ في هذه الآية شرطان:
أحدهما: اكتساب السّيئة.
والثاني: إحاطة تلك السيئة بالعَبْدِ، وذلك يدل على أنه لا بُدّ من وجود الشرطين ولا يكفي وجود أحدهما، وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو أعتاق أنه لا يحنث بوجود أجدهما.(2/225)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
اعلم أنه سبحانه وتعالى: ما ذكر في القرآن آية وعيد إلا وذكر في جنبها آية وَعْد، وذلك لفوائد:
أحدها: أن يظهر سبحانه بذلك عدله؛ لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصّرين على الكفر، وجب أن يحكمم بالنَّعيم الدائم على المصرين على الإيمان.
وثانيهما: أنّ المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «المؤمن لَوْ وَزِنَ خُوْفُهُ وَرَجَاؤهُ لاَعْتَدَلاَ» وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق.
وثالثها: أن يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كما حِكْمته، فيصير ذلك سبباً [للعرفان] .
فإن قيل: دلّت الآية على أنْ العمل الصالح خارج عن الإيمان؛ لأنه لو دلّ الإيمان على العمل الصالح لعد الإيمان تكريراً.
أجاب القاضي: بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلاّ أن(2/225)
قوله: «آمن» لا يفيد إلا أنه فعل فعلاً واحداً من أفعال الإيمان، فلهذا حسن أن يقول: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
والجواب: أن فعل الماضي يدلّ على حصول المصدر في زمان معين والإيمان هو المصدر فلو دلّ ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله:» آمَنَ «دليلاً على صدور تلك الأعمال منه.
فصل في مرتكب الكبيرة
هذه الآية تدلّ على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة؛ لأنه أتى بالإيمان والأعمال الصالحات، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة، ولم يَتُبْ عنها، فهذا الشَّخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن، وعلم الصالحات [في ذلك الوقت، ومن صدق عليه ذلك قوله:» أُولَئِكَ أًصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ «.
فإن قيل قوله تعالى:» وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ «لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع [الأعمال] ، ومن جملة الصَّالحات التوبة، فإذا لم يأت بها لم يكن آتياً بالصالحات، فلا يندرج تحت [الآية] .
قلنا: [لو سلمنا أنه قبل] الإتْيَان بالكبيرة [صدق] عليه أنه آمن وعمل الصالحات [لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد، بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات] في كل الأوقات، لكن قولنا: آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا: إنه كذلك في كل الأوقات، أو في بعض الأوقات، والمعتبر في الآية هو القَدْرُ المشترك، فثبت أنه مندرج تحت حكم الوَعْدِ.(2/226)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
«إذْ» معطوف على الظرف قبله، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفاً أو لا.
و «أّخَذْنَا» في محلّ خفض، أي: واذكر وَقْت أَخْذنا ميثاقهم، أو نحو ذلك.
«لا تَعْبُدُونَ» قرأ ابن كثير وغيره والكِسائي بالياء، والباقون بالتاء.(2/226)
فمن قرأ فلأن الأسماء الظَّاهرة حكمها الغيبة، ومن قرأ بالخطاب هو الْتِفَات، وحكمته أنه أدعى لِقَبُول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه.
وجعل أبو البقاء قراءة الخِطَاب على إضمار القول.
قال: يقرأ بالتاء على تقدير: قلنا لهم: لا تعبدون إلا الله وكونه التفاتاً أحسن.
وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه:
أظهرها: أنها مفسرة لأخذ الميثاق، وذلك لأنه تعالى لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان ذلك في إبْهَام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجُمْلة مفسرة له، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.
الثاني: أنها في محلّ نصب على الحال من «بَنِي إِسْرَائِيْلَ» وفيها حينئذ وجهان:
أحدهما: أنها حال مقدّرة بمعنى: أخذنا ميثاقهم مقدّرين التوحيد أبداً ما عاشوا.
والثَّاني: أنَّها حال مقارنة بمعنى: أخذنا مِيْثَاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد، قاله أبو البقاء [وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرد] .
وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح، خلافاً لمن أجاز مجيئها من المُضَاف إليه مطلقاً، لا يقال: المضاف إليه معمول له في المعنى ل «ميثاق» ؛ لأن ميثاقاً إما مصدر أو في حكمه، فيكون ما بعده إما فاعلاً أو مفعولاً، وهو غير جائز «لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل إلى حرف مصدري، وفعل هذا لا ينحل لهما، لو قدرت: وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد لم يتقدر بقول: أخذت أن يعلم زيد، ولذلك منع ابن الطَّراوة في ترجمة سيبويه:» هذا باب علم ما الكلم من العربية «أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ورده وأنكر على من أجازه.(2/227)
الثالث: أن يكون جواباً لقسم محذوف دلّ عليه لفظ المِيْثَاق، أي: استحلفناهم، أو قلنا لهم: بالله لا تعبدون، ونسب هذا الوجه لسيبويه، ووافقه الكسائي والفَرّاء والمبرد.
الرابع: أن يكون على تقدير حذف حرف الجر، وحذف» أن «، والتقدير: أخذنا ميثاقهم على ألاَّ تعبدوا، فَحُذِف حرف الجر؛ لأن حذفه مطرد مع» أنَّ وأنْ «كما تقدم، ثم حذفت» أن «الناصبة، فارتفع الفعل بعدها؛ كقول طرفة: [الطويل]
613 - أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ، هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
وحكي عن العرب: «مُرْهُ يَحْفِرَهَا» أي: بأن يحفرها، والتقدير: عن أن يحضر، أو بأن يحفرها، وفيه نظر، فإن [إضمار] «أن» لا ينقاس، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون، وجعلوا ما سواها شاذّاً قليلاً، وهو الصحيح خلافاً للكوفيين، وإذا حذفت «أن» ، فالصحيح جواز [النصب والرفع] ، وروي «مُرْهُ يَحْفِرهَا» و «أحضر الوَغَى» بالوجهين، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن، حيث التزم رفعه.
وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله: «لاَ تَعْبُدُوا» على النهي، قال: إلاَّ أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] ، قال: والذي يؤكد كونه نهياً [قوله: «وأقيموا الصلاة» ] فإنه تنصره قراءة عبد الله وأُبي: «لا تعبدوا» .
الخامس: أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف، وذلك القول حال تقديره: قائلين لهم: لا تعبدون إلا الله، ويكون خبراً في معنى النهي، ويؤيده قراءة أُبَي المتقدمة، ولهذا يصح عطف «قُولُوا» عليه، وبه قال الفَرّاء.
السادس: أَنَّ «أنْ» الناصبة مضمرة كما تقدم، ولكنها هي وما في حَيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من «مِيْثَاق:، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة.
السابع: أن يكون منصوباً بقول محذوف، وذلك القول ليس حالاً، بل مجرد أخبار، والتقدير: وقلنا لهم ذلك، ويكون خبراً في معنى النهي.
قال الزمخشري: كما تقول: تذهب إلى فلان تقول له: كذا تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأنه كأنه سُورعَ إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه، وتَنْصره قراءى عبد الله وأُبَيّ:» لاَ تَعْبُدُوا «ولا بد من إرادة القول بهذا.
الثامن: أن يكون التقدير:» ألاَّ تَعْبُدُونَ «وهي» أن «المفسرة؛ لأن في قوله: أخَذْنَا(2/228)
مِيْثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» إيهاماً كما تقدم، وفيه معنى القول، ثم حذف «أن» المفسرة، ذكره الزَّمخشري.
وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى.
قوله: «إِلاَّ اللهَ» استثناء مفرغ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولاً.
وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، إذ لو جرى الكَلاَم على نسقه لقيل: لا تعبدون إلاَّ إيانا، لقوله: «أَخّذْنَا» .
وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر، وأيضاً الأسماء الواقعة ظاهرة، فناسب أن يجاوز الظاهرُ الظاهرَ.
فصل في مدلول «الميثاق»
هذا الميثاق يدلّ على تمام ما لا بد منه في الدينن لأنه تعالى لما أمر بعبادته، ونهى عن عبادة غيره، وذلك مسبوق بالعِلْمِ بذاته سبحانه، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه، وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة الَّتِي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوَحْي والرسالة، فقوله: «لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ» يتضمّن كلّ ما اشتمل عليه الكلام والفقه والأحكام.
وقال مكّي: «هذه الميثاق هو الذي أخذه عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذَّر» و «بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن تتعلق الباء ب «إحساناً» على أنه مصدر واقع [موقع} فعل الأمر، والتقدير وأحسنوا وبالوالدين، والباء ترادف «إلى» في هذا المعنى، تقول: أحسنت به وإليه، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثَمَّ مضافٌ محذوف، وأحسنوا بر الوالدين بمعنى: أحسنوا إليهما برّهما.
قال ابن عطية: يعترض على هذا القول، أن يتقدّم على المصدر معمولُهُ، وهذا الاعتراض لا يتم على مَذْهَب الجمهور، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المَصْدر النَّائب عن فعل الأمر عليه، تقول: «ضرباً زيداً» وإن شئتك «زيداً ضرباً» وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر، أم للمصدر النائب عن فعله، فإن التقديم عندهم جائز، وإنما بمتنع تقدم معمول المَصْدر المنحل لحرف مصدري والفعل كما تقدم وإنما يتم على مذهب أبي الحسن، فإنه منع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل، ويخالف الجمهور في ذلك.
الثاني: أنها متعلّقة بمحذوف وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مُرَاعاة(2/229)
لقوله: «لاَ تَعْبُدُونَ» فإنه في معنى النهي كما تقدم، كأنه قال: لا تبعدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين، ويجوز أن يقدر خبراً مراعاة لِلَفْظِ «لاَ تَعْبُدُونَ» والتقدير: وتحسنون [وإن كان معناه الأمر، وبهذين] الاحتمالين قدره الزمخشري، وينتصب «إحساناً» حينئذ على المصدر المؤكّد لذلك الفعل المحذوف.
وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكّد منصوصٌ على عدم جوازه، وفيه بحث ليس هذا موضعه.
الثالث: أن يكون التقدير: واستوصوا بالوالدين، ف «البَاء» متعلّقة [بهذا الفعل المقدر] أيضاً، وينتصب «إحساناً» حينئذ على أنه مفعول به.
الرابع: تقديره: وَوَصَّيْنَاهُمْ بالوالدين، فالباء متعلّقة بالمحذوف أيضاً، وينتصب «إحساناً» [حينئذ] على أنه مفعول لأجله، أي: لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إنّ الإحسان متسبّب عن وصيتنا بهم، أو الموصى لما يترتب الثواب منّا لهم إذا أحسنوا إليهم.
الخامس: أن تكون الباء وما عملت فيه عطفاً على قوله: «لاَ تَعْبُدُونَ» إذا قيل بأن «أن» المصدرية مقدرة فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور، والتقدير: أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي: وببرّ الوالدين، أو: بإحسان إلى الوالدين، فتتعلّق «الباء» حينئذ ب «الميثاق» لما فيه من مَعْنَى الفعل، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه رَوَائح الأفعال، وينتصب «إحساناً» حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف، وهو «البر» لأنه بمعناه، أو الإحسان الذي قدرناه.
والظّاهر من هذه الأوجه هو الثَّاني، لعدم الإضمار اللازم في غيره، أو لأن ورود المصدر نائباً عن فعل الأمر مطّرد شانع.
وإنما تقدّم المعمول اهتماماً به وتنبيهاً على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذُكِرَ معه.
و «الَوالِدَان» الأب والأم، يقال لكل واحدٍ منهما: والد؛ قال: [الطويل]
614 - عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَدْي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أِبَوَانِ(2/230)
وقيل: لا يقال في الأم: والدة بالتاء، وإنما قيل فيها وفي الأب: والدان تغليباً للذكر.
و «الإحسان» : الإنعام على الغير.
وقيل: بل هو أعم من الإنعام.
وقيل: هو النَّافع لكل شيء.
فصل في وجوه ذكر البر بالوالدين مع عبادة الله
قال ابن الخَطِيْبِ: إنما أراد عبادة الله بالإحْسَان إلى الوالدين لوجوه:
أحدها: أن نعمة الله على العَبْدِ أعظم النعم، فلا بد من تقديم شكره على شُكْرِ غيره، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعظم النّعم؛ لأن الوالدين هما الأصل في وجود الولد، ومنعمان عليه بالتربية، فإنعامهما أعظم والإنْعَام بعد إنعام الله تعالى.
وثانيها: أن الله سبحانه وتعالى المؤثر في وجود الإنْسَان في الحقيقة، والوالدان مؤثران في وجوده بحسب العُرْفِ الظاهر، فلأنه المؤثر الحقيقي أردفه بذكر المؤثر بحسب العرف الظَّاهر.
وثالثها: أن الله سبحانه وتعالى لا يطلب على إنعامه على العبد عوضاً ألبتَّة، وإنعام الوالدين كذلك، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً.
ورابعها: أن الله لا يملّ من الإنعام على العبد، ولو أتى العبد بأعظم الجرائم، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه، وكذلك الوالدان لا يملاَّن الولد ولا يقعطان عنه موادتهما وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين.
وخامسها: كما أن الوالد المشفق يتصرّف في مال ولده بالاسْتِرْبَاح، وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان، فكذلك الحقّ سبحانه وتعالى يتصرف في طاعة العبد، فيصونها عن الضياع ويضاعفها كما قال: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 261] .
فلما تشابها من هذه الحيثيات كانت نعم الوالدين قليلة بالنسبة إلى نِعَمِ الله تعالى، [بل النعم كلها من الله تعالى فلا] جَرَمَ ذكر الإحسان إلى الوالدين عقب ذكر عبادة الله تعالى.
فصل في وجوب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين
اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين لقوله في هذه الآية: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» بغير تقييد بكونهما مؤمنين أم لا، وقد ثبت في أصول الفقه أن(2/231)
الحكم المرتب على الوصف يشعر بغلبة الوصف فالأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما وَالدَيْن، وذلك يقتضي العموم، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى:
{فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما إلى أن قال: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] فصرّح ببيان السّبب في وجوب هذا التعظيم، وكذلك قوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] وقوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] صريح في الدّلالة.
و «ذِي الْقُرْبى» وما بعده عطف على المجرور بالباء، وعلامة الجر فيها الياء؛ لأنها من الأسماء الستة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجر بالياء بشروط مذكورة، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها؟ عشرة مذاهب للنَّحويين فيها.
وهي من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى إلى أسماء الأجناس الظاهرة؛ ليتوصّل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس؛ نحو: «مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذِي مَالٍ» وإضافته إلى المضمر ممنوعةٌ إلا في ضرورة أو نادر كلام؛ كقوله: [الوافر]
615 - صَبَحْنَا الْخزرَجِيَّةَ مُرْهَفَاتٍ ... أَبَانَ ذَوِي أَرُومَتِهَا ذَوُوهَا
وأنشد الكسائِيُّ: [الرمل]
616 - إِنَّما يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ ... في النَّاسِ ذَوُوهُ
وعلى هذا قولهم: «اللهم صَلِّ على محمد وذويه» .
وإضافته إلى العلم قليلة جدًّا، وهي على ضربين:
واجبة: وذلك إذا اقترنا وضعاً، نحو: «ذي يزن» و «ذي رعين» .
وجائزة وذلك إذا لم يقترنا وضعاً، نحو: «ذي قطري» و «ذي عمرو» أي: صاحب هذا الاسم.
وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب؛ كقوله: [الطويل]
617 - وَإِنَّا لَنَرْجُو عَجِلاً مِنْكَ مِثْلَ مَا ... رَجَوْنَاهُ قِدْماً مِنْ ذَوِيكَ الأَفَاضِلِ(2/232)
وتجيء «ذو» موصولة بمعنى «الَّذِي» وفروعه، والمشهورُ حينئذ بِنَاؤها وتذكيرها، ولها أحكام كثيرة.
و «القربى» مضاف إليه، وألفه للتَّأنيث، وهو مصدر ك «الرُّجْعَى والعُقْبَى» ، ويطلق على قرابة الصُّلْب والرَّحِم؛ قال طَرَفَةُ: [الطويل]
618 - وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْحُرِّ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
وقال أيضاً: [الطويل]
619 - وَقَرَّبْتُ بالْقُرْبَى وَجَدِّكَ إِنَّهُ ... مَتَى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ
والمادة تدلّ على الدّنو عند البعد.
فصل
اعلم أن حقّ ذوي القُرْبى كالتَّابع لحق الوالدين؛ لأن اتصال الأقارب بواسطة اتِّصَال الوالدين، فلذلك أَخَّر الله تَعَالى ذكرهم بعد ذكر الوالدين، والسبب في تأكيد رعاية هذا الحق إلى القرابة؛ لأن القرابة مظنّة الاتِّحَاد والأُلْفَة والرعاية والنصرة، فهذا وجبت رعاية حُقُوق الأَقَارب.
فصل في أحكام تؤخذ من الآية
قال الشَّافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المَحرم، وغير المَحرَم، ولا يدخل الأب والابن؛ لأنها لا يعرفان بالقَرابَة، ويدخل الأحفاد والأجداد.
وقيل: لا يدخل الأصول والفروع.
وقيل: يدخل الكلّ.
قال الشافعي: يرتقي إلى أقرب جدّ ينسب هو إليه ويعرف به، وإن كان كافراً.
وذكر أصحابه في مثاله: لو أنه أوصى لأقارب الشافعي، فإنا نصرفه إلى بني شَافعٍ دون بني المطّلب، وبني عبد مناف، وإن كانوا أقارب؛ لأنّ الشّافعي ينتسب في المشهور إلى بني شافع دون عبد مَنَاف.
قال الغَزَالي: وهذا في زمان الشَّافعي، أما في زماننا فلا ينصرف إلاَّ إلى أولاد الشافعي ولا يرتقي إلى بني شافع؛ لأنّه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا، أما قرابة الأم، فإنها تدخل في وصيّة العجم، ولا تدخل في وصيّة العرب الأَظْهر؛ لأنهم لا يعدون ذلك قَرَابةً أما لو قال: لأرحام فلان دخل قَرَابَة الأب والأم.(2/233)
قوله: «وَاليَتَامَى» وزنه «فَعَالى» ، وألفه للتأنيث، وهو جمع «يتيم» ك «نديم ونَدَامى» ولا ينقاس هذا الجمع.
وقال ابن الخطيب: جمعه «أَيْتَام ويتامى» واليُتْم: الانفراد، ومنه اليتيم؛ لانفراده عن أبويه أو أحدهما، ودرة يتيمة: إذا لم يكن لها نظير.
وقيل: اليَتَيم: الإبطاء، ومنه: صبي يتيم؛ لأنه يبطىء عنه البرّ وقيل: هو التغافل، لأن الصبيّ يتغافل عما يصلحه.
قال الأَصْمَعيّ: «اليتيم في الآدميين من فَقَدَ الآباء، وفي غيرهم من فقد الأمّهات» .
وقال المَاوَرْدِي: إن اليتم أيضاً في الناس من قبل فقد الأمهات.
والأول هو المعروف عند أهل اللغة، ويسمى يتيماً إلى أن يبلغ، يقال: يَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثل: سَمِعَ يَسْمعُ سَمْعاً ويَتُمَ يَيْتُم يُتْماً مثل: عَظُمَ يَعْظُم عُظْماً، فهاتان لُغَتان مشهورتان حكاهما الفرَّاء، ويقال: أيتمه الله إيتاماً، أي: فعل به ذلك.
وعلامة الجَرّ في «القربى» و «اليَتَامى» كسرة مقدرة على الألف، وإن كانت للتأنيث؛ لأنَّ ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته «أل» انجزّ بالكسرة، وهل يسمّى حينئذ منجرّاً أو منصرفاً.
ثلاثة أقوال، يفصل في الثالث بين أن يكون أحدَ سببيه العلمية، فيسمى منصرفاً نحو: «يَعْمُرُكُمْ» أو لا يسمى منجراً نحو: «بالأحمر» ، و «القربى واليتامى» من هذا الأخير.
فصل في رعاية اليتيم
[اليتيم كالتالي] لرعاية حقوق الأقارب؛ لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه، والإنسان قلّما يرغب في صُحبة مثل هذا، وإن كان هذا التكليف شاقّاً على الأنفس لا جَرَمَ كانت درجته عظيمةً في الدين.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ» وأشار بالسَّبَّابة والوسطى. وقال عله الصلاة والسلام: [ «مَا قَعَدَ يَتِيْم مع قَوْم عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيقرب(2/234)
قَصْعَتَهُمُ الشَّيْطَانُ» وقال عليه السلام] : «مَنْ ضَمَّ يَتِيْماً مِنْ بَيْنِ المُسْلِميْنَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يُغْنِيَهُ اللهًُ عَزَّ وَجَلَّ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلاً لاَ يُغْفَرُ» .
قوله: «والمساكين» جمع «مسكين» ، ويسمونه جمعاً لا نظير له من الآحاد، وجمعاً على صيغة منتهى الجُمُوع، وهو من العِلَلِ القائمة مقام علّتين، وسيأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى.
وتقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة.
واختلف فيه: هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالاً منه كقوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي: لصق جلده بالتراب، وهو قول أبي حنيفة وغيره بخلاف القير؛ فإن له شيئاً ما.
قال: [البسيط]
620 - أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَم يُتْرَكْ لَهُ سَبدُ
أو أكمل حالاً؛ لأن الله جعل لهم ملكاً ما، قال: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] وهو قول الشافعي وغيره.
فصل
إنما تأخّرت درجتهم عن اليتامى؛ لأن المِسْكين قد ينتفع به في الاستخدامن فكان الميل إلى مُخَالطته أكثر من المَيْل إلى مُخَالطة اليتامى، وأيضاً المسكين يمكنه الاشتغال بتعهّد نفسه، ومصالح معيشته، واليتيم ليس كذلك، فلا جَرَمَ قدم الله ذكر اليتيم على المسكين.
قال: عليه الصَّلاة والسلام: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ والمِسْكِينَ كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيْلِ اللهِ وأحسبه قال وَكَالقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صَلاَةٍ وَكَالصَّائم لاَ يُفْطِرُ» .(2/235)
قال ابن المنذر: كان طاوس يرى السَّعي على الأخواب أفضل من الجهاد في سبيل الله.
قوله: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» هذه الجملة عَطْفٌ على قوله: «لاَ تْعُبُدُونَ» في المعنى، كأنه قال: لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بالوالدين وقولوا، أو على «أحسنوا» المقدر، كما تقدم تقريره في قوله تعالى: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» .
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم: قولُوا.
وقرأ حمزة والكسائي: «حَسَناً» بفتحتين، و «حُسُناً» بضمتين، و «حُسْنَى» من غير تنوين ك «حُبْلى» و «إِحْسَاناً» من الرباعي.
فأما من قرأ: «حُسْناً» بالضم والإسكان، فيحتمل أوجهاً:
أحدها وهو الظَّاهر أنه مصدر وقع صفةً لمحذوف تقديره: وقولوا للناس حُسناً أي: ذا حسن.
الثاني: أن يكون وصف به مُبَالغة كأنه جعل القول نفسه حسناً.
الثالث: أنه صفة على وزن «فُعْل» ، وليس أصله المصدر، بل هو كالحلو والمر، فيكون بمعنى «حَسَنٍ» بفتحتين، فيكون فيه لغتان: حُسْن وحَسَن ك «البُخْل والبَخَل، والحُزْن والحَزَن، والعُرْب والْعَرب» .
الرابع: أنه منصوب على المَصْدر من المعنى، فإن المعنى: وَلْيَحْسُنْ قَوْلُكم حُسْناً.
وأما قراءة: «حَسَناً» بفتحتين فصفة لمصدر محذوف تقديره: قولاً حسناً، كما تقدم في أحد أوجه «حُسْناً» .
وأما «حُسْناً» بضمتين، فضمة السين لإتباع الحاء، فهو بمعنى «حُسْناً» بالسكون، وفيه الأوجه المتقدمة.(2/236)
وأما «حُسْنَى» بغير تنوين فمصدر ك «البُشْرَى والرُّجْعَى» .
وقال النحاس في هذه القراءة: ولا يجوز هذا في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام، نحو: الكُبْرَى والفُضْلى. هذا قول سيبويه، وتابعه ابن عطية على هذا، فإنه قال: ورده سيبويه؛ لأن «أفعل» و «فعلى» لا يجيء إلا معرفة إلاَّ أن يزال عنها معنى التَّفضيل، ويبقى مصدراً ك «العُقْبى» ، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها. انتهى وناقشه أبو حيان وقال: في كلامه ارْتباك؛ لأنه قال: لأن «أفعل» و «فعلى» لا يجيء إلا معرفة، وهذا ليس بصحيح.
أما «أَفْعل» فله ثلاثة استعمالات.
أحدها: أن يكون معها «مِنْ» ظاهرة أو مقدرة، أو مضافاً إلى نكرة، ولا يتعرف في هذين بحال.
الثاني: أن تدخل عليه «أل» فيتعرف بها.
الثالث: أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح.
وأما «فُعْلى» فلها استعمالان:
أحدهما: بالألف واللام.
والثاني: الإضافة لمعرفة، وفيها الخلاف السابق.
وقوله: «إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، وتبقى مصدراً» ظاهر هذا أن «فُعْلى» أنثى «أفعل» إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدراً وليس كذلك، بل إذا زال عن «فعلى» أنثى «أفعل» معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها؛ ألا ترى إلى تأويلهم «كُبْرى» بمعنى كبيرة، «وصُغْرى» بمعنى صغيرة، وأيضاً فإن «فعلى» مصدر لا يَنْقَاسُ، إنما جاءت منها الألفاظ ك «العُقْبَى والبُشْرَى» ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله: «عنها» عائد إلى «حسنى» لا إلى «فعلى» أنثى «أفعل» ، ويكون استثناء منقطعاً كأنه قال: إلا أن يزال عن «حسنى» التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل، ويصير المعنى: إلا أن يُعْتقد أن «حسنى» مصدر لا أنثى «أفعل» .
وقوله: «وهو وجه القراءة بها» أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين:
أحدهما: المصدر ك «البُشْرى» وفيه الأوجه المتقدمة في «حسناً» مصدراً، إلا أنه يحتاج إلى إثبات «حُسْنى» مصدراً من قول العرب: حَسُن حُسْنَى، كقولهم: رَجَع(2/237)
رُجْعَى، إذا مجيء «فُعْلى» مصدراً لا يَنْقَاسُ.
والوجه الثاني: أن تكون صفةً لموصوف محذوف، أي: وقولوا للناس كلمةً حُسْنَى، أو مقالةً حسنى، وفي الوصف بها حينئذ وجهان:
أحدهما: أن تكون للتفضيل، ويكون قد شَذَّ استعمالها غير معرفة ب «ألْ» ، ولا مضافة إلى معرفة، كما شذَّ قوله: [البسيط]
621 - وَإِنْ دَعَوتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ ... يَوْماً سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا
وقوله: [الرجز]
622 - في سَعْي دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مَدَّتِ ... والوجه الثاني: أن تكون لغير التفضيل، فيكون معنى حُسْنى: حَسَنة ك «كبرى» في معنى كبيرة، أي: وقولوا للناس مَقَالة حَسَنة، كما قال: يوسف أحسن إخوته في معنى حسن إخوته انتهى.
وبهذا يعلم فساد قول النحاس.
وأما من قرأ: «إحساناً» فهو مصدر وقع صفةً لمصدر محذوف، أي: قولاً إحساناً [وفيه تأويل مشهور] ، ف «أحساناً» مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة، أي: قولاً ذا حُسْن، كما تقول: أعشبت الأرض، أي: صارت ذا عُشْب.
فإن قيل: لم خوطبوا ب «قُولوا» بعد الإخبار؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على طريقة اللْتِفَاتِ، كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] .
الثاني: فيه حذف، أي: قلنا لهم: قولوا.
الثالث: الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل: قلت: لا تعبدوا وقولوا.(2/238)
فصل في بيان هل الكفار داخلون في المخاطبة بالحسنى
قال بعضهم: إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين، أما مع الكُفّار والفُسَّاق فلا، بدليل أنه يجب لعنهم وذمّهم ومحاربتهم، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً، وأيضاً قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148]
والقائلون بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القِتَالِ.
ومنهم من قال: إنه دخله التَّخصيص.
وزعم أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر أن هذا العموم باقٍ على ظاهره، ولا حاجة إلى التخصيص، ويدلّ عليه أن موسى وهارون مع عُلوّ منصبهما أُمِرَا بالرِّفْق واللِّين مع فرعون، وكذا محمد صلى لله عليه وسلم أمر بالرفق وترك الغِلْظَة بقوله: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] .
وال: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
وقوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] .
وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] .
وأما ما تمسكوا به من أنه يجب لعنهم وذمهم.
قلنا: لا نسلّم أنه يجب لعنهم، وإن سلّمنا لكن لا نسلّم أن اللّعن ليس قَوْلاً حسناً.
بيانه: أنّ القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يستهوونه، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به، ونحن إذا لعنَّاهم وذَمَمْنَاهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك نافعاً في حقهم، فكان قولاً حسناً، كما أن تغليظ الوالد لولده في القول يكون حسناً ونافعاً من حيث يَرْتَدِعُ به عن الفعل القبيح.
سلمنا أنّ لعنهم ليس قولاً حسناً، ولكن لا نسلّم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن.
بيانه: أنه لا مُنَافَاةَ بين كون الشخص مستحقًّا للتعظيم بسبب إحسانه إلينا، ومستحقًّا للتحقير بسبب كفره، وإذا كان كذلك، فلم لا يجوز أن يقال بوجوب القول الحَسَنِ معهم، وأما تمسّكهم بقوله تعالى:
{لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148]
فجوابه: لِمَ يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه [وهو المراد بقوله عليه السلام «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»
] .(2/239)
فصل في أن الإحسان كان واجباً عليهم
ظاهر الآية يدلّ على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً علهيم في دينهم، وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم؛ لأن أخذ الميثاق يدلّ على الوجوب، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب، والأمر في شرعنا أيضاً كذلك من بعض الوجوه، وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: أن الزّكاة نسخت كلّ حق، وهذا ضعيف؛ لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة، وشاهدناه بهذه الصفة، فإنه يلزمنا التصدق عليه، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزَّكَاةِ كان هذا التصدّق واجباً، ولا شك في وجوب مُكَالمة الناس بطريق لا يتضررون منه.
قال ابن عَبَّاس معنى الآية: «قولوا لهم لا إله إلا الله» .
وفسّره ابن جريج: «قولوا للناس حسناً صدقاً في أمر محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يتغيّروا صفته» .
وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وأنْهوهم عن المنكر.
وقال أبو العالية: «قولوا لهم الطّيب من القول، وجاوزهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به» ، وهذا كلّه حضٌّ على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لَيْناً حسناً، كما قال تعالى لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} [طه: 44] .
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لعائشة: «لاَ تَكُوني فَحَّاشَةً فَإِنَّ الفُحْشَ لَوْ كَانَ رَجُلاً لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ» ، ويدخل في هذه الآية المؤمن والكافر.
قوله: «وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ» تقدم نظيره.
وقال ابن عطية: «زكاتهم هي التي كانوا يضعونها، وتنزل النَّار على ما تقبل منه، ولم تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاتنا.
قال القرطبي:: وهذا يحتاج إلى نَقْل ... » .
قوله: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ» .
قال الزمخشري: «وهذا على طريقة الالتفات» وهذا الذي قاله إنما يجيء على قراءة: «لاَ يَعْبُدُونَ» بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات ألبتَّة، ويجوز أن يكون(2/240)
أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاء الحاضرين في زمن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [وقد قيل ذلك] ويؤيده قوله تعالى: «إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ» .
قيل: يعني بهم الذين أسلموا في زمانه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كعبد الله بن سَلام وأضرابه، فيكون التفاتاً على القِرَاءتين.
ثم قال ابن الخطيب: الآية تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون المُرَاد من تقدم من بني إسرائيل، لأنه تعالى قد سَاقَ الكلام الأول في إظهار النعم بإقامة الحجج ثم بيّن بعد أنهم تولوا إلا قليلاً، فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه، فإنّ أول الكلام في المتقدمين، فالظاهر يقتضي أن آخره فيهم، إلا بدليل يوجب الانصراف عن الظاهر.
وثانيها: أنه خطاب للحاضرين في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يعني: أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أَسْلاَفكم؛ لأنه خطاب مشافهة، وهو بالحاضرين أليق.
وثالثها: أن يكون المراد بقوله: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» من تقدم؛ لأنه تعالى لما بين أنه تعالى أنعم عليهم بتلك النّعم ثم تولّوا عنها بعد ذلك كان ذلك دالاًّ على نهاية قبح أفعالهم، ويكون قوله: وأنتم معرضون مختصاً بمن كان في زمان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: انكم بمنزلة المتقدّمين الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق، فإنكم بعد إطّلاعكم على صدق دلائل النّبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعرضتم عنه، فكنتم بهذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين [الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق بذلك الشِّرك] في ذلك التولي والله أعلم.
و «قليلاً» منصوب على الاستثناء؛ لأنه من موجب.
وقال القرطبي: المستثنى عند سيبويه منصوب؛ لأنه مشبه بالمَفْعُول.
وقال محمد بن يزيد: هو المفعول حقيقة؛ لأن معناه: استثنيت قليلاً.
وروي عن أبي عمرو وغيره: «إلاَّ قَلِيلٌ» بالرفع، وفيه ستّة أقوال:
أصحها: أن رفعه على الصفة بتأويل «إلاّ» وما بعدها بمعنى «غَيْر» ، وقد عقد سيبويه رَحِمَهُ اللهُ في كتابه لذلك باباً فقال: «هذا باب ما يكن فيه» إلاَّ «ما بعدها وصفاً بمنزلة غَيْر ومثل» وذكر من أمثلة هذا الباب: «لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنَا» و {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .
قال الطويل:
623 - ... ... ... ... ... ... ...(2/241)
قَلِيلٌ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلاَّ بُغَامُهَا
وسَوَّى بين هذا وبين قراءة: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} [النساء: 95] برفع «غير» وجوز في نحو: «ما قام القومُ إلا زيدٌ» بالرفع البدل والصِّفةن وخرج على ذلك قوله: [الوافر]
624 - وَكُلّ أخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ
كأنه قيل: «وكلُّ أخٍ غيرُ الفَرْقَدَين مُفَارِقُهُ أخُوهُ» ؛ كما قال الشَّمَّاخ: [الطويل]
625 - وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ ... لِوَصلِ خَلِيلٍ صَارٍمٌ أَو مُعَارِزُ
وأنشد غيره: [الرمل]
626 - لِدَمٍ ضَائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ ... أَقْرَبُوهُ إلاَّ الصَّبَا والجَنُوبُ
وقوله: [البسيط]
627 - وَبِالصَّرِمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ ... عَافٍ تَغَيَّرَ إلاَّ النُّؤْيُ والوَتِدُ
والفرق بين الوصف «إلاَّ» والوصْفِ بغيرها أنَّ «إلاَّ» توصف بها المعارفُ والنكرات، والظاهرُ والمضمرُ.(2/242)
وقال بعضهم: «لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس، فإنه في قوة النكرة» .
وقال المبرِّد: «شرطه صلاحية البدلِ في موضعه» .
الثاني: أنه عطف بيان، قاله ابن عصفور.
وقال: «إنما يعني النحويون بالوصف» إلاَّ «عطف البيان» ، [وفيه نظرٌ] .
الثالث: أنه مرفوع بفعل مَحْذُوف، كأنه قال: امتنع قليل.
الرابع: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أي إلاَّ قليل منكم لم يتولّوا، كما قالوا «مامررت بأحد إلاّ رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه» .
الخامس: أنه توكيد للضمير المرفوع، ذكر هذه الأوجه أبو البقاء.
وقال: سيبويه وأصحابه يسمونه نعتاً ووصفاً يعني التوكيد، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى، ولكنها قد قيلت.
السادس: أنه بدلٌ من الضمير «تولّيتم» .
قال ابن عطية: وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي؛ لأنَّ «توليتم» معناه النفي كأنه قال: لم تَفُوا بالميثاق إلا قليل، وهذا الذي ذكره مِنْ جَوَاز البدل منعه النحويون، فلا يجيزون «قام القوم إلا زيد» على البدل.
قالوا: لأن البدل يَحُلّ محلّ المبدل منه فيؤول إلى قولك: «قام إلا زيد» ، وهو ممتنع.
وأما قوله: إنه في تأويل النفي، فما من موجب إلاَّ يمكن فيه ذلك، ألا ترى أن قولك: «قام القوم إلا زيد» في حكم قوله: «لم يجلسوا إلاَّ زيد» ، فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده كان كذلك، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها، وإنما أجاز النحويون:
«قام القوم إلا زيد» بالرفع على الصيغة كما تقدم تقديره.
و «منكم» صفة ل «قَلِيلاً» فيه في محل نصب، أو رفع على حسب القراءتين، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاصُ لوصفه بقوله: «مِنْكُمْ» .
وقال ابن عطية: «ويُحْتَمَل أن تكون القلة في الإيمان، أي: لم يبق حينَ عَصَو وكمفروا آخرهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى» انتهى.
وهذا قول بعيد جدّاً أو ممتنع.
«وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل «تَوَلَّيْتُمْ» وفيها قولان:(2/243)
أحدهما: أنها حال مؤكِّدة؛ لأن التولّي والإعراَ مُتَرَادفان، وقيل مبيِّنة، فإن التولي باليدين والإعراض بالقلب، قاله أبو البقاء.
وقال بعده: وقيل: «تَوَلَّيْتُمْ» يعني آباءهم، و «وأنتم معرضون» يعني أنفسهم، كما قال: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] أي آباءهم انتهى.
وهذا يؤدّي إلى أن جلمة قوله: «وأنْتُمْ معْرِضُونَ» لا تكون حالاً؛ لأن فاعل التولّي في الحقيقة ليس هو صَاحِبَ الحال والله أعلم.
وكذلك تكون «مبيّنة» إذا اختلف متعلّق التولي والإراض كما قال بعضهم: ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم، وأنتم معرضون عن هذا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: التولّي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق، وذلك أنه إذا سلك طريقاً ورجع عَوْدَه على بَدْئه سمي ذلك تولياً، وإن سلك في عُرْض الطريق سمي إعراضاً.
وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة ب «أنتم» ؛ لأنه أكد.
وجيء بخبر المبتدأ اسماً، لأنه أولّ على الثبوت فكأنه قيل: وأنتم عادتكم التولي والإعراض عن الحق.(2/244)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
هذا الخطاب كله كالذي قبله: وقوله: «لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ» كقوله: «لاَ تَعْبُدُونَ إَلاَّ اللهَ» في الإعراب سواء.
و «تُسْفِكُونَ» من «أَسْفَك» الرّباعي.
وقرأ طلحة بن مصرف، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغةن وأبو نهيك «تُسَفْكْونَ» بضم التاء، وفتح السين وتشديد الفاء.
و «وَلاَ تْخْرِجُونَ» معطوف.
فإن قيل: الإنسان ملجاً إلى ألاَّ يقتل نفسه فأي فائدة في النهي عنه؟
فالجواب من أوجه:
أحدها: أن هذا الإلجاء قد تغير كما ثبت في أهل «الهِنْدِ» أنهم يقدرون في قتل النفس التَّخلُّص من عالم الفساد، واللحوق بعالم النور والصلاح، أو كثير ممن صعب(2/244)
عليه الزمان، وثقل عليه أمر من الأمور، فيقتل نفسه، فإذا انتفى كون الإنسان ملجاً إلى ترك قتله نفسه صحّ كونه مكلفاً به.
وثانيها: المراد لا يقتل بعضكم بعضاً، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتّصل به نَسَباً وديناً كقوله تعالى: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وثالثها أنه إذا قتل غيره، فكأنما قتل نفسه؛ لأنه يقتصُّ منه بإقامة المسبّب مقام السَّبب، وهو قريب من قولهم: «القَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ» ؛ وقال: [الطويل]
628 - سَقَيْنَاهُمُ كَأْساً سَقَوْنَا بِمِثِلْهَا ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى المَوْتِ أَصْبَرَا
وقيل: لا تفسكوا بارتكاب أنفسكم ما يوجب سفكها كالارْتِدَاد نحوه وهو قريب مما قبله.
ورابعها: لا تتعرضوا لمُقَاتلة من يقتلكم، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.
وخامسها: لا تسفكوا دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا، فتكونوا مهلكين لأنفكسم.
قوله: «وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ» فيه وجهان.
الأول: لا تفعلون ما تستحقّون بسببه أن تخرجوا من دياركم.
الثاني: المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم؛ لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة.
«مِنْ دِيَارِكُمْ» متعلّق ب «تخرجون» ، و «من» لابتداء الغاية، و «ديار» جمع دار الاصل: دَوَرَ؛ لأنه من دَارَ يَدُورُ دَوَرَاناً، فأصل دِيَار: دِوَار، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، واعتلالها في الواحد.
وهذه قاعدة مطّردة [في كل جمع على «فِعَالٍ» صحيح اللام قد اعتلت عين مفردة، أو سكنت حرف علة نحو:] ديار وثياب، ولذلك صحّ «رِوَاء» لاعتلال لامه، و «طِوَال» لتحرك عين مفردة، وهو «طويل» .
فأما «طيال» في «طوال» فَشَاذّ، وحكم المصدر حكم هذا نحوك قام قياماً، وصام صياماً، ولذلك صح «لِوَاذ» لصحة فعله في قولهم: «لاوذ» .
وأما دَيَّار فهو من لفظه الدار، وأصله: ديوان، فاجتمع الياء والواو فأعلاً على القاعدة المعروفة فوزنه: «فَيْعَال» لا «فَعَّال» ، إذ لو كان «فَعَّالاً» لقيل: دَوَّار ك «صَوَّام وقَوَّام» والدَّار: مجتمع القوم من الأَبنية.(2/245)
وقال الخَلِيلُ: كل موضع حَلَّه الناس، وإن لم يكن أبنية.
[وقيل: سميت داراً لدورها على سكانها، كمى سمي الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه] .
و «النفس» مأخوذ من النّفَاسة، فنفس الإنسان أشرف ما فيه.
وقوله: «ثم أقررتم» .
قال أبو البقاء: فيه وجهان:
أحدهما: أن «ثُمّ» على بابها في إفادة العطف والتراخي، والمعطوف عليه محذوف تقديره: فَقَبِلْتُمْ، ثم أقررتم.
والثاني: أن تكون «ثم» جاءت لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر عنه، كقوله تعالى: {ثُمَّ الله شَهِيدٌ} [يونس: 46] .
قوله: «وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» كقوله: {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} [البقرة: 83] وفيها وجوه: أحدها: أقررتم بالمِيثَاق، ثم اعترفتم على أنفسكم بلزومه، وأنتم تشهدون عليها، كقولك: فلان مقرّ على نفسه بكذا، شاهد عليها.
وثانيها: اعترفتم بقَبُوله، وشهد بعضكم على بعض بذلك؛ لأنه كان شائعاً بينكم مشهوراً.
وثالثها: وأنتم تشهدون اليوم ما مَعْشَرَ اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق.
ورابعها: أن المراد بهذا الإقرار الذي هو الرِّضا بالأمر والصبر عليه، كما يقال فلان لا يقر على الضَّيم، فيكون المعنى أنه تعالى أمركم بذلك، ورضيتم به، وأقمتم عليه، وشهدتم على وجوبه وصحته.
فإن قيل: لم قال «أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» والمعنى واحد؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أقررتم يعني أسْلافكم، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم.
الثاني: أقررتم في وقت المِيثَاقِ الذي مضى، وأنتم بعد ذلك تشهدون [بقلوبكم] .
الثالث: أنه للتأكيد.
قوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ» فيه سبعة أقوال:
أحدها: وهو الظاهر أن «أنتم» في محل رفع بالابتداء، وهؤلاء خبره و «تقتلون» «(2/246)
حال، والعامل فيها اسم الإشارة لما فيه من معنى الفِعْل، وهي حال منه ليتّحد ذُوا الحال وعاملها.
وقد قالت العرب:» ها أنت ذا قائماً «و» ها أنا ذا قائماً «و» ها هوذَا قائماً «فأخبروا باسم الإشارة عن الضَّمير في اللَّفظ والمعنى على الإخبار بالحال، فكأنه قال:» أنت الحاضر «، وأنا الحاضر» ، وهو الحاضر «في هذه الحالة.
ويدل على أن الجملة من قوله:» تَقْتُلُونَ «حال وقوع الحال الصريحة موقعها كما تقدم في:» ها أنا ذا قائماً «ونحوه إلى هذا المعنى نَحَا الزمخشري فقال:» ثُمّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ «استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارِهم وشَهَادتِهم، والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون: يعني أنكم قوم آخرون غيرُ أولئك المقربين، تنزيلاً لتغير الصّفة منزلة تغير الذَّات كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به.
وقوله: «تَقْتُلُونَ» بيان لقوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ» .
واعترضه أبو حَيَّان فقال: الظاهر أن المشار إليهم بقوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ» هم المخاطبون أولاً، فليسوا قوماً آخرين، ألا ترى أن التقدير الذي قَدَّره الزمخشري من تقدير [تغير الصّفة منزلة] تغيّر الذات لا يتأتى في نحو: ها أنا ذا قائماً، ولا في نحو: ها أنتم هؤلاء، بل المُخَاطب هو المشار إليه من غير تَغَيُّرٍ.
وأجيب بأن هذا الإيراد بعيد غير واضح.
والثاني: أن «أنتم» أيضاً مبتدأ، و «هؤلاء» خبره، ولكن بتأويل حذف مضاف تقديره: ثم أنتم مِثْلُ هؤلاء، و «تقتلون» حال ايضاً، العامل فيها معنى التشبيه، إلا أنه يلزم منه الإشَارة إلى غائبين؛ لأن المراد بهم أَسْلاَفهم علىهذا، وقد يقال: إنه نزل الغائب منزلة الحاضر.
الثالث: ونقله «ابن عطية» عن شيخه «ابن الباذش» أن «أنتم» خبر متقدم، و «هؤلاء» مبتدأ مؤخر. وهذا فاسد؛ لأن المبتدأ أو الخبر متى استويا تعريضاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدم الخبر، وإن ورد منه ما يوهم فمتأول.
الرابع: أن «أنتم» مبتدأ و «هؤلاء» مُنَادى حذف منه حرف النِّدَاء، وتقلتون خبر المبتدأ، وفصل بالنداء بين المبتدأ وخبره.
وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به «الفراء» وجماعة؛ أنشدوا: [البسيط](2/247)
629 - إِنَّ الأُولى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولاَ
أي: يا هذا، وهذا لا يجوز عند البصريين، ولذلك لُحِّنَ المتنبي في قوله: [الكامل]
630 - هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيَا..... ... ... ... ... ... ...
وفي البيت كلام طويل.
الخامس: أن «هؤلاء» موصول بمعنى «الذي» ، و «تقتلون» صلته، وهو خبر عن «أنتم» أي: أنتم الذين تقتلون. وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به «الفراء» وجماعة؛ أنشدوا: [البسيط]
631 - ... ... ... ... ... ... . ... نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
أي: والذي تحملين، ومثله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} [طه: 17] يعني: وما التي؟
السادس: أنَّ «هؤلاء» منصوب على الاختصاص، بإضمار «أعني» و «أنتم» مبتدأ، و «يقتلون» خبره، اعترض بينهما بجملة الاختصاص، وإليه ذهب ابن كَيْسَان. وهذا لا يجوز، لأن النحويين قد نصّوا على أن الاختصاص لا يَكُون بالنكرات، ولا أسماء الإشارة، والمستقرأ من لسان العرب أن المنصوب على الاختصاص: إما «أي» نحو: «اللهم اغفر لنا أيتها العِصَابة» أو معرف ب «أل» نحو: نحن العَرَبَ أَقْرَى النَّاس للضيف، أو بالإضافة نحو: نحن مَعَاشِرَ الأنبياء لا نورّث، وقد يجيء كقوله: [الرجز]
632 - بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ...(2/248)
وأكثر ما يجيء بعد ضمير تكلُّم كما تقدم، وقد يجيء مخاطب كقولهم: «بك الله نرجو الفضل» .
السابع: أن يكون «أَنْتُمْ هَؤُلاَء» على ما تقدّم من كونهما مبتدأ أو خبر، والجُمْلة من «تقتلون» مستأنفة مبينة للجملة قبلها، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى، وبيان حَمَاقتكم وقلّة عقلوكم أنكم تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من دِيَارِهِمْ، وهذا ذكره الزَّمخشري في آل عمران في قوله: {هاأنتم هؤلااء حَاجَجْتُمْ} [آل عمران: 66] ولم يذكر هنا، وسيأتي بنصه إن شاء الله تعالى.
قوله: «تَظَاهَرُونَ» هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «تُخْرجون» وفيها خمس قراءات: «تَظَّاهرُون» بتشديد الظَّاء، والأصل: تتظاهرون فأُدغم لقرب الظاء من التاء.
و «تَظَاهَرُون» مخففاً، والأصل كما تقدم، إلا أنه خفّفه بالحذف، وهل المحذوف الثانية وهو الأَوْلَى؛ لحصول الثقل بها، ولعدم دلالتها على معنى المُضَارعة، أو الأُولَى كما زعم هشام؛ قال الشاعر: [البسيط]
633 - تَعَاطَسُونَ جَمِيعاً حَوْلَ دَارِكُمُ ... فَكُلُّكُمْ يَابَنِي حَمْدَانِ مَزكُومُ
أراد: تتعاطسون فحذف.
و «تَظَّهَّرُون» بتشديد الظاء والهاء.
و «تَظَاهَرُون» من «تَظَاهر» و «تَتَظَاهَرُونَ» على الأصل من غير حذف، ولا إدْغَام وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتَّنَاصُر من المظاهرة، كأن كل واحد منهم يسند ظَهْرَهُ للآخر ليتقوّى به، فيكون له كالظَّهر؛ قال: [الطويل]
634 - تَظَاهَرْتُمُ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ ... عَلَى وَاحِدٍ لاَ زِلْتُمُ قِرْنَ وَاحِدِ
قال ابن الخطيب: الآية تدلّ على أن الظُّلم كما هو محرم، فإعانة الظالم على ظلمه محرمة.
فإن قيل: أليس أن الله تعالى لما أقدر الظَّالم على الظّلم، وأزال العوائق والموانع، وسلط عليه الشهوة الدّاعية إلى الظلم كمان قد أعانه على الظلم، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحةً لوجب ألاَّ يوجد ذلك من الله تعالى؟
والجواب: أنه تعالى وإن مكّن الظَّالم من ذلك فقد زَجَرَهُ عن الظلم بالتَّهْديد(2/249)
والزجر، بخلاف المعني للظالم على ظلمه، فإنه يرغبه فيه، ويحسنه له ويدعوه إليه فظهر الفرق.
و «الإثم» في الأصل: الذنب، وجمعه «آثام» ، ويطلق على الفعل الذي يستحقّ به صاحبه الذّم واللوم.
وقيلك هو ما تَنْفِرُ منه النفس، ولا يطمئنّ إليه القَلْب، فالإثْمُ في الآية يحتمل إن يكون مراداً به [أحد] هذه المعاني ويحتمل أن يتجوّز به عما يوجب الإثم من إقامة السَّبب مقام السَّبب مقام المسببح كقوله: [الوافر]
635 - شَرِبءتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
فعبر عن الخمر بالإثم، لما كان مسبَّباً عنها.
فصل في معنى العدوان واشتقاقه
و «العُدْوَان» : التجاوز في الظلم، وقد تقدم في {يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] وهو مصدر ك «الكُفْرَان والغُفْرَان» والمشهور ضمّ فائه، وفيه لغة بالكَسْر.
قوله: «وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ» «إن» شرطية، و «يأتوكم» مجزوم بها بحذف النون والمخاطب مفعول.
و «أسارى» حال من الفاعل في «يأتوكم» .
وقرأ الجماعة غير حمزة «أُسارى» وقرأ هو: «أَسْرَى» وقرء:: أَسَارَى «بتفح الهمزة، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أنه جُمِعَ جَمْع» كَسْلاَن «لما جمعهما من عدم النَّشَاط والتصرف، فقالوا:» أسير وأسارى «بضم الهمزة ك» كَسْلاَن وكُسَالَى «و» سَكْرَان وسُكَارى «، كما أنه قد شبه كَسْلان وسَكْران به فجمعا جمعه الأصلي الذي هو على» فعلى «فقالوا: كسلان وكَسْلى، وسكران وسَكْرى لقولهم: أسير وأسرى.
قال سيبويه: فقالوا: في جمع كَسْلان كَسْلَى شبّهوه ب» أَسْرَى «. كما قالوا: أُسارى شبَّهوه ب» كَسَالى «، ووجه الشبه أنَّ الأسْر يدخل على المرء كرهاً كما يدخل الكَسَل.(2/250)
قال بعضهم: والدَّليل على اعتبار هذا المعنى أنهم جمعوا» مريضاً وميتاً وهالكاً «على» فَعْلَى «فقالوا:» مرضى وموتى وهَلْكَى «لما جمعها المَعْنَى الذي في» قَتْلَى وجَرْحَى «.
الثَّاني: أنَّ» أُسَارى «جمع» أسير «، وقد وجدنا» فَعِيلاً «يجمع على» فُعَالى «قالوا: شيخ قديم، وشيوخ قُدَامى. وفيه نظر، فإن هذا شاذ لا يقاس عليه.
الثالث: أنه جمع» أسير «أيضاً، وإنما ضموا الهمزة من» أُسَارى «وكان أصلها الفَتْح ك» نديم ونُدَامى «كما ضمت الكاف والسين من» كُسَالى «و» سُكَارى «وكان الأصل فيهما الفتح نحوك» عَطْشَان وعَطَاشى «.
الرابع: أنه جمع» أسرى «الذي هو جمع» أسير «فيكون جمع الجمع.
وأما قراءة حمزة فواضحة؛ لأن» فَعْلَى «ينقاس في» فعيل «نحو:» جريح وجرحى «و» قتيل وقَتْلَى «و» مريض ومرضى «.
وأما» أَسَارَى «بالفتح فقد تقدم أنها أصل أُسَارَى بالضم عند بعضهم، ولم يَعْرِفْ أهل اللُّغَة فرقاً بين» أُسَارَى «و» أَسْرَى «إلاَّ ما حكاه أبو عُبَيْدَة عن أبي عمرو بن العلاء، فإنه قال:» ما كان في الوَثَاقِ «فهم الأُسَارَى، وما كان في اليد، فهم الأَسْرَى» ونقل بعضهم عنه الفرقَ بمعنًى آخر، فقال: «ما جاء مستأسراً فهم الأسْرَى، وما صار في أيديهم، فهم الأُسَارَى» ، وحكى النقَّاشُ من ثَعْلَبِ؛ أنه لما سمع هذا الفَرْق قال: «هذا كلامُ المَجَانِينِ» ، وهي جُرْآة منه على أبي عمرو، وحكى عن المبرِّد أنه يقال: «أسِير وأُسَرَاء» ك «شَهِيدٍ وشُهَدَاء» و «الأَسير» : مشتقٌّ من «الإسَارِ» وهو القَيْدُ الذي يُرْبَطُ به من المحمل، فسمي الأسير أسيراً، وإن لم يُرْبَط، والأَسْر: الخلْقُ في قوله:
{وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 29] وأُسْرَة الرَّجْل: من يتقوَّى بهم، والأُسْر: احتباس البَوْل، ورجل مَأْسُوةر: أصابه ذلك؛ وقالت العربُ: أسَرَ قَتَبَهُ: أي: شَدَّه؛ قال الأعشىك [المتقارب]
636 - وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ في بَيْتِهِ ... كَمَا قَيَّدَ الآسِرَاتُ الحَمَارَا
يريد: أنه بلغ في الشعر النّهاية؛ حتى صار له كالبيت الذي لا يَبْرَحُ عنه.
قوله: «تُفَادُوهُمْ» قرأ نافع وعاصم والكسائيك «تُفَادُوهُمْ» ، وهو جواب الشرط، فلذلك حذف نون الرفع، وقرأ الباقون: «تَفْدُوهُمْ» ، وهل القراءتان بمعنى واحد، ويكون معنى «فَاعَل» مثل معنى «فَعَل» المجرد مثل: «عاقبت وسَافرت» أو بينهما فرق؟ خلاف مشهور، ثم اختلف الناس في ذلك الفرق ما هو؟(2/251)
فقيل: معنى «فَدَاه» أعطى فيه فِدَاء من مال، و «فَادَاهُ» : أعطى فيه أسيراً مثله؛ وأنشد: [الطويل]
637 - وَلَكِنَّنِي فَادَيْتُ أُمِّيَ بَعْدَمَا ... عَلاَ الرَّأْسَ مِنْهَا كَبْرَةٌ وَمَشِيبُ
وهذا القول يرده قوله العباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: فَادَيْتُ نفسي وفاديت عقيلاً، ومعلوم أن لم يُعْط أسيره في مقابلة نفسه ولا وَلَدِهِ.
وقيل: تفدوهم بالصّلح، وتفادوهم بالعنف.
وقيل: تفدوهم تعطوا فديتهم، وتفادوهم تطلبون من أعدائكم فِدْيَةَ الأسير الذي في أيديكم؛ ومنه: [الوافر]
638 - قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إنَّ قَوْمِي ... وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا
والظاهر أن «تفادوهم» على أصله من أثنين، وذلك أن الأسير يعطى المال والأسير يعطى الإطلاق، وتفدوهم على بابه من غير مُشَاركة، وذلك أن الفريقين يَفدي صاحبه من الآخر بمال أو غيره، فالفعل على الحقيقة من واحد.
و «الفِدَاء» ما يفتدى به، فإذا كسروا فاءه، جاز فيه وجهان:
المدُّ والقَصْر، فمن المَدِّ قول النابغةك [البسيط]
639 - مَهْلاً فِدَاءَ لَكَ الأَقْوَامُ كُلُّهُمُ ... وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
ومن القصر قوله: [الطويل]
640 - ... ... ... ... ... ... ... ... فِدَى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وتَالِدِي
ومن العرب من يكسر: «فدى» مع لام الجر خاصّة، نحو: فِدّى لَكَ أَبي وأمي «يريدون الدعاء له بذلك، وفدى يتعدّيان لاثنين أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر، تقول:» فديت أو فاديت الأسير بمال «، وهومحذوف في الآية الكريمة.(2/252)
قال ابن عطية: وحَسُنَ لفظ الإتْيَان من حيث هو في مُقابلة الإخراج، فيظهر التَّضادّ المقبح لفعلهم في الإخراج.
يعني: أنه لايناسب من أسأتم إليه بالإخراج من داره أن تحسنوا إليه بالفداء.
فصل فيما أخذ الله على بني إسرائيل
قال السّدي: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ألاَّ يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، وكانت» قريظة «حلفاء» الأوس «،» والنضير «حلفاء» الخزرج «، وكانوا يقتلون في حرب سِنِيْنَ، فيقاتل» بنو قريظة «مع حلفائهم،» وبنو النضير «مع حلفائهم، وإذا غلبوا خربوا ديارهم، وأخرجوهم منها، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، وإن كان الأسير من عدّوهم، فتعيّرهم العرب، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، فيقولون: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تذلّ حلفاؤنا، فعيّرهم الله تعالى، فقال:» ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ «.
وفي الآية تقديم وتأخير، ونظمها: وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، وهو محرم عليكم إخراجهم، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم فكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتال، وترك الإخراج، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم، وفداء أسرائهم، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء، فقال عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] .
وقال مجاهد: يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك.
قوله: «وَهُوَ مُحَرَّمٌ» فيه وجوه.
والظاهر منها: أن يكون «هو» ضمير الشأن والقصّة، فيكون في محلّ رفع بالابتداء، و «محارم» خبر مقدم، وفيه ضمير قائم مقام الفاعل، و «إخراجهم» مبتدأ مؤخر، والجملة من هذه المبتدأ والخبر في محل رفع خبراً لضمير الشأن، ولم تحْتَجْ هنا إلى عائد على المبتدأ؛ لأن الخبر نفس المبتدأ أو عينه.
وهذه الجملة مفسرة لهذا الضمير، وهو أحد المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده وقد تقدّمت، ولسي لنا من الضَّمائر ما يفسَّر بجلمة غيرُ هذا الضمير، ومن شرطه أن يؤتى به في مَوَاضع التَّعْظيم، وأن يكون معمولاً للابتداء أو نواسخه فقط، وأن يفسر بجملة مصرح بجزيئها، ولا يُتبع بتابع من التَّوَابع الخمسة، ويجوز تذكيره وتأنيثه مطلقاً خلافاً لما فصل، فتذكيره باعتبار الأمر والشأن، وتأنيثه باعتبار القصّة فتقول:(2/253)
«هو زيد قائم» ، ولا يثنى ولا يجمع، ولا يحذف إلا في مواضع تذكر إن شاء الله تعالى، والكوفيُّون يسمونه ضمير المَجْهُول، وله أحكام كثيرة.
الوجه الثاني: أن يكون «هو» ضمير الشأن أيضاً، و «محرم» خبره، و «أخراجهم» مرفوع على أنه مفعول لَمْ يسمّ فاعله. وهذا مذهب الكوفيين، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول؛ لأن عندهم أن الخبر المحتمل ضميراً مرفوعاً لا يجوز تقديمه على المبتدأ، فلا يقال: قائم زيد على أن يكون «قائم» خبراً مقدماً، وهذا عند البصريين ممنوع لما عرفته أن ضمير الشأن لا يفسّر إلا بجملة، والاسلا المشتق الرافع لما بعده من قبيل المُفْرَدَات لا الجمل، فلا يفسر به ضمير الشَّأن.
الثَّالث: أن يكون «هو» كناية عن الإخْرَاج، وهو مبتدأ، و «محرم» خبره، و «إخراجهم» بدل منه، وهذا على أحد القولين.
وهو جواز إبدال الظَّاهر من المضمر قبله ليفسره، واستدلّ من أجاز ذلك بقوله: [الطويل]
641 - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ ... في الْقَوْمِ حَاتِماً
عَلَى جُودِهِ لَضَنَّّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ ... ف «حَاتم» بَدلٌ عن الضمير في «جُودِهِ» .
الرابع: أن يكون «هو» ضمير الإخراج المَدْلُولَ عليه بقوله: «وَتُخْرِجُونَ» و «مُحَرَّمٌ» خبره، و «إخْرَاجُهُمْ» بدل من الضمير المستتر في «محرم» .
الخامس: كذلك، إلا أن «أخراجهم» بدلٌ من «هو» . نقل هذين الوجيهن أبو البقاء، وفي هذا الأخير نظر، وذلك أنك إذا جعلت «هو» ضمير الإخراج المدلول عليه بالفعل كان الضمير مفسراً به نحو: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] فإذا أبدلت منه «أخراجهم المَلْفُوظَ به كان مَفسّراً به أيضاً، فيلزم تفسيره بشيئين، إِلاَّ أن يقال: هذان الشيئان في الحقيقة شيء واحد فيُحتمل ذلك.
السادس: أجاز الكوفيون أن يكن» هو «عماداً، وهو الذي يسميه البصريون ضمير الفَصْل قُدّم مع الخبر، والأصل: وإخراجهم هو محرم عليكم، و» إخراجهم «مبتدأ، و» محرم «خبره، و» هو «عِمَاد، فلما قدم الخبر قدم معه.
قال الفراء: لأن الواو هنا تطلب الاسم، وكل موضع نطلب فيه الاسم فالعماد جائز وهذا عند البصريين ممنوع من وجهين:
أحدهما: أنَّ الفصل عندهم من شرطه أن يقع بين معرفتين أو بين معرفة ونكرة(2/254)
قريبة من المعرفة في امتناع دخول ألأ ك» أفعل من «ومثل وأخواتها.
والثاني: أن الفَصْل عندهم لا يجوز تقديمه مع ما اتصل به.
والسابع: قال ابن عطية: وقيل في» هو «: إنه ضمير الأمر، والتقدير: والأمر محرم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من» هو «.
وقال أبو حَيَّان: وهذا خطأ من وجهين:
أحدهما: تفسير ضمير الأمر بمفرده، وذلك لا يجيزه بَصْري ولا كُوفي، أما البصري فلا شتراطه جملة، وأما الكوفي فلا بد أن يكون المفرد قد انتظم منه [نحو» ظننته قائماً الزيدان «.
والثاني: أنه جعل» إخراجهم «] بدلاً من ضمير الأمر، وقد تقدم» أَلاَّ يُتْبَع بِتَابعٍ «.
الثامن: قال ابن عطيّة أيضاً: وقيل: هو فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و» مُحَرّم «على هذا ابتداء، و» إخراجهم «خبر.
قال: أبو حيان والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، أي: يكون «إخراجهم» متبدأ مؤخراً، «محرم» خبر مقدم قّدِّم مع الفَصْل كما تقدم، وهو الموافق للقواعد، ولا يلزم منه الإخبار بمعرفة عن نكرة من غير ضرورة تدعو إلى ذلك.
التاسع: نقله ابن عطيّة أيضاً عن بعضهم أن «هو» الضمير المقدر في «محرم» قدم وأَظْهِر.
قال الشيخ: وهذا ضعيف جدّاً؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى انفصال هذا الضمير بعد اسْتِتَارِهِ وتقديره، وأيضاً فإنه يلزم خلوّ اسم المفعول من ضمير؛ إذ على هذا القول يكون «محرم» خبراً مقدماً، و «إخراجهم» متبدأ مؤخراً ولا يوجد اسم فاعل، ولا مفعول خالياً من الضمير إلاَّ إذا رفع الظَّاهر، ثم يبقى هذا الضمير لا ندري ما إعرابه، إذ لا يجوز مبتدأ، ولا فاعلاً مقدماً وفي قول الشيخ: «يلزم خُلُّوه من ضمير» نظر؛ إذ هو ضمير مرفوع به، فلم يخل منه غاية ما في الباب أنه انفصل للتقديم.
وقوله: «لا ندري ما إعرابه» ؟ قد دري، وهو الرفع بالفاعلية.
وقوله: والفاعل لا يقدم «ممنوع» فإن الكوفي يجيز تقديم الفَاعِلِ، فيحتمل أن يكون هذا القاتل يرى ذلك، ولا شكّ أن هذا قول رديء منكر لا ينبغي أن يجوز مثله في الكلام، فكيف في القرآن! فالشيخ معذور، والعجب من ابن عطية كيف يورد هذه الأشياء حاكياً لها ولم يُعَقِّبْها بنكير؟(2/255)
وهذه الجملة يجوز أن تكون محذوفةً من الجمل المذكورة قبلها، وذلك أنه قد تقدم ذكر أربعة أشياء كلها محرمة وهي قوله: تقتلون أنفسكم وتخرجون [فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ] ، وتظاهرون، وتفادون فيكون التقدير: تقتلون أنفسكم وهو محرّم عليكم قتلها وكذلك مع البواقي.
ويجوز أن يكون خصّ الإخراج بذكر التحريم، وإن كانت كلها حراماً، لما فيه من معرَّة الجلاء والنّفي الذي لا ينقطع شرّه إلا بالموت والقَتْل، وإن كان أعظمَ منه إلاَّ أن فيه قطعاً للشر، فالإخراج من الدِّيَار أصعب الأربعة بهذا الاعتبار.
و «المحرم» : الممنوع، فإن التَّحريم هو المَنْع من كذا، والحَرَام: الشَّيء الممنوع منه يقال: حَرَامٌ عليك وسيأتي تحقيقه في «الأنبياء» إن شاء الله تعالى.
فصل في المراد بالكفر والإيمان في الآية
اختلف العلماء في قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} قال ابن عباس وقتادة وابن جريج: «أخراجهم كفر، وفداؤهم إيْمَان؛ لأنه ذمهم على المُنَاقضة، إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض» .
فإن قيل: هَبْ أن ذلك الأخراج كان معصيةً، فَلِمَ سماها كفراً؟ مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر.
فالجواب: لعلّهم صرحوا بأن ذلك الإخراج غير واجب مع أنّ صريح التوراة كان دالاً على وجوبه.
الثاني: أن المراد تمسّكهم بنبوة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع التكذيب بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أن الحُجّة في أمرها سواء.
قوله: {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ} «ما» يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون نافية، و «جزاء» متبدأ، و «إلاَّ خِزْيٌ» خبره وهو استثناء مفرّغ وبَطَلَ علمها عند الحِجَازيين لانتقاض النفي ب «إلاّ» ، وفي ذلك خلاف وتفصيل وتلخيصه: أن خبرها الواقع بعد «إلا» جمهور البصريين على وجوب رفعه مطلقاً سواءً كان هو الأول، أمر منزلاً منزلته، أو صفة أو لم يكن، ويأولون قوله: [الطويل]
642 - وَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ مَنْجَنُوناً بِأَهْلِهِ ... وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إِلاَّ مُعَذَّبَا(2/256)
على أن الناصب ل «منجنوناً» و «معذباً» محذوف، أي: يدور دَوَرَان منجنون، ويعذب مُعَذَّباً تّعْذِيباً.
وأجاز يونس النصب مطلقاً، وإن كان النَّحَّاس نقل عدم الخلاف في رفع ما زيد إِلاَّ أخوك فإن كان الثَّاني منزلاً منزلة الأوّل نحو: «ما أنت إِلاَّ عمامتك تحسيناً وإلاَّ رداءك تزييناً» .
فأجاز الكوفيون نصبه، وإنْ كان صفة نحو «ما زيد إلا قائم» فأجاز الفراء أيضاً.
والثانيك أن تكون استفهاميةً في محلّ رفع بالابتداء، و «جزاء» خبره، و «إِلاَّ خِزْي» بدل من «جزاء» نقله أبو البَقَاءِ.
و «الجزاء» : المقابلة خَيْراً كان أو شَرَّا.
و «مَنْ» موصولة، أو نكرة موصوفة، و «يفعل» لا محلّ لها على الأول، ومحلها الجر على الثاني.
«مِنْكُم» في محلّ نصب على الحال من فاعل «يفعل» ، فيتعلّق بمحذوف، أي: يفعل ذلك حال كونه منكم.
و «الخِزْي» : الهَوَان والذّل والمَقْت، يقال: أخزاه الله إذا مَقَتَهُ وأبعده، ويقال: خَزِيَ بالكسر يَخْزى خِزْياً فهو خَزْيَان، وامرأة خَزْيَا، والجمع خَزَايَا. وقال ابن السِّكِّيت: الخزي الوقوع في بَليَّةٍ، وخَزِيَ الرجل في نفسه يخزى خزايةً إذا استحيا.
وإذا قيل: أخْزَاه الله، كأنه قيل: أوقعه موقعاً يُستحيى منه، فأصله على هذا الاستحياء.
قوله: «فِي الْحَيَاةِ» يجوز فيه وَجْهَان:
أحدهما: أن يكون محلّه النصب على أنه ظرف ل «خِزْي» ، فهو منصوب به تقديراً.
و «الدُّنْيَا» «فُعْلَى» تأنيث الأدنى من الدَّنو، وهو القُرْب، وألفها للتأنيث، ولا تحذف منها «أل» إلا لضرورة كقوله: [الرجز]
643 - يَوْمَ تَرَى النُّفُوسُ مَا أَعَدَّتِ ... في سَعْيِ دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مُدَّتِ
وياؤها عن واو، وهذه قاعدة مطردة، وهي: كل «فُعْلَى» صفة لامها واو تبدل ياء. نحو «الدنيا والعُلْيَا» .(2/257)
فأما قولهم: «القُصْوَى» عند غير «تميم» ، و «الحُلْوَى» عند الجميع فَشَاذٌّ.
فلو كانت «فُعْلَى» اسماً صحّت الواو؛ كقوله: [الطويل]
644 - أَدَارًا بِحُزْوَى هِجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرَةً ... فَمَا الْهَوَى يَرْفَضُّ أَوْ يَتَرَقْرقُ
وقد استعملت استعمال الأسماء، فلم يذكر [موصوفها، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} [الأنفال: 67] وقال ابن السّراج في «المقصور والممدود» : و «الدنيا» ] مؤنّثة مقصورة، تكتب بالألف، هذه لغة «نجد» و «تميم» ، إلاَّ أن «الحجاز» ، «وبني اسد» يلحقونها ونظائرَهَا بالمَصَادر ذوات الواو، فيقولون: دَنْوَى مثل شَرْوَى وكذلك يفعلون بكل «فُعْلَى» موضع لامها واو، ويفتحون أولها، ويقلبون باءها واواً، وأما أهل اللغة الأولى، فيضمون الدال، ويقلبون من الواو ياء لاستثقالهم الواو مع الضمة.
فصل في المراد بالخِزْي في الآية
اختلفوا في هذا الخِزْي على جوه:
أحدها: قال الحَسَن: وهو الجزية والصَّغَار، وهو ضعيف؛ لأن الجِزْيَةَ لم تكن ثابتةً، في شريعتهم، بل إن حملنا الآية على خطاب الذين كانوا في زمن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيصحّ.
الثاني: خِزْي «بني قريظة» بالقَتْل والسَّبي، وخزي بني النَّضير بالجَلاَء والنفي عن منازلنهم إلى «أَذْرعات» و «أريحا» من «الشام» ، وهذا أيضاً إنما يصحّ إذا حملنا الآية على الحاضرين في زمان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثالث: قال ابن الخَطِيْبِ وهو الأولى: إنّ المراد منه الذَّمّ العظيم ولتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض، والتنكير في قوله: «خزي» يدلّ على أن الذّم واقع في النهاية العظمى.
[وقوله] يُرَدُّونَ [قرىء] بالغيبة على المشهور وفيه وجهان.
أحدها: أن يكون التفاتاً، فيكون راجعاً إلى قوله «أَفَتُؤْمِنُونَ» فخرج من ضمير الخطاب إلى الغيبة.(2/258)
والثَّاني: أنه لا التفات فيه، بل هو راجع إلى قوله: «مَنْ يَفْعَلْ» .
وقرأ الحسنك «تُرَدُّون» بالخطاب وفيه الوجهان المتقدمان:
فالالتفات نظراً لقوله: «مَنْ يَفْعَلْ» ، وعدم الالتفات نظراً لقوله: «أَفَتُؤْمِنُونَ» .
وكذلك: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرىء في المشهور بالغيبة والخطاب والكلام فيهما كما تقدم.
فإن قيل: عذاب الدّهري الذي ينكر الصَّانع يجب أن يكون أَشدَّ من عذاب اليهود، فكيف يكون في حقّ اليهود {يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب} ؟
فالجواب: المراد منه أشد من الخِزْي الحاصل في الدنيا، فلفظ الأشد وإن كان مطلقاً إلاّ أن المراد أشد من هذه الجهة.(2/259)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
قد تقدم إعراب نظائرها إلا أنّ بعضهم ذكر وجوهاً مردودة لا بُدّ من التنبيه عليها، فأجاز أن يكون «أولئك» مبتدأ، و «الذين اشتروا» خبره، «فلا يُخَفَّف عنهم العَذَاب» خبراً ثانياً ل «أولئك» .
قال: ودخلت الفاء في جواب الخبر لأجل الموصول المشبه بالشرط وهذا خطأ فإن قوله: «فَلا يُخَفَّفُ» لم يجعله خبراً للموصول حتى تدخل «الفاء» في خبره، وإنما جعله خبراً عن «أولئك» وأين هذا من ذاك؟
وأجاز أيضاً أن يكون الذين مبتدأ ثانياًن و «فلا يخفف» خبَره، دخلت لكونه خبراً للموصول، والجملة خبراً عن «أولئك» .
قال: ولم يَحْتَج هذا إلى عائد؛ لأن «الذين» هم «أولئك» كما تقول: «هذا زيد منطلق» ، وهذا أيضاً خطأ لثلاثة أوجه:
أحدها: خلوّ الجملة من رابط، وقوله: «لأن الذين» هم «أولئك» لا يفيد، فإن الجملة المستغنية لا بُدّ وأن تكون نفس المبتدأ.
وأما تنظيره ب «هذا زيد منطلق» فليس بصحيح، فإن «هذا» مبتدأ و «زيد» خبره، و «منطلق» خبر ثانٍ، ولا يجوز أن يكون «زيد» مبتدأ ثانياً، و «منطلق» خبره، والجملة خبر عن الأول، للخلو من الرابط.(2/259)
الثاني: أن الموصول هنا لقوم معيّنين وليس عامّاً، فلم يُشبه الشرط، فلم تدخل «الفاء» في خبره.
الثالث: أن صلته ماضية لفظاً ومعنى، فلم تشبه فعل الشرط في الاستقبالن فلا يجوز دخول الفاء في الخبر.
فتعيّن أن يكون «أولئك» مبتدأ والموصول بصلته خبَره، و «فلا يخفف» معطوف على الصِّلَةِ، ولا يضر تَحَالُف الفعلين في الزمان، فإنّ الصِّلاتِ من قبيل الجُمَل، وعطف الجمل لا يشترط فيه اتحاد الزمان، فيجوز أن تقول: جاء الذي قتل زيداً أمس، وسيقتل عَمْراً غداً، وإنما الذي يشترط فيه ذلك حيث كانت الأفعال منزلة منزلة المفردات.
وقيل: دخلت «الفاء» بمعنى جواب الأمر كقوله: أولئك الضّلال انتبه فلا خير فيهم.
فصل في تفسير تخفيف العذاب
حمل بعضهم عدم التخفيف على عدم الانقطاع؛ لأنه لو انقطع لكان قد خفف، وحمله آخرون على الشدّة لا على الدوام، أو في كلّ الأوقات، فإذا عذابهم بأنه لا يخفّف عنهم اقتضى ذلك نَفْيَ جميع ما ذكرناه.
قوله: «وَلاَ هُمْ يَنْصَرُونَ» يجوز في «هو» وجهان:
أحدهما: أن يكون محلّ رفع بالابتداء، وما بعده خبره، ويكون قد عطف جملة اسمية على جملة فعلية وهي: «فلا يخفف» .
والثاني: أن يكون مرفوعاً بفعل محذوف يفسره هذا الظاهر، وتكون المساألةُ مِنْ باب الاشتغال، فما حذف الفعل انفصل الضَّمير؛ ويكون كقوله: [الطويل]
645 - فإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ... فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ
وله مرجّح على الأول بكونه قد عطف جملة على مثلها، وهو من المواضع المرجح فيها الحمل على الفعل في باب الاشْتِغَال. وليس المرجوح كونه تقدمه «لا» النافية، فإنها ليست من الأدوات المختصة بالفعل ولا الاولى به، خلافاً لابن السيد حيث زعم أَنَّ «لا» النافية من المرجّحات لإضمار الفِعْل، وهو قول [مرغوب عنه] ولكنه قَوِيَ من حيث البحث. فقوله: «ينصرون» لا محلّ له على هذا؛ لأنه مُفَسِّرٌ، ومحلّه الرفع على الأولى لوقوعه موقع الخبر.(2/260)
فصل
حمله بعضهم على نفس النُّصْرة في الآخرة، والأكثرون حلموه على نفي النُّصْرة في الدنيا.
قال ابن الخطيب: والأول أولى، لأنه تعالى جاء على صنعهم ولذلك قال: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} وهذه الصّفة لا تليق إلا بالآخرة؛ لأنَّ عذاب الدنيا وإن حصل، فيصير كالحدود؛ لأن الكُفَّار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات.(2/261)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
روي عن ابن عباس أن التَّوراة لما نزلت أمر الله موسى بِحَمْلِهَا فلم يطق ذلك، فبعث لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حلمها، فخفّفها الله على موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فحملها.
[قوله] : {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} التضعيف في «قَفَّيْنَا» ليس للتَّعدية؛ إِذْ لو كان كذلك لتعدّى إلى اثنين؛ لأنه قيل: التضعيف يتعدّى لواحد، نحو: «قَفَوْتُ زَيْداً» ، ولكنه ضُمِّن معنى «جئنا» كأنه قيلك وجئنا من بعده الرُّسل.
فإن قيل: يجوز أن يكون متعدياً لاثنين على معنى أنَّ الأول محذوف، والثاني «بالرسل» والباء فيه زائدة تقديره: «وَقَفَّيْنَا من بعده الرسل» .
فالجَوَاب: أن كثرة مجيئه في القرآن كذلك يبعد هذا التَّقْدِير، وسيأتي لذلك مزيد بيان في «المائدة» [الآية: 46] إن شاء الله تعالى.
و «قَفَّيْنَا» أصله: قَفَّوْنَا/ ولكن لما وقعت «الواو» رابعة قلبت «ياء» ، واشتقاقه من «قَفَوْتَ» ، وقَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتُ قَفَاه، ثم اتُّسِع فيه، فأطلف على تابع، وإن بَعُدَ زمان التابع عن زمان المتبوع.
قال أميَّةُ: [البسيط]
646 - قَالَتْ لأخْتٍ لَهُ قُصِّيهِ عَنْ جُنُبٍ ... وَكَيْفَ تَقْفُو وَلاَ سَهْلٌ وَلاَ جَبَلُ
و «القَفَا» : مؤخّر العُنُق، ويقال له: القافية أيضاً، ومنه الحديث: «يعقد الشيطان على قَافِيَة رَأْس أَحَدِكُمْ»(2/261)
والقَفَاوَة: ما يدّخر من اللّبن وغيره لمن تريد إكرامه، وقفوت الرجل: قذفته بِفُجُور، «وفلان قِفْوتِي» : أي تُهْمتي، وقِفْوتي أي خيرتي.
قال ابن دريد: كأنه من الأضداد.
ومنه قافية الشعر؛ لأنها يتلو بعضها بعضاً، ومعنى قفّينا: أي أتبعنا، كقوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] .
و «مِنْ بَعْدِهِ» متعلق به، وكذلك: «بالرُّسُل» وهو جمع رسول بمعنى مُرْسَل، وفُعُل غير مقيس في «فعيل» بمعنى «مفعول» وسكون العين لغة «الحجاز» وبها قرأ الحسن، والضم لغة «تميم» وبها قرأ السَّبعة إلاَّ أبا عمر، وفيما أضيف إلى «ن» أو «كم» أو «هم» ، فإنه قرأ بالسكون لتوالي الحركات.
فصل في تعيين الرسل المقفى بهم
هؤلاء الرُّسل: يوشع، وشمويل، وداود، وسليمان، وشعياء، وأرمياء، وعزير، وحزقيل، وإلياس، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم.
وروي أن بعد موسى إلى أيام عيسى كانت الرسل متواترةً، ويظهر بعضهم في أثر البعض.
والشريعة واحدة في أيام عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت فإنه جاء بشريعة مجدّدة، والدليل على ذلك قوله: {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} ؛ لأنه يقتضي أنهم على حدٍّ واحدٍ في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها.
وقال القاضي: إنَّ الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شِرْعَةِ الأوّل بحيث لا يؤدي إلا تلك بعينها من غير زيادة ولا نُقْصَان، مع أنّ تلك الشريعة محفوظةٌ يمكن معرفتها بالتَّواتر عن الأول؛ لأن الرَّسُول إذا كان هذا حاله لم يممكن أن يعلم من جنهة إلاَّ منا كان قد علم من قبل، أو يمكن أن يعلم من قبل، فكما لا يجوز أن يبعث الله رسولاً لا شريعة معه أصلاً، فكذا هاهنا، فثبت أنه لا بد وأن يكونوا قد بعثوا(2/262)
بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظةً، أو محيية لبعض ما اندرس من الشَّريعة الأولى.
والجواب: لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل التعبُّد بتلك الشريعة السَّابعة بنوع آخر من الأَلْطَاف لا يعلمه إلا الله؟
فصل في لفظ عيسى
[قوله] : «عيسى» : علم أعجمي فلذلك لم ينصرف، وقد تكلم النحويون في وَزْنِهِ، واستقاقه على تقدير كونه عَرَبيَّ الوضع فقال سيبويه: وزنه «فِعْلَى» والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة كياء «مِعْزى» بالياء لا الألف، سمّاها ياء لكتابتها بالياء.
وقال الفارسي: ألفه ليست للتأنيث ك «ذِكْرَى» ، بدلالة صرفهم له في النكرة.
وقال عثمان بن سعيد الصيرفي: وزنه «فِعْللَ» فالألف عنده أصيلة بمعنى أنها مُنْقلبة عن أصل. ورد عليه ذلك ابن البَاذش بأن الياء والواو لا يكونان أصليين في بنات الأربعة، فمن قال: إن «عيسى» مشتق من «الْعَيْس» : وهو بياض تُخالطه شُقْرة ليس بمصيب، لأن الأعجمي لا يدخله اشتقاق ولا تصريف.
وقل الزمخشري: «وقيل: عيسى بالسُّريانية يشوع» .
قوله: «ابن مريم» عطف بيان له أو بدل، ويجوز أن يكون صفة إلا أن الأول أولى؛ لأن «ابن مريم» جرى مجرى العلم له، وللوصف ب «ابن» أحكام تخصّه، ستأتي إن شاء الله تعالى مبينة، وقد تقدم اشتقاق «ابن» وأصله.
و «مريم» أصله بالسّريانية صفة بمعنى الخَادِمِ، ثم سُمِّيَ به؛ فلذلك لم ينصرف، وفي لغة العرب: هي المرأة التي تُكْثر مخالطة الرجَال ك «الزِّير» من الرجال، وهو الذي يكثر مُخالطتَهُن.
قال رؤبة: [الرجز]
647 - قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ ... و «ياء» الزّير عن واو؛ لأنه من «زار يزور» فقلبت للكسرة قبلها ك «الريح» ، فصار لفظ «مريم» مشتركاً بين اللِّسَانين، ووزنه عند النحويين «مَفْعَل» لا «فَعْيَل» ، قال(2/263)
الزمخشري: لأن «فَعْيلاً» ، بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو: «عثير وعِلَيْب» وقد أثبت بعضهم «فَعْيلاً» ، وجعل منه نحو: «ضهيد» : اسم مكان و «مَدْين» على القول بأصالة ميمه و «ضهيأ» بالقَصْر ت وهي المرأة التي لا تحيض، أو لا ثَدْيَ لها، مشتقّة من «ضَاهَأَت» أي: «شابهت» ؛ لأنها شابهت الرجال في ذلك، ويجوز مدّها قاله الزَّجَّاج.
وقال ابن جني: وأما «ضهيد وعثير» فمصنوعان فلا دلالة فيهما على ثبوت «فَعْيَل» ، وصحة الياء في «مريم» على خلاف القياس، إذْ كان من حقّها الإعلال بنقل حركة الياء إلى الراء، ثم قَلْب الياء ألفاً نحوك «مُبَاع» من البيع، ولكنه شذّ كما شذ «مَزْيَد ومدين» .
وقال ابو البقاء: ومريم على أعجمي، ولو كان مشتقّاً من «رام يَرِيم» لكان مَرِيْماً بسكن الياء. وقد جاء في الأعلام فتح الياء نحو: [مزيد] وهو على خلاف القياس.
و «البَيِّنَات» قيل: هي المُعْجِزَات المذكورة في سورة «آل عمران» و «المائدة» .
وقيل: الإنجيل.
وقيل: أعم ذلك.
قوله: «وَأَيَّدْنَاهُ» معطوف على قوله: «وَآتيْنَا عِيسَى» .
وقرأ الجمهور: «وَأَيَّدْنَاهُ» على «فَعَّلْنَاهُ» ، وقرأ مجاهد وابن محيصن ويروى عن أبي عمرو: «وَآيَدْنَاهُ» على «أَفْعَلْنَاهُ» ، والأصل فيه: «أَأْيد» بهمزتين ثانيتهما ساكنة، فوجب إبدال الثانية ألفاً نحو: «أأمن» وبابِه، وصححت العين كما صحّت في «أغليت وأغميت» وهو تصحيح شاذّ إلا في فعل العجّب نحو: ما أبين أطول.
وحكي عن أبي زيد أن تصحيح «أغليت» مقيس.
فإن قيل: لم لا أعلّ «أَيَّدْنَاه» كما أعلّ نحو: أَبَعْنَاهُ حتى لا يلزم حلمه على الشَّاذ؟ .
فالجواب: أنه لو أعلّ بأن ألقيت حركة العَيْن على الفاء، فيلتقي ساكنان العين واللام، فتحذف العين لالتقاء السكانين، فتجتمع همزتان مَفْتُوحتان، فيجب قلب الثانية واواً نحو: «أوادم» فتتحرك الواو بعد فتحة، فتقلب ألفاً فيصير اللفظ: أَأَدْنَاهُ؛ لأدّى إلى إعلال الفاء والعين، فالأجل ذلك رُفِضَ بخلاف أَبَعْنَاه وأقمناه، فإنه ليس فيه إلاَّ إعلال العَيْن فقط، قال أبو البقاء: فإن قلت: فلم لم تحذف الياء التي هي عَيْن كما حذفت من نحو: «أسلناه» من «سال يسيل» ؟ .(2/264)
قيل: لو فعلوا ذلك لتوالى إِعْلاَلاَن:
أحدهما: قلب الهمزة الثانية ألفاً، ثم حَذْفُ الألف المبدلة من الياء لسكونها، وسكون الألف قبلها، فكان يصير اللَّفظ أدْنَاه، فتحذف الفاء والعين، وليس «أَسَلْنَاه» كذلك؛ لأن هناك حذفت العين فقط.
وقال الزمخشري في «المائدة» : «أَيَّدْتُك على أَفْعَلْتُكَ» .
وقال ابن عطية: «على فاعَلْتُكَ» ، ثم قال: «ويظهر أنَّ الأصل في القراءتين: أفعلتك، ثم اختلف الإعلال، والذي يظهر أن» أَيَّدَ «» فَعَّلَ لمجيء مضارعه على يُؤَيِّد بالتشديد، ولو كان أَيَّدّ بالتشديد بزنة «أَفْعَل» لكان مضارعه «يُؤْيِدُ» ك «يُؤْمِنُ» من «آمن» وأما آيَدَ بالمدّ فَيحْتَاج في نقل مُضَارعة إلى سماع، فإن سُمِع «يُؤايِد» ك «يُقَاتل» فهو «فَاعَلَ» فإن سمع «يُؤْيِد» ك «يكرم» و «آيَد» فهو أَفْعَلَ، ذكر جميع ذلك أبو حَيّان في «المائدة» ، ثم قال: إنه لم يظهر كلام ابن عطيّة في قوله: اختلف الإعلال «، وهو صحيح، إلاَّ أن قوله: والذي يظهر أن» أَيَّد «في قراءة الجمهور» فَعَّل «لا» أَفْعَل «إلى آخره فيه نظر؛ لأنه يُشْعِرُ بجواز شيء آخر متعذّر.
كيف يتوهّم أن «أَيَّدَ» بالتشديد في قراءة الجمهور بزنة «أَفَعْلَ» ، هذا ما لا يقع.
و «الأَيْد» : القوة.
قال عبد المطّلب: [الرجز]
648 - أَلْحَمْدُ لِلَّهِ الأعَزِّ الأَكْرَمِ ... أَيَّدَنَا يَوْمَ زُحُوفٍ الأَشْرَمِ
والصحيح أن «فَعَّلَ» و «أفْعَل» هنا بمعنى واحد وهو «قَوَّيْنَاهُ» ، وقد فرق بعضهم بينهما، فقال: «أما المَدُّ فمعناه: القوة، وأما القَصْر فمعناه: التأييد والنصر» وهذا في الحقيقة ليس بفرق، وقد أبدلت بعض العرب في آيَدَ على أَفْعَلَ الياء جميعاً فقالت: آجَدَهُ أي قواه.
قال الزمخشري: «يقال: الحمد لله الذي آجَدَني بعد ضَعْف، وأوجدني بعد فَقْر» . وهذا كما أبدلوا من يائه جيماً فقالوا: لا أفعل ذلك جَدَ الدَّهْرِ أو مد الدهر، وهو إبدال لا يطّرد.
ومن إبدال الياء جميعاً قول الراجز: [الرجز]
649 - خَالِي عُوَيْفٌ وَأَبُو عَلِجِّ ... أَلْمُطْعِمَانِ اللَّحْمَ بِالْعَشِجِّ
يريد: «وأبو علي» و «بالعشي» .
قوله: «بِرُوحِ القُدُسِ» متعلق ب «أيدناه» .(2/265)
وقرأ ابن كثير: «القُدْس» بإسكان الدال، والباقون بضمها، وهما لغتان: الضم ل «الحجاز» والإسكان ل «تميم» ، وقد تقدم ذلك، وقرأ أبو حيوة: «القُدُّوس» بواو، فيه لغة فتح القاف والدال معناه: الطَّهارة أو البركة كما [تقدم عند قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]] و «الروح» في الأصل: اسم للجزء الذي تحصل به الحياة في الحيوان، قاله الرَّاغب.
فصل في المارد ب، «روح القدس»
اختلفوا في «روح القُدُس» هنا على وجوه:
أحدها: أنه جبريل عليه السلام؛ لقول حسّان: [الوافر]
650 - وجبْرِيلٌ رَسولُ اللهِ فِينَا ... ورُوحُ القُدْسِ لَيْسَ بِهِ كِفَاءُ
قال الحسن: القُدُوس هو الله عزّ وجلّ، وروحه: جبريل، قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102] وقيل: سمي جبريل روحاً لِلَطَافته ولمكانته من الوَح] ي الذي هو سبب حياة القلوب.
قال النحاس: وسمي جبريل روحاً أو أضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله عزّ وجلّ له روحاً من غير ولادة والد والده [وقيل: المارد بروح القدس الإنجيل كما قال في القرآن «روحاً من أمرنا» لأنه الذي يوحى به] ، وكذلك سمي عيسى روحاً لهذا.
وقال ابن عَبَّاس وسعيد بن جُبَيْرٍ: «هو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به عيسى الموتى» .
وقيل: هو الروح الذي نفخ فيه.
والقُدُس والقُدُّوس هو الله، فنسب روح عيسى إلى نفسه تعظيماً وتشريفاً، كما يقال: بَيْت الله، ونَاقَة الله؛ قاله الربيع وغيره، كقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] وعلى هذا المراد به الروح الذي يحيى به الإنسان.
[واعلم أن إطلاق الروح على «جبريل» وعلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز] .(2/266)
قوله: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ} الهمزة هنا للتوبيخ والتَّقريع، والفاء للعطف عَطَفَتْ هذه الجملة على ماقَبْلَها، واعْتُنِيَ بحرف الاستفهام فَقَدِّم، وتقدم تحقيق ذلك، وأن الزمخشري يقدر بين الهمزة حرف العطف جملةً ليعطف عليها، وهذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها من غير حذف شيء كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبيائكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول.
ويجوز أن يُقَدَّر قبله محذوف أي: ففعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم رسول، وقد تقدّم الكلام في «كلما» عند قوله «كُلَّمَا أَضَاءَ» ، والناصب لها هنا استكبرتم.
و «جاء» يتعدّى بنفسه تارة كهذه الآية، وبحرف الجر أخرى، نحو: «جئت إليه» و «رسول» «فَعُول» بمعنى «مفعول» أي: مُرْسَل، وكون «فَعُول» بمعنى «المفعول» قليل، جاء منه: «الرُّكُوب والحَلُوب» ، ويكون مصدراً بمعنى: الرِّسالة قاله الزمخشري؛ وأنشد: [الطويل]
651 - لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي: برسالة، ومن عنده: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] .
قوله: {بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ} متعلّق بقوله: «جاءكم» و «ما» موصولة بمعنى الَّذِي، والعائد محذوف لاستكمال الشّروط والتقدير: بما لا تَهْوَاه، و «تهوى» مضارع «هَوِي» بكسر العين ولامه من ياء؛ لأن عينه واو، وباب «طويت وشويت» أكثر من باب «قُوَّةٌ وحُوةٌ» ولا دليل في «هَوِي» لانكسار العين، وهو مثل «شَقِي» من الشّقاوة، وقولهم في تثنية مصدر هوي: هَوَيان أدلُّ على ذلك.
ومعنى تهوى: تحبّ وتختار، وأصل الهَوَى: الميل، سمي بذلك؛ لأنه يَهْوي بصاحبه في النار، ولذلك لا يستعمل غالباً إلاّ فيما لا خير فيه، وقد يستعمل فيما هو خير، ففي الحديث الصحيح قول عمر في أسارى «بدر» : فهوي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قال أبو بكر، ولم يَهْو ما قلت «.
وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: «والله ما أرى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك» . وجمعه «أهواء» .(2/267)
قال تعالى: {بِأَهْوَائِهِم} [الأنعام: 119] ولا يجمع على «أَهْوِية» ، وإن كان قد جاء «نَدَى» و «أنْدِية» ؛ قال الشاعر: [البسيط]
652 - فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ ... لاَ يُبْصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمَائِهَا الطُّنُبَا
وأما «هَوَى يَهْوِي» بفتحها في الماضي وكسرها في المضارع فمعناه السُّقوط، و «الهَوِيُّ» بفتح الهاء، ذهاب في انْحِدَار.
و «الهُوِيُّ» : ذهاب في صعود وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
وأسند الفعل إلى «الأنفس» دون المُخَاطب فلم يقل: «بما لا تَهْوُون» تنبيهاً على أنّ النفس يُسْند إليها الفعل السيّىء غالباً نحو: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} [يوسف: 53] {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} [يوسف: 18] و «استكبر» بمعنى: «تكبر» .
قوله: «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» «الفاء» عاطفة جملة «كذبتم» على «استكبرتم» ، و «فريقاً» مفعول مقدم، قدم لتتفق رؤوس الآي، وكذا: «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» ، ولا بُدّ من محذوف، أي: فريقاً منهم، والمعنى أنه نشأ عن اسْتِكْبَارهم مُبَادرة فريق من الرسل بالتكذيب، ومبادرةُ آخرين بالقتل. وقدم التكذيب؛ لأنه أول ما يفعلونه من الشَّر؛ ولأنه مشترك بين المقتول وغيره، فإنَّ المقتولين قد كذبوهم أيضاً، وإنما لما يُصَرِّح به؛ لأنه ذكر أقبح منه في الفِعل. وجيء ب «يقتلون» مضارعاً، إما لكونه مستقبلاً؛ لأنهم كانوا يَرُومُونَ قتل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولذلك سحروه، وسَمُّوا له الشاة، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عند موته: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي، فَهَذَا أوان انْقِطَاع أَبْهَرِ» ولما فيه من مُنَاسبة رؤوس الآي والفَوَاصل، وإما أن يراد به الحال الماضية؛ لأن الأمر فظيع، فأريد استحضاره في النُّفوس، وتصويره في القلوب.(2/268)
وأجاز الرَّاغب أنْ يكون «ففريقاً كَذّبتم» معطوفاً على قوله: «وآتيناه» ، ويكون «أفكلّما» مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنْكَارِ. والأظهر الأول وإن كان ما قاله محتملاً.
فصل في بيان الذي استحق به بنو إسرائيل نهاية الذم
هذا نهاية الذَّم؛ لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه، لإرادتهم الرّفعة في الدنيا، وطلب لذاتها، والتَّرؤس على عامتهم، وأخذ أموالهم بغير حَقّ، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك، فيكذبونهم ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين، ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل، وبعضهم كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه الصلاة والسَّلام، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه الصَّلاة السلام قالوا: يا محمد لا مثل عيسى فعلت كما تزعم ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت فائننا بما أتى به عيسى عليه الصلاة والسَّلام إن كنت صادقاً، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: أفكلّما جَاءَكم يا معشر اليهود رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم، وتعظّمتم عن الإيمان به، فطائفة كذبتم مثل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وطائفة تقتلون أي: قتلتم مثل: زكريا ويحيى وشعيب، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(2/269)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
«قُلُوبُنَا غُلْفٌ» متبدأ وخبر، والجملة في محلّ نصب بالقول قبله، وقرأ الجمهور: «غُلْف» بسكون اللام، وفيها وجهان: أحدهما: وهوالأظهر أن يكن جمع «أَغْلَف» ك «أحمَر وحُمْر» و «أصفر وصُفْر» ، والمعنى على هذا: أنها خلقت وجعلت مغشَّاة لا يصل إليها الحَقّ، فلا تفهمه ونظيره: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] قال مجاهد وقتادة استعارة من الأَغْلَف الذي لم يَخْتَتِنْ. والثاني: أن يكون جمع «غلاف» ، ويكون أصل اللام الضم، فتخفف نحو: «حمار وحمر» ، و «كتاب وكتب» ، إلاّ أن تخفيف «فُعُل» إنما يكون في المفرد غالباً نحو: «عُنُق» في «عُنْق» وأما «فُعْل» الجمع فقال ابن عطية: «لا يجوز تخفيفه إلاَّ في ضرورة» ، وليس كذلكن بل هو قليل، وقرأ ابن عَبَّاس والأعرج ويروى عن أبي عمرو بضمّ اللام، وهو جمع «غلاف» ، ولا يجوز أن يكون «فُعُل» في هذه القراءة جمع أَغْلَف؛ لأن تثقيل «(2/269)
فعل» الصحيح العين، لا يجوز إلاَّ في شعر، والمعنى على هذه القراءة: أن قلوبنا أوعية فهي غير محتاجة إلى علم آخر، وهو قول ابن عباس وعَطَاء.
وقال الكلبي: «معناه» أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثاً إلا وَعَتْهُ إلاَّ حديثك لا تعلقه ولا تعيه، ولو كان فيه خبر لفهمته ووعته «.
وقيل: غلف كالغلاف الذي لا شيء فيه مما يدلّ على صحة قولك: التغليف كالتعمية في المعنى.
فصل في كلام المعتزلة
قالت المعتزلة: هذه الآية تدلّ على أنه ليس في قلوب الكُفَّار مَا لاً يمكنهم معه الإيمان، لا غلاَف ولا كِنّ ولا سدّ على ما يقوله المجبرة، لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صَاديقين في هذا القول، فلا يكذبهم الله في قوله: {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} وإنما يذمّ الكاذب المبطل لا الصَّادق المحق، وقالوا: هذا يدل على أن معنى قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57] و {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} [يس: 8] {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} [يس: 9] ليس المراد كونهم ممنوعين عن الإيمان، بل المراد: إما منع الألْطَاف، أو تشبيه حالهم في إصْرَارهم على الكُفُرِ بمنزلة المجبور على الكفر.
قالوا: ونظير ذم الله تعالى اليهود على هذه المَقَالَةِ ذمه الكافرين على مثل هذه المَقَالة، وهو قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] ولو كان الأمر على مايقوله المجبرة لكان هؤلاء القوم صادقين، وإذا كان الأمر كذلك لم يذمّوا.
قال ابن الخطيبك واعلم أنا بَيْنا في تفسير «الغلف» ثلاثة أوجه، فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل.
سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلتم: إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم؟
فإن قيل: إنما لعنهم الله بسبب هذه المقالة.
فالجواب من وجوه:
أحدها: لا نسلم، بل لعلّه تعالى حكى عن حالهم، أو عنهم قولاً، ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم.
وثانيها: لعلّ المراد من قوله تعالى: «قُلُوبُنَا غُلْفٌ» أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، يعني: ليس قلوبنا في غلاف ولا في غطاء، بل أفهامنا قويّة، وخواطرنا منيرة، ثم إنا تأملنا في دلائلك فلم نجد شيئاً قويًّا فلما ذكروا هذه الوصف(2/270)
الكاذب لا جَرَمَ لعنهم الله على كفرهم الحاصل بهذا القول.
وثالثها: أن قلوبهم لم تكن في أغْطية، بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] إلاّ أنهم أنكروا تلك المعرفة وادّعوا أن قلوبهم غُلف، فكان كفرهم عناداً.
قوله: «بَلْ لَعَنَهُمْ اللهُ» «بل» : حرف إضراب، والإضراب راجع إلى ما تضمَّنه قولهم من أن قلوبهم غُلْف، فردّ الله عليهم ذلك بأن سببه لعنهم بكفرهم السّابق، والإضراب على قسمين: إبطال، وانتقال.
فالأول، نحو: «ما قام زيد بل عمرو» ، والانتقال كهذه الآية، ولا تعطف «بل» إلا المفردات، وتكون في الإيجاب والنفي والنهي، ويزاد قبلها «لا» تأكيداً.
واللَّعن: الطَّرد والبُعْد، ومنه: شأو لَعِينٌ، أي: بعيد؛ قال الشَّمَّاخ: [الوافر]
653 - ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعينِ
أي: الرجل البعيد، وكان وجه الكلام أن يقول: «مقام الذّئب اللّعين كالرجل» والباء في «بكفرهم» للسبب، وهي متعلّقة ب «لَعَنَهُم» .
وقال الفارسي: النية به التقدم أي: وقالوا: قلوبنا غلف بسبب كفرهم، فتكون الباء متعلقة ب «قالوا» ، وتكون «بل لعنهم» جحملة معترضة، وفيه بُعْد، ويجوز أن تكون حالاً من المفعول في «لعنهم» أي: لعنهم كافرين، أي: ملتبسين بالكُفْرِ كقوله {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر} [المائدة: 61] .
قوله: «فَقَلِيلاً مَا يؤْمِنُونَ» في نصب «قليلاً» ستة أوجه:
أحدها: أنه نَعْت لمصدر محذوف، أي: فإيماناً قليلاً يؤمنون؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله، ويكفرون بالرسل.
الثاني: أنه حال من ضمير ذلك [المصدر] المحذوف، أي: فيؤمنونه أي: الإيمان في حال قلّته، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه، وتقدّم تقريره.
الثالث: أنه صفة لزمان محذوف، أي: فزماناً قليلاً يؤمنون، وهو كقوله: {آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ}
[آل عمران: 72] .
الرابع: أنه على إسقاط الخافض، والأصل: فبقليل يؤمنون، فلما حذف حرف الجرّ انتصب، ويعزى لأبي عبيدة.(2/271)
الخامس: أن يكون حالاً من فاعل «يؤمنون» أي: فَجَمْعاً قليلاً يؤمنون، أي: المؤمن فيهم قليلٌ، قال معناه ابن عباس وقتادة والأصم وأبو مسلم.
قال ابن الخطيب: «وهو الأولى؛ لأن نظيره قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155] ، ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها [ذكر] الكقوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم» .
وقال المهدوي: ذهب قتادة إلى أن المعنى: فقليل منهم يؤمن، وأنكره النحويون، وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع «قليل» .
وأجيب: بأنه لا يلزم الرَّفْع مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قَتَادَةٌ لما تقدم من أنَّ نصبه على الحال وافٍ بهذا المعنى. و «ما» على هذه الأقوال كلها مزيدة للتأكيد.
السادس: أن تكون «ما» نافية، أي فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، ومثله: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] ، كما يقال: قليلاً ما يغفل أي: لا يعقل ألبتة.
قال الكِسَائي: «تقول العرب: مررنا بأرض قليلاً ما تنبت» ، يريدون: لا تنبت شيئاً، وهذا قول الوَاقِدِيّ. وهو قوي من جهة المعنى، وإنما يضعف من جهة تقديم ما في حَيّزها عليها قاله أبو البقاء [وإليه ذهب ابن الأنباري] ، إلا أن تقديم ما في حيّزها عليها لم يُجِزْه البصريون، وأجازه الكوفيون.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن تكون» ما «مصدرية؛ لأن» قليلاً «يبقى بلا ناصب» ، يعني: أنك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها، ويكون المصدر مرفوعاً ب «قليلاً» على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ وهذا بخلاف قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] فإن «ما» هاهنا يجوز أن تكون مصدرية؛ لأن «قليلاً» منصوب ب «كان» وقال الزمخشري: «يجوز أن تكون القلّة بمعنى العدم» .
وقال أبو حَيَّان: وما ذهب إليه من أن «قليلاً» يراد به النَّفي فصحيح، لكن في غير هذا التركيب، أعني قوله تعالى: «فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ» لأن «قليلاً» انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير: «قمت قليلاً» أي: قمت قياماً قليلاً، ولا يَذْهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت «قليلاً» منصوباً نعتاً لمصدر ذلك الفِعْل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة، أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأساً وعدم وقوعه بالكلية، وإنما الذي نقل النحويون: أنه قد يراد بالقلّة النفي المحض في قولهم: «أقل رجل يقول ذلك وقلّما يقوم زيد» ، وإذا تقرر هذا فحمل القلّة على النفي المحض هنا ليس بصحيح «انتهى.(2/272)
وأجيب [بأن ما] قاله الزمخشري من أن معنى التقليل هنا النَّفي قد قال به الوَاقِدِيّ قبله، كما تقدم فإنه قال:» أي: لا قليلاً ولا كثيراً «، كما تقول: قلّما يفعل كذا، أي: ما يفعله أصلاً.(2/273)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
اتفقوا على أنّ هذا الكتاب غير ما هو معهم، وما ذاك إلاَّ القرآن.
قوله: «مِنْ عِنْدِ اللهِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه في محلّ رفع صفة ل «كتاب» ، فيتعلّق بمحذوف، أي كتاب كائن من عند الله.
والثاني: أن يكون في محلّ نصب لابتداء غاية المجيء قاله أبو البقاء.
وقد رد أبو حيان هذا الوجه فقال لا يقال: إنه يحتمل أن يكون «من عند الله» متعلقاً ب «جَاءَهُمْ» ، فلا يكون صفةً، للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما يعني أنه ليس معمولاً للموصوف ولا للصفة، فلا يفتقر الفصل به بينهما.
والجمهور على رفع «مصدق» على أنه صفة ثانية، وعلى هذا يقال: قد وجد صفتان إحداهما صريحة، والأخرى مؤولة، وقد قدّمت المؤولة.
وقد تقدم أن ذلك ممتنع، وإن زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا ضَرُورَةً.
والذي حسن تقديم غير الصريحة أن الوصف بيكنونته من عند الله آكد، وأن وصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله.
وقرأ ابن أبي عبلة: «مصدقاً» نصباً، وكذلك هو في مصحف أُبَيّ، ونصبه على الحال، وفي صاحبها قولان:
أحدهما: أنه «كتاب» .
فإن قيل: كيف جاءت الحال من النكرة؟
فالجواب: أنها قربت من المعرفة لتخصيصها بالصفة وهو «مِنْ عِنْد اللهِ» كما تقدم.
على أن سيبويه أجاز مجيئها منها بلا شَرْطٍ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري.
والثاني: أنه الضَّمير الذي تحمله الجار والمجرور لوقوعه صفةً، والعامل فيها إما(2/273)
الظرف، أو ما يتعلق به، ولهذا اعترض بعضهم على سيبويه في قوله: {مجزوء الوافر]
654 - لِمَيَّةَ مَوحِشاً طَلَلُ ... يَلَوحُ كَأَنَّه خِلَلُ
إن «موحشاً» حال من «طَلَل» ، وساغ ذلك لتقدمه، فقال: لا حاجة إلى ذلك، إذ يمكن أن يكون حالاً من الضمير المستكنّ في قوله: «لِمَيَّةَ» الواقع خبراً ل «طَلَل» ، وجوابه في موضع غير هذا. واللام في «لما معهم» وقعت لتعدية «مصدق» لكونه فرعاً. و «ما» موصولة، والظَّرف صلتها، ومعنى كون مصدقاً، أي: موافقاً لما معهم من التوراة في أمر يتعلّق بتكاليفهم بتصديق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النبوة، وما يدلّ عليها من العلامات والنعوت، فإنهم عرفوا أنه ليس بموافق لما مَعَهُمْ في سائر الشَّرائع، وعلمنا أنه لم ترد الموافقة في أدلّة القرآن؛ لأن جميع كتب الله كذلك، فلم تبق إلاَّ الموافقة فيما ذكرناه.
قوله: «وَكَانُوا» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون معطوفاً على «جاءهم» فيكون جوابا «لما» مرتباً على المجيء والكون.
والثاني: أن يكون حالاً، أي: وقد كانوا، فيكون جواب «لما» مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله، وهم كونهم يستفتحون.
قال أبو حيان: وظاهر كلام الزمخشري أن «وكانوا» ليست معطوفة على الفعل بعد «لما، ولا حالاً لأنه قدر جواب» لما «محذوفاً قبل قبل تفسيره يستفتحون، فدلَّ على أن قوله:» وكانوا «جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله:» ولما «. وهذا هو الثالث.
و» مِنْ قَبْلُ «متعلق ب» يستفتحون «، والأصل: من قبل ذلك، فلما قطع بني على الضم.
و» يَسْتَفْتِحُونَ «في محل نصب على أنه خبر» كان «.
واختلف النحويون في جواب» لما «الأولى الثانية.
فذهب الأخفش والزَّجاج إلى أن جواب الأولى محذوف تقديره: ولما جاءهم كتاب كفروا به، وقدّره الزمخشري:» كذبوا به واستهانوا بمجيئه «. وهو حسن، ونظيره قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] أي: لكان هذا القرآن.(2/274)
وذهب الفَرّاء إلى أن جوابها الفاء الداخلة على» لما «، وهو عنده نظير قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ} [البقرة: 38] قال: لا يجوز أن تكون الفاء ناسقة، إذ لا يصلح موضعها» الواو «.
و» كَفَرُوا «جواب» لما «الثانية على القولين.
وقال أبو البَقَاءِ: في جواب» لما «الأولى وجهان:
أحدهما: جوابها» لما «الثانية وجوابها، وهذا ضعيف؛ لأن» الفاء «مع» لما «الثانية، و» لما «لا تجاب بالفاء إلاَّ أن يعتقد زيادة» الفاء «على مايجيزه الأخفش.
قال شهاب الدين: ولو قيل برأي الأخفش في زيادة» الفاء «من حيث الجملة، فإنه لا يمكن هاهنا لأن» لما «لا يجاب بمثلها، لا يقال:» لما جاء زيد لما قعد أكرمتك «
على أن يكون» لما قعد «جواب» لما جاء «والله أعلم.
وذهب المبرد إلى أن» كفروا «جواب» لما «الأولى، وكررت الثَّانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيده كقوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ} [المؤمنون: 35] إلى قوله: {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] ، وهو حسن لولا أن» الفاء «تمنع من ذلك.
وقال ابو البقاء بعد أن حكى وجهاً أول: والثاني: أن» كفروا «جواب الأولى والثانية؛ لأن مقتضاها واحد.
وقيل: الثانية تكرير، فلم تحتج إلى جواب.
فقوله: وقيل: الثانية تكرير، هو قول المبرّد، وهو في الحقيقة ليس مغايرةً للوجه الذي ذكره قبله من كون» كفروا «جواباً لهما بل هو هو.
فصل في الاستفتاح
اختلفوا في هذا الاستفتاح، فقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه وقتادة والسّدي: نزلت في بني «قريظة» و «النضير» كانوا يستفتحون على «الأوس» و «الخزرج» برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل المبعث.
وقال أبو مسلم: كانوا يقولون لمخالفيهم: غداً القتال هذا نبي قد أظلّ زمان مولده، ويصفونه بأنه نبي، ومن صفته كذا، ويتفحّصون عنه على الذين كفروا، أي: على مشركي العرب.
وقيل: إن اليهود وقبل مبعث النبي محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يستفتحون أي: يسألون الفَتْح(2/275)
والنصر، وكانوا يقولون: اللهم افتح علينا، وانصرنا بالنبي الأمّيّ [المبعوث] في آخر الزمان الذي نجد صِفَتَهُ في التوراة، وكانوا يستنصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زماننا نبيٌّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قَتْلَ عَادٍ وإرَم، فلما جاءهم ما عرفوا يعني محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير بني إسرائيل، وعرفوا نَعْتَهُ وصدقه كفروا به بَغْياً.
[وقيل:] نزلت في أَحْبَار اليهود كانوا إذا قرأوا وذكروا محمداً في التوراة، وأنه مبعوث من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصِّفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث وهذه الآية دلّت على أنهم كانوا عارفين بنبوته.
فإن قيل: التوراة نقلت نقلاً متواتراً، فإما أن يقال: إنه حصل فيها نعت محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سبيل التَّفصيل أعني بيان أن الشَّخص الموصوف بالصُّورة الفلانية، والسيرة الفلانية سيظهر في السَّنة الفلانية في المكان الفُلاني، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شَهَادَةِ التوراة على صدق محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب؟ وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة [كون محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً فكيف قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} والجواب: أن الوصف المذكور في التوراة] كان وصفاً إجمالياً، وأن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف، بل كانت كالمؤكدة، فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار.
قال ابن الخطيب: وأما كُفْرهم فيحتمل أنهم كانوا يظنّون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل، وكانوا يرغبون النَّاس في دينه، ويدعونهم إليه، فلما بعث الله محمداً من العرب من نسل إسماعيل عَظُمَ ذلك عليهم، فأظهروا التكذيبن وخالفوا طريقهم الأول. وهذا فيه نظر؛ لأنهم كانوا عالمين أنه من العرب.
ويحتمل أنهم لأجل اعترافهم بنوّته كان يوجب عليهم زوال رِيَاسَتِهِمْ وأموالهم، فَأَبَوْا وأصرُّوا على الإنكار.
ويحتمل أنهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصّة، فلا جرم كفروا به.
قوله: {فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} جحملة من مبتدأ أو خبر متسببة عمّا تقدم، والمصدر هنا مضاف للفاعل، وأتى ب «على» تنبيهاً على أن اللَّعْنة قد استعلت عليهم(2/276)
وشملتهم. وقال: «على الكافرين» ولم يقل: «عليهم» إقامة للظَّاهر مقام المضمر، لينبّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفر.(2/277)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
«بِئْس» فعل ماض غير متصرِّف، معناه الذَّمُّ، فلا يعمل إلاَّ في معرَّف ب «أل» أو فيما أضيف إلى ما هُمَا فيه، أو في مضمر مفسَّر بنكرة، أو في «مَا» على قول سيبويه.
وفيه لغات: بَئِسَ بكسر العين وتخفيف هذا الأصل، وبِئِسَ بكسر الفاء إتباعاً للعين، وتخفيف هذا الإتباع، وهو أشهر الاستعمالات ومثلها «نِعْمَ» في جميع ما تقدم من الأحكام واللغات.
قال ابن الخطيب: ما كان ثانية حرفَ حَلْق وهو مكسورٌ يجوز فيه أربع لغات:
الأول: على الأصل أعني: بفتح الأول وكسر الثاني.
والثاني: إتباع الاول للثاني، وهو أن يكون بكسر النون والعين، كما يقال: «فِخِذٌ» بكسر الفاء والخاء، وهم وإن كانوا يفرُّون من الجمع بين الكَسْرتين إلاَّ أنهم جَوّزوه ها هنا؛ لكون الحرف الحَلْقيٍّ مستتبعاً لما يجاوره.
الثالث: إسكان الحرف الحَلْقيِّ المكسور، وترك ما قبله ما كان، فيقال: نَعْمَ وَبَأْسَ بفتح الأول وإسكان الثاني؛ كما يقال: «فَخْذٌ» .
الرابع: أن يسكن الحرف الحَلْقِيُّ، وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال: «نِعْم» بكسر النون وإسكان العين؛ كما يقال: «فِخْذٌ» بكسر الفاء وإسكان الخاء.
واعلم أن هذا التغيير الأخير، وإن كان في حّدِّ الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين، إلاّ أنهم جعلوه لازماً لهما؛ لخروجهما عمًّا وضعت له الأفعالُ الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان والماضي، وصيرورتهما كلمتي مَدْحِ وذَمٍّ، ويراد بهما المُبَالغة في المدح والذم؛ ليدلّ هذا التَّغيير اللازم في اللَّفظ على التغيير عن الأصل، وفي المعنى؛ فيقولون: «نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ» ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشِّعْر؛ كما أنشد المبرِّد: [الرمل]
655 - فَفِدَاءَ لِبَنِي قَيْسٍ عَلَى ... مَا أَصَابَ النَّاسَ مِنْ شَرَّ وَضُرْ
مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ إِنَّهُمْ ... نَعِمَ السَّاعُونَ في الأَمْرِ المُبِرْ(2/277)
وهما فعلان من نَعِمَ يَنْعَمُ وَبئِسَ يَبْأَسُ.
والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما، فيقال: نعمتْ وبئستْ.
وزعم الكوفيون أنهما اسمان؛ مستدلين بدخول حرف الجر عليهما في قول حسان: [الطويل]
656 - أَلَسْتُ بِنِعْمَ الجَارُ يُؤْلِفُ بَيْتَهُ ... مِنَ النَّاسِ ذّا مَالٍ كَثِيرٍ وَمُعْدِمَا
وبما روي أن أعرابيًّا بشر بمولوده فقيل له: نعم المولودة مولودتك! فقال: «والله ما هي نيعم المولودة: نُصْرتها بكاء، وبرّها سرقة» و «نِعْمَ السَّيْر على بِئْسَ العِيرِ» . وقوله: [الرجز]
657 - صَبَّحَكَ اللهُ بِخَيْرٍ بَاكِرِ ... بِنِعْمَ طَيْرٍ وَشَبَابٍ فَاخِرِ
وخرجه البصريون على حذف موصوف، قامت صفته مقامه، تقديره: والله ما هي بمولدة مَقُول فيها: نعم المولودة.
فصل في نعم وبئس
اعلم أنَّ «نعم وبئس» أصلان للصّلاح والرَّدَاءة، ويكون فالعها اسماً يستغرق الجنس إما مظهراً وإما مضمراً، فالمظهر على وجهين:
الأول: كقولك: «نعم الرجل زيد» لا تريد رجلاً دون رجل، وإنما تقدص الرَّدل على الإطلاق.
والثاني: نحو قولك: «نعم غلام الرَّجل زيد» .
وأما قوله: [البسيط]
658 - فَنِعْمَ صَاحِبُ قَوْمٍ لاَ سِلاَحَ لَهُمْ ... وَصَاحِبُ الرَّكْبِ عُثْمَانُ بْنُ عَفانا
فنادر.
وقيل: كان ذلك لأجل أن قوله: «وَصَاحِبُ الرَّكْبِ» قد دل على المقصود؛ إذ المراد واحد، فإذا أتى بالمركّب بالألف واللام، فكأنه قد أتى به في القوم، وأما المضمر فكقولك: «نعم رجلاً زيد» الأصل: نعم الرجل رَجُلاً زيد الأصل ثم ترك ذكر الأول؛ لأن النكرة المنصوبة تدل عليه.(2/278)
ف «رجلاً نصب على التمييز، مثله في قولكك عشرون رَجُلاً والمميّز لا يكون إلا نكرة، ألا ترى أن أحداً لا يقول:» عشرون الدّرهم «ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا:» نعم الرجلُ «بالنصب لكان نقضاً لِلْغَرَضِ، وإذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا، وقالوا::» نعم الرجلُ «وكَفَوْا أنفسهم مؤنة الإضمار، وإنما أضمروا الفاعل قصداً للاختصار، إذ كان» نعم رجلاً «يدل على الجنس الذي فضل عليه.
فصل في إعراب المخصوص بالمدح في أسلوب» نِعْمَ «
إذا قلت:» نعم الرجل زيد «فهو على [وجهين] :
أحدهما: أن يكون متبدأ مؤخراً، كأنه قيل:» زيد نعم الرجل «أخرت» زيداً «والنية به التقديم كما تقول: مررت به المسكين تريدك المسكين ممرت به، فأما الراجع إلى المبتدأ، فإن الرجل لما كان شائعاً ينتظر فيه الجِنْس كان» زيد «داخلاً تحته، فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه.
والوجه الآخر: أن يكون» زيد «في قولك:» نعم الرجل زيد «خبرا مبتدأ محذوف، كأنه لما قبلك نعم الرجل قيل: من هذا الذي أثنى عليه؟ فقيل: زيد، أي: هو زيد.
فصل في شرط نعم وبئس
ولا بد بعد هذين الفعلين من خصوصين من المَدْح أو الذم، وقد يحذف لقرينة وأما» ما «الواقعة بعد» بئس «كهذه الآية، فاختلف فيها النحاة، هل لها محلّ من الإعراب أم لا؟
فذهب الفراء: إلى أنها مع» بئس «شيء واحد ركّب تركيب» حَبَّذا «، نقله ابن عطية عنه نقل عنه المَهْدوي أنه يجوز أن تكون» ما «مع» بئس «بمنزلة» كلما «، فظاهر هذين النقلين أنها لا محل لها.
وذهب الجمهور أن لها محلاًّ، ثم اختلفوا في محلّها هل هو رفع أو نصب؟ .
فذهب الأخفش إلى أنها في محلّ نصب على التمييز، والجملة بعدها في محل نصب صفة لها، وفاعل» بئس «مضمر تفسره» ما «، والمخصوص بالذم هو قوله:» أَنُ يَكْفُرُوا «لأنه في تأويل مصدر، والتقدير: بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم كُفْرهم، وبه قال الفارسي [في أحد قوليه] ، واختاره الزَّمخشري، ويجوز على هذا أن يكون المخصوص بالذَّم محذوفاً و» اشتروا «صفة له في محلّ رفع تقديره: بئس شيئاً شيء أو كفر اشتروا به، كقوله: [الطويل](2/279)
659 - لَنِعْمَ الْفَتَى أَضْحَى بَأكْنَافِ حَائِلٍ..... ... ... ... ... ... . .
أي: فَتًى أَضْحَى.
و «أَنْ يَكْفُرُوا» بدل من ذلك المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أن يكفروا. وذهب الكسائي إلى أ، «ما» منصوبة المحلً أيضاً، [لكنه] قدر بعدها «ما» موصولة أخرى بمعنى «الذي» ، وجعل الجملة من قوله: «اشْتَرَوا» صلتها، و «ما» هذه الموصولة هي المخصوص بالذم، والتقدير: بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم، فلا محلّ ل «اشتروا» على هذا، أو يكون «أن يكفروا» على هذا القول خبراً لمبتدأ محذوف كما تقدم.
فتلخّص في الجملة الواقعة بعد «ما» على القول بنصبها ثلاثة أقوال:
الأول: أنها صفة لها، فتكون في محلّ نصب، أو صلة ل «ما» المحذوفة، فلا محلّ لها، أو صفة للمخصوص بالذم فتكون في محل رفع.
وذهب سيبويه: إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل «بئس» ، فقال سيبويه: هي معرفة تامّة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف، أي: شيء اشتروا به أنفسهم وعزي هذا القول أيضاً للكسائي.
وذهب الفراء والكسائي أيضاً إلى أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والجملة اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، ف «أن يكفروا» هو المخصوص بالذم.
قال أبو حَيَّان: وما نقله ابن عطية عن سيبويه هم عليه ونقل المَهْدوي وابن عطيّة عن الكسائي أيضاً أن «ما» يجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: بئس اشتراؤهم، فتكون «ما» وما في حيّزها في محل رفع.
قال ابن عطيية: وهذا معترض؛ لأن «بئس» لا تدخل على اسم معيّن يتعرف بالإضافة إلى الضمير.
قال أبو حَيَّان: وهذا لا يلزم، إلاَّ إذا نصّ أنه مرفوع «بئس» ؛ أما إذا جعله المخصوص بالذم، وجعل فاعل «بئس» مضمراً، والتمييز محذوفاً لفهم المعنى، والتقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم، فلا يلزم الاعتراض.
قال شهاب الدين: وبهذا أعني: بجعل فاعل «بئس» مضمراً فيها جوز أبو البقاء(2/280)
في «ما» أن تكون مصدرية، فإنه قال والرابع: أن تكون مصدرية، أي بئس شراؤهم، وفاعل «بئس» على هذا مضمر؛ لأن المصدر هنا مخصوص ليس بجنس يعني فلا يكون فاعلاً، لكن يبطل هذا القول عود الضمير في «به» على «ما» والمصدرية لا يعود عليها؛ لأنه حذف عند الجمهور.
فصل في المراد بالشراء في الآية
في الشراء هنا قولان:
أحدهما: أنه بمعنى البيع، بيانه أنه تعالى لما مكن المكلّف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة، والكفر الذي يؤدّي به إلى النَّار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار مالك السِّلعة ثمنها على سلعته، فإذا اختار الإيمان مِلْك بملك صلح أن يوصف كلّ واحد منهما بأنه بائع ومشترٍ لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما.
الوجه الثاني: أن المكلّف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله تعالى يأتي بأعمال ينظن أنها تخلصه من العقاب، فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخصلهم من العقاب، ويوصّلهم إلى الثواب، فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم به، فذمّهم الله تعالى وقال: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} .
قوله: «أو يكفروا» قد تقدم فيه أنه يجوز أن يكون هو المخصوص بالذم، ففيه الأوجه الثلاثة إما متبدأ أو خبره الجملة قبله، ولا حاجة إلى الرابط؛ لأن العموم قائم مقامه، إذ الألف واللام في فاعل «نعم وبئس» للجنس، أو لأن الجملة نفس المبتدأ، وإما خبر لمبتدأ محذوف وإما مبتدأ أو خبره محذوف، وتقدم أنه يجوز أن يكون بدلاً أو خبراً لمبتدأ حسبما تقرّر وتحرر.
وأجاز الفراء أن يكون في محلّ جر بدلاً من الضمير في «به» إذا جعلت «ما» تامة.
قوله: «بَمَا أَنْزَلَ اللهُ» متعلّق ب «كفروا» ، وتقدّم أن «كفر» يتعدّى بنفسه تارة، وبحرف الجر أخرى، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف تقديره: أنزله، ويضعف جعلها نكرة موصوفة، وكذلك جعلها مصدريّة، والمصدر قائم مقام المفعول، أي: بإنزاله يعني: بالمنزل.
قوله: «بَغْياً» فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه مفعول من أجله وهومستوفٍ لشروط النصب، وفي الناصب له قولان:
أحدهما وهو الظاهر أنه يكفروا، أي علة كفرهم البَغْي، وهذا تنبيه على أن كفرهم [بَغْي وحَسَد] ، ولولا هذا القول لجوزنا أن يكون كفرهم جهلاً، والمراد بذلك:(2/281)
كفرهم بالقرآن، لأن الخطاب لليهود، وكانوا مؤمنين بغيره فبيّن تعالى غرضهم من هذا البَغْي بقوله: {أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: 90] وهذا لا يليق إلا باليهود؛ لأنهم ظنوا أن ذلك الفضل العظيم بالنبوّة المنتظرة تحصل في قومهم، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على الحَسَد والبَغْي.
والقول الثاني: أن الناصب لقوله «بَغْياً» «اشْتَروا» ، وإليه ينحو كلام الزمشخري، فإنه قال: «وهو علّة» اشتروا.
الوجه الثاني: أنه منصوب على المصدر بفعل مَحْذوف يدل عليه ما تقدم، أي: بَغَوا بغياً.
والثالث: أنه في موضع حالٍ، وفي صاحبها القَوْلاَن المتقدّمان: إما فاعل «اشتروا» ، وإما فاعل «يكفروا» ، تقديره: اشتروا باغين، أو يكفروا باغين.
والبَغْي: أصله الفَسَاد، من قولهم: بغي الجرح أي: فسد، قاله الأَصْمعي.
وقيل: هو شدة الطلب، ومنه قوله تعالى: {مَا نَبْغِي} [يوسف: 65] ومنه البّغِيّ للزانية، لشدة طلبها له وقال القُرْطبي: البغي معناه: الحَسَد، قاله قتادة والسُّدي، وهو مفعول من أجله، وهو في الحقيقة مصدر.
[وقال الراجز: [السريع او الرجز]
660 - أنْشُدُوا الْبَاغِي يُحِبُّ الْوِجْدَانْ ... قَلاًئِصاً مُخْتَلِفَاتِ الأَلوَانْ]
قوله: «أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول من أجله، والناصب له «بغياً» أي: علّة البغي إنزال الله فَضْله على محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
والثاني: أنه على إسقاط الخافض، والتقدير: بغياً على أن ينزل، اي: حسداً على أن ينزل، فجيء فيه الخلاف المَشْهُور، أهو في موضع نصب أو جر؟
والثالث: أنه في م حل جر بدلاً من «ما» في قوله تعالى: «بِمَا أَنْزَلَ اللهُ» [بدل اشتمال أي بإنزال الله] فيكون كقول امرىء القيس: [الطويل]
661 - أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتَصُرُ عَنْهَا خُطْوَةً أَوْ تُبُوصُ
وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميع المضارع مُخَففاً من «أنزل» إلا ما وقع الإجماع(2/282)
على تشديده في «الحجر» {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ} [الحجر: 21] وقد خالفا هذا الأصل.
أما أبو عمرو فإنه شدد {على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً} [الأنعام: 37] في «الأنعام» .
وأما أبن كثير فإنه شدّد في الإسراء {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن} [الإسراء: 82] {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً} [الإسراء: 93]
والباققون بالتشديد في جميع المضارع إلاّ حمزة والكسائي، فإنهما خالفا هذا الأصل مخففاً {وَيُنَزِّلُ الغيث} آخر لقمان [لقمان: 34] {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث} في الشورى [الآية: 28] .
والهمزة والتضعيف للتعدية، وقد تقدم: هل بينهما فَرْق؟ وتحقيق كلّ من القولين، وقد ذكر القراء مناسبات الإجماع على الشديد في تلك المواضع، ومخالفة كلّ واحد أصله؟ لماذا بما يطول ذكره والأظهر من ذلك كله أنه جمع بين اللغات.
قوله: «مِنْ فَضْلِهِ» من لابتداء الغاية، وفيه قولان:
أحدهما: أنه صفة لموصوف محذوف هو مفعول «ينزل» أي: ينزل الله شيئاً كائناً من فَضْله، فيكون في محلّ نصب.
والثاني: أن «من» زائدة، وهو رأي الأخفش، وحينئذ فلا تعلق له، والمجرور بها هو المفعول أي: أن ينزل الله فضله.
قوله: «عَلَى مَنْ يَشَاءُ» متعلّق ب «ينزل» و «من» يجوز أن تكون موصولةً، أو نكرة موصوفة، والعائد على الموصول أو الموصوف محذوف لاستكمال الشُّروط المجوزة للحذف، والتقدير: على الذي يَشَاؤه، أو على رجل يَشَاؤه.
وقدره أبو البقاء مجروراً فإنه قال بعد تجوزه في «من» أن تكون موصوفة أو موصولة «ومفعول يشاء محذوف، أي: يشاء نزوله عليه، ويجوز أن يكونك يشاء يختار ويَصْطفي» انتهى.
وقد عرفت أن العائد المجرور لا يحذف إلاَّ بشروط، وليست موجودة هنان فلا حاجة إلى هذا التقدير.
قوله: «مِنْ عِبَادِهِ» فيه قولان.
أحدهما: أنه حال من الضَّمير المحذوف الذي هو عائد على الموصوف أو الموصول، والإضافة تقتضي التشريف.
والثاني: أن يكون صفةً ل «من» بعد صفة على القول بكونها نكرة، قاله أبو البقاء وهو ضعيف؛ لأن البداية بالجار والمجرور على الجملة في باب النعت عند اجتماعهما أولى لكونه أقرب إلى المفرد فهو في محلّ نصب على الأول وجرّ على الثاني، وفي كلا القولين متعلّق بمحذوف وجوباً لما تقرر.(2/283)
قوله: «فَبَاءُوا بِغَضَبٍ» الباء للحال، أي: رجعوا ملتبسين بغضب، أي مغضوباً عليهم، وقد تقدم ذلك.
قوله: «عَلَى غَضَبٍ» في محلّ جر؛ لأنه صفة لقوله: «بِغَضَبٍ» أي: كائن على غضب أي بغضب مترادف.
فصل في تفسير الغضب
في تفسير الغَضَبِ وجوه:
أحدها: لا بد من إثبات سببين للغضبين:
أحدهما: تكذيبهم عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وما أنزل عليه، والآخر تكذيبهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاله الحسن والشَّعبي وعكرمة وأبو العالية وقتادة.
وقال ابن عباس ومجاهد: الغضب الأول تضييعهم التَّوراة وتبديلهم.
والثاني: كفرهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال عطاء، وأبو عبيد: ليس المراد إثبات الغضبين فقط، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] وغير ذلك من أنواع كفرهم.
وقال أبو مسلم: المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل الكفر، وإن كان واحداً إلا أنه عظيم.
وقال السدي: الغَضَبُ الأول بعبادتهم العِجْل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجَحْدهم نبوّته.
قولهك «مهين» صفة ل «عذاب» . واصله: «مُهْوِن» ؛ لأنه من الهوان، وهو اسم فاعل من أهان يُهِين إهانة مثل: أقام يقيم إقامة، فنقلت كسرة «الواو» على الساكن قبلها، فسكنت «الواو» بعد كسرة، فقلبت ياء.
والإهانةك الإِذْلالَ والخِزْي. وقال «وَلِلْكَافِرِيْنَ» ولم يقل: «ولهم» تنبيهاً على العلّة المقتضية للعذاب المُهين، فيدخل فيها أولئك الكفّار وغيرهم.(2/284)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
«وإذ قيل لهم» : يعني اليهود.
«آمنوا بما أنزل الله» : أي بكل ما أنزل الله، والقائلون بالعموم احتجّوا بهذه الآية على أن لفظه «ما» بمعنى «الذي» تفيد العموم، قالوا: لأن الله تعالى أمرهم أن يؤمنوا بما أنزل الله، فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك، ولولا أنَّ لفظة «ما» تفيد العموم لما حسن هذا الذم، ثم إنه تعالى أمره بذلك {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعني: التوراة وكتب سائر الأنبياء الذي أتوا بتقدير شَرْع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه، هو الإنجيل والقرآن، وأورد هذه الحكاية عنهم على سبيل الذَّملهم، وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم: آمنوا بما أنزل الله إلاَّ ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلاً من عند الله، وإلاَّ كان ذلك تكليف ما لا يُطَاق، وإذ أول الدليل على كونه منزلاً من عند الله وجب الإيمان به، فإيمانهم بالبَعْضِ دون البَعْضِ تناقض، ويجاب بوجيهن:
أحدهما: أن العموم إنما استفيد من عموم العلّة، وهو كونه من عند الله؛ لأن كلّ ما أنزله الله يجب الإيمان بكونه منزلاً من عند الله لا لكون «ما» يقتضي العموم.
الثاني: أنا لا نمنع أن «ما» استعمل للعموم؛ لأن ذلك مجال لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في كونها هل هي موضوعة للعموم أو لا؟
فالقائل بأنها ليست موضوعةً للعموم أنها إنما استعملت للعموم مجازاً هاهنا.
فإن قيل: الأصل في الاستعمال الحقيقة.
فالجواب: أنها لو كانت للعموم حقيقةً لما جاز إدخال لفظة «كل» عليها.
فإن قيل: إنما دخلت «كلّ» للتوكيد.
فالجواب: أن أصل المؤكّد يأتي بعد ما يؤكده لا قبله.
قوله: «وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ» يجوز في هذه الجملة وَجْهَان:
أحدهما: أن تكون: استئنافية استؤنفت] للإخبار بأنهم يكفرون بما عدا التَّوْراة، فلا محل لها من الإعراب.
والثاني: أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي: وهم يكفرون، والجملة في محلّ نصب على الحال، والعامل فيها «قالوا» ، أي قالوا: نؤمن حال كونهم كافرين بكذا، ولا يجوز أن يكون العامل فيها «نؤمن» .(2/285)
قال أبو البقاء: إذا لو كان كذلك لكان لفظ الحال نكفر، أي ونحن نكفر. يعني: فكان يجب المُطَابقة.
ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لما تقدم من أن المضارع المثبت لا يقترن بالواو، وهو نظير قوله: [المتقارب]
662 - ... ... ... ... ... . ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنُنُمْ مَالِكَا
وحُذِفَ الفاعل من قوله تعالى: «بِمَا أُنْزِلَ» وأقيم المفعولُ مقامه للعلم به، إذ لا يُنَزِّل الكتب السماوية إلا الله، أو لتقدم ذكره في قوله: «بِمَا أَنْزَل الله» .
قوله: «بِمَا وَرَاءَهُ» متعلّق ب «يكفرون» و «ما» موصولة، والظروف صلتها، فمتعلّقةُ فعل ليس إلا و «الهاء» في «وراءه» تعود على «ما» في قوله: «نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِل» .
و «وَرَاء» من الظروف المتوسّطة التصرف، وهو ظرف مكان، والمشهور أنه بمعنى «خلف» وقد يكون بمعنى «أمام» قال تعالى: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] .
وقال: {وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان: 27] فهو من الأضداد، وفسره الفراء هُنَا بمعنى «سوى» التي بمعنى «غير» .
وفسره أبو عبيدة وقتادة بمعنى «بعد» .
وفي همزة قولان:
أحدهما: أنه أصل بنفسه [وإليه ذهب ابن جني مستدلاً] بثبوتها في التصغير في قولهم: «وريئة» .
الثاني: أنها مبدلة من ياء، لقولهم: تواريت.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكومن الهمز بدلاً من واو؛ لأن ما فاؤه واو، لا تكون لامه واواً إلاّ ندوراً نحو: «واو» اسم حرف هجاء، وحكم «وَرَاء» حكم «قَبْلُ» و «بَعْدُ» في كونه إذا أضيف أعرب، وإذا قطع بني على الضم.
وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر: [الطويل]
663 - إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكْنُ ... لِقَاؤُكَ إِلاَّ مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ(2/286)
وفي الحديث عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «كُنْتُ خَلِيْلاً مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ» .
وثبوت الهاء في تصغيرها شاذّ؛ لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تثبت الهاء في مصغره إلا في لفظتين شذتا وهما: «ورئية» و «قديديمة» : تصغير «وراء» و «قدام» .
وقال ابن عصفور: لأنهما لم يتصرفا فلو لم يُؤنَّثَا في التصغير لتُوُهِّمَ تذكيرهما.
والوراء: ولد الولد أيضاً.
قوله: «وَهُوَ الْحَقُّ» مبتدأ أو خبر، والجملة في محلّ نصب على الحالن والعامل فيها قوله «يكفرون» [وصاحبها فاعل يكفرون] وأجاز أبو البقاء أن يكون العامل الاستقرار الذي في قوله: «بما وراءه» أي بالذي استقرّ وراءه، وهو الحق.
وهذا إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه لما ثبت نبوّته بالمعجزات التي ظهرت عليه، ثم إنه عليه الصَّلاة والسَّلام أخر أن هذا القرآن منزّل من عند الله، وأن فيه أمر المكلفين به، فكان الإيمان به محقّق لا مَحَالة.
قوله: «مُصَدِّقاً» حال مؤكدة، لأن قوله: «وَهُوَ الْحَقُّ» قد تضمّن معناها، والحال المؤكدة: إما أن تؤكد عاملها، نحو:
{وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] وإما أن تؤكد مضمون جملة، فإن كان الثاني التزم بإضمار عاملها، وتأخيرها عن الجملة، ومثله أنشد سيبويه: [البسيط]
664 - أَنا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفاً بِهَا نَسَبِي ... وَهَلْ بِدَارَةَ يَا لَلنَّاسِ مِنّ عَارِ
والتقدير: وهو الحق أحُقّه مصدقاً وابنَ دَارَةَ أعْرَف معروفاً، هذا تقرير كلام النحويين، وأما أبو البقاء، فإنه قال: مصدقاً حال مؤكِّدة، والعامل فيها ما في «الحق» من معنى الفعل، إذ المعنى: وهو ثابت مصدقاً، وصاحب الحال الضمير المستتر في «الحَقّ» عند قوم، وعند آخرين صاحب الحال ضمير دلّ عليه الكلام، و «الحق» : مصدر لا يتحّمل الضمير على حسب تحمّل اسم الفاعل له عندهمم.
فقوله: «وعند آخرين» هو القول الذي قدّمناه وهو الصواب، و «ما» في قوله: «لِمَا(2/287)
مَعَهُمْ» في موضع خفض باللام، و «معهم» صلتها، و «معهم» نصب بالاستقرار.
فصل في بيان ما تشير إليه الآية
وهذا أيضاً إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وَجْهَيْنِ:
الأول: أن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يتعلم [علماً] ، ولا استفاد من أُسْتاذ، فلما أخبر بالحكايات والقصص موافقاً لما في التوراة من غير تفاوت أصلاً علمنا أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنما استفادها من الوَحْي والتنزيل.
والثاني: أن القرآن يدلّ على نبوته عليه الصَّلاة والسَّلام فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة، وجب اشتمال التَّوْراة على الإخبار عن نبوته، وإلاَّ لم يكن القرآن مصدقاً للتوراة، بل مكذباً لها، وإذا كانت التوراة مشتملةً على نبوته عليه الصَّلاة والسَّلام، وهم قد اعترفوا بموجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن.
قوله: «فلم تقتلون» الفاء جواب شرط مقدر وتقديره: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم قتلتم الأنبياء؟ وهذا تكذيب لهم؛ [لأن الإيمان بالتوراة مناف لتقل أشرف خلقه وذلك] لأن التوراة دلّت على أن المعجزات تدلّ على الصدق، وتدل على أنّ من كان صادقاً في ادعاء النبوة كان قتله كفراً، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قَتْل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفراً فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادّعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة؟
و «لم» جار ومجرور، واللام حرف، و «ما» استفهامية في محلّ جرن أي: لأي شيء؟ ولكن حذف ألفها فرقاً بينها وبين «ما» الخبرية.
وقد تحمل الاستفهامية على الخبرية فتثبت ألفها؛ قال الشاعر: [الوافر]
665 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ
وهذا ينبغي أن يُخَصّ بالضرورة، كما نص عليه بعضهم، والزمخشري يجيز ذلك، ويخرج عليه بعض أي القرآن، كما قد تحمل الخبرية على الاستفهامية في الحَذْف في قولهم: اصنع بم شئت وهذا لمجرد التشبيه اللفظي.
وإذا وُقِفَ على «ما» الاستفهامية المجرورة، فإن كانت مجرورة باسم وَجَبَ لَحاقُ(2/288)
هاء السَّكْت نحو مجيء «مه» ، وإن كانت مجرورة بحرف فالاختيار اللحاق، والفرق أن الحرف يمتزج بما يدخل عليه فتقوى به الاستفهامية، بخلاف الاسم المضاف إليها، فإنه في نيّة الانفصال، وهذا الوَقْف إنما يجوز ابتداء، أو بقطع نفس، ولا جَرَمَ أن بعضهم منع الوَقْف على هذا النحو قال: «إنه إن وقف بغير هاء كان خطأ؛ لنقصان الحرف، وإن وقف بها خالف السَّواد» .
لكن البزي قد وقف بالهاء، ومثل ذلك لا يُعد مخالفة للسَّواد، ألا ترى إلى إثباتهم بعضَ ياءات الزوائد.
والجار متعلق بقوله: «تقتلون» ، ولكنه قُدِّم عليه وجوباً، لأن مجروره له صدر الكلام، والفاء وما بعدها من «تقتلون» في محلّ جزم، وتقتلون وإن كان بصيغة المضارع، فهو في معنى الماضي [لفهم المعنى] ، وأيضاً فمعه قوله «مِنْ قَبْل» [وأيضاً فإن الأنبياء عليهم السلام إنما كانوا في ذلك الزمان، وأيضاً فالحاضرون لم يفعلوا ذلك ولا يتأتى لهم قتل الماضيين] ، وجاز إسناد القتل إليهم وإن لم يَتَعَاطَوه؛ لأنهم لما كانوا راضين بفعل أَسْلاَفهم جعلوا كأنهم فعلوا هم أنفسهم.
فإن قيل: كيف جاز قوله: «فَلِمَ تَقْتُلُونَ» من قبل، ولا يجوز أن يقال: أنا أضربك أمس؟
فالجواب من وَجْهَيْن:
الأول: أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصّفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله: ويحك لم تكذب؟ كأنك قلت: لم يكن هذا من شأنك.
قال الله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} [البقرة: 102] ولم يقل: ماتلت الشياطين؛ لأنه أراد من شأنها التلاوة.
والثاني: كأنه قال: لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم مؤمنين بالتوراة؟
قال بعضهم: جاء «تقتلون» بلفظ الاستقبال، وهو بمعنى المُضِيّ لما ارتفع الإشكال بقوله: «من قبل» وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل وبالعكس.
قال الحطيئة: [الكامل]
666 - شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ ... أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
شهد بمعنى يشهد.(2/289)
قوله: «إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .
في: «إنْ» قولان:
أحدهما: أنها شرطية، وجوابه محذوف تقديره: إن كنتم مؤمنين فلم فعلتم ذلك؟
ويكون الشرط وجوابه قد ذكر مرتين فَحُذِفَ الشَّرْط من الجملة الأولى، وبقي جوابه وهو: فلم تقتلون، وحذف الجواب من الثَّانية، وبقي شرطه، فقد حذف من كلّ واحدة ما أثبت في الأخرى.
قال ابن عطية رَحِمَهُ اللهُ: جوابها متقدم، وهوقوله «فلم» وهذا إنما يتأتى على قول الكُوفيين، وإبي زيد.
والثاني: أن «إن» نافية بمعنى «ما» أي: ما كنتم مؤمنين لمُنَافَاةِ ما صدر منكم الإيمان.(2/290)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
«بِالبَيِّنَاتِ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون حالاً من «موسى» أي: جاءكم ذا بيِّنات وحُجَج، أو ومعه البينات.
وثانيهما: أن يكون مفعولاً، أي: بسبب إقامة البَيّنات، وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] وهي: العصا والسّنون واليد والدم والطّوفان والجراد والقمل والضفادع وفلق البحر.
وقيل: البينات التوراة وما فيها من الدّلالات.
واللام في «لقد» لام القسم.
«ثم أتَّخَذْتُمُ العِجْل» توبيخ، وهو أبلغ من «الواو» في التَّقريع بها والنظر في الآيات، أي بعد النظر في الآيات والإتيان به اتّخذتم، [وهذا يدّل على أنهم إنما فلعوا ذلك بعد مُهْلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم لجُرْمهم] . وما بعده من الجمل قد تقدم مثله، والسبب في تكريرها أنه تعالى لما حركى طريقة اليَهُودِ في زمان محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وصفهم بالعِنَادِ والتكذيب، ومثلهم بسلفهم في [قتلهم] الأنبياء الذي يناسب التكذيب؛ بل يزيد عليه إعادة ذكر موسى عليه السلام وما جاء به من البيّنات، وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذو العجل إلهاً وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه، والتمسّك بدينه، فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التَّكذيب والإنكار.(2/290)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قوله: «واسمعوا» أي أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب؛ قال [الوافر]
667 - دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ ... يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أَقُولُ
أي يقبل.
وقال الرَّاجز: [الرجز]
668 - وَالسَّمْعُ والطَّاعة والتَّسْلِيمْ ... خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ
فصل في التكرار
وفي هذا التكرير وجها:
أحدهما: أنه للتأكيد، وإيجاب الحُجَّة على الخصم.
الثاني: كرره لزيادته على دلالة وهي قولهم: «سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا» [فرفع الجبل لا شك أنه من أعظم المعجزات، مع ذلك أصرُّوا على كفرهم، وصرحوا بقولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء: 46]] .
وأكثر المفسرين ذكروا أنهم قالوا هذا القول.
وقال أبو مسلم: يجوز أن يكون المعهنى سمعوه فقتلوه بالعصيان، فعبر عن ذلك بالقول، وإن لم يقولوه كقوله تعالى: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] وكقوله: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] والأول أولى، لأن هذا صَرْف للكلام عن ظاهره بغير حاجة.
قوله: «وأُشْربوا» يجوز أن يكون معطوفاً على قوله. «قَالُوا: سَمِعْنَا» ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «قالوا» أي: قالوا ذلك، وقد أشربوا. ولا بد من إضمار «قد» ليَقْرُبَ الماضي إلى الحال خلافاً للكوفيين، حيث قالوا: لا يحتاج إليها، ويجوز أن يكون مستأنفاً لمجرد الإخبار بذلك.(2/291)
واستضعفه أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى قال: لأنه قال بعد ذلك: «قل بِئْسَمَا يأمركم» فهو جواب قولهم: «سمعنا وعصينا» فالأولى ألا يكون بينهما أجنبي.
و «الواو» في «أشربوا» وهي المفعول الأول قامت مقام الفاعل، والثاني هو «العِجْل» ؛ لأن «شرب» يتعدّى بنفسه، فأكسبته الهمزة مفعولاً آخر، ولا بد من حذف مُضَافين قبل «العِجْل» والتقدير: وأشربوا حُبَّ العِجْل.
وحسن حَذْفُ هذين المضافين للمبالغة في ذلك حتى كأنه تُصُوِّر إشراب ذات العِجْل، والإشراب مُخَالطة المائع بالجامد، ثم اتّسع فيه حتى قيل في الألوان نحو: أشرب بياضُه حُمْرةً، والمعنى: أنهم دَاخَلَهم حُبُّ عبادته، كما داخلَ الصّبغُ الثوبَ.
ومنه قول الشاعر: [الوافر]
669 - إذّا ما القَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شَيْءٍ ... فَلاَ تَأْمَلْ لَهُ الدَّهْرَ انْصِرَافا
وعبر بالشرب دون الأكل؛ لأ، الشرب يَتَغَلْغَلُ في باطن الشيء، بخلاف الأكل فإنه مُجَاور؛ ومنه في المعنى: [الطويل]
670 - جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي..... ... ... ... ... ... ... ...
وقال بعضهم: [الوافر]
671 - تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الخافِي يَسِيرُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَحُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرورُ
أَكَادُ إِذَا ذكَرْتُ العَهْدَ مِنْهَا ... أَطِيرُ لَوَ أنَّ إِنْسَاناً يَطِيرُ
فهذا وجه الاستعارة.
وقيل: الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذلك كانت تلك المحبة مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.
وقيل: الإشراب هنا حقيقة؛ لأنه يروى أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ برد العجل بِالمبْرد، ثم جعل تلك البُرَادة في الماء، وأمرهم بشربه، فمن كان يحب العجل ظهرت البُرَادة على شَفَتَيْهِ.(2/292)
روي القَشَيْري رَحِمَهُ اللهُ أنه ما شربه أحد إلا جُنَّ.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: أما تَذْرِيَتُهُ في الماء فقد دلّ عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} [طه: 97] ، وأما شرب الماء وظهور البُرَادة على الشِّفاه وهذا وإن كان قال به السّدي وابن جريج وغيرهما فردّه قوله: «في قُلُوبِهِمْ» .
فصل في فاعل الإشراب
قوله: «وأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِم» يدلّ على أن فاعلاً غيرهم بهم ذلك، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله تعالى.
أجاب المعتزلة بوجهين:
الأول: ما أراد الله تعالى أن غيرهم فعل بهم ذلك، لكنهم لِفَرْطِ ولوعهم وَإِلْفِهِمْ بعبادته أشربوا قلوبهم حُبّه، فذكر ذلك على ما لم يسمّ فاعله كما يقال: فلان معجب بنفسه.
والثاني: أن المراد من «أشرب» أي: زيّنه لهم، ودعاهم إليه كالسَّامري، وإبليس، وشياطين الإنس والجن.
وأجابوا: بأن هذا صرف اللَّفظ عن عن ظاهره، وذلك لا يجوز المصير إليه إلاّ بدليل منفصل، وقد أقيمت الدلائل العقلية القَطْعية على أن محدث الأشياء هو الله تعالى فلا حاجة لنا إلى ترك هذا الظاهر.
قوله: «بِكُفْرِهِم» فيه وجهان:
أظهرهما: أن «الباء» سببية متعلّقة ب «أُشْرِبُوا» أي: أشربوا بسبب كفرهم السَّابق.
والثاني: أنها بمعنى «على» يعنون بذلك أنها للحال، وصاحبها في الحقيقة ذلك للفاعل المحذوف أي: أشربوا حبّ عبادة العِجْل مختلطاً بكفرهم، والمصدر مضاف للفاعل، أي: بأن يكفروا.
قوله: «قُلْ» بِئْسَمَا يَأمُرُكُمْ «كقوله:» بِئْسَمَا اشْتَرَوْا «.
والمعنى: فبئسما يأمركم به إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ} [البقرة: 91] .
وقيل: إن هذا خطاب للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر له بأن يوبّخهم أي: قل لهم يا محمد: بئس هذه الأشياء التي فعلتم، وأمركم بها [إيمانكم] أي: بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العِجْل وإضافة الأمر إلى إيمانهم كما قالوا لشعيب صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87] .(2/293)
قوله:» إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «يجوز فيها الوجهان السابقين من كونها نافيةً وشرطيً، وجوابه محذوف تقديره: فبئسما يأمركم.
وقيل: تقديره: فلا تقتلوا أنبياء الله، وَلاَ تُكَذِّبُوا الرّسل ولا تكتموا الحق؛ وأسند الإيمان إليهم تهكُّماً بهم، ولا حاجة إلى حذف صفة، أي إيمانكم الباطل، أو حذف مُضَاف، أي: صاحب إيمانكم.
وقرأ الحسن:» بِهُو إيمَانُكُمْ «بضم الهاء مع الواو.
فإن قيل: الإيمان عرض، ولا يصح الأمر والنهي.
فالجواب: أن الدَّاعي إلى الفعل قد يشبه بالأمر كقوله: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] .(2/294)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
وهذا نوع آخر من قبائح أفعالهم، وهو زعمهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النَّاس، ويدلّ عليه أنه لايجوز أن يقال للخصمك إن كان كذا أو كذا فافعل كذا، والأول مذهبه، ليصحّ إلزام الثاني عليه.
ويدلّ على ذلك أيضاً قولهم: {يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] .
وأيضاً اعتقادهم في أنفسهم أنهم همم المحقّون؛ لأن النسخ غير جائز في شرعهم، وأن سائر الفرق مبطلون، وأيضاً اعقادهم أن أنتِسَابَهُمْ إلى أكابر الأنبياء علهيم الصلاة والسلام، أعني: يعقوب وإسماعيل وإسحاق وإبراهيم عليه السلام يخصلهم من [عقاب] الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه، فكذّبهم الله تعالى وألزمهم الحُجّة، فقال: قل لهم يا محمد: إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجَنّة خالصة من دون النَّاس، فتمنوا الموت: فأريدوه وأسألوه؛ لأن من علم أنا لجنة مَأْواه حنّ إليها؛ لأن نعم الدنياعلى قلّتها كانت منغصةً عليهم بسبب ظهور محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومنازعته لهم بالجِدَالِ والقتال، ومن كان في النّعم القليلة المنغصة، وهو يتيقّن بعد الموت أنه ينتقل إلى تلك النعم العظيمة، فإنه لا بد وأن يرغب في الموت.
وقيل: إن الله تعالى صرفهم عن إظْهَار التمنِّي، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(2/294)
وقيل: فمتنّوا الموت: ادعوا بالموت على الفِرْقَةِ الكاذبة. روى ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لو تمنوا الموت لشرق كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلاَّ مات» .
قوله: {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً} شرط جوابه «فَتَمَنّوا» .
و «الدار» اسم «كان» وهي الجنة، والأولى أن يقدّر حذف مضاف، أي: نعيم الدار الآخرة؛ لأن الدَّار الآخرة في الحقيقة هي انقضاء الدُّنيا، وهي للفريقين. واختلفوا في خير «كان» على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه «خالصة» ، فيكون «عند» ظرف ل «خالصة» ، أو للاستقرار الذي «لكم» ويجوز أن تكون حالاً من «الدار» ، والعامل فيه «كان» ، أو الاستقرار.
وأما «لكم» فيتعلق ب «كان» ؛ لأنها تعمل في الظرف وشبيهه.
قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ويجوز أن تكون للتبيين، فيكون موضعها بعد «خالصة» أي: خالصة لكم فتتعلّق بنفس «خالصة» ، وهذا فيه نظر؛ لأنه متى كانت للبيان تعلّقت بمحذوف تقديره: أعني لكم، نحو: سُقْياً لك، تقديره: أعني بهذا الدعاء لك، وقد صرح غيره في هذا الموضع بأنها للبيان، وأنها متعلّقة حينئذ بمحذوف كما تقدم، ويجوز أن يكون صفة ل «خالصة» في الأصل قُدْمَ عليها فصار حالاً منها، فيتعلّق بمحذوف.
الثاني: أن الخبر «لكم» فيتعلّق بمحذوف وينصب خالصة حينئذ على الحال، والعامل فيها إما «كان» ، أو الاستقرار في «لكم» ، و «عند» منصوب بالاستقرار أيضاً.
الثالث: أن الخبر هو الظَّرف، و «خالصة» حال أيضاً، والعامل فيها إما «كان» أو الاستقرار، وكذلك «لكم» ، وقد منع من هذا الوجه قَوْمٌ فقالوا: لا يجوز أن يكون الظرف خبراً؛ لأن هذا الكلام لا يستقل.
وجوز ذلك المهدوي، وابن عطية، وابو البقاء، واستشعر أبو البقاء هذا الإشكال، وأجاب عنه بأن قال: وسوغ أن يكون «عند» خبر «كان لكم» يعني لفظ «لكم» سوغ وقوع «عند» خبراً إذ كان فيه تخصيص وَتَبْيِينٌ، ونظيره قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، لولا «له» لم يصحّ أن يكون «كفواً» خبراً.
و «مِنْ دُونِ النَّاسِ» في محلّ نصب ب «خالصة» ؛ لأنك تقول: خَلُصَ كذا من كذا، والمراد به سوى لا معنى المكان، كما يقول القائل لمن وهب منه ملكاً: هذا لك دون النّاس.(2/295)
وقرأ الجمهور: «فتَمَنَّوُا المَوْتَ» بضم الواون ويروى عن أبي عمرو فتحها تخفيفاً واختلاس الضمة، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء السَّاكنين تشبيهاً بواو {لَوِ استطعنا} [التوبة: 42] المراد بها عندية المنزلة.
قال ابن الخطيب: «ولا بعد أيضاً في حمله على [المكان] فلعل اليهود كانوا مشبّهة، فاعقدوا العِنْدِيَة المكانية» .
وقوله تعالى: «فتمنوا الموت» هذا أمر متعلّق على أمر مفقود، وهو كونهم صادفين، فلا يكون الأمر موجوداًن أو الغرض إظهار كذبهم في دعواهم، وفي هذا التمني قولان:
أحدهما: قول ابن عباس: إنهم أمروا بأن يَدْعُوَ الفريقان بالموت على الفرقة الكاذبة.
والثاني: أن يقولوا: ليتنا نموت وهذا أولى؛ لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَغَصَّ كُلُّ إنْسَانٍ بِرِيقِهِ وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الأَرضِ يَهُودِيٌّ إلاَّ مَاتَ» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْ أنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوا المَوْتَ لماتُوا ورَأوا مَقَاعِدَهُمْ من النَّارِ وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ [رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] ، لَرَجَعُوا إلاَ يَجِدُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً» .
قوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} كقوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] .
فصل في سؤالات واردة
السؤال الأول: لعلّهم كانوا يعلمون أن نعم الآخرة عظيمة لا سبيل إليها إلاَّ بالموت، والذي يتوقف عليه المطلوب يجب أن يكون مطلوباً لكونه وسيلةً إلى ذلك المطلوب، إلاَّ أنه يكون مكروهاً نظراً إلى ذاته، والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة، وما كانوا يطيقونها، فلا جرم ما تمنوا الموت.
السؤال الثاني: أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقولون إنّك تدَّعي الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر، فإنْ كان الأمر(2/296)
كذلك فارْض بأن نقتلك ونقتل أمتك، فإنَّا نراك ونرى أمتك في الضّر الشديد، والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال، وبعد الموت فإنكم تتخلّصون إلى نعيم الجنّة، فوجب أن ترضوا بقتلكم.
السؤال الثالث: لعلّهم كانوا يقولون: الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم، لكن بشرط الاحتراز عن الكَبَائر، فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلداً في النار أبداً؛ لأنهم كانوا وعدوا به، أو لأنهم جوّزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذباً، فلأجل هذا ما تمنّوا الموت، وليس لأحد أن يدفع هذا السُّؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسُّهم النار إلاَّ أياماً معدودة؛ لأن كلّ يوم من أيام القيامة كألف سنة، فكانت هذه الأيام، وإن كانت قليلة بحسب العدد، لكنها طويلة بحسب المدة، فلا جَرَمَ ما تمنّوا الموت بسب الخوف.
السؤال: الرابع: أنه عليه الصلاة والسَّلام نهي عن تمنّي الموت فقال: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُم المَوْت لِضُرِّ نَزَلَ بِهِ وَلَكِنْ لِيَقْلْ: اللهُمَّ أَحْيِنِي إِنْ كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِي وتَوَفَّنِي إِنْ كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْراً لِي» وأيضاً قال تعالى: في كتابه: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى: 18] فكيف يجوز أن ينهى عن الاستعجال، ثم إنه يتحدّى القوم بذلك؟
السؤال الخامس: أنَّ لفظ التمني بين التمنّي الذي هو المعنى القائم بالقلب، وبين اللفظ الدَّال على ذلك المعنى، وهو قول القائل: ليتني متّ، فلليهود أن يقولوا: إنك طلبت منا التمني، والتمنّي لفظ مشترك، فإن ذكرناه باللِّسان، فله أن يقول: ما أردت به هذا اللَّفظ، وإنما أردت به المعنى الذي في القَلْب، وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقَلْب، فله أن يقول: كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم، ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه.
السؤال السادس: هَبْ أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنّوا الموت، فلم قلت: إنهم لم يتمنوا الموت؟ والاستدلال بقوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} ضعيف؛ لأن(2/297)
الاستدلال بهذا إنما يصحّ لو ثبت كون القرآن حقًّا، والنزاع ليس إلا فيه.
والجواب كون الموت متضمناً للآلام يكون كالصارف عنه تمنّيه.
قلنا: كما أن الألم الحاصل عند الحجَامَةِ لا يصرف عن الحِجَامَةِ للعلم الحاصل؛ لأن المنفعة الحاصلة عن الحِجَامة عظيمة وجب أن يكون الأمر هاهنا كذلك.
وقوله: لو قلبوا الكلام على محمد لزمه أن يرضى بالقتل.
قلنا: الفرق بين محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبينهم أن محمداً كان يقول: إني [مبعوث] لتبليغ الشَّرَائع إلى أهل التَّوَاتر، وهذا المقصود لم يحصل بعد فالأجل هذا لا أرضى بالقَتْل، وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق.
وقوله ثالثاً: كانوا خائفين من العقاب.
قلنا: القوم ادعوا أن الآخرة خالصة لهم، وذلك يؤمنهم من الامتزاج.
وقوله رابعاً: نهي عن تمني الموت.
قلنا: هذا النهي طريقه الشرع، فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات.
فصل في بيان متى يُتمنى الموت
روي أن عليًّا رَضِيَ اللهُ عَنْه كان يطوف بين الصَّفَّيْن في [غِلالَة] ، فقال له ابنه الحسن رَضِيَ اللهُ عَنْه ما هذا بِزِيِّ المحاربين، فقال: بابنيَّ، لا يبالي أبوك أعلى المَوْتِ سقط أم عليه [بسقط] .
وقال عمار رَضِيَ اللهُ عَنْه ب «صفين: [الرجز]
672 - الآن أُلاَقِي الأَحِبَّة ... مُحَمداً وَحِزْبَهُ
وقد ظهر عن الأنبياء في كثر من الحالات تمنّي الموت على أن هذا النهي مختصّ بسبب مخصوص، فإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حَرّم أن يتمنّى الإنسان الموت عند الشَّدائد؛ لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضا بما قسم الله تعالى فإين هذا مما نحن فيه؟
وقوله خامساً:» إنهم ما عرفوا المراد التمنّي باللسان أم بالقلب؟ «.
قلنا: التمني في لغة العرب لا يعرف إلا بما يظهر بالقول، كما أن الخبر لا يعرف إلاَّ بما يظهر بالقول، ومن المحال أن يقول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» تَمَنَّوا المَوْتَ «، ويريد بذلك [ما لا يمكن الوقوف عليه] ، مع أن الغرض بذلك لا يتمّ إلاَّ بظهوره.(2/298)
وقوله سادساً: ما الدليل على أنه ما وجد التمنّي؟ قلنا من وجوه:
أحدها: لو حصل ذلك لنقل نقلاً متواتراً؛ لأنه أمر عظيم، فإنه بتقدير عدمه يثبت القول بصحّة نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبتقدير حصول هذا التمنّي يبطل القول بنبوّته، وما كان كذلك من الوقائع العظيمة، فوجب أن ينقل نقلاً متواتراً، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد.
وثانيها: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع تقدّمه في الرأي والحزم، وحسن النَّظر في العاقبة، والوصول إلى الرياصة العظيمة التي انْقَادَ لها المخالف قَهْراً والموافق طوْعاً، لا يجوز وهو غير واثقِ من جهة رَبّه بالوحي النازل عليه أن يتحدَّاهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجّة؛ لأن العاقل الذي لم [يعرف] الأمور لم يرض بذلك، فكيف الحال في أعقل العقلاء؟ فثبت أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما أَقْدَمَ على هذه الأدلة إلا بوحي من الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه.
وثالثها: ماروى ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَشَرِقُوا بهِ وَلَمَاتُوا» وقد نطق القرآن بذلك في قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} أي: ولو تمنّوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردًّا على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإبطالاً لحجّته. والحديثان المتقدّمان، وبالجملة الأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا الموت بلغت مبلغ التواتر.
قوله: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ» خبر قاطع عن أنّ ذلك لايقع في المستقبل، وهذا إخبار عن الغيب؛ لأن من توفّر الدواعي على تكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر أنهم لا يأتون بذلك، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضدّه، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي.
قوله: «أبداً» منصوب ب «يتمنّوه» ، وهو ظرف زمان يقع للقليل والكثير، ماضياً كان أو مستقبلاً.
قال القرطبي: كالحين والوقت، وهو هاهنا من أول العمر إلى الموت تقول: ما فعلته أبداً.
وقال الراغب هو عبارة عن مدّة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان، وذلك أنه يقال: زمان كذا، ولا يقالك أبدُ كذا، وكان من حقّه على هذا ألاَّ يثنى ولا يجمع، وقد قالوا: آباد، فجمعوه لاختلاف أنواعه.
وقيل: آباد لغة مولّدة، ومجيئه بعد «لن» يدلّ على أن نفيها لا يقتضي التأبيد، وقد تقدم غير ذلك، ودعوى التأكيد فيه بعيدة.(2/299)
فصل في بيان أن بالآية غيبين
واعلم أن هذا أخبار عن غيب آخر، لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد في شيء من الأزمنة، ولاشك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غَيْبان، وقال هنا: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة: 95] فنفى ل «لن» ، وفي الجمعة ب «لا» [قال صاحب «المنتخب» :] وذلك لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك؟ لأن السعادة القُصْوَى فوق مرتبة الولاية؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى، فإنهم ادعوا هنا أنَّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وادعوا في سورة «الجمعة» أنهم أولياء لله من دون النَّاس، والسعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب؛ ومرتبة الولاية وإن كانت شريفة إلا أنها لا تراد ليتوسّل بها إلى الجنة، فلما كانت الأولى أعظم لا جَرَمَ ورد النفي ب «لن» ؛ لأنه أبلغ من النفي ب «لا» .
قوله: «بما قَدَّمَتْ أيديهم» بيان للعلّة التي لها لا يتمنّون؛ لأنه إذا علموا سوء طرقهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى عدم تمنّي الموت، وهذه الجملة متعلّقة ب «يتمنّوه» ، والباء للسببية، أي: بسبب اجْتِرَاجِهِم العظائم، و «أيديهم» في محلّ رفع حذفت الضمة من الباء لثقلها مع الكسرة.
و «ما» يجو فيها ثلاثة أوجه:
أظهرها: كونها موصولةً بمعنى «الذي» .
والثاني: نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي: بما قدّمته، فالجملة لا محلّ لها على الأولى، ومحلّها الجر على الثاني.
والثالث: أنها مصدرية أي: بِتَقْدِمَةِ أيديهم.
ومفعول «قدمت» محذوف أي: بما قدمت أيديهم الشَّر، أو التبديل ونحوه.
قوله: «واللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» ابتداء وخبر، وهذا كالزَّجْر والتهديد؛ لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى لا يخفى عليه شيء صار ذلك من أعظم الصَّوَارف للمكلّف عن المعاصي، وإنما ذكر الظالمين؛ لأن كلّ كافر ظالم، وليس كلّ ظالم كافراً، فذكر الأعم؛ لأنه أولى بالذكر.(2/300)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
فأخبر تعالى أولاً بأنهم لا يتمنّون الموت، ثم أخبر عنهم هنا بأنهم في غاية الحِرْصِ؛ لأن ثم قسماً آخر، وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنّى الموت، ولا يتمنّى الحياة.(2/300)
وهذه «اللام» جواب قسم محذوف، والنون للتوكيد تقديره: والله لتجدنّهم.
و «وجد» هنا متعدية لمفعولين أولهما لضمير، والثاني «أحرص» ، وإذا تعدّت لاثنين كانت: ك «علم» في المعنى، نحو: {وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] .
ويجز أن تكون متعدية لواحد، ومعناها معنى «لقي وأصاب» ، وينتصب «أحرص» على الحال، إما على رأي مَنْ لا يشترط التنكير في الحال، وإما على رأي من يرى أنَّ إضافة «أفعل» إلى معرفة غير مَحْضَةٍ، و «أحرص» أفعل تفضيل، ف «مِنْ» مُرادَةٌ معها، وقد أضيفت لمعرفة، فجاءت على أحد الجائزين، أعني عدم المُطَابقة، وذلك أنها إذا أضيفت معرفة على نيّة من أجاز فيها وجهي المطابقة لما قبلها نحوك «الزَّيدان أفضلا الرجال» ، و «الزيدون أفاضل الرجال» ، و «هند فُضْلى» و «الهنود فُضْليات النِّسَاء» ومن قوله تعالى: {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123] وعدمها، نحو: «الزيدون أفضل الرجال» ، وعليه هذه الآية، وكلا الوجهين فصيح خلافاً لابن السّراج. وإذا أضيفت لمعرفة لزم أن تكون بعضها، ولذلك منع النحويون «يُوسُفُ أحسن إخوته» على معنى التفضيل، وتأولوا ما يوهم غيره نحو: «النَّاقِصُ والأَشَجُّ أَعْدَ لاَبَنِي مَرْوَانَ» بمعنى العَادِلاَنِ فيهم؛ وأما قوله [الرجز]
673 - يَارَبَّ مُوسَى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ ... فَاصْبُبْ عَلَيْهِ مَلكاً لاَ يَرْحَمُهْ
فشاذٌّ، وسوغ ذلك كون «أظلم» الثاني مقتحماً كأنه قال: «أَظْلَمُنَا» .
وأما إذا أضيف إلى نكرة فقد تقدّم حكمها عند قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] .
قوله تعالى: {على حَيَاةٍ} متعلّق بت «أَحْرَصَ» ح لأنّ هذا الفعل يتعدّى ب «على» تقول: حرصت عليه.
والتنكير في حياة تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً، وهي الحياة المتطاولة، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قرأءة أبيّ «على الحياة» بالتعريف.
وقيل:: إن ذلك على حذف مضاف تقديره: على طول الحياة، والظّاهر أنه لا يحتاج إلى تقدير صفة ولا مضاف، بل يكون المعنى: أنهم أحرص النَّاس على مطلق الحياة.
وإن قلت: فيكف وإن كثرت، فيكون أبلغ من وصفهم بذلك، وأصل حياةك «حَيَيَة» تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً.
قوله: «ومِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا» يجوز أن يكون متصلاً داخلاً تحت «أفعل» التفضيل ويجوز أن يكون منقطعاً عنه وعلى القول باتّصاله به فيه ثلاثة أقوال:(2/301)
أحدها: أنه حمل علكى المعنى، فإن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس، فكأنه قيل: أحرص من النّاس، ومن الذين أشركوا.
الثاني: أن يكون حذف من الثَّاني لدلالة الأولى عليه، والتقدير: وأحرص من الذين أشركوا، وعلى ما تقرر من كون «مِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا» متّصلاً ب «أفعل» التفضيل، فلا بد من ذكر «من؛ لأن» أحرص «جرى على اليهود، فلو عطف بغير» من «لكان معطوفاً على النَّاس، فيكون المعنى: ولتجدنَّهم أحرص الذين أشركوا، فيلزم إضافة» أفعل «إلى غير من درج تحته؛ لأن اليهود ليسوا من هؤلاء المشركين الخاصّين؛ لأنهم قالوا في تفسيرهم: إنهم المجوس، أو عرب يعبدون الأصنام، اللهم إلا أن يقال: إنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، فحينئذ لو لم يؤت ب» من «لكان جائزاً.
الثالث: أن في الكلام حذفاً وتقديماً وتأخيراً، والتقدير: ولتجدنّهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس، فيكون من» مِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا «صفة لمحذوف، ذلك المحذوف معطوف على الضمير في» لتجدّنهم «وهذا وإن كان صحيحاً من حيث المعنى، ولكنه يَنْبُو عنه التركيب لا سيّما على قول من يَخُصُّ التقديم والتأخير بالضرورة.
وعلى القول بانقطاعه من» أفعل «يكون» من الذين أشركوا «خبراً مقدماً، و» يودّ أحدهم «صفة لمبتدأ محذوف تقديره: ومن الذين أشركوا قوم أو فريق يودّ أحدهم، وهو من الأماكن المطّرد فيها حذف الموصوف بجملته كقوله: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] ، وقوله:» منَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أقَامَ «.
والظاهر أن الذين أشركوا غير اليهود كما تقدم وأجاز الزَّمخشري أن يكون من اليهود؛ لأنهم قالوا: عزيزٌ ابن الله، فيكون أخباراً بأن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من يودّ لو يعمر ألف سنة، ويكون من وقوع الظَّاهر المشعر بالغَلَبَةِ موقع المضمر، إذ التقديرك ومنه قوم يودّ أحدهم.
وقد ظهر مما تقدم أن الكلام من باب عطف المفردات على القول بدخول» من الَّذِين أَشْرَكُوا «تحت» أفعل «ومن باب عطف الجمل على القول بالانقطاع.
فصل في المراد بالذين أشركوا
قيل: االمراد بالذين أشركوا المجوس، لأنهم كانوا يقولون لملكهم: عش ألف نَيْرُوز وأللإ مِهْرَجَان، قاله أبو العالية والربيع: وسموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة، وهذه تحية المجوس فيما بينهم: عِشْ ألف سنة، ولك ألف نَيْرُوز ومِهْرَجان.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هو قول الأعاجم: زِهً هَزَارْسال.
وقيل: المراد مشركو العرب.
وقيل: كل مشرك لا يؤمن بالمعاد لما تقدم؛ لأن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن(2/302)
يكون أكثر، وليس المراد ذكر ألف سنة قول الأعاجم [عش ألف سنة] بل [خرج مخرج] التكثير، وهو معروف في كلام العرب.
قوله: «يودّ أحدهم» هذا مبني على ما تقدّم، فإن قيل بأن «من الذين أشركوا» داخل تحت «أفعل» كان في «يود» خمسة أوجه:
أحدها: أنه حال من الضمير في «لتجدنّهم» أي: لتجدنهم وَادًّا أحدهم.
الثاني: أنه حال من الذين أشركوا، فيكون العامل فيه «أحرص» المحذوف.
الثالث: أنه حال من فاعل «أشركوا» .
الرابع: أنه مستأنف استؤنف للإخبار بتبيين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة.
الخامس: وهو قول الكوفيين: أنه صلة لموصول محذوف، ذلك الموصول صفة للذين أشركوا، والتقدير: ومن الذين أشركوا الذين يودّ أحدهم.
وإن قيل بالانقطاع، فيكون في محلّ رفع؛ لأنه صفة لمبتدأ محذوف كما تقدّم.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالىك أصل «يَوَدُّ» يَوْدَدُ «، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين ونقلت حركة الدال إلى الواو، ليدل ذلك على أنه يفعل.
وحكى الكسائي: وَدَدْتُ، فيجوز على هذا يَوِدُّ بكسر الواو و» أحد «هنا بمعنى واحد، وهمزته بدل من واو، وليس هو» أحد «المستعمل في النفي، فإن ذاك همزته أصل بنفسها، ولا يستعمل في الإيجاب المحض. و» يود «مضارع وَدِدْت بكسر العين في الماضي، فلذلك لم تحذف الواو في المضارع؛ لأنها لم تقع بين ياء وكسرة، بخلاف» يعد «وبابه.
وحكى الكسائي فيه» وَدَدْتُ «بالفتح.
قال بعضهم: فعلى هذا يقال:» يودّ «بكسر الواو.
و» الوِدَادُ «: التمني.
قوله:» لو يعمّر «في» لو «هذه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو الجاري على قواعد نحاة» البصرة «أنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف لدلالة» يَوَدُّ «عليه، وحذف مفعول» يَوَدُّ «لدلالة» لو يعمّر «عليه والتقدير: يود أحدهم طول العمر، لو يعمر ألف سنة لَسُرَّ بذلك، فحذف من كلّ واحد ما دلّ عليه الآخر، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.(2/303)
والثاني: وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء، أنها مصدرية بمنزلة» أن «الناصبة، فلا يكون لها جوابن [وينسبك] منها وما بعدها مصدر يكون مفعولاً ل» يودّ «، والتقدير: يود أحدهم تعميره ألف سنة.
واستدل أبو البقاء بأن الامتناعية معناها في الماضي، وهذه يلزمها المستقل ك» أنْ «وبأنّ» يَودّ «يتعدى لمفعول، وليس مما يُعَلق، وبأن» أنْ «قد وقعت يعد» يود «في قوله {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ}
[البقرة: 266] وهو كثير، [وجوابه في غير هذا الكتاب] .
الثالث: وإليه نحا الزمخشري: أن يكون معناها التمني، فلا تحتاج إلى جواب؛ لأنها في قوة: «يا ليتني أُعَمَّرُ» ، وتكون الجملة من «لو» وما حيّزها في محلّ نصب مفعول به على طريق الحكاية ب «يود» إجراء له مجرى القول.
قال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فإن قلت: كيف اتّصل «لو يعمر» ب «يود أحدهم» ؟
قلت: هي حكاية لودادتهم و «لو» في معنى التمنّي، وكان القياسك «لو أُعَمَّر» إلا أنه جرى على لفط العينية لقوله: «يود أحدهم» ، كقولك: «حلف بالله تعالى ليفعلن» انتهى وقد تقدّم شرحه، إلاّ قوله وكان القياس لو أعمر، يعني بذلك أنه كان من حقّه أن يأتي بالفعل مسنداً للمتكلم وحده، وإنما أجرى «يود» مجرى القول؛ لأن «يود» فعل قَلْبي، والقول ينشأ عن الأمور القلبية
و «الف سنة» منصوب على الظرف ب «يعمر» ، وهو متعد لمفعول واحد قد أقيم مقام الفاعل، وفي «سنة» قولان:
أحدهما: أن أصلها: سنوة لقولهمك سنوات وسُنَيَّة وسَانَيْت.
والثاني: أنها من «سَنَهَة» لقولهم: سَنَهَاتٌ وسُنَيْهَةٌ وسَانَهْتُ، واللّغتان ثابتتان عن العرب كما ذكرت لك.
قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب} في هذا الضمير خمسة أقوال:
أحدها: أنه عائد على «أحد» وفيه حينئذ وجهان:
أحدهما: أنه اسم «ما» الحجازية، و «بمزحزحه» خبر «ما» ن فهو محل نصب والباء زائدة.
و «أن يعمر» فاعل بقوله: «بمزحزحه» والتقدير: وما أحدهم مزحزحهُ تَعْمِيرُه.
الثاني: من الوجهين في «هو» : أن يكون مبتدأ، و «بمزحزحه» خبره، و «أن يعمر»(2/304)
فاعل به كما تقدمن وهذا على كون «ما» تميمية، الوجه الأول أحسن لنزول القرآن بلغة الحجاز، وظهور النصب في قوله: {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] ، {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] .
الثاني: من الأقوال: أن يعود على المصدر المفهوم من «يُعَمَّر» ، أيك وما تعميره، ويكون قوله: «أن يعمر» بدلاً منه، ويكون ارتفاع «هو» على الوجهين المتقدمين أي قوله: اسم «ما» أو متبدأ.
الثالث: أن يكون كناية عن التعمير، ولا يعود على شيء قبله، ويكون «أن يعمّر» بدلاً منه مفسراً له، والفرق بين هذا وبين القول الثاني أن ذاك تفسيره شيء متقدم مفهوم من الفعل، وهذا مُفَسَّرٌ بالبدل بعده، وقد تقدم أن في ذلك خلافاً، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله: ويجوز أن كيون «هو» مبهماً، و «أن يعمر» موضحه.
الرابعك أنه ضمير الأمر والشأن وإليه نحا الفارسي في «الحلبيَّات» موافقة للكوفيين، فإنّهم يفسرون ضمير الأمر بغير جملة إذا انتظم من ذلك إسناد مَعْنوي، نحو: ظننته قائماً الزيدان، وما هو بقائم زيد؛ لأنه في قوة: ظننته يقوم الزيدان، وما هو يقوم زيد، والبصريون يأبون تفسيره إلاَّ بجماعة مصرح بجزئيها سالمة من حرف جر، وقد تقدم تحقيق القولين.
الخامس: أنه عماد، نعني به الفصل عن البصريين، نقله ابن عطيّة عن الطَّبري عن طائفة، وهذا يحتاج إلى إيْضَاحن وذلك أن بعض الكوفيين يجيزون تقديم العِمَاِ مع الخبر المقدم، يقولون في زيد هو القائم: هو القائم زيد، وكذلك هنا، فإن الأصل عند هؤلاء أن يكون «بمزحزحه» خبراً مقدماً و «أن يعمر» مبتدأ مؤخراً، و «هو» عماد، والتقدير: وما تعميره وهو بمزحزحه، فلما قدم الخبر قدم معه العماد.
والبصريون لا يجيزون شيئاً من ذلك.
و «من العذاب» متعلّق بقوله: «بمزحزحه» و «من» لابتداء الغاية والزحزحة: التَّنحية، تقول: زحزحته فَزَحْزَح، فيكون قاصراً ومتعدياً فمن مجيئه متعدياً قوله: [البسيط]
674 - يَا قَابِضَ الرُّوحِ مِنْ نَفْسِي إِذَا احْتَضَرَتْ ... وَغَافِرَ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ
وأنشده ذو الرُّمَّة: [البسيط]
675 - يَا قَابِضَ الرُّوح مِن جِسْمٍ عَصَى زَمَناً..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
ومن مجيئه قاصراً قول الآخر: [الطويل](2/305)
676 - خَلِيلَيَّ مَا بَالُ الدُّجَى لاَ يُزَحْزَحُ ... وَمَا بَالُ ضَوْءِ الصُّبْحِ لاَ يَتَوَضَّحُ
قوله: «أَنْ يُعَمَّرَ» : إما أن يكون فاعلاً أو بدلاً من «هو» ، أو مبتدأ حسب ما تقدم من الإعراب في «هو» .
{والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} مبتدأ وخبر، و «بما» يتعلّق ببصير.
و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف أي: يعملونه، ويجوز أن تكون مصدرية أي: بعملهم.
والجمهور «يعملون» بالياء، نسقاً على ما تقدم، والحسن وغيره «تعملون» بالتاء، وللخطاب على الالتفات، وأتى بصيغة المضارع، وإن كان علمه محيطاً بأعمالهم السَّالفة مراعاة لرءوس الآي، وختم الفواصل.
قال ابن الخطيب: «والبصير قد يراد به العليم، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها، وكلا الوصفين يصحّان عليه سبحانه إلاَّ أن من قال: إن في الأعمال ما لا يصحّ أن يرى حمل هذا البصر على العلم لا محالة» [قال العلماء رحمهم الله تعالى: وصف الله تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيَّات الأمور، والبصير في كلام العرب العالم بالشيء الخبير به.
ومنه قولهم: فلان خبير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بُمَلاَقاةِ الرجال.
وقيل: وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه جاعل الأشياء المبصرة ذوات أبصار أي: مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة] .(2/306)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
هذا نوع آخر من قَبَائح اليهود، ومنكرات أقوالهم، فلا بد من أمر قد ظهر من اليهود حتى أمره تعالى بمخاطبتهم بذلك؛ لأنه يجري مجرى المُحَاجّة، والمفسرون ذكروا أموراً:
أحدها: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما قدم «المدينة» أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد: كيف نومك، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي» قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عن(2/306)
الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال: «أَمَّا العِظَامُ وَالعَصَبُ وَالعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُل، وأَمَّا اللَّحْمُ واَلدَّمُ وَالظِّفْرُ وَالشَّعْرُ فِمنَ المَرْأَةٍ» فقال: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال: «أَيُّهُمَا غَلَبَ مَاؤُهُ صَاحِبَهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ» ، قال: صدقت فقال: أخبرني أي الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه، وفي التوراة أن النبي الأمي بخبر عنه؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَنْشُدُكُمْ بَاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيْلَ مَرِضَ مَرضاً شَدِيْداً فطَالَ سَقَمُهُ فَنَذَرَ الله نَذْراً لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ سَقَمِهِ لُيُحَرِّمَنَّ عَلَى نَفْسِهِ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ لُحْمَانُ الإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا» فقالوا: اللهم نعم.
فقال له: بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بكل أي ملك يأتيك بما تقول عن الله عَزَّ وَجَلَّ؟ قال: «جِبْريلُ عليه السلام» .
قال: إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدّة، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرَّخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك فقال عمر رضي الله تعالى عنه: وما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا أول هذه العداوة أن الله تعالى أنزل على نبينا أن «بيت المقدس» سيخرب في زمان رجل يقال له: بخت نصرّ ووصفه لنا [وأخبرنا بالجنّ الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رَجُلاً من قوم بني إسرائيل في طلبه ليقتله، فانطلق حتى لقي ب «بابل» غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله] . [فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً] فدفع عنه جبريل وقال: إن سلطكم الله تعالى على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب «بيت المقدس» فلا فائدة من قتله، ثم إنه كبر وقوي وملك، وغزانا وخرّب «بيت المقدس» ، فلذلك نتّخذه عدوّاً [فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي هذا القول نظر؛ لأنهم قالوا في هذه الرواية: إن رسولهم ميكائيل، وهو الذي يأتي بالبِشْر والرخاءن وأنهم يحبونه، ثم إنه تعالى أثبت عداوتهم لميكائيل أيضاً في الآية التي تليها فقال: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] وهذا مناقض لهذه الآية المذكورة هاهنا] .
وثانيها: قال قتادة وعكرمة والسّديكم كان لعمر بن الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْه أرض بأعلى «المدينة» وممرها على مِدْرَاس اليهود، وكان إذا أتى على أرضه يأتيهم، وسمع(2/307)
منهم، فقالوا له ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك، فإنهم يمرّون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا، وإنا لنطمع فيك فقال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهك والله ما آتيكم لحيّكم ولا أسألكم لأني شاكّ في ديني، وإني أدخل علكيم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى لله عليه وسلم وأرى أثاره في كتابكم فقالوا: مَنْ صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة فقال: جبريل فقالوا: ذلك عدونا يُطْلع محمداً على أَسْرَارنا، وهو صاحب كل عذاب وخَسْف شدّة، وإن ميكائيل يأتي بالخِصْبِ السّلامة، فقال لهم عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه: تعرفون جبريل، وتنكرون محمداً عليه الصَّلاة السَّلام فقالوا: نعم قال: فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله عَزَّ وَجَلَّ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره وميكائيل عدوّ لجبريل، قال فإن كان كما تقولون فماهما بعدوين، ولأنتم أكفر [من الحمير، وإني أشهد أنّ من كان عدوّاً لجبريل فهو عدو لميكائيل، ومن كان عدواً لميكائيل فهو عدو لجبريل، ومن كان عدواً لهما فإن الله تعالى عدوّ له، ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوَحْي، فقرأ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآيات وقال: «لقد وافقك ربك يا عمر» ، فقال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه فقد رأيتني بعد ذلك في دين الله تعالى أَصْلَبَ من الحجر] .
وثالثها: قال مقاتل: زعمت اليهود أن جبريل عليه السلام عدّونا، أمر أن يجعل النبوة فينا، فجعلها في غيرنا فأنزل الله تعالى هذه الآيات.
قال ابن الخطيب: والأقرب أن يكون سبب عداوتهم لا أنه كان ينزل القرآن على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 97] مشعر بأن هذا التنزيل [لا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة؛ لأن إنما فعل ذلك بأمر الله، فلا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة، وتقرير هذا من وجوه:
أولها: أن الذينزل جبريل من] القرآن {الذي نزل به فيه] بشارة المطيعين بالثواب، وإنذار العصاة بالعقاب، والأمر بالمُحَاربة والمقاتلة لم يكن ذلك باختياره، بل بأم رالله تعالى الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره، ولا سبيل إلى مُخَالفته فعداوة مَنْ هذا سبيله توجب عداوة الله تعالى وعداوة الله تعالى كفر، فيلزم أن معاداة مَنْ هذا سبيله كفر.
ثانيها: أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب، فإما أن يقال: إنه كان [يتمرد أو يأبى] عن قبول أمر الله، وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين، أو كان يقبله وينزل به على وفق أمر الله، فحئنئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟
وثالثها: أن إنزاال القرآن على محمد عليه السلام كما شق على اليهود، فإنزال(2/308)
التوراة على موسى عليه السلام شق على قوم آخرين، فإن اقتضت نَفْرة هؤلاء لإنزال القرآن قُبْحه فلتقتض نَفْرة أولئك المتقدمين قبح إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه، ومعلوم أن كل ذلك باطل، فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه.
فإن قيل: إنا نرى اليهود في زماننا مُطبقين على إنكار ذلك مصرّين على أن احداً مِنْ سَلَفهم لم يقل بذلك.
فالجواب: أن هذا باطل، لأن كلام الله أصدق، ولأن جهلهم كان شديداً، وهم الذين قالوا: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] .
قوله تعالى: «مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ} » مَنْ «شرطية في محلّ رفع بالابتداء، و» كان «خبره على ما هو الصحيح كما تقدم، وجوابه محذوف تقديره: من كان عدوّاً لجبريل فلا وجه لعداوته، أو فليمت غيظاً ونحوه.
ولا جائز أن يكون» فَإِنَّهُ نَزَّلهُ «جواباً للشرط لوجهين:
أحدهما: من جهة المعنى.
والثاني: من جهة الصناعة.
أما الأول: فلأن فعل التنزيل متحقّق المضي؛ والجزاء لا يكون إلا مستقبلاً.
ولقاتل أن يقول: هذا محمول على التَّبين، والمعنى: فقد تبين أنه نزله، كما قالوا في قوله: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] ونحوه.
وأما الثاني: فلأنه لا بد من جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط فلا يجوز: مَنْ يقم فزيد منطلق، ولا ضمير شفي قوله:» فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ «يعود على» مَنْ «فلا يكون جواباً للشرط، وقد جاءت ماضع كثيرة من ذلك، ولكنهم أَوَّلُوهَا على حذف العائدن فمن ذلك قوله: [الوافر]
677 - فَمَنْ تكُنِ الْحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ ... فَأَيَّ رِجَالِ بَادِيَةٍ تَرَانَا
وقوله: [الطويل]
678 - فَمَن يِكُ أَمْسَى بِالْمَدينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بَهَا لَغَرِيبُ
وينبغي أن بينى ذلك على الخلاف ف يخبر اسم الشَّرْط.
فإن قيل: إنَّ الخبر هو الجزاء وحده أو هو الشَّرْط فلا بدّ من الضمير، وإن قيل بإنه فعل الشَّرْط، فلا حاجة إلى الضمير، وقد تقدم قول أبي البقاء وغيره في ذلك عند(2/309)
قوله تعالى:» فَمَنْ تَبعَ هُدَايَ «، وقد صّرح الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ بأنه جواب الشَّرْط، وفيه النَّظر المذكور، وجوابه ما تقدم.
و «عَدُوّاً» خبر «كان» ، ويستوي فيه الواجد غيره، قال: «هُمُ العَدُوُّ» والعَدَاوَةُ: التجاو قال الرَّاغب: فبالبقلب يقال: العداوة وبالمشي يقال: العدو، وبالإخلال في العدل يقال: العدوان وبالمكان أو النسب يقال: قوم عِدَي أي غرباء.
و «لِجْبِريلَ» يجوز أن يكون صفة ل «عَدُوّاً» فيتعلّق بمحذوف، أو تكون اللام مقوية لتعدية «عَدُوّاً» إليه.
و «جبريل» اسم ملك وهو أعجمي، فلذلك لم ينصرف، وقول من قال: إنّه مشتقّ من جبروت الله: بعيد؛ لأن الاشتقاق لا يكون في الاسماء الأعجمية، وكذا قول من قال: إنه مركّب تركيب الإضافة، وأن «جبر» معناه: عبد، و «إيل» اسم من أسماء الله تعالى فهو بمنزلة عبد الله؛ لأنه كان ينبغي أن يجرى الأول بوجوه الإعراب وأن ينصرب الثاني [وهذا القول مَرْوِيّ عن ابن عَبَّاس، وجماعة من أهل العلم، فقال أبو علي السّنوي: وهذا لايصحّ لوجهين:
أحدهما: أنه لايعرف من أسماء الله «إيل» .
والثاني: أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجروراً] . وقال المهدوي: إنه مركّب تركيب مرج نحو: حضرموت وهذا بعيد أيضاً؛ لأنه كان ينبغي أن يبنى الأول على الفتح ليس إلاّ.
وَرَدَّ عليه أبو حَيَّان بأنه لو كان مركباً تركيب مزج لجاز فيه أن يعرب إعراب المُتَضَايفين، أو يبنى على الفَتْح كأحد عشر، فإن كلّ ما ركب تركيب المزج [يجوز فيه هذه الأوجه، وكونه لم يسمع فيه البناء، ولا جريانه مجرى المتضايفين دليل على عدم تركيبه تركيب المزج] وهذا الرد لا يحسن ردَّا؛ لأنه جاء على أحد الجائزين، واتفق أنه لم يستعمل إلا كذلك.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والصَّحيح في هذه الألفاظ أنها عربية نزل بها جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام بلسان عربي مبين.
قال النحاس: ويجمع جبريل على التكسير جباريل، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في الاسماء الأعجمية، فجاءت فيه بثلاث عشر لغة.
أشهرها وأفصحها: «جبريل» بزنة قِنْديل، وهي قراءة أبي عمرو، ونافع وابنِ(2/310)
عامرِ ومحفْصِ عن عاصم، وهي لغة «الحجاز» ؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَلِ: [الطويل]
679 - وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعْهُمَا ... مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
وقال حَسَّان: [الوافر]
680 - وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَه كِفَاءُ
وقال عمران بن حِطَّان: [البسيط]
681 - وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ مِنْهُمْ لاَ كِفَاءَ لَهُ ... وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللهِ ماأْمُونَا
الثانية «كذلك إلا أنه فتح الجيم، وهي قراءة ابن كثير والحسن، وقال الفَرَّاء:» لا أحبها؛ لأنه ليس في كلامهم فَعْلِيلُ «وما قاله ليس بشيء؛ لأن ما أدخلته العرب في لسانها على قسمين قسم ألحقوه بأبنيتهم ك» لِجَامٍ «، وقسم يلحقوه ك» إِبْرَيْسَمٍ «، على أنه قيل: إنه نظير شَمويل اسْمَ طائر.
وعن ابن كثير أنه رأى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يقرأ «جَبْرِيلَ ومِيكَائيلَ» ، قال: فلا أزال أقرؤها كذلك.
الثالثة: جَبْرَئِيل كَعْنتَريس، وهي لغة قيس وتميم، وبها قرأ حمزة والكسائيُّ؛ وقال حسَّان: [الطويل]
682 - شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ ... يَدَ الدَّهْرِ إِلاَّ جَبْرَئِيلُ أمَامَهَا(2/311)
وقال جريرٌ: [الكامل]
683 - عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ ... وَبِجَبْرئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالاَ
الرابعة: كذلك إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة، وتروى عن عاصم ويحيى بن يعمر
الخامسة: كذلك إلاّ أن اللام مشددة، وتروى أيضاَ عن صام ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا: و «إِلٌّ» بالتشديد اسم الله تعالى.
وفي بعض التفاسير: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10] قيل: معناه: الله وروي عن أبي بكر لما سمع بِسَجْع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إِلَّ.
السادسة: جَبْرَائِل بألف بعد الرَّاء، وهمزة مكسورة بعد الألف، وبها قرأ عكرمة.
السابعة: مثلها إلا أنها بياء الهمزة.
الثامنة: جِبْرَائيل بياءين بعد الألف من غير همزة، وبها قرأ الأعمش ويحيى أيضاً.
التاسعة: جِبْرَال.
العاشرة: جِبْرَايل بالياء والقصر، وهي قراءة طلحة بن مُصَرِّف.
الحادية عشرة: جَبْرِينَ بفتح الجيم والنون.
والثانية عشرة: كذلك إلا أنه بكسر الجيم.
والثالثة عشرة: جَبْرايين.
والجملة من قوله: «مَنْ كَانَ» في محلّ نصب بالقول، والضمير في قوله «فإنّه» يعود على جبريل وفي قوله: «نزله» بعود على القرآن، وهذا موافق لقوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] في قراءة من رفع «الروح» ولقوله: «مصدقاً» .
وقيل: الأول يعود على الله، والثاني يعود على جبريل، وهو موافق لقراءة من قرأ «نَزَّ بهِ الرُّوح» بالتشديد والنصب، وأتى ب «التي تقتضي الاستعلاء دون» إلى «التي تقتضي الانتهاء، وخصّ القلب بالذكر؛ لأنه خزانة الحِفْظ، بيت الربّ عَزَّ وَجَلَّ [وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه، لا على قلبه، إلاَّ أنه خصّ القلب بالذكر؛ لأن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظاً حتى أدَّاه إلى أمّته، فلمّا كان سبب تمكّنه من الأداء(2/312)
ثبات حفظه قي قلبه جاز أن يقال: نزله على قلبك، وإن كان في الحقيقة نزل عليه لا على قلبه، ولأنه أشرف الأعضاء.
قال عليه الصَّلاة السَّلام:» أَلاَ إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ «] وأضافه ضمير المخاطب دون ياء المتكلم، وإن كان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون» على قلبي «لأحد الأمرين:
‘إما مراعاة لحال الأمر بالقول فَتَسْرُد لفظة بالخطاب كما هو نحو قولك: قل لقومك: لا يهينوك، ولو قلت: لا تهينوني لجاز، ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
684 - أَلَمْ تَرَ أَنِّي يَوْمَ جوِّ سُوَيْقَةٍ ... دَعَوْتُ فَنَادَتْنِي هُنَيْدَةُ: مَاليَا
فأحرز المعنى ونَكَّبَ عن نداء هندية «ما لك» ؟ ، وإما لأن ثَمَّ قولاً آخر مضمراً بعد «قل» والتقدير، قل يا محمد: قال الله «من كان عدوًّا لجبريل فإنه نزله على قلبك» ، [وإليه نحا الزمخشري بقوله: جاءت على حكاية كلام الله، قل: ما تكلمت به من قولي: من كان عدوًّا لجبريل، فإنه نزله على قلبك] فعلى هذا الجملة الشرطية معمولة لذلك القول المضمر، والقول المضمر معمول للفظ «قل» ، والظاهر ما تقدم من كون الجملة معمولة للفظ «قل» بالتأويل المذكور أولاً، ولا ينافيه قول الزمخشري، فإنه قصد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب. والضمير في «أنه» يحتمل معنيين:
الأول: فإن الله نزل جبريل على قلبك.
الثاني: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، ودلت الآية على شرف جبريل عليه السلام وذمّ معادية قاله القُرْطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
قوله تعالى: «بإِذْن اللهِ» في محلّ نصب على الحال من فاعل: «نزله» إن قيل: إنهُ ضمير جبريل، أو من مفعوله إن قيل: إن الضمير المرفوع في «نزل» يعود على الله، والتقدير: فإنه نزل مأذوناً له أو معه إذن الله، والإذن في الأصل العلم بالشَّيء، والإيذان، كالإعلام، آذن به: علم به، وآذنته بكذا: أعلمته به، ثم يطلق على التمكين، أذن في(2/313)
كذا: أمكنني منه، وعلى الاختبار، فعلته بإذنك: أي باختيارك، وقول من قال بإذنه أي بتيسّره راجع إلى ذلك.
قال ابن الخطيب: تفسير الإذن هُنا بالأمر أي بأمر الله، وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه:
أولها: أنَّ الإذن حقيقة في الأمر، ومجاز في العلم، واللَّفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن.
وثانيها: أن إنزاله كان من الواجبات، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم.
وثالثها: أن ذلك الإنزال إذا كان من أمر لازم كان أوكد في الحجة.
قوله تعالى: «مُصَدِّقًا» حال من الهاء في «نزّله» إن كان يعود الضمير على القرآن، وإن عاد على جبريل ففيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون من المجرور المحذوف لفهم المعنى، والتقدير: فإن الله نزّل جبريل بالقرآن مصدقاً.
الثاني: أن يكون من جبريل بمعنى مصدقاً لما بين يديه من الرسل، وهي حال مؤكدة، والهاء في «بين يديه» يجوز أن تعود على «القرآن» أو على «جبريل» .
وأكثر المفسرين على أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام لا يخصّ كتاباً دون كتاب، ومنهم من خصَّه بالتوراة، وزعم أنه إشارة إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فإن قيل: أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكُتب فلم صار مصدقاً لها؟
فالجواب: أنها كلها متوافقة في الدلالة على التوحيد واصول الدين.
قوله تعالى: «هُدًى وَبُشْرى» حالان معطوفان على الحال قبلهما، فهما مصدران موضوعان موضع اسم الفاعل، أو على المبالغة أو على حَذْف مضاف أيك ذا هدى و «بشرى» ألفها للتأنيث، وجاء هذا التَّرتيب اللفظي في هذه الأحوال مطابقاً للترتيب الوجودي، وذلك أنه نزل مصدّقاً للكتب؛ لأنها من ينبوع واحد، وحصلت به الهداية بعد نزوله، وهو بشرى لمن حصلت له به الهداية، وخصّ المؤمنين، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم، كقوله: بشرى للمتقين، أو لأن البشرى لا تكن إلاَّ للمؤمنين؛ لأن البُشْرَى هي الخبر الدَّال على الخير العظيم، وهذا لا يحصل إلا للمؤمنين.
قوله تعالى: «مَنْ كَانَ عَدُوًّا» : الكلام في «مَنْ» كما تقدم، إلاَّ أن الجواب هنا يجوز أن يكون {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} .
فإن قيل: وأين الرَّابط؟ فالجواب من وجهين:(2/314)
أحدهما: أن الاسم الظاهر قام مقام المضمر، وكان الأصل: فإن الله عَدُوّ لهم، فأتى بالظَّاهر تنبيهاً على العلة.
والثاني: أن يراد بالكافرين العموم، والعموم من الرَّوَابط، لاندراج الأول تحته، ويجوز أن يكون محذوفاً تقديره: من كان عدوّاً لله فقد كفر ونحوه.
وقال بعضهم: اواو في قوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بمعنى «أو» ، قال: لأن نم عادى واحداً من هؤلاء المذكورين، فالحكم فيه كذلك.
وقال بعضهم: هي للتفضيل، ولا حاجة إلى ذلك، فإن هذا الحكم معلوم، وذكر جبريل ميكال بعد اندراجهما أولاً تنبيهٌ على فضلهما على غيرهما من الملائكة، وهكذا كُلْ ما ذكر خاص بعد عام، ويحتمل أن يكون أعاد ذكرهما بعد اندراجهما؛ لأن الذي جرى بين الرَّسول وبين اليهود هو ذكرهما، والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جَرَمَ نصّ على اسميهما، واعلم أنَّ هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة، وبعضهم يسمى هذا النوع بالتجريد، كأنه يعني به أنه جرد من العموم الأول بعض أفراده اختصاصاً له بمزية، وهذا الحكم أعني ذكر الخاصّ بعد العام مختصّ بالواو ولايجوز في غيرها من حروف العطف.
وجعل بعضهم مثل هذه الآية أعني: في ذكر الخاصّ بعد العام تشريفاً له قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وهذا فيه نظر، فإن «فاكهة» من باب المطلق؛ لأنها نكرة في سياق الإثبات، وليست من العموم في شيء، فإن عنى أن اسم الفاكهة يطلق عليهما من باب صِدْق اللَّفظ على ما يحتمله، ثم نص عليه فصحيح، وأتى باسم الله ظاهراً في قوله: «فإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ» ؛ لأنه لو أُضمر فقيل: «فإنه» لأوهم عوده على اسم الشرط، فينعكس المعنى، أو عوده على ميكال؛ لأنه أقرب مذكور.
وميكائيل اسم أعجمي، والكلام فيه كالكلام في «جبريل» من كونه مشتقّاً من ملكوت الله عَزَّ وَجَلَّ، أو أن «ميك» بمعنى عبدن و «إيل» اسم الله، وأن تركيبه تركيب إضافة أو تركيب مزج، وقد عرف الصحيح من ذلك.
وفيه سبع لغات: «مِيكَال» بزنة «مِفْعَال» وهي لغة «الحجاز» ، وبها قرأ أبو عمر وحفص عن عصام، وأهل «البصرة» ؛ قالوا: [البسيط](2/315)
685 - وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لَنَا عُدَدٌ ... فِيهِ مَعَ النَّصْرِ مِيكَالٌ وَجِبْرِيلُ
وقال جرير: [الكامل]
686 - عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَبُوا بمُحَمَّد ... وَبِجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيْكَالاَ
الثانية: كذلك، إلاَّ أن بعد الألف همزة، وبها قرأ نافع وأهل «المَدينة» بمهزة واختلاص ميكائيل.
الثالثة: كذلك، إلا أنه بزيادة ياء بعد الهمزة بوزن «ميكائيل» ، وهي قراءة الباقين.
الرابعة: ميكئيل مثل ميكعيل، وبها قرأ ابن محيصن.
الخامسة: كذلك، إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة، فهو مثل: مِيكَعِل، وقرىء بها.
السادسة: ميكاييل بياءين بعد الألف، وبها قرأ الأعمش.
السابعة: ميكاءَل بهمزة مفتوحة بعد الألف كما يقال: «إسراءَل» ، وحكى المَاوَرْدِيّ عن بان عباس رضي الله تعالى عنهما أن «جَبْر» بمعنى عَبْد بالتكبير، و «ميكا» بمعنى عُبَيْد بالتصغير، فمعنى جبريل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله قال: ولا يعلم لابن عباس في هذا مخالف.
وقال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وزاد بعض المفسّرين: وإسرافيل عبد الرحمن.
قال النحاس: ومن قال: «جبر» عبد، و «إل» الله وجب عليه أن يقول: هذا جَبْرُئِل، ورأيت جَبْرَئِل، ومررت بِجَبْرِئِل، وهذا لا يقال، فوجب أن يكون مسمى بهذا.
وقال غيره: ولو كان كما قالوا لكان مصروفاً، فترك الصرف يدلّ على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف.
قال ابن الخطيب: يجب أن يكون جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام أفضل من ميكائيل لوجوه:
أحدها: أنه قدمه في الذّكر، وتقديرم المَفْضُول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً.
وثانيها: أن جبريل ينزل بالقرآن والوحي والعلم، وهو مادة بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار، وهي مادة بقاء الأبدان، ولما كان العلم أشرفل من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل.(2/316)
وثالثها: قوله تعالى في صفة جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق، وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل عليه الصَّلاة والسَّلام فوجب أن يكون أفضل منه.
فإن قيل: حقّ العَدَاوة الإضرار بالعدون وذلك مُحَال على الله تعالى، فكيف يجوز أن يكونوا أعداء الله؟
فالجواب: أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلاّ فينا؛ لأن العدو للغير هو لذي يريد إنزال المَضَارِّ به، وذلك مُحَال على الله تَعَالى بل المراد أحد وجهين: إما أن يعادوا أولياء الله، فيكون ذلك عداوة الله، كقوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] ، وكقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] ؛ لأن المراد بأولياء الله دونه لاستحالة المحابة والأذيَة عليه، وإما أن يراد بذلك كراهيتهم القيام بطاعته وعبادته، وبعدهم عن الطريقةن فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة.(2/317)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما:: إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل مبعثه، فلما بعث من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر اليهود اتَّقوا الله وأسلموا فقد كتنم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل الشرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفون لنا صفته.
فقال ابن صوريا: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه من الأيات، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، والمرادة بالآيات البينات: آيات القرآن مع سائر الدَّلائل من المُبَاهلة، ومن تمني الموت وسائر المعجزات نحو: إشباع الخَلْق الكثير من الطعام القليل [ونبع] الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر.
وقال بعضهم: الأولى تخصيص ذلك بالقرآن، لأن الآيات إذا قرنت بالتنزيل كانت أخصّ بالقرآن.
فإن قيل: الإنزال عبارة عن تحريك الشَّيْ من أعلى إلى أسفل، وذلك محقّق في الأجسام، ومحال في الكلام.
فجوابه: أن جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالاً.(2/317)
قوله تعالى: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون} هذا استثناء مفرّغ، وقد تقدم أن الفراء يجيز فيه النصب.
والكفر بها من وجهين:
الأول: جحودها مع العلم بصحتها.
والثاني: جحودها مع الجهل، وترك النظر فيها، والإعراض عن دلائلها، وليس في الظَّاهر تخصيص، فيدخل الكل فيه.
قال ابن الخطيب: والفِسْقُ في اللّغة: خروج الإنسان عما حدّ له قال الله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] .
وتقول العرب للنواة إذا خرجت من الرّطبة عند سقوطها: فسقت النواة، وقد يقرب من معناه الفُجُور؛ لأنه مأخوذ من فجور السّد الذي يمنع الماء من أن يسير من الموضع الذي يفسد، فشبه تعدّي الإنسان ما حدّ له إلى الفساد بالذي فجر السَّد حتى صار إلى حيث يفسد.
فإن قيل: أليس صاحب الصغيرة تجاوز أم رالله، ولا يوصف بالفسق والفجور؟
قلنا: إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا؛ لأن من فتح من النهر نقباً يسيراً لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر، وكذلك الفِسْق إنما يقال إذا عظم التعدّي، إذا ثبت هذا فنقول: في قوله: «إِلاَّ الْفَاسِقُونَ» وجهان:
أحدهما: أن كل كافر فاسق، ولا ينعكس، فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره، فكان أولى.
الثاني: أن يكون المراد ما يكفر بها إلاَّ الكافر المتجاوز على كلّ حدّ في كفره، والمعنى: أن هذه الآيات لما كانت بيّنة ظاهرة لم يكفر بها إلاَّ الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى، والأحسن في الجواب أن يقال: إنه تعالى لما قال: «وَمَا يَكْفُرُ بِهَا» أفهم أن مراده بالفاسق هو الكافر لا عموم الفاسق فزال الإشكال.(2/318)
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
الجمهور على تحريك واو «أَوَكلما» ، واختلف النحويون في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال الأخفش: إن الهمزة للاستفهام، والوو زائدة وهذا على رأيه في جواز زيادتها.
وقال الكسائي هي «أو» العاطفة التي بمعنى «بل» و‘نما حركت الواو.
ويؤيده قراءة من قرأها ساكنة.
وقال البصريون: هي واو العطف قدمت عليها همزة الاستفهام على ما عرف.(2/318)
قال القرطبي: كما دخلت همزة الاستفهام على «الفاء» في قوله: {أَفَحُكْمَ الجاهلية} [المائدة: 50] ، {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} [يونس: 42] ، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف: 50] .
وعلى «ثم» كقوله: «أَثُمَّ إِذَا مَا» .
وقد تقدم أن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف شيئاً يعطف عليه ما بعده، لذلك قدره هُنَا: أكفروا بالآيات البينات، وكلما عاهدوا.
وقرأ أبو السّمَال العدوي: «أوْ كلما» ساكنة الواو، وفيها ثلاثة أقوال: فقال الزمخشري: إنها عاطفة على «الفاسقين» ، وقدره بمعنى إلا الذين فسقوا أو نقضوا، يعني به: أنه عطف الفعل على الاسم؛ لأنه في تأويله كقوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] أي: اصَّدَّقُوا وأقرضوا.
وفي هذا كلام يأتي في سورته إن شاء الله تعالى.
وقال المهدوي: «أو» لانقطاع الكلام بمنزلة «أم» المنقطعةن يعني أنها بمعنى «بل» ، وهذا رأى الكوفيين، وقد تقدم تحريره وما استدلّوا به من قوله: [الطويل]
687 - ... ... ... ... ... . ..... ... أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
في أول السورة.
وقال بعضهم: هي بمعنى «الواو» فتتفق القراءاتان، وقد وردت «أو» بمنزلة «الواو»
كقوله: [الكامل]
688 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
{خطيائة أَوْ إِثْماً} [النساء: 112] {آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] فلتكن [هنا] كذلكن وهذا أيضاَ رأي الكوفيين.
والناصب ل «كلّما» بعده، وقد تقدم تحقيق القول فيها، وانتصاب «عَهْداً» على أحد وجهين: إما على المصدر الجاري على غير المصدر وكان الأصل: «مُعَاهَدَة» أو على المفعول به على أن يضمن عاهدوا معنى «أَعْطوْا» ويكون المفعول الأول محذوفاً، والتقدير: عاهدوا الله عَهْداً.(2/319)
وقرىء: «عَهِدُوا» فيكون «عَهْداً» مصدراً جارياً على صدره.
وقرىء أيضاً: «عُوهِدُوا» مبيناً للمفعول.
قال ابن الخطيب: المقصود من هذه الاستفهام، الإنكار، وإعظام ما يقدمون عليه، ودلّ قوله: «أو كلما عاهدوا» على عهد بعد عهد نقضوه، ونبذوه، ويدل على أن ذلك كالعادة فيهم، فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيّتهم وعادتهم، وعادة سَلَفهم على ما بيّنه فيما تقدم من نَقْضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال؛ لأن من يعتاد منه هذه الطريقة، فلا يصعب على النفس مُخَالفته كصعوفة مَنْ لم تَجْرِ عادته بذلك.
وفي العهد وجوه:
أحدها: أن الله تعالى لما أظهر الدَّلائل الدَّالة على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى صحّة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وتعالى وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى.
وثانيها: قولهم قبل مبعثه: لئن خرج النبي لنؤمنن به، ولنخرجن المشركين من ديارهم [قال ابن عباس: لما ذكرهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أخذ الله تعالى عليهم، وعهد إليهم في مُحَمّد أن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا من محمد عهد فنزلت هذه.
قال القرطبي: ويقال فيه: «ابن الصّيف» ويقال: «ابن الضَّيْف» ] .
وثالثها: أنهم كانوا يعاهدون الله كثيراً وينقضونه.
ورابعها: قال عطاء: إن اليهود كَانُوا قد عاهدوا على ألاَّ يعينوا عليه أحداً من الكافرين، فنقضوا ذلك، وأعانوا عليه قريشاً يوم «الخندق» [ودليله قوله تعالى: {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} [الأنفال: 56] «] إنما قال:» نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ «لأن في جملة من عاهد من آمن، أو يجوز أن يؤمن، فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر، ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلّون بين أنهم الأكثر فقال:» بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ «وفيه قولان:(2/320)
الأول: أن أكثر أولئك الفسّاق لا يصدقون بك أبداً لحسدهم وبغيهم.
[والثاني: لا يؤمنون] أي: لا يصدقون بكتابهم، لأنهم في قومهم كالمُنَافقين مع الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسوله، ثم لا يعلمون بموجبه ومقتضاه.
قوله تعالى:» بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ «فيه قولان:
أحدهما: أنه من باب عَطْف الجمل، وتكون» بل «لإضراب الانتقال لا الإبطال، وقد [علم] أن» بل «لا تسمَّى عاطفة حقيقية إلا في المفردات.
الثاني: أنه يكون من عطف المفردات، ويكون» أكثرهم «معطوفاً على» فريق «، و» لاَ يُؤْمِنُونَ «جملة في محلّ نصب على الحال من» أكثرهم «.
وقال ابن عطيَّة: من الضمير في» أكثرهم «، وهذا الذي قاله جائز، لا يقال: إنها حال من المضاف إليه؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه، وذلك جائز.
وفائدة هذا الإضراب ما تقدم ذكره آنفاً.
والنَّبْذُ: الطرح ومنه النَّبِيذ والمَنْبُوذ، وهو حقيقة في الأجْرَام وإسناده إلى العَهْد مَجَاز.
وقال بعضهم: النَّبذ والطَّرْح الإلقاء متقاربة، إلاّ أن النبذ أكثر ما يقال فيما يبس والطَّرح أكثر ما يُقال في المبسوط والجاري مجراه، والإلقاء فيما يعتبر فيه مُلاَقاة بين شيئين؛ ومن مجيء النبذ بمعنى الطَّرْح قوله: [الكامل]
689 - إِنَّ الَّذِينَ أَمَرتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... نَبَذُوا كِتَابَكَ وَاسْتَحَلُّوا الْمَحْرَما
وقال أبو الأسود: [الطويل]
690 - وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْتُ أَرْسَلْتُ أَنَّما ... أَخَذْتَ كِتَابِي مُعْرضاً بشِمَالِكا
نَظَرْتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنبَذْتَهُ ... كَنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا(2/321)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
قال القرطبي: «مصدّق لما معهم» نعت للرَّسول، ويجوز نصبه على الحال.
والعم أن معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوّة موسى(2/321)
عليه الصَّلاة والسَّلام وبصحة التوراة، أو مصدقاً لما معهم من حيث إنّ التوراة بشرت بمقدم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإذا جاء محمد كان مجرد مجيئه مصدقاً للتوراة.
وقوله: {مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} فيه وجهان:
أحدهما: أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه بدليل قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
والثاني: المراد من يدعي التمسّك بالكتاب، سواء علمه أم لم يعلمه، وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل [القرآن] لا يختص بذلك من يعرف علومه، بل المراد من يؤمن به.
قوله تعالى: «الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ» : «الكتاب» مفعول ثان ل «أوتوا» ؛ لأنه يتعدى في الأصل إلى اثنين، فأقيم الأول مقام الفاعل، وهو «الواو» ، وبقي الثاني منصوباً، [وقد تقدم أنه عند السهيلي مفعول أول] و «كتاب الله» مفعول نبذ، و «وراء» منصوب على الظرف وناصبه «نَبَذ» ، وهذا مثل لإهمالهم التوراة؛ تقول العرب: «جعل هذا الأمر وَرَاءَ ظَهْرهن ودَبْرَ أُذُنِه» أي: أهمله؛ قال الرزدَقُ: [الطويل]
691 - تَمِيمُ بَْ مُرِّ لاَ تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ فَلا يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابُهَا
والمراد بكتاب الله: القرآن.
وقيل: إنه التوراة لوجهين:
الأول: أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولاً، وأما إذا لم يلتفتوا إليه فلا يقال: إنهم نبذوه.
والثاني: أنه قال تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} ولو كان المراد به: القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى؛ لأنَّ جميعهم لا يصدقون بالقرآن.
فإن قيل: كيف يصحّ نَبْذهم التوراة، وهم متمّسكون بها؟
قلنا: إنها لما كانت تدلّ على نبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بنعته، ووجوب الإيمان به، ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتَّوْرَاة.
قال السّدي رَحِمَهُ اللهُ تعالى نبذوا التوراة، وأخذوا بكمتاب «آصف» ، وسحر «هاروت وماروت» .
قوله: «كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» جلمة في محلّ نصب على الحال، وصاحبها: فريق،(2/322)
وإن نكرة لتخصيصه بالوصف، والعامل فيها «نبذ» ، والتقدير: مُشْبِهِيْنَ للجُهَّال، ومتعلق العلم محذوف تقديره: أنه كتاب الله لا يُدَاخلهم فيه شكّ، والمعنى: أنهم كفروا عناداً؛ لأنهم نبذوه عن علم ومعرفة؛ لأنه لا يقال ذلك إلاَّ فيمن يعلم.
قال ابن الخطيب: ودلّت الآية من هذه الجِهَةِ على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم، فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلّة بحيث تجوز المُكَابرة عليهم.
قوله(2/323)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} : هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله: «ولما جاءهم» إلى آخرها.
وقال أبو البقاء: إنها معطوفة على «أشربوا» أوع لى «نبذ فريق» ، وهذا ليس بظاهر؛ لأن عطفها على «نبذ» يقتضي كونها جواباً لقوله تعالى: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ} .
واتِّباعُهُم لما تتلو الشياطين ليس مترتباً على مجيء الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بل كان اتباعهم لذلك قبله، فالأولى أن تكون معطوفة على جملة «لما» كما تقدم، و «ما» موصولة، وعائدها محذوف، والتقدير: تتلوه.
وقيل: «ما» نافية، وهو غلط فاحش لا يقتضيه نظم الكلام، [ذكره] ابن العربي.
و «يتلو» في معنى «تلت» فهو مضارع وقاع موقع الماضي؛ كقوله: [الكامل]
692 - وَإِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فَاعْقِرْ بِهِ ... كُومَ الهِجَانِ وَكُلَّ طَرْفٍ سَابِحِ
واتْضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِ بِدِمَائِهَا ... فَلَقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وَذَبَائِحِ
أي: فلقد كان.
وقال الكوفيون: الأصل: وما كانت تتلو الشياطين، ولا يريدون بذلك أن صلة «ما» محذوفة، وهي «كانت» و «تتلو» في موضع الخبر، وإنما قصدوا تفسير المعنى، وهو(2/323)
نظير: «كان زيد يقوم» المعنى على الإخبار، وبقيامه في الزمن الماضي، وقرأ الحسن والضحاك «الشياطون» إجراء له مجرى جمع السَّلامة، قالوا: وهو غلط. وقال بعضهم: لحن فاحش.
وحكى الأصمعي «بُسْتَانُ فُلاَنٍ حَوْلَهُ بساتون» وهو يقوي قراءة الحسن.
قوله تعالى: {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فيه قولان:
أحدهما: أنه على معنى «في» ، أي: في زمن ملكه، والمُلْكُ هنا شَرْعه.
والثاني: أن يضمن تتلوا معنى تَتقوَّل أي: تقول على ملك سليمانن وتَقَوَّل يتعدى بعلى، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل} [الحاقة: 44] .
وهذا الثاني أولى، فإن التجوّز في الأفعال أولى من التجوّز في الحروف، وهو مذهب البصْريين كما تقدم وإنما أحْوَجَ إلى هذين التأويلين؛ لأن تلا إذا تعدَّى ب «على» كان المجرور ب «على» شيئاً يصحّ أن يتلى عليه نحو: تلوت على زيد القرآن، والملك ليس كذلك.
قال أبو مسلم: «تتلو» أي: تكذب على ملك سليمان يقال: تلا عليه: إذا كذب وتلا عنه إذا صدق. وإذا أبهم جاز الأمران.
قال ابن الخطيب: أي يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف، والتلاوة: الاتباع أو القراءة وهو قريب منه.
قال أبو العباس المقرىء: و «على» ترد على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى «في» كهذه الآية.
وبمعنى «اللام» ، قال تعالى
{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] أي: للذي.
وبمعنى «» من «، قال تعالى: {الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} [المطفيين: 2] أي: من الناس يستوفون.
و» سليمان «علم أعجمي، فلذلك لم ينصرف.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى:» وفيه ثلاثة أسباب: العُجْمة والتَّعريف والألف والنون «، وهذا إنما يثبت بعد دخول الاشتقاق فيه، والتصريف حتى تعرف زيادتها، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخُلان في الأسماء الأعجميّة، وكرر قوله:» وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ «بذكره ظاهراً؛ تفخيماً له، وتعظيماً؛ كقوله: [الخفيف](2/324)
693 - لا أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ..... ... ... ... ... ... ...
وقد تقدم تحقيق ذلك.
فصل في المراد بقوله تعالى: واتبعوا» المراد بقوله: «وَاتَّبَعُوا» هم اليهود.
فقيل: هم الذين كانوا في زمن محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: هم الذين كانوا في زمن سليمان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من السَّحَرة؛ لأن أكثر اليهود ينكرون نبوّة سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ويعدونه من جُمْلة الملوك في الدنيا، وهؤلاء ربما اعتقدوا فيه أنه إنما وجد الملك العظيم بسبب السحر.
وقيل: إنه يتناول الكل وهو أولى.
قال السّدي: لما جاءهم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والفرقان، فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب «آصف» وسِحْر «هاروت وماروت» فلم يوافق القرآن، فهذا هو قوله تعالى: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ. واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أخبر عنهم بأنهم كتب السّحر.
واختلفوا في المراد من الشياطين.
فقال المتكلمون من المعتزلة: هم شياطينُ الإنس، وهم المتمرِّدون في الضلال؛ كقول جرير: [البسيط]
694 - أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانُ مِنْ غَزَلِي ... وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا
وقيل: هم شياطين الإنس والجن.
قال السدي: إن الشياطين كانوا يسترقون السَّمع، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلقونها إلى الكَهَنَةِ، وقد دوّنها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا: إن الجنّ تعلم الغيب، وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم له ملكه إلاَّ بهذا العلم، سخّر الجن والإنس [والطير] والريح التي تجري بأمره.
وأما القائلون بأنهم شياطين الإنس فقالواك روي أن سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصّه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه(2/325)
إن هلك الظَّاهر منها يبقى ذلك المدفون، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السِّحْر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه، ثم بعد موته واطّلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان، وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلاّ بسبب هذه الأشياء.
فصل في الباعث على نسبتهم السحر لسليمان
إنما أضافوا السِّحْر إلى سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لوجوه:
أحدها: أضافوه تفخيماً لشأنه، وتعظيماً لأمره، وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم.
وثانيها: أن اليهود كانوا يقولون: إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب السّحر.
وثالثها: أنه تعالى لما سخر الجن لسليمان، فكان يخاطلهم، ويستفيد منهم أسراراً عجيبة غلب على الظنون أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ استفاد السحر منه فقوله تعالى: «وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ» تنزيه له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن الكفر، وذلك بدلّ على أن القوم نسبوه إلى الكُفْرِ السحر، فروي عن بعض أَحْبَار اليهود أنهم قالوا: ألا تعجبون من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي أن السَّحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان، فبرأه الله تعالى من ذلك، وبين أن الذي برأه الله منه لاصق بغيره، وهو قوله تعالى: «وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ» .
هذه الواو عاطفة جملة الاستدراك على ماقبلها.
وقرأ ابن عامر، والكسائي وحمزة بتخفيف «لكن» ورفع ما بعدها، والباقون بالتشديد، والنصب وهو واضح.
وأما القراءة الأولى، فتكون «لكن» مخففة من الثقيلة جيء بها لمجرّد الاستدراك، وإذا خففت لم تعمل عند الجمهور ونٌقِل جواز ذلك عن يونس [والأخفش. وهل تكون عاطفة؟ الجمهور على أنها تكون عاطفة إذا لم يكن معها «الواو» ، وكان ما بعدها مفرداً وذه يونس] إلاَّ أنها لا تكون عاطفةً وهو قوي، فإنه لم يسمع في لسانهم: ما قام زيد لكن عمرو، وإن وجد ذلك في كتب النحاة فمن تمثيلاتهم، ولذلك لم يمثل بها سيبويه رَحِمَهُ اللهُ إلا مع الواو وهذا يدل على نفيه.
وأما إذا وقعت بعدها الجمل فتارة تقترن بالواو، وتارة لا تقترن.(2/326)
قال زهير: [البسيط]
695 - إنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لاَ تُخْشَى بَوَادِرُهُ ... لَكِنْ وَقَائِعُهُ في الحَرْبِ تُنتَظَرُ
وقال الكسائي والفراء: الاختبار تشديدها إذا كان قبلها «واو» وتخفيفها إذا لم يكن، وهذا جنوح منهما إلى القول بكونها حرف عَطْف، وأبعد من زعم أنها مركّبة من ثلاثة كلمات: لا النافية، وكاف الخطابن وإن التي للإثبات، وإنما حذفت الهمزة تخفيفاً.
قوله: «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» «الناس» مفعول أول، و «السِّحْر» مفعول ثان، واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال:
أحدها: أنها حال من فاعل «كفروا» أي مُعَلِّمين.
الثاني: أنها حال من الشياطين، وردّه أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى بأن «لكن» لا تعمل في الحال، وليس بشيء فإن «لكن» فيها رائحة الفعل.
الثالث: أنها في محلّ رفع على أنها خبر ثان للشياطين.
الرابع: أنها بَدَلٌ من «كفروا» أبدل الفعل من الفعل.
الخامس: أنها استئنافية، أَخْبر عنهم بذلك، وهذا إذا أعدنا الضمير من «يعملون» على الشَّيَاطين.
أما إذا أعدناه على «الذين اتَّبَعُوا ما تتلو الشَّياطين» فتكون حالاص من فاعل «اتبعوا» .
أو استئنافية فقط.
والسِّحْر: كلّ ما لَطف ودَقَّ سِحْرُهُ، إذا أَبْدَى له أمرأ يدقُّ عليه ويخفى.
قال: [الطويل]
696 - ... ... ... ... ... . ... أَدَاءُ عَرَانِي مِنْ حُبَابِكِ أمْ سِحْرُ
ويقال: سَحَرَهُ: أي خَدَعَهُ وعلَّله؛ قال امرؤ القيس: [الوافر]
697 - أَرَانَا مُوضِعِينَ لأَمْرٍ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وبِالشَّرَابِ(2/327)
أي: نُعَلَّلُ، وهو في الأصل: مصدر يقال: سَحَرَهُ سِحْراً، ولم يجىء مصدر ل «فَعَلَ» يَفْعَلُ على فِعْلٍ إلا سِحْراً وَفِعْلاً.
والسَّحر بالنصب هو الغذاء لخائه ولطف مَجَاريه، والسّحر هو الرئة وما تعلق بالحُلْقُوم [ومنه قول عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها توفي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين سحري ونحري] وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: 153] {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [الشعراء: 154] ، ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا.
وقال تعالى: {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم} [الأعراف: 116] .
وقال تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} [طه: 69] ، والسّحر في عرف الشرع مختصّ بكل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التَّمويه والخداع، وهو عند الإطلاق يذم فاعله، ويستعمل مقيداً فيما يمدح وينفع، فقال رسول الله صلى الله عليه «إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً» .
فسمى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعض البيان سحراً؛ لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه، ويبلغ عبارته، فعلى [هذا] يكون قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً» خرج مخرج المدح.
وقال جماعة من أهل العلم: خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة، إذ شبهها بالسّحر يدلّ عليه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» .(2/328)
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَفَيْهِقُونَ» .
[الثرثرة: كثرة الكلام وتردده، يقال: ثرثر الرجل فهو ثَرْثار مِهْذَار والمتفيهق نحوه] قال ابن دريد: فلان يتفيهق في كلامه إذا توسّعوتنطَع، قال: «وأصله الفَهْقُ، وهو الامتلاء كأنه ملأ به فمه» .
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان، فقالا: أما قوله صلى لله عليه وسلم: «إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً» ، فالرجل عليه الحق وهو ألحن بالحُجَج من صاحب الحقّ [فيسحر] القوم ببيانهن فيذهب بالحق، وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسان ما لم تخرج إلى جدّ الإسهاب والإطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق.
فإن قيل: كيف يجوز أن يسمى ما يوضح إظهار الحقّ سِحْراً، وهو إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر، ولفظ السحر إنما يفيد الظاهر؟
فالجواب: إنما سمي السَحر سحراً لوجهين:
الأول: أن ذلك القَدْر لِلُطْفه وحسنه استمال القلوب، فأشبه السّحر الذي يستميل القلوب من هذا الوجه.
الثاني: أنَّ القادر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً، وتقبيح ما يكون حسناً فأشبه السحر من هذا الوجه.
فصل في ماهية السحر
قال بعض العلماء: إن السِّحر تخيُّل لا حقيقة له، لقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] .
وقيل: إنه حقيقة؛ لأنَّ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سحره لبيد بن الأعصم فإن السحر أخرج من بئر، وحلت عقوده، وكلما انحلت عقدة خفَّ عنه عليه السلام إلى أن سار كما نشط من عقال.(2/329)
وذهب ابن عمر إلى «خيبر» ليخرص ثمرها فسحره بعض اليهود فانكشفت يده، فأجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه وجاءت امرأة لعائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها فقالت: يا أم المؤمنين ما على المرأة إذا عقلت بيرها، فقالت عاشئة: ليس عليها شيء، فقالت: إني عقلت زوجي عن النساء، فقالت عائشة: أخرجوا عني هذه الساحرة.
وأجابوا عن الآية بأنها لا تمنع بأنَّ من السحر ما هو تخيّل، وغير تخيل.
فإن قيل: إن الله تعالى قال في حقَّه عليه السَّلام: «واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» فكيف أثر فيه السحرُ؟
فالجواب أن قوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية، فإنه عليه السلام قد سحر وكسرت رباعيته، ورُمي عليه الكرش والثرب، وآذاه جماعة من قريش.
قال ابن الخطيب: السِّحر على أقسام:
الأول: سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها يصدر الخير والشر والفرح والسرور والسعادة والنحوسة، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مبطلاً لمقالتهم ورادًّا عليهم وهم ثلاث فرق:
الاولى: الذين زعموا أن الأفلاك والكواكب واجبة في ذواتها، وأنه لا حاجة بها إلى موجد ومدبر وخالق، وهي المدبّرة لعالم الكون والفساد، وهم الصَّابئة الدهرية.
والفريق الثاني: القائلون بإلاهية الأفلاك، وقالوا: إنها هي المؤثّرة للحوادث باستدارتها وتحرّكها، فعبدوها وعظّموها، اتخذوا لكل واحد منهما هيكلاً مخصوصاً وصنماً معيناً، واشتغلوا بخدمتها، فهذا دين عبدة الأصنام والأوثان.
والفريق الثالث: الذين أثبتوا لهذه الأفلاك والنُّجوم فاعلاً مختاراً خلقها وأجدها بعد العدم إلاَّ أنهم قالوا: إن الله تعالى عَزَّ وَجَلَّ ّ أعطاهم قوة عالية نافذة في هذا العالم، وفوض تدبير هذا العالم إليها.
النوع الثاني: سحر أصحاب الأَوْهَام، والنفوس القوية.
النوع الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضية.
واعلم أن القول بالجنّ مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة.
أما أكابر الفلاسفة فإنهم لم ينكروا القول به إلا أنهم سمّوها بالأرواح الأرضية،(2/330)
وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة، ومنها شريرة، فالخيرة هم مؤمنو الجن، والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم.
النوع الرابع: التخيُّلات والأخذ بالعيون، وذلك أن أغلاط البَصَرِ كثيرة، فإن راكب السَّفينة ينظر السفينة واقفة والشَّط متحركاً، وذلك يدلّ على أن السَّاكن متحرك والمتحرك يُرَى ساكناً، والقطرة النازلة ترى خطّاً مستقيماً، والذّبالة التى تدار بسرعة ترى دائرة، والعنبة ترى فى الماء كبيرة كالأجَّاصة، والشخص الصغير يرى فى الضَّباب عظيماً.
النوع الخامس: الأعمال العجيبة التى تظهر من تركيب الآلات على النُّصُب الهندسية مثل صورة فارس على فرس يده بُوق، فإذا مضت ساعة من النهار صوت بالبوق من غير أن يسمه أحد، ومثل تصاوير الروم على اختلاف أحوال الصور من كونها ضاحكة وباكية، حتى ييفرق فيها بين ضحك السرور، وضحك الخَجلِ، وضحك الشَّامت، وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب، ومن هذا الباب تركيب صندوق السَّاعات، ويندرج فى هذا الباب علم جَرَّ الأثقال وهو أن يجر ثقلاً عظيماً بآلة خفيفة سهلة، وهذا فى الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر؛ لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطّلع عليها قدر عليها.
النوع السادس: الاستعانة بخواصّ الأدوية المبلّدة المزيلة للعقل والدّخن المسكرة.
النوع السابع: تعليق القلب وهو أن يدعي السَّاحر أنه يعرف الاسم الأعظم، وأن الجن تطيعه، وينقادون له، فإذا كان السامع ضعيف العَقْل قليل التمييز اعتقد أنه حق، وتعلّق قلبه بذلك، وحصل فى نفسه نوع من الرُّعب والخوف، فحينئذ يُمكّن الساحر من أن يفعل به حينئذ ما شاء.
فصل فى مذهب الشافعي فى السحر
حكي عن الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه أنه قال: الساحر يخيل ويمرض ويقتل وأوجب القصاص على من يقتل به فهو من عمل الشيطان يتلقَّاه الساحر منه بتعليمه إيَّاه، فإذا تلقاه منه استعمله فى غيره.
وقيل: إنه يؤثر فى قَلْبِ الأعيان، والأصح أن ذلك تخييل.
قال: تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] ، لكنه يؤثر فى الأبدان بالأمراض والمت والجنون، وللكلام تأثير فى الطِّباع والنفوس، كما إذا سمع الإنسان ما يكره فيحمرّ [وربما يحمّ منه} ويغضب وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العلَل التي تؤثر فى الأبدان.(2/331)
فصل فى خرق الساحر للعادات
قال القرطبى رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد السّاحر خَرْقُ العادات مما ليس فى مقدور البشر من مرض وتفريق، وزوال عقل وتَعْويج عُضُو، إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد.
قالوا: ولا يعبد فى السِّحر أن يًسْتَدِقّ جسم السَّاحر حتى [يلج} فى الكُوَّات والانتصاب على رأس قَصَبَةٍ، والجري على خيط متسدق، والطيران فى الهواء، والمشي على الماء، وركوب كل وغير ذلك.
ولا يكون السحر علة لذلك، ولا موجباً له، وإنما [يخلق] الله تعالى هذه الاشياء، ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والرِّي عند شرب الماء [روى سفيان عن عمار الدهنى أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل فى اسْت الحمار، ويخرج من فيه، فاستل جندب السيف فقلته.(2/332)
هذا هو جندب بن كعب الأسدي ويقال: البجلي وهو الذى قال فى حقه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يكُونُ فى أُمَّتي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدب يَضْرِبُ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ يَفْرُقُ فيها بَيْنَ الحَقّ والبَاطِلِ» فكانوا يرونه جندباً هذا قاتل السّاحر.
قال علي بن المديني: وروى عنه حراثة من مُضَرَّب] .
فصل في إمكان السحر
واختلف المسلمون في إمكان السحر، فأما المعتزلة فقد أنكروه أعنى: الأقسام الثلاثة الأولى ولعلهم كَفّروا من قال بها وبوجودها.
أما أهل السّنة فقد جَوّزوا أ، يقدر الساحر على أن يطير فى الهواء، ويقلب الإنسان حماراً، والحمار إنساناً؛ إلاَّ أنهم قالوا: إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر كلماتٍ معينة، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 102] .
وقد روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سُحِرَ، وأن السحر عمل فيه حتى قال: «إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيَّ أنِّي أقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ» .
وأن امرأة يهودية سحرته، وجعلت ذلك السحر تحت رَاعُونَةِ البئر، فلما استخرج(2/333)
ذلك زال عن النبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك العارض، ونزلت المُعَوِّذَتَان بسببه.
وروي أن امرأة أتت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: فقالت لها: إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت عائشة: وما سحرك؟ فقالت: صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ب «بابل» أطلب علم السحر، فقالا لي: يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت، فقالا لي: اذهبي فَبُولِي على ذلك الرماد، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعله وجئت إليهما فقلت قد فعلت، فقالا لي ما رأيت لما فعلت؟ فقلت: ما رأيت شيئاً فقالا لي: أ، ت على رأس أمر، فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت فقالا لي: اذهبي فافعلي فذهبت ففعلت، فرأيت كأن فارساً مقنّعاً بالحديد قد خرج من فرجي، فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا: إيمانك قد خرج عنك، وقد أحسنت السحر.
فقلت: وما هو؟ قالا: ما تريدين شيئاً فَتُصَوّريه فى وَهْمك إلا كان، فصورت في نفسي حباً من حِنْطة فإذا أنا بحبّ فقلت: ازرع فانزرع، فخرج من ساعته سُنْبُلاً فقلت: انطحن من ساعته، فقلت: انخبز فانخبز، وأنا لا أريد شيئاً أصوره فى نفسي إلا حصل، فقالت عائشة: ليس لك توبة.
فصل فى أنّ معجزات الله ليست من قبيل السّحر
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل، والضفادع، وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العَجْمَاء وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام، والفرق بين السحر والمعجزة أن السحر يأتي بن الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه، ويمكنهم الإتيان به فى وقت واحد، والمعجزة لا يمكن الله أحداً أن يأتي بمثلها.
فصل في أن العلم بالسحر ليس بمحظور
قال ابن الخطيب: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس قبيحاً ولا بمحظور؛ لأن العلم لذاته شريف وأيضاً لقوله تعالى: «هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ» [الزمر: 9] ولأن الساحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بين وبين المُعْجزة، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب، [وما يتوقّف الواجب عليه فهو واجب، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً، وما يكون واجباً] كيف يكون حراماً وقبيحاً. [ونقل بعضهم وجوب نقله عن المفتي حتى يعلم ما يقتل فيه وما لا يقتل فيفتي به وجوب القصاص] .(2/334)
فصل في أمور لا تكون من السرح ألبتة
قد تقدم عن القرطبي قوله: أجمع المسلمون على أنه ليس فى السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى [وإنطاق العجاء] ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون، ولا يفعله الله عند إرادة الساحر.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع، ولولاه لأجزناه نقله القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى فى تفسيره، وأورد عليه قوله تعالى عن حبال سحرة فرعون وعصيهم: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [66] ، فأخبر عن إقلاب العِصِيّ والحبال بأنها حيّات.
فصل فى أن الساحر كافر أم لا؟
اختلف العلماء فى الساحر هل يكفر أو لا؟
اعلم أنه لا نزاع في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم، وهي [الخالقة] لما فيه من الحوادث، فإنه يكون كافراً مطلقاً، وهو النوع الأول من السحر.
وأما النوع الثاني: وهو أن يعتقد [أن الإنسان تبلغ روحه] فى التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البِنْيَةِ والشكل، [فالظاهر] إجماع الأمة أيضاً على تكفيره.
وإما النوع الثالث: وهو أن يعتقد السَّاحر أنه [بلغ] فى التصفية وقراءة الرّقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل خرق العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل، والمعتزلة كفروه وغيرهم لم يكفروه.
فإن قيل: إن اليهود لما أضافوا السِّحر إلى سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال الله تعالى تنزيهاً له عنهك {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ} [البقرة: 102] فظاهر الآية يقتضي أنهم كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون السحر؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر، وهذا يقتضي أنّ السحر على الإطلاق كفر، وأيضاً قوله: «عَلَى المَلَكَيْنِ» {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102] .
قلنا: حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة، فيحمل على سحر من يعتقد(2/335)
إلاهية النجوم وأيضاً فلا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلّية، بل المعنى أنهم كفروا، وهم مع ذلك يعلمون السحر.
فصل فى سؤال الساحر حلّ السحر ع المسحور
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور؟
اختلفوا: قال سعيد بن المسيّب: يجوز. ذكره «البخاري» ، وإليه مال المزني، وكرهه الحسن البصري.
وقال الشعبي: لا بأس بِالنُّشْرَةِ.
قال ابن بَطّال: وفى كتاب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سِدْرٍ أخضر ويدقه بين حَجَرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كلّ ما به إن شاء الله تعالى، وهو جيّد للرجل إذ حُبِسَ عن أهله.
فصل في أن الساحر هل يتقل أم لا؟
هل يجب قتل الساحر أم لا.
أما النوعان الأولان فلا شكّ في [قتل] معتقدهما.
قال ابن الخطيب: يكون كالمرتد يُسْتَتَاب فإن أصر قتل.
وروي عن مالك وأبي حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهما توبته.
لنا أنه إن أسلم فيقبل إسلامه لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» .
وأما النوع الثالث: فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر؛ لأن حكم على المحظور بكونه مباحاً، وإن اعتقد حرمته، فعند الشَّافعي رضي الله عه حكمه حكم الجِنَاية، إن قال: إني سحرته وسحري يَقْتُلُ غالباً، يجب عليه القَوَدُ.
وإن قال: سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل، فهو شبه عمد.
وإن قال: سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ يجب عليه الدِّيَةُ مخففة في ماله؛ لأنه ثبت بإقراره إلاّ أن تصدقه العاقلة، فجينئذ يجب عليهم. هذا تفصيل مذهب الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه.
وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة رَحِمَهُ اللهُ أنه قال يقتل السَّاحر إذا علم أنه ساحر، ولا يستتاب ولا يبقل قوله: إني أترك السحر وأتوب منه، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه، وإن شهد شاهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا(2/336)
يُسْتَتَاب، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة، وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه، ولم يقتل.
وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال: سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة فى السَّاحر: يقتل ولا يُسْتَتَاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد، فقال الساحر جمع مع كفره السعي فى الأرض بالفساد، ومن كان كذلك إذا قَتَل قُتل. واحتج أصحاب الشافعي بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر، فهو فسق، فإن لم يكن جناية على حق الغير كان فيه التفضيل المتقدم.
وأيضاً فإن ساحر اليهود لا يقتل؛ لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سحره رجل من اليهود يقال له: لبيد من أعصم، وامرأة من يهود «خيبر» يقال لها: زينب فلم يقتلهما، فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى المُسْلِمِينَ» .
واحتج أبو حنيفة بما روى نافع عن ابن عمر رضى الله عنه أن جارية لحفصة سرحتها، وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد، فقلتها فبلغ ذلك عثمان، فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك، لأنها قتلت بغير إذن، وبما روى عمرو بن دينار أن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: «اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سَوَاحر» .
والجواب: لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة، فإن حكاية الحال تكفي في صدقها صورة واحدة، وأما بقية [أنواع] السحر من الشَّعْوذة، والآلات العجيبة المبينةن على النسب الهندسية، وأنواع التخويف، والتقريع والوهم، فكل ذلك ليس بكفر، ولا يوجب القتل.
قوله: «وَمَا أُنْزِلَ» فيه أربعة أقوال:
أظهرها: أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» محلّها النصب عطفاً على «السحر» ، والتقدير: يعلّمون الناس السحر، واتلنزل على الملكين.
الثاني: أنها موصولة أيضاً، ومحلها النصب لكن عطفاً على «مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ» ، والتقدير: واتبعوا ما تتلو الشياطين، وما أنزل على الملكين. وعلى هذا فما بينهما اعتراض، ولا حاجة إلى القول بأن في الكلام تقديماً وتأخيراً.
الثالث: أن «ما» حرف نفي، والجملة معطوفة على الجملة المفنية قَبْلَها، وهي «وما كفر سُلَيْمَان» والمعنى: وما أنزل على الملكين إباحة السحر.
قال القرطبي: و «ما» نافية، والواو للعطف على قوله: [ «وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ» ،(2/337)
وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل، وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك.
وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير: وما كفر سليمان] ، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السِّحر ببابل هَارُوت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشَّيَاطين فى قوله: «وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَُوا» قال: وهذا أولى ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء، وخاصة فى حالة طَمْثهن؛ قال الله تعالى:
{وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} [الفلق: 4] .
فإن قيل: كيف يكون اثنان بدلاً من الجميع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه؟ فالجواب من وجوه ثلاثة:
الاول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع؛ كما قال تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] .
الثاني: أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون اتباعهما كقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] .
الثالث: إما خُصَّا بالذكر من بينهم لتمرّدهما، كتخصيصه تعالى النخل [والرمان] فى قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن؛68] فقد ينص على بعض أشخاص العموم إما لشرفه؛ كقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي} [آل عمران: 68] وإما لطيبه كقوله: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وإما لأكثريته؛ كقوله صلى الله عليه سلم: «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَتُرَابُهَا طَهُوراً» وإما لتمردهم كهذه الآية.
الرابع: أن محلّها الجر عطفاً على «ملك سليمان» ، والتقدير: افتراء على ملك سليمان وافتراء على ما أنزل على الملكين، وهو اختيار أبي مسلم.
وقال أبو البقاء: «تقديره» وعلى عهد الّذي أنزل.
واحتج أبو مسلم: بأن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان مُنْزله هو الله تعالى، وذلك غير(2/338)
جائز، كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا السِّحر، كذلك في الملائكة بطريق الأولى.
وأيضاً فإن تعليم السحر كفر بقوله تعالى: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر} .
وأيضاً فإنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة، فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه؟ والمعنى: أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر، مع أن المنزل عليهما كانا مبرّأين عن السحر؛ لأن المنزل عليهما هو الشرع والدين، وكانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} توكيداً لبعثهم على [قبوله] والتمسّك به، فكانت طائفة تتمسّك، وأخرى تخالف.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والأول أولى؛ لأن عطف «وَمَا أُنْزِلَ» على ما يليه أولى من عطفه على مابعد عنه إلا لدليل، أما قوله: «لو كان منزلاً عليهما لكان مُنَزِّلهُ هو الله تعالى» .
قلنا: تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب فى إدخاله في الوجود، وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه؛ قال: [الهزج]
698 - عَرَفْتُ الشَّرَّ لا لِلشَّرْرِ ... لَكِنُ لِتَوَقِّيهِ
وقوله: لا يجوز بعثة الأنبياء [لتعليم السحر، فكذا الملائكة] .
قلنا: الغرض من ذلك التعليم التَّنبيه على إبطاله.
وقوله: «تعليم السِّحْر كفر» .
قلنا: إنه واقعة حال فيكفي في صدقها سورة واحدة.
وقوله: يضاف السحر للكفرة والمردة.
قلنا: فرق بين العمل والتعليم، فيجوز أن يكون العمل منبهاً عنه، والتعليم لغرض التنبيه على فساده فلا يكون مأموراً به.
والجمهور على فتح لام «المَلَكين» على أنهما من الملائكة.
وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن والضحاك بكسرها على أنهما رجلان من الناس، وسيأتي تقريره.(2/339)
قوله: «بِبَابِلَ» متعلق ب «أنزل» ، والباء بمعنى «في» أي: في «بابلط. ويجوز أن يكون فى محلّ نصب على الحال من المَلَكين، أو من الضمير في» أنزل «فيتعلق بمحذوف. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ.
و» بابل «لا ينصرف للعُجْمة والعلمية، فإنها اسم أرض، وإن شئت للتأنيث والعلمية وسميت بذلك قيل: لِتَبَلْبُلِ السنة الخلائق بها، وذلك أن الله تعالى أمر ريحاً، فحشرتهم بهذه الأرض، فلم يدر أحد ما يقول الآخر، ثم فرقتهم الريح في البلاد فتكلم كل واحد بلغة، والبَلْبَلَة التفرقة.
وقيل: لما أُهْبِط نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نزل فبنى قرية، وسماها» ثمانين «، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة.
وقيل: لتبلبل ألسنة الخلق عند سقوط صرح نمرود.
وهي بابل» العراق «.
وقال ابن مسعود:» بابل «أرض» الكوفة «.
وقيل:» جبل نهاوَند «.
قوله:» هَارُوتَ وَمَارُوتَ «الجمهور على فتح تائها.
واختلف النحاة في إعرابها، وذلك مبني على القراءتين في» الملكين «، فمن فتح لام» الملكين «، وهم الجمهور كان في هاروت وماروت أربعة أوجه:
أظهرها: أنها بدل من» الملكين «، وجُرَّا بالفتحة لأنهما ينصرفان للعجمة والعلمية.
الثاني: أنهما عطف بيان لهما.
الثالث: أنهما بدل من» الناس «في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» وهو بدل بعض من كل، أو لأن أقل الجمع اثنان.
الرابعك أنهما بدل من «الشياطين» في قوله: «ولكن الشياطين كفروا» في قراءة من نصب، وتتوجيه البدل كما تقدم.
وقيل: هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن، فيكون بدل كل من كل، والفتحة على هذين القولين اللنصب.
وأما من قرأ برفع «الشياطين» ، فلا يكون «هاروت وماروت» بدلاً منهم، بل يكون منصوباً في هذا القول على الذم أي: أذم هاروت وماروت من بين الشياطين كلها؛ كقوله: [الطويل](2/340)
699 - أقَارعُ عَوْشفٍ لا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا ... وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ
أي: أذم وجود قرود، ومن كسر لامهما، فيكون بدلاً منهما كالقول الأول إلاَّ إذا فسر الملكان بداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام كما ذكره بعض المفسرين، فلا يكونان بدلاً منهما، بل يكونان متعلّقين بالشياطين على الوجيهن السَّابقين في رفع الشياطين ونصبه، أو يكونان بدلاً من «الناس» كما تقدم.
وقرأ الحسن «هَارُوتُ وماروتُ» برفعهما، وهما خبر لمبتدأ محذوف أي: هما هاروت وماروت، ويجوز أن يكون بدلاً من «الشياطين» الأولى وهو قوله: «ما تَتْلُو الشياطين» ، أو الثاني على قراءة من رفعه.
ويُجْمَعَان على هَوَاريت ومَوَاريت، وهَوَارتة ومَوَارتة، وليس من زعم اشتقاقهما من الهَرْتِ والمَرْتِ وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما، ولو كانا مشتقّين كما ذكر لانصرفا.
فصل في توجيه قراءة فتح اللام
أما القرءاة بفتح لام «الملكين» ، فقيل: هما ملكان من السماء اسمهما هاروت وماروت.
وقيل: هما جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام.
وقيل غيرهما.
وأما من كسر اللام فقيل: إنهما اسم لقبيلتين من الجن.
وقيل: هما داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام.
وقيل: هما رجلان صالحان.
وقيل: كانا رجلين ساحرين.
وقيل: كانا علجين أقنعين ب «بابل» يعلمان الناس السحر.
قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} هذه الجملة عطلف على ما قبلها، والجمهور على «يُعَلِّمَان» مضعفاً.
واختلف فيه على قولين:
أحدهما: أنه على بابه من التعليم.
والثاني: أنه بمعنى يعلمان من «أعلم» ، فالتضعيف والهمزة متعاقبان.
قالوا: لأن المَلَكين لا يعلمان الناس السحر، إنما يُعْلِمانِهِمْ به، ويَنْهَيَانِهِم عنه،(2/341)
وإليه ذهب طحلة بن مصرف، وكان يقرأ «يُعْلِمَان» من الأعلام.
ومن حكى أن تَعَلَّمْ بمعنى «اعْلَم» ابنُ الأعرابي، وابن الأنباريِّ؛ وأنشدوا قول زُهَيْر: [البسيط]
700 - تَعَلَّمَنْ هما لَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَماً ... فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ؟
وقول القُطَامِيُّ: [الوافر]
701 - تَعَلَّمْ أَنَّ بَِعْدَ الْغَيِّ رُشْداً ... وَأَنَّ لِذَلِكَ الغَيِّ انْقِشَاعَا
وقول كعب بن مالك: [الطويل]
702 - تَعَلَّمْ رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنَّ وَعِيداً مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ
وقول الآخر: [الوافر]
703 - تَعَلَّمْ أَنَّهُ لاَ طَيْرَ إِلاَّ ... عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ
والضيمر في «يعلمان» فيه قولان:
أحدهما: أنه يعود على هاروت وماروت.
والثانيى: أنه عائد على [الملكين، ويؤيده قراءة أُبَيّ بإظهار الفاعل: «وَمَا يُعَلِّم الملكان» .
والأول هو الأصح؛ لأن الاعتماد إنما هو على البدل] دون المبدل منه، فإنه في حكم المطَّرح، فمراعاته أولى؛ تقول: «هِنْدٌ حُسْنُهَا فَاتِنٌ» ولا تقول: «فَاتِنَةٌ» مراعاة لِهِنْد، إلاّ في قليل من الكلام؛ كقوله: [الكامل]
704 - إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّهَا ورَواحَهَا ... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأَعْضَبِ(2/342)
وقال الآخر: [الكامل]
705 - فَكَأَنَّهُ لَهِقُ السَّراة كَأَنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فراعى المُبْدَلَ منه في قوله: «تَرَكَتْ» ، وفي قوله: «مُعَيَّن» ، ولو راعى البَدَل، وهو الكثير، لقال «تَرَكَا» و «مُعَيَّنَان» ؛ كقول الآخر: [الطويل]
706 - فَمَا كَانَ قَيْسُ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
ولو لم يراع البدل للزم الإخبار بالمعنى عن الجُثَّة.
وأجاب أبو حيان عن البيتين بأن «رَوَاحها وغدوها» منصوب على الظرف، وأن قوله: «مُعَيَّن» خبر عن «حَاجِبَيْهِ» ، وجاز ذلك؛ لأن كل اثنين لا يغني أحدهما عن الآخر، يجوز فيهما ذلك؛ قال: [الهزج]
707 - ... ... ... ... ... ... ... ..... بِهَا الَيْنَان تَنْهَلُّ
وقال: [الكامل]
708 - لَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أَوْ سُنْبُلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
ويجوز عكسه؛ قال: [الطويل]
709 - إِذَا ذَكَرَتْ عَيْنِي الزَّمَانَ الّّذِي مَضَى ... بِصَحْرَاءَ فَلْجٍ ظَلَّتَا تِكِفَانِ
و «من» زائدة لتأكيد الاستغراق لا للاستغراق؛ لأن «أحداً» يفيده بخلاف: «ما جاء من رجل» فإنها زائدة للاستغراق.
و «أحد» هنا الظاهر أنه الملازم للنفي، وأنه الذي همزته أصل بنفسها.(2/343)
وأجاز أبو القاء أن يكو بمعنى واحد، فتكون همزته بدلاً من الواو.
فصل فيمن قال بأنهما ليسا من الملائكة
القائلون بأنهما ليسا من الملائكة احتجوا بأن الملائكة عليهم السلام لا يليق بهم تعليم السحر، وقالوا: كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} [الأنعام: 8] .
وأيضاً لو أنزل الملكين، فإما أن يجعلهما فى صورة الرجلين، أو لا يجعلهما كذلك، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلاً وتلبيساً على الناس وهو لا يجوز، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذي تشاهدهم أنه لا يكون الحقيقة إنساناً، بل يكون ملكاً ن الملائكةن؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: 9] .
وأجاب القائلون بأنهما من الملائكة عن الأول بأنا سنبين وجه الحكمة في إنزال [الملكين] لتعليم السحر وعن الثاني: بأن هذه الآية عامة، [وقراءة المَلَكين بفتح اللام متواتورة وتلك] خاصة والخاص مقدم على العام.
وعن الثالث: أن الله تعالى أنزلهما في صورة رَجُلين، كان الواجب على الملكين في زمان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن يقطعوا على من صروته صورة الإنسان بكونه إنساناً، كما أنه في زمان الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانالواجب على من شاهد حية الكَلْبي ألاَّ يقطع بكونه من البشر، بل الواجب التوقف فيه.
فصل في فساد رواية الزهرة
رووا قصة الزُّهَرة وما جرى لها الملكين.
ولهم في الزهرة قولان:
أحدهما: أنها الكوكب المعروف.
والثاني: أنها من بنات آدم ومسخت إلى هذا الكوكب.
وقيل: مسخت بها.
قال ابن الخطيب: وهذه الرواية فاسدة مردودة؛ لأنه ليس في كتاب الله تعالى مايدل عليها، بل فيه ما يبطلها من وجوه:
الأول: الدلائل الدالة على عِصْمَةِ الملائكة عليهم السلام من كل المعاصي.
الثاني: أن قولهم: إنهما خُيِّرا بَيْن عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة فاسد، بل كان(2/344)
الأولى أن يُخَيَّرا بَيْنَ التوبة والعذاب؛ لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره، فكيف يبخل عليهما بذلك؟
الثالث: أن من أعجب الأمور قوله: أنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين، ويدعوان إليه، وهما يعاقبان [ولما ظهر فساد هذا القول فنقول: السبب] في إنزالهما وجوه:
أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان، واستنبطت أبواباً غريبة من السحر، وكانوا يَدَّعُون النبوة، ويتحَدَّون الناس بها، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأَجْلِ أن يعلّما الناس أبواب السِّحر حتى يتمكّنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد.
وثانيها: أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسّحر متوقّف على العلم بماهية المعجزة، وبماهية السحر، والناس كانوا جاهلين بماهية السِّحر، فلا جرم تعذّرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة، فبعث الله تعالى هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض.
وثالثها: لا يمتنع أن يقال: السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله، والألفة بين أولياء الله كان مباحاً عندهم، أو مندوباً، فالله تعالى بعث مَلَكين لتعليم السِّحر لهذا الغرض، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما، واستعملوه في الشر، وإيقاع الفُرْقة بين أولياء الله، والألفة بين أعداء الله.
ورابعها: أن تحصيل العلم بكل شيء حسن، ولما كان السِّحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً؟ لأن الذي لا يكون متصوراً يمتنع النهي عنه.
وخامسها: لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أموراً يقدرون بها على معارضة الجن.
وسادسها: يجز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصّل به إلى اللَّذات العاجلة، ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقّة، فيستوجب به الثواب الزائد، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السّحر، والله أعلم.
فصل في زمن وقوع هذه القصة.
قال بعضهم: هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه الصَّلاة والسلام.(2/345)
قوله: {حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} .
«حتى» : حرف غاية ونصب، وهي هنا بمعنى «إلى» ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» ولا يجوز إظهارها، وعلامة النصب حذف النوت، والتقدير: إلى أن يقولا وهي متعلقة بقوله: «وَمَا يُعَلِّمَانِ» ، والمعنى أنه ينتفي تعليمهما أو إعلامهما على ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية، وهي قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} .
وأجاز أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ أن تكون «حتى» بمعنى «إلا» قال: والمعنى: وما يعلمان من أحد إلاّ أن يقولا وهذا الذي أجاز لا يعرف عن أكثر المتقدمين، وإنما قاله ابن مالك؛ وأنشد: [الكامل]
710 - لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً ... حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ
قال: تقديره: إلا أن تجُودَ.
و «حتى» تكون حرف جر بمعنى «إلى» كهذه الآية، وكقوله: {حتى مَطْلَعِ الفجر} [القدر: 5] ، وتكون حرف عطف، وتكون حرف ابتداء فتقع بعدها الجمل؛ كقوله: [الطويل]
711 - فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا ... بِدَجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
والغاية معنى لا يفارقها في هذه الأحوال الثلاثة، فلذلك لا يكون ما بعدها إلا غاية لما قبلها: إما في القوة، أو الضعف، أو غيرهما، ولها أحكام أُخر ستأتي إن شاء الله تعالى.
و «إنما» مكفوفة ب «ما» الزائدة، فلذلك وقع بعدها الجملة، وقد تقدم أن بعضهم يجيز إعمالها، والجملة في محلّ نصب بالقول، وكذلك: «فَلاَ تَكْفُر» .
فصل في المراد بالفتننة
المراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتيمز المطيع عن العاصي، كقولهم: فتنت الذهب بالنار أذا عرض على النار ليتميز الخاصّ عن المشوب، وقد بَيّنا الحكمة في بعثة الملكين لتعليم السحر.
فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه عن المشوب، وقد بَيْنا الحكمة في بعثة الملكين لتلعيم السحر.
فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه لأحد، ولا يكشفان له وجوه(2/346)
الاحتيال حتى يبذلا له النَّصيحة فيقولا له: «إِنَّمَا نَحْنُ فَتْنَةٌ» أي: هذا الذي نصفه لك، وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر عن المعجزة، ولكنه يمكنك أن تتوصّل به إلى المفاسد والمعاصي، فإياك أن تستعمله فيما نهيت عنه، أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة.
قوله تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ» في هذه الجملة سبعة أقوال:
أظهرها: أنها معطوفة على قوله تعالى: «وما يعلمان» والضمير في «فيتعلّمون» عائد على «أحد» ، وجمع حملاً على المعنى، كقوله تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] .
فإن قيل: المعطوف عليه منفي، فيلزم أن يكون «فيتعلّمون» منفياً أيضاً لعطفه علبيه، وحينئذ ينعكس المعنى. فالجواب ما قالوه، وهو أن قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ} ، وإن كان منفياً لفظاً فهو موجب معنى؛ لأن المعنى: يعلمان الناس السحر بعد قولهما: إنما نحن فتنة، وهذا الوجه ذكره الزجاج وغيره.
الثَّاني: أنه معطوف على «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السَّحْر» قاله الفراء.
وقد اعترض الزجاج هذا القول بسبب لفظ الجمع في «يعلمون» مع إتيانه بضمير التثنية في «منهما» يعنى: فكان حقه أن يقال: «منهم» لأجل «يعلمون» وأجازه [أبو علي] وغيره، وقالوا: لا يمتنع عطف «فيتعلمون» على «يعلِّمون» ، وإن كان التعليم من الملكين خاصّة، والضمير في «منهما» راجع إليهما، فإن قوله: «منهما» إنما جاء بعدم تقدّم ذكر المَلَكَيْنِ.
وقد اعترض على قول الفراء من وجه آخر: وهو أنه يلزم منه الإضمار قبل الذكر، وذلك أن الضمير في «منهما» عائد على الملكين، وقد فرضتم أن «فيتعلمون منهما» عطف على «يعلمون» ، [فيكن التقدير: «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ منهما» ] فيلزم الإضمار في «منهما» قبل ذكر المَلَكيْن، وهو اعتراض وَاهٍ فإنهما متقدمان لفظاً، وتقدير تأخرهما لا يضرّ؛ إذ المحذور عَوْدُ الضمير على غير مذكور في اللفظ.
الثالث: وهو أحد قولي سيبويه أه عطف على «كفروا» ، فعل في موضع رفع، فلذلك عطف عليه فعل مرفوع.
قال سيبويه: [وارتفع] «فيتعلمون» ؛ لأنه لم يُخْبِرْ عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلموا ليَجْعَلا كفره سبباً لتعلم غيره، ولكنه على: كفروا فيتعلمون، وشَرْحُ ما قاله هو أنه يريد أن ليس «فيتعلمون» جواباً لقوله: فلا تكفر فيتنصب في جواب النهي، كما النصب: {فَيُسْحِتَكُم} [طه: 61] ، بعد قوله: «لاَ تَفْتَرُوا» لأن كُفْرَ من نهياه أن يكفر ليس(2/347)
سبباً لتعلّم من يتعلم. واعترض على هذا بما تقدّم من لزوم الإضمار قبل الذكر، وتقدم جوابه.
الرابع: وهو القول الثاني ل «سيبويه» أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقديرك «فهم يتعلمون» ، فعطف جلمة اسمية على فعلية.
الخامس: قال الزَّجَّاج أيضاً: والأجود أن يكون معطوفاً على «يعلّمان فيتعلّمون» فاستغني عن ذكر «يعلمون» على ما في الكلام من الدليل عليه [واعتراض أبو علي قول الزجاج؛ فقال: «لا وجه لقوله: اسغني عن ذلكر» يعلمان «؛ لأنه موجود في النص» . وهذا الاعتراض من أبي علي ت حامل عليه لسبب وقع بينهما؛ فإن الزجاج لم يرد أن «فيتعلمون» عطف على «يعلمان» المنفي ب «ما» في قوله: «وما يعلمان» حتى يكون مذكوراً في النص، وإنما أراد أن ثم فعلاً مضمراً يدل عليه قوة الكلام وهو: «يعلمان فيتعلمون» ] .
السَّادس: أنه عطف على معنى ما دلّ عليه أول الكلام، والتقدير: فيأتون فيتعلّمون، ذكره الفراء والزجاج أيضاً.
السَّابع: قال أبو البقاء: وقيل: هو مستأنف، وهذا يحتمل أن يريد أنه خبر مبتدأ مضمر كقول سيبويه رَحِمَهُ اللهُ وأن يكون مستقلاً بنفسه غير محمل على شيء قبله، وهو ظاهر كلامه.
قوله: «مِنْهُمَا» متعلّق ب «يعلمون» .
و «من» لابتداء الغاية، وفي الضمير ثلاثة أقوال: أظهرها: عوده إلى المَلَكين، سواء قرىء بكسر اللام أو فتحها.
والثاني: يعود على السّحر وعلى المنزل على الملكين.
والثالث: أنه يعود على الفتنة، وعلى الكفر المفهوم من قوله: «فلا تكفر» ، وهو قول أبى مسلم.
قوله: «مَا يُفَرِّقُونَ به» الظَّاهر في «ما» أنها موصولة اسمية.
وأجاز أبو البقاء أن تكن نكرة موصوفة، وليس بواضح، ولا يجوز أن تكن مصدرية لعود الضمير في «به» عليها، والمصدرية حرف عند جمهور النحويين كما تقدم غير مَرّة.
و «بَيْنَ الْمَرْءِ» ظرف ل «يُقَرّقُونَ» .
والجمهور على فتح ميم «المَرْءِ» مهموزاً، وهي اللغة العالية.(2/348)
وقرأ أين أبي أسحاق: «المُرْء» بضم الميم مهموزاً.
وقرأ الأشهب العقيلي والحسن: «المِرْءُ» بكسر الميم مهموزاً.
فأما الضم فلغة محكية.
وأما الكسر فيحتمل أن يكون لغة مطلقاً، ويحتمل أن يكون للإتباع، وذلك أن في «المرء» لغة وهي أن «فاءه» تَتْبَعُ «لامه» ، فإن ضم ضمت، وإن فتح فتحت، وإن كسر كسرت، تقول: «ما قام المُرْءُ» بضم الميم و «رأيت المَرْءَ» بفتحها، و «مررت بالمِرْءِ» بكسرها، وقد يجمع بالواو والنون، وهو شاذ.
قال الحسن في بعض مواعظه: «أحْسِنُوا مَلأَكُمْ أَيُّهَا المَرْؤون» أي: أخلاقكم.
وقرأ الحسن، والزهري «المَرِ» بفتح الميم وكسر الراء خفيفة، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة على «الواو» وحذف الهمزة تخفيفاً وهو قياس مطّرد.
وقرأ الزهري أيضاً: «المَرِّ» بتشديد الرَّاء من غير همز، ووجهها أنه نقل حرة الهمزة إلى الرَّاء، ثم رأى الوقف عليها مشدّداً، كما روي عن عصام {مُّسْتَطَرٌ} [القمر: 53] بتشديد الراء ثم أجرى الوَصْل مجرى الوقف.
فصيل في تفسير التفريق
ذكروا في تفسير التفريق هاهنا وجهين:
الأول: أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد بأن ذلك السرح مؤثر في هذا التفريق، فيصير كافراً، وإذا صار كافراً بَانَتْ منه امرأته، فيحصل تفريق بينهما.
الثاني: أنه يفرق بينهما بالتمويه والحِيَل، والتَّضْريب وسائر الوجوه المذكورة. وذكره التفريق دون سائر الصُّور التي يتعلّمونها تنبيهاً على الباقي، فإن ركون الإنسان إلى زوجته معروف زائد على مودّة قريبة، فإذا وصل بالسحر إلى هذا الأمر مع شدّته فغيره أولى، يدلّ عليه قوله تعالى: «وَما هُمْ بِضَارِّينَ بهِ مِنْ أَحَدِ» يجوز في «ماء» وجهان.
أحدهما: أن تكون الحجازية، فيكون «هم» اسمها، و «بِضَارين» خبرها، و «الباء» زائدة، فهو في محل نصب.
والثاني: أن تكون التميمية، فيكون «هم» مبتدأ، و «بِضَارِّينَ» خبره، و «الباء» زائدة أيضاً فهو في محل رفع.(2/349)
والضمير فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه عائد على السَّحرة العائد عليهم ضمير «فَيَتَعَلَّمُونَ» .
الثاني: يعود على اليهود العائد عليهم ضمير «واتبعوا» .
الثالث: يعود على الشياطين والضمير في «به» يعود على «ما» في قوله: «وَمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ» .
والجمهور على «بَضَارِّينَ» بإثبات النون و «مِنْ أَحَدٍ» مفعول به، وقرأ الأعمش: «بِضَرِّي» من غير نون، وفي توجيه ذلك قولان:
أظهرهما: أنه أسقط النون تخفيفاً، وإن لم يقع اسم الفاعل صلةً ل «أل» ؛ مثل قوله: [الطويل]
712 - وَلَسْنَا إِذَا تَأْبَوْنَ سِلْماً بِمُذْعِنِي ... لَكُمْ غَيْرَ أَنَّا إِنْ نُسَالَمْ نُسَالمِ
أي: بمذعنين ونظيره في التَّثْنية: «قَطَا قَطَا بَيْضُك ثِنْتَا، وَبِيْضِي مِائَتَا» يريدون ثِنْتَانِ وَمِائَتَانِ.
والثاني وبه قال الزَّمخشري، وأبن عطية أن النُّونَ حذفت للإضافة إلى «أحدٍ» ، وفصل بين المضاف والضاف إليه بالجار والمجرور، وهو «به» ؛ كما فصل به في قوله الآخر: [الطويل]
713 - هُمَا أَخَوَا فِي الْحَرْبِ مَنْ لاَ أَخَا لَهُ ... إِذَا خَافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعَاهُمَا
وفي قوله: [الوافر]
714 - كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً ... يَهُودِيِّ يُقارِبُ أَوْ يُزِيلُ(2/350)
ثم استشكل الزمخشري ذلك فقال: فإن [قلت] كيف يضاف إلى «أحد» هو مجرور؟ قلت: جعل الجار جزءاً من المجرور.
قال أبو حيان: وهذا التخريج ليس يجوز؛ لأن الفصل بين المتضايفين بالظَّرف والمجرور من ضَرَائر الشعر، وأقبح من ذلك ألا يكون ثم مضاف إليه؛ لأنه مشغول يعامل جَرّ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة.
وأما جعله حرف الجر جزءاً من المجرور فليس بشيء؛ لأن هذا مؤثر فيه، وجزء الشيء لا يؤثر فيه.
وأجيب بأن الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال، لأنه قد فصل بالمفعول به في قراءة ابن عامر، فالباظرف وشبهه أولى، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام. وأما قوله: «لأن جزء الشيء لا يؤثر فيه.
فإنما ذلك في الجزء الحقيقي، وهذا إنما قال: ننزله منزلة الجزء، ويدلّ على ذلك قول [النجاة] الفعل كالجزء من الفاعل، ولذلك آنّث لتأنيثه، ومع ذلك فهو مؤثِّر فيه.
و» من «في» من أحد «زائدة لتأكيد الاستغراق كما تقدم في:» وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ «.
وينبغي أن يجيء قول أبي البقاء: إن» أحداً «يجوز أن يكون بمعنى واحد، والمعهود زيادة» من «في المفعول به المعمول لفعل منفي نحو: ما ضربت من أحد، إلا أنه حملت الجملة الاسمية الدَّاخل عليها حرف النفي على الفعليّة المنفية في ذلك؛ لأن المعنى: وما يضرون من أحد، إلا أنه عدل إلى هذه الجملة المصدرة بالمبتدأ المخبر عه باسم الفاعل الدّال على الثبوت، والاستقرار المزيد فيه باء الجر للتوكيد االمراد الذي لم تفده الجملة الفعلية.
قوله: «إِلاَّ بإِذْنِ اللهِ» هذا استثناء مفرّغ من الأحوال، فهو في محل نَصْب على الحال، فيتعلّق بمحذوف، وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه:
أحدها: أنه الفاعل المستكن في «بضارين» .
الثاني: أنه المفعول هو «أحد» وجاءت الحال من النكرة؛ لاعتمادها على النفي.
والثالث: أن الهاء في «به» أي بالسحر، والتقدير: وما يضرون أحداً بالسحر إلا(2/351)
ومعه علم الله، أو مقروناً بإذن الله ونحو ذلك.
والرابع: أنه المصدر المعروف وهو الضرر، إلا أنه حذف للدلالة عليه.
فصل في تأويل الإذن
قال ابن الخطيب: الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر، لأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم عليه، ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه، فلا بد من التأويل، وفيه وجوه:
أحدها: قال الحسن: المراد منه التَّخْلية يعنى الساحر إذا سحر إنساناً، فإن شاء الله تعالى منعه منه، وإن شاء خَلَّى بينه وبين ضرر السحر.
وثانيها: قال الأصم: المراد: «إِلاَّ يعلم الله» ، وإنما سمي الأذان أذاناً، لأنه إعلام للناس بدخول وقت الصلاة، وسمي الإيذان إيذاناً؛ لأن بالحاسة به تدرك الإذن، وكذلك قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج} [التوبة: 3] أي: إعلام، وقوله تعالى {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] معناه: فاعلموا، وقوله: {آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ} [الأنبياء: 109] يعنى: أعلمتكم.
وثالثها: أن الضرر الحاصل عند فعل السِّحر إنما يحصل بخلق الله، وإيجاده وإبداعه، وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى الله تعالى كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] .
ورابعها: أن يكون المراد بالإذن الأمر، وهذا الوجه لا يليق إلاَّ بأن يُفَسّر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافراً، والكفر يقتضي التفريق، فإنَّ هذا حكم شرعي، وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى.
قوله: «وَلاَ يَنْفَعُهُمْ» في هذه الجملة وجهان.
أحدهما: وهو الظاهر أنها عطف على «يضرهم» فتكون صلة ل «ما» أيضاً، فلا محلّ لها من الإعراب.
والثاني، وأجازه أبو البقاء: أن تكون خبراً لمبتدأ مضمر تقديره: وهو لا ينفعهم، وعلى هذا فتكون «الواو» للحال، والحملة من المبتدأ والخبر في محلّ نصب على الحال، وهذه الحال تكون مؤكّدة؛ لأن قوله: «ما يضرهم» يفهم منه عدم النفع.
قال أبو البقاء: ولا يصح عطفه على «ما» ؛ لأن الفعل لا يعطف على الاسم.
وهذا من المواضع المستغنى عن النصّ على منعها لوضوحها، وإنما ينص على منع شيء يتوهم جوازه.(2/352)
وأتى هنا ب «لا» لأنها ينفى بها الحال والاستقبال، وإن كان بعضهم خصّها بالاستقبال، والضُّرُّ والنفع معروفان، يقال ضَرَّهُ يَضُرُّهُ بضم الضاد، وهو قياس المضاعف المتعدِّي، والمصدر: الضَّر والضَّر بالضم والفتح، والضَّرَر بالفك أيضاً، ويقال: ضَارَةُ يَضِيرُهُ بمعناه ضَيراً؛ قال الشاعر: [الطويل]
715 - تَثُولُ أُنَاسٌ لاَ يَضِيرُكَ نَأْيُهَا ... بَلَى كُلُّ ما شَفَّ النُّفُوسَ يَضِيْرُهَا
وليس حرف العلة مبدلاً من التضعيف.
ونقل بعضهم: أنه لا يبنى من نفع اسم مفعول فيقال: منفوع، والقياس لا يأباه.
قوله: «وقد علموا» تقدم أن هذه اللاَّم جواب قسم محذوف.
و «علم» يجوز أن تكون متعدية إلى اثنين أو إلى واحد، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلَّقة عن العمل فيما بعدها لأجل اللام، فالجملة بعدها في محل نصب؛ إما سادّة مسدَّ مفعولين، أو مفعول واحد على حسب ما تقدم، ويظهر أثر ذلك في العطف عليها، فإن اعتقدنا تعديها لاثنين عطفنا على الجملة بعدها مفعولين، وإلا عطفنا واحداً، ونظيره في الكلام: علمت لزيد قائم وعمراً ذاهباً، أو علمت لزيد قائم وذهاب عمرو.
والذي يدل على أن الجملة المعلقة بعد علم في محل نصب وعَطْفَ المنصوب على محلها قولُ الشاعر: [الطويل]
716 - وَمَا كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ عَزَّةَ مَا الْهَوَى ... وَلاَ مُوجِعَاتِ القَلْبِ حَتَّى تَوَلَّتِ
روي بنصب «موجعاتِ» على أنه عطف على محل «ما الهَوَى» ، وفي البيت كلام إذ يحتمل أن تكون «ما» زائدة، «والهوى» مفعول به، فعطف «موجعاتِ» عليه، ويحتمل أن تكون «لا» نافية للجنس و «موجعاتِ» اسمها، والخبر محذوفٌ كأنه قال: ولا موجعاتِ القلبِ عنْدِي حتى تولَّتِ.
ةوالضمير في «علموا» فيه خمسة أقوال:
أحدها: ضمير الهيود الذين بحضرة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو ضمير من بحضرة سليمان، أو ضمير جميع اليهود، أو ضمير الشياطين أو ضمير الملكين عند من يرى أن الاثنين جمع.
قوله: «لَمَنِ اشْتَرَاهُ» في هذه اللام قولان:
أحدهما: وهو ظاهر قول النحاة أنها لام الابتداء المُعَلَّقة ل «عَلِمَ» عن العمل(2/353)
كما تقدم، و «مَنْ موصولة في محلّ رفع بالابتداء، و» اشتراه «صلتها وعائدها.
و {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} جلمة من مبتدأ وخبر، و» من «زائدة في المبتدأ، والتقدير: ماله خلاق في الآخرة.
وهذه الجملة في محل رفع خبر ل» من «الموصولة، فالجملة من قوله:» ولقد علموا «مقسم عليها كما تقدم، و» لَمَن اشْتَرَاهُ «غير مقسم عليها، هذا مذهب سيبويه رَحِمَهُ اللهُ تعالى والجمهور.
الثاني: وهو قول الفراء، وبتبعه أبو البقاء: أن تكونه هذه اللام هي الموطّئة للقسم، و «مَنٍ» شرطية في محل رفع بالابتداء، و {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} جواب القسم، ف «اشترااه» على القول الأول صلة، وعلى الثاني خبر لاسم الشرط، ويكون جواب الشرط محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرط وقسم، ولم يتقدمهما ذو خبر أجيب سابقهما غالباً، وقد يجاب الشرط مطلقاً كقوله: [الطويل]
717 - لَئِنْ كَانَ مَا حُدِّثْتُهُ الْيَوْمَ صَادِقاً ... أَصُمْ فِي نَهَارِ الْقَيْظِ لِلشَّمْسِ بَادِيَا
ولا يحذف جواب الشرط إلا وفعله ماض، وقد يكون مضارعاً كقوله: [الطويل]
718 - لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ رَبِّي أَنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
فعلى قول الفَرَّاء تكون الجملتان من قوله: «وَلَقَدْ عَلِمُوا» ، و «لَمَنِ اشْتَرَاهُ» مُقْسَماً عليهما ونقل عن الزجاج منع قول الفراء فإنه قال: هذا ليس موضع شرط ولم يوجه منع ذلك، والذي يظهر في منعه، أن الفعل بعد «مَنْ» وهو «اشْتَرَاهُ» ماض لفظاً ومعنى، فإن الاشتراء قد وقع وانفصل، فجعله شرطاً لا يصح؛ لأن فعل الشرط وإن كان ماضياً لفظاً، فلا بد أن يكون مستقبلاً معنى.
فصل في أوجه استعارة لفظ الشراء
واستعير لفظ الشراء لوجوه:
أحدها: أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظُهُورهم، وأقبلوا على التمسُّك بما تتلو الشَّياطين، فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى.(2/354)
وثانيها: أن المَلَكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة، فلما استعمل السحر، فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا.
وثالثها: أنهم تحملوا مشقة تعليمه ليستعملوه، فكأنهم أبدلوا الراحة في مقالبة التعليم لأجل الاستعمال. والخَلاَق: النصيب.
قال الزّجاج: أكثر استعماله في الخير.
فأما قول أميّة بن أي الصلت: [البسيط]
719 - يَدْعُونَ بالْوَيْلِ فِيهَا لاَ خَلاَقَ لَهُمْ ... إِلاَّ سَرَابِيلُ مِنْ قَطْرٍ وَأَغْلاَلُ
فيحتمل ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه على سبيل التهكُّم بهم؛ كقوله: [الوافر]
720 - ... ... ... ... ... ... ... . ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ َجِيعُ
والثاني: أنه استثناء منقطع، أي: لكن لهم السَّرَابيل من كذا.
الثالث: أنه استعمل في الشر على قلة.
والخلاق: القَدْر؛ قال: [المتقارب]
721 - فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ ... وَمَا لَكَ فِي غَالِبٍ مِنْ خَلاَقْ
أي: من قَدر ورتبة، وهو قريب من الأول.
قال القَفَّال رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق، ومعناه التقدير، ومنه: خلق الأديم، ومنه يقال: قدر للرجل كذا درهماً رزقاً على عمل كذا. والضمير المنصوب في «اشتراه» فيه أربعة أقوال: يعود على السحر، أو الكفر، أو كَيْلهم الذى باعوا به السحر، أو القرآن لتعويضهم كتب السحر عنه.
وتقدم الكلام على قوله: «وَلَبْئْسَ مَا» وما ذكر الناس فيها، واللام في «لبئسما» جواب قسم محذوف تقديره: والله لبئسما، والمخصوص بالذّّم محذوف أي: السحر أو الكفر.
قوله: «لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» جواب «لو» محذوف تقديره: لو كانوا يعلمون ذم ذلك(2/355)
لما باعوا به أنفسهم، وهذا أحسن من تقدير أبي البقاء: لو كانوا ينتفعون بعلمهم لامتنعوا من شراء السحر؛ لأن المقدر كلما كان مُتصَيَّداً من اللفظ كان أَوْلَى. والضمير في «به» يعود على السحر، أو الكفر، وفي «يعلمون» يعود على اليَهُودِ باتفاق.
قال الزمخشري: فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولاً في: «وَلَقَدْ عَلِمُوا» على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله: «لوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
قلت: معناه: لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه، وهذا بناء منه على أن الضميرين في «عَلِمُوا» و «يَعْلَمُونَ» لشيء واحد.
وأجاب غيره على هذا التقدير بأن المراد بالعلم الثاني العَقْل؛ لأن العلم من ثمرته، فلما انتفى الأصل انتفى ثمرته، فصار وجود العلم كعدمه حيث لم ينتفعوا به كما سمى الله تعالى، الكفار «صُمّاً وبُكْماً وعُمْياً» إذ لم ينتفعوا [بهذه الحواس] أو يغاير بين متعلّق العلمين أي: علموا ضرره في الآخرة، ولم يعلما نفعه في الدنيا.
وأما إذا أعدت الضمير في «علموا» على الشياطين، أو على مَنْ بحضرة سليمان، أو على الملكين، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم حينئذ.(2/356)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ} «لو» هنا فيها قولان:
أحدهما: أنها على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وسيأتي الكلام في جوابها، وأجاز الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى أن تكون للتمني أي: لَيْتَهُمْ آمنوا على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم، واختيارهم له، فعلى هذا لا يلتزم أن يكون لها جواب، لأنها قد تجاب بالفاء حينئذ، وفي كلامه اعتزال.
و «أنهم آمنوا» مؤول بمصدر، وهو في محل رفع، [وفيه قولان] أحدهما وهو قول سيبوبيه: أنه في محلّ رفع بالابتداء، وخيره محذوف تقديره: ولو كاان إيمانهم ثابت، وشذّ وقوع الاسم بعد «لو» ، وإن كانت مختصة بالأفعال، كما شذ نصب «غدوة» بعد «لدن» .
وقيل: لا يحتاج هذا المبتدأ إلى خبر لجريان الفظ المسند والمسند إليه في صلة «أنَّ» .
وصحح أبو حَيَّان هذا فى سورة «النساء» وهذا يشبه الخلاف في «أن» الواقعة بعد «ظنّ وأخواتها» ، وتقدم تحقيقه.(2/356)
والثاني: وهو قول المبرد أنه في محلّ رفع بالفاعلية، رافعه محذوف تقديره: ولو ثبت إيمانهم؛ لأنها لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً أو مضمراً، وقد ردّ بعضهم هذا بأنه لا يضمر بعدها الفعل إلا مفسَّراً بفعل مثله، ودليل كلا القولين مذكور في كتب النحو. والضمير في «أنهم» فيه قولان:
أحدهما: عائد على اليهود،
والثاني: على الذين يعلمون [الناس] السحر.
قال ابن الخطيب: إنَّ الله تعالى لما قال: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة: 101] ثم وصفهم بأنهم {اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} ، وأنهم تسّكوا بالسحر قال بعد: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ} يعنى بما بنذوه من كتاب الله.
فإن حملت ذلك على القرآن جاز، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز، وإن حملته على الأمرين جاز، والمراد بالتقوى الاحتراز عن فعل المنهيات، وترك المأمورات.
قوله تعالى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ اللهِ} .
في هذه اللام قولان:
أحدهما: أنها لام الابتداء، وأن مابعدها استئناف إخبار بذلك، وليس متعلقاً بإيمانهم وتقواهم، ولا مترتباً عليه، وعلى هذا فجواب «لو» محذوف إذا قيل بأنها ليست للتمني، أو قيل بأنها للتمني، ويكون لها جواب تقديره: لأثيبوا.
والثاني: أنها جواب «لو» ، فإن «لو» تجاب بالجملة الاسمية.
قال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب «لو» لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المَثُوبَةِ واستقراراها، كما عَدَلَ عن النصب إلى الرفع في {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] لذلك. [وفي] وقوع جواب «لو» جملة إسمية نظر يحتاج إلى دليل غير مَحلّ النزاع.
قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لم يعهد في كلام العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً ل «لو» ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه، ولا تَثْبُت القواعد الكلية بالمحتمل.
والمثوبة فيها قولان:
أحدهما: أن وزنها «فعولة» ، والأصل مَثْوُوبَة، فَثَقُلَت الضَّمة على «الواو» ، فنقلت إلى الساكن قبلها، فالتقى ساكنان فحذف أحدهما مثل: مَقُولة ومجوزة ومصونة ومشوبة(2/357)
وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول، فهي مصدر نقل ذلك الواحدي.
والثاني: أنها «مَفْعُلَة» من الثواب بضم العين، وإنما نقلت الضّمّة إلى الثاء، ويقال: «مَثْوبَة» بسكون الثاء وفتح الواو، وكان من حَقّها الإعلال فيقال: «مثابة» ك «مقامة» ، إلا أنهم صححوها كما صححوا في الإعلال «مَكْرَزَة» ، وبذلك قرأ أبو السمال وقتادة كمشورة. ومعنى «المثوبة» أي: ثواب وجزاء من الله.
وقيل: لرجعة إلى الله تعالى خير.
قوله: {مِنْ عِنْدِ اللهِ] في محلّ رفع صفة «لمثوبة» ، فيتعلّق بمحذوف، أي: لمثوبة كائنة من عند الله تعالى.
والعندية هنا مجاز تقدم في نظائره.
قال أبو حيان: وهذا الوصف هو المسوغ لجواز الاتبداء بالنكرة.
قلت: ولا حاجة إلى هذا؛ لأن المسوغ هنا شيء آخر، وهو الاعتماد على لام الابتداء، حتى لو قيل في الكلام: {لَمَثُوبَةٌ خَيْرٌ] من غير وصف لصح.
والتنكير في «لمثوبة» يفيد أن شيئاً من الثواب وإن قلّ خير، فذلك لا يقال له قليل، ونظيره: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] .
وقوله: «خَيْرٌ» خبرٌ «لِمَثُوبَة» ، وليست هنا بمعنى «أفعل» التفضيل، بل هي لبيان أنها فاضلة، كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ} [فصلت: 40] .
قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} جوابها محذوف تقيدره: لكان تحصيل المثوبة خيراً، أي: تحصيل أسبابها من الإيمان والتقوى، وكذلك قَدّره بعضهم: لآمنوا.
وفي مفعول «يعلمون» وجهان:
أحدهما: أنه محذوف اقتصاراً أي: لو كانا من ذوي العلم.
والثاني: أنه محذوف اختصاراً تقيدره: لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك، أو يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى.(2/358)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة(2/358)
وَالسَّلَام ُ أراد أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجدّهم واجتهادهم في القَدْحِ فيه والطعن في دينه.
واعلم أنّ الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: «وكان يخاطب في التوراة بقوله: يا أيها المَسَاكين» .
فصل في لفظ راعنا
روي أن المسلمين كانوا يقولون: راعنا يا رسول الله من المُرَاعاة، أيك راعنا سمعك أي فَرّغ سمعك لكلامنا، يقال: رعى إلى الشيء وَرَعَاه، أي: أَصْغى إليه وأسمعه، وكانت هذه اللفظة شيئاً قبيحاً بلغة اليهود.
وقيل: معناه عندهم اسمع لا سمعت.
وقيل: هو من الرُّوعنة، وإذا أرادوا أن يحمقوا إنساناً قالوا: راعنا بمعنى يا أحمق، فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهمك كنا نسبُّ محمداً سرًّا، فأعلنوا به الآن، فكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن مُعَاذٍ، ففطن لها، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه سولم لأضربن عُنُقه قالوا: أو لستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: {يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولوا: رَاعِنَا} لكي لا يتخذ اليهود ذلك سبيلاً إلى شَتْم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَقُولُوا أنْظُرْنَا} ويدلّ على هذا قوله تعالى في سورة «النساء» : {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين} [النساء: 46] .
قال قُطْرب: هذه الكليمة وإن كانت صحيحة المعنى، إلاّ أن أهل «الحجاز» ما كنةوا يقولونها إلاّ عند الهَزْل والسخرية، فلا جرم نهى الله عنها.
وقيل: إن اليهود كانوا يقولونك راعنا أيك أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها.
وقيل: قوله: «راعنا» خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول: راعِ كلامي فلا تغفل عنه،(2/359)
ولا تشتغل بغيره، وليس في قوله: «انظرنا» إلا سؤال الانتظار إلى مقدار ما يصل إلى فهم كلامه.
والجمهور على أن «راعنا» أمر من المُرَاعاة، وهيى النظر في مصالح الإنسان، وتدبر أموره، و «راعنا» يقتضي المشاركة؛ لأن معناه: ليكن منك رعاية لنا، وليكن منا رعاية لك، فنهوا عن ذلك؛ لأن فيه مساواتهم به عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وبين أنه لا بد من تعظيم الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المُخَاطبة كما قال تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] .
وقرأ الحسن وابو حيوة: «رَاعِناً» بالتنوين، ووجهه أنه صفة لمصدر محذوف، أي: قولاً راعناً، وهو على طريق النسب ك «لابنٍ] و» تامِرٍ «، والمعنى: لا تقولوا قولاً ذا رُعونَةٍ.
والرعونة: الجهل والحُمقُ والهَوَج، وأصل الرعونة: التفرُّق، ومنه: «جيشٌ أرْعَنُ» أي: متفرِّق في كل ناحية، ورجلٌ أَرْعَنُ: أي ليس له عَقْل مجتمع، وامرأة رَعْنَاء.
وقيل للبَصْرَة: الرعْنَاء؛ قال: [البسيط]
722 - لَوْلاَ ابْنُ عُتْبَةَ عضْرٌو والرَّجَاءُ لَهُ ... مَا كَانَتِ البَصْرَةُ الرَّعْنَاءُ لِي وَطَنا
قيل: سميت بذلك لأنها أشبهت «رَعُنَ الجَبَل» وهو النَّاتيىء منه.
وقال ابن فارس: يقال: «رَعُنَ الرجل يَرْعُنَ رَعْناَ» .
وقرأ أُبيّ، وزرُّ حُبَيش، والإعمش ذكرها القرطبي «راعونا» ، وفي مصحف عبد الله كذلك، خاطبوه بلفظ الجمع تعظيماً، وفي مصحف عبد الله أيضاً «ارعونا» لما تقدم.
والجملة في محل نصب بالقول، وقدم النهي على الأمر؛ لأنه من باب التروك فهو أسهل.
فإن قيل: أفكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعجل عليهم حتَّى يوقلوا هذا؟ فالجَوَاب من وجهين:
أحدهماك أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام، وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثة: اسمع أو سمعت.
الثاني: أنهم فسروا قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} {القيامة: 16] أنه عليه السلام كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل عليه السلام حرصاً على تحصيل الوَحْي، وأخذ القرآ،، فقيل له: لا تحرّك به لسانك لتعجل به، فلا يبعد أن يجعل فيما(2/360)
يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصاً على تعجيل أفهامهم، فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام.
قوله: «انْظُرْنَا» الجملة أيضاً في محلّ نصب بالقول، والجمهور على انظرنا [بالوصل] الهمزة، وضم الظاء أمراً من الثلاثي، وهو نَظَر من النَّظِرَة، وهي التأخير، أي: أخرنا وتأَنَّ عَلْينا؛ قال امرؤ القَيْسِ: [الطويل]
723 - فَإنّكُمَا إنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَي أُمِّ جُنْدَبِ
وقيل: هو من نظر أي: أَبْصَرَ، ثم اتُّسع فيه، فعدّي بنفسه؛ لأنه في الأصل يتعدى ب «إلَى» ؛ ومنه: [الخفيف]
724 - ظَاهِرَاتُ الجَمَالِ وَالحُسْنِ يَنْظُرْنَ ... كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّبَاءُ
أي: إلى الأراك.
وقيل: من نظر أي: تفكر ثم اتسع فيه أيضاًن فإن أصله أن يتعدّى ب «في» ، ولا بد من حذف مضاف على هذا أي: انظر في أمرنا، وقرأ أبيّ والأعمش: «أنْظِرْنَا» بفتح الهمزة وكسر الظاء أمراً من الرباعي يمعنى: أَمْهِلْنَا وأَخِّرْنَا؛ قال: [الوافر]
725 - أَبَا هِنْدٍ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْنَا وأنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ اليَقِينَا
أي: أمهل علينا، وهذه القراءة تؤيد أن الأول من النَّظِرَةِ بمعنى التأخير، لا من البَصَر، ولا من البَصِيرَة، وهذه الآية نظير [آية] الحديد
{انظرونا نَقْتَبِسْ} [الحديد: 13] فإنها قرئت بالوجيهن.
قوله: «وَاسْمَعُوا» حصول السماع عند سلامة الحاسّة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر، فلا يجوز وقوع الأمر به، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة:
أحدها: فرغوا أسماعكم لما يقول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة.
[وثانيها: اسمعوا سماع قبول وطاعة، ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا] .(2/361)
وثالثها: اسمعوا ما أمرتكم به حتى لا ترجعوا إلى مانهيتم عنه تأكيداً عليهم، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطيقة من الإعظام والتبجيل والإصْغَاء إلى ما يقول.
وقتدم الكلام على معنى «العذاب الأليم» .(2/362)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
لما بين حال اليهود والكفار في العَدَاوة والمعاندة وصفهم بما يوجب الحّذَر منهم فقال: {ما يُوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «فنفى عن قلوبهم الودّ والمحبة لكلّ ما يظهر به فضل المؤمنين.
قوله: {مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} : في» من «قولان:
أحدهما: أنها للتعبيض، فتكون هي ومجرورها في محلّ نصب على الحال، وتعلّق بمحذوف أي: ما يودّ الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب.
والثاني: أنها لبيان الجنس، وبه قال الزمخشري؛ لأن» الذين كفروا «جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون بدليل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] .
قوله: {وَلاَ المُشْرِكِينَ} عطف على» أهل «المجرور ب» من «و» لا «زائدة للتوكيد؛ لأن المعنى: {ما يود الذين كفورا من أهل الكتاب والمشركين} كقوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] بغير زيادة» لا «.
وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار، وأن الأصل ولا المشركون، عطفاً على الذين، وإنما خفض للمجاورة، نحو {بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] فى قراءة الجر، وليس بواضح.
وقال النحاس: ويجوز: ولا المشركون بعطفه على» الذين «وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ: وإن كان قد قرىء:» وَلاَ المُشْرِكُونَ «بالرفع فهو عطف على الفاعل، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك وهذان القولان يؤيدان ادّعاء الخفش على الجوار.
قوله:» أنْ يُنَزّلَ «ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول ب» يؤدّ «أيى: ما يود إنزاله من خير، وبني الفعل للفعول للعمل بالفاعل؛ وللتصيح به في قوله:» مِنْ ربِّكُمْ «، وأتي ب» ما «في النفي دون غيرها؛ لأنها لنفي الحال، وهم كانوا متلبّسين بذلك.(2/362)
قال القُرْطبي: و» أن «في موضع نصب، أي بأن ينزل.
قوله:» مِنْ خَيْرٍ «هذا هو القائم مقام الفاعل، و» من «زائدة، أي: أن ينزل خير من ربكم.
وحسن زيادتها هنا، وإن كان» ينزل «لم يباشره حرف النفي؛ لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى؛ لأنه إذا نفيت الوَدَادَة انتفى متعلّقها، وهذا له نظائر في كلامهم نحو:» ما أظن أحداً يقول ذلك إلاّّ زيد «برفع» زيد «بدلاً من فاعل» يقول «وإن لم يباشر النفي، لكنه قوة:» ما يقول أحد ذلك إلاَّ زيد في ظني «.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} [الأحقاف: 33] زيدت» الباء «؛ لأنه في معنى: أو ليس الله بقادر، وهذا على رأي سيبويه وأتباعه.
وأما الكوفيّون والأخفش فلا يحتاجون إلى شيء من هذا.
وقيل «من» للتبعيض، أي: ما يودون أن يُنَزَّل من الخير قليل ولا كثير، فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل: «عليكم» ، والمعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخُيُور.
والمراد بالخير هنا الوَحْي.
والمعنى: أنهم يرون أنفسهم أحقّ بأن يوحى إليهم فيحسدونكم، فبيّن سبحانه وتعالى أن حسدهم لا يؤثّر في زوال ذلك بقوله: {اللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} .
قوله: «مِنْ رَبِّكُمْ» في «من» أيضاً قولان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية، فتتعلّق ب «ينزّل» .
والثاني: أنها للتبعيض، ولا بد حينئذ من حّذْف مضاف تقديره: من خُيُور ربّكم، وتتعلق حينئذ بمحذوف، لأنها ومجرورها صفة لقولهك «من خير» أي: من خير كائن من خُيُور ربكم، ويكون في محلّها وجهان:
الجر على اللفظ، والرفع على الموضع، لأن «من» زائدة في «خير» ، فهو مرفوع تقديراً لقيامه مقام الفاعل كما تقدم.
وتلخص مما تقدم أن في كل واحدة من لفظ «ممن» قولين:
الأول: قيل: إنها للتبعيض، وقيل: أو لبيان الجنس.
وفي الثانية قولان: زائدة أو للتعبيض.
وفي الثالثة: أيضاً قولان: لابتداء الغاية، أو التبعيض.
قوله: {واللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} هذه جملة ابتدائية تضمنت ردّ وَدادَتهم ذلك.(2/363)
و «يختص» يحتمل أن يكون متعدياً، وأن يكون لازماًن فإن كانت متعدياً كان فيه ضمير يعود على الله تعالى، وتكن «من» مفعولاً به أي يختص الله الذي يشاؤه برحْمته، ويكون معنى «افتعل» هنا معنى المجرد نحو: كسب مالاً واكتسبه، وإن كان لازماً لم يكن فيه ضمير، ويكون فاعله «من» أي: والله يختصّ برحمته الشَّخً الذي يشاؤه، ويكون «افتعل» بمعنى الفاعل بنفسه نحو: اضطراب، والاختصاص ضد الاشتراك، وبهذا [يتبين فساد] قول من زعم أنه هنا متعدّ ليس غلاّ.
و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة، وعلى كلا التقديرين فلا بد من تقدير عائد، أي: يشاء اختصاصه.
ويجوز أن يمضن «يشاء» معنى يختار، فحينئذ لا حاجة إلى حَذْف مضاف، بل تقدره ضميراً فقط أي: يشاؤه، و «يشاء» على القول الأول لا محلّ له لكونه صلةً، وعلى الثاني محلّه النَّصب، أو الرفع على [حسب] ما ذكر في موصوفه من كونه فاعلاً أو مفعولاً.
فصل في تفسير الرحمة في الآية
قال علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْه: «يختصّ برحمته» أي بنبوّته، خص بها محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: الرحمة القرآن.
وقيل: هنا عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديماً وحديثاُ.(2/364)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
اعلم أن المشركين طعنوا في الإسلام قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمرن ثم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً، وغداً يرجع عنه، كما قال تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] فنزلت هذه الآية.
فى «ما» قولان:
أحدهما وهو الظاهر أنها مفعول مقدم لأ «ننسخ» ، وهي شرطية أيضاً جازمة ل «ننسخ» ولكنها واقعة موصع المصدر، و «من آية» هو المفعول به، والتقدير: أي شؤء ننسخ كقوله: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} [الإسراء: 110] ، أو: أيَّ نَسْخ نَنْسَخ من آية، قاله ابو البقاء وغيره، وقالوا: مجيء «ما» مصدراً جائز؛ وأنشدوا: [الكامل](2/364)
726 - نَعَبَ الغُرَابُ فَقُلْتُ بَيْنٌ عَاجِلٌ ... ما شئْتَ إذْ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فَانْعَبِ
ورد هذا القول بشيئين:
أحدهما: أنه يلزم خلوّ جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط، وهو غير جائز، لما تقدم عند قوله: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] .
والثاني: أن «مِنْ» لا تزاد في الموجب، والشرط موجب، [وهذا فيه خلاف لبعض] البصريين أجاز زيادتها في الشرط؛ لأنه يشبه النفي، ولكنه خلاف ضعيف.
وقرأ ابن عامر: «نُنْسِخْ» بضم النون، وكسر السين من «أنسخ» .
قال ابو حاتم: «هو غلط» وهذه جُرْأة منه على عادته.
وقال أبو علي: «ليست لغة» ؛ لأنه لا يقال: نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي للتعدية؛ لأن المعنى يجيْ: ما نكتب من آية، وما ننزل من آية، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً، وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى: ما نَجِده منسوخاً كما يقال: أحمدته وأبخلته، أي: وجدته كذلكن ثم قالك «وليس نجده منسوخاً إلاّ بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى، وإن اختلفتا في اللفظ» .
فالهمزة عنده ليست للتعدية. وجعل الزمخشري، وابن عطية الهمزة للتعدية، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعول الأول المحذوف، وفي معنى الإنساخ، فجعل الزمخشري المفعول المحذوف جبريل عليه السّلام، الإنساخ هو الأمر بنسخها، أي: الإعلام به.
وجعل ابن عطية المعفول ضمير النبي عليه السلام، والإنساخ إباحة النَّسْخ لنبيه، كأنه لما نسخها أباح له تركها، فسمى تلك الإباحة إنساخاً.
وخرج ابن عطية القراءة على كون الهمزة للتعدية من وجه آخر، وهو من نسخ الكتاب، وهو نقله من غير إزالة له.
قال: ويكون المعنى: ما نكتب وننزل من اللَّوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه، ونتركه فلا ننزله، أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في «منها» و «بمثلها» عائدين على الضمير في «نَنسَأْهَا» .
قال ابو حيان: وذهل عن القاعدة، هي أنه لابد من ضمير يعود من الجزاء(2/365)
على اسم الشرط، و «ما» في قوله: «ما ننسخ» شرطية، وقوله: «أو ننسأها» عائد على الآية، وإن كان المعنى ليس عائداً عليهها من حيث اللفظ والمعنى، بل إ‘نما يعود عليها من حيث اللفظ فقط نحو: عندي درهم ونصفه، فهو في الحقيقة على إضمار «ما» الشرطية، التقدير: أو ما ننسأ من آية ضرورة أن المنسوخ غير المنسوء، ولكن يبقى قوله: ما ننسخ من آية مفلتاً من الجواب؛ إذ لا رابط يعود منه إليه، فبطل هذا المعنى الذى قاله.
والنسخ في اللغة هو الإزالة من غير بدل يعقبه، يقال: نسخت الكتاب: إذا نقلته، وتناسخ الأرواح، وتناسخت القرون.
وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً من الاول.
دليل الاول أنه إذا نسخه الأثر والظّل، فهو إعدامه؛ لأنه قد لا يصحل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه.
وقال تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} [الحج: 52] أي: فيزيله ويبطله، والأصل في الكلام الحقيقة. وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب ألاَّ يكون حقيقة في النقل دفعاً للاشتراك.
فإن قيل: الريح والشمس ليسا مزيلين للأُر والظل في الحقيقة، وإنما المزيل في الحقيقة هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة(2/366)
في مدلوله، ثم نعارض ما ذكرتموه، [ويقال] : النسخ هو النقل والتحويل، [ومنه نسخه الكتاب إلى كتاب آخر، كأنه ينقله إليه، أو ينقل حكياته] كما قلنا في نسخ الكتاب والأرواح والقُرون والمواريث، فإنه تحويل من واحد إلى آخر.
وإذا كان كذلك فيكون حقيقة في النقل مَجَاز في الإبطال دفعاً للشتراك.
[وأجيب] عن الأول من وجهين:
أحدهما: أنه لا يتمنع أن يكون الله تعالى، هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل التشمس والريح والمؤثرتين في تلك الإزالة، ويكونان ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير.
والثانيك أن أ÷ل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح، فَهَبْ أنه لكن تمسكنا بإطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لإسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس.
وعن الثاني: أن النقل أخصّ من الإبطال، لأنه حيث وجد النقل، فقد عدمت صفة، وحصل عقيبها صفة أخرى، فإن مطلق العدم أهم من عدمه يحصل عقيبه شيء آخر، وإذا دار اللَّفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى. وقال آخر: [والنسخ: الإزالة، وهو في الغة على ضربين:
ضرب فيه إزالة شيء وإقامة غيره مقامه نحه: نسخت الشمس الظل، إذا أزالته وقامت مقامه.
والثاني: أن يزيله كما تزيل الريح الأثر] .
قوله: «مِنْ آيةٍ» «من» للتبعيض، فهي متعلقة بمحذوف؛ لأنها صفة لاسم الشرط، ويضعف جعلها حالاً، والمعنى: أي شيء ننسخ من الآيات، ف «آية:» مفرد وقع موقع الجمع، وكذلك تخريج كل ما جاء من هذا التركيب: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] ، هذا المجرور هو المخصص والمبين لاسم الشرط؛ وذلك أن فيه إبْهَاماً من جهة عمومه، ألا ترى أنك لو قلتك «من يكرم أكرم» تناول النساء والرجال. فإذا قلت: «من الرحال» بيّنت وخصّصت ما تناوله اسم الشرط.
وأجاز أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى فيها وجهين آخرين:
أحدهما: أنها في موضع نصب على التمييز، والمُمَيَّز «ما» ولتقدير: أيَّ شيء(2/367)
ننسخ، قال: ولا يحسن أن تقدر: أي آية ننسخ، لأنك لا تجمع بين «آية» ، وبين المميز بآية، لا تقول: أي آية ننسخ من آية، يعنى أنك لو قدرت ذلك لا ستغنيت عن التمييز.
والثاني: أنها زائدة و «آية» حال، والمعنى: أي شيء ننسخ قليلاً أو كثيراً، وقد جاءت «آية» حالاً في قوله: {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} [الاعراف: 73] أي: «علامة» وهذا فاسد؛ لأن الحال لا تجر ب «من» ، وقد تقدم أنه مفعول بها، و «من» زائدة على القول يجعل «ما» واقعة موقع المصدر، فهذه أربعة أوجه.
قوله تعالى: «أوْ نُنْسِهَا» «أو» [هنا للتقسيم] ، و «نُنْسِهَا» مجزوم عطفاً على فعل الشرط قبله.
وفيها ثلاث عشرة قراءة: «نَنْسَأَهَا» بفتح حرف المضارعةن وسكون النون، وفتح السين مع الهمزة، وبها قرأ أبو عمرو وابن ك ثير.
الثانية: كذلك إلا أنه بغير همزن ذكرها أبو عبيد البكري عن سعد بن أبي وَقّاص رَضِيَ اللهُ عَنْه.
قال ابن عطية: «وأرواه وهم» .
الثالثة: «تَنْسَها» بفتح التاس التي للخطاب، بعدها نون ساكنة وسين مفتوحة من غير همز، وهي قراءة الحسن، وتروى عن ابن أبي وقاص، فقيل لسعد بن أبي وقاص: «إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال: إن القرآن لم ينزل على المسيب، ولا على ابن المسيب» وتلا: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] يعني سعد بذلك أن نسبة النسيان إليه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ موجودة في كتاب الله، فهذا مثله.
الرابعة: كذلك إلا أنه بالهمز.(2/368)
الخامسة: كذلك إلا أنه بضم التاء، وهي قراءة أبي حيوة.
السادسة: كذلك إلا أنه بغير همز، وهيى قراءة سعيد ابن المسيب.
السابعة: «نُنْسِهَا» بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر السين من غير همز، وهي قراءة باقي السبعة.
الثامنة: كذلك إلا أنه بالهمزة.
التاسعة: نُنَسِّها بضم احرف المضارعة وفتح النون وكسر السين [مشددة، وهي قراءة الضَّحاك، وأبي رجاء.
العاشرة: «نُنْسِك» ، بضمّ حرف المضارعة، وسكون النون، وكسر السين، وكاف بعدها للخطاب.
الحادية عشرة:] كذلك إلا أنه بفتح النون الثانية، وتشديد السين مكسورة، وتروى ع الضحاك، وأبى رجاء أيضاً.
الثانية عشرة: كذلك إلاَّ أنه بزيادة ضمير الآية بعد الكاف «نُنَسِّكَها» وهي قراءة حذيفة، وكذلك هي في مصحف سالم مولاه.
الثالثة عشرة: «ما نُنْسِك من آية أو نَنْسخْها فَجِيءْ بمثلها» وهي قراءة الأعمش، وهكذا ثبت في مصحف عبد الله.
فأما قراءة الهَمْز على اختلاف وجوهها، فمعناها التأخير من قولهم: نَنَسأَ الله، وأنسأ الله في أَجَلك أي: أَخَّرَهُ، وبِعْتُه نَسِيئَةً أي متأخراً.
وتقول العرب: نَسَأْت الإبل عن الحوض أنْسَؤُهَا نَسْئاً، وأنسأ الإبل: إذا أخرها عن ورودها يومين فأكثرن فمعنى الآية على هذا فيه ثلاثة أقوال:
أحدهاك نؤخر نسخها، ونزولها، وهو قول عطاء.
الثاني: نمحها لفظاً وحكماً، وهو قول ابن زيد.
الثالث: نُمضها فلا نَنْسَخْها، وهو قول أبي عبيد، [قال الشاعر: [الطويل](2/369)
727 - أَمُونٍ كَألوَاحِ الإِرَانِ نَسَأْتُهَا ... عَلَى لاَحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ]
وهو ضعيف لقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} ؛ لأن ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يقال فيه: فَأْت بخير منه.
وأما قراءة غير الهمز على اختلاف وجوهها أيضاً ففيها احتمالان:
أظهرهما: أنها من النِّسْيَان، وحينئذ يحتمل أن يكون المراد به في بعض القراءات ضدّ الذكر، وفي بعضها الترك.
فإن قيل: وقوع هذا النيسيان [يتمنع] عقلاً ونقلاً.
أما العقل فلأن القرآن لا بدّ من انتقاله إلى أهل التواتر، والنيسان على أهل التواةتر بأجمعهم ممتنع.
وأما النقل فلقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
والجواب عن الأول من وجهين:
الأول: أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن، وإخراجه من جلمة ما يلتى، ويؤتى به في الصَّلاة ويحتج به، فإذا زال حكم التعبُّد به قال: العهد نسي، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد، فيصير لهذا الوجه منسياً من الدصورن وأيضاً روى: أنهم كانوا يقرءون السور، فيصبحون وقد نسوها. وعن الثاني أنه معارض بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَآءَ الله} [الأعلى: 6، 7] وبقوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] .
والثاني: أن أصله الهمز من النَّسِيء، وهو التأخير، إلا أنه أبدل من الهمز ألف فحينئذ تتحد القراءتان.
ثم من قرأ من القراء: «ننساها» من الثلاثي فواضح.
وأما من قرأ منهم من «أَفْعَل» ، وهم نافع وابن عامر والكوفيون، فمعناه عندهم: «نُنْسِكها» ، أي: نجعلك ناسياً لها، أو يكون المعنى نأمر بتركهان يقال: أنسيته الشيء، أي: أمرته بتركه، ونَسِيتُهُك تَرَكْتُهُ؛ وأنشدوا: [الرجز]
728 - إنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أَقْضِيهَا ... لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلاَ مُنْسِيهَا
أي: لا تاركها ولا آمراً بتركها.(2/370)
وقال الزجاج: «هذه القراءة لا يتوجّه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك» .
قال الفارسي وغيره: «ذلك متّجه؛ لأنه بمعنى نجحعلك تتركها» ، وضعف الزجاج أيضاً تحمل الآية على معنى النسيان ضد الذكر وقال: إن هذا لم يكن له عليه السلام ولا نسي قرآناً.
[بدليل] قوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] ، أي: لم نفعل شيئاً من ذلك.
وأجاب الفارسي بأن معناه لم نذهب بالجميع.
قوله تعالى: «نَأتِ» هو جواب الشرط، ودجاء فعل الشرط والجزاء مضارعين، وهذا التركيب أفضح التراكيب، أعن: مجيئها مضارعين.
قوله: «بِخَيْرٍ مِنْهَا» متعلّق ب «نَأْتِ» ، وفي «خير» هنا قولان:
الظاهر منهما: أنها على بابها من كونها للتفضيل، وذلك أن الآتي به إن كان أخفّ من المنسوخ، أو المسنوء، فخيريته بالنسبة إلى سقوط أعباء التكليف، وإن كان أثقل فخيرته بالنسبة إلى زيادة الثواب. وقوله تعالى: «أو مثلها» أي: في التكليف والثواب، وهذا واضح.
والثاني: أن «خيراً» هنا مصدراً، وليس من التفضيل في شيء، وإنما هو خير من الخُيُور، كخير في قوله: {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105] و «من» لابتداء الغاية، والجار والمجرور صفة لقوله «خير» أي: خير صادر من جهتها، والمعنى عند هؤلاء: ما ننسخ من آية أو نؤخّرها نَأْت بخير من الخيور من جهة المَنْسوخ أو المنسوء.
وهذا بعد جدّاً لقوله بعد ذلك: «أوْ مِثْلِهَا» فإنه لا يصح عظفه على «بخير» على هذا المعنى، اللهم إلا أن يقصد الخير عد التكليف، فيكون المعنى: نأت بخير من الخُيُور، وهو عدم التكليف، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء. وأما عطف «مثلها» على الضمير في «منها» ، فلا يجوز إلأَ عند الحكوفيين لعدم أعادة الخافض. وقوله: «مَا نَنْسَخْ» فيه التفات من غَيْبة إلى تكلم، ألا ترى أن قبلة «وَاللهُ يَخْتَصُّ» «واللهُ ذُو الفَضْلِ» .
فصل في بيان معنى النسخ
قال ابن الخطيب: الناسخ عبارة عن طريق شرعي يدلّ على إزالة الحكم الذى كان ثابتاً بطريق شرعي.(2/371)
والنسخ جائز عقلاً واقع سمعاً، ومن الهيود من أنكره عقلاً، منهم من جَوّزه عقلاً، ومنع منه سمعاً.
ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ.
واحتد الجمهور من المسلمين على جواز ووقوعه؛ لأن الدلائل دلّت على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونبوته لا تصحّ غلا م القول بنسخ شرع من قبله، فوجب القط بالنَّسْخِ.
على اليهود إلزامان.
الأول: جاء فى التوراة أن الله تعالى قال لنوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، عند خروجه من الفلك: «إني جعلت كل دابة مأكلاً لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب وما خلا الدّم فلا تأكلوه» .
ثم إنه تعالى حرم على موسى، وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان.
الثاني: كان آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يزوج الأخت من الأخ، وقد حرمه بعد ذلك على موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعلى غيره.
قال منكر النَّسخ: لا نسلم أن نبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا تصح إلاَّ مع القول بالنسخ، لأن من الجائز أن يقال: إن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام [أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثم بعد ذلك أمر النَّاس باتّباع محمد عليه الصلاة السلام، فعند ظهور شرع محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ زل التكليف بشرعهما، وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة السلام لكنه] لا يكون ذلك نَسْخاً، بل جارياً مجرى قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] ومن أنكر وقوع النسخ من المسلمين بنوا مذهبهم على هذا الحرف، وقالوا: قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قد بشرا في التَّوْرَاة والإنجيل بمبعث محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأن عند ظهوره يجب الرُّجُوع إلى شرعه، وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بقوع النسخ.
فصل فى حجج منكرى النسخ
احتج مكرو النَّسْخ بأن قالوا: إن الله تعالى لما بيّن شرع عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فاللفظ الدال على تلك الشريعة، إما أن يقال: إنها دالة على دوامها، أو لا يدل على دوامها، أو [لم يكن] فيها دلالة على الدوام، ولا على [عدم الدوام] ، فإن بيّن فيها ثبوتها على الدوام، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذباً؛ لأنه غير جائز على الشرع، وأيضاً فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق غلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخاً(2/372)
في شرع موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مع أنهما لم يدوما، زال الوثوق عنه في كل الصور.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: ذرك اللفظ الدَّال على الدوام، ثم قرن به ما يدلّ على أنه سينسخه أو ما قرب به إلا أنه نصّ على ذلك، إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة؟
قلت: هذا ضعيف لوجوه:
أحدها: أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جميع بين كلامين متناقضين.
وثانيها: على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخاً، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضاًح لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضاً، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ؛ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التى تتوفّر فيها الدواعي على نقله، وما كان كذلك وجب اشتهاره، وبلوغه إلى حَدّ التواتر، وإلا فلعلّ القرآن عورض، ولم تنقل معارضته، ولعلّ محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غير هذا الشرع من هذا الوضع، ولم ينقلن [وإذا كان ذلك غير جائز وجب] أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر، فنقول: لو أن الله تعالى نصّ في زمان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهوراً لأهل التواتر، وكان معلوماً لهم بالضرورة، ولو كان كذلك لاستحال مُنَازعة الجمع العظيم فيه، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمان أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخيني.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: [إن الله تعالى نص على شرع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم] .
فهذا باطل لما بت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة لأهل التواتر.
وأيضاً فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخاً، بل يكون ذلك انتهاء للغاية.
وأما القسم الثالث: وهو أنه [تعالى نص على شرع موسى عليه الصلاة السلام ولم يبيّن فيه كونه دائماً، أو كونه غير دائم] فنقول: إنه ثبت في أصول الفقة أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار، وإ‘نما يفيد المرة الواحدة، فإذا أتى المكلف بالمرة(2/373)
الواحدة، فقد خرج عن عُهْدة الأمر، فورود أمر آخر بعد ذلك لايكون نَسْخاً للأمر(2/374)
الأول، فثبت بهذا التقيسم أن القول بالنسخ مُحَال.
فصل في تحرير محلّ الاستدلال بالآية
قال ابن الخطيبك والاستدلال بهذه الآية على وقوع النَّسخ ضعيف؛ لأن «ما» هاهنا تفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك: «من جائك فأكرمه» لا يدعل على حصول المجيء، بل على أنه متى جاء وَجَبَ الإكرام،، فكذا هذه الآية لا تدلّ على حصول النسخ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه، فالأقوى أن تعوّل في الإثبات على قوله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] وقوله: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39] .
فصل في فوائد معرفة النسخ
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: معرفة هذا الباب أكيدةٌ عظيمة، لا يستغنى عن معرفته العلماءن ولا ينكره إلا الجَهَلة؛ لما يترتب عليه من الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام.
روى أبو البختي قالك دخل علي رَضِيَ اللهُ عَنْه المسجد، فإذا رجل يخوف الناس؛ فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس؛ فقال: ليس برجل يذكر الناس {لكنه يقول: أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟} فقال: لا؛ قال: فأخرج من مسجدنا ولا تُذكِّر فيه.
وفي رواية أخرى: أَعَلِمْتَ الناسخ والمنسووخ؟ قال: لا؛ قال: قد هلكت وأهلكت! .
ومثله عن ابن عباس رضى الله عنهما.
فصل في أن للناسخ حقيقة هو الله
اعلم أن الناسخ في الحققية هو الله تعالى، وسمي الخطاب الشرعي ناسخاً تجوزاً واحتجوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه:
أحدها: هذه الآية.
وأجاب عنها أبو مسلم بوجوه:
الأول: أن المراد بالآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل، كالسَّبْت، والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى وتعبّدنا بغيره، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون: لا تأمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية.(2/375)
الوجه الثاني: المراد من النسخ نَقْلهُ من اللوح المحفوظ، [وتحويله عنه] إلى سائر الكتب اوهو كما يقال: نسخت الكتاب.
الوجه الثالث: أنا بينا أن هذه الآية لا تدلّ على وقوع النسخ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير.
[ومن الناس من أجاب عن الاعتراض] الأول بأن الآية إذا أطلقت، فالمراد بها آيات القرآن؛ لأنه هو المعهود عندنا.
وعن الثاني بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختصّ ببعض القرآن، وهذا النسخ مختص ببعضه.
ولقائل أن يقول على الأول: لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن، بل هو عام في جميع الدلائل.
وعلى الثاني لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن، بل التقدير والله أعلم: ما ننسخ من اللوح المحفوظ، فإنا نأتي بعده بما هو خير منه.
الحجة الثانيك [للقائلين بوقوع النسخ في القرآن] أن الله تعالى أمر المرأة المتوفى عنها زوجها بالاعتدداد حولاً كاملاً، وذلك في قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول} [البقرة: 240] ثم نسخ ذلك بأربعة أشره وعشر، كما قال {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] .
قال أبو مسلمك الاعتداد بالحَوْل ما زال بالكلية؛ لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا ناسخاً.
والجواب أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل، سواء حصل وضع الحمل بِسَنَةٍ أو أقل أو أكثر، فجعل السّنة العدة يكون زائلاً بالكلية.
الحجة الثالثةك أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}
[المجادلة: 12] ، ثم نسخ ذلك.
قال أبو مسلم: إنما زال ذلك لزوال سببه؛ لأن سبب التعبّد بها أن يتماز المنافقون من حيث إنهم لا يتصدقون عن المؤمنين، فلما حصل هذا العرض سقط التعبد.
والجواب: لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقاً وهو باطل؛ لأنه روي أنه لم(2/376)
يتصدق غير علي رَضِيَ اللهُ عَنْه ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] ٍ.
الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] .
الحجة الخامسة: قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] ثم أزالهم عنها بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] قال أبو مسلم: «حكم تلك القبلة مازال بالكلية جواز التوجيه إليها عند الإشكال، أو مع العلم إذا كان هناك عذر» .
الجواب: أن على ما ذكرته لا فرق بين «بيت المقدس» ، وسائر الجهات، فالخصوصية التي امتاز بها «بيت المقدس» عن سائر الجهات قد زالت بالكلية، فكان نسخاً.
الحجة السادسةك قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] والتبديل يشتمل على رفع إثبات، والمرفوع: إما التلاوة، وإما الحكم فكيف كان فهو رفع ونسخ.
واحتجّ أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل.
والجواب: أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله، ولا يأتيه من بعده أيضاً ما يبطله.
فصل في أنواع النسخ
تراة ينسخ الحكم، وتارة التلاوة، وتارة هما معاً، فأما نسخ الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات.(2/377)
وأما نسخ التلاوة دو الحكم، فكما يروى عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: كنا(2/378)
نقرأ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيا فَارُجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَلااً مِنَ اللهِ واللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ» .
وروي: «لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ واديَان مِنْ مالٍ لاَبْتَغَى إِلَيْهمَا ثَالِثاً، وَلاَ يَمْلاًُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» .
وأما نسخ الحكم والتلاوة معاً، فكما روت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها قالت: «أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنُسِخْن بخمس معلومات» ، فالعشر(2/379)
مرفوع التلاوة والحكم جميعاً، والخمس مرفوع التلاوة ثابت الحكم.
ويروى أيضاً أن سورة «الأحزاب» كانت بمنزلة السبع الطوال، أو أزيد، ثم انتقص منها.
[وروى ابن شهاب، قال: حدثني أبو أمامة في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلاً قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن، فلم يقدر على شيء منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها فغدوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال أحدهم: قمت الليل يا رسول الله لأقرا سورة من القرآن فلم أقدر على شيء، فقام الآخر، فقال: وأنا كذلك يا رسول الله، فقال الآخر: فإنا والله كذلك يا رسول الله فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إِنَّهَا مِمَّا نَسَخَ اللهُ البَارِحَةً» وسعيد بن المسيّب يسمع ما يحدث به أبو أمامة، فلا ينكره.
فصل في بيان أنه ليس شرطاً البدل في النسخ
قال قومك لا يجوز نسخ الحكم إلاَّ بدل واحتجوا بهذه الآية.
وأجيبوا بأن نفي الحكم، وإسقاط التعبُّد به خير من ثبوته في ذلك الوقت، وقد نُسِخَ تقديم الصدقة بين يدي الرسول لا إلى بدل] .
فصل في جواز النسخ بالأثقل
قال قوم: لا يجوز نسخ الشيء إلى ماهو أثقل منه، واحتجوا بأن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ينافي كونه أيقلح لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله.
وأجيب: بأن المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة، ثم إن الذي يدلّ على وقوعه أن الله سبحانه نسخه في حقّ الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصَّلاة ركعتين عند قوم، فنخست بأربع فى الحضر.
وأما نسخه إلى الأخف، فكنسخ العدّة من حَوْل إلى أربعة أشهر وعشرة، وكنسخ صلاة اللَّيل إلى التخيير فيها.
وأما نسخ الشيء إلى المثل فتحويل القِبْلَة.
فصل: الكتاب لا ينسخ بالسُّنَّة المتواترة
قال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الكتاب لا ينسخ بالسُّنة المتواترة، واستدل بهذه الآية(2/380)
قال: لأنه قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه خير منه، كما إذا قال الإنسان: ما أخذ منك من ثواب آتيك بخير منه، وجنس القرآن قرآن، وأيضاً المنفرد بالإتيان بذلك الخير، وهو القرآ، الذي هو كلام الله تَعَالى.
وأيضاً فإن [السُّنة لا تكون خيراً من القرآن] .
وروى الدَّارقطني عن جابر أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «القُرْآنُ يَنْسَخُ حَدِيُثِي وحَديْثِي لا يَنْسَخُ القُرْآنَ» .
وأجيب عن قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] وقوله: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] وإذا ثبت أن الكل من عند الله، فالناسخ في الحقيقة هو الله تعالى [أقصى ما فيه أنَّ الوحي ينقسم إلى قسمين متلوّ، وغير متلو] وقد نسخت الوصية للأقربين، لقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ وَصِيَّة لِوَارِثِ» .
ونسخ حبس الزَّاني في البيوت بخبر الرجم.
والجواب: استدل به الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه من الآية، وأما الوصية فإنها نسخت بأية المواريث قاله عمر وابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما وأشار النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى هذا بقوله:
«إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقًّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ» .
وأما حبس الزاني، فإنما هو أمر بإمساكهن إلى غاية، وهي إلى {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] فبيّن صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما هو وليس بنسخ.
وروي أيضاً أن قوله: «الشَّيخ والشيخة إذا زينا، فارجموهما ألبتة» كان قرآناً، فلعل الناسخ إما وقع به.(2/381)
فصل هل يدخل النسخ في الأخبار؟
اختلفوا في الأخبار هل يدخلها النسخ؟
فالجمهور على أن النسخ لا يدخل الخبر، لاستحالة الكذب على الله تعالى.
وقيل: إن الخخبر إذا تضمّن حكماً شرعيّاً جاز نسخه، كقوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] .
فصل هل يجوز حمل الجنب للقرآن الكريم؟
القرآن المنسوخ التلاوة يجوز للجنب حمله، ولو صلى به لم تصح صلاته.
فصل في استدلال المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن
استدلت المعتزلة بهذه الآية على [خلق القرآن] من وجوه:
أحدها: أن كلام الله تعالى لو كان قديماً لكان الناسخ والمنسوخ قديمين وذلك(2/382)
مُحَال؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً عن المَنْسُوخ، والمتأخر يستحيل قدمه، والمنسوخ يجب زوااله وارتفاعه، ما ثبت زواله استحل قدمه.
وثانيها: أن الآية دلّت على أن بعض الآيات خير من بعض، وما كان كذلك لا يكون قديماً.
وثالثها: قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يدل على أنه القادر على نسخ بعضها، وإتيانه بشيء آخر بدلاً من الأولن وما كان داخلاً تحت القدرة، وكان فعلاً كان محدثاُ.
وأجيب عنه: بأن كونه ناسخاً ومنسوخاً إنما هو من وعوارض الأَلْفَاظ، ولا نزاع في حدوثها، فلما قلتم: إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث بها.
قالت المعتزلة: لا شكّ أن تعلقه الأول قد زال، وحدث له تعلق آخر، فالتعلق الأول محدث؛ لأنه زال، والقديم لا يزول، والتعلق الثاني حادث، لأنه حصل بعد أن لم يكن، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات، وما لا ينفك [عن الحدث] محدث.
والجواب: أن قدرة الله تعالى كانت في الأَزَلِ متعلّقة بإيجاد العالم، فعند دخول العالم في الوجود، هل يبقى ذلك التعلّق أو لم يبق؟
فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادراً على إيجاد الموجود وهو محال، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق، فألزمكم حدوث قدرة الله تعالى على ما ذكرتم، وكذلك علم الله تعالى كان متعلقاً بأن العالم سيوجد، فعند دخول هذا العالم في الوجود إن بقي التعلّق الأول كان جَهْلاً، وإن لم يَبْقَ يلزمكم كون التعلق الأول حادثاً؛ لأنه لو كان قديماً لما زال، ووكون التعلّق الذي حصل بعد ذلك حدثاً فإِذاً عالمية الله تعالى لا تنفكّ عن التعلّقات الحادثة، وما لا ينفك عن المحدث [محدث] فعالمية الله محدثة، فكل ما تجعلونه جواباً عن العالمية والقادرية هو جوابنا عن الكلام.
قوله: «أَلَم تَعْلَمْ» هذا استفهام معناه التقرير، فلذلك لم يحتج إلى معادل يعطف عليه ب «أم» ، و «أم» في قوله: «أَمْ تُرِيْدُونَ» منقطعة هذا هو الصحيح في الآية. قال ابن عطية: ظاهره الاستفهام المَحْضُ، فالمعادل هنا على قول جماعة: «أم تريدون» ، وقال قوم: «أم» منقطعة، فالمعادل محذوف تقديره: أم علمتم، هذا إذا أريد بالخطاب أمته عليه السلام.
أما إذا أريد هو به، فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي انتهى.(2/383)
وهذا فيه نظر؛ لما مرَّ أن المراد به التقرير، فهو كقوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] .
والاستفهام بمعنى التقرير كثير جدّاً لا سيما إذا دخل على نفي كما مثلته لك.
وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله} التفاتان.
أحدهما: خروج من خطاب جماعة، وهو «خير من ربكم» .
والثاني: خروج من ضمير المتكلّم المعظم نفسه إلى الغيبة بالاسم الظاهر، فلم يقل: ألم تعلموا أننا، وذلك لما لا يخفى من التعظيم والتَّفخْيم. و {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} «أن» وما في حَيِّزها، إما سادة مسدّ مفعولين كما هو مذهب الجمهور، أو واحد، والثاني محذوف كما هو مذهب الأخفش.(2/384)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
قال ابن الخطيب: لما حكم بجواز النسخ عَقّبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره، وهذا هو التنيه على أنه سبحانه وتعالى إنما حين [منه الأمر والنهي لكونه مالكاً للخلق، وهذا هو مذهب اصحابنا، وأنه] إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكاً للخلق مستولياً عليهم لا لثواب يحصل، أو لعقاب يندفع.
فقال القفال رَحِمَهُ اللهُ تعالىك ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمْمر القِبْلَة، فإنه تعالى أخبرهم بأنه ملك السموات والأرض، وأن الأمكنة والجهات كلها له، وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض، إلاَّ من حيث يجعلها هو تعالى له، وإذا كان كذلك وكان الأمر باستدلال القِبْلَة إنما هو مَحْضُ التخصيص بالتشريف، فلا مانع يمنع من تغييره من جهة إلى جهة.
قوله: «أَلَمْ تعْلَمْ» جزم ب «لم» ، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل، وقوله: «أَلَمْ تَعْلَمْ» خطاب للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووالمراد أمته، لقوله: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
وفي قوله: «مُلْك» وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ، وخبره مقدم عليه، والجملة في محلّ رفع خبر ل «أن» .
والثاني: أنه مرفوع بالفاعلية، رَفَعَهُ الجار قبله عند الأخفش، لا يقال: إن الجار هنا قد اعتمد لوقوعه خبراً ل «أن» ، فيرفع الفاعل عند الجميع؛ لأن الفائدة لم تتم به، فلا يجعل خبراً.(2/384)
والمُلْك بالضم الشيء المملوك، وكذلك هو بالكسر، إلا أنَّ المضموم لا يستعمل إلا فى مواضع السّعة وبسط السلطان.
وتقدم الكلام في حقيقة الملك في قوله: {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] .
قوله: «وَمَا لَكُمْ» يجوز في «ما» وجهان.
أحدهما: أن تكون تميمة، فلا عمل لها، فيكون «لكم» خبراً مقدماً، و «من ولِيّ» مبتدأ مؤخراً زيدت فيه «من» ن فلا تعلّق لها بشيء.
والثاني: أن تكون حجازية، وذلك عند من يجيز تقديم خبرها ظرفاً أةو حرف جر، فيكون «لكم» في محلّ نصب خبراً مقدماً، و «مِنْ وَلِيّ» اسمها مؤخراً، و «من» فيه زائدة أيضاً.
و «من دون الله» يه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق بما تعلق به «لكم» من الاستقرار المقدر، و «من» لا بتداء الغاية.
والثاني: أنه في محلّ نصب على الحال من قوله: «من ولي أو نصير» ؛ لأنه في الأصل صفة للنكرة، فلما قدم عليها انتصب حالاً قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
فعلى هذا يتعلّق بمحذوف غير الذي تعلّق به «لَكُمْ» ، ومعنى «مِنْ دُونِ اللهِ» سِوَى الله؛ كما قال أمية بن أبي الصلت [البسيط]
729 - يَا نَفْسُ مَالَكِ دُونَ اللهِ مِنْ واقِ ... [وَمَا عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنْ بَاقِ]
والولي: من وليت أمر فلان، أي قمت به، ومنهك وليّ العهد أيك المقيم بما عهد إليه من أمر المسلمين.
«وَلاَ نَصِيرٍ» عطل على لفظ «وليّ» ولو قرىء برفعه على الموضع لكان جائزاً، وأتى بصيغة «فعيل» في «ولي» و «نصير» ؛ لأنها أبلغ من فاعل، ولأن «ولياً» أكثر استعمالاً من «وَالٍ» ولهذا لم يجىء في القرآن إلا في سورة «الرعد» .
وأيضاً لتواخي الفواصل وأواخر الآي.
وفي قوله: «لكم» التفاوتٌ من خطاب الواحد لخطاب الجماعة، وفيه مناسبة، وهو أن المَنْفِيَّ صار نصّاَ في العموم بزيادة «من» فناسب كون المنفي عنه كذلك فَجُمِعَ لذلك.
فصل في أن الملك غير القدرة
استدل بعضهم بهذه الآية على أن الملك غير القدرة.(2/385)
فقال: إنه تعالى قال أولاً: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] ثم قال بعده: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} .
فلو كان المُلْك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريراً من غير فائدة، والكلام في حقيقة الملك.(2/386)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها:
أحدها: أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع، فلعلّهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم، فمنعهم الله تعالى عنها، وبين أنَّهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة الفاسدة [كسؤالات قوم موسى عليه الصلاة ولسلام] .
وثانيها: لما تقدم من الاوامر والنواهي قال لهم: إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمرّدتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى عليه السلام ما ليس له أن يسأله. عن أبي مسلم.
وثالثها: لما أمر ونهى قال: أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى؟ و «أم» هذه يجوز أن تكون متّصلة معادلة [لقوله تعال: «ألم تعلم» وهي مفرقة لما جمعته أي: كما أن «أو» مفرقة لما جمعته تقول: اضرب أيهم شئت زيداً أم عمراً، فإذا قلت: أضرب أحدهم.
قلت: اضرب زيداً أو عمراً.
أو تكون منقطعة، فقتدم ب «بل» والهمز، ولا تكون إِلاَّ بعد كلام تام كقوله: نما الإبل أم شاء؛ كأنه قال: بل هي شاء، ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} [هود: 35] أي: يقولون.
قال الأخْطَلُ: [الكامل]
730 - كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبابِ خَيَالاً
ويكون إضراباً للالتفات من قصة إلَى قصة] .(2/386)
قال أبو البقاء: أم هنا منقطعة، إذ ليس في الكلام همزة تقع موقعها ومع أم أَيّهُما، والهمزة من قوله: «ألم تعلم» ليست من «أم» في شيء، والمعنى: بل أتريدون فخرج من كلام إلى كلام.
وأصل تريدون: «تُرْوِدُون» ؛ لأنه من رَادَ يَرُودُ، وقد تقدّم، فنقلت حركة «الواو» على «الراء» ، فسكنت «الواو» بعد كسرة فقلبت ياء.
وقيل: «أم» للاستفهام، وهذه الجملة منقطعة عما قبلها.
وقيل: هي بمعنى «بل» وحدجها، وهذان قولان ضعيفان.
قوله تعالى: «أَنْ تَسْأَلُوا» نصب ومنصوب في محل نصب مفعولاً به بقوله: «تريدون» أي: أتريدون سؤال رسولكم.
قوله: «كَمَا سُئِلَ» متعلق ب «تسألوا» و «الكاف» في محلّ نصب، وفيها التقديران المشهوران: فتقدير سيبويه ورَحِمَهُ اللهُ تعالى أنها حال من ضمير المصدر المحذوف.
أي: إن تسألوه أي: السؤال حال كونه مُشَبَّهاً بسؤال قوم موسى له، وتقيدر جمهور النجاة: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا. و «ما» مصدرية، أي: كسؤال موسى. [وأجاز الحوفي كونهنا بمعنى الذي فلا بد من تقدير عائد أي كالسؤال الذي سأله موسى] و «موسى» مفعول لم يسمّ فاعله، حذف الفاعل للعم به، أي كما سأل قوم موسى.
والمشهور: «سئل» بضم السين وكسر الهمزة، وقرأ الحسنك «سِيلَ» بكسر السين وياء بعدها من: سال يسال نحوك خفت أخاف، وهل هذه الألف في «سال» أصلها الهمز أو لا؟ تقدم خلاف فيه، وسيأتي تحقيقه في «سأل» وقرىء بتسهيل الهمزة بَيْنَ بَيْنَ و «من قبل» متعلّق ب «سئل» ، و «قبل» مبينة على الضم؛ لأن المضاف إليه معرفة أي: من قبل سؤالكم، وهذا توكيد، وإلا فمعلوم أن سؤال موسى كان متقدماً على سؤالهم.
قوله: «بالإيمان» فيه وجهان:
أحدهما: أنها ياء العِوَضية، وقد تقدم تحقيق ذلك.
والثاني: أنها للسببية.
قال أبو البقاء: يجوز أن يكون مفعولاً يتبدّل، وتكون الباء للسبب، كقولك: اشترتيت الثوب بدرهم، وفي مصاله هذا نظر.(2/387)
وقوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} قرىء بإدغام الدَّال في الضاد وإظهارها.
و «سواء» قال أبو البقاء: سواء السبيل ضرف بمعنى وسط السبيل وأعدله، وهذا صحيح فإن «سواء» جاء بمعنى وسط.
قال تعالى: {فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] .
وقال عيسى بن عمر: ما زلتُ أكتب حتى انقطع سَوَائِي؛ وقال حَسَّان: [الكامل]
731 - يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ورَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المْلْحَدِ
ومن مجيئه بمعنى العدل قول زهير: [الوافر]
732 - أَرُنَا خُطَّةً لاَ عَيْبَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيْهَا السَّوَاءُ
والغرض من هذه الآية التشبيه دون نفس الحقيقة، ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان، فهو جَارٍ على الاستقامة المؤدية إلبى الفوز والظّفر بالطلبة من الثواب والنعيم، فالمُبَدِّل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه: إنه ضل سواء السبيل.
والسبيل يذكر ويؤنث: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] .
والجملة من قوله: «فقد ضَلَّ» في محل جزم؛ لأنها جزاء الشرط، والفاء واجبة هنا لعدم صلاحيته شرطاً.
فصل في المخاطب بهذا
في المخاطب بهذا ثلاثة أوجه:
أحدها: [أنهم المسلمون قاله الأصم، والجُبَّائي، وأبو مسلم، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن قوله تعالى] : «أَمْ تُرِيدُونَ» يقتضي معطوفاً عليه وهو قوله: «لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا» فكأنه قال: وقولوا: انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟
وثانيها: أن المسلمين كان يسألون محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم عن أمور لا خير لهم في البَحْثِ عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مالم يَكُنْ لهم فيه خير عن البحث عنه.
وثالثها: سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أَنْواطٍ كما كان للمشركين ذات(2/388)
أنواط، وهي شجرة كانوا يعبدونهان ويعلقون عليها المأكول والمشروب، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة.
القول الثاني: أنه خطاب لأهل «مكة» ، وهو قول ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهم؛ لأنه يروى أنّ عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رهط من قريش فقال: يا محمد والله ما أومن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعدن ولن نؤمن لرقيّك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً [من عند الله إلى عبد الله بن أمية أن محمداً رسول الله فأتبعوه. وقال له بقية الرَّهْطك فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من] عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض، كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كلّ ذلك، فنؤمن لك عند ذلك.
فأنزل الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ} محمداً أن يأتيكم بالآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا: {نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] . وعن مجاهد رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنّ قريشاً سألت محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يجعل لهم الصَّشفا ذهباً وفضّة، فقال: نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا.
القول الثالث: المراد بهم اليهود، [وهذا القول أصح، لأن هذه السورة من أول قوله] : {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي} [البقرة: 47] حكاية ومحاجّة معهم؛ ولأن الآية مدنية، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم.
فصل في سؤالهم
[قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ليس في الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفيته، وإنما المرجع فيه إلى الروايات المذكورة.
فإن قيل: إن كان ذلك السؤال طلباً للمعجزة فليس بكفر؛ لأن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفراً، وإن كان طلباً لوجه الحكمة في نسخ الأحكام فهذا أيضاً لا يكون كفراًح لأن الملائكة عليهم السلام طلبوا الحكمة في خَلْق البشر، ولم يكن ذلك كفراً. والجواب أن يُحملأ على أنهم طلبوا أن يُجعل لهم إله كما لهم آلهة، أو طلبوا المعجزة على سبيل التعنُّت، أو اللَّحَاج، فهذا كفر، والسبب هذا السؤال، والله أعلم] .(2/389)
كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(2/390)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر بعد وقعة «أحد» ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا، فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلاً.
فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد، قال: فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم ما عشت.
فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ، وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قِبْلَةً، وبالمؤمنين إخواناً، ثم أتيا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخبراه فقال: أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {لَوْ يَردُّنَكُمٍ} الكلام في «لو» كالكلام فيها عند قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} [البقرة: 96] ، فمن جعلها مصدرية هناك جعلها كذلك هنا، وقال: هي مفعول «يود» أي: ودّ كثير ردَّكم.
ومن أبي جعل جوابها محذوفاً تقديره: لو يردونكم كفاراً لسُرُّوا أو فرحوا بذلك.
وقال بعضهمك تقديره: لو يردونكم كفاراً لودّوا ذلك، ف «وَدَّ» دَالَّى على الجواب، وليست بجواب؛ لأن «لو» لا يتقدمها جوابها كالشرط.
وهذا التقدير الذي قدره هذا القائل فاسد، وذلك أن «لو» حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، فيلزم من تقديره ذلك أن وَدَادتهم ذلك لم تقع؛ لأن الموجب لظفاً منفي معنى، والغرض من وَدَادَتهم ذلك واقعة باتفاق، فتقدير لسروا ونحوه هو الصحيح.
و «يرد» هنا فيه قولان.
أحدهما وهو الواضح أنها المتعدّية لمفعولين بمعنى «صَيَّر» ، فضمير المخاطبين مفعولً أول، و «كفاراً» مفعول ثان؛ ومن مجيء «رَدَّ» بمعنى «صَيَّر» قوله: [الوافر]
733 - رَمَى الْحَدَثانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا(2/390)
وجعل أبو البقاء كفاراً حالاً من ضمير المفعول على أنها المتعدية لواحد، وهو ضعيف، فأن الحال يستغنى عنها غالباً، وهذا لابد منه.
و «مِنْ بَعد» متعلق ب «يردُّونكم» و «من» لابتداء الغاية.
قوله تعالى: «حسداً» نصب على المفعول له، وفيه الشروط المجوّزة لنصبه، والعامل فيه «ود» أي: الحامل على ودادتهم رَدُّكم كُفََاراً حَسَدُهُم لكم.
وجوزوا فيه وجهين آخرين:
أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال، وإنما لم يجمع لكوه مصدراً، أي: حاسدين، وهذا ضعيف، لأن مجيء المصدر حالاً لا يطّرد.
الثاني: أنه منصوب على المصدرية بفعل من لفظه أي يحسدونكم حسداً [والأول أظهر الثلاثة] .
قوله تعالى: {مِنْ عِنَدِ أَنْفُسِهِمْ} في هذا الجار ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلّق ب «ود» أي: ودوا ذلك من قبل شهواتهم لا من قبل التدين [والميل مع الحق؛ لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبيّن لهم أنكم على الحق] و «من» لابتداء الغاية.
الثاني: أنه صفة ل «حسداً» فهو في محلّ نصب، ويتعلّق بمحذوف أي: حسداً كائناً من قبلهم وشهوتهم، ومعناه قريب من الأول.
[الثالث: أنه متعلّق ب «يردّونكم» ، و «من» للسببية. أي: يكون الردّ من تلقائهم وجهتهم وبإغوائهم] .
قوله تعالى: «من بعد ما» متعلّق ب «وَدَّ» ، و «من» للابتداء، أي: أنَّ ودادتهم ذلك ابتدأت من حيث وضوح الحق، وتبيّنه لهم، فكفرهم عُنَادٌ، و «ما» مصدرية أي: من بعد تبيين الحَقّ.
والحسد: تمنِّي زوال نعمة الإنسان. والمصدر حَسَدٌ.
فإن قيل: إنّ النَّفْرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه، فكيف يعاقب عليه؟
فالجواب: أن الذي هو في وصعه أمران:
أحدهما: كونه راضياً بتلك النَّفْرَة.
والثاني: إظهار آثار تلك النَّفْرَة من القَدْح فيه، والقَصْد إلى إزالة تلك النعمة عنه(2/391)
وجدّ أسباب المحبة إليه، فهذا هو الداخل تحت التكليف.
والحمد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم أن يتمنّى زوال نعمة الله عن المسلم، سواء تمينت مع ذلك أتعود إليك أم لا؛ لأنه فيه تسفيه الحق سبحانه وتعالى وأنه أنعم على مَنْ لا يستحقّ.
والمحمود كقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْن: رَجُل آتاهُ اللهُ تعالى القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَار، وَرَجُلٍ آتاهُ اللهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ آناءَ اللَّيْلَ وَآناء النَّهَارِ» . وهذا الحديث معناه «الغِبْطة» كذا ترجم عليه البُخَاري رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
والصَّفْحُ قريب من العفو، مأخوذ من الإعراض بصفحة العُنْق.
وقيل: معناه التجاوز، من تصفّحت الكتاب أي: جَاوَزْتُ وَرَقَهُن والصَّفُوح من أسماء الله، والصَّفُوح أيضاً: المرأة تستر وجْهَها إعراضاً؛ قال الشاعر: [الطويل]
734 - صَفُوحٌ فَمَا تَلْقَاكَ إلاَّ بِحِيلَةٍ ... فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الوَصْلَ مَلَّتِ
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: العفو: ترك المُؤَاخَذَة بالذَّنب.
والصّفح: أزالة أثرِه من النفس. يقال: صَفَحْتُ عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صَفْحاً إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} [الزخرف: 5] .
فصل في المراد بهذه الآية
[المراد بهذه الآية أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبيّن لهم أن الإيمان صواب وحقّ، والعالم بأن غيره على حقّ لا يجوز أن يريد ردّه عنه إلاَّ(2/392)
بشبهة يلقيها إليه، لأن المحق لا يعدل عن الحق إلاَّ بشبهة، والشبهة ضربان:
أحدها: ما يتّصل بالدنيا، وهو أن يقال لهم: قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم، وضيق الأمر عليكم، واستمرار المخافة بكم، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء.
والثاني: في باب الدين: بطرح الشبه في المُعْجزات، أو تحريف ما في التوراة.
فصل في المقصود بأمر الله
قوله: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} يحتمل أمرين:
الأول: أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجوابح لأن ذلك أقرب إلى تَسْكين الثائرة في الوقت، فكأنه تعالى أمر الرسول بالعَفْو والصفح عن اليهود، فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [الجاثية: 14] وقوله: {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل: 10] ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام، بل علّقه بغاية فقال {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} .
وذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أنه المُجَازاة يوم القيامة عن الحسن.
وثانيه: أنه] قوة الرسول صولات الله وسلامه عليه وكثرة أمته.
وثالثها: وهو قول أكثر الصحابة والتابعين رَضِيَ اللهُ عَنْهم، أنه الأمر بالقتال؛ لأن عنده يتعين أحد أمرين:
إما الإسلام، وإما الخضوع لدفع الجزية، وتحمل الذل والصَّغار، فلهذا قال العلماء: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [التوبة: 29] .
ورُويَ أنَّه لم يؤمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال حتى نزل جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} [الحج: 39] وقلّده سيفاً فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جَحْش ب «بطن نخل» ، وبعده غزوة «بدر» .
فإن قيل: كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] . وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً، فكذا هاهنا.
فالجواب: أن الغاية التي تعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً، ويحلّ محل قوله تعالى: «فَاعفُوا واصْفَحُوا» إلى أن أنسخه عنكم.(2/393)
فإن قيل: كيف يعفون ويصفحون، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟ فالجواب: أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عداوتهم عن نفسه وأن يستعين بأصحابه، فأمر الله سبحانه تعالى عند ذلك بالعَفوِ والصفح كي لا يهيّجوا شراً وقتالاً.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: [قال أبو عبيدة:] كل آية فيها ترك للقتال فهي مكّية منسوخة بالقتال.
قال ابن عطية: [الحكم] بأن هذه الآية مكّية ضعيف: لأن مُعَاندات اليهود إنما كانت ب «بالمدينة» .
قال القرطبي: «وهو الصحيح» .
[التفسير الثاني: العفو والصفح] أنه حسن الاستدعاء، واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشْفَاق والتشدّد فيه، وهذا لا يجوز نسخه.
وقوله: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تحذير لهم بالوعيد، سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره.(2/394)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
لما أمرنا بالعفو والصفح عن اليهود عقبه بقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} تنبيهاً لهما على ما أعد لهما من الواجبات وقوله بعده: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} [المزمل: 20] . الأظهر أن المراد به التطوّعات من الصلوات والزكواتن وبيّن تَعَالى أنهم يجدونه، وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال؛ لأنها لا تبقى، ولأن وِجْدَان عين تلك الإشياء، ولا يرغب فيه، فبقي أن المراد وِجْدَان ثوابه وجزائه.
قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 601] .
فيجوز في «ما» أن تكون مفعولاً بها، وأن تكون واقعةً موقع المصدر، ويجوز في «مِنْ خَيْرٍ» الأربعة أوجه التي في «من آيّةٍ» : من كونه مفعولاً به، أو حالاًن أو تمييزاً، أو متعلّقاً بمحذوف.
و «مِنْ» تبعيضية، وقد تقدم تحقيقها، فليراجع ثَمَّة.
و «لأَنْفُسِكُمْ» متعلّق بت «تقدمُّوا» ، أي: لحياة أنفسكمن وحذف، و «تجدوه» جواب الشرط، وهي متعدّية لواحد؛ لأنها بمعنى الإصابة، ومصدرها الوِجْدَان يكسر(2/394)
الواو كما تقدم، ولا بد من حذف مضاف أي: تجدوا ثوابه، وقد جعل الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى الهاء عائدة على «ما» ، وهو يريد ذلك؛ لأنَّ الخير المتقدم سبب منقض لا يوجد، إما يوجد ثوابه.
[فصل فيما بعد الموت
جاء في الحديث أن العبد إذا مات قال الناس: مَا خَلَّشفَ؟ وقالت الملائكة عليهم السلام: ما قَدَّمَ؟
وجاء عن عُمَرَ رضي الله تعالى عَنْهُ أنه مَرَّ ببقيع «الغَرْقَد» فقال: السلامُ عليكمُ يا أهل القبور، أخبارُنَا عنْدَنا أنَّ نِسَاءكم قد تزوَّجْن، ودُروكُم قد سُكِنَتْ، وأموالكم قد قُسَّمَتْ، فأجابه هاتفٌ: يا بان الخطاب، أخبارُ ما عندنا أنَّ ما قدَّمْنَاه وجَدْنَاه، وما أنفقْنَاه فقد ربِحْنَاه، وما خلَّفناه فقد خَسِرْناه؛ وقد أحسن القائلُ حيثُ قال: [الكامل]
735 - قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحاً ... وَاعْمَلْ فَلَيْسَ إلى الخُلُودِ سَبِيلُ
وقال آخر: [الكامل]
736 - قَدِّمْ لِنَفْسِكَ تَوْبَةً مَرْجُوَّةً ... قَبْلَ المَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الأَلْسُنِ
وقال آخر: [السريع]
737 - وَقَدِّمِ الخَيْرَ فَكُلُّ امْرِىءٍ ... عَلَى الَّذِي قَدَّمَهُ يَقْدَمُ]
فصل في إعراب الآية
قوله: «عِنْدَ اللهِ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق ب «تَجِدُوهُ» .(2/395)
والثاني: أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من المفعول أي: تجدوا ثوابه مدّخراً معدّاً عند الله تعالى، والظَّرفية هنا مجاز نحو: «لك عند فلان يد» .
قوله تعالى: {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال فهو ترغيب وتحذير.(2/396)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
اعلم أن هذا نوع آخر من تخليط اليهود، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين.
قوله تعالى: {لاَّ مَن كَانَ هُوداً} .
«من» فاعل بقوله: «يَدْخُلَ» وهو استثناء مفرغ، فإن ما قبل «إلاَّ» مفتقر لما بعدها، والتقدير: لن يدخل الجنّة أحد، وعلى مذهب الفرَّاء يجوز في «مَنْ» وجهان آخران، وهما النَّصْب على الاستثناء والرفع على البدل من «أحد» المحذوف، فإن الفراء رَحِمَهُ اللهُ تعالى يراعي المحذوف، وهو لو صرّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران، فكذلك جاز مع التقدير عنده، وقد تقدّم تحقيق المذهبين.
والجملة من قوله تعالى: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن} في محلّ نصب بالقولنوحمل أولاً على لفظ «من» فأفرد الضمير في قوله: «كان» ، وعلى معناها ثانياً فجمع في خبرها وهو «هوداً» ، وفي مثل هاتين الجملتين خلاف، أعني أن يكون الخبر غير فعل، بل وصفاً يفصل بين مذكره ومؤنثه تاء التأنيث.
فمذهب جمهور البصريين والكوفيين جوازه، ومذهب غيرهم منعه، منهم أبو العَبَّاس، وهم محجوجون بسماعه من العرب كهذه الآية، فإن هوداً جمع «هائد» على أظهر القولين، نحو: بازل وبُزْل، وعَائد وعُوْد، وحَائِل وحُوْل، وبائِر وبُوْر.
و «هائد» من الأوصاف، الفارقُ بين مذكَّرها ومؤنثها «تاء» التأنيث؛ قال الشاعر: [المتقارب]
738 - وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامَا ... و «نايم» جمع نائم، وهو كالأول.
وفي «هود» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جمع هائد كما تقدم.(2/396)
والثاني: أنه مصدر على «فُعَل» نحو حزن وشرب يوصف به الواحد وغيره نحو: عدل وصوم.
والثالث: وهو قول الفراء أن أصله «يهود» ، فحذفت الياء من أوله، وهذا بعيد.
و «أول» هنا للتَّفْصيل والتنويع؛ لأنه لما لَفَّ الضمييرَ في قوله تعالى: «وقالوا» : فَصَّل القائلين، وذلك لفهم المعنى، وأمن الإلباس، والتقدير: [وقال اليَهُودُ: لن يدخل الجَنَّة إلاَّ من كان هوداً.
وقال الأنصاري: لن يدخل إلاَّ من كان نصارى] ؛ لأن من المعلوم أنَّ اليهود لا تقول: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وكذلك النصارى لا تقول: [لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياص] .
ونظيره قوله: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 135] إذ معلوم أن اليهود لا تقول: كونوا نصارى، ولا النَّصارى تقول: كونوا هوداً.
صدرت الجملة بالنفي ب «لن» ؛ لأنها تخلص المضارع للاستقبالن ودخول الجنة مستقبل. وقدمت اليهود على النصارى لَفْظاً لتقدمهم زماناً.
وقرأ أُبيّ بن كعب «إلاَّ مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا» .
قوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهمْ} «تلك» مبتدأ، و «أَمَانِيُّهُمْ» خبره، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب لكونها وقعت اعتراضاً بين قوله: «وَقَالُوا» ، وبين قوله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} ، فهي اعتراض بين الدعوى ودليلها.
والمشار إليه ب «تلك» فيه ثلاثة احتمالات:
أحدها: أنه المقالة المفهومة من: «قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجنة» ، أي: تلك المقالة أمانيهم.
فإن قيل: كيف أفرد المبتدأ وجمع الخبر؟
فالجواب: أن تلك كناية عن المَقَالة، والمقالة في الأصل مصدر، والمصدر يقع بلفظ الإفراد للمفرد المثنى والمجموع، فالمراد ب «تِلْكَ» الجمع من حيث المعنى.
وأجاب الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ أن «تِلْكَ» يشار بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم [ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً أي] ألاَّ يدخل الجنة غيرهم.(2/397)
قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وهذا ليس بظاهر؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد كملت وانفصلت، وانفصلت، واستقلت بالنزول، فيبعد أن يشار إليها.
وأجاب الزمخشري أيضاً أن يكون على حذف مضاف أي: أمثال تلك الأمنية أمانيهم، يريد أن أمانيهم جميعاً في البُطْلاَن مثل أمنيتهم هذه يعني أنه أشير بها إلى واحد.
قال أبو حيان: وفيه قلب الوَضْع، إذ الأصل أن يكون «تِلْك» مبتدأ، و «أَمَانِيُّهُمْ» خبر، فقلب هذا الوضع، إذ قال: إن أمانيهم في البطلان مثل أمنتيهم هذه، وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ، فلا يتقدم الخبر نحو: زيد زهير، فإن تقدم كان ذلك من عكس التشبيه كقولك: الأسد زيد شجاعة [قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «العَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ تَعَالَى» وقال علي رَضِيَ اللهُ عَنْه: «لا تتكل على المُنَى، فإنها تضيع المتكل» ] .
قوله: «هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ» هذه الجملة في محلّ نصب بالقول.
واختلف في «هات» على ثلاثة أقوال:
أصحها: أنه فعل، [وهذا هول صحيح لا تَّصَاله بالضمائر المرفوعة البارزة نحو: هاتوا، هاتي، هاتيا، هاتين.
الثاني: أنه اسم فعل بمعنى أحضر.
الثالث: وبه قال الزمخشري: أنه اسم صوت بمعنى «ها» التي بمعنى: رَامى يُرَامي مُرَامَاة، فوزنه «فاعل» فتقول: هات يا زيد، وهاتي يا هند، وهاتوا وهاتين يا هندات، كما تقول: رَام رَامِي رَامِيا رَامُوا رَامِينَ. وزعم ابن عطية رَحِمَهُ اللهُ أن تصريفه مُهْجُور لا يقال فيه إلاّ الأمر، وليس كذلك.
الثاني: أن «الهاء» بدل من الهمزة، وأن الأصل «آتى» وزنه: أفعل مثل أكرم.
وهذا ليس بجيد لوجهين:
أحدهما: أن «آتى» يتعدى لاثنين، وهاتي يتعدى لواحد فقط.
[وثانيهما] : أنه كان ينبغي أن تعود الألف المبدلة من الهمزة إلى أصلها [الزوال](2/398)
موجب قلبها، وهو الهمزة الأولى، ولم يسمع ذلك.
الثالث: أن هذه «ها» التي للتنبيه دخلت على «أتى» ولزمتها، وحذفت همزة أتى لزوماً، وهذا مردود، فإن معنى «هات» أحضر كذا، ومعني ائت: احضر أنت، فاختلاف المعنى يدلّ على اختلاف المادة.
فتحصل في «هَاتُوا» سعبة أقوال:
فعل، أو اسم فعل، أو اسم صوت، والفعل هل ينصرف أو لا ينصرف؟ وهل هاؤه أصلية، أو بدل من همزة، أو هي هاء التنبيه زيدت وحذفت همزته؟
وأصل «هاتو» : «هاتيوا» ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى سكنان فحذف أولهما، وضم ما قبله لمُجَانسة «الواو» فصار «هاتوا» .
قوله تعالى: «بُرْهَانكُمْ» مفعول به.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «البرهان» الدَّليل الذي يوقع اليقين، وجمعه بَرَاهين، مثل قُرْبَان وقرابين، وسُلْطَان وسلآطين «.
واختلفوا فيه على قولين:
أحدهما: أنه مشتقّ من» البُرْهِ «وهو القطع، وذلك أنه دليل يفيد العلم القطعي، ومنه: بُرْهَة الزمان أي: القطعه منه، فوزنه» فُعْلاَن «.
والثاني: أن نونه أصلية لثبوتها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً، والبَرْهَنَةُ البَيَانُ، فبرهن فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ، لأن فَعْلَنَ غير موجود في أبنيتهمن فوزنه» فَعْلالَ «؛ [وعلى هذين القولين يترتب الخلاف في صَرْف» بُرْهَان «وعدمه، إذا سُمَّيَ به.
ودلَّت الآية على أن الدَّليلَ على المدَّعِي، سواءٌ ادَّعَى نفياً، أو إثباتاً، ودلَّتْ على بطلان القول بالتقليد؛ قال الشاعر: [السريع]
739 - مَنِ ادَّعَى شَيْئاً بِلاَ شَاهِدِهْ ... لاَ بُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاهُ]
وقوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعنى: في إيمانمم أي في قولكم: إنكم تدخلون الجنة، أي: بينوا ما قلتم ببرهان.
قوله تعالى:» بَلَى «فيه وجوه:
الاول: أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة.
الثاني: أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهناً.
الثالث: كأنه قيل لهم: أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنَّة، بل إن غيّرتم(2/399)
طريقتكم، وأسلمتم وجهكم لله، وأحسنتم فلكم الجنة، فيكون ذلك تَرْغيباً لهم في الإسلام، وبَيَاناً لمُفَارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يُقْلعوا عما هم عليه، ويعدلوا إلى هذه الطريقة.
قوله تعالى: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} هو إسلام الفنس لطاعة الله تعالى، وإنما خصّ الوجه بالذكر لوجوه:
أحدها: لأنه أشرف الأعظاء من حيث إنه مَعْدن الحواس والفكر والتخيّل [ولذلك يقال: وَجْهُ الأَمْر، أي معظمه؛ قال الأعشَى: [السريع]
740 - أُؤَوِّلُ الحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ ... لَيْسَ قَضَائِي بِالهَوَى الجَائِرِ]
فإذا تواضع الأشارف كان غير أولى.
وثانيها: أن الوجه قد يكنى به عن النفس، قال الله تعالى
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} [الليل: 20] .
وثالثها: أن أعظم العبادات السجدة، وهي إنما تحصل بالوجه، فلا جرم خصّ الوجه بالذكر. [ومعنى «أسلم» : خضع قال زيد بن عمرو بْن نُفَيْلٍ: [المتقارب]
741 - أوَأَسْلَمُتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِثالاً
741 - ب وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْباً زُلاَلاً
فيكون المراد هنا نفسه، والأمر بإذلالها، وأراد به نفس الشيء، وذلك لايكون إلاَّ بانقياد الخضوع، وبإذلال النَّفْس في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ وتجنبها عن معاصيه] .
ومعنى «لله» أي: خالصاً لله لا يشوبه شِرْك.
قوله تعالى: «وَهُوَ مُحْسِنٌ» جملة في محلّ نصب على حال [والعامل فيها «أسلم» وهذه الحال حال مؤكدة لأن من «أسلم وجهه لله فهو محسن» ] .
وقال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى وهو مُحْسن له في عمله فتكون على رأيه مبيّنة؛ لأن من أسلم وجهه قسمان: محسن في عمله وغير محسن أنتهى.(2/400)
قوله تعالى: «فله أجره» الفاء جواب الشرط إن قيل بأن «مَنْ» شرطية، أو زائدة في الخبر إن قيل بأنها موصولة، وقد تقدم تحقيق القولين عند قوله سبحانه وتعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] وهذه نظير تلك فليلتفت إليها.
وهنا وجه آخر زائد ذكره الزمخشري، وهو أن تكون «مَنْ» فعله بفعل محذوف أي: بلى يدخلها من أسلم، و «فَلَهُ أَجْرُهُ» كلام معطوف على يدخلها هذا نصه.
و «لَهُ أَجْرُهُ» مبتدأ وخبره، إما في محلّ جزم، أو رفع على حسب ما تقدّم من الخلاف في «مَنْ» . وحمل على لفظ «مَنْ» فأفرد الضمير في قوله تعالى: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} وعلى معناها، فجمع في قوله: {عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وهذا أحسن التركيبين، أعني البداءة بالحمل على اللفظ ثم الحمل على المعنى والحامل في «عند» ما تعلق به «له» من الاستقرار، ولما أحال أجره عليه أضاف الظرف إلى لفظة «الرّب» لما فيها من الإشعار بالإصلاح والتدبير، ولم يضفه إلى الضمير، ولا إلى الجلالة، فيقول: فله أجره عنده أو عند الله، لما ذكرت لك، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ} [البقرة: 38] بما فيه من القراءات.(2/401)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
اليهودُ ملَّة معروفة، والياء فيه أصلية لثبوتها في التَّصريف، وليست من مادّة «هود» من قوله تعالى: {هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقد تقدم أن الفراء رَحِمَهُ اللهُ يدعي أن «هُوداً» أصله: يَهُود، فحذفه ياؤه، وتقدم أيضاً عند قوله تعالى: {والذين هَادُواْ} [البقرة: 62] أن اليهود نسبة ل «يهوذا بن يَعْقُوب» .
وقال الشَّلَوبِينُ: يهود فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون جمع يَهُودِيّ، فتكون نكرة مصروفةً.
والثاني: أن تكون عَلَماً لهذه القبيلة، فتكون ممنوعةً من الصرف. انتهى.، وعلى الأول دخلت الألف واللام، وعلى الثاني قوله: [الطويل]
742 - أُولَئِكَ أَوْلَى مِنْ بِمِدْحَةٍ ... إِذَا أَنْتَ يَوْماً قُلْتَهَا لَمْ تُؤَنَّبِ
وقال آخر: [الكامل](2/401)
743 - فَرّت يَهُودُ وَأَسْلَمَتْ حِيرَانُهَا..... ... ... ... ... ... ... ... . .
ولو قيل بأن «يهود» منقول من الفعل المُضَارع نحو: يزيد ويشكر الكان قَوْلاً حسناً. ويؤيده قولهم: سمّوا يهوداً لاشتقاقهم من هَادَ يَهُودُ إذا تحرك.
قوله تعالى: «لَيْسَت النَّصَارَى» «ليس» فعل ناقص أبداً من أخوات «كان» ولا يتصرف، ووزنه على «فَعِل» بكسر الين، كان من حق فائه أن تكسر إذا أسند إلى تاء المتكلم ونحوها على الياء مثل: شئت، إلا أنه لما لم ينصرف بقيت «الفاء» على حالها.
وقال بعضهم: «ليست» بضم الفاء، ووزنه على هذه اللغة: فَعُل بضم العين، ومجيء فَعُل بضمّ العين فيما عينه ياء نادر، لم يجىء منه إلاَّ «هيؤ الرجل» ، إذا حسنت هيئته.
وكون «ليس» فعلاً هو الصحيح خلافاً للفارسي في أحد قوليه، ومن تابعه في جعلها حرفاً ك «ما» كما قيل ويدلّ على فعليتها اتصال ضمائر الرَّفْع البارزة بها، ولها أحكام كثيرة، و «النَّصَارى» اسمها، و «عَلَى شَيْءٍ» خبرها، وهذا يحتمل أن يكون مما حذفت فيه الصفة، أي على شيء معتدّ به كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أي: أهلك الناجين، وقوله: [الطويل]
744 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... . لَقَدْ وَقَعْتِ عَلَى لَحْمِ
أي: لحم عظيم، وأن يكون نفياً على سبيل المُبَالغة، فإذا نفى إطلاق الشيء على ما هم عليه، مع أن الشيء يُطْلق على المعدوم عند بعضهم كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به، وصار كقوله: «أقل من لا شيء» .
فصل في سبب نزول هذه الآية
روي أن وقد نجران لما قدموا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتاهم أحبار اليهودن فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل.
وقالت النصارى لهم نحوه، كفروا بموسى عليه السَّلام والتوراة، فأنزل الله هذه الآية.(2/402)
واختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أَهُمُ الذين كانوا زمن بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام؟
[فإن قيل: كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانوا يثبتون الصَّانع وصفاته سبحانه، وذلك قوله فيه فائدة؟
والجواب عندهم من وجيهن:
الأول: أنهم لما ضمّوا إلى ذلك القول الحسن قَوْلاً باطلاً يحبط ثواب الأول، فكأنهم لم يأتوا بذلك الحق.
قوله تعالى: «وَهُمْ يَتْلُونَ» جملة حالية، وأصل يتلون: يَتْلُوُونَ فأعلْ بحذف «اللاَّم» ، وهو ظاهر.
و «الكتاب» اسم جنس، أي قالوا ذلك حال كونهم من أهل العلوم والتلاوة من كتب، وحَقُّ من حمل التوراة، أو الإنجيل، أو غيرهما من كتب الله، وآمن به ألاَّ يكفر بالباقي؛ لأن كل واحد من الكتابيين مصدق للثاني شاهد لصحته.
قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} في هذه الكاف قولان:
أحدهما: أنها في محلّ نصب، وفيها حينئذ تقديران:
أحدهما: أنها نعت لمصدر محذوف قدم على عالمه، تقديره: قولاً مثل ذلك القول [الذي قال أي قال القول] الذين لا يعلمون.
[الثاني: أنها في محلّ نصب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه. قال: تقديره: مثل ذلك القول قاله أي: قال القول الذين لا يعلمون] حال كونه مثل ذلك القول، وهذا رأي سيبويه رَحِمَهُ اللهُ، والأول رأي النُّحَاة، كما تقدم غير مرة، وعلى هذين القولين ففي نصب «مِثْلَ قَوْلِهم» وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على البدل من موضع الكاف.
الثاني من الوجهين: أنه مفعول به العامل فيه «يَعْلَمُونَ» ، أي: الذين لا يعملون مثل مَقَالة اليهود، والنَّصَارى قالوا مثل مقالتهم، أي: أنهم قالوا ذلك على سبيل الاتِّفاق، وإن كانوا جاهلين بمقالة اليَهُود والنصارى.
الثاني من القولين: أنها في محلّ رفع بالابتداء، والجملة بعدها خبر، والعائد محذوف تقديره: [مثل ذلك قاله الذين لايعملون.(2/403)
وانتصاب «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» حينئذ إما على أنه نعت لمصدر محذوف، أو مفعول ب «يعلمون» تقديره] مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعملون اعتقاد اليهود والنصارى، ولا يجوز أن ينتصب نصب المفعول يقال لأنه أخذ معفوله، وهو العائد على المبتدأ، ذكر ذلك أبو البقاء، وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: أن الجمهور يأبى جعل الكاف اسما.
والثاني: حذف العائد المنصوب، [والنحاة] ينصُّون على منعه، ويجعلون قوله: [السريع]
745 - وَخَالِدٌ يَحْمدُ سَادَاتُنا ... بِالْحَقِّ لاَ يُحْمَدُ بَالْبَاطِلِ
ضرورة.
[وللوكفيين في هذا تفصيلٌ] .
فصل في المراد بالذين لا يعلمون
قوله تعالى: {قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} فقال مقاتل رَحِمَهُ اللهُ: إنهم مشركو العرب قالوا في نبيهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأصحابه: إنهم ليسوا على شيء من الدين، فبيّن تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنَّصَارى، وهم يقرؤون الكتاب لا يلتفت إليه فقول كفار العرب أولى ألاَّ يلتفت إليه.
وقال مجاهد: عوام النصارى فَصْلاً بين خواصهم وعوامهم.
وقال عطاء: أسماء كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح، وقوم هود وصالح، ولوط وشعيب، قالوا لنبيهم: إنه ليس على شيء.
وقيل: إن حملنا قوله: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ} على الحاضرين في زمن صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حملنا قوله: {قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} على المُعَاندين المتقدمين ويحتمل العكس.(2/404)
قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: قال الحسن: يكذبهم جميعاً، ويدخلهم النار.
وثانيها: ينصف المظلوم المكذَّب من الظالم المكذِّب.
وثالثها: يريهم من يدخل الجنة عياناً، ومن يدخل النار عياناً، وهو قول «الزجاج» .
قوله: {بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} منصوبان ب «يحكم» ، و «فيه» متعلق ب «يَخْتَلِفُونَ» .(2/405)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
«مَنْ» استفهام في محلّ رفع بالابتداء، و «أظْلَمُ» أفعل تفضيل خبره، ومعنى الاستفهام هنا النفي، أي: لا أحد أظلم منه، ولما كان المعى على ذلك أورد بعض الناس سؤالاًنوهو أن هذه الصيغة قد تكررت في القرآن {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى} [الأنعام: 21] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} [السجدة: 22] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} [الزمر: 37] كل واحدة منها تقتضي أن المذكور لا يكون أحد أظلم منه، فكيف يوصف غيره بذلك؟ والجواب من وجوه:
أحدها: وهو أن يخصّ كل واحد بمعنى صلته كأنه قالك لا أحد من المنانعين أظلم ممن منع من مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله، ولا أحد من الكَذَابين أظلم ممن كذب على الله، وكذلك ما جاء منه.
الثاني: أن التَّخصيص يكون بالنيِّسْبة إلى السَّبْق، لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكاً طريقهم في ذلك، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية والافترائية ونحوها.
الثالث: أن هذا نفي للأظلمية، ولما كان نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظَّالمية لم يكن مناقضاً؛ لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ما وصف بذلك يزيد على الآخر؛ لأنهم متساوون في ذلك، وصار المعنى: ولا أحد أظلم ممن منع، وممن افترى وممن ذكر،، ولا إشكال فى تساوي هؤلاء في الأظلمية، ولا يدلّ ذلك على أن أحد هؤلاء يزيد على الآخر في الظلم، كما أنك إذ قلتك «لا أحد أفقه من زيد وبَكْر وخالط» لا يدلّ على أن أحدهم أَفْقَهُ من الآخر، بل نفيت أن يكون أحد أفقه منهم، لا يقال: إن من منع مساجد الله، وسعى في خَرَابها، ولم يفتر على الله كذباً أقلّ ظلماً ممن جمع بين هذه الأشياء، فلا يكونون متساوين في الأظلمية إذ هذه الآيات كلها في الكُفَّار، وهم متساوون في الأظلمية إذْ كانت طرق الأظلمية مختلفة.(2/405)
و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، فلا محلّ للجملة بعدها، وأن تكون موصوفةً فتكون الجملة محلّ جار صفة لها.
و «مَسَاجِدَ» مفعول أول بت «منع» ، وهي جمع مسجد، وهو اسم مكان السجود، وكان من حقه أن يأتي على «مَفْعَل» بالفتح لانضمام عين مضارعة، ولكن شذّ كسره، [كما شذّت ألفاظ تأتي] .
وقد سمع «مَسْجَد» بالتفح على الأصل.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: قال الفَرَّاء: كل ما كان على «فَعَلَ يَفْعُل» ، مثل دَخَلَ يَدخُل، فالمَفْعَل منه بالفتح اسماً كان أو مصدراً، ولا يقع فيه الفرق، مثل: دخل يَدْخُل مَدْخَلاً، وهذا مَدْخَلُه، إلاَ أحرفاً من الأسماء ألزموها كسر العين، من ذلك: المَسْجِد، والمَطْلع، المَغْرِب، والمَشْرِقن والمَسْقِط، والمَفْرِق، والمْجزِر، والمَسْكِن، والمَرْفِق، من: رفَقَ يَرْفُق، والمَنْبِت، والمنْسك مَنْك نَسَكَ يَنْسُك، فجعلوا الكَسر علامة للاسم.
والمَسْجَد بالفتح جَبْهَةُ الرجل حيث يصيبه مكان السجود.
قال الجوهري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الأعظاء السَّبعة مَسَاجد، وقد تبدل جيمه ياء، ومنه: المَسْجد لغة «.
قوله تعالى:» أَنْ يُذْكَرَ «ناصب ومنصوب، وفيه أربع أوجه:
أحدها: أنه ثاني ل» منع «، تقول: منعته كذا.
وقال أبو حيان: فتعين حذف مضاف أي دخول مساجد الله، ما أشبهه.
والثالث: أنه بدل اشتمال من» مَسَاجِدَ «أي: منع ذكر اسمه فيها.
والرابع: إنه على إسقاط حرف الجر، والأصل من أن يذكر، وحينئذ يجيء فيها مذهبان مشهوران م كونها في محلّ نصب أو جر، و» في خرابها «متعلق ب» سعى «.
واختلف في» خراب «فقال أبو البقاءك» هو اسم مصدر بمعنى التخريب كالسَّلام بمعنى التسليم، وأضيف اسم المصدر لمفعوله؛ لأنه يعمل عمل الفعل «.
وهذا على أحد القولين في أسم المصدر، هل يعمل أو لا؟ وأنشدوا على إعماله: [الوافر]
746 - أَكُْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا
وقال غيره: هو مصدر: خَرِبَ المكمان يَخْرُبَ خرباًن فالمعنى: سعى في أن تَخْرب(2/406)
هي بنفسها بعدم تَعَاهدها بالعِمَارة، ويقال: منزل خَرَاب وخَرِب؛ كقوله: [البسيط]
747 - ما رَبْعُ مَيِّةَ مَعْمُوراً يَطِيفُ بِهِ ... غَيْلاَنُ أَبْهَى رُباً مِنْ رَبْعِها الخَرِبِ
فهو على الاول مضاف للمفعول وعلى الثاني مضاف للفاعل.
فصل في تعلق الآية بما قبلها
في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
فأما من حملها على النصارى، وخراب» بيت المقدس «قال: تتصل بما قبلها من حيث النصارى ادّعوا أنهم من أهل الجنة فقط. فقيل لهم: كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد، والسعي في خراباها هكذا؟ وأما من حمله على المسجد الحرام، وسائر المساجد، قال: جرى مشركي العرب في قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] .
وقيل: [ذم جميع الكفار] ، فمرة وجه الذَّنب إلى اليهود والنصارى، ومرة إلى المشركين.
فصل فيمن خرب» بيت المقدس «
قال بن عباس رضي الله تعالى عنه: [إن ملك النصارى غزا» بيت المقدس «فخربه، وألقى فيه الجيف، وحاصر أهله، وقلتهم، وسبى البقية، وأحرق التوراة] ، ولم يزل» ببيت المقدس «خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر.
وقال الحسن وقتادة والسديك نزلت في بخت نصر وأصحابه غزو اليهود وخربوا بيت المقدس، وأعانه على ذلك [الرومي وأصحابه النصارى من أهل» الروم «.
قال السدي: من أجل أنهم قلتوا يحيى بن زكريا عليهما السلام.
قال قتادة: حلمهلم بغض اليهود على معاونة بخث نصر البابلي المجوسي] .
قال ابو بكر الرازي رَحِمَهُ اللهُ تعالى في «أحكام القرآن» : هذان الوَجهان غلطان؛(2/407)
لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد «بختنصّر» كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل، والنصارى كانوا بعد المسيح، فيكف يكونون مع بختنصّر في تخريب «بيت المقدس» ؟
وأيضاً فإن النصارى يعتقدون في تعظيم «بيت المقدس» مثل اعتقاد اليهود وأكثر، فكيف أعانوا على تخريبه.
وقيل: نزلت في مشركي العَرَبِ الذين منعوا الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن الدعاء إلى الله ب «مكة» وألجئوه إلى الهِجْرةن فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام، وقد كان الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْه بنى مسجداً عند دارهن فمنع وكان ممن يؤذيه وِلْدَان قريش ونساؤهم.
وقيل: إن قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] نزلت في ذلك، فمنع من الجهر لئر يؤذى، وطرح أبو جهل العذرة على ظهر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقيل: ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحّدون الله ولا يشركون به شيئاً، ويصلون له تذللاً، وخشوعاًن ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه، وألسنتهم بالذكر له، وجميع جسدهم بالتذلُّل لعظمته وسلطانه.
وقال أبو مسلم: المراد منه الذين صّدُّوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من «المدينة» عام «الحديبية» ، واستشهد بقوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] حلم قوله تعالى: «إلاَّ خَائِفِينَ» بما يعلي الله من يده، ويظهر من كلمته، كما قال في المُنَافقين: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 6061] .
[فإن قيل: كيف يجوز حمل لفظ المساجد علكى مسجد واحد؟
والجواب: أن هذا كمن يقول: من أظلم ممن آذى صالحاً واحداً، ومن أظلم ممّن آذى الصالحين.
أو يقال: إن المسجد موضع السجود، والمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مَسْجداً واحداً] .
قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه خامس، وهو أقرب إلى رعاية النظم، وهو أن يقال: إنه لما حولت القِبْلَة إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهودن فكانوا يمنعون النَّاس عن الصَّلاة عند توجّههم إلى الكعبة، ولعلّهم أيضاً سعةوا في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها، وسعوا أيضاً في تخريب مسجد الرَّسُول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لئلا يصلوا فيه متوجّهين إلى القِبْلَةِ، فعابهم الله بذلكن وبيّن سوء طريقتهم فيه.(2/408)
قال: وهذا التأويل أوْلَى مما قبله، وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السَّابقة على هذه الآية إلاَّ قبائح أفعال اليهود ولنصارى، وذكر أيضاً بعدها قَبَائح أفعالهم، فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صَدّهم الرسول عن المَسجِدِ الحرام.
وأما حمل الآية على سَعْيِ النَّصَارى في تخريب «بيت المقدس» فضعيف أيضاً على ما شرحه أبو بكر الرَّازي رَحِمَهُ اللهُ تعالى، فلم يبق إلاَّ ما قلناه.
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم، وفيه إشكال؛ لأن الشرك ظلم على ماقال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 113] مع أن الشِّرك أعظم من هذا الفعل، كذا الزنا، وقتل النفس أعظم من هذا الفعل.
فالجواب عنه: [مضى ما في الباب] أنه عام دخله التخصيص، فلا يقدح فيه. والله أعلم.
فصل فيما يستدل بالآية عليه
قال القُرْطبي رَحِمَهُ اللهُ: لا يجوز منع المرأة من الحجّ إذا كانت ضرورة، سواء كان لها محرم أم لم يكن، ولا تمنع أيضاً من الصَّالا في المَسَاجد، ما لم يخف عليها الفتنة لقوله عليه الصلاة واسلام: «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذلك لا يجوز نقض المسجد، ولا بيعه، ولا تعطيله، إن خربت المحلّة، ولا يمنع بناء المساجد إلاَّ أن يقصدوا الشِّقاق والخلاف، بأن يَبْنُوا مسجداً إلى جنب مَسْجد أو قَرْية، يريدون بذلك(2/409)
تفريق أهل المسجد الأول وخرابه، واختلاف الكلمة، فإن المسجد الثَّاني ينقض، ويمنع من بنيانه، وسيأتي بقية الكلام [في سورة «براءة» إن شاء الله تعالى] .
قوله تعالى: {أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ} .
«أولئك» مبتدأ، «لهم» خبر «كان» مقدّم على اسمها، واسمها «أنْ يَدْخُلُوهَا» لأنه في تأويل المصدر، أي: ما كان لهم الدخول، والجملة المنفية محلّ رفع خبر عن «أولئك» .
قوله: إلاَّ خَائِفِينَ «حال من فاعل» يَدْخُلُوهَا «وهذا استثناء مفرّغ من الأحوال؛ لأن التقدير: ما كان لهم الدخول في جميع الأحوال، إلاَّ في حالة الخوف.
وقرأ أبي» خُيَّفاً «وهو جمع خَائِف، ك» ضارب و «ضُرّب» ، والأصل: خُوَّف ك «صُوَّم» ، إلا أنه أبدل الواوين ياءين وهو جائز، قالوا: صوم وصيم، وحَمَل أولاً على لفظ «من» ، فأفرد في قوله: «منع، وسعى» وعلى معناه ثانياً، فجمع في قوله: «أولئك» وما بعده.
فصل في ظاهر الآية
ظاهر الآية يقتضي أنَّ الذين منعوا وسعوا في تخريب المَسْجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلاَّ خائفين.
وأما من جعله عامَّا في الكل، فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوهاً:
أحدها: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مَسَاجد الله إلاَّ خائفين على حال الهيبة؛ وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فَضْلاً أن يستولوا عليها، ويمنعوا المؤمين منها، ولمعنى فما كان الحقّ والواجب إلا ذلك الولاء ظلم الكفرة وعتوّهم.
وثانيها: أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظرهم على المسجد الحرام، وعلى سائر المساجد، وأنه يذلّ المشركين لهم حتَّى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلاَّ خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب، أو يقتل إن لم يسلمنوقد أنجز الله تعالى ت صدق هذا الوعد، فمنعهم من دخول المسجد الحرام، ونادى فيه عام حجّ أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْه: «ألا لا يحجن بعد العام مشرك» ن وأمر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأخراج اليهود من جزيرة العرب، فحجّ من العام الثاني ظارهاً على المساجد لا يجترىء أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام، وهذا هو تفسير أبي مسلم.
ثالثها: أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصَّغّار والذل بالجِزْيَةِ والإذْلال.
ورابعها: أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام، إلاّ في أمر يتضمن الخوف نحو أن(2/410)
يدخلوا للمُخَاصمة والمُحَاكمة والمُحَاجّة؛ كلّ ذلك يتضمّن الخوف، والدليل عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] .
وخامسها: قال قتادة والسُّديك بمعنى أن النصارى لا يدخلون «بيت المقدس» إلا أكثر من مائة سنة في أيدي النَّصَارى بحيث لم يتمكّن أحد من المسلمين من الدُّخول فيه إلا خائفاً، إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين رَحِمَهُ اللهُ في زماننا.
وسادسها: أنه كان لفظه لفظ الخبر، لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول، والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] .
[وسابعها: أنه خبر بمعنى الإنشاء أي أنهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلاَّ خائفاً من القتل والسَّبي] .
قوله: {لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ} هذه الجملة وما بعدها لا محلّ لها لاستئنافها عما قبلها، ولا يجوز أن تكون حالاً، لأن خزيهم ثابتٌ على كلّ حال لا يتقيّد بحال دخول المساجد خاصّة.
اختلفوا في الخِزْي، فقال بضعهم: ما يلحقهم من الذُّل بمنعهم من المساجد، وقال قتادة القَتْلُ للخزي، والجزية للذمي.
وقال السدي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهدين وفتح «عَمورِيّة» و «رُومِيَّة» و «قُسْطَنْطِنيَّة» ، وغير ذلك من مُدنهم، والعَذاب العظيم [فقد وصفه الله تعالى ت بما] يجري مجري النهاية في المبالغة؛ لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم باعظم الظلمن فبيّن أنهم يستحقون العقاب العظيم.
فصل في دخول الكفار المسجد
اختلفوا في دخول الكافر المسجد، فجوزه أبو حنيفة مطلقاً، وأباه مالك مطلقاً.
وقال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: يمنع دخول الحرم، والمسجد الحرام، واحتج بوجوه منها قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}
[التوبة: 28] ، قال: قد يكون المراد المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] وإنما أسرى به من بيت خديجة فالآية دالة، إما على المسجد فقط، أو على الحرم كله، وعلى التقديرين، فالمقصود حاصل؛ لأن الخلاف حاصل فيهما جميعاً.(2/411)
فإن قيل: المراد به الحجّ لقوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] لأن الحجّ إما يفعل في السنة مرة واحدة.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه ترك للظَّاهر من غير موجب.
الثَّاني: ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علّة لذلك الحكم، وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نَجَاستهم، [وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام] .
الثالث: أنه تعالى لو أراد الحج لذكر البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج هو «عرفة» .
الرابع: الدَّليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 28] فأراد به الدخول للتجارة.
منها قوله تعالى: {أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المساجد، وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلاَّ ما قام عليه الدليل.
فإن قيل: هذه الآية مخصوصة بمن خرب «ببيت المقدس» ، أو بمن منع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من العِبَادَةِ في الكعبة.
وأيضاً يحتمل أن يكون خوف الجزية والإخراج.
فالجواب عن الأول: أن الآية ظاهرة في العموم فتخصيصه ببعض الصور خلاف الظاهر، وعن الثاني أن الآية تدل على أن الخوف إنما يحصل من الدخولن وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولداً من الدخول، بل من شيء آخر.
ومنها [أن الحرم واجب التعظيم والتكريم والتشريف والتفخيم، وأن صونه عمّا يوجب تحقيره واجبٌ، وتميكن الكُفَّار من الدخول فيه تفويض له بالتحقير؛ لأنهم لفسادهم ربما استخفُّوا به، وأقدموا على تلويه وتنجسه.
ومنها أنه تعالى] أمر بتطهير البيت في قوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125] والمشرك نجس لقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] .
والتطهير على النجس واجب، فيكون تعبيد الكافر عنه واجباً، وبأنا أجمعنا على أن الجُنب يمنع منه، فالكافر بأن يمنع منه أولى.
واحتج أبو حنيفة رَحِمَهُ اللهُ بأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لماتقدم عليه وفد «(2/412)
يثرب» فأنزلهم المسجد بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الكَعْبَةَ فِهُوَ آمِنٌ» .
وهذا يقتضي إباحة الدخول.
وأيضاً فالكافر جاز له دخول سائر المساجد، فكذلك المسجد الحرام كالمسلم.
الجواب عن الحديثين: أنهما كانا في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بالآية، وعن القياس أن المسجد الحرام [أعظم] قدراً من سائر المساجد، فظهر الفرق، والله أعلم.(2/413)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
قوله: عَزَّ وَجَلَّ: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} جلمة مرتبطة بقوله: «مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ، وسَعَى في خَرَابِهَا» .
يعنى: أنه إن سعى في المنع من ذكره تعالى وفي خراب بيوته، فليس في ذلك مانعاً من أداء العبادة في غيرها؛ لأن المشرق والمغرب، وما بينهما له تعالى، والتنصيص على ذكر المشرق والمغرب دون غيرها لوجهين:
أحدهما: لشرفهما حيث جعلا لله تعالى.
والثاني: أن يكون من حذف المعلوم للعلم، أي: لله المشرق والمغرب وما بينهما، كقوله: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] والبرد؛ وكقول الشاعر: [البسيط]
748 - تَنْفِي بَدَاهَا الحَصَى في كُلَّ هاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيارِيفِ
أي: يداها ورِجْلاَهَا؛ ومثله: [الطويل]
749 - كأَنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا ... إَّذَا نَجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أَعْسَرَا
أي: رجلُها ويدَاها.
وفي المشرق والمغرب قولان:(2/413)
أحدهما: أنهما اسمان مكان الشروق والغروب.
والثاني: أنهما اسما مصدر، أي: الإشراق والإغراب، والمعنى: لله تعالى تولي إشراق الشمس من مشرقها، وإغرابها من مغْربها، وهذا يبعده قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} ، وأفرد المشرق والمغرب إذ المراد ناحيتهما، أو لأنهما مصدران، وجاء المَشَارق والمغارب باعتبار وقوعهما في كل يوم، والمشرقين والمغربين باعتبار مشرق الشتاء والصيف ومغربيهما، وكان من حقهما فتح العين لما تقدم من أنه إذا لم تنكسر عين المضارع، فحق أسم المصدر والزمان والمكان فتح العين، ويجوز ذلك قياساً لا تلاوة.
قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} «أَيْنَ» هنا اسم شرط بمعنى «إنْ» و «ما» مزيدةٌ عليها، و «تولو» مجزوم بها.
وزيادة «ما» ليست لازمةً لها؛ بدليل قوله: [الخفيف]
750 - أَيْنَ تَضْرِبْ بِنَا العُدَاةَ تَجِدْنَا..... ... ... ... ... ... .
وهي ظرف مكان، والناصب لها ما بعدها، وتكون اسم استفهام أيضاً، فهي لفظ مشترك بين الشرط والاستفهام ك «مَنْ» و «مَا» .
وزعم بعضهم أن أصلها السؤال عن الأمكنة، وهي مبنية على الفتح لتضمنها معنى حرف شرط أو الاستفهام.
وأصل تُولُوا: تُولِّيوا فأعل بالحذفن وقرأ الجمهور: تُوَلُّوا «بضم التاء واللام بمعنى تستقبلوا، فإن» ولى «وإن كان غالب استعمالها أدبر، فإنها تقتضي الإقبال إلى ناحية ما.
تقول: وليت عن كذا إلى كذا، وقرأ الحسن:» تَوَلَّوا «بفتحهما.
وفيها وجهان:
أن يكون مضارعاً، والأصل: تتولوا من التولية، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، نحو: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] .
والثاني: أن يكون ماضياً، والضمير للغائبين ردّاً على قوله:» لَهُمْ في الدُّّنْيَا ولهم في الآخرة «فتتناسق الضمائر.(2/414)
وقال أبو البقاء: والثاني: أنه ماض والضمير للغائبين، والتقدير: إينما يَتَلّوا، يعنى: أنه وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معى ثم قال: وقد يجوز أن يكون ماضياً قد وقع، ولا يكون» أين «شرطاً في اللفظ، بل في المعنى، كما تقول:» ما صنعتَ صنعتُ «إذا أردت الماضي، وهذا ضعيف؛ لأن» أين «إما شرط، أو استفهما، وليس لها معنى ثالث.
انتهى وهو غير واضح.
قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ الله} الفاء وما بعدها جواب الشَّرْط، فالجملة في محلّ جزم، و «ثَمَّ» خبر مقدمن و «وَجْهُ اللهِ» رفع بالابتداء، و «ثَمَّ» اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مثل: هنا وهنَّا بتشديد النون، وهو مبني على الفتح لتضمّنه معنى حرف الإشارة أو حرف الخطاب. قال أبو البقاء: لأنك تقول في الحاضر هنا وفي الغائب هناك، وثَمَّ ناب عن هناك [وهذا ليس بشيء] .
وقيل: بني لشبهه بالحَرْشفِ في الافتقار، فإنه يفتقر إلى مشار إليه، ولا ينصرف بأكثر من جره ب «من» .
ولذلك غَلِظ بعضهم في جعله مفعولاً في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإنسان: 20] ، بل مفعول «رأيت» محذوف.
فصل في نفي التجسيم
وهذه الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه؛ لأنه لو كان الله تعالى جسماً، وله جه جسماني لكان مختصاً بجانب معين وجهةٍ معينة، ولو كان كذلك لكان قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} كذبان ولأن الةوجه لو كان محاذياً للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذياً للمغرب أيضاً، وإذا ثبت هذا، فلا بد فيه من التأويل، ومعنى «وَجْهُ اللهِ» جهته التي ارتضاها قِبْلَةٌ وأمر بالتوجه نحوها، أو ذاته نحو: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 68] ، أو المراد به الجَاهُ، أي: فَثَمَّ جلال الله وعظمته من قولهم: هو وجه القول، أو يكون صلةً زائداً، وليس بشيء.
وقيل: المراد به العمل قاله الفراء؛ وعليه قوله: [البسيط]
751 - أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصٍيَهُ ... رَبَّ العِبَادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ(2/415)
[قوله تعالى: «وَاسِعُ عَليم» أي: يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم.
وقيل: واسع المغفرة.
فصل في سبب نزول الآية
في سبب نزول الآية قولان:
أحدهما: أنه أمر يتعلّق بالصلاة. والثاني: في أمر لا يتعلق بالصلاة.
فأما القول الأول فاختلفوا فيه على وجه:
أحدها: أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقابل «بيت المقدس» إلى الكعبة، فبيّن تعالى أن المشرق والمغرب، وجميع الجهات كلّها مملوكة له سبحانه وتعالى، فإينما أمركم الله عزّ وجلّ باستقباله فهو القبلة؛ لأن القبلة ليست قبلة لذاتها؛ بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، فهو يدبر عباده كيف يريد] وكيف يشاء فكأنه تعالى ذكر ذلك بياناً لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر.
وثانيها: قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما لما تحولت القِبْلَة عن «بيت المقدس» أنكرت اليهود ذلك، فنزلت الآية ونظيره قوله تعالى:
{قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] .
وثالثها: قال أبو مسلم: إن اليهود والنَّصَارى كل واحد منهم قال: إنَّ الجنة له لا لغيره، فردَّ الله عليهم بهذه الآية؛ لأن اليهود إنما استقبلوا «بيت المقدس» ؛ لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصَّخرة والنصارى استقبلوا المشرق؛ لأن مريم انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فولدت عيسى عليهما الصلاة والسلام هناك، فردَّ الله عليهم أقوالهم.
ورابعها: قال قتادة وابن زيد: إن الله تعالى نسخ «بيت المقدس» بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية، فكان للمسلمين أن يتوجّهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة، إلاَّ أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يختار التوجّه إلى «بيت المقدس» ، مع أنه كان له أن يتوجّه حيث شاء، ثم إنه تعالى نسخه ذلك بتعيين الكعبة.
وخامسها: أن المراد بالآية من هو مشاهد الكعبة، فإنّ له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد.
[وسادسها: ماروى عبد الله بن عامر بن ربيعة رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة، فجعل كل واحد منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه، ثم صلينا فلما أصبحنا، فإذا نحن على غير القِبْلَةِ، فذكرنا ذلك(2/416)
لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانزل الله تعالى هذه الآية، وهذا الحديث يدلّ على أنهم نقلوا حينئذ إلى الكعبة؛ لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ «بيت المقدس» ] .
وسابعها: أن الآية نزلت في المسافر يصلى النوافل حيث تتوجّه به راحتله.
وعن سعيد بن جبر عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهما أنه قال: «إنما نزلت هذه الآية في الرَّجل يصلي إلى حيث توجّهت به راحتله في السفر» .
قال ابن الخطيب: فإن قيل: فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصَّواب؟
قلنا: إن قوله تبارك وتعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} مشعر بالتخيير، والتخيير لا يَثْبُت إلا في صورتين:
إحداهما: في التَّطوع على الراحلة.
وثانيهما: في السفر عند تعذُّر الاجتهاد لظلمه أو لغيرها؛ لأن في هذين الوجهين المصّلي مخير.
فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير، والذين حملوا الآية على الوجه الأول، فلهم أن يقولوا: إن القِبْلَةَ لمّا حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس، فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صواباً في ذلك الوقت، والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القِبْلَتَين في المأذون فيه، فَثَمَّ وجه الله، قالوا: وحمل الكلام على هذا الوجه أولى؛ لأنه يعم كل مصلِّ، وإذا حمل على الأول لا يعم؛ لأنه يصير محمولاً على التَّطوع دون الفرد، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه، فهو أولى من التخصيص، وأقصى ما في ال «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا» باب أن يقال: إنَّ على هذا التأويل لا بد أيضاً من ضرب تقييد وهو أن يقال: من الجهات المأمور بها «فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» إلاَّ أن هذا الإضمار لا بد منه على كلّ حال؛ لأنه من المحال أن يقول تعالى: «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا» بحس ميل أنفسكم «فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» ، بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناهن وإذا كان كذلك، فقد زالت طريقة التخيير.(2/417)
القول الثاني: أنَّ هذه الآية نزلت في آمر سوى الصَّلاة وفيه وجوه:
أولها: أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجي أن يذكر فيها اسمي، وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا، ثم إنهم أينما ولُّوا هاربين عني وعن سلطاني، فإن سلطانى يلحقهم، [وتدبيري] يسبقهم، فعلى هذا يكون المراد منه [سعة القدرة والسطان] وهو نظير قوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ:، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7] ، وقوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98] .
وثاينها: قال قَتَادة: إن النبي عليه السلام قال:» إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ «، وقالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم فنزل قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 199] فقالوا: إنه كان لايصل [إلى القِبْلَة، فأنزل الله تعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ومعناه أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب، وما بينهما كلها لي، فمتى وجّه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني، ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان هذا عذراً للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق، وهو نحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] .
وثالثها: قال الحسن، ومجاهد والضحاك رَضِيَ اللهُ عَنْهم: لما نزل قوله سبحانه وتعالى: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قالوا: أين ندعوه؟ فنزلت هذه الآية.
ورابعها: قال علي بن عيسى رَحِمَهُ اللهُ: إنه خطاب للمؤمنين ألا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله تعالى عن ذكره حيث كنتم من أرضهم، فللَّه المشرق والمغرب، والجهات كلها.
وخامسها: زعم بعضهم أنها نزلت في المجتهدين الوافدين بشرائط الاجتهاد فهو مصيب] .
فصل(2/418)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قرأ الجمهور: «وَقَالُوا» بالواو عطفاً لهذه الجملة الخبرية على ما قبلها، وهو أحسن في الربط.(2/418)
وقيل: هي معطوفة على قوله: «وَسَعَى» فيكون قد عطف على الصّلة مع الفعل بهذه الجمل الكثيرة، وهذا ينبغي أن ينزّه القرآن عن مثله.
وقرأ ابن عامر وكذلك هي في مصاحف «الشام» : «قَالُوا» من غير «واو» ، وكذلك يحتمل وجيهن:
أحدهما: الاستئناف.
والثاني: حذف حرف العَطْف وهو مراد، استغناءٌ عنه بربط الضَّمير بما قبل هذه الجملة، و «اتَّخَذَ» يجوز أن يكون بمعنى عمل وصنع، فيتعدّى لمفعول واحد، وأن يكون بمعنى صَيَّر، فيتعدّى لاثنين، ويكون الأول هنا محذوفاً تقديره: وقالوا: اتخذ الله بعض الموجودات ولداً، إلا أنه مع كثرة دور هذا التركيب لم يذكر معها إلا مَفْعُول واحد: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} [الأنبياء: 26] ، {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] ، {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 92] . والوَلد فعل بمعنى مفعول كالقَبْض والنقص وهو غير مقيس والمصدر: الولادة والوليدية وهذا الثاني غ ريب.
وقوله: «سبحانه» .
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «سُبْحَان» منصوب على المصدر، ومعناه التبرئة والتنزيه عما قالوا.
قوله تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} .
«بَلْ» إضراب وانتقال، و «لَهُ» خبر مقدم، و «ما» مبتدأ مؤخر، وأتى هنا ب «مَا» ؛ لأنه إذا اختلط العاقل بغيره كان المتكلّم مخيراً في «مَا» و «مَنْ» ، ولذلك لما اعتبر العقلاء غلبهم في قوله «قَانِتُونَ» ، فجاء بصيغة السَّلامة المختصّة بالعقلاء.
قال الزمخشري فإن قلت: كيف جاء ب «مَا» التي لغير أولي العلم مع قوله: «قَانِتُونَ» .
قلت: هو كقولهك «سبحان ما سخركن لنا» وكأنه جاء ب «ما» دون «من» تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم، وهذا جنوح منه إلى أن «ما» قد قد تقع على أولي العلم، ولكن المشهور خلافه.
وأما قوله: «سُبْحان ما سَخَّرَكُنَّ لَنَا» فسبحان غير مضاف، بل هو كقوله:
752 - ... ... ... ... ... ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةً ... ... ... .(2/419)
و «ما» مصدرية ظرفية.
قوله تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مبتدأ وخبر، و «كُلُّ» مضاف إلى محذوف تقديراً، أي: كلّ مَنْ في السموات والأرض.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولداً كذا قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى. وهذا بعيد جداً، لأن المجعول ولداً لم يَجْرِ له ذكر، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولداًَ وغيره «.
قوله: «لم يَجْرِ له ذكر» بل قد جرى ذكره فلا بُعْدَ فيه.
وجمع «قَانِتُونَ» حملاً على المعنى لما تقدم من أن «كُلاَّ» إذا قطعت عن الإضافة جاز فيها مراعاة اللفظ، [ومراعاة المعنى، وهو الاكثر نحوه: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] ومن مراعاة] اللَّفظ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40] ، وحسن الجمع هنا لِتَوَاخي رُؤُوس الآي.
والقُنُوت: أصله الدوام، ويستعمل على أربعة أوجه: الطاعة والانقياد، كقوله تعالى: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ} [آل عمران: 43] وطول القيام، كقوله عليه السلام «لما سئل: أي الصَّلاة أفضل؟ قال: طول القُنُوت» وبمعنى السّكوت [كقول زيد بن أرقم رَضِيَ اللهُ عَنْه: كنا نتكلّم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمسكنا عن الكلام والدعاء، ومنه القنوت.
قال ابن عباس ومجاهد رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «قانتون» أي: أن كل من في السموات والأرض مطيعون.
وأورد على هذا أن الكفار ليسوا مطيعين.
وقال السّدي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يطيعون يوم القيامة، وأوردوا على هذا أيضاً بأن هذا صفة المتّكلين] .(2/420)
وقوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات} يتناول مَنْ لا يكون مكلفاً، فعند هذا فسّروا القنوت بوجوه أخر:
الأول: بكونها شاهدةً على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصّنعة، وأمارات الحدوث والدلائل على الربوبية.
الثاني: كون جميعها في ملكه وقهره يتصرّف فيها كيف يشاء، وهو قول أبي مسلم رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وعلى هذين الوجيهن الآية عامة.
الثالث: أراد بما في السَّموات الملائكة وما في الأرض عيسى والعزيز؛ أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليه بالولدية أنهم قانتون له.
فصل فيمن قال اتخذ الله ولداً
قال ابن الخطيب: اعلم أن الظاهر من قوله: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} أن يكون راجعاً إلى قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله} [البقرة: 114] وقد ذركنا أن منهم من تأوّله على النصارى.
ومنهم من تأوّله على مشركي العرب.
ونحن قد تأولناه على اليهود، وكل هؤلاء أثبوا الولد لله تعالى؛ لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنَّصَارى قالوا: المسيح ابن الله، ومشركوا العرب قالوا: الملائكة بنات الله، فلا جَرَمَ صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: إنها نزلت في كعب بن الأشرف، وكعب بن الأسد، ووهب بن يهوذا؛ فإنهم جعلوا عزيراً ابن الله [سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.
وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما] عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: قال الله تعالى: «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أنِّي لاَ أََقْدِرُ أنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أنْ أَتْخِذَ صَاحِبَةً أوْ وَلَداً» .
فصل في تنزيه الله تعالى
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ: احتج على التنزيه بقوله تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} ووجه الاستدلال من وجوه:(2/421)
الأول: أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاتهن وكل ممكن لذاته محدث، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود، والمخلوق لا يكون ولداً [لأن المخلوق محدث مسبوق بالعدم، ووجوده إنما حصل يخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه، فثبت أن ما سواه فهو عبده، وملكه، فيستحيل أن يكون كل شيء مما سواه ولداً له، كلّ هذا مستفاد من قوله: «بل له ما في السموات والأرض» أي: له كلّ ماسواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع] .
والثاني: أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده، إما أن يكون قديماً أزلياً أو محدثاً، فإن كان أزليًّا لم يكن حكمنا بجعل أحدها ولداً والآخر والداً أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكماً مجرّداً من غير دليل، وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له.
والثالث: أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد، فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه، وممتازاً عنه من وجه آخر، وذلك يقتضي كون كلّ واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك مُحَال، فإذن المجانسة ممتنعةٌ، فالولدية ممتنعة.
الرابع: أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر، ورجاء الانتفاع بمعونته حال عَجْزِ الأب عن أمور نفسه، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصحّ على من يصح عليه الفَقْر [يحكى أن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْه قال لبعض النصارى: لولا تمرد عيسى عن عبادة الله عَزَّ وَجَلَّ لصرت على دينه فقال النصراني: كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع جده في طاعة الله تعالى؟ فقال علي رَضِيَ اللهُ عَنْه: فإن كان عيسى إلهاً فكيف يعبد غيره، إنما العبد هو الذي تليق به العبادة، فانقطع النصراني] .
قوله تعالى: «بَدِيعُ السَّمَوَاتِ» المشهور رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو بديع.
وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير في «لَهُ» [وفيه الخلاف المشهور] وقرىء بالنصب على المدح.(2/422)
و «بديع السموات» من باب الصفة المشبهة أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلاً في الأصل، والأصل بديع سماواتُه، أي بَدُعَت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب، ثم شبهت هذه الصفة باسم الفاعل، فنصبت ما كان فاعلاً، ثم أضيفت إليه تخفيفاً، وهكذا كلّ ما جاء نظائره، فالإضافة لا بد وأن تكون من نصب؛ لئلا يلزم إضافته الصفة إلى فاعلها، وهو لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل.
وقال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ: و «بديعُ السَّمَوَاتِ» من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها.
ورده أبو حيان بما تقدم، ثم أجاب عنه بأنه يحتمل أن يريد إلى فاعلها في الأصل قبل أن يشبه.
وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً: وهو أن يكون «بديع» بمعنى مُبْدِع؛ كما أن سميعاً في قول عَمْرو بمعنى مسمع؛ نحو: [الوافر]
753 - أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي وأصْحَابِي هُجُوعُ
إلا أنه قال: «فيه نظر» ، وهذا الوجه لم يذكر أبن عطية غيره، وكأن النظر الذى ذكره الزمخشري والله أعلم هو أن «فعيلاً» بمعنى «مُفْعِل» غيرُ مقبس، وبيت عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْه متأول، وعلى هذا القول يكون بديع السموات من باب إضافة اسم الفاعل لمصوبة تقديراً.
والمبدع: المخترع المنشىء، والبديع: الشيء الغريب الفائق غيره حسناً.
قوله تعالى: {وَإِذَا قضى أَمْراً} العامل في «إذَا» محذوف يدل عليه الجواب من قوله: «فَإنَّمَا يَقُولُ» ، والتقدير: إذا قضى أمراً يكون، فيكون هو الناصب له.
و «قضى» له معانٍ كثيرة.
قال الأزهري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «قضى» على وجوه مرجعُها إلى انقطاع الشَّيء وتمامه؛ قال أبو ذُؤَيْبٍ: [الكامل]
754 - وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ(2/423)
وقال الشَّماخ: [الطويل]
755 - قَضَيْتَ أُمُوراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ... بَوَائِقَ في أَكْمَامِهَا لم تُفَتَّقِ
فيكون بمعنى «خَلَقَ» نحو: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] وبمعنى أَعلم: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] .
وبمعنى أمر: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] .
وبمعنى ألزم: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29] .
وبمعنى ألزم: قضى القاضي بكذا.
وبمعنى أراد: «إِذَا قَضَى أمْراً» .
وبمعنى أَنْهَى، ويجيء بمعنى قَدَّر وأَمْضَى، تقول: قَضَى يَقْضِي قََضَاءَ؛ قال: [الطويل]
756 - سَأَغْسِلُ عَنِّي العَارَ بَالسَّيْفِ جَالِباً ... عَلَيَّ قَضَاءُ اللهِ مَا كَانَ جَالِبَا
ومعناه الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع، من قولهم: قضى القاضي لفلان على فلان بكذا إذا حكم؛ لأنه فصل للدعوى.
ولهذا قيل: حاكم فَيْصل إذا كان قاطعاً للخصومات.
وحكى ابن الأنباري عن أهل اللّغة أنهم قالوا: القاضي معناه القاطع الأمور المحكم لها.
ومنه: انقضى الشيء: إذا تم وانقطع.
وقولهم: قضى حاجته أي: قطعها عن المحتاج ودفعها عنه.
وقضى دينه: إذا أدَّاه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه، أو انتفع كل منهما من صاحبه.
وقولهم: قضى الأمر، إذا أتمه وأحكمه.
وأما قولهم: قضى المريض وقضى نَحْبَه: إذا مات، وقضى عليه: قتله فمجاز.
[اختلفوا في الأمر هل هو حقيقة في القول المخصوص أو حقيقة في الفعل وفي المقدر المشترك وهو كذا في أصول الفقه والله أعلم] .
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجهاً:
الأول: الدين؛ قال الله تعالى:
{حتى
جَآءَ
الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله} [التوبة: 48] يعني: دينه.(2/424)
الثاني: القول؛ قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} [المؤمنون: 27] يعني قولنا. وقوله: {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه: 62] يعنى قولهم.
الثالث: العذاب؛ قال تعالى: «لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ» يعني لما وجب العذاب بأهل النار.
الرابع: عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قال الله تعالى: {إِذَا قضى أَمْراً} [مريم: 35] يعنى: عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
الخامس: القتل ب «بدر» ، قال الله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله} [غافر: 78] يعنى: القتل ب «بدر» وقوله: {لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 42] يعنى قتل كفار «مكة» .
السادس: فتح «مكة» ؛ قال الله تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [التوبة: 42] يعنى فتح «مكة» .
السابع: قتل «قريظة» وجلاء «بني النضير» ؛ قال الله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] .
الثامن: القيامة، قال الله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] .
التاسع: القضاء؛ قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر} [الرعد: 2] يعنى القضاء.
العاشر: الوحي؛ قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض} [السجدة: 5] يعنى الوحي.
الحادي عشر: أمر الخلق؛ قال الله تعالى: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} [الشورى: 53] .
الثاني عشر: النصر، قال الله تعالى: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} [آل عمران: 154] يعنون: النصر، {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} [آل عمران: 154] يعني النصر.
الثالث عشر: الذنب؛ قال الله تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9] يعنى جزاء ذنبها.
الرابع عشر: الشأن والفعل، قال الله تعالى: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] لعله: وشأنه.
قوله تعالى: «فيكون» الجمهور على رفعه، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مستأنفاً أي خبراً لمبتدأ محذوف أي: فهو يكون، ويعزى لسيبوبه، وبه قال الزَّجَّاج في أحد قوليه.
والثاني: أن يكون معطوفاً على «يقول» ، وهو قول الزَّجاج والطبري، ورد ابن عطية هذا القول، وقال: إنه خطأ من جهة المعنى؛ لأنه يقتضي أن القول مع التَّكوين الوجود. انتهى. يعني أن الأمر قديم والتكوين حادث فكيف يعطف عليه بما يقتضي تعقيبه له؟(2/425)
وهذا الرد إنما يلزم إذا قيل بأن الأمر حقيقة.
أما أذا قيل بأنه على سبيل التمثيل، وهو [الأصح] فلا.
ومثله قوله أبي النجم: [الرجز]
757 - إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقي ... الثالث: أن يكون معطوفاً على «كن» من حيث المعنى، وهو قول الفارسي، وضَعَّفَ أن يكون عطفاً على «يقول» ؛ لأن من المواضع ما ليس فيه «يقول» كالموضع الثاني في «آل عمران» ، وهو «ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون» ولم ير عطفه على «قال» من حيثُ إنه مضارعن فلا يعطف على ماضي، فأورد على نفسه: [الكامل]
758 - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي(2/426)
فقال: «أَمُرُّ بمعنى مَرَرْتُ» .
قال بعضهم: ويكون في هذه الآية ت يعنى في آية «آل عمران» ت بمعنى «كان» فَلْيَجُزْ عَطْفُهُ على «قال» .
وقرأ ابن عامر: «فيكونَ» نصباً هنا، وفي الأولى من «آل عمران» ، وهي {كُنْ فَيَكُونُ} ، تحرزاً من قوله تعالى: {كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ} [آل عمران: 5060] .
وفي مريم: {كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} [مريم: 3536] .
وفي غافر: {كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ} [غافر: 6869] .
ووافقه الكسائي على ما في «النحل» و «يس» .
وهي: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] .
أما آيتا «النحل» و «يس» فظاهرتان: لأن ما قبل الفعل منصوباً يصح عطفه عليه، وسيأتي.
وأما ما انفرد به ابن عامل في هذه المواضع الأربعة، فقد اضطرب كلام النَّاس فيها، وهي لَعَمْري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام اكلبير، فقال ابن مجاهد: قرأ ابن عامر: «فَيَكُونَ» نصباً، وهذا غير جائز في العربيةح لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلاَّ في «يس» و «النحل» ن فإنه نسق لا جواب.
وقال في «آل عمران» : قرأ ابن عامر وحده: «كُنْ فَيَكُونَ» بالنصب وهو وَهَمٌ. قال: وقال هشامك كان أيوب بن تميم يقرأ: «فَيَكُونَ» نصباً، ثم رجع فقرأ: «يَكُونُ» رفعاً.
وقال الزجاج: «كُنْ فَيَكُونُ» رفع لاغير.
وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعي فيه ظاهر اللَّفظ من غير ناظر لملعنى، يريدون أه قد وجد في اللفظ صورة أمر فَنُصِبَتا في جوابه بالفاء.
وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى، فإن ذلك لا يصح لوجهين:(2/427)
أحدهما: أن هذا وإن كان بلفظ الأمر، فمعناه الخبر نحو: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن} [مريم: 75] . أي فيمدّ، وإذا كان معناه الخبر، لم ينتصب في جوابه بالفاء إلا ضرورة؛ كقوله: [الوافر]
759 - سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي تَمِيمٍ ... وَأََلْحَقُ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
وقول الآخر: [الطويل]
760 - لَنَا هَضْبَةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَهَا ... وَيَأْوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا
والثاني: أن من شرط النصب بالفاء في جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو: «ائتني فأكرمك» تقديره: «إن أتيتني أكرمتك» .
وها هنا لا يصح ذلك إذ يصير التدقير: إن تكن تكن، فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلاً، وقد علمت أنه لابد من تغايرهما، وإلا يلزم أن يكون الشيء شرطاً لنفسه وهو مُحَال، قالوا: والمُعَاملة اللفظية، واردةٌ في كلامهم نحو: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ} [إبراهيم: 31] {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} [الجاثية: 14] .
وقال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
761 - فَقْلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السَّيْفَ وَاشْتَمِلْ ... عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَارْقُبِ الشَّمْسَ تَغْرُبِ
وَأَسْرِجْ لِيَ الدَّهْمَاءَ وَاذْهَبْ بِمِمْطَرِي ولاَ يَعْلَمَنْ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ مَذهَبِي
فجعل «تَغْرُب» جوابابً ل «ارقب» وهو غير مترتِّب عليه، وكذلك لا يلزمُ من قوله أَنْ يفعلوا، وإنما ذلك مُرَاعة لجانب اللفظ.
أما ما ذكره في بيت عمر فصحيح.
وأما الآيات فلا نسلم أَنَّه غير مترتب عليهح لأنه أراد بالعباد الخُلّص، وبذلك أضافهم إليه.
أو تقولُ: إن الجزَمَ على حَذْفِ لامِ الأمر، وسيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى.(2/428)
وقال ابن مالك: «إنَّ» «أنْ» الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر ب «إنما» اختياراً، وحكاه عن بعض الكوفيين.
قال: وحكوا عن العرب: إنما هي ضربة من الأسد فتحطمَ ظهره بنصب «تحطم» ، فعلى هذا يكون النَّصْب في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك إلاَّ أنَّ هذا الذي نصبوه دليلاً لا دليل فيه لاحتمال أن يكون من باب العطف على الاسم تقديره: إنما هي ضَرْبَة فَحَطمح كقوله: [الوافر]
762 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقرَّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
فصل في تحرير كلمة كن
قال ابن الخطيب: أعلم أن ليس المراد من قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} هو أنه تعالى يقول له: «كُنْ» ، فحينئذ يتكون ذلك الشيء، فإن ذلك فاسد، والذي يدل عليه وجوه:
الأول: أن قوله تعالى: «كُنْ» ما أن يكون قديماً أو محدثاً، والقسمان فاسدان، فبطل القول بتوقّف حدوث الأشياء على «كُنْ» إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه:
الأول: أن كلمة «كُنْ» لفظة مركّبة من الكاف والنون بشرط تقدّم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد وأن يكون محدثاُ، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد، يجب أن يكون محدثاً.
الثاني: أن كلمة «إذا» لا تدخل إلا على الاستقبال، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثاً؛ لأنه دخل عليه حرف إذا وقوله: «كُنْ» مرتّب على القضاء ب «فاء» التعقيب؛ لأنه قال: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} والمتأخر عن المحدث محدث، فاستحال أن يكون «كُنْ» قديماً.
الثالث: أنه تعالى رتّب تكوين المخلوق على قوله: «كُنْ» ب «فاء» التعقيب، فيكون قوله: «كُنْ» مقدماً على تكوين المخلوق بزمان واحد، والمتقدم على المحدث(2/429)
بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثاً، فقوله: «كُنْ» لا يجوز أن يكون قديماًن ولا جائز أيضاً أن يكن قوله: «كُنْ» محدثاُ؛ لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله: «كُنْ» ، وقوله «كُنْ» أيضاً محدث، فيلزم افتقار «كُنْ» إلى «كُنْ» آخر، ويلزم التسلسل والدور، وهما مُحَالان، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقّف إحداث الحوادث على قوله: «كُنْ» وأن قوله: «كن» إن [كان] خطاباً له حال وجوده، فتحصيل للحاصل، قاله أبو الحسن الماوردي.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه، كما في بني إسرائيل أن يكونوا قِرَدَةً خاسئين، ولا يكون هذا في إيجاد المعدومات.
الثاني: أن الله تعالى علام بما هو كائن قبل كونهن فكانت الأشياء التي لم تكن كائنة لعلمه بها قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني، وبأمرها بالخروج من حال العدم إلى ح ال الوجودح لتصير جميعها له، ولعلمه بها في حال العدم.
الثالث: أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدث ويكوِّنهن إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً، كقول أبي النَّجْم: [الرجز]
763 - إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الحَقِي ... ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن.
وكقول عمروا بن هممة الدَّوْسِيّ: [الطويل]
764 - فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ ... إِذَا رَامَ تَطْيَراً يُقَالُ لَهُ: قَعِ
وقال الآخر: [الرجز]
765 - قَالَتْ جَنَاحَاهُ لِسَاقَيْهِ الحَقَا ... وَنَجِّيَا لَحْمَيْكُمَا أَنْ يُمْرَقَا
الحجة الثانية: أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق ب «كُن» قبل دخوله في الوجود، أو حال دخوله في الوجود، والأول باطل؛ لأن خطاب المعدوم حال عدمه سَفَه.
والثاني أيضاً باطل؛ لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً، وذلك أيضاً لا فائدة فيه.
الحجة الثالثة: أن المخلوق قد يكون جماداً، وتكليف الجماد عبثن ولا يليق بَالحكيم.
الحجة الرابعة: أن القادر هو الذي يصحّ منه الفعل وتركه بحسب الإيرادات، فإذا(2/430)
فرضنا القادر المريد منفكاً عن وقله: «كُنْ» فإما أن يتمكّن من الإيجادج والإحداث، أو لا يتمكّن، فإن تمكن لم يكن الإيحاد موقوفاً على قوله «كن» ، وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم ألاَّ يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه ب «كن» فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمّيتم القادرة ب «كن» وذلك نزاع لفظي.
الحجة الخامسة: أن «كُنْ» كلمة لو كان لها أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثر لهذه الكلمة.
الحجة السادسة: أن لفظة «كُنْ» ككلمة مركبة من الكاف والنون، بشرط كون الكاف متقدماً على النونن فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما؛ فإن كان الا ل لم يكن لكلمة «كُنْ» أثر البتة بل التأثير لأحد هذه الحرفينن وإن كان الثَاني فهو مُحَال؛ لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة؛ لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثَّاني حاصلاًُ، حين جاء الثَّاني فقد فات الأولن وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة.
الحجة السابعة: قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] بين أن قوله «كُنْ» متأخر عن خلقه، إذ المتأخر عن الشَّيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله: «كُنْ» في وجود الشيء، فظهر بذه الوجوه فساد هذا المذهب، فإذا ثبت هذا فنقول: لا بد من التأويل وهو من وجوه:
الأول: أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة.
الثاني: قال أبو الهُذَيل: إنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علما أنه أحدث أمراً.
الثالث: قال الاصم: إنه خاصٌّ بالموجودين الذين قال لهم: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] ، من جرى مجراهم.
الرابع: أنه أمر للأحياء بالموت، وللموتى بالحياة. والكل ضعيف، والقوي هو الأول.
وقال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: التكوين مع الأمر لا يتقدم الموجود، ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلاّ وهو موجود بالأمر، ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجودن ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله تعالى ولا يتأخر عنه كما قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] .(2/431)
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وتلخيص المعتقد في هذه الآية: أن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يزل آمراً للمعومات بشرط وجودها، قادراً مع تأخّر المقدورات، عالماً مع تأخر المعلومات، فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات؛ إذ المحدَثَات تجيء بعد أن لم تكن. كل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم، فهو قديم لم يزل ولمعنى الذي تقتضيه عبارة «كُنْ؛ هو قديم قائم بالذات.(2/432)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
«لو» و «لولا» يكونان حرفي ابتداء، وقد تقدم عند قوله: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله} [البقرة: 64] ويكونان حرفي تحضيض بمنزلة: «هلا» فيختصَّان بالأفعال ظاهرة أو مضمرة، كقوله: [الطويل]
766 - تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلاَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
أي: لولا تعدون الكمَيَّ، فإن ورد ما يوهم وقوع الاسم بعد حرف التخصيص يؤوَّشل؛ كقوله: [الطويل]
767 - ونُبِّئْتُ لَيْلَى أَرْسَلَتْ بِشَفَاعَةٍ ... إلَيَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِعُهَا(2/432)
ف «نفس ليلى» مرفوع بفعل محذوف يفسره «شفيعها» أي: فهلا شفعت نفس ليلى.
وقال أبو البقاء: إذا وقع بعدها المستقبل كانت للتحضيض، وإن وقع بعدها الماضي كانت للتوبيخ وهذا شيء يقوله علماء البيان، وهذه الجملة التخضيضية في محلّ نصب بالوقل.
قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الذين} قد تقدم الكلام على نظيره فليطلب هناك.
وقرأ أبو حيوة، وابن أبي إسحاق: «تَشَّابَهَت» بتشديد الشين.
قال الدَّاني: «وذلك غير جائز؛ لأنه فعل ماض» ، يعني: أن التاءين المزيدتين إنما تجيثان في المضارع فتدغم أما الماضي فلا.
فصل في قبائح اليهود والنصارى والمشركين
هذا نوع آخر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين، فإنهم قدحوا في التوحيد باتَّخاذ الولد، وَقَدَحُوا الآن في النبوّة.
قال ابن عباس: «هم اليهود» .
وقال مجاهد: «هم النصارى» لأنهم المذكورون أولاً، ويدلّ على أن المراد أهل الكتاب قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك} [النساء: 153] .
فإن قيل: المراد مشركو العرب، لأنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون، وأهلب الكتاب أهل العلم.
[قلنا] : المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي، وأهل الكتاب كانوا كذلك.
وقال قتادة وأكثر المفسرين: هم مشركو العرب لقوله: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} [الأنبياء: 5] ، وقالوا: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] .
وتقرير هذه الشبهة أنك تقول: إن الله تعالى يكلّم الملائكة وكلم موسى، ويقول: يا محمد إن الله تعالى كلّمك فلم يكلمنا مُشَافهة، ولا ينص على نبوتك(2/433)
حتى يتأكّد الاعتقاد، وتزول الشبهة، فأجابهم أنا قد أيدنا قول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمعجزات، وبالآيات وهي القرآن، وسائر المعجزات، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنّت، فلم يجب إجابتها لوجوه:
أحدها: أنه إذا حصلت الدلالة الواحدةن فقد تمكّن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة، فحيث لم يكتف بها، وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك من باب العناد، ويدل له قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] .
وثانيها: لو كان في [علم الله تبارك وتعالى] أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآسية لَفَعَلَهَا، ولكنه علم أنه لو أعطاعهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجاً فلا جرم لم يفعل ذلك، وذلك قال تعالى:
{وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] .
وثالثها: إنه ربما كان كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة؛ لأن الخوارق متى توالت صار انخراقُ العادة عادة، فحينئذ يخرج عن كونه معجزاً.
وأما قوله تعالى: «تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» [فالمراد أن المكذبين للرسل ت تتشابه أقوالهم وأفعالهم] ، فكما أن قوم موسى، [كانوا أبداً في التعنت واقتراح] الأباطيل، كقولهم: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] وقولهم: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] وقولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] وقولهم: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 152] ، فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبداً في العِنَادِ واللّجاج، وطلب الباطل.
قوله: {قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يعنى القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة، وكلام الذِّئْب، وإشباع الّخلق الكثير من الطعام القليل، آيات قاهرةٌ، ومعجزات باهرة لمن كان طالباً لليقين.(2/434)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
اعلم أن القوم لما أَصرُّوا على العِنَّاد واللّجَاج الباطل، واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بيّن الله تعالى لرسوله صلى الله أنه لا مزيد على مافعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة.
قوله: «بالحَقِّ» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مفعولاً به، أي: بسبب إقامة الحق.(2/434)
الثاني: أن يكون حالاً من المفعول في «أَرْسَلْنَاكَ» أي: أرسلناك ملتبساً بالحق.
الثالث: أن يكون حالاً من الفاعل، أي: ملتبسين في الحق.
وفيه وجوه:
أحدها: أنه الصدق كقوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53] أي: صدق وقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «بالقرآن» ، لقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} [ق: 5] .
وقال ابن كيسان: «بالإسلام وشرائعه» ، لقوله تعالى: {وَقُلْ جَآءَ الحق} [الإسراء: 81] ، وقال مقاتل: «لم نُرسِلْك عبثاً وإنما أرسناك بالحق» لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الأحقاف: 3] وعلى هذه الأقوال في تعلّق هذا الجار وجوه:
أحدها: أنه متعلق بالإرسال.
وثانيها: أنه متعلّق بالبشير والنذير أي: أنت مبشر بالحق ومنذر به.
وثالثها: أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن، أي أرسلناك بالقرآن حال كونك بشيراً لمن أطاع الله بالثواب، ونذيراً لمن كفر بالعقاب، والأولى أن يكون البشير والنذير حالاً من الرسول، أي: أرسلناك بالحق لتكون بشيراً ونذيراً لمن اتبعك [ونذيراً لمن كفر بك] ويجوز أن يكون بشيراً ونذيراً حالاً من «الحق» ؛ لأنه يوصف أيضاً بالبشارة والنَّذَارة، وبشير ونذير على صيغة «فعيل» .
أما بشير فتقول: هو من بَشَرَ مخففاً؛ لأنه مسموع فيهن و «فعيل» مطرد من الثلاثي.
وأما: «نذير» فمن الرباعي، ولا ينقاس عَدْل مُفْعِل إلى فَعِيل، إلا أن له هنا مُحَسِّناً.
قوله تعالى: «وَلاَ تُسْأَلُ» قرأ الجمهور: «تُسْأَلُ» مبنيًّا للمعفول مع رفع الفعل معلى النفي، وفي معنى هذه القراءة وجوه:
أحدها: أن مصيرهم إلى الجحيم، فمعصيتهم لا تضّرك، ولست مسؤولاً عن ذلك، وهنو كقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40] وقوله: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] .
الثاني: أنك هَادٍ وليسي لك من الأمر شيء، ولا تَغْتَمّ لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب، ونظيره قوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] .
الثالث: أنك لا تسأل عن ذَنْب غيرك ويعضد هذه القراءة قراءة أُبَيّ: «وما تسأل» ، وقراءة عبد الله «ولن تسأل» .(2/435)
وقال مقاتل رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَوْ أنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ بَأْسَهُ بِاليَهُودِ لآمَنُوا» ؛ فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} وقُرىء «تَسْألُ» مبيناً للفاعل مرفوعاً أيضاً، وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنه حال، فيكون معطوفاً على الحال قبلها، كأنه قيل: بشيراً أو نذيراً، وغيكر مسؤول.
والثاني: أن تكون مستأنفةً.
وقرأ نافع ويعقوب: «تَسْأَلْ» على النَّهي، وهذا مستأنف فقط، ولا يجوز أن تكون حالاً؛ لأن الطَّلب لا يقع حالاً.
وفي المعنى على هذه القراءة وجهان:
الاول: روي أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ: وهذه الرواية بعيدة؛ لأنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان عالماً بكفرهم، وكان علاماً بأن الكفار معذّب، فمع هذا العلم لا يجوز أن يسأل.
والثاني: معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكُفَّار من العذاب، كما إذا سألت عن إنسان واقع في بليّة، فيقال لك: لا تسأل عنه.
وقرأ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْه: «ولن تسأل» .
وقرأ أبي: «وما تسأل» ؛ ومعناهما موافق لقراءة الجمهور، نفي أن يكون مسؤولاً عنهم.
والجحيم: شدّة توقّد النار، ومنه قيل لعين الأسد: «جَحْمَة» لشدة توقُّدها، يقال: جَحِمَتِ النَّارُ تَجْحَمُ؛ ويقال لشَّدة الحر «» جاحم «؛ قال: [مجزوء الكامل]
768 - وَالحَرْبُ لاَ يَبْقَى لِجَا ... جِمِهَا التَّخَيُّلُ وَالمِرَاحُ(2/436)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
والرِّضَا: ضد الغضب، وهو من ذوات «الواو» لقولهم: الرضوان، والمصدر: رضاً ورِضَاء بالقصر والمد، ورِضْواناً بكسر «الفاء» وضمها.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: رَضِيَ يَرْضَى رِضاً ورِضاءً ورِضْواناً ورُضواناً ومَرْضاة، وهو من ذوات «الواو» ويقال في التثنية: رِضَوان، وحكى الكسائي رَحِمَهُ اللهُ: رِضيان، وحكى رضاء ممدود، وكأنه مصدر رَاضَى يُرَاضِي مُرَاضَاعةً ورِضَاءً.
وقد يتضمّن معنى «عَطَف» فيتعدى ب «عَلى» ؛ قال: [الوافر]
769 - إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ..... ... ... ... ... ... ... .
والملّة في الأصل: الطريقة، يقال: طريق مُملٌّن أي: أثَّر فيه [المشي] ، ويعبر بها عن الشريعة تشبيهاً بالطريقة.
وقيلك بل اشتقت من «أَمْلَلْتُ» ؛ لأن الشريعة فيها مَن يُمْلي ويُمْلَى عليه.
فصل في سبب نزول هذه الآية
اعلم أنه تعالى لما بين أن العلّة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم، وأنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في [تشددهم في باطلهم، وثباتهم على كُفْرهم] أنهم يريدون منك أن تتبع ملّتهمن ولا يرضون منك بالكُفْر، بل الموافقة لهم في دينهم وطريقتهم.
قال ابن عباس رَحِمَهُ اللهُ: هذا في القِبْلَةِ، وذلك أن يهود «المدينة» ونصارى «نجران» كانوا يرجون النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين كان يصلِّي إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكَعْبة أَيسُوا منه الموافقة على دينهم فنزلت هذه الآية.
وقيل: كانوا يسألون النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الهدنة، ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه، فأنزل الله هذه الآية.
معناه: إنك إن هادنتهم، فلا يرضون بها، ولا يطلبون ذلك تعللاً ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم.
قوله: «تَتَّبعَ» منصوب ب «أن» مضمرة بعد «حتى» قاله الخليل، وذلك أن «حتى» خافضة بالاسم لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {حتى مَطْلَعِ الفجر} [القدر: 5] وما يعمل في الاسم لا(2/437)
يعمل في الفعل ألبتة وما يخفض اسماً لا ينصب شيئاً.
وقال النَّحاسك «تَتَّبع» منصوب ب «حتى» ، و «حتى» بدل من «أن» .
فصل في أن الكفر ملّة واحدة
دلت هذه الآية على أن الكفر ملّة واحدة لقوله تعالى: «مِلَّتَهُمْ» فوحّد الملّة، وبقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] ، وأمّا قوله صلوات الله وسلامه عليه: «لا يتوارَثُ أَهْل ملّتين شيء» المراد به الإسلام والكفر بدليل قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يُوَرّثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلا الكَافِرُ المُسْلِمَ» ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [البقرة: 120] يعني الإسلام هو الهدى الحقّ الذى يصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله ليس وراء هدى.
قوله تعالى: «هو» يجوز في «هو» أن يكون فصلاً أو مبتدأ، وما بعده خبره، ولا يجوز أن يكون بدلاً من «هُدَى اللهِ» لمجيئه بصيغة الرفع.
وأجاز أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى فيه أن يكون توكيداً لاسم «إن» ، وهذا لا يجوز فإن المضمر لا يؤكّد المظهر.
قوله: «وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ» هذه تسمى «اللام» الموطِّئَة للقسم، وعلامتها أن تقع قبل أدوات الشرط، وأكثر مجيئها مع «إن» وقد تأتي مع غيرها نحو: {لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ} [آل عمران: 81] ، {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} {مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ} وحذف جواب الشَّرْط، ولو أجيب الشرط لوجبت «الفاء» وقد تحذف هذه «اللاَّم» ويعمل بمقتضاها، فيجاب القسم نحو قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73] .
والأهواء جمع هوى، كما تقول: «جمل وأجمال» ، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على أفراد الملة لقال: هواهم. قوله: «مِن العِلْمِ» في محلّ نصب على الحال من فاعل «جَاءَكَ» و «مِن» للتبعيض، أي جاءك حال كونه بعَ العلم.
فصل في المراد بهذا الخطاب
قيل: المراد بهذا الخطاب الأمة كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ،(2/438)
فالخطاب مع الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد الأمة. {بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم} البيان بأن دين الله هو الإسلام، والقبلة قبلة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهي الكَعْبَةٌ.
{مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي معين يعصمك ويذبّ عنك.
فصل فيما تدل عليه الآية
قالوا: الآية تدلّ على أمور: منها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله.
وثانيها: أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلّة، ويبطل القول بالتقليد.
وثالثها: أن اتباع الهَوَى لا يكون إلا باطلاً فمن هذا الوجه يدلّ على بطلان التقليد.
ورابعها: سئل الإمام أحمد رَحِمَهُ اللهُ عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر.
فقيل: بم كفرته؟ فقال: بآية من كتاب الله، تعالى، {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} [البقرة: 145] فالقرآن من علم الله تعالى، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.(2/439)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قوله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} رفع بالابتداء، وفي خبره وجهان:
أحدهما: «يَتْلُونَهُ» ، وتكون الجملة من قوله: «أولئِكَ يُؤْمِنُونَ» : إما مستأنفة وهو الصحيح.
وإما حالاً على قول ضعيف مثله أو السورة.
والثاني: أن الخبر هو الجملة من قوله: «أولئِكَ يُؤْمِنُونَ» .
ويكون «يَتْلُونَهُ» وتكون الجملة في محلّ نصب على الحال إما من المفعول في «آتْنَاهُمْ» وإما من الكتاب، وعلى كلا القولين فهي حال مقدرة؛ لأن وقت الإيتاء لم يكونوا تالين، ولا كان الكتاب متلوًّا.
وجوز الحوفي أن يكون «يتلونه» خبراً، و «أولَئِكَ يُؤْمِنُونَ» خبراً بعد خبر، قال: مثل قولهم: «هذا حلو حامض» كأنه يريد جعل الخبرين في معنى واحد، هذا إن أريد ب «الذين» قوم مخصوصون.(2/439)
وإن أريد بهم العموم، كان «أولئِكَ يُؤْمِنُونَ» الخبر.
قال جماعة منهم ابن عطية رَحِمَهُ اللهُ وغيره و «يَتْلُونَهُ» حالاً يستغنى عنها، وفيها الفائدة.
وقال أيضاً أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون «يَتْلُونَهُ» خبراً؛ لئلا يلزم منه أنّ كل مؤمن يتلو الكتاب حَقَّ تلاوته بأي تفسير فسرت التلاوة قال أبو حيان: ونقول: ما لزم من الامتناع مِنْ جَعْلِهَا خبراً يلزم من جعلها حالاً؛ لأنه ليس كل مؤمن على حال التلاوة بأي تفسير فسرت التلاوة.
قوله تعالى: «حَقَّ تِلاَوَتِهِ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه نصب على المصدر وأصله: «تلاوةً حقًّا» ثم قدم الوصف، وأضيف إلى المصدر، وصار نظير «ضربت شديد الضرب» أي: ضَرْباً شديداً. فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه.
الثاني: أنه حال من فاعل «يَتْلُونَهُ» أي: يتلونه محقين.
الثالث: أنه نعت مصدر محذوف.
وقال ابن عطية: و «حَقَّ» مصدر، والعامل فيه فعل مضمرن وهو بمعنى «أفعل» ، ولا تجوز إضافته إلى واحد معرف، إنما جازت هنا؛ لأن تَعَرُّفَ التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم: رجل وَاحِدُ أُمِّه وَسِيجُ واحده يعني: أنه في قوة «أفعل» التفضيل بمعنى أحقّ التلاوة، وكأنه يرى أن إضافة «أفعل» غير محضة، ولاحاجة إلى تقدير عامل فيه؛ لأن ما قبله يطلبه. والضمير في «به» فيه أربعة أقوال:
أحدهما وهو الظاهر: عوده على الكتاب.
الثاني: عوده على الرسول، قالوا: «ولم يَجْرِ له ذكر لكنه معلوم» ، ولا حاجة إلى هذا الاعتذار، فإنه مذكور في قوله: {أَرْسَلْنَاكَ} [البقرة: 119] ، غلا أن فيه التفاتاً من خطاب إلى غيبة.
الثالث: أنه يعود على الله تعالى، وفيه التفات أيضاً من ضيمر المتكلّم المعظم في قوله: «أَرْسَلْنَاكَ» إلى الغيبة.
الرابع: قال ابن عطية: إنه يعود على «الهدى» وقرره بكلام حسن.
فصل فيمن نزلت فيهم هذه الآية
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أهل السَّفينة الذين كانوا مع جفعر بن أبي طالب،(2/440)
وكانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون من «الحبشة» وثمانية من رهبان «الشام» منهم بحيرى.
وقال الضحاك: هو من آمن من اليهود: عبد الله بن سلام، وشعبة بن عمرو، وتمام ابن يهوذا، وأسيد وأسد ابنا كعب وابن تامين، وعبد الله بن صوريا. دليل هذين التأويلين تقدم ذكر الكتاب.
وقال قتادة وعكرمة: هم المؤمنون عامة لقوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} هذا حثّ وترغيب في تلاوة هذا الكتاب، وهذا شأن القرآن؛ لأن التوراة والإنجيل لا يجوز قراءتهما، وأيضاً قوله: {يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون} وهذا الوصف لا يليق إلا بالقرآن.
والتلاوة لها معنيان:
أحدهما: الاتباع فعلاً؛ لأن من اتبع غيره يقال: تلاه فعلاً، قال تعالى: {والقمر إِذَا تَلاَهَا} [الشمس: 2] .
والثاني: القراءة.
وفي حق التلاوة وجوه:
أحدها: أنهم يدبّروه، فعلموا بموجبه [حتى تمسّكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما] .
وثانيها: أنهم خضعوا عند تلاوته.
وثالثها: أنهم عملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه، وفوضوه إلى الله تعالى.
ورابعها: يقرءونه كما أنزل الهل، ولا يحرفونه، ولا يتأولونه على غير حق.
وخامسها: روي عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوا، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا.
وسادسها: المراد أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه؛ لأنها مشتركة في مفهوم واحد، وهو تعظيمها، والانقياد لها.(2/441)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
العامل في «إذ» «قال» .
وقيل: العامل فيه «اذكر» مقدراً، وهو مفعول، وقد تقدم أنه لا يتصرف فالأولى ما ذكرته أولاً.(2/441)
وقدره الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى كان كيت وكيت، فجعله ظرفاً، ولكن عامله مقدر. و «ابْتَلَى» ما بعده في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه.
وأصل ابتلى: ابْتَلَوَ، فألفه عن «واو؛ لأنه» من بَلاَ يَبْلو «أي؛ اختبر.
و» إبْرَاهِيم «مفعول مقدم، وهو واجب التقديم عند جمهور النحاة؛ لأنه متى اتَّصَل بالفاعل ضمير يعود على المفعول وجب تقديمه، لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً وربتة، هذا هو المَشْهثور، وما جاء على خلافه عدوه ضرورة.(2/442)
وخالف أبو الفتح في ذلك وقال:» إن الفعل كما يطلب الفاعل يطلب المفعول، فصار للفظ به شعور وطلب «.
وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرة تأخر فيها المفعول المتصل ضميره بالفاعل، منها: [السريع](2/443)
770 - لَمَّا عَصَى أَصْحَابُهُ مُصْعَباً ... أَدَّى إِلَيْهِ الكَيْلَ صَاعاً بِصَاعْ
ومنها: [البسيط]
771 - جَزَى بَنُوهُ أَبَا الْغِيلاَنِ عَنْ كِبَرٍ ... وَحُسْنِ فِعْلِ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ
وقال ابن عطية: وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع إلابتلاء به، إذا معلوم أن الله هو المبتلي، واتِّصَال ضمير الفعل بالفاعل موجب للتقديم، يعنى أن الموجب للتقديم سببان: سبب معنوي وسبب صناعي.
و» إبراهيم «علم أعجمي.
قيل: معناه قبل النقل أب رحيم.
فصل في تفسير لفظ إبراهيم
قال الماوردى: هذا التفسير بالسريانية وبالعربية فيما حكى ابن عطية أب رحيم.
قال السهيلي: كثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، أو يقاربه في اللفظ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب رحيم، راحم بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذي يموتون صغاراً إلى يوم القيامة [على ماروى البُخَاري في حديث الرؤيا الطويل أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس] .
وفيه لغات سبع، أشهرها: إبراهيم بألف وياء، وإبْرَاهام بألفين، وبها قرأ هشام وابن ذكوان في أحد وجهيه في» البقرة «، وانفرد هشام بها في ثلاثة مواضع في آخر» النساء «وموضعين في آخر» براءة «وموضع في آخر» الأنعام «وآخر» العنكبوت «، وفي» النجم «و» الشورى «و» الذاريات «و» الحديد «والأول في» الممتحنة «، وفي» إبراهيم «وفي» النحل «موضعين، وفي» مريم «ثلاثة، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسة عشر في» البقرة «وثلاثة عشر في السور المذكورة.(2/444)
وروي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك.
ويروى أنه قيل لمالك بن أنس: إن أهل «الشام» يقرءون ستة وثلاثين موضعاً إبراهام بالألف، فقال: أهل «دمشق» بأكل البطِّيخ أبصر منهم بالقراءة.
فقيل: إنهم يدعون أنها قراءة عثمان.
فقال: هذا مصحف عثمان، فأخرجه فوجده كما نقل له.
الثالثة: إبْرَاهِم بألف بعد الراء، وكسر الهاء دون ياء، وبها قرأ أبو بكر؛ وقال زيد بنُ عمروِ ينِ نُفَيْلِ: [الرجز]
722 - عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمُ ... إذْ قَالَ وَجْهي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ
الرابعة: كذلك، إلا أنه بفتح الهاء.
الخامسة: كذلك إلا أنه بضمها.
السادسة: إبْرَهَم بفتح الهاء من غير الف وياء.
قال عبد المطلب: [الرمل]
773 - نحْنُ آلُ الله ِ فِي كَعْبَتِهِ ... لَمْ نَزَلْ ذَاكَ عَلَى عَهْدِ ابْرَهَمْ
السَّابعة: إبْرَاهُوم بالواو.
قال أبو البقاء: ويجمع على «أَبَاره» عند قوم، وعند آخرين «بَرَاهِم» .
وقيل: أبارِهَة وبَرَاهِمَة ويجوز أَبَارِهَة [وقال المبرد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لا يقال براهم فإن الهمزة لا يجوز حذفها] .
وحكى ثعلب فيه: «بَرَاهٍ» كما يقال في تصغيره: «بُرَيْه» بحذف الزوائد.
والجمهور على نصب «إبراهيم» ورفع «رَبُّهُ» كما تقدم.(2/445)
وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا: وتأويلها دعا ربه، فسمى دعاءه ابتلاء مجازاً؛ لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير.
والضمير المرفوع في «فَأَتمّهُنّ» فيه قولان:
أحدهما: أنه عائد على «ربّه» أي: فأكملهن.
والثاني: أنه عائد على «إبْرَاهِيمَ» أي: عمل بهن، ووفّى بهن.
وهو إبراهيم بن تارح بن ناحور مولده ب «الشوس» من أرض «الأهواز» .
وقيل: «بابل» ، وقيل: «كولى» وقيل «كسكر» وقيل: «حيران» .
ونقله أبوه إلى «بابل» أرض نمرود بن كنعان، كان له أربع بنين: إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن، ذكره السهيلي.
فصل فيما دلتش عليه السورة
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم، وختم هذا الفصل بشرح النعم بقوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 122] بين نوعاً آخر من البيان، وهو أن ذكر قصة إبراهيم عليه السلام والحكمة فيه أن إبراهيم عليه السلام معترف بفضله جميع الطَّوائف، والمشركون أيضاً معترفون بفضله متشرّفون بأنهم من أولاده، ومن ساكني حرمه، وخادمي بيته، فذكر فضيلته لهم؛ لأنها تدلّ على قبول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وجوه:
أحدها: أنه تعالى لما أمر ببعض التكاليف، فلما وفّ لأى بها وخرج لا جرم نال النبوة والإمامة.
وثانيها: أنه لما طلب الإمامة لذريته فقال تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} فدلّ ذلك على أنّ من أراد هذا المنصب وجب عليه ترك اللَّجَاج والتعصّب للباطل.
وثالثها: أن الحج من خصائص دين محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحكى الله تعالى ذلك عن(2/446)
إبراهيم ليكون ذلك كالحُجَّة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك.
واربعها: أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود والنصارى، فبيّنم الله تعالى أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه، ووجوب الاقتداء به، فكان ذلك مما يوجب زوال الغضب على قلوبهم.
فصل في معنى الاتبلاء
والابتلاء هنا الاختبار والامتحان، وابتلاء الله ليس ليعلم أقوالهم بالابتلاء؛ لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات على سبيل التَّفَصايل من الأَزَلِ إلى الأبد، ولكن ليعلم الناس أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً، أو عاملهم معاملة المختبر.
وختلف في «الكَلِمَاتِ» فقال مجاهد: هي المذكورة بعدها في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} إلى آخرها من الآيات، ورفع البيت، وتطهير البيت، ورفع القواعد، والدعاء ببعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن هذه أمور شاقّة؛ لأن الإمامة هاهنا هي النبوة وتتضمن مشاقاً عظيمة. وأما بناء البيت وتطهيره، ورفع قواعده، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدّة البلوى فيه، ثم إنه يتضمّن إقامة المَنَاسك، وقد امتحن الله تعالى الخليل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بالشَّيْطَان في الموقف لرمي الجِمَار وغيرها.
وأما اشتغاله بالدعاء ببعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو مما يحتاج إلى اخلاص العمل لله تعالى، وإزالة الحَسَد عن القلب، فكل هذه تكاليف شاقّة، ويدلّ على إرادة ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف عطف، فلم يقبل وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} .
واعترض القاضي على هذا، فقال: إنما يجوز هذا لو قال تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم، ثم قال بعد ذلك: إني جاعلك للناس إماماً فأتمهن.
وأجيب عنه: بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء ببعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكأنه تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء، فأخبر كأنه ابتلاه بأمور على الإجمال، ثم أخبر عنه أتمّها، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل، وهذا ليس ببعيد.
وقال طاوس عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: عشر خصال كانت فَرْضاً في شرعه، وهي سُنّة في شرعنا: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، أما التي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق، وفرق الرأس، وقصّ الشارب، والسِّوَاك، وأما التي في البدن:(2/447)
فالخِتَان، وحَلْق العَانَةِ، ونَتْف الإبط، وتقليم الأظفار، [والاستنجاء بالماء.
وفي الخبر أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أول من قصّ الشارب، وأول من اختتن وأول من قلّم الأَظفار] .
وقال أبو الفرج بن الجوزي حديثاً عن كعب الأحبار رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مَخْتُونين: آدم وشيث ونوح وإدريس وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال محمد بن حبيب الهاشمي أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان من أصحاب الرَّسِّ، ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وروي أن عبد المطلب ختن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم سابعه وجعل مَأْدُبة، وسماه محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال يحيى بن أيوب رضي الله تعالى عنه طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممّن لقيته إلاَّ عند ابن أبي السّريّ.
وقال عكرمة عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما لم يُبْتلَ أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ابتلاه بثلاثين خَصْلة من خصال الإسلام: عشر منها في سورة «براءة» : {التائبون العابدون} [التوبة: 112] إلى آخر الآية.
وعشر منها في سورة «الأحزاب» : {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] إلى آخر الآية وعشر منها في «المؤمنين» : {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} إلى قوله {أولئك هُمُ الوارثون} [المؤمنون 110] .
وروي عن ابن عباس: أربعون فزاد: وعشر في {سَأَلَ سَآئِلٌ} إلى قوله تعالى {يُحَافِظُونَ} [المعارج: 1 - 34] .
وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: هي مناسك الحَجّ.
[وقال الحسن] : ابتلاه بسبعة أشياء: بالشمس والقمر، والكواكب، والخِتَان على الكِبَر، والنار، وذَبْح الولد، والهجرة، فوفّى بالكلّ.(2/448)
وقال يمَان بن رباب: هي مَحَاجّته قومه، والصلاة، والزكاة، والصوم، والضيافة، والصبر عليها.
وقال بعضهم: هي قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] .
وقال سعيد بن جبير: هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يَرْفَعَان البَيْتَ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} [البقرة: 127] الآية.
وقيل: هي قوله: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] الآيات.
قال القَفّال: وجملة القول أن الابتلاء بتناول إلزام كلّ ما في فعله كُلفة شدة ومشقة، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء، ويتناول كل واحد منهان فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل، ولو ثبتت الرواية في البعض دون البعض، [فحينئذ يقع بين هذه الروايات] ، فوجب التوقّف.
فصل في وقت هذا الابتلاء
قال القاضي: هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة؛ لأنَّ الله تعالى جعل قيامه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهنّ كالسبب لأنْ يجعله الله إماماً، والسبب مقدم على المسّبب، وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشَّاقّة، فلما وفَّى بها لا جرم أعطاه خُلْعة النبوة والرسالة.
وقال غيره: إنه بعد النبوة، لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته.
وأجاب القاضي: بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهذه التكاليف، فلما تمّم ذلك جعله نبيّاً مبعوثاً إلى الخلق.
إذا عرفت هذا فنقول: قال القاضي: يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكر الحَسَن من أمر الكواكب والشمس والقمر، فإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ابْتُلِيَ بذلك قبل النبوة.
وأما ذبح الولد والهجرة والنار، وكذا الخِتان، فكل ذلك بعد النبوة.
يروى أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ختن نفسه، وكان سنه مائة وعشرين سنة.
ثم قال: فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله: «أَتَمَّهُنَّ» أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن، ويقوم بهن بعد النبوةن فلا جَرَمَ أعطاه خلعة الإمامة والنبوة.
فصل
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ روى في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن(2/449)
المسيب، يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من أضاف اضيف، وأول من استحدّ، وأول من قلّم الأظافر، وأول من قَصَّ الشارب، وأول من شاب، فلما رأى الشيب قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب زدني وقاراً.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله.
قال غيره: وأول من ثَرَدَ الثَّرِيدَ، وأول من ضرب بالسيف، وأول من اسْتَاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل.
قوله: «قَالَ إِنِّي» هذه الجملة القولية يجز أن تكون معطوفة على ما قبلها، إذا قلنا بأنها عاملة في «إذْ» ؛ [لأن التقدير: وقال أِنِّي جاعلك إذ ابتلى، ويجوز أن تكون استئنافاً إذا قلنا: إن العامل في «إذْ» مضمر] ، كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: قال: إنِّي جَاعِلُكَ.
ويجز فيها أيضاً على هذا القول أن تكون بياناً لقوله: «ابْتَلَى» وتفسيبراً له، فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع القواعد، وما بعدها، نقل ذلك الزمخشري.
قوله: «جَاعِلُكَ» هو اسم فاعل من «جَعَلَ» بمعنى «صَيَّرَ» فيتعدّى لاثنين:
أحدهما: «الكاف» ، وفيها الخلاف المشهور هل هي في محلّ نصب أو جر؟
وذلك أن الضمير المتصل باسم الفاعل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه في محل جر بالإضافة.
والثاني: أنه في محل نصب، وإنما حذف التنوين لشدة اتّصال الضمير، قالوا: ويدلّ على ذلك وجوده في الضرورة؛ كقولهم: [الوافر]
774 - فَمَا أَدْرِ وَظَنِّي كُلَّ ظَنِّ ... أَمُسْلِمُنِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي
وقال آخر: [الطويل]
775 - هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ..... ... ... ... ... ... ... ... ...(2/450)
وهذا يدل على تسليم كون «نون» مسلمني تنويناً، وإلاّ فالصحيح أنها نون وقاية.
الثالث وهو مذهب سيبوبه أنّ حكم الضمير حكم مظهره، فما جاز في المظهر يجوز في مضمره.
والمفعول الثاني «إمَاماً» .
قوله: «لِلنَّاسِ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق بجاعل أي لأجل النَّاس.
والثاني: أنه حال من «إمَاماً» ، فإنه صفةُ نكرةٍ قدم عليها، فيكون حالاً منها؛ إذ الأصل: إمَاماً للناس، فعلى هذا يتعلق بمحذوف.
و «الإِمَامُ» : اسم ما يؤتمّ به أي يقصد ويتبع كالإزار اسم ما يؤتزر به.
ومنه قيل لحائط البناء: «إِمَام» ويكون في غير هذا جمعاً ل «آمّ» اسم فاعل من آمّ يؤمّ نحو: قائم وقيام، ونائم ونيام وجائع وجياع.
والمراد من الإمام هاهنا النبي، ويدلّ عليه وجوه:
منها أن قوله: «للنَاسِ إِمَاماً» يدل على أنه تعالى جعله إماماً لكل الناس، والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولاً من عند الله مستقلاًّ بالشرع؛ لأنه لو كان تبعاً لرسول آخر لكان مأموماً [لذلك الرسول لا إماماً له، فحينئذ] يبطل العموم.
وأيضاً إنّ اللفظ يدلّ على أنه إمام في كل شيء [والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبيّاً.
وأيضاً إنّ الأنبياء عليهم السلام أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم] قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 21] .
والخلفاء أيضاً أئمة؛ لأنه رتّبوا في محل يجب على الناس اتباعهم، وقبول قولهم، وأحكامهم. والقضاة، والفقهاء أيضاً أئمة لهذا المعنى، والذي يصلّي بالناس يسمى أيضاً إماماً به.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَام إِمَاماً لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا»(2/451)
وقد يسمى من يؤتم به في الباطل، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41] إلا أنه لا يستعمل إلا مقيداً.
فصل في إمامة سيدنا إبراهيم
اعلموا أن الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماماً للناس حقّق الله تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام السَّاعة، فإن أهل الأديان على شدّة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب، وإما في الدين والشريعة حتى إن عَبَدَةَ الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه الصَّلاة والسلام.
وقال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] وقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] .
وقال عَزَّ وَجَلَّ: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} [الحج: 78] .
وجميع أمة محمد ت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يقولون في صلاتهم: وارْحَمْ محمّداً وآل محمد كما صليت وباركت وترحّمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم.
قوله: «وَمِنْ ذُرِّيتِي» فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أ، «ومنْ ذُرِّيَّتي» صفة لموصوف محذوف هو مفعول أول، والمفعول الثَّاني والعامل فيهما محذوف تقديره: قال: واجعل فريقاً من ذريتي إماماً قاله أبو البقاء.
الثاني: أن «وَمِنْ ذُرِّيَتِي» عطف على «الكاف» ، كأنه قال: «وجاعل بعض ذرّيتي» كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً.
قال أبو حَيَّان: لا يصح العطف على الكاف؛ لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلاَّ بإعادة الجار، ولم يُعَدْ؛ ولأن «مِنْ» لا يمكن تقدير إضافة الجار إليها لكونها حرفاً، وتقديرها مرادفة لبعض حتى تصحّ الإضافة إليها لا يصح، ولا يصح أن يقدر العطف من باب العطف على موضع الكاف؛ لأنه نصب، فتجعل «مِنْ» في موضع نصب؛ لأنه ليس مما يعطف فيه على الموضع [في مذهب سيبويه رَحِمَهُ اللهُ تعالى] لفوات المحرز، وليس نظير ما ذكر؛ لأن «الكاف» في «سأكرمك» في موضع نصب.
الثالث: قال أبو حيان: والذي يقتضيه المعنى أني يكون «مِنْ ذُرِّيَّتِي» متعلقاً(2/452)
بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماماً، لأن «إبراهيم» فهم من قوله: إني جاعلك للنَّاس إماماً الاختصاص فسأل أ، يجعل من ذرّيته إماماً.
قال شهاب الدِّين: إن أراد الشيخ التعلّق الصناعي، فيتعدّى «جاعل» لواحد، فهذا ليس بظاهر.
وإن أراد التعلق المعنوي، فيجوز أن يريد ما يريده أبو البقاء، ويجوز أن يكون «مِنْ ذُرِّيَّتِي» مفعولاً ثانياً قدم على الأول، فيتعلّق بمحذوف، وجاز ذلك لأنه ينعقد من هذين الجزءين مبتدأ وخبر لو قلت: «من ذريتي إمام» لصح.
وقال ابن عطية: وقيل هذا منه على جهة الاستفهام عنهم أي: ومن ذرّيتي يا رب ماذا يكون؟ فيتعلّق على هذا بمحذوف، ولو قدره قبل «مِنْ ذُرِّيَّتِي» لكان أولى؛ لأن ما في حَيّز الاستفهام لا يتقدم عليه.
وفي «ذرية» ثلاث لغات ضمّ الذال وكسرها وفتحها، وبالضم قرأ الجمهور، وبالفتح قرأ أبو جعفر الداني وبالكسر قرأ زيد بن ثابت. وفي تصريفها كلام طويل يحتاج الناظر فيه إلى تأمل.
فصل في اشتقاق ذريّة
فأما اشتقاقها ففيه أربعة مذاهب:
أحدها: أنها مشتقة من «ذَرَوْتُ» .
الثاني: من «ذَرَيْتُ» .
الثالث: من ذَرَأَ الله الخَلْق.
الرابع: من الذَّرِّ.
وأما تصريفها فَذُرِّيَّة بالضم إن كانت من ذَرَوْتُ، فيجوز فيها أن يكون وزنها «فُعُّولَة» ، والأصلك «ذُرُّوْوَة» ، فاجتمع واوان: الأولى زائدة للمد، والثانية لام الكلمة فقلبت لام الكلمة ياء تخفيفاً، فصار اللفظ «ذُرُّويَة» ، فاجتمع ياء وواو، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء التي هي منقلبة من لام الكلمة، وكسر ما قبل الياء، وهي الراء للتجانس.
ويجوز أن يكون وزنها «فُعِّيلَة» ، والأصل: «ذُرِّيْوَة» ، فاجتمع ياء المد والواو(2/453)
التي هي لام الكلمة، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها ياء المد. وإن كانت من ذَرَيْتُ لغة في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنها «فْعُّولة» أو فُعِّيلَة كما تقدم، وإن كانت «فُعُّولة» فالأصل «ذُرُّوْيَة» ففعل به ما تقدم من القلب والإدغام.
وإن كانت «فُعِّيْلَة» فالأصل «ذُرِّيَية» ، فأدغمت الياء الزائدة في الياء التي هي لام. وإن كانت من ذرأ مهموزاً، فوزنها، «فُعِّيْلة» ، والأصل: «ذُرِّيْئة» فخففت الهمزة بأن أبدلت ياء كهمزة «خطيئة» والنسيء «، ثم أدغمت الياء الزائدة في الياء المبدلة من الهمزة.
وإن كانت من» الذَّر «فيجوز في وزنها أربعة أوجه:
أحدها:» فُعْلِيَّة «وتحتمل هذه الياء أن تكون للنَّسب، وغَيَّرُوا الذَّال من الفتح إلى الضم كما قالوا في النسب إلى الدهر: دُهْرِي، وإلى السهل سُهْلي بضم الدال والسين، وأن تكون الغير النسب فتكون ك» قُمْرية «.
الثاني: أن تكون» فُعِّيْلَة «ك» مُرِّيقَة «والأصل» ذُرِّيرة «، فقلبت الراء الآخيةر ياء لتوالي الأمثال، كما قالوا: تسرّيت وتظنّيت في تسررت وتظننت.
الثالث: أن تكون» فُعُّولَة «ك» قدوس «و» سبُّوح «، والأصل:» ذُرُّوْرَة «فقلبت الراء ياء لما تقدم، فصار ذُرُّوْيَة فاجتمع واو وياء، فجاء القلب والإدغام كما تقدم.
الرابع: أن تكون فعلولة، والأصل: ذُرُّوْرَة، ففعل بها ما تقدم في الوجه الذي قبله.
وأما ذِرِّية بكسر الذال فإن كانت من ذروت فوزنها فِعَّيلة، والأصل: ذِرَّيْوَة، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء بعدها، فإ، كانت من ذريت فوزنها فِعلية أيضاً، وإن كانت من ذرأ فوزنها فِعَّيلَة أيضاً كبطِّيخة، والأصل ذِرِّيْئَة، ففعل فيها ما تقدم في المضمومة الذال. وإن كانت من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون وزنها فِعَلِيَّة نسبة إلى الذر على غير قياس في المضمومة.
الثاني: أن تكون» فِعَّيلَة «.
اثالث: أن تكون» فِعْليلة «ك» حلتيت «والأصل فيها: ذِرِّيرة ففعل فيهما من إبدال الراء الآخيرة ياء والإدغام فيها.
وأما» ذَرِّيَّة «بفتح الذال: فإن كانت من ذروت أو ذريت فوزنها: فَعِّيْلة ك» سكينة «والأصل» ذَرِّيْوة أو ذَرِّيية أو فَعُّولة والأصل ذَرُّورَة أو ذَرُّويَة، ففعل به ما تقدم في نظيره.
وإن كانت من ذرأ فوزنها: إما فعِّيلَة ك «سكينة» ، والأصل ذَرِّيئة وإما فَعُّولة ك «خرّوية» والأصل: ذَرَّوءة ففعل به ما تقدم في نظيره.
وإن كانت من الذر ففي وزنها أيضاً أربعة أوجه:(2/454)
أحدها: فَعْلِيَّة، والياء أيضاً تحتمل أن تكون للنسب، ولم يَشِذُّوا فيه بتغيير كما شذّوا في الضم والكسر وألاّ يكون نحو: بَرْنية.
الثاني: فَعُّولة ك «خَرُّوبة» والاصل ذَرُّوْرَة.
الثالث: فَعَّيلَة ك «سكينة» والأصل: ذريرة.
الرابع: فَعْلُولة ك «بكُّولة» ، والأصل ذرورة أيضاً، ففعل به ما تقدم في نظيره من إبدال الراء الأخير، وإدغام ما قبلها وكسرت الذال إتباعاً، وبهذا الضبط الذي فعلته اتضح القول في هذه اللفظة.
فصل في معنى الذّرية
النسل يقعل على الذكور والإناث، والجمع الذراري.
وزعم بعضهم أنها تقع على الآباء كوقوعها على الأبناء مستدلاًّ بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون} [يس: 41] يعنى: نوحاً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومن معه، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل
هل كان إبراهيم عليه السَّلام مأذوناً له في قوله تعالى: «ومن ذرّيتي» أو لم يكن مأذوناً فيه؟ فإن أذن الله تعالى في هذا الدعاء فلم ردّ دعاءه؟ وإن لم يأذن له فيه كان ذنباً.
قلنا: قوله: «ومن ذرّيتي» يدلّ على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ طلب أن يكون بَعْضُ ذريته أئمة، وقد حقق الله تعالى إجابة دُعَاءه في المؤمنين من ذريته ك «إسماعيل» ، و «يعقوب» ، و «يوسف» ، و «موسى» ، و «هارون» و «داود» ، و «سليمان» ، و «أيّوب» و «يونس» ، و «زكريا» ، و «يحيى» و «عيسى» ، عليهم السلام وجعل آخرهم نبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من ذرّيته الذي هو أفضل الخلق عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
قوله تعالى: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} .
الجمهور على نَصْب «الظَّالمِينَ» مفعولاً، و «عَهْدِي» فاعل، اي: لا يصل عهدي إلى الظالمين فيدركهم.
وقرأ قتادة، والأعمش، وأبو رجاء: «الظَّالِمُونَ» بالفاعلية، و «عَهْدِي» مفعول به، والقراءتان ظاهرتان؛ إذ الفعل يصحّ نسبته إلى كل منهما، فإن من نالك فقد نِلْته.(2/455)
والنَّيْل: الإدراك، وهو العطاء أيضاً، نال يَنَال نيلاً فهو نائل، وقرأ حمزة وحفص بإسكان الياء من: «عَهْدِيْ» ، الباقون بفتحها.
فصل في تحرير معنى العهد
اختلفوا في العَهْدِ، فقيل: الإمامة.
وقال السدي: النبوة، وهو قول ابن عباس.
وقال عطاءك رحمتي.
وقيل: عهده أمره، ويطلق على الأمر، مقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا}
[آل عمران: 183] أي: أمرنا، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ} [يس: 60] يعنى ألم أقدم إليكم الأمر به، فيكون معنى قوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} أي: لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل أوامر الله.
[قال قتادة رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هو الإيمان.
وقال مجاهد والضحاك رحمهما الله هو طاعتي، أي: ليس لظالم أن يطاع في ظلمه ومعنى الآية: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ولدك.
وقال أبو عبيدة رَحِمَهُ اللهُ تعالى: العهد الأمان من النار؛ لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن} [الأنعام: 82] .
قال ابن الخطيب: والأول أولى؛ لأنه جواب لسؤال الإمامة.
فإن قيل: أفما كان إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام عالماً بأن النبوة لا تليق بالظَّالمين؟
فالجواب: بلى، ولكن لم يعلم حال ذرّيته، فبيّن الله تعالى أن فيهم من هذا حاله، وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم.
فصل في عصمة الأنبياء
الآية تدلّ على عصمة الأنبياء من وجهين.
الأول: أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد: الإمامة، ولا شكّ أن كل نبي إمام، فإن الإمام هو الذي يؤتم به، والنبي أولى الناس، وإذا دلّت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقاً، فبأن تدلّ على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقاً فاعلاً للذنب والمعصية أولى.
الثاني: أنَّ العَهْدَ إن كان هو النبوة، وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظَّالمين،(2/456)
وإن كان هو الإمامة، فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به، وكل فاسق ظالم لنفسه، فوجب ألاَّ تحصل النبوة لأحد من الفاسقين.
فصل في أنه هل يجوز عقد الإمام للفاسق؟
قال الجمهور من الفقهاء والمتكلّمين: الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، واختلفوا في أنَّ الفسق الطَّارىء هل يبطل الإمامة أم لا؟
واحتج الجمهور على أنّ الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية، ووجه الاستدلال بها من وجهين:
[الأول: ما بيّنا أن قوله: «لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» جواب لقوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» وقوله: «وَمِنْ ذُرِّيََّتِي» طلب الإمامة الَّتي ذكرها الله تعالى، فوجب أن يكون المراد بهذا العهْدِ هو الإمامة، ليكون الجواب مُطَابقاً للسؤال، فتصير الآية كأنه تعالى قال: لا ينال الإمامة الظَالمين، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه، فكانت الآية دالّة على ما قلناه] .
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة.
[قلنا] : أما الشيعة [فيستدلون] بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العِصْمَةِ ظاهراً وباطناً.
وأما نحن فنقول: مقتضى الآية ذلك إلاّ أنا تركنا عبارة الباطن، فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة.
فإن قيل: أليس أن يونس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال:
{سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] ؟
قلنا: المذكور في الآية هو الظلم المطلق، وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما السلام.
الوجه الثاني: أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر، قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} [يس: 60] يعني: ألم آمركم بهذا؟
وقال الله تعالى: {قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} [آل عمران: 183] يعنى أمرنا، ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضائهم. إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول: لا يخلو قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} من أن يريد أن أن الظالمين غير مأمورين وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل منهم أوامر الله تعالى، ولما بطل الوجه الأول لانفاق المسلمين(2/457)
على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين، كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها، فلا يكونون أئمة في الدّين، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق، قال عليه السلام: «لاَ طَاعَة لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ» ودل أيضاً على أن الفاسق لا يكون حاكماً، وأن أحكامه لا تنفذ إذ وُلِّيَ الحكم، وكذلك لا تقبل شهادته، ولا خبره [عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا فتياه إذا أفتى، ولا يُقَدَّم للصَّلاة، وإن كان هو بحيث لو اقتدى به، فإنه لا تفسد صلاته] .
وقال ابو بكر الرَّازيك «ومن النَّاس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أن يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة، ولا يجوز كون الفاسق قاضياً» ، قال: وهذا خطأ، ولم يفرق أبو حنيفة بين الإمام والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وكيف يكون خليفةً، وروايته غير مقبولة، وأحكامه غير نافذة.
قال: وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنفية: أن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه، وتولى القضاء من إمام جائر فإنَّ أحكامه نافذة، والصَّلاة خلفه جائزة؛ لأن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه، ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة، فلا اعتبار في ذلك بمن وَلاَّه؛ لأن الذي ولاَّه بمنزلة سائر أعوانه، وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولاً، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرِّضَا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه ولكان قضاؤه نافذاً، وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان. والله أعلم.
فصل في أخذ الأرزاق من الأئمة الظَّلمة
ونقل القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى عن أبن خويز منداد أنه قال: وأما أخذ الأرزاق من الأئمّة الظلمة فله ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخذاً على موجب الشريعة، فجائز أخذه؛ وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحَجّاج وغيره.
وإن كان مختلطاً حالالاً وظلماً، كما في أيدي الأمراء اليومن فالوَرَعُ تركه، ويجوز(2/458)
للمحتاج أخذه، وهو كَلِصٍّ في يده مال مسروق، ومال حلال، [وقد وكله فيه رجل، فجاء اللص يتصدق به على إنسان] ، فيجوز أن تؤخذ منه الصَّدقة، وكذلك لو باع أو اشترى كان العَقْدُ صحيحاً لازماً، وإن كان الوَرَعُ التنزُّه عنه، وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها، [وإنما تحرم لجهاتها، وإن كان في أيديهم ظلماً صراحاً، فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم] ، ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوباً غير أنه لا يعرف له صاحب، ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطّاع الطريق [ويجعل في بيت المال] .(2/459)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
«إذْ» عطف على «إذْ» قبلها، وقد تقدم الكلام فيها، و «جَعَلْنَا» يحتمل أن يكون بمعنى «خَلَقَ» و «وضعَ» فيتعدّى لواحدن وهو «البيت» ، ويكون «مَثَابَةً» نصباً على الحال وأن يكون بمعنى «صيّر فيتعدى لاثنين، فيكون» مَثَابَةً «هو المفعول الثاني. والأصل في» مثابة «» مثوبة «فأعلّ بالنقل والقلب، وهل هو مصدر أو اسم مكان قولان؟
وهل الهاء فيه للمبالغة ك» عَلاَّمة «و» نَسَّابة «لكثكرة من يثوب إليه، أي يرجعن أو لتأنيث المصدر ك» مقامة «أو لتأنيث البقعة؟ ثلاثة أقوال، وقد جاء حذف هذه الهاء؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَل: [الطويل]
776 - مَثابٌ لأَفْنَاءِ القَبَائِلِ كُلِّهَا ... تَخُبُّ إلَيْهَا اليَعْمَلاَتُ الذَّوَامِلُ
وقال: [الرمل]
777 - جَعَلَ البَيْتَ مَثَاباً لَهُمُ ... لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ
وهل معناه من ثاب يثوب أي: رجع أو من الثواب الذي هو الجزاء؟
قولان:
أظهرهما: أولهما قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير رَضِيَ اللهُ عَنْهم: إنهم يثوبون إليه في كل عام.
وعن ابن عباس ومجاهد رَضِيَ اللهُ عَنْهما: [أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى(2/459)
العود إليه] ، وقرأ الأعمش وطلحة» مَثَابَاتٍ «جمعاً، ووجهه أنه مثابة لكلّ واحد من الناس.
قوله تعالى:» لِلنَّاسِ «فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لمثابة ومحلّه النصب.
والثاني: أنه متعلّق بجعل أي: لأجل الناس يعنى مناسكهم.
قوله تعالى:» وَأَمْناً «فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على» مثابة «وفيه التأويلات المشهورة: إما في جعله نفس المصدر، وإما على حذف مضاف، أي: ذا أمن، وأما على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل، أيك آمناً، على سبيل المجاز كقوله: {حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] .
والثاني: أنه معمول لفعل محذوف تقديره: وإذ جعلنا البيت مثابة، فجعلوه آمناً لا يعتدي فيه أحد على أحد.
والمعنى: أن الله جعل البيت محترماً بحكمه، وربما يؤيد هذا بقرأءة:» اتَّخِذُوا «على الأمر، فعلى هذا يكون» وأَمْناً «وما عمل فيه من باب عطف الجمل عطفت جملة أمرية على خبرية، وعلى الأول يكون من عَطْفِ المفردات.
فصل في تحرير المقصود من البيت
اعلم أنه لما ذكر أمر تكليف إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بالإمامة ذكر بعده التكليف الثاني، وهو تطهير البيت، فنقول: المراد ببيت الله الحرام؛ لأن الألف واللام فيه: إما للعهد أو للجنس، وقد علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس، فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة.
قال ابن الخطيب: وليس المراد نفس الكعبة؛ لأنه تعالى وصفه بكونه» أمناً «وهذا صفة لجميع الحرم لا الكعبة فقط بدليل جواز إطلاق البيت، والمراد منه كل حرم.
قال تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] والمراد حرم كله لا الكعبة نفسها؛ لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام، وقال تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] .(2/460)
والمراد والله أعلم منعهم من الحج وحضور مواضع النسك، وقال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} [إبراهيم: 35] ، فدلّ هذا على أنه وصف البيت بالأمن، فاقتضى جميع الحرم. والسّبب في أنه تعالى أطلق لفظ البيت، وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلّقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت.
فصل في تحرير معنى الأمن
قوله: «وأمناً» أي: وموضع أمن يؤمنون فيه من إيذاء المشركين، ولا شَكَّ أن قوله تعالى: {جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} خبر فتارة يتركه على ظاهره، ويقولك هو خبر وتارة يصرفه عن ظاهره، ويقول: هو أمر.
أما على الأول فالمراد أنه جعل أهل الحرم آمنين من القَحْط والجدب على ما قال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] وقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القَتْلِ في الحرم؛ لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه.
وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه، قال الله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} [البقرة: 191] فأخبر عن وقوع القَتْلِ فيه.
وإن حملنا الكلام على الأمر فالمعنى: أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضوع آمناً من الغارة والقَتل، فكان البيت محرماً بحكم الله تعالى، وكانت الجاهلية يحرمونه ولا يتعرّضون لأهل «مكة» ، وكانوا يسمون قريشاً: أهل الله تعظيماً له، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليَهُمَّ بالظَّبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب، فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكَلْب قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم فتح «مكة» : «إنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لاَ يُعْضَدُ شُوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا» فقال العباس رَحِمَهُ اللهُ: يا رسول الله إلإذْخِرَ. فقال: «إلاَّ الإذْخِرَ» .
فصل في أنه هل يجوز القتال في الحرم؟
قال الشَّافعي رَحِمَهُ اللهُ تعالى ورضي عنه: إذا دخل البيت من وجب عليه حَدٍّ فلا تستوف منه، لكن الإمام يأمر بالتضييق عليه حتى يخرج من الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحلّ، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه.(2/461)
وقال أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْه: لا يجوز.
واحتج الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه بأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره ب «مكة» غيلة إن قدر عليه، وهذا في الوقت الذي كانت «مكة» فيه محرمة، وذلك يدل أنها لا تمنع أحداً من شيء وجب عليه، وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها.
واحتج أبو حنيفة رَحِمَهُ اللهُ بهذه الآية.
والجواب عنه أن قوله: «وأمناً» ليس فيه بيان أنه جعله آمناً في ماذا؟ فيمكن أن يكون أمناً من القَحْط، وأن يكون آمناً من نَصْب الحروب، وأن يكون آمناً من إقامة الحُدُود، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل، بل حَمْلُه على الأمن من القَحْط والآفات أَوْلَى؛ لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر، وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك، فكان قول الشَّافعي رَحِمَهُ اللهُ أولى.
قوله تعالى: «واتَّخِذُوا» قرأ نافع وابن عامر: «واتَّخَذُوا» فعلاً ماضياً على فلظ الخبر، والباقون على لفظ الأمر.
فأما قراءة الخبر ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه معطوف على «جَعَلْنَا» المخفوض ب «إذ» تقديراً، فيكون الكلام جملة واحدة.
الثاني: أنه معطوف على مجموع قوله: «وإذْ جَعَلْنَا» فيحتاج إلى تقدير «إذْ» أي: وإذ اتَّخّذُوا، ويكون الكلام جملتين.
الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره: فثابوا واتخذوا.
وأما قراءة الأمر فيها أربعة أوجه:
أحدها: أنها عطف على «اذكروا» إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسْرَائِيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا.
والثاني: أنها عطف على الأمر الذي تضمنه قوله: «مثابة» ، كأنه قال: ثوبوا واتخذوا، ذكر هذين الوجهين المَهْدَوِي.
الثالث: أنه مفعول لقول محذوف، أي: وقلنا: اتخذوا، إن قيل بأن الخطاب لإبراهيم وذريته، أو لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأمته.
الرابع: أن يكون مستأنفاً ذكره أبو البقاء.
قوله تعالى: «مِنْ مَقَامِ» في «من» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها تبعيضية، وهذا هو الظاهر.
الثاني: أنها بمعنى «في» .
الثالث: أنها زائدة على قول الأخفش، وليس بشيء.(2/462)
والمقام هنا مكان القيام، وهو يصلح للزمان والمصدر أيضاً. واصله: «مَقْوَم» فأعل بنقل حركة «الواو» إلى السَّاكن قبلها، وقلبها آلفاً، ويعبر به عن الجماعة مجازاً؛ كما يعبر عنهم بالمجلس؛ قال زهير: [الطويل]
778 - وفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمٍ ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ وَالفِعْلُ
قوله: «مُصَلَّى» مفعلو «اتَّخِذُوا» ، وهو هنا اسم مكان أيضاً، وجاء في التفسير بعنى قبله.
وقيل: هو مصدر، فلا بد من حذف مضاف أي: مكان صلاة، وألفه منقلبة عن واو، والأصل: «مُصَلَّو» ؛ لأن الصلاة من ذوات «الواو» كما تقدم أول الكتاب.
فصل في المقصود بالمقام
اختلفوا في «المقام» فقال الحسن والربيع بن أنس وقتادة: هو موضع الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم عليه السلام رجله عليه، وهو راكب فغسلت أحد شقّي رأسه، ثم رفعته من تحته، وقد غاصت رجله في الحَجر، فوضته تحت الرجل الآخرى، فغاصت رجله أيضاً فيه، فجعله الله تعالى من معجزاته يروى أنه كان موضع أصابع رجليه بيِّناً فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهم أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} [البقرة: 127] فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام، وقال مجاهد رَحِمَهُ اللهُ وإبراهيم النخعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: «مقام إبراهيم الحرم كله» وقال يمان: المسجد كله مقام إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
[وقال عطاءك إنه عرفة والمزدلفة والجمار، وقال ابن عباس: «الحج كله مقام إبراهيم] .
واتفق المحققون على أن القول الأول أولى لما روى جابر رحمة الله عليه أنه عليه الصَّلاة والسلام لما فرغ من الطواف أتى المقام، وتلا قوله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} .(2/463)
وروي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مرّ بالمقام، ومعه عمر رضي الل عنه فقال: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فلم تغب الشمس من فوقهم حتى نزلت الآية، وقال تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} .
وليس للصلاة تعلق بالحرم، ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع، فيكون مقام إبراهيم هو هذا، ولو سأل أهل» مكّة «عن مقام إبراهيم لم يجبه أحد، ولم يفهم منه إلا هذا الموضع لما روي أن الحجر صار تحت قدميه في رُطُوبة الطّين حتى غاصت فيه رِجْلا إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وذلك من أظهر الدلائل على وَحْدَانية الله تعالى ومعجزة إبراهيم عليه السلام، فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره، وثبت في الأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل، ولم يثبت قيامه على غيره، فحمل هذا اللفظ، أعنى: مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر يكون أولى.
قال القَفَّال: ومن فسر» مقام إبراهيم «بالحجر خرج قوله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} على مجاز قول الرجل: اتخذت من فلان صديقاً، وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً، وإنما تدخل» من «لبيان المتخذ الموصوف، ويميزه في ذلك المعنى من غيره.
فصل في تحرير معنى المُصَلّى
اختلفوا في «المُصَلّى» .
فقال مجاهد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «هو الدعاء» ، قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله: إن الحرم كله مقام إبراهيم.
وقال الحسن رَضِيَ اللهُ عَنْه: أراد به قبلة إبراهيم.
وقال قتادة والسّدي: أمروا أن يصلوا عنده، وهذا القول أولى؛ لأن لفظ «الصَّلاة» إذا أطلق يعقل منه الصَّلاة الشَّرعية وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة. وصلَّى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم عنده بعد تلاوة الآية. وهاهنا بحثان وهو أن ركعتي الطواف هل هي فرض أو سنة فإن كان الطواف فرضاً فعن الشافعي رَحِمَهُ اللهُ قولان:
أحدهما: أنهما فرض؛ لهذه الآية، فإن الأمر للوجوب.
والثاني: أنهما سنة؛ لقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للأعرابي حين سأله هل عليَّ غيرها؟ قال لا إلاَّ أن تطوع، وإن كان الطواف سنة فهما سنة.(2/464)
فصل في الكلام على البيت المعمور
روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح، وهو بجال الكعبة من فوقها، حرمته في السَّماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً.
وذكر علي رضي الله تعالى عنه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم، فانهدم فبنته العَمَالقة، ومر عليه الدهر فانهدم، فبنته جُرْهم، ومر عليه الدهر فانهدم، بنته قريش ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يومئذ شابّ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السّكة، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مِرْطٍ، ثم ترفعه جميعُ القبائل، فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووضعه.
وعن الزهري قال: بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثلاثة صفوح في كل صفح كتاب.
في الصفح الأول: أنا الله ذو بَكَّة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حفًّان وباركت لأهلها في اللحم واللبن.
وفي الصفح الثاني: أنا الله ذو بَكَّة خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي من وصلها وصلته، ومن قطعها قطتعه.
وفي الثالث: أنا الله ذو بكَّة خلقت الخير والشرّ، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه.
وقال صلوات الله وسلامه عليه: «الرُّكْنُ وَالمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الجَنَّةِ طَمَسَ اللهُ تَعَالَى نُورَهُمَا، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَضَاءَ لَهُمَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَما مسهما ذُو عَاهَةٍ وَلاَ سَقِيمٌ إلاَّ شُفِيَ» .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هَذَا الحَجَرُ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا يَوْمَ القِيَامَةِ وَإنَّهُ كَانَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أهْلِ الشِّرْكِ» .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: «هَذَا الحَجَرُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَن اسْتَلَمَهُ بِحَقِّ» .
وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه قَبَّل الحجر الأَسْوَد وقال: «إِنِّي لأعلم أنك(2/465)
حجر لا تضر ولا تنفع، وأن الله ربّي، ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقبّلك ما قبَّلتك» .
قوله تعالى: {وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ} تقدم معنى العَهْد.
قيل: معناه هاهنا أمرنا وقيل: أوحينا.
قوله: «وَإسْمَاعِيلَ» إسماعيل علم أعجميٌّ، وفيه لغتان: باللام والنون؛ وعليه قول الشاعر: [الرجز]
779 - قَالَ جَوَارِي الحَيِّ لَمَّا جِينَا ... هَذَا وَرَبِّ البَيْتِ إسْمَاعِينَا
ويجمع على: «سَمَاعلة» و «سماعيل» و «أساميع» .
ومن أغرب مانقل في التسمية أن إبراهيم عليه السلام لما دعا لله أن يرزقه ولداً كان يقول: اسمع إيل اسمع إيل، وإيل هو الله تعالى فسمى ولده بذلك.
قوله: «أَنْ طَهِّرَا» يجوز في «أن» وجهان:
أحدهما: أنها تفسيرية لجملة قوله: «عَهِدْنَا» ، فإنه يتضمن معنى القول؛ لأنه بمعنى أمرنا أو وصينا، فهي بمنزلة «أي» التي للتفسير، وشرط «أن» التفسيرية أن تقع بَعْدَما هو بمعنى القول لا حروفه.
وقال أبو البقاء: والمفسرة تقع بعد القول، وما كان في معناه.
فقد غلط في ذلك، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.
والثاني: أن تكون مصدرية، وخرجت على نظائرها في جواز وصلها بالجملة الأمرية، قالوا: «كتبت إليه بإن قم» وفيها بحث ليس هذا موضعه، والأصل: بأن ظهرا، ثم حذفت الباء، فيجيء فيها الخلاف المشهور من كونها في محل نصب، أو خفض.
و «بَيْتِيَ» معفول به أضيف إليه تعالى تشريفاً وقرأ أهل «المدينة» وحفص «بيتيَ» بفتح الياء هاهنا، وفي سورة «الحج» ، وزاد حفص في سورة «نوح» عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
و «الطائف» اسم فاعل من: «طاف يطوف» ، ويقال: أطاف رباعياً، قال: [الطويل]
780 - أطَافَتْ بِهِ جَيْلاَنُ عِنْدَ قِطَاعِهِ..... ... ... ... ... ... ... . .
وهذا من باب «فَعَل وأفْعَل» بمعنى.
فصل في معنى تطهير البيت
يجب أن يراد به تطهير البيت من كل أمر لا يليق به، لأنه موضع الصَّلاة فيجب(2/466)
تطهيره من الشرك، ومن كل ما لا يليق به، وذكر المفسّرون وجوهاً:
أحدها: أن معنى «طَهِّرَا بَيْتِيَ» ابنياه وطَهّراه من الشرك، وأسِّسَاه على التقوى.
وثانيهما: عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجّوه، وزاره وأقاموا به.
ومجازه: اجعلاه طاهراً عندهم، كما يقال: فلان يطهر هذا، وفلان ينجسه.
وثالثها: ابنياه، ولا تدعا أحداً من أهل الريب أو الشرك يزاحم الطَّائفين فيه، بل اقرَّاه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال: طهر الله الأرض من فلان، وهذه التأويلات مبنيّة على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تَطْهيره من الأَوثَان والشرك، وهو كقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] فمعلوم أنهنّ لم يطهرن عن نجس، بل خلقن طاهرات، وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهراً.
ورابعها: معناه: أن نظّفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي، ليقتدي الناس بكما في ذلك.
وخامسها: قال بعضهم: إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجِيف والأقذار، فأمر الله تعالى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بإزالة تلك القَاذُورَات وبناء البيت هناك، وهذا ضعيف؛ لأن قيل البناء ما كان البيت موجوداً، فتطهير تلك العَرْصَة لا يكون تطهيراً للبيت، ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتاً، لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتاً لكنه مجاز.
قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود} .
الطائفين: الدَّائرين حوله والعاكفين المقيمين الملازمين.
والرّكع «، وجمع» راكع «.
والعكوف لغة: اللزوم واللبثح قال: [الوافر]
781 - ... ... ... ... ... ... ... ... عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبُهُ عُكُوفَا
وقال: [الرجز]
782 - عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُونَ الفَنْزَجَا ...(2/467)
ويقال: عَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ، بالفتح في الماضي، والضم والكسر في المضارع، وقد قرىء بهما.
و» السُّجُود «يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع ساجد نحو: قاعد وقعود، وراقد ورقود، وهو مناسب لما قبله.
والثاني: أنه مصدر نحو: الدخول والقعود، فعلى هذا لابد من حذف مضاف أي: ذوي السّجود ذكره أبو البقاء.
وعطف أحد الوصفين على الآخر في قوله:» الطَّائِفِينَ والعَاكِفِينَ «لتبايُنِ ما بينهما، ولم يعطف إحدى الصّفتين على الأخرى في قوله:» الرُّكَّعِ السُّجُودِ «، لأن المراد بهما شيء واحد وهو الصلاة إذ لو عطف لتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حِيَالِهَا، وجمع صفتين جمع سلامة، وأخْريَيْن جمع تكسير لأجل المقابلة، وهو نوع من الفَصَاحة، وأخر صيغة» فعُول «على» فُعّل «؛ لأنها فاصلة.
فصل في الكلام على الأوصاف الثلاثة المتقدمة
في هذه الأوصاف الثلاثة قولان:
أحدهما: أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة؛ لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف.
فالمراد بالطَّائفين: من يقصد البيت حاجًّا أو معتمراً، فيطوف به، والمراد بالعاكفين: من يقين هناك ويجاوزر، والمراد بالركع السجود: من يصلي هناك.
والثاني: قال عطاء: إنه إذا كان طائفاً فهو من الطائفينن وإذا كان جالساً فهو من العاكفين، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود. وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما العاكفون هم الذين يصلون عند الكعبة.
خصّ الركوع والسجود بالذكر؛ لأنها أقرب أحوال المصليم إل الله تعالى.
فصل فيما تدل عليه الآية
هذه الآية تدل على أمور منها:
أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء، فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة؛ لأنه تعالى كما خصّهم بالطواف دلّ على أن لهم به مزيد اختصاص.(2/468)
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء: أن الطواف لأهل الأنصَارِ أفضل، والصلاة لأهل «مكة» أفضل.
ومنها جواز الاعتكاف في البيت.
ومنها جواز الصلاة في البيت فرضاً أو نَفْلاً إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها، خلافاً لمن منع جواز الصَّلاة المفروضة في البيت.
فإن قيل: لا تسلم دلالة الآية على ذلك؛ لأنه تعالى لم يقل: الركّع السجود في البيت، وكما لا تدلّ الآية على جواز فعل الطَّواف في جوف البيت، وإنما دلّت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصَّلاة إلى البيت متوجّهة إليه، فالجواب ظاهر لأنه يتناول الرجع السجود إلى البيت، سواء كان ذلك في البيت، أو خارجاً عنها، وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت هو أن يطوب بالبيت، ولا يسمى طائفاً بالبيت مَنْ طاف في جوفه، والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه، لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} [الحج: 29] .
وأيضاً المراد لو كان التوحه إليه للصلاة، لما كان الأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه، إذ كان حاضرو البيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجّه إليه.
فإن قيل: احتجّ المخالف بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجّهاً إلى المسجد، بل إلى جزء من أجزائه.
والجواب: أن المتوجّه الواحد يستحيل أن يكون متوجهاً إلى كلّ المسجد، بل لا بد وأن يكون متوجهاً إلى جزء من أجزائه، ومن كان داخل البيت فهو كذلك، فوجب أن يكون داخلاً تحت الآية.
فصل في تظهير جميع بيوت الله
ويدخل في هذا المعنى جميع بيوت الله تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة، وإنما خص الكعبة بالذكر، لأنه لم يكن هناك غيرها.(2/469)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
قال القاضي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: في هذه الآيات تقديم وتأخير، لأن قوله: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} لا يمكن إلاَّ بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد وهو قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127] وإن كان متأخراً في التلاوة، فهو متقدم في المعنى.(2/469)
قوله تعالى: {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} والجعل هنا يعنى التَّصيير، فيتعدّى لاثنين ف «هذا» مفعول أول و «بلداً» مفعول ثان، والمعنى: اجعل هذا البلد، أو هذا المكان، و «آمناً» صفة أي ذا أمن نحو: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أو آمناً من فيه نحو: ليلُهُ نائم. والبلد معروف، وفي تسميته قولان:
أحدهما: أنه مأخوذ من البلد.
والبلْد في الأصل: الصدر يقال: وضعت الناقة بَلْدَتَها إذا بركت، أي: صدرها، والبلد صدر القرى، فسمي بذلك.
والثاني: أن البلد في الأصل الأثر، ومنه: رجل بليد لتأثير الجهل فيه.
وقيل لبركة البعير: «بَلْدَة» لتأثيرها في الأرض إذا برك، قال الشاعر [الطويل]
783 - اُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ ... قَلِيلُ بِهَا الأًصْوَاتُ إلاَّ بُغَامُها
إنما قال في هذه السورة «بَلَداً آمناً» على التنكير.
وقال في سورة إبراهيم: {هذا البلد آمِناً} [إبراهيم: 35] على التعريف لوجهين:
الأول: أن الدعوة الأولى وقعت، ولم يكن المكان قد جعل بلداً، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلداً آمناً؛ لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] .
فقال هاهنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً، فكأه قال: اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلداً ذا أمن وسلامة، كقولك: جعلت هذا الرجل آمناً.
الثاني: أن يكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المَكَان بلداً، فقوله: {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} تقديره: اجعل هذا البلد بلداً آمناً، كقولك: كان اليوم يوماً حارًّا، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة؛ لأن التنكير يدلّ على المبالغة، فقوله: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وأما قوله: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} فليس فيه إلاَّ طلب الأمن لا طلب المبالغة، والله أعلم.
فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم
قيل: المراد من الآية دعاء إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ للمؤمنين من سكّان «(2/470)
مكة» بالأمن والتَّوْسعة بما يجلب إلى «مكة» فلم يصل إليه جَبّار إلا قَصَمَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ ّ كما فعل بأصحاب الفيل.
فصل في الرد على بعض الشُّبهات
فإن قيل: أليس أن الحَجّاج حارب ابن الزبير، وخرب الكَعْبة، وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟
فالجواب: لم يكن مقصوده تخريب الكمعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئاً آخر.
فإن قيل: ما الفائدة في قول إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} [إبراهيم: 35] ، وقد أخبر الله تعالى قبل ذلك بقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] ؟
فالجواب: من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى لما أخبره بأنه جعل البيت مثابة للناس وأمناً، ووقع في خاطره أنه إنما جعل البيت وحده آمناً، فطلب إبرراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يكون الأمن بجميع البلد.
وثانيها: أن يكون قوله تعالى: «وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ» بعد قوله أبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} فيكون إجابة لدعئه، وعلى هذا فيكون مقدماً في التلاوة مؤخراً في الحكم.
وثالثها: أن يكون المراد من الأَمْنِ المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] هو الأمن من الأعداء والخيف والخَسْف والمَسْخ، والمراد من الأمن في دعاء إبراهيم هو الأمن من القَحْط، ولهذا قال: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} .
فإن قيل: الأمن والخصب مما يتعلّق بمنافع الدنيا، فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟
فجوابه من وجوه:
أحدها: أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين، وإذا كان البلد آمناً مخصباً تفرغ أهلها لطاعة الله تعالى وإذا كان ضد ذلك كانوا على ضد ذلك.
وثانيها: أنه تعالى جعله مثابة للناس، والناس إنما يمكنهم الذَّهاب إليه إذا كانت الطرق آمنةً، والأقوات هناك رخصية.(2/471)
وثالثها: أن الأمنو الخَصْب مما يدعوا الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهل المشاعر العظيمة، والموقف الكريمة، فيكون الأمن تتمّةً في تلك الطاعة.
فصل في المراد بالأمن
اختلفوا في الأمن المسؤول هنا فقيل: الأمن من القَحْط؛ لأنه أسكن ذرّيته بوادٍ غير ذي زرع ولا ضَرْع.
وقيل: الأمن من الخَسْف والمَسْخ.
وقيل: الأمن من القتل هو قول أبي بكر الرازي، واحتج عليه بأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سأله الأمن أولاً، ثم سأله الرِّزْق ثانياً.
ولو كان المَطْلوب هو الأمن من القَحْط لكان سؤال الرِّزْق بعده تكرار، وقد يجاب بأنه: لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخَسْف والمَسْخ، أو لعله الأمن من القَحْط، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية، وقد يكون بالتَّوْسعة فيها، فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القَحْطِ، وبالسؤال الثاني طلب التوسعة.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: دعا إبراهيم لذريته وغيرهم بالأمن، وَغَدٍ العيش.
فروي أنه لما دعا بهذا أمر الله تعالى جبريل، فاقتلع «الطائف» من «الشام» فطاف بها حول البيت أسبوعاً، فسميت «الطائف» لذلك، ثم أنزلها «تهامة» ، وكانت «مكة» وما يليها حين ذلك قَفْراً لا ماء فيها ولا نَبَاتَ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثَّمَرات.
فصل في أنه متى صارت مكة آمنة؟
اختلفوا هل كانت مكة آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أو إنما صارت كذلك بدعوته؟
فقالوا: إنها كانت كذلك أبداً لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّة يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ» .(2/472)
قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37] وهذا يقتضي أنها كان محرمة قبل ذلك، ثم إن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أكّده بهذا الدعاء.
وقيل: إنها إنوما صارت حرماً آمناً بدعاء إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقبله كانت كسائر البَلَدِ، الدليل عليه قوله عليه السلام: «اللهُمَّ إِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينْةَ كَمَّا حَرَّمَ إِبْرَاهِيْمُ مَكَّة» .
وقيل: كانت حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة.
قوله: «مَنْ آمَنَ» بدل بعض من كلّ، [وهو «أَهْلَهُ» ] ولذلك عاد فيه ضميره على المبدل منه، و «من» في «مِنَ الثَّمَرَاتِ» للتبعيض.
وقيل: للبيان، وليس بشيء، إذ لم يتقدّم مبهم يبين بها.
فصل في تخصيص المؤمنين بهذا الدَّعاء
إنما خصَّ المؤمنين بهذا الدعاء لوجيهن:
الاولك أنه لما سأل الله تعالى فصار ذلك [تأديباً] في المسألة، فلما ميّز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة: خصّص المؤمنين بهذا الدُّعاء دون الكفارين.
الثاني: يحتمل إن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قوي في ظنه أنه إن دعا للكلّ كثر في البلد الكفار، فيكون في كثرتهم مفسدة ومضرّة في ذهاب الناس إلى الحَجّ، فخصّ المؤمنين بالدعاء لهذا السبب.
قوله: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ] يجوز في «من» ثلاثة أوجه.
أحدها: أن تكون موصولة، وفي محلّها وجهان:
أحدهما: أنها في محلّ نصب بفعل محذوف تقديره، قال الله: وأرزق من كفر، ويكون «فأمتعه» معطوفاً على هذا الفعل المقدر.
والثاني: [من الوجهين] : أن يكون في محلّ رفع بالابتداء، و «فأمتعه» الخبر، دخلت الفاء في الخبر تشبيهاً له بالشرط.(2/473)
وسيأتي أن أبا البقاء يمنع هذا، والرد عليه.
الثَّاني من الثلاثة الأوجه: أن تكون نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء، والحكم فيها ما تقدّم من كونها في محلّ نصب أو رفع.
الثالث: أن تكون شرطية، ومحلّلها الرفع على الابتداء فقط، و «فَأُمتِّعُهُ» جواب الشرط.
ولا يجوز في «من» في جميع وجوهها أن تكون منصوبةً على الاشتغال.
أما إذا كانت شرطاً فظاهر لأن الشرطية إنما يفسر عاملها فعل الشرط لا الجزاء، وفعل الشرط عنا غير ناصب لضميرها بل رافعة.
وأما إذا كانت موصولة فلأن الخبر الذي هو «فأمتعه» شبيه بالجزاء، وذلك دخلته الفاء، فكما أن الجمزاء لا يفسر عاملاً فما أشبهه أولى بذلك، وكذا إذا كانت موصوفة فإن الصفة لا تفسر.
وقال أبو البقاء: لايجوز أن تكون «من» مبتدأ، و «فأمتعه» الخبر؛ لأن «الذي» لا تدخل «الفاء» في خبرها إلا إذا كان الخبر مستحقاً بالصلة نحو: الذي يأتينين فله درهم، والكُفْر لا يستحقّ به التمتع.
فإن جعلت الفاء زائدة على قوله الأخفش جاز، أو جعلت الخبر محذوفاً، و «فامتعه» دليلاً عليه جاز تقديرهك ومن كفر أرزقه فأمتعه.
ويجوز أن تكون «من» شرطية، والفاء جوابها.
وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن كفر أرزق، و «من» على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة؛ لأن أدوات الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل فعل الشرط انتهى.
أما قوله: «لأن الكفر لا يستحقّ به التمتّع» فليس بمسلّم، بل التمتُّع القليل والمصير إلى النار مستحقَّان بالكفر.
وأيضاً فإن التمتُّع وإن سلّمنا أنه ليس مستحقّاً بالكفر؛ ولكن قد عطف عليه ماهو مستحقّ به، وهو المصير إلى النار، فناسب ذلك أن يقعا جميعاً خبراً.
وأيضاً فقد ناقض كلامه؛ لأنه جوز فيها أن تكون شرطية، وهل الجزاء إلاَّ مستحق بالشرط، ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به.
وأما تجويزه زيادة الفاء، وحذف الخبر، أو جواب الشرط فأوجه بعيدة لا حاجة إليها.(2/474)
وقرىء «أُمْتِعُهُ» مخفَّفاً من أمتع يمتع، وهي قراءة ابن عامر رَضِيَ اللهُ عَنْه، و «فأمتعه» بسكون العين، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه تخفيف كقوله: [السريع]
784 - فَاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبِ..... ... ... ... ... ... ... ... . .
والثاني: أن «الفاء» زائدة وهو جواب الشرط؛ فلذلك جزم بالسكون، وقرأ ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما ومجاهد «فَأمْتِعْهُ ثُمَّ اضْطرَه» على صيغة الأمر فيهما، ووجهها أن يكون الضمير في «قال» لإبراهيم يعني سأل ربه ذلك و «من» على هذه القراءة يجوز أن تكون متبدأ، وأن تكون منصوبة على الاشتغال بإضمار فعل سواء جعلتها موصولة أو شرطية، إلا أنك إذا جعلتها شرطية قدرت الناصب لها متأخراً عنها؛ لأن أداة الشرط لها صدر الكلام.
وقال الزمخشري: «وَمَنْ كَفَر» عطف على «من آمن» كما عطف «ومن ذرّيتي» على الكاف في «جاعلك» قال أبو حيان: أما عطف «من كفر» على «من آمن» فلا يصح؛ لأنه يتنافى تركيب الكلام؛ لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأرزق من كفر؛ لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل.
«من آمن» العامل فيه فعل الأمر، وهو العامل في «ومن كفر» ، وإذا قدرته أمراً تنافى مع قوله: «فأمتعه» ؛ لأن ظاهر هذا إخبار من الله تعالى بنسبة التمتع، وإلجائهم إليه تعالى وأن كلاًّ من الفعلين تضمَّن ضميراً، وذلك لا يجوز إلاَّ على بعد بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى، أيك قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: وازرق من كفر، فقال الله: أمتعه قليلاً ثم أَصطره، ثم ناقض الزمخشري قوله هذا أنه عطف على «من» كما عطف «ومن ذريتي» على الكاف في «جاعلك» .
فقال: فإن قلت لم خص إبراهيم بذلك المؤمنين حتى رد عليه؟
فالجواب: قاس الرزق على الإمامة، فعرف الفرق بينهما بأن الإمامة لا تكون للظالم، وأما الرزق فربما يكون استدراجاً.
والمعنى: قال: «وارزق من كفر فأمتعه» فظاهر قوله «والمعنى قال» أن الضمير في «قال» لله تعالى، وأن «من كفر» منصوب بالفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم.(2/475)
و «قليلاً» نعت لمصدر محذوف أو زمان، وقد تقدم له نظاره واختبار سيبويه فيه.
وقرأ الجمهور: «أَضْطَرُّهُ» خبراً.
وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الهمزة، ووجهها كسر حرف المضارعة كقولهم في أخال: إِخَال.
وقرأ ابن محيصن «أطَّرَّه» بإدغام الضاد في الطاء، [نحو] : اطَّجع في اضطجع وهي مَزْذولة؛ لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها، ولا تدغم هي في غيرها وهي حروف: ضغم شقر، نحو: اطجع في اضطجع، قاله الزمخشرين وفيه نظر؛ فإن هذه الحروف أدغمت في غيرها، أدغم أبو عمرو الدَّاني اللام في {يَغْفِرْ لَكُمْ} [نوح: 4] والضاد في الشين: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النور: 62] والشين في السين: {العرش سَبِيلاً} [إلاسراء: 42] .
وأدغم الكسائي الفاء في الباء: {نَخْسِفْ بِهِمُ} [سبأ: 9] .
وحكى سيبويه رَحِمَهُ اللهُ تعالى أن «مْضَّجَعًا» أكثر، فدلّ على أن «مطّجعاً» كثيرٌ.
وقرأ يزيد بن أبي حبيب: «أضطُرُّهُ» بضم الطاء كأنه للإتباع.
وقرأ أبي: «فَنُمَتِّعُهُ ثُمَّ نَضْطَّرُّهُ» بالنون.
واضطر افتعل من الضَّرِّ، وأصله: اضْتَرَّ، فأبدلت التاء طاء؛ لأن تاء الافتعال تبدل طاء بعد حروف الإطباق وهو متعدِّ، عليه جاء التنزيل؛ وقال: [البسيط]
785 - إِضْطَرَّكَ الْحِرْزُ مِنْ سَلْمَى إِلَى أَجَإٍ..... ... ... ... ... ... ... .
والاضطرار: الإلجاء والإلزاز إلى الأمر المكوره.
قوله: «أُمَتِّعُهُ» قيل: بالرزق.(2/476)
وقيل: بالبقاء في الدنيا.
وقيل: بهما إلى الخروج محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقتله أو يخرجهُ من هذه الديار إن قام على الكُفْر، [وقيد المتاع بالقلّة] ؛ لأن متاع الدنيا قليلٌ بالنسبة إلى متاع الآخرة المؤبد.
وفي الاضطرار قولانك
أحدهما: أن يفعل به ما يتعذّر عليه الخلاص منه، كما قال الله تعالى:
{يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] و {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] يقال اضطررته إلى الأمر أي: ألجأته [وحملته عليه] وقالوا: إن أصله من الضَّر؛ وهو إدناء الشيء، ومنه ضرة المرأة لدنوّها.
الثاني: أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك اختياراً، كقوله تعالى: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} [البقرة: 173] فوصفهُ بأنه مضطر إلى تناول الميتة، إن كان ذلك الأكل فعله، فيكون المعنى: أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار، ثم بيّن تعالى أن ذلك بئس المصير؛ لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور، وبئس المصير ضده.
قوله: «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» المصير فاعل، والمخصوص بالذم محذوف، أي: النار ومصير: مفعل من صار يصير، وهو صالح للزمان والمكان.
وأما المصدر فيقاسه الفتح؛ لأن ماكسر عين مضارعه، فقياس ظرفية الكسر ومصدره الفتح، ولكن النحويين اختلفوا فيما كانت عينه ياء على ثلاثة مذاهب.
أحدها: كالصحيح [وقد تقدم] .
والثاني: أنه مخير فيه.
والثالث: أن يتبع المسموع فما سمع بالكسر أو الفتح لا يتعدّى، فإن كان «المصير في الآية اسم مكان فهو قياسي اتفاقاً، والتقدير: وبئس المصير النّار كما تقدم، وإن كان مصدراً على رأي من أجازه فالتقدير: وبئس الصيرورة صيرورتهم إلى النَّار.(2/477)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
«إذ» عطف على «إذ» قبلها، فالكلام فيهما واحد.
و «يرفع» في معنى ماضياً، ح لأنها من الأدوات المخلصة المضارع للمضي.(2/477)
وقال الزمخشري: «هي حكاية حال ماضية» قال أبو حيان: وفيه نظر.
و «القوعد» جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوق، وهي صفة غالبة، ومعناها الثابتة، ومنه «قَعَّدَك الله» أي: أسأل الله تثبيتك، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها؛ لأنه إذا بني عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع.
وأما القواعد من النِّسَاء فمفردها «قاعد» من غير تاء؛ لأن المذكر لا حظَّ له فيها إذ هي من: قَعَدَتْ عن الزوج.
ولم يقل «قواعد البيت» ، بالإضافة لما في البيان بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين.
[فصل في مشاركة إسماعيل في رفع القواعد
الأكثرون على أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ واختلفوا هل كان إسماعيل شريكاً له في رفع القواعد؟
فالأكثرون على أنه كان شريكاً له؛ للعطف عليه.
وروي عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه أنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر.
فقالا: إلى من تكلنا؟
قال: إلى الله تعالى، فعطش إسماعيل ولم ير الماء، فناداه جبريل أن اضرب الأرض بأصبعكن فضربها بأصبعه، فنبع زمزم. وهذا ضعيف؛ وذلك لقوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} وذها يوجب صرفه إلى المذكور السابق: وهو رفع القواعد] .
فصل في الكلام على رفع القواعد
يروى أن الله تبارك وتعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء، وأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زُمُرّد أخضر، وأنزل الله الحجر، كان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية، وأمر الله تعالى آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يحج إليه، ويطوف به.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: حج آدم صلوات الله وسلامه عليه أربعين حجّة من «الهند» إلى «مكة» ماشياً، وكان ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة، وبعث جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، وكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثم أمر الله تعالى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعد ما ولد إسماعيل ت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ(2/478)
ببناء البيت، فسأل الله تعالى أن يبين له موضعه، فبعث الله السّكينة ليدله على موضع البيت، فتبعها حتى أتيا «مكة» ، هذا قول علي رضي الله تعالى عنه.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: بعث الله سحابة على قدر الكَعْبَة، وذهب إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في ظلها إلى أن وافت «مكة» فوقعت على موضع البيت، فنودي منها يا إبراهيم ابْنِ على ظلها ولا تزل ولا تنقص.
[وقيل: أرسل الله جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ليدله على موضع البيت قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: بُنِي البيت من خسمة أجبل: طوزر سيناء، وطور زيتا، ولبنان جبال بالشام، والجودي: جبل بالجزيرة وقواعده من حراء جبل بمكة المشرفة، فلما انتهى لموضع الحجر قال لإسماعيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يطلبه فصاح أو قُبيس: يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها، فأخذ الحجر الأسود، فوضعه مكانه.
وقيل: إن الله تبارك وتعالى بنى البيت المعمور في السماء، وسمي «صراح» ، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره وبقية الكلام على البيت يأتي في سورة «الحج» ‘إن شاء الله تعالى والله أعلم] .
قوله: «من البيت» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق ب «يرفع» ومعناها اتبداء الغاية.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «القواعد» ، فيتعلّق بمحذوف تقديره: كائنة في البيتن ويكون معنى «من» التبعيض [روى ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما، «أن القواعد حجارة كأسنمة البخت بعضها من بعض، وحكى عن رجل من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها؛ ليخرج بها أحدهما، فتحركا تحرك الرجل، فانتفضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس» .
وقيل: أبصر القوم برقة، كادت تخطلف بصر الرجل فبرأ الرجل من يدهن فوقع في موضعه، فتركوه ورجعوا إلى بنيانهم] .
قوله: «وَإٍسْمَاعيِلُ» فيه قولان:
أحدهما: وهو الظاهر أنه عطف على «إبراهيم» ن فيكون فاعلاً مشاركاً في الرفع، ويكون قوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} في محلّ نصب بإضمار القول، ذلك القول في محل نصب على الحال منهما، أي: يرفعان يقولان: ربنا تقبل، ويؤيد هذا قراءة عبد الله(2/479)
بإظهار فعل القول، وقرأ: «يَقُولاَنِ: رَبَّنَا تَقَبَّشلْ» أي: قائلين ذلك، ويجوز ألا يكون هذا القول حالاً، بل هو جملة معطوفة على ما قبلها، ويكون هو العامل في «إذ» قبله، والتقدير: يقولان: ربنا تقبل إذ يرفعان، أي: وقت رفعهما.
والثَّاني: الواو [واو الحال] ، و «إسماعيل» مبتدأ وخبره قول محذوف هو العامل في قوله: «رَبَّنَا تَقَبَّلْ» فيكون إبراهيم هو الرَّافع، وإسماعيل هو الدَّاعي فقط، قالوا: لأن إسماعيل كان حينئذ طفلاً صغيراً، ورَوَوْه عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه والتقدير إذ يرفع إبراهيم حال كون إسماعيل يقول: ربنا تقبل منّا.
وفي المجيْ بلفظ «الرب» جل وعز تنبيه بذكر هذه الصفة على التربية والإصلاح.
و «تقّبل» بمعنى «اقبل» ، ف «تَفَعَّلْ» هنا بمعنى المجرد.
وتقدم الكلام على نحو «إنك أنت السميع» من كان «أنت» يجوز فيه التأكيد والابتداء والفَصْل. وتقدمت صفة السَّمع، وإن كان سؤال التقبل متأخراً عن العمل للمجاورةن كقوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت} [آل عمران: 106] وتأخرت صفة العلم، لأنها فاصلة، ولأنها تشمل المسموعات وغيرها.
[فإن قيل: قوله: {إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} يفيد الحصر، وليس الأمر كذلك، فإن غعيره قد يكون سميعاً.
فالجواب أنه تعالى لكماله ف يهذه الصفة كأنه هو المختص بها دن غيره] .
قوله: «مسلمين» مفعول ثاني للجعل؛ لأنه بمعنى [التصييير، والمفعول الأول هو] «ن» .
وقرأ ابن عباس: مُسْلِمِيْنَ «بصيغة الجمع وفي ذلك تأويلان:
أحدهما: أنهما أجريا التثنية مجرى الجمع، وبه استدل من يجعل التثنية جمعاً.
والثاني: أنها أرادا أنفسهما وأهلهما ك» هاجر «.
قوله:» لك «فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب» مسلمين «لأنه بمعنى نُخْلص لك أوجهنا نحو: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} [آل عمران: 20] فيكون المفعول محذوفاً لفهم المعنى.(2/480)
والثاني: أنه نعت لمسلمين أي: مسلميمن مستقرين لك أي مستسلمين. والأول أقوى معنى.
فصل فيمن استدل بهذه الآية على القول بخلق الأعمال
استدلوا بهذه الآية على خلق الأعمال بقوله: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ، فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد، أو الاستسلام والانقياد، وكيف كان فقد رغبا ف يأن يجعلهما بهذه الصفة لامعنى له إلاّ خَلْق ذلك فيهما، فإن [الجعل] عبارة عن الخلق.
قال الله تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] فدلّ هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى.
فإن قيل: هذه الآية الكرمية متروكة الظاهر؛ لأنها تقتضي أنهما وقت السُّؤال [كانا] غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه باطل، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين؛ ولأن صدور هذا الدُّعَاء منهما لا يصلح إلاَّ بعد أن كانا مسلمين، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسّك بها، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الجَعْل عبارة عن الخَلْق والإيجاد بل له معانٍ أخر سوى الخلق:
أحدها:» جعل «بمعنى» صيّر «، قال [الله] تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} [الفرقان: 47] .
وثانيها:» جعل «بمعنى» وهب «، تقول: جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الغرس.
وثالثها: [جعل] بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] .
وقال: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} [الأنعام: 10] .
ورابعها: «جعل» كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} [السجدة: 24] يعنى أمرناهم بالاقتداء بهم، وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] فهو الأمر.
وخامسها: أن يجعله بمعنى التعليم كقوله: جعلته كتاباً [وشاعراً] إذا علمته ذلك.(2/481)
وسادسها: البيان والدّلالة تقول: جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت [من الحجة] ما بين بطلان ذلك. إذ ثبت ذلك فنقول: لم لا يجوز أن يكن المراد وصفهما بالإسلام، والحكم لهما بذلك كما يقال: جعلني فلان لصّاً، وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك سّمنا أن المراد من الجَعْل الخَلْق، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام، وتوفيقهما لذلك؟ فمن وفّقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها، فقد جعله الله مسلماً له، ومثاله من يؤدّب ابنه حتى يصير أديباً، فيجوز أن يقال: صيّرتك أديباً، وجعلتك أديباً، وف يخلاف ذلك يقال: جعل ابنه لصّاً محتالاً.
سلمان أن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام، لكنه على خلاف الدَّلاَئل العقلية، فوجب ترك القول به.
وإما قلنا [إنه] على خلاف الدَّلائل العقلية؛ لأنه لو كان فعل العَبْد خلقاً لله تعالى لماك استحق العبد به مدحاً ولا ذمّاً، ولا ثواباً ولا عقاباً، ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد.
والجواب: قوله: الآية متروكة الظاهر.
[قلنا] : لا نسلّم وبيانه من وجوه:
الأول: أن الإسلام عرض قائم بالقلب، وأنه لا يبقى زمانين فقوله: «واجعلنا مسلمين لك» أي: اخلق هذا العرض، فينافي الزمان المستقبل دائماً، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال.
الثاني: أن يكون المراد منه الزِّيَادة في الإسلام كقوله: {ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] ويؤيد هذا قوله تعالى {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال.
الثالث: أن «الإسلاَم» إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد أما إذا أضيف بحرف «اللام» كقوله: «مُسْلِمَيْنِ لَكَ» ، فالمراد الاستسلام له والانقياد والرِّضا بكل ما مقدر [وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية، فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليصحل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال] فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر.
قوله: يحمل الجعل على الحكم بذلك فلا نسلم أن الموصوف إذا حصلت الصفة(2/482)
له فلا فائدة في الصفة، وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف، وجب حمله على تحصيل الصفة، ولا يقال: وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح، وهو مرغوب له فيه.
قلنا: نعم! لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من تحصيل الرغبة في تحصيل الوَصْف به والحكم به، فكان حمله على الأول أولى.
وأيضاً أنه متى حصل الإسلام فيها فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذبن فكان ذلك الوصف حاصلاً، وأي فائدة في طلبه بالدعاء.
وأيضاً أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كلّ من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال: جعله مسلماً.
أما قوله: يحمل ذلك على فعل الألطاف.
فالجواب: هذا مدفوع من وجوه:
أحدها: أن لفظ الجَعْل مضاف إلى «الإسلام» ، فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر.
وثانيها: أن تلك الألْطَاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها، وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة، فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه غير جائز.
وثالثها: أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في تَرْجيح جانب الفعل على الترك أو لا.
فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً.
وإن كان لها أثر في الترجيح، فنقول: متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب، وذلك أن مع حصول ذلك القدر من الترجيح، إما أن يجب الفعل، أو يمتنع، أو لا يجب أصلا ولا يمتنع.
فإن وجب فهو المطلوب.
وإن امتنع فهو مانع لا مرجح، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع: إما أن يكون لانظمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجمع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلاً، وقد فرضناه كذلك هذا خلف.
وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجّح وهو محال، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول.
قوله: الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم.
قلنا: إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم.(2/483)
قال القرطبي: سألاه التثبت والدوام و «الإسلام» في هذا الموضع: الإيمان والأعمال جميعاً، منه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] ، وكفى هذا دليلاً لمن قال إن الإيمان والإسلام هما شيء واحد، ويؤيده قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} [الذرايات: 35، 36] والله أعلم.
قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً} فيه قولان:
أحدهماك وهو الظاهر أن «من ذرّيتنا» صفة لموصوف محذوف وهو مفعول أول، و «أمة مسلمة» مفعول ثاني تقديره: واجعل فريقاً من ذرّيتنا أمة مسلمة.
وفي «من» حينئذ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها للتعبيض.
والثاني: أجازه الزمخشري أن تكون للتبيين، قال تبارك وتعالى: {الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} [النور: 55] .
الثالث: أن تكون لابتداء غاية الجعل، قاله أبو البقاء.
والثاني: من القولين: أن يكون «أمة» وهو المفعول الأول، و «من ذرّيتنا» حال منها؛ لأنه في الأصل صفة نكرة، فلما قدم عليها انتصب حالاً، و «مسملة» هو المفعول الثاني، والأصل: واجعل الأمة من ذريتنا مسلمة، ف «الواو» داخلة في الأصل على «أمة» ، وإنما فصل بينهما بقوله: «مِنْ ذُرِّيَتِنَا» وهو جائز؛ لأنه من جملة الكلام المعطوف، وفي إجازته ذلك نظر، فإن النحويين كأبي عليٍّ وغيره منعوا الفصل بالظَّرف [بين حرف العطف] إذا كان على حرف واحد وبين المعطوف وجعلوا منه قوله: [المنسرح]
786 - يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أَرْدِيةٍ ... الْعَصْبِ وَيَوْماً أَدِيمُا نَغِلاَ
ضرورة، فالفصل في الحال أبعد، وصار ما أجازه نظير قولك: «ضرب الرجل ومتجردة المرأة زيد» وهذا غير فصيح، ولا يجوز أن يكون أجعل المقدرة بمعنى أخلْقُ وأُوْجِد، فيتعدى لواحد، ويتعلق «من ذرّيتنا» به، ويكون «أمة» مفعولاً به، لأنه إن كان من عطف المفردات لزم التشريك في العامل الأول، والعامل الأول ليس معناه «اخلق» إنما معناه «صَيَّرْ» .
وإن كان من عطف الجمل، فلا يحذف إلا ما دلّ عليه المنطوقن والمنطوق ليس بمعنى الخلق، فكذلك المحذوف ألا تراهم منعوا في قوله: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ(2/484)
وَمَلاَئِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] أن يكون التقدير: وملائكته يصلون لا ختلاف مدلول الصَّلاتين، وتأولوا ذلك على قدر مشترك بينهما، وقوله: «لك» فيه الوجهان المتقدمان بعد «مسلمين» .
فصل
إنماخص بعضهم؛ لأنه تعالى أعلمهما [أن] في ذريتهما الظالم بقوله {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] .
وقيل: أراتد به العرب؛ لانهم من ذريتهما.
وقيل: هم أمّة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله تعالى: {وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 129] .
فإن قيل: قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] كما يدلّ على أن في ذرّيته من يكون ظالماً فكذلك [يوجب فيهم من لا يكون ظالماً] ، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية، فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى؟
فالجواب: تلك الدلالة ما كانت قاطعة، والتشفيق بسوء الظن مولع.
فإن قيل: لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجرى مجرى البُخْل في الدعاء؟
فالجواب: الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم.
والأمة هناك الجماعة، وتكون واحداً إذا كان يقتدى به في الخير، ومنه قوله تعالى:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل: 120] . وقد يطلق لفظ الأمّة على غير هذا المعنى [كقوله تعالى: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} أي دين وملة] . ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] .
وقد تكون بمعنى الحِيْن والزمان، ومنه قوله تعالى: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي: بعد حين وزمان.
ويقال هذا أمة زيدن أي أّمُّ زيدٍ، والأمة أيضاً: القامة، يقال: فلان حسن الأّمَّة، أي: حسن القامة؛ قال [المتقارب]
787 - وَإِنَّ مُعَاوِيَة الأَكْرمِينَ ... حِسَانُ الْوُجُوهِ طِوَالُ الأُمَمْ(2/485)
وقيل: الأمة الشَّجَّة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم نقله القرطبي.
قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} الظّاهر أن الرؤية هنا بصرية، فرأى في الأصل يتعدّى لواحد، فلما دخلت همزة النقل أكسبتها معفولاً ثانياً، ف «أنا» مفعول أول، وم «مناسكنا» مفعول ثان.
وأجاز الزمخشري أن تكون منقولة من «رأى» بمعنى عرف، فتتعدى أيضاً لاثنين كما تقدم، وأجاز قوم فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبية، والقلبية تقبل [النَّقْل] لاثنين كقول القائل: [الطويل]
788 - وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً ... إِذَا مَات رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ
وقال الكُمَيْت: [الطويل]
789 - بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمٍ عَاراً علَيَّ وَتَحْسِبُ
وقال ابن عطية: ويلزم قائله يتعدّى الفعل منه إلى ثلاثةن وينفصل عنه بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدى؛ وأنشد قول حُطَائِطَ بْنِ يَعْفُرَ: [الطويل]
790 - أَرِينِي جَوَاداً مَاتَ هُزْلاً لأَنِنَّي ... أََرَى ما تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلاً مُخَلَّدَا
يعنى: أنه قد تعدت «علم اقلبية إلى اثنين، سواء كان مجردة من الهمزة أم لا، وحينئذ يشبه أن يكون ما جاء فيه» فَعِلَ وأَفْعَل «بمعنى وهو غريب، ولكن جَعْلَه بيت حطَائط من رؤية القلب ممنوعن بل معناه من رؤية البَصَرِ، ألا ترى أن قوله:» جواداً مات «من متعلقات البصر، فيحتاج في إثبات تعدي» أعلم «القلبية إلى اثنين إلى دليل.(2/486)
وقال بعضهم: هي هنا بصرية قلبية معاً؛ لأن الحج لا يتم إلاّ بأمور منها ما هو معلوم ومنها منا هو مبصر.
ويلزمه على هذا الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو استعهمال المشترك في معنييه معاً.
وقرأ الجمهور: {أَرِنَا} بإشباع كسر» الراء «هنا، وفي [النساء: 153] وفي [الأعراف: 143] {أرني أَنظُرْ} ، وفي [فصلت: 29] {أَرِنَا اللذين} .
وقرأ ابن كثير بالإسْكَان في الجميع، ووافقه في» فصلت «ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، واختلف عن أبي عمرو، فروي عن السوسي موافقة ابن كثير بالإسكان في الجميعن وروي عه الدَّوري اختلاس الكَسْر فيها.
أما اكسر فهو الأصل.
وأما الاختلاص فحسن مشهور.
وأما الإسكان فللتخفيف، شبهوا المصتل بالمنفصل فسكنوا كسره، كما قالوا في فَخِذ: فَخْذ، وكَتِف: كَتْف.
وقد غلط قوم راوي هذه القراءة.
وقالوا: صار كسر الراء دليلاً على الهمزة المحذوفة، فإن أصله: «أرئنا» ثم نقل.
قال الزمخشري تابعاً لغيره: قال الفارسي: التغليط ليس بشيء لأنها قراءة متواترة، وأما كسرة الراء فصارت كالاصل؛ لأن الهمزة مرفوضة الاستعمال.
وقال ايضاً: ألا تراهم أدغموا في {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38] ، والأصل «لكان أنا» نقولا الحركة، وحذفوا، ثم أدغموا، فذهاب الحركة في «أرنا» ليس بدون ذهابها في الإدغام، وأيضاً فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصّاً عن العرب؛ قال القائل: [البسيط]
791 - أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللهِ نَمْلَؤُهَا ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا
وأصل أرنا: أَرئنَا، فنقلت حركة «الهمزة» إلى «الراء» وحذفت هي، وقد تقدم الكلام بأشبع من هذا عند قوله: {حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] .
و «المناسك» واحدها: «مَنْسِك» بفتح العين وكسرها، وقد قرىء بهما والمفتوح هو المقيس لانضمام عين مضارعة.(2/487)
ويقال: المنسك بفتح السين بمعنى الفعل وبكسر السين بمعنى الموضع، كالمسجد والمشرق والمغرب.
قال الله تعالى: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67] قرىء بالفتح الكسر، وظاهر الكلام يدلّ على الفعل، وكذلك قوله عليه السلام «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أمرهم بأن يتعلّموا أفعاله في الحجّ، لا أنه أراد: خذوا عنِّي مواضع نسككم، وبعض المفسرين حمل المَنَاسك على الذبيحة فقط.
قال ابن الخطيب: وهو خطأ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبُّد، [لا لكونها مذبوحة] ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك.
قال القرطبي: [قوله تعالى: «مَنَاسِكَنَا» يقال] : إن أصل النُّسك في اللغة الغَسْل، يقال منه نسك ثوبه إذا غسله.
وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابداً.
فصل في تسمية عرفات
وقال الحَسَن: إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلّها حتى بلغ «عرفات» ، فقال: يا إبراهيم أعرفت ما رأيتك من النماسك؟ قال: نعم [فسميت «عرفات» ] فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت فعرض له إبليس فسد عليه الطريق، فأمره جبريل عليه السلام بأن يرميه بسبع حَصَيات، ففعل فذهب الشيطان، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كلّ ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي سَبْعِ حصيات.
فبعضهم حمل المناسك هنا على [شعائر] الحج، وأعماله كالطواف والسعي والوقوف.
وبعضهم حمله على المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج، ثمل «منى» و «عرفات» و «المزدلفة» ونحوها.(2/488)
وبعضهم حمله على المجموع.
فصل في استلام الأركان
قال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم عليه السلام كان يَسْتَلِمُ الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام.
وقال: حج إسقحاق وسارة من «الشَّام» ، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سَنَةٍ على البُرَاق، وحجّة بعد ذل الأنبياء والأمم.
وروي محمد بن سابط عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إذَا هَلَكَتْ أُمَّتُهُ لَحِقَ مَكَّة فَتَعَبَّدَ بِهَا هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ حَتَّى يَمُوتُوان فَمَاتَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَقُبورُهُمْ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالحَجرِ» .
وذكر ابن وهب أن شعيباً ما ب «مكة» هو من معه من المؤمنين، فقبورهم في غربيّ «مكة» بين دار الندوة وبين بني سهم.
وقال ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبل إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.
وقال عبد الله بن ضمرة السلولي: ما بين الرُّكن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيّاً جاءوا حجاجاً فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين.
قولهك «وتب علينا» احتج به من جوز الذنب على الأنبياء قال: لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب، فلولا تقدم الذنب، وإلاَّ لكان طلب التوبة طلباً للمحال.
قالت المعتزلة: الصغيرة تجوز على الأنبياء.
ولقائل أن يقول: إن الصَّغائر قد صارت مكفّرة بثواب فاعلها، وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها مُحَال؛ لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال.
قال ابن الخطيب: وهاهنا أجوبة تصلح لمن جوز الصغيرة، ولمن لم يجوزها، وهي من وجوه:
أولها: يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدُّداً في الانصراف عن المعصية؛ لأن من تصور نفسه بصورة النَّادم العازم على التحرز التشديد، كان أقرب إلى ترك المعاصي.
وثانيها: أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه، فإنه لا ينفكّ عن التَّقْصِير من بعض الوجوه: إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك.(2/489)
وثالثها: أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالماً عاصياً، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيته أمة مسلمة، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العُصَاة للتوبة فقال: «وَتُبْ علَيْنَا» أي على المُذْنبين من ذرّيتنا، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده، فاعتذر الوالد عنه، فقد يقول: أجرمت وعصيت فاقبل عُذْري، ويكون مراده: أن ولدي أذنب فاقبل عُذْره؛ لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه، والذي يقوي هذا التأويل وجوه:
الأولك ما حكى الله تعالى في سورة «إبراهيم» أنه قال: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 3536] .
فيحتمل أن يكون المعنى: ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب، وتغفر له ما سلف من ذنوبه.
الثاني: ذكر أن في قراءة عبد الله: «وَاََرِهِمْ مَنَاسِكَهُم وَتُبْ عَلَيْهم» .
الثالث: أنه قال عطفاً على هذا: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 129] .
الرابع: تأولوا قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] بجعل خلقه إياه خلقه لهم إذ كانوا فيه، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله: «أَرِنَا مَنَاسِكَنَا» أية «ذُرّيتنا» .
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أجاب بعضهم عن هذا الإشكال فقال: إنهما لما قالا «وَتُبْ علينا» وهم أنبياء معصومون إنما طلبا التثبيت والدوام؛ لأنهما كان لهما ذنب.
قال القرطبي: وهذا حسن، وأحسن مه أن يقال: إنهما لما عرفا المَنَاسك وبنيا البيت أراد أن يبيّنا للناس، ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصُّل من الذنوب وطلب التوبة.
فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأفعال لله تعالى
دلّت الآية الكريمة على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ طلب من الله تعالى أن يتوب عليه، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد، لكان طلبها من الله تعالى [مُحَالاً وجهلاً.
قالت المعتزلة: هذا معارض بما أن الله تعالى] طلب التوبة منا. [فقال] {يا أيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم: 8] ولو كانت فعلاً لله تعالى، لكان طلبها من العبد محالاً وجهلاً، وإذا ثبت ذلك حمل قوله: «وَتُبْ(2/490)
عَلَيْنَا» على التوفيق، وفعل الألطاف، أو على قبول التوبة من العبد.
والجواب: [قال ابن الخَطِيْب] متى لم يخلق الله تعالى داعيةً موجبة للتوبة استحال حصول التوبة، فكانت التوبة من الله تعالى لا من العَبْدِ، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرّة.
فصل في معنى التوبة
اعلم أن التوبة هي الرجوع، فمعنى توبة الله تعالى أن يرجع برضاه وتوحيده عليهم، ومعنى توبة العبد أن يرجع عما ارتكبه من المَعَاصي، فمتعلّق التوبة مختلف، وإذا اختلفت التعلّعات ضعفت دلالة الآية الكريمة على مذهب أهل السّنة.
فصل في الدعاء
قال بعضهم: إذا أراد الله من العبد أن يجيب دعاءه، فليدع بأسماء الله المناسبة لذلك الدعاء، فإن كان الدعاء للرحمة والمغفرة، فليدع باسم الغفار والتواب والرحيم وما أشبهه، وإن كان دعاؤه لشر، فليدع بالعزيز والمنتقم، وبما يناسبه. وتقدم الكلام على قوله: {إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} .(2/491)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
في ضمير «فيهم» قولان:
أحدهما: أنه عائد على معنى الأمة؛ إذ لو عاد على لفظها لقال: «فيها» قاله أبو البقاء.
والثاني: أنه يعنود على الذّرية بالتأويل المتقدم وقيل: يعود على أهل «مكة» ، ويؤيده: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} [الجمعة: 2] ، وفي قراءة أبي: «وَابْعَثْ فيهِمْ فِي آخِرِهُمْ رَسُلاً مِنْهُمْ» .
قوله: «مِنْهُمْ» في محلّ نصب، لأنه صفة ل «رسولاً» ، فيتعلّق بمحذوف، أي: رسولاً كائناً منهم.
قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم: ناقة مرْسَال ورسلة، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النُّوق.
ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل، وجمعه أَرْسَال. ويقال: جاء القوم أَرْسالاً، أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن: رسل، لأنه يرسل من الضرع. نقله القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
قوله: «يَتْلُوا» في محلّ هذه الجملة ثلاثة أوجه:(2/491)
أحدهما: أنها في محلّ نصب صفة ثانية ل «رسولاً» ، وجاء هذا على الترتيب الأحسن، إذا تقدم ما هو شبيه بالمفرد، وهو المجرور على الجملة.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «سولاً» ؛ لأنه لما وصف تخصص.
الثالث: أنها حال من المضير في «منهم» ، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلّق به «منهم» لوقوعه صفةً.
وتقدم قوله: «العزيز» ؛ لأنها صفة ذات، وتأخر «الحكيم» ؛ لأنها صفة فعل.
ويقال: عَزَّ، ويَعَزُّ، ويعِزُّ، ولكن باختلاف معنى، فالمَضْمُوم بمعنى «غلب» ، ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23] .
والمفتوح بمعنى [الشدة، ومنه: عزّ لحم الناقة، أي: اشتد، وعَزّ عليّ هذا الأمر، والمكسور بمعنى] النَّفَاسة وقلّة النظير.
فصيل في الكلام على دعاء سيدنا إبراهيم
اعلم أن هذا الدعاء يفيد كمال حال ذرّيته من وجهين:
أحدهما: أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع.
والثاني: أن يكون المبعوث منهم لام من غيرهم، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريتهن كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها، وإذا كان منهم، فإنهم يعرفون مولده ومنشأه، فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه، وأمانته، وكان أحرص الناس على خيرهم، وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم.
أجمع المفسرون على أن الرسول هو محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيْمَ وَبِشَارَةُ عِيْسَى» .
وأراد بالدعوة هذه الآية، وبِشَارة عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما ذكره في سورة «الصف» من قوله: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6] .
وثالثها: أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنما دعا بهذا الدعاء ب «مكة» لذريته الذين يكونون بها، وبما حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من ب «مكة» وما حولها إلاّ محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: كل الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام من بني(2/492)
إسرائيل إلا عشرة: هود ونوح وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} فيه وجهان:
الأول: أنها الفُرْقان الذي أنزل على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك، فوجب حمله عليه.
الثاني: يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدَّالة على وجود الصَّانع وصفاته سبحانه وتعالى، ومعنى تلاوته إيّاها عليهمك أنه كان يذكرهم بها، ويدعوهم إليها، ويحملهم على الإيمان بها.
قوله: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَاب» أي: القرآن يعلمهم مافيه من الدَّلائل والأحكام.
وأما الحكمة فهي: الإصابة في القول والعمل.
وقيلك أصلها من أحكمت الشيء أي رددته، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ، وهو راجع إلى ما ذكرنا من الإصابة في القول والعمل.
اختلف المفسرون [في المراد بالحكمة] هاهنا.
قال ابن وهب قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: معرفة الدين، والفقه فيه، والاتباع له.
وقال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الحكمة سُنّة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قول قتادة.
وقال أصحاب الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً، وتعلميه ثانياً، ثم عطف عليه الحكمة، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب، وليس ذلك إلاَّ سُنّة الرسول عليه اسلام.
فإن قيل: لم لا يجوز حَمْله على تعليم الدَّلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة؟
فالجواب: لأن العقول مستقبلة كذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يُسْتفاد من الشرع أَوْلَى.
وقيل: الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل.
وقال مقاتل: هي مواعظ القرآن الكريم، وما فيه منا لأحكام.
وقال ابن قتيبة: هي العلم والعمل به.
وقيل: حكمة تلك الشرائع، وما فيها من وجوه المصالح والمنافع.
وقيل: أراد بالكتاب الآيات المحكمة، واراد بالحكمة المتشابهات. [وقال بان دُريد: كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة] .(2/493)
وأما قوله: «وَيُزَكِّيهِمْ» .
قال الحسن: يطهّرهم من شركهم.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: التزكية هي الطاعة والإخلاص.
وقال بان كيسان: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا هم للأنبياء بالبلاغ لتزكية المزكي للشهود.
وقيل: يأخذ زكاة أموالهم. ولما ذكر هذه الدعوات، فتمّمها بالثناء على الله تعالى فقال: {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .
و «العزيز» : هو القادر الذي لا يغلب، و «الحكيم» : هو العليم الذي لا يجهل شيئاً.
[واعلم أن «العزيز» و «الحكيم» بهذين التفسيرين صفة للذات، وإذا أريد بالعزيز أفعال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه، وأراد بالحكمة: أفعال الحكمة، لم يكن «العزيز» و «الحككيم» من صفات الذات أزلية، وصفات الفعل ليست كذلك، وصفات الفعل أمور سببية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفعل، وصفات الذات ليست كذلك.
فصل]
[و] قال الكلبي: العزيز المتقدم لقوله تعالى: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} [آل عمران: 4] .
وقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: العزيز الذي لا يوجد مثله.
وقيل: المنيع الذي لا تناله الأيدي، ولا يصل إليه شيء.
وقيل: القوي.
والعزّة القوة، لقوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] أي قوينا.
وقيل: الغالب، لقوله: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23] أي غلبنين ويقال: من عزيز أي من غلب.
والعم أن مناسبة قوله: {أَنتَ العزيز الحكيم} لهذا الدعاء هو أن العزيز هو القادر، والحكيم هو العالم بوضع الأشياء في مواضعها، ومن كان عالماً قادراً فهو قادر على أن يبعث فيهم رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.(2/494)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
«من» اسم استفهام بمعنى الإنكار، فهو نفي في المعنى، لذلك جاءت بعده «إلاَّ» التي للإيجاب، ومحلّه رفع بالابتداء.
و «يرغب» خبره، وفيه ضمير يعود عليه.
والرغبة أصلها الطلب، فإن تعدت ب «في» كانت بمعنى الإيْثَار له، والاختيار نحو: رغبت في كذا، وإن تعدت ب «عن» كانت بمعنى الزّهَادة نحو: رغبت عنك.
قوله: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} في «مَنْ» وجهان.
أحدهما: أنها في محلّ رفع البدل من الضمير في «يرغب» ، وهو المختار؛ لأن الكلام غير موجب، والكوفيون يجعلون هذا من باب العطف.
فإذا قلت: ما قام القوم إلاَّ زيد، ف «إلاَّ» عندهم حرف عطف، وزيد معطوف على القوم، وتحقيق هذا مذكور في كتب النحو.
الثاني: أنها في محلّ نصب على الاستثناء، و «من» يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون نكرة موصوفة، فالجملة بعدها لا محلّ لها على الأول، ومحلها الرفع، أو النصب على الثاني.
قوله: «نَفْسَهُ» في نصبه سبعة أوجه:
أحدها: وهو المختار أن يكون مفعولاً به؛ لأنه حكي أن «سَفِهَ» بكسر الفاء يتعدّى بنفسه كما يتعدى «سَفَّه» بفتح الفاء والتشديد، وحكى عن أبي الخَطّاب أنها لغة، وهو اختيار الزّمخشري [فإنه قال] : «سفه نفسه: امتهنها، واستخف بها» ، ثم ذكر أوجهاً أخرى.
ثم قال الوجه الاول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث: «الكِبْرُ أَنْ تَسْفَهَ الحَقَّ وَتُغْمِضَ النَّاسَ» .(2/495)
الثاني: أنه مفعول به ولكن على تضمين «سفه» معنى فعل يتعدى، فقدره الزجاج وابن جني بمعنى «جهل» ، وقدره أبو عبيدة بمعنى «أهلك» .
قال القرطبي: وأمام سَفُهَ بالضم فلا يتعدى قاله ثعلب والمبرد] .
الثالث: أنه منصوب على إسقاط حرف الجَرّ تقديره: سَفِهَ في نَفْسه.
الرابع: توكيد لمؤكد محذوف تقديره: سفه في نفسه، فحذف المؤكد قياساً على النعت والمنعوت، حكاه مكّي.
الخامس: أنه تمييز، وهو قول الكوفيين.
قال الزمخشري: ويجز أن يكون في شذوذ تعريف المميِّز؛ نحو قوله: [الوافر]
792 - ... ... ... ... ... ... . ... وَلاَ بِفزَارَةَ الشُّعْرِ الرِّقَابَا
[الوافر]
793 - ... ... ... ... ... ... ... أَجَبَّ الظَّهْرَ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
فجعل «الرِّقَاب» و «الظَّهر» تمييزين، وليس كذلكن بل هما مُشَبَّهان بالمفعول به؛ لأنهما معمولا صفة مشهبة، وهي «الشُّعْر» جمع أَشْعَر، و «أَجَبّ» وهو اسم.
السادس: أنه مشبه بالمفعول وهو قول بعض الكوفيين.
السابع: أنه توكيد لمن سفه؛ لأنه في محل نصب على الاستثناء في أحد القولين، وهو تخريج غريب نقله صاحب «العَجَائب والغَرَائب» .
والمختار الأول؛ لأن التضمين لا ينقاص، وكذلك حرف الجر.(2/496)
وأما حذف المؤكد وإبقاء التوكيد، فالصحيح لا يجوز.
وأما التمييز فلا يقع معرفة، ما ورد نادر أو متأول.
وأما النصب على التشبيه بالمفعول، فلا يكون في الأفعال إنما يكون في الصّفات المشبهة خاصة.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها من الآيات
لما ذكر أمر إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وشرائعه ابتلاه الله بها، وبناء بيته، والحرص على مصالح عباده، ودعائه [الخير لهم] ، وغير ذلك عدب الناس فقال: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} .
قال النحاس: وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب والمعنى: يزهد فيها، وينأى بنفسه عنها، أي: الملّة وهي الدين والشرع؛ إلاّ من سَفِهَ نَفْسَهُ.
قال قتادة: وكل ذلك توبيخ اليهود، والنصارى، ومشركي العرب؛ لأن اليهود إنما يفتخرون بالوَصْلَة إلى إسرائيل وقريش، فإنهم إنما نالوا كلّ خير بالبيت الذي بناه، [فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله] ، وسائر العرب، [وهم العدنانيون] مرجعهم إلى إسماعيل، وهم يفتخرون على [القَحْطَانيين] بما أعطاه الله تعالى من النبوة، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام، ولما ثبت أنّ إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان ثبت أنه هو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود، والعجب ممن [أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام] ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هوم دعوة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومطلوبه بالتضرّع لا شك أن مما يستحق أن يتعجب منه.
[فإن قيل: لعل الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الذي طلب إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعثه غير هذا الشخص.
فالجواب أن التوراة والإنجيل شاهدة بصحة هذه الرواية، والمعتمد في إثبات نبوته صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وظهور المعجزة على يده، وهو القرآن الكريم وإخباره عن الغيوب منسوخ، ولفظ «الملة» يتناول الفروع والأصول؛ فيكون محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
والجواب لمّا أنه طلب من الله بعثه هذا الرسول وتأييده ونشر شريعته، عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم] .(2/497)
فصل
روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: إن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيّاً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، وأَسْلم سَلَمَةُ، ومهاجراً أَبَى أن يسلم، فنزلت هذه الآية الكريمة.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «إلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» خَسر نفسه.
وقال الكلبي: «ضلّ من قتل نفسه» .
وقال أبو البقاء، وأبو عبيدة: «أهلك نفسه» .
وقال ابن كيسان والزجاج: «جهل نفسه» ؛ لأنه لم يعرف الله تعالى خالقها، وقد جاء «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» .
وقال ابن بحر: معناه جهل نفسه، وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعاً ليس كمثله شيء، فيعلم به توحيد الله وقدرته.
وهذا معنى قول الزجاج رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لا يفكّر في نفسه من بيدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعينين يبصر بهما، وأذنين يسمع بهما، ولسان ينطق به، وأضراس نبتت له عند غناه عن الرضاع، وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومَعِدَة أعدّت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صَفْوه، وعروق ينفذ بها إلى الأطراف، وامعاء يرتكز إليها نقل الغذاء، فيبرز من أسفل البدن، فيستدل بها على أن له خالقاً قادراً عليماً حكيماً وهذا معنى قوله تعالى: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} {الذاريات: 21] .
قوله: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} اخترناه من سائر الخلق في الدنيا، وإنّه في الآخةر عظيم المنزلة.
[قال الحسين بن فضيل: فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى. وقال الحسن: من الذين يستحقون الكرامة وحسن الثواب] .
قوله: «فِي الآخِرَةِ» فيه خمسة أوجه:
أحدها: أنه متعلّق بالصالحين على أن الألف واللام للتعريف، وليست موصولة.
الثاني: أنه متعلّقة بمحذوف تقديره أعني في الآخرة كقولك: بعد سقياه.
الثالث: يتعلق بمحذوف أيضاً، لكن من جنس المفلوظ به أي: وإنه لصالح في الآخرة لمن الصالحين.(2/498)
الرابع: أن يتعلق بقوله الصالحين، وإن كانت «آل» موصولة؛ لأنه يُغْتفر في الظروف وشبهها ما لا يغتفر في غيرها اتساعاً، ونظيره قول الشاعر: [الرجز]
794 - رَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا تَمَعْدَدَا ... كَانَ جَزَائِي بِالْعَصَا أَنْ أُجْلَدَا
الخامس: أن يتلّق ب «اصطفيناه» .
قال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير مجازه: ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة.
وهذا ينبغي ألا يجوز مثله في القرآن لنُبُوِّ السمع عنه.
والاصطفاه: الاختيار، «افتعال» من صورة الشيء، وهي خياره، وأصله: اصتفى، وإنما قلبت تاء الافتعال «طاء» مناسبة للصاد لكونها حرف إطْبَاق، وتقدم ذلك عند قوله: {أَضْطَرُّهُ} [البقرة: 126] .
وأكد جملة الأصطفاء باللام، والثانية ب «أن» و «اللام» ؛ لأن الثانية محتاجة لمزيد تأكيد، وذلك أن كونه في الآخرة من الصالحين أمر مُغَيَّب، فاحتاج الإخبار به إلى فَضْل توكيد.
وأما اصطفاء الله فقد شاهدوه منه، ونقله جيل بعد جيل.(2/499)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
في «إذ» خمسة أوجه:
أصحها: أنه منصوب ب «قال أسلمت» ، أي: قال أسلمت وقت قول الله لم أسلم.
الثاني: أنه بدل من قوله: «في الدنيا» .
الثالث: أنه منصوب ب «اصطفيناه» .
الرابع: أنه منصوب ب «اذكر» مقدراً، ذكر أبو البقاء، والزمخشري، وعلى تقدير كونه معمولاً ل «اصطفيناه» أو ل «اذكر» مقدراً يبقى قوله: «قَالَ: أَسْلَمْتُ» غير منتظم مع ما قبله، إلاّ أن يقدر حذف حرف عطف أي: فقال، أو يجعل جواباً بسؤالٍ مقدر، أي ما كان جوابه؟
فقيل: قال أسلمت.
الخامس: أبعد بعضهم، فجعله مع ما بعده في محلّ نصب على الحال، والعامل في «اصْطَفَيْنَاه:.(2/499)
وفي قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ} التفات، إذ لو جاء على نسقه لقيل: إذ قلنا؛ لأنه بعد» ولقد اصطفيناه «، وعكسه في الخروج من الغيبة إلى الخطاب قوله: [البسيط]
795 - بَاتَتْ تَشَكَّى إِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً ... وَقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعاً بَعْدَ سَبْعِينا
وقوله:» لرَبِّ الْعَالَمِينَ «فيه من الفخامة ما ليس في قوله» لك «أو» لربي «، لأنه إذا اعترف بأنه ربّ جميعا العالمين اعترف بأنه بربه وزيادة، بخلاف الأول، فذلك عدل عن العبارتين.
وفي قوله:» أسلم «حَذْفُ مفعول تقديره: أسلم لربك.
فصل في تحرير وقت قول الله لإبراهيم: أسلم
الأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطّلاعه على أمَارَات الحدوث فيها، فلما عرف ربه قال له تعالى: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} ؛ لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن يعرف ربه، ويحتمل أيضاً أن يكون قوله:» أسلم «كان قبل الاستدلال، فيكون المراد من هذا القول دلالة الدليل عليه [لا نفس القول] على حسب مذاهب العرب في هذا، كقول الشاعر: [الرجز]
796 - إِمْتَلأَ الْحَوْضُ وَقَالَ: قَطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأْتِ بَطْنِي
ويدل على ذلك قوله تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] فجعل دلالة البُرْهان كلاماً.
وذهب بعضهم إلى أن هذا الأمر بعد النبوة، واختلفوا في المراد منه.
فقال الكلبي والأصمّ: أخلص دينك، وعبادتك لله تعالى.
وقال عطاء: أسلم نفسك إلى الله، وفوّض أمورك إليه.
قال: أسلمت، أي: فوضت.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: وقد تحقّق ذلك حيث لم يأخذ من الملائكة من ألقي في النار.(2/500)
قال القرطبي: والإسلام هنا على أتم وجوهه، فالإسلام في كلام العرب الخضوع والإنقياد للمستسلم والله أعلم.(2/501)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
قرىء: «وَصَّى» ، وفيه معنى التكثير باعتبار المفعول الموصَّى، وأوصى رباعياً، وهي قراءة نافع، وابن عامر، وكذلك هي في مصاحف «المدينة» و «الشام» .
وقيل: أوصى ووصى بمعنى.
والضمير في «بها» فيه ستّة أقوال:
أحدها: أنه يعود على الملّة في قوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 130] .
قال أبو حيان: «وبه أبتدأ الزمخشري، ولم يذكر المهدوي غيره» .
والزمخشري رَحِمَهُ اللهُ لم يذكر هذا، وإنما ذكر عوده على قوله «أسلمت» لتأويله بالكلمة.
قال الزمخشري: والضمير في «بها» لقوله: {أسلمت لرب العالمين} على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} [الزخرف: 28] إلى قوله: {إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26 27] وقوله: «كَلِمَةً بَاقِيَةً» دليل على أن التأنيث على معنى الكلمة. انتهى.
الثاني: أنه يعود على الكلمة المفهومة من قوله: «أسلمت» كما تقدم تقريره عن الزمخشري.
قال ابن عطية: «وهو أصوب لأنه أقرب مذكور» .
الثالث: أنه يعود على متأخرن وهو الكلمة المفهومة من قوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} .
الرابع: أنه يعود على كلمة الإخلاص، وإن لم يَبْدُ لها ذكر قاله الكلبي ومقاتل.
الخامس: أنه يعود على الطَّاعة للعلم بها أيضاً.
السادس: أنه يعود على الوصيّة المدلول عليها بقوله: «ووصّى» ، و «بها» يتعلّق ب «وَصَّى» و «بينه» مفعول به.(2/501)
روي أنهم ثمانية: إسماعيل، واسم أمه هاجر القبطية، وإساحق، وأسم أمه سارة وستة، واسم أمهم قنطورا بنت قطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة، فولدت له مدين ومداين ونهشان وزمران وتشيق وشيوخ، ثم توفي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وكان بين وفاته وبين مولد النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نحو من ألفي سنةٍ وستمائة سنة، واليهود ينقصون ذلك نحواً من أربعمائة سنة.
قوله: «وَيَعْقُوب» والجمهور على رفعة وفيه قولان:
أظهرهما: أنه عطف على «إبراهيم» ، ويكون مفعوله محذوفاً، أي: ووصى يعقوب بنيه أيضاً.
والثاني: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: ويعقوب قال: يا بني إن الله اصطفى.
وقرأ إسماعيل بن عبد الله، وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على «بنيه» ، أي: ووصّى إبراهيم يعقوب أيضاً.
[ولم ينقل أنّ يعقوب جده إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وإنما ولد بعد موته قاله الزمخشري، وعاش يعقوب مائة وسبعة وأربعين سنة، ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة ويدفن عند ابنه إسحاق، فحمله يوسف، ودفنه عنده] .
قوله: «يَابَنِي» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مقول إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وذلك على القول بعطف يعقوب على إبراهيم، أو على قراءته منصوباً.
والثَّاني: أنه من مقول يعقول إن قلنا رفعه باللابتداء، ويكون قد حذف مقول إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ للدلالة عليه تقديره: «ووصّى إبراهيم بنيه يا بني» .(2/502)
وعلى كل تقدير فالجملة من قوله: «يابني» وما بعدها منصوبة بقول محذوف على رأي البصريين، أي: فقال يابني، وبفعل الوصية؛ لأنها في معنى القول على رأي الكوفيين، [قال النحاس: يا بني نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها؛ لأنها لو سكنت لا لتقى سكنان، وبمعناه {بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] ونحوه] . وقال الراجز: [الرجز]
797 - رَجْلاَنِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبَرَانَا ... إِنَّا رَأَيْنَا رَجُلاً عُرْيَانَا
بكسر الهمزة على إضمار القول، أو لإجراء الخبر مجرى القول، ويؤيد تعلّقها بالوصية قراءة ابن مسعود: «أن يا بني» ب «أن» المفسرة ولا يجوز أن تكون هنا مصدرية لعدم ما يَنْسبك منه مصدر.
قال الفراء: ألغيت «أن» لأن التوصية كالقول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول «أن» وجاز إلغائها، وقال النحويون: إنما أراد «أن» وألغيت ليس بشيء. ومَنْ أبَى جعلها مفسرة وهم الكوفيون يجعلونها زائدة.
و «يعقوب» علم أعجمي ولذلك لا ينصرف، ومن زعم أنه سُمِّي يعقوب؛ لأنه وُلِد عقب العيص أخيه، وكانا توأمين، أو لأنه كثر عَقبهُ ونَسْلُه فقد وهم؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف، لأنه عربي مشتق.
ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الْحَجَل، إذ سمي به المذكر انصرف؛ والجمع يَعَاقِبَة وَيَعَاقِيب، و «اصْطَفَى» ألفه عن ياء تلك الياء منقلبة عن «واو» ؛ لأنها من الصَّفْوة، ولما صارت الكلمة أربعة فصاعداً، قلبت ياء، ثم انقلبت ألفاً.
اصْطَفَى: اختار.
قال الراجز: [الرجز]
798 - يا ابْنَ مُلُوكٍ وَرَّثُوا الأمْلاَكَا ... خِلآفةَ اللهِ الَّتِي أَعْطَاكَا
لَكَ اصْطَفَاهَا وَلَهَا اصْطَفَاكَا ... والدين: الإسلام.
و «لكم» أي لأجلكم، والألف واللام في «الدين» للعهد؛ لأنهم كانوا عرفوه.(2/503)
قوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ} هذا في الصورة عن الموت، وهو في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك: «لا تصلً إلا وأنت خاشع» ، فنهيك له ليس عن الصلاة، وإنما هو عن ترك الخشوع في حال صلاته، والنُّكْتة في إدخال حرف النهي على الصلاة، وهي غير مَنْهِي عنها هي إظهارُ أَنَّ الصلاة التي لا خشوع فيها كَلاَ صلاة، كأنه قال: أنهاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالة، وكذلك المعنى في الآية الكريمة إظهار أن موتهم لا على حال الثابت على الإسلام موت لا خير فيه، وأن حقّ هذا الموت ألا يجعل فيهم.
[وعن الفضيل بن عياض أنه قال: «إلا وأنتم مسلمون» ، أي: مسلمون الظن، أي محسنون الظن بربكم، وروي عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه سولم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتن أحد إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» ] . وأصل تموتُن: تَمُوتُوننَّ: النون الأولى علامة الرفع، والثانية المشددة للتوكيد، فاجتمع ثلاثة أمثال فحذفت نون الرفع؛ لأن نون التوكيد أولى بالبقاء لدلالتها على معنى مستقلّ، فالتقى سكنان: الواو والنون الأولى المدغمة، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة تدلّ عليها، وهكذا كل ما جاء في نظائره.
قوله: {إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} هذا استثناء مفرغ من الأحوال العامة، و «أنتم مسلمون» مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال، كأنه قال تعالى: «لا تموتنّ على كل حالا إلا على هذه الحال» ، والعامل فيها ما قبل إلا.(2/504)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
«أم» في أم هذه ثلاثة أقوال:
أحدها وهو المشهور: أنها منقطعة والمنقطعة تقدر ب «بل» ، وهمزة الاستفهام. وبعضهم يقدرها ب «بل» وحدها، ومعنى الإضراب انتقال من شيء إلى شيء لا إبطال. ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ فيؤول معناه إلى النفي، أي: بل أكنتم شهداء يعنى لم تكونوا. الثاني: أنها بمعنى همزة الإستفهامن وهو قول ابن عطية والطبري، إلا أنهما اختلفا في محلها. فإن ابن عطية قال: و «إم» تكون بمعنى ألف الاستفهام ف يصدر الكلام، لغة يمانية.(2/504)
وقال الطبري: إن أم يستفهم بها وسط كلام قد تقدم صدره.
قال ابو حيان في قول ابن عطية: «ولم أقف لأحد من النحويين على ما قال» .
وقال في قول الطبري: وهذا أيضاً قول غريب.
الثالث: أنها متصلة، وهو قول الزمخشري.
قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة، وجعل الخطاب للمؤمنين قال بعد ذلك: وقيل: الخطاب لليهود؛ لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليَهُودية، إلا أنهم لو شهدوه، وسمعوا ما قاله لبنيه، وما قاله لظهر لهم حرصُه على ملّة الإسلام، وَلَمَا ادَّعوا عليه اليهودية، فالآية الكريمة مُنَافية لقولهم، فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟
ولكن الوجه أن تكون «أم» متصلة على أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل: أَتَدَّعُون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء، يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذْ أراد بنيه على التوحيد وملّة الإسلام، فما لكم تَدَّعُونَ على الأنبياء ما هم منه براء؟
قال أبو حيان: ولا أعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة، لا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره، لو قلت «أم زيد» تريد: «أقام عمرو وأم زيد» لم يجز، وإنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دلّ عليه دليل كقولك: «بلى وعمراً» لمن قال: لم يضرب زيداً، وقوله تعالى: {فانفجرت} [البقرة: 60] أي فضرب فانفجرت، وندر حذفه مع «أو» ؛ كقوله: [الطويل]
799 - فَهَلْ لَكَ أَوْ مِنْ وَالِدٍ لَكَ قَبْلَنَا..... ... ... ... ... ... ... .
أي: من أخ أو والد، ومع حمتى كقوله: [الطويل]
800 - فَوَعَجَبَا حَتَّى كُلَيْبٌ تُسُبُّنِي ... كَأَنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ أَوْ مُجَاشِعُ
أي: يسبني الناسُ حتى كليبٌ، على نظر فيه، وإنما الجائز حذف «أم» مع ما عطفت كقوله: [الطويل](2/505)
801 - دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهِ ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا
أي: أم غَيٌّ، وإنما جاز ذلك؛ لإن المستفهم على الإثبات يتضمنّن نقيضه، ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دلّ عليها المعنى، ألا ترى إلى قوله: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] كيف حذف و «الْبَرْدَ» انتهى.
و «شهداء» خبر كان، وهو جمع شاهد أو شهيد، وقد تقدم أول السورة.
قوله: «إذ حضر» إذ منصوب بشهداء على أنه ظرف لا مفعول به أي: شهداء وقت حضور الموت إياه، وحضور الموت كناية عن حضور أسبابه مقدماته؛ قال الشاعر: [البسيط]
802 - وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلاً يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
أي: أنا سببه، والمشهور نصب «يعقوب» ، ورفع «الموت» ، قدم المفعول اهتماماً وقرأ بعضهم بالعكس.
وقرىء: «حَضِر» بكسر الضاد، قالوا: والمضارع يَحْضُر بالضم شاذ، وكأنه من التداخل وقد تقدم.
قوله: «إذْ قَالَ» ، «إذ» هذه فيها قولان:
أحدهما: بدل من الأولى، والعامل فيها، إما العامل في «إذ» الأولى إن قلنا: إن البدل لا على نية تكرار العامل، أو عامل مضمر إن قلنا بذلك.
الثاني: أنها ظرف ل «حضر» .
قوله: «مَا تَعْبُدُونَ» ، ما أسم استفهام في محلّ نصب؛ لأنه مفعول مقدم بتعبدون، وهو واجب التقديم؛ لأن له صدر الكلام، وأتى ب «ما» دون «من» لأحد أربعة معانٍ.
أحدها: أن «ما» للمبهم أمره. فإذا عُلِم فُرّق ب «ما» و «مَنْ» .
[قال الزمخشري: وكفاك دليلاً قول العلماء: «مَن» لما يعقل.
الثاني: أنها سؤال عن صفة المعبود] .(2/506)
قال الزمخشري: كما تقول: ما زيد؟ تريد: أفقيه أم طبيب، أم غير ذلك من الصفات؟
الثالث: أن المعبودات في ذلك الوقت كانت غير عقلاء، كالأوثان والأصنام والشمس والقمر، فاستفهم ب «ما» التي لغير العاقل، فعرف بَنُوه ما أراد، فأجابوه عنه بالحق.
الرابع: أنه اختبرهم وامتحنهم فسألهم ب «ما» دون «من» ، لئلا يَطْرُق لهم الاهتداء، فيكون كالتلقين لهم، ومقصوده الاختبار.
وأجاب ابن الخطيب بوجهين:
الاول: أن «ما» عام في كل شيء، والمعنى: أي شيء تعبدون.
والثاني: قوله: «مَا تَعْبُدُونَ» كقولك عند طلب الحد والرسم ما الإنسان؟
وقوله: «مِنْ بَعْدي» أي: بعد موتي.
قوله: {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} .
تمسّك المقَلِّدة بهذه الآية الكريمة قالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، ولم ينكره عليهم.
والجواب: أن هذا ليس تقليداً، وإنما هو إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصَّانع كقوله: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] فهاهنا المراد من قوله: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} أي: الإله الذي دلّ عليه وجودك، ووجود آبائك.
فصل في نزول هذه الآية
قال القَفَال: وفي بعض التفاسير أن يعقوب عليه السلام لما دخل «مصر» رأى أهلها يعبدن النيران والأوثان، فخاف على بنيه بعد وفاته، فقال لهم هذا القول تحريضاً لهم على التمسّك بعبادة الله تعالى.
وحكى القاضي عن ابن عباس: أن يعقوب عليه السَّلام جميعهم إليه عند الوفاة، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران، فقال: يا بني ما تبعدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك.
ثم قال القاضي: هذا بعيد لوجهين:
الأول: أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين.
الثاني: أنه تعالى ذكر في الكتاب الأَسْبَاط من أولاد يعقوب، وأنهم كانوا قوماً صالحين، وذلك لا يليق بحالهم.(2/507)
[وقال عطاء: إن الله لم يقبض نبياً حتى يخبره بين الموت والحياة، فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم؛ ففعل ذلك به، فجمع ولده وولد ولده، وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون، والعرب تسمي العم أباً كما تسمي الخالة أماً، وسيأتي الكلام على ذلك قريباً إن شاء الله تعالى] .
وقال القَفَّال: وقيل: إنما قدّم ذكر إسماعيل على إسحاق؛ لأن إسماعيل [كان أسنّ من إسحاق] .
قوله: «وَإِلَهَ آبائِكَ» أعاد ذكر الإله، لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرور دون إعادة الجار، والجمهور على «آبائك» .
وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء: «أبيك» .
وقرأ أُبّي: «وَإلَهَ إِبْرَاهِيمَ» فأسقط «آبائك» .
فأما قراءة الجمور فواضحة.
وفي «إبراهيم» وما بعده حينئذ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل.
والثاني: أنه عطف بيان، ومعنى البدلية فيه التفصيل.
الثالث: أنه منصوب بإضمار «أعني» فالفتحة على هذا علامة للنصب، وعلى القولين قبله علامة للجر لعدم الصَّرْف، وفيه دليل على تسمية الجَدِّ والعم أباً، فإن إبراهيم جده إسماعيل عمه، كما يطلق على الخالة أمّ، ومنه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} [يوسف: 100] في أحد القولين.
قال بعضهم: وهذا من باب التَّغليب، يعنى: أنه غلب الأب على غيره، وفيه نظر، فإنه قد جاء هذا الإطلاق حيث لا تثنية ولا جمع، فيغلب فيهما.
وأما قراءة «أبيك» فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مفرداً غير جمع، وحينئذ فإما أن يكون واقعاً موقع الجمع أو لا، فإنْ كان واقعاً موقع الجمع، فالكلام في «إبراهيم» وما بعده كالكلام فيه على القراءة المشهورة. وإن لم يكن واقعاً موقعَهُ، بل أريد به الإفراد لفظاً ومعنى، فيكون «إبراهيم» وحده على الأوجه الثلاثة المتقدمة، ويكون إسماعيل وما بعده عطفاً على «أبيك» ، أي: وإله إسماعيل.(2/508)
الثاني: يكون جمع سلامة بالياء والنون، وإنما حذفت النون للإضافة، وقد جاء جمع آب على «أبُونَ» رفعاً، و «أبين» جراً ونصباً، حكاها سيبويه؛ قال الشاعر: [المتقارب]
803 - فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أصْوَاتَنَا ... بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنَا بِالأَبِينَا
ومثله: [الوافر]
804 - فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنَّا أَخُوكُمْ..... ... ... ... ... ... ... .
والكلام في إبراهيم وما بعده كالكلام فيه بعد جمع التكسير، وإسحاق: علمٌ أعجميٌّ، ويكون مصدر أسحاق، فلو سُمِّي به مذكرٌ لا نصرف، والجمع: أسحاقهٌ وأساحيق.
قال القرطبي: ولم ينصرف إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق؛ لأنَّها أعجميةٌ.
قال الكسائيُّ: وإن شِئْتَ صرفت «إسحاق» ، وجعلته من السّحق، وصرفت «يعقوب» وجعلته من الطَّير.
وسمى الله تعالى كل واحد من العم والجد أباً، وبدأ بذكر الجد، ثم إسماعيل العم؛ لأنَّهُ أكبر من إسحاق.
فصل في تحرير اختلاف الفقهاء في كون الجد أباً
ذهب أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْه إلى أن الجد أب، وأسقط به الإخوة، والأخوات، وهو قول أبي بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْه وابن عباس وعائشة، وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين، والحسن، وطاوس وعطاء.
وذهب الشافعي إلى أن الجد لا يسقط الإخوة والأخوات للأب، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي رَضِيَ اللهُ عَنْهم وهو قول مالك، وأبي يوسف ومحمد.(2/509)
واحتج أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْه بأدلة منها هذه الآية الكريمة، وأنه أطلق لفظ الأب على الجد.
فإن قيل: قد أطلقَهُ على العمِّ، وهو إسماعيل مع أنه ليس بأب اتفاقاً.
فالجواب: الأصل في الاسْتِعْمَال الحقيقة وترك العمل به في العم لدليل قام به، فيبقى في الثاني حجة.
والثاني: منها قوله تبارك وتعالى مخبراً عن يوسف: {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 38] .
ومنها: ما روى عطاء عن ابن عباس أنَّهُ قال: من شاء لاَعَنْتُهُ عند الحجر الأسود أنّ الجدّ أب.
وقال أيضاً: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن أبناً، ولا يجعل أب الأب أباً.
واحتجَّ الإمام الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه وأرضاه بأدلّة.
منها: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132] فلم يدخل يعقوب في بنيه، بل ميَّزه عنهم، فلو كان الصاعد في الأبوَّة أباً لكان النازل في النبوَّة ابناً في الحقيقة، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجدَّ ليس بأب [ومنها أن الأب لا يصح نفي اسم الأبوة عنه بخلاف الجد، فعلمنا أنه حقيقة من الأب مجاز الجد] . ولو كان الجد أباً على الحقيقة لما صح لِمَنْ مات أبُوه وجدُّه حَيٌّ أن ينفي أنَّ له أباً، كما لا يصح في الأب القريب، ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة.
فإن قيل: اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أنَّ رُتْبَةَ الأدنى أقْرَبُ من رتبةِ الأبعد، فلذلك صح فيه النفي.
فالجواب: لوك كان الاسم حقيقة فيهما جميعاً لم يكن الترتيب في الوجود سبباً لنفي اسم الأب عنه.
ومنها: لو كان الجد أباً على الحقيقة لصحَّ القول بأنَّهُ مات، وخلف أُمًّا وآباء كثيرين، وذلك مما لم يطلقه أحدٌ من الفقهاء، وأرباب اللغة، والتفسير.
ومنها: [ول كان الجدُّ أباً ولا شكَّ] أنَّ الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجدن ولو كان الجد أباً لكانت الجدة أُمًّا، ولو كان كذلك لما وقعت الشُّبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْه إلى السؤال عنه، [فهذه الدلائل دلت على أنَّ الجدَّ ليس بأب] .(2/510)
ومنها: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] فلو كان الجدُّ أباً لكان ابن الابن ابناً لا محالة، فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب.
وأما الجواب عن الآية الكريمة فمن وجهين:
الأول: أنه قرأ أُبيّ: «وإلَهَ إبْرَاهِيمَ» بطرح «آبائك» إلاَّ أنَّ هذا لا يقدح في الغرض؛ لأن القراءة الشاذَّة لا تدفع القراءة المتواترة.
بل الجواب أن يقال: إنَّه أطلق لفظ الأب على الجدِّ وعلى العمِّ.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في العبَّاس: «هَذَا بَقِيَّةٌ آبَائِي» .
وقال: «رُدٌُّوا عَلَيَّ أبي، فإنِّي أخْشَى أنْ تَفْعَلَ بِهِ قُرَيْشٌ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودِ» ، فدلنا ذلك على أنَّهُ ذكره على سبيل المجاز، ولو كان حقيقة لما كان كذلك.
وأمَّا قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظراً إلى الحكم الشرعي، لا إلى الاسم اللغوي؛ لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أهل اللِّسَان.
قوله: «إلهاً واحداً» فيه ثلاثة أَوْجُهٍ:
أحدها: أَنَّهُ بَدَلٌ من «إلهك» بدل نكرة موصوفة من معرفة كقوله: {بالناصية نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 1516] .
والبصريون لا يشترطون الوصف مستدلين بقوله: [الوافر]
805 - فَلاَ وَأَبِيكِ خَيْرٍ مِنْكِ إِنِّي ... لَيُؤْذِينِي التَّحَمْحُمُ والصَّهِيلُ
ف «خير» يدلٌ من «أبيك» ، وهو نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ.
والثاني: أنَّهُ حال من «إلهك» والعامل فيه «نعبد» ، وفائدة البدل الحال التنصيص على أنَّ معبودهم فَرْدٌ إذْ إضافة الشيء إلى كثير تُوهِم تَعْدَادَ المضاف، فنصَّ بها على نفي ذلك الإبهام. وهذه الحال تمسى «حالاً مُوَطِّئة» ، وهي أن تذكرها ذاتاً موصوفة، نحو: جاء زيد رجلاً صالحاً.
الثالث: وإليه نَحَا الزَّمَخْسَرِيُّ: أن يكون منصوباً على الاختصاص، أي: نريد بإلهك إلهاً واحداً.
قالوا: أبو حيَّان رَحِمَهُ اللهُ: وقد نصّ النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرةً ولا مبهماً.(2/511)
قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها معطوفةٌ على قوله: «نعبد» يعني: أنها تتمّةٌ جوابهم له، فأجابوه بزيادة.
والثني: أنهَّا حال من فاعل «نعبد» ، والعامل «نعبد» .
والثالث: وَإليه نَحَا الزَّمخشري: ألاَّ يكون لها محل، بل هي جملة اعتراضيّة مؤكدة، أي: ومن حالنا أنَّا له مخلصون.
قال ابو حيّان: ونصّ النحويون على أنَّ جملة الاعتراض هي التي تفيد تقويةً في الحكم، أمّا بين جزئَيْ صلة وموصول؛ كقوله: [البسيط]
806 - مَاذّا وَلاَعَتْبَ في المَقْدُورِ رُمْتَ أَمَا ... يَكْفِيكَ بِالنُّجْحِ أمْ خُسْرٌ وتَظْلِيلُ
وقوله: [الكامل]
807 - ذَاكَ الَّذِي وأَبِيكَ يَعْرِفُ مالِكاً ... وَالحَقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ البَاطِلِ
أو من مُسْنَد ومُسْنَد إليه كقوله: [الطويل]
808 - وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي والحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةٌ قَوْمٍ ضِعَافٍ وَلاَ عُزْلِ
أو بين شرط وجزاء، أو قسم وجوابه، مما بينهما تلازم.
وهذه الجملة قبلها كلامٌ مستقل عمّا بعدها، لا يُقَال: إنَّ بين المشار إلَيْهِ وبين الإخبار عنه تلازماً؛ لأنَّ ما قبلها من مقول بني يعقوب، وما بعدها من كلام الله تعالى، أخبر بها عنهم، والجملة الاعتراضية إنما تكون من الناطق بالمتلازمين لتوكيد كلامه. نتهى ملخصا.
وقال ابن عطية: «ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ابتداء وخبر، أي: كذلك كنا، ونحن نكون.
قال أبو حيان: يظهر منه أنَّهُ جعل هذه الجملة عطفاً على جملةٍ محذوفة، ولا حاجة إليه.(2/512)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
«تلْكَ» مُبْتَدَأ، و «أمَّةٌ» خبره، ويجوز أنْ تَكُونَ «أُمَّة» بدلاً من «تلك» ، و «قد خلت» خبر للمبتدأ.
وأصل «تلك» : «تي» ، فلمَّا جاء باللاَّم للبعد حُذِفَتِ الياء لالتقاء الساكنين، فإن قيل: لِمَ لَمْ تسكر اللام حتى لا تحذف الياء؟
فالجواب: أنَّهُ يثقل اللفظ بوقوع الياء بين كسرتين.
وزعم الكوفيون أنَّ التاء وحدَها هي الاسمن وليس ثَمَّ شيء محذوف.
وقوله: «قد خلت» جملة فعلية في محل رفع صفة ل «أُمَّة» إنْ قيل إنها خبر «تلك» أو خبرُ «تلك» إن قيل: إن «أمة» بدل من «تلك» كما تقدم، و «خلت» أي صارت إلى الخلاءن وهي الأرض التي لا أنيس بها، والمراد به ماتت، والمشار إليه هو إبراهيم ويعقوب وأبناؤهم.
والأمة: الجماعة، وقيل: الصنف.
قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون صفة ل «أمة» أيضاً، فيكون محلها رفعاً.
والثاني: أن تكون حالاً من الضمير في «خلت» فحملها نصب، أي: خلت ثابتاً لَهَا كَسْبُها.
والثالث: أن تكون استئنافاً فلا محلّ لها.
وفي «ما» من قوله: «ما كسبت» ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها بمعنى الذي.
والثاني: أنها نكرة موصوفةن والعائد على كلا القولين محذوف أي: كسبته، إلا أن الجملة لا محلّ لها على الأول.
والثالث: أن تكون مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد على المشهور، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي: لها مكسوباً أو يكون ثَمَّ مضاف، أي: لها جزاء كسبها.
قوله: {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} إن قيل: إن قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} مستأنف كانت هذه الجملة عطفاً عليه.
وإن قيل: إنه صفة أو حال فلا.
أما الصفة فلعدم الرابط فيها.
وأما الحال فلاختلاف زمان استقرار كسبها لها، وزمان استقرار كسب المخاطبين،(2/513)
وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد الزمان، و «ما» من قوله: «ما كسبتم» ك «ما» المتقدمة.
فصل فيمن استدل بالآية على إضافة بعض الأكساب إلى العبد
دلت هذه الآية على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيراً فبفضله وإن كان شرًّا فبعدله، فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مُقَارنة للفعل يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرَّعشة مثلاً، وذلك التمكن هو مَنَاط التكليف، وهذا مذهب أهل السُّنة.
وقالت الجبرية بنفي اكتساب العَبْدِ، وأنه كالنبات الذي تصرفه الرياح.
وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين، وأن العبد يخلق أفعاله، نقلهُ القرطبي.
قوله: «وَلاَ تُسْأَلُونَ» هذه الجملة استئناف ليس إلاَّ، ومعناها التوكيد لما قبلها؛ لأنه لما تقدم أن أحداً لا ينفعه كسب أحد، بل هو مختص به إن خَيْراً وإن شرًّا، فلذلك لا يسأل أحد عن غيره، وذلك أن اليهود افتخروا بأسلافهم، فأخبروا بذلك.
و «ما» يجوز فيها الأوجه الثلاثة من كونها موصلة أسمية، أو حرفية، أو نكرة، وفي الكلام حذف، أي: ولا يُسْألون عما كنتم تعملون.
قال أبو البقاء: ودلّ عليه: لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم انتهى.
ولو جُعِل الدالُّ قوله: «ولا تسألون عما كانوا يعملون» كان أوْلى؛ لأنه مقابلة.(2/514)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
والكلام في «أو» [كالكلام فيها عند] قوله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] .
و «تهتدوا» جزم على جواب الأمرن وقد عركف ما فيه من الخلاف: أعني هل جزمه بالجملة قبله، أو ب «إن» مقدرة.
قوله: «مِلَّة إبْرَاهِيمَ» قرأ الجمهور: «ملّة» نصباً، وفيها أربعة أوجه:
أحدها: أنه مفعول فعل مضمر، أي بل نتبع ملة؛ [فحذف المضاف وإقيم(2/514)
المضاف إليه مقامه] لأن معنى كونوا هوداً: اتبعوا اليهودية أو النصرانية.
الثاني: أنه منصوب على خبر «كان» ، أي: بل نكون ملّة أي: أهل ملّة كقول عدي ابن حاتم: «إني من دين» أي من أهل دين، وهو قول الزَّجَّاج، وتبعه الزمخشري.
الثالث: أنه منصوب على الإغْرَاء، أي: الزموا ملّة، هو قول أبي عبيدة، وهو كالوجه الأول في أنه مفعول به، وإن اختلف العامل.
الرابع: أنه منصوب على إسقاط حرف الجر، والأصل: نقتدي بملّة إبراهيم، فلما حذف الحرف انتصب.
وهذا يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، فيكون تقدير الفعل: بل نكون، أو نتبع، أو نقتدي كما تقدم، وإن يكون خطاباً للكفار، فيكون التقدير: كونوا أو اتبعوا أو اقتدوا.
وقرأ ابن هرمز، وابن أبي عبلة «مِلَّةٌ» رفعاً وفيها وجهان:
أحدهما: أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: بل ملتنا ملّة إبراهيم، أو نحن ملة، أي: أهل ملة.
الثاني: أنها مبتدأ حذف خبره، تقديره: ملة إبراهيم ملتنا.
قوله: «حَنيفاً» في نصبه أربعة أقوال:
أحدها: أنه حال من «إبراهيم» ؛ لأن الحال تجيء من المضاف إليه قياساً في ثلاثة مواضع على ما ذكر بعضهم.(2/515)
أحدها: أن يكون المضاف عاملاص عمل الفعل.
الثاني: أن يكون جزءاً نحو: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] .
الثالث: أن يكون الجزء كهذة الآية؛ لأن إبراهيم لما لازمها تنزلت منه منزلة الجزء.
والنحويون يستضعفون مجيئها من المضاف إليه، ولو كان المضاف جزءاً، قالوا: لأن الحال لا بد لها من عامل، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها، والعامل في صاحبها لا يعمل عمل الفعل، ومن جوز ذلك قدر العامل فيها معنى اللام، أو معنى الإضافة، وهما عاملان في صاحبها عند هذا القائل.
ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه وشبهه بقولك: «رأيت وجه هند قائمة» ، وهو قول الزجاج.
الثاني: نصبه بإضمار فعل، أي: نبتع حنيفاً وقدره أبو البقاء، ب «أعني» ، وهو قول الأخفش الصغير، وجعل الحال خطأ.
الثالث: أنه منصوب على القطع، وهو رأي الكوفيين، وكان الأصل عندهم: إبراهيم الحنيف، فلما نكره لم يمكن إتْباعه، وقد تقدم تحرير ذلك.
الرابع: وهو المختار: أن يكون حالاً من «ملّة» فالعامل فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها، وتكون حالاً لازمة؛ لأن الملة لا تتغير عن هذا الوصف، وكذلك على القول بجعلها حالاً من «إبراهيم» ؛ لأنه لم ينتقل عنها.
فإن قيل: صاحب الحال مؤنث، فكان ينبغي أن يطابقه التأنيث، فيقال: حنيفة.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن «فعيلاً» يستوي فيه المذكر والمؤنث.
والثاني: أن الملّة بمعنى الدين، ولذلك أبدلت منه في قوله {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [الأنعام: 161] ذكر ذلك ابن الشَّجَرِيِّ في «أماليه» .
و «الحَنَفُ» : الميل، ومنه سمي الأَحْنَفُ؛ لميل إحدى قدميه بالأصابع إلى الأخرى؛ قالت أُمُّهُ: [الرجز](2/516)
809 - وَاللهِ لَوْلاَ حَنَفٌ بِرِجْلِهِ ... مَا كَانَ في فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ
ويقال: رجل أَحْنَفُ، وامرأة حَنْفَاءُ.
وقيل: هو الاستقامة، وسمي المائل الرِّجْل بذلك تفاؤلاً؛ كقولهم لِلَّدِيغ «سَلِيم» ولِلْمَهْلكة: «مَفَازة» قاله ابن قتيبة [وهو مروي عن محمد بن كعب القرظيّ] .
وقيل: الحَنيفُ لقب لمن تديَّن بالإسلام؛ قال عَمْرٌو: [الوافر]
810 - حَمِدْتُ اللهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي ... إلى الإسْلاَمِ وَالدِّينِ الحَنِيفِ
[قاله القفال. وقيل: الحنيف: المائل عما عليه العامة إلى ما لزمه] .
قال الزجاج؛ وأنشد: [الوافر]
811 - وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا ... حَنِيْفاً دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِيْنِ
وأما عبارات المفسرين، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أجمعين: الحنيفية حج البيت.
وعن مجاهد أيضاً: اتباع الحق.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
وقيل: اتباع شرائع الإسلام.
وقيل: أخلاص الدين قاله الأصم.
وقال سعيد بن جبير: هي الحج الحسن، وقال قَتَادة: الحنيفية الختان، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات، وإقامة المناسك.
قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تنبيه على أن اليهود والنصارى أشركوا؛ لأن بعض اليهود قالوا: عزيزٌ ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله وذلك شرك.
وأيضاً إن الحنيف اسم لمن دَانَ بدين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة، من حجّ البيت الخِتَان وغيرهما، فمن دَانَ بذلك فهو(2/517)
حنيف، وكانت العرب تدين بهذه الأشياء، ثم كانت تشرك، فقيل من أجل هذا «حنيفاً، وما كان من المشركين» ونظيره قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 6] .
فصل في الكلام على هذه الآية
اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية على طريق الإلزام لهم وهو قوله: «ملّة إبراهيم حنيفاً» وتقديره: إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم حنيفاً؛ لأن هؤلاء المختلفين قد «أتفقوا» على صحّة دين إبراهيم، والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، فكأنه سبحانه وتعالى قال: إن كان المقول في الدين على الاستدلال والنظر، فقد قدمنا الدلائل، وإن كان المقول على التقليد، فالرجوع إلى دين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وترك الهيودية والنصرانية أولى.
فإن قيل: اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم مقرّين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد، ومتى كانوا قائلين بذلك لمن يكن في دعوتهم إليه فائدة، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أو كانوا مقرين به، لكنهم أنكروا كونه منكراً للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقاً عليه، فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه، فكان الأخذ به أولى.
فالجواب: أنه كان معلوماً بالتواتر أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما أثبت الولد لله تعالى فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
فإن قيل: أليس أن كلّ واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟
فالجواب أن إبراهيم كان قائلاً بالتوحيد، وثبت أن النصارى يقولون بالتَّثْليث، واليهود يقولون بالتشبيه، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأنّ محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما ادعى التوحيد كان على دين إبراهيم.
فصل
[اعلم أن قوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} ليس المراد منه التخيير، إذ من المعلوم من حال اليهود أنها لا تُجَوِّزُ اختيار النصرانية على اليهودية، بل تزعم أنه كفر، وكذلك أيضاً حال النصارى، وإنما المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية، والنصارى إلى النصرانية، فكل فريق يدعو إلى دينه، ويزعم أنه على الهدى] .(2/518)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
«قولوا» : في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه للمؤمنين، والمراد بالمنزل إليهم القرآن على هذا.
والثاني: أنه يعود على القائلين كانوا هوداً أو نصارى.
والمراد بالمُنزل إليهم: إما القرآن، وإما التوراة والإنجيل
[قال الحسن رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا: كونوا هوداً أو نصارى ذكر في مقابلته للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قل: بل «ملة» إبراهيم، قال: {قولوا آمَنَّا بالله} ] .
وجلمة «آمنَّا» في محلّ نصب ب «قولوا» ، وكرر الموصول في قوله: {وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ} لاختلاف المنزل إلينا، والمنزل إليه، فلو لم يكرر لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إليهم، ولم يكرر في «عيسى» ؛ لأنه لم يخالف شريعة موسى إلاّ في نزر يسير، فالذي أوتيه عيسى هو عَيْن ما أوتيه موسى إلا يسيراً، وقدم المنزل إلينا في الذكر، وإن كان متأخراً في الإنزال تشريفاً له.
والأسباط جمع «سِبْط» وهم في ولد يعقوب كالقبائل في ولد إسماعيل والشّعوب في العجم.
وقيل: هم بنو يعقوب لصلبه.
وقال الزمخشري: «السبط هو الحَافِدُ» .
واشتقاقهم من السبط وهو التتابع، سموا بذلك؛ لأنهم أمة متتابعون.
وقيل: من «السَّبط» بالتحريك جمع «سَبَطَة» وهو الشجر الملتف.
وقيل ل «الحَسَنَيْنِ» : سِبْطا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لانتشار ذرّيتهم.
ثم قيل لكل ابن بنت: «سِبْط» .
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: جميع إبراهيم براهم، وإسماعيع سماعيل، قاله الخليل وسيبويه والكوفيون، وحكوا: بَراهِمة وسَماعِلة، وحكوا براهِم وسماعِل.
قال محمد بن يزيد: هذا غلط؛ لأنه الهمزة ليس هذا موضع زيادتها، ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع.
وأجاز أحمد بن يحيى «بِراه» ، كما يقال في التصغير «يريه» .(2/519)
قوله: {وَمَآ أُوتِيَ موسى} يجوز في «ما» وجهان:
أحدهما: أن تكون في محل جر عطفاً على المؤمن به، وهو الظاهر.
والثاني: أنها في محل رفع بالابتداء، ويكون {وَمَا أُوتِيَ النبيون} عطفاً عليها. وفي الخبر وجهان:
أحدهما: أن يكون «من ربهم» .
والثاني: أن يكون «لا نُفَرِّقُ» هكذا ذكر أبو حيان، إلا أن في جعله «لا نُفَرِّقُ» خبراً عن «ما» نظر لا يخفى من حيث عدم عد الضمير عليها.
ويجوز أن تكون «ما» الأولى عطفاً على المجرور، و «ما» الثانية مبتدأه، وفي خبرها الوجهان، وللشيخ أن يجيب عن عدم عود الضمير بأنه محذوف تقديره: لا نفرق فيه، وحذف العائد المجرور ب «في» مطَّرِد كما ذكر بعضهم، وأنشد: [المتقارب]
812 - فَيَوْمٌ علَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا ... وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرْ
أي: نُسَاءُ فيه ونُسَرُّ فيه.
قوله: «من ربِّهم» فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما وهو الظاهر أنه في محل نصب، و «من» لابتداء الغايةن ويتعلّق ب «أوتي» الثانية إن أَعَدْنَا الضمير على النبيين فقط دون موسى وعيسى، أو ب «أوتي» الأولى، وتكون الثانية تكراراً لسقوطها في «آل عمران» إن أعدنا الضمير على موسى وعيسى عليهما السلام والنبيين.
الثاني: أن يكون في محلّ نصب على الحال من العائد على الموصول فيتعلّق بمحذوف تقديره: وما أوتيه كائناً من ربهم.
الثالث: أنه في محل رفع لوقوعه خبراً إذا جعلنا «ما» مبتدأ.
قوله: «بين أحد» متعلق ب «لا نفرق» ، وفي «أحد» قولان:
أظهرهما: أنه الملازم للنفي الذي همزته أصلية، فهو للعموم وتحته أفراد، فلذلك صحّ دخول «بين: عليه من غير تقدير معطوف نحو:» المال بين الناس «.
والثاني: أنه الذي همزته بدل من» واو «بمعنى واحدٍ، وعلى هذا فلا بد من تقدير معطوف ليصح دخول» بين «على متعدد، ولكنه حذف لفهم المعنى، والتقدير: بَيْنَ أحدٍ منهم؛ ونظيره ومثله قول النابغة: [الطويل](2/520)
813 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أَبُو حُجُرٍ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي: بين الخير وبَيْنِي.
و» له «متعلِّق ب» مُسْلِمُون «، قدم للاهتمام به لعود الضمير على الله تعالى أو لتناسب الفواصل.
فصل في الكلام على الآية
قدم الإيمان بالله؛ لأن من لا يعرف الله يستحيل أن يعرف نبيًّا أو كتاباً، فإذا عرف الله، وآمن به عرف أنبياءه، وما أنزل عليهم.
وقوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} فيه وجهان:
الأول: لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، بل نؤمن بالكل، روي عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا: آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنْزِلَ ... «الآية.
الثاني: لا نقول: إنهم متفرقون في أصول الديانات، بل هم يجتمعون على الأصول التي هي الإسلام كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى المشركين} [الشورى: 13] .
[فإن قيل: كيف يجوز الإيمان بأبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة؟
قلنا: نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه، فلا تلزمنا المناقضة، وإنما تلزم المناقضة لليهود والنصارى؛ لاعترافهم بنبوة من ظهر المعجز على يده. لم يؤمنوا] .
وقوله:» وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ «يعنى أن إسلامنا لأجل طاعة الله لا لأجل الهوى.(2/521)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
«الباء» في قوله «بمثل» فيه أقوال:(2/521)
أحدها: أنها زائدة كهي في قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] وقوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ} [مريم: 25] ؛ وقوله: [البسيط]
814 - ... ... ... ... ... . ... سُودُ المَحَاجِرِ لاَ يَقْرَأْنَ باِلسُّوَرِ
والثاني: أنها بمعنى «على» ، أي: فإن آمنوا على مثل إيمانكم بالله.
والثالث: أنها للاستعانة كهي في «نجرت بالقدُّوم» ، و «كتبت بالقلم» ، والمعنى:
فإن دخلوا في الإيمان بشهادةٍ مثل شهادتكم. وعلى هذه الأوجه، فيكون المؤمَن به حذوفاً، و «ما» مصدرية، والضمير في «به» عائداً على الله تعالى والتقدير: فإن آمنوا بالله إيماناً مثل إيمانكم به، و «مثل» هنا فيها قولان:
أحدهما: أنها زائدة، والتقدير: بما آمنتم به، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، وابن عباس [وذكر البيهقي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما لا تقولوا بمثل ما آمنتم به، فإن الله تعالى ليس له مثل، ولكن قولوا بالذي آمنتم به، وهذا يروى قراءة أُبيّ] ونظيرها في الزيادة قول الشاعر: [السريع أو الرجز]
815 - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْشفٍ مَأْكُولْ ... وقال بعضهم: هذا من مجاز الكلام تقوم: هذا أمر لا يفعله مثلك، أي: لا تفعله أنت.
والمعنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، نقله ابن عطية، وهو يؤول إلى إلغاء «مثل» وزيادتها.
والثاني: أنها ليست بزائدة، والمثليّة متعلقة بالاعتقاد، أي: فإن اعتقدوا بمثل اعتقادكم، أو متعلقة بالكتاب، أي: فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به، والمعنى: فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل، وهذا التأويل ينفي زيادة «الباء» .
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وفيها وجوه، وذكر بعضها أن المقصود(2/522)
منه التثبيت، والمعنى: إن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم، ومساوياً له في الصحة والسداد، فقد اهتدوا، ولمَّا استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في الصواب والسَّدَاد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه: ها هو الرأي الصواب، فإ، كان عندك رأي أصوب مه فاعمل به، وقد علمت أن لا أَصْوَبَ من رأيك، [ولكنك تريد تثبيت صاحبك، وتوقيفه على أن ما رأت لا رأي وراءه] .
وقيل: إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف، فإن آمنوا بمثل ذلك، وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف، فقد اهتدوا؛ لأنهم يتوصّلون به إلى معرفة نوبة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين، فقد اهتدوا.
و «ما» ف يقوله: «بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ» فيها وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى الذي، والمراد بها حينئذ: إما الله تعالى بالتأويل المتقدم عند من يجيز وقوع «ما» على أولي العلم نحو:
{والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] .
وإما الكتاب المنزل.
[والثاني: أنها مصدرية، وقد تقدم ذلك.
والضمير في «به» فيه أيضاً وجهان:
أحدهما: أنه يعود على الله تعالى كما تقدم]
والثاني: أن يعود على «ما» إذا قيل: إنها بمعنى الذي.
قوله: «فَقَدِ اهْتَدَوا» جواب الشرط في قوله: «فَإِنْ آمَنُوا» ، وليس الجواب محذوفاً، كهو في قوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [فاطر: 40] ، لأن تكذيب الرسل ماض محقق هناك، فاحتجنا إلى تقدير جواب.
وأما هنا فالهداية منهم لم تقع بعد، فهي مستقبلة معنى، وإن أبرزت في لفظ المعنى.
[قال ابن الخطيب: والآية تدل على أن الهدىية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء، وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها، وبين وجوه دلالتها، ثم بيَّن وجه الزجر وما يلحقهم إن تولوا، فقال: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} ] .
قوله: «فِي شِقَاقٍ» خبر لقوله: «هم» ، وجعل الشقاق ظرفاً لهم، وهم مظروفون له مبالغة في الأخبار باستعماله علهيم، وهو أبلغ من قولك: هم مُشَاقّونَ، وفيه: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66] ونحوه.(2/523)
والشِّقَاق: مصدر من شاقَّهُ يُشَاقّه نحو: ضاربه ضِراباً، ومعناه المخالفة والمعاداة.
وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من الشّق وهو الجانب. وذلك أن أحد المشاقين يصير في شقّ صابحه، أي: جانبه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
816 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقِّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
أي: بجانب.
الثاني: أنه من المشقة، فإن كلاًّ منهما يحرص على ما يَشُقّ على صاحبه.
الثالث: أنه من قولهم: «شققتُ العَصَا بين وبينك» ، وكانوا يفعلون ذلك عند تعاديهم.
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب: معناه إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة، والعاقل لا يلتزم المناقضة ألبتة، فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طَلَب الدين، والانقياد للحق، وإنما غرضهم المنازعة، وإظهار العداوة.
قال ابن عباس وعطاء رَضِيَ اللهُ عَنْهما «فإنما هم في شِقَاقٍ» أي: في خلاف منذ فارقوا الحقّ، وتمسّكوا بالباطل، فصاروا مخالفين لله.
وقال أبو عبيدة ومقاتل: «في شِقَاقٍ» ، أي: في ضلال.
وقال ابن زيد: في منازعة ومُحَاربة.
وقال الحسن: في عداوة.
قال القاضي: ولا يكاد يقال في المُعَاداة على وجه الحق، أو المخالفة التي لا تكون معصية: إنه شقاق، وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنته وفي استحقاق النَّار، فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم، وصارَ وَصْفُهُمْ بذلك دليلالآ على أنهم معادون للرسول، مضمرون له السوء مترصّدون لإيقاعه في المِحَنِ، فعند هذا آمنه الله تعالى ت من كيدهم، وآمن المؤمنين من شرّهم ومكرهم، [فقال: «سَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ» تقوية لقلبه وقلوب المؤمنين] .
و «الفاء» في قوله: «فَسَيْكَفِيْكَهُمْ» تشعر بتعقيب الكفاية عقب شقاقهم، وجيء ب «السين» دون «سوف» ؛ لأنها أقرب منها زماناً بوضعها، ولا بد من حذف مضاف أي:(2/524)
فسيكفيك شقاقهم؛ لأن الذوات لا تكفى إنما تكفى أفعالها، والمكفي به محذوف، أي: بمن يهديه الله، أو بتفريق كلمتهم.
[ولقد كفى بإجلاء بني النضير، وقتل بني قريظة، وبني قينقاع، وضرب الجزية على اليهود والنصارى] .
قوله: {وَهُوَ السميع العليم} أي: السميع لأقوالهم، العليم لأحوالهم.
وقيل: السميع لدعائك العليم بنيتك، فهو يستجيب لك ويصولك لمرادك. [وروي أن عثمان رضي الله تعالى عنه كان يقرأ في المصحف، فقتل فقطرت نقطة من دمه على قوله تعالى «سَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ» .
كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم، قد أخبره بذلك] .
والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان؛ ويجوز في غير القرآن الكريم: «فسيكفيك» .
فصل في الكلام على سمع الله وعلمه
واحتجوا بقوله تعال: {وَهُوَ السميع العليم} على أنه سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات، وإلا يلزم التكرار، وهو غير جائز، فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعاً أمراً زائداً على وصفه بكونه عاليماً.(2/525)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
قرأ الجمهور «صيغة» بالنصب.
وقال الطبري رَحِمَهُ اللهُ: من قرأ: «ملّةُ إبراهيم» بالرفع قرأ «صبغة» بالرفع وقد تقدم أنها قراءة ابن هرمز، وابن أبي عبلة.
فاما قراءة الجمهور ففيها أربعة أوجه:
أحدها: أن انتصابها انتصاب المصدر المؤكد، وهذا اختاره الزمخشري، وقال: «هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حَذَام انتهى قوله.(2/525)
واختلف حينئذ عن ماذا انْتَصَبَ هذا المصدر؟
فقيل: عن قوله:» قولوا: آمنا «.
وقيل عن قوله:» ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «.
وقيلك عن قوله:» فَقَد اهْتَدُوا «.
الثاني: أن انتصابها على الإغراء أي: الزموا صبغة الله.
وقال أبو حيان وهذا ينافره آخر الآية، وهو قوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [فإنه خبر والأمر ينافي الخبر] إلا أن يقدر هنا قول، وهو تقدير لا حاجة إليه، ولا دليل من الكلام عليه.
الثالث: أنها بدل من» ملة «وهذا ضعفيف؛ إذ قد وقع الفصل بينهما يجمل كثيرة.
الرابع: انتصابها بإضمار فعل أي: اتبعوا صِبْغَةَ الله، ذكر ذلك أبو البقاء مع وجه الإغراء، وهو في الحقيقة ليس زائداً فإنَّ الإغراء ايضاً هو نصب بإضمار فعل.
قال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ: هي أي الصبغة من» صَبَغَ «كالجِلْسَة من» جَلَس «، وهي الحالة التي يقع عليها الصَّبْغُ، والمعنى: تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النُّفُوس.
فصل في الكلام على الصّبغ
الصّبغ ما يلون به الثياب ويقال: صبغ الثوب يصبغُهُ بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغاً بفتح الصاد وكسرها.
و» الصِّبْغة «فعلة من صبغ كالجِلْسَة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ.
ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال:
الأول: أنه دين الله، وذكروا في تسمية دين الله بالصبغة وجوهاً.
أحدها: أن بعض لنصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال: الآن صار نصرانياً فأمر المسملون أن يقولوا: آمنا وصبغنا الله صِبْغة لا مثل صِبْغتكم، وإنما جيء بفلظ الصِّبغة على طريق المُشَاكلة كما توقول لمن يغرس الأشجار: [اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلاً يصطنع الكرم.
والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المُشَاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم] : اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلاً مواظباً على الكرم.(2/526)
ونظيره قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 1415] ، {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] ، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] ، {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} [هود: 38] .
وثانيها: اليهود تصبغ أولادها يهوداً، والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم، فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قُلُوبهم.
عن قتادة قال ابن الأنباري رَحِمَهُ اللهُ يقال: فلان يصبغ فلاناً في الشيء، أي: يدخله فيه، ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثوب. وأنشد ثعلب: [الطويل]
817 - دَعِ الشَّرَّ وانْزِلْ بالنَّجَاةِ تَحَرُّزاً ... إِذا أنْتَ لَمْ يَصْبَغْكَ بِالشّرْعِ صَابِغُ
وثالثها: سمي الدين صبغة؛ لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطَّهَارة والصلاة قال الله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29] .
[وقال مجاهد والحسن وأبو العالية وقتادجة رضي الله تعالى عنهمك أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم فيما يسمونه المعمودية، وصبغوه بذلك ليطهروه به، كأنه الخِتَان، لأن الختان تطهير، فلما فعلوا ذلك قالوا: الآن قد صار نصرانياً حقًّا، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} وهي الإسلام فسمى الإسلام صبغة استعارة ومجازاً من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
قال بعض شعراء ملوك «همدان» : [المتقارب]
818 - وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغةٌ ... وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغْ
صَبَغْتنَا عَلَى ذَاكَ أَبْنَاءَنَا ... فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا في الصِّبَغْ]
ورابعها: قال القاضي: قوله: «صِبْغَةَ اللهِ» متعلّق بقوله: {قولوا آمَنَّا بالله} [البقرة: 136] إلى قوله: «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تَعَالى؛ ليبيّن أن المُبَاينة بين هذا الدين الذي اختاره الله، بين الدِّين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحسّ السليم.
القول الثاني: أن صبغة الله فطرته، وهو كقوله: {فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30] .(2/527)
ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبِنْيَتِهِ بالعَجْزِ والفَاقَة، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق، فهذه الآثار كالصبغة له وكالسِّمَة اللاَّزمة.
[قال القاضي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: من حمل قوله تعالى: «صبغة الله» على الفطرة فهو مقارب في المعنى لقول من يقول: هو دين الله؛ لأن الفطرة التي أمروا بها هو الدين الذي تقتضيه الأدلّة من عَقْل وشرع، وهو الدين أيضاً الذي ألزمكم الله تعالى التمسّك به، فالنفع به سيظهر دُنيا ودين، كالظهور حُسْن الصبغة، وإذا حمل الكلام على ما ذكرنا، لم يكن لقول من يقول إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى، وفي صبغ يستعملونه في أولادهم معنى؛ لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه، فلا فائدة فيه] .
القول الثالث: أن صبغة الله هي الختان، الذي هو تطهير، أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تظهير لهم، فكذلك الختان تظهير للمسلمين قاله أبو العالية.
القول الرابع: قال الأصم رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أنه حجة الله.
القول الخامس: قال أبو عبيدة رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إنه سُنة الله
وأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين:
أحدهما: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: ذلك الإيمان صبغة الله.
والثاني: أن تكون بدلاً من «ملَّة» ؛ لأن من رفع «صبغة» رفع «ملة» كما تقدم فتكون بدلاً منها كما قيل بذلك في قراءة النصب.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وقيل: الصِّبْغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلاَم، بدلاً من مَعْمُودية النصارى، ذكر ذلك الماوردي رَحِمَهُ اللهُ تعالى. وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجباً، وبهذا المعنى جاءت السُّنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين اسلما.
وقيل: «وَمَنْ أَحْسَنُ» مبتدأ وخبر، وهذا استفهام معناه النفي أي: لا أحد، و «أحسن» هنا فيها احتمالان:
أحدهما: أنها ليست للتفضيل؛ إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن.
والثاني: أن يراد التفضيل باعتبار من يظنّ أن في «صبغة» غير الله حسناً لا أن ذلك بالنسبة غلى حقيقة الشيء.
و «من الله» متعلق بأحسن، فهو في محل نصب.
و «صبغة» نصب على التمييز من أحسن، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ(2/528)
والتقدير: ومن أحسن من صبغة الله، فالتفضيل إنما يجري بين الصّبغتين لا بين الصَّابغين. [وهذا غريب معنى، وغني عن القول كون التمييز منقولاً عن المبتدأ] .
قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} جلمة من مبتدأ خبر معطوف على قوله: «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ» فهي في محلّ نصب بالقول.
قال الزمخشري: وهذا العطف يرد قول من زعم أن «صبغة الله» بدل من «ملّة» ، أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الهل لما فيه من فكّ النظم، وإخراج الكلام عن الْتِئَامِهِ واتساقه.
قال أبو حيان: وتقديره في الإغراء: علكيم صبغة ليس بجيد؛ لأن الإغراء إذا كان بالظروف والمجرورات لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدّرناه: ب «الزمموا صبغة الله» انتهى. كأنه لضعف العمل بالظّروف والمجرورات ضعف حذفها وإبقاء عملها.(2/529)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
الاستفهام في قوله: «أَتُحَاجُّونَنَا» للإنكار والتوبيخ.
والجمهور: «أتحاجوننا» بنونين الأولى للرفع، والثانية نون «ن» .
وقرأ زيد والحسن والأعمش رحمهم الله بالإدغام.
وأجاز بعضهم حذف النون الأولى.
فأما قراءة الجمهور فواضحة.
وأما قراءة الإدغام فلاجتماع مثلين، وسوغ الإدغام وجود حرف المد وللين قبله القائم مقام الحركة.
وأما من حذف فبالحمل على نون الوقاية كقراءة: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] ؛ وقوله [الوافر]
819 - تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفَالِيَاتِ إذَا فَلَيْنِي(2/529)
يريد «فَليْنَنِي» ، وهذه الآية مثل قوله: {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] ، فإنه قرئت بالأوجه الثلاثة: الفَكِّ والإدغام والحذف، ولكن في المتواتر.
وها لم يُقْرأ في المشهور كما تقدَّم إلا بالفكّ.
ومَحَلُّ هذه الجملة النصب بالقول قبلها.
والضمير في «قل» يَحْتَمِلُ أن يكون للنبي عليه الصلاة والسَّلام أو لكلّ من يصلح للخطاب، والضمير المرفوع في: «أتحاجُّوننا» اليهود والنصارى، أو لمشركي العرب أو للكلّ.
و «المحاجّة» مفالعة من حَجَّة يَحُجُّهُ.
فصل في حرير معنى المحاجّة
اختلفوا في تلك المحاجة: فقيل: هي قولهم: إنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم، والمعنى: أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسوله من العرب لأمتكم، وتقولونك لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم، وترونكم أحق بالنبوة منا.
وقيل: هي قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقوله: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] ، وقولهم: {كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} [البقرة: 135] قاله الحسن رَضِيَ اللهُ عَنْه.
وقيل: {أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللهِ} أي: أتجادلوننا في دين الله.
وقوله: «في الله» لا بد من حذف مضاف أي: في شأن الله، أو دين الله.
قوله: «وَهُوَ رَبُّنَا» مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال، وكذا ما عطف عليه من قوله: «وَلَنَا أعمالنا» ولا بد من حذف مضاف أي: جزاء أعمالنا، ولكم جزاء أعمالكم.
فصل
قوله: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} فيه وجهان:
الأول: أنه أعلم بتدبير خلقه، وبمن يصلح للرسالة، وبمن لا يصلح لها، فلا تعتضوا على ربكم، فإنّ العبد لس له أن يعترض على ربه، بل يجب عليه تفويض الأمر إليه.
الثاني: أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلى بالعبودية وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم، فلم ترجّحون أنفسكم علينا، بل الترجيح من جانبنا؛ لأنا مخلصون في العبودية، ولستم كذلك، وهذا التأويل أقرب.
قوله تعالى: {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} المراد منه النَّصيحة في الدين، كأنه تعالى قال لنبيه: قل لهم هذا القول على وجه الشَّفقة والنصيحة، اي: لا يرجع إليَّ من أفعالكم(2/530)
القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر، وإنما المراد [نصحكم] وإرشادكم إلى الأصلح.(2/531)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: وجمع إسحاق: أساحيق.
وحكى الكوفيون: أساحقة، وأساحق؛ وكذا يعقوب ويعاقيب ويعاقبة ويعاقب.
قال النحاس رَحِمَهُ اللهُ: فأما إسرائيل فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوّله، وإنما يقال: «أساريل» .
وحكى الكوفيون «اسارلة» ، و «أسارل» . والباب في هذا كله أن يجمع مسَّماً فيقال: «إبراهيمون» ، و «إسحاقون» ، و «يعقوبون» ، والمسلَّم لا عمل فيه.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى وقوله تعالىك «أَمْ تَقُولُونَ» : قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وابن عامر بتاء الخطاب، والباقون بالياء.
فأما قراءة الخطاب، فتحتمل «أم» فيها وجهين:
أحدهما: أن تكون المتّصلة، والتعادل بين هذه الجملة وبين قوله: «أَتُحَاجُّونَنَا» فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين: المُحَاجَّة في الله، أو ادعاء على إبراهيم، ومن ذكر معه اليهودية والنصرانية، وهو استفهام إنكار وتوبيخ كما تقدم، فإنّ كلا الأمرين باطلٌ.
قال ابن الخَطِيبِ: إن كانت متّصلة تقديره: بأي الحُجّتين تتعلّقون في أمرنا؟
أَبِالتَّوْحِيدِ فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متّبعون؟
والثاني: أن تكون المنقطعة، فتتقدر ب «بل» والهمزة على ما تقدر في المنقطعة على أصح المذاهب.
والتقدير: بل أتقولون؟
والاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضاً فيكون قد انتقل عن قوله: أتحاجوننا وأخذ في الاستفهام عن قضية أخرى، والمعنى على إنكار نسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم ومن ذكرمعه، [كأنه قيل: أتقولون: إن الأنبياء علليه السلام كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى] .(2/531)
وأما قراءة الغيبة فالظاهر أن «أم» فيها منقطعة على المعنى المتقدم، وحكى الطبري عن بعض النحويين أنها متّصلة؛ لأنك إذا قلت: أتقوم أم يقوم عمرو؛ أيكون هذا أم هذا، أورد ابن عطية هذا الوجه فقال: هذا المثال غير جيّد؛ لأن القائل غير واحد، والمخاطب واحد، والقول في الآية من اثنين، والمخاطب اثنان غيران، وإما تتّجه معادلة «أم» للألف على الحكم المعنوى، كأن معنى قل: أتحاجوننا: «أيحاجون يا محمد أم تقولون» .
وقال الزمخشري: وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلاَّ منطقعة.
قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ويمكن الاتصال مع قراءة الياء، ويكون ذلك من الالتفات إذا صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة، والضمير لناس مخصوصين.
وقال ابو البقاء: أم تقولون يقرأ بالياء ردًّا على قوله: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ» ، فجعل هذه الجملة متعلّقة بقوله: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ» ، وحينئذ لا تكون إلا منقطعة لما عرفت أن من شرط المتصلة تقدم همزة استفهام أو تسوية مع أن المعنى ليس على أن الانتقال من قوله: «فسيكفيكهم» إلى قوله: «أم يقولون» حتى يجعله ردّاً عليه، وهو بعيد عنه لفظاً ومعنى.
وقال أبو حيان: الأحسن في القراءتين أن تكون «أم» منقعطة، وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله، وسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم ألا ترى إلى قوله: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] الآيات.
وإذا جعلناها متصلة كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين، بل إحداهما، وصار السؤال عن تعيين إحداهما، وليس الأمر كذلك إذ وقعا معاً.
وهذا الذي قاله الشيخ حَسَن جداً.
و «أو» في قوله: «هُوداً أو نصارى» كهي في قوله: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقد تقدم تحقيقه.
قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} .
معناه: أن الله أعلم، وَخَبره أصدق، وقد أخبر في التوراة والإنجيل، وفي القرآن على لسان محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كانوا مسلمين مبرئي عن اليهودية والنصرانية.
فإن قيل: إنما يقال هذا فيمن لا يعلمن وهم علموه وكتموه، فكيف يصح الكلام؟
فالجواب: من قال «إنهم كانوا على ظَنّ وتوهم، فالكلام ظاهر، ومن قال: علموا وجحدوا، فمعناه: أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به، فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله تعالى أعلم.(2/532)
[و» أم «في قوله تعالى:» أم الله «متصلهة، والجلالة، عطف على» أنتم «، ولكنه فصل بي المتعاطفين بالمسؤول عنه، وهو أحسن الاستعمالات الثلاثة؛ وذلك أنه يجوز في مثل هذا التركيب ثثة أوجه: تقدم المسؤول عنه نحو قوله:» أأعلم أم الله «، وتوسطه نحو» أأنتم أعلم أم الله «، وتأخيره نحو: أأنتم أم الله أعلم.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى:» أم الله «مبتدأ، والخبر محذوفل أي: أم الله أعلم، و» أم «هنا متصلة، أي: ربكم أعلم، وفيه نظر؛ لأنه إذا قدر له خبراً صناعياً صار جملة، و» أم «المتصلة لا تعطف الجمل، بل المفرد وما فيها معناه. وليس قول أبي البقاء بتفسير معنى، فيغتفر له ذلك، بل تفسير إعراب، والتفصيل في قوله:» أعلم «على سبيل الاستهزاء، وعلى تقدير أن يظن بهم علم، فيكون من الجهلة، وإلا فلا مشاركة، ونظيره قول حسان: [الوافر]
أَتهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... شَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ
وقد علم أن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خير الكل] .
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} .
في» من «من قوله:» مِنَ اللهِ «أربعة أوجه:
أحدها: أنها متعلقة ب» كنتم «، وذلك على حذف مضاف أي: كتم من عباد الله شهادة عنده.
الثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لشهادة بعد صفة؛ لأن «عنده» صفة لشهادة، وهو ظاهر قول الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ، فإنه قال: و «من» في قوله: «شَهَادَةً مِنَ اللهِ» مثلها في قولك: «هذه شهادة مني لفلان» إذا شهدت له، ومثله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] .
الثالث: أنها في محلّ نصب على الحال من المضمر في «عنده» يعني: من الضمير المرفوع بالظَّرف لوقوعه صفة، ذكره أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
الرابع: أن يتعلّق بذلك المحذوف الذي تعلق به الظرف، وهو «عنده» لوقوعه صفة، والفرق بينه وبين الوجه الثاني أن ذلك له عامل مستقل غير العامل في الظرف.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تعلق «من» بشهادة لئلاً يفصل بين الصلة والموصول بالصفة يعني: أن «شهادة» مصدر مؤول بحرف مصدري وفعل، فلو عَلّقت «مِنْ» بها لكنت قد فصلت بين ما هو في معنى الموصول، وبين أبعاض الصّلة بأجنبي، وهو الظرف الواقع صفة لشهادة.(2/533)
وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: لا نسلم أن «شهادة» ينحل إلى الموصول وصلته فإن كل مصدر لا ينحل لهما.
والثاني: سلمنا ذلك، ولكن لا نسلم والحالة هذه أن الظرف صفة، بل هو معمول لها، فيكون بعض الصلة أجنبياً حتى يلزم الفصل به بين الموصول وصلته، وإنما كان طريق منع هذا بغير ما ذكر، وهو أن المعنى يأبى ذلك.
و «كتم» يتعدّى لا ثنين، فأولهما في الآية الكريمة محذوف تقديره: كنتم النَّاس شهادةً، والأحسن من هذه الوجوه أن تكون «من الله» صفة لشهادة أو متعلّقة بعامل الظرف لا متعلقة ب «كنتم» ، وذلك أن كتمان الشهادة مع كونها مستدعة من الله عنده ابلغ في الأظلمية من كتمان شهادة مطلقة من عبادة الله.
وقال في «ري الظمآن» : في الآية التقديم وتأخير، والتقدير: ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت له كقولك: «ومن أظلم من زيد من جملة الكلمتين للشهادة» ، والمعنى: لو كان إبراهيم وبنوه يهوداً أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه، لكن لما استحال ذلك مع عدلهن وتنزيهه عن الكذب علمنا أن الأمر ليس كذلك.
قال ابو حيان: وهذا متكلّف جدّاً من حيث التركيب، ومن حيث المدلول. أما التركيب فإن التقديم والتأخير من الضَّرائر عند الجمهور.
وأيضاً فيبقى قوله: «مِمَّنْ كَتَمَ» متعلقاً: إما ب «أظلم» ، فيكون ذلك على طريق البدلية، ويكون إذ ذلك بدل عام من خاص، وليس بثابت، وإن كان بعضهم زعم وروده، لكن الجمهور تأولوه بوضع العامّ موضع الخاص، أو تكون «من» متعلقة بمحذوف، فتكون في موضع الحال، أي: كائناً من الكاتمين.
وإمّا من حيث المدلول، فإن ثبوت الأظلمية لمن جُرَّ ب «من» يكون على تقدير، أي: إن كتمها فلا أحد أظلم منه، وهذا كله معنى لا يليق به تعالى وينزه كتابه عنه.
قوله تعالى: « {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سُدى، وأنه يجازيهم على أعمالهم.
والغافل الذي لا يفطن إلى الأمور إهمالاً منه؛ مأخوذ من الأرض الغُفْل، وهي التي لا عَلَم لها ولا أثر عمارة.
وناقة غُفْلك لا سِمَة بها.
ورجل غُفْلك لم يجرب الأمور. وقال الكسائي:» أرض غُفْل لم تمطر «، غفلت عن الشيء غَفْلَةً وغُفُولَةً، وأغفلت الشيءك تركته على ما ذكر منك.(2/534)
فإن قيل: ما الحكمة في عدوله عن قوله:» وَاللهُ عَلِيمٌ «إلى» وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ «.
فالجواب: أن نفي النقائص وسلبها عن صفاتا لله تعالى أكمل من ذكر الصفات مجردة عن ذكر نفي نقيضها، فإن النقيض يستلزم إثبات النقيض وزيادة، والإثبات لا يستلزم نفي النقيض؛ لأن العليم قد يفضل عن النقيض، فلما قال الله تعالى:» وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ «دلّ ذلك على أنه عالم، وعلى أنه غير غافل، وذلك أبلغ في الزجر المقصود من الآية.
فإن قيل: قد قال تعالى في موضع آخر: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19] .
فالجواب: أن ذلك سيق لمجرد الإعلام بالقصّة لا للزجر، بخلاف هذه الآية، فإن المقصود بها الزجر والتهديد.(2/535)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
اعلم أن الله تعالى لما حاجّ اليهود في هؤلاء الأنبياء عقبه بهذه الآية ليكون وعظاً لهم، وزجراً حتى لايتّكلوا على فضل الآباءن فكلّ واحد يؤخذ بعمله.
وأيضاً أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك، بل كل إنسان مسؤول عن عمله، ولا عذر له في ترك الحق بأن يتوهم أنه متمسّك بطريقة من تقدم؛ لأنهم أصابوا أو أخطئوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد.
فإن قيل: لم كررت هذه الآية؟
فالجواب من وجهين:
الأول: قال الجُبَّائي: إنه عني بالآية الأولى إبراهيم، ومن ذكر معه، والثانية أسلاف اليهود.
قال القاضي: هذا بعيد؛ لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يَجْرِ لهم ذلك مصرح، وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبينه: إنهم كانوا هوداً، فكأنهم قالوا: إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود، فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} ويعنيهم ولكن ذلك كالتعسُّف، بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه، فقوله: «تلك أمة» يجب أن يكون عائداً إليهم.
الوجه الثاني: أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التَّكْرار عبثاً، فكأنه تعالى قال: ما هذا إلا بشر، فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا [الجنس] ، فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت،(2/535)
وانظروا فيما دعاكم إليه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن ذلك أنفع لكم، وأعود عليكم، ولا تُسألون إلا عن عملكم.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: كررها، لأها تضمّنت معنى التهديد والتخويف، أي: إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم، فأنتم أحرى، فوجب التأكيد فذلك كررها.(2/536)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} فيه قولان:
أحدهما: وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً، لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً كالرجل يعمل عملاً، فيطعن فيه بعض أعدائه، فيقول: أنا أعلم أنهم [سيطعنون عليَّ فيما فعلت، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد] ، فإذا ذكروه مَرَّة، فسيذكرونه بعد ذلك مرات، فصحّ على هذا التأويل أن يقال: سيقول السُّفهاء من الناس ذلك، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك [نزلت الآية] .
[قال القرطبي: «سيقول» بمعنى: قال؛ جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك] وأنهم يستمرون على ذلك القول.
و «السفهاء» جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج وقد تقدم.
والنساء سفائه. وقال المؤرج: السَّفيه: البهات الكاذب المتعمد خلاف ما يعلم.
وقال قُطْرب: الظلوم الجهول.
القول الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد.
أحدها: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه، كان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً.
وثانيها: أنه - تعالى - إذا أخبر عن ذلك أولاً، ثم سمعه منهم، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقلّ مما إذا سمعه فيهم أولاً.
وثالثها: أن الله - تعالى - إذا أسمعه ذلك أولاً، ثم ذكر جوابه معه، فحين يسمعه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - منهم يكون الجواب حاضراً، كان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً.(3/3)
فصل في الكلام على السفيه
تقدم الكلام على السَّفه في قوله: {كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء} وبالجملة فإن السفيه من لا يميّز ما له وما عليه، فيعدل عن طريق ما ينفعه إلى ما يضره، يوصف بالخفّة والسفه، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم معرّة منه في باب الدنيا، [فإذا كان العادل عن الرأي واضحاً في أمر دنياه يعدّ سفيهاً، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه، فهذا اللفظ] يمكن حمله على اليهود، وعلى المشركين، وعلى المنافقين وعلى جملتهم، وذهب إلى كلّ واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين.
قال ابن عباس ومجاهد: هم اليهود، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القِبْلة، وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية، فلما تحول عن ترك القبلة اغْتَمُّوا وقالوا: قد عاد إلى طريقة آبائه ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة، فنزلت هذه الآية.
قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم رَضِيَ اللهُ عَنْهم: إنهم مشركو العرب، [وذلك لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان متوجهاً إلى «بيت المقدس» حين كان ب «بمكة» والمشركون] كانوا يتأذون منه بسبب ذلك، فلما جاء إلى «المدينة» وتحول إلى الكعبة قالوا: رجع إلى موافقتنا، ولو ثبت عليه لكان أولى به.
وقال السدي: هم المنافقون إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها، فكان هذا التحويل مجرد العبث، والعمل بالرأي والشهوة، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين، لأن هذا الاسم مختص بهم، قال الله تعالى: {ألاا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] .
وقيل: يدخل فيه الكل؛ لأن لفظ السفهاء لفظ عموم، ودخل فيه الألف واللام، وقد بَيّنا صلاحيته لكلّ الكفار بحسب الدليل العقلي، والنص أيضاً يدلّ عليه، وهو قوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] .
[فإن قيل: المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة، وإن كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيداً.(3/4)
قلنا: هذا القدر لا ينافي العموم، ولا يقتضي تخصيصه؛ بل الأقرب أن يكون الكل قد قالوا ذلك؛ لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً] .
قوله تعالى: {مِنَ النَّاسِ} في محلّ نصب على الحال من «السفهاء» والعامل فيها «سيقول» ، وهي حال مبينة، فإن السَّفه كما يوصف به الناس يوصف به غيرهم من الجماد والحيوان، وكما ينسب القول إليهم حقيقة ينسب لغيرهم مجازاً، فرفع المجاز بقوله: «مِنَ النَّاسِ» ذكره ابن عطية وغيره.
قوله: {ما وَلاّهُمْ} «ما» مبتدأ، وهي استفهامية على وجه الاستهزاء والتعجب، والجملة بعدها خبر عنها و {عن قبلتهم} متعلّق ب «ولاّهم» ، ولا بد من حذف مضاف في قوله: «عليها» أي: على توجهها، أو اعتقادها، وجملة الاستفهام في محلّ نصب بالقول والاستعلاء في قوله: «عليها» مجاز، نزَّل مواظبتهم على المُحَافظة عليها منزلة من اسْتَعْلَى على الشيء، والله أعلم.
فصل في الكلام على التولّي
وَلاَّه عنه: صرفه عنه، وولى إليه بخلاف ولّى عنه، ومنه قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وفي هذا التولّي قولان:
المشهور عند المفسرين: أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة عاب الكفار المسلمين، فقالوا: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ} فالضَّمير في قوله: {مَا وَلاَّهُمْ} للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي «بيت المقدس» .
واختلفوا في تاريخ تحويل القِبْلَة بعد ذهابه إلى «المدينة» فقال أنس بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْه - بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر وقال معاذ: بعد ثلاثة عشر شهراً، وقال قتادة: بعد ستة عشر شهراً.
وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً، [وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال.(3/5)
وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً] من مقدمه.
وقال الواقدي: صرفت القِبْلَة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً.
وقال آخرون: بل سنتان.
القول الثاني: قول أبي مسلم وهو أنه لما صح الخبرُ بأن الله - تعالى - حوّلها إلى الكعبة وجب القول به، ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله: {كَانُوا عَلَيْهَا} ، أي: السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قِبْلَة اليهود والنصارى، فقبلة اليهود إلى العرب؛ لأن النداء لموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ جاء فيه وهو قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي} [القصص: 44] ، ولأنه مكان غروب الشمس والكواكب، وذلك شبه الخروج من الدنيا والعبور إلى الآخرة، وهو وقت هُمُود الناس الذي هو الموت الأصغر، واستقبلوا المغرب لشبهه بوقت القدوم على الله تعالى، والنَّصَارى إلى المشرق؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما ذهب إلى مريم في جانب المَشرق، لقوله تعالى: {إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} [مريم: 16] ؛ لأن المشرق مكان إشراق الأنوار، ومنه تشرق الكواكب بأنوارها، فهو مشتبه بحياة العالم فاستقبلوه؛ لأن منه مبتدأ حياة العالم، والعرب ما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجّهوا إلى شيء من الجهات، فلما رأوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متوجهاً إلى الكعبة استنكروا ذلك، فقالوا: كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين، فقال تبارك وتعالى رداً عليهم: {قُلْ: لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ} .
قال ابن الخطيب: «ولولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملاً والله أعلم» .
فصل في تحرير معنى القبلة
القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة، وإنما سميت القبلة قبلةً؛ لأن المصلي يقابلها وتقابله.
وقال قطرب: يقولون في كلامهم: ليس لفلان قبلة أي: ليس له جهة يأوي إليها، وهو أيضاً مأخوذ من الاستقبال.
وقال غيره: إذ تقابل الرجلان، فكلّ واحد منهما قبلة للآخر. [قال القرطبي: وجمع القبلة في التكسير قبل، وفي التسليم قبلات، ويجوز أن يبدل من الكسرة فتحة، وتقول: قبلات، ويجوز أن تحذف الكسرة، وتسكن الباء] .
فصل في بعض شبه اليهود والنصارى
قال ابن الخطيب: هذه شبهة من شبه اليهود والنصارى التي طعنوا بها في الإسلام،(3/6)
فقالوا: النسخ يقتضي: إما الجهل أو التجهيل، وكلاهما لا يليق بالحكيم، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القَيْدِ، وإما أن يكون مقيداً بلا دوام [وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام، فإن كان خالياً عن القيد لم يقتضِ الفعل إلا مرة واحدة، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً له، وإن كان مقيداً بقيد الدوام، فإن كان الأمر يعتقد فيه أن يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على] أنه يبقى دائماً، ثم إنه رفعه بعد ذلك، فها هنا كان جاهلاً، ثم بدا له ذلك، [وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على أن يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً] فثبت أن النسخ يقتضي: إما الجهل أو التجهيل، وهما مُحَالان على الله تعالى، فكان النسخ منه محالاً، [فالآتي بالنَّسْخ في أحكام الله - تعالى - يجب أن يكون مبطلاً] ، فبهذا الطريق توصّلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة، فقالوا: إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح، وهنا الجهات متساوية في أنها لله - تعالى - ومخلوقة له وتغيير القبلة من [جانب إلى] جانب فعل خالٍ عن المصلحة فيكون عبثاً، والعَبَثُ لا يليق بالحكيم، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى، وقد أجاب الله - تعالى - على هذه الشبهة بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ المَشْرِق وَالمَغْرِبُ} .
وتقديره: أن الجهات كلها لله - عَزَّ وَجَلَّ - مُلْكاً ومِلْكاً، فلا يستحق منها شيء لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ جعلها قبلة، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه بالتَّحويل من جهة إلى جهة؛ لأنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله على قول أهل السُّنة.
وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان:
الأول: لا يمتنع اختلاف المصالح لحسب اختلاف الجهات، وبيانه من وجوه:
أحدها: أنه إذا رسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهة أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعظّمه، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً، وذلك مصلحة مطلوبة.
وثانيها: أن الكعبة منشأ محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وذلك أمر مطلوب [لأنه متى رسخ في قلوبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه أسهل وأسرع، والمفضي إلى المطلوب مطلوب] .(3/7)
وثالثها: أن الله - تعالى - بين ذلك في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] فأمرهم الله - تعالى - حين كانوا ب «مكة» أن يتجهوا إلى «بيت المقدس» ليتميزوا عن المشركين، فلما هاجروا إلى «المدينة» وبها اليهود أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود.
[ورابعها: أن في أفعاله حكماً، ثم إنها تارة تكون ظاهرة لنا، وتارة تكون مستورة خفية عنا، وتحويل القبلة يمكن أن يكون لمصالح خفية، وإذا كان كذلك استحال الطعن بهذا التحويل في الإسلام] .
فصل في استقبال الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيت المقدس هل كان عن رأي واجتهاد أم لا؟
اختلفوا هل كان استقباله بيت المقدس عن رأي واجتهاد أم لا؟
فقال الحسن: كان عن رأي واجتهاد، وهو قول عكرمة وأبي العالية.
وقال القرطبي: كان مخيراً بينه وبين الكعبة، فاختار بيت المقدس طمعاً في إيمان اليهود واستمالتهم.
وقال الزجاج: امتحاناً للمشركين، لأنهم ألغوا الكعبة.
وقال ابن عباس: وجب عليه استقباله بأمر الله - تعالى - ووحيه لا مَحَالَةَ، ثم نسخ الله ذلك، وهو قول جمهور العلماء نقله القرطبي.
فصل
اختلفوا أيضاً حين فرضت عليه الصَّلاة أولاً ب «مكة» ، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة؟ على قولين:
فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وب «المدينة» سبعة عشر شهراً، ثم صرفه الله - تعالى - إلى الكعبة، قاله ابن عباس.
وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة إلى الكعبة، ولم يزل يصلّي إليها طول مقامه ب «مكة» على ما كان عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم «المدينة» صلى إلى «بيت المقدس» ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً على الخلاف، ثم صرفه الله إلى «الكعبة» .
قال ابن عمر: وهذا أصح القولين عندي.
قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تقدم الكلام على الهداية، قالت المعتزلة: إنما هي الدلالة الموصلة، والمعنى: أنّه - تعالى - يدلّ على ما هو للعبادة أصلح، والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم - إذ تمسّكوا به - إلى الجنة.(3/8)
قال أصحابنا: هذه الهداية: إما أن يكون المراد منها الدعوة، أو الدلالة، أو تحصيل العلم فيه، والأولان باطلان؛ لأنهما عامّان لجميع المكلفين، فوجب حمله على الوجه الثالث، وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى.(3/9)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
الكاف في قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ» فيها الوجهان المَشْهُوران كما تقدم ذلك غير مَرَة: إما النصب على النعت، أو على الحال من المصدر المحذوف.
والتقدير: وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً جعلاً مثل ذلك، ولكن المشار إليه ب «ذلك» غير مذكور فيما تقدم، وإنما تقدم ام يدلّ عليه. واختلفوا في «ذلك» على خمسة أوجه:
أحدها: أن المشار إليه هو الهُدى المدلول عليه بقوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
والتقدير: جعلناكم أمة وسطاً مثل ما هديناكم.
الثاني: أنه الجعل، والتقدير: جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجَعْل القريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية.
الثالث: قيل: المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسّطة جعلناكم أمة وسطاً.
الخامس - وهو أبعدها - أن المشار إليه قوله: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} [البقرة: 130] أي: مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً.
[قال ابن الخطيب: ويحتمل عندي أن يكون التقدير: ولله المشرق والمغرب، فهذه الجهات بعد استوائها لكونها مِلْكاً لله تعالى، خصّ بعضها بمزيد الشرف والتكريم، بأن جعله قبلة فضلاً منه، وإحساناً؛ فكذا العباد كلهم يشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة، فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً.
وفيه وجه آخر: وهو أنه قد يذكر ضمير الشيء، وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] لأن المعروف عند كل أحد أنه - سبحانه وتعالى - وهو القادر على إعزاز من يشاء من خلقه، وإذلال من يشاء، فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي: ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً] .(3/9)
و «جعل» بمعنى صير، فيتعدّى لاثنين، فالضمير مفعول أول، و «أمة» مفعول ثاني ووسطاً نعته.
والوَسَط بالتحريك: اسم لما بين الطرفين، ويطلق على خيار الشيء؛ لأن الأوساط محميَّة بالأطراف؛ قال حَبِيبٌ: [البسيط] .
821 - كَانَتْ هِيَ الوَسَطَ المَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ ... بِهَا الحَوَادِيُ حَتَّى أَصْبَحَتُ طَرَفَا
ووسط الوادي خير موضع فيه؛ قال زُهَيْر: [الطويل]
828 - هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا نَزَلَتْ إِحْدَى البَلاَياَ بِمُفْضَلِ
[وقال آخر: [الراجز] .
822 - كُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعاً وَسَطَا] ... وقال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي أعدلهم.
[وروى القفال عن الثورى عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وبجل وعظم وكرم «أمّة وَسَطاً» ؛ قال: «عَدْلاً» .
وقال عليه صلوات الله وسلام: «خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا» ؛ أي: أعدلها. وقيل: كان النبي - صلوات الله وسلامه عليه - أوسط قريش نَسَباً.
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: «عَلَيْكُمْ بالنَّمطِ الأَوْسَطِ»
قال الجوهري في الصحاح: «أمة وسطاً» أي: عدلاً، وهو الذي قاله الأخفش، والخليل، وقطرب، فالقرآن والحديث والشعر يدلون على أن الوَسَط: خيار الشيء] .
وأما المعنى فمن وجوه.(3/10)
أحدها: أن الوسط حقيقة في البُعْد عن الطرفين، ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رذيلتان، فالمتوسّط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين، فكان معتدلاً فاضلاً.
وثانيها: إنما سمي العدل وسطاً؛ لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، [والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين] .
وثالثها: أن المراد بقوله: {جُعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} طريقة المدح لهم؛ لأنه لا يجوز أن يذكر الله - تعالى - وصفاً، ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم عطف على ذلك شهادة الرسول، وذلك مدح، فثبت أن المراد بقوله: «وَسَطاً» ما يتعلّق بالمدح في باب الدين، ولا يجوز أن يمدح الله الشُّهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً لا بكونهم عدولاً؛ فوجب أن يكون المراد من الوَسَط العدالة.
ورابعها: أن الأوساط محمية بالأطراف، وحكمها مع الأطراف على حَدّ سواء، والأطراف يتسارع إليها الخَلَل والفساد، والوسط عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جِهَةٍ دون جهة.
وقال بعضهم: تفسير الوسط بأنه خيار الشيء [أوْلى من تفسيره بالعدالة؛ لأن العدالة لا تطلق على الجمادات، فكان أَوْلَى، والمراد من الآية: أنهم لم يغلوا؛ كما غلت النصارى، فجعلوه ابناً وإلهاً، ولا قصَّروا؛ كتقصير اليهود في قتل الأنبياء، وتبديل الكُتُبِ وغير ذلك] . وفرق بَعْضهم بين «وَسَط» بالتفح و «وَسْط» بالتسكين.
فقال: كلُّ موضع صَلَحَ فيه لفظ «بَيْن» يقال بالسكون، وإلا فبالتحريك.
فقتلو: جلست وَسْطَ القومِ، بالسكون.
وقال الراغب: وسط الشيء ما له طرفان متساويان القَدْر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد، فتقول: وسطه صلب، ووسْط بالسكون يقال في الكميّة المنفصلة؛ كشيء يفصل بين جسمين نحو: «وَسْط القوم» كذا.
وتحرير القول فيه هو أن المفتوح في الأصل مَصْدَرٌ، ولذلك استوى في الوصف به الواحدُ وغيره، والمؤنَّث والمذكَّر، والسَّاكن ظَرْفٌ، والغاب فيه عدم التصرُّف، وقد جاء متمكِّناً في قول الفرزدق: [الطويل] .
824 - أَتَتْهُ بِمَجْلُومٍ كَأَنَّ جَبِينَهُ ... صَلاَءَةُ وَرْسٍ وَسْطُهَا قَدْ تَفَلَّقَا
روي برفع الطَّاء، والضمير ل «صلاءة» ، وبتفحها والضمير للجائية.(3/11)
فصل في الاستدلال بالآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى
احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى؛ لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيرتيهم بجعل الله وخلقه، وهذا صريح في المذهب.
وقالت المعتزلة: المراد من هذا الجعل فعل الألطاف.
أجيب عنه بوجوده:
الأول: أن هذا ترك للظاهر، وذلك محال لا يصار ليه إلا عند عدم إمكان حمل الآية على ظاهرها، أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسّك بفصل المَدْح والذم والثواب والعقاب، وقد بيّنا أن هذه الطريقة منتقضةٌ على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي:
والثاني: أنه تعالى - قال قبل هذه الآية
{يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] .
وقد بيذنا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه - تعالى - يخص البعض بالهداية دون البعض، فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منها مؤكدة لمضمون الأخرى.
والثالث: أن كلّ ما في مقدور الله - تعالى - من الألطاف في حقّ الكل فقد فعله، وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة.
فصل في الاستدلال بالآية على أن الإجماع عجّة
احتج الجمهور بهذه الآية على أن الإجماع حجة فقالوا: أخبر الله - تعالى - عن(3/12)
عدالة هذه الأمة، وعن خيريتهم، فلو أقدموا على شيء من المَحْظُورات لما اتّصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المَحْظُورات وجب أن يكون قولهم حجّة، فإن قيل: الآية متروكة الظاهر؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتِّصَاف كل واحد منهم بها، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة، فلا بد من حملها على البعض، فنحن نحملها على الائمة المعصومين.
فالجواب: أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره، والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين:
الأول: أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات، واجتناب المحرمات، وهذا من فعل العبد، وقد أخبر الله - تعالى - أنه جعلهم وسطاً، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً، وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال.
الثاني: أن الوَسَط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك، وهو خلاف الأصل.(3/13)
سلّمنا اتصافهم بالخيرية، وذلك لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجتمعوا عليه وإن كان خطأ، لكنه من الصَّغائر، فلا يقدح ذلك في خيريتهم، ومما يؤكّد ذلك الاحتمال أنه - تعالى - حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة.
سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر، ولكن الله - تعالى - بيّن وصفهم بذلك لكونهم شهداء على النَّاس، ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة، فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك، لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمّثلن وذلك لا نزاع فيه؛ لأن الأمة تصير عصومة في الآخرة.
فلم قلت: إنهم في الدنيا كذلك؟
سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا، لكن المخاطبين بهذا الخطاب [هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية، لأن الخطاب] مع مَنْ لم يوجد مُحَال، وإذا كان كذلك، فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت لا عدالة غيرهم، فدلّت الآية على أن إجماع [أولئك} حق، يجب ألاَّ نتمسّك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه.
لكن ذلك لا يمكن [إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم، وعلمنا بقاء كل واحد] منهم إلى ما بعد وفاة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع، ولما كان ذلك كالمتعذّر امتنع التمسّك بالإجماع.
والجواب عن قولهم: الآية متروكة الظاهر.
قلنا: لا نُسلّم فإن قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} يقتضي أنه - تعالى - جعل كلّ واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة.
وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه، فإنّ كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر، بل إذا اختلفوا، فعند ذلك قد يفعلون القبيح، وإنما قلنا: إن هذا الخطاب معهم حال الاجتماع، لأن قوله: «جَعَلْنَاكُمْ» خطاب لمجموعهم لا لكلّ واحد منهم وحده، على أنا وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد فيهم عدلاً، لكنا نقول ترك العمل به في حقّ البعض لدليل قام عليه، فوجب أن يبقى معمولاً به في حقّ الباقي، وهذا معنى ما قاله العلماء: ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة، فإذا كُنَّا لا نعلمهم بأعيانهم افتقرنا إلى إجماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم.
مثاله: أن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا قال: إن واحداً من أولاد فلان لا بد(3/14)
وأن يكون مصيباً في الرأي، فإذا لم نعلمه بعينه، ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقّاً؛ لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق.
فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقّاً، لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد المخالف.
ولهذا قال العلماء: إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة [بقول المخطئ.
قوله: لو كان المراد من كونهم وسطاً هو عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى.
قلنا: هذا مذهبنا. فإن قيل] قولهم: لم قلتم: إن إخبار الله - تعالى - عن عَدَالتهم وخيريّتهم اجتنابهم عن الصغائر؟
قلنا: خبر الله - تعالى - صدق، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه، وفعل الصغيرة ليس بخبر، فالجمع بينهما متناقض.
ولقائل أن يقول: الإخبار عن الشَّخْص بأنه خير أهم من [الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور، أو في بعض الأمور، ولذلك فإنه يصحّ تقسيمه إلى] هذين القسمين، فيقال: الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض، أو في كل الأمور، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، فمن كان خيراً من بعض الوجود دون البعض يصدق عليه أنه خير، فإذن إخبار الله - تعالى - عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره - تعالى - عن خيريتهم في كل الأمور، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر، [وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلاَّ أن هذا السؤال وارد عليهم، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها، من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الية، ومن جاء بعدهم إلى [قيام الساعة] ، كما أن قوله
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} [البقرة: 178] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] يتناول الكل، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت، [وكذلك سائر تكاليف الله - تعالى - وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة] فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة، فإنما حكم جماعتهم بالعدالة، فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجّة على من بعدهم؟
قلنا: لأنه - تعالى - لما جعلهم شهداء على الإنسان فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها(3/15)
بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة، إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه.
فعلمنا أن المراد به أهل كلّ عصر، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة، فإن الأمة الجماعة التي تؤمّ جهة واحدة، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك، ولأنه - تعالى - قال: «أُمَّةً وَسَطاً» فعبر عنهم بلفظ النكرة، ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر.
[قال النووي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - في «التهذيب» : الأُمّة تطلق على معانٍ:
منها من صدق النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآمن بما جاءه، واتبعه فيه، وهذا هو الذي جاء مَدْحه في الكتاب والسُّنة كقوله تعالى: {كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} و {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] .
وقوله صلوات الله وسلام عليه: «شَفَاعَتِي لأُمَّتِي» و «تَأْتِي أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ» وغير ذلك.
ومنها من بعث إليهم النبي - صلوات الله وسلامه عليه - من مسلم وكافر.
ومنه قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ لاَ يَسْمَعُ بي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثم يموت وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلَتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» رواه مسلم.
ويأتي باقي الكلام عن الأمة في آخر «النحل» إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] إلى قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] .
فصل في الكلام على قوله: لتكونوا
قوله تعالى: «لِتَكُونُوا» يجوز في هذه اللام وجهانِ:
أحدهما: أن تكون لام «كي» فتفيد العلة.
والثاني: أن تكون لام الصيرورة، وعلى كلا التقديرين فهي حرف جر، وبعدها «أن» مضمرة، وهي وما بعدها في محلّ جر، وأتى ب «شهداء» جمع «شهيد» الذي يدلّ على المبالغة دون شاهدين وشهود جميع «شاهد» .
وفي «على» قولان:
أحدها: أنها على بابها، وهو الظاهر.
والثاني: أنها بمعنى «اللام» ، بمعنى: أنكم تنقلون إليهم ما علمتموه من الوحي(3/16)
والدين، كما نقله الرسول - عليه السلام - وكذلك القولان في «على» الأخيرة، بمعنى أن الشهادة لمعنى التزكية منه - عليه السلام - لهم.
وإنما قدم متعلّق الشهادة آخراً، وقدم أولاً لوجهين:
أحدهما: وهو ما ذكره الزمخشري أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم.
والثاني: أن «شهيداً» أشبه بالفَوَاصل والمقاطع من «عليكم» ، فكان قوله «شهيداً» تمام الجملة، ومقطعها دون «عليكم» ، وهذا الوجه قاله الشيخ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبه من أن تقديم المعفول يشعر بالاختصاص، وقد تقدم ذلك.
فصل في الكلام على الشهادة.
اختلفوا في هذه الشهادة هل هي في الدنيا أو في الآخرة؟ فالقائل بأنها في الآخرة وهم الأكثرون لهم وجهان:
الأول: أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أُمَمِهِمْ الذين يكذبونهم.
روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فيطالب الله - تعالى - الأنبياء بالبّينة على أنهم قد بلّغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيشهدون فتقول الأمم: من أين عرفتم فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه النَّاطق على لسان نبيه الصَّادق، فيؤتى بمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] وقد طعن القاضي رَحِمَهُ اللهُ تعالى في هذ الرواية من وجوه:
أحدها: أن مَدَار هذه الرواية على أن الأمم يكذبون أنبياءهم، وهذا بناء على أن أهل القيامة يكذبون.
وهذا باطل عند القاضي، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في سورة «الأنعام» عند قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الأنعام: 23 - 24] .
وثانيها: أن شهادة الأمة، وشهادة الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مستندةٌ في الآخرة إلى شهادة الله - تعالى - على صدق الأنبياء، وإذا كان كذلك، فَلِمَ لم يشهد الله - تعالى - لهم بذلك ابتداء؟
والجوا: الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الفضل عن سائر الأمم بالمبَادرة إلى تصديق الله - تعالى - وتصديق جميع الأنبياء، والإيمان بهم جميعاً، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعَدْل بالنسبة إلى الفاسق.
وثالثها: أن مثل هذه الأخبار لا تسمّى شهادة، وهذا ضعيف لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة(3/17)
وَالسَّلَام ُ: «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْس فاشْهَدْ» والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس، فوجب جواز الشَّهَادة عليه.
والثاني: قالوا معنى الآية: لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحقّ فيها، قال ابن زيد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الأشهاد الأربعة: الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد، قال تعالى: {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] .
وقال: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12] .
وثانيها: شهادة الأنبياء، وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] .
وقال تعالى في حق سيدنا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته في هذه الآية: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} .
وقال في حق - محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] .
وثالثها: شهادة أمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال تعالى: {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء} [الزمر: 69] .
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} [غافر: 51] .
ورابعها: شهادة الجَوَارح، وهي بمنزلة الإقرار، بل أعجب منه.
قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور: 24] . الآية، وقال: {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ} [يس: 65] الآية.
القول الثاني: أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا، وتقديره أن الشهاة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال: شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته.
ولما كان بين الإبصار بالعَيْن وبين المعرفة بالقَلْب مناسبة شديدة، لا جَرَمَ قد تسمى المعرفة التي في القلب: مشاهدة وشهوداً، والعارف بالشيء: شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلائل على الشيء: شاهداً على الشيء، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً، ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً، ثم اختصّ هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة. إذا ثبت هذا فنقول: إن كلّ من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه، والله سحبانه وتعالى وصف هذه الأمة بالشهادة، فهذه الشهادة: إما أن تكون في الآخرة، أو الدنيا، ولا جائز أن تكون في الآخرة؛ لأن الله -(3/18)
تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء، وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا] .
فإن قيل: تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة.
وإنما قلنا: إنه - تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا؛ لأنه - تعالى -[قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَةً وَسطاً} وهذا إخبار عن الماضي، فلا أقل من حصوله في الحال، وإنما قلنا: إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا؛ لأنه تعالى] قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط، فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا [وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا] .
وفإن قيل: تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة.
قلنا: الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل، بدليل أنه - تعالى - اعتبر العدالة في هذه الشهادة، والشهادة التي تعتبر فيها العدالة، هي الأداء لا التحمّل، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدّين للشهادة في الدنيا، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجّة، ولا معنى لقولنا: الإجماع حجة إلا هذا، فثبت أن الآية تدلّ على أن الإجماع حجّة [من هذا الوجه أيضاً] .
واعلم أن هذا الدليل لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} يعني مؤدياً ومبيناً، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشَّهادة في الآخرة، فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمّل، لأنهم إذا أثبتوا الحقّ عرفوا عنده من [القابل ومن الراد] ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة [على أن الشَّاهد على العقود يعرف الذي تم، والذي لم يتم، ثم يشهدون بذلك عند الحاكم.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: معنى قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} أي: بأعمالكم يوم القيامة
وقيل: «عليكم» بمعنى لكم أي: يشهد لكم بالإيمان.
وقيل: يشهد عليكم بالتبليغ لكم] .
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ ... } في هذه الآية خمسة أوجه:(3/19)
أحدها: أن «القبلة» مفعول أول، و «التي كنت عليها» مفعول ثان، فإن الجعل بمعنى التصيير، وهذا ما جزم به الزّمخشري فإنه قال: {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعوليْ جعل، يريد: وما جعلنا القِبْلَةَ الجهة التي كنت عليها، وهي الكَعْبَة؛ لأنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصلي ب «مكة» إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس، ثم حول إلى الكعبة.
الثاني: أن «القِبْلَة» هي المفعول الثاني، وإنما قدم، و «التي كنت عليها» هو الأول، وهذا ما اختاره الشيخ محتجّاً له بأن التصيير هو الانتقال من حَالٍ إلى حَالٍ، فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الجاهل عالماً، والمعنى هنا على هذا التقدير: وما جعلنا القِبْلَة الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً، ثم صرفت عنها إلى «بيت المقدس» قبلتك الآن إلا لنعلم.
ونسب الزمخشري في جعله «القِبْلَة» مفعولاً أول إلى الوهم.
الأصح: أن «القِبْلَة» مفعول أول، و «التي كنت» صفتها، والمفعول الثَّاني محذوف تقديره: وما جعلنا القِبْلة التي كنت عليها منسوخة.
ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قدره: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة، ولا طائل تحته.
الرابع: أن «القبلة» مفعول أول، و «إلاَّ لنعلم» هو المفعول الثَّاني، وذلك على حذف مضاف تقديره: وما جعلنا صرف القِبْلَة التي كنت عليها إلا لنعلم، نحو قولك: ضرب زيد للتأديب، أي: كائن، أو ثابت للتأديب.
الخامس: أن «القبلة» مفعول أول، والثاني محذوف، و {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} صفة لذلك المحذوف، والتقدير: وما جعلنا القِبْلة القبلة التي، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيف.
وفي قوله: «كُنْتَ» وجهان:
أحدهما: أنها زائدة، ويروى عن ابن عباس أي: أنت عليها، وهذا منه تفسير معنى لا إعراب، وهو كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] والقبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابلة نحو: الجِلْسَة، وفي التعاريف صار اسماً للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة.
وقال قطرب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يقولون: ليس له قِبْلَة أي جهة يتوجه إليها.
وقال غيره: إذا تقابل رجلان فكلّ واحد قبلة للآخر.
فصل في الكلام على الآية.
في هذا الكلام وجهان:
الأول: أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل الكعبة قِبْلة، وذلك لأنه - عَلَيْهِ(3/20)
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يصلّي إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى «بيت المقدس» بعد الهجرة تأليفاً لليهود، ثم حول إلى الكعبة فقال: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة} الجهة {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} أولاً يعني: وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس.
الثاني: يجوز أن يكون قوله: {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك «بيت المقدس» كان أمراً عارضاً لغرض، وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذان وهي «بيت المقدس» لنمتحن الناس، وننظر من يتبع الرسول، ومن لا يتبعه وينفر عنه.
وذكر أبو مسلم وجهاً ثالثاً فقال: لولا الروايات لم تدلّ على قبلة من قبل الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأنه قد يقال: كنت بمعنى: صرت، كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} وقد يقال: كان في معنى لم يزل كقوله تعالى:
{وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 158] فلا يمتنع أن يراد بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ} أي: التي لم تزل عليها، وهي الكعبة إلاَّ كذا وكذا.
قوله: «إلاَّ لِنَعْلَمَ» قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولاً ثانياً.
وأما على غيره فهو استثناء مفرّغ من المفعول العام، أي: ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلاَّ لكذا. وقوله: «لِنَعْلَمَ» ليس على ظاهره، فإن علمه قديم، ونظره في الإشكال قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [محمد: 31] .
وقوله: {1649;لآنَ خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال: 66] ، وقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 42] ، وقوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ} [العنكبوت: 3] .
وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة} [سبأ: 21] ، فلا بد من التأويل وهو من أوجه:
أحدها: لتمييز التابع من النَّاكص إطلاقاً للسبب، وإرادة للمسبّب.
وقيل: على حذف مضاف أي: لنعلم رسولنا فحذف، كما يقول الملك: فتحنا البَلْدة الفلانية بمعنى: فتحها أولياؤنا.
ومنه يقال: فتح عمر السّواد.
ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فيما يحكيه عن ربه: «اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي يقول: وادهراه وأنا الدهر»
وفي الحديث: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّا فَقَدْ أَهَانَنِي»
وقيل: معناه: إلا لنرى.
فصل
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: وهذا قول ابن أبي طالب وقول العرب، تضع العلم مكان(3/21)
الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] بمعنى ألم تعلم، وعلمت، وشهدت، ورأيت، ألفاظ تتعاقب.
وقيل: حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين، معناه: لتعلموا.
والغرض من هذا الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى} [سبأ: 24] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب، ورفقاً بالمخاطب.
وقيل: يعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم.
وقيل: العلم صلة زائدة معناه إلاَّ ليحصل اتباع المتبعين، وانقلاب المنقلبين.
ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك: ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني، والمعنى: أنه لو كان لعلمه الله.
قوله: {مَنْ يَتَّبع} في «من» وجهان:
أحدهما: أنها موصولة، و «يتبع» صلتها، والموصول في محلّ المفعول ل «نعلم» ؛ لأنه يتعدّى إلى واحد.
والثاني: أنها استفهامية في محلّ رفع بالابتداء، و «يتبع» خبره، والجملة في محلّ نصب؛ لأنها معلقة للعلم، والعلم على بابه، وإليه نحا الزَّمخشري في أحد قوليه.
وقد رد أبو البقاء هذا الوجه، فقال: لأن ذلك يوجب تعلّق «نعلم» عن العمل، وإذا علقت عنه لم يبق ل «من» ما تتعلّق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلّق بما قبله، ولا يصحّ تعلها ب «يتبع» ؛ لأنها في المعنى متعلّقة بلا علامة، وليس المعنى: أي فريق يتبع ممن ينقلب انتهى.
وهو رد واضح إذ ليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على أن يتعلق «مِمَّنْ يَنْقَلِبُ» ب «نعلم» نحو: علمت من أحسن إليك مِمّن أساء، وهذا يقوي التجوز بالعلم عن التمييز، فإن العلم لا يتعدى ب «من» إلا إذا أريد به التمييز.
ورأ الزهري: «إلاَّ لِيُعْلم» على البناء للمفعول، وهي قراءة واضحة لا تحتاج إلى تأويل، لأنا لا نقدر ذلك الفاعل غير الله تعالى.
قوله: «عَلَى عَقِبَيْهِ» في محلّ نصب على الحال، أي ينقلب مرتدّاً راجعاً على عقبيه، وهذا مجاز، [ووجه الاستعارة أن: المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلما تركوا الإيمان والدلائل بمنزلة المدبر عما بين يديه، فوصفوا بذلك لما قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر} [المدثر: 23] وقوله تعالى: {كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] .
وقرئ «عَلَى عَقْبَيْهِ» بسكون القاف، وهي لغة «تميم» .(3/22)
فصل
اختلفوا في هذه المحنة، هل حصلت بسبب تعيين القبلة، أو بسبب تحويلها؟ فقال بعضهم: إنما حصلت بسبب تعيين القبلة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يصلّي غلى الكعبة، فلما جاء «المدينة» صلى إلى «بيت المقدس» ، فشق ذلك على العرب لترك قبلتهم.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: والآية جوا لقريش في قولهم: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يمتحنهم بغير ما ألفوه.
وقال الأكثرون: حصلت بسبب التحويل قالوا: إن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه.
روى القَفَّال عن ابن جريج أنه قال: بلغني أنه رجع ناس ممن أسلموا، فقالوا: مرة ههنا ومرة ههنا.
وقال السدي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لما توجه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - نحو المسجد الحرام واختلف الناس، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟
وقال المسلمون: ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس.
وقال آخرون: اشتاق إلى بلد أبيه ومولده.
وقال المشركون: تحيّر في دينه.
قال ابن الخطيب: وهذا القول أولى؛ لأن الشبهة في أمر النَّسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة [وقد وصفها الله - تعالى - بالكبر فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} فكان حمله عليه أولى] .
قوله: «وإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً» «إنْ» هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر، وهو أغلب أحوالها، و «اللام» للفرق بينها وبين «إن» النافية، وهل هي لام الابتداء، أو لام أخرى أتى بها للفرق؟ خلاف مشهور.(3/23)
وزعم الكوفيون أنها بمعنى «ما» النافية، وأن «اللام» بمعنى «إلا» ، والمعنى: ما كانت إلا كبيرة، نقل ذلك عنهم أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ [وفيه نظر. واعلم أن «إن» المكسورة الخفيفة تكون على أربعة أوجه:
جزاء، وهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى، فالمستلزم هو الشرط، واللازم هو الجزاء، كقولك: إن جئتني أكرمتك.
ومخففة من الثقيلة، وهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة المشددة، كقولك: إن زيداً لقائم، قال تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] ، {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء: 108] .
وللجحد، لقوله تعالى: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} [الأنعام: 57] {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [الأنعام: 148] {وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا} [فاطر: 41] . أي: ما يمسكهما. وزائدة كقوله: ما إن رأيت زيداً] ، والقراءة المشهورة نصب «كبيرة» على خبر «كان» ، واسم كان مضمر فيها يعود على التولية، أو الصلاة، أو القبلة المدلول عليها بسياق الكلام.
وقرأ اليزيدي عن أبي عمرو: برفعها.
وفيه تأويلان:
أحدهما - وذكره الزمخشري -: أن «كان» زائدة، وفي زيادتها عاملةً نظر لا يخفى؛ وقد استدلّ الزمخشري على ذلك بقوله: [الوافر] .
825 - فَكَيْفَ إذَا مَرَرْتَ بِدَارِ قَوْمٍ ... وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامِ(3/24)
فإن قوله: «كرام» صفة ل «جيران» ، وزاد بينهما «كانوا» ، وهي رافعة للضمير، ومن منع ذلك تأول «لنا» خبراً مقدماً، وجملة الكون صفة ل «جيران» .
والثاني: أن «كان» غير زائدة، بل يكون «كبيرة» خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير: وإن كانت لهي كبيرة، وتكون هذه الجملة في محلّ نصب خبراً لكانت، ودخلت لام الفرق على الجملة الواقعة خبراً، وهو توجيه ضعيفٌ، ولكن لا توجه هذه القراءة الشَّاذة بأكثر من ذلك.
[والضمير في «كانت» فيه وجهان:
الأول: أنه يعود على القبلة؛ لأن المذكور السابق هو القبلة.
والثاني: يعود إلى ما دلّ عليه الكلام السّابق، وهو مفارقة القبلة، والتأنيث للتولية أي: وإن كانت التولية؛ لأن قوله تعالى: «ما ولاهم» يدل على القولية، ويحتمل أن يكون المعنى: وإن كانت هذه الفعلة نظيره «فبها ونعمت» .
ومعنى «كبيرة» ثقيلة شاقّة مُسْتنكرة.
وقوله تعال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5]] .
قوله: «إلاَّ عَلَى الَّذِينَ» متعلق ب «كبيرة» ، وهو استثناء مفرغ.
فإن قيل: لم يتقدم هنا نفي ولا شبهة، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك.
فالجواب: أن الكلام وإن كان موجباً لفظاً فغنه في معنى النفي؛ إذ المعنى أنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين، وهذا التأويل بعينه قد ذكروه في قوله:
{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] .
وقال أبو حيان: [هو استثناء من مستثنى محذوف تقديره: وإن كانت لكبيرة على النّاس إلا على الذين] وليس استثناء مفرغاً؛ لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبهة، وقد تقدم جواب ذلك [واستدل الأصحاب رحمهم الله - تعالى - بهذه الآية على خلق العمال] .
قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ} في هذا التركيب وما أشبهه [مما ورد في القرآن وغيره] نحو: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} [آل عمران: 179] ، {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ} [آل عمران: 179] قولان:
أحدهما: قول البصريين؛ وهو أن خبر «كان» محذوف، وهذه اللام تسمى لام الجُحود ينتصب الفعل بعدها بإضمار «أن» وجوباً، فينسبك منها ومن الفعل مصدر منجرّ بهذه «اللام» ، وتتعلق هذه اللام بذلك الخبر المحذوف.(3/25)
والتقدير: وما كان الله مريداً لإضاعة أعمالكم، وشرط لام الجحود عندهم أن يتقدمها كون منفي.
[واشترط بعضهم مع ذلك أن يكون كوناً ماضياً، ويفرق بينها وبين «لام» ما ذكرنا من اشتراط تقدم كون مَنْفي] ، ويدلّ على مذهب البصريين التصريح بالخبر المحذوف في قوله: [الوافر] .
826 - سَمَوْتَ وَلَمْ تَكْنْ أَهْلاً لِتَسْمُو ... والقول الثاني للكوفيين: وهو أن «اللام» وما بعدها في محلّ الجر، ولا يقدرون شيئاً محذوفاً، ويزعمون أن النصب في الفعل بعدها بنفسها لا بإضمار «أن» ، وأن «اللام» للتأكيد، وقد رد عليهم أبو البقاء فقال: وهو بعيد، لأن «اللام» لام الجر، و «أن» بعدها مرادة، فيصير التقدير على قولهم: وما كان لله إضاعة إيمانكم، وهذا الرد غير لازم لهم، فإنهم لم يقولوا بإضمار «أن» بعد اللام كما قدمت نقله عنهم، بل يزعمون النصب بها، وأنها زائدة للتأكيد ولكن للرد عليهم موضع غير هذا.
واعلم أن قولك: «ما كان زيد ليقوم» ب «لام» الجحود أبلغ من: «ما كان زيد يقوم» .
أما على مذهب البصريين فواضح، وذلك أن مع «لام» الجحود نفي الإرادة للقيام والتَّهيئة، ودونها نفي للقيام فقط، ونفي التَّهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل؛ إذ لا يلزم من نفي الفِعْلِ نفي إرادته.
وأما على مذهب الكوفيين فلأن «اللام» عندهم للتوكيد، والكلام مع التوكيد أبلغ منه بلا توكيد.
وقرأ الضحاك: «لِيُضَيِّعَ» بالتشديد، وذلك أن: أَضَاعَ وَضيَّعَ بالهمزة، والتضعيف للنقل من «ضاع» القاصر، يقال: ضَاعَ الشيء يَضيعُ، وأَضَعْتُه أي: أهملته، فلم أحفظه.
وأما ضَاعَ المِسْكُ يَضُوعُ أي: فاح، فمادة أخرى.
فصل في مناسبة اتّصال هذه الآية بما قبلها
وجه اتصال هذه الآية الكريمة بما قبلها أن رجلاً من المسلمين كأبي أمامة، وسعد ابن زُرَارة، والبراء بن عازب، والبراء بن مَعْرُور، وغيرهم ماتوا على القبلة.(3/26)
قال عشائرهم: يا رسول الله توفي إخواننا على القبلة الأولى، فكيف حالهم؟
فأنزل الله - تعالى هذه الآية.
[واعلم أنه لا بد من هذا السبب، وإلا لم يتّصل بعض الكلام ببعض، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوّوزوا النسخ إلا مع البَدَاء يقولون: إنه لمّا تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة] فبين أن النسخ نقل من مَصْلحة إلى مصلحة، ومن تكليف إلى تكليف، والأول كالثاني في أن القائم به متمسّك بالدين، وأن من هذا احاله، فإنه لا يضيع أجره.
ونظيره: ما سألوا بعد تحريم الخَمْر عمن مات، وكان يشربها، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ} [المائدة: 93] فعرفهم الله - تعالى - أنه لا جُنَاحَ عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى
فإن قيل: إذا كان الشك إنما تولّد من تجويز البَدَاء على الله - تعالى - فكيف يليق ذلك بالصحابة؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن ذلك الشّك وقع لمنافق، فذكر الله - تعالى - ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق.
وثانيها: لعلهم اعتقدوا أن الصَّلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا: ليت إخواننا ممن مات أدرك، فذكر الله - تعالى - هذا الكلام جواباً عن ذلك.
وثالثها: لعله - تعالى - ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك اسؤال لو خَطَر ببالهم.
ورابعها: لعلهم توهموا أن ذلك لما نُسِخَ وبطل، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كَفّارة لما سلف، واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل، فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا، ولم يأتاو بما يكفر ما سلف؛ قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، والمراد: أهل ملّتكم، كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى الله عيله وسلم: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة: 72] ، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50] ، ويجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً، فإنهم أشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم، وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين، فقيل: إيمانكم للأحياء والأموات، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب، فيقولوا: كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم.(3/27)
وقال أبو مسلم: يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب، والمراد بالإيمان صلاتهم، وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ.
وإنما اختار ابو مسلم هذا القول، لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا.
قال القرطبي: «وسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نيّة وقول وعمل» .
استدلت المعتزلة بقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات، فإنه - تعالى - أراد بالإيمان ها هنا الصلاة.
والجواب: لا نسلم أن المراد من الإيمان هنا الصلاةن بل المراد منه التَّصديق، والإقرار، فكأنه - تعالى - قال: إنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة.
سلمنا أن المراد من الإيمان هاهنا الصلاة، ولكن الصلاة أعظم الإيمان، وأشرف نتائجه وفوائده، فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الاسْتِعَارة من هذه الجهة.
فصل في الكلام على الآية.
قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: لا يضيع ثواب إيمانكم؛ لأن الإيمان قد انقضى وفني، وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته، إلاّ أنَّ استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه، فصح حفظه وإضاعته، وهو كقوله تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} [آل عمران: 195] .
قوله: {لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: «لَرَؤُفٌ» على وزن: «نَدُس» و «رَعُف» مهموزاً غير مُشْبَع، وهي لغة فاشيةٌ، كقول: [الوافر] .
728 - وَشَرُّ الظَّالِمين فَلا َتَكُنْهُ ... يُقَاتِلُ عَمَّهُ الرَّؤُفَ الرَّحِيمَا
وقال آخر: [الوافر] .
828 - يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَقّاً ... كَحَقِّ الوَلِدِ الرِّؤُفِ الرَّحِيمِ
وقرأ الباقون: «لرؤوفٌ» مثقلاً مهموزاً مشبعاً على زنة «شكور» .
وقرأ أبو جعفر «لروف» من غير هَمْزٍ، وهذا دأبه في كل همزة ساكنة أو متحركة.(3/28)
و «الرأفة» : أشد الرحمة، فهي أخص منها، [وقيل بينهما عموم وخصوص، فلا ترى فيه اكمل من الرحمة بالكيفية، والرحمة اتصال النعمة برقة يكون معها إيلام كقطع العضو المتآكل وشرب الدواء] .
وفي «رءوف» لغتان أخريان لم تصل إلينا بهما قراءة وهما: «رئِف» على وزن «فَخِذ» ، و «رأف» على وزن «ضَعْف» .
وإنم قدم على «رحيم» لأجل الفواصل، والله أعلم.
فصل فيمن استدل بالآية على أن الله تعالى لا يخلق الكفر
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا: لأنه - تعالى - بين أنه بالنَّاس لرءوف رحيم، فوجب أن يكون رءوفاً رحيماً بهم، وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكُفْر الذي يجرّهم إلى العقاب الدائم، والعذاب السَّرمَدِي، ولو لم يُكَلّفهم ما لا يُطِيقون، فإنه - تعالى - لَوْ كان مع مثل هذا الإضرار رءوفاً رحيماً، فعلى أيّ طريقٍ يتصور ألاَّ يكون رَءُوفاً رَحيماً.
واعلم أنَّ الكلامَ عليه قد تَقَدَّم مِرَاراً، والله أعلمُ.(3/29)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
قال العلماء: هذه الآيةُ متقدِّمةٌ في النزول على قَوْلِهِ تَعَالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} [البقرة: 143] .
ومَعْنَى «» : تحرُك وَجْهِكَ إلى السَّمَاءِ.
اعلم أنَّ «قَدْ» هذه قال فيها بعضُهم: إنها تَصْرفُ المضارعَ إلى مَعْنى المُضِيّ، وجَعَلَ مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها، وقوْلَ الشاعِرِ: [الطويل]
829 - لِقَوْمٍ لَعَمْرِي قَدْ نَرَى أَمْسِ فِيهُمُ ... مَرَابِطَ للأَمْهَارِ وَالعَكَرِ الدَّثِرْ
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «قَدْ نَرَى» : رُبَّما نَرَى، ومعناه كثرةُ الرؤية؛ كقوله: [البسيط]
830 - قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُضفَرّاً أَنَامِلُهُ ... كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفُرْصَادِ(3/29)
قال أَبُو حَيَّان: وشرحه هذا على التحقيق مُتَضَادّ؛ لأنه شرح «قَدْ نَرَى» ب «رُبَّمَا نَرَى» ، و «ربّ» على مَذْهب المحققين إنما تكون لِتَقْلِيل الشَّيْءِ في نَفْسِه، أو لتقليل نَظِيره.
ثُمَّ قال: «ومعناه كثرةُ الرُّؤْيةِ» فهو مضادٌّ لمدلولِ «رُبّ» على مذهب الجمهور.
ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرة الرؤية لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم توضع للكثرة «قد» مع المضارع، سواء أريد به المضي أم لا، وإنَّما فُهِمَتِ الكَثْرة من متعلّق الرؤية، وهو التقلب.
قوله: «في السَّمَاءِ» في متعلّق الجار ثلاثةُ أَقْوالٍ:
أحدهما: أنه المصدرُ، وهو «تَقَلُّب» ، وفي «في» حينئذٍ وَجْهَان:
أحدهما: أنها على بَابِهَا من الظرفية، وهو الواضِحُ.
والثَّاني: أنها بمعنى «إلَى» أي: إلى السَّمَاءِ ولا حاجةَ لذلك، فإنَّ هذا المصْدَرَ قد ثَبَت تعديه ب «في» ، قال تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} [آل عمران: 196] .
والثاني من الأقوال: أنه «نَرَى» ، وحينئذٍ تَكُون «فِي» بمعنى «مِنْ» أي: قد نرى من السَّماءِ، وذِكْرُ السماءِ وإن كان تَعَالى لا يتحيّز في جِهَةٍ على سَبيل التشريفِ.
والثالث: أنه محل نَصْب على الحَال من «وَجْهِكَ» ذكره أَبُوا البَقَاءِ، فيتعلّق حينئذ بمحذُوفٍ، والمصدرُ هنا مضافٌ على فَاعِله، ولا يجوزُ أنْ يكُونَ مُضَافاً إلى مَنْصُوبه؛ لأنه مصدرُ ذلك التقلِيبِ، ولا حَاجَةَ إلى حَذْفٍ، ومِنْ قَوْلِه: «وَجْهَكَ» وهو بَصَر وَجْهِك، لأن ذلك لا يكاد يستعمل، بل ذكر الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء، وهو الذي يقبله السَّائل في حاجته، وقيل: كنى بالوجه عن البصر؛ لأنه محلّه.
قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} «الفَاء» هنا للِتَّسَبُّب وهو وَاضِحٌ، وهذا جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ، أيْ: فواله لنولّينَّكَ، و «نُولِّي» يتعدّى لاثْنين: الأولُ الكَافُ، والثَّانِي «قِبْلَةُ» و «تَرْضَاهَا» الجملة في محلّ نَصْبٍ صفةً ل «قبلة» .
قال أَبُو حَيَّان: وهذا؛ يعني: «فَلَنولّينك» يدلّ على أن الجملةَ السابقةَ محذوفة تقديرهُ: قَدْ نَرَى تقلّ وَجْهِكَ في السَّماء طَالِباً قبلة غير التي أَنْت مُسْتقبلها.(3/30)
فصل في الكلام على الآية
في الآية قَوْلاَنِ:
القولُ الأولُ: وهو المشهورُ الذي عليه أَكْثر المُفَسِّرين أن ذلك كان لانتظارِ تَحْوِيله من «بيتِ المقْدِس» إلى الكَعْبة، وذكروا في ذلك وجوهاً:
أحدها: أنه كان يكره التوجّه إلى بيت المقْدِس، ويحبّ التوجّه إلى الكَعْبة، إلاّ أنه ما كان يتلكَّم بذلك، فكان يقلّب وجْهَهُ في السَّماء لهذا المعنى.
رُوي عن عباس أنه [صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] قال: «يَا جِبريلُ وَدِدْتُ أنَّ اللهَ - تَعَالى - صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُود، إلَى عَيْنِهَا فَقَدْ كَرِهْتُهَا»
فقال جبريلُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «أنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَاسْأَلْ ربَّكَ ذَلِكَ» .
فجَعَلَ رسولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُدِيمُ النَّظرَ إلى السماء؛ رجاء مجيء جِبْرِيلَ بما سأَلَ، فأَنْزل الله تعالى هذه الآية، وهؤلاءِ ذكروا في سببِ هذه المِحْنة أموراً:
الأولُ: أنَّ اليَهُودَ كانوا يَقُولُونَ: إنه يُخَالِفُنَا، ثم إنه يتبع قِبْلَتَنَا، ولولا نحْنُ لم يدر أَيْن يستقبل. فعند ذلك كَرِهَ أن يتوجّه إلى قِبْلتهم.
الثَّاني: أنَّ الكَعْبة كانتِ قِبْلة إبْراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
[الثَّالث: أنه - صلوات الله وسلامه عليه - كان يقدِّرُ أن يَصِير ذلك سبباً لاسْتمالة العرب، ولدخولهم في الإسلامِ.
الرَّابع: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أَحَبَّ] أن يحصل هذا الشرفُ للمسجدِ الذي في بلْدَتِهِ ومَنْشَئه لا في مسجدٍ آخر.
واعترض القَاضِي على هذا الوجْهِ، وقال: إنه لا يَلِيقُ به - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يكره قِبْلَةً أُمِرَ أَنْ يُصَلِّي إليها، ويحبّ أن يحوله ربُّه عنها إلى قِبْلَةٍ يَهْوَاها بطبْعِه، ويميلُ إِلَيْها بحسب شَهْوتِه؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - علم أنَّ الصَّلاحَ في خلاف الطَّبْعِ والمَيْلِ.
قال ابنُ الخَطِيب: وهذا قليلُ التحْصِيل؛ لأنَّ المُسْتنكَرَ من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يعرض عما أمره الله - تعالى - به، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه.
فأما أن يميل قلبه إلى شيء، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، فذلك مما لا إنكار(3/31)
عليه، لا سيما إذا لم ينطق به، [أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه] .
الوجهُ الثاني: أنه - عليه الصلاةُ والسلامُ - قد استأذَنَ جبريل - عليه السلام - في أن يدعو الله - تعالى - بذلك، فأخبره جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه، لئلا يسألون ما لا صَلاَحَ فيهن فلا يجابوا إليه، فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم، فلما أذن الله - تعالى - له في الإجابة، علم أنه يستجاب إليه، فكان يقلّب وجهه في السَّماء ينتظر مجيء جبريل - عليه السلام - بالوَحْيِ في الإجابة.
الوجه الثالث: قال الحسن: إن جبريل - عليه السلام - أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخبره أن الله - تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى، ولم يبين له إلى أي موضع يحوّلها، ولم تكن قبلة أحبّ إلى الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من الكَعْبة، فكان رسول الله يقلّب وجهه في السّماء ينتظر الوحي؛ لأنه - عليه السلام - على أنّ الله تعالى لا يتركه بغير صلاة، فأتاه جبريل عليه السلام، فأمره أن يصلّي نحو الكعبة.
والقائلون بهذا الوجه اختلفوا، فمنهم نم قال: إنه - عليه السلام - منع من استقبال «بيت المقدس» ولم يعين له القِبْلة، فكان يخاف أن يرد وق الصلاة، ولم تظهر القبلة، فتتأخر صلاته، فلذلك كان يقلّب وجهه. عن الأصم.
وقال آخرون: بل وعد بذلك، وقِبْلة بيت المقدس باقية، بحيث تجوز الصلاة إليها، لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك، ولأنه كان يرجو عند التحويل عن «بيت المقدس» إلى «الكعبة» وجوهاً كثيرة من المصالح الدينية:
نحو: رغبة العرب في الإسلام، والمُبَاينة عن اليهود، وتَمْيِيز المُوافق من المُنَافِق، لهذا كان يقلّب وجهه، وهذا الوجه أولى، وإلاّ لما كانت القِبْلَة الثانية ناسخة للأُولى، [بل كانت مبتدأه.
والمفسرون أجمعوا على أنها ناسخة للأولى] ، ولأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلاَّ مع بيان موضع التوجّه.
الرابع: أن تقلب وجهه في السَّماء هو الدعاء.
القول الثاني: وهو قول أبي مسلم الأَصْفَهَاني، قال: لولا الأخبار التي دلّت على هذا القول، وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر، وهو أنه يحتمل أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما كان يقلّب وجهه في أول مقدمة «المدينة» .(3/32)
فقد روي أنه - عليه السلام - كان إذا صلّى ب «مكة» جعل الكعبة بينه وبين «بيت المقدس» ، وهذه صلاة إلى الكعبة، فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه، فانتظر أمر الله - تعالى - حتى نزل قوله: {} .
فصل اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدسن فقال قوم: كان ب «مكة» يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه [إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً.
وقال قوم: بل كان ب «مكة» يصلي إلى بيت المقدس، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها.
وقال قوم: بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وب «المدينة» أولاً سبعة عشر شهراً، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح.
واختلفوا في توجه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره، أو كان مخيراً في التوجه إليه وإلى غيره، فقال الربيع بن أنس: قد كان مخيراً في ذلك. وقال ابن عباس: كان التوجه إليه فرضاً.
وعلى كلا الوجهين صار منسوخاً، واحتج الأولون بالقرآن والخبر.
أما القرآن فقوله تعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] .
وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء.
وأما الخبر فما روى أبو بكر الرّازي في كتاب «أحكام القرآن» : أن نَفَراً قصدوا الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من «المدينة» إلى «مكة» للبيعة قبل الهِجْرَةِ، وكان فيها البراء بن معرور، فتوجّه بصلاته إلى الكعبة في طريقه، وأبى الآخرو، وقالوا: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يتوجّه إلى بيت المقدس، فلما قدموا «مكة» سألوا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال له: قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثَبَتَّ عليها أجزأك، ولم يأمره باستئناف الصلاة، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين.
واحتجّ الذاهبون إلى القول الثَّاني بأنه - تعالى - قال: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} فدلّ على أنه - عليه السلام - ما كان يرتضي القبلة الأولى، فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجّه إليها، فحيث توجّه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكَعْبة.
فصل في نسخ التوجه إلى بيت المقدس
المشهور أن التوجّه إلى «بيت المقدس» إنما صار منسوخاً [بالأمر بالتوجّه إلى الكعبة.(3/33)
ومن الناس من قال: التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} .
واحتجوا عليه بالقرآن والأثر.
أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ] ثم ذكر بعده: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] ثم ذكر بعده: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} .
وهذا الترتيب يقتضي صحّة المذهب الذي قلناه بأن التوجذه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} .
فلزم أن يكون قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} [متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل، فثبت ما قلناه.
وأما الأثر فما] روي عن ابن عباس أن أمر القبلة أول ما نسخ من القُرْآن، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن، إنما المذكور في القرآن {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} فوجب أن يكون قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} ناسخاً لذلك، لا للأمر بالتوجذه إلى «بيت المقدس» .
قوله: «فَلَنُوَلِّيَنَكَ» : فلنعطينّك ولنمكننّك من استقبالها من قولك: ولّيته كذا، إذ جعلته والياً له، أو فلنجعلنّك تَلِي سَمْتها دون سَمْت بيت المقدس.
قوله: «تَرْضَاهَا» فيه وجوه:
أحدها: ترضاها: تحبّها وتميل إليها؛ لأن الكعبة كانت أحبّ غليه من غيرها بحسب ميل الطبع، وتقدم كلام القاضي عليه وجوابه.
وثانيها: «قِبْلَةً تَرْضَاهَا» أي: تحبها بسبب اشتمالها على المَصَالح الدينة.
وثالثها: قال الأصم: أي: كل جهة وجّهك الله إليهان فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقبيه من العرب الذين كانوا قد أسلموا، فلما تحولت القبلة ارتدوا.
ورابعها: «تَرْضَاهَا» أي: ترضى عاقبتها؛ لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام، مما يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها، أو مال يكتسبه.
قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} «ولّى» يتعدى لاثنين:(3/34)
أحدهما: «وجهك» .
والثاني: «شطر» .
ويجوز أن ينتصب «شَطْرَ» على الظرف المكاني، فيتعدى الفعل لواحد، وهو قول النحاس، ولم يذكر الزمخشري غيره.
والأول: أوضح، وقد يتعدى إلى ثانيهما ب «إلى» . [والمراد من الوجه ها هنا جملة بدن الإنسان؛ لان الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط، والوجه قد يُراد به العضو، وقد يعبر عن كل الذات بالوجه.
قال أهل اللغة: «الشطر» اسم مشترك يقع على معنيين.
أحدهما: النصف من الشيء والجزء منه، يقال: شطرت الشيء، أي: جعلته نصفين، ويقال في المَثَل: اجلب جلباً لك شطره، أي: نصفه.
ومنه الحديث: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ»
وتكون من الأضداد.
ويقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر من كذا إذا ابتعد عنه وأعرض، ويكون بمعنى الجهة والنحو، واستشهد الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - في كتاب «الرسالة» في هذا لأربعة أبيات] قال: [الوافر]
831 - أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولاً ... وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو
وقال: [الوافر]
832 - أَقُولُ لأُمِّ زِنْبَاعِ أَقِيمِي ... صُدُورُ العِيْسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ
وقال: [البسيط]
833 - وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ ... هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمْ قِطَعَا
وقال ابْنُ أَحْمَر: [البسيط](3/35)
834 - تَعْدُو بِنَا شَطْرَ نَجْدٍ وَهْيَ عَاقِدَةٌ ... قَدْ قَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفادِهَا الحُقبَا
وقال: [المتقارب]
835 - وَأَظْعَنُ بِالرُّمْحِ شَطْرَ المُلُو ... كِ ... ... ... ... ... ... . .
وقال: [البسيط]
836 - إِنَّ العَسِيرَ بِهَا دَاءٌ يُخَامِرُوهَا ... وَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ
كل ذلك بمعنى: «نحو» و «تلقاء» [فعلى هذا المراد الجهة، وهو قول جمهور المفسّرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين، واختار الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه.
وقرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام.
قال القرطبي: وهو في حرف ابن مسعود: «تِلْقَاء المسجد الحرام» ، وقال الجبائي: المراد من التشطير هاهنا وسط المسجد، ومنتصفه؛ لأن الشطر هو النصف، والكعبة لما كانت واقعة في نصف المسجد حسن أن يقول: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} يعني: النصف من كل جهة، كأنه عبارة عن بُقْعة الكعبة، وهذا اختيار القاضي، ويدل عليه وجهان:
الأول: أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لم تنفع صلاته.
الثاني: لو فسرنا الشرط بالجانب لم يَبْق لذكر الشطر مزيد فائدة؛ لأنك لو قلت: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} لحصلت الفائدة المطلوبة.
وإذا فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة] .
ويقال: شَطر: بعد، ومنه: الشّاطر، وهو الشّاب البعيد من الجيران الغائب عن منزله، ويقال: شَطَر شُطُوراً.
والشَّطِيرُ: البعيد، ومنه: منزل شَطِيرٌ، وشطر إليه أي: أقبل.
وقال الراغب: وصار يعبر بالشّاطر عن البعيد، وجمعه: شُطُرٌ، والشاطر أيضاً لمن يتباعد من الحق، وجمعه شُطَّارٌ.(3/36)
[فصل في الكلام على المسجد الحرام
قال الأزرقي: ذرع المسجد الحرام مقصراً مائة ألف وعشرون ألف ذِرَاع، وعدد أساطينه من شقّه الشَّرْقي: مائة وثلاث أُسْطُوَانات. ومن شقّه الغربي: مائة وخمس أُسْطُوانات، ومن شقّه الشّامي: مائة وخمس وثلاثون أسطوانة، ومن شقّه اليمنى: مائة وإحدى وأربعون أسطوانة.
وذرع ما بين كل أُسطوانتين ستة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً.
وللمسجد الحرام ثلاثة وعشرون باباً، وعدد شُرُفاته مائتا شرفه واثنان وسبعون شرفة ونصف شرفة، ويطلب المسجد الحرام، وَيُرَاد به الكعبة.
قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} .
ويطلب ويراد به المسجد معها.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ» إلى آخره، ويطلق ويراد به «مَكّة» كلها، وقال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] قال المفسرون: كان الإسراء من بيت أُمِّ هانئ بنت أبي طالب.
ويطلق ويراد به «مكة» كلها، قال سبحانه وتعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} [البقرة: 196] .
قال البعض: حاضروا المسجد الحرام من كان منه دون مسافة نفر.
وقال تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] ، هل تعتبر هذه المسافة من نفس «مكة» أو من طرف الحرم؟ والأصح أنها من طرف الحرم] .
فصل في المراد بالمسجد الحرام
اختلفوا في المراد من المسجد الحرام.
روي عن ابن عباس، أنه قال: البيت قِبْلة لأهل المسجد، والمسجد قِبْلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك رَضِيَ اللهُ عَنْه.(3/37)
وقال آخرون: القِبْلة هي الكعبة، والدليل عليه ما أخرج في «الصحيحين» عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، قال: أخبرني أسامة بن زيد، قال: إنه لمّا دخل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البيت دعا في نَوَاحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج منه، فلما خرج صلى ركعتين في قُبُل الكعبة، وقال: هذه القبلة.
قال القفال: وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القِبْلة إلى الكعبة.
وفي خبر البراء بن عازب: ثم صرف إلى الكعبة، وكان يحبّ أن يتوجذه إلى الكعبة.
وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء: فأتاهم أتٍ فقال: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حول إلى الكعبة.
وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس: جاء منادي رسول الله، فنادى أن القبلة حولت إلى الكعبة. هكذا عامة الروايات.
وقال آخرون: بل المراد المسجد الحرام الحرمُ كلّه، قالوا: لأن الكلام يجب إجراؤه على ظاهر لفظه، إلاّ إذا منع منه مانع.
وقال آخرون: المراد من المسجد الحرام الحرمُ كلّه، والدليل عليه قوله تعالى {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] وهو - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما أسري به خارج المسجد، فدلّ هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام.
وقوله تعالى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ} هنا وجهان:
أظهرهما: أنها شرطية، وشرط كونها كذلك زيادة «ما» بعدها خلافاً للقراء ف «كنتم» في محلّ جزم بها، و «فولُّوا» جوابها، وتكون هي منصوبة على الظرفية ب «كنتم» فتكون هي عاملة فيه الجزم، وهو عامل فيها النصب نحو: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [الإسراء: 110] .
واعلم أن «حَيْثُ» من الأسماء اللازمة للإضافة فالجملة التي بعدها كان القياس يقتضي أن تكون في محلّ خفض بها، ولكن منع من ذلك مانع، وهو كونها صارت من عوامل الأفعال.
قال أبو حيان: وحيث هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة، فهي مقتضية للخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال والإضافة موضحة لما أضيف، كما أن الصلة موضحة، فينافي اسم الشرط؛ لأن اسم(3/38)
الشرط مبهم، فإذا وصلت ب «ما» زال منها معنى الإضافة، وضمنت معنى الشرط وجُوزِيَ بها، وصارت من عوامل الأفعال.
والثاني: أنها ظرف غير مضمن معنى الشرط، والناصب له قوله: «فولّوا» قاله أبو البقاء، وليس بشيء، لأنه متى زيدت عليها «ما» وجب تضمّنها معنى الشرط. وأصل «ولّوا» : وليوا، فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان فحذف أولهما، وهو الياء وضم ما قبله ليجانس الضمير، فوزنه «فعوا» .
وقوله: «شَطْرَهُ» فيه القولان، وهما: إما المفعول به، وإما الظرفية كما تقدم.
فصل في الصلاة في المسجد الحرام
قال صاحب التهذيب: الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يتسحب أن يقف الإمام خلف المقام، والقوم يقفون مستدبرين البيت، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز، فلو امتدّ الصف في المسجد، فإنه لا تصحّ صلاة من خرج عن مُحاذاة الكعبة.
وعند أبي حنيفة تصحّ؛ لأن عنده الجهة كافية. وحجة الشّافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه:
القرآن والخبر والقياس.
أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية، وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه، وجانب الشيء هو الذي يكون محاذياً له، وواقعاً في سَمْته، والدليل عليه أنه لو كان كل واحد منهما إلى جانب المشرق، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذياً لوجه الآخرن لا يقال: إنه ولّى وجهه إلى جانب عمرو، فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب.
وأما الخبر فما روينا أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قِبْلة الكعبة، وقال: «هَذِهِ القِبْلَةُ»
وهذه الكلمة تفيد الحصر، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة، وكذلك سائر الأخبار التي رَوَيْنَاها في أن القبلة هي الكعبة.
وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تعظيم الكعبة أمر بلغ التواتر، والصلاة من أعظم شعائر الدين، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة مما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة، فوجب أن يكون مشروعاً، ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مَشْكُوك، والأَوْلَى رعاية الاحتياط في الصلاة، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة.
واحتج ابو حنيفة بظاهر الآية؛ لأنه - تعالى - أوجب على المكلف أن يولّي وجهه إلى جانبه، فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيهن فقد أتى بما أمر به.(3/39)
سواء كان مستقبلاً الكعبة أم لا، فوجب أن يخرج على العهدة.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ»
قال أصحاب الشافعي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ليس المراد من هذا الحديث أن كلّ ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة؛ لأن جانب القُطب الشمالي يصدق عليه ذلك، وهو بالاتفاق ليس بقبلة، بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين، وغرب معين قبلة، ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي، وبين المغرب الصيفي، فإن ذلك قبلة، وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خطّ الاستواء بمقدار الميل، والذي بينهما هو سَمْت «مكة» .
قالوا: فهذا الحديث بان يدلعلى مذهبنا أَوْلى بالدلالة على مذهبكم، أما فعل الضحابة فمن وجهين:
الأول: ان أهل مسجد «قبال» كانوا في صلاة الصبح ب «المدينة» مستقبلين لبيت المقدس، مستدبرين للكعبة؛ لأن «المدينة» بينهما.
فقيل لهم: ألا إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة، فاستداروا في أثناء الصَّلاة من غير طَلَبِ دلالةلة، ولم ينكر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليهم، وسمى مسجدهم ب «ذي القبلتين» ومقابلة العين من المدينة إلى «مكة» لا تعرف إلا بأدلّة هندسية يطول النظر فيها، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل؟
الثاني: أن الناس من عهد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا قط مهندساً عند تسوية المحراب، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.
وأما القياس فمن وجوه:
الأول: لو كان استقبال عين الكعبة واجباً، إما علماً أو ظنّاً، وجب ألاّ تصح صلاة أحد قط؛ لأنه إذا كان مُحَاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعاً، فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في مُحَاذات هذا المقدار، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في مُحَاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير.
ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب، والنادر ملحق به، فوجب ألاَّ تصح(3/40)
صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في مُحَاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في مُحَاذاتها، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة معتبرة.
فإن قيل: الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة، فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة، والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائئرة إلا أن الدائرة إذا صَغُرت صغر التَّقَوُّس والانحناء في جميعها، وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسمها، بل نلى كل قطعة منها شبيهاً بالخطّ المستقيم، فلا جرم صحت الجماعة بصفّ طويل في المشرق والمغرب يزيد طولاه على أضعاف البيت، والكلّ يسمون متوجهين إلى عين الكعبة.
قلنا: هَبْ أن الأمر على ما ذكرتموه، ولكن القطعة من الدائرة العظيمة، وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في احس، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنيةً في نفسها؛ لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة، فحينئذ تكون الدَّائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتّصف بعضها ببعض، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطّاً مستقيماً، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منها مستقبلاً لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على خط مستقيم، بل إذ حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلاَّ أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس ألبتة، لا يمكن أن يكون في محلّ التكليف، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلا بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أو لا؟
فلو كان استقبال عين الكعبة شرطاً لكان حصول هذا الشرط مجهولاً للكلّ والشّك في حصول الشرط يقتضي الشَّك في حصول المشروط، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكّاً في صحة صلاته، وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العُهْدَة ألبتة.
وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علماً ولا ظنّاً، وهذا كلام بيّن.
الثاني: أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لا سبيل إليه إلاّ بالدلالة الهندسية، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجباً على كل واحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.
فإن قيل: عندنا استقبال عين الجهة واجب ظنّاً لا يقيناً، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقيناً لا ظنّاً.
قلنا: لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لكان القادر على تحصيل اليقين، لا يجوز له الاكتفاء بالظن، والقادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية، فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.(3/41)
الثالث: لو كان استقبال العين واجباً إام علماً أو ظنّاً، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الأمارات، وما لا يتأدّى الواجب إلاَّ به فهو واجب، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الأمارات فرض عَيْن على كل واحد من المكلفين، ولما لم يكن كذلك علمنا أان استقبال العين غير واجب.
فصل في وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة
دلّ قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} على وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة في الصلاة وغيرها، ويؤيده قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «خَيْرُ المَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ القِبْلَةُ» خرج منه الصلاة حال المُسَايفة، والخوف، والمطلوب والخائف والهارب من العدود، ويبقى فيما عداه على مقتضى الدليل.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه} تكرار لقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} .
فالجواب: أن هذا ليس بتَكْرَار، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} خطاب مع الرسول - عليه السلام - لا مع الأمة.
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه} خطاب مع الكل.
وثانيهما: أن المراد بالأولى مخاطبتهم، وهم ب «المدينة» خاصة، وقد كان من الجائز لو وقع الاقتصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل «المدينة» خاصة، فبيّن الله تعالى أنهم أينما صلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة.
[قوله تعالى: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب} .
قال السُّدٍّي: هم اليهود خاصة، والكتاب: التوراة.
وقال غيره: أحبار اليهود، وعلماء النصارى؛ لعموم اللفظ، والكتاب التوراة والإنجيل.
فلا بد أن يكون عدداً قليلاً؛ لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان] .
قوله تعالى: «أَنَّهُ الحَقُّ» يحتمل أن تكون «أن» واسمها وخبرها سادّة مسدّ المفعولين ل «يعلمون» عند الجمهور، ومسدّ أحدهما عند الأخفش، والثاني محذوف على أنها تتعدى لاثنين، وأن تكون سادّة مسد مفعول واحد على أنها بمعنى العِرْفان، وفي الضمير ثلاثة أقوال:(3/42)
أحدها: يعود على التولّي المدلول عليه بقوله: «فولّوا» .
والثاني: على الشطر.
والثالث: على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، [أي: يعلمون أن الرسول مع شرعه وبنوّته حقّ] ويكون على هذا التفاتاً من خطابه بقوله: «فلنولِّينَّك» إلى الغيبة.
[قوله تعالى: «من ربهم» متعلب بمحذوف على أنه حال من الحق، أي كائناً من ربهم] .
فصل في كيفية معرفة أهل الكتاب
اختلفوا في كيفية معرفتهم فذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أن قوماً من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول، وخبر القبلة، وأنه يصلي إلى القبلتين.
وثانيها: أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله - تعالى - قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
وثالثها: أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما ظهر عليه من المعجزات، ومتى علموا نبوته، فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق، فكان هذا التحويل حقّاً.
قوله تعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} تقدم معناه.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «تعملون» بالتاء على الخطاب للمسلمين وهو الظاهر أو ل «للذين» على الالتفات تحريكاً لهم وتنشيطاً، والباقون بالغيبة ردّاً على الذين أوتوا الكتاب، أو ردّاً على المؤمنين، ويكون التفاتاً من خطابهم بقوله: «وجوهكم - كنتم» فإن جعلناه خطاباً للمسلمين، فهو وعد لهم، وبشارة أي: لا يخفى عليَّ جدّكم واجتهادكم في قَبُول الدين، فلا أخل بثوابكم.
وإن جعلناه كلاماً مع اليهود، فهو وعيد وتهديد لهم، ويحتمل أيضاً أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم، وإن لم يعجلها لهم، كقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42] .(3/43)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قوله تعالى: {وَلِئَنْ أَتَيْتَ} فيه قولان:(3/43)
أحدهما: قول سيبويه وهو أن «اللام» هي الموطّئة للقسم المحذوف، و «إن» شرطية، فقد اجتمع شرط وقسم، وسبق القسمن فالجواب له إذ لم يتقدمهما ذو خبر.
فلذلك جاء الجواب للقسم ب «ما» النافية وما بعدها، وحذف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مسده، ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً؛ لأنه متى حذف الجواب وجب مضيّ فعل الشرط إلا في ضرورة، و «تَبِعُوا» وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى أي: ما يتبعون لأن الشرط قيد في الجملة والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي.
الثاني: وهو قول الفراء، وينقل أيضاً عن الأخفش والزجاج أن «إن» بمعنى «لو» ، ولذلك كان «ما» في الجواب، وجعل «ما تَبِعُوا» جواباً ل «إن» لأنها بمعنى «لو» .
أما إذا لم تكن بمعناها، فلا تجاب ب «ما» وحدها، بل لا بد من الفاء، تقول: إن تزرني فما أزورك.
ولا يجيز الفراء: «ما أزورك» بغير فاء
وقال ابن عطية: وجاء جواب «لئن» كجواب «لو» ، وهي ضدها في أنَّ «لو» تطلب المضي والوقوع، و «إنْ» تطلب الاستقبال؛ لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم، فالجواب إنما هو للقسم؛ لأن أحد الحرفين يقع موضع الآخر هذا قول سيبويه.
قال أبو حيان: هذا فيه تثبيج، وعدم نصّ على المراد؛ لأن أوله يقتضي أن الجواب ل «إن» ، وقوله بعد: الجواب للقسم يدل على أنه ليس ل «إن» ، وتعليله بقوله: لأن أحد الحرين يقع موقع الآخر لا يصلح علة لكون «ما تَبِعُوا» جواباً للقسم، بل لكونه جواباً ل «إن» .
وقوله: «قول سيبويه» ليس في كتاب سيبويه ذلك، إنما فيه أن «ما تبعوا» جواب القَسَم، ووقع فيه الماضي موقع المستقبل.(3/44)
قال سيبويه وقالوا: لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل.
وتلّخص مما تقدم أن قوله: «مَا تَبِعُوا» فيه قولان:
أحدهما: أنه جواب للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط، ولذلك لم يقترن بالفاء.
والثاني: أنه جواب ل «إن» إجراء لها مجرى «لو» .
وقال أبو البقاء: «ما تَبِعُوا» أي: لا يتبعوا فهو ماض في معنى المستقبل، ودخلت «ما» حملاً على لفظ الماضي، وحذفت الفاء في الجواب؛ لأن فعل الشرط ماض.
وقال الفراء: «إِنْ» هنا بمعنى «لو» .
وهذا من أبي البقاء يؤذن أن الجواب للشرط وإنما حذفت الفاء لكون فعل الشرط ماضياً، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه خالف البصريين والكوفيين بهذه المَقَالَة.
فصل في المراد بالآية.
قال الأصم: المراد من الآية علماؤهم الذين أخبر عنهم في الآية الكريمة المتقدمة بقوله تعالى: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 144] ؛ لأن الآية الكريمة لا تتناول العوام، ولو كان المراد الكل لامتنع الكِتْمان؛ لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكِتْمَان، ولأنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً؛ لان كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وتبع قبلته.
وقال آخرون: بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأن الذين أوتوا الكتاب صيغة عموم، فيتناول الكل.
فصل في لفظ «آية»
«الآية» : وزنها «فَعَلَة» أصلها: أَيَيَة «، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها.
والآية: الحُجّة والعلامة، وآية الرجل: شخصه، وخرج القول بآيتهم أي: جماعتهم.
وسميت آية القرآن بذلك؛ لأنها جماعة حروف. وقيل: لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها.
وقيل: لانها دالة على انقطاعها عن المخلوقين، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى.
فصل في سبب نزول هذه الآية
روي أن يهود» المدينة «، ونصارى» نجران «قالوا للرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد(3/45)
وبجل وعظم: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال ابن الخطيب:» والأقرب أان هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة، بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة «.
قوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعِ قِبْلَتَهُمْ} .
» ما «تحتمل الوجهين أعني: كونها حجازية، أو تميمية: فعلى الأول يكون» أنت «مرفوعاً بها، و» بتابع «في محلّ نصب.
وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداء، و» بتابع «في محلّ رفع، وهذه الجملة معطوفة على جملة الشرط، وجوابه لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله؛ لأن نفس تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم، وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} من وجوه:
أحدها: كونها اسمية متكررة فيها الاسم، مؤكد نفيها بالباء.
ووحّد القبلة وإن كانت مثناة: لأن لليهود قبلة، وللنصارى قبلة أخرى لأحد وجهين:
إما لاشتراكهما في البطلان صارا قبلة واحدة، وإما لأجل المقابلة في اللفظ؛ لأن قبله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} .
وقرئ: {بِتَابِعٍ قِبْلَتِهِمْ} بالإضافة تخفيفاً؛ لأن اسم الفاعل المستكمل لشروط العمل يجوز فيه الوجهان.
واختلف في هذه الجملة: هل المراد بها النهي أي: لا تتبع قبلتهم، ومعناه: الدوام على ما أنت عليه؛ لأن معصوم من اتباع قبلتهم، أو الإخبار المَحْض بنفي الأتبّاع، والمعنى أن هذه القبلة لا تصير مَنْسوخة، أو قطع رجاء أهل الكتاب أن يعود إلى قبلتهم؟ قولان مشهوران.
قوله: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} .
قال القفال: هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال.
أما على الحال فمن وجوه:
الأول: أنهم ليسوا مجتمعين على قِبْلَةٍ واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها.
الثاني: أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة، فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك، مع أنهم فيما بينهما مختلفون.
الثالث: أن هذا إبطال لقولهم: إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب؛ لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث.(3/46)
وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر، لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان، فلم يثبت عندنا أن أحداً منهم تبع قبلة الآخر، فالخلف غير لازم.
وإن حملناه على الكل قلنا: إنه عاّ دخله التخصيص.
قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ} [البقرة: 120] كقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ} .
وقوله: «إِنَّكَ» جواب القسم، وجواب الشرط محذوف كما تقدم في نظيره.
قال أبو حيان: لا يقال: غنه يكون جواباً لهما لاتمناع ذلك لفظاً ومعنى.
أما المعنى فلأن الاقتضاء مختلف، فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه؛ لأن القَسَم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له.
وأام اللفظ فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم لم تحتج إلى مزيد رابط، فإذا كانت جواب شرط احتاجت إلى مزيد رابط وهو الفاء، ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها، فلذلك امتنع أن تكون جواباً لهما معاً.
فصل في الهوى
الهوى المقصور: هو ما يميل إليه الطبع [وقيل: هو شهوة نتجت عن شبهة، والممدود هو الجو] .؟
اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب.
قال بعضهم: الرسول.
وقال بعضهم: الرسول وغيره.
وقال آخرون: بل غيره؛ لأنه - تعالى - عرف أن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يفعل ذلك، فلا يجوزأن يخصّه بهذا الخطاب، وهذا خطأ من وجوه:
أحدها: أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب ألا ينهاه عنه، لكان ما علم أن يفعله وجب ألا يأمره به، وذلك يقتضي ألا يكون النبي مأموراً بشيء، ولا منهيّاً عن شيء، وإنه بالاتفاق باطل.
وثانيها: لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنه فلما كان ذلك الاحتراز(3/47)
مشروطاً بذلك النهي والتحذير، فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير.
وثالثها: أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذاك في العقل، فيكون الغرض منه التأكيد، ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قرّرها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا.
ورابعها: قوله تعالى في حق الملائكة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] مع أنه - تعالى - أخبر عن عصمتهم في قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وقال في حق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] .
والإجماع على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما أشرك، وما مال إليه، وقال {يا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] وقال: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] ، وقوله: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] .
فثبت بما قلنا أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مَنْهي عن ذلك وأن غيره أيضاً منهي عنه؛ لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواصّ الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
بقي أن يقال: فلم خصه بالنهي دون غيره؟
فنقول فيه وجوه:
أحدها: أن كل من كان نعم الله عليه أكثر، كان صدور الذنب منه أقبح، فكان أَوْلَى بالتخصيص.
وثانيها: أن مزيد الحبّ يقتضي التخصيص بمزيد التحذير.
وثالها: أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم، فزجره عن أمر بحضرة جماعه أولاده، فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن ارتكبوه، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية.
القول الثاني: أن قوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ} [البقرة: 120] ليس المراد منه إن اتبع أهواءهم في كل الأمور، فلعله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم، مثل ترك المُخَاشنة في القول والغِلْظَة في الكلام، طمعاً منه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في استمالتهم، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك القدر أيضاً، وآيَسَهُ منهم بالكلية على ما قال: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74] .
القول الثالث: أن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا ان المراد منه غيره وهذا كما أنك إذا عاتبت [إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له: لو فعلت مرة أخرى مثل] هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً، فكان الغرض منه زجر العبد.(3/48)
قوله تعالى: {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} .
إنه - تعالى - لم يرد بذلك أنه نفس العلم، بل المراد الدَّلائل والآيات والمعجزات؛ لأن ذلك من طرق العلم، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثّر، والغرض من هذا الاستعارة هو المبالغة [والتعظيم في] أمر النبوات والمعجزات بأنه سمّاه باسم العلم، وذلك ينبّهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة، ودلّت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجّهه على غيرهم.
[قوله تعالى: {إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين} أي إِنّك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم، وظلمهم أنفسهم] .
و «إذاً» حرف جواب وجزاء بنص سييبويه، وتنصب المضارع بثلاثة شروط:
أن تكون صدراً، وألا يفصل بينها وبين الفعل بغير الظرف والقسم، وألا يكون الفعل حالاً، ودخلت هنا بين اسم «إن» وخبرها لتقرير النسبة بينهما وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر، فلم تتقدم، لأنه سبق قسم وشرط والجواب هو للقسم، فلو تقدمت لتوهّم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم تتأخر لئلا تفوت مناسبة الفواصل رؤوس الآي.
قال أبو حيان: وتحرير معنى «إذاً» صعب اضطرب الناس في معناها، وفي فهم كلام سيبويه فيها، وهو أن معناها الجواب والجزاء.
قال: والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان متسبباً عما قبلاه فهي في ذلك على وجهين:
أحدهما: أن تدلّ على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها، مثال ذلك: أزورك فتقول: إذاً أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك، وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها شروط مذكورة في النحو.
الوجه الثاني: أن تكون مؤكّدة لجواب ارتبط بمقدم، أو مبّهة على مسبب حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها والعامل يعتمد عيله، وذلك، نحو: «إن تأتني إِذَاً آتك» ، و «والله إِذاً لأفعلن» فلو أسقطت «إِذاً» لفهم الارتباط، ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو: «أزورك» فتقول: «إِذاً أنا أكرمك» ، وجاز توسطها نحو: «أنا إِذاً أكرمك» وتأخرها، وإذا تقرر هذا فجاءت «إذاً» في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم، وإنما(3/49)
قررت معناها هنا؛ لأنها كثيرة الدور في القرآن، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه انتهى كلامه.
واعلم أ، ها إذا تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها، وهو الأكثر، وهي مركبة من «همزة وذال ونون» ، وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب قلبوها في الوقف ألفاً، وكتبوها في الكتاب على ذلك، وهذا نهاية القول فيها.
وجاء في هذا المكان «مِنْ بِعْدِ مَا جَاءَكَ» وقال قبل هذا: {بَعْدَ الذي جَآءَكَ} [البقرة: 120] وفي «الرعد» : {بَعْدَ مَا جَآءَكَ} [الرعد: 37] فلم يأت ب «من» الجارة إلا هنا، واختص موضعاً ب «الذين» ، وموضعين ب «ما» ، فما الحكمة في ذلك؟
والجواب: ما ذكره بعضهم وهو أن «الذي» أخص و «ما» أشد إبهاماً، فحيث أتي ب «الذي» أشير به إلى العلم بصحّة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملّتي اليهود والنصارى، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه؛ لأنه علم بكل أصول الدين، وحيث أتي بلفظ «ما» أشير به إلى العلم [بركنين] من أركان الدين، أحدهما: القبلة، والأخر: بعض الكتاب؛ لأنه أشار إلى قوله: {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] .
قال: وأما دخول «: من» ففائدته ظاهرة، وهي بيان أول الوقت الذي وجب عليه - عليه السلام - أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم، والذي يقال في هذا: إنه من باب التنوع من البلاغة.(3/50)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
في «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ» : ستة أوجه:
ظهرها: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر قوله: «يعرفونه» .
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين آتيناهم.
الثالث: النصب بإضمار «أعني» .
الرابع: الجر على البدل من «الظَّالمين» .
الخامس: على الصفة للظالمين.
السادس: النصب على البدل من «الَّذين أوتوا الكتاب» في الآية قبلها.
قوله تعالى: «يَعْرِفُونَهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر «الذين آتيناهم» كما تقدم في أحد الأوجه المذكورة في «الَّذِينَ آتيناهم» .
الثاني: أنه نصب على الحال على بقية الأقوال المذكورة.(3/50)
وفي صاحب الحال وجهان:
أحدهما: المفعول الأول ل «آتيناهم» .
والثاني: المفعول الثاني وهو الكتاب؛ لأن في «يعرفونه» ضميرين يعودان عليهما، والضمير في «يعرفونه» فيه أقوال:
أحدها: أنه يعود على «الحق» الذي هو التحول، وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وقتادة والربيع وابن زيد.
الثاني: على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظّم؛ أي: يعرفونه معرفة جليّة كما يعرفون أبناءهم لا تشتبه أبناؤهم وأبناء غيرهم.
روي عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه سأل عبد الله بن سلام - رضي الله تعالى عنه - عن رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: أنا أعلم به مني بابني، قال: ولم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي، وأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبَّل عمر رأسه.
وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر؛ لأن الكلام يدل عليه، ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام.
قالوا: وهذا القول أولى من وجوه:
أحدها: أن الضمير إنام يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم في قوله: {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} [البقرة: 145] .
والمراد من ذلك العلم: النبوة، فكأنه تعالى قال: إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة.
وثانيها: أن الله - تعالى - ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القِبْلة مذكور في التوراة والإنجيل، واخبر فيه ان نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم مذكورة في التوراة والإنجيل، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوّة أَوْلى.
وثالثها: أن المعجزات لا تدلّ أوّل دلالتها إلا على صدق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظّم، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.
وعلى هذا القول أسئلة.
السؤال الأول: أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من امر القبلة.(3/51)
والجواب: أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عن اتْباع اليهود والنصارى بقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين} [البقرة: 145] أخبر المؤمنين بحاله - صلوات الله وسلامه عليه - في هذه الآية فقال: العلماء يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً، وما جاء به وصدقه ودعوته وقِبْلَتَه لا يشكّون فيه كما لا يشكون في أبنائهم.
السؤال الثاني: هذه الآية نظيرها قوله تعالى: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] وقال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6] إلا أنّا نقول: من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل: إما أن يكون قد أتى مشتملاً على التفصيل التام، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخِلْقة والنَّسَب والقبيلة، أو هذا الوصف ما أتى من هذا النوع من التفصيل، فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين، من البلد المعين، من القبيلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب؛ لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك.
وأما القسم الثاني: فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنا نقول: هَبْ أن التوراة اشتملت على أن رجلاً من العرب سيكون نبيّاً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حَدّ اليقين، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوّة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والجواب: أن هذا الإشكال إنما يتوجذه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه، ونحن لا نقول به، بل نقول: إنه ادّعى النبوة، وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً، فهذا برهان، والبرهان يفيد اليقين، فلا جرم كان العلم بنبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقوى وأظهر من العلم ببنوّة الأبناء، وأبوة الآباء.
السؤال الثالث: فعلى هذا الوجه الذي قرّرتموه كان العلم بنبوة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - علماً برهانياً، غير محتمل للغَلَطِ.
أما العلم بأن هذا ابْني فذلك ليس علماً يقينياً، بل ظن ومحتمل للغلط، فلم شبه اليقين بالظن؟
والجواب: ليس المراد أن العلم بنبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يشبه العلم ببنوّة الأبناء، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم، فكما أن الأب يعرض شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره فكذا هاهنا، وعند هذا يستقيم التشبيه، لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري، وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة.
السؤال الرابع: لم خص الأبناء بالذكر دون البنات.(3/52)
الجواب: لأن الذكور أعرف وأشهر، وهم بصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق.
والضمير في «يَعْرِفُونَه» يعود على القرآن الكريم.
وقيل: على العلم.
وقيل: على البيت الحرام.
[ويعود الضمير إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم. وهو رأي الزمخشري، واختاره الزَّجاج وغيره، وقال أبو حيان: هذا من باب الالتفات من الخطاب في قوله: «فَوَلِّ وَجْهَكَ» إلى الغيبة] .
قوله: «كَمَا يَعْرِفُونَ» «الكاف» في محل نصب إما على كونها نَعْتاً لمصدر محذوف أي: معرفة كائنة مثل معرفتهم أبناءهم، أو في موضع نصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المعرفة المحذوف، التقدير: يعرفونه معرفة مُمَاثلة لعرفانهم، وهذا مذهب سيبويه وتقدم تحقيق هذا. و «ما» مصدرية لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر كما تقدم تحقيقه.
قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] .
اعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول، فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه، ومنهم من بقي على كفره، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره، لا جرم قال الله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فوصف البعض بذلك، ودلّ بقوله] : «» على سبيل الذّم، على أنّ كتمان الحقّ في الدين محظور إذا أمكن إظهاره، واختلفوا في المَكْتُوم، فقيل: أمر محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: أمر القبلة كما تقدم.
قوله تعالى: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» جملة اسمية في محلّ نصب على الحال من فاعل «يكتمون» ، والأقرب فيها أن تكون حالاً مؤكدة؛ لأن لفظ «يَكْتُمون الحَقّ» يدل على علمه، إذ الكتم إخفاء ما يعلم وقيل: متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب، أي: وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق، فتكون إذ ذاك حالاً مبينة، وهذا ظاهر في أن كفرهم كان عِنَاداً، ومثله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] .
قوله تعالى: «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده، وفي الألف واللام حينئذ وجهان:
أحدهما: أن تكون للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه الرسول - عليه السلام - أو إلى الحق الذي في قوله: «يَكْتُمُونَ الْحَقَّ» أي: هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره.(3/53)
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق من ربك، والضمير يعود على الحق المكتوم أي: ما كتموه هو الحق.
الثالث: أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره: الحق من ربك يعرفونه، والجار والمجرور على هَذَين القولين في محلّ نصب على الحال من «الحَقّ» ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر في الوجه الثاني.
وقرأ علي بن أبي طالب: «» نصباً، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على البدل من الحق المكتوم، قاله الزمخشري.
الثاني: أن يكون منصوباً بإضمار «الذم» ، ويدل عليه الخطاب بعده في قوله: «لَلاَ تَكُونَنَّ» .
الثالث: أنه يكون منصوباً ب «يعلمون» قبله، وذكر هذين الوجهين ابن عطية، وعلى هذا الوجه الأخير يكون مما وقع فيه الظاهر موضع المضمر، أي: وهم يعلمونه كائناً من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل نحو: [الخفيف]
737 - لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن نفس الصفة، فلذلك جاء التنزيل عليه: نحو {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} [الأنعام: 35] دُونَ: لا تمتر ولا تجهل ونحوه وتقرير ذلك أن قوله: «لا تكن ظالماً» نهي عن الكون بهذه الصفة، والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة؛ إذ النهي عن الكون على صفة يدلّ على عموم الأكوان المستقبلة عن تلك الصفة، والمعنى لا تظلم في كل أكوانك، أي: في كل فرد فرد من أكوانك فلا يمرّ بك وقت يوجد منك فيه ظلم، فيصير كأن فيه نصاً على سائر الأكوان، بخلاف: لا تظلم، فإنه يستلزم الأكوان، وفرق بين ما يدلّ دلالة بالنص وبين ما يدل دلالة بالاستلزام و «الامتراء» : افتعال من المِرْيَة وهي الشك، ومنه المراء. قال: [الطويل]
838 - فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْمِرَاءَ فَإِنَّهُ ... إِلَى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وَلِلشَّرِّ جَالِبُ(3/54)
و «ماريته» : جادلته وشاكلته فيما يدعيه، و «افتعل» فيه بمعنى «تفاعل» ، يقال: تماروا في كذا، وامتروا فيه نحو: تجاوروا، واجتوروا.
وقال الراغب: المِرْيَة: التردّد في الأمر، وهي أخَصُّ من الشَّك، والامتراء والمماراة المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية، وأصله من مَرَيْتُ النَّاقة إذا مَسحتَ ضَرْعَها للحَلْب.
ففرق بين المِرْية والشَّك كما ترى، وهذا كما تقدم له الفرق بين الرّيب والشَّك، وانشد الطبري قول الأعشى: [الطويل]
839 - تَدُرُّ عَلى أَسْؤُقِ المُمْتَرِي ... نَ رَكَضاً إِذَا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنْ
شاهداً على أن الممترين الشاكون.
قال: ووهم في ذلك؛ لأن أبا عبيدة وغيره قالوا: الممترون في البيت هم الذين يمرُّون الخيل بأرجلهم هَمْزاً لتجري كأنهم يَتَحلبون الجري منها.
[فصل فيمن نزلت فيه الآية
قوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} قال الحسن: من الذين علموا صحة نبوتك وإن بعضهم عاندوكم.
وقيل: بل يرجع إلى أمر القبلة.
وقيل: بل يرجع إلى صحة نبوته وشرعه، وهو أقرب؛ لأن أقرب مذكور إليه قوله: «من ربك» ؛ وظاهره يقتضي النبوة، فوجب أن يرجع إليه، ونهيه عن الامتراء لا يدلّ على أنه كان شاكاً فيه كما تقدم القول في هذه المسألة] .(3/55)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
جمهور القراء على تنوين «كلّ» ، وتنوينهُ للعوض من المضاف إيله، والجار خبر مقدم، و «وِجْهَة» مبتدأ مؤخر.
واختلف في المضاف إليه «كل» المحذوف.
فقيل: تقديره: ولكل طائفة من أهل الأديان [يعني: أن الله يفعل ما يعلمه صلاحاً، فالجهات من الله تعالى وهو الذي ولَّى وجوه عباده إليها فانقادوا لأمر الله تعالى، فإن انقيادكم خيرات لكم، ولا تلتفتوا إلى طعن هؤلاء، وقولهم: «ما ولاّهم عن قبلتهم أي التي كانوا عليها» فإن الله يجمعهم وإياكم في القيامة] .(3/55)
وقيل: ولكل أهل موضع من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً ووراء وقدّام [فهي كجهة واحدة، ولا يخفى على الله نيّاتهم؛ فهو يحشرهم جميعاً ويثيبهم على أعمالهم] . وفي «وجهة» قولان:
أحدهما: ويعزى للمبرد، والفارسي، والمازني في أحد قوليه: أنها اسم المكان المتوجه إليه، وعلى هذا يكون إثبات «الواو» قياساً إذ هي غير مصدر.
قال سيبويه ولو بنيت «فِعْلَة» من الوعد لقلت: وعدة، ولو بنيت مصدراً لقلت: عدة.
والثاني: أنه مصدر، ويعزى للمازني، وهو ظاهر كلام سيبويه، فإنه قال بعد ذكر حذف «الواو» من المصادر: «وقد أثبتوا فقالوا: وجهة في الجهة» وعلى هذا يكون إثبات «الواو» شاذَاً مَنْبَهَةٌ على ذلك الأصل المتروك في «عدة» ونحوها، والظاهر أن الذي سوغ إثبات «الواو» وإن كانت مصدراً أنها مصدر جاءت على حذف الزوائد؛ إذ الفعل المسموع من هذه المادة تَوَجَّه واتَّجَهَ، ومصدرهما التوجه والاتجاه، ولم يسمع في فعله: «وَجَهَ يَجِهُ» ك «وعد يَعِدُ» ، وكان الموجب لحذف «الواو» من عدة وزنة الحمل على المضارع لوقوع الواو بين ياء وكسرة، وهنا لم يسمع فيه مضارع يحمل مصدره عليه، فلذلك قلت: إن «وِجْهَة» مصدر على حذف الزوائد ل «توجه» أو «اتجه» ، وقد ألم أبو البقاء بشيء من هذا.
قال القرطبي: الوِجْهَة وزنها فِعْلَة من المُوَاجهة.
والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد، والمراد القِبْلة، أي: أنهم لا يتبعون قبلتك، وأنت لا تتبع قبلتهم، ولك وجهة: إما بحق، وإما بهوى.
فصل في لفظ الوجه
قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ الوجه في القرآن الكريم على أربعة أضرب: الأول: بمعنى الملّة، قال تبارك وتعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} أي: ملّة.
الثاني: بمعنى الإخلاص في العمل، قال تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] أي: أخلصت عملي، ومثله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 122] أي: أخلص عمله لله.
الثالث: بمعنى الرِّضَا، قال تعالى:
{وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] أي: رضاه، ومثله: {واصبر نَفْسَكَ} [الكهف: 28] الآية الكريمة، ومثله: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} [الروم: 29] أي: رضاه.(3/56)
الرابع: الوجه هو الله تعالى كقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] ، ومثله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} [الإنسان: 9] ، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي: إلاّ إياه.
قوله تعالى: «هُوَ مُوَلِّيهَا» جملة مبتدأ وخبر في محلّ رفع؛ لأنها صفة ل «وجهة» [وهي قراءة الجمهور] واختلف في «هو» على قولين:
أحدهما: أنه يعود على لفظ «كلّ» لا على معناها، ولذلك أفرد [قال القرطبي: ولو كان على المعنى لقال: هم مولوها وجوههم فالهاء والألف مفعول أول] . والمفعول الثاني محذوف لفهم المعنى تقديره: هو موليها وجهه أو نفسه، ويؤيد هذا قراءة ابن عامر: «مُوَلاَّها» على ما لم يسم فاعله.
والثاني: أنه يعود على الله - تعالى - أي: الله مولّي القبلة إياه، أي ذلك الفريق.
وقرأ الجمهور: «مُوَليها» على اسم فاعل، وقد تقدم أنه حذف أحد مفعوليه، وقرأ ابن عامر - ويعزى لابن عباس - «مُوَلاَّها» على اسم المفعول، وفيه ضمير مرفوع قائم مقام الفاعل والثاني: هو الضمير المتصل به وهو «ها» العائد على الوجهة.
وقيل: على التولية ذكره أبو البقاء، وعلى هذه القراءة يتعيّن عود «هو» إلى الفريق؛ إذ يستحيل في المعنى عوده على الله تعالى. [ولقراءة ابن عامر معنيان:
أحدهما: ما وليته فقد ولاّك؛ لأن معنى وليته أي: جعلته بحيث يليه، وإذا صار بحيث يلي ذاك، فذاك أيضاً يلي هذا، فإذاً قد يفيد كل واحد منهما الآخر.
فهو كقوله تعالى: {فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] فهذا قول الفراء.
الثاني: «هُوَ مُوَلِّيها» أي: قد زينت لك تلك الجهة أي صارت بحيث تتبعها وترضاها] .
وقرأ بعضهم: «وَلَكُلِّ وجهة» بالإضافة، ويعزى لابن عامر، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها، وهو قول الطبري: أنها خطأ، وهذا ليس بشيء؛ إذ الإقدام على تخطئة ما ثبت عن الأئمة لا يسهل.(3/57)
[قال ابن عطية: وخطأها الطبري وهي متّجهة أي: فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم من هذه وهذه أي: إنما عليكم الطاعة في الجميع وقدم قوله: «ولكلٍّ وجهةٌ» على الأمر في قوله: «فَاسْتَبقوا الخيرات» للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول.
وذكر أبو عمرو الدَّاني هذه القراءة عن ابن عَبَّاس] .
والثاني: وهو قول الزمخشري وأبي البقاء أن «اللام» زائدة في الأصل.
قال الزمخشري: المعنى وكلّ وجهة اللهُ مولّيها، فزيدت «اللام» لتقدم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه.
قال أبو حيان: وهذا فاسد؛ لأن العامل إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور ب «اللام» لا تقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه، لئلا يلزم أحد محذورين، وهما: إما لأنه يكون العامل قوياً ضعيفاً. [وذلك أنه من حيث تعدّى للضمير بنفسه يكون قويّاً ومن حيثُ تعدى للظاهر ب «اللام» يكون ضعيفاً] ، وإما لأنه يصير المتعدي لواحد متعدياً لاثنين، ولذلك تأويل النحويون ما يوهم ذلك وهو قوله: [البسيط] .
840 - هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرآنِ يَدْرُسُهُ ... وَالْمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إِنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ
على أن الضمير في «يدرسه» للمصدر أي: يدرس الدرس لا للقرآن؛ لأن الفعل قد تعدى غليه.
وأام تمثيله بقوله: «لزيد ضربت» ، فليس نظير الآية؛ لأنه لم يتعدّ في هذا المثال إلى ضميرهن ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الاشتغال، فتقدر عاملاً في: «لكل وجهة» يفسره «موليها» ؛ لأن الاسم المشتغل عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرف ينتصب ذلك الاسم بفعل يوافق العامل الظاهر في المعنى، ولا يجوز جر المشتغل عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرف تقول: زيداً مررت به، أي: لابست زيداً مررت به، ولا يجوز: لزيد مررت به.
قال تعالى: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ} [الإنسان: 31] ، وقال:
841 - أَثَعْلَبَةَ الْفَوارِسِ أَمْ رِيَاحاً ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ وَالْخِشَابَا(3/58)
فأتى بالمشتغل عنه منصوباً، وأما تمثيله بقوله: لزيد أبوه ضاربه، فتركيب غير عربي.
الثالث: أن «لكلّ وجهة» متعلق بقوله: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي: فاستبقوا الخيرات لكل وجهة، وإنما قدم على العامل للاهتمام به، كما تقدم المفعول، كا ذكره ابن عطية.
ولا يجوز أن توجه هذه القراءة على أن «لكل وجهة» في موضع المفعول الثاني ل «مولّيها» ، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو «مولّ» ، وهو «ها» ، وتكون عائدة على الطوائف، ويكون التقدير: وكلَّ وجهة اللهُ مولِّي الطوائف أصحاب القِبْلاَت، وزيدت «اللام» في المفعول لتقدمه، ويكون العامل فرعاً؛ لأن النحويين نصُّوا على أنه لا يجوز زيادة «اللام» للتقوية إلا في المتعدي لواحد فقط، و «مولّ» مما يتعدّى لاثنين، فامتنع ذلك فيه، وهذا المانع هو الذي منع من الجواب عن الزمخشري فيما اعترض به أبو حيان عليه من كون الفعل إذا تعدى للظاهر، فلا يتعدى لضميره، وهو أنه كان يمكن أن يجاب عنه بأن الضمير المتصل ب «مول» ليس بضمير المفعول، بل ضمير المصدر وهو التَّولية، يكون المفعول الأول محذوفاً والتقدير: الله مولي التولية كلَّ وجهةٍ أَصْحَابَها، فلما قدم المفعول على العامل قوي ب «اللام» لولا أنهم نصوا على المنع من زيادتها في المتعدي لاثنين وثلاثة.
قوله تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ» «الخيرات» منصوبة على إسقطا حرف الجر، التقدير: إلى الخيرات، كقوله الراعي: [الطويل]
842 - ثَنَائِي عَلَيْكُمْ آلَ حَرْبٍ وَمَنْ يَمِلْ ... سِوَاكُمْ فَإِنِّي مُهْتَدٍ غَيرُ مَائلِ
أي: إلى سواكم، وذلك لأن «استبق» : إما بمعنى سبق المجرد، أو بمعنى: تسابق [لا جائز أن يكون بمعنى: سبق؛ لأن المعنى ليس على اسبقوا الخيرات، فبقي أن يكون بمعنى: تسابق] ولا يتعدى بنفسه.
و «الخيرات» جمع: خيرة، وفيها احتمالان.
أحدهما: أن تكون مخففة من «خَيِّرة» بالتشديد بوزن «فَيْعِلة» نحو: مَيْت في مَيِّت.
والثاني: أن تكون غير مخففة، بل تثبت على «فَعْلَة» بوزن «جفْنَة» ، يقال: رجل خير وامرأة خير، وعلى كلا التقديرين فليسا للتفضيل.
والسبق: الوصول إلى الشيء أولاً، وأصله التقدم في السير، ثم تجوز به في كل ما تقدم(3/59)
فصل في المسابقة إلى الصلاة
من قال: إنَّ الصلاة في أول الوقت أفضل استدل بقوله: «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ» ؛ قال: لأن الصلاة خير لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «خَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلاَةُ» وظاهر الأمر بالسبق للوجوب، فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب.
وأيضاً قوله تعالى: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [الحديد: 21] ومعناه: إلى ما يوجب المغفرة، والصلاة مما يوجب المغفرة، فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة.
وأيضاً قوله تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10 - 11] .
والمراد منه: السابقون في الطاعات، والصلاة من الطاعات، وأيضاً أنه مدح الأنبياء المقدمين بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} [الأنبياء: 90] ، والصلاة من الخيرات، كما بَيّنا.
وأيضاً أنه تعالى ذم إبْليس في ترك المُسَارعة فقال: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] .
وأيضاً قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} [البقرة: 238] والمحافظة لا تحصل إلا بالتَّعْجيل، ليأمن الفوت بالنسيان.
وأيضاً قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه: 84] فثبت أن الاستعجال أولى.
وأيضاً قوله تعالى: {} [الحديد: 10] فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة، وأيضاً ما روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «الصَّلاَةُ في أَوَّلِ الوَقْتِ رَضْوَانُ اللهِ وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللهِ» .
قال الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْه: رضوان الله أحب إلينا من عَفْوه.
قال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: رضوان الله إنما يكون للمحسنين، والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين.
فإن قيل: هذا الاحتجاج يقتضي أن يأثم بالتأخير، وأجمعنا على أنه لا يأثم، فلم يبق(3/60)
إلا أن يكون معناه: أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة، وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله، فكان التأخير موجباً للعفو والرضوان، فكان التأخير أوْلى.
فالجواب: أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل، وذلك لم يقله أحد، وأيضاً عدم المُسَارعة إلى الامتثال يشبه عدم الالتفات، وذلك يقتضي العقاب، إلاّ أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء، وأيضاً أن تفسير أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللهُ عَنْه - يبطل هذا التأويل، [وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه سأل رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصَّلاَةُ لِمِيقَاتِهَا الأَوَّلِ»
وأيضاً قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ وَقَدْ فَاتَهُ مِنْ أَوَّلِ الوَقْتِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ»
وأيضاً إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصَّحابه المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشَّديد بين أهل السُّنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاماً أم عليّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهما، وما ذاك إلا لاتفاهم على ان المُسَابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل.
[وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في خطبة له: «بَادِرُوا بِالأعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَغِلُوا» والصَّلاة من الأعمال الصالحة] .(3/61)
وأيضاً تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها، فوجب أن يكون [الحال في أداء] حقوق الله - تعالى - كذلك لرعاية التعظيم.
وأيضاً المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحصر على الطاعة، والولوع بها، والرغبة فيها وفي التأخير كَسَلٌ عنها، فيكون الأول أَوْلى.
[وأيضاً فإن المبادرة احتياط، لأنه إذا أدَّاها في أوّل الوقت تفرغت ذمته، وإذا أخّرها ربما حصل له شغل، فمنعه من أدائها، فالوجه الذي يحصل به الاحتياط أولى.
فإن قيل: تنتقض هذه الدلائل بالظّهر في شدة الحر، وبما إذا حصل له إدْرَاك الجماعة، أو وجود الماء.
قلنا: التأخير في هذه المواضع لأمور عارضة، والكلام إنما هو في مقتضى الأصل] .
فصل في التغليس في صلاة الفجر
قال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - التَّغْليس في صلاة الفجر أفضل، وهو مذهب أبي بكر وعمر، وقول مالك وأحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهم.
وقال أبو محمد: يستحب أن يدخل فيها بالتّغليس.
واحتج الأولون بما تقدم من الآية، وبما روت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم يصلي الصبح، فينصرف والنساء متلفّعات بِمُرُوطِهِنّ ما يعرفهنّ أحد من الغَلَس.
فإن قيل: كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرون الجماعات، فكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي بالغَلًس كيلا يعرفن.
وهكذا كان عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه يصلي بالغَلَس، ثم لما نُهِين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك.
قلنا: الأصل عدم النسخ، وإن سلم النسخ فالمنسوخ إنما هو حضور النساء لا الصلاة.
وروى أنس عن زيد بن ثابت قال: تسحَّرنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد كم كان قدر ذلك؟ قال: قدر خمسين آية، وهذا يدلّ أيضاً لى التَّغْليس، وروي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غَلَّسَ بالصبح، ثم أسفر مرة، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى.(3/62)
وأيضاً فإن النوم في ذلك الوقت أَطْيب، فيكون تركه أشقّ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لقوله عليه السلام: «أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا» أي: أشقّها.
واحتج أبو حنيفة بوجوه:
أحدها: قوله عليه السلام: «أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ»
وروى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر ب «المزدلفة» فغلس، ثم قال ابن مسعود: ما رأيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاة إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر.
ويروى عن أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه صلى الفجر، فقرأ «آل عمران» ، فقالوا: كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وأيضاً فإن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الانتظار.
وقال عليه السلام: «المُنْتَظِرُ لِلصَّلاةِ كَمَنْ هُوَ في الصَّلاَةِ» ، فمن [أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولاً، ثم بها ثانياً] ، ومن صلاّها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار.
وأيضاً: فإن التنوير يفضي إلى كثرة الجماعة فيكون أَوْلى.
والجواب عن الأول أن الفجر اسم للنور الذي [يتفجر به ظلام] المشرق، فالفجر إنما يكون ضجْراً لوكانت الظلمة باقية في الهواء.
فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجراً.
وأما الإسفار فهو عبارة عن الظهور، يقال: أسفرت المرأة عن وجهها إذا [كشفت عنه] ، إذا ثبت هذا فنقول: ظهر الفَجْر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء، فإن الظالم كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد.
فقوله: «أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ» يجب أن يكون محمولاً على التَّغْليس، أي: كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر [أظهر كان] أكثر ثواباً.
وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر، وهذا معنى قول الشافعي رَضِيَ اللهُ(3/63)
عَنْه عنه: إن الإسفار المذكور في الحديث مَحْمُول على تيقُّن طلوع الفجر، وزوال الشك عنه، والذي يدل على ما قلنا: أن الصلاة في ذلك الوقت أشق، فوجب أن يكون أكثر ثواباً.
وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير، فهو عادة أهل الكسل، وهذا جواب عن قول ابن مسعود أيضاً وأما باقي الوجوه فمعارض لبعض ما قدمناه.
قوله: «أَيْنَمَا تَكُونُوا» «أين» اسم شرط تجزم فعلين ك «إن» ، و «ما» مزيدة عليها على سبيل الجواز، وهي ظرف مكان، وهي هنا في محلّ نصب خبراً ل «كان» ، وتقديمها واجب لتضمنها معنى ما له صدر الكلام.
و «تكونوا» أيضاً مجزوم بها على الشرط، وهو الناصب لها، و «يأت» جوابها، وتكون أيضاً استفهاماً فلا تعمل شيئاً، وهي مبنية على الفتح لتضمن معنى حرف الشرط أو الاستفهام.
[ودلت الآية على أنه قادر على جميع الممكنات، فوجب أن يكون قادراً على الإعادة؛ لأنها ممكنة، وهذا وَعْدٌ لأهل الطاعة، ووعيد] لأهل المعصية.(3/64)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
«مِنْ حَيْثُ» متعلق بقوله: «فولّ وَجْهَكَ» و «خرجت» في محلّ جر بإضافة «حيث» إليها، وقرأ عبد الله بالفتح، وقد تقدم أنها إحدى اللغات، ولا تكون هنا شرطية، لعدم زيادة «ما» ، والهاء في قوله: {وَإِنَّهُ للحَقُّ} الكلام فيها كالكلام عليها فيما تقدّم.
فصل في الكلام على الآية
أعلم أنه - تبارك وتعالى - قال أولاً: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وذكر هاهنا ثانياً قوله تعالى: {} .
ثم ذكر ثالثاً قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ثم ذكر ثالثاً قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وحيث ما كنتم فولوا(3/64)
وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة} فما فائدة هذا التكرار؟ فيه أقوال: أحدها: أن الأحوال ثلاثة:
أولها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام.
وثانيها: أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد.
وثالثها: أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض.
فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى، والثانية على الثانية، والثالثة على الثالثة؛ لأنه قد يتهّم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله - تعالى - هذه الآيات.
والجواب: أنه علق بها كل مرة فائدة زائدة، ففي الأولى بين أن أهل الكتاي يعلمون أن أمر نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر هذه القبلة حقّ؛ لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل.
وفي الثانية بين أنه - تعالى - يشهد أن ذلك حقّ، وشهادة الله بكونه حقّاً مغايرة لعلم أهل الكتاب [حقّاً] .
وفي الثالثة بين [فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجّة] ، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة في المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظيره قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] .
وثالثها: لما قال في الأولى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] أي: إن التحويل ليس لمجرد رضان، بل لأجل أنه الحق الذي لا محيد عنه، فاستقبالها ليس لمجرد الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي يقيمون عليها بمجرّد الهوى والميل.
ثم قال تعالى ثالثاً: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] والمراد منه الدوام على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً.
ورابعها: أنه قرن كل آية بمعنى، فقرن الأولى وهي القبلة التي يرضاها ويحبّها بالقبلة التي كانوا يحبونها، وهي قبلة إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقرن الآية الثانية(3/65)
بقوله:
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] أي: لكل صاحب ملّة قبلة يتوجّه غليها، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله انها حقٌّ، وقرن الثالثة بقطع الله - تعالى - حجّة من خاض من اليهود في أمر القِبْلَةِ، فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمراً بالتزام القبلة.
نظيره أن يقال: الزم هذه القبلة كأنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال: الزم هذه القبلة، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} ثم يقال: الزم هذه القبلة، فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلااء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 16] وكذلك ما كرر في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8] .
وخامسها: أن هذه الواقعة أوّل الوقائع التي ظهر النَّسخ فيها في شرعنا، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير، وإزالة الشبهة، وإيضاح البينات.
أما قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} يعني: ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق، وهم يعرفونه، ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] وبأنه قد اشتاق إلى مولده، ودين آبائه، فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله. [وقد تقدم الكلام على نفي الغَفْلة وعدم ذكر العلم] .
قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} هذه لام «كي» بعدها «أن» المصدرية الناصبة للمضارع، و «لا» نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ} [الأنفال: 73] و «أن» هنا واجبة الإظهار، إذ لو أضمرت لثقل اللَّفظ بتوالي لامين، ولام الجر متعلقة بقوله سبحانه وتعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} .
وقال أبو البقاء: متعلّقة بمحذوف تقديره: فعلنا ذلك لئلا، ولا حاجة إلى ذلك، و «للناس» خبر ل «يكون» مقدّم على اسمها، وهو «حجّة» ، و «عليكم» في محل نصب على الحال؛ لأنه في الأصل صفة النكرة، فلما تقدم عليها انتصب حالاً، ولا يتعلق ب «حجة» لئلاّ يلزم تقديم معمول المصدر عليه، وهو ممتنع؛ لأنه في تأويل صلة وموصول، وقد قال بعضهم: يتعلّق ب «حجة» وهو ضعيف، ويجوز أن يكون «عليكم» خبراً ل «يكون» ويتعلق «للناس» ب «يكون» على رأي من يرى أن «كان» الناقصة تعمل في الظرف وشبهه، وذكر الفعل في قوله «يكون» ؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي، وحسن ذلك الفصل أيضاً. [وقال أبو روق: المراد ب «النَّاس» : أهل الكتاب.
ونقل عن قتادة والربيع: أنهم وجدوا في كتابهم أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحوّل إلى القبلة، فلما حوّلت بطلت حجّتهم.(3/66)
«إلا الذين ظلموا» ؛ بسبب أنهم كتموا ما عرفوا.
وقيل: لام أوردوا تلك الشبهة معتقدين أنها حجّة سماها تعالى حجّة، بناءً على معتقدهم، أو لعله - تعالى - سمّاها حجّة تهكُّماً بهم.
وقيل: أراد بالحجة المحاجّة، فقال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} فإنهم يحاجونكم بالباطل] .
قوله تعالى: «إلاَّ الَّذِينَ» قرأ الجمهور «إلاَّ» بكسر «الهمزة» وتشديد «اللام» .
وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، وابن زيد بفتحها، وتخفيف «اللام» على أنها للاستفتاح.
فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون في تأويلها على أربعة أقوال:
أظهرها: وهو اختيار الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره أنه استثناء متصل.
قال الزمخشري: معناه لئلا يكون حجّة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قِبْلَتنا إلى الكعبة إلا ميلاً لدين قومه، وحبّاً لهم، وأطلق على قولهم: «حجّة» ؛ لأنهم ساقوه مساق الحجة.
والحجّة كما أنها تكون صحيحة، فقد تكون أيضاً باطلة، قال الله تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} [الشوى: 16] .
وقال تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} [آل عمران: 61] والمحاجّة هي أن يورد كل واحد من المحق والمبطل على صاحبه حجّة، وهذا يقتضي أن الذي يورده المبطل يسمى بالحجّة، ولأن الحجّة اشتقاقها من حَجَّه إذا علا عليه، فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجّة.
وقال بعضهم: إنها مأخوذة من محجّة الطريق، فكل كلام يتّخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجّة.
وقال ابن عطية: المعنى أنه لا حجّة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم الذين تكلموا في النازلة، وسماها حجّة وحكم بفسادها حين كانت من ظالم.
الثاني: أنه استثناء منقطع، فيقدر ب «لكن» عند البصريين، وب «بل» عند الكوفيين؛ لأنه استثناء من غير الأول، والتقدير: لكن الذين ظلموا، فإنهم يتعلقون عليكم(3/67)
بالشبهة يضعونها موضع الحجة [نظيره قوله: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون إَلاَّ مَن ظَلَمَ} النمل: 10 - 11] .
وقال: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود: 43] .
ويقال: ما له عليّ مِنْ حقَ إلاّ التعدي، أي: لكنه يتعدى] .
ومثار الخلاف هو: هل الحجّة هي الدليل الصحيح، أن الاحتجاج صحيحاً كان أو فاسداً؟
فعلى الأولى يكون منقطعاً، وعلى الثاني يكون متصلاً.
الثالث: وهو قول أبي عبيدة أن «إلا» بمعنى «الواو» العاطفة وجعل من ذلك قوله: [الوافر]
843 - وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخْوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدانِ
يَعْني: والفرقدان.
وقول الآخر: [البسيط]
844 - مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الخَلِيفَةِ إِلاَّ دَارُ مَرْوَانَا
تقدير ذلك عنده: «ولا الذين ظلموا، والفرقدان، ودار مروان» وقد خطأه النحاة في ذلك كالزجاج وغيره.
الرابع: أن «إلا بمعنى بعد، أي: بعد الذين ظلموا، وجعل منه قول الله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] .
وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] تقديره: بعد الموتة، وبعد ما قد سلف، هذا من أَفْسَد الأقوال، وأنكرها، وإنما ذكرته لغرض التنبيه على ضعفه.
و» الذين «في محل نصب على الاستثناء على القولين اتّصالاً وانقطاعاً، وأجاز قطرب أن يكون في موضع جَرّ بدلاً من ضمير الخطاب في» عليكم «، والتقدير: لئلا تثبت حجّة للناس على غير الظالمين منهم، وهم أنتم أيها المخاطبون بتولية وجوهكم إلى القِبْلة.
ونقل عنه أنه كان يقرأ:» إلاَّ على الذين «كأنه يكرر العامل في البدل على حَدْ(3/68)
قوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] .
وهذا عند جمهور البصريين ممتنع؛ لأنه يؤدي إلى بدل ظاهر من ضمير حاضر بدل كلّ من كل، ولم يجزه من البصريين إلا الأخفش، وتأول غيره ما ورد من ذلك.
وأما قراءة ابن عباس ب» ألا «للاستفتاح، ففي محل» الذين «حينئذ ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره قوله:» فَلاَ تَخْشَوْهُمْ «، وإنما دخلت» الفاء «في الخبر؛ لأن الموصول تضمن معنى الشرط، والماضي الواقع صلة مستقبل معنى كأنه قيل: من يظلم الناس فلا تخشوهمن ولولا دخول الفاء لترجّح النصب على الاشتغال، أي: لا تخشوا الذين ظلموا لا تخشوهم.
الثاني: أن يكون منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال، وذلك على قول الأخفش، فإنه يجيز زيادة الفاء.
الثالث: نقله ابن عطية أن يكون منصوباً على الإغراء.
ونقل عن ابن مجاهد أنه قرأ:» إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا «وجعل» إلى «حرف جر متأولاً لذلك بأنها بمعنى» مع «، والتقدير: لئلا يكون للناس عليكم حجة مع الذين، والظاهر أن هذا الراوي وقع في سمعه» إلا الذين «بتخفيف» إلاَ «فاعتقد ذلك فيها، وله نظائر مذكورة عندهم.
و» فم «في محل نصب على الحال فيتعلّق بمحذوف، ويحتمل أن تكون» من «للتبعيض، وأن تكون للبيان.
فصل في الكلام على هذه الحجة
اعلم ان هذا الكلام يوهم حِجَاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القِبْلَةِ عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجّة تزول الآن باستقبال الكعبة.
وفي كيفية تلك الحجة روايات:
إحداها: أن اليهود قالوا: تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا.
وثانيها: قالوا: ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه؟
وثالثها: أن العرب قالوا: إنه كان يقول: أنا على دين إبراهيم، والآن ترك التوجه إلى الكعبة، ومن ترك التوجّه إلى الكعبة، فقد ترك دين إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فصارت هذه الوجوه وَسَائِلَ لهم إلى الطعن في شرعه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، إلاّ أن الله - تعالى - لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه(3/69)
المصلحة في الدين؛ لأن قولهم لا يؤثر في المصالح، وقد بينا من قبل تلك المصلحة وهي تمييز من اتبعه ب» مكة «ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى المدينة تغيرت المصلحة، فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة، فلهذا قال الله تعالى:» لئلا يكون للناس عليكم حجة يعني أنّ تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أن يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى، وهو قول بعض العرب: إن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عاد إلى ديننا في الكَعْبة وسيعود إلى ديننا بالكلية، وكان التمسك بهذه الشبهة، والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر، وذلك ظلم [للنفس] على ما قال تعالى:
{إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] فلا جرم، قال الله تعالى {فَلاَ تَخْشَوهُمْ وَاخْشَوْنِ} .
أي: لا تخشوا من يتعنّت ويجادل، ولا تخافوا طعنهم في قبلتكم، فإنهم يضرونكم، واخشوني، واحذروا عقابي إن عدلتم عما ألزمتكم، وفرضت عليكم.
و «الخَشْية» : أصلها: طمأنينة في القلب تبعث على التوقي والخوف و «الخوف» : فزع في القلب تخف له الأعضاء، ولخفّة الأعضاء به يسمى خوفاً، ومعه التحقير لك من سوى الله تعالى، والأمر باطّراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.
قال بعضهم: الخوف أوّل المراتب، وهو الفزع، ثم بعده الوَجَل، ثم الخَشْية، ثم الرَّهْبة] .
قوله: «وَلأُتِمَّ» فيه أربعة أوجه:
أظهرها: أنه معطوف على قوله: «لِئَلاَّ يَكُونَ» كأن المعنى: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم، ولإتمام النعمة، فيكون التعريف معلّلاً بهاتين العلّتين:
[إحداهما: لانقطاع حجّتهم عنه.
والثانية: لإتمام النعمة. وقد بَيَّن مسلم الأصفهاني ما في ذلك من النعمة، وهو القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما يفعلون، فلما حُوِّل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى «بيت المقدس» لحقهم ضعف قلب، ولذلك كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يحب التحوّل إلى الكعبة، لما فيها من شرف البُقْعة، فهذا موضع النعمة] ، والفصل بالاستثناء وما بعده كَلاَ فَصْلٍ إذ هو من متعلق العلة الأولى.
الثاني: أنه معطوف على علّة محذوفة، وكلاهما [معلولها] الخشية السابقة(3/70)
فكأنه قيل: واخشوني [لأوفقكم] ولأتم نعمتي عليكم.
الثالث: أنه متعلّق بفعل محذوف مقدر بعده تقديره: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عرفتكم أمر قبلتكم «.
الرابع: وهو أضعفها أن تكون متعلقة بالفعل قبلها، و «الواو» زائدة، تقديره: واخشوني لأتم نعمتي.
وهذه لام «كي» و «أن» مضمرة بعدها ناصبة للمضارع، فينسبك منهما مصر مجرور باللام وتقدم تحقيقه، و «عليكم» فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب «أتمّ» .
الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أ، هـ حال من «نعمتي» ، أي: كائنة عليكم.
فإن قيل: إنه - تعالى - أنزل عند قرب وفاة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} ؟!
فالجواب: أنا قلنا تمام النعمة اللاَّئقة في كل وقت هو الذي خص به.
وعن عليّ رَضِيَ اللهُ عَنْه: تمام النعمة الموت على الإسلام.
وقوله: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» فيه سؤال، وهو أن لَفْظَه التَّرَجِّي، وهو في حق الله - تعالى - مُحَال؛ لأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه.
وأجيب عن ذلك بوجهين:
الأول: أن الترجي في الآية الكريمة بالنسبة إلى المخاطبين أي: بإتمام النعمة ترجون الثَّواب والاهتداء إلى دلائل التوحيد.
الثاني: قال بعض المفسرين: كل لفظ «لعلّ» في القرآن الكريم المراد به التحقيق كقول الملك لمن طلب منه حاجة وأراد ذلك قضاها، فنقول لطالب الحاجة: لعلّ حاجتك تقضى.
والاهتداء يطلق، ويراد به بيان الأدلة كقوله تعالى: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] الآية، ويطلق ويراد به الاهتداء إلى الحق.(3/71)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
قوله تعالى: «كَمَآ أَرْسَلْنَا» : الكاف من قوله: «كما» فيها قولان:(3/71)
أظهرها: أنها للتشبيه.
والثاني: أنها للتعليل، فعلى القول الأول تكون نعت مصدر محذوف.
واختفوا في متعلقها حينئذ على خمسة أوجه:
أحدها: أنها متعلقة بقوله: «ولأتم» تقديره: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام الرسول فيكم، ومتعلّق الإتمامين مختلف، فالأول بالثواب في الآخرة، والثاني بإرسال الرسول في الدنيا، أو الأول بإيجاب الدعوة الأولى لإبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أَمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 138]
والثاني بإجابة الدعوى الثانية في قوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 129] [قاله ابن جرير] ، ورجحه مكي؛ لأن سياق اللفظ يدلّ على أن المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيانه ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم.
والثاني: أنها متعلّقة ب «تهتدون» ، تقديره: يهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقيق والثبوت أي: اهتداء متحققاً كتحقيق إرسالنا.
الثالث: وهو قول أبي مسلم: أنها متعلقة بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] ، أي: جعلاً مثل إرسالنا.
وهذا بعيد داً؛ لطول الفصل المؤذن بالانقطاع.
الرابع: أنها متعلقة بما بعدها وهو «اذكروني» [قال مجاهد وعطاء والكلبي: وروي عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه، واختاره الزَّجاج: كما أرلنا فيكم رسولاً تعرفونه بالمصدق فاكروني بالتوحيد والتصديق به، وعلى هذا فالوقف على «تهتدون» جائز] .
قال الزمخشري: كما ذكرتكم بإرسال الرسل، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف أي: اذكروني ذكراً من ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار: مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فإنه يكرمك، و «الفاء» غير مانعة من ذلك.
قال أبو البقاء: «كما» لم تمنع في باب الشرط يعني أن ما بعد فاء الجزاء يعمل فيما قبلها.
وقد ردّ مكي هذا بأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه و «اذكروني» قد أجيب بقوله: «أذكركم» فلا يتعلق به ما قبله.
قال: ولا يجوز ذلك إلا في التشبيه بالشرط الذي يجاب بجوابين، نحو: إذا أتاك فلان فأكرمه تَرْضَهْ، فيكون «كما» ، و «فأذكركم» جوابين للأمر، والاول أفصح وأشهر،(3/72)
وتقول: «كما أحسنت إليك فأكرمني» فيصح أن تجعل الكاف متعلقة ب «أكرمني» إذ لا جواب له.
وهذا الشرط منعه مكّي قال أبو حيان: «لا نعلم خلافاً في جوازه» .
وأما قوله: إلا أن يشبه بالشرط، وجعله «كما» جواباً للأمر، فليس بتشبيه صحيح، ولا يتعقل، وللاحتجاج عليه موضع غير هذا الكتاب.
قال أبو حيان: وإنما يخدش هذا عندي وجود الفاء، فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتبعد زيادتها. انتهى.
وقد تقدم [قول] أبي البقاء في أنها غير مانعة من ذلك.
الخامس: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من «نعمتي» والتقدير: ولأتم نعمتي مُشبِهَةً إرسالنا فيكم رسولاً، أي: مشبهة نعمة الإرْسَال، فيكون على حذف مضاف. [وقال مكي: في «إعراب المشكل» : فإن شئت جعلت «الكاف» في موضع نصب على الحال من الكاف والميم في «عليكم» ] .
وأما على القول بأنها للتعليل، فتتعلّق بما بعدها وهو قوله: «فاذكروني» أي: اذكروني لأجل إرسالنا فيكم رسولاً، وكون «الكاف» للتعليل واضح، وجعل بعضهم منه: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] ، وقول الآخر: [الراجز]
845 - لاَ تَشْتُمِ النَّاس كَمَا لاَ تُشْتَم ... أي: لا تَشتم لامتناع النَّاس من شَتمك.
وفي «ما» المتّصلة بهذه «الكاف» ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها مصدرية، وقد تقدم تحريره.
والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائد محذوف، و «رسولاً» بدل منه، والتقدير: كالذي أرسلناه رسولاً، وهذا بعيد جداً.
وأيضاً فإن فيه قوع «ما» على آحاد العقلاء، وهو قول مرجوح.
الثالث: أنها كافة «للكاف» كهي في قوله: [الوافر]
846 - لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدِ ... كَمَا النَّشْوَانُ وَالرَّجُلُ الحَلِيمُ(3/73)
ولا حاجة إلى هذا، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلاّ حيث تعذّر أن ينسبك منها ومما بعدها مصدر، كما إذا اتصلت بجملة اسمية كالبيت المتقدم.
و «منكم» في محلّ نصب؛ لأنه صفة ل «رسولاً» ، وكذلك ما بعده من الجمل، ويحتمل أن تكون الجمل بعده حالاً لتخصيص النكرة بوصفها بقوله: «منكم» ، وأتي بهذه الصفات بصيغة المضارع؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث، وهو مقصود هاهنا، بخلاف كون «منهم» ، فإنه وصف ثابت له، [وقوله: «فيكم» و «منكم» ، أي: من العرب، وفي إرساله فيهم رسولاً، ومنهم نِعَمٌ عليهم عظيمة؛ لما لهم فيه من الشَّرَفِ، وأن المشهور من حال العرب الأَنَفَةُ الشديدة من الانقياد إلى الغير، فبعثه الله - تعالى - من واسطتهم ليقرب قبولهم.
وقوله: «يَتْلُو عَلَيْكُمْ» فيه نِعَمٌ عليكم عظيمة؛ لأنه معجزة باقية تتأذى به العبادات ومستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة.
واعلم أنه إن كان المراد بالآيات القرآن، فالتلاوة فيه ظاهرة.
وإن كان المراد بالآيات المعجزات، فمعنى التلاوة لها تتابعها؛ لأنَّ الأصل في التلاوة التتابع، يقال: جاء القوم يتلو بعضهم بعضاً أي بعضهم إثْرَ بعض] ، وهنا قدم التزكية على التعليم، وفي دعاء إبراهيم بالعكس.
والفرق أن المراد بالتزكية هنا التطهير من الكفر، وكذلك فسروه.
وهناك المراد بها الشهادة بأنهم خيار أزكياء، وذلك متأخر عن تعلم الشرائع والعمل بها. [وقال الحسن: «يزكّيكم» يعلّمكم ما إذا تمسّكتم به صرتم أزكياء.
وقال أبو مسلم: «التزكية» عبارة عن التَّنمية، كأنه قال: يكثركم؛ كقوله تعالى {إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] ، وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا] .
وقوله: {يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} بعد قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة} باب ذكر العام بعد الخاص، وهو قليل بخلاف عكسه. [وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب} بعد قوله: {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} ليس بتكرار؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم.
وأما الحكمة فهي العلم بسائر الشرائع التي لم يشتمل القرآن على تفصيلها.
وقال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الحكمة هي سُنّة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وفي قوله تعالى: {وَيَعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} تَنْبِيهٌ على انه - تعالى - أرسله على حين فَتْرَةٍ من الرسل، وجهالة الأمم] .(3/74)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
اعلم أن الله - تعالى - كلفنا في هذه الآي بأمرين: الذكر، والشكر.
أما الذكر فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالجوارح.
فذكر اللسان الحمد، والتسبيح، والتمجيد، وقراءة كتابه.
وذكر القلب التفكّر في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته، والتفكر في الجواب على الشبهة العارضة في تلك الدلائل، والتفكّر في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده، فإذا عرفوا كيفية التَّكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم، والتفكر في أسرار مخلوقاته.
وأما الذكر بالجوارح، فهو عبارة عن كون الجوارح مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها، وعلى هذا سمى الله الصلاة ذكراً، بقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9] فقوله: «اذْكُرُوني» يتضمن الطاعات، ولهذا روي عن سيعد بن جبير أنه قال: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه.
فصل في وروده الذكر في القرآن
الذكر ورد على ثمانية أوجه:
الأول: بمعنى الطاعة كهذه الآية أي: أطيعوني أغفر لكم.
الثاني: العمل، قال تعالى: {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] أي: اعملوا بما فيه.
الثالث: العِظَة، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55] أي العِظَة، ومثله {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} [الأنعام: 44] أي: ما وعظوا به.
الرابع: الشَّرف قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] ومثله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنين: 71] أي: بشرفهم، وقوله: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} [الأنبياء: 24] أي: شرف.
الخامس: القرآن قال تعالى: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] أي: القرآن، ومثله: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] .
السادس: التوراة قال تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} [النحل: 43] أي: التوراة.(3/75)
السابع: البيان، قال تعالى: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 63] .
الثامن: الصلاة، قال تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9] .
قوله: «أَذْكُرْكُمْ» هذا خطاب لأهل «مكة» والعرب.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعرفتي.
وقيل: اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء.
بيانه قوله سبحانه وتعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] .
وقيل: اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة.
قال تبارك وتعالى: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قاله أبو مسلم.
وقيل: اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة، وقيل: اذكروني بمَحَامدي أذكركم بهدَايتي.
روى الحسن عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن الله - تَعَالَى - يقول: يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي، وَإنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإنْ دَنَوْتَ مِنِّ شِبْراً دَنَوْتُ مِنْكَ ذِرَاعاً، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعاً دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعاً، وَإِنْ مَشَيْتَ إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْكَ، وإِنْ هَرْوَلْتَ إِلَيَّ سَعَيْتُ إِلَيْكَ، وإِنْ سَأَلْتَنِي أَعْطَيْتُكَ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْنِي غَضِبْتُ عَلَيْكَ»
وقال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم الساعة التي يذكرون منها.
قيل: ومن أين تعلمها؟ قال: اتقوا الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَاذْكُرُونِي أّذْكُرْكُمْ} .
قوله: {واشكروا لِي} .
تقدم أن «شَكَر» يتعدّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر على حد سواء على الصحيح.
وقال بعضهم: إذا قلت: شكرت لزيد، فمعناه شكرت لزيد صَنِيْعَهُ، فجعلوه متعدياً لاثنين.
أحدهما: بنفسه، والآخر بحرف الجر، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: «واشكروا لي ما أنعمت به عليكم» .
وقال ابن عطية: «واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد» .
و «لي» أفصح وأشهر مع الشّكر، ومعناه: نعمتي وَأَيَادِيَّ، وكذلك إذا قلت(3/76)
شكرتك. فالمعنى شكرت لك صنيعك وذكرته، فحذف المضاف؛ إذ معنى الشكر ذكر اليد، وذكر مُسْدِيها معاً، فما حذف من ذلك، فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف.
وأصل الشكر في اللغة: الظهور، فشكر العبد لله - تعالى - ثناؤه عليه بذكر إحسانه، وشكر الله سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نُطق باللسان، وإقْرَار بالقلب بإنعام الرب.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَكْفُرُونِ} نهي ولذلك حذفتع منه نون الجماعة، وهذه نون المتكلم، وحذفت الياءح أنها رأس آية إثباتها أحسن في غير القرآن، أي: لا تكفروا نعمتي، فالكفر هنا سَتْر النعمة لا التكذيب.(3/77)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
أعلم أنه - تعالى - لما أوجب بقوله «فاذكروني» جميع العبادات، وبقوله: {واشكروا لِي} ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما، فقال: {استعينوا بالصبر والصلاة} وإنما خصّهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات.
أما الصبر فهو قَهْر النفس على احتمال المَكَاره في ذات الله - تعالى - وتوطينها على تحمُّل المشاقّ، ومن كان كذلك سهل عليه فعل الطاعات، وتحمل مشاق العبادات، وتجنّب المحظورات.
وأما الصلاة فلقوله تعالى: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [النعكبوت: 45] .
ومن الناس من حمل الصبر على الصوم.
ومنهم من حمله على الجهاد، لقوله تعالى بعده: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة: 154] ولأنه - تعالى - أمره بالتثبت في الجهاد، فقال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} [الأنفال: 45] وبالتثبُّت في الصلاة وفي الدعاء، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 147] .
فصل في أقسام الصبر وذكر الاستعانة
والقول الأول أولى لعموم اللفظ وعدم تقيّده الاستعانة، ذكر الاستعانة بالصلاة ولم يذكر فيماذا يُسْتعان.
فظاهره يدل على أن الاستعانة في كل الأمور، وذكر الصبر، وهو ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: الصبر على الطاعات.(3/77)
والثاني: الصبر على الشدائد فهو يشملها وتقدم الكلام على المراد بالصلاة.
قوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} .
فالمعيّة على قسمين:
أحدهما: معيّة عامة، وهي المعيذة بالعلم والقدرة، وهذه عامة في حق كل أحد.
والثاني: معيّة خاصة وهي المعيّة بالعَوْن والنصر، وهذه خاصة بالمتقين والمحسنين والصابرين، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] وقال هاهنا: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} أي: بالعون والصبر.(3/78)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: نزلت الآية في قَتْلِى «بدر» ، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة شعر رجلاً: ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.
فمن المهاجرين: عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب، وعمر بن أبي وقاص، وذو الشمالين، وعمرو بن نفيلة، وعامر بن بكر، ومهجع بن عبد الله، ومن الأنصار: سعيد بن خيثمة، وقيس بن عبد المنذر، وزيد بن الحرث، وتميم بن الهمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة، ومعوذ بن عفراء، وعوف بن عفراء رضوان الله تعالى عليهم وكانوا يقولون: مات فلان ومات فلان، فنهى الله - تعالى - أن يقال فيهم: إنهم ماتوا. وقال بعضهم: إن الكفار والمنافقين قالوا: إنّ الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمَرْضَاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية.
فصل في المراد بحياء الشهداء
اختلفوا في هذه الحياة.
فقال أكثر المفسرين: إنهم في القبر أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم، وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهو في القبور.
فإن قيل: نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور، فكيف يصح ما ذهبتم إليه؟
فالجواب: قال ابن الخطيب: أما عندما فالبنية ليست شرطاً في الحياة، ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كلّ واحد من تلك الذّرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف.
وأما عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بدّ منها في ماهية الحي، ولا يعتبر بالأطراف.
ويحتمل أيضاً أن يحييهم إذا لم يشاهدوا.
وقال الأصم: يعني لا تسمّوهم بالموتى، وقولوا لهم: الشهداء الأحياء، ويحتمل أن المشركين قالوا: هم أموات في الدين كما قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [(3/78)
الأنعام: 122] فقال: ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون، ولكن قولوا: هم أحياء في الدين، ولكن لا يشعرون [يعني المشركين لا يعلمون من قتل على دين محمد صلوات الله وسلامه عليه حيٌّ في الدين] وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني: إن المشركين كانوا يقولون: إن أصحاب محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقتلون أنفسهم، ويخسرون حياتهم، فيخرجون من الدنيا بلا فائدة، ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء. وهؤلاء الذين قالوا ذلك، يحتمل أنهم كانوا دهرية ينكرون المعاد’، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم منكرين لنبوة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلذلك قالوا هذا الكلام، فقال الله تعالى ولا تقولوا كما قال المشركون: إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدّنيا، ولكن اعلموا أنهم أحياء، أي: سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة، وتفسير قوله: «أحياء» بأنهم سيحيون غير بعيد، قال الله تعالى:
{الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14] ، وقال: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] .
وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] وقال {افَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج: 56] .
والقول الأول هو المشهور ويدل عليه وجوه:
أحدها: الآيات الدالة على عذاب القبر كقوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] ، [والموتتان لا تحصلان إلا عند حصول الحياة في القبر] وقال الله تعالى: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] و «الفاء» للتعقيب.
وقال: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً؛ لأن العذاب حقّ الله - تعالى - على العبد، والثواب حق للعبد على الله تعالى.
وثانيها: أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله: وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ «معنى؛ لأن الخطاب للمؤمنين، وقد [كانوا يعلمون أنهم ماتوا على هدى وكون أنهم] كانوا لا يعلمون؛ أي أنهم سيحيون يوم القيامة.
وثالثها: أن قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} [آل عمران: 170] دليل على حصول الحياة في البَرْزَخِ قبل البعث.
ورابعها: قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَاب القَبْرِ «وقوله:» القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النيران «(3/79)
وخامسها: أنه لو كان المراد من قوله:» إنهم أحياء «أنهم سيحيون، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة.
قال القرطبي: والشهداء أحياء كما قال الله تعالى: وليس معناه أنهم سيحيون، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سَيَحْيَا.
ويدل على هذا قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ} والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون.
وأجاب عنه أبو مسلم بأنه - تعالى - إنما خصهم بالذكر؛ لأن درجتهم في الجنة أرفع، ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ ائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] فأرادهم بالذكر تعظيما.
قال ابن الخطيب: هذا الجواب ضعيف؛ لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله - تعالى - ما خصهم بالذكر.
وفي هذا الجواب نظر؛ لأن الآية الكريمة ليست في النبيين والصديقين، إنما هي في الشهداء.
واحتج أبو مسلم بأنه - تعالى - ذكر هذه الآية في» آل عمران «فقال: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وهذه العندية ليست بالمكان، بل بالكون في الجنة، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة.
وقال ابن الخطيب: لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة، بل بإعلاء الدرجات، وإيصال البشارات إليه، وهو في القبر، أو في موضع آخر.
وقال بعضهم: ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب، والكلام في هذه المسألة مذكور في غير هذا المكان.
[قال الحسن: إن الشهداء هم أحياء عند الله - تعالى - تُعْرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرج، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية، فيصل إليهم الوَجَعُ] .
قوله تعالى: «أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} خبر مبتدأ محذوف أي: لا تقولوا: هم أموات، وكذلك» أحياء «خبر مبتدأ محذوف أي: بل هم أحياء.(3/80)
[وقد راعى لفظ» من «مرة فأفرد في قوله:» يقتل «، ومعناها أخرى، فجمع في قوله:» أموات بل أحياء «] و» اللام «هنا للعلة، ولا تكون للتبليغ؛ لأنهم لم يُبَلِّغُوا الشهداء قوله هذا.
والجملة من قوله:» هم أموات «في محلّ نصب بالقول؛ لأنها محكية به.
وأما» بل هم أحياء «فيحتمل وجهين:
أحدهما: ألا يكون له محل من الإعراب، بل هو إخبار من الله - تعالى - بأنهم أحياء، ويرجحه قوله: {وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ} ؛ إذ المعنى لا شعور لكم بحياتهم.
والثاني: أن يكون محلّه النصب بقول محذوف تقديره، بل قولوا: هم أحياء، ولا يجوز أن ينتصب بالقول الأول لفساد المعنى، وحذف مفعول» يشعرون «لفهم المعنى: أي بحياتهم، والله أعلم.(3/81)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
قال القفال [رَحِمَهُ اللهُ:] هذا متعلق بقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] فإنما نبلوكم بالخَوْفِ وبكذا، وفيه مسائِلُ.
فإن قيل: إنه تعالى قال: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] والشكرُ يوجب المزيدّ، لقوله: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] فكيف أردَفهُ بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف} ؟ .
[قال ابن الخطيب] : والجواب من وَجْهَيْنِ:
الأولُ: أنه - تعالى - أخبر أَنَّ إكمَالَ الشرائعِ إتمامُ النعمةِ، فكأنه كذلك موجباً للشُّكْرِ، ثم أَخبر أن القيامَ بتلك الشرائع لا يُمْكِن إِلا بتحمّل المِحَن، فلا جَرَمَ أمر فيها بالصَّبْر.
الثاني: أنه - تبارك وتعالى - أَنْعَم أولاً فأَمَر بالشكْر، ثم ابْتَلَى وأمر بالصَّبْرِ، لينال [الرجل] درجةَ الشاكرين وَالصَّابِرينَ مَعاً، فيكمل إيمانُهُ على ما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الإِيْمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ»(3/81)
قال بعضَهم: الخطابُ لجميع أُمَّةِ محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال عَطاءٌ والرَّبِيعُ بنُ أَنس: المرادُ بهذه المخاطبةِ أصحاب النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد الهِجْرة وهذا الابتلاءُ لإِظْهَارِ المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً، ولم يَكُنْ عَالِماً به، وقد يُطْلق الابتلاءُ على الأَمانةِ؛ كهذه الآية الكريمةِ، والمعنى: وليصيبنكُم اللهُ بشيْءٍ من الخوف، وقد تقدَّم الكلامُ فِيه، في قوله تعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] .
وفي حكمة هذا الابتلاء وجوه:
أَحَدُهما: ليوطِّنُوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت، فيكُونُ ذلك أبعدَ لهم من الجَزَعِ، وأَسْهَل عليهم بعد الورُود.
وثَانِيهَا: أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المِحَن، اشتَدَّ خَوْفُهم فيصير ذلك الخوفُ تَعْجِيلاً للابتلاءِن، فيستحِقُّون به مزيدّ الثَّوابِ.
وثَالِثُهما: أن الكفارَ إذا شاهدوا محمداً وأصحَابَهُ مقِيمينَ على دينهم مُسْتقرّين عليه، مع ما كانوا عليه منْ نِهَاية الضر والمِحْنَةِ والجُوع، يَعْلَمُونَ أن القومَ إِنَّما اختاروا هذا الدِّينَ لقطْعِهم بصحّته، فيدعُوهم ذلك إِلى مَزِيد التأمَّل في دَلاَئِله.
ومن المعلُوم الظَّاهِر أَنَّ التَّبَعَ إذا عَرَفُوا أن المتبوعَ في أَعْظَم المِحنَ بسبب المذهب الذي ينصرُه، ثم رأوه مع ذلك مُصِرّاً على ذلك المذهب كان ذلَك أَدْعَى لهم إلى اتَّباعِه مما إذا رأوه مُرَفّه الحَالِ، لا كُلْفة عليه في ذلك المذهب.
ورَابِعُهَا: أنه تعالى أخبر بوقوُع ذلك الابتلاءِ قَبْل وقُوعِه، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه، فكان ذلك إْباراً عن الغَيْب، فكان معجزاً.
وخَامِسُها: أَنَّ من المُنَافِقِينَ مَنْ أَظْهَر متابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه طمعاً منه في المال، وسعة الرزق، فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق من الموافق؛ لأنَّ المنافِقَ إِذَا سَمِعَ ذلكن نَفَر منه، وتركَ دِينَه، فكانَ في هَذَا الاختبارِ هَذِهِ الفَائِدَةُ.
وسَادِسُها: أن إخلاص الإنسان حالة [البلاء، ورجوعه إلى باب الله تعالى] أكثر من أخلاصه حال إقبال الدنيا عليه.
قوله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» هذا جواب قسم محذوف، ومتى كان جوابه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً، وجب تلقيه باللام وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما، ولا(3/82)
يُجيز البصريون ذلك إلا في الضرورة، وفتح الفعل المضارع لاتصاله بالنون، وقد تقدم تحقق ذلك وما فيه من الخلاف.
[قال القُرْطِبيُّ: وهذه «الوَاوُ» مفتوحَةٌ عِنْد سِيبَوَيْه؛ لالتِقَاءِ السّاكِنَين. وقال غيرُه: لَمَّا ضُمَّتَا إلى النُّونِ الثَّقِيلَةِ بُنِيَ الفِعْلُ مُضَارِعاً بمنزِلَةِ عَشَر، والبَلاَءُ يَكُون حَسَناً وَيَكُونُ سَيِّئاً، وأَصْلَهُ: المِحْنَةُ، وقدم تقدَّمَ] .
قوله تعالى: «بِشَيء» متعلق بقوله: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» و «الباء» معناها الإلصاق، وقراءة الجمهور على إفراد «شيء» ، ومعناها الدلالة على التقليل؛ إذ لوجمعه لاحتمل أن يكون ضرباً من كل واحد.
وقرأ الضحاك بن مزاحم: «بأشياء» على الجمع.
وقراءة الجمهول لا بد فيها من حذف تقديره: وبشيء من الجوع؛ وبشيء من النقص.
وأما قراءة الضحاك فلا تحتاج إلى هذا.
وقوله: «مِنَ الْخَوْفِ» في مَحَلّ جَرِّ صفة لشيء، فيتعلّق بمحذوف.
فصل في أقسام ما يلاقيه الإنسان من المكاره
أعْلَم أَنَّ كلّ ما يلاقي الإنسان من مكروه ومحبوب، فينقسم إلى موجود في الحال، وإلى ما كان موجوداً في الماضي، وإلى ما سَيُوجَدُ في المُسْتَقْبل.
فإذا خَطَر بالبالِ [وجود شيء] فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً، وإن كان مَوْجُوداً في الحَال يُسَمى ذوقاً ووجداً، وإنما سمي وَجْداً؛ لأنها حالةٌ تجدها مِنْ نَفْسِك.
وإن خطر بالبالِ وُجُودُ شَيْءٍ في الاستقبال وغلب ذلك على القَلْبِ سُمِّيً انتظاراً وتوقّعاً.
فإن كان المنتظر مكروهاً يحصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً في القلب.
فصل في الفرق بين الخوْف والجُوع والنَّقْص
قال ابنُ عباسٍ رَضي الله عنهما: الخوفُ خوفُ العَدُوِّ والجُوع القَحْط، والنقصُ مِنَ الأَمْوَالِ بالخُسْرَانِ والهَلاَكِ والأنفس بمعنى القتل.(3/83)
وقيل: بالمرض والسبي.
وقال القفال رَحِمَهُ اللهُ: أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدّين، فكانوا لا يؤمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم، وقد كان من الخوف وقعة «الأحزاب» ما كان، قال الله تعالى: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 11] .
وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى «المدينة» لقلّة أموالهم، حتى أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ [كان يشدّ الحجر على بطنه.
وروى أبو الهيثم من التّيهان أنه - عليه السلام]- لما خرج التقى بأبي بكر قال مَا أَخْرَجَكَ؟ قال: الجُوعُ، قال: أَخْرَجَنِي مَا أَخْرَجَكَ [وأما نَقْصُ الأَمْوَالِ والأَنْفُسِ، فقد يَحْصُلُ ذلك عند مُحَاربة العَدُوِّ، بأَنْ ينفق مَالَهُ في الاسْتِعْدادِ والجهَادِ، وقد يُقْتَلُ؛ فهناك يحصلُ النَّقْصُ في المال والنفس] وقال اللهُ تَعَالَى:
{وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41] وقد يحصلُ الجُوعُ في سفر الجِهَادِ عند فَنَاءِ الزَّادِ؛ قال الله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله} [التوبة: 120] .
وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجَدْب، وقد يكون بترك عِمَارة الضِّيَاع للاشتغال بجهاد الأعداء، وقد يكون ذلك بالإنْفَاق على من كان يَرِدُ على رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الوفود.
قال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الخوف: خوف الله عَزَّ وَجَلَّ، والجوع: صيام شهر رَمَضان، والنقص من الأموال: بالزكوات والصدقات، ومن الأنفس بالأمراض، ومن الثمرات، موت الأولاد.
قولهُ تَعَالى: «وَنَقْصٍ» فِيه وَجْهان:
أَحدُهُما: أَنْ يكُونَ معطوفاً على «شَيْءٍ» ، والمعنى: بشيءٍ من الخَوْفِ وبنقص.
والثَّانِي: أن يكون مَعْطوفاً على الخَوْفِ، أَيْ: شيءٌ من نقص الأموال.
والأول أَوْلَى؛ لاشتراكهما في التنكير.
قَوْلَهُ: «مِنَ الأَمْوَالِ» فيه خَمْسة أَوْجُه:
أَحدها: أَنْ يكونَ مُتعَلقاً ب «نقص» ؛ لأنه مصدر «نقص» ، وهو يتعدَّى إلى واحدٍ، وقد حُذِف، أَيْ: ونقص شيء مِنْ كَذا.
الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ في محلّ جَرٍّ صفة لذلك المحذوف، فيتعلّق بمحذوف، أي ونقص شيء كائن من كذا.(3/84)
الثَّالِثُ: أَنْ يكونَ في محلِّ نَصْبٍ صفَةً لمفعول مَحْذُوفٍ نصب بهذا المصدر المنون، والتقديرُ: ونقصُ شيء كَائِنٌ من كذا، ذكره أَبُوا الْبَقَاء.
ويكونُ مَعنى «منْ» على هذين الوجهين التَّبْعِيضُ.
الرَّابعُ: أَنْ يكون في محل جرِّ صِفَةً ل «نَقص» ، فيتعلق بمحذوف أيضاً، أَيْ: نقص كائن من كذا، وتكونُ «مِنْ» لابتداء الغَايَةِ.
الخِامِسُ: أن تكون «مِنْ» زائدةً عن الأَخْفَشِ، وحينئذ لا تعلّق لها بِشَيْءٍ.
قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» الخِطَابُ لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولمن أتَى بَعْدَهُ من أمته، أي: الصابرين على ابَلاَءِ والرَّزَايا، أي بشرهم بالثواب على الصبر، والصبر أصله الحبس وثوابه غير مقدر، ولكن لاَ يكُون ذلك إلا بالصَّبْر عند الصَّدْمَة الأولى [لقوله عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى» ] أي الشاقة على النفس الذي يَعْظُمُ الثوابُ عليه، إنما هو عند هُجُوم المُصيبة ومَرَارتها.
والصَّبْرُ صَبْرانِ؛ صَبْرٌ عن معصية الله تعالى فهذا مُجَاهِدٌ، والصبرُ عَلَى طَاعَةِ الله فهذا عَابِدٌ.(3/85)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
في قوله: «الَّذِينَ» أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ.
أحدُها: أَنْ يكُونَ منصوباً على النَّعْتِ للصابرين، وهو الأَصُحّ.
الثَّانِي: أن يكون مَنْصُوباً على المدْحِ.
الثَّالِثُ: أن يكون مَرْفُوعاً على خبر مبتدأ محذوف، أَيْ هُمُ الذينَ، وحينئذٍ يحتمل أن يكون على القطع، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ.
الرَّابُعُ: أَنْ يَكُون مُبْتَدأً، والْجُمْلَةُ الشرطية مِنْ «إِذا» وَجَوابِهَا صلةٌ، وخبرَهُ ما بعده مِنْ قولِه: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} .(3/85)
قولُه تعالى: {أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} .
والمصيبةُ: [كُلُّ ما يُذي المؤْمِنَ وَيصِيبُهُ] ، يقالُ: أَصابَهُ إِصَابَة ومُصَابة ومُصَاباً.
والمصيبةُ: وَاحِدُ المَصَائب.
والمَصُوبَةُ «بضم الصَّادِ» مِثْلُ المصيبَةِ.
وأجمعتِ العربُ على هَمْزِ المَصَائب، وأَصْلُهُ «الواو» ، كَأَنَّهم شَبَّهوا الأَصْلي بالزائد ويُجْمَعُ على «مصاوب» ، وهو الأصْلُ، والمُصَابُ الإِصَابةُ، قال الشاعر: [الكامل]
847 - أَسُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً ... أَهْدَى السَّلاَم تَحِيَّة طُلْمُ
وصَابً السَّهْمُ القِرْطاسَ يُصيبه صَيْبًا لغةٌ في أَصَابَهُ.
والمُصِيبَةُ: النَّكْبَةُ يُنْكَبُها الإنسانُ وإِنْ صَغُرَتْ، وتستعمل في الشر.
قولهُ تعالى: «إِنَّا لِلَّهِ» إِنَّ وَاسْمَها وخَبَرَها في محلِّ نَصْبٍ بالقول، والأصلُ: إِنَّنَا بثلاث نوناتٍ، فحُذِفَتِ الأخيرةُ من «إِنَّ» لا الأُولَى، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها، ولأنها طرفٌ من الأطرافِ الأَوْلَى بالحذْفِ، لا يُقالُ: إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانت مُخَفَّفةً، والمخففةُ لا تعمل على [الأَفْصَح] فكان يَنْبَغِي أَنْ تُلْغَى، فينفصل الضميرُ المرفوعُ حِينَئذٍ، إذْ لاَ عَمَلَ لهَا فيه، فدل عَدَمُ ذلك على أن المَحْذُوف النُّونُ الأُولَى لأن هذا الحذفَ حَذْفٌ لِتَوالِي الأَمْثَالِ لا ذلك الحذفُ المعْهُودُ في «إن» وأصابَتْهُمْ مُصيبةٌ من التَّجانُسِ المغاير؛ إذْ إِحْدَى كَلِمتِي المادَّةِ اسمٌ والأُخْرَى فِعْلٌ، ومثله: {أَزِفَتِ الآزفة} [النجم: 57] {وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] .(3/86)
فصل في الكلام على الآية.
قال بَعْضُهُم: «إِنَّا لِلَّهِ» إقرارٌ مِنَّا له بالمُلْكِ، «وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» إِقْرارٌ على أنفُسنا بالهَلاَك، لا بمعنى الانتِقَال إلى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ فإن ذلك على الله مُحَال، بل المرادُ أنه يَصيرُ إلى حَيثُ لا يَمْلِكُ الحُكْمَ سواه، وذلك هو الدَّارُ الآخرَةُ؛ لأَنَّ عند ذلك لا يَمْلكُ لهم أحدٌ نفعاً ولا ضرّاً، وما دَامُوا في الدنيا، قَدْ يَمْلِكُ غيرُ اللهِ نفعَهُمْ وضرهم بحسب الظاهِر، فجعل اللهُ - تعالى - هذا رُجُوعاً إليه تعالى، كما يُقالُ: إن المُلْكَ والدولة ترجعُ إليه لاَ بمعنى الانْتِقَالِ بل بمعنى القُدْرة، وترك المُنَازَعةِ.
وقال بعضهم: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} في الآخرة.
[رُويَ عَنِ النَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيْبَةِ جَبَرَ اللهُ مُصِيبَتُهُ، وأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ اللهُ لَهُ خَلَفاً صَالِحاً يَرْضاه»
وروي أنه طُفِئ سِرَاجُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجُعونَ} .
فقال: «إنا لله وإنّا إليه راجعون» ، فقيل: مُصِيبَةٌ هِيَ؟ قال: «نَعَمْ، كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِي المُؤْمِنَ فَهُوَ مُصِيْبَةٌ»
وقالت أُمُّ سَلَمَةَ: حدثني أَبُو سَلَمَةَ، أنه عليه الصلاةُ والسلام قال: «مَا مِنْ مُسْلِمِ يُصابُ مُصِيْبَةً فَيَفْزَعُ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهُمَّ أُجْرْنِيّ فِي مُصِيْبَتي، وأخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْها» قالت: فملا توفي أَبُو سَلَمَة ذكرت هذا الحِديثَ، وقلتُ هذا القولَ، فأخلف اللهُ لِيَ محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرف، وكرم، ومجد وبجل، وعظم.
وقال ابنُ عَبَّاس: أخبر اللهُ - تعالى - أن المُؤْمِنَ إِذَا أَسْلَمَ أَمْرَه لِلَّهِ، واسترجَعَ عند مُصَيبَتِهِ كتب اللهُ له ثَلاثَ خِصَالٍ: الصَّلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى.(3/87)
وقال ابنُ مَسْعُودٍ: لأن أَخِرَّ من السماء أحبّ إليّ مِنْ أن أقول لشيءٍ قضاه اللهُ: لَيْتَهُ لَمْ يَكُن] .
قال أَبُو بَكْرٍ الرازي: اشتملت الآيةُ الكرِيمَةُ على حُكْمين فَرْضٍ ونَفْل.
أَمَّا الفَرْضُ فهو التَّسْلِيمُ لأمرِ الله تعالى، والرِّضَا بِقَضَائِهِ، والصبرُ على أداءِ فَرَائِضِه، لا يصرف عنها مصائب الدنيا.
وأما النَّفْل فإظهاراً لقولِ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .
[ذكَرُوا من قولِ هذه الكَلِمةِ فَوائِدَ.
منها: الاشتغالُ بهذه الكلمةِ عن كَلاَم لا يليق.
ومنها: أنها تُسلّي قلبَ المُصَابِ، وتقلّلُ حُزْنَه.
ومنها: تقطَعُ طمع الشَّيْطَانِ في أَنْ يُوَافِقَهُ في كَلاَمٍ لا يَلِيقُ.
ومنها أَنَّهُ إذا سمعه غيرُه اقْتَدَى به.
ومنها: أنه إذا قال بلسَانِه في قَلْبِه الاعتقادَ الحَسَن، فإنَّ الحِسَابَ عند المُصِيبَةِ، فكان هذا القَوْل مذكراً له التَّسْليم لِقَضَاءِ الله وقدره] .
فإن في إظهاره فوائد جزيلة:
مناه أن غيره يقتدي به إذا سمعه.
ومنها غبط الكفار، وعلمهم بجده واجتهاد في دين الله، والثبات عليه وعلى طاعته.
وحكي عن بَعْضِهِم أنه قال: الزهدُ في الدنيا ألاّ يُحِبَّ البقاءَ فِيهَا، وأفضَلُ الأعمالِ الرضا عن الله، ولا ينبَغِي لِلْمُسلِم أن يحزن؛ لأنه يَعْلَمُ أَنَّ لكلِّ مصيبة ثواباً.
قولهُ تعالى: «أُولَئِكَ» مبتدأٌ، و «صَلَوَاتٌ» مبتدأٌ ثان، و «عَلَيْهِمْ» خبرهُ مُقَدَّمٌ عليه، والجملةُ خبر قوله: «أُولَئِكَ» .
ويجوز أن تكون «صلوات» فاعلاً بقوله: «عليهم» .
قال أبو البقاء: لأنه قد قوي بوقوعه خبراً.
والجملة من قوله «أولئك» وما بعده خبر «الذين» على أحد الأوجه المتقدمة، أو لا محلّ لها على غيره من الأوجه.
و «قالوا» هو العامل في «إذا» ؛ لأنه جوابها وتقدم الكلام في ذلك وأنها هل تقتضي التكرار أم لا؟(3/88)
قولهُ تعالى: «وَرَحْمَةٌ» عطف على الصلاة، وإن كانت بمعناها، فإن الصلاة من الله رحمة؛ لاختلف اللفظين كقوله: [الوافر]
848 - وَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ ... وَأَلْفَى قَوْلَها كَذِباً وَمَيْنَا
وقوله: [الطويل]
849 - أَلاَ حَبَّذَا هِندُ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ ... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
قولُه تعالى: «مِنْ رَبِّهِمْ» فيه وَجْهَانِ:
أَحدُهما: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صَفةٌ ل «صلوات» و «من» للابتداءِ، فهو في مَحَلِّ رفع، أيْ: صلوات كائنة مِنْ رَبِّهم.
والثَّانِي: أنه يتعلق بما تضمنه قولُه «عَلَيْهِمْ» من الفعل إذَا جعلناه رَافعاً ل «صلوات» رفع الفاعل، فعلى الأول، يكون قد حذف الصفة بعد «رَحْمة» أَيْ: ورحمة منه.
وعلى الثَّانِي: لاَ يَحْتَاجُ إلى ذلك.
وقولُه: «وأُولَئِكُ هُمْ الْمُهْتَدُونَ» نَظيرُ: {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] وفيه وجوهٌ:
أَحَدُهَا: أ، هم هم المهتدون لهذه الطَّرِيقَةِ المُوصّلَةِ بصاحبها إلى كل خير.
وثَانِيهَا: المُهْتدُونَ إلى الجنَّةِ الفائزون بالثواب.
وثَالِثُها: المُهْتدُونَ لسائِر ما لزمهم.
فَصْلٌ في الكلام في الآية
قال أَبُوا الْبَقَاءِ: «هُمُ المُهْتَدُونَ» هُمْ: مُبْتَدأٌ أو توكيد أو فصل.
فإن قِيلَ: لِمَ أَفْرَدَ الرحْمَةَ وجَمَعَ الصَّلَواتِ؟
فالجوابُ: قال بعضُهم: إن الرحمَةَ مصدرٌ بمعنى التعطُّف والتحنُّن، ولا يجمعُ و «التَّاءُ» فيها بمنزلتها في الملّة والمحبّةِ والرأْفَةِ، والرحمةُ ليست للتحذيرِ، بل مَنْزِلتُها في مرية وثمرة، فكما لا يُقالُ: رقات ولا خلات ولا رأفات، ولا يُقال: رَحَمات، ودخول الجمعُ يُشْعرُ بالتحذِيرِ والتقييد بعده، والإفْرَادُ مُطْلقاً مِنْ غَيْر تَحْدِيدٍ، فالإفْرَادُ - هنا - أَكْملُ وأكرُ مَعْنًى مع الجمع؛ لأنه زيد بمدلول المفرد أكثر مِنْ مدلولِ الجَمْعِ، ولهذا كان قولُه تَعَالى: {فَلِلَّهِ الحجة البالغة} [الأنعام: 149] أَعَمَّ وأَتَمَّ مَعْنًى مِنْ أَنْ يُقالَ: لِلَّهِ الحُجَجُ البَوالِغُ، وكذا قولُه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أتمُّ مَعْنًى(3/89)
مِنْ أنْ يُقالَ: وإنْ تَعَدُّوا نِعَمَ الله لا تُحْصُوها، وقولُه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً} [البقرة: 201] أتمُّ مَعْنًى مِنْ قوله: حَسَناتٍ، وقولُه: {بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} [آل عمران: 174] ، أتَمُّ معنى من قوله: بنعمٍ، ونظائِرهُ كَثِيرةٌ.
وأما الصّلوات فالمراد بها درجات الثَّوَاب، وهي إنما تحصل شيئاً بَعْدَ شَيْءٍ، فكأنه دلّ على الصِّفَةِ المقصوُدَةِ.(3/90)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ.
أحدُهَا: أَنَّهُ سبحانَهُ وتعالَى بَيَّنّ أَنَّهُ إِنَّمَا حَوَّل القبْلةَ إلى الكعبة؛ ليتُمَّ إِنْعامَه علَى محمَّد [صلواتُ البَرِّ الرِّحيم وسلامُهُ علَيْه] وأمّتِهِ بإِحْيَاءِ شَرِيعَةِ إِبْرَاهيم - علَيه الصَّلاةُ والسلام - لقوله تعالى: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] ، وكان السَّعْيُ بَيْن الصَّفَا والمَرْوَة مِنْ شَرِيعَة إِبْرَاهِيمَ [علَيْه الصَّلاةُ والسَّلاَمُ] فذكَرَ هذا الحُكْمَ عَقبَ تلْكَ الآيَةِ.
وقِيلَ: إنَّه تبارك وتَعالَى [لَمَّا] أَمَرَ بالذِّكْر مُطْلَقاً في قَوْله تعالى: «فَاذكرُونِي» بيّن الأَحوالَ الَّتي يذكر فيها وإحداها الذِّكْر مُطْلقاً.
والثَّانية: الذكْرُ في حَال النِّعْمَةِ، وهو المرادُ بقوله تعالى: {واشكروا لِي} [البقرة: 152] .
الثالثةُ: الذّكْر في حَال الضَّرَّاءِ، فقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع} [البقرة: 155] إلى قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصابرين} [البقرة: 155] ثم بَيَّنَ في هذه الآيةِ المَوَاضِع الَّتِي يُذْكَرُ فيها، ومِنْ جُمْلَتِها عنْد الصَّفَا والمَرْوَةِ، وبَقِيَّة المشَاعِر.
وثانيها: أَنَّهُ لمّا قال سبْحَانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع} [الآية] إلى قوله سبحانَهُ: {وَبَشِّرِ الصابرين} ، ثم قَالَ [عَزَّ وَجَلَّ] : {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ} ، وإنما جَعَلَهَا كذلك، لأنَّها مِن أثار «هَاجَرَ، وإسْمَاعِيل» ، وما جَرَى [عليْهمَا] من البَلْوَى ويُستَدَلُّ بِذلك عَلَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى البَلْوَى، لا بُدَّ وأَنْ يَصِلَ إِلَى أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ.
وثالثها: أنَّ [أقسام] التَّكْليفِ ثَلاثَةٌ:
أحدها: ما يَحْكُمُ العاقلُ [بِحُسْنِهِ] في أَوْلِ الأَمْرِ، فَذَكَرَهُ أَوَّلاً، وهو قوله تعالى: {فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] ؛ فَإنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أنَّ ذِكْرَ المُنْعِمِ بالمَدْحِ، والشُّكْرِ، أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ في العَقْلِ.(3/90)
وثانيها: ما يَحْكُمُ العَقْلُ [بقُبْحِهِ] في أوَّل الأَمْر، إلاَّ أنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الشَّرْع به، وَبَيَّنَ الحِكْمَةَ فِيهِ، [وهي] الابْتِلاءُ، والامْتِحَانُ؛ عَلى ما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] ، فَحِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ المسلمُ حُسْنَهُ، وكَوْنَهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً.
[وثالثها] : ما لا يَهْتَدِي العَقْلُ إلى حُسْنِهِ، وَلاَ إلى [قُبْحِه] ، بَل [يراها] كالعَبَثِ الخَالِي عن المنفَعَةِ والمَضَرَّةِ، وهُوَ مِثْلُ أَفْعالِ الحجِّ مِنَ السَّعِي بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فذكر الله تعالى هذا القِسْمَ عَقِيبَ القِسْمَين الأَوَّلَيْنِ؛ ليكونَ قد نَبَّهَ على جميع أقْسَامِ التكاليفِ.
قوله [تعالى] : «إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ» : [الصَّفَا:] اسمُ «إنَّ» ، و «مِنْ شَعَائِر الله» خَبَرُهَا.
قال أبُوا البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: وفي الكَلاَم حَذْفُ مُضَافٍ، تقديره «طَوَافُ الصَّفَا، أَوْ سَعْيُ الصَّفَا» . وألفُ «الصَّفَا» [مُنْقَلِبَةٌ] عن وَاوٍ؛ بِدَلِيل قَلْبِهَا في التثنية وَاواً؛ قالوا: صَفَوَانِ؛ والاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً؛ لأنَّهُ مِنَ الصَّفْو، وهو الخُلُوصُ، [والصَّفَا: الحَجَرُ الأمْلَسُ] .
وقال القُرْطُبِي: «والصَّفَا مقصورٌ» جمع صَفَاة، وهي الحِجَارة المُلْسُ.
وقيل: الصَّفَا اسْمٌ مُفْرَدٌ؛ وجمعه «صُفِيٌّ» - بِضَمِّ الصاد -[وَأصْفَاء] ؛ على [وزن] أَرْجَاء.
قال [الرَّاجِزُ] : [الرجز]
850 - كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
وقيل: مِنْ شُرُوط الصَّفَا: البَيَاضُ والصَّلاَبَةُ، واشتقاقُهُ مِنْ: «صَفَا يَصْفُو» ، أيْ: [أُخْلِصَ مِن] التُّرابِ والطِّينِ، والصَّفَا: الحَجَرُ الأَمْلَسُ.
وفي كتاب الخَلِيل: الصَّفَا: الحَجَرُ الضَّخْمُ الصُّلْبُ الأَمْلَسُ، وإذا [نَعتُوا] الصَّخْرةَ، قالوا: صَفَاةٌ صَفْوَاءُ، وإذَا ذَكَّرُوا، قالوا: «صَفاً صَفْوَان» ، فجعلوا الصَّفَا [والصَّفَاة] كَأَنَّهما في معنى واحد.
قال المُبَرِّدُ: «الصَّفَا» : كُلُّ حَجَرٍ أَمْلَسَ لا يُخالِطُهُ غَيْرُهُ؛ مِنْ طِين أو تُرَابٍ،(3/91)
وَيَتَّصِلُ به، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَجَمْعِهِ تَاءُ التأنيث؛ نحْوُ: صَفاً كَثِيرٌ، وَصَفَاةٌ وَاحِدَةٌ، وقد يُجْمَعُ الصَّفَا على: فُعُولٍ، وأَفْعَال؛ قالوا: صُفِيٌّن بِكَسْر الصاد، وضَمِّها؛ كُعِصيٍّ، [وأصْفَاء] ، والأصلُ صُفووٌ، وأضْفَاوٌ، وقُلِبَتِ الواوُ في «صُفُووٌ» يَاءَين، والواوُ في «أَصْفَاء» هَمْزةً؛ ك «كِسَاء» وبابه] .
والمَرْوَةُ: الحجارةُ الصِّغَارُ، فقيل: اللَّيِّنَة.
وقال الخَلِيلُ: البيضُ الصُّلْبَة، الشَّدِيدَةُ [الصَّلاَبة] .
وقِيل: المُرْهَفةُ الأَطْرافِ. وقِيل: البيضُ.
وَقِيلَ: السُّودُ. وهُمَا في الآية عَلَمَان لِجَبَلَينِ مَعْرُوفَيْنِ، والألِفُ واللاَّمُ فيهما لِلْغَلَبَةِ؛ كهما في البيت، والنَّجْم، وجَمْعُها مَرْوٌ؛ كقوله [في ذلك] : [الرمل]
851 - وَتَرَى المَرْوَ إذَا ما هَجَّرَتْ ... عَنْ يَدَيْهَا كَالْفَرَاشِ المُشْفَتِرْ
وقال بعضهم: جَمْعُه في القَليلِ: مَرَواتٌ، وفي الكثير: مرو. قال أبو ذُؤَيْب: [الكامل]
852 - حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوِادِثِ مَرْوَةٌ ... [بِصَفَا المُشَقَّرِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَع]
فصل في حد الصفا والمروة
قال الأَزْرَقِيّ: [ذَرْعُ] ما بَيْن الصَّفا والمَرْوَة: [سَبْعمائة ذراع وسِتَّةٌ وَسِتُّون ذِرَاعاً] وَنِصْفُ ذِرَاع.
قال القُرْطُبِيُّ: وَذَكَرَ الصَّفَا؛ لأنَّ آدَمَ [المُصْطَفى -[صلواتُ الله، وسلامه عليه]- وَقَفَ عَلَيْهِ، فسُمِّيَ به؛ وَوَقَفَتْ حضوَّاءُ عَلَى المَرْوَةِ، فَسُمِّيَتْ بِاسم المَرْأة، فأنثت لذلك، والله أعلم] .
قَالَ الشَّعْبِيُّ: كان عَلَى الصَّفَا صنمٌ يُدْعَى «إسَافاً» ، وعلى المَرْوَةِ صَنَمٌ يُدْعَى نَائِلَةَ، فاطّرد ذلك في [التذكير والتأنيث] ، وقُدّم المُذَكَّرُ، وما كان كَرَاهةُ مَنْ كَرِهَ الطَّوَافَ بينهما إلاَّ مِنْ أَجْلِ هذا، حتَّى رفع الله الحَرَجَ من ذلك، وزعَمَ أَهْلُ الكِتَابِ:(3/92)
أَنَّهما كانا آدميّين زنيا في الكَعْبَة، فمسَخَهُما اللهُ حَجَرَين، فوضَعَهُما على الصَّفَا، والمَرْوَة؛ ليُعتبر بهما؛ فلمَّا طالبت المُدَّةُ، عُبدا مِن دُون الله، والله - تعالى - أعلم.
فصل في معنى «الشعائر»
و «الشَّعَائرُ» : جَمْهُ شَعِيرَةٍ، وهي العلامة، فَكُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ عَلَماً مِنْ أعلام طاعةِ الله، فهو من شَعَائِر الله تعالى. قال تبارك وتعالى: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} [الحج: 36] ، أي: عَلامَةً [للقُرْبَةٍ، ومنه: إشعارُ السَّنَام [وَهُو أن تُعْلَمَ بالمُدْيَة] وَمِنْهُ: الشِّعارُ في الحَرْب، [وهي العلامةُ الَّتي يتبيَّن بها إحدى الفئَتَين من الأخْرَى] ومنه قولُهُمْ: شَعَرْتُ بِكَذَا، أي: عَلِمْتُ به، وقيل: الشَّعَائِرُ جمع [شَعِيرَةٍ] ، والمرادُ بها في الآية الكريمة مَنَاسِكُ الحَجِّ، ونقل الجَوْهَرِيُّ أنَّ الشَّعَائِرَ هي العباداتُ، والمَشَاعِرَ أماكنُ العبَادَاتِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الشَّعَائِرِ وَالمَشَاعِرِ.
وقال الهَرَوِيٌّ: الأجْوَدُ: لا فَرْقَ بينهما، والأَجْوَدُ شَعَائرُ بالهَمْز؛ لزيادة حَرْفِ المَدِّ، وهو عكسُ «مَعَايش» و «مصايب» .
فصل في الشعائر هل تحمل على العبادات أو على موضع العبادات
الشَّعَائِرُ: إمَّا أنْ نَحْمِلَهَا على العبادات، أو النُّسُك، أو نَحْمِلَهَا على مَوْضِع العبادات والنُّسُكِ؟!
[فإن قُلْنَا بالأَوَّلِ، حَصَلَ في الكَلاَم حَذْفٌ؛ لأنَّ نَفْسَ الجَبَلين لا يَصِحُّ وَصْفُهُمَا بأنَّهُمَا دِينٌ وَنُسُكٌ؛ فالمرادُ بِهِ أنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا أو السَّعْيَ مِنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى.
وإنْ قُلنا بالثاني: اسْتَقَامَ ظَاهِرُ الكلام؛ لأنَّ هَذَين الجَبَلَيْنِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَا مَوْضِعَيْنِ لِلْعِبَادَةِ والنُّسُكِ] .
وكيف كان؛ فالسَّعْيُ بينهما من شعائر الله، ومن أعلام دِينهِ، وقد شَرَعَهُ الله [تَعَالى] لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -[لإبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ] ، قبل ذلك، وهو من المَنَاسِكِ الَّتي عَلَّمها الله [تَعَالى] لإبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إجابةً لِدَعْوَتِهِ في [قولِهِ تَعَالى] : {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] . وَاعْلَمْ أنَّ [السَّعْيَ ليْسَ] عبادَةٌ تامَّةٌ في نَفْسِهِ، بل إنما يَصِيرُ عبادة إذا صار بعضهاً من أبْعاضِ الحجِّ والعُمْرَةِ، فلهذا بَيَّنَ الله تبارك وتعالى المَوْضِعَ الَّذِي يَصِيرُ فيه السَّعْيُ عبادةً، فقال [سبحانه] : {فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .
والحكمةُ في شَرْعِ هذا السّعي: ما حُكِيَ أن هَاجَرَ حينَ ضاق بها الأَمْرُ في عَطَشها، وعطشِ ابْنها إسْمَاعيلَ، سَعَتْ في هذا المكانِ إلى أن صَعِدَتِ الجَبَلَ، ودَعَتْ، فأَنْبَعَ الله(3/93)
لَهَا زَمْزَمَ، وأجاب دُعَاءَها، وجعل فِعْلَها طاعةً لجميع المكلَّفين إلى يَوْم القيَامَة.
قوله [تعالَى] : «فَمنْ حَجَّ البَيْتَ» .
«مَنْ» : شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء و «حَجَّ» : في مَوْضِع جزمٍ بالشرط و [البيت «نصبٌ على المفعول به، لا على الظَّرْف، والجوابُ قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} .
و» الحَجُّ «: قال القَفَّال - رَحِمَهُ اللهُ - فِيه أَقْوَالٌ:
أحدها: أنَّ الحَجَّ في اللغةِ كَثْرَةُ الاخْتِلافِ إلى الشَّيءِ والتردُّد إليه، فإنَّ الحاجَّ يأتيه أوّلاً؛ لِيَزُورَهُ، ثُمَّ يعودُ إلَيْه للطَّوَاف، ثم ينصرفُ إلى مِنَى، ثم يَعُودُ إليه؛ لطَوَافِ الزِّيارة، [ثم يَعُودُ لطَوافِ الصَّدر] .
وثانيها: قال قُطْرُبٌ [الحَجُّ] الحَلْقُ، يقال: احْجُجْ شَجَّتَكَ، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشَّجَّة؛ ليدخل القدحُ في الشَّجَّة.
وقال الشاعر: [الطويل]
853 - وَأشْهَد مِنْ عوفٍ حُلُولاً كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُعَصْفَرَا
» السِّبُّ «: لفظٌ مشتَرَكٌ، قال أبُو عُبَيْدَةَ: السِّبُ، بالكَسْرِ: السِّبَابُ، وَسِبُّكَ أيضاً: الذي يُسَابُّكَ؛ قال الشاعر: [الخفيف]
854 - لاَ تَسُبَّنَّني فَلَسْتَ بِسِبِّي ... [إنَّ سِبِّي] مِنَ الرِّجَالِ الكَرِيم
والسِّبُّ أيضاً: الخِمَارُ والعِمَامَةُ.
قال المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ: [الطويل]
855 - ... ... ... ... ... ... ..... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُعَصْفَرَا
والسِّبُّ أيضاً: الحَبْلُ في لغة هُذَيل؛ قال أبُو ذُؤَيْبٍ: [الطويل]
856 - تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَيْطَةٍ ... بِجَرْدَاءَ مِثْل الوكْفِ يَكْبُوا غُرابُهَا(3/94)
والسبوبُ: الحِبَالُ، والسِّبُّ: شُقّة كتان رقية والسُّبية مثله، والجَمْعُ: السُّبُوب والسَّبَائب، قال الجَوْهَرِيُّ؛ فيكون المَعنَى: حَجَّ فلانٌ، أي: حَلَّقَ.
قال القَفَّالُ - رحِمَهُ الله تعالى -: وهذا مُحْتَملٌ؛ كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ، أي: حُجَّاجاً وعُمَّاراً؛ فَعَبَّرَ عَنْ ذلك بالحَلْق، فلا يَبْعُدُ أن يكون الحَجُّ مُسَمَّى بهذا الاسمِ لمعنى الحَلْقِ.
وثالثها: الحَجُّ: القَصْدُ.
ورابعها: الحَجُّ في اللغة: القَصْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
قال الشاعر: [البسيط]
857 - يَحُجَّ مَأْمُومَةً في قَعْرِهَا لَجَفٌ..... ... ... ... ... ... ... ... . .
اللَّجَفُ: الخَسْفُ أسْفَلَ البئرِ، نقله القُرْطُبيُّ.
يُقَالُ: رَجُلٌّ مَحْجُوجٌ، أي: مَقْصُودٌ، بمعنى: أنَّه يُخْتَلَفُ إِلَيْه مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
قال الراغبُ: [الرجز]
858 - لِرَاهِبٍ يَحُجُّ بَيْتَ المَقْدِسِ ... في مِنْقَلٍ وَبُرْجُدٍ وَبُرْنُسِ
وكذلك مَحَجَّةُ الطَّريقِ: وهي التي كَثُر فيها السَّيْرُ، وهذا شَبِيهٌ بالقَوْل الأوَّل.
قال القَفَّالُ: «والأول أشْبَهُ بالصَّوَاب» .
والاعْتِمَارُ: الزِّيَارَةُ.
وقِيلَ: مُطْلَقُ القَصْدِ، ثم صارا عَلَمَين بالغَلَبَةِ في المعاني؛ كالَبْبيت [والنَّجْم] في الأعيان.
وقال قُطْرُبٌ: العُمْرَةُ في لُغَةِ [عَبْد] القَيْسِ: المَسْجِدُ والبِيعَةَ والكَنِيسَةُ.
قال القَفَّالُ: والأشْبَهُ بالعُمَرَةِ إذا أُضِيفَتْ إلى البيت أن تَكُون بمعنى الزِّيَارةِ؛ لأنَّ المُعْتَمِرَ يَطُوف بالبيت، وبالصفا، والمروة، ثم ينصرف كالزَّائر.(3/95)
قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ] الظاهرُ: أنَّ «عَلَيْه» خَبَرُ «لاَ» ن و «أن يَطَّوَّفَ» : أَصْلُهُ [ «في أنْ يَطَّوَّفَ» ] ، فحذف حَرْفَ الجَرِّ، فيَجيءُ في محلِّها القولان النصبُ، أو الجَرُّ، والوقْفُ في هذا الوجه على قوله «بهما» ، وأجازوا بَعْدَ ذلك أوجُهاً ضَعِيفةً.
منها: انْ يَكُونُ الكلامُ قَدْ تَمَّ عند قوله: «فَلاَ جُنَاحَ» ؛ على أن يكون خبر «لا» محذوفاً، وقَدَّرَهُ أبُو البَقاءِ «فلا جناح في الحج» ، ويُبْتَدأُ بقوله «عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوفَ» فيكون «عَلَيْهِ» خبراً مقدماً وان يطوف في تأويل مصْدرٍ مَرْفُوعٍ بالابْتِدَاء؛ فإنَّ الطوافَ وَاجبٌ.
قَالَ أبُو البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ -: والجيدُ أَنْ يَكُونَ «عَلَيْهِ» في هذا الوجه خَبَراً، و «أَنْ يَطَّوَّفَ» مُبْتَدأ.
وَمِنْهَا: «أَنْ يكُون» عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ «مِنْ بِابِ الإِغْرِاء؛ فيكونَ» أَنْ يَطَّوَّفَ «في محلْ النصْب؛ كقولك:» عَلَيْكَ زَيْداً «أي:» الْزَمْهُ «، إلاَّ أنَّ إغرار الغَائِب ضَعِيفٌ، حكى سيبَوَيْهِ:» عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَنِي «قال: وهو شاذٌ.
ومنها: أنَّ» أنْ يَطَّوَّفَ «في مَحَلَّ رفع خبراً ثانياً ل» لا «، [والتقديرُ: فَلاَ جُنَاحَ عليه في الطَّوَاف بِهِمَا.
ومنها:» أنْ يَطَّوَّفَ «: في محلّ نصبٍ على الحال من الهَاءِ في» عَلَيْهِ «، والعامل في الحالِ العَامِلُ في الخَبَرِ] .
والتقديرُ: {فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ في حالِ طَوَافِهِ بهما} وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهُما تنبيهاً على غلطهما.
وقراءةُ الجمهور: «أنَّ يَطَّوَّفَ» بغير «لا» وقرأ أنس، وابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وابنُ سيرين، وشهر بن حوشب: «أنْ لاَ يَطَّوَّفَ» ، قَالُوا: وكذلك في مُصْحَفَيْ أَبَيٍّ، وعبد الله، وفي هذه القراءة احتمالان:
أحدهما: أنها زائدةٌ؛ كهي في قوله: {أَلاَ تَسْجُدَ} أعراف: 12] ، وقوله [الرجز]
859 - وَمَا أُلُومُ البِيضَ أَلاَّ تَسْخَرَا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا
وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتَينِ.
والثَّاني: أنَّها غيرُ زائدةٍ: بمعنى: أنَّ رفع الجُنَاح في فعل الشيء، وهو رفعٌ في تركه؛ إذ هو تمييزٌ بَيْنَ الفعلِ والتَّرْك؛ نحو: «فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا» فتكون قراءة الجُمْهُور فيها رفعُ الجُنَاحِ في فِعْلِ الطَّوافِ نَصًّا، وفي هذِهِ رَفْعُ الجُنَاح في التَّرك نصًّا،(3/96)
والجُنَاحُ: أصْلُه من المَيْل؛ من قولهم: جَنَحَ إلى كذا، أي: مال إليه؛ قال سبحانه وتعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} [الأنفال: 61] وجَنَحَتِ السَّفينةُ: إذَا لَزِمَت المَاءَ، فلم تَمْضِ.
وقيل للأضْلاَعِ، «جَوَانِحُ» ؛ لاعوجَاجِها، وجَنَاحُ الطَّائِر مِن هذا؛ لأنَّه يَمِيلُ في أَحَدِ شِقَّيْهِ، ولا يطيرُ على مستوى خلقته.
قال بعضهم: وكذلك أيضاً عُرْفُ القرآنِ الكَرِيمِ، فمعناه: لا جُنَاحَ عليه: أي: لا مَيْلَ لأَحدٍ عليه بمطالبَةِ شَيءٍ من الأشياء.
ومنهم من قال: بَلْ هو مختصٌّ بالمَيْل إلى البَاطلِ، وإل ما يؤْلَمُ به.
و «أنْ يَطَّوَّفَ» أي: «يَتَطَوَّفَ» ، فأُدْغِمَت التَّاءُ في الطاء؛ كقوله: {ياأيها المزمل} [المزمل: 1] ، {ياأيها المدثر} [المدثر: 1] ويقال: طَافَ، وأَطَافَ: بمعنىَ واحدس.
وقرأ الجُمْهُور «يَطَّوَّفَ» بتشديد الطاء، والواو، والأصل «يَتَطَوَّفَ» ، وماضيه كان أًله «تَطَوَّفَ» ، فلما أرد الإدغام تخفيفاً، قُلِبَتِ التاء طاء، وأُدْغِمَتْ في الطاء، فاحتيجَ إلى هَمزةِ وصْلٍ؛ لِسُكُونِ أوَّله؛ لأجل الإدغامن فأتى بها فجاء مضارعُهُ عليه «يَطَّوَّفَ» ، فانحذفت همزة الوصل؛ لتحصُّنِ الحرفِ المُدْغَم بحرف المضارعة ومصْدَره على «التَّطَوُّف» ؛ رجوعاً إلى أصل «تَطَوَّفَ» . وقرأ أبو السَّمَّال: «يَطُوفَ» مخفَّفاً من: طَافَ يَطُوفُ، وهي سهل، وقرأ ابن عباس: «يَطَّافَ» بتشديد الطاء، [مع الألِفِ، وأصله «يَطتَوف» على وزن «يَفْتَعِل» ، وماضيه على «اطْتَوَف» افْتَعَلَ، تحرَّكَتِ الواوُ، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، ووقعت تاء الافتعال بعد الطاء؛ فوجب قلبها طاء، وإدغام الطاء] فيها؛ كما قالوا: اطَّلَبَ يَطَّلِبُ، والأصل: «اطْتَلَبَ، يَطْتَلِبُ» ، فصار «اطَّافَ» ، وجاء مضارعُهُ عيله: «يَطَّافُ» هذا هو تصريفُ هذه اللفْظَة من كون تاء الافْتِعَالِ تُقَلَبُ طاءَ، وتُدْغَمُ فيها الطاءُ الأولى.
وقال ابن عَطِيَّة: فجاء «يَطْتَافُ» أُدْغِمَتِ [التاءُ بعد الإسكان في الطاء على مَذْهَبِ مَنْ أجاز إدْغَام الثَّاني] في الأوَّل، كما جاء في «مُدَّكِرٍ» ومن لم يُجِزْ ذَلِكَ، قال: قُلِبَتِ التاءُ طاءً، ثم أدغمت الطاء في الظَّاء، وفي هذا نَظَرٌ، لأنَّ الأصْلِيَّ أُدْغِمَ في الزائدِ، وذلك ضعيفٌ. وقول ابنِ عَطيَّة فيه خطأٌ من وجهين:(3/97)
أحدهما: كونُهُ يَدَّعِي إدْغَامَ الثَّاني في الأوَّل، وذلك لا نَظِيرَ له، إنَّمَا يُدْغَمْ الأَوَّل في الثَّاني.
والثاني: قوله: كَمَا جَاءَ في «مُدَّكر» ؛ لأنَّه كان يَنْبَغِي على قوله: أن يُقَالَ: «مُذَّكر» بالذَّال المُعَجَمة، لا الدَّال المهملة [وهذه لغةَ رَدِيئةٌ، إنَّما اللُّغة الجيِّدة بالمهملة؛ لأنَّا قَلَبْنَا تَاءَ الافتعالِ بَعَدَ الذَّال المعجمةِ دَالاً مهملةً] ، فاجتمع متقاربَان، فقلَبْنَا أوَّلَهُما لجنْسِ الثَّاني، وأدغَمْنَا، وسيأتي تحقيقُ ذلك.
ومصدر «أطَّافَ» على «الأطِّيَافِ» بوزن «الافْتِعَالِ» ، والأصلُ «اطِّوَافِ» فكسر ما قبل الواو، فقُلِبَتْ ياءً، وإنَّمَا عادَتِ الواوُ إلى أصْلها؛ لزوالِ مُوجِبِ قَلْبها ألفاً؛ ويوضِّح ذلك قولهم: اعْتَادَ اعْتِيَاداً والأصل: «اعْتِوَادٌ» ففُعِلَ به ما ذكرتُ [لك] :
قوله تعالى: { «وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً» قرأ حَمْزَةُ والكِسَائيُّ «يَطَّوَّعْ» هنا وفي الآية الَّتي بعدها بالياء وجزم العين فعلاً مضارعاً.
قال ابن الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهذا أحْسَنُ أيضاً؛ لأنَّ المعنى على الاسْتقْبَال والشرط، والجزاء، والأحْسَنُ فيهما الاستقبال، وإن كان يَجُوز أن يقال: «مَنْ أتَانِي أَكْرَمْتُهُ» .
وقراها الباقُونَ بالتاء فعلاً ماضياً، فأما قراة حَمْزَة، فتكون «مَنْ» شرطيَّةً، فتعمل الجَزْمَ، وافق يَعْقُوبُ في الأُوْلَى، وأصل «يَطَّوَّعُ» «يَتَطَوَّعُ» فأدغمَ على ما تقدَّم في «تَطَوَّفَ» ، و «مَنْ» في محل رفع بالابتداء، والخَبَر فعْلُ الشَّرْطِ؛ على ما هو الصحيح كما تقدَّم تحقيقُهُ.
وقوله: «فإنَّ الله» جملةٌ في محلِّ جَزْمٍ، لأنَّها جوابُ الشَّرط، ولا بُدَّ مِن عائِد مقدَّر، أي: فإنَّ الله شاكِرٌ له.
فصل
قال أبو البَقَاءِ: وإذا جُعِلَتْ «مَنْ» شَرْطاً، لم يَكُنْ في الكلام حَذْفُ ضمير؛ لأنَّ ضمير «مَنْ» في «تَطَوَّعَ» وهذا يخالفُ ما تقدَّم عن النُّحَاةِ؛ من أنَّ إذَا كَانَ أدَاةُ الشَّرطِ اسماً، لَزِمَ أن يكون في الجواب ضميرٌ يَعُودُ عليه، وتقدَّم تحقيقه.
وأما قراءةُ الجُمْهُور، فتحملُ وجْهَيْن:(3/98)
أحدهما: أن تكون شرطيَّةً، والكلام فيها كما تَقَدَّمَ.
والثاني: أن تكون موصولةً، و «تَطَوَّعَ» صلتها، فلا محَلَّ لها من الإعراب حينئذٍ، وتكون في مَحَلِّ رفْع بالابتداء أيضاً، و «فإِنَّ الله» خبَرُهُ، ودَخلَتِ الفاءُ؛ لما تضمَّن «مَنْ» مَعْنى الشَّرط، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم، أي: شَاكِرٌ لَهُ.
وانتصاب «خَيْراً» على أحَدِ أوْجُهٍ:
أحدها: إمَّا على إسْقَاط حَرْفِ الجَرِّ، أي: تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ، فلمَّا حذف الحَرْف، انتصب؛ نَحْو قوله: [الوافر]
860 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تعُوجُوا..... ... ... ... ... ... ... ... .
وهو غير مقِيسٍ.
والثاني: أن يكونهَ نعْتَك مصْدرٍ محذوفٍ، أي: «تَطَوُّعاً خَيْراً» .
والثالث: أن يكونَ حالاً مِنْ ذلك المَصْدرَ المقدَّر معرفةً.
وهذا مذهَبُ سِيبَوَيْهِ، وقد تقدَّم {غَيْرَ مرَّة] ، أو على تضمين «تَطَوَّعَ» فعلاً يتعدَّى، أي: من فَعَلَ خَيْراً مُتَطَوَّعاً به.
وقد تَلَخَّصَ مما تقدَّم أنَّ في قولِهِ: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} وجْهَين:
أحدهما: الجزمُ على القَوْل بكَوْن «مَنْ» شرطيَّةً.
والثاني: الرَّفْعُ؛ عَلَى القَوْلِ بِكَوْنها موصولةً.
فصل في ظاهر قوله: «لا جُنَاحَ عَلَيْهِ»
ظاهرُ قَوْله - تبارك وتعالى -: «لاَ جَنَاحَ عَلَيْهِ» : أنه لا إثْم عليهِ، [وأن الذي يَصْدُقُ عليه: أنَّه لا إثْمَ عليه] في فعله يَدْخُلُ تحته الواجبُ والمَنْدُوبُ، والمُبَاحُ، فلا يتميَّز أحدُهُما، إلاَّ بقِيْدٍ زائدٍ، فإذَنْ: ظاهرُ الآية لا يدلُّ على أنَّ السَّعْيَ بين الصَّفاء والمَرْوة واجبٌ، أو مسنونٌ؛ لأنَّ اللَّفظ الدَّالَّ على القَدْرِ المُشْتَرَكِ بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة على خصوصيَّة كلِّ واحدٍ من تلك الأقسام، فإذَنْ، لا بُدَّ من دليل خارجيٍّ، يدلُّ على وجوب السَّعْي، أو مسنونِيَّتِهِ، فذهب بعضهم إلى أنه ركْنٌ، ولاَ يقومُ الدَّمُ مَقَامه.
وعند أبي حنيفَة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: أنه ليس بركنٍ، ويُجْبَرُ بالدم، وعن ابن الزُّبَيْرِ، ومجاهدٍ، وعَطَاءٍ: أنَّ مَنْ تركه، فلا شيء عليه.(3/99)
احتجَّ الأَوَّلُون بقوله عليه [أفْضَلُ] الصَّلاة والسَّلام - «إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ، فَاسْعَوا»
فإن قيل: هذا متروك الظَّاهر، لأنَّه يقتضي وجُوبَ السَّعْي، وهو العدوُ، وذلك غير واجبٍ.
قلنا: لا نسلِّم أنَّ السَّعْيَ عبارةٌ عن العدو؛ [بدليل قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 39] والعَدْوُ فيه غَيْرُ واجبٍ] وقال - تبارك وتعالى -: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] وليس المراد منه العَدْوَ، بل الجِدَّ، والاجتهاد، سلَّمنا أنه العَدْوُ، ولكنَّ العدو مشتملٌ على صفة تُرك العملُ به في هذا الصِّفات، فيبقى أصل المشي واجباً:
واحتجُّوا أيضاً: بأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما دنا من الصَّفا، قال: «إنَّ الصَّفَا والمَروَةَ مِنْ شَعَائِر اللهِ، ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ به» فبدأ بالصَّفَا فرقي عليه، ثم سعى، وقال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وقال تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] وقال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وقالوا: إنه أشواطٌ شُرعت في بقعة من بِقَاعِ الحَرَمِ ويُؤْتَى به في إحرام كاملٍ، فكان جِنْسُهَا رُكناً؛ كطَوَافِ الزَّيَارة، ولا يلْزَمُ طَوَافُ الصَّدرِ، لأنَّ الكلامَ للجنسِ؛ لوجوبه مرة.
واحتجَّ أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - بوجوهٍ:
منها: قوله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وهذا لا يقال في الواجبات، وأكَّد ذلك بقوله: «وَمَنْ تَطَوَّعَ» فبيَّن أنه تطوُّع ولَيْسَ بواجبٍ.
ومنها: [قوله] : «الحَجُّ عَرَفَةُ فمن أدرك عرفة، فقد تمَّ حَجُّهُ» ، وهذا يقتضي التمام(3/100)
من [جميع] الوجوه؛ ترك العمل به في بعض الأشياء؛ فيبقى معمولاً به في السَّعْي.
والجوابُ عن الأوَّل من وجوه:
الأوَّل: ما بيَّنَّا [أن قوله] : «لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ» [ليس فيه إلاَّ أنه لا إثم على فاعله] وهذا القدر مشتركٌ بين الواجب، وغيره؛ فلا يكون فيه دلالةٌ على نفي الوجوب، وتحقيق ذلك قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] والقصر عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - واجبٌ، مع أنَّه قال فيه: «فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» كذا ههنا.
الثاني: انه رفع الجَنَاحُ عن الطَّوَاف [بهما لا عن الطَّوَاف بينهما] .
والأوَّل عندنا غير واجب، والثاني هو الواجب.
الثالث: قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - كان على الصَّفا صنمٌ، [وعلى المَرْوَة صنمٌ، وكان الذي على الصَّفَا] اسمُهُ: «إسَافٌ» ، والذي على المَرْوَة صنمٌ اسمه «نَائِلَة» وكان أهل الجاهليَّة يطوفون بهما، فلمَّا جاء الإسلام، كره المسلمون الطَّوَافِ بهما؛ لأجل الصنمي، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة. إذا عرفت هذا، فنقول: انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حالالطَّواف، لا إلى نفس الطَّوَاف؛ كما لو كان في الثَّوب نجاسةٌ يسيرٌ عندكم، أو دم البراغيث عندنا، فقيل: لا جُنَاحَ عليكم أن تصلوا فيه، فإنّ رفع الجُنَاحِ ينصرف إلى مكان النجاسة، لا إلى نفس الصلاة.
الرابع: كما ان قوله: «لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» لا يطلق على الواجب، فكذلك لا يطلق على المندوب؛ ولا شكَّ في أنَّ السَّعْيَ مندوبٌ، فقد صارت الآية متروكة الظاهر، والعمل بظاهرها، وأما التمسُّك بقوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} [البقرة: 184] فضعيفٌ، وإنه لا يمكن أن يكون المراد من هذا التطوع من الطَّوَافَ المذكور، بل يجوز أن يكون المراد منه شيئاً آخر؛ كقوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ثم قال: «فَمَن تَطَوَّعَ خيراً» فأوجب عليه الطَّعام، ثم ندبهم إلى التَّطوُّع بالخيرِ، فكان المعنى: فمن تَطَوَّعَ؛ فزاد على طعام مسكينٍ، كان خيراً له، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوُّع مصروفاً إلى شيء آخر؛ وهو من وجهين.
أحدهما: أنه يزيد في الطَّوَاف، فيطُوفُ أكْثَرَ من الطَّوَافِ الواجبِ، مثلُ أن يطُوفَ ثمانية أو أكثر.(3/101)
والثاني: أن يتطوَّع بعد فرض الحجِّ وعمرته بالحجِّ والعمرة مرةً أخرى؛ حتى طاف بالصَّفَا والمَرْوَة تطوُّعاً.
وقال الحَسَنُ وغيره: أراد سائر الأعمال، يعني: فعل غير الفرض؛ من صلاةٍ، وزكاةٍ، وطواف، وغيرها من أنواع الطَّاعات.
وأصل الطاعة الانقيادُ.
وأما الحديث: فنقول فيه إنه عام، وحديثنا خاص، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ.
قوله تعالى: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} .
قال ابنُ الخَطِيب: اعلَمْ أنَّ الشاكِرَ في اللُّغة هو المظهر للإنعام عليه، وذلك في حقِّ الله محالٌ، فالشاكر في حقِّه - تبارك وتعالى - مجازٌ، ومعناه المجازيُّ على الطاعة، وإنما سمى المجازاة على الطَّاعة، شكراً؛ لوجوه:
الأول: أن اللفظ خرج مخرج التلطُّف للعبادة، ومبالغة في الإحسان إليهم؛ كما قال تعالى {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] وهو سبحانه وتعالى لا يستقرض من عوض، ولكنه تلطف في الاستدعاء؛ كأنه قيل: من ذا الذي يعمل عمل المقرض؛ بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدّم.
الثاني: أنَّ الشُّكر لما كان مُقابلاً [للإنعام أو الجزاء] عليه، سُمِّي كلُّ ما كان جزاء شكراً؛ على سبيل التشبيه.
الثالث: أن الشكر اسم لما يجازى به، والله تعالى هو المجازي، فسمِّي شاكراً، فعلاقة المجازاة.
[وقال غيره:] بل هو حقيقةٌ؛ لأنَّ الشكر في اللُّغة: هو الإظهار؛ لأنَّ هه المادَّة، وهي الشين، والكاف، والراء تدلُّ على الظُّهور، ومنه: كَشَرَ البَعِيرُ عن نَابه، إذا أظهره؛ فإنَّ الله تعالى يظهر ما خَفِيَ من أعمال العبد من الطَّاعة، ويُجَازِي عليه.
وقيل: الشُّكْرُ: الثناء، والله تعالى يُثْني على العبد، فلا يبخس المستحقَّ حقَّه، لأنَّه عالمٌ بقدره، ويحتمل أنه يريد أنَّه عليمٌ بما يأتي العَبْدُ، فيقوم بحقِّه من العبادة والإخلاص.(3/102)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
في «الكاتِمِينَ» قولان:(3/102)
أحدهما: أنه كلامٌ مستأنفٌ يتناولُ كلَّ من كتم شيئاً من الدين.
الثاني: عن ابن عبَّاس، ومجاهد، والحسن، وقتادة والرَّبيع، والسُّدِّيِّ، والأصَمِّ: أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى.
الثالث: نزلت في اليهود والَّذين كتموا ما في التَّوراة من صفة محمد - صلوات الله وسلامه عليه -.
قال ابن الخَطِيبِ: والأوَّل أقرب إلى الصَّواب؛ لوجوه:
الأوَّل: أن اللفظ عامٌّ، وثبت في «أُصُول الفقه» أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصص السَّبب.
الثاني: ثبت أيضاً في «أُصُول الفقه» أن العبرة بعموم اللَّفظ، وأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب [مُشْعِرٌ بالعِلِّيَّة] ، وكتمانُ الدِّين يُناسبُ استحقاق اللَّعن؛ فوجب عموم الحكم عند عموم الوصف.
الثالث: أن جماعةً من الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - حملوا هذا اللَّفظ على العموم؛ كما روي عن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْها - أنها قالت: «مَنْ زَعَمَ أنَّ مُحَمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَتَمَ شَيْئاً مِنَ الوَحْي، فَقَدْ أعْظَمَ الفِرْيَةَ على اللهِ تَعَالَى» ، واللهُ تَعَالَى يقول: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} [البقرة: 159] «فحملت الآية على العموم.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال [لَوْلاَ آية] من كتاب الله، ما حَدَّثْتُ حديثاً بعد أن قال النَّاس: أكْثَرَ أبو هُرَيْرَة، وتَلاَ: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات} .
احتجَّ من خصَّ الآية بأهل الكتاب: أنَّ الكتمان لا يصحُّ إلاَّ منهم في شرع نبوَّة محمَّد - صلواتُ الله، وسلامه عليه - وأمَّا القرآن، فإنَّه متواترٌ، فلا يصحُّ كتمانُهُ.
والجواب: أنَّ القرآن الكريم قبل صَيْرُورَتِهِ متواتراً يَصِحُّ كتمانُهُ، والكلامُ إنَّما هو فيما يحتاج المكلَّف إليه.(3/103)
فصل في تفسير» الكتمان «
قال القاضي: الكتمانُ ترك إظهار الشَّيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى أظهار؛ للأأنَّه متى لم يكن كذلك، لا يُعَدُّ من الكتمان، فدلَّت الآية على أنَّ ما يتَّصلُ، بالدِّين، ويحتاج المكلَّف إليه، لا يجوز كتمانه.
ونظيرُ هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] فهذه كلُّها زواجرُ عن الكتمان.
ونظيرها في باين العلم، وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه، قوله سبحانه: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
وروى أبو هريرة عن النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مَنْ كَتَمَ عِلْماً يَعْلَمُهُ جِيءَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ «(3/104)
واعلم أن العالم، إذا قصد كتمان العلم، عصى، وإن لم يقصده، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره، وأما من سئل، فقد وجب عليه التبليغ؛ لهذه الآية، وللحديث.
واعلم أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن، ولا العلم؛ حتى يسلم، ولا يجوز تعليم المبتدع الجدال، والحجاج، ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجَّةً، ليقتطع بها ماله، ولا السُّلطان تأويلاً يتطرَّق به على مكاره الرَّعيَّة، ولا ينشر الرُّخص من السُّفهاء، فيجعلوا ذلك طريقاً إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات، ونحو ذلك. وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «لاَ تَمْنَعُوا الحِكْمَةَ أَهْلَهَا؛ فَتَظْلِمُوهُمْ، وَلاَ تَضَغُوهَا في غَيْرِ أَهْلِهَا، فَتَظْلِمُوهَا»
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لاَ تُعَلِّقُوا الدُّرَّ في أَعْنَاقِ الخَنَازِيرِ» يريد تعليم الفقه من ليس من أهله.
قوله تعالى: «مَا أَنْزَلْنَا» مفعول ب «يَكْتُمُونَ» ، و «أَنْزَلْنَا» صلته، وعائده محذوف، أي: أنزلناه، و «مِنَ البَيِّنَاتِ» [يجوز فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أنها حالٌ من «ما» الموصولة، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: كائناً من البَيِّنَات.
الثاني: أن يتعلَّق ب «أَنْزَلْنَا» فيكون مفعولاً به، قاله أَبُو البَقَاءِ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّه إذا كان مفعولاً به، لم يتعد الفعل إلى ضمير، وإذا لم يتعدَّ] إلى ضمير الموصول، بقي الموصول بلا عائد.
الثالث: أن يكون حالاً من الضمير العائد على الموصول، والعامل في «أَنْزَلْنَا» ؛ لأنه عامل في صاحبها.
فصل في المراد من «البيِّنات»
والمراد من «البَيِّنَاتِ» ما أنزلنا على الأنبياء من الكتاب والوحي، دون أدلَّة العقل.(3/105)
وقوله «والهُدى» يدخل فيه الدَّلالة العقليَّة، والنَّقْليَّة؛ لما تقدَّم في دليل قوله {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 3] أنَّ الهدى عبارةٌ عن الدلائل، فيعمُ الكُلَّ. فإن قيل: فقد قال: {والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} فعاد إلى الوجه الأوَّل.
قلنا: الأوَّل: هو التنزيل، والثاني: ما يقتضيه التنزيل من الفوائد.
وهذه الآية الكريمة تدلّ على أن من أمكنه بيان أصول الدِّين بالدلائل العقليَّة لمن كان محتاجاً إليها، ثم تركها، أو كتم شيئاً من أحكام الشرع مع الحاجة إليه، فقد لحقه هذا الوعيد.
قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} متعلِّق ب «يَكْتُمُونَ» ، ولا يتعلَّق ب «أَنْزَلْنَا» لفساد المعنى؛ لأنَّ الإنزال لم يكن بعد التَّبيين، وأمَّا الكتمان فبعد التَّبيين، والضمير في [ «بَيَّنَّاهُ» يعودُ على «ما» الموصولة.
وقرأ الجمهور «بَيَّنَّاهُ» ، وقرأ طلحة بنُ مُصَرِّف «بَيَّنَهُ» على ضمير الغائب، وهو التفاتٌ من التكلّم إلى الغيبة، و «للنَّاس» متعلِّق بالفعل قبله.
وقوله: «في الكِتَابِ» يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه متعلِّق بقوله: «بَيَّنَّاهُ» .
والثاني: أنه يتعلَّق بمحذوف؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المنصوب في] «بَيَّنَّهُ» أي: بيَّنَّاهُ حال كونه مستقرّاً كائناً كائناً في الكتاب، والمراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة.
فصل في حكم هذا «البيان»
قال بعضهم: هذا الإظهار فرضٌ على الكفاية، لأنَّه إذا أظهره البعض، صار بحيث يتمكنَّ كلُّ أحدٍ من الوصول إليه، فلم يبق مكتوماً، وإذا خرج عن حد الكتمان، لم يجب على البقاين إظهاره مرةً أخرى، والله أعلم.
فصل في الاحتجاج بقبول خبر الواحد
من الناس من يحتجُّ بهذه الآيات على قبول خبر الواحد، لأنَّ أظهار هذه الأحكام واجبٌ، [ولو لم يجب العمل] ، لم يكن إظهارها واجباً، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} [البقرة: 160] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.(3/106)
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون كل واحد كان منهيّاً عن الكتمان، ومأموراً بالبيان؛ [ليكثر المخبرون] ؛ فيتواتر الخبر.
فالجواب: هذا غلط؛ لأنَّهم ما نهوا عن الكتمان، إلاَّ وهم ممن يجوز عليهم الكتمان، ومن جاز منهم التَّواطؤ على الكتمان، جاز منهم التواطُؤُ على الوضع والافتراء، فلا يكو خبرهم موجباً للعلم، والمراد من [الكتاب] قيل: التَّوراة والإنجيل، وقيل: القرآن، وقيل: أراد بالمُنْزَل الأوَّل ما فيه كتب المتقدَّمين، والثَّاني ما في القرآن.
قوله تعالى: «أولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ» يجوز في «أولَئِك» وجهان:
أحدهما: أن يكون مبتدأ، و «يَلْعَنُهُم» الخبر؛ لان قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} يحتمل أن يكون معطوفاً على ما قبله، وهو {يَلْعَنُهُمْ اللهُ} وأن يكون مستأنفاً، وأتى بصلة «الَّذِينَ» فعلاً مضارعاً، وكذلك بفعل اللَّعنة؛ دلالةً على التجدُّد والحدوث، وأن هذا يتجدَّد وقتاً فوقتاً، وكُرِّرَت اللعنة؛ تأكيداً في ذمِّهم. وفي قوله «يَلْعَنُهُمْ اللهُ» التفاتٌ؛ إذ لو جرى على سنن الكلام، لقال: «نَلْعَنُهُمُ» ؛ لقوله: «أَنْزَلْنَا» ، ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضمير.
فصل في معنى اللعنة، والمراد باللاعنين
اللَّعْنَةُ في أصْلِ اللُّغَة: هي الإبْعَادُ، وفي عُرْف الشَّرْع، الإبعادُ من الثَّوَاب، واختلَفُوا في الَّلاعِنِينَ، مَنْ هُمْ؟ فقيل: دوَابُّ الأرض وهوامُّها؛ فإنَّها تقول: مُنِعْنَا القَطْرَ بمعَاصِي بَنِي آدَمَ، قنله مجاهدٌ، عن عِكْرِمَة.
وقال: «اللاَّعِنُونَ» ، ولم يقل «اللاعِنَات» ؛ لأنَّه تعالَى وصَفَها بصفةِ مَنْ يعقلُ، فجمعَها جَمْعَ مَنْ يعقلُ؛ كقوله تعالى: {والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] و {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21] .
و {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] وقيل: «كُلُّ شيْءٍ إِلاَّ الإنْسَ والجِنَّ» قاله ابنُ عَبَّاس.
فإن قيل: كَيْفَ يصحُّ اللعْنُ من البهائِمِ، والجَمَادَاتِ؟
فالجواب مِنْ وجْهين:(3/107)
الأول: على سبيلِ المُبَالغَةَ، وهي أنَّها لو كانت [عاقلةً] ، لكانَتْ تَلْعَنُهُمْ.
الثاني: أنها في الآخِرَة، إذا أُعِيدَت، وجُعِلَتْ من العُقَلاء فإنَّها تَلْعَنُ مَنْ فَعَل ذلك في الدُّنْيا، ومَاتَ عَلَيْهِ.
وقيل: إنَّ أهْلَ النَّار يَلْعَنُونَهُمْ وقيل يلْعَنُهُمُ الإنْسُ والجِنُّ.
وقال ابنُ مَسْعُود - رضي الله تعالَى عَنْه -: ما تَلاَعنَ اثْنَانِ من المُسْلِمِينَ إلاَّ رجَعَتْ تلْكَ اللَّعْنَةُ على اليَهُود والنَّصَارَى الَّذين كَتَمُوا أَمْرَ محمَّد - صلواتُ الله وسلامهُ علَيْه - وصِفَتَهُ. وعن ابْنَ عَبَّاس: أنَّ لهم لعنتَيْنِ لعنة الله، ولَعْنَة الخَلاَئِقِ، قال: وذلك إذَا وُضِعَ الرَّجُلُ في قَبْرِهِ، فَيُسْأَلُ ما دِينُكَ؟ وما نَبِيُّكَ؟ وما رَبُّكَ؟ فيقول: لا أَدرِي فيُضْرَبُ ضربةً يسمعها كلُّ شَيْءٍ إلاَّ الثَّقَلَيْنِ، فلا يَسْمَعُ شيْء صَوْتَه إلاَّ لَعَنَهُ، ويقول المَلَكُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، كذَلِكَ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا.
وقال أَبُوا مُسْلِمٍ: «اللاَّعِنُون هم الَّذِين آمَنُوا به، ومعْنَى اللَّعْنَة، مباعدةُ المَلْعُون، ومُشَاقَّتُه، ومخالَفَتُه مع السَّخَط عليه.
وقيل: الملائكةُ، والأنبياءُ، والصالحُون؛ ويؤكِّده قولُهُ تعالَى: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملاائكة والناس أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] .
وقال قتادة:» الملائكةُ «.
قال الزَّجَّاجُ: والصوابُ قَوْلُ مَنْ قال:» اللاَّعِنُونَ الملائكة والمؤمنونَ «، فأمَّا أن يكون ذلك لدوَابِّ الأَرْضِ فلا يُوقَفُ على حقيقته إلاَّ بنَصٍّ أو خَبَرٍ لاَزِمٍ، ولم يوجَدْ شيءٌ من ذذلك.
قال القرطبِيُّ: قد جَاءَ بذلك خَبَرٌ رَوَاهُ البَرَاء بن عَازِب، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وعلى آلِهِ، وسَلَّم، وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - في قوله تعالى:» يَلْعَنُهُمُ اللاَّعنُونَ «قال:» دوابُّ الأَرْض «أخْرَجَه ابْنُ ماجَةَ.(3/108)
وقال الحَسَن:» جميعُ عبَادِ الله «.
قال القاضِي:» دلَّتِ الآيةُ على أنَّ هذا الكِتْمَان من الكَبَائر لأنَّه تعالَى أَوْجبَبَ فيه اللَّعْن.(3/109)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
في الاستثناءِ وَجْهَان:
أحدهما: أن يكون متَّصِلاً، والمُسْتَثْنى منْه هو الضَّميرُ في «يلعنُهم» .
والثاني: أن يكُونَ منقطعاً؛ لأنَّ الَّذين كَتَمُوا، لُعِنُوا قَبْل أَنْ يَتُوبُوا. وإنَّما جَاءَ الاستثناءُ؛ لبَيَانِ قَبْول التَّوْبَةِ؛ لأنَّ قَوْماً من الكاتِمِينَ لَمْ يُلْعَنُوا، نقل ذلك أبو البَقَاء.
قال بعضُهُمْ: «ولَيْسَ بشَيْءٍ» .
فَصْل
اعلَمْ أنَّه تعالى لَمَّا بيَّن عظيمَ الوَعِيدِ، فكان يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الوعيدَ يلحقُهُمْ على كُلِّ حالٍ، فبيَّن تعالَى أَنَّهُمْ إذا تابُوا، تغيَّر حُكْمُهم، ودَخَلُوا في أهْلِ الوعْدِ. والتَّوْبةُ عبارةٌ عن النَّدَم على فِعْلِ القبيح لقُبْحِهِ، لا لِغَرَضٍ سِوَاه؛ لأنَّ مَنْ لم يَرُدَّ الوديعَة، ثم ندمِ للَوْمِ الناس وذمِّهم، أو لإِنَّ الحاكم رَدَّ شهادتَهُ لم يكُنْ تائباً، وكَذَلِكَ، لو عَزَمَ على رَدِّ الودائعِ والقيام بالواجِبَاتِ؛ لكي تُقْبَلَ شهادتُهُ أو يُمْدَحَ بالثَّنَاءِ علَيْه، لم يكن تائِباً وهذا مَعْنَى الإِخْلاَّص في التوبة ثم بيَّن تعالى أنه لا بُدَّ له بَعْدَ التوبة مِنْ إصْلاح ما أفْسَدَهُ مثلاً، لو أفْسَد على رجُلِ دِينَهُ بإيرادِ شُبْهَةٍ عَلْيه، يلْزَمُه إزالَة تِلْكَ الشُّبْهَةِ، ثمَّ بيَّن بأنه يجبُ علَيْه بعْدَ ذلك أَنْ يَفْعَلَ ضِدَّ الكِتْمَانِ، وهُو البَيَانُ بقَوْله «وَبَيَّنُوا» فدلَّت الآيةُ على أنَّ التَّوْبة لا تَحْصُلُ إلاَّ بِتَرْكِ كُلِّ ما ينبغي.
وقيلَ: بَيَّنوا تَوْبَتَهُمْ وصَلاَحَهُم. قال ابْنُ الْخَطِيبِ: قالَتِ المُعْتَزِلةُ: الآيةُ تَدُلُّ على أَنَّ التَّوْبة عن بَعْضٍ المعاصِي مع الإصْرَارا عَلى البَعْضِ لا تَصِحُّ؛ لأن قوله «وَأَصْلَحُوا» عامٌّ في الكلِّ.
والجوابُ: أَنَّ اللفْظ المُطْلَق يكْفِي في صِدْقه حُصُولُ فَرْدٍ واحدٍ مِنْ أفْراده.
وقولُه: «أَتُوبُ عَلَيْهِمْ» أَتَجَاوَرُ عنْهم، وأَقْبَلُ تَوْبتهمْ. «وَأَنَا التَّوَّابُ» الرَّجَّاع بقُلُوبِ عبَادِي المنْصَرفة عَنِّي إلَيَّ، القَابِلُ لِتَوْبة كلِّ ذي توبةٍ، الرحيمُ بِهِمْ بَعْدَ إقْبَالهم عَلَيَّ.(3/109)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
اعلَمْ أنَّ ظاهِرَ الآيَة يَعْمُّ كُلَّ كافِرٍ ماتَ على كُفْره.
وقال أَبُو مُسْلِم: يجبُ حَمْلُه على الَّذِينَ تقدَّم ذكْرُهُمء، وهُمُ الذينَ يكْتُمُون الآياتِ، واحتجَّ بأنَّهُ تعالى لَمَّا ذَكَر حالَ الَّذشين يكْتُمُون، ثُمَّ ذكَرَ حالَ التَّائِبِين منْهم، ذكَرَ أيْضاً حَالَ مَن يَمُوتُ منْهم منْ غَيْر تَوْبَةٍ، وأيضاً: فإِنه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ أولئكَ الكاتِمِينَ مَلْعُونُونَ حالَ الحياةِ، بيَّن أَنَّهم ملْعُونُون بَعْد المَوْت. وجوابُهُ: إِنَّمَا يصحُّ هذا، لو كان الَّذين يمُوتُون منْهُمْ مِنْ غير تَوْبة دخلُوا تَحْت الآيَةِ، وإلاَّ لاسْتَغْنَى عن ذكْرِهم فوجَبَ حَمْلُ الكلامِ على أمْرٍ مستأْنفٍ.
فإنْ قيل: كيْفَ يلْعَنُهُ النَّاس أَجْمَعُونَ، وأهْلُ [دينِهِ لا يلْعَنُونَه] .
فجوابُهُ منْ وجُوهٍ:
أحدها: أَنَّ أهل دينه يلْعَنُونه فِي الآخرة؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25] قال أبو العَالِيَةِ: «يُوقَفُ الكافِرُ يَوْمَ القيامةِ، فيلْعَنُهُ اللهُ، ثم تَلْعَنُهُ الملائكةُ، ثم تلْعَنُهُ النَّاسُ» .
وثانيها: قال قَتَادَةُ، والرَّبِيع: أَرَادَ بالنَّاس أجْمَعِين المؤمِنِينَ؛ كأنه لَمْ يَعْتَدَّ بغَيْرهم، وحَكَم بأنَّ المؤمنين هُمُ النَّاس لا غَيْرُ.
وثالثها: أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَلْعَنُ الجاهلَ، الظَّال؛ لأنَّ قُبْحَ ذلك مُقَرَّرٌ في العُقُول فإذا كان في نَفسه [هو جاهلاً، أو ظالماً، وإنْ كَانَ لا يعلَمُ هو مِن نَفْسه كوْنَهُ كَذَلِكَ] كانَتْ لعنتُهُ على الجَاهِلِ والظَّالم تتناوَلُ نَفْسَهُ.
ورابعها: أَنَّ يُحْمَل وُقُوعُ اللَّعْنَة عَلَى اسْتحْقَاق اللَّعْنِ، وحينئذ يَعُمُّ ذلك.
فَصل فِي بَيضانِ جَوِازٍ لَعْنٍ مَنْ مَاتَ كَافِراً
قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيُّ - رَضِيَ الله عنه -: الآيَةُ الكريمة تدلُّ على أنَّ للمسلِمِين(3/110)
لعن مَنْ مات كَافِراً، وَأَنَّ زوالَ التكْليف عَنْه بالمَوْتِ لا يُسْقِطُ عَنْه اللَّعْنة؟ لأنَّ قوله تعالى: «وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» أمرٌ لَنَا بلَعْنِهِ بَعْدَ مَوته؛ وَهَذَا يدلُّ على أنَّ الكافر، لَوْ جُنَّ، لم يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْه مُسْقِطاً اللَّعْنةَ والبَرَاءة منْهُ، وكذلك السَّبيلُ فيما يُوجِبُ المَدْحَ والموالاَةَ مِنَ الإِيمَان والصَّلاح، فَمَوْتُ مَنْ كان كذلك أو [جنونُهُ لا يغيِّر] حكْمَهُ عَمَّا كان علَيْه قَبْلَ حُدُوث الحَالِ به.
قوله تعالى: «وَمَاتُوا» الواو هذه واو الحال، والجُمْلَة في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال، وإثباتُ الواو هُنَا أفْصَحُ؛ خلافاً للفَرَّاء، والزَّمَخْشَريِّ، حيثُ قالا: إنَّ حَذْفَها شاذٌ. وقوله {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله} : «أُولَئِكَ» : مبتدأٌ، [و {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ} : مبتدأ وخَبَرُه، خَبَرٌ عَنْ «إِنَّ» ، ويجُوزُ في «لَعْنَةُ» الرفْعُ بالفاعليَّة بالجَار قَبْلَها؛ لاعتَمادهَا؛ فَإِنَّهُ وقع خَبَراً عن «أولئك» وتقدَّم تحريرُهُ في {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 157] .
فصل في هل يجوز لعن الكافر المعين
قال ابْنُ الْعَرَبيِّ: قَالَ لِي كثيرُ مِنْ أشْيَاخِي: إنَّ الكافرَ المُعَيَّن لا يجوزُ لَعْنُهُ؛ لأنَّ حاله عنْد المُوَافَاةِ لا تُعْلَمُ، وقَدْ شَرَط الله تعالى في هذه الآية الكريمة في إطْلاَقِ اللَّعْنَةِ: المُوافَاةَ عَلَى الكُفْر.
وأمَّا ما رُويَ عَنِ النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعَلَى آلِهِ وسلَّم، وشَرَّفَ وكَرَّمَ، ومَجَّدَ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أَنَّه لَعَنَ أَقْوَاماً بأعْيَانِهِمْ مِن الكُفَّار، فَإِنما كان ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ بمآلِهِمْ.
قال ابْنُ العَرَبِيِّ: والصحيحُ عنْدِي: جوازُ لَعْنِهِ؛ لظاهر حَالِهِ، ولجواز قَتْله وقتَالِهِ.
وقد رُويَ عَنِ النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعَلَى آلِهِ وسلَّم، وشَرَّفَ وكَرَّمَ، ومَجَّدَ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أنه قال: «اللهُمَّ، إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي، وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْتُ بشَاعِرٍ، فَألْعَنْهُ، وأَهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي» [فَلَعَنَهُ، وإن كان الإيمانُ والدِّينُ والإسْلاَمُ مَآلَهُ، وانتصف بقوله «عَدَدَ مَا هَجانِي» ] ولم يَزِدْ؛ لتعليم العَدْلِ والإنصافِ، وأضَافَ الهَجْوَ إلى الله تعالَى في باب الجَزَاءِ، دون الابتداءِ بالوَصْف بذلك؛ كما يضاف إليه المكْرُ والاسْتهْزَاءُ والخَديعةُ، تعالَى عَنْ ذلك.(3/111)
قال القُرْطُبِيُّ: أما لَعْنُ الكُفَّار جُمْلَةُ مِنْ غَيْر تَعْيين، فلا خِلاَفَ، فيه؛ لِمَا روَى مَالِكٌ، عن داوُدَ بْنِ الحُصيْنِ، أنَّه سَمِعَ الأَعْرَجَ يقُولُ: «مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ فِي رَمَضانَ، وَسَواءٌ كَانَتْ لَهْم ذِمَّةٌ أَوْ لَمْ تَكْنْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، وَلَكِنَّهُ مُبَاحٌ» .
قوله تعالى: «وَالمَلاَئِكَة» الجمهورُ على جرِّ الملائكة؛ [نَسَفاً عَلَى اسم الله تعالى] ، وقرأ الحَسَنُ بالرَّفع، {والمَلاَئِكَهُ وَالنَّاسُ أَجمَعُونَ} وخرَّجَها النحاةُ عَلَى العَطْف على مَوْضع اسْم الله تعالَىن فإنه وِنْ كان مَجْرُوراً بإضافة المَصْدر، فموضعُهُ رَفْعٌ بالفاعلية؛ لأنَّ هذا المَصْدر يَنحَلُّ لحَرْفٍ مصدريٍّ، وفِعْلٍ، والتقديرُ: «أَنْ لَعَنَهُمْ» ، أوْ «أنْ يَلْعَنَهُمُ اللهُ» ، فعطف الملائِكَةَ على هذا التَّقْدير.
قال أبو حيان: وهذا لَيْسَ بجائزٍ على ما تقرَّر مِنَ العَطْفِ على الموضِع، فإنَّ مِنْ شرْطِهِ: أن يكُونَ ثمَّ مُحْرِزٌ للموْضِعِ، وطَالبٌ، والطالبُ للرفع وجودُ التَّنْوِينِ في المَصْدَر، هذا إِذَا سَلَّمْنَا أن «لَعْنَة» تنحلُّ لِحَرْفٍ مصدريٍّ، وفعْلٍ؛ لأنَّ الانحلال لذلك شرطُهُ أنْ يُقْصَدَ به العلاجُ؛ ألا ترَى أنَّ قوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] لَيْسَ المعنَى على تقْدير: أنْ يلْعَنَ اللهُ على الظالمين، بل المرادُ اللَّعْنَةُ المستقرَّة، وأضيفتْ للَّه على سَبِيلِ التَّخْصِيص، لا على سَبِيلِ الحُدُوث. ونقلَ عن سِيبَوَيْهِ: أنَّ قولك: هَذَا ضَارِبُ زَيْدٍ غَداً وَعَمْراً، بنَصْب «عَمْراً» : أنَّ نَصْبَه بفعْل محذوفٍ، وأبى أَنْ ينصبَهُ بالعَطْف على المَوْضِع، ثم بعد تَسْليمه ذلك كلَّه، قال: المَصْدرُ المُنَوَّن لم يُسْمَعْ بعده فاعِلٌ مرفعوعٌ، ومفعولٌ منصوبٌ، إِنَّمَا قاله البصريُّون قياساً على «أنْ والفِعْل» ومنَعَهُ الفَرَّاء، وهو الصحيحُ ثم إِنَّه خَرَّجَ هذه القراءة الشَّاذَّة على أحَدِ ثلاثةِ أوجُهٍ:
الأول: أن تكونَ الملائكةُ مرفوعةً بفعلٍ محذُوفٍ، أي: «وتَلَعَنُهُمُ المَلاَئِكَةُ» ؛ كما نصَبَ سِيبَوَيْهِ «عَمْراً» في قولِكَ «ضَارِبُ زَيْداً وَعَمْراً» بفعْلٍ محذوفٍ.
الثاني: أَنْ تكُونَ الملائكةُ عَطْفاً على «لَعْنَةُ» بتقدير حَذْف مضافٍ، أي: «وَلَعْنَةُ المَلاَئِكَةِ» فَلَمَّا حذَفَا المضافَ، أُقِيمَ المضافُ إلَيْه مُقَامَهُ.
الثالث: أنْ يكُونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرهُ تقْديرُهُ {وَالمَلاَئِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ تَلْعَنُهُمْ} وهذه أوجُهٌ متكلَّفةٌ، وإِعْمَالُ المصدر المنوَّنِ ثابِتٌ؛ غايُةُ ما في الباب: أنه قد يُحْذَفُ فاعلُهُ؛ كقوله {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 14 - 15] . وأيْضاً: فقد أَتْبَعَتِ(3/112)
العَرَبُ المجرورَ المَصْدر عَلَى رَفْعاً؛ قال: [البسيط] .
861 - ... ... ... ... ... . ... مَشْيَ الهَلُوكِ عَلَيْهَا الخَيْعَلُ الْفَضُلُ
برفع «الفُضُلُ» وهي ل «الهَلُوكِ» على المَوْضِع؛ وإذَا ثَبَتَ ذلكَ في النَّعْتِ، ثَبَتَ فِي العَطْفِ؛ لأنَّهما تابعانِ مِنَ التوابع الخمْسَةِ، و «أَجْمَعِينَ» : من ألْفَاظِ التأْكِيد
المعنويِّ بمنزلةِ كُلٍّ.
قال ابنُ الخَطِيبِ: والآيةُ تَدُلُّ على جواز التَّخْصْيصِ معَ التَّوْكِيد؛ لأنَّه تعالى قال: «والنَّاسِ أَجْمَعِينَ» مع أنَّه مخصوصٌ على مَذْهَب مَنْ قال: المراد بالنَّاس بَعْضُهُمْ.
قوله تعالَى: «خِالِدِينَ» حالٌ من الضَّمير في «عَلَيْهِمْ» والعاملُ فيها الظرْفُ من قوله «عَلَيْهِمْ» ؛ لأنَّ فيه معنى الاسْتقْرَار لِلَّعْنة، والخلودُ: اللُّزومُ الطَّويل، ومنْه قوله تعالى: «أَخْلدَهُ» أي: لَزِمُهُ، ورَكَنَ إلَيْه.
قال بعضُهُمْ: «خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَة» .
وقيلَ: في النَّار، أُضْمِرَتْ؛ تفخيماً وتهويلاً؛ كقوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] .
والأول أولى؛ لوجوه:
الأول: أَنَّ ردَّ الضَّميرِ [إلى المَذْكُور السَّابق أَوْلَى مِنْ رَدِّة، إذَا لم يُذْكَر.
الثاني: أَنَّ حَمْلَ هذا الضَّمِير على اللَّعْنَة] أَمكْثَرُ فائدةً؟ لأنَّ اللَّعْنَ هو الإبْعَادُ مِنَ الثَّوَاب بفِعْل العِقَاب في الآخِرَة، وإيجادِهِ في الدُّنيا، فيدخل في اللعن النَّار وزيادةٌ [فكان حَملُ اللَّفظ عليهم أولى] .
[الثالث: أن حمل الضمير على اللَّعن يكون حاصلاً في الحال وبعده، وحمله على النَّار لا يكون حالاً حاصلاً في الحال، بل لا بدَّ من تأويلٍ] .
قوله تعالى: «يُخَفَّفُ» فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن يكون مستأنفاً.
الثاني: أن يكون حالاً من الضَّمير في «خَالِدِينَ» فيكون حالان متداخلان.
الثالث: أن يكون حالاً ثانية من الضَّمير في «عَلَيْهِمْ» ، وكذلك عند من يجيز تعدُّد(3/113)
الحال. وقد منع أبو البقاء هذا الوجه، بناءً منه على مذهبه في ذلك.
وقوله: «وَلاَ هُمْ يَنْظَرُونَ» .
قال مَكِّيٌّ رَحِمَهُ اللهُ: هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضع الحال من الضَّمير في «خالدين» أو من الضَّمير في «عَنْهُمْ» .
فصل في وصف العذاب
اعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بثلاثة أمورٍ:
أحدها: الخلود، وهو المكث الطَّويل عِنْدنا، أو المكث الدَّائم عند المعتزلة.
وثانيها: عدم التخفِيفِ، ومعناه أنّ العذابَ في الأوقاتِ كلِّها متشابهٌ؛ لا يكون بعضُه أقَلَّ من بَعْضٍ.
فَإِن قيلّ: هذا التَّشْبيهُ مُمْتَنعٌ؛ لوجوهٍ:
أحدها: أَنَّه إذا تصوَّر حال غيره من شدَّة العذب، كان ذلك كالتَّخفيف عنه.
وثانيها: أنَّه تعالى يزيد علَيْهِمْ في أقوات، ثمَّ تنقطع تلْك الزِّيادةُ فيكونُ ذلك تَخفيفاً.
وثالثها: أنه حين يخاطبهم بقوله تعالى: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] لا نشكُّ أنَّه يزادُ عنْهم في ذلك الوَقْت.
فالجوابُ أَنَّ التفاوتُ في هذه الأمُورِ قليلٌ، فالمستَغرِقُ في العَذَاب الشّدِيد لا ينْتبه لهذا القدْر القليل منَ التَّفاوتُ، وهذه الآية تَدُلُّ على دوام العذاب، وأبديتِه، فإنَّ الواقعَ في [محْنَةٍ] عظيمةٍ [وشدةٍ] في الدُّنْيَا، إذا بُشِّرَ بالخَلاَص، وقيل له: إنَّك تَخلُصُ من هذه الشِّدَّة بعد أيَّامٍ، فإنَّه يَفْرَح ويسْهُلُ عليه موقع هذه المحنة.
الصفة الثانية: قوله «وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ» والإنظارُ: هو التأْجيلُ والتأخيرُ؛ قال سُبحانه {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] والمعنى: أن عذابَهُمْ لا يُؤجَّل، بل يكون حاضراً متَّصِلاً بعذاب مثله؛ ووجه اتِّصال هذه الآية بها قبلها: أنَّه تعالى لمَّا حّذَّر من كتْمَان الحقِّ بين أن أوَّل ما يجبُ إظهارُهُ ولا يجوزُ كتمانُهُ أمْرُ التوحيدِ، ووَصَل ذلك بذكْر البُرْهان، وعلَّم طريقَ النَّظَر، وهو الفكْرُ في عجائِبِ الصُّنْع؛ ليعلم أنَّه لاَ بُدَّ منْ فاعل لا يشبهُه شَيْءٍ:
ويحتمل أن يكون من النَّظَرِ؛ كقوله: {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 77] .(3/114)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
قوله: «إلهٌ وَاحدٌ» خبر المبتدأ، و «وَاحِدٌ» صفةٌ، وهو الخبر في الحقيقة؛ لأنَّه مَحَطّ الفائدةَ، ألاَ ترى أنَّه لو اقتصر [على ما قَبْلَه، لم يُفد، وهذا يُشْبهُ الحالَ الموطِّئة؛ نحو: «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلاً صَالِحاً» ف «رَجُلاً» حالٌ] وليستْ مقصودة، إِنَّما المقصودُ وصْفُها.
قال أبو عليٍّ: قولُهُمْ واحدٌ: اسمٌ جَرَى على وَجْهَيْن في كلامِهِم.
أحدهما: أن يكونَ اسماً.
والآخَرُ: أن يكونَ وَصْفاً، فالاسْمُ قولُهُمْ في العَدَد: واحد، اثْنَانِ، ثلاثةٌ، فهذا اسمٌ لَيْسَ بوصف، كما أنَّ سائر أسماء العَدد كذلك، وأَمَّا كونُهُ صفةً؛ فقولُكَ: مَرَرْتُ برَجُلٍ وَاحِدٍ، وهَذَا شَيءٌ وَاحِدٌ، فإذا جرى هذا الاسمُ على الحَقِّ سُبْحانه وتعالى، جاز أن يكون الذي هو الوصفُ كالعالِم والقادِرِ، وَجَازَ أن يكون الذي هو الاسْمُ كقولكِ شَيْء ويقوِّي الأوَّل قوله تعالى: «وَإِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحدٌ» .
فصل في وجوه وصفه تعالى بأنه واحد
قال الجُبَّائِيُّ: وُصَفَ الله بأنَّه واحدٌ منْ وجُوهٍ أربعة: لأنَّه ليس بذي أبْعَاضٍ، ولا بذِي أَجْزَاء؛ ولأنَّه منفردٌ [القِدَمِ؛ ولأنَّه مُنْفَردٌ] بالإلهيَّة؛ ولأنه منفردٌ بصفات ذاتِهِ؛ نَحُو كوْنِهِ [عَالِماً بنَفْسِه، قَادِراً بنَفْسِهِ.
قوله تعالى: «إلا هُوَ» : رفع «هُوَ» على أنه] بدلٌ من اسْم «لا» على المَحَلِّ؛ إذ محلُّه الرفْعُ على الابتداء، أو هو بَدَلٌ من «لاَ» وما عملتْ فيه، لأنَّها وما بعْدَها في مَحلِّ رفْعٍ بالابتداء، وقد تَقدَّم تقريرُ ذلك، ولا يجُوزُ أنْ يَكُون «هو» خبر «لاَ» التَّبْرِئَةِ، لما تقرَّر من أنَّها لا تعملُ في المَعَارف، بَلِ الخَبر مَحْذُوفٌ، أي: «لاَ إِلهَ لَنَا» هذا إذا فَرَّعنا على أنَّ «لاَ» المبنيَّ معها اسْمُها عاملةٌ في الخَبَرِ، أمَّا إذا جعلْنَا الخَبَرَ مَرْفُوعا بما كان علَيْه قَبْل دخولِ «لاَ» ولَيْسَ لها فيه عَمَلٌ وهو مذهبُ سيبَوَيْهِ فكَان ينبغي أن يكون «هُوَ» خبراً إلاَّ(3/115)
أنَّه مَنَع منه كوْنُ المبتدأ نكرةً، والخبَر معرفةً، وهو ممنوعٌ إلاَّ في ضرائر الشِّعْر في بَعْض الأَبْوَاب.
واستَشكَلَ الشَّيْخُ أبو حَيَّان كَونَهُ بَدَلاً منْ «إِلَهَ» .
[قال: لأنَّه لَمْ يمكنْ تكريرُ العَامِلِ؛ لا نقولُ: «لاَ رَجُلَ إِلاَّ زَيْدٌ» والذي يظهر أنه لَيْسَ بدلاً من «إلَه» ] ولا مِنْ «رَجُل» في قولك: «لاَ رَجُلَ إِلاَّ زَيْدٌ» ، غنما هو بَدَلٌ من الضَّمير المستكنِّ في الخبر [المحْذُوفِ، فإذا قلنا: لا رجل إلاّ زيَدٌ، فالتقديرُ: «لاَ رَجُلَ كائنٌ، أو مَوْجُودٌ إِلاَّ زَيْدٌ» ، ف «زَيْدٌ» بدلٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر] لا مِنْ «رَجُل» ، فليس بدلاً على مَوْضِع اسم «لا» ، وَإِنَّما هو بدلٌ مَرْفُوعٌ منْ ضمير مَرْفوعٍ، وذلك الضَّميرُ هو عائدٌ على اسم «لا» ، ولولا تصريح النَّحويِّين: أنَّه بَدَلٌ على الموضِعِ مِنِ اسم «لاَ» ، لتأوَّلنا كلامَهُمْ على ما تقدَّم تأويلُهُ.
قال شهاب الدين: والَّذي قالُوهُ غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لأنهم لم يقولُوا: هو بدَلٌ من اسْم «لاَ» على اللَّفظِ؛ حتى يلزمَهُمْ تكريرُ العامِلِ، وإنَّما كان يشكلُ لو أجازُوا إبْدَالَهُ مِن اسْمِ «لاَ» على اللَّفظِ، وهم لم يجيزوا ذلك لعَدَم تكير العَامِلِ، ولذلك منعوا وجْهَ البَدَلِ في قولهمْ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» وجعلُوهُ انتصاباً على الاستِثْناءِ، وأَجَازُوهُ في قولك: «لا رَجُلَ في الدَّارِ إلاَّ صاحِباً لك» لأنَّه يُمْكِن فيه تكريرُ العَامِلِ.
قوله تعالى: «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» فيه أربعةُ أوْجُهٍ:
أحدها: أن يكونَ بَدَلاً منْ «هُوَ» بدَلَ ظاهرٍ مِنْ مُضْمَرٍ، إلا أن هذا يُؤَدِّي إلى البَدَلِ بالمُشْتقَّاتِ وهو قليلٌ؛ ويُمْكِنُ أنْ يجاب بأنَّ هاتَين الصفتَيْن جَرَتا مَجْرَى الجوامِدِ ولا سِيَّمَا عنْدَ من يَجْعل [الرَّحْمن] علماً، وقد تقدَّم تحقيقُهُ في «البَسْمَلَةِ» .
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هُو الرَّحْمَنُ، وحسَّنَ حذْفَهُ توالي اللفْظِ ب «هُوَ» مرَّتَيْن.
الثالث: أن يكوم خبراً ثالثاً لقوله: «وَإلَهُكُمْ» أخبر عنْهُ بقوله: «إِلَهٌ وَاحِدٌ» وبقوله: «لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ» وبقوله: «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» ، وذلك عند مَنْ يَرَى تعدّدَ الخَبَرِ مُطْلقاً.
الرابع: أن يكون صفةً لقولِهِ «هُوَ» ، و [ذلك] عند الكِسَائِيِّ؛ فإنَّه يجيزُ وَصف الضَّمير الغائب بصفة المَدح، فاشترط في وصف الضَّمير هذَين الشَّرْطَين: أن يكون غائباً، وأن تكون الصفَةُ صفةَ مَدْحٍ؛ وإن كان ابنُ مالكٍ أطْلَقَ عَنْه جوازَ وَصْفِ ضمير(3/116)
الغائِب، ولا يجوز أنْ يكُون خبراً ل «هُوَ» هذه المذكورةِ؛ لأنَّ المستثنى ليْسَ بجُملةٍ.
فصل في سبب النُّزُول
قال ابن عبَّاسِ: سَبَبُ نُزُول هذه الآية أَنَّ كُفَّار قُرَيش قالوا: يا مُحَمَّد، صِفْ وانسُبْ لَنَا رَبَّكَ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى سُورَةَ الإخْلاَصِ، وهَذه الآيَة.
قال أبو الضُّحَى: لمَّا نزلَّتْ هذه الآيةُ، قال المُشْرِكُون: إنَّ محمَّداً يقُولُ: إلَهكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ، إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَنْزل اللهُ - عَزَّ وَجَّل -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} [والمرادُ بالخَلْق هنا المخلُوقُ.
قال أبو مسلم: وأصْلُ الخَلْق التقديرُ؛ قالَ تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2] .(3/117)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
ذكر ابن جرير في سَبَب نُزُول هذه الآيةِ عن عطاءٍ أيضاً ما ذكرْنَاه آنفاً.
وعن سعيد بن مَسْروق، قال: سألت قُرَيشٌ اليَهودَ، فقالوا: حدِّثُونَا عَمَّا جَاءَكُم به موسى - عليه السَّلام - من الآيَاتِ. فَحَدَّثوهُمْ بالعَصا وبالْيَدِ البَيْضاءِ، فقالت قُرَيش عَمَّا جاءَهُمْ به عيسى، فَحدَّثُوهُم بإبراءِ الأَكْمَه والأَبْرَصِ وإحياءِ المَوتَى؛ فقالت قُرَيش عِند ذلك للنَّبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ادْعُ اللهَ لَنَا أنْ يَجْعَلَ الصَّفا ذَهَباً، فَنَزدَادَ يقيناً، ونَتَقَوَّى على عدُوِّنَا [فَسَأل ربَّهُ ذلك] فأوحَى اللهُ تعالى إليه أنْ يعطيهم، ولكن إن كذَّبُوا بَعْدَهُ، عَذَّبْتُهُم عَذَاباً شدِيداً لا أعذِّبُهُ أحداً مِنَ العالمين فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام: - «ذَرْنِي وَقَوْمِي، أدعُوهُمْ يَوماً فَيَوْماً» ، فأنْزَلَ اللهُ تعالى هذه الآية مُبَيِّناً لهم أنهم إنْ كانوا يريدون أنْ أجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً؛ ليزدادوا يقيناً؛ فَخَلقُ السَّموات والأَرْض وسائِرُ ما ذكر أعظمُ وأكْبرُ.(3/117)
وقيل: لمَّا نزل قوله: «وَإِلَهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ» ، قالوا: هل مِنْ دليلٍ على ذلك فأنزل الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} ؛ فبيَّن لهم الدَّليل وقد تقدَّم في قوله تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء} [البقرة: 22] .
قال البغويِ: ذكر «السموات» بلَفظ الجَمْع، لأنَّ كُلَّ سماء من جِنسٍ آخَرَ، وأفْرَد الأرْضَ؛ لأن الأرَضينَ كلَّها مِنْ جنْسٍ واحدٍ، وهو الترابُ، والآيةُ في السَّموات سُمْكُها وارتفاعُها مِنْ غير عَمدٍ، ولا عَلاقَةَ، وما يُرى فيها من الشَّمْس، والقَمَر، والنُّجوم، واختلافِ أحوالها مِنَ الطُّلُوع، والغُرُوبُ، وغير ذلك، والآيةُ من الأَرْضِ: مَدُّها، وبَسْطُها وسَعَتُها، وما يُرَى فيها من الأشجار، والاثمَار، والنْهَار، والجِبَالِ، والبِحَار، والجوةاهر، والنبات، وقد تقدّم طَرَفٌ من هذا.
قوله تعالى: وَاخْتلاف اللَّيل والنَّهَار «ذكَرُوا للاخْتلاَف تفْسيرَينْ:
أحدهما: أنَّه افْتِعَالٌ مِنْ قَولِهِمْ:» خَلَفَهُ يَخْلَفُهُ «إذا ذهبَ الأوَّل، وجاء الثَّاني، فاختلاف اللَّيْل والنَّهار تَعَاقُبُهُمَا في الذَّهاب والمجِيء؛ يقالُ: فلانٌ يَخْتلف إلى فلانٍ، إذا كان يَذْهب إلَيه ويجيء من عنده، فَذَاهَابُهُ يَخْلُفُ مجيئَهُ، ومجيئُهُ يخْلُفُ ذَهَابه، وكلُّ شيءٍ يجيء بعد شيءٍ آخَرَ، فهو خِلْفَةُ، وبهذا فَسَّرُوا قوله تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} [الفرقان: 62] ؛ ومنه قول زهير: [الطويل]
862 - بِهَا الْعِينُ والأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... َأَطْلاَؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
[المديد]
863 - وَلَهَا بِالمَاطِرُونِ إِذَا ... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي صَنَعَا
خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا
الثاني: اختلاف الليل والنهار، في الطول والقِصَر، والنور والظلمة، والزيادة والنقصان.(3/118)
قال الكسائي:» يقال لكُلِّ شيئَيْن اختَلفَا: هُمَا خلَفَان «.
قال ابن الخطيبِ: وعندي فيه وجهٌ ثالثٌ، [وهو] أنَّ اللَّيْل والنهارَ كما يختلفان بالطُّول والقِصَرِ في الأزمِنَةِ، فهُمَا يختلفَانِ في الأمكنةِ فإنَّ مَنْ يقول: إِنَّ الأرض كُرَةٌ، فكلُّ ساعةٍ عنيتها، فتلْكَ الساعةُ في موضِع مِنَ الأرض صُبحٌ، وفي موضِعٍ آخَرَ ظُهْرٌ، وفي آخرَ عَصْرٌ وفي آخَرَ مَغْرِبٌ، وفي آخَرَ عِشَاءٌ، وهلُمَّ جرّاً، هذا إذا [اعتبرنا البلادَ المُخْتلفَةَ في الطُول، أما البلادُ المختلفَةُ] في العَرْضِ، فكُلُّ بَلَدٍ يكُونُ عَرْضُهُ الشماليُّ أكْثَرَ، كانَتْ أَيَّامُهُ الصيفيَّة أطْوَلَ وليالِيهِ الصَّيفيَّةُ أقْصَرَ، وأَيَّامُهُ الشتويَّة بالضِّدِّ مِنْ ذلك، فهذه الأحوالُ المختلفةُ في الأيَّام واللَّيالي بحَسَب اختلاف أَطْوالِ البلاَد وعُرُوضها أمْرٌ عجيبٌ مختلفٌ.
وأيضاً: فإنَّ إقْبال الخَلق في أوَّل الليل على النَّوم يُشْبه مَوْتَ الخلائِق عند النَّفخةِ الأولى في الصُّور، ويقظتهم آخِرَ اللَّيْل يشبهُ عَوْدَة الحياة إليهم عند النَّفخة الثانية، هذا أيضاً من الآياتِ العَظِيمة.
وأيضاً: انشقاقُ ظُلمة الليْلِ بظهورِ الصُّبْحِ المستطيل كأنَّهُ جَدولُ ماءٍ صافٍ يَسيلُ في بَحْرِ كَدِرٍ بحيث لا يتكدّر الصَّافي بالكَدِرِ، ولاَ الكَدرُ الصافي، وهو المرادُ بقوله: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً} [الأنعام: 96] .
قال علماءُ الهَيْئَة: إنَّ الموضع الذي يكون القُطب فيه على سَمْتِ الرأسِ تكُونُ السَّنَةُ فيه [سِتَّةَ أشهرٍ نهاراً] وستَّةُ أشْهُرٍ ليلاً، وهناكَ لا يَتِمُّ النُّضج، ولا يصلحُ لِمَسْكنِ الحيوانِ ولا يتهيأُ فيه سبَبٌ من أسْبَاب المَعيشة.
فصل في أصل الليل
اختلفُوا؛ قيل: الليلُ: اسم جنس، فيفرق بَيْن واحد وجمعه بتاء التأنيث؛ فيقال: لَيْلَةٌ وَلَيْلٌ؛ كتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، واللَّيالي جمعُ الجَمْعِ، والصحيحُ: أنَّهُ مفْرَدٌ، ولا يحفظ له جَمعٌ؛ وكذلك خطَّأ الناسُ مَنْ زعَمْ أنَّ «الليالي» جَمْعُ «لَيْلٍ» ، بل الليالي جمعُ «لَيْلَة» وهو جمعٌ غريبٌ، ولذلك قالُوا: هو جمعُ «لَيْلاَةٍ» تقديراً، وقد صُرِّح بهذا المفْرَدِ في قول الشَّاعر: [السريع أو الرجز]
864 - في كُلِّ يَوْمٍ ما وَكُلِّ لَيْلاَهْ ... حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَاءٍ إِذَا رَآهْ ...(3/119)
يَا وَيْحَهُ مِنْ جَمَلٍ مَا أَشْقَاهْ ... ويدلُّ على ذلك تصيغرُهُمْ لها على «ليُبْلَةٍ» ونظيرُ «لَيْلَةٍ» و «ولَيَالٍ» : «كَيْكَةٌ وكَيَاك» ؛ كأنَّهم توهَّموا أَنَّاها «كَيْكَاتٌ» في الأصْل، والكَيْكَةُ: البَيْضَةُ.
وأمَّا النَّهار: فقال الرَّاغب: «هو في الشَّرْع: اسمٌ لما بين طُلُوع الفجر إلى غروب الشَّمس» .
قال ابن فَارِس: «والنَّهارُ» : ضياءُ مَا بين طُلُوع الفَجْر إلى غُرُوب الشمس قال القرطبي: وهُوَ الصحيحُ؛ ويدلُّ عليه ما ثبت في «صحيح مُسْلِم» : عن عَدِيِّ بن حاتم، قال: لَمَّا نَزلَتْ: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} [البقرة: 187] قال له عَدِيٌّ: يا رسول اللهِ، إنِّي جَعَلتُ تَحتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْن؛ عِقَالاً أَبْيَضَ، وعِقَالاً أَسْوَدَ، أَعْرِفُ بهما اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَواتُ اللهِ البَرِّ الرَّحِيم وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -: «إِنَّ وسَادَكَ لَعَرِيضٌ» يعني إنَّما هو سوادُ الليْلِ وبياضُ النهارِ، وبهذَا يقْضِي الفقهُ في الأيْمَان، وبه ترتبطُ الأحْكام.
وظاهرُ اللُّغَة أنَّه مِنْ وَقْت الإسْفَار.
وقال ثعلب والنَّضْرُ بن شُمَيلٍ: «هو مِنْ طُلُوع الشَّمْس» زاد النَّضْرُ: ولا يعدُّ ما قبل ذلك مِنَ النَّهَار.
وقال الزَّجَّاج: «أوَّلُ النَّهار ذُرُورُ الشَّمْس» .
ويُجْمَعُ على نُهُرٍ وأَنهِرَة؛ نحو: قَذالٍ، وقُذُلٍ، وأَقْذِلَة.
وقيل: لا يُجْمَعُ؛ لأنه بمنزلة المَصْدَر، [والصحيحُ: جمعُهُ على ما تقدَّم] .
قال: [الراجز]
865 - لَوْلاَ الثَّرِيدَان لَمُتْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ، وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ
وقد تقدَّم اشتقاق هذه المادَّة، وأنَّها تدُلُّ على الاتِّسَاعِ، ومنه «النَّهَارُ» لا تِّسَاع ضَوْئه(3/120)
عِنْد قوله: {مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] قاله ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: قال ابن فارس: ويقال: «إنَّ [النَّهارِ] فَرْخٌ الحَبَارَى» وقدم اللَّيْل على النَّهار لأنَّهُ سَابقُهُ؛
وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وهذا أصحُّ القولَين.
وقيل: النُّورُ سابِقُ الظلمةِ، وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ، وهي أنَّ الليلة، هَلْ هي تابعةُ لليوم [قبْلَهَا، أو لِلْيَومِ بَعْدها.
فعلى الصَّحيح: يكونُ الليل للْيَوم بَعْدها، فيكونُ اليَوْم تابعاً لها، وعلى الثاني: تكونُ للْيَوْم قبْلَها، فتكون اللَّيلة تابعةً لها]
فيَوْمُ عَرَفَةَ؛ على الأوَّل: مستثنىً من الأصْلِ؛ فإنَّه تابعٌ لِلَّيْلة الَّتي بَعْده، وعلى الثاني: جاء على الأصْلِ.
قال القرطبي: وقسَّم ابن الأنباريّ الزَّمن ثلاثة أقسام:
قِسْماً جعَلَه لَيْلاً مَحْضاً؛ وهو مِنْ غُرُوب الشَّمْس إلى طُلُوعِ الفجر، وقِسْماً جعَلَهُ نهاراً مَحضاً، وهو مِنْ طُلُوع الشَّمْس إلى غُرُوبها، وقِسْماً جعَلَهُ مُشْترِكاً بين النَّهارِ واللَّيْلِ؛ وهو مِنْ طُلُوع الفجْر إلى طُلُوع الشَّمْس؛ لبقايا ظلمة اللَّيْل، [ومَبَادِئ ضَوء النَّهار] .
قوله تعالى: «وَالفُلْك» عَطْفٌ على «خَلْقٍ» المجرورة ب «فِي» لا على «السَّمَواتِ» المجرورة بالإضافة، و «الفُلْك» يكونُ واحداً؛ كقوله: {فِي الفلك المشحون} [يس: 41] ، وجَمْعاً كقَوْله: «في الفُلْكِ {فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] فإذا أُرِيدَ به الجَمْعُ، ففيه أقوالٌ:
أصحُّها - وهو قولُ سيبويه -: أنَّهْ جَمع تَكْسيرٍ، وإنْ قيل: جمْعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تَغَيُّرٍ ما، فالجَوَابُ: أنَّ تغييره مقدَّرُ، فالضمة في حال كونِهِ جَمْعاً، كالضمة في» حُمُرٍ «و» نُدُبٍ «وفي حال كون مفرداً، كالضَّمَّة في» قُفْلٍ «، وإنَّما حمل سيبيوه على هذا، ولم يجعلهُ مشتركاً بين الواحد والجمع؛ نحو:» جُنُبٍ «و» شُلُلٍ « [فلَمَّا ثَنَّوْهُ، وقالوا: فُلْكَانٍ، علمْنا] أنَّهم لم يَقْصِدُوا الاشْتراك الَّذي قصَدُوه في» جُنُبٍ «و» شُلُل «ونظيرُه ناقَةٌ هِجَانٌ ونُوقٌ هِجَانٌ، ودرْعٌ دِلاَصٌ، ودُرُوعٌ دِلاَصٌ، فالكَسْرة في المفرد كالكسرة في» كِتَاب «وفي الجمع كالكسرة في» رِجَال «؛ لأنهم قالوا في التَّثْنيَة: هِجَانَانِ ودِلاَصَانِ.
الثاني: مذهب الأخفش: أنَّه اسم جمع، كصحبٍ، وركبٍ.
الثالث: أنَّه جمع «فَلَكٍ» بفتحتين، كأسدٍ وأُسدٍ، واختار أبو حيَّان أنه مشتركٌ بين(3/121)
الواحد والجمع، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنية، ولم يذكر لاختياره وجهاً، وإذا أفرد «فلك» ن فهو مذكَّر؛ قال تعالى: {فِي الفلك المشحون} [يس: 41] . وقال جماعةٌ، منهم أبو البقاء: يجوزُ تَأْنيثُهُ؛ مستدلِّين بقوله: {والفلك التي تَجْرِي فِي البحر} فوصفه بصفة التأنيث، ولا دليل في ذلك؛ لاحتمال أن يراد به الجمع؛ وحينئذٍ فيوصف بما يوصف به المؤنثة الواحد.
قال الواحديُّ: وأصله من الدَّوَرَان، فكل مستدير فلك، ومنه «فَلَكُ السَّمَاءٍ» ؛ لدوران النُّجوم فيه، و «فَلْكَةُ المِغْزَلِ» [وفَلكَتِ الجَارِيَةُ: استدارَ نَهْدُها] ، وسُمِّيت السَّفينة فُلْكا لأنَّها تدور بالماء أسهل دورٍ.
وجاء بصلة «الَّتِي» فعلاً مضارعاً؛ ليدلَّ على التجدُّد والحدوث، وإسناد الجري إليها مجازٌ، وقوله: «فِي البَحْرِ» توكيدٌ؛ إذ المعلوم أنَّها تجري في غيره؛ كقوله {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] .
فصل في عدد البحور
قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ - قيل: إنَّ البُحُورَ المَعْرُوفَةَ [خَمْسَةٌ] : بحرُ الهند: وهو بحرُ الصِّين، وبحرُ المغرب، وبحر الشَّام، وبحر الرُّوم [ومِصْر] وبحر نيطش وبحر جُرْجان.
فالأوَّل يمتدُّ طوله [من المغرب إلى المَشْرقِ] ، من أقصى أرض الحبشة إلى أٌصى أرض الهند، ويخرج منه خليج عند أرض الحبشة يمتد إلى ناحية البربر، يسمَّى البربريُّ، وخليج بحر أيلة، وهو بحر القلزم، ينتهي إلى البحر الأخضر على شرقيّ أرض اليمن وعلى غربيّ أرض الحبشة، وخليج بحر فارس يسمى الفارسي وهو بحر البصرة على شرقي تيز ومكران، وعلى غربيه غمان وبين هذين الخليجين خليج أيلة، وخليج فارس الحجاز واليمن، وبلاد المغرب وخليج رابع إلى أٌصى الهند يسمَّى الأخضر، وفي بحر الهند ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها سرنديب عند بلاد الصين يحيط بها لثلاثة الآف ميل فيها جبالٌ وأنهارٌ، ومنها يخرجُ الياقوتُ الأحمر.
وأمَّا بحر المغرب، فهو المحيط ويسمِّيه اليونانيُّون: أوقيانوس، ويتًّل به بحر الهند، وطرفه في ناحية المغرب والشمال محاذياً لأرض الروم والصقالبة ويأخذ في الجنوب محاذياً لأرض السُّودان مارّاً على [حدود السّوس، وطنحة وتاهرت] ، ثم الأندلس والجلالقة والصَّقالبة، ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق، وهذا البحر لا تجري فيه السُّفن إلا بقرب ساحله، وفيه(3/122)
ستُّ جزائر تسمى الخالدات، تقابل أرض الحبشة، ويخرج منه خليجٌ عظيمٌ يمتد إلى أرض بلغار.
وأما بحر الرُّوم وإفريقية [ومصر والشَّام:] فيخرج منه إلى أرض البربر، وفي هذا البحر مائة واثنتان وستُّون جزيرةً.
وأما بحر نيطش: فيمتدُّ من اللاذقيَّة إلى خلف قسطنطينيَّة، وأرض الرُّوم والصَّقالبة.
وأمَّا بحر جرجان، ويعرف ب «بحر السُّكون» فيمتدُّ إلى طبرستان والدَّيلم، وباب الأبواب، وليس يتصل ببحر آخر، فهذه هي [البُحُور] العظامُ، وأما غيرها: فهي بَطَائح؛ كبحيرة خوارزم، وبحيرة طبريَّة.
فصل في سبب تسمية البحر بالبحر
قال اللَّيثُ: سمي البحر بحراً؛ لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه، ويقال: استبحر فلانٌ [في العلم] ، إذا اتَّسَعَ فيه؛ وتَبَحَّر الرَّاعي في الرَّعي كَثُرَ، وتبحَّر فلانٌ في المال.
وقال غيره: سُمِّيَ البحر بحراً؛ لأنَّه شقّ في الأرض، والبحر الشَّقُّ، ومنه البُحَيْرَة.
قوله تعالى: «بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ» . [في «ما» قولان:
أحدها: أنها موصولة اسميَّةٌ؛ وعلى هذا: الباء للحال، أي: تجري مصحوبةً بالأعيان الَّتي تنفعُ النَّاس.
الثَّاني: أنها] حرفيَّةٌ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسَّببب، أي: تجري بسَبَبِ نفع النَّاس في التِّجارة وغيرها.
فصل في الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع.
فأما كيفيَّة الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصَّانع تعالى وتقدَّس:
فهو أنَّ السُّفُن، وإن كانت من تركيب النَّاس إلاَّ أنَّه تعالى [هو الَّذي] خلق الآلات الَّتي يمكن بها تركيب هذه السُّفُن، وتبحرُ بها الرياح، وقوَّى قلوبَ من ركِبَها، وخصَّ كُلَّ طَرَفٍ من أطراف العالم بشيءٍ معيَّن، وأحوج الكُلَّ إلى الكُلِّ؛ حتَّى صار ذلك داعِياً يدعوهم إلى اقتحامِ هذه الأخطار في هذه الأسفار، ويخَّر البحر لحمل الفلك، مع قوَّة سلطان البحر إذا هاج، وعظُم هوله، واضطربت أمواجه، مع ما فيه من الحيوانات العظيمة ثم إنه تبارك وتعالى يُخَلِّص السُّفُن عنها ويوصِّلاه إلى ساحل السَّلامة، وهذا أمرٌ(3/123)
لا بد له من مدَبِّر، ومقتدر يحفظه، وهذه الآية الكريمة تدلُّ على إباحة ركوب البحر وعلى إباحة الاكتساب، والتِّجارة؛ قوله: «بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ» .
فصل في بيان الحالة المستثناة في ركوب البحر
البحر إذا أرتج، لم يجز ركوبه لأحدٍ بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه، ولا في الزَّمن الذي الأغلب فيه عدم السَّلامة؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمنٍ يكون الالب فيه السلامة -[نقله القُرْطُبيُّ] .
قوله تعالى: {وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ} [البقرة: 164] [ «من» ] الأولى معناها ابتداءُ الغاية، أي: أنزل من جهة السماء، واما الثانيةُ فتحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون لبيان الجِنسِ فإنَّ المنزل من السَّماء ماءٌ وغيره.
والثاني: أن تكون للتَّبعيض؛ فإنَّ المنزل منه بعضٌ لا كلٌّ.
والثالث: أن تكون هي وما بعدها بدلاً من قوله: «من السماء» بدل اشتمالٍ بتكرير العامل، وكلاهما أعني «مِن» الأولى، و «مِن» الثانية متعلِّقان ب «أَنْزَلَ» .
فالجوابُ: أنَّ الممنوع من ذلك أن يتَّحدا معنًى من غير عطف، ولا بدلٍ، لا تقول: أَخَذْتُ من الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَأَمَّا الآية الكريمة: فإنَّ المحذورَ فيه مُنْتَفٍ، وذلك أنَّك إن جَعَلْتَ «مِنَ» الثانية للبيان، أو للتبعيض، فظاهرٌ؛ لاختلاف معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء، وإن جعلناها لابتداء الغاية، فهي وما بعدها بدلٌ، والبدلُ يجوز ذلك فيه، كما تقدَّم، ويجوز أن تتعلَّق «مِن» الأولى بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ؛ إمَّا من الموصول نفسه، وهو «مَا» ، أو من ضميره المنصوب ب «أنْزَلَ» ، أي: وما أَنْزَلَ اللهُ حالَ كَوْنِهِ كائناً من السَّماء.
فصل في أن إنزال الماء من السماء آية دالَّة على وجود الصانع
قيل: أراد بالسَّماء السَّحَابَ؛ فإنَّ كلَّ ما علاك يُسَمَّى سماءً، ومنه قيل: سَقْفُ البيت سماؤُهُ، وقيل: أراد السَّماء المعرفة، وأنَّه ينزل من السَّماء إلى السَّحاب، ومن السحاب إلى الأرض، وفي دلالة إنزالِ الماء من السَّماء على وجود الصَّانع: أنَّ جسم الماء، وما قام به من صفات الرَّقَّة، والرُّطوبة، واللَّطَافة والعُذُوبة، وجعله سبباً لحياة الإنسان، ولأكثر [منافعه] ، وسبباً لرزقه، وكونه من السحاب معلَّقاً في جَوِّ السَّماء، وينزل عند التضرُّع، واحتياج الخلق إليه - مقدار المنفعة، وسوقه إلى بلد ميِّتئن فحيي به -(3/124)
من الآيات العظيمة الدَّالَّة على وجود الصانع المدبِّر القدير.
قوله تعالى: «فَأَحْيَا بِهِ» عطف «أحْيَا» على «أَنْزَلَ» الَّذي هو صلة بفاء التَّعقيب، دلالة على سُرعة النبات، و «بِهِ» متعلِّق ب «أَحْيَا» والباءُ يجوزُ أن تكون للسَّبب، وأن تكون باء الإله، وكلُّ هذا مجازٌ؛ فإنَّه متعالٍ عن ذلك، والضميرُ في «به» يعود على الموصول.
فصل في دلالة إحياء الأرض بعد موتها على وجود الصانع
اعلم أنَّ «أحْيَا الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا» يدلُّ على وجود الصانع من وجوه:
[فإنَّ نفس الزَّرع وخروجه على هذا الحدِّ ليس في مقدور أحدٍ.
واختلاف ألوانه على وجه] [لا يُحَدُّ، ولا يُحْصَى] ، واختلاف الطُّعُوم والروائح، مع كونه يسقى بماء واحدٍ.
واستمرار العادة بذلك في أوقات مخصوصةٍ، فإنَّ ظهور النَّبات من الكلأ، والعشب، وغيرهما، لولاه ما عاش دوابُّ الأرض، ولما حصلت أقوات العباد [وملابسهم] .
وهذا لا بُدَّ له من [مُدَبِّر] ، حكيمٍ، قادرٍ.
وووصف اأرض بالحاية بعد الموت مجازٌ؛ لأنَّ الحياة لا تصحُّ إلاَّ على من يدرك، ويصحُّ أن يعلم، وكذلك الموت؛ إلاَّ أنَّ الجسم، إذا صار حيّاً، حصل فيه أنواعٌ من الحسن، ونضرة، ونور، ورونق، وذلك لشبهه [بالحياة] ، وموتها [يبسها، وجدبها] ، وهذا مجاز أيضاً؛ لشبهة بالموت.
قوله تعالى: «وَبَثَّ فِيهَا» يجوز في «بَثَّ» وجهان:
أظهرهما: أنَّهما عطفٌ على «أَنْزَلَ» داخلٌ تحت حُكم الصِّلة؛ لأنَّ قوله «فَأَحْيَا» عطفٌ على «أَنْزَلَ» فاتصل به، وصارا جميعاً كالشَّيء الواحد، وكأنه قيل: «وَمَا أَنْزَلَ في الأَرْضِ مِنْ مَاءٍ، وبَثَّ فيها من كُلِّ دابِّة؛ لأنَّهم يَنْمُونَ بالخِصْبِ، ويَعِيشُون بالحَيَا» : قاله الزمخشريُّ.
والثاني: أنه عطفٌ على «أَحْيَا» .
واستشكل أبو حيَّان عطفه [عليها؛ لأنَّها صلةٌ للموصول، فلا بُدَّ من ضمير يرجع(3/125)
من هذه الجملة إليه، وليس ثمَّ ضميرٌ في اللَّفظ] ؛ لأن «فيها» يعود على الأَرْض، فبقي أن يكون محذوفاً، تقديره: وبَثَّ به فيها، ولكن لا يجوز حذف الضمير المجرورة بحرف إلا بشروطٍ:
أن يكون الموصول مجروراً بمثل ذلك الحرف.
وأن يتَّحِد متعلَّقهما.
وألاَّ يُحْصَرَ الضَّميرُ.
وأن يتعيَّن للرَّبط.
وألا يكون الجارُ قائماً مقام مرفوعٍ.
والموصول هنا غير مجرورٍ ألبتَّة، ولمَّا استشكل هذا بما ذكر، خرَّج الآية على حذف موصول اسميٍّ؛ قال: وهو جائزُ شائعٌ في كلامهم، وإن كان البصريُّون لا يجيزُونه؛ وأنشد شَاهِداً عليه: [الخفيف]
866 - مَا الَّذِي دَأْبَهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ ... وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ
أي: والَّذي أَطَاعَ؛ وقوله: [الوافر]
867 - أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أي: ومن [يَمْدَحُهُ] وَيَنْصُرُهُ.
وقوله: [الطويل]
868 - فَوَاللهِ، مَا نِلْتُمْ وَمَا نِيلَ مِنْكُمُ ... بِمُعْتَدِلٍ وَفْقٍ وَلاَ مُتَقَارِبِ
أي: «مَا الَّذِي نِلْتُمْ» ، وقوله تعالى: {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46] ؛ ليطابق قوله: {والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} [النساء: 136] ، ثم قال: وقد يتمشَّى التقدير الأوَّل - يعني: جواز الحذف - وإن لم يوجد شرطه. قال: وقد جاء ذلك في أشعارِهِم؛ وأنشد: [الطويل]
869 - وَإشنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ... وَهُوَّ عَلَى مَْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ(3/126)
أي: عَلْقَمٌ عَلَيْهِ، وقوله: [الطويل]
870 - لَعَلَّ الًَّذِي أَصْعَدْتنِي أنْ يَرُدَّنِي ... إلى الأَرْضِ إشنْ لَمْ يَقْدِرِ الخَيْرَ قَادِرُهُ
أي: أصْعَدتنِي بِهِ.
[قوله تعالى: «مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» يجوز في «كُلِّ» ثلاثة أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون ي موضع المفعول به] ، وتكون «مِنْ» تبعيضيَّةً.
الثاني: [أن تكون «مِنْ» زائدةً على مذهب الأخفش، و «كُلِّ دَابَّةٍ» مفعولٌ به ل «بَثَّ» أيضاً.
والثالث] : أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول «بَثَّ» المحذوف، إذَا قلنا: إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً، تقديره: وما بَثَّ حال كونه كائناً من كُلِّ دابَّةٍ؛ وفي «مِنْ» حينئذٍ وجهان:
أحدهما: {أن تكون للبيان.
والثاني] : أن تكون للتبعيض.
وقال أبو البَقَاءِ رَحِمَهُ اللهُ: ومفعول «بَثَّ» محذوفٌ، تقديره: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} وظاهرُ هذا أنَّ «مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» : صفةٌ لذلك المحذوف، {وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته] .
والبَثُّ: نَشْرٌ وتفريقٌ.
قال: [الطويل]
871 - ... ... ... ... ... ... ... ... وَفِي الأضرْضِ مَبْثُوثاً شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ
ومضارِعُه: يَبُثُّ، بضم العين، وهو قياسُ المُضَاعف [المُتَعَدِّي] ، وقد جاء الكَسر في أُلَيْفَاظٍ؛ قالوا: «نَمَّ الحديثَ يَنُمُّهُ» بالوجهين.
والدَّابَّةُ: اسمٌ لكلِّ حيوانٍ، وزَعَمَ بعضهم إخراج الطَّير منه، ورُدَّ [عليه] بقول عَلْقَمَةَ: [الطويل]
872 - كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ(3/127)
وبقول الأعْشَى: [الطويل]
873 - ... ... ... ... ... ... ... . ... دَبِيبَ قَطَا البَطْحَاءِ في كُلِّ مَنْهِلِ
وبقوله سبحانه: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} [النور: 45] ثمَّ فَصَّل: بمن يمشي على رجلين، وهو الأإنسان والطَّير.
فصل في أنَّ حدوث الدواب دليل على وجود الصانع
اعلم أنَّ حدوث الحيوانات قد يكون بالتَّوليد، وقد يكون بالتَّوَالد:
وعلى التقديرين: فلا بُدَّ فيهما من [الافتقار إلى] الصَّانع الحَكِيم؛ يُرْوَى أنَّ رَجُلاً قال عند عُمَرَ بن الخَطَّاب - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: إنِّي لاأَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ الشِّطْرَنْجِ، فإنَّ رُقْعَتَهُ ذِرَاعٌ في ذِرَاع، وإنَّه لَوْ لَعِبَ الإِنْسَانُ ألْفِ مَرَّةٍ، فَإِنَّه لا يَتَّفِقُ مَرَّتَان على وجه واحد، فقال عمر بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين -: ههنا ما هو أَعجيب منه، وهو أنَّ مقدار الوجه شبرٌ [في شبرٍ] ، ثم إن موضع الأعضاء التي فيه؛ كالحاجبين، والعينين، والأنف، [والفم] ، لا يتغيَّر ألبَتَّة، ثم إنَّك لا ترى ضخصين في الشَّرق والغرب يشتبهان في الصُّورة، وكذا اللَّون، والألسنة، والطِّباع، والأمزجة، والصَّوت، والكثافة، واللَّطَافة، والرِّقَّة، والغلظ، والطُّول، والقصر، وبقيَّة الأعضاء، والبَلاَدة، وافِطنة، فما أعظم تلك المقدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرُّقعة الصَّغيرة هذه الاختلافات الَّتي لا حدَّ لها!
ورُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه -[أنه قال] : «سُبْحَانَ مَنْ أَبْصَرَ بِشَحْمٍ، وأَسْمَعَ بعَظْمٍ، وأنْطَقَ بلَحْمٍ» .
واعلَمْ أنَّ أهل الطبائع؛ قالوا: أعلى العناصر يجبُ أن يكون هو النَّار؛ لأنّها حارَّةٌ يابسةٌ، ودونها في اللَّطافة: الهواء، وهو حارٌّ رطبٌ، ودونها: الماء؛ لأنَّه باردٌ رطبٌ، والأرض لا بدَّ أن تكون تحت الكُلِّ؛ لثقلها، وكثافتها، [ويُبْسها] ، ثُمَّ إنَّهم قلبوا هذه القضيَّة في [تركيب] بَدنِ الإنسان؛ لأنَّ أعلى الأعضاء منه عظم القحف، والعظم وهو باردٌ يابسٌ، فطبيعته على طبيعة الأرض، وتحته الدِّماغُ، وهو باردٌ رطبٌ على طبع الماء، وتحته النَّفَسُ، وهو حارٌّ رطبٌ على طبع الهواء، وتحت الكل: القلبُ، وهو حارٌّ يابسٌ(3/128)
على طبع النَّار، فسبحان من [بيده قلبُ] الطبائع، وترتيبها كيف يشاء، وتركيبها كيف أراد.
ومن هذا الباب: أنَّ كُلَّ صانعٍ يأتي بنقشٍ لطيفٍ، فإنَّه يصونه عن التُّراب؛ لئلاَّ يكدِّره، وعن النار؛ لئلاَّ تحرقه، وعن الهواء؛ لئلاَّ يغيره، وعن الماءِ؛ لئلا تذهب به، ثم إنَّه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء؛ فقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] ، وقال في النار {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 15] وقال تعالى {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] وقال تعالى في الماءِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ} [الأنبياء: 30] ؛ وهذا يدلُّ على أن صنعه بخلاف صنع كُلِّ أحدٍ؛ وأيضاً: انظر إلى الطِّفل بعد افنصاله من أُمّشه، لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً [فانْقَطَع نَفَسُه] ، لمات في الحَال، ثمَّ إن بَقِيَ في الرَّحم المنطبق مدَّةً [مديدةً] ، مع تعذُّر النَّفس هناك، ولم يمُتْ، [ثم إنَّهُ] بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء، وأبعدها عن الفهم؛ بحيث لا يميز بين الماء والنَّار، وبين الأُم وغيرها، وبعد استكماله يصير أكل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك، ليعلم أنَّ ذلك من عظمة القادر الحكيم، هذا بعض ما في الإنسان.
وأمَّا الكلام على بقيَّة الحيوان، فبَحْرٌ لا ساحل له.
قوله تعالى: «وَتَصْرِيفِ الرَّيِاحِ» : «تَصْرِيفِ» : مصدرُ «صَرَّفَ» ، وهو الرَّدُّ والتَّقْلِيب، ويجوزُ أنْ يكون مضافاً للفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: [وتصريف الرِّياح السَّحَابَح فإنَّها تسوق السَّحاب، وأن يكون مضافاً للمفعول، والفاعل محذوفٌ، أي:] وتصريفُ الله الرِّياح، والرِّياح: جمعُ «رِيح» ، جمع تكسير، وياء الرِّيح، والرِّياح عن واو، والأصلُ «روحٌ» ؛ لأنَّه من: رَاحَ يَرُوحُ، وإنَّما قُلِبَتْ في «ريح» ؛ لِسُكُونها، وانكسار ما قَبْلها، وفي «رِيِاح» ؛ لأنَّها عينٌ [في جمع] بعد كسرةٍ، وبعدها ألفٌ، وهي ساكنةٌ في المفرد، وهي إبدالٌ مطَّردٌ؛ ولذلك لمَّا زال موجب [قلبها، رجعت إلى أصلها] ؛ فقالوا: أرواحٌ؛ قال: [الطويل]
874 - أَرَبَّتْ بِهَا الأَرْوَاحُ كُلَّ عَشِيَّةِ ... فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ
ومثله: [الوافر]
875 - لَبَيْتٌ تَخْفقُ الأَرْوَاحُ فِيهِ ... أَحَبُّ إليَّ مِنْ قَصْرٍ مُنِيفِ(3/129)
فصل في لحن من قال: الأرياح
وقد لَحَنَ عَمَارَةُ بْنُ بِلاَلٍ، فقال «الأرْيَاحَ» في شعره، فقال له أبو حَاتِم: «إنَّ الأرْيَاحَ لا تجُوزُ» فقال له عمارةُ: ألاَ تَسْمَعُ قولهم: رِيَاحٌ؟ فقال أبو حاتمِ: هذا خلاف ذلك، فقال: صَدَقْتَ، ورجع.
قال أبُو حَيَّان: وفي محفوطي قديماً؛ أنَّ «الأَرْيَاح» جاء في شعر بعض فُصَحَاءِ العَرَب المستَشْهَد بكلامهم، كأنَّهم بنوه على المفرد، وإن كانت علّضة القلب مفقودةً في الجمع، كما قالوا: «عيدٌ وأعْيَادٌ» والأصلُ «أَعْوَاد» ؛ لأنَّه من: «عَادَ يَعُودُ» ، لكنه لما ترك البَدَل، جعل كالحرف الأصليِّ.
قال شِهِابُ الدِّيِن: ويؤيد ما قاله الشَّيْخُ أن التزامَهُمُ «الياء» في «الأَرْيَاحِ» ؛ لأجل اللَّبس [بينه، وبين «أَرْوَاح» جمع «رُوح» ، كام قالوا: التُزمت الياء في «أعْيَاد؛ فَرْقاً] بينه وبين» أعْوَاد «جمع عود الحطب؛ كما قالوا في التصغير:» عُيَيْد «دون» عُوَيْد «؛ وعلَّلوه باللَّبْس المذكور.
وقال أبو عليٍّ: [يجمع] في القليل» أرْوَاح «وفي الكثير» رِيَاح «.
قال ابن الخطيب وابن عطِيَّة:» وجاءت في القرآن مجموعةً مع الرَّحمة، مفردةً مع العذابِ، إلاَّ في قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}
[يونس: 22] وهذا أغلب وقوعها في الكلام، وفي الحديث: «اللهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحاً، وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً» ؛ لأنَّ رِيحَ العذَابِ شديدةٌ ملتئمةُ الأجْزاءِ، كأنَّهَا جسْمٌ واحدٌ، وريح الرَّحْمَة ليِّنَةٌ متقطِّعَةٌ، وإنما أُفْرِدَتْ مع الفُلْكِ - يعني في يونس - لأنَّها لإجراء السُّفُن، وهي واحدةٌ متَّصِلَةٌ؛ ثمَّ وصفت بالطَّيِّبَةِ، فزال الاشتراك بينها، وبين ريح العذاب «. انتهى.
وردَّ بعضهم هذا؛ باختلاف القُرَّاء في اثْنِي عَشَرَ موضعاً في القرآن، وهذا لا يَرُدُّه لأنَّ من جمع في الرَّحمة، فقد أتى بالأصل المُشِار إليه، ومن أفرد في الرّحمة، فقد أراد الجنس، [وأما الجمع في العذاب، فلم يأتِ أصلاً] ، وإما الإفراد فإن وصف، كما في يونس من قوله:» بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «فإنَّه مزيلٌ للَّبس، وإن أطْلَقَ، كان للعذَابِ، كما في الحديث، وقد تختصُّ اللفظة في القرآن بشيءٍ، فيكون أمارةً له، فمن ذلك: ان عامَّة ما في القرآن من قوله: {يُدْرِيكَ} [الشورى: 17] مبهمٌ غير مبيَّن، قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] وما كان من لفظ» أَدْرَاك «فإنَّه مفسَّر؛ كقوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 10 - 11] .(3/130)
وقرأ حَمْزَةُ، والكسائيُّ هنا» الرِّيح «بالإفراد، والباقون بالجَمع، فالجمع لاختلاف أناوعها: جَنُوباً ودَبُوراً وصَباً وغير ذلك، وإفرادها على إرادة الجنس، وكلُّ ريح في القرآن ليس فيها ألفٌ ولامٌ، اتفق القرَّاء على توحيدها، وما فيها ألف ولام، اختلفوا في جمعها، وتوحيدها، إلاَّ الرِّيح العقيم في سورة الذَّاريات [41] ، اتفقوا على توحيدها، والحرف الأوَّل من سورة الروم {الرياح مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] اتفقوا على جمعها، والرِّياح: تذكَّر، تؤنَّث.
فصل في بيان تصريف الرياح
وأمَّا تصريفها: فإنها تُصرَّفُ إلى الشَّمال والجنوب والقبول والدَّبور، وما بين كلِّ واحدٍ من هذه المهابِّ، فهي نكباء، وقيل في تصريفها: إنها تارةً تكون ليِّنة، وتارةً تكون عاصفةٌ، [وتارةً حارَّةً] ، وتارة باردةً.
قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما -: أعظم جنود الله تعالى الرِّيح، والماء، وسمِّيت الرِّيح ريحاً؛ لأنها تريح النفوس.
قال القاضي شريح: ما هبَّت ريحٌ إلاَّ لشفاء سقيم، ولسقيم صحيحٍ. والبشارة في ثلاثة من الرِّياح، في الصَّبا، والشَّمال، والجنوب، وأمَّا الدَّبور، فهي: الرِّيح العقيم، لا بشارة فيها.
وقيل: الرِّياح ثمانيةٌ: أربعةٌ للرَّحمة: المبشرات، والنَّاشرات، والذَّاريات، والمرسلات، وأربعة للعذاب: العقيم، والصَّرصر في البرِّ، والعاصف والقاصف في البحر.
روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه -: فروح الله سبحانه وتعالى] تأتي(3/131)
بالرَّحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها واسألوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرِّها.
قال ابن الأعرابيِّ: النَّسيم أوَّل هبوب الريح.
فصل في بيان دلالة الآية على الوحدانية
فأما وجه الاستدلال بها على وحدانيَّة الله تعالى الصَّانع، فإنَّه صرَّفها على وجه النَّفع العظيم في الحيوان، فإنَّها مادَّة النَّفس الَّذي لو انقطع ساعةً في الحيوان، لمات.
قيل: إنَّ كلَّ ما كانت الحاجة إليه أشدَّ، كان وجدانه أسهل، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات؛ حتى لو انقطع عنه لحظة، لمات؛ لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ.
وبعد الهواء الماء؛ لأنَّ الحاجة إلى الماء أيضاً شديدةٌ؛ فلا جرم أيضاً سهل وجدان الماء، ولكنَّ وجدان الهواء أسهل؛ لأنَّ الماء لا بُدَّ من تكلُّف الاغتراف، بخلاف الهواء؛ فإنَّ الآلات المهيئة لجذبه حاضرةٌ أبداً.
ثم بعد الماء: الحاجة إلى الطَّعام شديدةٌ، ولكن دون الحاجة إلى الماء؛ فلا جرم كان تحصيل الطَّعام أصعب من تحصيل الماء؛ لأنَّه يحتاجُ إلى تكلُّفٍ أكثر، والمعاجين والأدوية تقلُّ الحاجة غليها؛ فلا جرم عسرت وقلَّت، ولمَّا عظمت الحاجة إلى رحمة الله تعالى، ننرجو أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ، ولولا تحرُّك الرياح، لما جرت الفلك، وذلك ممَّا لا يقدر عليه أحدٌ إلاَّ الله تعالى، فلو أراد كلُّ من في العالم ان يقلب الرياح من الشَّمال إلى الجنوب، او إذا كان الهواء ساكناً، أن يحركه، لم يقدر على ذلك.
قوله تعالى: «والسَّحَابِ» اسم جنس، واحدته «سَحَابَةٌ» [سُمِّي بذلك] ؛ لانسحابه في الهواء؛ كما قيل له «حَباً» لأنَّه يحبو، ذكره أبو عليٍّ.
قال القرطبيُّ: ويقال: سَحَبْتُ ذَيْلِي سَحْباً، وتَسَحَّبَ فُلاَنٌ على فُلاَنٍ؛ والسَّحْبُ شدة الأكل والشُّرب؛ وباعتبار كونه اسم جنس، وصفه بوصف الواحد المنكِّر في قوله: «المُسَخَّرِ» كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] ولما اعتبر معناه تارةً أخرى، وصفه بما يوصف به الجمع في قوله: «سَحَاباً ثِقَالاً» ويجوز أن يوصف به المؤنَّثة الواحدة؛ كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وهكذا: كلُّ اسم جنسٍ فيه لغتان: التذكير باعتبار اللّفظ، والتأنيث باعتبار المعنى.
والتَّسخير: التذليل، وجعل الشَّيء داخلاً تحت الطَّوْع، وقال الرَّاغب: هو القهر على الفعل، وهو أبلغ من الإكراه.
قوله تعالى: «بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ» في «بَيْنَ» قولان:(3/132)
أحدهما: أنه منصوبٌ بقوله: «المُسَخَّرِ» فيكون ظرفاً للتَّسخير.
ولاثاني: أن يكون حالاً من الضَّمير المستتر [في اسم المفعول] ؛ فيتعلَّق بمحذوف، أي: كائناً بين السَّماء والأرض، و «لآيَاتٍ» اسم «إنَّ» ، والجارُ خبرٌ مقدَّمٌ، ودخلت اللاَّم على الاسم؛ لتأخُّره عن الخبر، ولو كان موضعه، لما جاز ذلك فيه.
وقوله: «لِقَوْمٍ» : في محلِّ نصبٍ، لأنَّه صفةٌ ل «آياتٍ» ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وقوله: «يَعْقِلُونَ» : الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ ل «قَوْمٍ» ، والله أعلم.
فصل في تفسير «السَّحَاب» روى ابن عبَّاس عن كعب الأحبار - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: «السَّحَابُ غِرْبَالُ المَطَرِ، لَوْلاَ السَّحَابُ حِينَ ينزل المَاء مِنَ السَّمَاءِ، لأَفْسَدَ مَا يَقَعْ عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ» .
وقال ابن عَبَاسِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: سَمِعْتُ كَعْباً، يَقُولُ: إنَّ الأرْضَ تُنْبِتُ العام نباتاً، وتُنْبِتُ نَبَاتاً عَاماً قَابِلاً غَيْرَهُ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إنَّ البَذْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ المَطَرِ، فَيَخْرُجُ في الأَرْضِ.
فصل في الاستدلال بتسخير السحاب على وحدانية الله
في الاستدلال بتسخير السَّحاب على وحدانيَّة الصَّاع: أنَّ طبع الماء ثقيلٌ يقتضي النُّزول فكان بقاؤه في جوِّ الهواء على خلاف الطَّبع، فلا بُدَّ من قادرٍ قاهرٍ، يقهر على ذلك، فلذلك سمّضاه بالمسخَّر، وأيضاً: فإنَّه لو دام، لعظم ضرره من حيث إنَّه يستر ضوء الشَّمس، ويكثر [الأمطار، والابتلال] ، ولو انقطع، لعظم ضرره؛ لأنَّه يفضي إلى القحط وعدم العشب، والزراعة؛ فكان تقديره بالمقدار المعلوم الذي يأتي في وقت الحاجة، ويزول عند زوال الحاجة بتقدير مقدِّرٍ قاهرٍ أيضاً؛ فإنَّه لا يقف في موضع معيَّن، بل الله تعالى يسيّره بواسطة تحريك الرِّياح إلى حيث شاء وأراد، وذلك هو التَّسخير.
روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً مِنَ سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، فَتنَحَّى ذلك السَّحَابُ، فأفرغ ماءَهُ في جرَّةٍ، فإذا بشرجةٍ من تلك الشِّراج، وقد استوعتب ذلك الماء كلَّه، فتتبَّع الماء، فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله،(3/133)
ما اسمك؟ قال: فلان؛ للاسم الذي سمع من السَّحاب، فقال له: يا عبد الله، لم تَسْأَلُني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتاً من السَّحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فماذا تصنع؟ قال: أمَّا إذا قلت هذا، فإنِّي أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدَّق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأردُ فيها ثلثه.»
وفي روايةٍ: «وأجعل ثلثه للمساكين، والسَّائلين، وابن السَّبيل»
قوله: «يَعْقِلُونَ» ، أي: يعلمون لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً.
قال القاضي: دلت الآية على أنَّه لو كان الحقُّ يدرك بالتقليد، واتباع الآباء، الجري على الإلف والعادة، لما صَحَّ قوله: «لآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ، وأيضاً: لو كانت المعارفُ ضروريَّةً، وحاصلةً بالإلهام، لما صَحَّ وصفُ هذه الأمُور بأنَّها آياتٌ؛ لأنَّ المعلومَ بالضَّرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات.
قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ثلاثة لا يدرى من أين يَجِيء: الرَّعد، والبرق، والسَّحاب.(3/134)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
اعلم: أنه، سبحانه وتعالى، لمَّا قرَّر التوحيد بالدلائل العقلية القاطعة، أردفه بتقبيح ما يضاده؛ لأنَّ تقبيح ضد الشيء مما يوكِّد حسن الشَّيء.
قال الشاعر: [الكامل]
876 - ... ... ... ... ... ... ... ... وَبِضِدِّهَا تَتَبَيِّنُ الأَشْيَاءُ
وقالوا أرضاً: النِّعمة مجهولةٌ، فإذا فقدت عرفت، والنَّاس لا يعرفون قدر الصِّحَّة، فإذا مرضوا، ثم عادت الصحَّة إليهم، عرفوا قدرها، وكذا القول في جميع النِّعم، فلهذا السَّبب أردف الله تبارك وتعالى هذه الآية الدَّالَّة على التَّوحيد بهذه الآية الكريمة.
قوله تعالى: «مَنْ يَتَّخِذُ» «مَنْ» : في محلِّ رفع بالابتداء، وخبره الجارُّ قبله، ويجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون موصولةً.
والثاني: أن تكون موصوفةً.
فعلى الأوَّل: لا محلَّ للجملة بعدها. وعلى الثاني: محلُّها الرَّفع، أي: فريقٌ، أو(3/134)
شخصٌ متَّخذٌ، وأفرد الضمير في «يَتَّخِذُ» ؛ حملاً على لفظ «مَنْ» و «يَتَّخِذُ» : يفتعل، من «الأَخْذ» ، وهي متعدِّية إلى واحد، وهو «أنداداً» .
قوله تعالى: «مِنْ دُونِ اللهِ» : متعلِّق ب «يَتَّخِدُ» ، والمرابد ب «دُونِ» [هنا «غَيْرَ» ] . وأصلها إذا قلت: «اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقاً» ، أصله: اتخذت من جهةٍ ومكانٍ دون جهتك، ومكانك صديقاً، فهو ظرف مجازيٌّ، وأذا كان المكان المتَّخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطَّةً عنه، ودونه؟ لزم أن يكون غيراً، [لأنه ليس إيَّاه، ثم حُذِف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، مع كونه غيراً] ، فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق، لا بطريق الوضع لغةً، وتقدَّم تقرير شيء من هذا أوَّل السُّورة.
فصل في اختلافهم في المراد بالأنداد
اختلفوا في «الأَنْدَاد» ، فقال أكثر المفسِّرين: هي الأوثان التي اتَّخذوها آلهةً، ورجعوا من عندها النف والضُّرَّ، وقصدوها بالمسائل، وقرَّبوا لها القرابين؛ فعلى هذا: الأصنام بعضها لبعضٍ أندادٌ أي أمثالٌ، والمعنى: أنَّها أندادٌ لله تعالى؛ بحسب ظنونهم الفاسدة.
وقال السُّدِّيُّ: إنَّها السَّادة الَّذين كانوا يطيعونهم، فيحلون لمكان طاعتهم في أنَّهم يحلُّون ما حرّم الله، ويحرِّمون ما أحلَّ الله؛ ويدلُّ على هذا القول وجوه:
الأوَّل: ضمير العقلاء في «يُحِبُّونَهُمْ» .
والثاني: يبعد أنَّهم كانوا يحبُّون الأصنام كحبِّ الله تعالى، مع علمهم بأنها لا تضر، ولا تنفع.
الثالث: قوله بعد هذه الآية: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166] ؛ وذلك لا يليق إلاَّ بالعقلاء.
وقال الصُّوفية: كلُّ شيءٍ شغلت قلبك به سوى الله تعالى، فقد جعلته في قلبك ندّاً لله تعالى؛ ويدلُّ عليه قوله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الجاثية: 23] .
قوله تعالى: «يُحِبُّونَهُمْ» في هذ الجلمة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون في محلِّ رفع؛ صفة ل «مِنْ» في أحد وجهيها، والضمير المرفوع يعود عليها؛ باعتبار المعنى، بعد باعتبار اللَّفظ في «يَتَّخِذُ» .(3/135)
والثاني: أن تكون في محلِّ نصبٍ؛ صفةً ل «أَنْدَاداً» ، والضمير المنصوب يعود عليهم، والمراد بهم الأصنام؛ وإنَّما جمعوا جمع العقلاء؛ [لمعاملتهم له معاملة العقلاء، أو يكون المراد بهم: من عبد من دون الله من العقلاء] وغيره، ثم غلب العقلاء على غيرهم.
قال ابْنُ كَيْسَانَ، والزَّجَّاجُ: معناه: كَحُبِّ الله، أي: يسوُّون بين الأصنام وبين الله تبارك وتعالى في المحبَّة.
قال أبو إسْحَاقَ: وهذا القول الصحيح؛ ويدلُّ عليه قوله: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} نقله القرطبيُّ.
الثالث: أن تكون في محل نصب على الحال مِنَ الضَّمير في «يَتَّخِذُ» ، والضمير المرفُوع عائدٌ على ما عاد عليه الضَّمير في «يَتَّخِذُ» ، وجُمِعَ حملاً على المعنى؛ كما تقدَّم.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: في الآية حَذْفٌ، أي: يُحبُّونَ عبادَتَهُمْ، والانقياد إليهم.
قوله تعالى: «كَحُبِّ الله» الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: يحبُّونَهُمْ حُبّاً كَحُبِّ الله، وأمَّا عل الحال من المَصدر المعرَّف؛ كما تقرَّر غير مَرَّة، والحُبُّ: إرادة ما تَاهُ وتظنُّه خيراً، وأصله من: حَبَبْتُ فُلانَاً: أصبحتُ حَبَّةَ قَلْبِهِ؛ نحو: كَبِدتُهُ، وأَحْبَبْتُهُ: جعلت قَلْبِي مُعرَّضاً بأنْ يُحِبَّهُ، لكن أكثر الاستعمال أنْ يقال: أَحْبَبْتُهُ، فهو مَحْبُوبٌ، وَمُحَبٌّ قليلٌ؛ كقول القائل: [الكامل]
877 - وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بمَنزِلَةِ المُحَبِّ الْمُكْرَمِ
والحُبُّ في الأصل: مصدرُ «حَبَّهُ» وكان قياسه فتح الحاء، ومضارعُهُ يَحُبُّ بالضم، وهو قياس فعل المضعَّف، وشَذَّ كسره، و «مَحْبُوب» أكثر مِنْ «مُحَبٍّ» ، و «مُحَبٌّ» أكثر من «حَابٍّ» وقد جمع الحُبُّ؛ لاختلاف أنواعه؛ قال: [الطويل](3/136)
878 - ثَلاًثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبٌّ عَلاَقَةٌ ... وَحُبٌّ تِمِلاَّقٌ وَحُبٌّ هُوَ الْقَتْلُ
والحُبُّ مصدرٌ لمنصُوبِهِ، والفاعلُ محذوفٌ، تقديرُه، كحُبِّهِمْ الله أو كَحُبِّ المؤمنين اللهِ؛ بمعنى: أنَّهم سَوَّوا بين الحُبَّيْن: حبِّ الأنداد، وحُبِّ الله.
وقال ابن عطيَّة: «حُبّ» : مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللَّفْظ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعل المُضمرِ، يريدُ به: أنَّ ذلك تقديرُه: كَحُبِّكُمُ اللهَ أو كَحُبِّهِمُ اللهَ، حَسبما قدَّرَ كُلَّ وَجهٍ منهما فرقَةٌ انتهى.
وقوله: «للفاعل المُضْمر» يريدُ به أنَّ ذلك الفاعل منْ جنس الضمائرِ، وهو «كمْ» أو «هُمْ» أو يُسَمَّى الحذف إضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ ولا يريد أنَّ الفاعل مُضْمر في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعال؛ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضهم؛ مردُودٌ بأن المصدر اسم جنسٍ واسمُ الجنس لا يُضمرُ فيه لجمودِهِ.
وقال الزمخشريُّ: «كَحُبِّ اللهِ» كتعظيم الله، والخُضُوع، أي: كا يُحَبُّ اللهُ؛ عليه أنه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعول، وإنما استُغنِيَ عن ذكرِ من يُحِبُّهُ؛ لأنه غير مُلتبسٍ انتهى.
أما جعلُهُ المصْدر من المبنيِّ للمفعول، فهو أحد ألأقوَالِ الثلاثة؛ أعني: الجوازَ مُطْلَقاً.
والثاني: المَنْعُ مُطْلَقاً: وهو الصحيحُ.
والثالث: [التفصيلُ بين الأفعال التي لم تُستَعْمل إلاَّ مَبْنِيَّةً للمفعول، فيجوز؛ نحو: عَجِبْتُ مِنْ جُنُونِ] زيد بالعلم، ومنه الآية الكريمةُ؛ فإنَّ الغالب من «حُبّ» أنْ يبنَى للمفعول وبيْنَ غيرها، فلا يجوزُ، واستدلَّ مَنْ أجازهُ مطْلقاً بقَول عائشة - رضي الله تعالى عنها - نَهَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل وَعَظَّم - عن قَتْل الأبتر، وَذُوا الطُّفيتين برفع «ذُو» ؛ عَطْفاً على محل «الأبتر» لأنَّه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله تقديراً، أي أنْ يُقْتَلَ الأَبتَرُ، ولتَقرير هذه الأقوال موضعٌ غير هذا.
وقد رد الزَّجَّاجُ تقدير مَنْ قدَّر فاعل المصدر «المُؤْمنِينَ» أو ضميرهم.
وقال «لَيْسَ بشَيْءٍ» والدليلُ على نقضه قوله بَعْدُ: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} ورجَّح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتَّخذين، أي: يحبُّون الأصنام، كما يُحبُّون الله؛ لأنَّهم اشركوها مع الله، فَسَوَّوْا بين الله تعالى، وبين أوثانهم في المَحَبَّة، وهذا الذي قاله الزَّجَّاجُ واضحٌ؛ لأن التسوية بين محبَّة الكفَّار لأَوثانهم، وبن محبَّة المؤمنين لله يُنَافِي(3/137)
قوله {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} فإنَّ فيه نَفْيَ المُسَاواة. وقرأ أبو رجاء: «يَحُبُّونَهُمْ» بفتح الياء من «حَبَّ» ثلاثيّاً، و «أَحَبَّ» أكثر، وفي المَثَل: «مَنْ حَبَّ طَبَّ» .
فصل في المراد من قوله كحب الله
في قوله: كَحُبِّ الله قولان:
الأول: كَحُبِّهِم للَّهِ.
والثاني: كَحُبِّ المؤمنين للَّهِ، وقد تقدَّم ردُّ هذا القَوْلِ.
فإِن قيل: العاقل يستحيل أنْ يكون حبُّه للأوثان كحُبِّه لله؛ وذلك لأنه بضَرُورة العَقْل يَعْلَمُ أنَّ هذه الأوثانَ ينارٌ لا تسمع، ولا تعقلُ، وكانوا مُقرِّين بأنَّ لهذا العالَم صانعاً مدَبِّراً حَليماً؛ كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] فمع هذا الاعتقادِ، كيف يُعْقَلُ أنْ يكُونَ حبِّهُمْ لتلك الأوثان كحُبِّهم لله تعالى، وقال تعالى؛ حكايةً عنهم أنَّهُم قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] فكيف يعقل الاستواءُ في الحُبِّ؟
والجواب: كحُبِّ الله تعالى في الطَّاعة لها، والتَّعْظِيمِ، فالاستواءُ في هذه المحبَّة لا ينافي ما ذكرتُموه.
قوله تعالى: «أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ» : المُفضَّلُ عليه محذوفٌ وهم المُتَّخِذُون [الأندادَ، أي: أشدُّ حُبّاً لله من المُتَّخِذِين] الأنْدادَ لأوثانهم؛ وقال أبو البقاء: ما يتعلَّق به «أَشَدُّ» محذوفٌ، تقديره: أشَدُّ حُبّاً للَّهِ مِنْ حُبِّ هؤلاء للأنداد، والمعنى: أنَّ المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر من محبَّة هؤلاء [أوثَانَهُمْ، ويحتمل أن يكون المعنى: أن المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر ممَّا يحبُّه هؤلاء] المتَّخذون الأنداد؛ لأنهم لم يُشْرِكُوا معه غيره، وأتى ب «أشَدُّ» موصِّلاً بها إلى أفعل التَّفضيل من مَادَّة «الحُبِّ» ؛ لأنَّ «حُبَّ» مبنيٌّ للمفعول، والمبنيُّ للمفعول لا يُتعجَّب منه، ولا يبنى منه «أَفْعَل» للتَّفضيلِ؛ فلذلك أتى بما يجوز فيه ذلك.
[فأمَّا قوله: «مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ» فساذٌّ على خلافٍ في ذلك، و «حُبّاً» تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ، تقديره: حُبُّهُمْ لِلَّهِ أشدٌّ] .
فصل في معنى قوله أشد حبّاً لله
معنى «أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ» ، أي: أثبتُ وأدْوَمُ على حُبِّهِ؛ لأنَّهم لا يختارون على الله ما(3/138)
سواه، والمشركون إذا اتَّخذوا صَنَماً، ثم رأوا أحسن منه، طرحوا الأوَّل، واختاروا الثَّاني قاله ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
وقال قتادة: إن الكافِرَ يُعْرِضُ عن معبودِهِ في وقت البَلاء، ويُقبل على الله تعالى [كما أخبر الله تعالى عنهم، فقال: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ} [العنبكوت: 65] والمؤمن لا يُعْرِضُ عن الله] في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء، والشِّدَّة والرَّخاء؛ وقال سعيد بن جُبير: إِنَّ الله - عزَّ وجلّ - يأمُر يَوْم القيامةِ من أحرق نفسه في الدُّنيا على رُؤية الأصنام: أنْ يَدْخُلُوا جهنَّمَ مع أصنامِهِم، فلا يَدْخُلُون؛ لعلمهم أن عذابَ جَهَنَّم على الدوام، ثم يقول للمؤمنين، وهم بين أَيدِي الكفَّار: إنْ كُنْتُم أحِبَّائي فادْخُلُوا جَهَنَّم فيقتحمون فيها، فيُنادي مُنادٍ منْ تحت العرش {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} .
وقيل: وإنَّما قال: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} ؛ لأنَّ الله تبارك تعالى أحَبَّهم أوَّلاً، ثم أحبُّوه، ومَنْ شهد له المعبود بالمحبّة، كانت محبته أتمَّ؛ قال الله تعالى: «يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه» .
فإن قيل: كيف يمكن أن تكون محبَّةُ المؤمن لله أشَدَّ مع أنَّا نَرَى اليهود يأتُون بطاعاتٍ شاقَّة، لا يأتي بمثلها أحَدٌ من المُؤمنين، ولا يأتُون بها إلا الله تعالى، ثم يقتلون أنفُسهم حبّاً لله؟ والجوابُ من وجوه:
أحدها: ما تَقَدَّم من قول ابن عَبَّاس، وقتادة، وسعيد بن جبير.
وثانيها: أنَّ مَنْ أحب غيره رضي بقضائه، فلا يتصرف في مُلْكه، فأولئك الجُهَّال [قَتَلُوا أنْفُسَهُمْ بِغَيْرِ إذْنه، إنَّما المُؤمنون الذي يقتلُون أنْفُسَهم بإذْنِه، وذلك في الجهاد] .
وثالثها: أنَّ الإنسَانَ، إذا ابتلي بالعَذَاب الشَّديد لا يمكنُهُ الاشتغال بمعرفة الرَّبِّ، فالذي فعلوه باطلٌ.
ورابعها: أنَّ المؤمنين يوحِّدون ربَّهم، فمحبتهم مجتمعةٌ لواحدٍ، والكفَّارُ يعبدون مع الصنم أصناماً، فتنقص مبحَّة الواحد منهم، أما الأإله الواحد فتنضم محَّبة الجمع إليه.
قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا} جواب «لَوْ» محذوفٌ، واختلف في تقديره، ولا يظهر ذلك إلاَّ بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة. قرأ عامر ونافعٌ: «وَلَو تَرَى» بتاء الخطاب، «أنَّ القُوَّة» و «أَنَّ اللهَ» بفتحهما.
وقرأ ابن عامر: «إِذْ يُرَوْنَ» بضم الياء، والباقون بفتحها.(3/139)
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو والكوفيون: «وَلَوَ يَرَى» بياء الغَيْبَة، «أنَّ القُوَّة» ، «أَنَّ اللهَ» بفتحهما. وقرأ الحسن، وقتادة وشيبة، ويعقوب، وأبو جعفر: «وَلَوْ تَرَى» بتاء الخطاب، «أَنَّ القُوَّةَ» ، و «إِنَّ اللهِ» بكسرهما. وقرا طائفةٌ: «وَلَوْ يَرَى» بياء الغيبة «إِنَّ القُوَّة» و «إِنَّ اللهِ» بكسرهما. إذا تقرَّر ذلك، فقد اختلفوا في تقدير جواب «لَوْ» .
فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قوله: «أَنَّ القُوَّةَ» ومنهم مَنْ قَدَّره بعد قوله: {وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب} هو قول أبي الحسن الأخفش. [المُبرِّد.
أمَّا مَنْ قدَّره قبل: «أَنَّ القوَّة» فيكون «أَنَّ الْقوةَ» معمولاً لذلك الجواب] وتقديره على قراءة «تَرَى» بالخطاب وفَتح «أنَّ» و «أنَّ» : «لَعَلِمْتَ، أَيها السَّامعُ، أنَّ القُوَّةَ للَّهِ جميعاً» والمراد بهذا الخطاب: إِمَّا النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وإمَّا: كُلُّ سامع، فيكون معناه: ولو تَرَى يا محمَّدُ، أو يا أيُّها السَّامعُ، الَّذين ظَلَمُوا، يعني: أشركوا، في شدَّة العذاب لرأيت أمراً عظيماً [وقيل: معناه: قُلْ، يا محمَّد، أيُّها الظالم، لو تَرَى الَّذِين ظَلَمُوا من شدَّةِ العذابِ، لرأيتَ أمراً فظيعاً] .
وعلى قراءة الكَسرَ في «إِنَّ» يَكُونُ التقديرُ: لَقُلْتَ إِنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، والخلافُ في المراد من الخطاب كما تقدَّم، أو يكون التقدير: «لاَسْتَعْظَمْتَ حَالَهُمْ» ، وإنما كُسِرَتُ «إِنَّ» ؛ لأنَّ فيها معنى التلعيل؛ نحو قولك: «لو قَدِمْتَ على زيدٍ، لأَحْسَن إلَيك؛ إنَّه مُكْرِمٌ لِلضِّيفَانِ» فقولُك: «إِنَّهُ مُكْرمُ لِلضِّيفَانِ» علَّةٌ لقولك: «أَحْسَنَ إِلَيْكَ» وقال ابن عطيَّة: تقديره: «وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ في حَال رُؤيتِهِم العذابَ وفَزَعهمْ منْه، واسْتِعْظَامِهِمْ له، لأقَرُّوا أنَّ لِلَّهِ جمِيعاً» .
وناقشه أبو حَيَّان، فقال: كانَ يَنْبغي أنْ يقول: «فِي وقْتِ رُؤْتهم العذابَ» فيأتي بمرادف «إِذْ» وهو الوَقْت لا الحَالُ وأيضاً: فتقديرُه لجَوابِ «لو» غيْر مُرتَّبٍ على ما يلي «لَوْ» ؛ لأن رؤية السَّامع أو النبيِّ - علَيْه الصَّلاة والسَّلام - الظَّالمين في وقت رُؤيتهِمْ [لا يترتَّب عليها إقْرَارُهُمْ بأنَّ القوَّة لله جميعاً؛ وهو نظيرُ قولك: يَا زيَدُ، لَوْ تَرَى عَمْراً فِي وَقْتِ] ضَرْبِهِ، لأَقرَّ أَنَّ الله - تعالى - قادِرٌ عَلَيْهِ. فإقرارُهُ بقُدْرة اله تعالى ليسَ مترتِّباً على رؤية زيدٍ. انتهى.(3/140)
وتقديره على قراءة «يَرَى» بالغيبة: «لَعَلِمُوا أنَّ القُوَّة لِلَّهِ» [إن كان فاعلُ «يَرَى» : الَّذِينَ ظَلَمُوا، وإنء كان ضميراً يَعْودُ على السَّامع، فيقدَّر: «لَعَلِمَ أنَّ القُوَّة» ] وأمَّا مَنْ قدَّره بعد قوله «شَدِيد العَذَابِ» ، فتقديره على قراءة «تَرَى» بالخطاب: «لاَسْتَعْظَمْتَ مَا حَل بِهِمْ» ويكون فَتْح أَنَّ على أَنَّهُ مفعولٌ مِنْ أجله، أي: «لأَنَّ القوَّةَ للَّهِ جميعاً» وكسْرُها على معنى التلعيل؛ نحو: «أَكْرِمْ زيْداً؛ إنَّه عالمٌ، وأَهِنْ عَمْراً؛ إِنَّهُ جَاهِلٌ» أو تكون جملة فاعلُ «يَرَى» ضمير السَّامع: «لاَسْتَعْظَمَ ذَلِكَ» وإِنْ كان فاعلُهُ الَّذينَ، كان التقديرُ «لاَسْتَعْظَمُوا مَا حَلَّ بِهِمْ» ويكون فتح «أَنَّ على أَنَّها معمولةٌ ل» يَرَى «على أن يكون الفاعل» الَّذِينَ ظَلَمُوا «والرؤية هنا تحتملُ أنْ تكُونَ من رُؤية القَلْب، فتسُدَّ» أَنَّ «مَسَدَّ مفعوليها، وأنْ تكُون مِنْ رؤية البَصَر، فتكون في موضع مفعول واحدٍ.
واَمَّا قراءة «يَرَى» [الَّذِينَ] بالغيبة، وكَسْر «إِنَّ» و «إِنَّ» فيكون الجواب قولاً محذوفاً، وكُسرَتَا لوقوعهما بعد القَوْل، فتقديرُه على كون الفاعل ضمير الرَّأي، لَقَالَ: «إِنَّ القُوَّةَ» وعلى كَونه «الَّذِينَ» : «لَقَالُوا» ويكون مفعول «يَرَى» محذوفاً، أي: «لَوْ يَرَى حَالَهُمْ» ويحتمل أنْ يكون الجواب: «لاَسْتَعْظَمَ، أو لاسْتَعْظَمُوا» على حسب القولين: وقدَّر بعضهم: {مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً} وإنَّما كُسِرَتَا؛ استئنافاً، وحَذُفُ جواب «لَوْ» شائعٌ مستفيضٌ كثيرٌ في التنزيل، قال تبارك وتعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت} [الأنعام: 93] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] ويقولون: «لَوْ رَأَيْتَ فُلاَناً، والسِّيَاطُ تَأخُذُ مِنْهُ» قالوا: وهذا الحَذفُ أفخم وأشَدُ كلَّ مَذْهَب فيه؛ بخلاف ما لو ذكر فإنَّ السامع يقصُرُ همَّه عليه، وقد وَرَد في أَشْعَارِهمْ ونَثْرِهِمْ كثيراً؛ قال امرُؤُ القَيْسِ: [الطويل]
879 - وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
وقال النَّابغة: [الطويل]
880 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أَبُوا حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
ودخلت «إِذْ» ، وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناء هذه المستقبلات تقريباً للأمر،(3/141)
وتصحيحاً لوقوعه؛ كما وقعت صيغة المُضِيِّ موضع المستقبلِ لذلك؛ كقوله: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة} [الأعراف: 50] . وكما قال الأشتر: [الكامل]
881 - بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنْ العُلاَ ... وَلَقيْتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبوسِ
إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهَابِ نُفُوسِ
فأوقع «بَقَّيْتُ» و «انْحَرَفْتُ» - وهما بصيغة المضيِّ - موقع المستقبل، لتعليقهما على مستقبلٍ، وهو قوله: إنْ لم أشنَّ «.
وجاء في التنزيل كثيرُ مِنْ هذا الباب قال تبارك وتعالى:
{وَلَوْ
ترى
إِذْ
وُقِفُواْ عَلَى النار} [الأنعام: 27] {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} [سبأ: 51] ولما كان وقوعُ السَّاعةَ قريباً، أجْرَاه مجرَى ما حَصَل ووضع، مِنْ ذلك قولُ المُؤَذِّن: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَة، يقوله قبل إيقَاعِ التَّحْريم بالصَّلاَة؛ لقرب ذلك.
وقيل: أَوْقَعَ «إِذْ» موقع «إِذَا» ؛ [وقيل: زمن الآخر متصلٌ بزمن الدنيا، فقام أحدهما مقام الآخر؛ لأنَّ المجاور للشَّيء يقوم مَقَامه، وهكذا كُلُّ موضع وقع مثْلَ هذا، وهو في القرآن كثير] .
وقرأ ابن عامر «يَرَوْنَ الْعَذَابَ» مبنيّاً للمفعول من «أَرَيْتُ» المنقولة مِنْ «رَأَيْتُ» بمعنى «أبْصَرْتُ» فتعدَّى لاثنين:
أولهما: قام مقام الفاعِلِ، وهو الواو.
والثاني: هو العذاب.
وقراءُ الباقين واضحة.
وقال الراغب: قوله: أَنْ القُوَّةَ «بدلٌ من» الَّذِينَ «قال:» وهو ضعيفٌ «.
قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللهُ - ويَصيرُ المَعْنَى:» ولو تَرَى قُوَّة اللهِ وقُدْرَتَهُ على الَّذين ظَلَمُوا «وقال في المُنْتَخَب: قراءة الياء عند بعضهم أَوْلى من قراءة التَّاء؛ قال:» لأَنَّ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - والمؤمِنِينَ قَدْ علِمُوا قدْرَ ما يُشَاهِدُه الكُفَّار، وأما الكُفَّار، فلم يعلَمُوه؛ فوجَبَ إسْنادُ الفِعل إِلَيْهِم «وهذا أمر مردودٌ؛ فإن القراءتَيْن متواترتَانِ.
قوله تعالى:» جميعاً «حالٌ من الضَّمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور، والواقعِ(3/142)
خَبَراً، لأنَّ تقديره:» أّنَّ القُوَّة كائنةٌ لله جميعاً «، ولا جائزٌ أنْ يكونَ حالاً منَ القُوَّة؛ فإن العامل في الحال، هو العامل في صاحبها، وأَنَّ لا تعمَلُ في الحال، وهذا مشكل؛ فإنهم أجازوا في» ليت «أن تعمل في الحال، وكذا» كأنَّ «؛ لِمَا فيها من معنى الفعل - وهو التمنِّي والتَّشْبيهُ - فكان ينبغي أن يجوز ذلك في» أَنَّ «لما فيها مَعْنَى التَأْكِيد.
و» جَمِيعُ «في الأصل:» فَعِيلٌ «من الجمع، وكأنه اسم جمع؛ فلذلك يتبع تارةً بالمُفرد؛ قال تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] وتارة بالجَمع؛ قال تعالى: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] وينتصب حالاً، ويؤكَّد به؛ بمعنى:» كُلّ «ويدلُّ على الشمول؛ كدلالة» كُلِّ «، ولا دلالة له على الاجتماع في الزَّمان، تقول:» جاءَ القَوْمُ جَمِيعُهُمْ «لا يلزمُ أنْ يكُونَ مجئيهم في زمن واحدٍ، وقد تقدَّم ذلك في الفَرْق بينهما وبين» جاءُوا معاً «.(3/143)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
اعْلَم أنَّه لما بَيَّن حال مِنْ يَتَّخذُ مِنْ دُون الله أنْداداً بقوله: وَلَوْ يَرَى الَّذينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ على طَرِيقِ التهْدِيد زادَ في هَذَا الوَعِيد بهذه الآية الكريمة، وبَيَّنَ أنَّ الذين أفْنَوْا عُمْرهم في عِبَادَتِهِمْ، واعتقَدُوا أنَّهم سَبَبُ نجاتِهِمْ، فإنَّهم يتبَّرءُون منْهُمْ؛ ونظيره قوله تعالى: {يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25] وقولُهُ - عزَّ وجلَّ سبحانَهُ - {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] وقول إبليس لعنه الله {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: 22] .
وهل هذا التبرُّؤ يقع منهم بالقَوْل، أو بظُهُور النَّدَم على ما فرَطَ منهم من الكُفْر والإِعْرَاض؟ قوْلاَن: أظهرها الأوَّل.
واختلفوا في خؤلاء المَتْبُوعِينَ، فقال قتادَةُ، والرَّبيع وعَطَاءٌ: السَّادة والرُّؤساء مِنْ مشركي الإنس إلاَّ أنَّهم الذين يصحُّ منهم الأَمر؛ والنَّهْيُ؛ حتى يمكن أن يتبعوا
وقال السُّدِّيُّ: هُمْ شَيَاطينُ الجِنِّ.
وقيلَ: شَيَاطين الإنْسِ والجِنِّ.
وقيلَ: الأوْثَان الَّتي كانُوا يسمُّونها بالآلهة؛ ويؤيد الأوَّل قولُهُ تعالى: {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67] .(3/143)
قولُهُ تعالى: «إِذْ تَبَرَّأَ» في «إِذْ» ثلاثةُ أوجُهٍ:
أحدُها: أنها بدل مِنْ «إِذْ يَرَوْنَ» .
الثاني: أنها منصوبةٌ بقوله: «شَدِيدُ العَذَابِ» .
الثالث - وهو أضْعَفُها - أنها معمولةٌ ل «اذكُرْ» مقدَّراً، و «تَبَرَّأَ» في محلِّ خفْضٍ بإضافةِ الظَّرْف إلَيْه، والتبرُّؤ: الخُلُوص والانفصالُ، ومنه: «بَرِئْتُ مِنَ الَّذِينَ» وتقدم تحقيقُ ذلك عند قوله: {إلى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] والجمور على تقديم: «اتُّبِعُوا» مبنياً للمفعول على «اتَّبَعُوا» مبنياً للفاعل.
وقرأ مجاهدٌ بالعَكْس، وهما واضحتَانِ، إلاَّ أن قراءة الجُمْهُور واردةٌ في القُرْآنِ أَكْثَرَ.
قوله تعالى: «وَرَأَوا العَذَابَ» في هذه الجملة وجْهان:
أظْهَرُهما: أنَّها عطْفٌ على ما قبْلَها؛ فتكُون داخلةٌ في خَبَر الظَّرْف، تقديرُهُ: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا» ، و «إِذْ رَأَوا» .
والثانيك أنَّ الواو للحالِ، والجملة بعدها حاليَّةٌ، و «قَدْ» معها مُضْمَرَةٌ، والعاملُ في هذه الحالِ، «تَبَرَّأَ» أي: «تَبَرَّءُوا» في حال رُؤْيتهم العَذَابَ.
قوله تعالى: «وتَقَطَّعَتْ» يجوزُ أنْ تكُون الواوُ للعَطْف، وأن تكون للحالِ، وإذا كانت للعطف، فهل عطفت «تَقَطَّعَتْ» على «تَبَرَّأَ» ويكون قوله: «وَرَأَوا» حالاً، وهو اختيارُ الزمخشري أو عطفت على «رَأَوْا» ؟ وإذا كانت للحال، فهل هي حالٌ ثانيةٌ ل «الَّذِينَ» أو حالٌ للضَّمير في «رَأَوا» وتكونُ حالاً متداخلةً، إذا جعْلنَا «ورَأوا» حالاً.
والباءُ في «بهم» فيها أربعةُ أوْجُه:
أحدها: أَنَّها للحالِ، أي: تقطَّعَتْ موصُولةً بهم الأسْبَاب؛ نحو: «خَرَجَ بِثِيَابِهِ» .
الثَّانِي: أن تكُونَ للتعديَة، اي: قَطَّعَتْهُم الأَسْبَابُ؛ كما تقول: تَفَرَّقَتْ بهم الطُّرُقُ، أي: فَرَّقَتْهُمْ.
الثالث: أن تكون للسببيّة، أي: تقطَّعت [بسبَب كُفْرهمُ الأَسْبَابُ الَّتي كانُوا يرْجُون بها النَّجَاةَ] .
الرابع: أن تكون بمعنى «عَنْ» [أي: تقطَّعت عنْهُم، كقوله {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] ، أي: عنهُ] وكقول علْقَمَةَ في ذلك: [الطويل](3/144)
882 - فَإِنَّ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسِاءِ طَبيبُ
أي: عن النِّسَاء.
فصلٌ في المراد ب «الأسباب»
والأَسْبَابُ: الوَصْلاَتُ التي كانت بينهم، قاله مجاهدٌ، وقتادةُ، والرَّبيعُ.
وقال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عَنْهما - وابن جُرَيْجٍ: الأَرْحَام الَّتِي يتعاطَفُونَ بها؛ كقوله تعالى: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون: 101] .
وقال ابنُ زَيْدٍ، والسُّدِّيُّ: الأعمالُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها.
وقال ابنُ عَبَّاسٍ: العُهُودُ والحَلِفُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها.
وقال الضَّحَّاكُ، والرَّبيع بنُ أَنَسٍ: المنازلُ التي كانَتْ لهم في الدُّنيَا.
وقال السُّدِّيُّ: الأعْمَالُ الَّتي كانوا يلزمونها في الدنيا؛ كقوله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] .
وقيل: أسبابُ النجاةِ تقطَعَّت عنهم.
قال ابنُ الخَطِيبِ - رَضِيَ اللهُ عَنْه - والأظْهَرُ دخولُ الكُلِّ فيه ولأن ذلك كالنَّفي، فيعمّ الكلَّ؛ فكأنَّه قال: وزالَ كلُّ سببٍ يمكنُ أن يتعلَّق به، وأنهم لا ينتفعونُ بالأَسْباب على اختلافِهَا من منزلةٍ، وسببٍ ونسَبٍ، وعَهْدٍ، وعَقْدٍ وذلك نهاية اليأس.
وهذه الأسبابُ مجازٌ فإِنَّ السَّبب في الأصْل: الحَبْل؛ قالوا: ولا يُدْعى الحَبْلُ سبباً؛ حتى يُنْزَلَ فيه ويُصْعَدَ به، ومنْه قوله تبارك وتعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء} [(3/145)
الحج: 15] ثم أطلق على كلِّ ما يُتَوَصَّلُ به إلى شَيْءٍ، عَيْناً كان أو معنى، وقيل للطَّريق: سَبَبٌ؛ لأنَّك بسُلُوكِهِ تَصِلُ إلى المَوْضع الذي تريدُهُ؛ قال تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 85] أي: طريقاً، وأسبابُ السَّموات: أَبوابُها؛ قال تعالى مُخْبِراً عن فِرْعُونَ:
{لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات} [غافر: 36 - 37] وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ؛ قال زُهَيْرٌ: [الطويل]
883 - وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وقد يُطْلَق السَّبَب على العِلْمِ؛ قال سُبحَانهُ وتعالى: {مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] أي؛ عِلماً، وقد وجد هنا نَوعٌ منْ أنواع البَدِيع، وهو التَّرْصِيع، وهو عبارةٌ عن تسجيع الكلامِ، وهو هنا في موضعين.
أحدهما: {اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} ؛ ولذلك حذف عائد المَوْصُول الأوَّل، فلم يَقُلْ {منالذين اتبعوهم} ؛ لفواتِ ذلك.
والثَّاني: {وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} ، وكقوله {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة: 276] .
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين اتبعوا} ، يعني: الأَتْبَاع: {لَوْ أَنْ لنَا كَرَّةً} أي: رجعةً إلى الدُّنيا، والكرَّةُ: العودَة، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرّاً؛ قال القائل في ذلك: [الوافر]
884 - أَكُرُّ عَلَى الْكِتيبَةِ لاَ أُبَالِي ... أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سَوَاهَا
قوله تعالى: «فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ» منصوبٌ بعد الفاءِ ب «أنْ» مضمرة في جواب التمنِّي الَّذي أُشْرِبَتْهُ «لَوْ» ولذلك أجيب بجواب «لَيْتَ» الذي في قوله:
{ياليتني
كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} [النساء: 73] وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمنِّي، فهلْ هي الامتناعيَّةُ المفتقرة إلى جوابٍ، أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ.
الصحيحُ: أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديرُهُ تَبَرَّأْنَا ونحو ذلك، وأَمَّا مَنْ قال بأنَّ «لَو» الَّتي للتمنِّي لا جوابَ لها؛ فاستدَلَّ بقول الشَّاعر: [الوافر]
885 - وَلَوْ نُبِشَ المَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ ... فَيُخْبَرَ بالذَّنائِبِ أَيُّ زِيرِ(3/146)
وهذا لا يدلُّ فإنَّ جوابها في البيتِ بعده، وهو قوله [الوافر]
886 - بِيَوْمِ الشَّعْثَمَين، لَقَرَّ عَيْناً ... وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ
واستدلَّ أيضاً بأنَّ «أَنْ» تُفْتَحُ بعْد «لَوْ» ؛ كما تفتحُ بَعْد لَيْتَ في قوله [الرجز]
887 - يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ ... حَتَّى يَعُودُ الْبَحْرُ كَيَّنُونَهْ
وها هنا فائدة ينبغي أنْ يُنْتَبَهَ لها، وهيَ: أَنَّ النُّحاة قالُوا: كلُّ موضعٍ نُصبَ فيه المضارعُ بإضمار «أنْ بعد الفَاءِ [إذا سقَطَتِ الفاءُ، جزم إلاَّ في النَّفسِ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضاً؛ فيقال: و» إلاَّ «في جواب التَّمَنِّي ب» لَوْ «؛ فإنَّه ينصب المضارع فيه بإضمار» أَنْ «بعد الفاء الواقعة جواباً له، ومع ذلك، لو سَقَطَتْ هذه الفاءُ] لم يُجزم.
قال أَبُوا حَيَّانَ والسَّبب في ذلك: أَنَّها محمولةٌ على حَرْف التمنِّي، وهو» لَيْتَ «والجزمُ في جواب» لَيْتَ «إنما هو لتضمنها معنى الشَّرْط، أو لدلالَتها على كونه محذوفاً على اختلاف القولَيْن؛ فصارت» لَوْ «فَرَعَ الفَرْعِ، فضَعُفَ ذلك فيها.
وقيلَ:» لَوْ «في هذه الآية الكريمة ونظَائِرِها لِما كانَ سيقعُ لِوُقُوع غيره، وليس فيها معنى التمنِّي، والفعلُ منصوب ب» أَنْ «مضمرَة؛ على تأويل عَطف اسْمٍ على اسمٍ، وهو» كَرَّة «والتقديرُ:» لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً، فنتبرَّأَ «فهو مِنْ باب قوله: [الوافر]
888 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
ويكون جواب» لَوْ «محذوفاً أيضاً؛ كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى:» فَنَتَبَرَّأَ «منصوبٌ بإضمارِ» أَنْ «، تقديره: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ} فحلَّ» كرَّة «إلى قوله:» أَنْ نَرْجِعَ «؛ لأنَّه بمعناه، وهو قريبٌ، إلاَّ أنَّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدرٍ؛ ليعطفُوه على الاسم قَبْله، ويتركُون الاسم على حالِهِ؛ وذلك لأنه قد يكُون اسْماً صَرِيحاً غير مَصْدر؛ نحو» لَوْلاَ زَيْدٌ وَيَخْرُج، لأَكْرَمْتُكَ «فلا يتأتَّى تأويله بحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ.
قولُهُ تعالى:» كَمَا «الكافُ في موضعها نصبٌ: إِمَّا على كونها نعت مصدرٍ محذوف، أي:» تَبَرُّؤاً «وإِمَّا على الحاف مِنْ ضمير المصدر المعرَّف المحذوف أي»(3/147)
نتبرّأهُ، أي: التَّبَرُّؤَ، مُشَابِهاً لِتَبَرُّئِهِمْ «؛ كما تقرَّر غير مرَّة.
وقال ابن عطيَّة: الكاف في قوله: «كَمَا» في موضع نصب على النَّعت: إمّا لِمَصدرٍ: أو لحال، تقديره: مُتَبَرِّئِينَ، كما قال أبو حَيَّان. أمَّا قوله «لِحَالِ» تقديرُهُ: «مُتَبَرِّئِينَ كما» فغيرُ واضحٍ، لأنَّ «ما» مصدرية، فصارتِ الكافُ الداخلة عليها مِن صفات الأفَفعال و «مُتَبرِّئين» : من صفات الأَعْيَان، فكيف يُوصف بصفات الأَفعال.
قال: وأَيضاً لا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنَّها إذ ذاك تكون حالاً مؤكِّدة، وهي خلافٌ الأَصل، وأيضاً: فالمؤكَّد ينافِيهِ الحَذفُ؛ لأنَّ التوكيد يُقَوِّيه، فالحَذْفُ يناقضه.
فصل في معنى التبرؤ
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ - قولهم: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا} ذلك تمنٍّ منهم للرجعة إلى الدُّنْيا، كما تبرءوا يَوْمَ القيامة منهم ومفهوم الكلام: أَنَّهُمْ تمنُّوا لهم في الدُّنيا ما يُقَاربُ العذابَ، فيتبرّءُونَ منهم، ولا يخلصونهم، كما فعلوا بهم يومَ القيامة، وتقديرُه: فلو أنَّ لنا كَرَّةً فنتبرَّأَ منهم، وقد دَهَمَهُمْ مثلُ هذا الخَطْب، كما تبرءوا منَّا، والحالُ هذه؛ لأنَّهم إِنْ تَمَنَّوا التبرُّؤ منهم، مع سلامةٍ، فأيُّ فائدة؟ .
قال القُرطبي: التبرُّؤُ: الانفصال.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله} في هذه «الكافِ» قولان:
أحدهما: أنَّ موضعها نصبٌ: إِمَّا نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالً من المَصدر المعرَّفِ، أي: يُريهمْ رؤية كذلك، أو يَحْشُرُهُمْ حَشْراً كَذَلِكَ، أوْ يَجزظِيهم جَزَاءً كذلك، أو يُريهم الإراءة مشبهةً كذلك ونحو هذا.
الثاني: أن يكون في موضع فرع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك، أو حَشْرُهُمْ كذلك، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيَّان: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه يقتضي زيادة الكاف، وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأَصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقديرُ: مثل إراءتهم الأهوال، يريهمُ اللهُ أعمالَهُمْ حسَرَاتٍ.
وقيل: الإشارةُ إلى تبرُّؤ بعضهم من بعض والتقديرُ: كَتَبَرُّؤ بعضهم من بعض، يريهمُ اللهُ أعمالهُم حسَراتٍ عليهمح وذلك لانقطاع الرَّجَاء منْ كُلِّ أحدٍ.(3/148)
أحدهما: أن تكون بَصَريَّة، فتتعدّى لاثنين بنقل الهمزة أولهُما الضميرُ، والثاني «أَعْمَالَهُمْ» و «حَسَرَاتٍ» على هذا حالٌ مِنْ «أَعْمَالَهُمْ» .
والثاني: أَنْ تكونُ قلبيَّةً؛ فتتعدَّى لثلاثةٍ؛ ثالثُهما «حَسَرَاتٍ» و «عَلَيْهِمْ» يجوزُ فيه وجْهَان:
أن يتعلَّق ب «حَسَرَاتٍ» ؛ لأنَّ «يحْسَرُ» يُعدَّى ب «عَلَى» ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ. أي: على تَفْرِيطهِمْ.
والثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوف؛ لأنّضها صفةٌ ل «حَسَرَاتٍ» ، فهي في محلّ نصْبٍ؛ لكونها صفةً لمنصوبٍ.
فصل في المراد ب «الأعمال» في الآية
اختلفوا في المراد بالأَعمال.
فقال السُّدِّيُّ: الطاعاتُ، لِمَ ضَيَّعُوها؟ وقال الربيعُ وابنُ زَيْدٍ، المعاصي والأَعْمَال الخبيثَةُ يتحسَّرون لِمَ عَمِلُوها؟
وقال الأَصَمُّ: ثوابُ طاعاتهم الَّتي أتَوْا بها، فأحْبضطُوها بالكُفْرِ، قال السُّدِّيُّ: تُرفع لهم الجَنَّة، فينظرُون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أطاعُوا الله، فيقال لهم: تِلْكَ مساكنُكمْ، لو أطعتُمُ الله تعالى، ثمَّ تقسَّم بين المؤمِنين، فذلك حين يتحسَّرُونَ.
وقيل: أعمالُهُمْ الَّتي تقرَّبوا بها إلى رؤسائهم والانقياد لأَمرهم، قال ابن كَيْسَان: إِنَّهُمْ أشركُوا بالله الأوثان، رجاءَ أن تقرِّبهم إلى الله تعالى، فلما عُذِّبوا على ما كانوا يَرْجُون ثوابه، تحسَّروا ونَدِمُوا.
قال ابن الخطيب: والظاهرُ أنَّ الأعمال الَّتي اتَّبَعُوا فيها السَّادَة، وهو كُفْرُهُم. ومعاصِيهِمْ، وإنما تكون حَسْرةً بأن رأوها في صحيفَتهِمْ، وأيقنوا بالجزاءِ عليها، وكان يمكنُهُمْ تركُها، والعدولُ إلى الطَّاعات، وفي هذا الوجه الإضافة وفي الثاني: مجازٌ بمعنى لزومِهِم، فَلَمْ يَقُومُوا بها. و «الحَسْرَة» واحدةُ الحَسَرَاتِ؛ كَتَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ، وَجَفْنَةٍ وَجَفَنَاتٍ وشَهَوَاتٍ.
هذا إذا كان اسماً. [فإنْْ نَعتَّهُ سكَّنت؛ كقوله ضَخْمَة وضَخْمَات وعَبْلَة وعَبْلاَت نقله القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى قال الزَّجَّاج: هي شِدَّة الندامة، وهو تألُّم القَلب بانحسارِهِ عمّا تؤلمه واشتقاقها إِمَّا من قولهم: بعير حَسيرٌ أي منقطعُ القوَّة والحُسُور الإِعياء، وقال تبارك وتعالى: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] أو من الحسر وهو(3/149)
الكشف يقال: حسر عن ذراعيه، والحسرة: انشكافٌ عن حالة النَّدَامة؛ [والمحسرة] المنكسة؛ لأنها تكشف عن الأرض؛ والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش.
قوله تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} .
احتجَّ به على أن أصحاب الكبائِرِ منْ منْ أهْل القبلة يخرجُون من النَّار، فقالوا:
لأنَّ قوله: «وَمَا هُمْ» تخصيصٌ لهم بعَدَم الخروج على سبيل الحَصر؛ فوجب أن يكُون عدَمُ الخروج مخصًوصاً بهم، وهذه الآية الكريمة تكشف عن المراد بقوله: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} [الأنفطار: 14 - 16] فبيَّن أنَّ المراد بالفُجَّار ها هنا الكفَّار؛ لدلالة هذه الآية الكريمة عليه والله أعلم.(3/150)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
لَمَا بيَّن التوحيد ودلائلهُ وما للموحِّدين مِنَ الثواب وأتبعه بذكر الشِّرك، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وأنَّ معصية مَنْ عَصَاه، وكُفْر من كَفَر به، لم تُؤَثِّر في قطع نعمه وإحسَانه إِلَيهمْ.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: هذه الآية نزلت في قومٍ من ثقيف، وبني عامر بن صَعْصعَة، وخُزَاعة، وبني مُدْلجٍ، حَرَّموا على أنفسُهم مِنَ الحَرثِ، والبحائِرِ، والسَّوائِب، والوَصَائِلَ والحَامِ.
قوله تعالى « {مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} حَلالاً فيه خَمْسَة أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون مفعولاً ب» كُلُوا «و» مِنْ «على هذا فيها وجهان:
أحدهما: أنْ تتعلَّق ب» كُلُوا «ويكون معناها ابتداء الغاية.
الثاني: أنْ تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من» حلالاً « [وكانت في الأصلِ صفةً له، فَلَمَّا قُدَّمَتْ عليه، انتصَبَتْ حالاً] ويكون معنى» مِن «التَّبْعِيضَ.
الثاني: أنْ يكون انتصابُ» حَلاَلاً «على أنَّه نعتُ لمفعولٍ محذوف، تقديرُهُ: شيئاً أو رِزْقاً حَلاَلاً، ذكَرَه مَكِّيٌّ واستعبده ابن عطيَّة ولم يبيِّن وجه بُعْده، والذي يظهرُ في بُعْده أَنَّ» حَلاَلاً «ليس صفةً خاصَّة بالمأْكُول بل يُوصَف به المأكُول وغيره وإذا لم تكُن الصفة خاصَّة، لا يجوز حذف الموصول.(3/150)
الثالث: أن ينتصب» حلالاً «على أنَّه حالٌ من» مَا «بمعنى:» الَّذي «، أي: كُلُوا من الَّذي في الأرض حال كونه حلالاً.
الرابع: أن ينتصب على أنه نعت لمصدر محذوف، [أي: أكلاً حلالاً، ويكون مفعول» كُلُوا «محذوفاً، و» ما في الأرض «صفةً لذلك المفعول المحذوف] ، ذكره أبو البقاء وفيه من الرَّدِّ ما تقدِّم على مَكِّيٍِّ، ويجوز على هذا الوجه الرابع ألا يكون المفعول محذوفاً، بل تكون» مِنْ «مزيدةً على مذهب الأخفش، تقديره،» كُلثوا مَا في الأَرْضِ أكْلاً حَلاَلاً «.
الخامس: أن يكون حالاً من الضَّمير العائد على» ما «قاله ابن عطيَّة، يعني ب» الضَّمير «الضَّمير المستكنَّ في الجارِّ والمجرور، الواقع صلة.
و» طَيِّباً «فيه ثلاثة أوجه.
أحدها: أن تكون صفة ل» حَلاَل «أمَّا على القول بأنَّ» مِنْ «للابتداء، متعلِّقةٌ ب» كُلُوا «فهو واضحٌ؛ وأمَّا على القول بأن» مِمَّا في الأَرْضِ «حال من» حَلاَلاً «، فقال أبُوا البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: ولكن موضعها بعد الجارِّ والمجرور، لئلاَّ يفصل الصِّفة بين الحال وذي الحال. وهذا القول ضعيفٌ، فإنَّ الفصل بالصفة بين الحال وصاحبها ليس بممنوعٍ؛ تقول» جَاءَنِي زَيْدٌ الطَّويلُ [راكِباً «، بل لو قدَّمت الحال على الصِّفة، فقلت:» جاءَنِي زَيْدٌ راكباً الطَّوِيلٌ «]- كان في جوازه نظر.
الثاني: أن يكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من المصدر المعرفة المحذوف: أي أكلاً طَيِّباً.
الثالث: أن يكون حالاً من الضَّمير في «كُلُوا» تقديره: مستطيبين - قال ابن عطيَّة.
قال أبُو حَيَّان: وهذا فاسدٌ في اللَّفظ أمَّا اللَّفظ؛ فلأنَّ «الطَّيِّبَ» اسم فاعل فكان ينبغي أن تُجمع؛ لتطابق صاحبها؛ فيقال: طيِّبين، وليس «طَيِّب» مصدراً؛ فيقال: إنَّما لم يجمع لذلك، وأمَّا المعنى؛ فلأنَّ «طَيِّباً» مغايرٌ لمعنى مستطيبين، لأنَّ «الطَّيِّب» من صفات المأكول، و «المستطيب» من صفات الآكلين، تقول: «طَابَ لِزَيْدٍ الطَّعَامُ» ولا تقول: «طَابَ زَيْدُ الطَّعَامَ» بمعنى استطابه.
و «الحَلاَلُ» : المأذون فيه ضدُّ الحرام الممنوع منه، حلَّ يحلُّ، بكسر العين في المضارع، وهو القياس، لأنه مضاعفٌ غير متعدٍّ، يقال: حَلاَلٌ، وحِلٌّ؛ كَحَرَامٍ وحِرْمٍ وهو في الأصل مصدرٌن ويقال: «حِلٌّ بِلٌّ» على سبيل الإتباع؛ ك «حَسَنٌ بَسَنٌ» ، وحَلٌ(3/151)
بمكان كذا يَحُلُّ - بضم العين وكسرها - وقُرئ: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} [طه: 81] بالوجهين، وأصله من «الحضلِّ» الذي هو: نقيض العقد، ومنه: حلَّ بالمكان، اذا نزل به؛ لأنَّه حلَّ شدَّ الرحال للنُزول، وحَلَّ الدَّين إذا نزل به، لانحلال العقد بانقضاء المُدَّة، وحَلَّ من إحرامه، لأنه حَلَّ عقد الإحرام، وحلَّت عليه العقوبة، أي: وجبت لانحلال العقدة [المانعة من العذاب] ومن هذا: «تَحِلَّةُ اليمين» : لأن عقد اليمين تنحلُّ به.
والطَّيِّبُ [في اللغة: يكون بمعنى الطَّاهر، والحلال يوصف بأنَّه طيِّبٌح قال تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} [المائدة: 100] والطَّيِّب في] الأصل: هو ما يستلدُّ به ويستطاب، ووصف به الطَّاهر، والحلال؛ على وجهة التشبيه؛ لأنَّ النَّجس تكرهه النَّفس؛ فلا تستلذُّه، والحرام غير مستلذٍّ، لأنَّ الشرع يزجر عنه.
وفي المراد بالطَّيِّب في الآية وجهان:
الأول: أنه المستلذُّ؛ لأنا لو حملناه على الحلال، لزم التكرار؛ فعلى هذا يكون إنما يكون طيِّباً، إذا كان من جنس ما يشتهى؛ لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه، عاد حراماً، وإن كان يبعد وقوع ذلك من العاقل إلاّ عند شبهة.
والثاني: أن يكون المراد ما يكون جنسه حلالاً، وقوله: «طَيِّباً» المراد منه: ألاَّ يكون متعلِّقاً به حقُّ الغير؛ فإنَّ أكل الحرام، وإن استطابه الآكل، فمن حيث يؤدِّي إلى العقاب: يصير مضرَّةً، ولا يكون مستطاباً؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] .
قوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} : قرأ ابنُ عامِرٍ، والكسَائيُّ، وقُنْبُلٌ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، ويَعْقُوبُ: «خُطُوَاتِ» بضم الخاء، اولطاء، وباقي السَّبْعة بسكون الطاء.
أمّا من ضمَّ العين؛ فلأنَّ الواحدة «خُطْوَة» فإذا جمعت، حرِّكت العين؛ للجمع، كما فعلت في الأسماء التي على هذا الوزن؛ نحو: غُرْفَةٍ وغَرَفاتٍ، وتحريك العين على هذا الجمع؛ للفصل بين الاسم والصِّفة؛ لأن كلَّ ما كان اسماً، جمعته بتحريك العين؛ نحو: «تَمْرَة وتَمَرَات، وغَرْفَةٍ وغَرَفاتٍ، وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ» وما كان نعتاً، جمع بسكون العين؛ نحو: «ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ، وعَبْلَةٍ وعَبْلاَتٍ» ، والخُطْوَة: من الأسماء، لا من الصفات، فتجمع بتحريك العين.
وقرأ أبو السَّمَّال «خُطَوَات» بفتحها، ونقل ابن عطيَّة، وغيره عنه: أنه قرأ: «(3/152)
خَطَوَات» ، بفتح الخاء، والطاء، وقرأ عليٌّ وقتادة، والأعمش بضمِّها، والهمز
فأما قراءة الجمهور، والاولى من قراءتي أبي السَّمَّال، فلأن «فُعْلَة» الساكنة العين، السَّالِمَتَهَا، إذا كان اسماً، جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة أوجهٍ، وهي لغاتٌ مسموعةً عن العرب: السُّكون، وهو الأصل، والإتباع، والفتح في العين، تخفيفاً.
وأما قراءة أبي السَّمَّال التي نقلها ابنُ عطيَّة، فهي جمع «خَطْوَة» بفتح الخاء، والفرق بين الخطوة بالضَّمَّ، والفتح: أنَّ المفتوح: مصدر دالًّ على المرَّة، من: خَطَا يَخْطُوا، إذا مشى، والمضموم: اسمٌ لما بين القدمين؛ كأنَّه اسم للمسافة؛ كالغرفة اسم للشيء المغترف.
وقيل: إنَّهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكره أبُو البَقَاءِ.
وأمَّا قراءةُ عليٍّ، ففيها تأويلان:
أحدهما - وبه قال الأَخْفَشُ -: أنَّ الهمزة أصلٌ، وأنَّه من «الخَطَأ» ، و «خُطُؤَات» جمع «خِطْأَة» إن سمع، وإلاَّ فتقديراً، وتفسير مجاهد إياه ب «الخَطَايَا» يؤيِّد هذا، ولكن يحتملُ أن يكون مجاهد فسَّره بالمرادف.
والثاني: أنه قلب الهمزة عن الواو؛ لأنَّها جاورة الضمّة قبلها؛ فكأنها عليها؛ لأنَّ حركة الحرف بين يديه على الصَّحيح، لا عليه.
فصل
قال ابن السَّكِّيتِ - فيما رواه عن اللِّحْيَانِيِّ - الخَطْوَة بمعنى واحدٍ، وحكى على الفرَّاء الخُطْوَة ما بين القدمين؛ كما يقال: حَثَوْتُ حُثْوَةً، والحُثْوَة: اسمٌ لما تَحَثَّيْتَ، وكذلك غَرَفْتُ غُرْفَةًن والغُرْفَة: هو الشيء المُغْتَرَفُ بالكَفِّ، فيكون المعنى: لا تتَّبعوا سبيله، ولا تسلكوا طريقه؛ لأنَّ الخُطْوَة اسم مكان.
قال الزَّجَّاج وابن قُتَيْبَة: خُطُوَاتُ الشَّيْطان طُرُقُهُ، وإن جعلت الخطوة مصدراً، فالتقدير: لا تَأَتَمُّوا به، ولا تَتَّبِعُوا أَثَرَهُ، والمعنى: أن الله تعالى، زجر المكلَّف عن تخطِّي الحلال إلى الشُّبه؛ كما زجره عن تخطِّيه إلى الحرام، وبيَّن العلَّة في هذا التحذير، وهو كونه عدوّاً مبيناً، أي: متظاهراً بالعداوة؛ وذلك لأنَّ الشيطان التزم أموراً سبعةً في العداوة:
أربعة منها في قوله تعالى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء: 119] .(3/153)
وثلاثة منها في قوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}
[الأعراف: 16 - 17] فلمَّا التزم هذه الأمور، كان عدواً متظاهراً بالعداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السُّجود لآدم، وغروره إيّاه؛ حتَّى أخرجه من الجنَّة.
قوله: «إِنَّهُ لَكُمْ» قال أبُو البَقَاءِ: إنَّما كسر الهمزة؛ لأنَّه أراد الإعلام بحاله، وهو أبلغ من الفتح؛ لأنه إذا فتح الهمزة، صار التقدير: لا تتَّبعوه؛ لأنَّه عدوٌّ لكم، واتباعه ممنوعٌ، وإن لم يكن عدوّاً لنا، مثله: [منهوك الرجز]
889 - أ - لَبَّيكَ، إنَّ الحَمْدُ لَكْ ... كسر الهمزة أجود؛ لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كلِّ حال، وكذلك التلبية. انتهى
يعني أن الكسر استئنافٌ محض فهو إخبار بذلك، وهذا الذي قاله في وجه الكسر لا يتعيَّن؛ لأنَّه يجوز أن يراد التعليل مع كسرة الهمزة؛ فإنَّهم نصُّوا على أنَّ «إنَّ» المكسورة تفيد العلَّة أيضاً، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها؛ كما تقدم أنفاً، فينبغي أن يقال: قراءة الكسر أولى؛ لأنَّها محتملة للإخبار المحض بحاله، وللعلَّيِّة؛ وممَّا يدلُّ على أنَّ المكسورة تفيد العلَّيَّة قوله - عليه السلام - في الرَّوثة «إنَّها رجسٌ» وقوله في الهرَّة:
«إنَّها لَيْسَتْ بِنَجِسٍ؛ إنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ»
وقوله: «لاَ تُنْكَحُ المَرأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا؛ إِنَّكُمْ إضّا فَعَلْتُمْ ذلك، قَطَّعْتُمْ أرْحَامَكُمْ»
وأما المفتوحة: فهي نصٌّ في العلِّيَّة، لأنَّ الكلام على تقدير لام العلَّة.(3/154)
قوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فهذه كالتَّفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثةٍ:
أولها: السُّوء، وهو: متناول جميع المعاصي، سواءٌ كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح، أو من أفعال القلوب.
وسُمِّي السُّوء سوءاً؛ لأنَّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه، وهو مصدر: «سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءاً ومَسَاءَةً» إذا أحزنه، و «سُؤْتُهُ، فَسِيءَ» إذا أحزنته، فحزن؛ قال تعالى: {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك: 27] ؛ قال الشَّاعر: [السريع]
889 - ب - وإنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي ... فَطَالَمَا قَدْ سَرِّنِي الدَّهْرُ
أَلأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ ... لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَا صَبْرُ
وثانيها: الفحشاء: وهو مصدر من الفحش؛ كالبأساء من البأس، والفحش: قبح المنظر.
قال امْرُؤ القَيْسِ: [الطويل]
890 - وَجِيدٍ كَجِيدٍ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ ... إذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ وَلاَ بِمُعَطَّلِ
وتوسِّع فيه، حتَّى صار يعبر به عن كلِّ مستقبحٍ معنى كان أو عيناً.
والفَحْشَاءُ: نوعٌ من السُّوء، كأنَّها أقبح أنواعه، وهي: ما يستعظم، ويستفحش من المعاصي.
وثالثها: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فكأنَّه أقبح الأشياء؛ لأنَّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} .
فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الشيطان يدعو إلى الصَّغائر والكبائر، والكفر، والجهل بالله.
وروي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - أنَّه قال: «الفَحْشَاءُ» من المعاصي: ما فيه حَدٌّ، والسُّوء من الذُّنوب ما لا حَدَّ فيه.
وقال السُّدِّيُّ: هي الزِّنا.(3/155)
وقيل: هي البخل، {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من تحريم الحرث والأنعام.
وقال مُقَاتِلٌ: كلُّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء، فإنَّه الزِّنا، إلاَّ قوله: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} [البقرة: 368] فإنه منع الزكاة.
وقوله: «وَأَنْ تَقُولُوا» عطفٌ على قوله: «بالسُّوء» ، تقديره: «وبِأَنْ تَقُولُوا» فيحتمل موضعها الجرَّ والنصب؛ بحسب قول الخليل، وسيبويه.
قال الطَّبَرِيُّ: يريد ما حرَّموا من البحيرة والسَّائبة ونحوهما، مما جعلوه شرعاً.
فصل في بيان أن الشطان لا يأمر إلا بالقبائح.
دلَّت الآية على أنَّ الشطان لا يأمر إلا بالقبائح؛ لأنَّ الله تعالى ذكره بكلمة «إنَّمَا» وهي للحصر.
وقد قال بعضهم: إن الشيطان قد يدعو إلى الخير؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشَّرِّ؛ وذلك على أنواع: إمَّا أن يجرَّه من الأفضل إلى الفاضل، ليتمكَّن من أن يجره من الفاضل الشَّرِّ، وإمَّا أن يجرَّه من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشقِّح ليصير ازدياد المشقَّة سبباً لحصول النُّفرة عن الطَّاعات بالكلِّيَّة.
وتناولت الآية الكريمة جمع المذاهب الفاسدة، بل تناولت مقلِّد الحقِّ؛ لأنَّ! هـ قال مالا يعلمه؛ فصار مستحقّاً للذَّمِّ؛ لاندراجاه تحتهذا الذَّمِّ.
وتمسَّك بهذه الآية نُفَاةُ القياس، [وجوابهم: أنه متى قامت الدَّلالة على أنَّ العمل بالقياس واجبٌ، كان العمل بالقياس] قولاً على الله بما يعلم لا بما لا يعلم.(3/156)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
الضمير في «لَهُمْ» فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه يعود على «مَنْ في قوله {مَن يَتَّخِذُ} [البقرة: 165] .
الثاني: قال بعض المفسِّرين: نزلت في مشركي العرب، فعلى هذا: الآية متَّصلة بما قبلها، ويعود الضمير عليهم؛ لأنَّ هذا حالهم.
الثالث: أنه يعود على اليهود؛ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافهم.
روي عن ابن عبَّاس قال: دعا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اليهود إلى الإسلام، فقال رافع بن خارجة، ومالك بن عوفٍ:» بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ فهم كانوا خيراً منَّا، وأَعْلَمُ منَّا «فأنزل الله هذه الآية الكريمة.(3/156)
وقال بعضهم: هذه قصَّةٌ مستأنفةٌ، والهاء والميم في» لَهُمْ «كناية عن غير مذكور.
الرابع: أنه يعود على» النَّاس «في قوله» يَأَيُّهَا النَّاسُ «قاله الطبريُّ، وهو ظاهرٌ إلاَّ أن ذلك من باب الالفتات من الخطاب إلى الغيبة، وحكمته: أنَّهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجَّب من فعله، حيث دعي إلى شريعة الله تعالى والنُّور والهدى، فأجاب باتِّباع شريعة أبيه.
قوله:» بَلْ نَتَّبعُ «» بَلْ «ههنا: عاطفةٌ هذه الجملة على جملة محذوفةٍ قبلها، تقديره:
» لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللهُ، بل نَتَّبعُ كذا «ولا يجوز أن تكون معطوفةً على قوله:» اتَّبعوا «لفساده، وقال أبُو البَقَاءِ:» بل «هنا للإضراب [عن الأوَّل، أي:» لاَ نَتَّبعَ مَا أَنْزَلَ اللهُ «، وليس بخروج من قصَّة إلى قصَّة، يعني بذلك: أنه إضراب إبطال] ، لا إضراب النتقالٍ؛ وعلى هذا، فيقال: كلُّ إضرابٍ في القرآن الكريم، فالمراد به الانتقال من قصًّةٍ إلى قصَّةٍ إلاَّ في هذه الآية، وإلاَّ في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق} [السجدة: 3] ، كان إضراب انتقالٍ، وإذا اعتبرت» افْتَرَاهُ «وحده، كان إضراب إبطالٍ.
والكسائيُّ يدغم لام» هُلْ «و» بَلْ «في ثمانية أحرفٍ:
التاء؛ كقوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ} [الأعلى: 16] والنُّون:» بَلْ نَتَّبعُ «والثَّاء» {هَلْ ثُوِّبَ} [المطففين: 36] والسِّين: {بَلْ سَوَّلَتْ} [يوسف: 18] ، والزَّاي: {بَلْ زُيِّنَ} [الرعد: 33] ، والضَّاد: {بَلْ ضَلُّواْ} [الأحقاف: 28] والظَّاء: {بَلْ ظَنَنتُمْ} [الفتح: 12] والطَّاء: {بَلْ طَبَعَ الله} [النساء: 155] ، وأكثر القرَّاء على الإظهار، ووافقه حمزة في التاء والسين، والإظهار هوالأصل.
قوله: «أَلْفَيْنَا» في «أَلْفَى» هنا قولان:
أحدهما: أنَّها متعدِّية إلى مفعولٍ واحدٍ، لأنها بمعنى «وَجَدَ» التي بمعنى «أَصَابَ» ؛ بدليل قوله في آية أخرى: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا} [لقمان: 21] وقوله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب} [يوسف: 35] وقولهم: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ} [الصافات: 69] ، فعلى هذا: يكون «عَلَيْهِ» متعلِّقاً بقوله: «أَلْفَيْنَا» .
أولهما: «آبَاءَنَا» ، والثاني: «عَلَيهِ» ، فقُدِّم على الأول.
وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللهُ -: [ «هي محتملةٌ للأمرين - أعني كونها متعدِّية لواحد(3/157)
أو لاثنين» -؛ قال أبو البقاء:] و «لامُ» أَلْفَيْنَا «واوٌ؛ لأن الأصل فيما جُهل من اللاَّمات أن تكون واواً، يعني: فإنه أوسع وأكثر؛ فالرَّدُّ إليه أولى.
ومعنى الآية: أنَّ الله - تبارك وتعالى - أمرهم بأن يتَّبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من الحرث، والأنعام، اولبحيرة، والسَّائبة. أو ما أنزل الله من الدَّلائل الباهرة، قالوا: لا نتَّبع ذلك، وإنما نتبع آباءنا، وأسلافنا، فعارضوه بالتَّقليد، فأجابهم الله تعالى بقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} ، فالهمزة في» أَوَلَوْ «للإنكار، وأما الواو، [ففيها قولان:
أحدهما - قاله الزمخشريُّ -: أنَّها واو الحال.
والثاني - قال به أبو البقاء، وابن عطيَّة -: أنَّاه للعطف، وقد تقدَّم الخلاف في هذه الهمزة الواقعة قبل» الواو «و» الفاء «و» ثُمَّ «، هل] بعدها جملة مقدَّرةٌ، وهو رأي الزمخشري؛ ولذلك قدَّر ههنا:» أَيَتَّبِعُونَهُمْ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً مِنَ الدِّينِ، وَلاَ يَهْتَدُونَ لِلصَّوَابِ؟ «أو النية بها التأخير عن حرف العطف؟
وقد جمع أبو حيَّان بين قول الزمخشريِّ، وقول ابْنِ عَطيَّة، فقال: والجمع بينهما: أنَّ هذه الجملة المصحوبة ب» لَوْ «في مثل هذا السِّياق جملةٌ شرطيةٌ، فإذا قال:» اضْرِبْ زَيْداً، وَلَوْ أَحْسَنَ إِلَيْكض «، فالمعنى:» وَإِنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ «وكذلك:» أَعْطُوا السَّائِلَ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَس «» رُدُّوا السَّائِلَ، وَلَوْ بِشِقَّ تَمْرَةٍ «، المعنى فيهما» وإِنْ «وتجيء» لَوْ «هنا؛ [تنبيهاً] على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها، لكنَّها جازت لاستقصاء الأَحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدلَّ على أن المراد بذلك وجود الفعلفي كلِّ حالٍ؛ حتَّى في هذه الحال الَّتي لا تناسب الفعل؛ ولذلك لا يجوز:» اضْرِبْ زَيْداً، وَلَوْ أَسَاءَ إِلَيْكَ «، ولا» أَعْطُوا السَّائِلَ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجاً «فإذا تقرَّر هذا، فالواو في» وَلَوْ «في الأمثلة التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدَّرة، والمعطوف على الحال حالٌ؛ فصحَّ أن يقال: إنَّها(3/158)
للحال من حيث عطفها جملةً حاليَّةً على حالٍ مقدَّرةٍ، وَصَحَّ أن يقال: إنَّها للعطف من حيث ذلك العطف، فالمعنى - والله أعلم -: أنها إنكارُ اتِّبَاعِ آبائهم في كلِّ حالٍ؛ حتى في الحالة الَّتي لا تناسب أن يتبعوهم فيها، وهي تلبُّسهم بعدم العقل والهداية؛ ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على» لَوْ «إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها، وإن كانت الجملة الحاليَّةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحال؛ لأنَّ مجيئها عاريةً من هذه الواو مؤذنٌ بتقييد الجملة السَّابقة بهذه الحال، فهو ينافي استغراق الأحوال؛ حتى هذه الحال، فهما معنيان مختلفان؛ ولذلك ظهر الفرق بين:» أَكْرِمْ زَيْداً، لَوْ جَفَاكَ «، وبين:» أَكْرِمْ زَيْداً، وَلَوْ جَفَاكَ «.
انتهى. وهو كلامٌ حسنٌ.
وجواب «لو» محذوفٌ، تقديره: «لاَتَبَعُوهُمْ» وقدره أبو البَقَاءِ: «أفكَانُوا يَتَّبِعُونَهُمْ؟» وهي تفسير معنًى لأن «لَوْ» لا تجاب بهمزة الاستفهام، قال بعضهم: ويقال لهذه الواو أيضاً واو التَّعَجُّب دخلت عليها ألأف الاستفهام للتوبيخ.
فصل في بيان «معنى التقليد»
قال القرطبيُّ: التقليد عند العلماء: «حقيقةُ قَبُولِ قَوْلٍ بلا حُجَّةٍ» ؛ وعلى هذا فمن قبل قول النبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير نظرٍ في معجزته، يكون مقلِّداً، وأمَّا من نظر فيها، فلا يكون مقلِّداً.
وقيل: «هو اعتقادُ صٍحَّة فُتْيَا مَنْ لا يَعْلَم صحَّة قوله» ، وهو في اللُّغة مأخوذٌ من قلادة البعير، تقول العرب: قلَّدت البعير؛ إذا جعلت في عنقه حبلاً يقاد به؛ فكأنَّ المقلِّد يجعل أمره كلَّه لمن يقوده حيث شاء؛ ولذلك قال شاعرهم: [البسط]
891 - وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ ... ثَبْتَ الجَنَانِ بَأَمْرِ الحَرْبِ مُضْطَلِعا
فصل في المراد بالآية
والمعنى: «أَيَتَّبِعُونَ آباءَهُمْ، وإن كانوا جُهَّالاً لا يَعْقِلُون شيئاً» ، لفظه عامٌّ، ومعناه الخصوص؛ لأنهم كانوا لا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا؛ فدلَّ هذا على أنهم لا يعقلون شيئاً من الدِّين، ولا يهتدون إلى كيفيَّة اكتسابه.
وقوله «شيئاً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به؛ فيعمُّ جميع المعقولات؛ لأنَّها نكرةٌ في سياق النفي، ولا يجوز أن يكون المراد نفي الوحدة، فيكون المعنى: لا يعقلون شيئاً «بَلْ أَشْيَاءً من العَقْلِ» وقدَّم نفي العقل على نفي الهداية؛ لأنَّه يصدرعنه جميع التصرُّفات.(3/159)
الثاني: أن ينتصب على المصدريَّة، أي: «لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً» .
فصل في تقرير هذا الجواب
في تقرير هذا الجواب وجوه:
الأوَّل: أنه يقال للمقلِّد: هل تعترف بأنَّ شرط جواز تقليد الإنسان: أن يعلم كونه مُحِقَّا، أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده، إلاَّ بعد أن تعلم كونه محقّاً، فكيف عرفت أنه محقٌّ؛ فإن عرفته بتقليدٍ آخر، لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل، فذاك كافٍ، ولا حاجة إلى التَّقليد، وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده: أن يعلم كونه محقّاً، فإذن: قد جوَّزت تقليده، وإن كان مبطلاً، فإذن: انت على تقليدك لا تعلم أنَّك محقٌّ، أم مبطل.
وثانيها: هب أن ذلك المتقدِّم كان عالماً بهذا إلاَّ أنَّا لو قدَّرنا أن ذلك المتقدِّم ما كان عالماً بذلك الشَّيء قطُّ، ولا اختار فيه ألبتة مذهباً، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أنك لا تعلم ذلك المتقدِّم، [ولا مذهبه، كان لا بُدَ من العُدُول إلى النَّظَر فكذا ههنا.
وثالثها: أنك إذا قلَّدت من قبلك، فذلك المتقدِّم] : إن كان عرفه بالتقليد، لزم إما الدَّور،(3/160)
وإمَّا التسلسل، وإن عرفه بالدليل، وجب أن تطلب اعلم بالدليل، لا بالتَّقليد، لأنَّك لو(3/161)
طلبته بالتقليد، لا بالدَّليل، مع أنَّ ذلك المتقدِّم طلبه بالدليل لا بالتقليد، كنت مخالفاً له، فثبت أن القول بالقليد يفضي ثبوته إلى نيه، فيكون باطلاً، وإنَّما ذكرت هذه الآية الكريمة عقيب الرجز عن اتباع خطوات الشَّيطان؛ تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان، وبين متابعة التَّقليد، وفيه أقوى دليلٍ على جوب النَّظَر، والاستدلال، وترك التَّعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليلٍ، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.
فصل في بيان ما يستثنى من التَّقليد
قال القرطبيُّ: ذمَّ الله تعالى الكفَّار؛ باتباعهم لآبائهم في [الباطل] واقتدائهم بهم في الكفر، والمعصية، وهذا الذَّمُّ في الباطل صحيحٌ، وأما التقليد في الحقِّ، فأصل من «أصول الدِّين» ، وعصمة من عصم المسلمين، يلجأ إليها الجاهل المقصِّر عن درك النَّظر، واختلف العلماء - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - في جوازه في مسائل الأصول، وأمَّا جوازه في مسائل الفروع، فصحيحٌ.
فصل في وجوب التَّقليد على العامِّي
قال القرطبيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: فرض العامِّيِّ الذي لا يستقلُّ باستنباط الأحكام من أصولها، لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه، ويحتاج إليه - أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده؛ فيسأله عن نازلته، فيتمثَّل فيها فتواه؛ لقوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه؛ حتى يتفق أكثر الناس عليه، وعلى العالم أيضاً أن يقلِّد عالماً مثله في نازلةٍ خفي عليه وجه الدليل فيها.(3/162)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
لما حكى عن الكفَّار أنَّهم عند الدُّعاء إلى اتِّباع ما أنزل الله تعالى، تركوا النَّظر،(3/162)
وأخلدوا إلى التَّقليد، وقالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} [البقرة: 170]- ضَرَبَ لهم هذا المثل؛ تنبيهاً للسَّامعين لهم: أنهم إنما وقعوا فيه؛ بسبب ترك الإصغان وقلة الاهتمام بالدِّين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام، وضر بمثل هذا المثل يزيد السَّامع اجتهاداً في معرفة أحوال نفسه، ويحقِّر إلى الكافر نفسه، إذا سمع ذلك، فيكون كسراً لقلبه، وتضييقاً لصدره؛ حيث صيَّره كالبهيمة، فكان ذلك ي نهاية الرَّدع والزَّجر لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقة التقليد.
وقد اختلف النَّاس في هذه الآية اختلافاً كثيراً، ولا سبيل إلى معرفة الإعراب إلاَّ بعد معرفتة المعنى المذكور في الآية الكريمة، وقد اختلفوا في ذلك:
فمنهم من قال: معناها: أنَّ المثل مضروبٌ بتشبيه الكافر بالنَّاعق، ومنهم من قال: هو مضروبٌ بتَشْبيه الكافر بالمَنْعوق به، ومنهم مَنْ قال: هو مضْروبٌ بتشبيه داعي الكفر بالنَّاعق، ومنهم مَنْ قال: هو مضروب بتشبيه الدَّاعي والكافر بالنَّاعق، والمنعوق به، فهذه أربعة أقوالٍ.
فعلى القول الأول: يكون التقدير: «وَمَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا في قِلَّة فَهْمِهِمْ، كَمَثَلِ الرُّعَاة يُكَلِّمُون البُهْمَ والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً» .
وقيل: يكون التقدير: «وَمَثَلُ الَّذين كَفَروا في دُعائهم آلِهَتَهُمْ التي لا تَفْقَهُ دُعَاءَهُم، كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ؛ لا ينتفع من نَعِيقِهِ بشَيءٍ غير أنَّه في عناءٍ» ؛ وكذلك الكافرُ ليس له من دعائه آلهته إلاَّ العناء؛ كما قال تعالى: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} [فاطر: 14] .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ لمَّا ذكر هذا القول: «إلاَّ أنَّ قوله:» إلاَّ دُعاءً وَنِدَاءً «، لا يساعد عليه؛ لأنَّ الأصنام لا تَسْمَعُ شيئاً» .
قال أبُو حَيَّان - رَحِمَهُ اللهُ -: «ولحظ الزمخشريُّ في هذا القول تمام التشبيه من كُلِّ جهة، فكما أنَّ المنعوق به لا يَسْمَعُ إلاَّ دعاءً ونداءً، فكذلك مدعُوُّ الكافِرِ مِنَ الصَّنم، والصَّنَم لا يَسْمَعُ، فضَعُف عنده هذا القوْلُ» قال: «ونحْنُ نقولُ: التشْبيهُ وقَعَ في مُطْلَق الدُّعاء في خُصوصيَّات المدعُوِّ، فتَشْبِيهُ الكَافِر في دعائِهِ الصَّنَمَ بِالنَّاعِقِ بالبهيمة، لا في خصوصيَّات المنعُوق به» ، وقال ابنُ زَيْدٍ في هذا القَوْلِ - أعني: قولَ مَنْ قال: التقديرُ: ومَثَلُ الذين كَفَرُوا في دُعَائِهِمْ آلهتَهُم -: إنَّ الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم، وإنَّما المراد به الصائح في جوف الجبل، فيجيبه الصَّدى، فالمعنى: بما لا يسمع منه الناعقُ إلاَّ دعاء نفسه، ونداءها، فعلى هذا القول: يكون فاعل «يَسْمَعُ» ضميراً عائداً على «الَّذِي يَنْعِقُ» ويكون العائد على «مَا» الرابط للصِّلة بالموصُول محذوفاً؛ لفَهْم المعنى، تقديره: «بِمَا لاَ يَسْمَعُ مِنْهُ» وليس فيه شرط(3/163)
جوازِ الحَذْف؛ فإنه جُرَّ بحرف غير ما جُرَّ به لموصول، وأيضاً: فقد اختلف متعلَّقاهما إلاَّ أنه قد ورد ذلك في كلامهم، وأمَّا على القولين الأوَّلين، فيكون فاعل «يَسْمَعُ» ضميراً يعود على «ما» الموصولة، وهو المنعوقُ به.
وقيل: المراد ب «الَّذِين كَفَرُوا» المتبُوعُون، لا التابعون، المعنى: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دعائِهِمْ اتباعَهُمْ، وكوْنِ أتباعِهِمْ لا يَحْصُل لهم منهم إلاَّ الخَيْبَة، كمثل النَّاعق بالغَنَم، فعلى هذه الأقوال كلِّها: يكون» مَثَل «مبتدأً و» كَمَثَلِ «خبره، وليس في الكلام حذفٌ إلاَّ جهة التَّشبيه.
وعلى القول الثاني من الأقوال الأربعة المتقدِّمة: فقيل: معناه:» وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دُعَائِهِمْ إلى الله تعالى، وعَدَمِ سماعِهِمْ إِيَّاه، كَمَثَلِ بَهَائم الَّذِي يَنْعِقُ «فهو على حذفِ قَيْدٍ في الأوَّل، وحَذْف مضافٍ في الثاني.
وقيل: التقدير:» ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في عَدَم فَهْمهم عَنِ اللهِ ورسُولِهِ، كَمَثَلِ المنْعُوق بِهِ منَ البَهَائم الَّتي لا تَفْقَهُ من الأَمْر والنَّهْي غَيْر الصَّوْت «فيرادُ بالذي يَنْعِقُ: الذي يُنْعَقُ بِهِ، ويكون هذا من القَلْبِ، وقال قائلٌ:» هذا كما تقولون: «دَخَلَ الخَاتَمُ في يَدِي، والخُفُّ في رِجْلِي» وتقولون: «فُلاَنٌ يَخَافُكَ؛ كَخَوْفِ الأَسَدِ» ، أي: كَخَوْفِهِ الأَسَدَ، وقال تعالى: {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة} [القصص: 76] وإنَّما العصبة تنوء بالمفاتح «. وإلى هذا ذهب الفرَّاء، وأبو عُبَيْدَة، وجماعةٌ إلاَّ أنَّ القلب لا يقع على الصَّحيح إلاَّ في ضرورة أو ندورٍ.
وأمَّا على القول الثَّالث، وهو قولُ الأخفش، والزَّجَّاج، وابْنِ قُتَيْبَة، فتقديره:» ومَثَلُ داعي الَّذين كَمَثَلِ النَّاعق بغَنَمه؛ في كَوْن الكافِرِ لا يَفْهَمُ ممَّا يُخَاطِبُ به داعيَهُ إلاَّ دَوِيَّ الصَّوْت، دون إلقاءِ فكرٍ وذهنٍ؛ كما أنَّ البيهمةَ كذلك، فالكلامُ على حذف مضافٍ من الأوَّل.
فصل في المراد ب «مَا لاَ يَسْمَعُ»
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: ويجوزُ أن يرادَ ب «مَا لاَ يَسْمَعُ» الأصمُّ الأصْلَج الذي لا يَسْمَعُ من كلام الرَّافِعِ صَوْتَهُ بِكَلاَمِهِ إلاَّ النِّداءَ والصَّوتَ، لا غير؛ من غير فهم للحرف، وهذا جنوح إلى جواز إطلاق «ما» على العقلاء، أو لما تنزَّل هذا امنزلة من لا يسمع من البهائم، أوقع عليه «مَا» .
وأما على القول الرابع - وهو اختيار سيبويه في هذه الآية -: فتقديره عنده: «مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ، ومَثَلُ الذين كَفَرُوا، كَمَثَل النَّاعق والمنْعُوقِ به» ، واختلف النَّاس في(3/164)
فهم كلام سيبويه، فقائل: هو تفسير معنى، وقيل: تفسير إعرابٍ، فيكون في الكلام حذفان: حذف من الأوَّل، وهو حذف «دَاعِيهم» ، وقد أثبت نظيره في الثاني، وحذفٌ من الثَّاني، وهو حذف المنعوق، وقد أثبت نظيره في الأول؛ فشبَّه داعِيَ الكُفَّار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبَّه الكفَّار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه، إلاَّ أصواتاً لا يعرفون ما وراءها، وفي هذا الوجه حذف كثير؛ إذ فيه حذف معطوفين؛ إذ التقدير الصناعيُّ: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ودَاعِيهِمْ كمثل الذي يَنْعِقُ بالمَنْعُوقِ به» .
وقد ذهب إليه جماعةٌ، منهم: أبو بكر بن طاهر، وابن خروفٍ، والشَّلوبين؛ قالوا: العرب تستحسن هذا، وهو من بديع كلامها؛ ومثله قوله: [ {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [النمل: 12]] تقديره: «وأَدْخِل يَدَكَ في جَيْبِكَ، تدْخُلْ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ» ؛ فحذف «تَدْخُل» ؛لدلالة «تَخْرُج» وحَذَف «وأَخْرجْهَا» ؛ لدلالة «وأَدْخِلْ» ، قالوا: ومثله قوله:
895 - وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
لم يرد أن يشبِّه فترته بانتفاض العصفور حين بلَّله القطر؛ لأنَّمها ضدَّان؛ إذ هما حركةٌ وسكونٌ، ولكنَّ تقديره: أنِّي إذا ذكرته، عراني انتفاضٌ، ثمَّ أفتر؛ كما أن العصفور إذا بلَّله القطر، عراه فترةٌ، ثم ينتفض، غير أنَّ وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة، وفترة العصفور قبل انتفاضه.
وهذه الأقوال كلُّهَا، إنَّما هي على القول بتشبيه مفرد بمفرد، ومقابلة جزء من الكلام السَّابق بجزء من الكلام المشبَّه به.
أمَّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه جملةٍ بجملةٍ، فلا ينظر في ذلك إلى مقابلة الألفاظ المفردة، بل ينظر إلى المعنى، وإلى هذا نحا أبو القاسم الراغب؛ قال الرَّاغب: «فلمَّا شبَّه قصَّة الكافرين في إعراضهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ، بقصَّة النَّاعق قدَّم ذكر النَّاعق؛ لينبني عليه ما يكون منه، ومن المنعوق به» .(3/165)
والكاف ليست بزائدةٍ، خلافاً لبعضهم؛ فإنَّ الصِّفة ليست عين الصِّفة الأخرى، فلا بُدَّ من الكاف؛ حتى أنه لو جاء الكلام دون الكاف، اعتقدنا وجودها تقديراً تصحيحاً للمعنى.
وقد تلخَّص ممَّا تقدَّم: أنَّ «مَثَلُ الَّذِينَ» مبتأٌ، و «كَمَثَلِ الَّذِي» خبره: إمَّا من غير اعتقاد حذف، أو على حذف مضافٍ من الأوَّل، أي: «مثلُ:» داعي الَّذين «، أو من الثَّاني، أي:» كَمَثَلِ بَهَائِم الَّذِي «، أو على حذفين: حذف من الأوَّل ما أثبت نظيره في الثَّاني، ومن الثَّاني ما أثبتَ نظيره في الأوَّل؛ كما تقدَّم تحريره.
والنعيق دعاء الرَّاعي، وتصويته بالغنم؛ قال الأخطل في ذلك: [الكامل]
896 - فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإِنَّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلاَءِ ضَلالاَ
قال القتيبيُّ: لم يكن جرير راعي ضأنٍ، وإنَّما أراد أنَّ بني كُلَيبٍ يُعَيَّرُونَ برعْيِ الضأن، وجرير منهم؛ فهو من جَهَلتهم، والعرب تضرب المثل في الجهل براعي الضَّأن، ويقولون: أجْهَلُ من رَاعِي ضَأْنٍ.
يقال: نَعَقَ، بفتح العَيْنِ، يَنْعِقُ، بكَسْرها، والمصدرُ النَّعيقُ والنُّعَاقُ، والنَّعْقُ، وأما «نَعَقَ الغُرَابُ» ، فبالمعجمة، وقيل: بالمهملة أيضاً في الغُرَاب، وهو غريبٌ.
قال بعضهم: إنَّ الياء والنُّون من قوله: «يَنْعِقُ» من نصف هذه السُّورة الأوَّل، والعَيْنَ والقَافَ من النصف الثَّاني.
«إلاَّ دعاء» : هذا استثناءٌ مفرَّغٌ؛ لأن قبله «يَسْمَعُ» ولم يأخذ مفعوله وزعم بعضهم أن «إلاَّ» زائدةٌ، فليس من الاستثناء في شيء، وهذا قولٌ مردودٌ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادة «إلاَّ» في قوله: [الطويل]
897 - حَرَجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلاَّ مُنَاخةً ... عَلَى الخَسْفِ أو نَرْمِي بِهَا بَلَداً قَفْراً
فقد ردَّ النَّاسُ عليه، ولم يقْبَلُوا قوله، وفي البيت كلامٌ تقدَّم.
وأورد بعضهم هنا سؤالاً معنويّاً، وهو أن قوله {لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} [البقرة: 171] ليس المسموع إلا الدعاء والنداء، فكيف ذمَّهم بأنَّهم لا يسمعون إلا الدعاء؛ وكأنَّه قيل: لا يسمعون إلاَّ المسموع، وهذا لا يجوز؟(3/166)
فالجواب: أن في الكلام إيجازاً، وإنَّما المعنى: لا تفهم معاني ما يقال لهم؛ كما لا تميِّز البهائم بين معاني الألفاظ التي يصوَّت بها، وإنَّما تفهم شيئاً يسيراً، قد أدركته بطول الممارسة، وكثرة المعاودة؛ فكأنه قيل لهم: إلاَّ سماع النِّداء دون إدراك المعاني، والأغراض.
قال شِهَابُ الدِّين: وهذا السُّؤال من أصله ليس بشيءٍ، ولولا أنَّ الشَّيخ ذكره، لم أذكره.
وهنا سؤالٌ ذكره عليُّ بن عيسى، وهو هل هذا من باب التَّكرار لمَّا اختلف اللَّفظ، فإنَّ الدعاء والنِّداء واحدٌ؟ والجواب: أنه ليس كذلك؛ فإن الدعاء طلب الفعل، والنداء إجابة الصَّوت.
وقال القرطبيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: النداء للبعيد، والدعاء للقريب، وكذلك قيل للأذان بالصلاة نداءٌ؛ لأنه للأباعد، وفي هذا نظر؛ لأنَّ النبيَّ - عليه السلام - قال: «الخِلافَةُ في قُرَيْشٍ، والحُكْمُ في الأَنْصَارِ، والدَّعْوَةُ في الحَبَشَةِ»
قال ابنُ الأثِير في «النَّهَايَة» : أراد بالدَّعوة الأذان، وجعله في الحبشة؛ تفضيلاً لمؤذِّنه بِلالٍ، وقال شاعر الجاهليَّة: [الوافر]
898 - فَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانُ عُمْرِي ... وَلَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الأَضَاحِي
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كالعِيرِ يَدْعُوا ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ
أراد أذان الصُّبح، وقد تضمُّ النون في النِّداء، والأصل الكسر.
قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 171] لمَّا شبَّههم بالبهائم، زاد في تبكيتهم، فقال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ؛ لأنَّهم صارُوا بمنزلة الأصَمِّ؛ في أنَّ الذي سَمِعُوه، كأنَّهم لم يسمعوه، وبمنزلة البُكْم؛ في ألاَّ يستجيبوا لما دعوا إليه، ومن حيث العمي؛ من حيث إعراضهم عن الدَّلائل؛ فصاروا كأنَّهم لم يشاهدوها، قال النُّحاة: «صُمٌّ» ، أي: هم صمٌّ، وهو رَفْع على الذَّمِّ.(3/167)
وقوله: «فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون» فالمراد: العقْلُ المكتَسَبُ هو الاستعانة بهذه القُوَى الثَّلاثة، فلمَّا أعرضوا عنهان فقد فقدوا العقل الكسبيَّ، ولهذا قيل: من فقد حسّاً، فَقَدْ فَقَدَ علماً، والله تعالى أعلم.(3/168)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
قال بعض المفسِّرين: إنَّ الله تبارك وتعالى ذكر من أوَّل السُّورة إلى هنا دلائل للتَّوحيد والنُّبُوَّة، واستقصى في الرَّدِّ على اليهود والنصارى، ومن هنا: شرع في بيان الأحكام، فقال: «كُلُوا» واعلم: أنَّ الأكل قد يكون واجباً، وذلك عند دفع الضرر عن النَّفس، وقد يكون مندوباً، وذلك عند امتناع الضيف من الأكل، غذا انفرد، وللبساطة في الأكل، غذا سوعد، فهذا الأكل مندوبٌ، وقد يكون مباحاً، إذا خلا عن هذه العوارض، فلا جرم كان مسمَّى الأكل مباحاً، وإذا كان كذلك، كان قوله في هذا الموضع «كُلُوا» لا يفيد الإيجاب، والنَّدب، [بل الإباحة، ومفعول «كُلُوا» محذوفٌ، أي: «كُلُوا رِزْقَكُمْ حَالَ كَوْنِهِ بَعْضَ طيِّباتِ ما رَزَقْنَاكُمْ» ويجوزُ في رأي الأخفش: أن تكون «مِنْ» زائدةً في المفعول به، أي: «كُلُوا طيِّبات ما رزَقْنَاكم» .
فصل في بيان حقيقة الرِّزق
استدلُّوا على أنَّ الرزق قيد يكون حراماً؛ بقوله تعالى: «مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ» ؛ فإِنَّ الطَّيِّب هو الحلال، فلو كان كلُّ رزقٍ حلالاً؛ لكان قوله: «كُلُوا مِن] طَيِّبَاتَ مَا رَزَقْنَاكُمْ» معناه: من محلَّلات ما أحللنا لكم، فيكون تكراراً، وهو خلاف الأصل، وأجابوا عنه؛ بأن الطَّيِّب في أصل اللُّغة: عبارةٌ عن المستلذِّ المستطاب، فلعلَّ أقواماً ظنُّوا أنَّ التوسُّع في المطاعم، والاستكثار من طيِّباتها ممنوعٌ منه، فأباح الله تبارك وتعالى ذلك؛ لقوله تعالى: «كُلُوا» من لذائذ ما أحللناه لكم، فكان تخصيصه بالذِّكر لهذا المعنى.
فصل في الوجوه التي وردت عليها كلمة «الطَّيِّب» في القرآن قالوا: «والطَّيِّبُ» ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجهٍ:
أحدها: الطَّيِّبات بمعنى الحلال؛ قال الله تعالى: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} [النساء: 2] ، أي: لا تتبدَّلوا الحرام بالحلال.
الثاني: الطيِّب بمعنى الطَّاهر؛ قال تبارك وتعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] ،(3/168)
وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] .
الثالث: الطَّيِّب: معناه الحسن، أي: الكلام الحسن للمؤمنين.
وقوله: {واشكروا للَّهِ} أَمْرٌ، وليس بإباحةٍ، بمعنى أنه يجب اعتقاد مستحقّاً إلى التعظيم، وإظهار الشُّكْر باللِّسان، أو بالأفعال، إن وجدت هنا له تهمةٌ.
[الرابع: ذكر الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] .
قوله: «إِنْ كُنْتُمْ» شرطٌ، وجوابه محذوف، أي: فاشكروا له، وقول من قال من الكوفيِّين: إنَّها بمعنى «إذ» ضعيفٌ، و «إيَّاه» : مفعولٌ مقدَّم؛ ليفيد الاختصاص، أو لكون عامله رأس آية، وانفصاله واجبٌ، ولأنه متى تأخَّر، وجب اتصاله إلاَّ في ضرورة؛ كقوله: [الرجز]
899 - إلَيْكَ حَتَّى بَلَغَتْ إِيَّاكَ ... وفي قوله: {واشكروا للَّهَ} التفاتٌ من ضمير المتكلِّم إلى الغيبة إذْ لو جرى على الأسلوب الأوَّل، لقال: «واشْكُرُونَا» .
فصل في المراد من الآية
في معنى الآية وجوه:
أحدها: «واشْكُرُوا الله، إنْ كُنْتُمْ عارفِينَ بالله ونِعَمِهِ» فعبَّر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقاً لاسم الأثر على المؤثر.
وثانيها: معناه: «إنْ كنتُمْ تريدون أن تَعْبُدوا الله، فاشكُرُوه فإنَّ الشُّكر رأسُ العبادات» .
وثالثهما: «واشْكُرُوا الله الَّذي رَزَقَكُمْ هذه النِّعْمَة، إن كُنْتُمْ إيَّاه تعبُدُونَ» ، أي: إن صحَّ أنَّكم تخصُّونَهُ بالعبادة، وتقرُّون أنَّه هو إلهُكُمْ لا غيره، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن الله -: «إنِّي والجنُّ والإنْسُ في نَبَأ عَظِيمٍ، أخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْري، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْري؟!»(3/169)
فصل في أن الشيء المعلق ب «إن» لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء
احتجَّ من قال بأنَّ المعلَّق بلفظ «إنْ» لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشَّيء؛ بهذه الآية، فإنَّه تعالى علَّق الأمر بالشُّكْر بكلمة «إنْ» على فعل العبادة، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً.(3/170)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
لما أمر في الآية المتقدِّمة بأكل الحال، فصَّل في هذه الآية [أنواع] الحرام.
قوله: «إنَّمَا حَرَّمَ» : الجمهور قرءوا «حَرَّمَ» مشدَّداً مبنيّاً للفاعل «المَيْتَة» نصباً على أنَّ «مَا» كافَّةٌ مهيِّئة ل «إنَّ» في الدُّخول على هذه الجملة الفعليَّة، وفاعل «حَرَّمَ» ضمير الله تعالى، و «المَيْتَةَ» : مفعولٌ به، وابن أبي عَبْلَة برفع «المَيْتَةُ» ، وما بعدها، وتخريج هذه القراءة سهل وهو أن تكون «مَا» موصولةً، و «حَرَّمَ» صلتها، والفاعل ضمير الله تعالى والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشُّروط، تقديره: «حَرَّمَهُ» ، والموصول وصلته في محلِّ نصب اسم «إنَّ» ، و «الميتة» : خبرها.
وقرأ ابو جعفر، وحمزة مبنيّاً للمفعول، فتحتمل «ما» في هذه القراءة وجهين:
أحدهما: أن تكون «ما» مهيةً، و «المَيْتَةُ» مفعول ما لم يسمَّ فاعل.
والثاني: أن تكون موصولةً، فمفعول «حُرِّمَ» القائم مقام الفاعل ضميرٌ مستكنٌّ يعود على «ما» الموصولة، و «لميتة» خبر «إنَّ» .
وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ، «حَرُمَ» ، بضمِّ الراء مخفَّفة، و «المَيْتَةُ» رفعاً و «مَّا تحتمل الوجهين أيضاً، فتكون مهيِّئة، و» المَيْتَةُ «؛ فاعلٌ ب» حَرُمَ «، أو موصولةً، والفاعل ضميرٌ يعود على» مَا «وهي اسمُ» إنَّ «، و» المَيْتَة «: خبرها، والجمهور على تخفيف» المَيْتَة «في جميع القرآن، وأبو جعفر بالتَّشديد، وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ» الميْت «مخفَّفٌ من» المَيِّت «، وأن أصله» مَيْوتٌ «، وهما لغتان، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [آل عمران: 27] .
ونقل عن قدماء النحاة، أنَّ» المَيْتَ «بالتَّخفيف: من فارقت روحه جسده،(3/170)
وبالتشديد: من عاين أسباب الموت، ولم يمت، [وحكى ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللهُ - عن أبي حاتم: أنَّ ما قد مات فيقال ان فيه، وما لم يَمُتْ] بعد، لا يقال فيه بالتخفيف، ثم قال: ولم يقرأ أحدٌ بتخفيف ما لم يمت إلا ما روى البزِّيُّ عن ابن كثير: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] ، وأما قوله: [الوافر]
900 - إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ ... فَسَرَّكَ أنْ يَعِيشَ فَجِىءْ بِزَادِ
فقد حمل على من شارف الموت، وحمله على الميِّت حقيقةً أبلغ في الهجاء.
وأصل» مَيْتَةٍ «مَيْوِتَةٌ، فأُعلَّت بقلب الواو ياء، وإدغام الياء فيها، وقال الكوفيُّون: أصله» مَوِيتٌ «، ووزنه» فَعِيلٌ «.
قال الواحديُّ: «المَيْتَة» : ما فارقته الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يُذْبَح.
فصل في بيان أن الآية عامَّة مخصَّة بالسُّنَّة
هذه الآية الكريمة عامَّة دخلها التخصيص؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ: السَّمَكُ والجَرَادُ، ودَمَانِ: الكَبِدُ والطِّحَالُ» وكذلك حديث جابر في العنبر، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتَهُ» وهذا يدلُّ على تخصيص الكتاب بالسُّنّة.(3/171)
وقال عبد الله بن أبي أوفى: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سَبْعَ غَزَوَاتِ، نأْكُلُ الجَرَاد» وظاهره أكل الجراد كيف ما مات [بعلاجٍ، أو حَتْفَ أنفِهِ] ، والله أعلم.
فصل في بيان حكم وقوع الطائر ونحوه في القدر
إذا وقع طائرٌ ونحوه في قدرٍ، فمات، فقال مالكٌ: لا يُؤكل كل ما في القدر.
وقال ابن القاسم: يغسل اللَّحم ويؤكل، ويراق المرق، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما.
فصل في بيان حكم الدَّم
وأما الدَّم: فكانت العرب تجعل الدم في النَّار، وتشويها، ثم تأكلها، فحرَّم الله تعالى الدَّم، واتفق العلماء على أن الدم حرامٌ نجسٌ، لا يؤكل، ولا ينتفع به.
قال بعضهم: يحرمن إذا لم تعم به البلوى، ويعفى عنه، إذا عمَّت به البلوى، كالذي في اللَّحم والعروق، ولايسير في الثَّوب والبدن يصلَّى فيهن وأطلق الدَّم هنا، وقيَّده بالمسفوح في «الأنعام» ، فيحمل المطلق على المقيَّد، وأمَّا لحم الخنزير، فاللَّحم معروف، وأراد الخنزير بجميع أجزائه، لكنه خصَّ اللحم؛ لأنه المقصود لذاته بالأكل، واللَّحم جمعه لحوم ولحمان، يقال: لحم الرَّجل، بالضم، لحامةً، فهو لحيمٌ، أي: غلظ، ولحم، بالكسر يلحم، بالفتح، فهو لحمٌ: اشتاق إلى اللَّحم، ولحم النَّاسَ، فهو لاحمٌ، أي: أطعمهم اللحم، وألحم: كثر عنده اللَّحم [والخنزير: حيوانٌ معروفٌ، وفي نونِهِ قولان:
أصحهما: أنَّها أصليَّة، ووزنه: «فِعْلِيلٌ» ؛ كغربيبٍ.
والثاني: أنها زائدةٌ، اشتقوه من خزر العين، أي: ضيقها؛ لأنه كذلك يَنْظُر، وقيل: الخَزَرُ: النَّظَرُ بمؤخِّر العين؛ يقالك هو أخزر، بيِّن الخزر] .
فصل في بيان تحريم الخنزير
أجمعت الأُمَّة على تحريم لحم الخنزير، قال مالك: إن حلف لا يأكل الشَّحم، فأكل لحماً لم يحنث بأكل اللحم، ولا يدخل اللحم في اسم الشَّحم؛ لأنَّ اللحم مع الشَّحم يسمَّى لحماً، فقد دخل الشَّحم في اسم اللَّحم، واختلفوا في إباحة خنزير الماء؛(3/172)
قال القُرْطُبِيُّ: لا خلاف في أنَّ جملة الخنزير محرَّمةٌ، إلاَّ الشَّعر، فإنَّه يجوز الخرازة به.
قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ] : «مَا» موصولةٌ بمعنى «الَّذِي» ، ومحلُّها: إمَّا النصبُ، وإمَّا الرفع؛ عطفاً على «المَيْتة» والرَّفع: إما خبر «إنّ» ، وإما على الفاعلية؛ على حسب ما تقدم من القراءات؛ و «أُهِلَّ» مبنيٌّ للمفعول، والقائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور في «بِهِ» والضمير يعود على «ما» والباء بمعنى «في» ولا بد من حذف مضافٍ، أي: «في ذبحه» ؛ لأن المعنى: «وما صِيحَ في ذَبْحِهِ لغير الله» ، والإهلال: مصدر «أَهَلَّ» ، أي: صَرَخَ.
قال الأصْمعِيُّ: أصله رفع لاصَّوت، وكلُّ رافعٍ صوته، فهو مهلٌّ. ومنه الهلالُ؛ لأنَّه يصرخ عند رؤيته، واستهلَّ الصبُّح قال ابن أحمر: [السريع]
901 - يُهِلُّ بِالغَرْقَدِ غَوَّاصُهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ
وقال النَّابِغَةُ: [الكامل]
902 - أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ
وقال القائل: [المديد]
903 - تَضْحَكُ الضَّبعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ ... وَتَرَى الذِّئْبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ
وقيل للمحرم: مُهِلٌّ؛ لرفع الصوت باتَّلبية، و «الذَّبح» مهلٌّ؛ لأنَّ العرب كانوا يسمُّون الأوثان عند الذَّبح، ويرفعون أصواتهم بذكرها، فمعنى قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} ، يعني: ما ذبح للأصنام، والطَّواغيت، قاله مجاهد، والضَّحَّاك وقتادة، وقال الرَّبيع ابن أنسٍ، وابن زيد: يعني: ما ذكر عليه غير اسم الله.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ -: وهذاالقول أولى؛ لأنَّه أشدُّ مطابقةً للَّفظ.
قال العلماء: لو ذبح مسلم ذبيحةً، وقصد بذبحها التقرُّب إلى [غير] الله تعالى، صار مرتدّاً، وذبيحته ذبيحة مرتدٍّ، وهذا الحكم في ذبائح غير أهل الكتاب.(3/173)
أمَّا ذبائح أهل الكتاب، فتحلُّ لنا، لقوله تبارك وتعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5] .
فصل في اختلافهم في اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال
اختلفوا في التَّحريم المضاف إلى الأعيان، [هل يقتضي الإجمال؟
فقال الكَرْخيُّ: إنَّه يقتضي الإجمال، لأنَّ الأعيان] لا يمكن وصفها بالحل والحرمة فلا بد من صرفها إلى فعل من الأفعال فيها، وهو غير محرَّم، فلا بُدَّ من صرف هذا التحريم إلى فعل خاصٍّ، وليس بعض الأفعال أولى من بعضٍ؛ فوجب صيرورة الآية الكريمة مجملةً.
وأمَّا أكثر العلماء، فقالوا: إنَّها ليست بمجلةٍ، بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرُّف؛ قياساً على هذه الأجسام؛ كما أنَّ الذوات لا تملك، وإنَّما تُمْلَكُ التصرُّفات فيها، فإذا قيل: «فلانٌ يَمْلِكُ جاريةً» ، فهم كلُّ أحدٍ أنه يملك التصرُّف فيها؛ فكذا هاهنا.
فإن قيل: لم لا يجوز تخصيص هذا التَّحريم بالأكل؛ لأنَّه المتعارف من تحريم الميتة، ولأنَّه ورد عقيب قوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ، ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في خبر شاة ميمونة: «إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُهُا»
فالجواب عن الأوَّل: لا نسلِّم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم الأكل.
وعن الثَّاني: بأنَّ هذه الآية الكريمة مسألةٌ بنفسها؛ فلا يجب قصرها على ما تقدَّم، بل يجب إجراؤها على ظاهرها.
وعن الثَّالث: أنَّ ظاهر القرآن مقدَّم على خبر الواحد، هذا إذا لم نُجَوِّزْ تخصيص القرآن بخبر الواحد، فإن جوَّزناه، يمكن أن يجاب عنه؛ بأن المسلمين، إنَّما يرجعون في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية؛ فدلَّ انعقاد إجماعهم على أنَّها غير مختصَّة ببيان حرمة الأكل، وللسَّائل أن يمنع هذا الإجماع، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: كلمة «إنَّما» تفيد الحصر، فيقتصر على تحريم باقي الآية الكريمة، وقد ذكر في سورة المائدة هذه المحرمات، وزاد فيها: المنخنقة، والموقوذة، والمتردِّية، والنَّطيحة، وما أكل السَّبع، فما معنى هذا الحصر؟
فالجواب: أنَّ هذه الآية متروكة العمل بظاهرها، وإن قلنا: إنَّ كلمة «إنَّما لا تفيد الحصر، فالإشكال زائلٌ.(3/174)
فصل في بيان مذاهب الفقهاء في الدباغ
للفقهاء سبعة مذاهب في أمر الدباغ:
فأولها: قول الزُّهريِّ: يجوز استعمال جلود الميتة بأسرها قبل الدِّباغ، ويليه داود، قال: تطهر كلُّها بالدِّباغ، ويليه مالكٌ؛ فإنه قال يطهر ظاهرها كلُّها دون باطنها، ويليه أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: يطهر كلها بالدِّباغ غلا جلد الخنزير، ويليه قول الإمام الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: تطهر كلُّها بالدِّباغ إلاَّ جلد الكلب والخنزير، ويليه الأوزاعي، وأبو ثور، قالا: يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط، ويليه أحمد بن حنبل، قال: لا يطهر منها شيء بالدباغ؛ واحتجَّ بالآية الكريمة، والخبر؛ أما الآية: فقوله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] فأطلق التحريم، ولم يقيِّده بحالٍ دون حالٍ، وأمَّا الخبر: فقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في حديث عبد الله بن عُكَيم، لأنه قال:» أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَبْلَ وفَاتِهِ بِشَهْرٍ، أو شَهْرَيْنِ: أنِّي كَنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ في جُلُودِ المَيْتَةِ، فَإذَا أَتَاكُمْ كِتَابي هَذَا، فَلاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإِهَابِ، وَلاَ عَصَبٍ «.
واختلفوا في أنَّه، هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازيِّ، والبهيمة؟ فمنهم: من منع منه؛ وقال: لأنَّه انتفاعٌ بالميتة، والآية الكريمة دالَّةٌ على تحريم الانتفاع بالميتة، فأمَّا إذا أقدم البازيُّ من عند نفسه على أكل الميتة، فهل يجب عليه منعه، أم لا؟ فيه احتمالٌ:
فصل اختلافهم في حرمة الدِّماء غير المسفوحة
حرَّم جمهور العلماء الدَّم، سواءٌ كان مسفوحاً، أو غير مسفوحٍ، وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: [دمٌ السَّمك ليس بمحرَّم.
حجَّة الجمهور: ظاهر هذه الآية الكريمة، وتمسَّك أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -] بقوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] فصرَّح بأنَّه لم يجد من المحرمَّات شيئاً، إلاّ ما ذكر، فالدَّم الذي لا يكون مسفوحاً، وجب ألاَّ يكون محرَّماً؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة خاصَّة، وتلك عامَّةٌ، والخاصُّ مُقدَّمٌ على العامِّ.
وأُجيب بأنَّ قوله «لا أجِدُ» ليس فيه دلالةُ على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في(3/175)
هذه الآية، بل على أنَّه تعالى ما بيَّن له إلاَّ تحريم هذه الأشياء، وهذا لا ينافي أن يبيِّن له بعد ذلك تحريم شيءٍ آخر، فلعلَّ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] نزلت بعد ذلك، فكان ذلك بياناً لتحريم الدَّم مسفوحاً، أو غير مسفوح.
وإذا ثبت هذا، وجب الحكم بحرمة جميع الدِّماء، ونجاستها، فيجب إزالة الدَّم عن اللَّحم ما أمكن، وكذا في السَّمك، وأيُّ دمٍ وقع في الماء، أو الثَّوب، فإنه ينجس ذلك المورد.
واختلفوا في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» ، هل تسمية الكبد والطِّحال دماً حقيقةٌ، أم تشببيه.
فصل في شراء الخنزير، وأكل خنزير الماء
أجمعت الأُمَّة على أنَّ الخنزير بجميع أجزائه محرم، وإنَّما ذكر الله تبارك وتعالى لحمه؛ لأن معظم الانتفاع متعلِّق به، واختلفوا في أنَّه هل يجوز أن يشترى؟
فقال أبو حنيفة، ومحمد: يجوز، وقال الشافعيُّ: لا يجوز، وكره أبو يوسف - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - الخزز به، وروي عنه الإباجة.
واختلفوا في خنزير الماء، فقال ابن أبي ليلى، ومالك، والشافعي، والأوزاعيُّ: لا بأس بأكل شيءٍ يكون في البحر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤكل.
حجَّة الشافعيِّ قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وحجَّة أبي حنيفة: أنَّ هذا خنزير، فيدخل في آية التَّحريم.
قال الشَّافِعيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: إذا أطلق الخنزير، لم يتبادر إلى الفهم لحم السَّمك، بل غير السَّمك بالأتِّفاق، ولأنَّ خنزير الماء لا يسمَّى خنزيراً على الإطلاق، بل يسمَّى خنزير الماء.
فصل
من الناس: من زعم أنَّ المراد ب {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} ذبائحُ عَبَدَةِ الأوثان على النصب، قال ابن عطيَّة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: رأيتُ في أخبار الحسن بن أبي الحسن: أنه سئل عن امرأة مترفهة صنعت للعبها عرساً، فذبحت جزوراً، فقال الحسن - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: لا يحلُّ أكلها، فإنها نحرت لصنم، وأجازوا ذبيحة النَّصارى، إذا سمَّوا عليها باسم المسيح، وهو مذهب عطاء، ومحكول، والحسن، والشَّعبيِّ، وسعيد بن المسيِّب. وقال مالكٌ، الشافعيُّ وأحمد وأبو حنيفة لا يحل كل ذلك، لأنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فوجب أن يحرم.(3/176)
قال عليُّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: إذا سمعتم اليهود والنصارى يلهُّون لغير الله، فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهمن فكلوا، فإنَّ الله تبارك وتعالى، قد أحلَّ ذبائحهم، وهو يعلم ما يقولون؛ واحتحَّ المخالف بقوله تبارك وتعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5] وهذا عامٌّ، وبقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] فدلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ المراد بقوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} هو المراد ب {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} ، ولأن النَّصارى، إذا سمَّوا الله تعالى، فإنَّما يريدون به المسيح، فإذا كانت إرادتهم لذلك، لم تمنع حلَّ ذبيحتهم، مع أنَّه يهلُّ به لغير الله تعالى، فكذلك ينبغي أن يكون حكمه، إذا ظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح.
والجواب عن الأوَّل: أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5] عامٌ، وقوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ.
وعن الثاني أن قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} لا يقتضي تخصيص قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} ؛ لأنهما آيتان متباينتان.
وعن الثالث: إنَّما كُلِّفنا بالظَّاهر، لا بالباطن، فإذا ذبحه على اسم الله تعالى، وجب أن يحلَّ، ولا سبيل لنا إلى الباطن.
قوله: «فَمَنِ اضْطُرَّ» في «مَنْ» وجدهان:
أحدهما: أن تكون شرطيةً.
والثاني: أن تكون موصُولةً بمعنى «الذي» .
فعلى الأوَّل: يكون «اضطُرَّ» في محلِّ جزم بها، وقوله: {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} جواب الشرط، والفاء فيه لازمةٌ.
وعلى الثاني: لا محلَّ لقوله «اضْطُرَّ» من الإعراب، لوقوعه صلةً، ودخلت الفاء في الخبر؛ تشبيهاً للموصول بالشَّرط، ومحلُّ {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} الجزم على الأوَّل، والرفع على الثاني. والجمهور على «اضْطُرَّ» بضمِّ الطاء، وهي أصلها، وقرأ أبو جعفر بكسرها؛ لأنَّ الأصل «اضْطُرِرَ» بكسر الراء الأولى، فلمَّا أدغمت الراء في الرَّاء، نقلت حركتها إلى الطَّاء بعد سلبها حركتها، وقرأ ابن مُحَيْصِن: «اطُّرَّ» بإدغام الضَّاد في الطَّاء، وقد تقدَّم الكلام في المسألة هذه عند قوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ} [البقرة: 126] .
وقرأ أبو عَمْرٍو، وعاصمٌ، وحمزة بكسر نون «مَنِ» على أصل التقاء الساكنين، وضمَّها الباقون؛ إتباعاً لضمِّ الثالث.(3/177)
وليس هذا الخلاف مقصور على هذه الكلمة، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين؛ وضُمَّ الثالث ضمَّاً لازماً نحو: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ} [الأنعام: 10] {قُلِ ادعوا} [الإسراء: 110] ، {وَقَالَتِ اخرج} [يوسف: 31] ، جرى الخلاف المذكور، إلاَّ أنَّ أبا عمرو خرج عن أصله في {أَو} [المزمل: 3] و {قُلِ ادعوا} [الإسراء: 110] فضمَّهما، وابن ذكوان خرج عن أصله، فكسر التنوين خاصَّة؛ نحو {مَحْظُوراً انظر} [الإسراء: 20 - 21] واختلف عنه في {بِرَحْمَةٍ ادخلوا} [الأعراف: 49] {خَبِيثَةٍ اجتثت} [إبراهيم: 26] فمن كسر، فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضمَّ، فلإتباع، وسيأتي بيان الحكمة في ذلك. عند0 ذكره، إن شاء الله - تعالى - والله أعلم.
قوله: «غَيْرَ باغٍ» : «غَيْرَ» : نصب على الحال، واختلف في صاحبها:
فالظاهر: أنه الضمير المستتر [في «اضْطُرَّ» ] ، وجعله القاضي، وأبو بكر الرازيُّ من فاعل فعل محذوف بعد قوله «اضْطُرَّ» ؛ قالا: تقديره: «فَمَنَ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ» ؛ كأنهما قصَدَا بذلك أن يجعلاه قيداً في الأكل لا في الاضطرار.
قال أبو حيَّان: ولا يتعيَّن ما قالاه؛ إذ يحتمل أن يكون هذا المقدَّر بعد قوله {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} بل هو الظاهر والأولى؛ لأنَّ في تقديره قبل «غَيْرَ بَاغٍ» فضْلاً بين ما ظاهره الاتصال فيما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله: «غَيْرَ بِاغٍ» .
و «عَادٍ» : اسم فاعل من: عَدَا يَعْدُو، إذا تجاوز حدَّه، والأصل: «عَادِوٌ» فقلب الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها؛ كغاز من الغزو، وهذا هو الصحيح؛ وقيل: إنَّه مقلوب من، عاد يعود، فهو عائدٌ، فقدِّمت اللام على العين، فصار اللَّفظ «عَادِوٌ» فأعلَّ بما تقدَّم، ووزنه «فَالِعٌ» ؛ كقولهم: «شَاكٍ» في «شَائِكٍ» من الشَّوكة، و «هارٍ» ، والأصل «هَائِر» ، لأنَّه من: هَارَ يَهُورُ.
قال أبُو البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «ولو جاء في غير القرآن الكريم منصوباً، عطفاً على موضع» غَيْرَ «جاز» ، يعني: فكان يقال: «وَلاَ عَادِياً» .
قوله: «اضْطُرَّ» أُحْوِجَ وأُلْجِىءَ، فهو: «افْتُعِلَ» من الضَّرورة، وأصله: من الضَّرر، وهو الضِّيق، وهذه الضَّرورة لها سببان:
أحدهما: الجوع الشَّديد، وألاَّ يجد مأكولاً حلالاً يسدُ به الرَّمَق، فيكون عند ذلك مضطراً.
والثاني: إذا أكره على تناوله.(3/178)
واعلم أنَّ الاضطرار ليس من فعل المكلَّف؛ حتى يقال: إنَّه لا إثم عليه، فلا بدَّ من إضمارٍ، والتقدير: «فَمَن اضْطُرَّ، فأكَلَ، فلا إِثْمٍ عَلَيْه» ونظيره: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، فحذف «فأَفْطَرَ» ، وقوله تعالى {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} [البقرة: 196] وإنما جاز الحذف؛ لعلم المخاطب به، ودلالة الخطاب عليه.
والبغي: أصله في اللغة الفساد.
قال الأصمعيُّ: يقال: بغى الجرح بغياً: إذا بدأ في الفساد، وبغت السماء، إذا كثر مطرها، والبغي: الظلم، والخروج عن الإنصاف؛ ومنه قوله تبارك وتعالى {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى: 39] وأصل العدوان: الظُّلم، ومجاوزة الحد.
فصل
اختلفوا في معنى قوله «غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} فقال بعضهم:» غَيْرَ بَاغٍ «أي غير خارج على السُّلطان، و» لاَ عَادٍ «متعدٍّ بسفره، أعني: عاص بأن خرج لقطع الطَّريق، والفساد في الأرض، وهو قول ابن عباس، ومجاهدٍ، وسعيد بن جبير.
وقالوا: لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة، إذا اضطر إليها، ولا أن يترخَّص في السَّفر بشيءٍ من الرُّخص؛ حتى يتوب، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل، واختلفوا في معناه.
فقال الحسن، وقتادة، والرَّبيع، ومجاهد، وابن زيد: أي: يأكل من غير ضرورة أي: بغي في أكله» ولاَ عَادٍ «ن أي: ولا يعدو لشبعه.
وقيل: «غَيْرَ بِاغٍ» أي: غير طالبها، وهو يجد غيرها، «وَلاَ عَادٍ» ، أي: غير متعدٍّ ما حد له، فيأكل حتَّى يشبع، ولكن يأكل ما يسدُّ رمقه.
وقال مقاتل: «غَيْرَ بَاغٍ» أي: مستحلٌّ لها، «وَلاَ عَادٍ» أي: يتزوَّد منها، وقيل: «غَيْرَ بَاغٍ» ، أي: مجاوز للحدٍّ الذي أُحِلَّ له، «وَلاَ عَادٍ» أي: لا يقصِّر فيما أبيح له فيدعه.
قال مسروقٌ: من اضطُرَّ إلى الميتة، والدم، ولحم الخنزيرن فلم يأكل، ولم يقرب، حتى مات، دخل النَّار.
وقال سهل بن عبد الله: «غَيْرَ بَاغٍ» : مفارقٍ للجماعة، «ولاَ عَادٍ» ، أي: ولا مبتدعٍ مخالف السنة، ولم يرخِّص للمبتدع تناول المحرَّم عند الضرورة.
فإن قيل: الأكل في تلك الحالة واجبٌ، وقوله: {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} أيضاً يفيد الإباحة.(3/179)
وأيضاً: فإنَّ المضْطَرَّ كالمُلْجَأ إلى الفعل، والملجأ لا يوصف بأنَّه لا إثم عليه.
فالجواب: أنَّا قد بينَّا عند قوله {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] : أنَّ نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب، والمندوب، والمباح، وأيضاً: قوله تبارك وتعالى: {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} : معناه: رفع الحرج والضِّيق.
واعلم: أنَّ هذا الجائع، إن حصلت فيه شهوة الميتة، ولم يحصل له فيه النُّفرة الشَّديدة، فإنَّه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرَّمق، وكما يصير ملجأً إلى الهرب من السَّبع، إذا أمكنه ذلك، أمَّا إذا حصلت ألنُّفرة، فإنَّه بسبب تلك النُّفرة، يخرج عن أن يكون ملجأً، ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النِّفار.
فإن قيل: قوله تبارك وتعالى: {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} يناسب أن يقال بعده: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإنَّ الغفران، إنَّما يذكر عند حصول الإثم.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدَّم إلاَّ أنه زالت الحرمة؛ لقيام المعارض، فلمَّا كان تناوله تناولاً لما حصل فيه المقتضي للحرمة، عبَّر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنَّه رحيم، يعني: لأجل الرحمة عليكم، أبحت لكم ذلك.
وثانيها: لعل المضطرَّ يزيد على تناول قدر الحاجة.
وثالثها: ان الله تعالى، لمَّا بيَّن هذه الأحكام، عقَّبها بقوله تعالى: «غَفُورٌ» للعصاة، إذا تابوا، «رَحِيمٌ» بالمطيعين المستمرِّين على منهج الحكمة
فصل في معنى المضطر
قال الشافعيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: قوله تعالى {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} معناه: أن كل من كان مضطرّاً لا يكون موصوفاً بصفة البغي، ولا بصفة العدوان ألبتَّة، فأكل؛ فلا إثم عليه.
وقال أبو حنيفة: معناه: " فمن اضطر، فأكل غير باغ، ولا عاد في الأكل، فلا إثم عليه " فخصص صفة البغي والعدوان بالأكل، ويتفرع على هذا الخلاف هل يترخص العاصي بسفره، أم لا؟ فقال الشافعي: لا يترخص؛ لأنه يوصف بالعدوان؛ فلا يندرج تحت الآية الكريمة. وقال أبو حنيفة: يترخص؛ لأنه مضطر، وغير باغ، ولا عاد في الأكل، فيندرج تحت الآية.(3/180)
احتجَّ الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - بأنَّ الله تعالى حرم هذه الأشياء على الكُلِّ، ثم أباحها للمضطرِّ الموصوف بأنَّه غير باغٍ، ولا عادٍ، والعاصي بسفره غير موصوفٍ بهذه الصفة؛ لأنَّ قولنا: طفلانٌ ليس بمتعدً «نقيضٌ لقولنا:» فلانٌ متعدٍّ «، وقولنا:» فُلاَنٌ متعدٍّ «يكفي في صدقه كونه متعدِّياً لأمر من الأمور، سواء كان في سفرٍ، أو أكلٍ، أو غيرهما، وإذا صدق عليه اسم التعدِّي بكونه متعدِّياً في شيء من الأشياء فإن قولنا» غَيْرَ بِاغٍ، وَلاَ عَادٍ «لا يصدق إلاَّ إذا انتفى عنه صفة التعدِّي من جميع الوجوه، والعاصي بسفره متعدٍّ بسفره، فلا يصدق عليه كونه» غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ «، فيجب بقاؤه تحت التَّحريم.
فإن قيلك يشكل بالمعاصي في سفره؛ فإنَّه يترخَّص مع أنَّه موصوف بالعدوان.
والجواب: أنَّه عامٌّ دخله التخصيص في هذه الصُّورة، ثم الفرق بينهما: أنَّ الرخصة إعانة على السَّفر، فإذا كان السَّفر معصيةً، كانت الرخصة إعانةً على المعصية، وإذا لم يكن السَّفر معصيةً في نفسه، لم تكن الإعانة عليه إعانةتً على المعصية، فافترقا.
فإن قيل: قوله تعالى «غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ» شرطٌ، والشرط بمنزلة الاستثناء؛ في أنه لا يستقلُّ بنفسه، فلا بدَّ من تعلُّقه بمذكورٍ، ولا مذكور إلاَّ الأكل؛ لأنَّ بيَّنَّا أنَّ قوله تعالى: «غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ» لا يصدق عليه إلاَّ إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور، فيدخل فيه نفي العدوان بالسَّفر ضمناً، ولا نقول: اللفظ يدلُّ على التعيين.
وأمَّا تخصيصه بالأكل: فهو تخصيصٌ من غير ضرورةٍ، ثمَّ الذي يدلُّ على أنَّه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوهٌ:
أحدها: أنَّ قول «غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ» حالٌ من الاضطرار؛ فلا بدَّ وأن يكون وصف الاضطرار باقياً، مع بقاء كون: «غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ» حالاً من الاضطرار، فلو كان المرادُ بقوله: «غَيْرَ بَاغٍ، وَلاَ عَادٍ» كونه كذلك في الأكل - لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه؛ لأنَّه حال الأكل، لا يبقى معه حال الاضطرار.
ثانيها: ان الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم، وإذا كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي، فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة.
والثالثها: أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها، والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية.(3/181)
وكذلك العدوان بالسفر فرد آخر من أفرادها فإذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات، فتخصيصه بالأكل غير جائز.
وثالثها: قوله تبارك وتعالى: {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3] فبيَّن في هذه أن المضطرَّ إنما يترخَّص، إذا لم يكن متجانفاً لإثم، وهذا يؤيِّد ما قلناه من أن الآية الكريمة تقتضي ألاَّ يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور.
احتجَّ أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -، بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] .
وهذا مضطرٌّ؛ فوجب أن يترخَّص.
وثانيها: قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29] {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] ، والامتناع من الأكل سبب في قتل النَّفس، وإلقاء بها إلى التهلكة؛ فوجب أن يحرَّم.
وثالثها: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - رخَّص للمقيم يوماً وليلةً، وللمسافر ثلاثة أيَّامٍ ولياليهنَّ، ولم يفرق بين العاصي وغيره.
رابعها: أنَّ العاصي بسفره، إذا كان نائماً، فأشرف على غرقٍ، أو حرقٍ، يجب على الحاضر الَّذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه، فلأن يجب عليه في هذه الصورة: أن يسعى في إنقاذ مهجته أولى.
وخامسها: أن العاصي بسفره له أن يدفع عن نفسه أسباب الهلاك؛ من الحيوانات الصَّائلة عليه، والحيَّة، والعقرب، بل يجب عليه، فكذا ههنا.
سادسها: أَنَّ العَاصِي بسَفَرهِ، إذا اضطُرَّ، فلو أباح له رجُلٌ شيئاً من ماله، فله أَخذُهُ، بل يجب دفع الضَّرر عن النَّفْس.
[سابعها: أَنَّ التوبةَ أَعْظَمُ في الوُجُوب وما ذاكَ إِلا لدفع ضررِ النَّار عن النَّفس] ، وهي أعظمُ من كُلِّ ما يدفع المؤمنُ من المضارِّ عن نفسه؛ فلذلك دفع ضرر الهلاكِ عن نفسه لهذا الأكلِ، وإن كان عاصياً.
وثامنها: أَنَّ الضرورة تبيحُ تناولَ طعامِ الغَيْر من دون رضَاهُ، بل على سَبيل القَهْر، وهذا التناوُلُ يَحْرُم لولا الاضطرارُ، فكذا ههنا.
وأُجيبُ عن التمسُّك بالعُمُومات؛ بأَنَّ دليلنا النَّافي للترخّص أخصُّ دلائِلِهِمْ(3/182)
المرخِّصة والخاصُّ متقدَّم على العامِّ، وعن الوجوه القياسيَّة بأنه يمكنُه الوصُول إِلى استباحةِ هذه الرخص بالتَّوبة، فإذا لم يتُبْ، فهو الجانِي على نَفْسه، ثم تُعَارَضُ هذه الوجوهُ: بأنَّ الرخصة إِعَانَةٌ على السَّفَر، فإذا كان السَّفر معصيةً، كانت الرخصةُ إِعَانَةً على المعصية، والمعصية ممنوعٌ منها، والإعَانَةُ سعيٌ في تحصيلها؛ فالجمع بينهما مُتناقضٌ.
فصل في اختلافهم في اختيار المضطرِّين المحرَّمات
اختلفُوا في المضطرِّ، إذا وجد كلَّ ما يضطرُّ مِنَ المحرَّمات.
فالأكثرون على أنَّه مخيَّر بين الكُلِّ، ومنهم من قال: يتناوَلُ الميتة، دون لَحْم الخنزير ويعد لحم الخنزير أَعظَمَ في التَّحريم.(3/183)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
قال ابن عبَّاس: نزلَت في رؤوس اليهود: كعبِ بنِ الأَشْرفِ وكعْبِ بن أسدٍ، ومالك بنِ الصيف، وحُييِّ بن أخطَبَ، وأبي ياسرِ بنِ أخطَبَ؛ كانوا يأخذون من أتباعهم الهَدَايا، وكانُوا يَرجُون أن يكُونَ النبيُّ المَبْعُوثُ منهم، فلما بُعِثَ محمَّدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام من غيرهم خافُوا انقطَاع تلك المنافِع؛ فكتموا أمر مُحَمَّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنْ غيَّروا صِفَتَه، ثم أخرَجُوها إليهم، فإذا ظَهَرت السفلة على النَّعتِ المغيَّر، وجدوه مخالفاً لصفتِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لا يتبعونَه، فأنزل الله تبارَكَ وتعالى هذه الآية.
قال القرطبيُّ: ومعنى «أَنْزَلَ» : أظْهَرَ؛ كما قال تعالى: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله} [الأنعام: 93] أي: سأُظْهِر وقيل: هو على بابِهِ من النُّزول، أي: ما أَنْزَل به ملائكتَهُ على رُسُله.
قوله: «مِنَ الْكِتَابِ» : في محلِّ نصْبٍ، على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أَنَّهُ العائِدُ على الموصول، تقديره: «أَنْزَلَهُ اللهُ» حال كونه «مِنَ الكِتَابِ» فالعاملُ فيه «أَنْزَلَ» .
والثاني: أنه المُوصول نَفسُه، فالعامل في الحال «يَكْتُمونَ» .
قوله: «وَيَشْترونَ بِهِ» : الضميرُ في «بِهِ» يُحْتَمَل أن يعود على «ما» الموصولة، وأن يعودَ على الكَتْم المفهومِ من قوله: «يَكْتُمُونَ» ، وأَنْ يعودَ على الكتابِ، والأَوَّلُ أَظهَرُ،(3/183)
ويكونُ ذلك على حَذْف مضافٍ، أي: «يَشْتَرونَ بِكَتْم ما أَنْزَلَ» .
قال ابنُ عَبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْه - وقتادَةُ والسُّدِّيُّ، والأصَمُّ وأبو مُسْلِمٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - كانوا يكتُمُونَ صفَةَ محمَّدٍ - عيله الصَّلاة والسَّلام - ونَعْتَهُ.
وقال الحسَنُ: كَتَمُوا الأَحْكَام، وهو قولهُ تبارَكَ وتعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [التوبة: 34] .
فصل في حقيقة الكتمان
اختلفوا في كيفيَّة الكتمان.
فروي عن ابن عبَّاس أَنَّهُم كانُوا يحرِّفون ظاهِرَ التَّوراةِ، والإنجيلِ.
قال المتكلِّمون: وهذا ممتنعٌ؛ لأنَّ التوراة والإنجيل كتابانِ، وقد بلغا من الشهرة إلى حدِّ التواتر؛ بحيث يتعذّر ذلك فيهما، وإِنَّما كانوا يكتُمُونَ التأويلَ، لأنَّه قَدْ كان منهم مَنْ يعرف الآياتِ الدالَّةَ على نبوة محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكانوا يذكُرُون لها تأويلاتٍ باطلةً، ويحرِّفونها عن محامِلها الصحيحة، والدَّالَّةِ على نبوَّة محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهذا هو المرادُ من الكتْمَان، فيصير المعنى: الذين يكْتُمُون معاني ما أنزَلَ الله منَ الكتاب.
{وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} كقوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] لأنَّه في نفسه قليلٌ ولأنَّه بالإضافة إلى ما فيه من القدر قليلٌ، ولما ذكر عنهم هذه الحكاية، ذكر الوعيدَ عليهم؛ فقال: {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} .
قال بعضُهُم: ذكْرُ البطْنِ هنا زيادةُ بيانٍ؛ كقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقال بعضهُم: بل فيه فائدةٌ؛ وقولُه «فِي بطُونِهِمْ» ، يقالُ: أَكَلَ فُلاَنٌ فِي بَطْنِهِ وَأَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ.
فصل في أكلهم النَّار في الدنيا أم في الآخرة
قال الحسن، والرَّبيع، وجماعةٌ مِنْ أهلِ العلم إنَّ أكلَهُم في الدنيا وإن كان طيِّباً في الحال، فعاقبتُه النَّار؛ لأنَّه أكلُ ما يوجب النار؛ فكأنه أكْلُ النَّار؛ كما روي في حديث الشَّارب مِن آنيةِ الذَّهَب والفضَّة: «إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ»
وقوله تبارَكَ وتَعَالى: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] أي: عِنباً؛ فهذا كلُّ من تسمية الشيء بما يؤولُ إلَيْه. وقال الأصمُّ إِنَّهم في الآخرةِ يَأكلُون النَّار؛ لأكلهم في الدنيا الحرامَ.
قوله: {إِلاَّ النَّارَ} استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّ قبله عاملاً يطلبه، وهذا من مجازِ الكَلاَمِ،(3/184)
جعل ما هُوَ سَبَبٌ للنَّار ناراً؛ كقولهم: «أَكَلَ فُلاَنٌ الدَّمَ» ، يريدُون الدية الَّتي بِسَبَبها الدَّمُ؛ قال القائل في ذلك: [الطويل]
904 - فَلَوْ أَنَّ حَبّاً يَقْبَلُ المَالَ فِدْيَةً ... لَسُقْنَا إِلَيْهِ المَالَ كَالسَّيْلِ مُفْعَما
وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ ... رَضَا الْعَارَ وَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا
وقال القائلُ: [الطويل]
905 - أَكَلْتُ دَماً إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ ... بِعِيدَةِ مَهْوَى القُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وقال: [الرجز]
906 - يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِكَافَا ... يريد: ثَمَنَ إكافٍ.
وقوله: «في بُطُونِهِم» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أَن يتعلَّق بقوله «يَأْكُلُونَ» فهو ظرْفٌ له، قال أبو البقاء: وفيه حذفُ مضافٍ، أي «طَرِيقِ بُطُونِهِمْ» ولا حاجة غلى ما قاله من التَّقْدِير.
والثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوفٍ، على أنَّهُ حالٌ من النَّار.
قال أبُو البقاء: والأجودُ: أن تكونُ الحال هُنّا مقدَّرة؛ لأنَّها وقت الأَكْلِ ليْسَتْ في بُطُونِهِمْ. وإنَّمَا تَؤول إلى ذلك، والتقديرُ: ثابتةٌ وكائنةٌ في بُطُونهم.
قال: ويلْزَمُ منْ هذا تقديمُ الحال على حرف الاستثناء.
وهو ضعيفٌ، إلاَّ أنْ يجعل المفعولَ محذوفاً و «فِي بُطُونِهِمْ» حالاً منه، أَو صفةً له، أي: في بطونِهِم شيئاً، يعني فيكون: «إلاَّ النَّارُ» منصوباً على الاستثناء التَّامِّ؛ لأنَّهُ مستثنىً من ذلك المحذوف إِلاَّ أَنَّه قال بَعْد ذلك: وهذا الكلامُ من المعنى على المجاز للإعْرَابِ حكْمُ اللفظ.
والثالث: أنْ يكون صفةً أو حالاً من مفعُول «كُلُوا» محذوفاً؛ كما تقدم تقديرُه.
قوله: في ذِكْرِ البُطُونِ تنبيهٌ على أَنَّهُم باعوا آخِرَتَهُم بدُنياهم، وهو حظُّهم من المَطْعَم الَّذي لا خَطَرَ له ومعنى «إلاَّ النَّار» ، أي: أنَّهُ حرامٌ يعذِّبهم الله علَيْه، فسمّى ما(3/185)
أَكَلُوه من الرُّشَا ناراً؛ لأَنَّهُ يؤدِّيهم إلى النار، قاله أكثر المفسِّرين.
وقيل: إِنَّهُ يعاقبهم على كتمانهم بأكل النَّار في جهنم حقيقةً فأَخْبَر عن المآل بالحالِ؛ كما قال تعالى
{إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] ، أي عاقبتهم تئُولُ إلى ذلك، ومنْه قَوْلُ القائل: [الوافر]
907 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وقال القائِل [المتقارب]
908 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهْ
وقال آخر: [البسيط]
909 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَدُورُنَا لِخَرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
يةُ تدُلُّ على تحريم الرَّشْوَة على الباطل.
قوله: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} ظَاهِرهُ: أَنَّهُ لا يكلِّمهم أصلاً، لكنه لما أوردَهُ مَوْرِدَ الوعيد، فهم منه ما يجري مَجْرَى العقوبة وذكَروُوا فيه ثلاثة أَوْجِهٍ:
الأوَّل: قد دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّه سبحانَهُ وتعالى يكلِّمهم؛ وذلك قولُهُ {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] .
وقوله {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6] فعرفنا أَنَّهُ يسأل كلُّ واحدٍ من المكلَّفين، والسؤال لا يكونُ إِلاَّ بكَلاَم، فقالوا: وجب أنْ يكُون المرادُ من الآية الكريمة أنه تعالى لا يكلِّمهم بتحيَّةٍ وسلام وخَيْرٍ، وإنما يكلِّمهم بما يعظم عندهم من الحَسْرة والغَمِّ؛ من المناقشة والمُسَاءلة كقوله تعالى {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] .
الثاني: أنَّه تبارك وتعالى لا يكلِّمهم أَصْلاً، وأَمَّا قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} إنما يكون السؤال من الملائكة بأمره تعالى، وإنَّما كان عدَمُ تكليمهم في مَعْرِضِ(3/186)
التَّهْديد؛ لأَنَّ [يومَ القيامة هُو اليَوْمُ الذي يكلِّم الله تعالى فيه كلَّ الخلائق بلا واسطةٍ، فيظهر] عند كلامِهِ السُّرُورُ في أوليائه، وضده في أعدائِهِ ويتميَّز أهلُ الجَنَّة بذلك، من أهلِ النار. فلا جَرَم كان ذلك من أعظَمِ الوعيد.
الثالث: أن قوله: «وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ» استعارةٌ عن الغَضَب؛ لأنَّ عادةَ المُلُوك أنَّهُم عند الغَضَب يعرضُون عن المَغْضُوب عليه، ولا يكلِّموه؛ كما أنَّهُم عند الرضَا يُقْبِلُون علَيْه بالوجه والحديث.
وقوله «وَلاَ يُزكِّيهِم» فيه وجوه:
الأوَّل: لا يسنبهم إلى التَّزكية، ولا يُثْنِي عليهم.
الثاني: لا يقْبَل أعمالَهُمْ؛ كام يقبل أَعْمَال الأولياء.
الثالث: لا ينزلُهم منازل الأولياء.
وقيل: لا يُصْلِحُ عمالهم الخبيثة، فيطهرهم.
قولُهُ {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، اعْلَمْ: أنَ الفعيل قد يكون بمعنى المفعول؛ كالجريح والقتيل، بمعنى المجروح والمَقْتُول، وقد يكُونُ بمعنى «المُفعل» ؛ كالبصير بمعنى المُبْصِر والأليم بمعنى المُؤلم.
واعلم أَنَّ العبرةَ بعُمُوم اللَّفْظِ، لا بخُصُوص السَّبَب، فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود، لكنَّها عامَّة في حقِّ كلِّ مَنْ كَتَم شيئاً من باب الدِّين.(3/187)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
اعلم أنَّ أَحْسَنَ الأشياء في الدُّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضَّلال والجَهْل فَلَمَّا تركُوا الهُدَى في الدُّنيا، ورضُوا بالضَّلال والجهل، فلا شَكَّ أَنَّهُمْ في نهاية الخَسَارة في الدنيا، وَأَمَّا في الآخرة، فأحسن الأشياء المَغْفِرة، وأخْسَرُها العذَابُ، فَلَمَّا صرفوا المغفرة، ورضُوا بالعَذَاب، فلا جَرَم: أنهم في نهاية الخَسَارة، ومَنْ كانت هذه صفتَهُ، فهو أعْظَمُ النَّاس خسارةً في الدُّنيا والآخِرَة.
قولُهُ {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} في «ما» هذه خمسةُ أقْوالٍ:
أحدها: وهو قول سيبويه، والجُمهُور: أَنَّها نكرةُ تامَّةُ غير موصُولة، ولا(3/187)
موصوفةٍ، وَأَنَّ معناها التعجُّب، فإذَا قُلْتَ: «مَا أَحْسَنَ زَيْداً» ، فمعناهُ: شيءٌ صَيَّرَ زَيْداً حَسَناً.
الثاني: قولُ الفراء - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - أَنَّهَا استفهاميَّةٌ صَحِبَها معنى التعجُّب؛ نحو «كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللهِ» .
قال عطَاءٌ، والسُّدِّيُّ: هو «ما» الاستفهام، معناه: ما الَّذي صَبَّرهم على النَّار؟ وأيُّ شيء صَبَّرهم على النَّار؛ حتى تَرَكثوا الحَقَّ، واتبعوا البَاطِلَ.
قال الحَسَن، وقَتادة: «والله ما لهم عَلَيْها من صَبْر، ولكنْ ما أجرأهم على العمل الَّذي يقرِّبهم إلى النار» وهي لغة يَمَنية معروفةٌ.
قال الفراء: أخبرني الكسائيُّ قال: أخبرني قاضي «اليَمَنِ» أَنَّ خَصْمَينِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فوجَبَتِ اليمينُ على أحدهِمَا، فحلَفَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُك ما أصْبَرَكَ عَلَى اللهِ؟ أي: ما أجرأك عليه.
وحكي الزَّجَّاجُّ: ما أبقاهُمْ على النَّار، من قولِهِم: «مَا أَصْبَرَ فُلاَناً على الحَبْس» ، أي: ما أبقاهُ فيه.
والثالث: ويُعْزَى له أيضاً: أنها نكرةٌ موصوفةٌ وهي على الأقوال الأربعة في مَحَلِّ رفع بالابتداءِ، وخبرها على القَوْلين الأولَيْن: الجملةُ الفعليَّة بعدَها، وعلى قوْلي الأخْفَش] : يكون الخبر مَحذوفاً فإنَّ الجملة بعدها إما أن تكون صلةً، أو صفةً وكذلك اختلفُوا في أفْعَل الواقع بعدها، أهو اسمٌ؟ وهو قول الكوفيِّن، أم فعل؟ وهو الصحيحُ، ويترتَّب على هذا الخلاَفِ خلافٌ في نصْب الاسْمِ بعده، هَلْ هو مفعولٌ به، أو مشبَّهة بالمعفول به، ولكلٍّ مِنَ المذْهَبَين دلائلُ، واعتراضات وأجوبةٌ ليس هذا موضعها.
ولمراد بالتعجُّب هنا، وفي سائر القُرْآن: الإعلامُ بحالهم؛ إنَّها ينبغي أنْ يتعجَّب منها، إلا فالتعجب مستحيلٌ في حقِّه تعالى، ومعنى عَلَى النَّارِ، أي: على عمل أهْل النار، قاله الكِسَائيُّ، وهذا من مجاز الكَلاَمِ.
الخامس: أنَّها نافيةٌ، أَي: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} . نقله أَبُوا البقاء(3/188)
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله} : اختلفُوا في مَحَلِّ: «ذَلِكَ» من الإعراب فقيل: رفعٌ، وقيل: نَسْبٌ والقائلُونَ بأنَّه رفْعٌ، اختلفوا على ثلاثة أقْوَال.
أحدها: أَنَّهُ فاعلٌ بفعلٍ محذوف، أي: وجب لَهُمْ ذلك.
الثاني: أن «ذَلِكَ» مبتدأٌ، و «بِأَنَّ اللهَ» خبره، أي: ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أنزل الله في القرآن من استحقاق عَذَاب الكَافِرِ.
والثالث: أنَّهُ خَبَرٌ، والمبتدأ محذوفٌ، أَي: الأمرُ ذلك، والإشارة إلى العَذَابِ، ومَنْ قال بأنَّه نصب، قدَّره: «فعلنا ذلك» [والباءُ متعلِّقة بذلك المَحْذُوف، ومَعْنَاها السببية.
فصل في اختلافهم في الإشارة ب «ذلك»
اختلفوا في الإشارة بقوله «ذلك» ] إلى ماذا؟ على قولين:
الأوَّل: أنَّهُ إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الوعيد على الكِتْمان، أي: إِنَّما كان لأَنَّ الله أنْزَلَ الكتابَ بالحَقِّ في صفَةِ محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإنَّ هؤلاء اليَهُود والنصارى لأجْل مشاقَّة الرَّسُول عليه الصَّلاة والسَّلام يُخْفُونَه، ويوقِعُون التُّهمة فيه، فلا جَرَم، استحقُّو ذلك الوعيد الشديد، ثم تقدَّم في الوعيد أُمُورٌ:
أقربُها: أنَّهم اشتروا العذابَ بالمَغْفرة.
ثانيها: اشْتَرُوا الضَّلالة بالهُدى.
ثالثها: أَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أليماً.
رابعها: أَنَّ الله لا يزكِّيهم.
خامسها: أَنَّ الله لا يكلِّمهم.
فقوله: «ذَلِكَ» يصلُحُ أَنْ يكون إشارة إلى [كلِّ واحدٍ منها، وأن يكونَ إشارةً إلى المَجْمُوع.
والقول الثاني: أَنَّ ذلك إشارةٌ إلى] ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفَتَهِم أَمْرَ الله، وكتمانِهِمْ ما أَنْزَل الله فبيَّن تبارك وتعالى أَنَّ ذلك إِنَّما هُوَا من أَجلِ الكتابَ بالحَقِّ وقد نزل فيه أَنَّ هؤلاء الكُفَّارَ لا يؤمِنُون، ولا يَنْقَادُونَ، ولا يَكُون منهم إلاَّ الإصْرَار على الكُفْرِ؛ كقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} [البقرة: 6 - 7] وقوله: «بالحَقِّ» ، أَي: بالصِّدق، وقيل: ببيان الحقِّ، والمرادُ من «الكتاب» : يحتمل أن يكُونَ التَّوراة، والإنجيل، ويحتمل أن يكُون(3/189)
القرآن، فإن كَانَ الأَوَّلَ، كان المعنى وإن الَّذين اخْتلَفُوا في تأويله، وتحريفه، لَفِي شِقَاقٍ بعيدٍ وإِنْ كان الثَّاني، كان المعنى: وإن الذين اختلَفُوا في كَونه حقّاً منزَّلاً من عند الله تعالى لَفِي شقَاقٍ بعيدٍ.
فصل في المراد باختلافهم
والمراد باختلافهم:
إِنْ قلنا المراد ب «الكَتِابِ» هو القُرْآن، كان اختلافُهُم فيه: أَنَّ بعضَهُ قال: هو كَهَانَةٌ، وقال آخرون هو سِحْرٌ، وآخرونَ قالُوا: هو رجْزٌ، ورابعٌ قال أساطيرُ الأَوَّلين وخامسٌ قال: إِنَّه كلامٌ مختلف. وإنْ قلنا: المراد ب «الكتَابِ» هو التوراةُ والإِنْجيلُ، فالمراد باختلافهم يحتلم وجُوهاً.
أحدها: اختلافُهُمْ في دَلاَلة التَّوراة على نُبُوَّة المسيح، فاليهود قالوا: إِنَّها دالَّةٌ على القَدْح في عيسى؛ والنصارَى قالوا: إِنَّها دالَّة على نبوَّته.
وثانيها: اختلافهُم في الآياتِ الدالَّة على نُبُوَّة محمَّد - عليه السلام - فَذَكَرَ كلُّ واحدٍ منهم له تأويلاً فاسداً.
وثالثها: قال أبو مُسْلِم: قوله: «اخْتَلَفُوا» من باب «افْتَعَلَ» الذي كون مكان «فَعَلَ» ، كما يقال كَسَبَ واكْتَّسَبَ، وعَمِلَ واعْتَمَلَ، وكَتَبَ واكْتَتَبَ، وفَعَلَ وافْتَعَلَ، ويكون معنى قوله: {إِنَّ الذين اختلفوا} أي: توارَثُوه وصارُوا خُلَفَاء فيه؛ كقوله تبارك وتعالى
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169] وقوله {إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار} [يونس: 6] أي: كل واحد منهما يأتِي خَلْف الآخر، [وقوله {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} [الفرقان: 62] . أي كُلُّ واحدٍ منهما يخلفُ الآخر] ، وفي الآية الكريمة تأويلاتٌ ثلاثٌ أُخَرُ.
أحدها: أن يكونَ المراد ب «الكِتَابِ» جنْسَ ما أنزل الله، والمراد ب {الذين اختلفوا فِي الكتاب} الذين اختلفَ قولهُمْ في الكتاب، فقلبوا بعضَ كُتُب الله، وهي التوراة والإنجيلُ؛ لأجل عداوتك، وهم فيما بينهم في شقاقٍ بعيدٍ، ومنازعة شديدةٍ، فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتَّفاقهم على العداوة؛ فإنه ليسَ بينهم مؤالَفَة وموافَقَةٌ.
وثانيها: كأنه تعالى يقُولُ: هؤلاءِ، وإن اختلفُوا فيما بينهم، فإنَّهم كالمتفقين على عَدَاوتك، وغاية المشاقَّة لك، فلهذا خَصَّهم الله بذلك الوَعِيدِ.
أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف، فإن كل واحد منهم يكذب(3/190)
صاحبه، ويشاقُّه، وينازعه، وإذا كان كذلك، فقد عرفت كذبَهُمْ، بقولهم، فلا يكُونُ قدحُهُمْ فيك قَدْحاً ألبَتَّة.(3/191)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قرأ الجُمْهُور برفع «البِرُّ» وحمزة، وحفصٌ عن عاصم بنصبه، فقراءةُ الجُمْهُور على أنَّه اسمُ «لَيْسَ» و «أَنْ تُولُّوا» خبرها في تأويل مصدّرٍ، أي: ليس البِرُّ تَوْلِيَتكُمْ، ورجِّحت هذه القراءةُ مِنْ حيث إنَّه ولي الفعل مرفوعة قَبْل منصوبه، وأَمَّا قراءة حمزة وحَفْصٍ ف «البرُّ» الخبرٌ مقدَّمٌ، و «أَنْ تُوَلُّوا» اسمُها في تأويل مصدرٍ، ورجِّحت هذه القراءة بأنَّ المصدر المؤَوَّل أعرفُ من المحلَّى بالألف واللام؛ لأنَّهُ يشبه الضَّمير، من حيث إِنَّهُ لا يوصَفُ؛ ولا يوصف به، والأعْرَفُ ينبغي أنْ يُجْعَل الاسْمَ وغيْر الأعْرَفِ الخَبَرِ؛ وتقديمُ خَبَر «لَيْسَ» على اسمها قليلٌ؛ حتى زَعَم منْعَهُ جماعةٌ [منْهم ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ، قال: لأنَّها تشبه «مَا» المجازيَّة ولأَنَّها حرفٌ على قول جماعةٍ، لكنه] محجوج بهذه القراءة المتواترة، وبقول الشاعر [الطويل]
910 - سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ ... فَلَيْسَ سَوَاءَ عَاِمٌ وَجَهُولُ
وقال آخر: [الطويل]
911 - أَلَيْسَ عَظِيماً أَنْ تُلِمُ مُلِمَّةٌ ... وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِي الخُطُوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحف أُبَيٍّ، وعبْد الله «بِأَنْ تُوَلُّوا» بزيادةِ الباء، وهي واضحة؛ فإن الباء تزادُ في خبر «لَيْسَ» كثيراً.(3/191)
فصل في الاختلاف في أصل ليس
الجمهُور على أن «لَيْسَ» فعلٌ وقال بعضُهُمْ إنه حرفٌ حجَّة القائلين بأنَّها فعلٌ:
اتصالُ الضمائر بها الَّتي لا تتصلُ إلاَّ بالأَفْعال؛ كقَولك، «لَسْتُ، ولَسْنَا، ولَسْتُمْ» ، و «القَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ» ، وهذا منقوضٌ بقوله: «إِنَّنِي، ولَيْتَنِي، ولَعَلَّني» .
وحجَّة مَنْ قال بأنَّهَا حرفٌ أمور:
الأوَّل: أنَّها لو كانت فعلاً، لكانت فعلاً ماضِياً ولا يجوزُ أن تكون فعلاً ماضياً؛ لاتفاق الجمهُور على أَنَّهُ لِنَفيِ الحالِ، والقائلُونَ بأَنَّه فعْلٌ قالوا: إنه فعْلٌ ماضٍ.
وثانيها: أَنَّهُ يدخلُ على الفعْلِ، فنقول: «لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ» ، والفعلُ لا يدخُلُ على الفعْل عَقْلاً ونقلاً.
وقولُ مَنْ قال: «إن لَيْسَ» داخلٌ على ضمير القصَّة، والشأن، وكونُ هذه الجملةِ تفسيراً لذلك الضَّمير ضعيفٌ؛ فإنَّهُ لو جاز ذلك، جاز مثلُه في «مَا» .
وثالثها: أَنَّ الحرف «مَا» يظهرُ في معنَاهُ في هذه الكَلِمَة، فإنك لَو قُلْتَ: «لَيْسَ زَيْدُ» لم يتمَّ الكلام، لا بُدَّ أن تقول: «لَيْسَ زَيْدٌ قَائِماً» .
ورابعُها: أن «لَيْسَ» لو كان فعْلاً، لكان «ما» فعلاً، وهذا باطلٌ، فذاك باطلٌ، بيان الملازمةِ: ان «لَيْسَ» لو كان فعْلاً لكان ذلك لدلالَتِهِ على حُصُول معنى السَّلْب مقترناً بزمان مخْصُوصٍ، وهو الحالُ، وهذا المعْنَى قائمٌ في «مَا» فيجبُ أن تكونَ «مَا» فعْلاً، فلَمَّا لم يكُنْ هذا فعْلاً، فكذلك القَوْل في ذلك أو تكون في عبارةٍ أُخْرَى: «لَيْسَ» كلمةٌ جامدةٌ، وضعت لنَفْي الحالِ، فأشبهت «مَا» في نفْي الفعليَّة بذلك.
وخامسُها: أنَّك تَصِلُ «مَا» بالأفْعَال الماضيةِ، فتقولُ: «مَا أَحْسَنَ زَيْداً» ، ولا يجوزُ أنْ تصلَ «مَا» ب «لَيْسَ» فلا تَقُولُ: «مَا لَيْسَ زَيْدٌ يَذْكُرُكَ» .
وسادسها: أَنَّه على غير أوزَانِ الفِعْل.
وأجابَ القَاضِي، والقائلُونَ بالفعليَّة عن الأَوَّل بأنَّ «لَيْسَ» قد يجيءُ لنفي المَاضِي بمعنَاه؛ كقولهم: «جَاءَنِي القَوْمُ لَيْسَ زَيْداً» .
وعن الثَّاني أنه منقوضٌ بقولم: «أَخَذَ يَفْعَلُ كَذَا» .
وعن الثَّالث: أنه منقوضٌ بسائر الأفعال النَّاقِصَة.
وعن الرَّابع: أنَّ المماثَلَة مِنْ بعض الوجوه لا تَقتضي المماثلة من كُلِّ الوُجُوه.
وعن الخَامِس: أَنَّ ذلك إِنَّمَا امتنع مِنْ قِبَلِ أَنَّ: «مَا» للحال و «لَيْسَ» للماضي، فلا يمكنُ الجَمْع بينهما.(3/192)
وعن السَّادس: أن تغير البناءِ وإن كان على خلافِ الأَصل، لكنَّه يجبُ المصيرُ إِلَيْه؛ لدلالةِ العَمَل بما ذكر، وذكَرُوا وجوهاً أُخَرَ مخالفةً للنَّحْوِ.
قوله: «قِبَلَ» منصوبٌ على الظَّرْف المكانيِّ بقوله: «تُوَلُّوا» ، وحقيقةُ قولِكَ: «زَيْدٌ قِبَلَكَ» أي في المكان الَّذي يقابلُكَ فيه وقد يُتَّسَعُ فيه، فيكون بمعنى «عِنْدَ» ؛ نحو قولك: «قِبَلَ زَيْدٍ دَيْنٌ» ، أي «عِنْدَهُ ديْنٌ» .
فصل في اختلافهم في عموم هذا الخطاب وخصوصه.
اختلفوا: هَلْ هذا الخطاب عَامٌّ، أو خاصٌّ؟ فقال قتادةُ، ومقاتلُ بْنُ حَيَّان: لمَّا شددوا أهل الكتاب بالثبات على التوجُّه نحو بيْت المَقْدِس، قال تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} هذه الطريقة، {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} .
وقال مجاهدٌ وعطاءٌ والضَّحَّاك - رضِيَ الله عنهم -: المرادُ مخاطبةُ المؤمنين، لَمَّا ظنُّوا هذا الكلام.
وقال بعضُهُم: هو خطابٌ للكلّ؛ لأنَّه لما حُوِّلت القبلةُ، حَصَلَ للمؤمنينَ الاغتباطُ بهذه القِبْلة، وحَصَلَ منْهم التشديدُ في هذه القِبْلَة؛ حتَّى ظنُّوا أنَّه الغرضُ الأكْبَر في الدِّين، فبعثهم الله تعالى بهذا الخِطَاب استيفاءَ جميع الطاعات والعبادات، ولَيْسَ البرَّ بأنْ تولُّوا وجوهَكُم شَرْقاً وغرباً، وإِنَّمَا البِرُّ كَيْتَ، وكَيْتَ، وكَيْتَ، فكأنَّه تبارك وتعالى قال: ليْس البرُّ المطلوبُ هو أمْرَ القِبْلة، بل البِرُّ المطلوبُ هذه الخصالُ الَّتي عدَّدتُّها.
فصل في المشار إليه بالضمير
قال القفَّال: والذي عندَنا أنَّه إشارةٌ إلى السُّفَهاء الذين طَعَنُوا في المُسْلِمين، وقالُوا: ما ولاَّهم عن قبلتهم الَّتي كانُوا علَيْها؟ مع أنَّ اليَهُود كانُوا يستَقْبلون المَغْرب، والنَّصَارَى كانُوا يستقْبِلُون المَشْرِق، فقال الله تعالى: إنَّ صَفَةَ البِرِّ لا تحصُلُ باستقبالِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، بل البرُّ يحصُلُ بأُمُر.
منها: الإيمانُ بالله، وأهْلُ الكتابِ أخَلُّوا بذلك، فَأَمَّا اليهود، فلقولهم بالتَّجْسِيم، ولقَوْلِهِم بأنَّ عُزَيْراً ابْنُ اللهِ، وأَمَّا النصارَىح فلقولهم: المَسِيحُ ابْنُ الله، واليهودُ وصَفُوا الله تعالى بالبُخْل.
وثانيها: الإيمانُ باليَوْم الآخِر، واليهود أخلُّوا بذلك، وقالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] والنصارى أنْكَرُوا المعادَ الجِسْمانيَّ، وكلُّ ذلك تكذيبٌ باليوم الآخر.(3/193)
وثالثها: الإيمانُ بالمَلاَئكة، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ أظْهَرُوا عداوة جِبْرِيلَ.
ورابعها: الإيمانُ بكُتُب الله تعالى، واليهودُ أخلُّوا بذلك، لأن مع قيام الدَّلائل على أنَّ القرآنَ كتابُ الله تعالى رَدُّوه ولم يقْبلُوه؛ قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] .
وخامسها: الإيمانُ بِالنَّبيِّين، واليَهُود أخلُّوا بذلك؛ حيث قتلوا الأنْبياءَ؛ على ما قال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} [البقرة: 61] وطَعَنُوا في نبوَّة محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وسادسها: بَذْلُ الأمْوَالِ علَى وَفْقِ أمْرِ الله تعالى، واليهود أخلُّوا بذلك؛ لأنَّهم يُلْقُون الشُّبُهات؛ لِطَلَب المَال القَليلِح قال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} .
وسابعها: إقَامة الصَّلاة، وإيتاءُ الزَّكاة، واليهودُ كانوا يمنَعُون النَّاسَ منها.
وثامنها: الوفَاءُ بالعَهْد، واليهودُ نَقَضُوا العَهْد؛ قال تبارك وتعالى: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] .
وتاسعها: قوله: {فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس} والمرادُ بذلك المحافظةُ على الجهادِ، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ كانُوا في غاية الخَوْف، والجبْنِ؛ قال تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} [الحشر: 14] .
فإن قيل: نفى تبارك وتعالى أنْ يكُون التوجُّه إلى القْلَلةِ بِرّاً، ثم حَكَم بأنَّ البِرَّ بمجموع أمُر: أحدُها: الصَّلواتُ، ولا بُدَّ فيها من الاستقبال، فيلزَمُ التناقضُ.
فالجوابُ: أنَّ المفسِّرين اختلفُوا على أقْوَال:
منها: أنَّ قوله تعالى: «لَيْسَ البِرّ» نَفْيٌ لكمالِ البِرِّ ولَيْسَ نَفْياً لأصْله؛ كأنه قال: «لَيْسَ البِرُّ كلُّه هو هذا» ؛ فإنَّ البِرَّ اسمٌ من أسماء الخصالِ الحَمِيدة، واستقبال القبلة واحِدٌ منها، فلا يكونُ ذلك تمامَ البِرِّ.
الثاني: أنْ يكُونَ هذا نفياً لأصْلِ كَوْنه بِرّاً؛ لأن استقبالَهُم للمشْرِق والمَغْرِب كان خَطَأً في وقُتِ النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحِينَمَا نَسَخ الله تباركَ وتعالى ذلك؛ بل كان ذلِكَ ممَّا لا يجُوز؛ لأَنَّهُ عمل بمَنْسُوخ قد نهى الله عَنءه، وَمَا كَانَ كذلك، فهو لا يُعَدُّ من البِرِّ.
الثالث: أنَّ استقبالَ القِبْلة لا يكُون بِرّاً، إذ البِرُّ يتقدَّمه معرفةُ الله تعَالى، وإنَّما يكون بِرّاً، إذا أتَى بها مع الإيمانِ بِالله ورسُوله، فالإتيانُ بها دُونَ هذا الشَّرْط، لا يكونُ مِنْ أَفْعَال البِرِّ، إلاَّ إذا أتِيَ بها مع شَرْطه، كما أنَّ السَّجْدة لا تكُونُ مِنْ أفْعال البِرِّ، إلاَّ إذا أَتَى بها مع الإيمَانِ بالله ورسُوله.(3/194)
ورُوِيَ أنَّه لَمَّا حُوِّلَت القبْلة، كَثُرَ الخَوْضُ في نَسْخِهَا، كأنه لا يُرَاعَى بطاعة الله تعالى إلاَّ الاستقبالُ؛ فأنْزَلَ الله تعالَى هذه الآيَةَ؛ كأنه تبارك وتعالى قال: «ما هذا الخَوضُ الشَّديدُ في أَمْر القِبْلَةِ مع الإعْرَاضِ عَنْ كُلِّ أَرْكَانِ الدِّين» .
قوله
{ولكن
البر مَنْ آمَنَ بالله} في هذه الآية خَمْسَة أوجه:
أحدها: أن «البِرَّ» اسم فاعل من: بَرَّ يَبَرُّ، فهو «برُّ» والأصل: «بَرِرٌ» بكسر الراء الأولى بزنة «فطِنٍ» فلمَّا أريد الإدغام، نقلت كسرة الرَّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها؛ فعلى هذه القراءة: لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويلٍ؛ لأنَّ البِرَّ من صفات الأعيان؛ كأنه قيل: «وَلكِنَّ الشخْصَ البِرَّ مَنْ آمن» .
الثاني: انَّ في الكلام حذف مضافٍ من الأوَّل، تقديره: «ولكنَّ ذا البِرِّ من آمن» ؛ كقوله تعالى: {والعاقبة للتقوى} [طه: 132] أي: لذي التقوى؛ وقوله {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله} [آل عمران: 163] أي: ذوو درجاتٍ، قاله الزَّجَّاج.
الثالث: أن يكون الحذف من الثاني: أي: «وَلكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ» وهذا تخريجُ سيبويه، واختياره، وإنَّما اختاره؛ لأنَّ السابق، إنَّما هو نفي كون البِرِّ هو تولية الوجهِ قبل المشرق والمغرب، فالذي يستدركُ، إنَّما هو من جنس ما ينفى؛ ونظير ذلك: «لَيْسَ الكَرَمُ أنْ تَبْذُلَ دِرْهَماً، ولكَّن الكَرَمَ بذل الآلاَفِ» ولا يناسبُ: «ولكِنَّ الكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الآلاَفَ» وحذف المضاف كثيرٌ في الكلام، كقوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93] ، أي: حُبَّ العجل، ويقولون: الجود حاتم، والشعير زهير، والشجاعة عنترة، [وقال الشاعر: [الطويل]
912 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فَإِنَّما هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
أي: ذات إقبالٍ، وذات إدبار.
وقال النَّابغة: [المتقارب]
913 - وَكَيْفَ نُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ(3/195)
أي: كخلالة أبي مرحب] ، وهذا اختيار الفرَّاء، والزَّجَّاج، وقطرب.
وقال أبو عليٍّ: ومثل هذه الآية الكريمة قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} [التوبة: 19] ، ثم قال: {كَمَنْ آمَنَ بالله} [التوبة: 19] ؛ ليقع التمثيل بين مصدرين، أو بين فاعلين؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدرٍ، وفاعلٍ.
الرابع: أن يطلق المصدر على الشَّخص مبالغةً؛ نحو: رجل عدل.
ويحكى عن المبرِّد: «لو كنت ممَّن يقرأ القرآن، لقرأت» وَلَكِنَّ البَرَّ «بفتح الباء» وإنَّما قال ذلك؛ لأن «البَرَّ» اسم فاعل، نقول بَرَّ يَبَرُّ، فهو بَارٌّ، فتارة تأتي به على فاعل، وتارة على فعل.
الخامس: أن امصدر وقع موقع اسم الفاعل، نحو: رجل عدلٌ، أي: عادل، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه، نحو: أقائماً، وقد قعد الناس؛ في قولٍ، هذا رأي الكوفيين، والأولى فيه ادِّعاء أنه محذوفٌ من فاعلٍ، وأن أصله: بارٌّ، فجعل «برّاً» ، وأصله ك «سِرٍّ» ، و «رَبٌّ» أصله «رابٌّ» ، وقد تقدم.
وجعل الفراء «مَنْ آمَنَ» واقعاً موقع الإيمان، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه؛ كأنه قال: «وَلَكِنَّ البِرَّ الإيمانُ باللهِ» قال: والعَرَبُ تجعل الاسم خبراً للفعل، وأنشد في ذلك: [الطويل]
914 - لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى ... وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي
جعل نبات اللحية خبراً للفتيان، والمعنى: لعمرك ما الفتوَّة أن تنبت اللِّحى.
وقرأ نافعٌ، وابن عامر: «وَلَكِن البِرُّ» هنا وفيما بعد بتخفيف «لَكِنْ» وبرفع «البِرُّ» ، والباقون بالتَّشديد، والنَّصب، وهما واضحتان ممَّا في قوله: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} [البقرة: 102] .
وقرئ: «وَلِكنَّ البَارَّ» بالألف، وهي تقوِّي أنَّ «البِرَّ» بالكسر المراد به اسم الفاعل، لا المصدر.
قال أبو عُبَيْدَةَ: «البِرُ» هاهنا بمعنى البَارِّ، كقوله: {والعاقبة للتقوى} [طه: 132] أي: للمتَّقين، ومنه قوله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] أي: غائراً، وقالت الخنساء: [البسيط](3/196)
915 - وَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ ... أي: مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر، وقيل: البر: كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة، قال تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الإنسان: 13] .
ووحَّد الكتاب لفظاً، والمراد به الجمع؛ وحسَّن ذلك كونه مصدراً في الأصل، أو أراد به الجنس، أو أراد به القرآن، فإنَّ من آمن به، فقد آمن بكل الكتب، فإنه شاهدٌ لها بالصِّحَّة.
فصل فيما اعتبر الله تعالى في تحقيق البرِّ
اعلم أنَّ الله تعالى اعتبر في تحقيق البِرِّ أموراً:
أحدها: الإيمانُ بخمسة أشياء:
أولهاك الإيمان بالله، ولا يحصل ذلك إلاَّ باعلم بذاته المخصوصة، وبما يجب، ويجوز، ويستحيل عليه، ولا يحصل العلم بهذه الأمور إلاَّ بالعلم بالدلائل الدالَّة عليها، فيدخل فيه العلم بحدوث العالم، والعلم بالأصول التي يتفرَّع عليها حدوث العالمن ويدخل فيه العالم.(3/197)
بوجوده، وقدرته، وبقائه، وكونه عالماً بكلِّ المعلومات قادراً على كلِّ الممكنات.(3/198)
وثانيها: الإيمان باليوم الآخر، وهذا متفرِّع على الأوَّل؛ لأنَّا إن لم نعلم قدرته على جميع الممكنات، لا يمكننا أن نعلم صحَّة الحشر والنَّشر.(3/199)
وثالثها: الإيمان بالملائكة.(3/200)
ورابعها: الإيمان بالكتب.(3/201)
وخامسها: الإيمان بالرسل.(3/202)
فإن قيل: لا طريق لنا غلى العلم بوجود الملائكة، ولا إلى العلم بصدق الكتب، إلاَّ بواسطة صدق الرُّسل، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب، فلم قدَّم الملائكة والكتب في الذِّكر على الرُّسل؟
فالجواب: أنَّ الأمر، إن كان كذلك في عقولنا، إلاَّ انَّ الترتيب على العطس؛ لأنَّ الملك يوجد أوَّلاً، ثم صحل بواسطة تبليغه نزول الكتب إلى الرسل، فالمراعى في هذه(3/203)
الآية ترتيب الوجود الخارجيِّ، لا الترتيب الذهنيُّ؛ فدخل تحت الإيمان بالله معرفته، ودخل تحت الإيمان باليوم الآخر معرفة ما يلزم من أحكام العقاب، والثَّواب، والمعاد، ودخل تحت الإيمان بالملائكة ما يتَّصل بإتيانهم الرسالة إلى الأنبياء؛ ليؤدُّوها إلينا إلى غير ذلك ممَّا يجب أن يعلم من أحوال الملائكة، ودخل تحت الإيمان بالكتاب القرآن، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه، ودخل تحت الإيمان بالنَّبِيِّين الإيمان بنبوِّتهم، وصحَّة شريعتهم، فلم يبق شيءٌ مما يجب الإيمان به، إلاَّ دخل تحت هذه الآية.
وتقرير آخر: وهو أنَّ للمكلَّف مبتدأً ووسطاً، ونهايةً، ومعرفة المبدأ والنهاية؛ هو المراد من الإيمان بالله تعالى، واليوم الآخر.
وأمَّا معرفة الوسط، فلا يتمُّ إلاَّ بالرِّسالة، وهي لا تتمُّ إلا بثلاثة أمور:
الملك الآتي بالوحي، ونفس الوحي، وهو الكتاب، والموحى إليه، وهو الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وفي تقديمه الإيمان على أفعال الجوارح؛ من إيتاء المال، والصلاة، والزَّكاة - تنبيهٌ على أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح.
الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقيق البرِّ قوله: {وَآتَى المال على حُبِّهِ} [البقرة: 177] ، فالجار والمجرور في محلِّ نصب على الحال اعامل في «آتي» أي: آتي المال حال محبَّته له، واختياره إيَّاه، والحُبُّ: مصدر «حَبَبْتُ» ، لغةً في «أَحْبَبْتُ» ؛ كما تقدَّم، ويجوز أن يكون مصدر الرُّباعيِّ على حذف الزوائد، ويجوز أن يكون اسم مصدر، وهو الإحباب؛ كقوله: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] والضمير المضاف إليه هذا المصدر فيه أربعة أقوال:
أظهرها: أنه يعود على المال؛ لأنَّه أبلغ من غيره.
قال ابن عبَّاس، وابن مسعود: «هو أن تُؤْتيَهُ، وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تَأْمُلُ الغِنَى، وتخشَى الفَقْر، وَلاَ تُهْمِلْ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنِ كَذَا، ولِفُلاَنِ كذا» وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.
أمَّا من حيث اللفظ: رواية أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يَا رَسُولَ الله، أيُّ الصَّدَقةِ أعْظَمُ أجراً؟ قال: «أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ» وذكره.(3/204)
الثاني: أنه يعود على الإيتاء المفهوم من قوله تعالى: «آتى» ، أي: على حبِّ الإيتاء؛ كأنه قيل: يعطي، ويحبُّ الإعطاء؛ رغبةً في ثواب الله.
قال شهاب الدِّين: وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى.
أما من حيث اللفظ: فإنَّ عود الضمير على غير مذكور، بل مدلولٍ عليه بشيء - خلاف الأصل.
وأمَّا من حيث المعنى: فإنَّ المدح لا يحسن على فعل شيء يحبه الإنسان، لأنَّ هواه يساعده على ذلك.
قال زهير: [الطويل]
916 - تَرَاهُ إذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً ... كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ
الثالث: ان يعود على الله تعالى، يعني: «يُعْطُون المَال على حُبِّ الله» ؛ وعلى هذه الأقوال الثَّلاثة يكون المصدر مضافاً للمفعول، وعلى هذا، فالظاهر أنَّ فاعل هذا المصدر هو ضمير المؤتي، وقيل: هو ضمير المؤتون، أي: «حبِّهم له» ، واحتياجهم إليه، وليس بذلك، و «ذَوِي القُرْبَى» على هذه الأقوال الثلاثة: منصوبٌ ب «أتى» فقط، لا بالمصدر؛ لأنَّه قد استوفى مفعوله.
الرابع: أن يعود على «مَنْ آمَنَ» ، وهو المؤتي للمال، فيكون المصدر على هذا مضافاً للفاعل، وعلى هذا: فمفعول هذا المصدر يحتمل أن يكون محذوفاً، أي: «حُبِّه المَالَ» ، وأن يكون ذَوِي القُرْبَى، إلا أنه لا يكون فيه تلك المبالغة التي فيما قبله.
قال ابْنُ عَطِيَّة: ويجيء قوله «عَلَى حُبِّهِ» اعتراضاً بليغاً في أثناء القول.
قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللهُ -: فإن أراد بالاعتراض المصطلح عليه، فليس بجيِّد، فإنَّ ذلك من خصوصيَّات الجملة الَّتي لا محلَّ لها، وهذا مفردٌ، وله محلٌّ، وإن أراد به الفصل بالحال بين المفعولين، وهما «المال» ، و «ذَوِي» ، فيصحُّ، إلا انه فيه إلباسٌ.
فصل في معنى الإيتاء
اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء، فقال قومٌ: إنَّها الزكاة، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه عطف الزكاة عليه، بقوله: {وَأَقَامَ الصلاة} [البقرة: 177] ومن حق المعطوف، والمعطوف عليه المغايرة، ثم لا يخلو: إمَّا أن يكون تطوُّعاً: أو واجباً، ولا(3/205)
جائز أن يكون تطوُّعاً؛ لأنه قال في آخر الآية الكريمة: {وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177] ، وقف التقوى عليه، ولو كانه تطوُّعاً، لما وقف التقوى عليه، وإذا ثبت أنَّه واجبٌ، وأنه غير الزكاة، ففيه أقوال:
أحدها: أنه عبارة عن دفع الحاجات الضَّروريَّة؛ مثل: إطعام المضطرِّ؛ ويدل عليه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لاَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَاناً، وجَارُهُ طَاوٍ إلى جَنْبِهِ»
ورُوِيَ عن فاطمة بنت قيس: «إنَّ في المال حقّاً سوى الزَّكاة» ثم تلت «وآتى المَالَ عَلَى حُبِّهِ» .
وحكي عن الشَّعْبِيِّ أنَّه سئل عمَّن له مال، فأدى زكاته، فهل عليه سواه؟ فقال: نعم، يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وأيضاً: فلا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضَّرورة، وجب على النَّاس أن يعطوه مقدار دفع الضَّرورة.
فإن قيل: الزَّكاة نسخت الحقوق الماليَّة.
فالجواب: أنَّه - عليه السَّلام - قال: «في المَالِ حٌقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ» ؛ وقول الرسول أولى، وأجمعت الأمَّة على أنه يجب أن يدفع إلى المضطرِّ ما يدفع به الضَّرورة، وإن سلَّمنا أن الزكاة نسخت كلَّ حقٍّ، فالمراد أنَّها نسخت الحقوق المقدَّرة، أمَّا الذي لا يكون مقدَّراً، فغير منسوخ؛ بدليل أنه يلزم النفقة على الأقارب، والمماليك.(3/206)
فإن قيل: إذا صحَّ هذا التأويل، فما الحكمة في هذا التَّرتيب؟!
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه تبارك وتعالى قدَّم الأولى فالأولى؛ لأنَّ الفقير القريب أولى بالصَّدقة من غيره، لأنَّ يجمع فيه بين الصلة، والصَّدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه ف صرف المال إليه، ولذلك يستحقُّ بها الإرث، ويحجر على ذي المال بسببه في الوصيَّة، حتى لا يتمكَّن من الوصية، إلا في الثُّلث، ولذلك كانت الوصيَّة للأقارب من الواجبات؛ لقوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف} [البقرة: 180] .
وإن كانت نسخت عند بعضهم؛ فلهذه الوجوه، قدَّم ذوي القربى، ثم أتبعه باليتامى؛ لأنَّ الصغير الفقير الذي لا والد له، ولا كاسب، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه، ثم أتبعهم بالمساكين؛ لأنَّ الحاجة قد تشتدُّ بهم، ثم ذكر السَّائلين، وفي الرقاب؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدَّم.
وثانيها: أن علم المرء بشدَّة حاجة قريبه أقوى، ثم بحاجة الأيتام، ثم بحاجة المساكين ثم على هذا الَّسق.
وثالثها: أن ذا القربى مسكينٌ، وله صفةٌ زائدةٌ تخصُّه؛ لأن شدَّة حاجته تغمُّ صاحب المال، وتؤذيث قلبه، ودفع الضَّرر عن النَّفس مقدَّم على دفع الضرر عن الغير؛ فلذلك بدأ الله بذي القربى، ثم باليتامى؛ لأن الغمَّ الحاصل بسبب عجز الصِّغار عن الطَّعام والشَّراب أشدُّ من الغمٍّ الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما، ثم المساكين؛ لأنَّ الغمَّ الحاصل بسببهم أخفُّ من الغم الحاصل بسبب الصَّغار.
وأمَّا ابن السَّبيل، فقد يكون غنيّاً، وقد تشتدُّ حاجته في الوقت، والسَّائل قد يكون غنيّاً، ويظهر شدَّة الحاجة، وأخَّر المكاتب؛ لأنَّ إزالة الرق ليست في محلِّ الحاجة الشَّديد’.
القول الثاني: أنَّ المراد بإيتاء المال: ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عند ذكره الإبل، قال: «إنَّ فِيهَا حَقّاً؛ وهو إطراق فحلها، وإعارة دَلْوها» ، وهذا بعيدٌ؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختصُّ به ابن السَّبيل، والسائل والمكاتب.
القول الثالث: أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجباً، ثم نسخ بالزَّكاة، وهذا أيضاً ضعيفٌ، لأنه تبارك وتعالى جمع في هذه الآية الكريمة بين هذا الإيتاء، وبين الزكاة.
وقال بعضهم: المراد صدقة التطوُّع.
فصل في الوجوه الإعرابية لقوله «ذَوِي»
قوله «ذَوَي» فيه وجهان:(3/207)
أحدهما - وهو الظاهر - أنه مفعول ب «آتى» وهل هو الأول، و «المَالَ» هو الثاني؛ كما هو قول الجمهور، وقدِّم للاهتمام، أو هو الثاني: فلا تقديم، ولا تأخير؛ كما هو قول السُّهَيلِيِّ؟
والثاني: أنه منصوب ب «حُبِّهِ» ؛ على أن الضمير يعود على «مَنْ آمَنَ» ؛ كما تقدَّم.
فصل في المراد ب «ذَوِي القُرْبَى»
من النَّاس من حمل ذَوِي القُرْبَى على المذكور في آية النفل والغنيمة، وأكثر المفسِّرين على ذَوِي القُرْبَى للمعطين، وهو الصحيح؛ لأنَّهم به أخصُّ، وهم الذين يقربون منه بولادة الأوبين، أو بولادة الجدَّين، أو أبي الجدَّين، ولا يقتصر على ذوي الرَّحم المحرم كما حكي عن قوم؛ لأنَّ امحرميَّة حكم شرعيٌّ، والقرابة لفظةٌ لغويةٌ موضوعةٌ للقرابة في النَّسب، وأن تفاوتوا في القرب والبعد.
قوله «واليَتَامى» : ظاهره أنه مصوب، عطفاً على ذوي.
وقال بعضهم: هو عطف على «القرْبَى» أي: «آتى ذَوي اليَتَامى» ، أي: أولياءهم؛ لأن الإيتاء إلى اليتامى لا يصحُّ؛ فإن دفع المال إلى اليتيم الذي لا يميِّز، ولا يعرف وجوه المنفعة يكون مخطئاً، ولا حاجة إلى هذا، فإنَّ الإيتاء يصدق، وإن لم لم يباشر من يؤتيه بالإيتاء، يقال: «آتيْتُ السُّلْطَانَ الخَرَاجَ» ، وإنَّما أعطيت أعوانه.
وأيضاً: إذا كان اليتيم مراهقاً عارفاً بمواقع حظَّه، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل، ويلبس، ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به، جاز دفعها إليه، هذا على قول من قال: إن اليتيم هو الذي لا أب له مع الصِّغر.
وقال بعضهم: أن هذا الاسم قد يقع على الصَّغير، وعلى البالغ؛ لقوله تعالى: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وهم لا يؤتون إلاَّ إذا بلغوا، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسمَّى يتيم أبي طالب بعد بلوغه؛ فعلى هذا: إن كان اليتيم بالغاً، دفع إليه، وإلاَّ دفع إلى وليه، والمساكين أهل الحاجة، وهم ضربان: من يكفُّ عن السؤال، وهو المراد هاهنا، ومنهم من يسأل وينبسط، وهم السائلون، وإنما فرق يبنهما؛ من حيث يظهر على السماكين المسكنة ممَّا يظهر من حاله، وليس كذلك السائل لأنه يظهر حاله.
وابن السبيل اسم جنسٍ أو واحد أريد به الجمع، وسمِّي «ابن السَّبيل» ، أي: الطريق، لملازمته إيَّاه في السَّفر، أو لأنَّ الطريق تبرزه، فكأنها ولدته.(3/208)
فصل.
من جعل الآية الكريمة في غير الزَّكاة، أدخل في هذه الآية المسلم والكافر، روى الحسن بن علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «للسَّائِل حَقٌّ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» ، وقال تعالى: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] .
الأمر الثالث في تحقيق مسمَّى البِرِّن قوله: {وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة} وقد تقدَّم: قوله {وَفِي الرقاب} متعلِّق ب «آتى» وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون ضمن «آتى» معنى فعل يتعدى لواحد؛ كأنه قال: وضع المال في الرِّقَاب.
والثاني: أن يكون مفعول «آتى» الثاني محذوفاً، أي: آتى المال أصحاب الرِّقاب في فكِّها، أو تخليصها؛ فإنَّ المراد بهم المكاتبون، أو الأسارى، أو الأرقَّاء يشترون، فيعتقون، وكلٌّ قد قيل به.
والرِّقَابُ: جمع «رَقَبَةٍ» ، وهي من مؤخَّر أصل العنق، واشتقاقها من «المراقبة» ؛ وذلك أن مكانها من البدن مكان الرَّقِيب المشرف على القوم؛ وبهذا المعنى: يقال: «أَعْتَقَ اللهُ رَقَبَتَهُ» ، ولا يقال: «أَعْتَقَ اللهُ عُنُقَهُ» ؛ لأنها لما سمِّيت رقبةً؛ كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها «رَقُوبٌ» ؛ لأجل مراقبة موت ولدها.
قوله: {وَأَقَامَ الصلاة} عطف على صلة «مَنْ» ، وهي: «آمَن، وآتى» وإنما قدم الإيمان، لأنه رأس الأعمال الدينيَّة، وثنَّى بإيتاء المال؛ لأنه أجلُّ شيء عند العرب، وبه يمتدحون، ويفتخرون بفكِّ العاني: وقِرَى الضِّيفان، ينطق بذلك نظمهم ونثرهم.
قوله {والموفون بِعَهْدِهِمْ ... } في رفعة ثلاثة أوجه:
أحدها: ذكره الزمخشري: أنه عطف على «مَنْ آمَنَ» أي: ولكنَّ البرَّ المؤمنون والموفون.
والثاني: أن يرتفع على خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الموفون، وعلى هذين الوجهين: فنصب الصابرين على المدح؛ بإضمار فعل، وهو في المعنى عطف على «مَنْ آمَنَ» ، ولكن لما تكرَّرت الصِّفات، خولف بين وجوه الإعراب.
قال الفارِسيُّ: وهو أبلغ؛ لأن الكلام يصير مشتملاً على جملٍ متعددةٍ، بخلاف اتّفاق الإعراب؛ فإنه يكون جملةً واحدةً، وليس فيها من المبالغة ما الجمل المتعدِّدة.
وقال أبو عبيدة: ومن شأن العرب، إذا طال الكلام: أن يغيِّروا الإعراب والنَّسق؛ كقوله تعالى في سورة النساء: {والمقيمين الصلاة} [النساء: 162] وفي المائدة: {والصابئون} [المائدة: 69] وقال الفرَّاء: إنما رفع «المُوفُونَ» ، ونصب «الصَّابِرِينَ» ؛(3/209)
لطول الكلام بالمدح، والعرب تنصب الكلام على المدح والذَّمِّ، إذا طال الكلام في الشَّيء الواحد، وقالوا فيمن قرأ {حَمَّالَةَ الحطب} [المسد: 3] بنصب «حَمَّالَةَ» : إنه نصب على الذَّمِّ.
فإن قيل: لم لا يجوز على هذين الوجهين: أن يكون معطوفاً على ذوي القربى، أي: وآتى المال الصابرين: قيل: لئلاَّ يلزم من ذلك محذورٌ، وهو الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو في حكم الصِّلة بأجنبيٍّ، وهو «المُوفُونَ» فإن قيل: أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة؛ كقوله: {وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] ثم قال «أُوْلَئِكَ» ففصل بين المبتدأ والخبر.
قلنا: لا يلزم من جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصِّلة.
التأكيد بالضمير المرفوع المنفصل، لأنَّ طول الكلام أغنى عن ذلك؛ وعلى هذا الوجه: يجوز في «الصَّابِرِينَ» وجهان:
أحدهما: النَّصيب؛ بإضمار فعْلٍ؛ لما تقدَّم، قال الخليل: المدح والذمُّ ينصبان على معنى «أَعْني الظريف» وأنكر الفراء ذلك لوجهين.
أحدهما: أنَّ «أَعْنِي» إنما يقع تفسيراً للمجهول، والمدح يأتي بعد المعروف «أعني أخاك» ، وهذا مما لم تقله العرب أصلاً.
والثاني: العطف على ذَوِي القُرْبَى، ولا يمنع من ذلك ما تقدَّم من الفصل بالأجنبيِّ، لأن «المُفُونَ» على هذا الوجه داخلٌ في الصِّلة، فهو بعضها لا أجنبيٌّ منها.
قوله «إذَا عَاهَدُوا» إذا منصوبٌ ب «المُوفُونَ» ، أي: الموفون وقت العهد، من غير تأخير الوفاء عن وقته، وقرأ الجحدريُّ: «بِعُهُودِهِمْ» .
فصل في معنى قوله «بِعَهْدِهِمْ»
في هذا العهد قولان:
أحدهما: هو ما أخذه الله على عباده على ألسنة رسله من الإيمان، والقيام بحدوده، والعمل بطاعته؛ لما أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الكتاب: أنَّهم نقضوا العهود والمواثيق، فجحدوا أنبياءه، وقتلوهم، وكذَّبوا بكتابه. واعترض القاضي على هذا القول، وقال: إنَّ قوله تبارك وتعالى: «المُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ» صريحٌ في إضافة العهد(3/210)
إليهم، ثم إنه تعالى أكَّد ذلك بقوله: «إذَا عَاهَدُوا» ، فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداءً من قبله تعالى.
وأجيب: بأنه تعالى، وإن ألزمهم هذه الأشياءن لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام، والتزموه، فصحَّ إضافة العهد إليهم من هذا الوجه.
القول الثاني: أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلَّف ابتداءً من عند نفسه.
واعلم أنّ هذا العهد إمَّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى؛ كاليمين والنَّذر، وما أشبهه، أو بينه وين رسول الله؛ كالبيعة؛ من القيام بالنُّصرة والمجاهدة، والمظاهرة، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، او بينه وبين النَّاس، وقد يكون ذلك واجباً، مثل: ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التَّسليم والتَّسلُّم، والشرائط التي يلتزمها في السَّلم، والرَّهن وغيره،(3/211)
وقد يكون مندوباً؛ مثل: الوفاء بالعهد في بذل الماء، والإخلاص في المناصرة.
فقوله {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} يتناول كل هذه الأقسام؛ فلا تقتصر الآية على بعضها، وهذا هو الذي عبر عنه المفسِّرون، فقالوا: هم الذين إذا وعدوا، أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا، وفَّوا، وإذا قالوا، صدقوا، وإذا ائتمنوا، أدَّوا.
فصل في بلاغة قوله «والمُوفُونَ» دون «وأَوْفَى»
قال ارَّاغب: وإنَّما لم يقل «وأوْفَى» ؛ كما قال «وأَقَامَ» ؛ لأمرين:
أحدهما: اللفظ، وهو أن الصِّلة، متى طالت، كان الأحسن أن يعطف على الموصول، دون الصلة؛ لئلاَّ يطول ويقبح.
والثاني: أنَّه ذكر في الأول ما هو داخل في حيِّز الشريعة، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليَّة تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر وفاء العهد، وهو مما تقضي به العقول المجرَّدة، صارعطفه على الأوَّل أحسن، ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه: جامعاً للفضائل؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ - غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد؛ وهذا كلام حسن.
وحكى الزَّمخشريُّ قراءة «والمُوفِينَ» ، «والصَّابِرِينَ» وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب: «وَالمُوفُونَ» ، «والصَّابِرُونَ» .(3/212)
فصل في الأحكام المستافدة من الآية
قال القرطبيُّ: تضمَّنت هذه الآية الكريمة ستَّ عشرة قاعدةً من أُمَّهات الأحكام:
الإيمان بالله وبأسمائه، وصفاته، والحشر، والنشر، والصراط، والحوض، والشَّفاعة، والجنة، والنار، والملائكة، والرُّسل، والكتب المنزلة، وأنَّها حقٌّ من عند الله؛ كما تقدم، والنَّبيين، وإنفاق المال فيما يعنُّ له من الواجب، والمندوب، وإيصال القرابة، وترك قطعهم، وتفقُّد اليتيم، وعدم إهماله المساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل، وهو: المسافر المنقطع به، وقيلك الضعيف، والسُّؤَّال، وفكّ الرقاب، والمحافظة على الصَّلوات، وإيتاء الزَّكاة، والوفاء بالعهود، والصَّبر في الشَّدائد، وكلُّ قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب.
وقوله {فِي البأسآء والضراء} : قال ابن عبَّاس: يريد الفقر بقوله: «البَأْسَاءِ» ، والمرَضَ بقوله: «وَالضَّرَّاءِ» ، وفيها قولان:
أحدهما: وهو المشهور أنَّهما اسمان مشتقَّان من البؤس والضُّرَّ وألفهما للتأنيث، فهما اسمان على «فَعْلاَء» ولا «أفْعَل» لهما؛ لأنَّهما ليسا بنعتين.
والثاني: أنهما وصفن قائمان مقام موصوف، والبؤس، والبأْساء: الفقر؛ يقال بئس يبأس، إذا افتقر؛ قال الشاعر: [الطويل]
917 - وَلَمْ يَكُ في بُؤْسٍ إذَا بَاتَ لَيْلَةً ... يُنَاغِي غَزَالاً سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ
قوله: «وَحِينَ البَأْس» منصوب بالصَّابِرِينَ، [أي] : الذين صَبَرُوا وقْتَ الشِّدَّة، والبأْسُ: شدَّة القتال خاصَّة، بؤس الرَّجل، أي: شجع. قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: يريد القتال في سبيل الله، وأصل البأس في اللغة: الشِّدَّة؛ يقال: لا بأس عليك في هذا، أي: لا شدَّة و {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] أي: شديد، ثم يسمَّى الحرب بأساً، لما فيه من الشِّدَّة، والعذاب يسمَّى بأساً؛ لشدَّته، قال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 84] {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} [الأنبياء: 12] {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا} [غافر: 29] .
قوله: {أولئك الذين صَدَقُوآ} مبتدأ وخبر، وأتى بخبر «أُولَئِكَ» الأولى موصولاً بصلةٍ، وهي فعلٌ ماضٍ؛ لتحقُّ اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم، واستقرَّ، وأتى بخبر الثانية بموصولٍ صلته اسم فاعلٍ، ليدَّ على الثبوت، وأنه ليس متجدِّداً، بل صار كالسَّجيَّة لهم، وأيضاً: فلو أتى به فعلاً ماضياً، لما حسن وقوه فاصلةً.
قال الواحدي - رَحِمَهُ اللهُ -: إن الواوات في الأَوْصَاف في هذه الآية للجمع،(3/213)
فمن شرائطِ البِرِّ، وتمام شَرْط البَارِّ: أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام بواحدٍ منها، لم يستحقَّ الوصف بالبِرِّ فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده أن يكون من جملة من قام بالبِرِّ، وكذا الصابر في البأساء، بل لا يكون قائماً بالبِرِّ إلاَّ عند استجماع هذه الخصال، ولذلك قال بعضهم: هذه الصفة خاصَّة للأنبياء؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلُّها.
وقال آخرون: هي عامَّة في جميع المؤمنين، والله أعلم.(3/214)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
قوله «في القَتْلَى» ، أي: بسبب القَتْلَى و «في تكون للسَّببية؛ كقوله - عليه السَّلام -» إنَّ امْرَأَةً َخَلَتِ النَّار في هِرَّةٍ «، أي: بسببها، و» فَعَلَى «يطَّردُ أن يكون جمعاً لفعيل، بمعنى مفعول، وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قوله {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى} [البقرة: 85] .
فصل في بيان سبب النزول
في سبب النزول وجوه:
أحدها: إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل البعثة، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط، والعرب تارةً كاناو يوجبون القتل، وتارة يوجبون الدِّية، ولكنَّهم كاناو يظهرون التعدِّي، فأما القتل؛ فكانوا إذا وقع القتل بين قبيلتين: أحدهما أشرف من الأخرى، فكان الأشراف يقولون:» لنَقْتُلَنَّ بالعَبْدِ مِنَّا الحُرَّ مِنْهُمْ، وبالمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلَ مِنْهُمْ، وَبِالرَّجُلِ مِنَّا الرَّجُلَيْنِ مِنْهُمْ «وربما زادوا على ذلك، وينكحون نساءهم بغير مهورٍ؛ قاله سعيد بن جُبَيْرٍ.
يروى أن واحداً من الأشراف قتل له ولد، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول، فقالوا له: ما تُرِيدُ؟ فقال: إحدى ثلاثٍ، فقالوا: ما هي؟ قال: إما تُحْيُونَ لِي وَلَدِي، أو تَمْلَئُونَ دَارِي من نُجُومِ السَّمَاءِ، أو تَدْفَعُونَ إليَّ جُملَةَ قَوْمِكُمْ؛ حَتَّى أقْتُلَهُمْ، ثم لا أَرَى أَنِّي أخذت عوضاً.
وأمَّا أمر الدِّية، فربمَّا جعلوا دية الشَّريف أضعاف دية الخسيس، فلما بعث الله(3/214)
تعالى محمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوجب رعاية العدل، وسوَّى بين عباده في حكم القصاص، وأنزل الله هذه الآية.
الوجه الثاني: قال السُّدِّيّ: إن قريظة والنَّضير كانوا مع تديُّنهم بالكتاب، سلكوا طريقة العرب، فنزلت الآية.
الوجه الثالث: نزلت في واقعة قتل حمزة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -.
الوجه الرابع: روى محمَّد بن جرير الطبريُّ، عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْه -، وعن الحسن البصريِّ: أن المقصود من هذه الآية الكريمة التسوية بين الحُرَّين والعبدين والأُنثيين في القصاص، فأما إذا كان القاتل للعبد حرّاً، أو للحرِّ عبداً، فإنه يجب مع القصاص التراجع، وأما قتل عبداً، فهو قوده، فإن شاء أولياء العبد أن يقتلوا الحرَّ، قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ويردوا إلى أولياء الحر بقيَّة ديته، وإن قتل عبد حراً، فهو به قودٌ، فإن شاء أولياء الحرِّ، قتلوا العبد، وأسقطوا قيمة العبد من دية الحُرِّ، وأدَّوا بعد ذلك إلى أولياء الحُرِّ بقيَّة ديته، وإن شاءوا أخذوا كلَّ الدية، وتركوا كل العبد، وغن قتل رجلٌ امرأة، فهو بها قودٌ، فإن شاء أولياء المرأة، قتلوه، وأدَّوا نصف الدية، وإن شاءوا، أعطوا كلَّ الدية، وتركوها، فالآية الكريمة نزلت لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرَّين، [والعبدين والأنثيين، والذكرين، فأما عند اختلاف الجنس، فالاكتفاء غير مشروع فيه] .
فصل في اشتقاق كلمة «القصاص»
و «القِصَاصُ» : مصدر قَاصَّهُ يُقَاصُّهُ قِصَاصاَ، ومقَاصَّةً؛ نحو: قاتَلْتُهُ قِتَالاً، ومُقَاتَلَةً، وأصله من: قصصت الشيءن اتَّبعت أثره؛ لأنَّه اتباع دم المقتول.
قال تعالى: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] ، أي: اتبعي أثره، وسمِّيت القصَّة قصَّةً؛ لتتبُّع الخبر المحكيِّ، والقصص تتبُّع أخبار النَّاس، وسمِّي المقصُّ مقصّاً، لتعادل جانبيه، هذا أصل المادَّة.
فمعنى القصاص: تتبُّع الدم بالقود، ومنه التقصيص، لما يتبع من الكلأ بعد رعيه، والقصُّ أيضاً: الجصُّ، ومنه «نهيه - عليه السلام - عن تقصيص القبور» أي: تجصيصها.
فصل
روى البخاريُّ، والنَّسائيُّ، والدَّارقطنيُّ، عن ابن عبَّاس، قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدِّية، فقال الله لهذه الأمَّة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ(3/215)
بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178] .
والعفو: أن يقبل الدية في العبد: «فَاتبَاعٌ بِالمَعْرُوفٍ وأَداءٌ إلَيْهِ بِإحْسَانٍ» تتبع بالمعروف، وتؤدي بإِحْسَانٍ، «ذَلِكَ تخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ» مما كتب على من كان قبلكم، {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فمن قتل بعد قبول الدِّية، هذا لفظ البخاريِّ.
وقال الشَّعبيُّ في قوله تعالى: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} قال: نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقْتَتَلا قتال عمية، فقالوا: نقتلُ بِعَبْدِنَا فُلاَنَ، ابنَ فُلاَنٍ، وَبِأَمَتِنَا فُلانَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ، ونحوه عن قتادة.
فصل في المراد بقوله «كتب عليكم»
قوله: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ» : معناه: «فُرِضُ عَلَيْكُمْ» ، فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين:
أحدهما: أن قوله كتب في عرف الشرع يفيد الوجوب. قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية} [البقرة: 180] وقد كانت الوصية واجبة، ومنه الصوات المكتوبات أي: المفروضات قال عليه السلام: «ثَلاَثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ»
والثاني: لفظة «عَلَيْكُمْ» مشعرة بالوجوب؛ لقوله {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] .
والقصاص: أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل، فهو عبارة عن التَّسوية، والمماثلة في الجراحاتن والدِّيات.
وقيل «كُتِبَ» هنا أخبار عمَّا كتب في اللَّوح المحفوظ، وقوله {فِي القتلى} ، أي: بسبب القتلى، كما تقدَّم؛ فدلَّ ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمني بسبب قتل جميع القتلى، إلاَّ إنَّهم أجعوا على أنَّ غير القاتل خارجٌ عن هذا الفارق، أمَّا القاتل، فقد دخله التخصيص أيضاً في صورٍ كثيرةٍ؛ وهي ما إذا قتل اوالد ولده، والسَّيَّد عبده، وفيما إذا قتل مسلم مسلماً خطأً، إلاَّ أنَّ العامَّ إذا دخله التخصيص، يبقى حجَّةً فيما عداه.(3/216)
فإن قيل: قولكم: هذا الآية تقتضي وجوب القصاص، فيه إشكالان:
الإشكال الأول: لو وجب القصاص، لوجب إمَّا على القاتل، أو على وليِّ الدَّم، أو على ثالثٍ، والأقسام الثلاثة باطلةٌ؛ لأنَّ القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه، بل يحرم عليه ذلك، وأمَّا وليُّ الدم، فلا يجب عليه؛ لأنَّ وليَّ الدم يخيَّر في الفعل، والتَّرك، بل هو مندوبٌ إلى التَّرك؛ كقوله
{أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] وأمَّا الثالث: فإنه أجنبيٌّ عن القتيل والأجنبي عن الشيء لا تعلُّق له به.
الثاني: أنَّا بيَّنا أن القصاص عبارة عن التَّسوية، وكان مفهوم الآية إيجاب التَّسوية؛ وعلى هذا التقدير: لا تكون الآية دالَّة على إيجاب القتل ألبتَّة، بل تدلُّ على وجوب رعاية التَّسوية في القتل الذي كون مشروعاً بسبب القتل.(3/217)
والجواب عن الأول من وجهين:
أحدهما: أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام، ومن يجري مجراه؛ لأنَّ متى حصلت شرائط وجوب القود، فإنَّه لا يحلُّ للإمام أن يترك القود من المؤمنين، والتقدير: يا أيها الأئمَّة، كتب عليكم استيفاء القصاص، إن أراد وليُّ الدّمِ استفاءَه.
والثاني: أنه خطاب مع القاتل، التقدير: يا أيها القاتلون، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الويِّ بالقصاص؛ وذلك لأنَّ القاتل ليس له أن يمتنع؛ خلاف الزَّاني والسارق، فإنَّ لهما الهرب من الحدود، ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله، لا يعرفان، والفرق بينهما: أن ذلك حقٌّ لآدميٍّ.
والجواب عن الثاني: أن ظاهر الآية يقتضي التَّسوية في القتل، والتَّسوية في القتل صفة القتل، وإيجاب الصفة يقتضي إيحاب الذَّات، فكانت الآية تفيد إيجاب القتل من هذا الوجه.
قوله «الحُرُّ بالحُرِّ» مبتدأٌ وخبرٌ، والتقدير: الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ، أو مقتول بالحُرِّ، فتقدِّر كوناً خاصّاً، حُذِف؛ لدلالة الكالم عليه؛ فإنَّ الباء فيه للسَّبب، ولا يجوز ان تقدِّر كوناً مطلقاً؛ إذ لا فائدة فيه، لو قلت: «الحُرُّ كائنٌ بالحُرِّ» إلاَّ أن تقدِّر مضافاً، أي: قتل الحرِّ كائن بالحُرِّ، وأجاز أبو حيان: أن يكون الحُرُّ مرفوعاً بفعل محذوف، تقديره: «يُقْتَلُ الحُرُّ بالحُرِّ» ؛ يدلُّ عليه قوله تعالى: {القصاص فِي القتلى} ؛ فإن القصاص يشعر بهذا الفعل المقدَّر، وفيه بعدٌ، والحر وصفٌ، و «فُعْلٌ» الوصف، جمعه على «أفْعَالٍ» لا يقاس، قالوا: حُرٌّ وأَحْرَارٌ، ومُرٌّ وأمرار، والمؤنَّثة حُرَّة، وجمعها على «حَرَائِر» محفوظٌ أيضاً، يقال: «حَرَّ الغُلاَمُ يَحَرُّ حُرِّيَّةً» .
فصل في اختلافهم في اقتضاء الآية الحصر
قوله {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى} فيه قولان:
الأولى: أنَّها تقتضي ألاَّ يكون القصاص مشروعاً إلاَّ بين الحُرَّين، وبين العبدين، وبين الأُنثيين.
واحتجَّ عليه بوجوه:
الأول: ان الألف واللام في «الحُرِّ» تفيد العموم؛ فقوله: {الحر بِالْحُرِّ} يفيد أن يقتل كلُّ حرِّ بالحر، فلو كان قتل حرٍّ بعبد مشروعاً، لكان ذلك الحُرُّ مقتولاً بغير حُرٍّ، وذلك ينافي إيجاب أن يكون كلُّ حرٍّ مقتولاً بالحُرِّ.
الثاني: أن «الباء» من حروف الجَرِّ، فتتعلَّق بفعلٍ، فيكون التقدير: يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعمَّ من الخبر، بل إمَّا مساوياً له، أو أخص منه، وعلى هذا التقدير فهذا يقتضي أن يكون كلُّ حُرٍّ مقتولاً بالحُرِّ، وذلك ينافي كلَّ حُرٍّ مقتولاً بالعبد.(3/218)
الثالث: أنه تبارك وتعالى أوجب في أول الآية الكريمة رعاية المماثلة، وهو قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى. .} ، فلما ذكر عقيبة قوله: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد} دلَّ على أن رعاية التَّسوية في الحُرِّيَّة والعبوديَّة معتبرةٌ؛ لأن قوله: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد} خرج مخرج التَّفسير لقوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى. .} ، فإيجاب القصاص على الحُرِّ بقتل العبد إهمال لرعاية التَّسوية؛ فوجب ألاَّ يكون مشروعاً؛ ويؤيِّد ما ذكرنا قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلاَ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» ، فإن أخذ الخصم بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45] ، فالجواب من وجهين:
أحدهما: هذه الآية شَرْعُ مَنْ قبلنا وليسَ شَرْعاً لَنا، والآيةُ التي نَحْنُ فيها شرْعُنا، فهذا أقوَى في الدَّلالة.
والثاني: أن هذه الآية الكريمة مشتملةٌ على أحْكَام النُّفُوس على التفصِيل والتَّخْصيص، وتلك عامَّةٌ، والخاصُّ متقدِّم على العامِّ، ثم قال أَصْحَابُ هذا القَوْل إِنَّ ظاهِر الآية يقتضِي ألاَّ يُقتل العبد بالحرّ ولا تقتل الأنثَى بالذَّكَر، إِلاَّ إِذَا خالَفْنا هذا الظاهر؛ للإجمَاع وللمعنى المستنبطِ من نَسقِ هذه الآية الكريمة، وذلك المعنَى غير موجُود في الحُرِّ بالعَبْد؛ فوجب أَنْ يبقَى هاهنا على ظاهر اللَّفظ، أَمَّا الإجمْمَاعُ فظاهرةٌ، وَأَمَّا المعنَى المستنبَطُ، فهو أنه لَمَّا قتل العبدُ بالعبدِ، فَلأَنَّ يقتَلَ بالحرِّ الذي هو فوقه أولى، بخلاف الحر، فإنَّ لمَّا قتل بالحرِّ، لا يلزم: أنْ يُقْتَل بالعبد الَّذي هو دونَهُ، وكذا القَوْل في قتل الأنثَى بالذَّكَر، وأَمَّا قتل الذَّكَر بالأُنْثَى، فليس فيه إِلاَّ الإجماعُ.
القول الثاني: أَنَّ قوله تعالى: {الحر بِالْحُرِّ} لا يفيدُ الحَصْر، بل يفيد شَرْع القِصَاص بيْن الذُّكُور من غير أن يكُون فيه دَلالَةٌ على سائر الأقسامِ؛ واحتجُّوا عليه بوجهين:
الأول: أنَّ قوله: {والأنثى بالأنثى} يقتضي قِصَاص المرأة الحُرَّة بالمرأة الرقيقَةِ، فلو كان قوله {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد. .} مانعاً من ذلك، لوقع التناقض.
الثاني: أنَّ قولَهُ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى. .} جملةٌ تامّضة مستقلَّةٌ بنَفْسها.
وقوله: {الحر بِالْحُرِّ} تخصيصٌ لبعض الجزئيَّاتِ بالذِّكْرن وتخصيص بعض الجزئيَّات بالذِّكِر لا يمنع مِنْ ثُبُوت الحُكْم؛ كسَائِر الجزئيَّات، وذلك التخصيصُ يمكنُ أنْ يكُون لفائدةٍ سوى نَفْي الحُكْم عن سائِرِ الصُّور، ثم اختلَفُوا في تلك الفَائدة، فذكَرُوا فيها وجهين:(3/219)
الأول: وعَليْه الأكْثَرُونَ: أَنَّ فائدته إِبطالُ ما كان علَيْه الجاهليَّةُ من أنهم كانوا يقتُلُون بِالَعَبْدِ منهم الحُرَّ من قبيل القَاتِل، ففائدةُ التخصيص زجْرُهُم عن ذلك، وللقائلين بالقَوْلِ الأَوَّل: أَنْ يقولُوا: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحرِّ بالعبد، لأَنَّ القِصَاص عبارةٌ عن المُساواة، وقتل الحُرِّ بالعبد لم يحصُلْ فيه رعايةُ المُسَاواة، لأَنَّهُ زائدةٌ علَيْه في الشَّرف، وفي أهليَّة القضاء، والإِمامة، والشهادَة؛ فوجب ألاَّ يُشْرعَ، أقْصَى ما في البَاب أنه ترك العَمَل بهذا النَّصِّ في قتْل العَالِمِ بالجاهِل، والشَّريف بالخَسِيس بالإجْماع إِلاَّ أَنَّهُ يبقَى في غير محلِّ الإجماع على الأَصلِ، ثم إِنْ سلَّمنا أنَّ قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} يوجِبُ قتْل الحر بالعَبْد، إِلاَّ أنَّا بَينَّا أنَّ قوله: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد} يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحُرّ بالعبد؛ لأَنَّ هذا خاصٌّ، وما قبله عامٌّ، والخاصُ مقدَّم على العامِّ، ولا سيَّما إِذَا كان الخاصُّ متَّصلاً بالعامٌ في اللَّفْظِ، فإنه يكون بمنزلة الاستثناءِ، ولا شَكَّ في وُجُوب تقديمة على العامِّ.
الوجه الثاني: من بيان فائدَة التَّخصيص: نَقَلهُ محمَّد بنُ جَرِيرٍ، عن عليِّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْه - والحسَن البصرِّ: أنَّ هذه الصُّور هي التي يكْتَفي فيها بالقصاصِ، بل لا بُدَّ من التراجع، إلاَّ أَنَّ أَكْثَرَ المحقِّقين زعم أنَّ هذا النَّقل لم يصحَّ عن عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه - وهو أيضاً ضعيفٌ عند النَّظَر لأَنَّه قد ثبت أَنَّ الجماعَةَ تُقْتَل بالواحِدِ، ولا تراجع، فكذلك يُقْتَل الذَّكَر بالأُنْثَى، ولا تَرَاجُع.
قوله «فَمَنْ عُفِيَ» يجوز في «مَنْ» وجهان:
أحدهما: أن تكون شرطيَّةً.
والثاني: أن تكون موصولةً، وعلى كلا التقديرين، فموضعها رفعٌ بالابتداء؛ وعلى الأَوَّل: يكون «عُفِيَ» في محلِّ جزم بالشَّرط؛ وعلى الثَّاني: لا محلَّ له، وتكون الفاء واجبةً في قوله: «فَاتِّبَاعٌ» على الأوَّل، ومحلُّها وما بعدها الجَزم وجائزةٌ في الثَّاني، ومحلُّها وما بعدها الرفع على الخبر، والظاهر أَنَّ «مَنْ» هو القاتِلُ، والضمير في «لَهُ وأخيه» عائدٌ على «مَنْ» و «شيء» هو القائِمُ مقام الفاعل، والمرادُ به المصدر، وبني «عُفِيَ» للمفعول، وإِنْ كان قاصراً؛ لأن القاصر يتعدَّى للمصدر؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] ، والأخ هو المقتولُ، أو وليُّ الدم، وسمَّاه أخاً للقاتِل؛ استعطافاً علَيْه، وهذا المصدر القائمُ مقام الفاعل المرادُ به الدَّمُ المعفُوُّ عنه، و «عُفِيَ» يتعدّى إلى الجاني، وإلى الجناية ب «عَنْ» ؛ تقول: «عَفَوْتُ عَنْ زَيْدٍ، وعَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِ زَيْدٍ» فإذا عدي إليهما معاً، تعدَّى إلى الجاني ب «اللام» ، وإلى الجناية ب «عَنْ» ؛ تقول «عَفَوْتُ لِزَيْدٍ عَنْ ذَنْبِهِ» ، والآية من هذا الباب، أي: «فمَنْ عُفِيَ له عَنْ جنايتِهِ» وقيل: «مَنْ» هو وليُّ أي مَنْ جُعِلَ له من دم أخيهِ بدلُ الدمِ، وهو القِصَاص، أو الدِّيَةُ،(3/220)
والمرادُ ب «شَيْءٌ» حينئذٍ: ذلك المستَحَقُّ، والمرادُ ب «الأخ» المقتولُ، ويحتمل أنْ يرادَ علَى هذا القول أيضاً: القاتِلُ، ويراد بالشيءِ الديةُ، و «عُفِيَ» بمعنى: [ «يُسِّرَ» على هذين القولَيْن، وقيل: بمعنى «تُرِكَ» .
وشَنَّعَ الزَّمْخَشرِيُّ على مَنْ فَسَّر «عُفِيَ» ] بمعنى «تُرِكَ» قال: فإنْ قُلْتَ: هَلاَّ فسَّرْتَ «عُفِيَ» بمعنى «تُرِكَ» ؛ حتى يكون شَيْءٌ في معنى المفعُول به.
قلْتُ: لأنَّ: «عَفَا الشَّيْء» بمعنى تركَهُ، ليْس يثبُتُ، ولكنْ «أَعْفَاهُ» ، ومنه: «وَأَعْفُوا اللِّحَى» ، فإنْ قُلتَ: قد ثَبَتَ قولُهُمْ: «عَفَا أَثَرَه» إِذَا مَحَاهُ وأَزَالَهُ، فهلاَّ جَعْلتَ معْنَاه: «فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيء» قلْتُ: عبارةٌ قلقلةٌ في مكَانها، والعفُو في بابِ الجناياتِ عبارةٌ متداولَةٌ مشهُورة في الكتَاب والسُّنةِ، واستعمال النَّاس، فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرَى قلقةٍ نابيةٍ عنْ مكانها، وَتَرَى كثيراً ممن يتعاطَى هذا العلْمَ يجترىءُ إِذَا أعْضلَ علَيْه تخريجُ وجْهٍ للمشْكِلِ من كلام الله تعالى على اختراعٍ لُغةٍ، وإدِّعاءٍ عل العرب ما لَمْ تعرْفهُ، وهذا جُزأةٌ يستعاذ بالله منها.
قال أَبُو حَيَّان: إذا ثَبَتَ أنَّ «عَفَا» بمعنى «مَحَا» فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية علَيْه، ويكون إسناد «عَفَا» لمرفوعِهِ [إسناداً حقيقياً؛ لأنَّهُ إِذْ ذاكَ مفعولٌ به صريح، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسناده لمرفوعِهِ] مجازاً؛ لأنَّه مَصْدَرٌ مشبَّهٌ بالمفعول به، فقد يتعادَلُ الوجْهَان؛ أَعْنِي: كوْنَ «عَفَا» اللاَّزم لشهرته في الجنايات، و «عَفَا» المتعدِّي بمعنى «مَحَا» لتعلُّقه بمرفوعِهِ تعلُّقاً حقيقياً.
فإن قيل: تضَمّن «عَفَا» معنى تَرَكَ.
فالجوابُ: أنَّ التَّمين لا يَنْقَاسُ، وقد أَجَازَ ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللهُ - أن يكون «عَفَا» بمعنى «تَرَكَ» .
وقيل إِنَّ «عُفِيَ» بمعنى فُضِلَ، والمعنَى: فَمَنْ فضل له من الطائفَتَيْن على الأُخْرَى شيءٌ من تِلْك الدِّيات؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَفَاء الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ، وَأَظْهَرُ هَذه الأقْوَالِ أوَّلُهَا.
فصل اعلم أَنَّ الذَّين قالُوا: يوجب العَهْد أحدا أمرَين: إِمَّا القِصَاص، وَإِمَّا الدِّيَة: تمسكوا بهذه الآية، فقالوا: الآيةُ تدُلُّ على أَنَّ فيها عافياً ومَعفوّاً عَنْه، وليسَ هاهنا إلاَّ وَلِيُّ الدمِ،(3/221)
والقاتلُ، فيكون العافِي أحدَهُما، ولا يجوزُ أن يكونَ القاتلَ لأَنَّ ظاهر العْفو هو إسقاطُ الحقِّ، وذلك إنَّما يتأتَّى من الوليِّ الذي له الحقُّ على القاتل، فصار تقديرُ الآية: فإذا عَفَى وَلِيُّ الدَّم عن شيءٍ يتعلَّق بالقاتِلِ، فليتبع القاتلُ ذلك العفو بمَعْروف.
وقوله «شيء» مبهمٌ، فلا بدَّ من حمله على المذكُور السَّابق، وهو وجوب القِصَاصِ؛ إزالةً للإبهام، فصار تقدير الآية: إِذَا حصَلَ العْفُو للقاتلِ عن شيءِ فلْيُتْبع القاتِلُ العَافِيَ بالمَعْروف، والأداء إِلَيْه بالإِحْسَان. وبالإجْماع لا يجبُ أداءُ غيْر الدِّية؛ فوجب أن يكُون ذلك الواجبُ، هو الدِّيةَ؛ وهذا يدلُّ على أنَّ موجِبَ العمد هو القَوَد، أو المال؛ إِذْ لو لم يكُنْ كذلك، لما كان واجباً عنْد العفو عن القَودِ، والله تعالى أعلَمُ.
ومما يؤكِّد هذا قولُه تعالى: {ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ، أي أثبَتَ الخيارَ لَكُمْ في أخْذ الدية، والقِصَاص؛ رحمةً عَلَيْكُم، لأَنَّ الحُكم في اليَهُود حتْمُ القِصَاصِ، والحُكمَ في النَّصَارَى حتمُ العفوِ؛ فخفّف عن هذه الأمَّة، وشَرَع لهم التخييرَ بين القِصَاص، والعَفْوِ، وذلك تخفيفٌ من الله ورحمةٌ في حقِّ هذه الأمَّة؛ لأنَّ وليَّ الدم قد تكون الديةُ عنْده آثَرَ مِن القَوَدِ، إذا كان محتاجاً، وقد يكون القَوَدُ عنده آثَرَ، إذا كان راغباً في التشفِّي، ودفْع شر القاتلِ عنْ نَفْسهِ، فجعل الخِيَرةَ فيما أحبَّهُ؛ رحمةً من الله في حقِّه.
فَإِنْ قيل: لا نسلِّم أَنَّ العافِيَ هو وليُّ الدمِ، والعفو إسقاطُ الحقِّ، بل المراد من قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} أي فمَنْ سَهُلَ له مِنْ أخيه شيءٌ، يقال: أتَانِي هذا المالُ عَفْواً صَفْواً، أي: سهلاً، ويقال: خُذْ ما عُفِيَ، أي: ما سَهُلَ؛ قال تبارك وتعالى: {خُذِ العفو} [الأعراف: 199] ، فتقديرُ الآيةِ: فمَنْ كان من أولياءِ الدَّم، وسَهُلَ له مِنْ أخيه الَّذي هو القاتِلُ شيءٌ من المالِ، أو سَهُلَ له من جهة أخِيه المَقْتُولِ، أي: بسب أخِيهِ المَقْتُولِ، فإِمَّا أن يكون أخَاه حقيقةً، وإِمَّا أن تكون قرابَتُهُ غيْر الأخوَّة، فسمَّاه أخاً مجازاً؛ كما سمَّى المقتول أخاً للقاتل، والمراد: فمن كان من أولياء الدم وسَهَّلَ، فليتبعْ وليُّ الدم ذلك القاتِلَ في مطالَبَةِ ذلك المالِ، وليؤدِّ القاتلُ إلى وَلِيِّ الدَّم ذلك المال بالإحْسَان؛ منْ غَيْر مطل، ولا مدافعة، فيكون معنَى الآيَةِ؛ على هذا التقدير: «إنَّ الله تعالى حَثَّ الأَوْلِيَاءَ، إِذَا دُعُوا إلى الصُّلْحِ من الدَّمِ على ديتهِ كُلِّها، أو بَعْضها: أَنْ يرضَوْا بِهِ؛ ويعْفُوا عن القَوَد.
سلَّمنا أن العَافِيَ هو وَلِيُّ الدم، لكن لا يجوز أن يقال: المرادُ هو أن يكون القِصَاصَ مشتركاً بين شريكَيْن؛ فيعفُو أحدهما فحينئذٍ ينقلب نصيبُ الآخَر إلى الدِّية، والله تعالى أَمَرَ الشريكَ السَّاكت باتِّباعَ القاتلِ بالمَعْروف، وأمر القاتل بالأداء إِلَيْه بإِحْسَان.
سلَّمنا أن العافِيَ هو وليُّ الدم، سواءٌ كان له شريكٌ، أوْ لمَ لكُنْ لِمَ لا يَجُوز أن يُقَالَ إن هذا مَشْروطٌ بِرضا القاتِلِ إِلاَ أَنَّه تبارك وتعالى لم يذكُر رضا القاتِل؛ لأنه ثابتٌ معروفٌ لا محالة، لأَنَّ الظاهر مِنْ كلِّ عاقلٍ أنَّه يبذلُ كلَّ الدنيا لَغَرَضِ دَفْع القَتْل عن(3/222)
نَفْسه؛ لأَنَّهُ إِذَا قتل لا يبقَى له نفْسٌ ولا مالٌ، وبذلك المال فيه إحياءُ النَّفْسِ، فَلَمَّا كان هذا الرضا حاصلاً في الأَعَمِّ الأغلَبِ، لا جَرَمَ ترك ذكْره، وإن كان معتبراً في نَفْس الأَمْر.
فالجواب أَنَّ حمل لفظ «العفوِ» هنا على إسقاط القِصَاص أولىَ منْ حَمله على دَفع القاتل المالَ إلى وليِّ الدمِ؛ مِنْ وجهين:
الأوَّل: أنَّ حقيقة العفوِ إِسْقاط الحِّ؛ فوجب ألاَّ يكونَ حقيقةً في غيره؛ دفعاً للاشتراك، وحَمْلُ اللفظ هنا على إِسْقاط الحقِّ أَولى من حمْله على ما ذكَرتمِ؛ لأَنَّه لَمَّا قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} ، كان حمل قولِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} على إسقاط حقِّ القصاص أَوْلَى؛ لأنَّ قوله «شَيْءٌ» لفظ مبهمٌ، وحمل هذا المبْهَم علَى ذلك المعيَّن المذكور السَّابقِ أَوْلَى.
الثاني: لو كان المرادُ ب «العَفْو» ما ذكَرتم، لكان قوله {فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} عبثاً؛ لأنَّ بَعْد وُصُول المالِ إِلَيْه في السُّهولة واللِّين، لا حاجة به إلَيْه، ولا حاجَةَ بذلك المُعْكَى أنْ يؤمر بأداء ذلك المَالِ بالإِحْسَان.
والجواب عن الثاني مِنْ وجهين:
الأَول: أنَّ ذلك الكلام: إِنَّمَا يتمشَّى بفَرض صُورةٍ مخْصُوصة، وهي ما إذا كان حَقُّ القِصَاصِ مشتركاً بين اثنين، فعفا أحدهما وسكت الآخرُ، والآيَةُ دالَّة على شرعيَّة هذا الحُكْمِ على الإِطْلاقَ، فَحَمْلُ اللَّفْظ المطْلَقِ علَى صُورة خاصَّة مقيَّدة خلافُ الظاَّهر.
الثاني: أن الهاء في قوله {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ضميرٌ عائدٌ إلى مذكور سابقٍ، وهو العافِي، فوجَبَ أداء هذا المال إلى العَافِي، وعلى قولكم: يكون أداؤه إلى غيْر العافي فيكون باطلاً.
والجوابُ عن الثَّالث: أنَّ توقيفَ ثُبُوتِ أَخْذِ الدِّية وقبول ذلك لوليِّ الدم، على اعتبار رضا القاتلِ يُخَالِفُ الظَّاهر، وهو غَيْرُ جائزٍ.
فصل
قد تَقَدَّمَ أن تقدِيرَ الآية الكريمة يَقْتَضِي شَيْئاً من العَفو، وهذا يُشْكِلُ إِذَا كان الحقّ ليسَ إلا القَوَد فَقَط، فإنَّهُ يقال: القَوَدُ لا يتبعَّض، فما إذا كان مجموعُ حقِّه، إِمَّا القَودَ وَإِمَّا المَالَ؛ كان مجموعُ حقِّه متبعِّضاً؛ لأنَّ له أنْ يعفو عن القَود دون لمال وله أن يعفُو عن الكُلِّ.؟
وتنكير الشَّيء يفيد فائدةً عظيمةً؛ لأَنَّهُ كان يجوز أن يتوهم أنَّ العفو لا يؤثِّر في سَقُوط القَوَدِ، وعفو بعض الأولياءَ عَنْ حقِّه؛ كعَفْو جميعهم عَنْ حقِّهم، فلو عرَّف الحقَّ، كان لا يفهم منْه ذلك، فَلَمَّا نكَّره، صار هذا المعْنَى مفهوماً منه.(3/223)
فصل في دلالة الآية على كون الفاسق مؤمناً
نقل أابن عبَّاس تمسَّك بهذه الآية كَوْ الفاسِق مؤمناً مِنْ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه تعالى سمَّاه مؤمناً، حال ما وجَبَ القِصَاص علَيْه: وإِنَّما وجب القِصَاصُ عليه إذا صدر القتل العمدُ العدوان، وهو بالإِجْماع من الكبائرِ؛ فدلَّ على أن صاحِبَ الكبيرةِ مؤمنٌ.
وثانيها: أنَّه أثْبَتَ الأخوَّة بيْن القاتل، وبيْن وليِّ الدم، ولا شَكَ أنَّ هذه الأخوَّة تكُون بسَبَب الدِّينِ، قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فلولا أَنَّ الإيمَانَ باقٍ مع الفسقِ، وإلاَّ لما بقِيت الأخوَّة الحاصلةُ بسبب الدين.
وثالثها: أنه تبارك وتعالى نَدَبَ إلى العَفْو عن القاتِلِ، والندب إلى العَفْو، إِنَّما يليقُ بالمؤمن.
أجابت المعتزلة عن الأَوَّل: فقالوا: إِنْ قلْنا: المخاطبُ بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} هم الأَئمَّةُ، فالسُّؤالُ زائلٌ: وإِنْ قلْنا: هُمُ القاتِلُون، فجوابُهُ مِنْ وجهين:
أحدهما: أن القاتل قبل إقدامِهِ على القَتْل، كان مؤمناً فسمَّاه الله تعالى مؤْمنا بهذا التأويل.
الثاني: أن القاتل قد يَتُوب، وعنْد ذلك يكُونُ مؤمناً، ثم إِنَّه تعالَى أَدْخَلَ فيه غير التائبِ تغليباً.
وأجابُوا عن الثَّاني بوجوه:
الأوَّل: أَنَّ الآية نزلَتْ قبل أن يقتل أحدٌ أحداً، ولا شكَّ أَنَّ المؤمنين إخوةٌ قبْل الإقدام على القَتْل.
والثاني: الظاهر أنَّ الفاسق يتوبُ، أو نَقُولك المرادُ الأخُوَّة بيْن وليِّ المقتول والقتيل؛ كما تقدَّم.
الثالث: يجوز أن يكون جعلُه أخاً له في الكتاب؛ كقوله: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف: 65] .
الرابع: أنَّه حصَلَ بيْن وليِّ الدمِ، وبيْن القاتل نوعٌ تعلّقُ واختصاصٍ، وهذا القَدْرُ يكْفي في إِطلاق اسْمِ الأُخُوَّة، كما نقول للرجُل: قلْ لصاحبك كذا، إِذَا كان بينهما أَدنَى تعلُّق.
الخامس: ذكر لفْظ الأخُوَّة؛ ليعْطِف أحدَهُما على صاحبه بِذِكْره ما هو ثابتٌ بينهما من الجنسيَّة.(3/224)
وعن الثَّالث: أنَّه ندبه لما بينهما من أصل الإقرار والاعتقاد.
والجوابُ: أنَّ هذه الوجوه كُلَّها تقتضِي تقْييدَ الأخُوَّة بزمانٍ دون زمانٍ، وبصفَةٍ دون صفةٍ، والله تعالى أَثْبَتَ الأخوَّةَ على الإطْلاق، وهذا الجوابُ لا يردُّ ما ذكَرُوه في الوَجْه الثاني مِنْ قولهم: المرادُ بالأخُوَّة الَّتي بيْن وليِّ الدم والمقتولِ؛ كأنه قيل: «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ بسبب أخِيه المَقتُول شَيْء والمراد: الدِّيَةُ: فَلْيَتَّبعْ وليُّ الدَّم القاتلَ بالمعروف، وَلأْيُؤَدِ القاتلُ الديةَ إلى وَلِيِّ الدَّمِ بإحسان؛ وحينئذ يحتاجُ هذا إلى جوابٍ.
قوله: {فاتباع بالمعروف} في رفْع» اتِّبَاعٌ «ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، فقدره ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - والواجبُ الاتباعُ وقدَّره الزمخشريُّ:» فالأَمْر اتِّباعٌ «.؟
قال ابن عطيَّة: وهذا سبيلُ الواجباتِ، وأَمَّا المندوبات، فتجيء منصوبةً؛ كقوله {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] قال أبو حيَّان: ولا أدري ما الفَرٌْ بين النَّصْب والرفع، إلاَّ ما ذكروه من أَنَّ الجملة الاسمية أثبَتُ وآكد؛ فيمكن أن يكُونَ مستند ابن عطيَّة هذا، كما قالوا في قوله: {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] .
الثاني: أن يرتفع بإضمار فعل، وقدره الزمخشري:» فليكن اتباعٌ «قال أبو حيَّان: هو ضعيفٌ؛ إِذْ» كَانَ «لا تضمَرُ غالباً إلاَّ بعد» إِن «الشَّرطيَّة و» لَوْ «؛ لدليلٍ يَدُلُّ عليه.
الثالث: أن يكُونَ مبتدأً محذوفَ الخبر، فمنهم: مَنْ قَدَّرَهُ متقدِّماً عليه، أي: «فعلَيْهِ اتباعٌ» ومنهم: مَنْ قدَّره متأخِّراً عنه، أي: «فَاتِّباعٌ بالمَعْرُوفِ علَيْه» .
قولُهُ «بِالمَعْرُوفِ» فيه ثلاةُ أوجُهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق ب «اتِّبَاعٌ» فيكون منصوبَ المحلِّ.
الثاني: أن يكونَ وصْفاً لقوله «اتِّبَاعٌ» فيتعلَّق بمحذوف ويكون محلُّه الرفْعَ.
الثاللث: أَنْ يكون في محلِّ نصب على الحال مِنَ الهاء المحذُوفة، تقديرُهُ: «فعلَيْهِ اتِّباعُهُ عادلاً» والعاملُ في الحالِ معْنَى الاسْتِقْرار.
قولُهُ «وَأدَاء إِلَيْهِ بإحْسَانٍ» في رفعه أربعةُ أوجُه، الثلاثة المقولةُ في قوله: فاتِّبَاعٌ؛ لأنَّه معطوف علَيْه.
[والرابع: أنْ يكونَ مبتدأً خبره الجارُّ والمجرورُ بَعْده، وهو «بإِحْسَانٍ» ، وهو بعيدٌ، و «إِلَيْهِ» في محلِّ نصْبٍ؛ لتعلُّقِهِ ب «أداءٌ» ، ويجوز أن يكونَ في محلِّ رفْع؛ صفةً ل «أداءٌ» فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: و «أَدَاءٌ كَائِنٌ إلَيْهِ» .(3/225)
و «بِإِحْسَانٍ» فيه أربعةُ أوجهٍ: الثلاثة المقولة في «بِالمَعْرُوفِ» ] .
والرابع: أَنْ يكون خبر الأداء، كما تقدَّم في الوجه الرابع من رفع «أَدَاءٌ» . والهاء في «إِلَيْهِ» ، تعود إلى العافي، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكٌْ، لأَنَّ «عَفَا» يستلزمُ عافياً، فهو من باب تَفْسِير الضمير بمصاحب بوجْهٍ ما، ومنه {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] أي: الشمس؛ لأن في ذكر «العَشِيِّ» دلالةً عليها؛ ومثله: [الطويل]
918 - فَإِنَّكَ وَالتَّأْبِينَ عُرْوَةَ بَعْدَمَا ... دَعَاكَ وَأَيْدينَا إِلَيْهِ شَوَارعُ
لَكَّالرَّجُلِ الْحَادِي وَقَدْ تَلَعَ الضُّحَى ... وَطَيْرُ المَنَايَا فَوْقَهُنَّ أَوَاقِعُ
فالضميرُ في «فَوْقَهُنَّ» للإِبِلِ؛ لدلالة لَفْظ «الحَادِي» عليها؛ لإِنَّهَا تصاحبُهُ بوجه مَّا.
فصل
قال ابنُ عبَّاس، والحَسَنُ وقتادةُ، ومجاهد: على العَافِي الاتباعُ بالمَعْروف، وعلى المَعْفُوِّ الأَدَاء إِلَيْه بإحسان.
وقيل هما على المَعْفُوِّ عنه، فإنَّه يُتْبع عفو العافِي بمعروفٍ، فهو أَداءٌ المعروفِ إليه بإحسان، والاتباعُ بالمعروف: ألاَّ يشتدَّ في المطالبة، بَلْ يجري فيها على العادَةِ المألُوفَة فإنْ كان مُعْسِراً، أنْظَرَه، وإن كان واجداً لغَيْر المالِن فلا يطالبه بزيادة على قدر الحَقِّ، وإن كان واحداً لغير المال الواجبِ، فيمهله إلى أن يبيع، وأن يستبدل وألاَّ يمنعه تقديم الأهمِّ من الواجبات، فأَمَّا الداء إلَيه بإحسان فالمراد به: ألاَّ يَدَّعِيَ الإِعدامَ في حال الإِمكانِ، ولا يؤخِّره مع الوجُود، ولا يقدِّم ما ليس بواجِبٍ عليه، وأن يؤدي المالَ ببشْرٍ، وطلاقةٍ، وقولٍ جميلٍ.
ومذْهبُ أكثر العُلَمَاءِ، والصحابةِ، والتابعين: أّنَّ وليَّ الدم، إِذَا عَفَا عن القصاصِ على الدِّية، فله أَخْذُ الدية، وإِنْ لم يرْضَ القَاتِلُ.
وقال الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، وأصحاب الرأي: لا دِيَةَ له، إلاَّ برضى القاتل.
حجَّة القول الأَوَّل: قوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قُتِلَ له قَتِيل، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمَّا أَنْ يفدِي» .
قولُهُ: «ذَلِكَ تَخْفِيف» الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العَفْو، والدية؛ لأنَّ العَفْو، وأَخذَ(3/226)